تفسير المنار

محمد رشيد رضا

فاتحة تفسير القرآن الحكيم

فَاتِحَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) سُورَةُ الْكَهْفِ (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) سُورَةُ الْبَقَرَةِ (الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. . . (الْآيَةَ) . سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سُورَةُ هُودٍ (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سُورَةُ يُوسُفَ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.) سُورَةُ ص (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) سُورَةُ النِّسَاءِ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) سُورَةُ الزُّمَرِ (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) سُورَةُ الْحَشْرِ (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) سُورَةُ الْأَحْزَابِ

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ هُدًى وَنُورًا، لِيُعَلِّمَكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيَكُمْ، وَيُعِدَّكُمْ لِمَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُنْزِلْهُ قَانُونًا دُنْيَوِيًّا جَافًّا كَقَوَانِينِ الْحُكَّامِ، وَلَا كِتَابًا طِبِّيًّا لِمُدَاوَاةِ الْأَجْسَامِ، وَلَا تَارِيخًا بَشَرِيًّا لِبَيَانِ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ، وَلَا سِفْرًا فَنِّيًّا لِوُجُوهِ الْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ تَعَالَى بِاسْتِطَاعَتِكُمْ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَحْيٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَهَذَا بَعْضٌ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ كِتَابَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ تَدَبَّرَهَا سَلَفُكُمُ الصَّالِحُ وَاهْتَدَوْا بِهَا، فَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا قَبْلَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (24: 55) وَفِي قَوْلِهِ: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (30: 47) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (4: 141) ، وَقَوْلِهِ: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (63: 8) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (3: 139) . وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْوُعُودَ فِي حَالِ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِمَا قَضَاهُ وَجَعَلَهُ أَثَرًا لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ. هَدَى اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبَ، وَهَدَى بِدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ أَعْظَمَ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَكَانُوا بِهِ أَئِمَّةَ الْأُمَمِ، فَبِالِاهْتِدَاءِ بِهِ قَهَرُوا أَعْظَمَ دُوَلِ الْأَرْضِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ. دَوْلَةَ الرُّومِ (الرُّومَانِ) وَدَوْلَةَ الْفُرْسِ، فَهَذِهِ مَحَوْهَا مِنْ لَوْحِ الْوُجُودِ بِهَدْمِ سُلْطَانِهَا وَإِسْلَامِ شَعْبِهَا، وَتِلْكَ سَلَبُوهَا مَا كَانَ خَاضِعًا لِسُلْطَانِهَا مِنْ مَمَالِكِ الشَّرْقِ وَشُعُوبِهِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ فَتَحُوا الْكَثِيرَ مِنْ مَمَالِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ حَتَّى اسْتَوْلَوْا عَلَى بَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّةَ، وَأَلَّفُوا فِيهَا دَوْلَةً عَرَبِيَّةً كَانَتْ زِينَةَ الْأَرْضِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ. حَارَبُوا شُعُوبًا كَثِيرَةً كَانَتْ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقِتَالُ مِنْ عَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَسِلَاحٍ وَكُرَاعٍ، وَحُصُونٍ وَقِلَاعٍ، وَقَاتَلُوهَا فِي عُقْرِ دَارِهَا، وَمُسْتَقِرِّ قُوَّتِهَا، وَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ بِلَادِهِمْ، نَاءُونَ عَنْ مَقَرِّ خِلَافَتِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْضُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ صَلَاحُ أَرْوَاحِهِمُ الَّذِي تَبِعَهُ صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ، وَالرَّوْحُ الْبَشَرِيُّ أَعْظَمُ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ، سَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ سَائِرَ قُوَاهَا وَمَادَّتِهَا كَمَا قَالَ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (45: 13) .

كَانَ أَرْقَى حُكَّامِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ عِلْمًا وَفَنًّا وَأَدَبًا وَسِيَاسَةً يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيَعْبَثُ بِالْمَالِ وَالْعِرْضِ، أَوْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (2: 205) وَكَانَ الْمُسْلِمُ الْعَرَبِيُّ يَتَوَلَّى حُكْمَ بَلَدٍ أَوْ وِلَايَةٍ، وَهُوَ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بِشَيْءٍ مِنْ فُنُونِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ قَوَانِينِ الْحُكُومَةِ، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ السِّيَاسَةِ وَلَا طُرُقَ الْإِدَارَةِ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بَعْضُ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُصْلِحُ مِنْ تِلْكَ الْوِلَايَةِ فَسَادَهَا، وَيَحْفَظُ أَنْفُسَهَا وَأَمْوَالَهَا وَأَعْرَاضَهَا، وَلَا يَسْتَأْثِرُ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا، هَذَا وَهُوَ فِي حَالِ حَرْبٍ، وَسِيَاسَةِ فَتْحٍ، مُضْطَرٌّ لِمُرَاعَاةِ تَأْمِينِ الْمُوَاصَلَاتِ مَعَ جُيُوشِ أُمَّتِهِ وَحُكُومَتِهَا، وَسَدِّ الذَّرَائِعِ لِانْتِقَاضِ أَهْلِهَا. وَإِذَا صَلُحَتِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ أَصْلَحَتْ كُلَّ شَيْءٍ تَأْخُذُ بِهِ، وَتَتَوَلَّى أَمْرَهُ، فَالْإِنْسَانُ سَيِّدُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَصَلَاحُهَا وَفَسَادُهَا مَنُوطٌ بِصَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ، وَلَيْسَتِ الثَّرْوَةُ وَلَا وَسَائِلُهَا مِنْ صِنَاعَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ هِيَ الْمِعْيَارَ لِصَلَاحِ الْبَشَرِ، وَلَا الْمُلْكُ وَوَسَائِلُهُ، مِنَ الْقُوَّةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ قَدْ أَوْجَدُوا كُلَّ وَسَائِلِ الْمُلْكِ وَالْحَضَارَةِ مِنْ عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَأَعْمَالٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ إِذًا نَابِعَةٌ مِنْ مَعِينِ الِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِيِّ، تَابِعَةٌ لَهُ دُونَ الْعَكْسِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْعَكْسِ كَدَلِيلِهِ فِي الطَّرْدِ، فَإِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ وَكَثِيرًا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي وَرِثَتِ الْمُلْكَ وَالْحَضَارَةَ عَنْ سَلَفٍ أَوْجَدَهُمَا مِنَ الْعَدَمِ: مِمَّنْ أَضَاعُوهُمَا بَعْدَ وُجُودِهِمَا بِفَسَادِ أَنْفُسِهِمْ. صَلُحَتْ أَنْفُسُ الْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ إِذْ كَانُوا يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ فِي صَلَوَاتِهِمُ الْمَفْرُوضَةِ، وَفِي تَهَجُّدِهِمْ وَسَائِرِ أَوْقَاتِهِمْ فَرَفَعَ أَنْفُسَهُمْ وَطَهَّرَهَا مِنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْمُذِلَّةِ لِلنُّفُوسِ الْمُسْتَعْبِدَةِ لَهَا، وَهَذَّبَ أَخْلَاقَهَا وَأَعْلَى هِمَمِهَا، وَأَرْشَدَهَا إِلَى تَسْخِيرِ هَذَا الْكَوْنِ الْأَرْضِيِّ كُلِّهِ لَهَا، فَطَلَبَتْ ذَلِكَ فَأَرْشَدَهَا طَلَبُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِسُنُّتِهِ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، فَهَدَاهَا ذَلِكَ إِلَى الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، فَأَحْيَتْ مَوَاتَهَا، وَأَبْدَعَتْ فِيهَا مَا لَمْ يَسْبِقْهَا إِلَيْهِ غَيْرُهَا، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ تَطَوُّرِ الْأُمَمِ مِنْ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ: " إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَا تَسْتَحْكِمُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ: جِيلِ التَّقْلِيدِ، وَجِيلِ الْخَضْرَمَةِ، وَجِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَشَذَّ الْعَرَبُ وَحْدَهُمْ فَاسْتَحْكَمَتْ فِيهِمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي جِيلٍ وَاحِدٍ ". قَدْ شَاهَدْنَا وَلَا نَزَالُ نُشَاهِدُ فِي بِلَادِنَا أَنَّ طَلَبَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ مَعَ إِهْمَالِ التَّرْبِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لِلنَّفْسِ لَمْ تَحُلْ دُونَ اسْتِعْبَادِ الْأَجَانِبِ لَنَا، كَمَا جَرَى فِي دَوْلَتَيِ الْأَسِتَانَةِ وَالْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهِمَا. تَرَى الرَّجُلَ الْمُتَعَلِّمَ الْمُتَفَنِّنَ يَتَوَلَّى وِلَايَةً أَوْ وِزَارَةً فَيَكُونُ أَوَّلَ هَمِّهِ مِنْهَا تَأْسِيسُ ثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالزِّينَةِ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ، يَسْتَنْزِفُونَ ثَرْوَةَ الْأُمَّةِ بِالرُّشَى وَالْحِيَلِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، وَيَكُونُ كُلُّ مَا فَضَلَ عَنْ شَهَوَاتِهِمْ بَلْ جُلُّ مَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهَا نَصِيبَ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْمَنَارِ وَالتَّفْسِيرِ فَلَا نُطِيلُ فِيهَا هُنَا. وَإِنَّمَا طَرَقْنَا هَذَا الْبَابَ لِنُذَكِّرَكُمْ

أَيُّهَا الْقَارِئُونَ لِهَذِهِ الْفَاتِحَةِ بِوُجُوبِ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَبِأَنَّ فِقْهَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْسِيرِهِ لِمَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ مَلَكَةِ لُغَتِهِ وَذَوْقِ أَسَالِيبِهَا وَرَوْحِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ فِقْهِهِ بِنَفْسِهِ. إِنَّمَا يَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَقَّهُ فِيهِ مَنْ كَانَ نُصْبَ عَيْنِهِ وَوِجْهَةَ قَلْبِهِ فِي تِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ مَوْضُوعِ تَنْزِيلِهِ، وَفَائِدَةِ تَرْتِيلِهِ، وَحِكْمَةِ تَدَبُّرِهِ، مِنْ عَلَمٍ وَنُورٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَخُشُوعٍ وَخَشْيَةٍ، وَسُنَنٍ فِي الْعَالَمِ مُطَّرِدَةٍ. فَتِلْكَ غَايَةُ إِنْذَارِهِ وَتَبْشِيرِهِ، وَيَلْزَمُهَا عَقْلًا وَفِطْرَةً تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) . كَانَ مِنْ سُوءِ حَظِّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا كُتِبَ فِي التَّفْسِيرِ يَشْغَلُ قَارِئَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ، وَالْهِدَايَةِ السَّامِيَةِ، فَمِنْهَا مَا يَشْغَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِمَبَاحِثِ الْإِعْرَابِ وَقَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَنُكَتِ الْمَعَانِي وَمُصْطَلَحَاتِ الْبَيَانِ، وَمِنْهَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ بِجَدَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَخْرِيجَاتِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاسْتِنْبَاطَاتِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَتَأْوِيلَاتِ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَتَعَصُّبِ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا يَلْفِتُهُ عَنْهُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ، وَمَا مُزِجَتْ بِهِ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَقَدْ زَادَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ صَارِفًا آخَرَ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ مَا يُورِدُهُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِلَّةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِهِ، كَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَقَلَّدَهُ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ بِإِيرَادِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ هَذَا الْعَصْرِ وَفُنُونِهِ الْكَثِيرَةِ الْوَاسِعَةِ، فَهُوَ يَذْكُرُ فِيمَا يُسَمِّيهِ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فُصُولًا طَوِيلَةً بِمُنَاسَبَةِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ عُلُومِ الْفَلَكِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، تَصُدُّ قَارِئَهَا عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ لِأَجْلِهِ الْقُرْآنَ: نَعَمْ إِنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ مِنْ وَسَائِلِ فَهْمِ الْقُرْآنِ، فُنُونُ الْعَرَبِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَاصْطِلَاحَاتُ الْأُصُولِ وَقَوَاعِدُهُ الْخَاصَّةُ بِالْقُرْآنِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْضًا، كَقَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْمَعَانِي، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْكَوْنِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ - كُلُّ ذَلِكَ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ فَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَيْضًا لِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ الْمَرْفُوعِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَلِيهِ مَا صَحَّ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ أَوْ عَمَلِ عَصْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ قَلِيلٌ. وَأَكْثَرُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَدْ سَرَى إِلَى الرُّوَاةِ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ وَمُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجُلُّ ذَلِكَ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُتُبِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَفِي تَارِيخِ غَيْرِهِمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمَدِينَةِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَسِحْرِ بَابِلَ وَعُوجِ ابْنِ عُنُقَ، وَفِي أُمُورِ الْغَيْبِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَقِيَامَتِهَا وَمَا يَكُونُ فِيهَا وَبَعْدَهَا، وَجُلُّ ذَلِكَ خُرَافَاتٌ وَمُفْتَرَيَاتٌ صَدَّقَهُمْ فِيهَا الرُّوَاةُ حَتَّى بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ

أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ، وَالْمَلَاحِمُ، وَالْمَغَازِي، وَكَانَ الْوَاجِبَ جَمْعُ الرِّوَايَاتِ الْمُفِيدَةِ فِي كُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ، كَبَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ قِيمَةِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا بِدُونِ سَنَدٍ، كَمَا يُذْكَرُ الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، لَكِنْ يُعْزَى إِلَى مُخْرِجِهِ كَمَا نَفْعَلُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: " وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ - الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ - عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَاسْمِهِ، وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي قَدْرِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَخَشَبِهَا، وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخِضْرُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقَةُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِلَ، وَمَا لَا - بِأَنْ نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهَبٍ - وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مَنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ " " وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ. وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ ". ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مَثَارُ الْخَطَأِ. (إِحْدَاهُمَا) حَمْلُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانٍ اعْتَقَدُوهَا لِتَأْيِيدِهَا بِهِ - أَقُولُ: كَجَمِيعِ مُقَلِّدَةِ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ أُصُولًا وَالْقُرْآنَ فَرْعًا لَهَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا شَرُّ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي الْحَدِيثِ. (ثَانِيَتُهُمَا) التَّفْسِيرُ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ - وَفَصْلُ ذَلِكَ بِمَا يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمُحَقِّقَ جَزَمَ بِالْوَقْفِ عَنْ تَصْدِيقِ جَمِيعِ مَا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ مَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ. وَصَرَّحَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرِوَايَاتِ

كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مَعَ أَنَّ قُدَمَاءَ رِجَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اغْتَرُّوا بِهِمَا وَعَدَلُوهُمَا. فَكَيْفَ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ كَذِبِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَعَزْوِهِمَا إِلَى التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ مَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ وَلَا حَوَّمَتْ حَوْلَهُ؟ ! - وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - يَعْنِي بِخِلَافِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الرِّوَايَةِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا الْوَقْفُ فِيمَا يُنْقَلُ نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، لَا نُصَدِّقُهُمْ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِمَّا حَرَّفُوا فِيهَا، وَلَا نُكَذِّبُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِمَّا حَفِظُوا مِنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) . وَأَنْتَ تَرَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ النَّفْسَ إِلَيْهِ أَسْكُنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْوَى مِنَ احْتِمَالِ سَمَاعِهِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقِلَّةِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ أَطْلَقَ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ الثِّقَةُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ بَلْ بِالنَّقْلِ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَوَوْا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ " وَمِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ رَوَى عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمْثَالِهِ لَا يُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّتِي يُصَرِّحُ بِهَا كَثِيرًا. هَذَا وَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لَا يَنْقُضُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يَعْنِي أَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ لَهُ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ، وَمَا صَحَّ سَنَدُهُ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَقِلُّ فِيهِ الْمَرْفُوعُ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ. وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَوْ كَثِيرِهِ حِجَابٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَشَاغِلٌ لِتَالِيهِ عَنْ مَقَاصِدِهِ الْعَالِيَةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ، الْمُنَوَّرَةِ لِلْعُقُولِ، فَالْمُفَضِّلُونَ لِلتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ لَهُمْ شَاغِلٌ عَنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ، الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا سَنَدًا وَلَا مَوْضُوعًا، كَمَا أَنَّ الْمُفَضِّلِينَ لِسَائِرِ التَّفَاسِيرِ لَهُمْ صَوَارِفُ أُخْرَى عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَكَانَتِ الْحَاجَةُ شَدِيدَةً إِلَى تَفْسِيرٍ تَتَوَجَّهُ الْعِنَايَةُ الْأُولَى فِيهِ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي وَصْفِهِ، وَمَا أَنْزَلَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَهُوَ مَا تَرَى تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْمُقْتَبَسَةِ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَحْسَنَ جَزَاءَهُ - ثُمَّ الْعِنَايَةِ إِلَى مُقْتَضَى حَالِ هَذَا

الْعَصْرِ فِي سُهُولَةِ التَّعْبِيرِ، وَمُرَاعَاةِ أَفْهَامِ صُنُوفِ الْقَارِئِينَ، وَكَشْفِ شُبَهَاتِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَرَاهُ قَرِيبًا - هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللهُ بِفَضْلِهِ لِهَذَا الْعَاجِزِ، وَهَاكَ مُوجَزًا مِنْ نَبَأِ تَيْسِيرِهِ لَهُ. كُنْتُ مِنْ قَبْلِ اشْتِغَالِي بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ مَيَّالًا إِلَى التَّصَوُّفِ، وَكُنْتُ أَنْوِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الِاتِّعَاظَ بِمَوَاعِظِهِ لِأَجْلِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا رَأَيْتُ نَفْسِي أَهْلًا لِنَفْعِ النَّاسِ بِمَا حَصَّلْتُ مِنَ الْعِلْمِ - عَلَى قِلَّتِهِ - صِرْتُ أَجْلِسُ إِلَى الْعَوَامِّ فِي بَلَدِنَا أَعِظُهُمْ بِالْقُرْآنِ مُغَلِّبًا التَّرْهِيبَ عَلَى التَّرْغِيبِ، وَالْخَوْفَ عَلَى الرَّجَاءِ، وَالْإِنْذَارَ عَلَى التَّبْشِيرِ، وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا. فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالِ الْغَالِبَةِ عَلَيَّ ظَفِرَتْ يَدِي بِنُسَخٍ مِنْ جَرِيدَةِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " فِي أَوْرَاقِ وَالِدِي، فَلَمَّا قَرَأْتُ مَقَالَاتِهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَسُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ، وَاسْتِرْدَادِ مَا ذَهَبَ مِنْ مَمَالِكِهِ، وَتَحْرِيرِ مَا اسْتَعْبَدَ الْأَجَانِبُ مِنْ شُعُوبِهِ - أَثَّرَتْ فِي قَلْبِي تَأْثِيرًا دَخَلْتُ بِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ مِنْ حَيَاتِي، وَأُعْجِبْتُ جِدَّ الْإِعْجَابِ بِمَنْهَجِ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ فِي الِاسْتِشْهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَضَايَاهَا بِآيَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ تَفْسِيرُهَا مِمَّا لَمْ يُحَوِّمْ حَوْلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ أَسَالِيبِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ، وَمَدَارِكِهِمْ فِي الْفَهْمِ. وَأَهُمُّ مَا انْفَرَدَ بِهِ مَنْهَجُ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَأَسْبَابِ تَرَقِّي الْأُمَمِ وَتَدَلِّيهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا. (ثَانِيهَا) بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ سِيَادَةٍ وَسُلْطَانٍ، وَجَمْعٍ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ دِينٌ رُوحَانِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ، وَمَدَنِيٌّ عَسْكَرِيٌّ، وَأَنَّ الْقُوَّةَ الْحَرْبِيَّةَ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ، وَعِزَّةِ الْمِلَّةِ، لَا لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِالْقُوَّةِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ جِنْسِيَّةٌ إِلَّا دِينَهُمْ، فَهُمْ إِخْوَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ نَسَبٌ وَلَا لُغَةٌ وَلَا حُكُومَةٌ. تِلْكَ الْمَقَالَاتُ الَّتِي حَبَّبَتْ إِلَيَّ حَكِيمَيِ الشَّرْقِ، وَمُجَدِّدَيِ الْإِسْلَامِ وَمُصْلِحَيِ الْعَصْرِ: السَّيِّدَ جَمَالَ الدِّينِ الْحُسَيْنِيَّ الْأَفْغَانِيَّ وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ عَبْدَهُ الْمِصْرِيَّ، وَهُمَا اللَّذَانِ أَنْشَآ جَرِيدَةَ " الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى " فِي بَارِيسَ سَنَةَ 1301 هـ عَقِبَ احْتِلَالِ الْإِنْكِلِيزِ لِمِصْرَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ 1299 هـ وَكَانَ الْكَاتِبُ لِتِلْكَ الْمَقَالَاتِ الْعَالِيَةِ فِيهَا هُوَ الثَّانِي، وَلَكِنْ بِإِرْشَادِ الْأَوَّلِ وَإِدَارَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ، وَهُوَ أُسْتَاذُهُ فِي هَذَا الْمَنْهَجِ وَمُرَبِّيهِ عَلَيْهِ. تَوَجَّهَتْ نَفْسِي بِتَأْثِيرِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى السَّيِّدِ جَمَالٍ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْآسِتَانَةَ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِتَرْجَمَتِي وَرَغْبَتِي فِي صُحْبَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَصُدُّنِي عَنْهَا إِلَّا إِقَامَتُهُ فِي

الْآسِتَانَةِ لِاعْتِقَادِي أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ طُولَ الْمُقَامِ فِيهَا، وَعَلَّلْتُ ذَلِكَ بِقَوْلِي " لِأَنَّ بِلَادَ الشَّرْقِ أَمْسَتْ كَالْمَرِيضِ الْأَحْمَقِ يَأْبَى الدَّوَاءَ وَيَعَافُهُ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ ". وَبَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِيهَا تَعَلَّقَ أَمَلِي بِالِاتِّصَالِ بِخَلِيفَتِهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدِهِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَآرَائِهِ فِي الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَا زِلْتُ أَتَرَبَّصُ الْفُرَصَ لِذَلِكَ حَتَّى سَنَحَتْ لِي فِي رَجَبٍ سَنَةَ 1315 هـ وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ إِتْمَامِ تَحْصِيلِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ وَأَخْذِ شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ أَوِ التَّدْرِيسِ مِنْ شُيُوخِي فِيهَا، فَهَاجَرْتُ إِلَى مِصْرَ، وَأَنْشَأْتُ الْمَنَارَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ. اتَّصَلْتُ بِالشَّيْخِ فِي الضَّحْوَةِ الصُّغْرَى لِلْيَوْمِ الَّذِي وَصَلْتُ فِي لَيْلِهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَكَانَ اتِّصَالِي بِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ كَاتِّصَالِ اللَّازِمِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِمَلْزُومِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ اقْتِرَاحٍ لِي عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ الَّتِي وَجَدْنَا رُوحَهَا وَنُورَهَا فِي مَقَالَاتِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ كَامِلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَهُ تَفَاسِيرُ كَثِيرَةٌ أُتْقِنُ بَعْضَهَا مَا لَمْ يُتْقِنْهَا بَعْضٌ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ شَدِيدَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ الْعُمْرَ لَا يَتَّسِعُ لِتَفْسِيرٍ كَامِلٍ. فَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ دَرْسًا فِي التَّفْسِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 1315 هـ ثُمَّ كَرَّرْتُ عَلَيْهِ الِاقْتِرَاحَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ يَعْتَذِرُ بِمَا أَذْكُرُ أَهَمَّهُ هُنَا. زُرْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ 13 رَمَضَانَ فَقَرَأَ لِي عِبَارَةً مِنْ كِتَابٍ فَرَنْسِيٍّ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَطَفِقَ يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجَ يَأْخُذُونَ مَطَاعِنَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ سُوءِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ جَهْلِهِمْ هُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَظِيفٌ وَالْإِسْلَامَ نَظِيفٌ، وَإِنَّمَا لَوَّثَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ. وَطَفِقَ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وَمَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ لَوِ اهْتَدَوْا بِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الطَّاعِنَ ادَّعَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ نَبِيُّهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا أَنَّهُ حَاكِمٌ قَاهِرٌ وَسُلْطَانٌ عَظِيمٌ، قَدْ أَوْجَبَ الْفَتْحَ عَلَى أَتْبَاعِهِ لِأَجْلِ قَهْرِ الْأُمَمِ لَا لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهَا. وَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى خَالِقَهُمْ بِالْأَبِ الدَّالِّ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالْعَطْفِ؟ ثُمَّ طَفِقَ الْأُسْتَاذٌ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالْكَلَامِ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي التَّرْبِيَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنَى الْأَبِ، وَكَوْنِ طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ بِمُقْتَضَى شَهْوَتِهِ لَا مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْوَالِدِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَا، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَهَاهُنَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا أَذْكُرُ مُلَخَّصَهُ كَمَا كَتَبْتُهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَهُوَ: (قُلْتُ) : لَوْ كَتَبْتَ تَفْسِيرًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى حَاجَةِ الْعَصْرِ، وَتَتْرُكُ كُلَّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَتُبَيِّنُ مَا أَهْمَلُوهُ. . . قَالَ: " إِنَّ الْكُتُبَ لَا تُفِيدُ الْقُلُوبَ الْعُمْيَ. فَإِنَّ دُكَّانَ السَّيِّدِ عُمَرَ الْخَشَّابِ مَمْلُوءَةٌ بِالْكُتُبِ مِنْ

جَمِيعِ الْعُلُومِ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهَا، لَا تُفِيدُ الْكُتُبُ إِلَّا إِذَا صَادَفَتْ قُلُوبًا مُتَيَقِّظَةً عَالِمَةً بِوَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا تَسْعَى فِي نَشْرِهَا. إِذَا وَصَلَ لِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ غَيْرُ مَا يَعْلَمُونَ لَا يَعْقِلُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَإِذَا عَقَلُوا مِنْهُ شَيْئًا يَرُدُّونَهُ وَلَا يَقْبَلُونَهُ، وَإِذَا قَبِلُوهُ حَرَّفُوهُ إِلَى مَا يُوَافِقُ عِلْمَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ، كَمَا جَرُّوا عَلَيْهِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي نُرِيدُ بَيَانَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ وَمَا تُفِيدُهُ ". " إِنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَثِّرُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمُتَكَلِّمِ وَحَرَكَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ وَلَهْجَتَهُ فِي الْكَلَامِ - كُلُّ ذَلِكَ يُسَاعِدُ عَلَى فَهْمِ مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَيْضًا يُمَكِّنُ السَّامِعَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْمُتَكَلِّمَ عَمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَإِذَا كَانَ مَكْتُوبًا فَمَنْ يَسْأَلُ؟ إِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ 80 فِي الْمِائَةِ مِنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْقَارِئَ لِكَلَامِهِ يَفْهَمُ مِنْهُ 20 فِي الْمِائَةِ عَلَى مَا أَرَادَ الْكَاتِبُ. وَمَعَ ذَلِكَ كُنْتُ أَقْرَأُ التَّفْسِيرَ، وَكَانَ يَحْضُرُهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ وَبَعْضُ طَلَبَةِ الْمَدَارِسِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَكُنْتُ أَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا حَالَةُ الْعَصْرِ فَمَا اهْتَمَّ لَهَا أَحَدٌ - فِيمَا أَعْلَمُ - مَعَ أَنَّهَا كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُكْتَبَ، وَمَا عَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا خَلَا تِلْمِيذَيْنِ قِبْطِيَّيْنِ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحُقُوقِ، وَكَانَا يُرَاجِعَانِي فِي بَعْضِ مَا يَكْتُبَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا ". " قَرَأْتُ تَفْسِيرَ سُورَةِ الْعَصْرِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكُلُّ دَرْسٍ لَا يَقِلُّ عَنْ سَاعَتَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ. بَيَّنْتُ فِيهَا وَجْهَ كَوْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى، وَمَا الْمُرَادُ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، مِمَّا لَوْ جُمِعَ لَكَانَ رِسَالَةً حَسَنَةً فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا كَتَبَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الْعَزِيزِ ". (قُلْتُ) : إِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَنَبِّهِينَ لِحَالَةِ الْعَصْرِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا نَبَّهَهُمْ إِلَّا " الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى " وَأَنَا لَمْ أَنْتَبِهِ التَّنَبُّهَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ إِلَّا بِهَا. (قَالَ) : " إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُوجَدُ فِيهِمْ خَاصِّيَّةٌ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ بِأَيِّ مَوْضُوعٍ أَمَامَ أَيِّ إِنْسَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُدْرِكُ الْكَلَامَ وَيَقْبَلُهُ أَمْ لَا، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ يُلْقِي الْحِكْمَةَ لِمُرِيدِهَا وَغَيْرِ مُرِيدِهَا، وَأَنَا كُنْتُ أَحْسُدُهُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّنِي تُؤَثِّرُ فِيَّ حَالَةُ الْمَجَالِسِ وَالْوَقْتِ، فَلَا تَتَوَجَّهُ نَفْسِي لِلْكَلَامِ إِلَّا إِذَا رَأَيْتُ لَهُ مَحَلًّا. وَهَكَذَا الْكِتَابَةُ، فَإِنَّنِي رُبَّمَا أَتَصَوَّرُ أَنْ أَكْتُبَ بِمَوْضُوعٍ وَعِنْدَمَا أُوَجِّهُ قُوَايَ لِجَمْعِ مَا يَحْسُنُ كِتَابَتُهُ تَتَوَارَدُ عَلَى فِكْرِي مَعَانٍ كَثِيرَةٌ، وَوُجُوهٌ لِلْكَلَامِ جَمَّةٌ، ثُمَّ يَأْتِينِي خَاطِرٌ لِمَنْ أُلْقِي هَذَا الْكَلَامَ، وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَأَتَوَقَّفُ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَأَرَى تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَدِ امْتَصَّ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى تَلَاشَتْ وَلَا أَكْتُبُ شَيْئًا ". "

إِنَّ حَالَةَ الْمُخَاطَبِ تُؤَثِّرُ بِي جِدًّا، وَلِذَلِكَ لَا أَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ عَنْ حَالَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَمَا أَجْتَمِعُ بِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ أَفْكَارَهُمْ مُنْصَرِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مَعَ سَعَةِ وَقْتِهِمْ. وَعِنْدَ قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ عَلَى حَسَبِ حَالَةِ الْحَاضِرِينَ، لِأَنَّنِي لَا أُطَالِعُ عِنْدَمَا أَقْرَأُ لَكِنِّي رُبَّمَا أَتَصَفَّحُ كِتَابَ تَفْسِيرٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ غَرِيبٌ فِي الْإِعْرَابِ أَوْ كَلِمَةٌ غَرِيبَةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِذَا حَضَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْبُلَدَاءِ الْخَامِلِي الْفِكْرِ أَحُلُّ لَهُمُ الْمَعْنَى بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِمَا أَقُولُ وَيُلْقِي لَهُ بَالًا، يُفْتَحُ عَلَيَّ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ ". (قُلْتُ) : إِنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِمَّنْ يَقْدِرُ كَلَامَ الْإِصْلَاحِ قَدْرَهُ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَسَيَزِيدُ عَدَدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَالْكِتَابَةُ تَكُونُ مُرْشِدًا لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ. وَإِنَّ الْكَلَامَ الْحَقَّ وَإِنْ قَلَّ الْآخِذُ بِهِ وَالْعَارِفُ بِشَأْنِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُحْفَظَ وَيَنْمُوَ بِمُصَادَفَةِ الْمَبَاءَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى نَامُوسِ (أَيْ سُنَّةِ) الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، كَمَا حَفِظْتُ " الْعُرْوَةَ الْوُثْقَى " فَإِنَّ أَوْرَاقَهَا الْأَصْلِيَّةَ الضَّعِيفَةَ قَدْ بَلِيَتْ لَكِنْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمِثَالِ وَالْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ، قَدْ حُفِظَتْ فِي الطُّرُوسِ وَالنُّفُوسِ إِلَخْ. وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقْنَعْتُهُ بِقِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ فَاقْتَنَعَ وَبَدَأَ بِالدَّرْسِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ أَيْ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1317 هـ وَانْتَهَى مِنْهُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1323 هـ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) مِنَ الْآيَةِ 126 مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَرَأَ زُهَاءَ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ فِي سِتِّ سِنِينَ، إِذْ تُوُفِّيَ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثَابَهُ. كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي قِرَاءَةِ الدَّرْسِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا ارْتَآهُ فِي كِتَابَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهِ فِيمَا أَغْفَلَهُ أَوْ قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَيَخْتَصِرُ فِيمَا بَرَزُوا فِيهِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِهَا الْآيَاتُ، وَيَتَوَكَّأُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِبَارَةِ " تَفْسِيرِ الْجَلَّالِينَ " الَّذِي هُوَ أَوْجَزُ التَّفَاسِيرِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عِبَارَتَهُ فَيُقِرُّهَا أَوْ يَنْتَقِدُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ مُنْتَقَدًا، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِمَّا فِيهِ هِدَايَةٌ وَعِبْرَةٌ. وَكُنْتُ أَكْتُبُ فِي أَثْنَاءِ إِلْقَاءِ الدَّرْسِ مُذَكِّرَاتٍ أُودِعُهَا مَا أَرَاهُ أَهَمَّ مَا قَالَهُ، وَأَحْفَظُ مَا أَكْتُبُ لِأَجْلِ أَنْ أُبَيِّضَهُ، وَأَمُدَّهُ بِكُلِّ مَا أَتَذَكَّرُهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، وَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَقْتَرِحَ عَلَى بَعْضِ الرَّاغِبِينَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ قُرَّاءِ الْمَنَارِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ الْإِخْوَانِ بِمِصْرَ أَنْ أَنْشُرَهُ فِي الْمَنَارِ. فَشَرَعْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1318 هـ وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ، وَكُنْتُ أَوَّلًا أُطْلِعُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ عَلَى مَا أُعِدَّهُ لِلطَّبْعِ كُلَّمَا تَيَسَّرَ

ذَلِكَ بَعْدَ جَمْعِ حُرُوفِهِ فِي الْمَطْبَعَةِ وَقَبْلَ طَبْعِهِ. فَكَانَ رُبَّمَا يُنَقِّحُ فِيهِ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ حَذْفِ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهُ انْتَقَدَ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يَرَهُ قَبْلَ الطَّبْعِ، بَلْ كَانَ رَاضِيًا بِالْمَكْتُوبِ بَلْ مُعْجَبًا بِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ نَقْلًا عَنْهُ وَمَعْزُوًّا إِلَيْهِ، بَلْ كَانَ تَفْسِيرًا لِلْكَاتِبِ مِنْ إِنْشَائِهِ، اقْتَبَسَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ الْعَالِيَةِ جُلَّ مَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا، لِذَلِكَ كُنْتُ أَعْزُو إِلَيْهِ الْقَوْلَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ كَلَامٍ لِي فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا انْتَهَى النَّقْلُ وَشَرَعْتُ بِكَلَامِ لِي بَعْدَهُ قُلْتُ فِي بَدْئِهِ (أَقُولُ) وَلَمْ يَكُنْ هَذَا التَّمْيِيزُ مُلْتَزَمًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ يَكْثُرُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَا لَا عَزْوَ فِيهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَا فَهِمْتُهُ مِنْهُ وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْأُخْرَى أَوْ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ عَلَى أَنَّنِي عَبَّرْتُ عَنْهُ بِأَمَالٍ مُقْتَبَسَةٍ. وَلَمَّا كَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَقْرَأُ كُلَّ مَا أَكْتُبُهُ، إِمَّا قَبْلَ طَبْعِهِ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِمَّا بَعْدَهُ وَهُوَ الْأَقَلُّ، لَمْ أَكُنْ أَرَى حَرَجًا فِيمَا أَعْزُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا فَهِمْتُهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَتَبْتُهُ عَنْهُ فِي مُذَكِّرَاتِ الدَّرْسِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ إِيَّاهُ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَصِدْقَ الْعَزْوِ. وَبَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِرْتُ أَرَى مِنَ الْأَمَانَةِ أَلَّا أَعْزُوَ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَتَبْتُهُ عَنْهُ أَوْ حَفِظْتُهُ حِفْظًا، وَصِرْتُ أُكْثِرُ أَنْ أَقُولَ: قَالَ مَا مَعْنَاهُ، أَوْ مَا مِثَالُهُ، أَوْ مَا مُلَخَّصُهُ، مَثَلًا، عَلَى أَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ حَيَّا وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَقَرَّهُ كُلَّهُ. وَقَدْ بَدَأْتُ فِي حَيَاتِهِ بِتَجْرِيدِ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَطَبْعِهِ عَلَى حِدَّتِهِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ طَبْعِ نِصْفِهِ، فَهُوَ قَدْ قَرَأَ مَا طُبِعَ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ. وَقَدِ اشْتَدَّ شُعُورِي بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَيَّ وَحْدِي تَبِعَةَ تَأْلِيفِ تَفْسِيرٍ مُسْتَقِلٍّ وَتَبِعَةَ إِيدَاعِهِ مَا تَلَقَّيْتُهُ عَنْ هَذَا الْعَالِمِ الْكَبِيرِ الْمُشْرِقِ الْبَصِيرَةِ، وَذِي النَّصِيبِ الْوَافِرِ مِنْ إِرْثِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) . وَتَبِعَةُ الْأَمَانَةِ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَثْقَلُ مِنْ تَبِعَةِ تَحَرِّي الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَأَدَائِهِ بِبَيَانٍ فَصِيحٍ. وَسَبَبُ الْبَدْءِ بِطَبْعِ الْجُزْءِ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مُخْتَصَرًا وَغَيْرَ مُلْتَزَمٍ فِيهِ مَا الْتَزَمْتُهُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرِ جَمِيعِ عِبَارَاتِ الْآيَاتِ وَذِكْرِ نُصُوصِهَا مَمْزُوجَةً فِيهِ. وَلِذَلِكَ اقْتَرَحْتُ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنْ يُعِيدَ النَّظَرَ فِيهِ وَيَزِيدَ فِيهِ مَا يَسْنَحُ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ إِيضَاحٍ، وَلَاسِيَّمَا إِيضَاحُ مَا انتقدَ عَلَيْهِ إِجْمَالَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَتَأْوِيلِ قِصَّةِ آدَمَ. فَقَرَأَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِهِ لَهُ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَرَاهُ الْقَارِئُ مَعْزُوًّا إِلَى خَطِّهِ وَمُمَيَّزًا بِوَضْعِهِ بَيْنَ عَلَامَتَيْنِ بِهَذَا الشَّكْلِ () وَزِدْتُ أَنَا فِي جَمِيعِ الْجُزْءِ زِيَادَاتٍ غَيْرَ قَلِيلَةٍ صَارَ بِهَا مُوَافِقًا لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فِي أُسْلُوبِهِ وَكُنْتُ أُمَيِّزُ زِيَادَتِيَ الْأَخِيرَةَ عَنْ أَقْوَالِيَ الَّتِي أَسْنَدْتُهَا إِلَى نَفْسِي أَوَّلًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأُسْتَاذِ بِقَوْلِي: وَأَزِيدُ الْآنَ، أَوْ وَأَقُولُ الْآنَ، ثُمَّ تَرَكْتُ ذَلِكَ وَاكْتَفَيْتُ بِكَلِمَةِ (أَقُولُ) .

هَذَا وَإِنَّنِي لَمَّا اسْتَقْلَلْتُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ وَفَاتِهِ خَالَفْتُ مَنْهَجَهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - بِالتَّوَسُّعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفْسِيرًا لَهَا أَوْ فِي حُكْمِهَا، وَفِي تَحْقِيقِ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْجُمَلِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْإِكْثَارِ مِنْ شَوَاهِدِ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِي بَعْضِ الِاسْتِطْرَادَاتِ لِتَحْقِيقِ مَسَائِلَ تَشْتَدُّ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَحْقِيقِهَا، بِمَا يُثَبِّتُهُمْ بِهِدَايَةِ دِينِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، أَوْ يُقَوِّي حُجَّتَهُمْ عَلَى خُصُومِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدِعَةِ، أَوْ يَحِلُّ بَعْضَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي أَعْيَا حَلُّهَا بِمَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَأَسْتَحْسَنُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ الْفُصُولَ الِاسْتِطْرَادِيَّةَ الطَّوِيلَةَ وَحْدَهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقْرَأُ فِيهِ التَّفْسِيرَ لِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي النُّهُوضِ بِإِصْلَاحِ أُمَّتِهِ وَتَجْدِيدِ شَبَابِ مِلَّتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْهُ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَخُصَّنِي وَالْأُسْتَاذَ بِدَعَوَاتِهِ الصَّالِحَةِ. مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ رِضًا

مقدمة التفسير

مُقَدِّمَةُ التَّفْسِيرِ (الْمُقْتَبَسَةُ مِنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِالْمَعْنَى، مَعَ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ) التَّكَلُّمُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ السَّهْلِ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ وَأَهَمِّهَا، وَمَا كُلُّ صَعْبٍ يُتْرَكُ. وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ طَلَبِهِ. وَوُجُوهُ الصُّعُوبَةِ كَثِيرَةٌ. أَهَمُّهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ سَمَاوِيٌّ تَنَزَّلَ مِنْ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهَا عَلَى قَلْبِ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَارِفَ عَالِيَةٍ، وَمَطَالِبَ سَامِيَّةٍ، لَا يُشْرِفُ عَلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ النُّفُوسِ الزَّاكِيَةِ، وَالْعُقُولِ الصَّافِيَةِ، وَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ الْفَائِضَيْنِ مِنْ حَضْرَةِ الْكَمَالِ مَا يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ، وَيَكَادُ يَحُولُ دُونَ مَطْلُوبِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ بِأَنْ أَمَرَنَا بِالْفَهْمِ وَالتَّعَقُّلِ لِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ نُورًا وَهُدًى، مُبَيِّنًا لِلنَّاسِ شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانُوا يَفْهَمُونَهُ. وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي نَطْلُبُهُ هُوَ فَهْمُ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَحَيَاتِهِمُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْهُ، وَمَا وَرَاءَ هَذَا مِنَ الْمَبَاحِثِ تَابِعٌ لَهُ وَأَدَاةٌ أَوْ وَسِيلَةٌ لِتَحْصِيلِهِ. التَّفْسِيرُ لَهُ وُجُوهٌ شَتَّى: (أَحَدُهَا) : النَّظَرُ فِي أَسَالِيبِ الْكِتَابِ وَمَعَانِيهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ عُلُوُّ الْكَلَامِ وَامْتِيَازُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَوْلِ، سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْأُخْرَى وَنَحَا نَحْوَهُ آخَرُونَ. (ثَانِيهَا) : الْإِعْرَابُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهَذَا أَقْوَامٌ تَوَسَّعُوا فِي بَيَانِ وُجُوهِهِ وَمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا. (ثَالِثُهَا) : تَتَبُّعُ الْقَصَصِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَامٌ زَادُوا فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مَا شَاءُوا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ أَخَذُوا جَمِيعَ مَا سَمِعُوهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ غَثٍّ وَسَمِينٍ، وَلَا تَنْقِيحٍ لِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَلَا يُطَابِقُ الْعَقْلَ.

(رَابِعُهَا) : غَرِيبُ الْقُرْآنِ. (خَامِسُهَا) : الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْهَا. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَفَسَّرُوهَا وَحْدَهَا. وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَكُلُّ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفِقْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، يُعْنَوْنَ بِتَفْسِيرِ آيَاتِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِسَائِرِ الْآيَاتِ. (سَادِسُهَا) : الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَمُقَارَعَةِ الزَّائِغِينَ، وَمُحَاجَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَلِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ الْعِنَايَةُ الْكُبْرَى بِهَذَا النَّوْعِ. (سَابِعُهَا) : الْمَوَاعِظُ وَالرَّقَائِقُ، وَقَدْ مَزَجَهَا الَّذِينَ وَلِعُوا بِهَا بِحِكَايَاتِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْعُبَّادِ، وَخَرَجُوا بِبَعْضِ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ الَّتِي وَضَعَهَا الْقُرْآنُ. (ثَامِنُهَا) : مَا يُسَمُّونَهُ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ كَلَامُ الْبَاطِنِيَّةِ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ. وَإِنَّمَا هُوَ لِلْقَاشَانِيِّ الْبَاطِنِيِّ الشَّهِيرِ، وَفِيهِ مِنَ النَّزَعَاتِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ دِينُ اللهِ وَكِتَابُهُ الْعَزِيزُ. وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الْإِكْثَارَ فِي مَقْصِدٍ خَاصٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ يَخْرُجُ بِالْكَثِيرِينَ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، وَيَذْهَبُ بِهِمْ فِي مَذَاهِبَ تُنْسِيهِمْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ؛ لِهَذَا كَانَ الَّذِي نُعْنَى بِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ هُوَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ ، أَيْ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَهِدَايَةٌ مِنَ اللهِ لِلْعَالِمِينَ، جَامِعَةٌ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا يَكُونُونَ بِهِ سُعَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ وَيَتْبَعُهُ بِلَا رَيْبٍ: بَيَانُ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَعْنَى وَتَحْقِيقُ الْإِعْرَابِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ أَيْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي عَدُّوهَا مُشْكِلَةً، وَرُبَّمَا نُشِيرُ أَحْيَانًا إِلَى الْإِعْرَابِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِعِبَارَاتِ النَّحْوِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، كَمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَوْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، حَتَّى لَا تَكُونَ الِاصْطِلَاحَاتُ شَاغِلًا لِلْقَارِئِ عَنِ الْمَعَانِي، صَارِفَةً لَهُ عَنِ الْعِبْرَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّفْسِيرِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ السَّابِقِينَ نَظَرُوا فِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتَنْبَطُوا الْأَحْكَامَ مِنْهُمَا، فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَنْظُرَ فِي كُتُبِهِمْ وَنَسْتَغْنِيَ بِهِمْ - هَكَذَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ لَكَانَ طَلَبُ التَّفْسِيرِ عَبَثًا، يَضِيعُ بِهِ الْوَقْتُ سُدًى وَهُوَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفِقْهِ - مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آخَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا عَلَى بَالِ مُسْلِمٍ؟ الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى الِاصْطِلَاحُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا فِقْهًا هِيَ أَقَلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ التَّهْذِيبِ وَدَعْوَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهَا وَرَفْعُهَا مِنْ حَضِيضِ الْجَهَالَةِ إِلَى أَوْجِ الْمَعْرِفَةِ،

وَإِرْشَادُهَا إِلَى طَرِيقَةِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالدُّخُولِ فِي الْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ - كَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ - حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْ عِلْمِ التَّهْذِيبِ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَ الْقُرْآنِ عَلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ لَا يُسَاهِمُهُ فِيهِ كَلَامٌ، كَمَا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ حِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ لَمْ يُكْشَفْ عَنْهَا اللِّثَامُ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا عَالِمٌ وَلَا إِمَامٌ. ثُمَّ إِنَّ أَئِمَّةَ الدِّينِ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ سَيَبْقَى حُجَّةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: " وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ " وَلَا يُعْقَلُ إِلَّا بِفَهْمِهِ، وَالْإِصَابَةِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَحِكَمِهِ. خَاطَبَ اللهُ بِالْقُرْآنِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يُوَجِّهِ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي أَشْخَاصِهِمْ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِهِدَايَتِهِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فَهَلْ يُعْقَلُ أَنَّهُ يَرْضَى مِنَّا بِأَنْ لَا نَفْهَمَ قَوْلَهُ هَذَا وَنَكْتَفِيَ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِ نَاظِرٍ نَظَرَ فِيهِ، لَمْ يَأْتِنَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا؟ ! كَلَّا إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَفْهَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَالَمٍ وَجَاهِلٍ. يَكْفِي الْعَامِّيَّ مِنْ فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إِلَخْ: مَا يُعْطِيهِ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَتْ أَوْصَافُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ لَهُمُ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ، دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَصِدْقِ الْوَعْدِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَارَقَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِلَى أَضْدَادِهَا فَهُوَ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللهِ، الْمُتَعَرِّضُ لِغَضَبِهِ، وَفَهْمُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيِّ طَبَقَةٍ كَانَ، وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ لُغَةٍ كَانَ. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا يَجْذِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَصْرِفُهَا عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ لِهِدَايَتِنَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنَّا كُلَّ أَنْوَاعِ الضَّعْفِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ تَعْلُو عَلَى هَذِهِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. لِلتَّفْسِيرِ مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا: أَنْ يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَالِ مَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ عَظَمَةَ اللهِ وَتَنْزِيهَهُ، وَيَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيَجْذِبُهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (54: 17) . وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ: (أَحَدُهَا) : فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ

مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ؟ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ. فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى. فَعَلَى الْمُدَقِّقِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " - سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْفَاتِحَةِ - وَغَيْرِهِ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ. (ثَانِيهَا) : الْأَسَالِيبُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهَا مَا يَفْهَمُ بِهِ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الرَّفِيعَةَ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمُزَاوَلَتِهِ، مَعَ التَّفَطُّنِ لِنُكَتِهِ وَمَحَاسِنِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. نَعَمْ إِنَّنَا لَا نَتَسَامَى إِلَى فَهْمِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَلَكِنْ يُمْكِنُنَا فَهْمُ مَا نَهْتَدِي بِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَعِلْمِ الْأَسَالِيبِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْفُنُونِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا وَحِفْظِ أَحْكَامِهَا لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. تَرَوْنَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُسَدَّدِينَ فِي النُّطْقِ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يُوَافِقُ الْقَوَاعِدَ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، أَتَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَبِيعِيًّا لَهُمْ؟ كَلَّا، وَإِنَّمَا هِيَ مَلَكَةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالسَّمَاعِ وَالْمُحَاكَاةِ، وَلِذَلِكَ صَارَ أَبْنَاءُ الْعَرَبِ أَشَدَّ عُجْمَةً مِنَ الْعَجَمِ عِنْدَمَا اخْتَلَطُوا بِهِمْ. وَلَوْ كَانَ طَبِيعِيًّا ذَاتِيًّا لَهُمْ لَمَا فَقَدُوهُ فِي مُدَّةِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بَعْدِ الْهِجْرَةِ. (ثَالِثُهَا) : عِلْمُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ. بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا. فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ

وَضَعْفٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَمِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَيُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهَمِّهَا التَّارِيخُ بِأَنْوَاعِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَنَا لَا أَعْقِلُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (2: 213) الْآيَةَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَحْوَالَ الْبَشَرِ، وَكَيْفَ اتَّحَدُوا، وَكَيْفَ تَفَرَّقُوا؟ وَمَا مَعْنَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ وَهَلْ كَانَتْ نَافِعَةً أَمْ ضَارَّةً؟ وَمَاذَا كَانَ مِنْ آثَارِ بَعْثِهِ النَّبِيِّينَ فِيهِمْ. أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْكَلَامَ عَنِ الْأُمَمِ، وَعَنِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَنْ آيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفَسِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ صَادِرٌ عَمَّنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَمَرَنَا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِنَفْهَمَ إِجْمَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يَزِيدُنَا ارْتِقَاءً وَكَمَالًا، وَلَوِ اكْتَفَيْنَا مِنْ عِلْمِ الْكَوْنِ بِنَظْرَةٍ فِي ظَاهِرِهِ، لَكُنَّا كَمَنْ يَعْتَبِرُ الْكِتَابَ بِلَوْنِ جِلْدِهِ لَا بِمَا حَوَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ. (رَابِعُهَا) : الْعِلْمُ بِوَجْهِ هِدَايَةِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ الْقَائِمِ بِهَذَا الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُنَادِي بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا فِي شَقَاءٍ وَضَلَالٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ بِهِ لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ. وَكَيْفَ يَفْهَمُ الْمُفَسِّرُ مَا قَبَّحَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ؟ هَلْ يَكْتَفِي مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ دُعَاةِ الدِّينِ وَالْمُنَاضِلِينَ عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ بِأَنْ يَقُولُوا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ دَحَضَ أَبَاطِيلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ كَلَّا. وَأَقُولُ الْآنَ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ النَّاسِ قَبْلَهُ يَجْهَلُ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ وَعِنَايَةَ اللهِ بِجَعْلِهِ مُغَيِّرًا لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ وَمُخْرِجًا لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا يَظُنُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْرٌ عَادِيٌّ. كَمَا تَرَى بَعْضَ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ فِي النَّظَافَةِ وَالنَّعِيمِ يَعُدُّونَ التَّشْدِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ وَالسِّوَاكِ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَوِ اخْتَبَرُوا غَيْرَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ لَعَرَفُوا الْحِكْمَةَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ وَتَأْثِيرَ تِلْكَ الْآدَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟ (خَامِسُهَا) : الْعِلْمُ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الشُّئُونِ دُنْيَوِيِّهَا وَأُخْرَوِيِّهَا.

فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهَمَا) : جَافٌّ مُبْعِدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ حَلُّ الْأَلْفَاظِ وَإِعْرَابُ الْجُمَلِ وَبَيَانُ مَا تَرْمِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ مِنَ النُّكَتِ الْفَنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِينِ فِي الْفُنُونِ كَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَغَيْرِهِمَا. (ثَانِيهُمَا) : وَهُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ - عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ - هُوَ الَّذِي يَسْتَجْمِعُ تِلْكَ الشُّرُوطَ لِأَجْلِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِغَايَتِهَا، وَهُوَ ذَهَابُ الْمُفَسِّرِ إِلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْذِبُ الْأَرْوَاحَ، وَيَسُوقُهَا إِلَى الْعَمَلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُودَعَةِ فِي الْكَلَامِ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُدًى وَرَحْمَةً) وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ. فَالْمَقْصِدُ الْحَقِيقِيُّ وَرَاءَ كُلِّ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَالْفُنُونِ هُوَ الِاهْتِدَاءُ بِالْقُرْآنِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي أَرْمِي إِلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ. وَتَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَيْضًا عَنِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ عَظِيمَ شَأْنِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ بِمَا مِثَالُهُ: مَثَلُ النَّاطِقِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْآنَ - مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى نِهَايَةِ بِلَادِ مُرَّاكُشَ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ فِي لُغَتِهِمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ الْمُخَالِطِينَ لِلْعَرَبِ، وَجَدَ فِي كَلَامِهِمْ - بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ - مُفْرَدَاتٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَى التَّفْسِيرِ، وَفَهْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ حَيْثُ بُدِئَ بِكِتَابَةِ التَّفْسِيرِ وَأَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ بِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا يَكُونُ أَحْوَجَ مِنَّا إِلَى ذَلِكَ إِذَا بَقِينَا عَلَى تَقَهْقُرِنَا، وَلَكِنْ إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا نَهْضَةً لِإِحْيَاءِ لُغَتِنَا وَدِينِنَا فَرُبَّمَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَنَا أَحْسَنَ حَالًا مِنَّا. التَّفْسِيرُ عِنْدَ قَوْمِنَا الْيَوْمَ وَمِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنَ اخْتِلَافٍ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) وَلَيْتَ أَهْلَ الْعِنَايَةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ يَطْلُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعْنًى تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ، ثُمَّ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا صِنَاعَةً يُفَاخِرُونَ بِالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَيُمَارُونَ فِيهَا مَنْ يُبَارِيهِمْ فِي طَلَبِهَا، وَلَا يَخْرُجُونَ لِإِظْهَارِ الْبَرَاعَةِ فِي تَحْصِيلِهَا عَنْ حَدِّ الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ، وَاخْتِرَاعِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْإِغْرَابِ فِي الْإِبْعَادِ عَنْ مَقَاصِدِ التَّنْزِيلِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَسْأَلُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَمَا فَهِمُوهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُنَا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِرْشَادِنَا وَهِدَايَتِنَا، وَعَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا مَا نُزِّلَ إِلَيْنَا (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44)

يَسْأَلُنَا هَلْ بَلَغَتْكُمُ الرِّسَالَةُ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ مَا بُلِّغْتُمْ؟ هَلْ عَقَلْتُمْ مَا عَنْهُ نُهِيتُمْ وَمَا بِهِ أُمِرْتُمْ؟ وَهَلْ عَمِلْتُمْ بِإِرْشَادِ الْقُرْآنِ، وَاهْتَدَيْتُمْ بِهَدْيِ النَّبِيِّ وَاتَّبَعْتُمْ سُنَّتَهُ؟ عَجَبًا لَنَا نَنْتَظِرُ هَذَا السُّؤَالَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ، فَيَا لَلْغَفْلَةِ وَالْغُرُورِ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. مَعْرِفَتُنَا بِالْقُرْآنِ كَمَعْرِفَتِنَا بِاللهِ تَعَالَى: أَوَّلُ مَا يُلَقَّنُ الْوَلِيدُ عِنْدَنَا مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، هُوَ اسْمُ " اللهِ " تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَتَعَلَّمُهُ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ يَسْمَعُ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَعْقِلُ مَعْنَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَعْرِفُ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا يُعَظِّمُهُ بِهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ. وَذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) : اعْتِقَادُ أَنَّ آيَةَ كَذَا إِذَا كُتِبَتْ وَمُحِيَتْ بِمَاءٍ وَشَرِبَهُ صَاحِبُ مَرَضِ كَذَا يُشْفَى، وَأَنَّ مَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، لَا يَقْرَبُهُ جِنٌّ وَلَا شَيْطَانٌ، وَيُبَارَكُ لَهُ فِي كَذَا وَكَذَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ وَمَعْرُوفٌ لِلْعَامَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ لِلْخَاصَّةِ، وَمَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ هَذَا وَعَدَمِ صِحَّتِهِ نَقُولُ: إِنَّ فِيهِ مُبَالَغَةً فِي التَّعْظِيمِ عَظِيمَةً جِدًّا وَلَكِنَّهَا - وَيَا لَلْأَسَفِ - لَا تَزِيدُ عَنْ تَعْظِيمِ التُّرَابِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ الْأَضْرِحَةِ ابْتِغَاءَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ نَفْسِهَا. أَقُولُ: وَنَحْوُ هَذَا مَا يُعَلَّقُ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنَ التَّعَاوِيذِ وَالتَّنَاجِيسِ كَالْخِرَقِ وَالْعِظَامِ وَالتَّمَائِمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الطَّلْسَمَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ، الْمَنْقُولَةِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، هَذَا الضَّرْبُ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ نُسَمِّيهِ - إِذَا جَرَيْنَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ - عِبَادَةً لِلْقُرْآنِ لَا عِبَادَةً لِلَّهِ بِهِ. (ثَانِيهِمَا) : الْهِزَّةُ وَالْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ وَالْكَلِمَاتُ الْمَعْلُومَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، إِذَا كَانَ الْقَارِئُ رَخِيمَ الصَّوْتِ حَسَنَ الْأَدَاءِ عَارِفًا بِالتَّطْرِيبِ عَلَى أُصُولِ النَّغَمِ. وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ اللَّذَّةِ وَالنَّشْوَةِ هُوَ حُسْنُ الصَّوْتِ وَالنَّغَمِ، بَلْ أَقْوَى سَبَبٍ لِذَلِكَ هُوَ بُعْدُ السَّامِعِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَأَعْنِي بِالْفَهْمِ مَا يَكُونُ عَنْ ذَوْقٍ سَلِيمٍ تُصِيبُهُ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ بِعَجَائِبِهَا، وَتَمْلِكُهُ مَوَاعِظُهُ فَتَشْغَلُهُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ. لَا أُرِيدُ الْفَهْمَ الْمَأْخُوذَ بِالتَّسْلِيمِ الْأَعْمَى مِنَ الْكُتُبِ أَخْذًا جَافًّا لَمْ يَصْحَبْهُ ذَلِكَ الذَّوْقُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ رِقَّةِ الشُّعُورِ وَلُطْفِ الْوِجْدَانِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مَدَارُ التَّعَقُّلِ وَالتَّأَثُّرِ وَالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ. لِهَذَا كُلِّهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْيَوْمَ أَشَدُّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالضَّالِّينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ شَرِيفٌ، نَعَمْ رُبَّمَا كَانَ إِثْمُ صَاحِبِهَا مَعَ الْجُحُودِ أَشَدَّ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ

دَائِمًا مَلُومًا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا اللَّوْمُ يُزَلْزِلُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. كَانَ الْبَدَوِيُّ رَاعِي الْغَنَمِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ فَيَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا لِمَا عِنْدَهُ مِنْ رِقَّةِ الْإِحْسَاسِ وَلُطْفِ الشُّعُورِ، فَهَلْ يُقَاسُ هَذَا بِأَيِّ مُتَعَلِّمٍ الْيَوْمَ؟ أَرَأَيْتَ أَهْلَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، كَيْفَ انْضَوَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ بِجَاذِبِيَّةِ الْقُرْآنِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ الِانْجِذَابِ إِلَى الْحَقِّ؟ ! وَأَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى الْبِنْتِ الْأَعْرَابِيَّةِ الَّتِي فَطِنَتْ لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ. وَمُجْمَلُ الْخَبَرِ أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ بِنْتًا مِنَ الْأَعْرَابِ خُمَاسِيَّةً أَوْ سُدَاسِيَّةً تُنْشِدُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِذَنْبِي كُلِّهِ ... قَتَلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ مِثْلَ غَزَالٍ نَاعِمٍ فِي دَلِّهِ ... وَانْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ فَقُلْتُ لَهَا: قَاتَلَكِ اللهُ مَا أَفْصَحَكِ، فَقَالَتْ: وَيَحَكَ أَيُعَدُّ هَذَا فَصَاحَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (28: 7) فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ. لَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي جَذْبِ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُحْفَظُ إِلَّا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ قَدِ اخْتَلَطُوا بِالْعَجَمِ، وَفَهِمَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَعَاجِمِ مَا فَهِمَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِ أَجْمَعَ كُلٌّ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَدَوَّنُوا لَهَا الدَّوَاوِينَ وَوَضَعُوا لَهَا الْفُنُونَ، نَعَمْ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِلُغَةِ الْأُمَّةِ وَآدَابِهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمَادَّةٌ مِنْ مَوَادِّ حَيَاتِهَا، وَلَا حَيَاةَ لِأُمَّةٍ مَاتَتْ لُغَتُهَا. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحَامِلَ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ بِمُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا وَآدَابِهَا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا. أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كِتَابًا فِي الْفِرَقِ خَتَمَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَزَايَاهُمْ، وَعَدَّ مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْفِرَقِ: التِّبْرِيزَ فِي اللُّغَةِ وَآدَابِهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَزَايَا الْيَوْمَ؟ وَأَيْنَ آثَارُهَا فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ؟ بَلْ فَهْمِ مَا دُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ! وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ اهـ. أَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ، فَلَا بَقَاءَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ فَهْمًا صَحِيحًا، وَلَا بَقَاءَ لِفَهْمِهِ إِلَّا بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي بَعْضِ بِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِوُجُودِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا يَكْفِي لِرَدِّ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَبِبَقَاءِ ثِقَةِ الْعَامَّةِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَهُ تَقْلِيدًا لَهُمْ فِيهِ، أَوْ بِعَدَمِ عُرُوضِ الشُّبَهِ لَهُمْ مِنْ دُعَاةِ

الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى، مَعَ تَأْثِيرِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَنَشْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي أَوْجِ الْقُوَّةِ بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. كَانَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ أُمَّتَهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، لَا الْعَرَبِيَّةُ وَلَا الْفَارِسِيَّةُ وَلَا الْقِبْطِيَّةُ وَلَا التُّرْكِيَّةُ. . . . كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (21: 92) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ، وَلَا لُغَةَ تَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْبُطُهُمْ إِلَّا لُغَةُ الدِّينِ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِنِعْمَةِ اللهِ إِخْوَانًا، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَعُدْ خَاصَّةً بِالْجِنْسِ الْعَرَبِيِّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَجْنَاسِ - الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ بِالْأَصْنَافِ - مِنْ جِهَةِ أَنْسَابِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَجَمِ فِي خِدْمَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ كَمَا يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ، وَيَعُدُّونَهَا لُغَتَهُمْ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّتُهُ: وَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ - قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ - فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ". ثُمَّ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ وَشَدَّدَ فِي مَنْعِهَا، بَعْدَ أَنْ ضَعُفَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِمْ، حَتَّى قَامَ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ. زَاعِمًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ لَيْسَ لَهُ لُغَةٌ. وَغَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي بُغْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَدَعَا مُسْلِمِي قَوْمِهِ إِلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَلِ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِلُغَةِ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الضَّعْفِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ - كَجَاوَةَ، الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِالدِّينِ وَلُغَتِهِ، الْقَادِرُونَ عَلَى دَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ الْقُرْآنِ - صَارُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لِإِيضَاعِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ خِلَالَهُمْ، وَسُؤَالِهِمُ الْفِتْنَةَ بِالتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآنِ وَالطَّعْنِ فِيهِ. وَأَيْنَ مَنْ يَفْهَمُهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ هُنَاكَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ يَفْخَرُ بِسَلَفِهِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْمَجُوسِ حَتَّى بِفِرْعَوْنَ الَّذِي لَعَنَهُ اللهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ. أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَنَعْتَبِرَ بِهِ، وَنَتَذَكَّرَ وَنَهْتَدِيَ، وَأَنْ نَعْلَمَ مَا نَقُولُهُ فِي صِلَاتِنَا مِنْ آيَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالِامْتِثَالُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ مُعْجِزًا

لِلْبَشَرِ وَلَا تَقُومُ حُجَّتُهُ فِي هَذَا عَلَيْهِمْ إِلَّا بِفَهْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ، نَدْعُو إِلَيْهَا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَائِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ. وَإِنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا ضَعُفُوا وَزَالَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ إِلَّا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فَقَدُوا مِنَ الْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى هِدَايَتِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ كَمَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى إِحْيَاءِ لُغَتِهِ فَالدُّعَاءُ لَهُ دُعَاءٌ لَهَا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (8: 24 - 26) وَبِالشُّكْرِ تَدُومُ النِّعَمُ، وَكُفْرُهَا مَجْلَبَةٌ لِلنِّقَمِ، وَلِذَلِكَ أَرْشَدَنَا اللهُ فِي فَاتِحَةِ كِتَابِهِ إِلَى الدُّعَاءِ بِأَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَبْدَأُ بِالْمَقْصُودِ بِعَوْنِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

الفاتحة

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ (1) هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ: هُوَ أَنَّ الْمَكِّيَّةَ أَكْثَرُ إِيجَازًا؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ وَأَفْصَحُهُمْ، وَعَلَى الْإِيجَازِ مَدَارُ الْبَلَاغَةِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مُعْظَمَهَا تَنْبِيهَاتٌ وَزَوَاجِرُ وَبَيَانٌ لِأُصُولِ الدِّينِ بِالْإِجْمَالِ. وَقَدْ قُلْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الطَّبْعَةِ الثَّانِيَةِ لِمُجَلَّدِ الْمَنَارِ الْأَوَّلِ فِي أُسْلُوبِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مَا نَصُّهُ: إِنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ لَا سِيَّمَا الْمُنَزَّلَةُ فِي أَوَائِلِ الْبِعْثَةِ قَوَارِعُ تَصُخُّ الْجَنَانَ، وَتَصْدَعُ الْوِجْدَانَ، وَتُفْزِعُ الْقُلُوبَ إِلَى اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَتَدُعُّ الْعُقُولَ إِلَى إِطَالَةِ الْفِكْرِ فِي الْخَطْبَيْنِ الْغَائِبِ وَالْعَتِيدِ، وَالْخَطَرَيْنِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَهُمَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْإِبَادَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ، أَوِ الْفَتْحُ الذَّاهِبُ بِالِاسْتِقْلَالِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَشَدُّ وَأَقْوَى، وَأَنْكَى وَأَخْزَى - بِكُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنْذَرَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَلَمْ يَرْجِعُوا بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَإِفْكِهِمْ، وَيَأْخُذُوا بِتِلْكَ الْأُصُولِ الْمُجْمَلَةِ، الَّتِي هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ، وَلَيْسَتْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْعَقْلُ، أَوْ يَسْتَثْقِلُهُ الطَّبْعُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ. رَاجِعْ تِلْكَ السُّوَرَ الْعَزِيزَةَ، وَلَا سِيَّمَا قِصَارُ الْمُفَصَّلِ مِنْهَا كَـ (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) ، وَ (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) ، وَ (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) ، وَ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، وَ (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) ، وَ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ، وَ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) ، (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) ، (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) ، (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) . تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي كَانَتْ بِنَذْرِهَا، وَفَهْمِ الْقَوْمِ لِبَلَاغَتِهَا وَعِبَرِهَا، وَتَفَزُّعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، حَتَّى يَفِرُّوا مِنَ الدَّاعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (74: 50 - 51) - (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (11: 5) ثُمَّ إِلَى السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطِّوَالِ، فَلَا نَجِدُهَا تَخْرُجُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَنْ حَدِّ الْإِجْمَالِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (17: 23 - إِلَى - 37 مِنْهَا) وَقَوْلِهِ بَعْدَ إِبَاحَةِ الزِّينَةِ وَإِنْكَارِ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 33)

وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِي أُسْلُوبِهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِسْهَابِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ بَلَاغَةً وَفَهْمًا مِنَ الْعَرَبِ الْأُصَلَاءِ، وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَكْثَرُهُ مُحَاجَّةٌ لَهُمْ - لِأَهْلِ الْكِتَابِ - وَنَعْيٌ عَلَيْهِمْ، وَإِثْبَاتٌ لِتَحْرِيفِهِمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَابْتِدَاعِهِمْ فِيهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَنِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَدَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيَانٌ لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، هُوَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي هَذِهِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ أَيْضًا بَيَانٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَلِأُصُولِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ فِيهَا، كَمَا تَرَاهُ فِي طِوَالِ الْمُفَصَّلِ مِنْهَا، كَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنَ السُّوَرِ. فَقِيلَ: الْمَكِّيُّ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالْمَدَنِيُّ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْمَكِّيُّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَلَوْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَالَّذِي نَزَلَ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَهَا، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَفْسِهَا أَوْ ضَوَاحِيهَا أَوْ فِي مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ فِي غَزْوَةٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ. فَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ: هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلِبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَمِنْ تَرْكِ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ بِعُقُولِهِمْ وَفِطْرَتِهِمْ، وَفِعْلِ الْخَيِّرَاتِ وَالْمَعْرُوفِ بِحَسْبِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ الْمَوْكُولِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرِ. وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكُوُّنِ جَمَاعَتِهِمْ، بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَسَتَرَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي الْقِسْمَيْنِ تَفْصِيلًا. وَالسُّورَةُ: طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَأَكْثَرَ، لَهَا اسْمٌ مَعْرُوفٌ بِالتَّوْقِيفِ وَالرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، قِيلَ: إِنَّ اسْمَهَا مُشْتَقٌّ مِنَ السُّورِ الَّذِي يُحِيطُ بِالْبَلَدِ. وَقِيلَ: مِنَ السُّؤْرِ الْمَهْمُوزِ، وَمَعْنَاهُ الْبَقِيَّةُ، وَبَقِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ جُزْءٌ مِنْهُ فَالْمُرَادُ بِهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مِنَ التَّسَوُّرِ، وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوهَا فِي مَصَاحِفِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهَا إِلَّا أَلْفَاظَ التَّنْزِيلِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا هُمْ زَادُوا شَيْئًا - كَأَسْمَاءِ السُّوَرِ أَوْ لَفْظِ " آمِينَ " بَعْدَ الْفَاتِحَةِ - أَنَّهُ مِنَ التَّنْزِيلِ. هَذَا - وَلَفْظُ " الْفَاتِحَةِ " صِفَةٌ، مُؤَنَّثُ الْفَاتِحِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ فَاتِحَةً؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ (وَتَكَلَّمَ عَنْ لَفْظِ الْفَاتِحَةِ وَعَنِ التَّاءِ فِيهِ) وَتُسَمَّى أُمَّ الْكِتَابِ. وَقَالُوا: إِنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا هَذَا الِاسْمَ مَوْضُوعٌ. ثُمَّ قَالَ: يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ الْكَلَامِ

عَنِ السُّوَرِ عَلَى الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ يُفِيدُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ بِالْفَاتِحَةِ لِأَوَّلِ فَرْضِيَّتِهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَكَّةَ. وَقَالُوا: هِيَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (15: 87) وَهُوَ مَكِّيٌّ بِالنَّصِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِمَكَّةَ عِنْدَ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ كَثِيرُونَ إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِتَمَامِهَا. أَقُولُ الْآنَ ذَكَرَ الْحَافِظُ السَّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ: - أَحَدُهَا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (96) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. ثَانِيهَا: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (74) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. وَجَمَعُوا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ صَدْرُ سُورَةِ اقْرَأْ. وَالثَّانِي أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِتَمَامِهَا، أَوِ الثَّانِي أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ آمِرًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي " الْإِتْقَانِ ". ثَالِثُهَا: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ (اقْرَأْ) وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ (قَالَ السُّيُوطِيُّ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ. وَحُجَّتُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَدِيجَةَ: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، فَقَدْ وَاللهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا. فَقَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ، مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ " - وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخْبَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ بِذَلِكَ، وَأَنَّ وَرَقَةً أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَثْبُتَ وَيَسْمَعَ النِّدَاءَ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَا نَادَاهُ - أَيِ الْمَلَكُ - " يَا مُحَمَّدُ قُلْ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - حَتَّى بَلَغَ - (وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْحَدِيثِ: هَذَا مُرْسَلٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَنَقَلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ هَذَا بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) . هَذَا - وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَدْ رَجَّحَ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: " (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " وَنَزَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ مَنْزَعًا غَرِيبًا فِي حِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ الدِّينِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ. وَمِنْ آيَةِ ذَلِكَ: أَنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي هَذَا الْكَوْنِ - سَوَاءٌ أَكَانَ كَوْنَ إِيجَادٍ أَوْ كَوْنَ تَشْرِيعٍ - أَنْ يُظْهِرَ سُبْحَانَهُ الشَّيْءَ مُجْمَلًا ثُمَّ يَتْبَعُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْرِيجًا، وَمَا مَثَلُ الْهِدَايَاتِ الْإِلَهِيَّةِ

إِلَّا مَثَلُ الْبَذْرَةِ وَالشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ فِي بِدَايَتِهَا مَادَّةُ حَيَاةٍ تَحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ أُصُولِهَا ثُمَّ تَنْمُو بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى تَبَسُقَ فُرُوعُهَا بَعْدَ أَنْ تَعْظُمَ دَوْحَتُهَا ثُمَّ تَجُودُ عَلَيْكَ بِثَمَرِهَا. وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُجْمَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي وُضِعَتْ فِيهَا. وَلَسْتُ أَعْنِي بِهَذَا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَدَلَالَةِ الْحُرُوفِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ أَسْرَارَ الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ. وَأَسْرَارُ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَأَسْرَارُ الْبَسْمَلَةِ فِي الْبَاءِ، وَأَسْرَارُ الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، وَلَا هُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ ذَهَبَ بِهِمُ الْغُلُوُّ إِلَى سَلْبِ الْقُرْآنِ خَاصَّتَهُ وَهِيَ الْبَيَانُ. (قَالَ) : وَبَيَانُ مَا أُرِيدُ هُوَ أَنَّ مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ أُمُورٌ: (أَحَدُهَا) : التَّوْحِيدُ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كُلُّهُمْ وَثَنِيِّينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ. (ثَانِيهَا) : وَعْدُ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَتَبْشِيرُهُ بِحُسْنِ الْمَثُوبَةِ، وَوَعِيدُ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَإِنْذَارُهُ بِسُوءِ الْعُقُوبَةِ. وَالْوَعْدُ يَشْمَلُ مَا لِلْأُمَّةِ وَمَا لِلْأَفْرَادِ فَيَعُمُّ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَعَادَتَهُمَا، وَالْوَعِيدُ كَذَلِكَ يَشْمَلُ نِقَمَهُمَا وَشَقَاءَهُمَا، فَقَدْ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ، وَأَوْعَدَ الْمُخَالِفِينَ بِالْخِزْيِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَعَدَ بِالنَّعِيمِ. وَأَوْعَدَ بِنَارِ الْجَحِيمِ فِي الْآخِرَةِ. (ثَالِثُهَا) : الْعِبَادَةُ الَّتِي تُحْيِي التَّوْحِيدَ فِي الْقُلُوبِ وَتُثْبِتُهُ فِي النُّفُوسِ. (رَابِعُهَا) : بَيَانُ سَبِيلِ السَّعَادَةِ وَكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِيهِ الْمُوصِّلِ إِلَى نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (خَامِسُهَا) : قَصَصُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَأَخَذَ بِأَحْكَامِ دِينِهِ، وَأَخْبَارُ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وَنَبَذُوا أَحْكَامَ دِينِهِ ظِهْرِيًّا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ، وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمُحْسِنِينَ وَمَعْرِفَةُ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ. هَذِهِ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا حَيَاةُ النَّاسِ وَسَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ، وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا إِجْمَالًا بِغَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، فَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لِأَنَّهُ نَاطِقٌ بِأَنَّ كُلَّ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ يَصْدُرُ عَنْ نِعْمَةٍ مَا فَهُوَ لَهُ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ مَصْدَرَ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الْكَوْنِ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْزَامِ الْعِبَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وَلَفْظُ (رَبِّ) لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمَالِكَ وَالسَّيِّدَ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِنْمَاءِ، وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ يَرَاهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِيجَادِ وَلَا بِالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ سِوَاهُ.

التَّوْحِيدُ أَهَمُّ مَا جَاءَ لِأَجْلِهِ الدِّينُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ فِي الْفَاتِحَةِ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بَلِ اسْتَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فَاجْتَثَّ بِذَلِكَ جُذُورَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَّةً فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تُعْتَقَدُ لَهُمُ السُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ، وَيُدْعَوْنَ لِذَلِكَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فِي الدُّنْيَا، وَيُتَقَرَّبُ بِهِمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى. وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَمُقَارَعَةِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَطْوِيٌّ فِي (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ - وَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ - وَعْدٌ بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ كَرَّرَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى أَمْرِهِ إِيَّانَا بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَا لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِنَا وَمَنْفَعَتِنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مَعًا لِأَنَّ مَعْنَى الدِّينِ: الْخُضُوعُ. أَيْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ السُّلْطَانَ الْمُطْلَقَ وَالسِّيَادَةَ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا - لَا حَقِيقَةً وَلَا ادِّعَاءً - وَأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَكُونُ خَاضِعًا لِعَظَمَتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخْشَى عَذَابَهُ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. أَوْ مَعْنَى الدِّينِ: الْجَزَاءُ، وَهُوَ إِمَّا ثَوَابٌ لِلْمُحْسِنِ، وَإِمَّا عِقَابٌ لِلْمُسِيءِ، وَذَلِكَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وَهُوَ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ فَازَ، وَمَنْ تَنَكَّبَهُ هَلَكَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أَوْضَحَ مَعْنَاهَا بَعْضَ الْإِيضَاحِ فِي بَيَانِ الْأَمْرِ الرَّابِعِ الَّذِي يَشْمَلُهَا وَيَشْمَلُ أَحْكَامَ الْمُعَامَلَاتِ وَسِيَاسَةَ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أَيْ إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ لَنَا صِرَاطًا سَيُبَيِّنُهُ وَيُحَدِّدُهُ وَتَكُونُ السَّعَادَةُ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَالشَّقَاوَةُ فِي الِانْحِرَافِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ هُوَ كَمَالُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ. وَالْفَاتِحَةُ بِجُمْلَتِهَا تَنْفُخُ رُوحَ الْعِبَادَةِ فِي الْمُتَدَبِّرِ لَهَا، وَرُوحُ الْعِبَادَةِ هِيَ: إِشْرَابُ الْقُلُوبِ خَشْيَةَ اللهِ وَهَيْبَتَهُ، وَالرَّجَاءَ لِفَضْلِهِ، لَا الْأَعْمَالُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ فِعْلٍ وَكَفٍّ وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الْعِبَادَةُ فِي الْفَاتِحَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا، وَالصِّيَامِ وَأَيَّامِهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرُّوحُ فِي الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يُكَلَّفُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ وَقَبْلَ نُزُولِ أَحْكَامِهَا الَّتِي فُصِّلَتْ فِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا مَا، وَإِنَّمَا الْحَرَكَاتُ وَالْأَعْمَالُ مِمَّا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ، وَمُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِكْرُ وَالْعِبْرَةُ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ وَالْقَصَصُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا تَقَدَّمُوا وَقَدْ شَرَّعَ اللهُ شَرَائِعَ لِهِدَايَتِهِمْ. وَصَائِحٌ يَصِيحُ: أَلَا فَانْظُرُوا فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا بِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ يَدْعُوهُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ

مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا هِيَ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) تَصْرِيحٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ اللهِ، وَفَرِيقٌ جَاحَدَهُ وَعَانَدَ مَنْ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ مَحْفُوفًا بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ وَالْخِزْيِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَبَاقِي الْقُرْآنِ يُفَصِّلُ لَنَا فِي أَخْبَارِ الْأُمَمِ هَذَا الْإِجْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِبْرَةَ فَيَشْرَحُ حَالَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ عِنَادًا، وَالَّذِينَ ضَلُّوا فِيهِ ضَلَالًا. وَحَالَ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَيْهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ. فَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْفَاتِحَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ إِجْمَالًا عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي يُفَصِّلُهَا الْقُرْآنُ تَفْصِيلًا، فَكَانَ إِنْزَالُهَا أَوَّلًا مُوَافِقًا لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِبْدَاعِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاتِحَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى (أُمُّ الْكِتَابِ) كَمَا نَقُولُ إِنَّ النَّوَاةَ أُمُّ النَّخْلَةِ، فَإِنَّ النَّوَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَجَرَةِ النَّخْلَةِ كُلِّهَا حَقِيقَةً، لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ تَكُونُ أَوَّلًا وَيَأْتِي بَعْدَهَا الْأَوْلَادُ. وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَبْسُوطًا مُوَضَّحًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُزُولَ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَلَقِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ لَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكَمَ الَّتِي بَيَّنَهَا؛ لِأَنَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَحْيِ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ، خَاصٌّ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْلَامٌ لَهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ - وَهُوَ أُمِّيٌّ - قَارِئًا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَمُخْرِجًا لِلْأُمِّيِّينَ مِنْ أُمِّيَّتِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ بِالْقَلَمِ، أَيِ الْكِتَابَةِ، وَفِي ذَلِكَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (2: 129) فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْكِتَابَ، بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً، وَأُمِرَ النَّبِيُّ بِجَعْلِهَا أَوَّلَ الْقُرْآنِ، وَانْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. لَا أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْبَسْمَلَةِ، مِنْ حَيْثُ لَفَظُهَا وَإِعْرَابُهَا، وَهَلْ هِيَ آيَةٌ أَوْ جُزْءُ آيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا؟ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَقَدِ اخْتَصَرَ الْأُسْتَاذُ الْقَوْلَ فِيهِ اخْتِصَارًا وَقَالَ: إِنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْآيَاتِ. وَأَقُولُ الْآنَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِهَا مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مَنْ كُلِّ سُورَةٍ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُقَهَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ وَمِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَمِنْهُمْ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَتْبَاعُهُ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْإِمَامِيَّةُ، وَمِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَقْوَى حُجَجِهِمْ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى سُورَةِ بَرَاءَةَ (التَّوْبَةِ) مَعَ الْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ عَنْ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبُوا (آمِينَ) فِي آخِرِ الْفَاتِحَةِ، وَأَحَادِيثُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ انْقِضَاءَ السُّورَةِ - حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ (أَيْ سُورَةَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ ") فَاقْرَأُوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَى

1

آيَاتِهَا " وَذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ، وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ مِنْ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مُفْرَدَةٌ أُنْزِلَتْ لِبَيَانِ رُءُوسِ السُّورِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهَا، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَثَمَّةَ أَقْوَالٌ أُخْرَى شَاذَّةٌ. هَذَا - وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْقُرْآنُ إِمَامُنَا وَقُدْوَتُنَا، فَافْتِتَاحُهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِرْشَادٌ لَنَا بِأَنْ نَفْتَتِحَ أَعْمَالَنَا بِهَا فَمَا مَعْنَى هَذَا؟ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ نَفْتَتِحَ أَعْمَالَنَا بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ نَذْكُرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ أَوِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، بَلْ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَإِنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا. أَقُولُ الْآنَ: الِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مِنَ الذَّوَاتِ كَحَجَرٍ وَخَشَبٍ وَزَيْدٍ، أَوْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي كَالْعِلْمِ وَالْفَرَحِ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْجَوْهَرِ أَوِ الْعَرَضِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْمُ مَا يُعْرَفُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَأَصْلُهُ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّمُوِّ، وَإِنَّ أَصْلَهُ سَمَوَ؛ لِأَنَّ تَصْغِيرَهُ سُمَيٌّ وَجَمْعَهُ أَسْمَاءٌ. وَالسُّمُوُّ: الْعُلُوُّ، كَأَنَّ الِاسْمَ يَعْلُو مُسَمَّاهُ بِكَوْنِهِ عُنْوَانًا لَهُ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنَ السِّمَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَأَصْلُهُ وَسَمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ: إِنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ وَالْعَيْنِ - وَهِيَ عِنْدُهُمْ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ - وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ اللُّغَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا هُوَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ النَّافِعَةِ، بَلْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الضَّارَّةِ، وَإِنْ قَالَ الْأُلُوسِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنِ ابْنِ فَوْرِكَ وَالسُّهَيْلِيِّ: " وَمِمَّنْ يَعَضُّ عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ " بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي قِرَاءَةِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّفْسَطَةِ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى. وَقَدْ كَتَبُوا لَغْوًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا رَضِيَ كَلَامَ غَيْرِهِ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُرْضِيهِ كَلَامُ نَفْسِهِ الَّذِي يُؤَيِّدُ بِهِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ. وَالْحُقُّ أَنَّ الِاسْمَ: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُكَ وَيَكْتُبُهُ قَلَمُكَ، كَقَوْلِكَ: الشَّمْسُ أَوْ زَيْدٌ أَوْ مَكَّةُ. وَالْمُسَمَّى: هُوَ الْكَوْكَبُ الْمَعْرُوفُ أَوِ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ أَوِ الْبَلَدُ الْمُحَدَّدُ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنْكَ عِنْدَ إِطْلَاقِ الِاسْمِ. وَلَفْظُ " اسْمِ " اسْمٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، دُونَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تُسَمَّى فِي النَّحْوِ أَفْعَالًا. وَمَدْلُولُهُ مِثْلُ مَدْلُولِ لَفْظِ إِنْسَانٍ يُطْلَقُ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ كَلَفْظِ " الشَّمْسِ " الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ وَتَكْتُبُهُ، وَلَفْظِ " زَيْدٍ " وَلَفْظِ " مَكَّةَ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْجُودَاتِ. فَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ نَسَبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ غَيْرَ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، بَلْ قَالَ فِي كِتَابِهِ (بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ) : مَا قَالَ نَحْوِيٌّ قَطُّ وَلَا عَرَبِيٌّ إِنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَذَكَرَ بَعْضَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِالتَّسْمِيَةِ وَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ. وَأَنَّ مَعْنَى " (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " سَبِّحْ رَبَّكَ ذَاكِرًا اسْمَهُ الْأَعْلَى، وَمَعْنَى " سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ " سَبِّحْهُ نَاطِقًا بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ.

وَمَنْشَأُ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ فِي آيَاتٍ، وَبِذِكْرِ اسْمِهِ وَتَسْبِيحِ اسْمِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، فَقَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (73: 89) (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (76: 25) (وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا) (22: 40) (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) (6: 118) (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (6: 119) (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) (22: 36) أَيِ الْبُدْنِ عِنْدَ نَحْرِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (33: 41 - 42) . (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (2: 198) . (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا 2) (: 200) . (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (3: 191) . (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (4: 103) . وَقَالَ تَعَالَى فِي التَّسْبِيحِ: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (7: 206) أَيْ يُسَبِّحُونَ رَبَّكَ فَعَدَّى التَّسْبِيحَ بِنَفْسِهِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ كَمَا عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ إِلَى اسْمِ الرَّبِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (87: 1) وَبِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (56: 74، 96) . وَقَالَ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (57: 1) وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ تَعَالَى: (فَتَبَارَكَ اللهُ) (23: 14) . (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ) (25: 1) كَمَا قَالَ: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) (55: 78) . رَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِجَعْلِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى، وَأَنَّ ذِكْرَ اللهِ وَذِكْرَ اسْمِهِ وَتَسْبِيحَهُ وَتَسْبِيحَ اسْمِهِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ اسْمَهُ عَيْنُ ذَاتِهِ، وَأَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَفْظَ " اسْمٍ " مُقْحَمٌ زَائِدٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الذِّكْرَ فِي اللُّغَةِ ضِدَّ النِّسْيَانِ، وَهُوَ ذِكْرُ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قَرَنَهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 191) وَهُمَا عِبَادَتَانِ قَلْبِيَّتَانِ، وَقَالَ: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (18: 24) وَيُطْلَقُ الذِّكْرُ أَيْضًا عَلَى النُّطْقِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَعُنْوَانٌ وَسَبَبٌ لَهُ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ اللِّسَانُ اسْمَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يَذْكُرُ مِنْ كُلِّ الْأَشْيَاءِ أَسْمَاءَهَا، دُونَ ذَوَاتِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِذَا قَالَ: " نَارٌ " لَا يَقَعُ جِسْمُ النَّارِ عَلَى لِسَانِهِ فَيُحْرِقُهُ، وَإِذَا قَالَ الظَّمْآنُ: " مَاءٌ " لَا يَحْصُلُ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فِي فِيهِ فَيَنْقَعُ غُلَّتَهُ، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ هُوَ تَذَكُّرُ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَنِعَمِهِ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِ نِعْمَةِ اللهِ وَآلَاءِ اللهِ. وَذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَإِسْنَادُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ تَسْبِيحُهُ تَعَالَى، فَالْقَلْبُ يُسَبِّحُهُ بِاعْتِقَادِ كَمَالِهِ وَتَذَكُّرِ تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَاللِّسَانُ يُسَبِّحُهُ بِإِضَافَةِ التَّسْبِيحِ إِلَى أَسْمَائِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِلَفْظِ الِاسْمِ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " فَلَمَّا نَزَلَتْ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " قَالَ: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ " وَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولُوا: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ " لَا "

سُبْحَانَ اسْمِ رَبِّيَ الْعَظِيمِ " فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ " وَفِي سُجُودِهِ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ". وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الذَّبَائِحِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ عَلَيْهَا " (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ " وَتَقَدَّمَ آنِفًا ذِكْرُ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا - فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّحْقِيقِ: أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَأَنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ مَشْرُوعٌ، وَذِكْرَ الْمُسَمَّى مَشْرُوعٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ كَالصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّبَارُكُ، فَكَمَا يُعَظَّمُ اللهُ يُعَظَّمُ اسْمُهُ الْكَرِيمُ، فَيُذْكَرُ مَقْرُونًا بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّقْدِيسِ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ تَعَمُّدَ إِهَانَةِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي اللَّفْظِ وَالْكِتَابَةِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ مُؤْمِنٍ. اهـ. مَا زِدْتُهُ الْآنَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ عِنْدَمَا تَقُولُ: إِنَّنِي أَذْكُرُ اسْمَ اللهِ تَعَالَى كَالْعَزِيزِ وَالْحَكِيمِ، لَا تَعْنِي أَنَّكَ تَذْكُرُ لَفْظَ " اسْمٍ " فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْكَلِمَةِ " بِسْمِ اللهِ " التَّبَرُّكُ بِاسْمِ اللهِ هُوَ الصَّوَابُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُكَ: " بِاللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِثْلَ " (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا " وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِضَافَةَ هَاهُنَا لِلْبَيَانِ، أَيْ أَفْتَتِحُ كَلَامِي بِسْمِ اللهِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَارِدًا عَلَى اللَّفْظِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَإِرَادَةُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلَفْظِ الِاسْمِ تَمَحُّلٌ ظَاهِرٌ، فَمَا الْمَقْصُودُ إِذًا مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ؟ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ مَأْلُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمِنْهُمُ الْعَرَبُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا مَا لِأَجْلِ أَمِيرٍ أَوْ عَظِيمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَجَرِّدًا مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ وَمُنْسَلِخًا عَنْهُ، يَقُولُ: أَعْمَلُهُ بِاسْمِ فُلَانٍ، وَيَذْكُرُ اسْمَ ذَلِكَ الْأَمِيرِ أَوِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ دَلِيلٌ وَعُنْوَانٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا كُنْتُ أَعْمَلُ عَمَلًا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ وَلَا أَثَرٌ، لَوْلَا السُّلْطَانُ الَّذِي بِهِ أَمَرَ، أَقُولُ إِنَّ عَمَلِي هَذَا بَاسِمِ السُّلْطَانِ أَيْ إِنَّهُ مُعَنْوَنٌ بِاسْمِهِ وَلَوْلَاهُ لَمَا عَمِلْتُهُ. فَمَعْنَى أَبْتَدِئُ عَمَلِي (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَنَّنِي أَعْمَلُهُ بِأَمْرِهِ وَلَهُ لَا لِي، وَلَا أَعْمَلُهُ بِاسْمِي مُسْتَقِلًّا بِهِ عَلَى أَنَّنِي فُلَانٌ. فَكَأَنِّي أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ لِلَّهِ لَا لِحَظِّ نَفْسِي. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي أَنْشَأْتُ بِهَا الْعَمَلَ هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْلَا مَا مَنَحَنِي مِنْهَا لَمْ أَعْمَلْ شَيْئًا، فَلَمْ يَصْدُرْ عَنِّي هَذَا الْعَمَلُ إِلَّا بِاسْمِ اللهِ وَلَمْ يَكُنْ بِاسْمِي، إِذْ لَوْلَا مَا آتَانِي مِنَ الْقُوَّةِ عَلَيْهِ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَهُ. وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّنِي أَعْمَلُ عَمَلِي مُتَبَرِّئًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِي، بَلْ هُوَ بِاسْمِهِ تَعَالَى، لِأَنَّنِي اسْتَمَدُّ الْقُوَّةَ وَالْعِنَايَةَ مِنْهُ وَأَرْجُو إِحْسَانَهُ عَلَيْهِ، فَلَوْلَاهُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَعْمَلْهُ، بَلْ وَمَا كُنْتُ عَامِلًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَوْلَا أَمْرُهُ وَرَجَاءُ فَضْلِهِ، فَلَفْظُ الِاسْمِ مَعْنَاهُ مُرَادٌ، وَمَعْنَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُرَادٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنْ لَفْظِ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْرُوفٌ مَأْلُوفٌ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ. وَأَقْرَبَهُ إِلَيْكُمُ الْيَوْمَ مَا تَرَوْنَهُ فِي الْمَحَاكِمِ النِّظَامِيَّةِ حَيْثُ يَبْتَدِئُونَ الْأَحْكَامَ قَوْلًا وَكِتَابَةً بِاسْمِ السُّلْطَانِ فُلَانٍ أَوِ الْخِدَيْوِي فُلَانٍ.

وَمَعْنَى الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُقَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْآيَاتِ وَغَيْرِهَا هُوَ لِلَّهِ وَمِنْهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ فِيهِ شَيْءٌ اهـ. أَقُولُ: هَذَا صَفْوَةُ مَا قَرَّرَهُ فِي مُتَعَلِّقِ " (بِسْمِ اللهِ " وَمَعْنَاهَا، وَهَاهُنَا نَظَرٌ آخَرُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ وَحْيًا يُلْقِيهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهُ مُبْتَدَأَةٌ بِبَسْمَلَةٍ، فَمُتَعَلِّقُ الْبَسْمَلَةِ مِنْ مَلَكِ الْوَحْيِ تَعَلَّمَ مَنْ أَوَّلِ آيَةٍ نَزَلَ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " فَمَعْنَى الْبَسْمَلَةِ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رُوحِ الْوَحْيِ: اقْرَأْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ السُّورَةَ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى عِبَادِهِ، أَيِ اقْرَأْهَا عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْكَ، فَإِنَّهُ بِرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْزَلَهَا عَلَيْكَ لِتَهْدِيَهُمْ بِهَا إِلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ يَقْصِدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُتَعَلِّقِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّنِي أَقْرَأُ السُّورَةَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِاسْمِ اللهِ لَا بَاسِمِي، وَعَلَى أَنَّهَا مِنْهُ لَا مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (39: 12) . (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) (2: 92) إِلَخْ. اخْتَصَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْكَلَامِ عَلَى لَفْظَ اسْمٍ وَلَفْظِ الْجَلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمَا مَشْهُورٌ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَهَاكَ جُمْلَةً صَالِحَةً فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ الْعَظِيمِ: لَفْظُ الْجَلَالَةِ (اللهُ) عَلَمٌ عَلَى ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وُضِعَ مُعَرَّفًا، وَقِيلَ: أَصْلُهُ " إِلَهٌ " فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِلَهُ، وَالْإِلَهُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ، وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى آلِهَةٍ، وَمَا كُلُّ مَعْبُودٍ سَمَّوْهُ إِلَهًا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ (اللهِ) فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ الْكَرِيمَ كَانَ خَاصًّا فِي لُغَتِهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكُلِّ شَيْءٍ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ خَصَّصَهُ بِالْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْكَامِلِ، كَمَا جَعَلُوا لَفْظَ " النَّجْمِ " بِالتَّعْرِيفِ خَاصًّا بِالثُّرَيَّا. فَكَانَ الْعَرَبِيُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سُئِلَ مَنْ خَلَقَكَ أَوْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ يَقُولُ: " اللهُ " وَإِذَا سُئِلَ عَنْ بَعْضِ آلِهَتِهِمْ: هَلْ خَلَقَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ؟ يَقُولُ: " لَا " وَقَدِ احْتَجَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى اللهِ وَيَعْتَقِدُونَ شَفَاعَتَهَا عِنْدَهُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَفْظَ " إِلَهٍ " مِنْ أَلِهَ بِمَعْنَى عَبَدَ فَهُوَ بِمَعْنَى مَعْبُودٍ كَكِتَابٍ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، يُقَالُ: أَلِهٌ يَأْلَهُ إِلَاهَةً وَأُلُوهَةً وَأُلُوهِيَّةً، كَمَا يُقَالُ عَبَدَ يَعْبُدُ عِبَادَةً وَعُبُودَةً وَعُبُودِيَّةً فَهُوَ صِفَةٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَلِهَ بِمَعْنَى تَحَيَّرَ، وَقِيلَ: مِنْ وَلِهَ بِمَعْنَى تَحَيَّرَ. وَهُوَ إِذَا اسْتَشْكَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ - لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيْرَةِ - يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَبُ الْحَيْرَةِ. لِأَنَّ النَّاظِرِينَ إِذَا ارْتَقَوْا فِي سُلَّمِ أَسْبَابِ التَّكْوِينِ يَنْتَهُونَ عِنْدَ دَرَجَةِ الْحَيْرَةِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُوجِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ لَا بِسَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ سَابِقَةٍ عَلَيْهِ، وَبِهِ وُجِدَ كُلُّ مَا عَدَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُصُولَ إِلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْمَوْجُودِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ وُجُودُ هَذِهِ

الْكَائِنَاتِ الْمُمْكِنَةِ إِلَّا بِوُجُودِهِ حَتَّى إِنِّ الْمَلَاحِدَةَ الْمَادِّيِّينَ لَمَّا بَحَثُوا فِي أَصْلِ الْمَوْجُودَاتِ، وَارْتَقَوْا إِلَى مَعْرِفَةِ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا الْكَائِنَاتُ، قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَنْشَأٌ وَحْدَهُ مَجْهُولُ الذَّاتِ، ذُو قُوَّةٍ وَحَيَاةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ " اللهَ " عَلَمٌ عَلَى ذَاتِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجْرِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ وَلَا يُوَصَفُ بِهِ. وَلَفْظَ " الْإِلَهِ " صِفَةٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيَّ: الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَةَ أَصْنَامِهِمْ آلِهَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَأْلِيهَهَا وَعِبَادَتَهَا، لَا مُجَرَّدَ تَسْمِيَتِهَا، وَقَدْ سَمَّاهَا هُوَ آلِهَةً فِي قَوْلِهِ: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (11: 101) وَلَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْدُ الْحِكَايَةِ. وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ (اللهَ) عَلَمٌ يُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ الْحُسْنَى صِفَاتٌ تَجْرِي عَلَى هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ، وَلِكَوْنِهَا صِفَاتٍ وُصِفَتْ بِالْحُسْنَى. قَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) (7: 180) وَتُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى أَفْعَالُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَيُقَالُ: رَحِمَ اللهُ فُلَانًا، وَيَرْحَمُهُ اللهُ، وَاللهَمَّ ارْحَمْ فُلَانًا، وَتُضَافُ إِلَيْهِ مَصَادِرُهَا فَيُقَالُ: رَحْمَةُ اللهِ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (7: 56) وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ كُلٌّ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا مَعًا بِالْمُطَابَقَةِ، وَعَلَى الذَّاتِ وَحْدَهَا أَوِ الصِّفَةِ بِالتَّضَمُّنِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا لَوَازِمُ يُدَلُّ عَلَيْهَا بِالِالْتِزَامِ، كَدَلَالَةِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ، وَدَلَالَةِ الْحَكِيمِ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالنِّظَامِ، وَدَلَالَةِ الرَّبِّ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّبَّ الْكَامِلَ لَا يَتْرُكُ مَرْبُوبِيهِ سُدًى، وَمَنْ عَرَفَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا، عَرَفَ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمَ (اللهَ) يَدُلُّ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَعَلَى لَوَازِمِهَا الْكَمَالِيَّةِ وَعَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ أَضْدَادِهَا السَّلْبِيَّةِ، فَدَلَّ هَذَا الِاسْمُ الْأَعْلَى عَلَى اتِّصَافِ مُسَمَّاهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، فَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، اهـ مَا أَحْبَبْتُ زِيَادَتَهُ الْآنَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ مَعْنَى يُلِمُّ بِالْقَلْبِ فَيَبْعَثُ صَاحِبَهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَشَرِ أَلَمٌ فِي النَّفْسِ شِفَاؤُهُ الْإِحْسَانُ وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْآلَامِ وَالِانْفِعَالَاتِ، فَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ أَثَرُهَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ. وَقَدْ مَشَى الْجَلَالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَتَبِعَهُ الصَّبَّانُ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ وَالرَّحِيمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ عَالِمٍ مُسْلِمٍ وَمَا هِيَ إِلَّا غَفْلَةٌ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَامِحَ صَاحِبَهَا.

(قَالَ) : وَأَنَا لَا أُجِيزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً تُغَايِرُ أُخْرَى، ثُمَّ تَأْتِي لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ غَيْرِهَا بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي نَفْسِهَا مَعْنًى تَسْتَقِلُّ بِهِ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْكَلِمَةِ مَا يَزِيدُ مَعْنَى الْأُخْرَى تَقْرِيرًا أَوْ إِيضَاحًا، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا أُجِيزُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ هُوَ عَيْنُ مَعْنَى الْأُخْرَى بِدُونِ زِيَادَةٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهَا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لَا غَيْرَ بِحَيْثُ تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَرَادِفِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامِ مَنْ يَرْمِي فِي لَفْظِهِ إِلَى مُجَرَّدِ التَّنْمِيقِ وَالتَّزْوِيقِ. وَفِي الْعَرَبِيَّةِ طُرُقٌ لِلتَّأْكِيدِ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَأَمَّا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْحَرْفِ الزَّائِدِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّأْكِيدِ فَهُوَ حَرْفٌ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ هُوَ التَّأْكِيدُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الَّتِي يُؤَكِّدُهَا، الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا " تُؤَكِّدُ مَعْنَى اتِّصَالِ الْكِفَايَةِ بِجَانِبِ اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِذَاتِهَا وَمَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ. وَمَعْنَى وَصْفِهَا بِالزِّيَادَةِ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْإِعْرَابِ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى " مِنْ " فِي قَوْلِهِ " (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. أَمَّا التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّقْرِيعِ أَوِ التَّهْوِيلِ فَأَمْرٌ سَائِغٌ فِي أَبْلَغِ الْكَلَامِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ الْقَصْدُ مِنْهُ كَتَكْرَارِ جُمْلَةِ " (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " وَنَحْوِهَا عَقِبَ ذِكْرِ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَهِيَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَيْسَتْ مُكَرَّرَةً، فَإِنَّ مَعْنَاهَا عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ نِعْمَةٍ: أَفَبِهَذِهِ النِّعْمَةِ تُكَذِّبَانِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى " الرَّحْمَنِ " الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ، وَمَعْنَى " الرَّحِيمِ " الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِهَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ تَشْمَلُ الْكَافِرِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَالرَّحِيمَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ فِي اللُّغَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى. وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْوَصْفِ مُطْلَقًا، فَصِفَةُ الرَّحْمَنِ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعْطِيهِ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيلًا أَوْ دَقِيقًا. وَأَمَّا كَوْنُ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَكْثَرُ حُرُوفًا أَعْظَمَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَقَلُّ حُرُوفًا فَهُوَ غَيْرُ مَعْنِيٍّ وَلَا مُرَادٍ. وَقَدْ قَارَبَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الرَّحْمَنِ الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ الْعَامِّ، وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَخْصِيصِ مَدْلُولِ الرَّحِيمِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الثَّانِيَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا هُوَ عَدَمُ الِاقْتِنَاعِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ مَعَ عَدَمِ التَّفَطُّنِ لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ صِيغَةَ " فَعْلَانَ " تَدُلُّ عَلَى وَصْفِ " فَعْلَى " فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ كَفَعَّالٍ وَهُوَ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لِلصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ كَعَطْشَانَ وَغَرْثَانَ وَغَضْبَانَ، وَأَمَّا صِيغَةُ فَعِيلٍ فَإِنَّهَا تَدُلُّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ كَالْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا فِي النَّاسِ كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَجَمِيلٍ. وَالْقُرْآنُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّتِي تَعْلُو عَنْ مُمَاثَلَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. فَلَفْظُ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ إِفَاضَةُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانُ، وَلَفْظُ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى مَنْشَأٍ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ

وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَغْنَى بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّحْمَنِ وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ فِعْلًا لَا يَعْتَقِدُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا. لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ الرَّحِيمِ يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى وَيُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ. وَيَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ صِفَةً ثَابِتَةً هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي عَنْهَا يَكُونُ أَثَرُهَا، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ عَلَى غَيْرِ مِثَالِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَكُونُ ذِكْرُهَا بَعْدَ الرَّحْمَنِ كَذِكْرِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْمَدْلُولِ لِيَقُومَ بُرْهَانًا عَلَيْهِ اهـ. أَقُولُ قَدْ سَبَقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَلَكِنَّهُ عَكَسَ فِي دَلَالَةِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فَفِيهِ مَعْنًى بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّحْمَنَ دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّحِيمَ دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ الْوَصْفُ وَالثَّانِيَ الْفِعْلُ، فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ أَيْ صِفَةُ ذَاتٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَالثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ، أَيْ صِفَةُ فِعْلٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ، (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وَلِمَ يَجِيءْ قَطُّ رَحْمَنُ بِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَحْمَنَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ. وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هَذِهِ النُّكْتَةُ لَا تَكَادُ تَجِدُهَا فِي كِتَابٍ، وَإِنْ تَنَفَّسَتْ عِنْدَهَا مِرْآةُ قَلْبِكَ لَمْ تَنْجَلِ لَكَ صُورَتُهَا. وَقَالَ فِي كِتَابٍ آخَرَ عِنْدَ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: وَكَرَّرَ أَذَانًا (أَيْ إِعْلَامًا) بِثُبُوتِ الْوَصْفِ وَحُصُولِ أَثَرِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمُتَعَلِّقَاتِهِ، فَالرَّحْمَنُ: الَّذِي الرَّحْمَةُ وَصَفُهُ، وَالرَّحِيمُ: الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) . (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وَلِمَ يَجِيءْ رَحْمَنُ بِعِبَادِهِ وَلَا رَحْمَنُ بِالْمُؤْمِنِينَ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَلَى وَزْنِ (فَعْلَانَ) مِنْ سَعَةِ هَذَا الْوَصْفِ وَثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْنَاهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غَضْبَانُ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا، وَنَدْمَانُ وَحَيْرَانُ وَسَكْرَانُ وَلَهْفَانُ لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ، فَبِنَاءُ فَعْلَانَ لِلسَّعَةِ وَالشُّمُولِ الْمُرَادِ مِنْهُ. اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ تُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ صِيغَةَ (فَعْلَانَ) تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْعَارِضَةِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الدَّائِمَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى صِيغَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ وَهِيَ صِيغَةُ (فَعِيلٍ) فَهَذَا أَقْوَى مَا قِيلَ فِي نُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالصِّيغَتَيْنِ. وَيَلِيهِ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْقُوَّةِ، وَالْآخِرِ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى آخَرُ أَلَمَّ بِهِ هَذَانِ الْإِمَامَانِ، وَلَكِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ جَعَلَ لَفْظَ الرَّحِيمِ هُوَ الدَّالَّ عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ

2

اللَّتَيْنِ أَوْرَدَهُمَا، وَلَفْظُ الرَّحْمَنِ هُوَ الدَّالُّ عَلَيْهَا بِالْقُوَّةِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ مِثْلِ ذَلِكَ الظَّرْفِ بِهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ. وَعَكَسَ (مُحَمَّدُ عَبْدُهُ) وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ بِاللُّزُومِ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْحَمْدِ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ، وَقَيَّدُوهُ بِالْجَمِيلِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثَنَاءٍ " تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ جَمِيعًا، يُقَالُ: أَثْنَى عَلَيْهِ شَرًّا، كَمَا يُقَالُ: أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا. وَيَقُولُونَ: إِنَّ " أل " الَّتِي فِي الْحَمْدِ هِيَ لِلْجِنْسِ فِي أَيِّ فَرَدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَلَا لِلْعَهْدِ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي فَهْمِ الْكَلَامِ إِلَّا بِالْبَدِيلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْآيَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، هُوَ أَنَّ أَيَّ شَيْءٍ يَصِحُّ الْحَمْدُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَصْدَرُهُ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُ، فَالْحَمْدُ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وَلَكِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِإِنْشَاءِ الْحَمْدِ - فَأَمَّا مَعْنَى الْخَبَرِيَّةِ فَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي أَيِّ أَنْوَاعِهِ تَحَقُّقٌ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ تَعَالَى وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ مَا يَحْمَدُ عَلَيْهِ الْحَامِدُونَ فَصِفَاتُهُ أَجَلُّ الصِّفَاتِ، وَإِحْسَانُهُ عَمَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَمْدُ مِمَّا سِوَاهُ فَهُوَ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذْ هُوَ مَصْدَرُ الْكَوْنِ كُلِّهِ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ. وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ أَيَّ حَمْدٍ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَحْمُودٍ مَا فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ لَاحَظَهُ الْحَامِدُ أَوْ لَمْ يُلَاحِظْهُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْإِنْشَائِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْحَامِدَ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَمَّا وَجَّهَهُ مِنَ الثَّنَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْحَالِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَقُولُ الْآنَ: التَّعْرِيفُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لِلْحَمْدِ: أَنَّهُ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ. أَيِ الْفِعْلِ الْجَمِيلِ الصَّادِرِ عَنْ فَاعِلِهِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ سَوَاءٌ أَسْدَى هَذَا الْجَمِيلَ إِلَى الْحَامِدِ أَمْ لَا. اهـ وَأَزِيدُ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ قَدْ يُحْمَدُ غَيْرُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ فِي نَفْعِهِ، وَمِنْهُ: " إِنَّمَا يَحْمَدُ السُّوقَ مَنْ رَبِحَ ". وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ. وَحَذَفَ بَعْضُهُمْ قَيْدَ الِاخْتِيَارِ ليدخل في الحمد الثناء على صفات الكمال ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بِقَوْلِهِ: سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْفَضَائِلِ - أَيِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ لِصَاحِبِهَا -

أَوِ الْفَوَاضِلِ، وَهِيَ مَا يَتَعَدَّى أَثَرُهُ مِنَ الْفَضْلِ إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْفَضْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَمْدَ عَلَى الْفَضَائِلِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، مَا عَدَا هَذَا مِنَ الثَّنَاءِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ مَدْحًا. يُقَالُ: مَدْحُ الرِّيَاضِ، وَمَدْحُ الْمَالِ، وَمَدْحُ الْجَمَالِ، وَلَا يُطْلَقُ الْحَمْدَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فِيهِ لِمَا يَنَالُهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ خَيْرِ دُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ الْحَمْدُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ، وَأَمَّا اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّهُ يُحْمَدُ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَصْدَرُ جَمِيعِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ وَالنِّعَمِ، أَوْ مُطْلَقًا خُصُوصِيَّةً لَهُ، إِذْ لَيْسَتْ ذَاتُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ كَذَاتِهِ، وَيُحْمَدُ لِصِفَاتِهِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا وَآثَارِهَا كَمَا سَتَرَى بَيَانَهُ فِي تَفْسِيرِ الرَّبِّ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ. (رَبِّ الْعَالَمِينَ يُشْعِرُ هَذَا الْوَصْفُ بِبَيَانِ وَجْهِ الثَّنَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَعْنَى الرَّبِّ: السَّيِّدُ الْمُرَبِّي الَّذِي يَسُوسُ مَسُودَهُ وَيُرَبِّيهِ وَيُدَبِّرُهُ، وَلَفْظُ " الْعَالِمَيْنِ " جَمْعُ عَالَمٍ بِفَتْحِ اللَّامِ جُمِعَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ تَغْلِيبًا، وَأُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ الْمُمْكِنَةِ، أَيْ: إِنَّهُ رَبُّ كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْعَالَمِ. وَمَا جَمَعَتِ الْعَرَبُ لَفْظَ الْعَالَمِ هَذَا الْجَمْعَ إِلَّا لِنُكْتَةٍ تُلَاحِظُهَا فِيهِ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى كُلِّ كَائِنٍ وَمَوْجُودٍ كَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ جُمْلَةٍ مُتَمَايِزَةٍ لِأَفْرَادِهَا صِفَاتٌ تُقَرِّبُهَا مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي جُمِعَتْ جَمْعَهُ، إِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ فَيُقَالُ: عَالَمُ الْإِنْسَانِ، وَعَالَمُ الْحَيَوَانِ، وَعَالَمُ النَّبَاتِ. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْبِيَةِ الَّذِي يُعْطِيهِ لَفْظُ " رَبٍّ "؛ لِأَنَّ فِيهَا مَبْدَأَهَا وَهُوَ الْحَيَاةُ وَالتَّغَذِّي وَالتَّوَلُّدُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْحَيَوَانِ. وَلَقَدْ كَانَ السَّيِّدُ (أَيْ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْحَيَوَانُ شَجَرَةٌ قُطِعَتْ رِجْلُهَا مِنَ الْأَرْضِ فَهِيَ تَمْشِي، وَالشَّجَرَةُ حَيَوَانٌ سَاخَتْ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ قَائِمٌ فِي مَكَانِهِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنَامُ وَلَا يَغْفُلُ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَأَزِيدُ الْآنَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَالَمِينِ هُنَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيُؤْثَرُ عَنْ جَدِّنَا الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ. أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّاسُ فَقَطْ كَمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ: " (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) (26: 165) أَيِ النَّاسِ، وَمِثْلِ " (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (25: 1) " وَيَرَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ عَلَى هَذَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِلْمِ. وَمَنْ قَالَ: يَعُمُّ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ يَرَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَرُبُوبِيَّةُ اللهِ لِلنَّاسِ تَظْهَرُ بِتَرْبِيَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ قِسْمَانِ:

3

تَرْبِيَةٌ خَلْقِيَّةٌ بِمَا يَكُونُ بِهِ نُمُوُّهُمْ، وَكَمَالُ أَبْدَانِهِمْ وَقُوَاهُمُ النَّفْسِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ - وَتَرْبِيَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ وَهِيَ مَا يُوحِيهِ إِلَى أَفْرَادٍ مِنْهُمْ لِيُكْمِلَ بِهِ فِطْرَتَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِذَا اهْتَدَوْا بِهِ. فَلَيْسَ لِغَيْرِ رَبِّ النَّاسِ أَنْ يُشَرِّعَ لِلنَّاسِ عِبَادَةً، وَلَا أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ وَيُحِلَّ لَهُمْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي إِعَادَتِهِمَا، وَالنُّكْتَةُ فِيهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ تَرْبِيَتَهُ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ لَيْسَتْ لِحَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِمْ كَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَشُمُولِ إِحْسَانِهِ. وَثَمَّ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْبَعْضَ يَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى الرَّبِّ: الْجَبَرُوتَ وَالْقَهْرَ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِيَجْتَمِعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، فَذَكَرَ الرَّحْمَنَ وَهُوَ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ بِسَعَةٍ وَتَجَدُّدٍ لَا مُنْتَهَى لَهُمَا، وَالرَّحِيمُ الثَّابِتُ لَهُ وَصْفُ الرَّحْمَةِ لَا يُزَايِلُهُ أَبَدًا. فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتَحَبَّبَ إِلَى عِبَادِهِ، فَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ رُبُوبِيَّةُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ لِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الَّتِي رُبَّمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا مَعْنَى الصِّفَاتِ، وَلِيَتَعَلَّقُوا بِهِ وَيُقْبِلُوا عَلَى اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ، مُنْشَرِحَةً صُدُورُهُمْ، مُطْمَئِنَّةً قُلُوبُهُمْ، وَلَا يُنَافِي عُمُومُ الرَّحْمَةِ وَسَبْقُهَا مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينِ يَتَعَدَّوْنَ الْحُدُودَ، وَيَنْتَهِكُونَ الْحُرُمَاتِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ قَهْرًا بِالنِّسْبَةِ لِصُورَتِهِ وَمَظْهَرِهِ فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ وَغَايَتِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْبِيَةً لِلنَّاسِ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي الِانْحِرَافِ عَنْهَا شَقَاؤُهُمْ وَبَلَاؤُهُمْ، وَفِي الْوُقُوفِ عِنْدَهَا سَعَادَتُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ، وَالْوَالِدُ الرَّءُوفُ يُرَبِّي وَلَدَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَالْإِحْسَانِ عَلَيْهِ إِذَا قَامَ بِهِ، وَرُبَّمَا لَجَأَ إِلَى التَّرْهِيبِ وَالْعُقُوبَةِ إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْحَالُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. أَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي لَا أَرَى وَجْهًا لِلْبَحْثِ فِي عَدِّ ذِكْرِ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ تَكْرَارًا أَوْ إِعَادَةً مُطْلَقًا، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَهَا آيَةً مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُرَادُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَقِّنُهَا وَيُبَلِّغُهَا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهَا (أَيِ السُّورَةُ) مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهَا بِرَحْمَتِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا وَلَا صُنْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ لَهَا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى. فَهِيَ مُقَدِّمَةٌ لِلسُّوَرِ كُلِّهَا إِلَّا سُورَةَ بَرَاءَةَ الْمُنَزَّلَةَ بِالسَّيْفِ، وَكَشْفِ السِّتَارِ عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَهِيَ بَلَاءٌ عَلَى مَنْ أُنْزِلَ أَكْثَرُهَا فِي شَأْنِهِمْ لَا رَحْمَةً بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِبَدْءِ الْفَاتِحَةِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنَ اللهِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَوْضُوعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ بَيَانِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَكَوْنِهِ الْمَلِكَ الَّذِي يَمْلِكُ وَحْدَهُ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَانَ

مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلِهَذَا نُسِبَ الْحَمْدُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ، الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي بَسْمَلَةِ كُلِّ سُورَةٍ، هُوَ أَنَّ السُّورَةَ مُنَزَّلَةٌ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ فَلَا يُعَدُّ مَا عَسَاهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَوْ أَثْنَائِهَا مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مُكَرَّرًا مَعَ مَا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّنْزِيلِ كَأَوَّلِ سُورَةِ فُصِّلَتْ (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (41: 1 - 2) لِأَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْبَسْمَلَةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ فِي الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَفِي السُّوَرِ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ الَّذِي تُبَيِّنُهُ السُّورَةُ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّوَرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمُرَادُهُ أَنَّهَا تُقْرَأُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْرَأَنَّ سُورَةَ كَذَا لَا يَبْرَأُ إِلَّا إِذَا قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ مَعَهَا، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِقِرَاءَتِهَا أَيْضًا. هَذَا - وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ مِنْ وَصْفِ اللهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ أَنْ يَحْمَدَهُ تَعَالَى وَيَشْكُرَهُ بِاسْتِعْمَالِ نِعَمِهِ الَّتِي تَتَرَبَّى بِهَا الْقُوَى الْجَسَدِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَلْيُحْسِنْ تَرْبِيَةَ نَفْسِهِ وَتَرْبِيَةَ مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ تَرْبِيَتُهُ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمُرِيدٍ وَتِلْمِيذٍ، وَبِاسْتِعْمَالِ نِعْمَتِهِ بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَكَذَا تَرْبِيَةُ مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ تَرْبِيَتُهُمْ وَأَلَّا يَبْغِيَ كَمَا بَغَى فِرْعَوْنُ فَيَدَّعِيَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ، وَكَمَا بَغَى فَرَاعِنَةٌ كَثِيرُونَ وَلَا يَزَالُونَ يَبْغُونَ بِجَعْلِ أَنْفُسِهِمْ شَارِعِينَ يَتَحَكَّمُونَ فِي دِينِ النَّاسِ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ يُنَزِّلْهَا اللهُ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِمْ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ مِنْ عِنْدِ أَمْثَالِهِمْ، فَيَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (42: 21) وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِمِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ مَنْ وَصْفِ اللهِ بِالرَّحْمَةِ فَهُوَ أَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِأَنْ يَكُونَ رَحِيمًا بِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحِقًّا لِلرَّحْمَةِ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ دَائِمًا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ: " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْمَحَاسِنِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ الطَّرَابُلُسِيِّ الشَّامِيِّ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَشَارَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقِ بِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الرَّحْمَةِ حَدِيثُ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

4

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ أَنَّ لَفْظَ الرَّحْمَنِ خَاصٌّ بِاللهِ تَعَالَى كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ. قَالُوا: لَمْ يُسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهُ أَطْلَقَهُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَفْظُ " رَحْمَنٍ " غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَالُوا: لَمْ يُرِدْ إِطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا فِي شِعْرٍ لِبَعْضِ الَّذِينَ فُتِنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالَ فِيهِ: " وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانًا " وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَعَنُّتٌ وَغُلُوٌّ لَا مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَكَانَتْ تُطْلِقُ لَفْظَ رَبٍّ عَلَى النَّاسِ، يَقُولُونَ: رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ هَذِهِ الْأَنْعَامِ مَثَلًا لَا رَبُّ الْأَنْعَامِ مُطْلَقًا. قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي يَوْمِ الْفِيلِ: أَمَّا الْإِبِلُ فَأَنَا رَبُّهَا، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَإِنَّ لَهُ رَبًّا يَحْمِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْلَاهُ عَزِيزِ مِصْرَ: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (12: 23) وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَمْنُوعٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتَدَلَّ بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ قَوْلِ الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ " رَبِّي " وَالصَّوَابُ أَنْ يُمْنَعَ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ كَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُقَالَ إِلَّا فِي الْبَارِئِ تَعَالَى كَلَفْظِ الرَّبِّ بِالتَّعْرِيفِ مُطْلَقًا، وَلَفْظِ رَبِّ النَّاسِ، رَبِّ الْمَخْلُوقَاتِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: " مَالِكِ " وَالْبَاقُونَ " مَلِكِ " وَعَلَيْهَا أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ ذُو الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْمَلِكَ ذُو الْمُلْكِ بِضَمِّهَا، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْأَوْلَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) (82: 19) وَلِلثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (40: 16) قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قِرَاءَةَ مَلِكٍ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ أَعْمَالَ رَعِيَّتِهِ الْعَامَّةَ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَالْمَالِكُ سُلْطَتُهُ أَعَمُّ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَمِيعَ شُئُونِهِ دُونَ سُلْطَانِهِ. وَأَقُولُ الْآنَ: الظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ " مَلِكٍ " أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُتَصَرِّفُ فِي أُمُورِ الْعُقَلَاءِ الْمُخْتَارِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: (مَلِكُ النَّاسِ) وَلَا يُقَالُ مَلِكُ الْأَشْيَاءِ. قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ فِي (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَقْدِيرُهُ الْمَلِكُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؛ لِقَوْلِهِ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) اهـ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَبْلَغَ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَذْكِيرُ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ رَجَاءَ أَنْ تَسْتَقِيمَ أَحْوَالُهُمْ، وَمَعْنَى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ " (رَبِّ الْعَالَمِينَ " عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْقِرَاءَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ بِمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تُثِيرُ مِنَ الْخُشُوعِ مَا لَا تُثِيرُهُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الَّتِي يُفَضِّلُهَا بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ حَرْفًا فِي النُّطْقِ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْقَارِئِ بِكُلِّ

حَرْفٍ كَذَا حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ فَاتَهُمْ أَنَّ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَكُونُ أَكْبَرَ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ حَسَنَةٍ يَكُنَّ دُونَهَا فِي التَّأْثِيرِ. وَ (الدِّينُ) يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْحِسَابِ وَعَلَى الْمُكَافَأَةِ، وَوَرَدَ " كَمَا تَدِينُ تُدَانُ " وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَعَلَى الْجَزَاءِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ، وَعَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى السِّيَاسَةِ؛ يُقَالُ: دِنْتُهُ، وَدَيَّنْتُهُ فُلَانًا (بِالتَّشْدِيدِ) أَيْ وَلَّيْتُهُ سِيَاسَتَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى الشَّرِيعَةِ: مَا يُؤْخَذُ الْعِبَادُ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَالْمُنَاسِبُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْجَزَاءُ وَالْخُضُوعُ وَإِنَّمَا قَالَ " يَوْمِ الدِّينِ " وَلَمْ يَقُلِ " الدِّينِ " لِتَعْرِيفِنَا بِأَنَّ لِلدِّينِ يَوْمًا مُمْتَازًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلْقَى فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ وَيُوَفَّى جَزَاءَهُ. وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: أَلَيْسَتْ كُلُّ الْأَيَّامِ أَيَّامَ جَزَاءٍ. وَكُلُّ مَا يُلَاقِيهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنَ الْبُؤْسِ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي عَلَيْهِمْ؟ وَالْجَوَابُ: بَلَى إِنَّ أَيَّامَنَا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا قَدْ يَقَعُ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى أَعْمَالِنَا، وَلَكِنْ رُبَّمَا لَا يَظْهَرُ لِأَرْبَابِهِ إِلَّا عَلَى بَعْضِهَا دُونَ جَمِيعِهَا. وَالْجَزَاءُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا ظُهُورًا تَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لَا إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، فَمَا مِنْ أُمَّةٍ انْحَرَفَتْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تُرَاعِ سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ إِلَّا وَأَحَلَّ بِهَا الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ مَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْجَزَاءِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَفَقْدِ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ. وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ الظَّالِمِينَ يَقْضُونَ أَعْمَارَهُمْ مُنْغَمِسِينَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، نَعَمْ إِنَّ ضَمَائِرَهُمْ تُوَبِّخُهُمْ أَحْيَانًا وَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ،

5

وَقَدْ يُصِيبُهُمُ النَّقْصُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَعَافِيَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُقَابِلُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الَّذِينَ تَشْقَى بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أُمَمٌ وَشُعُوبٌ. كَذَلِكَ نَرَى مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَضْمِ حُقُوقِهِ، وَلَا يَنَالُ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنَالُ رِضَاءَ نَفْسِهِ وَسَلَامَةَ أَخْلَاقِهِ وَصِحَّةَ مَلَكَاتِهِ، فَمَا ذَلِكَ كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُوَفَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِينَ جَزَاءَهُ كَامِلًا لَا يُظْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (99: 7 - 8) عَلَّمَنَا اللهُ أَنَّهُ رَحْمَنُ رَحِيمٌ لِيَجْذِبَ قُلُوبَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَشْعُرُ كُلُّ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَنْجَذِبُوا إِلَيْهِ الِانْجِذَابَ الْمَطْلُوبَ؟ أَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَسْلُكُ كُلَّ سَبِيلٍ لَا يُبَالِي بِمُسْتَقِيمٍ وَمُعْوَجٍّ؟ بَلَى، وَلِهَذَا أَعْقَبَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ بِذِكْرِ الدِّينِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدِينُ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ رَبَّاهُمْ بِنَوْعَيِ التَّرْبِيَةِ كِلَيْهِمَا: التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (15: 49 - 50) . (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَا هِيَ الْعِبَادَةُ؟ يَقُولُونَ هِيَ الطَّاعَةُ مَعَ غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَمَا كُلُّ عِبَارَةٍ تُمَثِّلُ الْمَعْنَى تَمَامَ التَّمْثِيلِ، وَتُجَلِّيهِ لِلْأَفْهَامِ وَاضِحًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُونَ الشَّيْءَ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ وَيُعَرِّفُونَ الْحَقِيقَةَ بِرُسُومِهَا، بَلْ يَكْتَفُونَ أَحْيَانًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَيُبَيِّنُونَ الْكَلِمَةَ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهَا، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي شَرَحُوا بِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فِيهَا إِجْمَالًا وَتَسَاهُلًا. وَإِنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا آيَ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبَ اللُّغَةِ وَاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ لِـ " عَبَدَ " وَمَا يُمَاثِلُهَا وَيُقَارِبُهَا فِي الْمَعْنَى - كَخَضَعَ وَخَنَعَ وَأَطَاعَ وَذَلَّ - نَجِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُضَاهِي " عَبَدَ " وَيَحِلُّ مَحَلَّهَا وَيَقَعُ مَوْقِعَهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ " الْعِبَادِ " مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَتَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَفْظَ " الْعَبِيدِ " تَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِمَعْنَى الرِّقِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ. يَغْلُو الْعَاشِقُ فِي تَعْظِيمِ مَعْشُوقِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ غُلُوًّا كَبِيرًا حَتَّى يَفْنَى هَوَاهُ فِي هَوَاهُ، وَتَذُوبَ إِرَادَتُهُ فِي إِرَادَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُضُوعُهُ هَذَا عِبَادَةً بِالْحَقِيقَةِ، وَيُبَالِغُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي تَعْظِيمِ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَتَرَى مِنْ خُضُوعِهِمْ لَهُمْ وَتَحَرِّيهِمْ مَرْضَاتَهُمْ مَا لَا تَرَاهُ مِنَ الْمُتَحَنِّثِينَ الْقَانِتِينَ، دَعْ سَائِرَ الْعَابِدِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْخُضُوعِ عِبَادَةً، فَمَا هِيَ الْعِبَادَةُ إِذًا؟

تَدَلُّ الْأَسَالِيبُ الصَّحِيحَةُ، وَالِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ الصُّرَاحُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبٌ مِنَ الْخُضُوعِ بَالِغٌ حَدَّ النِّهَايَةِ، نَاشِئٌ عَنِ اسْتِشْعَارِ الْقَلْبِ عَظَمَةً لِلْمَعْبُودِ لَا يَعْرِفُ مَنْشَأَهَا، وَاعْتِقَادِهِ بِسُلْطَةٍ لَهُ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا وَمَاهِيَتَهَا. وَقُصَارَى مَا يَعْرِفُهُ مِنْهَا أَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِ، وَلَكِنَّهَا فَوْقَ إِدْرَاكِهِ، فَمَنْ يَنْتَهِي إِلَى أَقْصَى الذُّلِّ لِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ عَبَدَهُ وَإِنْ قَبَّلَ مَوْطِئَ أَقْدَامِهِ، مَا دَامَ سَبَبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ مَعْرُوفًا وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ ظُلْمِهِ الْمَعْهُودِ، أَوِ الرَّجَاءُ بِكَرَمِهِ الْمَحْدُودِ، اللهُمَّ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُلْكَ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ أُفِيضَتْ عَلَى الْمُلُوكِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَاخْتَارَتْهُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ أَطْيَبُ النَّاسِ عُنْصُرًا، وَأَكْرَمُهُمْ جَوْهَرًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَهَى بِهِمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، فَاتَّخَذُوا الْمُلُوكَ آلِهَةً وَأَرْبَابًا وَعَبَدُوهُمْ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً. لِلْعِبَادَةِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ شُرِعَتْ لِتَذْكِيرِ الْإِنْسَانِ بِذَلِكَ الشُّعُورِ بِالسُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا، وَلِكُلِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّحِيحَةِ أَثَرٌ فِي تَقْوِيمِ أَخْلَاقِ الْقَائِمِ بِهَا وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَالْأَثَرُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ الرُّوحِ، وَالشُّعُورِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ مَنْشَأُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ، فَإِذَا وُجِدَتْ صُورَةُ الْعِبَادَةِ خَالِيَةً مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، كَمَا أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ وَتِمْثَالَهُ لَيْسَ إِنْسَانًا. خُذْ إِلَيْكَ عِبَادَةَ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَانْظُرْ كَيْفَ أَمَرَ اللهُ بِإِقَامَتِهَا دُونَ مُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ: هِيَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا كَامِلًا يَصْدُرُ عَنْ عِلَّتِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ. وَآثَارُ الصَّلَاةِ وَنَتَائِجُهَا هِيَ مَا أَنْبَأَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (29: 45) وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) وَقَدْ تَوَعَّدَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَلْفَاظِ مَعَ السَّهْوِ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَسِرِّهَا فِيهَا الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهَا بِقَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (107: 4 - 7) فَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُذَكِّرُ بِخَشْيَتِهِ، وَالْمُشْعِرُ لِلْقُلُوبِ بِعِظَمِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَثَرِ هَذَا السَّهْوِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَمَنْعُ الْمَاعُونِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الرِّيَاءَ ضَرْبَانِ: رِيَاءُ النِّفَاقِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَرِيَاءُ الْعَادَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ مَعْنَى الْعَمَلِ وَسِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَلَا مُلَاحَظَةِ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنَّ صَلَاةَ أَحَدِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَالْعَقْلِ هِيَ عَيْنُ مَا كَانَ يُحَاكِي بِهِ أَبَاهُ فِي طَوْرِ الطُّفُولِيَّةِ عِنْدَمَا يَرَاهُ يُصَلِّي - يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَيْسَ لِلَّهِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ " مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا " وَأَنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ

الثَّوْبُ الْبَالِي وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ " وَأَمَّا الْمَاعُونُ فَهُوَ الْمَعُونَةُ وَالْخَيْرُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مَنُوعًا لَهُ إِلَّا الْمُصَلِّينَ. وَالِاسْتِعَانَةُ: طَلَبُ الْمَعُونَةِ، وَهِيَ إِزَالَةُ الْعَجْزِ وَالْمُسَاعَدَةُ عَلَى إِتْمَامِ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْجِزُ الْمُسْتَعِينُ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى حَصْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي اللهِ تَعَالَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ (إِيَّاكَ) عَلَى الْفِعْلِ (نَعْبُدُ) وَ (نَسْتَعِينُ) فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِأَلَّا نَعْبُدَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ فَيُعَظَّمُ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَرَنَا بِأَلَّا نَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِالتَّعَاوُنِ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (5: 2) فَمَا مَعْنَى حَصْرِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ مَعَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ تَتَوَقَّفُ ثَمَرَتُهُ وَنَجَاحُهُ عَلَى حُصُولِ الْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُؤَدِّيَةً إِلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ تَحُولَ دُونَهُ وَقَدْ مَكَّنَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ مِنْ دَفْعِ بَعْضِ الْمَوَانِعِ وَكَسْبِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، وَحَجَبَ عَنْهُ الْبَعْضَ الْآخَرَ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُومَ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِنَا مِنْ ذَلِكَ. وَنَبْذُلَ فِي إِتْقَانِ أَعْمَالِنَا كُلَّ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، وَأَنْ نَتَعَاوَنَ وَيُسَاعِدَ بَعْضُنَا بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَنُفَوِّضَ الْأَمْرَ فِيمَا وَرَاءَ كَسْبِنَا إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَنَلْجَأَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَنَطْلُبَ الْمَعُونَةَ الْمُتَمِّمَةَ لِلْعَمَلِ وَالْمُوَاصَلَةِ لِثَمَرَتِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ دُونَ سِوَاهُ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوحَةِ لِكُلِّ الْبِشْرِ عَلَى السَّوَاءِ إِلَّا مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: " (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مُتَمِّمٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: " (إِيَّاكَ نَعْبُدُ " لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَزَعٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَتَعَلُّقٌ مِنَ النَّفْسِ بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مُخِّ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ بِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى كَانَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَبْلَهُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْجُهَلَاءُ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِمَنِ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ اللهِ، وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، هِيَ كَالِاسْتِعَانَةِ بِسَائِرِ النَّاسِ فِي الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، فَأَرَادَ الْحَقُّ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ يَرْفَعَ هَذَا اللَّبْسَ عَنْ عِبَادِهِ بِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالنَّاسِ فِيمَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ، وَمَا مَنْزِلَتُهَا إِلَّا كَمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ فِيمَا هِيَ آلَاتٌ لَهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي شُئُونٍ تَفُوقُ الْقُدْرَةَ وَالْقُوَى الْمَوْهُوبَةَ لَهُمْ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشْتَرِكَةَ بَيْنَهُمْ، كَالِاسْتِعَانَةِ فِي شِفَاءِ الْمَرَضِ بِمَا وَرَاءَ الدَّوَاءِ، وَعَلَى غَلَبَةِ الْعَدُوِّ بِمَا وَرَاءَ الْعُدَّةِ وَالْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْفَزَعُ وَالتَّوَجُّهُ فِيهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ، عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ سُلْطَانُ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِ:

ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَثَلًا لِذَلِكَ، الزَّارِعُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي الْحَرْثِ وَالْعَزْقِ وَتَسْمِيدِ الْأَرْضِ وَرَيِّهَا، وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى إِتْمَامِ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْآفَاتِ وَالْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ أَوِ الْأَرْضِيَّةِ، وَمَثَّلَ بِالتَّاجِرِ يَحْذِقُ فِي اخْتِيَارِ الْأَصْنَافِ، وَيَمْهَرُ فِي صِنَاعَةِ التَّرْوِيجِ، ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْقُبُورِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَتَيْسِيرِ أُمُورِهِمْ، وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهِمْ، وَنَمَاءِ حَرْثِهِمْ وَزَرْعِهِمْ، وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، هُمْ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ نَاكِبُونَ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ مُعْرِضُونَ. أَرْشَدَتْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَجِيزَةُ " (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " إِلَى أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ هُمَا مِعْرَاجُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ نَعْمَلَ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ، وَنَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِهَا مَا اسْتَطَعْنَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَعُونَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ بَذَلَ فِيهِ الْمَرْءُ طَاقَتَهُ فَلَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ، أَوْ يَخْشَى أَلَّا يَنْجَحَ فِيهِ، فَيَطْلُبَ الْمَعُونَةَ عَلَى إِتْمَامِهِ وَكَمَالِهِ، فَمَنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ الْقَلَمُ عَلَى الْمَكْتَبِ لَا يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مَنْ أَحَدٍ عَلَى إِمْسَاكِهِ، وَمَنْ وَقَعَ تَحْتَ عِبْءٍ ثَقِيلٍ يَعْجَزُ عَنِ النُّهُوضِ بِهِ وَحْدَهُ، يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى رَفْعِهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْقُوَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ مِرْقَاةُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ. (ثَانِيهِمَا) : مَا أَفَادَهُ الْحَصْرُ مِنْ وُجُوبِ تَخْصِيصِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَكَمَالُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يَرْفَعُ نُفُوسَ مُعْتَقِدِيهِ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ، وَيَفُكُّ إِرَادَتَهُمْ مِنْ أَسْرِ الرُّؤَسَاءِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَالشُّيُوخِ الدَّجَّالِينَ، وَيُطْلِقُ عَزَائِمَهُمْ مَنْ قَيْدِ الْمُهَيْمِنِينَ الْكَاذِبِينَ، مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ مَعَ النَّاسِ حُرًّا خَالِصًا وَسَيِّدًا كَرِيمًا، وَمَعَ اللهِ عَبْدًا خَاضِعًا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (33: 71) . وَأَقُولُ أَيْضًا: عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِأُلُوهِيَّتِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُ هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِرُبُوبِيَّتِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ فَلَا يُعْبَدُ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْعِبَادِ الَّذِي وَهَبَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَكْمُلُ بِهِ تَرْبِيَتُهُمُ الصُّورِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ إِيرَادَ ذِكْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بَعْدَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ، وَاسْمِ الرَّبِّ الْأَكْرَمِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَرَتُّبِهِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلِ تَرْتِيبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تَرَادِفُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ وَتَحُلُّ مَحَلَّهُ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (11: 123) . فَهَذِهِ الِاسْتِعَانَةُ هِيَ ثَمَرَةُ التَّوْحِيدِ وَاخْتِصَاصُ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ: الشُّعُورَ بِأَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، الْمَوْهُوبَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ كَافَّةً، هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا عَلَى قَرْنِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَكُّلِ، فَمَنْ كَانَ

مُوَحِّدًا خَالِصًا لَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى قَطُّ، فَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ دَاخِلًا فِي حَلَقَاتِ سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ كَانَ طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ طَلَبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ إِلَى قَصْدٍ وَمُلَاحَظَةٍ وَشُهُودٍ قَلْبِيٍّ، وَمَا كَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِيهَا يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا حِجَابٍ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَإِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، بَلِ الْكَمَالُ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَالسَّيِّدُ الْمَالِكُ إِذَا نَصَبَ لِعَبْدِهِ وَخَدَمِهِ مَائِدَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَجَعَلَ لَهُمْ خَدَمًا يَقُومُونَ بِأَمْرِهَا، لَا يَكُونُ طَلَبُ الطَّعَامِ مِنْهُ إِلَّا بِالِاخْتِلَافِ إِلَى الْمَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَلَّا يَغْفُلُوا بِهَا وَبِخَدَمِهَا عَنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الْفَضْلِ الَّذِي أَنْشَأَهَا بِمَالِهِ وَسَخَّرَ أُولَئِكَ الْخَدَمَ لِلْآكِلِينَ عَلَيْهَا، وَلَا عَنْ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، فَهَذَا مِثَالُ مَائِدَةِ الْكَوْنِ بِأَسْبَابِهِ وَمُسَبِّبَاتِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا احْتَاجَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا سَيِّدُهُ مَبْذُولَةً لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، طَلَبَهُ مِنْهُ دُونَ سِوَاهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْحَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ ثِقَتِهِ بِمَوْلَاهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي مَرْتَبَتِهِ أَوْ أَجْدَرَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ. هَذَا فِي الْعَبِيدِ مَعَ السَّادَةِ الَّذِينَ لَهُمْ نُظَرَاءٌ وَأَنْدَادٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ، لَا يَجِدُ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ سِوَاهُ، إِلَّا أَمْثَالَهُ مِنَ الْعَبِيدِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمَوْلَى مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؟ ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الِاسْتِعَانَةِ يُشْعِرُ بِأَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى الْإِعَانَةَ عَلَى شَيْءٍ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ لِيُعِينَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَفِي هَذَا تَكْرِيمٌ لِلْإِنْسَانِ بِجَعْلِ عَمَلِهِ أَصْلًا فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِتْمَامِ تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَإِرْشَادٍ لَهُ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ، لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَلَا مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ، فَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ كَسُولًا مَذْمُومًا لَا مُتَوَكِّلًا مَحْمُودًا، وَبِتَذْكِيرِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِضَعْفِهِ لِكَيْلَا يَغْتَرَّ، فَيَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِكَسْبِهِ عَنْ عِنَايَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا فَهِمْتَ مِنْهُ نُكْتَةً مِنْ نُكَتِ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهِيَ أَنَّ الثَّانِيَةَ ثَمَرَةٌ لِلْأَوْلَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسَهَا مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِاللهِ تَعَالَى لِيُوَفَّقَ الْعَابِدُ لِلْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُرْضِي لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ تَكُونُ حَاوِيَةً لِلنَّوَاةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى. فَالْعِبَادَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعُونَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمَعُونَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَذَلِكَ الْأَعْمَالُ تُكَوِّنُ الْأَخْلَاقَ الَّتِي هِيَ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَعِلَّةٌ وَمَعْلُولٌ، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا دَوْرَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَقُولُ أَيْضًا إِنَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ " إِيَّاكِ " عَلَى الْفِعْلَيْنِ " نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ " هِيَ إِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَغَيْرِهِ فَالْمَعْنَى إِذًا: نَعْبُدُكَ وَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ. وَقَدِ اسْتَخْرَجَ لَهُ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى الْمَعَانِي

6

نُكَتًا أُخْرَى (مِنْهَا) أَنَّ " إِيَّاكَ " ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ إِنَّ " إِيَّا " اسْمٌ ظَاهِرٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْكَافُ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمَامِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ (وَمِنْهَا) أَنَّهُ مِنَ الْأَدَبِ أَيْضًا، (وَمِنْهَا) أَنَّ إِفَادَةَ الْحَصْرِ بِهَذَا الِاسْمِ أَوِ " الضَّمِيرِ " الْمُقَدَّمِ عَلَى الْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ إِفَادَةِ الْحَصْرِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا نَعْبُدُكَ وَإِنَّمَا نَسْتَعِينُكَ، أَوْ نَسْتَعِينُ بِكَ وَحْدَكَ وَإِعَادَةُ، إِيَّاكَ مَعَ الْفِعْلِ الثَّانِي يُفِيدُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ. ذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَعِينُ بِاللهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ بِدُونِ إِعَانَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ تَعَالَى كَالْقَدَرِيَّةِ. وَأَفْضَلُ الِاسْتِعَانَةِ مَا كَانَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِ مُعَاذٍ يَوْمًا وَقَالَ: " وَاللهِ إِنِّي لِأُحِبُّكَ، أُوصِيكِ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: " اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ عِبَادَتِكَ " وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ. قَالَ لِي شَيْخُنَا أَبُو الْمَحَاسِنِ مُحَمَّدٌ الْقَاوَقْجِيُّ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ: " إِنِّي أُحِبُّكَ فَقُلِ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "، قَالَ لِي شَيْخُنَا مُحَمَّدُ عَابِدٌ السَّنَدِيُّ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: " إِنِّي أُحِبُّكَ " إِلَخْ وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَوَّلًا مَا قَالُوهُ فِي مَعْنَى الْهِدَايَةِ لُغَةً مِنْ أَنَّهَا: الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَهَا وَمَرَاتِبَهَا فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: مَنَحَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ أَرْبَعَ هِدَايَاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى سَعَادَتِهِ. (أُولَاهَا) : هِدَايَةُ الْوُجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلْهَامُ الْفِطْرِيُّ. وَتَكُونُ لِلْأَطْفَالِ مُنْذُ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ بَعْدَ مَا يُولَدُ يَشْعُرُ بِأَلَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِذَاءِ فَيَصْرُخُ طَالِبًا لَهُ بِفِطْرَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَصِلُ الثَّدْيُ إِلَى فِيهِ يُلْهَمُ الْتِقَامَهُ وَامْتِصَاصَهُ. (الثَّانِيَةُ) : هِدَايَةُ الْحَوَّاسِ وَالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ مُتَمِّمَةٌ لِلْهِدَايَةِ الْأُولَى فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَيُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِيهِمَا الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ، بَلْ هُوَ فِيهِمَا أَكْمَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ حَوَاسَّ الْحَيَوَانِ وَإِلْهَامَهُ يَكْمُلَانِ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ بِقَلِيلٍ، بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْمُلُ فِيهِ بِالتَّدْرِيجِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ قَصِيرٍ، أَلَا تَرَاهُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ إِدْرَاكِ الْأَصْوَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يُبْصِرُ، وَلَكِنَّهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ يَجْهَلُ تَحْدِيدَ الْمَسَافَاتِ، فَيَحْسَبُ الْبَعِيدَ قَرِيبًا فَيَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَيْهِ لِيَتَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَانَ قَمَرَ السَّمَاءِ وَلَا يَزَالُ يَغْلَطُ حِسُّهُ حَتَّى فِي طَوْرِ الْكَمَالِ: (الْهِدَايَةُ الثَّالِثَةُ) : الْعَقْلُ، خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ لِيَعِيشَ مُجْتَمِعًا وَلَمْ يُعْطَ مِنَ الْإِلْهَامِ وَالْوِجْدَانِ مَا يَكْفِي مَعَ الْحِسِّ الظَّاهِرِ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَمَا أُعْطِيَ النَّحْلُ وَالنَّمْلُ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ مَنَحَهَا

مِنَ الْإِلْهَامِ مَا يَكْفِيهَا، لِأَنْ تَعِيشَ مُجْتَمِعَةً يُؤَدِّي كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهَا وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِجَمِيعِهَا، وَيُؤَدِّي الْجَمِيعُ وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِلْوَاحِدِ، وَبِذَلِكَ قَامَتْ حَيَاةُ أَنْوَاعِهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ. أَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَاصَّةِ نَوْعِهِ أَنْ يَتَوَفَّرَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ، فَحَبَاهُ اللهُ هِدَايَةً هِيَ أَعْلَى مِنْ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْإِلْهَامِ، وَهِيَ الْعَقْلُ الَّذِي يُصَحِّحُ غَلَطَ الْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَصَرَ يَرَى الْكَبِيرَ عَلَى الْبُعْدِ صَغِيرًا، وَيَرَى الْعُودَ الْمُسْتَقِيمَ فِي الْمَاءِ مُعْوَجًّا، وَالصَّفْرَاوِيَّ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا. وَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْإِدْرَاكِ. (الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ) : الدِّينُ، يُغَلِّطُ الْعَقْلَ فِي إِدْرَاكِهِ كَمَا تَغْلَطُ الْحَوَاسُّ، وَقَدْ يُهْمِلُ الْإِنْسَانُ اسْتِخْدَامَ حَوَاسِّهِ وَعَقْلِهِ فِيمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ الشَّخْصِيَّةُ النَّوْعِيَّةُ وَيَسْلُكُ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ مَسَالِكَ الضَّلَالِ، فَيَجْعَلُهَا مُسَخَّرَةً لِشَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ حَتَّى تُورِدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْمَشَاعِرُ فِي مَزَالِقِ الزَّلَلِ، وَاسْتَرَقَّتِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ الْعَقْلَ فَصَارَ يَسْتَنْبِطُ لَهَا ضُرُوبَ الْحِيَلِ، فَكَيْفَ يَتَسَنَّى لِلْإِنْسَانِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا؟ وَهَذِهِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ يَقِفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَهُ وَمَا هُوَ بِعَائِشٍ وَحْدَهُ، وَكَثِيرًا مَا تَتَطَاوَلُ بِهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِهَذَا تَقْتَضِي أَنْ يَعْدُوَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَتَنَازَعُونَ وَيَتَدَافَعُونَ، وَيَتَجَادَلُونَ وَيَتَجَالَدُونَ، وَيَتَوَاثَبُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ حَتَّى يُفْنِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا تُغْنِيَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْهِدَايَاتُ شَيْئًا فَاحْتَاجُوا إِلَى هِدَايَةٍ تُرْشِدُهُمْ فِي ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ، إِذَا هِيَ غَلَبَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَتُبَيِّنُ لَهُمْ حُدُودَ أَعْمَالِهِمْ لِيَقِفُوا عِنْدَهَا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَمَّا وَرَاءَهَا. ثُمَّ إِنَّ مِمَّا أُودِعَ فِي غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى الْأَكْوَانِ يَنْسِبُ إِلَيْهَا كُلَّ مَا لَا يَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاهِبَةُ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ قِوَامُ وُجُودِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ حَيَاةً وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَحْدُودَةِ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ بِتِلْكَ الْهِدَايَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى تَحْدِيدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ تِلْكَ السُّلْطَةِ الَّذِي خَلَقَهُ وَسَوَّاهُ، وَوَهَبَهُ هَذِهِ الْهِدَايَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ؟ كَلَّا إِنَّهُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ الرَّابِعَةِ - الدِّينِ - وَقَدْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا. أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ 90: 10) أَيْ طَرِيقَيِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ تَشْمَلُ هِدَايَةَ الْحَوَّاسِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهِدَايَةَ الْعَقْلِ وَهِدَايَةَ الدِّينِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (41: 17) أَيْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَسَلَكُوا سُبُلَ الشَّرِّ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ بِالْعَمَى. وَذَكَرَ غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا ثُمَّ قَالَ: بَقِيَ مَعَنَا هِدَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (6: 90) فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَالْهِدَايَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ

بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ إِيقَافِ الْإِنْسَانِ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقَيْنِ: الْمُهْلِكُ، وَالْمُنْجِي، مَعَ بَيَانِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَهِيَ مِمَّا تَفَضَّلَ اللهُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِعَانَتُهُمْ وَتَوْفِيقُهُمْ لِلسَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاةُ مَعَ الدَّلَالَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ كَالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَشَرْعِ الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِلْخَطَأِ وَالضَّلَالِ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ، فَأَمَرَنَا اللهُ بِطَلَبِهَا مِنْهُ فِي قَوْلِهِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فَمَعْنَى " (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " دُلَّنَا دَلَالَةً تَصْحَبُهَا مَعُونَةٌ غَيْبِيَّةٌ مِنْ لَدُنْكَ تَحَفَظُنَا بِهَا مِنَ الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ، وَمَا كَانَ هَذَا أَوَّلَ دُعَاءٍ عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهُ، إِلَّا لِأَنَّ حَاجَتَنَا إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِنَا إِلَى كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَعْنَى الصِّرَاطِ (وَهُوَ الطَّرِيقُ) وَاشْتِقَاقُهُ، وَقِرَاءَةُ الصِّرَاطِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَاشْتِقَاقُهَا عَلَى نَحْوِ مَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ: وَهُوَ ضِدُّ الْمُعْوَجِّ، وَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِمُقَابِلِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُعْوَجَّ ذَا التَّمَوُّجِ وَالتَّعَارِيجِ، بَلِ الْمُرَادُ: كُلُّ مَا فِيهِ انْحِرَافٌ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ سَالِكُهُ إِلَيْهَا. وَالْمُسْتَقِيمُ فِي عُرْفِ الْهَنْدَسَةِ: أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْبَدَاهَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِمُقَابِلِ الْمُسْتَقِيمِ كُلُّ مَا فِيهِ انْحِرَافٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمِيلُ وَيَنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ يَكُونُ أَضَلَّ عَنِ الْغَايَةِ مِمَّنْ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي خَطٍّ ذِي تَعَارِيجَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْغَايَةِ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا أَبَدًا. بَلْ يَزْدَادُ عَنْهَا بُعْدًا كُلَّمَا أَوْغَلَ فِي السَّيْرِ وَانْهَمَكَ فِيهِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الدِّينُ، أَوِ الْحَقُّ، أَوِ الْعَدْلُ، أَوِ الْحُدُودُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ جُمْلَةُ مَا يُوَصِّلُنَا إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَأَحْكَامٍ وَتَعَالِيمَ. لِمَ سُمِّيَ الْمُوَصِّلُ إِلَى السَّعَادَةِ مِنْ ذَلِكَ صِرَاطًا وَطَرِيقًا؟ خُذِ الْحَقَّ مَثَلًا وَهُوَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِاللهِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَبِأَحْوَالِ الْكَوْنِ وَالنَّاسِ، تَرَى مَعْنَى الصِّرَاطِ فِيهِ وَاضِحًا؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ أَوِ الصِّرَاطَ مَا أَسْلُكُهُ وَأَسِيرُ فِيهِ لِبُلُوغِ الْغَايَةِ الَّتِي أَقْصِدُهَا، كَذَلِكَ الْحَقُّ الَّذِي يُبَيِّنُ لِيَ الْوَاقِعَ الثَّابِتَ فِي الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ كَالْجَادَّةِ بَيْنَ السُّبُلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُضِلَّةِ، فَالطَّرِيقُ الْوَاضِحُ لِلْحِسِّ، يُشْبِهُ الْحَقَّ لِلْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، سَيْرٌ حِسِّيٌّ، وَسَيْرٌ مَعْنَوِيٌّ، كَذَلِكَ إِذَا اعْتَبَرْتَ

7

هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ تَجِدُهُ وَاضِحًا - قَسَّمْتَ أَحْكَامَ الْأَعْمَالِ إِلَى: وَاجِبٍ، وَمَنْدُوبٍ، وَمُبَاحٍ، وَمُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، فَكَانَ هَذَا مُرِيحًا لَنَا مِنْ تَمْيِيزِ الْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ بِأَنْفُسِنَا وَاجْتِهَادِنَا، فَبَيَانُ الْأَحْكَامِ بِالْهِدَايَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ الدِّينُ كَالطَّرِيقِ الْوَاضِحِ يُسْلَكُ بِالْعَمَلِ. وَمَعَ هَذَا تَجِدُ الشَّهَوَاتِ تَتَلَاعَبُ بِالْأَحْكَامِ وَتُرْجِعُهَا إِلَى أَهْوَائِهَا كَمَا يَصْرِفُ السُّفَهَاءُ عُقُولَهُمْ وَحَوَاسَّهُمْ فِيمَا يُرْدِيهِمْ. وَهَذَا التَّلَاعُبُ بِالدِّينِ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ عُلَمَائِهِ. وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِذَلِكَ مَثَلًا أَحَدَ الشُّيُوخِ الْمُتَفَقِّهِينَ، سَرَقَ كِتَابًا مِنْ وَقْفِ أَحَدِ الْأَرْوِقَةِ فِي الْأَزْهَرِ مُسْتَحِلًّا لَهُ بِحُجَّةِ أَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِوُجُودِ الْكِتَابِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ يَفُوتُ النَّفْعُ بِبَقَائِهِ فِي الرِّوَاقِ حَيْثُ وَضَعَهُ الْوَاقِفُ، إِذْ لَا يُوجَدُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُهُ مِثْلَهُ بِزَعْمِهِ! ! وَاسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا أَشَدَّ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّيْرِ فِي تِلْكَ الْهِدَايَاتِ الْأَرْبَعِ سَيْرًا مُسْتَقِيمًا يُوَصِّلُ إِلَى السَّعَادَةِ. لِهَذَا نَبَّهْنَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ نَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ لِيَكُونَ عَوْنًا لَنَا يَنْصُرَنَا عَلَى أَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِعَانَتُنَا فِي ذَلِكَ بِهِ لَا بِسِوَاهُ، بَعْدَ أَنْ نَبْذُلَ مَا نَسْتَطِيعُ مِنَ الْفِكْرِ وَالْجِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُنْزِلُ إِلَيْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَأَخْذِ أَنْفُسِنَا بِمَا نَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا أَفْضَلُ مَا نَطْلُبُ فِيهِ الْمَعُونَةَ مِنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهُوَ بِهَذِهِ الْآيَةِ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نَسْتَعِينُ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَنَا اخْتِصَاصَهُ بِالِاسْتِعَانَةِ فِي قَوْلِهِ: " وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَهُ بِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي نَحْوِ سُورَةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَنْ سَلَكَ هَذَا الصِّرَاطَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ الْفَاتِحَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى إِجْمَالِ مَا فُصِّلَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى مِنَ الْأَخْبَارِ، الَّتِي هِيَ مِثْلُ الذِّكْرَى وَالِاعْتِبَارِ، وَيَنْبُوعُ الْعِظَةِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَأَخْبَارُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا تَنْطَوِي فِي إِجْمَالِ هَذِهِ الْآيَةِ. (قَالَ) : فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ: بِالْيَهُودِ، وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ الْفَاتِحَةَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَبَّى فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ سُورَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ (كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ)

وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِحَيْثُ يَطْلُبُ الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُمْ، وَمَا هُدَاهُمْ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ ثُمَّ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوا اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ هَذِهِ السَّبِيلَ، سَبِيلَ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأُولَئِكَ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذَا مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ " وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصَّدِيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. فَقَدْ أَحَالَ عَلَى مَعْلُومٍ أَجْمَلَهُ فِي الْفَاتِحَةِ وَفَصَّلَهُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْقُرْآنِ تَقْرِيبًا قَصَصٌ. وَتَوْجِيهٌ لِلْأَنْظَارِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ، فِي كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَشَقَاوَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ يَهْدِي الْإِنْسَانَ كَالْمَثُلَاتِ وَالْوَقَائِعِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا الْأَمْرَ وَالْإِرْشَادَ، وَنَظَرْنَا فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَسْبَابِ عِلْمِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَعِزِّهِمْ وَذُلِّهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْأُمَمِ - كَانَ لِهَذَا النَّظَرِ أَثَرٌ فِي نُفُوسِنَا يَحْمِلُنَا عَلَى حُسْنِ الْأُسْوَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ فِيمَا كَانَ سَبَبَ السَّعَادَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ، وَاجْتِنَابِ مَا كَانَ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ. وَمِنْ هُنَا يَنْجَلِي لِلْعَاقِلِ شَأْنُ عِلْمِ التَّارِيخِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ، وَتَأْخُذُهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ رِجَالِ الدِّينِ مِنْ أُمَّةٍ هَذَا كِتَابُهَا يُعَادُونَ التَّارِيخَ بِاسْمِ الدِّينِ وَيَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ. وَكَيْفَ لَا يُدْهَشُ وَيَحَارُ وَالْقُرْآنُ يُنَادِي بِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا الدِّينُ؟ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (13: 6) . وَهَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ: كَيْفَ يَأْمُرُنَا اللهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ صِرَاطِ مَنْ تَقَدَّمَنَا وَعِنْدَنَا أَحْكَامٌ وَإِرْشَادَاتٌ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَتُنَا أَكْمَلَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، وَأَصْلَحَ لِزَمَانِنَا وَمَا بَعْدَهُ؟ وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَنَا الْجَوَابَ وَهُوَ أَنَّهُ يُصَرِّحُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِالْفُرُوعِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا الْأُصُولُ فَلَا خِلَافَ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (3: 64) الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (4: 163) الْآيَةَ. فَالْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ وَعَمَلُ الْبِرِّ، وَالتَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُسْتَوٍ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ بِالنَّظَرِ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا صَارُوا إِلَيْهِ: لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْقِيَامِ عَلَى أُصُولِ الْخَيْرِ. وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ. عَلَى حَسَبِ طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ وَالْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الَّتِي هَذِهِ كُلِّيَّاتُهَا بِالْإِجْمَالِ، نَعْرِفُهُ مِنْ شَرْعِنَا وَهَدْيِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اهـ بِتَفْصِيلٍ وَإِيضَاحٍ. وَأَزِيدُ هُنَا أَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ مَا قَدْ يُعَدُّ مِنَ الْأُصُولِ الْخَاصَّةِ بِالْإِسْلَامِ، وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، كَبِنَاءِ الْعَقَائِدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَبِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ، وَكَبَيَانِ أَنَّ لِلْكَوْنِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَجْرِي عَلَيْهِ عَوَالِمُهُ الْعَاقِلَةُ وَغَيْرُ الْعَاقِلَةِ، وَكَالْحَثِّ

عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَكْوَانِ، لِلْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا الْعَقْلُ وَتَتَّسِعُ بِهَا أَبْوَابُ الْمَنَافِعِ لِلْإِنْسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِأُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ لِجَعْلِ بِنَائِهِ رَصِينًا مُنَاسِبًا لِارْتِقَاءِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا تِلْكَ الْأُصُولُ وَهِيَ: الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ، وَعِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ، فَهِيَ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا. وَأَمَّا وَصْفُهُ تَعَالَى الَّذِينَ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَالْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَالَّذِينَ بَلَغَهُمْ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ فَرَفَضُوهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلُوهُ، انْصِرَافًا عَنِ الدَّلِيلِ، وَرِضَاءً بِمَا وَرِثُوهُ مِنَ الْقِيلِ، وَوُقُوفًا عِنْدَ التَّقْلِيدِ، وَعُكُوفًا عَلَى هَوًى غَيْرِ رَشِيدٍ، وَغَضَبُ اللهِ يُفَسِّرُونَهُ بِلَازِمِهِ: وَهُوَ الْعِقَابُ، وَوَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَانْتِقَامُهُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ أَلْبَتَّةَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. وَقَرَنَ الْمَعْطُوفَ فِي قَوْلِهِ " (وَلَا الضَّالِّينَ " بِلَا لِمَا فِي " غَيْرِ " مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ، فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّوَائِفَ ثَلَاثٌ: الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالُّونَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ ضَالُّونَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ بِنَبْذِهِمُ الْحَقُّ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ قَدِ اسْتَدْبَرُوا الْغَايَةَ وَاسْتَقْبَلُوا غَيْرَ وِجْهَتِهَا، فَلَا يَصِلُونَ مِنْهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَهْتَدُونَ فِيهَا إِلَى مَرْغُوبٍ، وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَلَى عِلْمٍ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ فَهُوَ تَائِهٌ بَيْنَ الطُّرُقِ، لَا يَهْتَدِي إِلَى الْجَادَّةِ الْمُوَصِّلَةِ مِنْهَا، وَهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الرِّسَالَةُ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ. فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَحَقُّ بِاسْمِ الضَّالِّينَ، فَإِنَّ الضَّالَّ حَقِيقَةً: هُوَ التَّائِهُ الْوَاقِعُ فِي عَمَايَةٍ لَا يَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْعَمَايَةُ فِي الدِّينِ: هِيَ الشُّبَهَاتُ الَّتِي تَلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتُشَبِّهُ الصَّوَابَ بِالْخَطَأِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الضَّالُّونَ عَلَى أَقْسَامٍ: - الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الرِّسَالَةِ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسُوقُ إِلَى النَّظَرِ. فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَوَفَّرْ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ سِوَى مَا يَحْصُلُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَحُرِمُوا رُشْدَ الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَضِلُّوا فِي شُئُونِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ ضَلُّوا لَا مَحَالَةَ فِيمَا تُطْلَبُ بِهِ نَجَاةُ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتُهَا فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَنْ يُفِيضَ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ مَا بِهِ يَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، فَمَنْ حُرِمَ الدِّينَ حُرِمَ السَّعَادَتَيْنِ، وَظَهَرَ أَثَرُ التَّخَبُّطِ وَالِاضْطِرَابِ فِي أَعْمَالِهِ الْمَعَاشِيَّةِ، وَحَلَّ بِهِ مِنَ الرَّزَايَا مَا يَتْبَعُ الضَّلَالَ وَالْخَبْطَ عَادَةً، سُنَّةُ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَبْدِيلًا. أَمَّا أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَعَلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُسَاوُوا الْمُهْتَدِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَدْ يَعْفُو اللهُ عَنْهُمْ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.

وَأَزِيدُ فِي إِيضَاحِ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ: أَنَّ الَّذِينَ حُرِمُوا هِدَايَةَ الدِّينِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُؤَاخَذُوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (17: 15) وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْعَقْلِ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِقَوْلِهِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ ارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ بِهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولٌ يَتَفَاوَتُونَ فِي إِدْرَاكِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِتَفَاوُتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْفِطْرِيِّ وَمَا يُصَادِفُونَ مِنْ حَسُنِ التَّرْبِيَةِ وَقُبْحِهَا. وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَكْلِيفِهِمْ وَعَدَمِهِ أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَهَا. وَمَا يُعْطِيهِمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْفَضِيلَةِ وَالرَّزِيلَةِ - يَكُونُ جَزَاءً عَادِلًا عَلَى أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ وَسَأُفَصِّلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَأَعُودُ الْآنَ إِلَى إِتْمَامِ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ، قَالَ: (الْقِسْمُ الثَّانِي) : مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهٍ يَبْعَثُ عَلَى النَّظَرِ، فَسَاقَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِيهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ وَهُوَ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقَةً فِي الْأُمَمِ، وَلَا يَعُمُّ حَالُهُ شَعْبًا مِنَ الشُّعُوبِ، فَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ، وَمَا يَكُونُ لَهَا مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ فِي حَيَاتِهَا الدُّنْيَا أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّنْ تُرْجَى لَهُ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْقُلُ صَاحِبُ هَذَا الرَّأْيِ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مُؤَاخَذَتَهُ أَخَفُّ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْجَاحِدِ الَّذِي أَنْكَرَ التَّنْزِيلَ، وَاسْتَعْصَى عَلَى الدَّلِيلِ، وَكَفَرَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَرَضِيَ بِحَظِّهِ مِنَ الْجَهْلِ. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : مَنْ بَلَغَتْهُمُ الرِّسَالَةُ وَصَدَّقُوا بِهَا، بِدُونِ نَظَرٍ فِي أَدِلَّتِهَا وَلَا وُقُوفٍ عَلَى أُصُولِهَا، فَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فِي فَهْمِ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ فِي كُلِّ دِينٍ، وَمِنْهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الْمُنْحَرِفُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَأَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَفَرَّقُوا الْأُمَّةَ إِلَى مُشَارِبَ، يُغَصُّ بِمَائِهَا الْوَارِدُ، وَلَا يَرْتَوِي مِنْهَا الشَّارِبُ، (قَالَ) : وَإِنِّي أُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْ آثَارِهِمْ فِي النَّاسِ: يَأْتِي الرَّجُلُ إِلَى دَوَائِرِ الْقَضَاءِ فَيُسْتَحْلَفُ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الْقَدِيمُ، - أَنَّهُ مَا فَعَلَ كَذَا، فَيَحْلِفُ وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ بَادِيَةٌ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَأْتِيهِ الْمُسْتَحْلِفُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْحَلِفِ بِشَيْخٍ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ لَهُمُ الْوِلَايَةَ، فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَتَضْطَرِبُ أَرْكَانُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فِي أَلْيَتِهِ وَيَقُولُ الْحَقَّ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، تَكْرِيمًا لِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَخَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَسْلُبَ عَنْهُ نِعْمَةً أَوْ يُحِلَّ بِهِ نِقْمَةً إِذَا حَلَفَ

بِاسْمِهِ كَاذِبًا. فَهَذَا ضَلَالٌ فِي أُصُولِ الْعَقِيدَةِ، يَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَسْرُدَ مَا وَقَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ بِسَبَبِ الْبِدَعِ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَطَالَ الْمَقَالُ، وَاحْتِيجَ إِلَى وَضْعِ مُجَلَّدَاتٍ فِي وُجُوهِ الضَّلَالِ، وَمِنْ أَشْنَعِهَا أَثَرًا، وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا، خَوْضُ رُؤَسَاءِ الْفِرَقِ مِنْهُمْ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالِاخْتِيَارِ وَالْجَبْرِ، وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَهْوِينِ مُخَالَفَةِ اللهِ عَلَى نُفُوسِ الْعَبِيدِ. إِذَا وَزَنَّا مَا فِي أَدْمِغَتِنَا مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهَا أَوَّلًا فِيهِ يَظْهَرُ لَنَا كَوْنُنَا مُهْتَدِينَ أَوْ ضَالِّينَ. وَأَمَّا إِذَا أَدْخَلْنَا مَا فِي أَدْمِغَتِنَا فِي الْقُرْآنِ وَحَشَرْنَاهَا فِيهِ أَوَّلًا فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ الْهِدَايَةَ مِنَ الضَّلَالِ لِاخْتِلَاطِ الْمَوْزُونِ بِالْمِيزَانِ. فَلَا يُدْرَى مَا هُوَ الْمَوْزُونُ مِنَ الْمَوْزُونِ بِهِ - أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أَصْلًا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ وَالْآرَاءُ فِي الدِّينِ لَا أَنْ تَكُونَ الْمَذَاهِبُ أَصْلًا وَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَيُرْجَعُ بِالتَّأْوِيلِ أَوِ التَّحْرِيفِ إِلَيْهَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمَخْذُولُونَ، وَتَاهَ فِيهِ الضَّالُّونَ. (الْقِسْمُ الرَّابِعُ) : ضَلَالٌ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحْرِيفٌ لِلْأَحْكَامِ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ، كَالْخَطَأِ فِي فَهْمِ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْخَطَأِ فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ مَثَلًا: الِاحْتِيَالُ فِي الزَّكَاةِ بِتَحْوِيلِ الْمَالِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوَلِ ثُمَّ اسْتِرْدَادُهُ بَعْدَ مُضِيِّ قَلِيلٍ مِنَ الْحَوَلِ الثَّانِي، حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَيَظُنُّ الْمُحْتَالُ أَنَّهُ بِحِيلَتِهِ قَدْ خَلَصَ مِنْ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَنَجَا مِنْ غَضَبِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ قَدْ هَدَمَ رُكْنًا مِنْ أَهَمِّ أَرْكَانِ دِينِهِ، وَجَاءَ بِعَمَلِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ فَرْضًا وَشَرَعَ بِجَانِبِ ذَلِكَ الْفَرْضِ مَا يَذْهَبُ بِهِ وَيَمْحُو أَثَرَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ. ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ أَوَّلُهَا وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْأُمَمِ فَتَخْتَلُّ قُوَى الْإِدْرَاكِ فِيهَا، وَتَفْسَدُ الْأَخْلَاقُ، وَتَضْطَرِبُ الْأَعْمَالُ، وَيَحُلُّ بِهَا الشَّقَاءُ، عُقُوبَةً مِنَ اللهِ لَا بُدَّ مِنْ نُزُولِهَا بِهِمْ، سُنَّةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَحْوِيلًا. وَيُعَدُّ حُلُولُ الضَّعْفِ وَنُزُولُ الْبَلَاءِ بِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى غَضَبِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا لِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي عَقَائِدِهَا وَأَعْمَالِهَا مِمَّا لَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ، وَلَا يَتْبَعُ فِيهِ سُنُنَهُ. لِهَذَا عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ نَدْعُوهُ بِأَنْ يَهْدِيَنَا طَرِيقَ الَّذِينَ ظَهَرَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَقْوِيمِ الْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ بِفَهْمِ مَا هَدَانَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا طُرُقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمْ آثَارُ نِقَمِهِ بِالِانْحِرَافِ عَنْ شَرَائِعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا وَعِنَادًا، أَوْ غَوَايَةً وَجَهْلًا. إِذَا ضَلَّتِ الْأُمَّةُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَلَعِبَ الْبَاطِلُ بِأَهْوَائِهَا، فَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهَا وَاعْتَلَّتْ أَعْمَالُهَا،

وَقَعَتْ فِي الشَّقَاءِ لَا مَحَالَةَ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهَا مَنْ يَسْتَذِلُّهَا وَيَسْتَأْثِرُ بِشُئُونِهَا وَلَا يُؤَخِّرُ لَهَا الْعَذَابَ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَإِنْ كَانَتْ سَتُلَاقِي نَصِيبَهَا مِنْهُ أَيْضًا، فَإِذَا تَمَادَى بِهَا الْغَيُّ وَصَلَ بِهَا إِلَى الْهَلَاكِ، وَمَحَا أَثَرَهَا مِنَ الْوُجُودِ، هَكَذَا عَلَمَّنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ نَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ مَنْ سَبَقَنَا، وَمَنْ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ بَيْنَ أَيْدِينَا مِنَ الْأُمَمِ، لِنَعْتَبِرَ وَنُمَيِّزَ بَيْنَ مَا بِهِ تَسْعَدُ الْأَقْوَامُ وَمَا بِهِ تَشْقَى. أَمَّا فِي الْأَفْرَادِ فَلَمْ تَجْرِ سُنَّةُ اللهِ بِلُزُومِ الْعُقُوبَةِ لِكُلِّ ضَالٍّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يُسْتَدْرَجُ الضَّالُّ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَيُدْرِكُهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ النِّعْمَةُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْقَى جَزَاءَهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) اهـ.

فَوَائِدُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ كَانَ غَرَضُنَا الْأَوَّلُ مِنْ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَنَشْرِهِ فِي الْمَنَارِ هُوَ بَيَانُ مَا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يَفْتَحُ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا بِالِاخْتِصَارِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا طَبَعْنَا تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ عَلَى حِدَتِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً زِدْنَا فِيهِ بَعْضَ زِيَادَاتٍ، وَكَانَ بُدًّا لَنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذَا التَّفْسِيرَ مُطَوَّلًا مُسْتَوْفًى. وَلِهَذَا زِدْنَا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ هُنَا زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ. وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ طَبْعِهِ رَأَيْنَا أَنْ نُعَزِّزَهُ بِالْفَوَائِدِ الْآتِيَةِ: (حِكْمَةُ إِيثَارِ ذِكْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ) قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ (اللهُ) هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْجَامِعُ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ الْعُلْيَا، وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا غَيْرُهَا، وَتَعُودُ إِلَيْهَا مَعَانِيهَا وَلَوْ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ مِنْهَا ذَاتِيَّانِ وَهُمَا (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وَالِاثْنَانِ الْآخَرَانِ: فِعْلِيَّانِ وَهُمَا الرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَبِتَعْبِيرٍ أَظْهَرَ أَوْ أَصَحَّ اثْنَانِ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقَانِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، وَاثْنَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، فَالْحَيُّ ذُو الْحَيَاةِ وَهِيَ بِأَعَمِّ مَعَانِيهَا الصِّفَةُ الْوُجُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْقُولِنَا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَهِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي يُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهَا مَدَارَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ مِنَ النَّقْصِ وَمُشَابَهَةِ الْخَلْقِ كَالرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَالْغَضَبِ وَالْعَدْلِ وَالْعِزَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ إِلَخْ، وَكَمَالُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَالْحَيَاةُ فِي الْخَلْقِ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى: الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ، وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لَهَا أَعْلَاهَا فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي مِنْ خَوَاصِّهَا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْقِدُهُ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِيَةُ الْحَيَاةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) (36: 70) وَقَوْلُهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (8: 28) وَكَمَالُ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَحَيَاةُ الْخَالِقِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ

وَهِيَ لَا تُشْبِهُهَا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . وَإِنَّمَا نَفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِهَا اللُّغَوِيِّ مَعَ التَّنْزِيهِ أَنَّهَا الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ الْوَاجِبَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْأَبَدِيَّةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا اتِّصَافُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، بِدُونِهَا، فَهِيَ لَا يَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَلَيْهَا، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا تُصَحِّحُ لَهُ الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي. وَأَمَّا " الْقَيُّومُ " فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي مُعْجَمِ (لِسَانِ الْعَرَبِ) وَهُوَ الْقَائِمُ (أَيِ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ) بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ اهـ. وَسَبَقَهُ إِلَى مِثْلِهِ غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُمْ: " الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ " بِمَعْنَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ " وَاجِبُ الْوُجُودِ " أَيِ الَّذِي وُجُودُهُ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ مِنْ وُجُودٍ آخَرَ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْقِدَمَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ، وَالْبَقَاءَ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءَ إِلَّا بِهِ، فَكُلُّ وُجُودٍ سِوَاهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْهُ وَبَاقٍ بِبَقَائِهِ إِيَّاهُ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (35: 41) وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ كَانَ بِالضَّرُورَةِ قَادِرًا مُرِيدًا عَلِيمًا حَكِيمًا، فَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ تُصَحِّحُ لِصَاحِبِهَا الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْكَمَالِ دَلَالَةَ الْتِزَامٍ، فَالْقَيُّومِيَّةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا دَلَالَةً بِغَيْرِ قَيْدٍ. وَلِجَمْعِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرَهَا مِنْ مَعَانِي الْكَمَالِ الْأَعْلَى كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ - مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ - هُوَ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هُنَا وَذِكْرُهُمَا اسْتِطْرَادِيٌّ لَا يَدْخُلُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُمَا الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُهُمَا بِطُرُقِ الدَّلَالَةِ الثَّلَاثِ: الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ. وَأَمَّا صِفَتَا الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ فَهُمَا الصِّفَتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعَالَمِ كُلِّهَا، وَعَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَغَلِبُ غَضَبَهُ، وَإِحْسَانَهُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ رَحْمَتِهِ يَغْلِبُ انْتِقَامَهُ، وَمَعْنَى الِانْتِقَامِ لُغَةً: الْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا كَانَ جَزَاءٌ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا كَانَ انْتِقَامَ حَقٍّ وَعَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ انْتِقَامَ بَاطِلٍ وَجَوْرٍ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) بَلْ يَتَجَاوَزُ عَنْ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ، وَيُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَاتِ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (25: 42) ، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنِ كَثِيرٍ) (30: 42) ، (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (4: 40) وَالْآيَاتُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَعَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَا آيَةُ الْمُضَاعَفَةِ سَبْعِمِائَةَ ضِعْفٍ وَمَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى. فَمِنْ شَأْنِ الرَّبِّ الْمَالِكِ لِلْعِبَادِ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِهِمُ الْمُرَبِّي لَهُمْ أَنْ يُجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ،

وَيَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ، وَالْجَزَاءُ بِالْعَدْلِ مُخِيفٌ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيُقَصِّرُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ وَلِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِوَلَدِهِ بَلْهَ مَنْ دُونَهُمْ حَقًّا عَلَيْهِ وَمَكَانَةً عِنْدَهُ، وَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَغْلِبَ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَرَنَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِاسْمَيْنِ لَا بَاسِمٍ وَاحِدٍ: اسْمِ الرَّحْمَنِ الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي اتِّصَافِهِ بِهَا، وَاسْمِ الرَّحِيمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ تَعَلُّقِهَا بِالْحَقِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (4: 29) ، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (33: 34) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ ضَمَمْنَا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُمَا اللهُ. وَأَمَّا دَلَالَةُ صِفَتَيِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ فَظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ رَبَّ الْعِبَادِ هُوَ الَّذِي يُسْدِي إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَتَدْبِيرِ شُئُونِهِمْ مِنْ فِعْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى كَالْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ الْقَهَّارِ الْوَهَّابِ الرَّزَّاقِ الْفَتَّاحِ الْقَابِضِ الْبَاسِطِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْحَكَمِ الْعَدْلِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الْحَلِيمِ الرَّقِيبِ الْمُقِيتِ الْبَاعِثِ الشَّهِيدِ الْمُحْصِي الْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ الْمَحْيِي الْمُمِيتِ الْمُقَدِّمِ الْمُؤَخَّرِ الْمُغْنِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ وَأَمْثَالِهَا. وَالرَّحْمَنُ فِي ذَاتِهِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَوَّابًا غَفُورًا عَفُوًّا رَءُوفًا شَكُورًا حَلِيمًا وَهَّابًا. إِذَا عَلِمْنَا هَذَا تَجَلَّتْ لَنَا حِكْمَةُ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْحَيَاةِ وَالُقَيُّومِيَّةِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى صِفَاتِ الذَّاتِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ - وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ - أَنَّ الْفَاتِحَةَ يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : مَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهَا هَذَا؛ أَعْنِي كَوْنَهَا فَاتِحَةً وَمَبْدَأً لِلْقُرْآنِ (وَثَانِيهُمَا) : أَنَّهَا قَدْ شُرِعَتْ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلَّ يَوْمٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنَاسِبُهُ الْبَدْءُ بِذِكْرِ رُبُوبِيَّةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ اللهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) (2: 2 - 3) إِلَخْ. الْآيَاتِ. فَهُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَهُ وَيَتَّعِظُونَ بِهِ، وَهُمُ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (21: 49) فَالْمُنَاسِبُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْمَثَانِي الَّتِي يُثَنُّونَهَا دَائِمًا فِي صَلَاتِهِمْ وَفِي بَدْءِ أَوْرَادِهِمُ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْخَتَمَاتِ مَبْدُوءَةً بِذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ اللهِ سُبْحَانَهُ لِشُئُونِهِمْ، وَبِعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَصِمُونَ فِيهِ، وَبِمُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَبِرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمُ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ كَمَالِ الْهِدَايَةِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ. فَبَدْءُ فَاتِحَةِ الْقُرْآنِ بِذِكْرِهِمَا فِي الْبَسْمَلَةِ ثُمَّ أَثْنَاءَ السُّورَةِ مُرْشِدٌ لِمَا ذُكِرَ، مُذَكِّرٌ لِلْمُصَلِّي وَلِلتَّالِي بِهِ. وَكَذَا بَدْءُ كُلِّ سُورَةٍ بِالْبَسْمَلَةِ الَّتِي لَمْ يُوصَفِ اسْمُ الذَّاتِ (اللهُ) فِيهَا بِغَيْرِ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ، هُوَ إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، كَمَا قَالَ مُخَاطِبًا لِمَنْ أَنْزَلَهُ

عَلَيْهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلِ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ الَّتِي فَضَحَتْ آيَاتُهَا الْمُنَافِقِينَ، وَبُدِئَتْ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَشُرِعَ فِيهَا الْقِتَالُ بِصِفَةٍ أَعَمُّ مِمَّا أَنْزَلَهُ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ أَحْكَامِهِ. وَهَذَا الَّذِي شَرَحْنَاهُ يُفَنِّدُ زَعْمَ بَعْضِ الْمُتَعَصِّبِينَ الْغُلَاةِ فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ بِالْهَوَى الْبَاطِلِ أَنَّ رَبَّ الْمُسْلِمِينَ رَبٌّ غَضُوبٌ مُنْتَقِمٌ قَهَّارٌ، وَدِينَهُمْ دِينُ رُعْبٍ وَخَوْفٍ، بِخِلَافِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِي يُسَمِّي الرَّبَّ أَبًا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ يُعَامِلُ عِبَادَهُ كَمُعَامَلَةِ الْأَبِ لِأَوْلَادِهِ، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُنَا إِلَى هَذَا الزَّعْمِ وَفَنَّدَهُ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ الرَّبِّ. وَسَنَذْكُرُ فِي فَائِدَةٍ أُخْرَى الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَصَلَاةِ النَّصَارَى بِالصِّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ بِالصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّبَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا الرَّضِيعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ خَلْقِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي سَعَةِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (7: 156) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. تَفْسِيرُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ (ص 38) . تَبِعَ فِيهِ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمُفَسِّرِيهِمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ ذُهُولًا. وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهَا بِلَازِمِهَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ فَتَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ فَلْسَفَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِهَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صِفَةَ الرَّحْمَةِ كَصِفَةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ مَا يُسَمِّيهِ الْأَشَاعِرَةُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَيَقُولُونَ إِنَّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنَّ مَعَانِيَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا بِحَسْبِ مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ وَاسْتِعْمَالِهَا فِي الْبَشَرِ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى إِذِ الْعِلْمُ بِحَسْبَ مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ هُوَ صُورَةُ الْمَعْلُومَاتِ فِي الذِّهْنِ، الَّتِي اسْتَفَادَهَا مِنْ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ أَوْ مِنَ الْفِكْرِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ غَيْرُ عَرَضٍ مُنْتَزَعٍ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَمْعِهِ تَعَالَى وَبَصَرِهِ وَقَدْ عَدُّوهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ، وَالرَّحْمَةُ مِثْلُهَا فِي هَذَا. فَقَاعِدَةُ السَّلَفِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَنْ نُثْبِتَهَا لَهُ وَنُمِرَّهَا كَمَا جَاءَتْ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ الثَّابِتِ عَقْلًا وَنَقْلًا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فَنَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُشْبِهُ عِلْمَنَا، وَإِنَّ لَهُ سَمْعًا حَقِيقِيًّا هُوَ وَصْفٌ لَهُ لَا يُشْبِهُ سَمْعَنَا، وَإِنَّ لَهُ رَحْمَةً حَقِيقِيَّةً هِيَ وَصْفٌ لَهُ لَا تُشْبِهُ رَحْمَتَنَا الَّتِي هِيَ انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَنَجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ،

وَأَمَّا التَّحَكُّمُ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَجَعْلِ إِطْلَاقِهَا مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. أَوِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ كَمَا قَالُوا فِي الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَأَمْثَالِهِمَا دُونَ الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَأَمْثَالِهِمَا، فَهُوَ تَحَكُّمٌ فِي صِفَاتِ اللهِ وَإِلْحَادٌ فِيهَا، فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ كُلُّهَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْإِيمَانِ بِمَعْنَى الصِّفَةِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّنْوِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تُجْعَلَ كُلُّهَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ وَضَعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَعْمَلَهَا الشَّرْعُ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ شَبَهِهَا بِهَا مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ. وَقَدْ عَبَّرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَفْصَحَ تَعْبِيرٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ: إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ يَصْدُرُ عَنْهَا الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى تُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ طَرَفُ فَهْمِهِمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا، فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَلَكِنْ لِضَعْفِ أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطُرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تُفْهِمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ فَقُلْنَا: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةً هِيَ الْقُدْرَةُ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ اهـ. وَقَدْ رَجَعَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّظَّارِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ، وَصَرَّحَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ وَهُوَ (الْإِبَانَةُ) بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ شَيْخِ السُّنَّةِ وَالْمُدَافِعِ عَنْهَا رَحِمَهُمُ اللهُ أَجْمَعِينَ. مُعَارَضَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ سَخِيفَةٌ، لِلْفَاتِحَةِ الشَّرِيفَةِ عَرَفَ كُلٌّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ أَنَّ الْقُرْآنَ أَبْلَغُ الْكَلَامِ وَأَفْصَحُهُ، لَمْ يُكَابِرْ فِي ذَلِكَ مُكَابِرٌ، وَلَمْ يُجَادِلْ فِيهِ مُجَادِلٌ، وَأَنَّ الْفَاتِحَةَ مِنْ أَعْلَاهُ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً وَجَمْعًا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ، وَاشْتِمَالًا عَلَى مُهِمَّاتِ الدِّينِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْذِبُ قَلْبَ مِنْ تَدَبَّرَهَا إِلَى حُبِّهِ، وَتُنْطِقُ لِسَانَهُ بِحَمْدِهِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ بِتَوْحِيدِهِ. وَتُهَذِّبُ نَفْسَهُ بِمَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِحَاطَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِلْكِهِ، وَتُذَكِّرُهُ يَوْمَ الدِّينِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ عَلَى عَمَلِهِ، وَتُوَجِّهُ وَجْهَهُ إِلَى السَّيْرِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي مُعَامَلَةِ اللهِ وَمُعَامَلَةِ خَلْقِهِ، وَتُذَكِّرُهُ بِالْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ فِي ذَلِكَ بِإِضَافَةِ الصِّرَاطِ الَّذِي يَتَحَرَّى الِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيقَهُ دَائِمًا لَهُ، إِلَى مَنْ أَسْبَغَ اللهُ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ، وَمَنَحَهُمْ رِضْوَانُهُ، وَجَعَلَهُمْ هُدَاةَ خَلْقِهِ بِأَقْوَالِهِمْ،

وَأُسْوَتَهُمُ الْحَسَنَةَ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَمُثُلَ الْكَمَالِ فِي آدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصَّدِيقَيْنِ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَتُحَذِّرُهُ مِنْ شَرَارِ الْخَلْقِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُفَضِّلُونَ الشَّرَّ عَلَى الْخَيْرِ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ - أَوْ عَلَى جَهْلٍ بِهِ كَالَّذِينِ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَهُمُ الضَّالُّونَ. وَهَذَا التَّحْذِيرُ يَتَضَمَّنُ حَثَّ الْمُسْلِمِ الْمُتَعَبِّدِ بِالْفَاتِحَةِ الْمُكَرِّرِ لَهَا فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِتَحَرِّي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، بِأَحْكَامِ الْعِلْمِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّمَرُّنِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. هَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي ذَكَّرْنَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ بِمُجْمَلٍ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا يَزْعُمُ أَحَدُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيهَا " حَشْوٌ وَتَحْصِيلُ حَاصِلٍ " وَمَا قَبْلَهُ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِمَا لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ مَعْنَاهُ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ دَاعِيَةٌ مِنَ الْمُبَشِّرِينَ الْمَأْجُورِينَ مِنْ قِبَلِ جَمْعِيَّاتِ التَّبْشِيرِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَالْأَمِيرِكَانِيَّةِ فِي كِتَابٍ لَفَّقَهُ فِي إِبْطَالِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِزَعْمِهِ، بَلْ أَنْكَرَ بَلَاغَتَهُ مِنْ أَصْلِهَا؛ قَالَ: " وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلرَّحْمَنِ، رَبِّ الْأَكْوَانِ، الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، لَكَ الْعِبَادَةُ وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ، اهْدِنَا صِرَاطَ الْإِيمَانِ، لَأَوْجَزَ وَجَمَعَ كَلَّ الْمَعْنَى وَتَخَلَّصَ مِنْ ضَعْفِ التَّأْلِيفِ وَالْحَشْوِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الرَّدِيءِ كَمَا بَيْنَ الرَّحِيمِ وَنَسْتَعِينُ " أهـ. أَقُولُ لَقَدْ كَانَ خَيْرًا لِهَذَا الْمُتَعَصِّبِ الْمَأْجُورِ لِإِضْلَالِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَذْكُرَ اسْمَهُ فِي كُتَيِّبِهِ، وَلَا يَفْضَحَ نَفْسَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ، أَنْ يَخْتَصِرَ لِمُسْتَأْجِرِيهِ آلِهَتَهُمْ وَكُتُبَهُمُ الَّتِي صَدَّتْ جَمِيعَ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بَلْ صَدَّتْ بَعْضَهُمْ عَنْ كُلِّ دِينٍ، فَإِنَّ اخْتِصَارَ الدَّرَارِيِّ السَّبْعِ فِي السَّمَاءِ، أَهْوَنُ مِنَ اخْتِصَارِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ السَّبْعِ فِي الْأَرْضِ. وَحَسْبُ الْعَالَمِ مِنْ فَضِيحَتِهِ إِيرَادُ سَخَافَتِهِ هَذِهِ وَتَشْهِيرُهُ بِهَا لَوْ كَانَ حَيًّا يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ، الَّذِي قَدْ يَغْتَرُّ بِقَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي الطَّعْنِ بِغَيْرِ دِينِهِ، فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ لِبَعْضِ فَضَائِحِ هَذَا الِاخْتِصَارِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَبْصَارِ وَنَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا يَلِي: (1) إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ اخْتَصَرَهُ هَذَا الْجَاهِلُ الْمُتَعَصِّبُ وَجَعَلَ ذِكْرَهُ مَطْعَنًا فِي فَاتِحَةِ الْقُرْآنِ اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ (اللهُ) الَّذِي لَا يُغْنِي عَنْهُ سَرْدُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى! فَإِنَّهُ هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْمُلَاحَظُ مَعَهُ اتِّصَافُ تِلْكَ الذَّاتِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ إِجْمَالًا. (2) أَنَّهُ اخْتَصَرَ اسْمَ الرَّحِيمِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَتَهُ وَأَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ لَا يُغْنِي عَنْهُ، وَأَنَّى لِمِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ؟ وَيُرَاجَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (3) أَنَّهُ اسْتَبْدَلَ الْأَكْوَانَ بِالْعَالَمِينَ وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِصَارٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ اسْتِبْدَالُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَكْوَانَ جَمْعُ كَوْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ،

وَلَهُ مَعَانٍ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ اسْمِ الرَّبِّ إِلَيْهَا، مِنْهَا الْحَدَثُ وَالصَّيْرُورَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَيُطْلِقُهُ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ عَلَى الْحَرْبِ لَعَلَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْعَالَمُونَ فَجَمْعُ عَالَمٍ، وَفِي اشْتِقَاقِهِ التَّذْكِيرُ بِكَوْنِهِ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، وَفِي جَمْعِهِ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ تَذْكِيرٌ لِلْقَارِئِ بِمَا فِي كَلِمَةِ رَبٍّ مِنْ مَعْنَى تَرْبِيَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ لِلْأَحْيَاءِ وَلَا سِيَّمَا النَّاسُ، وَكَوْنُهُمْ يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْأَعْلَامِ: إِنَّ لَفْظَ الْعَالَمِينَ عَامٌّ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْخَاصِّ، وَهُوَ عَالَمُ الْبَشَرِ، وَرَاجِعْ سَائِرَ تَفْسِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ. (4) أَنَّهُ اسْتَبْدَلَ كَلِمَةَ (الدَّيَّانِ) بِكَلِمَةِ (يَوْمِ الدِّينِ) وَهِيَ لَا تَقُومُ مَقَامَهَا، وَلَا تُفِيدُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ لِذَاتِهَا، فَإِنَّ لِلدَّيَّانِ فِي اللُّغَةِ مَعَانِيَ مِنْهَا الْقَاضِي وَالْحَاسِبُ أَوِ الْمُحَاسِبُ وَالْقَاهِرُ. وَغَايَةُ مَا يُفِيدُهُ وَصْفُ الرَّبِّ بِأَنَّهُ حَاكِمٌ يَدِينُ عِبَادَهُ وَيَجْزِيهِمْ. وَأَمَّا يَوْمُ الدِّينِ: فَإِنَّهُ اسْمٌ لِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ مَوْصُوفٍ فِي كِتَابِ اللهِ بِأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ هَائِلَةٍ، يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْخَلَائِقَ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْيَوْمِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَإِضَافَةُ مَلِكٍ وَمَالِكٍ إِلَيْهِ تُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ وَلَا مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ - فَاسْتِحْضَارُ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ الْمُقَوِّي لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الْمُرَغِّبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُرَهِّبِ الزَّاخِرِ عَنِ الشَّرِّ، مَا لَيْسَ لِاسْمِ الدَّيَّانِ وَحْدَهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ فِي الْجَزْمِ بِهَذَا مُشَاوَرَةُ فِكْرِهِ، وَمُرَاجَعَةُ وِجْدَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ شَيْئًا، وَهَلْ لِهَذَا الْمُبَشِّرِ الْمُتَعَصِّبِ فِكْرٌ وَوِجْدَانٌ يَهْدِيَانِهِ إِلَى مَا يَجْهَلُ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ؟ (5، 6) أَنَّهُ اخْتَصَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بِقَوْلِهِ هُوَ: لَكَ الْعِبَادَةُ وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ. وَهُوَ أَغْرَبُ مَا جَاءَ بِهِ وَسَمَّاهُ إِيجَازًا، فَإِنَّهُ اسْتَبْدَلَ أَرْبَعًا بِأَرْبَعٍ، وَلَكِنَّهَا أَطْوَلُ مِنْهَا بِزِيَادَةِ حَرْفٍ، وَتَنْقُصُ عَنْهَا فِي الْمَعْنَى، فَأَيْنَ الْإِيجَازُ؟ إِنَّهُ مَفْقُودٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. إِذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَكَ الْعِبَادَةُ - أَنَّهَا كُلَّهَا لَهُ تَعَالَى فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْجُمْلَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ مِنَ الْبَشَرِ هُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهُمُ النَّصَارَى قَوْمُ الطَّاعِنِ فِي دِينِ التَّوْحِيدِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ الْأَعْظَمِ (الْقُرْآنِ) الْمُبَدِّلِينَ لِآيَةِ التَّوْحِيدِ الْبَلِيغَةِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِبَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ، وَلَا وَاضِعَ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَائِمَيْنِ بِهَذَا الْحَقِّ لَهُ تَعَالَى. وَأَمَّا " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فَإِنَّهَا تُفِيدُ عَرْضَ عِبَادَةِ الْقَارِئِ مَعَ عِبَادَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَأُحِيلُكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَأْثِيرِ هَذَا وَذَاكَ عَلَى الْوِجْدَانِ الَّذِي ذَكَّرْتُكَ بِهِ فِي النَّقْدِ الَّذِي قَبْلَهُ، دَعْ مَا فِي عَرْضِ الْمُؤْمِنِ عِبَادَتَهُ وَاسْتِعَانَتَهُ عَلَى رَبِّهِ فِي ضِمْنِ عِبَادَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِعَانَتِهِمْ

مِنْ مُلَاحَظَةِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَتَكَافُلِ أَهْلِهِ، وَمِنْ هَضْمِ الْفَرْدِ لِنَفْسِهِ، وَرَجَاءِ الْقَبُولِ فِي ضِمْنِ الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِعَانَةِ، وَيُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْهُ اخْتِيَارُهُ الْمَصْدَرَ الْمِيمِيَّ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ اسْمِ الْمَفْعُولِ (الْمُسْتَعَانِ) عَلَى الْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمُنَاسِبِ لِلَفْظِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ جِهَةِ ارْتِبَاطِهِ بِمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ طَلَبَنَا لِلْهِدَايَةِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ الَّتِي أَسْنَدْنَاهَا إِلَى أَنْفُسِنَا. (7) اسْتِبْدَالُهُ " صِرَاطَ الْإِيمَانِ " بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْهُ وَأَشْمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ، مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ، مَعَ وَصْفِهِ بِالْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. فَإِنَّ بَعْضَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُسَمَّى سَالِكُهَا مُهْتَدِيًا إِلَى مَقْصِدِهِ فِي الْجُمْلَةِ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا عِوَجٌ يَعُوقُ هَذَا السَّالِكَ، وَالْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَسَالِكُهُ يَصِلُ إِلَى مَقْصِدِهِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، كَذَلِكَ الطُّرُقُ الْمَعْنَوِيَّةُ، مِنْهَا الْمُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ وَغَيْرُ الْمُوُصِّلِ، وَمِنَ الْمُوَصِّلِ مَا يُوَصِّلُ بِسُرْعَةٍ لِعَدَمِ الْعَائِقِ، وَمَا يَعْتَرِي سَالِكَهُ الْمَوَانِعَ وَاقْتِحَامَ لْعَقَبَاتِ وَاتِّقَاءَ الْعَثَرَاتِ. (8) أَنَّ وَصْفَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِكَوْنِهِ الصِّرَاطَ الَّذِي سَلَكَهُ خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الْمُفْلِحِينَ، مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، مُذَكِّرٌ لِقَارِئِهِ بِأُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْوَارِثِينَ، الَّذِينَ يَجِبُ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَالسَّعْيُ لِلِانْتِظَامِ فِي سِلْكِهِمْ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ، وَغَيْرِ الضَّالَّيْنِ الزَّائِغِينَ عَنِ الْقَصْدِ، مُذَكِّرٌ لِلْقَارِئِ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ سُبُلِهِمْ، لِئَلَّا يَتَرَدَّى فِي هَاوِيَتِهِمْ. أَيْنَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ الْهَادِيَةِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، صِيغَةُ الصَّلَاةِ فِي مِلَّةِ هَذَا الْمُخْتَصِرِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَهِيَ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسَ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ، خُبْزُنَا كَفَافُنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ، وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا، وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، وَلَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ آمِينْ) (6: 9 - 13) أهـ. زَادَ فِي نُسَخَةِ الْأَمِيرْكَانِ: (لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الْأَبَدِ) وَجَعَلُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بَيْنَ عَلَامَتَيِ الْكَلَامِ الدَّخِيلِ هَكَذَا () فَمَنْ ذَا الَّذِي زَادَهَا عَلَى كَلَامِ الْمَسِيحِ؟ وَقَدْ يَقُولُ لَهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مَنْقُولَةٌ نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ نَفْسُهُ: إِنَّهَا صَلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا فِي فَاتِحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَعْضِهِ، وَطَلَبُ تَقْدِيسِ اسْمِ الْأَبِ وَإِتْيَانِ مَلَكُوتِهِ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ، فَهُوَ لَغْوٌ لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ،

وَذِكْرُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِاللَّامِ غَيْرُ لَائِقٍ - إِنْ لَمْ نَقُلْ فِي انْتِقَادِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ - وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ اللِّيَاقَةِ وَالْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَبُ كَوْنِ مَشِيئَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَشِيئَتِهِ فِي السَّمَاءِ. وَكَوْنُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِاللَّامِ أَيْضًا، فَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِهَا، وَطَلَبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِيهَا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا طَلَبُ الْخُبْزِ الْكَفَافِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ هَمِّهِمْ وَكُلَّ مَطْلَبِهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَوْ لِدُنْيَاهُمْ هُوَ الْخَبْزُ الَّذِي يَكْفِيهِمْ، فَأَيْنَ هَذَا الْمَطْلَبُ مَنْ طَلَبِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، لِكَوْنِهِ نَفْسَ صِرَاطِ خِيَارِ النَّاسِ دُونَ شِرَارِهِمْ. وَأَمَّا مَطْلَبُ الْمَغْفِرَةِ - فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ يَلِيقُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ تَعَالَى - يُنْتَقَدُ مِنْهُ تَشْبِيهُهَا بِمَغْفِرَةِ الطَّالِبِ لِلْمُذْنِبِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَغْفَرَةَ اللهِ لِعَبْدِهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعَمُّ مِنْ مَغْفِرَةِ الْعَبْدِ لِمِثْلِهِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ الَّذِي يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسِيئِينَ إِلَيْهِ نَادِرٌ، وَمِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْزُونَ عَلَى السَّيِّئَةِ إِمَّا بِمِثْلِهَا، وَإِمَّا بِأَكْثَرَ مِنْهَا، فَكَيْفَ يُكَلَّفُ هَؤُلَاءِ بِمُخَاطَبَةِ رَبِّهِمْ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَلَّا يَغْفِرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَغْفِرُونَ لِلْمُسِيئِينَ إِلَيْهِمْ. قَدْ يَقُولُونَ: نَعَمْ نَحْنُ نَلْتَزِمُ هَذَا؛ لِأَنَّ دِينَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَغْفِرَ لِجَمِيعِ مَنْ أَذْنَبَ وَأَسَاءَ إِلَيْنَا، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَغْفِرُ لَنَا إِذَا لَمْ نَغْفِرْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَّمَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ قَالَ بَعْدَهَا: (فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ) (مَتَّى 6: 14) . فَنَقُولُ: هَذَا التَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِجَمِيعِ النَّاسِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً، فَأَيْنَ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُوجَدُ فِي الْأَلْفِ أَوِ الْأُلُوفِ مِنْكُمْ وَاحِدٌ كَذَلِكَ؟ أَلَسْنَا نَرَى أَكْثَرَكُمْ وَمَنْ تَعُدُّونَهُمْ أَرْقَاكُمْ وَتَفْتَخِرُونَ بِهِمْ كَالْإِفْرِنْجِ لَا يَغْفِرُونَ لِأَحَدٍ أَدْنَى زَلَّةٍ، بَلْ لَا يَكْتَفُونَ بِعِقَابِ مَنْ يُسِئُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يُضَاعِفُونَ لَهُ الْعِقَابَ أَضْعَافًا، بَلْ يَنْتَقِمُونَ مِنْ أُمَّتِهِ كُلِّهَا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُدَّهُمْ بِالْقُوَّةِ، فَهُمْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَا مِنَ ابْتِدَاءِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ إِلَّا الْعَجْزُ.

وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْبَسْمَلَةُ مِنْهَا فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ أَحَادِيثُ قَوْلِيَّةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَجَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنْ تَنَازَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْوَاجِبِ فَرْضًا وَعَدِّهِ شَرْطًا، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ وَأَصْرَحُهُ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ نَفْيَ الصَّلَاةِ فِيهِ نَفْيُ صِحَّتِهَا وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ عِدَّةِ أَرْكَانٍ ذَاتِيَّةٍ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ رُكْنٍ مِنْهَا، كَقَوْلِكَ: لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا، فَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ وَلَا التَّابِعُونَ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ صَلَاةً بِدُونِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَإِنَّمَا بَحَثَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَسْمِيَةِ قِرَاءَتِهَا فَرْضًا وَعَدِّهَا رُكْنًا بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ لَهُمْ رَدَّهَا الْجُمْهُورُ بِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ لَا مَحَلَّ لِتَلْخِيصِهَا هُنَا وَأَجَابُوا عَنْ شُبُهَاتِهِمُ النَّقْلِيَّةِ بِأَجْوِبَةٍ سَدِيدَةٍ، وَأَقْوَاهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ صِلَاتِهِ: " ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " قَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إِنَّهُ ثَبَتَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ " فَهَذَا مُفَسِّرٌ لِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ مُتَيَسِّرَةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُلَقِّنُونَهَا كُلَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنْهُ هُنَا مَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ " وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أُمَّ الْقُرْآنِ وَسُورَةَ كَذَا، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ كَذَا فِي صَلَاةِ كَذَا، كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْبَسْمَلَةِ آيَةً فِي الْفَاتِحَةِ، فَأَقْوَى الْحُجَجِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ: كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الرَّسْمِيِّ الَّذِي وَزَّعَ نُسَخَهُ الْخَلِيفَةُ الثَّالِثُ عَلَى الْأَمْصَارِ بِرَأْيِ الصَّحَابَةِ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَكَذَا جَمِيعُ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَالْخَطُّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ شُعُوبِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَا حُجَّةَ عِنْدَهُمْ أَقْوَى مِنْ حُجَّةِ الْكِتَابَةِ الرَّسْمِيَّةِ، ثُمَّ إِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنَّ هَذَا رَأْيٌ، وَالْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ عَامًّا مُطَّرِدًا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ. عَلَى أَنَّ تَوَاتُرَهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى بَاقِيهِمْ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ بِالتَّوَاتُرِ لَا يُعَارِضُهُ نَفْيٌ مَا. وَقَدْ كُنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَآرَاءَ أَهْلِ الْخِلَافِ فِيهَا وَنَزِيدُهَا إِيضَاحًا فَنَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ آحَادِيَّةٌ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةَ مَذَاهِبَ، يَنْصُرُ كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ أَهْلَ الْمَذْهَبِ الَّذِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ

(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّفَقُوا؛ لِأَنَّ لِإِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا الْمُتَوَاتِرَةِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لَا تُعَارُضَ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا. وَأَصْرَحُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ " يَقُولُهَا ثَلَاثًا - أَيْ كَلِمَةَ " فَهِيَ خِدَاجٌ " أَيْ نَاقِصَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ كَالنَّاقَةِ تَلِدُ لِغَيْرِ التَّمَامِ - فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ". قَالَ النَّافُونَ: إِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ سَلْبِيٌّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ الْمُتَوَاتِرَ وَهُوَ إِثْبَاتُهَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْبَدْءِ بِالْخَتَمَاتِ، وَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي الْحَدِيثِ قَدْ يَكُونُ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ. وَمِمَّا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ بَدَاهَةً: أَنَّهُ كَمَا اكْتَفَى مِنْ قِسْمَةِ الصَّلَاةِ بِالْفَاتِحَةِ دُونَ سَائِرِ التِّلَاوَةِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَفْعَالِ اكْتَفَى مِنَ الْفَاتِحَةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ، إِذِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ (بَرَاءَةَ) عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ خَطُّ الْمُصْحَفِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الثَّنَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِوَصْفِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنًى مُكَرَّرٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَذُكِرَ فِي الْقِسْمَةِ. وَالْعُمْدَةُ فِي عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ ظَنِّيَّةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَإِثْبَاتَ الْبَسْمَلَةِ إِيجَابِيٌّ وَقَطْعِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَ مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ الْمَانِعَةِ مِنْ وَصْفِهِ بِالصِّحَّةِ: مُخَالَفَةُ رَاوِيهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ فَمُخَالَفَةُ الْقَطْعِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْلَى بِسَلْبِ وَصْفِ الصِّحَّةِ عَنْهُ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ الْمُعَارَضُ بِالْأَحَادِيثِ الْمُثْبِتَةِ لِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ قَالَ: " إِنَّ

سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرِجْلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَلِكُ " قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ ثَلَاثُونَ بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ. وَأُجِيبُ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ السُّوَرِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالسُّورَةِ وَهُوَ مَا دُونُ الْبَسْمَلَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . وَهَذَا الْحَدِيثُ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ مَعَ عَدَمِ عَدِّهَا مِنْ آيَاتِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، فَكَوْنُهَا آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى وَهُوَ أَصَحُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَعَلَّهُ بِأَنَّ عَبَّاسًا الْحَشَمِيَّ رَاوِيَهُ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَأَصْرَحُهَا قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَ عُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ. فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا " يَعْنِي الْبَسْمَلَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، فَقَدْ كَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ. قَالُوا: وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ الْحَرِيرِيُّ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِ اخْتَلَطَ بِآخِرِهِ. وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا تَرَى فِيمَا قَالُوهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: وَفِي لَفْظٍ " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: " صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا آخِرِهَا ". وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ وَخَلَفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قَالَ شُعْبَةُ قُلْتُ لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ مَنْ أَنِسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ نَحْنُ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَازَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا " اهـ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: وَرِوَايَةُ " فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ " أَخْرَجَهَا أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ: " كَانُوا يُسِرُّونَ " - وَقَوْلُهُ: " كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِزِيَادَةِ: " لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا اللَّفْظُ بِالِاضْطِرَابِ وَفُسِّرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ رَوَوْهُ عَنْهُ بِهِ، وَجَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ قَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَافِظِ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِاللَّفْظَيْنِ وَقَدْ خَرَّجَ كُلَّ رِوَايَةٍ. أَقُولُ: وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِفْتَاحِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ الِاسْتِفْتَاحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ صَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِجُمْلَةِ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ ". وَبِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهَا سَبَبُهُ عَدَمُ الْجَهْرِ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَوَّلِ الصَّفِّ. وَمِنَ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْقَارِئِ خَافِتًا فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ. وَسَبَبٌ ثَالِثٌ وَهُوَ اشْتِغَالُ الْمَأْمُومِ عِنْدَ السَّمَاعِ بِالتَّحَرُّمِ وَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ. وَقَدْ عُورِضَ وَأُعِلَّ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى اضْطِرَابِ مَتْنِهِ بِمَا يَأْتِي عَنْهُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي صِفَةِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: " أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ سَأَلْتِنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَقُلْتُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلَّى فِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ ". قَالُوا: وَعُرُوضُ النِّسْيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فَقَدْ حَكَى الْحَازِمِيُّ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَضَرَ جَامِعًا وَحَضَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ الْمُوَاظِبِينَ فِي ذَلِكَ الْجَامِعِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِ إِمَامِهِمْ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ قَالَ: - وَكَانَ صَيِّتًا يَمْلَأُ صَوْتُهُ الْجَامِعَ - فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْهَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَخْفِتُ أهـ. أَقُولُ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الْغَفْلَةُ وَالنَّاسُ عُرْضَةٌ لَهَا، وَلَا سِيَّمَا الْغَفْلَةُ عَنْ أَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. إِذْ يَكُونُ الْمَأْمُومُونَ مَشْغُولِينَ بِمِثْلِ مَا يَشْغَلُهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا وَقِرَاءَةِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَمَّا أَحَادِيثُ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ " كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَيُمِدُّ بِالرَّحْمَنِ وَبِالرَّحِيمِ ". وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ ".

وَمِنْهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: " كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ. قَالَ: " صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ". وَفِيهِ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لِأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، قَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَهُ شَوَاهِدُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِيهِ: ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَانِ آخَرَانِ بِمَعْنَاهُ، وَثَّقَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ رِجَالِهِمَا وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِهِمْ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنِ السَّبْعِ الْمَثَانِي فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قِيلَ: إِنَّمَا هِيَ سِتٌّ فَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ لَمْ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَهُ حَدِيثَانِ آخَرَانِ عَنْهُ وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي إِثْبَاتِ جَهْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَسْمَلَةِ فِي صِلَاتِهِ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي سَنَدِهَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: وَرُوَاتُهُ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نِيلِ الْأَوْطَارِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ الْمُتُونِ، وَذَكَرَ حَمْلَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنَ أَحَادِيثِ النَّفْيِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا عَلَى عَدَمِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ تَرْكُ الْجَهْرِ، ثُمَّ قَالَ: " إِذَا كَانَ مُحَصِّلُ أَحَادِيثِ نَفْيِ الْبَسْمَلَةِ هُوَ نَفْيُ الْجَهْرِ بِهَا، فَمَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ فِيهَا إِثْبَاتُ الْجَهْرِ قُدِّمَتْ عَلَى نَفْيِهِ. قَالَ الْحَافِظُ - ابْنُ حَجْرٍ - لَا بِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي - أَيْ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ - لِأَنَّ أَنَسًا يَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَصْحَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ وَيَصْحَبُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَلَا يَسْمَعُ مِنْهُمُ الْجَهْرَ بِهَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لِكَوْنِ أَنْسٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ هَذَا الْحُكْمَ، كَأَنَّهُ لِبُعْدِ عَهِدِهِ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهُ إِلَّا الْجَزْمَ بِالِافْتِتَاحِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ جَهْرًا، فَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِحَدِيثِ مَنْ أَثْبَتَ الْجَهْرَ أهـ. أَقُولُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِنِسْيَانِ هَذَا الْحُكْمِ آنِفًا فَعُدَّ حَدِيثُهُ مُضْطَرِبًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ سَرْدِهِ رِوَايَاتِ حَدِيثِهِ فِي الِاسْتِذْكَارِ: هَذَا الِاضْطِرَابُ لَا تَقُومُ مَعَهُ حُجَّةٌ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسٌ فَقَالَ: كَبِرَتْ سِنِّي وَنَسِيتُ. أهـ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ فِي سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهْزَءُونَ بِمُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ، وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ - وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ يُسَمَّى رَحْمَنَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فَتُسْمِعَ الْمُشْرِكِينَ فَيَهْزَءُوا بِكَ (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعَهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: إِنَّ رِجَالَهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. فَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذِكْرِ الرَّسْمِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ. وَجَمَعَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَارَةً وَيُخْفِتُهَا أَكْثَرَ مِمَّا جَهَرَ بِهَا إِلَخْ ". وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْقُولٌ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ يَكُونُ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَأَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَالْجَهْرُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي قَتَادَةَ الْمُخَالِفَيْنِ لِهَذَا. وَلَا يَغُرَّنَّ أَحَدًا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مُنْكِرَ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لَا يُكَفُّرُ وَمُثْبِتَهَا لَا يُكَفُّرُ فَيَظُنُّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا عَدَمُ ثُبُوتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ، كَلَّا إِنَّهَا ثَابِتَةٌ وَلَكِنَّ مُنْكِرَهَا لَا يُكَفَّرُ لِتَأْوِيلِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ بِشُبَهِ الْمُعَارَضَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَبَيَّنَّا ضَعْفَهَا، وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَالشُّبْهَةُ تَدْرَأُ حَدَّ الرِّدَّةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ فِي الْإِسْرَارِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا قَوِيٌّ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا فَضَعِيفٌ جِدًّا جِدًّا وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ذُهُولًا عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْقَطْعِيِّ الْمُتَوَاتِرِ وَالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَارَضَ بِرِوَايَاتٍ أُحَادِيَّةٍ، أَوْ بِنَظَرِيَّاتٍ جَدَلِيَّةٍ، وَأَصْحَابُ الْجَدَلِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَبَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ مِنْهُمْ يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْمُبْطِلُ بِخِلَابَتِهِ، إِذَا كَانَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ مِنْهَا الْقَوِيَّةُ وَالضَّعِيفَةُ، وَتَصَدَّى لَهُ الْأُلُوسِيُّ مُحَاوِلًا دَحْضَهَا تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ الَّذِي تَنَحَّلَهُ فِي الْكِبَرِ إِذْ كَانَ شَافِعِيًّا فَتَحَوَّلَ حَنَفِيًّا تَقَرُّبًا إِلَى الدَّوْلَةِ وَصَرَّحَ بِهَذَا التَّعَصُّبِ إِذْ قَالَ هُنَا: " عَلَى الْمَرْءِ نُصْرَةُ مَذْهَبِهِ وَالذَّبُّ عَنْهُ " إِلَخْ. وَهَذِهِ كُبْرَى زَلَّاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِعَدَمِ طَلَبِهِ الْحَقَّ

لِذَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ مَارَى فِي حُجَّةٍ لِإِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِهَا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْمُتَوَاتِرِ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ كَوْنِهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ مِنْ تَمَحُّلِ الْجَدَلِ، فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فِي الْقُرْآنِ أُلْحِقَتْ بِسُورِهِ كُلِّهَا إِلَّا وَاحِدَةً وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا فِي فَاتِحَتِهِ الَّتِي اقْتَدَوْا بِهَا فِي بَدْءِ كُتُبِهِمْ كُلِّهَا، إِنَّهُ لَقَوْلٌ وَاهٍ تُبْطِلُهُ عِبَادَتُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ، وَيَنْبِذُهُ ذَوْقُهُمْ، لَوْلَا فِتْنَةُ الرِّوَايَاتِ وَالتَّقْلِيدِ. فَتُعَارُضُ الرَّاوِيَاتِ اغْتَرَّ بِهِ أَفْرَادٌ مُسْتَقِلُّونَ، وَبِالتَّقْلِيدِ فُتِنَ كَثِيرُونَ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ. عَلَى أَنَّ الْأَلُوسِيَّ حَكَّمَ وِجْدَانَهُ وَاسْتَفْتَى قَلْبَهُ فِي بَعْضِ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَفْتَاهُ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَخَانَهُ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْهَا، وَأَوْرَدَ فِي حَاشِيَةِ تَفْسِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ إِشْكَالًا اسْتَكْبَرَهُ جِدَّ الِاسْتِكْبَارِ وَمَا هُوَ بِكَبِيرٍ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ عِبَارَتَيْهِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ " رُوحُ الْمَعَانِي ": " وَبِالْجُمْلَةِ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ اعْقِتَادُ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ جُزْءًا مِنْ سُورَةِ (1) مِنَ الْفُطْرِيَّاتِ! ! كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ سَلِمَ لَهُ وُجْدَانَهُ (! !) فَهِيَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَحَادِيثِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي قُرْآنِيَّتِهَا. أَوْ يُنْكِرَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا وَيَقُولَ بِسُنِّيَّتِهَا، فَوَاللهِ لَوْ مُلِئَتْ لِيَ الْأَرْضُ ذَهَبًا لَا أَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ أَمْكَنَنِي بِفَضْلِ اللهِ تَوْجِيهَهُ (! !) كَيْفَ وَكُتُبُ الْأَحَادِيثِ مَلْأَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدِي عَنِ الْإِمَامِ - يَعْنِي إِمَامَهُ الْجَدِيدَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ بِشَيْءٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَيْفَ لَا يَنُصُّ إِلَى آخَرِ عُمْرِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الدَّائِرِ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّلَاةِ مِنْ صِحَّتِهَا أَوِ اسْتِكْمَالِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَاطَ بِهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأُمُورِ الدِّيَانَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ وَالْعِتْقِ. وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْأَقْدَمُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "؟ وَكَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَهِيَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةٌ مَا نَصَّهُ: اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمُ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّ وَلَا يُنْفَى بِهِ. وَهُوَ إِشْكَالٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ (؟) وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْبَسْمَلَةِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ قَطْعِيَّةُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا (! !) وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِإِثْبَاتِهَا وَبَعْضُهُمْ بِإِسْقَاطِهَا، وَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ خَطِّهَا كَالصِّرَاطِ وَمُصَيْطِرٍ فَإِنَّهُمَا قُرِئَا بِالسِّينِ وَلَمْ يُكْتُبَا إِلَّا بِالصَّادِ (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) تُقْرَأُ بِالظَّاءِ

وَلَمْ تُكْتَبْ إِلَّا بِالضَّادِ فَفِي الْبَسْمَلَةِ التَّخْيِيرُ، وَتَتَحَتَّمُ قِرَاءَتُهَا فِي الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ احْتِيَاطِيًّا (! !) وَخُرُوجًا مِنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِيَقِينٍ لِتَوَقُّفِ صِحَّتِهَا عَلَى مَا أَسْمَاهُ الشَّرْعَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَافْهَمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ " اهـ أَقُولُ: نَعَمْ. إِنَّ اللهَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَقَدْ وَفَّقَ لِعِلْمِهِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُمُ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ) دُونَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ مِنْهُ مَا وَافَقَ رِوَايَةَ فُلَانٍ وَرَأْيَ فُلَانٍ، وَيُوجِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ نَصْرَهُ وَلَوْ بِتَأْوِيلِ مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ وَثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَوْلَا عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ، وَالْغُرُورُ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْأَثَرِيِّينَ، لَمَا اخْتَلَفَ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهَا قَوْلِيٌّ جَدَلِيٌّ لَا عَمَلِيٌّ. سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَعْجَبَ صُنْعَ اللهِ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ! أَيَقُولُ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأَلُوسِيُّ الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّزَّاعُ إِلَى اسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ التَّفْسِيرِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ رِضَائِهِ بِمَهَانَةِ جَهَالَةِ التَّقْلِيدِ: إِنَّ اسْتِشْكَالَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ " إِشْكَالٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ "؟ ثُمَّ يَرْضَى بِالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا يُقَرِّرُ بِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ. سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ هُوَ التَّنَاقُضُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَعَزُّ إِيرَادُ مِثَالٍ لِلْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ عَالِمٍ أَوْ عَنْ عَاقِلٍ؟ إِنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُ بِعَيْنَيِ التَّقْلِيدِ الْعَمْيَاوَيْنِ فَرَآهُ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، هُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ حَقِيرٌ ضَئِيلٌ قَمِيءٌ خَفِيٌّ كَالذَّرَّةِ مِنَ الْهَبَاءِ، أَوْ كَالْجُزْءِ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ لَا يُرَى وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِطَرِيقَةِ الْفَرْضِ، أَوْ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَالْجَوَابُ الْحَقُّ: أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ كَوْنَ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ نَفْيًا حَقِيقِيًّا بِرِوَايَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُصَرِّحُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ - كَمَا يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ بِشُبْهَةِ عَدَمِ رِوَايَةِ الْقُرَّاءِ لَهَا، وَشُبَهِ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَقْوَاهَا وَالْمَخْرَجَ مِنْهَا - أَوْ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءَ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ عَلَى النَّفْيِ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا. وَإِنَّمَا أَثْبَتَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَعَدَمُ نَقْلِ الْإِثْبَاتِ لِلشَّيْءِ لَيْسَ نَفْيًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً. وَأَعَمُّ مِنْ هَذَا، مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، مِنْ أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ عَدَمِهِ بَوْنًا بَعِيدًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَى التَّصْرِيحَ بِالنَّفْيِ لِجَزَمْنَا بِأَنَّ رِوَايَتَهُ بَاطِلَةٌ سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ سَنَدِهَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِثْبَاتِ بِإِثْبَاتِ النَّفْيِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا

أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ قَطْعِيَّيْنِ مَعًا، وَرِوَايَةُ الْإِثْبَاتِ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَنَاهِيكَ وَقَدْ عُزِّزَتْ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ بِتَوَاتُرِهِ خَطًّا وَتَلْقِينًا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مَا عَدَا الْفَصْلَ بَيْنَ سُورَتَيِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا رَأْيٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ لَمْ تُوضَعْ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ تُحْذَفْ مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ السُّورَةِ، وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ فِي بَدْءِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَمَا صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ كَوْنِهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ وَارْتَضَاهُ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صُدُورُهُ وَلَا إِقْرَارُهُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْمَنْطِقِيَّيْنِ وَيَفْتَخِرُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَوْجِيهُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ إِشْكَالٍ غَيْرِ وَارِدٍ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَيْسَ جَوَابًا عَنْ إِشْكَالٍ إِذْ لَا إِشْكَالَ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي مِثْلِ السِّرَاطِ وَالصِّرَاطِ، وَمُسَيْطِرٍ وَمُصَيْطِرٍ، وَضَنِينٍ، وَظَنِينٍ، لَيْسَ خِلَافًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ بَلْ هِيَ قِرَاءَاتٌ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، فَأَمَّا ضَنِينٌ وَظَنِينٌ فَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ - كَمَالِكٍ وَمَلِكٍ فِي الْفَاتِحَةِ - كُتِبَتْ قِرَاءَةُ الضَّادِ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي وُزِّعَ فِي الْأَمْصَارِ وَقَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَقِرَاءَةُ الظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى وَلَيْسَتَا مِنْ قَبِيلِ تَسْهِيلِ الْقِرَاءَةِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَخْرَجَيِ الْحَرْفَيْنِ قَرِيبًا، وَأَمَّا السِّرَاطُ وَالصِّرَاطُ وَمُسَيْطِرٌ وَمُصَيْطِرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا تَفْخِيمُ السِّينِ وَتَرْقِيقُهُ وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا نَطَقَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَثَبَتَ بِهِ النَّصُّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا صَحَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَتَسْهِيلِهَا، وَمِنَ الْإِمَالَةِ وَعَدَمِهَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَنُعِدُّ إِثْبَاتَ إِحْدَاهَا نَفْيًا لِمُقَابَلَتِهَا كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ. عَلَى أَنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَقْوَى الْحُجَجِ فَلَوْ فَرَضْنَا تَعَارُضَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَكَانَ هُوَ الْمُرَجَّحَ، وَلَكِنْ لَا تَعَارُضَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. نَكْتَفِي بِهَذَا رَدًّا لِمَا فِي كَلَامِ الْأَلُوسِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْنِينَا فِي مَوْضُوعِنَا وَلَا سِيَّمَا مَا رَجَّحَهُ عَنْ إِمَامِهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَعَلَّلَهُ بِإِطْلَاقِهِمْ عَلَيْهِ لَقَبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَزِيَادَتِهِ هُوَ عَلَيْهِمْ لَقَبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْدَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَقْدَمُ مِنْهُ اجْتِهَادًا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْقَابَ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهَا لَا تَقْتَضِي عَدَمَ الْخَطَأِ وَلَا عَدَمَ النِّسْيَانِ وَلَا إِهْمَالَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ. وَنَحْنُ يَسُرُّنَا أَنْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ، وَأَنْ يُخْطِئَ مَا أَنْكَرَهُ، فَإِنَّ مِنَ الْمَصَائِبِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ يُنْكِرُ مَا ثَبَتَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ الْمُتَوَاتِرِ كِتَابَةً وَرِوَايَةً. وَقَدْ نَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَيُسِرُّ بِهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَمْ لَا. (قَالَ الرَّازِيُّ) : وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟

فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللهِ، قَالَ (أَيِ السَّائِلِ لَهُ) : فَلِمَ تُسِرُّهُ؟ قَالَ: فَلَمْ يُجِبْنِي. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا لِمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا، إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُمْ بِإِخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ. وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: تَوَرَّعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنْهُ اهـ. أَقُولُ: مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَمْرِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِإِخْفَاءِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ. عَلَى أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ فِي الْأَحَادِيثِ فِيهَا الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْإِسْرَارُ، وَرِوَايَاتُ الْجَهْرِ أَقْوَى وَأَبْعَدُ عَنِ التَّعْلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ دَلَالَةَ الْمُصْحَفِ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ، تَرْجُحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَدَلَالَتُهَا قَطْعِيَّةٌ، تُؤَيِّدُهَا الرِّوَايَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي إِثْبَاتِهَا، وَالْإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ عَلَى قِرَاءَتِهَا، وَلَا يُنَافِيهَا عَدَمُ رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لَهَا. فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا اجْتِهَادِيَّةً بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهَا وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَضْلُ الْفَاتِحَةِ وَكَوْنُهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ مُخَاطِبًا خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (15: 87) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَثَانِيَ: أَنَّهَا تُثَنَّى وَتُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ لِفَرْضِيَّتِهَا فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهَا يُثْنَى فِيهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا أَمَرَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ: فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي تَفْصِيلِهَا وَكَوْنِهَا هِيَ الْمُرَادَةَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَرَوَى نَحْوَهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. ذَكَرَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ: " لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ - وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ أَنْ أَخْرَجَ - (قَالَ) : أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ " لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ " فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ تَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ قَالَ أُبَيٌّ: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي يُحَدِّثُنِي وَأَنَا أَتَبَاطَأُ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ الْبَابَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْحَدِيثُ وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنِ السُّورَةِ قَالَ: " كَيْفَ نَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ " فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ أُمَّ الْكِتَابِ فَقَالَ: " إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي

وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ ". وَفِيهِ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْفَاتِحَةَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَبْلَهُ فَهُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ - وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِتَعْلِيمِهِ هَذِهِ السُّورَةَ تَعْلِيمُهُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَكَوْنُهَا هِيَ الْمُرَادَةَ بِآيَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَأَمَّا عَطْفُ الْقُرْآنِ عَلَى " سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي " فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَوِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِرِوَايَةِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي " مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ. وَعَكَسَ الْآخَرُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لَفْظُهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ السُّورَةِ وَإِلَّا مَا صَحَّ قَوْلُهُ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا السَّبْعُ الْمَثَانِي: هِيَ آيَاتُ الْفَاتِحَةِ السَّبْعُ، وَهِيَ لَيْسَتْ سَبْعًا إِلَّا بِالْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْهَا، فَكَوْنُهَا مِنْهَا ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ بِآيَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ، كَمَا فَسَّرَهَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَكِبَارُ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِذْ لَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَدْ فَصَّلَهَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَأَجْمَلَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مَعَ بَيَانِ دَرَجَةِ أَسَانِيدِهَا بِقَوْلِهِ: وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنَ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ - زَادَ عَنْ عُمَرَ " تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ " " وَبِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ قَالَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَمِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ: قُلْتُ لِلرَّبِيعِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الطُّوَلُ (جَمْعُ طُولَى مُؤَنَّثِ أَطْوَلَ) قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا نَزَلَ مِنَ الطُّوَلِ شَيْءٌ. اهـ. يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ: يَعْنِي أَنَّ سُورَةَ الْحِجْرِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ السُّوَرِ السَّبْعِ الطُّوَلِ وَهُنَّ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ - الْمَدَنِيَّاتُ - وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ، وَيُونُسُ - الْمَكِّيَّاتُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي السَّابِعَةِ: إِنَّهَا سُورَةُ يُونُسَ، قَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْأَنْفَالُ، وَبَرَاءَةٌ - وَعَدَّهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ السَّابِعَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا السَّبْعُ الطُّوَلُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ قُوَّةَ الْإِسْنَادِ لَا قِيمَةَ لَهَا تُجَاهَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ عَلَى بُطْلَانِ مَتْنِ الرِّوَايَةِ.

اسْتِدْرَاكٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَفْسِيرُ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بِالْيَهُودِ، وَ (الضَّالِّينَ) بِالنَّصَارَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَقَلْنَا عَنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ (ص 55) عَزْوَهُ إِلَى بَعْضِهِمْ، أَيْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَارَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَجْهَلُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ ـ مَعَ هَذَا ـ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا اللَّفْظَيْنِ بِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ لُغَةً حَتَّى بَعْضَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ الْمُلَقَّبُ بِمُحْيِي السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهِ (مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ) بَعْدَ تَفْسِيرِهِمَا بِمَدْلُولِهِمَا اللُّغَوِيِّ، " قِيلَ: الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالْغَضَبِ فَقَالَ: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) وَحَكَمَ عَلَى النَّصَارَى بِالضَّلَالِ فَقَالَ: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْبِدْعَةِ، وَلَا الضَّالِّينَ عَنِ السُّنَّةِ اهـ. فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِقِيلِ الدَّالِّ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: غَيْرُ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ فَسَدَتْ إِرَادَتُهُمْ فَعَلِمُوا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ، وَلَا صِرَاطِ الضَّالِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعِلْمَ، فَهُمْ هَائِمُونَ فِي الضَّلَالَةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ بِـ " لَا " لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَسْلَكَيْنِ فَاسِدَيْنِ وَهُمَا: طَرِيقَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. اهـ. وَبَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ فِي إِعْرَابِ " غَيْرِ " وَ " لَا " إِنَّمَا جِيئَ بِـ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَتَيْنِ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْيَهُودُ فَقَدُوا الْعَمَلَ وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَبُ لِلْيَهُودِ، وَالضَّلَالُ لِلنَّصَارَى ـ وَاسْتَشْهَدَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَشْهَدَ بِهِمَا الْبَغَوِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرِوَايَاتِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَكَذَا ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ، حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَسِمَاكٌ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بَلْ خَرِفَ، فَمَا رَوَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَلَا جِدَالَ فِي رَدِّهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَخْرَجَهُ

ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا بِسَنَدٍ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، إِنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي تَفْسِيرِهِمَا بِمَا ذَكَرَ خِلَافًا يَعْنِي الْمَأْثُورَ، وَمَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى لَا يُعَدُّ مُخَالَفَةً لِلْمَأْثُورِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْعَامِّ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ، مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّخْصِيصِ، وَلَا الْحَصْرِ بِالْأَوْلَى. (التَّأْمِينُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: آمِينَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا تَلَا (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: آمِينَ. حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: " حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ " وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقَالَ: آمِينَ. يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. اهـ (مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ) . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَأَخْرَجَهَا غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْأَخِيرِ مِنْهَا " وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ " قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَخَطَّأَ ابْنَ الْقَطَّانِ فِي إِعْلَانِهِ إِيَّاهُ بِجَهَالَةِ حُجْرِ بْنِ عَنْبَسٍ وَقَالَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ مَعَ هَذِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَهَذِهِ أَصَحُّهَا. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلنَّدْبِ، وَحَكَى ابْنُ بَزِيزَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وُجُوبَهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَأَوْجَبَتْهُ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُصَلِّي، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ وُجُوبُهُ عَلَى الْمَأْمُومِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ مُقَيِّدًا بِأَنْ يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ فَمَنْدُوبٌ فَقَطْ. (قَالَ) : وَحَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْعِتْرَةِ جَمِيعًا، أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ عَرَفْتُ ثُبُوتَهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ فِعْلِهِ وَرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ ـ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى السَّيِّدُ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ عَنِ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ.

مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَهِّرِ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّتِهِمُ الْمَشَاهِيرِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ (الرِّيَاضُ النَّدِيَّةُ) : إِنَّ رُوَاةَ التَّأْمِينِ جَمٌّ غَفِيرٌ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى. اهـ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ " إِنَّ هَذِهِ صَلَاتُنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ " وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَادِيثَ التَّأْمِينِ خَاصَّةٌ وَهَذَا عَامٌّ، وَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثُهُ الْوَارِدَةُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَقْوَى بَعْضُهَا عَلَى تَخْصِيصِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ مَعَ أَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ، فَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ تَشَهُّدٌ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْعِتْرَةُ، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي إِثْبَاتِهِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ تَكْلِيمُهُمْ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ لَا تَكَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ: هُوَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيَّ شَمَّتَ عَاطِسًا فِي الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَمَاهُ الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ: وَا ثُكْلَ أُمَّاهُ، مَالَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ التَّأْمِينَ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ بِعُمُومِ أَحَادِيثَ أُخْرَى لَا تُنَافِيهَا، وَلَوْ عَارَضَتْهَا لَوَجَبَ تَرْجِيحُهَا عَلَيْهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُومِ، هَلْ هُوَ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) أَمْ عِنْدَ قَوْلِهِ: " آمِينَ "؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضًا، وَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِمَامِ إِنَّمَا يُؤَمِّنُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ مُتَّفِقٌ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا " مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَقِبَ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فَلَا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ فِيهِ. (فَائِدَةٌ فِي مَخْرَجَيِ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَحُكْمُ تَحْرِيفِ الْأَوَّلِ) قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْإِخْلَالُ بِتَحْرِيرِ مَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّادَ مَخْرَجُهَا مَنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ، وَمَخْرَجُ الظَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَرْفَيْنِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَجْهُورَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الرِّخْوَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الْمُطْبِقَةِ، فَلِهَذَا كُلِّهِ اغْتُفِرَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا مَكَانَ الْآخَرِ لِمَنْ لَا يُمَيِّزُ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: " أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ " فَلَا أَصْلَ لَهُ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ أَرَادُوا الْفِرَارَ مِنْ جَعْلِ الضَّادِ ظَاءً، كَمَا يَفْعَلُ التُّرْكُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ، فَجَعَلُوهَا أَقْرَبَ إِلَى الطَّاءِ مِنْهَا إِلَى الضَّادِ حَتَّى الْقُرَّاءُ الْمُجَوِّدُونَ مِنْهُمْ،

إِلَّا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ تُونُسَ فَهُمْ عَلَى مَا نَعْلَمُ أَفْصَحُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ نُطْقًا بِالضَّادِ، وَإِنَّنَا نَجِدُ أَعْرَابَ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا يَنْطِقُونَ بِالضَّادِ فَيَحْسَبُهَا السَّامِعُ ظَاءً لِشِدَّةِ قُرْبِهَا مِنْهَا وَشَبَهِهَا بِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْأَوَّلِينَ حَتَّى اشْتَبَهَ نَقَلَةُ الْعَرَبِيَّةِ عَنْهُمْ فِي مُفْرَدَاتٍ كَثِيرَةٍ قَالُوا: إِنَّهَا سُمِعَتْ بِالْحَرْفَيْنِ وَجَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا مِنْهُمْ فَلَمْ يُفَرِّقُوا، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ. وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) بِكُلٍّ مِنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَالضَّنِينُ: الْبَخِيلُ، وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَفَائِدَتُهُمَا نَفْيُ كُلٍّ مِنَ الْبُخْلِ وَالتُّهْمَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ بِبَخِيلٍ فِي تَبْلِيغِهِ فَيَكْتُمَ، وَلَا بِمُتَّهَمٍ فَيَكْذِبَ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَهُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بِالظَّاءِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالضَّادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهِمَا. وَإِتْقَانُ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَاجِبٌ، وَمَعْرِفَةُ مَخْرَجَيْهِمَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَارِئِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَجَمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنْ فَرَّقُوا فَفَرْقًا غَيْرُ صَوَابٍ وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ مِنْ أَصْلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ مِنْ يَمِينِ اللِّسَانِ وَيَسَارِهِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَضْبَطَ: يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَكَانَ يُخْرِجُ الضَّادَ مِنْ جَانِبَيْ لِسَانِهِ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الشَّجَرِيَّةِ أُخْتُ الْجِيمِ وَالشِّينِ، وَأَمَّا الظَّاءُ فَمَخْرَجُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا. وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الذَّوْلَقِيَّةِ، أُخْتُ الذَّالِ وَالثَّاءِ، وَلَوِ اسْتَوَى الْحَرْفَانِ لَمَا ثَبَتَتْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِرَاءَتَانِ اثْنَتَانِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ. وَلَمَا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّرْكِيبُ. اهـ. وَأَقُولُ: صَدَقَ أَبُو الْقَاسِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَحْقِيقِهِ هَذَا كُلِّهِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ الْبَوْنَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ بَعِيدٌ، فَالْفَرْقُ ثَابِتٌ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ طَرَفِ اللِّسَانِ بِالظَّاءِ بَيْنَ الثَّنَايَا كَأُخْتَيْهِ الثَّاءِ وَالذَّالِ، وَلَا شِرْكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذَا. (التَّوَسُّعُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ) إِنَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ تَلْخِيصٍ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا وَمِمَّا قَرَأْنَاهُ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ مَا زِدْنَاهُ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ وَفِي هَذِهِ الْفَوَائِدِ الزَّوَائِدِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّفَقُّهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءُ بِهِ، وَقَدِ اقْتَصَدْنَا فِيهِ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا لَا يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ الْمَقْصِدِ، وَقَدْ أَطَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي اسْتِطْرَادَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَمَسَائِلَ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ لَوَازِمَ لِلْمَعَانِي قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَلَكِنَّهَا تَشْغَلُ مُرِيدَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " مَدَارِجِ السَّالِكِينَ " الْقَوْلَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثَةِ: الْمُطَابَقَةُ، وَالتَّضَمُّنُ، وَالِالْتِزَامُ، وَأَخَذَ فِي الثَّالِثَةِ بِاللُّزُومِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَبِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِاللُّزُومِ غَيْرِ الْبَيِّنِ أَيْضًا، بَلْ سَمَّى كِتَابَهُ " مَدَارِجَ السَّالِكِينَ، بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وَأَجْمَلَ ذَلِكَ.

بِقَوْلِهِ: فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ، إِنَّهُ يُنَبِّهُ " عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ: مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهَا وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا " اهـ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ: فُصُولٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْوَحْدَةِ، وَالْمَجُوسِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، وَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمُسْتَنْبَطَاتِ، وَمُسْتَنْبَطَاتِ الرَّازِيِّ: أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، وَأَكْثَرَ هَذِهِ فِي الْمَقَاصِدِ الرُّوحِيَّةِ التَّعَبُّدِيَّةِ لِتِلْكَ الْمُصْطَلَحَاتِ وَالْعُلُومِ، فَهِيَ تَزِيدُ قَارِئَهَا دِينًا وَإِيمَانًا وَتَقْوَى، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهُمَا تَفْسِيرًا لِلْفَاتِحَةِ، وَلَوْ كُنَّا نَعُدُّهُ تَفْسِيرًا لَاقْتَبَسْنَاهُ أَوْ لَخَّصْنَاهُ فِي هَذِهِ الْفَوَائِدِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ مَنَازِعُ فِيهَا أَبْعَدُ عَنِ اللُّغَةِ وَالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، جَرَّأَتْ مِثْلَ الدَّجَّالِ مِيرْزَا غُلَامْ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيَّ، الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالْوَحْيَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ - جَرَّأَتْهُ عَلَى ادِّعَاءِ دَلَالَةِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ! ! وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَةَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ مَذْهَبًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظِ الْعَالَمِينِ ـ مَثَلًا ـ يَقْتَضِي بَيَانَ كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنْ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَأَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَيِ (الرَّحْمَنِ) وَ (الرَّحِيمِ) يَقْتَضِي بَيَانَ كُلِّ مَا يُعْرَفُ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ بِخَلْقِهِ وَإِلَى خَلْقِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَاتِّبَاعُ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ آيَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ مِنْهَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِكِتَابَةِ أُلُوفٍ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ يُدَوَّنُ فِيهَا كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ فِي أَعْيَانِ الْعَالَمِ، وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مِنْ أَدْنَى الْحَشَرَاتِ إِلَى أَرْقَى الْبَشَرِ مِنْ حُكَمَاءِ الصِّدِّيقِينِ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ عُدَّ مِثْلُ هَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ إِضْلَالٌ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي التَّفْسِيرِ تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِ بِأَلَا يَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنِعَمِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، عِنْدَ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَنَزَعَ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ وَالْمُخَرِّفِينَ مَنْزَعًا آخَرَ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ الْيَهُودَ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعَانِي مِنْ أَعْدَادِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ السَّاعَةِ سَيَكُونُ فِي سَنَةِ 1407 لِلْهِجْرَةِ، وَهُوَ عَدَدُ حُرُوفِ " بَغْتَةً " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وَلِهَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ وَفِي أَعْدَادِهَا ضَلَالَاتٌ لَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِكِتَابَتِهَا، فَلِدَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي طُرُقٌ فِي اللُّغَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.

مَا يَنْبَغِي تَدَبُّرُهُ وَاسْتِحْضَارُهُ مِنْ مَعَانِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الصَّلَاةِ إِذَا قُمْتَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجِّهْ كُلَّ قَلْبِكَ فِيهَا إِلَى اسْتِحْضَارِ كُلِّ مَا يَتَحَرَّكُ بِهِ لِسَانُكَ مِنْ ذِكْرٍ وَتِلَاوَةٍ. فَإِذَا قُلْتَ: " اللهُ أَكْبَرُ " فَحَسِبَكَ أَنْ تَذْكُرَ فِي قَلْبِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْظَمُ مَنْ كُلِّ عَظِيمٍ، وَأَكْبَرُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْغَلَكَ عَنِ الصَّلَاةِ لَهُ أَوْ فِيهَا شَيْءٌ دُونَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ. وَإِذَا قَرَأْتَ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِ الِافْتِتَاحِ فَلَا تَشْغَلْ نَفْسَكَ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللهِ تَعَالَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (16:98) فَتَصَوَّرْ مِنْ مَعْنَى صِيغَةِ الِاسْتِعَاذَةِ أَنَّكَ تَلْجَأُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ لِكِتَابِهِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَعَالَى. وَإِذَا قَرَأْتَ الْبَسْمَلَةَ فَاسْتَحْضِرَ مِنْ مَعْنَاهَا:إِنَّنِي أُصَلِّي (بِسْمِ اللهِ) وَلِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الصَّلَاةَ وَأَقْدَرَنِي عَلَيْهَا (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ذِي الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَالْخَاصَّةِ بِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ. وَإِذَا قُلْتَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَاسْتَحْضِرْ مِنْ مَعْنَاهَا أَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ بِالْحَقِّ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقًا وَفِعْلًا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الرَّبُّ خَالِقُ الْعَالَمِينَ وَمُدَبِّرُ جَمِيعِ أُمُورِهِمْ (الرَّحْمَنِ) فِي نَفْسِهِ (الرَّحِيمِ) بِخَلْقِهِ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ذِي الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ غَيْرِهِ يَوْمَ مُحَاسَبَةِ الْخَلْقِ وَمُجَازَاتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَإِذَا قُلْتَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إِلَخْ فَتَذَكَّرْ أَنَّكَ تُخَاطِبُ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ كِفَاحًا بِمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صَادِقًا فِيهِ، وَمَعْنَاهُ نَعْبُدُكَ وَحْدَكَ دُونَ سِوَاكَ بِدُعَائِكَ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْكَ (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نَطْلُبُ مَعُونَتَكَ وَحْدَكَ عَلَى عِبَادَتِكَ وَعَلَى جَمِيعِ شُئُونِنَا، بِالْعِلْمِ بِمَا أَعْطَيْتَنَا مِنَ الْأَسْبَابِ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَحْدَكَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) دُلَّنَا وَأَوْصِلْنَا بِتَوْفِيقِكَ وَمَعُونَتِكَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا زَلَلَ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَثَمَرَتِهِمَا وَهِيَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَتَذَكَّرْ إِجْمَالًا أُولَئِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ " وَأَنَّ حَظَّكَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِصِرَاطِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّأَسِّي وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمُرَافَقَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنْكَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ) بِإِيثَارِهِمُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَتَرْجِيحِهِمُ

الشَّرَّ عَلَى الْخَيْرِ (وَلَا الضَّالِّينَ) عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِجَهْلِهِمْ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) . وَأَنْصَحُ لَكَ أَيُّهَا التَّالِي لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَنْ تَقْرَأَهُ عَلَى مُكْثٍ وَتَمَهُّلٍ، بِخُشُوعٍ وَتَدَبُّرٍ، وَأَنْ تَقِفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيَاتِ، وَتُعْطِيَ الْقِرَاءَةَ حَقَّهَا مِنَ التَّجْوِيدِ وَالنَّغَمَاتِ، مَعَ اجْتِنَابِ التَّكَلُّفِ وَالتَّطْرِيبِ، وَاتِّقَاءِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَلْفَاظِ عَنِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ مَعَ الْغَفْلَةِ، وَمِنَ الْمُجَرَّبَاتِ: أَنَّ تَغْمِيضَ الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ يُثِيرُ الْخَوَاطِرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ الْمُعْتَدِلِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ يَطْرُدُ الْغَفْلَةَ، وَيُوقِظُ رَاقِدَ الْخَشْيَةِ، وَإِعْطَاءَ كُلِّ أُسْلُوبٍ حَقَّهُ مِنَ الْأَدَاءِ وَالصَّوْتِ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ، وَيَسْتَفِيضُ مَا غَاضَ بِطُولِ الْغَفْلَةِ مِنْ شَآبِيبِ الدَّمْعِ. (رَاجِعْ بَحْثَ تَأْثِيرِ التِّلَاوَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ)

(سُورَةُ الْبَقَرَةِ 2) جَمِيعُهَا مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهَا آيَةٌ نَزَلَتْ عَلَى مَا قِيلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا آخَرُ آيِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَهِيَ (وَاتَّقَوْا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (281) إِلَخْ وَمُعْظَمُهَا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ أَطْوَلُ جَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ، أَوْ سِتٌّ، وَعَلَيْهِ عَدُّ الْمَصَاحِفِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ التَّنَاسُبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّنَاسُبُ ظَاهِرًا، فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ بَعْدَهَا لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ بَعْدَ فَاتِحَتِهِ (الَّتِي كَانَتْ فَاتِحَتَهُ بِمَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِهَا) لِأَنَّهَا أَطْوَلُ سُورَةٍ وَتَلِيهَا بَقِيَّةُ السَّبْعِ الطِّوَالِ بِتَقْدِيمِ الْمَدَنِيِّ مِنْهَا عَلَى الْمَكِّيِّ، لَا الطُّولَى فَالطُّولَى، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ أَطْوَلُ مِنَ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بَعْدَهَا، وَالْأَعْرَافَ أَطْوَلُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَقَدْ أُخِّرَتْ عَنْهَا، وَقُدِّمَتِ الْأَنْفَالُ عَلَى التَّوْبَةِ وَهِيَ أَقْصَرُ مِنْهَا، وَكِلْتَاهُمَا مَدَنِيَّتَانِ، وَإِنَّمَا رُوعِيَ الطُّولُ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ الْأَفْرَادِ، وَرُوعِيَ التَّنَاسُبُ أَيْ تَرْتِيبُ ذَلِكَ، وَيَرَاهُ الْقَارِئُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا، ثُمَّ مُزِجَ الْمَدَنِيُّ بِالْمَكِّيِّ فِي سَائِرِ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أُسْلُوبِهِمَا وَمَسَائِلِهِمَا أَدْنَى إِلَى تَنْشِيطِ الْقَارِئِ، وَأَنْأَى بِهِ عَنِ الْمَلَلِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَسْتَدْرِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا فَاتَنَا مِنْ آخِرِهِ مِنْ تَلْخِيصِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، فَنَقُولُ: (خُلَاصَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ) دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ الْعَامَّةُ: بَدَأَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا مَجَالَ فِيهِ لِشَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، وَجَعَلَ النَّاسَ تُجَاهَ هِدَايَتِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: 1 - الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ وَيُقِيمُونَ رُكْنَيِ الدِّينِ: الْبَدَنِيِّ الرُّوحِيِّ، وَالْمَالِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بِتَأْثِيرِ إِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ، إِذْ يَرَوْنَهُ أَكْمَلَ مِنْهَا هِدَايَةً وَأَصَحَّ رِوَايَةً، وَأَقْوَى دَلَالَةً. ثُمَّ فَصَّلَ هَذِهِ الْأُصُولَ لِلْإِيمَانِ فِي آيَةِ (لَيْسَ الْبِرَّ) (177) إِلَخْ. وَآيَةِ (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (284) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ 285. 2 - الْكَافِرُونَ الرَّاسِخُونَ فِي الْكُفْرِ وَطَاعَةِ الْهَوَى، وَالَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى. -

الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُخْفُونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (فَهَذِهِ آيَاتُهَا الْأَوْلَى إِلَى الْآيَةِ 20) وَقَفَّى عَلَى هَذَا بِدَعْوَةِ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لَهُ، الَّذِينَ يُحَبُّونَ مِنْ جِنْسِ حُبِّهِ، وَيُذْكُرُونَ مَعَهُ فِي مَقَامَاتِ ذِكْرِهِ، وَيُشْرَكُونَ مَعَهُ فِي مُخِّ الْعِبَادَةِ - الدُّعَاءِ - أَوْ يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِهِ (انْظُرِ الْآيَتَيْنِ 21 و22 وَآيَاتِ الْإِسْلَامِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَوَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ 124 - 141 كَمَا يَأْتِي، وَالْآيَاتِ الَّتِي سَنُشِيرُ إِلَيْهَا فِي خِطَابِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ مِنْ 163 - 172) . ثُمَّ ثَنَّى دَعْوَةَ التَّوْحِيدِ بِدَعْوَةِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَاحْتَجَّ عَلَى حَقِّيَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِتَحَدِّي النَّاسِ كَافَّةً بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مَعَ التَّصْرِيحِ الْقَطْعِيِّ بِعَجْزِهِمْ أَجْمَعِينَ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ بِالنَّارِ، وَتَبْشِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَقَفَّى عَلَى هَذَا بِبَيَانِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَبِخُلَاصَةِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ. وَتَمَّ ذَلِكَ بِالْآيَةِ (39) . ثُمَّ خَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدَّعْوَةِ، تَالِيًا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ لَوْلَا وَحْيُهُ تَعَالَى لَهُ، فَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاصِرُونَ لَهُ مِنْهُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَحَاجَّهُمْ فِي الدِّينِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَبِأَهَمِّ الْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ لِسَلَفِهِمْ مَعَ كَلِيمِهِ، مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ، وَطَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ لَهُمْ وَلِلْعَرَبِ بِهَدْيِ جَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَبِنَائِهِ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مَعَ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَدُعَائِهِمَا إِيَّاهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَبِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَبَشَّرَ بِهِ مُوسَى كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَبِأَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَيْ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِوَعْدِ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لِمُوسَى بِقِيَامِ نَبِيٍّ مِنْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلِهِ. بُدِئَ هَذَا السِّيَاقُ بِالْآيَةِ 40 مِنَ السُّورَةِ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إِلَخْ. وَانْتَهَى بِالْآيَةِ 142 مِنْهَا، وَتَخَلَّلَهُ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمُوَجَّهَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِلِاعْتِبَارِ بِمَا فِيهِ مِنْ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ مِنَ الْيَهُودِ بِالتَّفْصِيلِ وَمِنَ النَّصَارَى بِالْإِجْمَالِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُجَاوِرًا وَلَا مُخَالِطًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْبَقَرَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ عَهْدِ الْهِجْرَةِ. وَمَا تَقَدَّمَ يُنَاهِزُ نِصْفَ السُّورَةِ، وَهُوَ شَطْرُهَا الْخَاصُّ بِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي قَدْ وُجِّهَ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ. خِطَابُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِمَوْضُوعِ الدَّعْوَةِ الْعَامِّ: كَانَ الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى خِطَابِ أَهْلِ الْقُرْآنِ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ قَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ مُحَمَّدٍ مِنْ نَسَبِ إِبْرَاهِيمَ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى فَضْلِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ إِجْمَالًا كَالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ

اخْتَلَفَ فِيهَا الْقَوْمَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ حَيْثُ تَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَهُوَ قِبْلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ الَّتِي هِيَ فِي جَنُوبِهَا، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ فِي شَمَالِهَا، فَأَعْطَى اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ سُؤْلَهُ بِأَمْرِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَحْدَهَا، وَمَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ وَخَصَائِصِهَا الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ النَّصَارَى - وَهُمْ فِي الْأَصْلِ مَعَ رَسُولِهِمْ (عِيسَى الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) مِنْ أَتْبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ - قَدْ مَيَّزُوا أَنْفُسَهُمْ دُونَ الْيَهُودِ بِابْتِدَاعِ قِبْلَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ غَيْرَ قِبْلَةِ عِيسَى رَسُولِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا لَهُمْ، وَهِيَ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. بَعْدَ تَأْكِيدِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَيَّنَ وَظَائِفَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ كَمَا فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ وَتَرْبِيَةُ الْأُمَّةِ، وَتَعْلِيمُهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَمَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنَ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (151) ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ تَعَالَى، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ، وَذَكَرَ التَّطْوَافَ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمُنَاسَبَةٍ اقْتَضَاهَا الْمَقَامُ، وَلَعَنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى بَعْدَ تَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، وَاسْتَثْنَى مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ وَبَيَّنَ وَأَنَابَ، وَسَجَّلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَكَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَسَاسَ الْأَعْظَمَ لِلدِّينِ، تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ، بِتَخْصِيصِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (163) وَقَرَنَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِآيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُقَابِلُ هَذَا التَّوْحِيدَ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَالِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَشَنَّعَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَرَّدَهُمْ مِنْ حِلْيَةِ الْعَقْلِ. وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ وَالْبُكْمِ الْعُمْيِ. وَانْتَهَى هَذَا بِالْآيَةِ (171) . ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ مِنْ أَجْنَاسِ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا، وَحَصَرَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَاسْتَثْنَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ الْمُجْمَلَةِ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهَا الَّذِي هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى بِتَحْكِيمِ الْأَهْوَاءِ، وَقَفَّى عَلَى هَذَا كُلِّهِ بِوَعِيدِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ، إِيذَانًا بِوُجُوبِ الدَّعْوَةِ وَبَيَانِ الْحَقِّ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ، وَتَحْذِيرًا مِمَّا وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّحْرِيفِ وَالنِّسْيَانِ لِحَظٍّ عَظِيمٍ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ.

وَخَتَمَ هَذَا السِّيَاقَ الْعَامَّ بِبَيَانِ أُصُولِ الْبِرِّ وَمَجَامِعِهِ فِي الْآيَةِ الْمُعْجِزَةِ الْجَامِعَةِ لِكُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (177) إِلَخْ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِسِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ بُدِئَ بِأَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى مِنَ (الْآيَةِ 178) وَانْتَهَى بِأَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ أُمُورِ الِاجْتِمَاعِ وَقَوَاعِدِهِ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَجْزِئَةِ الْقُرْآنِ الثَّلَاثِينِيَّةِ وَسَنَذْكُرُ أَنْوَاعَهَا. ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ عَلَى بَدْئِهِ فِي الْعَقَائِدِ الْعَامَّةِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَحُجَجِهِ وَالْبَعْثِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ سِيَاجُ الدِّينِ وَنِظَامُ الدُّنْيَا، وَرَأْسُهَا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْإِخْلَاصُ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَى مَا قَبْلَ خَتْمِ السُّورَةِ كُلِّهَا بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَهَاكَ بَيَانَ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَنْوَاعِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ: خِطَابُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِالْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ: كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْهَا تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الْأُمَّةِ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنْوَاعٌ، نُلَخِّصُهَا فِيمَا يَلِي: 1 - إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ بِمَدْحِ أَهْلِهِمَا فِي (الْآيَةِ 3) وَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي (الْآيَةِ 110) . 2 - تَحْرِيمُ السِّحْرِ، وَكَوْنُهُ فِتْنَةً وَكُفْرًا أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِلْكُفْرِ (الْآيَةَ 102) . 3 - أَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا وَحِكْمَتُهُ (الْآيَتَانِ 178 و179) . 4 - الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (الْآيَاتِ 180 - 182) . 5 - أَحْكَامُ الصِّيَامِ مُفَصَّلَةً، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ (الْآيَاتِ 183 - 187) . 6 - تَحْرِيمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِدْلَاءِ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى أَكْلِ فَرِيقٍ مِنْهَا بِالْإِثْمِ، كَمَا هُوَ الْفَاشِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ (الْآيَةَ 188) . 7 - جَعْلُ الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ هِيَ الْمُعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي الْمَوَاقِيتِ الدِّينِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَمِنْهَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ (الْآيَةَ 189) ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ (الْآيَةَ 226) ، وَعِدَّةُ النِّسَاءِ (الْآيَةَ 228) . 8 - أَحْكَامُ الْقِتَالِ وَكَوْنُهُ ضَرُورَةً مُقَيِّدَةً بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُنَا وَيُهَدِّدُ حُرِّيَّةَ دِينِنَا دُونَ غَيْرِهِمْ وَبِتَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، وَغَايَتُهُ مَنْعُ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ فِيهِ، وَالتَّعْذِيبُ وَالْإِيذَاءُ لِلصَّدِّ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْهُ أَحْكَامُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ (الْآيَاتِ 190 - 194، 216 - 218 ثُمَّ 244 - 252) . 9 - الْأَمْرُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْوِقَايَةِ مِنَ التَّهْلُكَةِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْفَاقَ

لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلسِّلْمِ وَمَنْعِ الْقِتَالِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَنْعِ الْعُدْوَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالنُّظُمِ الضَّارَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ (الْآيَةَ 195) ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ هَلَاكِ الْآخِرَةِ (فِي الْآيَةِ 254) ثُمَّ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْوَعْدُ بِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَأَكْثَرَ، وَبَيَانُ شَرْطِ قَبُولِهِ وَآدَابِهِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلْإِخْلَاصِ وَلِلرِّيَاءِ فِيهِ فِي سِيَاقٍ طَوِيلٍ (الْآيَاتِ 261 - 274) . 10 - أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (الْآيَاتِ 196 - 203) . 11 - النَّفَقَاتُ وَالْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا مِنَ النَّاسِ (الْآيَاتِ 215 و219 و273) . 12 - تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَحْرِيمًا ظَنَّيًّا اجْتِهَادِيًّا رَاجِحًا غَيْرَ قَطْعِيٍّ تَمْهِيدًا لِلتَّحْرِيمِ الصَّرِيحِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ (الْآيَةَ 219) . 13 - مُعَامَلَةُ الْيَتَامَى وَمُخَالَطَتُهُمْ فِي الْمَعِيشَةِ (الْآيَةَ 220) . 14 - تَحْرِيمُ إِنْكَاحِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِنْكَاحِ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنَاتِ (الْآيَةَ 221) . 15 - تَحْرِيمُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ، وَفِي غَيْرِ مَكَانِ الْحَرْثِ، وَوُجُوبُ إِتْيَانِهِنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ (الْآيَتَانِ 222 و223) . 16 - بَعْضُ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ بِاللهِ، كَجَعْلِهَا مَانِعَةً مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِيَمِينِ اللَّغْوِ (الْآيَتَانُ 224 و225) . 17 - حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنَ النِّسَاءِ (الْآيَتَانِ 226 و227) . 18 - أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالرَّضَاعَةِ وَالْعِدَّةِ وَخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَنَفَقَتِهَا وَمُتْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ (الْآيَاتِ 228 - 237 و241) . 19 - حَظْرُ الرِّبَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِرُءُوسِ الْأَمْوَالِ مِنْهُ وَإِيجَابُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، أَيْ إِمْهَالُهُ إِلَى مَيْسَرَةٍ (الْآيَاتِ 275 - 280) . 20 - أَحْكَامُ الدَّيْنِ مِنْ كِتَابَةٍ وَإِشْهَادٍ وَشَهَادَةٍ وَحُكْمِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهَا وَالرِّهَانِ وَوُجُوبِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ (الْآيَتَانُ 282 و283) . 21 - خَاتِمَةُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ: الدُّعَاءُ الْعَظِيمُ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ.

(الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ) (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) إِنَّ اتِّبَاعَ هَدْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رُسُلِهِ وَهُوَ الدِّينُ مُوجِبٌ لِلسَّعَادَةِ بِأَنَّ أَصْحَابَهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَهَذَا وَعْدٌ يَشْمَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لِإِطْلَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الدُّنْيَا إِضَافِيٌّ مُطَّرِدٌ فِي الْأُمَمِ، وَإِضَافِيٌّ مُقَيِّدٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي الْأَفْرَادِ، وَفِي الْآخِرَةِ حَقِيقِيٌّ مُطَّرِدٌ لِلْجَمِيعِ، وَمُوجِبٌ لِشَقَاءِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَتِهِ عَلَى وَجْهِهَا عَلَى نِسْبَةِ مُقَابَلِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ وَمَنْ مَعَهُ: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) الْآيَةَ 38 وَالَّتِي بَعْدَهَا 39. وَرَاجِعْ مَعْنَاهُمَا فِي سُورَةِ طه (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يْشَقَى) (20: 123) الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى (128) فَهِيَ مُوَضِّحَةٌ لِمَا أَرَدْنَا هُنَا. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الْآيَةَ 40، وَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِسَعَادَةِ الدِّينِ بِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِإِقَامَتِهِ، فَاللهُ يَقُولُ: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) فِي بَابِ الْإِطْلَاقِ، وَيَقُولُ فِي بَابِ التَّقْيِيدِ: (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرُكُمْ) وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى التَّقَيُّدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى، وَمِثْلُهُ (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) رَاجِعِ الْآيَاتِ 84 - 86. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَلِلْمَعْقُولِ الْفِطْرِيِّ، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ قُبْحُ عَمَلِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ يَتْرُكُهُ، أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ يَفْعَلُهُ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ أَهْلًا لَأَنْ يُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ تَرْجِيحِ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ وَالْإِرْشَادِ إِلَى طَلَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا يُقَابِلُهُ، وَفِي طَلَبِ الْمَعَالِي وَالْكَمَالِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (: 130) .

(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا) الْآيَةَ 62 صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُصُولَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ 83 مِنْ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ مَنُوطَةٌ بِالثَّلَاثَةِ. (الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ) أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ إِيمَانٌ وَعَمَلٌ. وَمِنَ الْغُرُورِ أَنْ يَظُنَّ الْمُنْتَمِي إِلَى دِينِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهُ يَنْجُو مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ مَا حَكَاهُ اللهُ لَنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ وَمَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا نَتَّبِعَ سُنَنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) الْآيَاتِ 80 - 82 وَمَا حَكَاهُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ 111 و112، وَلَكِنَّنَا قَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ مِصْدَاقًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَإِنَّمَا نَمْتَازُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا. وَبِحِفْظِ نَصِّ كِتَابِنَا كُلِّهِ وَضَبْطِ سُنَّةِ نَبِيِّنَا فِي بَيَانِهِ، وَبِأَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنَّا قَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ) أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ: الْإِذْعَانُ النَّفْسِيُّ لِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَمَأْخَذُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْآيَةَ 83 إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 86 وَقَوْلُهُ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) الْآيَةَ 100، فَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْعَمَلِ بِجَهَالَةٍ فَهُوَ فَاسِقٌ إِلَى أَنْ يَتُوبَ، وَمَنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ كَانَ كَافِرًا بِهِ، وَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الْآيَةَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكُفْرِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ بِهِ صَاحِبُهُ مِنَ الْمِلَّةِ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا لَهُ بِحَدِيثِ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إِلَخْ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْأَفْرَادِ الَّذِي تَغْلِبُهُمْ عَلَيْهِ دَاعِيَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِالشَّرْعِ الْإِلَهِيِّ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، كَاسْتِبَاحَةِ قَتْلِ فَرِيقٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَنَفْيِ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْ وَطَنِهِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ فِي عَرَضِ الدُّنْيَا، لَا بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ يُغْلَبُ فِيهَا الْفَرْدُ عَلَى أَمْرِهِ ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ رُشْدُهُ فَيَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) النَّسْخُ أَوِ الْإِنْسَاءُ لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) اقْرَأْهَا وَمَا بَعْدَهَا (106 و107) أَوْ لِلْآيَاتِ التَّشْرِيعِيَّةِ كَمَا فَهِمَ الْجُمْهُورُ. كِلَاهُمَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِجَعْلِ الْبَدَلِ خَيْرًا مِنَ الْأَصْلِ، أَوْ مِثْلَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْمِثْلِ التَّنْوِيعُ وَكَثْرَةُ الْآيَاتِ. (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (120)

آيَةٌ لِلنَّبِيِّ كَاشِفَةٌ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ فِي عَصْرِهِ، وَلَا تَزَالُ مُطَّرِدَةً فِي أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ زُعَمَاءُ بَعْضِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَحَاوَلُوا إِرْضَاءَ بَعْضِ الدُّوَلِ بِمَا دُونَ اتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ، وَلَوِ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُمْ لَاشْتَرَطُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي فَهْمِهَا وَصُوَرِ الْعَمَلِ بِهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ أَدْنَى اسْتِقْلَالٍ فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ. (الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) أَنَّ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حَقُّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَنْ يَعْهَدَ بِإِمَامَةِ النَّاسِ وَتَوَلِّي أُمُورِهِمْ لِلظَّالِمِينَ، فَكُلُّ حَاكِمٍ ظَالِمٍ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ اللهِ تَعَالَى. رَاجِعْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ابْتِلَائِهِ مِمَّا ظَهَرَ بِهِ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْإِمَامَةِ: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (: 124) . (الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ وَالِاعْتِصَامَ بِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ كَمَا أَنْزَلَهُ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ وَالْاتْفَاقَ، وَتَرْكَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ يُوَرِّثُ الِاخْتِلَافَ وَالشِّقَاقَ، وَشَوَاهِدُهُ مِنَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) (137) وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (176) وَقَوْلُهُ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) (213) إِلَخْ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) الِاسْتِعَانَةُ عَلَى النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ قَالَ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (45) . وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (: 153) . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ رَاجِعْ تَفْصِيلَهَا فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَتَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالرُّؤَسَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ وَعَصَبِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا عَدِيدَةٌ أَظْهَرُهَا هُنَا مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا عَنْ تَبَرُّؤِ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ الْأَتْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْآيَتَيْنِ (166 و167) وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ) (170) وَإِنَّ فِي تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ وَتَصْرِيحِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يَعْذُرُ صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ لَتَأْكِيدًا شَدِيدًا لِإِيجَابِ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ الِاسْتِدْلَالِيِّ فِي الدِّينِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، أَعْنِي - الِاسْتِنْبَاطَ الْعَامَّ بِوَضْعِ الْأَحْكَامِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَفْرَادُ وَالْحُكَّامُ - وَإِنَّ فِي إِطْلَاقِ مُقَلِّدَةِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ خَلْفِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى الْقَوْلَ بِإِيجَابِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَتَحْرِيمِ الْأَخْذِ بِالدَّلِيلِ فِيهِ - لِاشْتِرَاطِهِمْ فِيهِ اسْتِعْدَادَ كُلِّ مُسْتَدِلٍّ مُسْتَقِلٍّ لِلتَّشْرِيعِ - لَافْتِيَاتًا عَلَى دِينِ اللهِ، وَنَسْخًا لِكِتَابِ اللهِ، وَشَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، خُلَاصَتُهُ تَحْرِيمُ الْعِلْمِ وَإِيجَابُ الْجَهْلِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْإِفْسَادِ لِلْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ أَقْطَعُ الْمُدَى لِأَوْصَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَفْعَلُ

الْمَعَاوِلِ فِي هَدْمِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ، وَعِلَّةُ الْعِلَلِ لِانْتِشَارِ الْبِدَعِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَاسْتَبْدَلَتْ بِهَا الْخُرَافَاتِ وَدَجَلَ الدَّجَّالِينَ. (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) إِبَاحَةُ جَمِيعِ طَيِّبَاتِ الْمَطْعَمِ الطَّبِيعِيَّةِ بِحَسَبِ أَفْرَادِهَا وَإِيجَابُ الْأَكْلِ مِنْهَا بِحَسَبِ جِنْسِهَا، وَامْتِنَاعُ التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الْعَامِّ لِمَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) (168) وَقَوْلُهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (172) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (173) فَحَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الْمَدَنِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَيْتَةِ بِجَعْلِ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ مِنْهَا، إِذَا مَاتَتْ بِذَلِكَ وَلَمْ تُدْرَكْ تَذْكِيَتُهَا، وَقَيَّدَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ الدَّمَ بِالْمَسْفُوحِ. (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) إِبَاحَةُ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَاغٍ لَهَا وَلَا عَادٍ فِيهَا بِتَجَاوُزِ قَدْرِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ شَوَاهِدِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَلَيْسَتِ الْقَاعِدَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مُحَرَّمَاتِ الْمَطَاعِمِ بَلْ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَا يَتَحَقَّقُ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَيَاةِ وَاتِّقَاءِ الْهَلَاكِ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ مِثْلُهُ أَوْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَالزِّنَا لَيْسَ مِمَّا يَضْطَرُّ النَّاسُ إِلَيْهِ، لِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى رَغِيفِ مُضْطَرٍّ مِثْلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ نَفْسَهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ مَالِكُ الرَّغِيفِ. (الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ) بِنَاءُ الدِّينِ عِبَادَاتِهِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ - كَمَا عَلَّلَ سُبْحَانَهُ بِهِ رُخْصَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وَمِثْلُهُ تَعْلِيلُ رُخْصَةِ التَّيَمُّمِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَوْسَعُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، إِلَى بَدَلٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَتِلْكَ فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ وَلَوْ مُؤَقَّتًا، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبَاتِ أَهْوَنُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ وَهُوَ مِنْ أَثْنَاءِ حَدِيثٍ. وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ التَّرْكَ أَهْوَنُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. (الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ) عَدَمُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذَا أَصْلٌ لِلَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَالنَّصُّ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ السُّورَةِ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (286) وَوُسْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِ وَلَا عُسْرَ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ أَوْسَعَ مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْلًا لَهُمَا، فَاللهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي وُسْعِنَا امْتِثَالُهُ بِغَيْرِ عُسْرٍ وَلَا حَرَجٍ فَإِذَا عَرَضَ الْعُسْرُ

عُرُوضًا بِأَسْبَابِهِ الْعَادِيَّةِ كَالِاضْطِرَارِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَكَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ اللَّذَيْنِ يَشُقُّ فِيهِمَا الصَّوْمُ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، لَوْ يَضُرُّ تُرِكَ الْأَوَّلُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي إِلَى التَّيَمُّمِ الْمُبِيحِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا تُتْرَكُ الصَّلَاةُ نَفْسُهَا لِعُسْرِ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَعَدَمِ عُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهِيَ لَا تَعْسُرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَجُّهٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَمُنَاجَاةٌ لَهُ بِكِتَابِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، فَإِنْ شَقَّ عَلَى الْمُصَلِّي بَعْضُ أَفْعَالِهَا كَالْقِيَامِ اسْتَبْدَلَ بِهِ الْقُعُودَ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْقُعُودُ صَلَّى مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا. (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ) حَظْرُ التَّعَرُّضِ لِلْهَلَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (195) فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا سِيَّمَا جَمَاعَتُهُمْ أَنْ يَتَعَمَّدُوا إِلْقَاءَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ بِسَعْيِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ اجْتِنَابِ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ مِنْ فِعْلِيَّةٍ وَتَرْكِيَّةٍ - وَبِتَعْبِيرِ الْمُنَاطَقَةِ مِنْ سَلْبِيَّةٍ وَإِيجَابِيَّةٍ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ هَذَا النَّهْيِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدِّفَاعُ مِنَ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَعَدَّدَتْ فِيهِ آلَاتُ الْقِتَالِ وَوَسَائِلُهُ وَعَظُمَتْ نَفَقَاتُهَا فَصَارَتِ الْأُمَمُ الْعَزِيزَةُ تُنْفِقُ الْمَلَايِينَ مِنَ الْجُنَيْهَاتِ عَلَى وَسَائِلِ الْحَرْبِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْجَوِّيَّةِ، وَفُرُوعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ. (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ) إِتْيَانُ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا لَا مِنْ ظُهُورِهَا، أَيْ طَلَبُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَلَا تُجْعَلُ الْعَادَةُ عِبَادَةً، وَلَا الْعِبَادَةُ عَادَةً، وَلَا تُطْلَبُ فُنُونُ الدُّنْيَا مِنْ نُصُوصِ الدِّينِ (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) كَمَا قَالَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَيْسَ الْبِرَّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأَتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (189) فَلِلزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَفُنُونِ الْحَرْبِ وَآلَاتِهِ وَأَسْلِحَتِهِ أَبْوَابٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ مِنْهَا، وَلِعَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ أَبْوَابٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلِأُصُولِ تَشْرِيعِهِ السِّيَاسِيِّ أَبْوَابٌ مِنَ النُّصُوصِ وَالِاجْتِهَادِ مَعْرُوفَةٌ أَيْضًا، فَمَا اعْتِيدَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ مِنْ قِرَاءَةِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُخَالِفِ لَهَا الدُّعَاءُ وَتَوَجُّهُ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى اللهِ لِنَصْرِهِمْ بَعْدَ إِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْقُوَّةِ لِعَدُوِّهِمْ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. (الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ) حُرِّيَّةُ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ وَمَنْعُ الِاضْطِهَادِ الدِّينِيِّ وَلَوْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَمَنْعُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةً وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (193) . الْفِتْنَةُ: اضْطِهَادُ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَالنَّفْيِ كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَاتِ الْقِتَالِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (22: 39 - 40) إِلَخْ.

وَلِذَلِكَ مَهَّدَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ هُنَا بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (: 191) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (217) الْآيَةَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ حَتَّى الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (256) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَمُصَنِّفُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ كَانَ لَدَى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَوْلَادٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ رَبَّوْهُمْ وَهَوَّدُوهُمْ، فَلَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْلَائِهِمْ لِتَوَاتُرِ إِيذَائِهِمْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَبْنَاءَهُمْ مِنْهُمْ وَيُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ)) . وَمَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ لَا يَزَالُ يُوجَدُ حَتَّى فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُصَدِّقُ افْتِرَاءَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي كَانَ يَبْدَأُ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ. (الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْقِتَالَ شُرِّعَ فِي الْإِسْلَامِ لِمَصْلَحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ: " الْأُولَى " الدِّفَاعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْطَانِهِمْ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ وَمَنْ كَانَ آمَنَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ وَسَاعَدَهُمْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَمَا زَالُوا يَبْدَءُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى عَجَزُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (190) . " الثَّانِيَةُ " تَأْمِينُ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَمَنْعُ الِاضْطِهَادِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (193) هَذَا مَا نَزَلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. " الثَّالِثَةُ " مَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مِنْ تَأْمِينِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ بِدَفْعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ لِلْجِزْيَةِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ مَا هُوَ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْإِسْلَامِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى - وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْغَايَاتُ وَلَوَازِمُ الْأُمُورِ بِطَلَبِهَا وَالسَّعْيِ لَهَا. فَلَيْسَ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ الدُّنْيَا وَمَعَايِشَهَا وَسِيَاسَتَهَا وَيَكُونُوا فُقَرَاءَ أَذِلَّاءَ تَابِعِينَ لِلْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا كَالْأَنْعَامِ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِي شَهَوَاتِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ، وَكَالْوُحُوشِ الَّتِي يَفْتَرِسُ قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا. وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ.

وَذَلِكَ هُوَ مَا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (: 200، 201) إِلَخْ. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ الصَّرِيحِ رِوَايَةً وَدَلَالَةً لَا تُجْعَلُ تَشْرِيعًا عَامًّا إِلْزَامِيًّا بَلْ تُفَوَّضُ إِلَى اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي الْعِبَادَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الْخَاصِّ بِهِمْ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْحُكَّامِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ، وَمَأْخَذُهُ الْآيَةُ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (219) وَوَجْهُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ إِثْمُهُ وَضَرَرُهُ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَذَلِكَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَامْتَنَعُوا مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُلْزِمِ الْأُمَّةَ هَذَا، بَلْ أَقَرَّ مَنْ تَرَكَهُمَا وَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهُمَا عَلَى اجْتِهَادِهِمَا إِلَى أَنْ نَزَلَ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ الصَّرِيحُ بِتَحْرِيمِهِمَا وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهِمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا، وَأَهْرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْخَمْرِ وَصَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَاقِبُ مَنْ شَرِبَهَا. وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَانَ يَعْذِرُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ خَالَفَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الِاجْتِهَادِيَّةِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ رِوَايَةً وَدَلَالَةً، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَتْبَعَ أَحَدًا فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَلَفُ الْمُقَلِّدُونَ. وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمْ يَقْبَلِ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مِنَ الْمَنْصُورِ أَوَّلًا، وَلَا مِنْ هَارُونَ الرَّشِيدِ ثَانِيًا أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ وَلَا بِالْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مَا رَوَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَوَاطَأَهُ عَلَيْهِ جُمْهُورٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ. (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ - إِلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ) بِنَاءُ أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْبُيُوتِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: 1 - قِيَامُ النِّسَاءِ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا وَظِيفَتُهُنَّ كَالرَّضَاعَةِ وَغَيْرُهَا مِنْ أُمُورِ تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، وَيَقُومُ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ كُلِّهَا. 2 - أَلَّا يُكَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي حُدُودِ وَظِيفَتِهِ وَالْوَاجِبِ عَلَيْهِ. 3 - لَا يُضَارُّ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِالْوَلَدِ، وَلَا بِغَيْرِهِ بِالْأَوْلَى، وَالْمُضَارَّةُ دُونَ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. 4 - إِبْرَامُ الْأُمُورِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ.

وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ ظَاهِرَةٌ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَةِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (233) وَلَوْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكَانُوا أَسْعَدَ الْأُمَمِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَمَا وُجِدَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ زَنَادِقَتِهِمْ مَنْ يَهْذِي بِإِسْنَادِ ظُلْمِ النِّسَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ إِصْلَاحِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) . (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ) جَعْلُ سَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي تَنَازُعِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مَنَاطًا لِلتَّشْرِيعِ، وَأَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّلَ بِهِ شَرْعَهُ لِلْقِتَالِ، وَمِنَّتَهُ عَلَى نَبِيِّهِ دَاوُدَ وَجُنْدِهِ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِيتَائِهِ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إِذْ قَالَ: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (251) وَفِي مَعْنَاهُ تَعْلِيلُ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِآيَاتِ سُورَةِ الْحَجِّ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا فِي الْقَاعِدَةِ الْعِشْرِينَ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا) (22: 40) وَمَا هُنَا أَعَمُّ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ دَرْءَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَسَادِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي النُّزُولِ. (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَالِاعْتِصَامَ بِالصَّبْرِ - الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ وَكَمَالِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ - سَبَبَانِ مِنْ أَسْبَابِ نَصْرِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (249) . (الْقَاعِدَةُ الثَّلَاثُونَ) تَحْرِيمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فِي (الْآيَةِ 188) وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهَا تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا كَانَ بَاقِيًا لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ لَدَى الْمَدَنِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (279) فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يُقْرِضُ الْمُحْتَاجَ بِالرِّبَا إِلَى أَجَلٍ كَانَ يَقُولُ لَهُ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَقْضِي بِهِ أَنْسَأَ لَهُ فِي الدَّيْنِ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ بِمِثْلِ الرِّبَا الْأَوَّلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي قَالَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ - وَهَلُمَّ جَرَّا - فَكُلُّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ

بَاطِلٌ لَا مُقَابِلَ لَهُ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ الَّتِي لَا ظُلْمَ فِيهَا بِأَكْلِ مَالِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَتْ مِنَ الرِّبَا. (الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ) أَنَّ عَمَلَ كُلِّ إِنْسَانٍ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَا يُجْزَى إِلَّا بِهِ وَلَا يُجْزَى بِهِ سِوَاهُ، فَلَا يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَلَا يَضُرُّهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (286) وَيُعَزِّزُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَضْعِهَا بَعْدَ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (281) وَإِنْ لَمْ تَرِدْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَفِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 38 - 39) إِلَخْ وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (6: 164) وَيَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَمَا جَعَلُوهُ مُعَارِضًا لَهَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا مِنَ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَمَا يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَكَوْنِ الصَّحِيحِ مِنْهُ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْقَاعِدَةِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ) بَيَانُ بُطْلَانِ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَسَاسَ شِرْكِ الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، وَهِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَيَكْشِفَ مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، وَيُؤْتِيَهُمْ مَا طَلَبُوا مِنْ نَفْعٍ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّفَعَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) الْآيَةَ. وَقَدْ نَفَى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّفَاعَةَ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ خِطَابًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (254) وَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (48) وَفِي مَعْنَاهَا (آيَةُ 123) وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَحَادِيثِ فَهِيَ غَيْرُ هَذِهِ وَلَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَكَوْنُ الشَّفَاعَةِ لِلَّهِ جَمِيعًا سَيَأْتِي بَيَانُهَا. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ) بِنَاءُ أُصُولِ الدِّينِ فِي الْعَقَائِدِ وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ عَلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لَهَا وَاسْتِبَانَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَسَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِهِ بِآيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) - إِلَى قَوْلِهِ: - (لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (164) ثُمَّ قَوْلُهُ

فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (170) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (242) . (يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ) : هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ بِتَصَفُّحِ صَحَائِفِ السُّورَةِ دُونَ تِلَاوَتِهَا وَيُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَتُدَبُّرِهَا، وَإِنَّمَا وَعَدْنَا بِتَلْخِيصِهَا بِالْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

البقرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (الم) هُوَ وَأَمْثَالُهُ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْمُبْتَدَأَةِ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ وَضْعُ الِاسْمِ الْوَاحِدِ كَـ (الم) لِعِدَّةِ سُوَرٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يُعَيِّنُ مَعْنَاهُ اتِّصَالُهُ بِمُسَمَّاهُ، وَحِكْمَةُ التَّسْمِيَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي (الم) وَ (المص) نُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى الْمُسَمِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((وَيَسَعُنَا فِي ذَلِكَ مَا وَسِعَ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَابِعِيهِمْ، وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَتَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ فَيَخْتَرِعَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مُخْتَرِعُهَا مِنَ الزَّلَلِ)) . هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَقُولُ الْآنَ: أَوَّلًا - إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُقْرَأُ مُقَطَّعَةً بِذِكْرِ أَسْمَائِهَا لَا مُسَمَّيَاتِهَا، فَنَقُولُ: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، سَاكِنَةَ الْأَوَاخِرِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ فَتُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ. ثَانِيًا - إِنَّ عَدَمَ إِعْرَابِهَا يُرَجِّحُ أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ بَعْضِ السُّوَرِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا لِلتَّنْبِيهِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى إِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ مِنْهَا كَانَ يُتْلَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ (المص - الْأَعْرَافِ) . ثَالِثًا - اقْتَصَرَ عَلَى جَعْلِ حِكْمَتِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا: كَالْفَرَّاءِ، وَقُطْرُبٍ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَبَعْضِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْحَافِظِ الْمِزِّيِّ، وَأَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي بَيَانِهِ وَتَوْجِيهِهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي كَشَّافِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ. رَابِعًا - إِنَّ أَضْعَفَ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَسْخَفَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ بِأَعْدَادِهَا فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ إِلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مَا يُشَابِهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ

2

الْيَهُودِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. خَامِسًا - يَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا عُنِيَ بِهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَصِيَاغَةِ جُمَلٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا فِي مَدْحِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَوْ تَفْضِيلِهِ وَتَرْجِيحِ خِلَافَتِهِ، وَقُوبِلُوا بِجُمَلٍ أُخْرَى مِثْلِهَا تَنْقُضُ ذَلِكَ كَمَا وَضَّحْنَاهُ فِي مَقَالَاتِنَا (الْمُصْلِحُ وَالْمُقَلِّدُ) . سَادِسًا - إِنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي النَّاسِ - حَتَّى عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَاللُّغَاتِ مِنْهُمْ - مَنْ يَرَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ رُمُوزًا إِلَى بَعْضِ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ سَتُظْهِرُهُ الْأَيَّامُ. (ذَلِكَ الْكِتَابُ) الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُكْتَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ الرُّقُومُ وَالنُّقُوشُ ذَاتُ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْيِينَ الشَّخْصِيَّ أَوِ النَّوْعِيَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُتُبِ، بَلِ الْمُرَادُ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ الْعَهْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِدْقِ الْوَعْدِ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِكِتَابٍ (تَامٍّ كَامِلٍ كَافِلٍ لِطُلَّابِ الْحَقِّ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا (كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ، وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا فَكُتِبَتْ وَحُفِظَتْ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ) بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ (هُدًى لِلْمَتَّقِينَ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ. وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ (أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَالْإِشَارَةُ الْبَعِيدَةُ بِالْكَافِ يُرَادُ بِهَا بُعْدُ مَرْتَبَتِهِ فِي الْكَمَالِ، وَعُلُوُّهُ عَنْ مُتَنَاوَلِ قَرِيحَةِ شَاعِرٍ أَوْ مَقُولِ خَطِيبٍ قَوَّالٍ، وَالْبَعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِنَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ شَيْئًا بَعِيدًا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ مِنْهُ وَالْبُعْدُ عَنْهُ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا بِعِلْمِهِ. (لَا رَيْبَ فِيهِ) الرَّيْبُ وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالظِّنَّةُ (التُّهْمَةُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُبَرَّأٌ مِنْ وَصَمَاتِ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا رِيبَةَ تَعْتَرِيهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى،

وَلَا فِي كَوْنِهِ هَادِيًا مُرْشِدًا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي قُوَّةِ آيَاتِهِ وَنُصُوعِ بَيِّنَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُنْصِفٌ وَغَيْرُ مُتَعَنِّتٍ وَلَا مُتَعَسِّفٍ فِي كَوْنِهِ هِدَايَةً مُفَاضَةً مِنْ سَمَاءِ الْحَقِّ. مُهْدَاةً إِلَى الْخَلْقِ، عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ قَبْلَهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْ عُلُومِهِ، وَلَا الْإِتْيَانُ بِكَلَامٍ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي بَلَاغَتِهِ، وَلَا أُسْلُوبِهِ حَتَّى بَعْدَ نُبُوَّتِهِ - وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأَتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (: 23) وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهِدَايَةِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْهِ الشُّبْهَةُ، أَوْ تَحُومَ الرِّيبَةُ، سَوَاءٌ أَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَوْ بِتَكَلُّفِهِ ذَلِكَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَمْ لَا. (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْهُدَى: مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ كَالتُّقَى وَالسُّرَى، وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَ الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ) لِأَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ بِالْفِعْلِ غَيْرُ كَوْنِهِ هَادِيًا - دَالًّا - لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَخْذِهِمْ بِدَلَالَتِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَكَلِمَةُ (الْمُتَّقِينَ) مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَالِاسْمُ: التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: وَقَى يَقِي، وَالْوِقَايَةُ مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ: الْبُعْدُ أَوِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُضِرِّ أَوْ مُدَافَعَتُهُ، وَلَكِنْ نَجِدْ هَذَا الْحَرْفَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَاتَّقُوا اللهَ - فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَمَعْنَى اتِّقَاءِ اللهِ تَعَالَى اتِّقَاءُ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّقِيَ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا الْخُضُوعَ الْفِطْرِيَّ لِمَشِيئَتِهِ. وَمُدَافَعَةُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ الْمُعَذِّبِ، فَالْخَوْفُ يَكُونُ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَذَابِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَصْدَرِهِ، فَالْمُتَّقِي: هُوَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَظَرٌ وَرُشْدٌ يَعْرِفُ بِهِمَا أَسْبَابَ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ فَيَتَّقِيهَا. وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّقَاؤُهُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُتَّقَى بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَمُخَالَفَةُ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ. فَأَمَّا عِقَابُ الْآخِرَةِ فَيُتَّقَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَفْضَلُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنْ آلِ الرَّسُولِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.

وَأَمَّا عِقَابُ الدُّنْيَا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى اتِّقَائِهِ بِالْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ - وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ - وَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ. فَاتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا، وَإِتْقَانِ آلَاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (8: 60) كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الْأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ عِنْدَهُ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (8: 45 - 46) وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعْنَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَالتَّقْوَى فِي الْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (5: 88) وَمِثْلُهُ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْهَا (الْآيَةَ 90) وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُرَاجَعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ مَقَتَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَأَدْرَكَ أَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْضِيهِ الْخُضُوعُ لَهَا، وَأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُبْغِضُ الشَّرَّ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ لِذَلِكَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ إِلَّا الِالْتِجَاءَ وَالِابْتِهَالَ وَتَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ يُسَمَّى صَلَاةً فِي لِسَانِهِمْ، وَبَعْضَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (3: 113 - 114) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (5: 82، 83) فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ فِي قُلُوبِهِمُ اشْمِئْزَازٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّشَوُّفِ إِلَى هِدَايَةٍ يَهْتَدُونَ بِهَا، وَيَشْعُرُونَ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَنْ هُمُ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ فَأَصَابَتْ عُقُولُهُمْ ضَرْبًا مِنَ الرَّشَادِ، وَوُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِتَلَقِّي نُورِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَوَقِّي سُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَأَدَّاهُمْ إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ.

3

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي - وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ - وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ: (وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ - وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ - إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ - مَثَلًا - لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.

(وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْمَوْجُودِ إِلَّا الْمَحْسُوسَ وَيَظُنُّ أَنْ لَا شَيْءَ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَنَفْسُهُ تَنْفِرُ مِنْ ذِكْرِ مَا وَرَاءَ مَشْهُودِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ مَشْهُوُدَهُ، وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟) . (وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ) فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ ((الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ)) لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟ . هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ: (وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو

وَصْفَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ: (فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي. هَذَا - وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا - فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟) . (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ - فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ: هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ

4

الْعَيْشِ لِضَعْفٍ أَوْ حِرْمَانٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الرِّزْقِ (أَوْ عَنْ إِحْسَاسٍ بِأَنَّ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ أَوْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِبَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى مَنْ أُوتِيَ الْمَالَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ السَّبِيلِ وَهُوَ أَفْضَلُ سُبُلِ اللهِ) فَمَنْ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ دَاعِيَةً لِبَذْلِ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ - وَهُوَ مَالُهُ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِشُكْرِهِ، وَرَحْمَةً لِأَهْلِ الْعَوَزِ وَالْبَائِسِينَ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ لَا شَكَّ مُسْتَعِدٌّ لِقَبُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ أَتَمَّ الِاسْتِعْدَادَ، حَتَّى إِذَا مَا دُعِيَ إِلَيْهِ لَبَّى وَأَجَابَ، وَأَسْلَمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَنَابَ. فَهَذَا بَيَانُ حَالِ الْفِرْقَةِ الْأَوْلَى مِمَّنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ فِعْلًا، وَيَشْمَلُهَا لَفْظُ الْمُتَّقِينَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ الْحُنَفَاءِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الصُّلَحَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِهِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلِاسْتِرْشَادِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ بِاللهِ وَبِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُوَفَّى النَّاسُ فِيهَا أُجُورَهُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَاتِّقَاءَ مَا يَحُولُ دُونَ السَّعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ النَّاقِصِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ الْعَقْلُ، وَلَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَقَدْ هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِ مَا يَذْهَبُ بِظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، وَيَمْنَحُ الْأَرْوَاحَ مَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ. وَبَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي يَكُونُ الْكِتَابُ هُدًى لَهَا (يُخْرِجُهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَيَنْكُبُ بِهَا عَنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْفِكْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ السِّكِّينَةِ وَمُسْتَكَنِّ الطُّمَأْنِينَةِ، بِمَا تَتَعَرَّفُهُ النَّفْسُ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ) عَطَفَ عَلَيْهَا بَيَانَ حَالِ الْفِرْقَةِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِهِ فِعْلًا، وَصَارَ إِمَامًا لَهَا تَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، دُونَ أَنْ تَغْمُضَ عَيْنُهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَضَاءَ لَهَا مَا أَضَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فَيَكْفِي فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ، وَقَالَ شَيْخُنَا مَا مِثَالُهُ: هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأُعِيدَ لَفْظُ (الَّذِينَ) لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا: أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَا. مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللهِ وَلَا شَكَّ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) (51: 11) لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ. إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ، لِيَتَبَيَّنَ: هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ. يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) . فَبَيِّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ. أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (: 57: 25) فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ.

وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (39 - 6) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ) (10: 83) . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (42: 51) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (26: 193 - 195) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَمَّا لَفْظُ (الْآخِرَةِ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ. وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا. وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.

وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْيَقِينَ: الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ. وَالْعِلْمُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ اهـ. فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ. وَالْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ: (وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللهُ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا: أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ) . (وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (53: 28) وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ) . (إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْقَبْرَ - وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ) . (فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ - وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ - لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ) . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي آثَارِ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ: (الْأَوْلَى) النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ.

5

(وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى) خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ، وَصِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ. وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (هُمْ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ. (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ (هُدًى) هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى: قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ

الْحَقَّ، لِأَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ (هُدًى) الدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ - وَيَنْتَظِرُونَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِيَأْخُذُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ تَقَبَّلُوهُ عِنْدَمَا جَاءَهُمْ، فَقَدْ أَشْعَرَ اللهُ قُلُوبَهُمُ الْهِدَايَةَ بِمَا آمَنُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ. وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى هُدًى تُشْرَكُ فِيهِ تِلْكَ الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِالْقُرْآنِ وَعَامِلَةٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى هُدًى) تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: " رَكِبَ هَوَاهُ " وَلَقَدْ كَانَ أَفْرَادُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ (أَيِ الْأُولَى) عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَمَكُّنٍ مِنْ نَوْعِ الْهُدَى الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ كَافٍ لِإِسْعَادِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، فَهُوَ كَافٍ لِإِعْدَادِهِمْ وَتَأْهِيلِهِمْ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُنَزَّلِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ. وَإِلَى الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ بِالْفِعْلِ لِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ - لَا مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ إِجْمَالًا - وَيُرْشِدُ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنِ مَرْجِعِ الْإِشَارَتَيْنِ تَرْكُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (هُمْ) فِي الْأُولَى وَذِكْرُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا لَذَكَرَ الْفَصْلَ فِي الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الْهُدَى الصَّحِيحِ التَّامِّ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سِوَاهُمْ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى بِحَصْرِ الْفَلَاحِ فِيهِمْ، وَمَادَّةُ الْفَلْحِ تُفِيدُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى الشَّقِّ وَالْقَطْعِ، وَمِثْلُهَا مَادَّةُ الْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَالْفَلْخِ بِالْخَاءِ وَالْفَلْذِ وَالْفَلْعِ وَالْفَلْغِ وَالْفَلْقِ وَالْفَلِّ وَالْفَلْمِ، وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ وَالْفَلْجُ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِذَا فَازَ بِمَرْغُوبِهِ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُعَانَاةٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الرَّغِيبَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاكِهَا، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا مُفْلِحِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبِاتِّبَاعِ هَذَا الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي الَّتِي نِيطَ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُدْخَلُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَرْكُ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الرَّذَائِلِ كَالشَّرِّ وَالطَّمَعِ وَالْجُبْنِ وَالْهَلَعِ وَالْبُخْلِ وَالْجَوْرِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالِانْغِمَاسِ فِي ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَضَائِلُ الَّتِي هِيَ أَضْدَادُ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَتْرُوكَةِ، وَجَمِيعُ مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ عَمَلًا صَالِحًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ (وَالسَّعْيُ فِي تَوْفِيرِ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ الْتِزَامِ الْعَدْلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ) .

6

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ الْإِيمَانُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمَا عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ يُعْتَدُّ بِهِ، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ بِهِ إِسْلَامٌ، وَإِنْكَارُهُ خُرُوجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدَ الِارْتِبَاطِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَاسِطَةَ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الثُّبُوتِ وَدَرَجَةِ الْعِلْمِ فَمَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَثَارَ اخْتِلَافٍ فِي الدِّينِ. زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا بِخَطِّهِ عِنْدَ قَوْلِنَا: اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مَا نَصَّهُ: (أَوْ ذَوْقِ الْعَارِفِينَ أَوْ ثِقَةِ النَّاقِلِينَ بِمَنْ نَقَلُوا عَنْهُ لِيَكُونَ مُعْتَمَدَهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالتَّمْحِيصِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُلْزِمُوا غَيْرَهُمْ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ ثِقَةَ النَّاقِلِ بِمَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَعَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِثْلُ مَا لِلنَّاقِلِ مَعَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَدَخَائِلِ نَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَتَحْصُلُ الثِّقَةُ لِلنَّفْسِ بِمَا يَقُولُ الْقَائِلُ) . وَأَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ أَحَادِيثِ الْآحَادِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا مَعَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، كَصَحِيفَةِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ: كَالدِّيَةِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنَ الْخَلِيفَتَيْنِ: الْمَنْصُورِ، وَالرَّشِيدِ أَنْ يَحْمِلَا النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ حَتَّى (الْمُوَطَّأِ) ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِهَا: رِوَايَةً، وَدَلَالَةً، وَعَلَى مَنْ وَثِقَ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ وَفَهْمِهِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَأَمَّا ذَوْقُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يُعَدُّ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ فِي الشُّبَهَاتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤَمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

8

قَالَ الْأُسْتَاذُ: كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِصِنْفَيْنِ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ هِدَايَةٌ وَلِنُفُوسِهِمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ انْبِعَاثٌ. (الْأَوَّلُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ) : أُولَئِكَ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَهُمْ مِمَّنْ يَخْشَى اللهَ وَيَهَابُ سُلْطَانَهُ، وَفِي أُصُولِ اعْتِقَادِهِمُ الْإِيمَانُ بِمَا وَرَاءَ الْحِسِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَالثَّانِي) : أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ (وَهَذَا الصِّنْفُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ كَانُوا مُتَّقِينَ مُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ يَفْتَرِقُ الصِّنْفَانِ فِيمَنْ بَقِيَ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَمِنَ الْوَلَدِ مِنْ آبَاءٍ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ صَدَقَ إِيمَانُهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رُشْدَهُ وَمَلَكَ عَقْلَهُ) . أَمَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ فَقَدْ بَيَّنَتَا حَالَ طَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إِلَخْ، حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْهَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَفِي بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُمْ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ كَافِرُونَ، بَلْ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِينَ (فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا النَّاسُ إِذَا بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ وَنَظَرُوا فِيهِ، وَدُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِهَدْيِهِ) . بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَتَقْصِيرًا فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِيهِمْ لَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هِدَايَةٌ كَسَائِرِ الِهَدَايَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي أَعْرَضَ النَّاسُ وَعَمُوا عَنْهَا (كَهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ، وَقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلُ بِأَنَّ فِي الْعَمَلِ مَضَرَّةٌ تَلْحَقُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ عَنْ حُكْمِهِ انْتِهَازًا لِلَذَّةٍ زَيَّنَهَا لَهُ حِسُّهُ أَوْ وَهْمُهُ، وَيَأْتِي ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ، فَاحْتِقَارُ الرَّجُلِ لِعَقْلِ نَفْسِهِ لَا يَعُدُّ عَيْبًا فِي تِلْكَ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَحُطُّ مِنْ شَأْنِ النِّعْمَةِ فِيهَا. انْظُرْ إِلَى رَجُلٍ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَمْشِي فِي طَرِيقٍ لَا يَعْرِفُهَا فَيَسْقُطُ فِي حُفْرَةٍ وَتَتَحَطَّمُ عِظَامُهُ، هَلْ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قَدْرِ بَصَرِهِ، وَيَبْخَسُ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ بِهِ عَلَى هَذَا الَّذِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؟) فَفِي الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيِّدُهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ أَوَّلًا وَبِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَقُولُ: هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ تُجَاهَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَطَعَهُ وَفَصَّلَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ طُولِ شُقَّةِ الِانْفِصَالِ وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مَا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْآتِي، فَإِنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلِمَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا. وَالْكَفْرُ فِي اللُّغَةِ: سَتْرُ الشَّيْءِ وَتَغْطِيَتُهُ وَإِخْفَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ اللَّيْلُ وَالْبَحْرُ

وَالزُّرَّاعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (57: 20) لِأَنَّهُمْ يُغَطُّونَ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ - وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَمِنَ الْمَجَازِ: كُفْرُ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ شُكْرِهَا وَذِكْرِهَا تَنْوِيهًا بِهَا، وَكَذَا الْكُفْرُ بِاللهِ أَوْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، أَيْ إِنْكَارُهُ وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ السِّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ السَّلْبِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ مَجَازُ لُغَةٍ، وَحَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا مَنْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفْرَ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: الْكُفْرُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ جُحُودِ مَا صَرَّحَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْ جُحُودُ الْكِتَابِ نَفْسِهِ، أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (بَعْدَمَا بَلَغَتِ الْجَاحِدَ رِسَالَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَاغًا صَحِيحًا، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا لِيَنْظُرَ فِيهَا فَأَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَحَدَهُ عِنَادًا أَوْ تَسَاهُلًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي النَّظَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلَمْ نَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَفَّرَ أَحَدًا بِمَا وَرَاءَ هَذَا، فَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ وَالْأَقَاوِيلِ الْمُخَالِفَةِ لِبَعْضِ مَا أُسْنِدَ إِلَى الدِّينِ وَلَمْ يَصِلِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْهُ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ - أَيْ لَمْ يَكُنْ سَنَدُهُ قَطْعِيًّا كَسَنَدِ الْكِتَابِ - فَلَا يُعَدُّ مُنْكِرُهُ كَافِرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِالْإِنْكَارِ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَتَى كَانَ لِلْمُنْكِرِ سَنَدٌ مِنَ الدِّينِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فَلَا يُكَفَّرُ (وَإِنْ ضَعُفَتْ شُبْهَتُهُ فِي الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ مَا دَامَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَلَمْ يَسْتَهِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وُرُودُهُ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَتَأَوَّلُ بَعْضَ الظَّنِّيَّاتِ، أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا سَبَقَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، أَوْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَجَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، حَتَّى صَارُوا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي بَعْضِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبِدَعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ هُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْكَافِرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ) . الْكَافِرُونَ أَقْسَامٌ: (مِنْهُمْ) مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ عِنَادًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَقَلُّونَ وَلَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا قِوَامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا. قَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةً جَدِيرَةً بِأَنْ تُحْفَظَ وَهِيَ: " إِنَّ جُحُودَ الْحَقِّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ، كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ ".

(وَمِنْهُمْ) مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يُرِيدُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (8: 22 - 23) فَهَؤُلَاءِ كُلَّمَا صَاحَ بِهِمْ صَائِحُ الْحَقِّ فَزِعُوا وَنَفَرُوا، وَأَعْرَضُوا وَاسْتَكْبَرُوا، فَفِي أَنْفُسِهِمْ شُعُورٌ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا زَلْزَلَةً، كُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ شُعَاعُهُ يَحْجُبُونَهُ عَنْ أَعْيُنِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَهُمْ فِي فَهْمِ الْحَقِّ، وَيَخَافُونَ لَوِ اسْتَعْمَلُوهَا أَنْ يَنْقُصَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا يَظُنُّونَهُ خَيْرًا، وَيَتَوَهَّمُونَهُ مَعْقُودًا بِعَقَائِدِهِمُ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ وَسَادَاتِهِمْ. (وَمِنْهُمْ) : مَنْ مَرِضَتْ نَفْسُهُ وَاعْتَلَّ وِجْدَانُهُ فَلَا يَذُوقُ لِلْحَقِّ لَذَّةً، وَلَا تَجِدُ نَفْسُهُ فِيهِ رَغْبَةً، بَلِ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى هُمُومٍ أُخَرَ مَلَكَتْ قَلْبَهُ وَأَسَرَتْ فُؤَادَهُ، كَالْهُمُومِ الَّتِي غَلَبَتْ أَغْلَبَ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَهِيَ مَا اسْتَغْرَقَتْ كُلَّ مَا تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ عَقْلٍ وَإِدْرَاكٍ، وَاسْتَنْفَدَتْ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فِي سَبِيلِ كَسْبِ مَالٍ أَوْ تَوْفِيرِ لَذَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ، أَوْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَهْمِيَّةٍ، فَعَمِيَ عَلَيْهِمْ كُلُّ سَبِيلٍ سِوَى سُبُلِ مَا اسْتُهْلِكُوا فِيهِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ، أَوْ نَادَاهُمْ إِلَيْهِ مُنَادٍ، رَأَيْتَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ الدَّاعِي، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ حَظُّ الْحَقِّ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِهِ، فَإِذَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَوْعَدَهُمُ النَّذِيرُ، قَالُوا: لَا نُصَدِّقُ وَلَا نُكَذِّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى ذَلِكَ الْمَصِيرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَالَّذِي قَبْلَهُ كَثِيرُ الْعَدَدِ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَخُصُوصًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَنْطَمِسُ مِنْ أَفْرَادِهَا أَعْيُنُ الْفِطْرَةِ، وَتَنْضُبُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَنَابِيعُ الْفَضَائِلِ، فَيُصْبِحُونَ كَالْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ، لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِيمَا يَمْلَأُ بُطُونَهُمْ أَوْ يُدَاعِبُ أَوْهَامَهُمْ، وَيَصِحُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينِ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ قِسْمُ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ. فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَمَّهُ وَطَلَبَ تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكٍ لِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُ وَطَلَبَ فِعْلِهِ نَصًّا أَوِ اقْتِضَاءً، وَالسَّوَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قِسْمِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ، يَسْتَوِي

الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْوَاقِعِ، فَالَّذِي يُعْرِضُ عَنِ النُّورِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ كَيْلَا يَرَاهُ بُغْضًا لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ تَأَذِّيًا بِهِ، أَوْ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمَنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ مَاذَا يُفِيدُهُ النُّورُ؟ وَمَاذَا يَعِيبُ النُّورَ مِنْ إِعْرَاضِهِ؟ وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ النُّورَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ طَبِيعَتِهِ وَخُبْثَ تَرْبِيَتِهِ أَنْآهُ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُ، وَجَعَلَهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَةَ كَالْخُفَّاشِ (أَوْ أَفْسَدَ الْجَهْلُ وُجْدَانَهُ فَأَصْبَحَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَلَا بَيْنَ لَذِيذٍ وَمُؤْلِمٍ، مَاذَا عَسَاهُ يُفِيدُهُ النُّورُ مَهْمَا سَطَعَ أَوْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الضَّوْءُ مَهْمَا ارْتَفَعَ؟) . (لَا يُؤْمِنُونَ) أَقُولُ: هَذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِتَسَاوِي الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّ دُعَاةِ دِينِهِ، فَهُمْ يَدْعُونَ كُلَّ كَافِرٍ إِلَى دِينِ اللهِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِيمَانِ وَغَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ إِذْ هُوَ أَمَرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ فَقْدَهُمْ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادَ، وَرُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَحَلٌّ لِغَيْرِهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) . قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) : مَصْدَرُ خَتَمْتُ وَطَبَعْتُ، وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ كَنَقْشِ الْخَاتَمِ وَالطَّابِعِ. (الثَّانِي) : الْأَثَرُ الْحَاصِلُ عَنِ النَّقْشِ، وَيَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تَارَةً فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَنْعِ بِالْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ وَالْأَبْوَابِ نَحْوَ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) - إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَوْلُهُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) . . . إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَى اللهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاهَى فِي اعْتِقَادِ بَاطِلٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ - وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَلَفُّتٌ بِوَجْهٍ إِلَى الْحَقِّ - يُورِثُهُ ذَلِكَ هَيْئَةً تُمَرِّنُهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْمَعَاصِي، وَكَأَنَّمَا يُخْتَمُ بِذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) (16: 108) اهـ. الْمُرَادُ مِنْهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ مَثَلٌ لِمَنْ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الدَّوَاعِيَ وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَعْطِفُهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِهِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُ مَا رَسَخَ فِيهَا، (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) فَلَا يَسْمَعُونَ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةَ سَمَاعَ تَأَمُّلٍ وَتَفَقُّهٍ، وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (خَتَمَ) وَالْغِشَاوَةُ: مَا يُغَطَّى بِهِ الشَّيْءُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَادَّةِ: غَ شِ يَ - التَّغْطِيَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ أَبْصَارَهُمْ لَا تُدْرِكُ آيَاتِ اللهِ الْمُبْصِرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ، وَقَدْ أُسْنِدَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عَلَى مَنْعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا

وَمَلَكَ أَمْرَهَا حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهَا اسْتِعْدَادٌ لِغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّاغِبِ، وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (63: 3) وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (4: 155) فَذَكَرَ أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (45: 23) فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَمَنْ صَارَ هَوَاهُ مَعْبُودَهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ شَيْءٌ. وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ دَقَائِقُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ ادَّخَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ مَعَ هَذَا تُغْنِيكَ عَنْ تَمَارِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَاتِ تَعَصُّبًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَقَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالرَّيْنَ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ وَيَمَسَّهُ، وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْأَسْمَاعُ، وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ أَلَّا تُجْمَعَ، وَقَدْ لُوحِظَ هُنَا الْأَصْلُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُيُونُ الَّتِي تُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ. (قَالَ) : وَأَنَا أَرَى فِي مَسْأَلَةِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ رَأْيًا آخَرَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مَا قِيلَ فَإِنَّ الْبَصَرَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَلِمَاذَا جَمَعَهُ؟ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، فَلَيْسَ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءً فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَنْوَاعُ تَصَرُّفِهِمْ فِي وُجُوهِهِ بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّ أَسْمَاعَ النَّاسِ تَتَسَاوَى فِي إِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ، فَلَا تَتَشَعَّبُ تَشَعُّبَ الْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا الْأَبْصَارُ: فَهِيَ مِثْلُ الْعُقُولِ فِي التَّشَعُّبِ، وَأَعْظَمُ مَعِينٍ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُبْصِرَاتِ كَثِيرَةٌ فَتُعْطِي لِلْعَقْلِ مَوَادَّ كَثِيرَةً، وَالسَّمْعُ لَا يُدْرِكُ إِلَّا الصَّوْتَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَ النَّقْلِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ إِلَّا التَّوَاتُرُ (بِخِلَافِ مَا نَقْطَعُ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ، فَهُوَ كَثِيرٌ، فَالْأَوَّلِيَّاتُ كَالْحُكْمِ أَنَّ الْجُزْءَ أَصْغَرُ مِنَ الْكُلِّ وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي

قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ، وَالْقِسْمُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ سَبِيلُ الْإِدْرَاكِ فِيهِ الْبَصَرُ، فَالْعُقُولُ وَالْأَبْصَارُ بِمَنْزِلَةِ يَنَابِيعَ كَثِيرَةٍ تَنْبَجِسُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا عُيُونٌ لِلْعَلَمِ مُخْتَلِفَةٌ، بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْبُوعٌ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ) فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ تَتَصَرَّفُ فِي مُدْرَكَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَأَنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ كَثِيرَةً فَجُمِعَتْ، وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا يُدْرِكُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَأُفْرِدَ. سَأَلَهُ سَائِلٌ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي التَّفْضِيلِ، ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ مَوْجُودًا وَأُبَيِّنُ مُنَاسَبَةَ اللَّفْظِ لَهُ، (وَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مُنْتَهَى لِتَصَرُّفِهِ، وَبِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْبَصَرِ: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلْوَانَ، وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَقَادِيرَ. وَالسَّمْعُ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا الْأَصْوَاتَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الذَّوْقَ لَا يُحِسُّ إِلَّا بِالْمَذُوقَاتِ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَصِلُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ قَدْ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْ مَعْقُولٍ أَوْ مُبْصِرٍ، وَلَكِنَّ وُرُودَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ أَوْ مُبْصَرٌ، فَمَنْ ذَكَرَ لَكَ بُرْهَانًا عَلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَسْمَعُ مِنْهُ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفَ، وَأَمَّا فَهْمُكَ الْمُقَدَّمَاتِ وَوُصُولُكَ مِنْهَا إِلَى النَّتَائِجِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عَقْلِكَ لَا مِنْ طَرِيقِ سَمْعِكَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَفْضَلِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُدْرَكَاتِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ - فَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِيهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ جَمِيعَ ضُرُوبِ الْكَلَامِ يَصِحُّ أَنْ تُكْتَبُ، وَطَرِيقُ فَهْمِهَا مِنَ الرَّقْمِ إِنَّمَا هُوَ الْبَصَرُ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي تَعَدُّدِ الطَّرِيقِ لَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ، بَلْ مَا يَكُونُ مِنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ) . وَأَمَّا انْطِبَاقُ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ وَبَيَانُ حِرْمَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا وُصِفُوا - فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي عَانَدَتِ الْحَقَّ وَهِيَ تَعْرِفُهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ (فَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِطَابَعِ ذَلِكَ الْعِنَادِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَ عُقُولِهِمْ وَإِدْرَاكِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ ضَعْفِ أَمْرٍ وَفَسَادِ حَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٍ وَخُلُودٍ فِي نَكَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ حُجِبُوا بِهِ عَنْ إِدْرَاكِ مَا يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْحَقَّ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ الْأُخْرَى، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حُجِبُوا عَنْهُ.

وَأَمَّا الْخَتْمُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلِأَنَّهُمْ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ الْقَوْلِ لِفَهْمِهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا صَوْتًا لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَوْضِعِ الْإِدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى سَمْعِهِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَيْهَا غِشَاوَاتٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَصَرِ: هِيَ التَّوَقِّي مِنَ الْخَطَرِ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا يُبْصَرُ، فَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا مِنْهَا، فَقَدْ ضُرِبَ عَلَى بَصَرِهِ بِغِشَاوَةٍ، (وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُمِعَا تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينَ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ كَمَا سَبَقَ، فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى حَتَّى فِي فَهْمِ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةِ مَا يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّهِمْ) وَالْكَلَامُ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ يَعْرِفُهُ اللِّسَانُ وَتَعْهَدُهُ اللُّغَةُ، وَالْمَعْنَى هُوَ مَا بَيَّنَّا وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ الْخَتْمِ تَمْثِيلًا لِفَقْدِ حَقِيقَةِ الْفَهْمِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ فَوَائِدِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ الْإِلَهِيَّةِ - مَوَاهِبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ - كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَتَقْدِيرًا لِمُصِيبَةِ الْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا خُتِمَ بِيَدِ اللهِ لَا تَفُضُّهُ يَدٌ سِوَاهُ) . وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الْخَتْمِ مَعَ الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةِ مَعَ الْبَصَرِ: فَهِيَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْنُونِ الْمَسْتُورِ، وَهَكَذَا مَوْضِعُ حِسِّ السَّمْعِ، وَمَوْضِعُ الْإِدْرَاكِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْأَسْمَاعُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ فَالْحَاسَّةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ مُنْكَشِفَةٌ (قَالَ) : وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: " وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامٌ ". (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَقُولُ: الْعَذَابُ اسْمٌ لِمَا يُؤْلِمُ وَيَذْهَبُ بِعُذُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ ضَرْبٍ وَوَجَعٍ وَجُوعٍ وَظَمَأٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذَبَ الرَّجُلُ إِذَا تَرَكَ الْمَأْكَلَ (زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ) وَالنَّوْمَ، فَهُوَ عَاذِبٌ وَعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَذَّبَ، أَيْ يَجُوعُ وَيَسْهَرُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْعَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ: أَزَلْتُ عَذْبَ حَيَاتِهِ، عَلَى بِنَاءِ: مَرَّضْتُهُ وَقَذَيْتُهُ، وَقِيلَ أَصْلُ التَّعْذِيبِ: إِكْثَارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ أَيْ طَرَفِهِ اهـ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَذَابُ كَالنَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ وَنَكَلَ عَنْهُ إِذَا أَمْسَكَ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نُقَاخًا وَفُرَاتًا ثُمَّ اتَّسَعَ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَلَمٍ فَادِحٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِقَابًا يَرْدَعُ الْجَانِيَ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَخْ. وَالْعَظِيمُ: ضِدُّ الْحَقِيرِ، فَهُوَ فَوْقَ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّغِيرِ، وَتَنْكِيرُ الْعَذَابِ هُنَا

لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ مُبْهَمٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ. وَقَالَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَوَصْفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِعَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْعَظَمَةِ كَمًّا وَكَيْفًا، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِيلَامِ وَطَوِيلُ الزَّمَانِ، وَهَلْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (5: 41) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى: أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ جَزَاؤُهُ الضَّنْكُ وَفَقْدُ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْعُقْبَى. وَهُنَا سَأَلَهُ سَائِلٌ: هَلِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنَا لَا أُحِبُّ أَنْ أَحْشُرَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ أُحِبُّ أَنْ أُبَيِّنَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَمَا كَانَ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ بَلْ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابِ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ لَا يَمَسُّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (41: 42) . (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَأَقْسَامِ النَّاسِ بِإِزَائِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ - فِرْقَتَانِ لَهُمَا فِيهِ هُدًى: (إِحْدَاهُمَا) : الْمُتَّقُونَ وَبُيِّنَ حَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (2: 3) إِلَخْ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ الْحَنِيفِيِّينَ، وَالْمُنْصِفُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إِشْرَاقَ نُورِ الْحَقِّ لِيَهْتَدُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(الثَّانِيَةُ) : هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (2: 4) إِلَخْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُمَا بِالْقُرْآنِ: الْأُولَى مِنْهُمَا: هِيَ الْمَشْرُوحُ حَالُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (2: 6) إِلَخْ. وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَاحِدِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَمُعَانِدِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُونَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ كَمَا قِيلَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (2: 8) وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: " وَآمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ " وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ لِيَعْتَنِيَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ - الَّذِينَ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا - كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَيُطِيلَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ سَائِرُ النَّاسِ. نَعَمْ: إِنَّ الْآيَاتِ عَلَى عُمُومِهَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ التَّأْوِيلِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا، وَتَصِفُ حَالَهُمْ وَصْفًا مُطَابِقًا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ مَضَى وَلِمَنْ يَجِيءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينٍ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - مَعَ أَنَّ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ. قَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَلِمَ كَذَّبَهُمْ وَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ نَفْيًا مُطْلَقًا مُؤَكَّدًا بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ " مَا " فَقَالَ: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِدَاخِلِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ فِعْلِ الْإِيمَانِ الْمُطَابِقِ لِلَفْظِهِمْ وَالْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمُ التَّقْلِيدِيَّ الضَّعِيفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَوْ حُصِّلَ مَا فِي صُدُورِهُمْ وَمُحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعُرِفَتْ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَوُجِدَ أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَإِنَّمَا مَبْعَثُهُ رِئَاءُ النَّاسِ وَحُبُّ السُّمْعَةِ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُنْغَمِسُونَ فِي الشُّرُورِ، كَالْإِفْسَادِ وَالْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَنَقَلَهَا رُوَاةُ السُّنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْعُرَ الْمُؤْمِنُ بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى

9

السَّرَائِرِ، وَعَالِمٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، فَيُرْضِيهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. بَلْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِبَعْضِ ظَوَاهِرِ الْعِبَادَاتِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللهَ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَقُولُ: الْخَدْعُ: أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ، وَضَبٌّ خَادِعٌ، إِذَا أَوْهَمَ الصَّائِدَ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَأَصْلُهُ: الْإِخْفَاءُ. هَذَا مَا حَرَّرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَدْ جَعَلَهُ الرَّاغِبُ أَعَمَّ، فَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيمَا يُخْفِيهِ الْخَادِعُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ (يُخَادِعُونَ) وَقَالُوا: إِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ وَغَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُسْتَقْبَحُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (4: 142) وَلَمَّا كَانَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُحَالًا فَسَّرُوا مُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ هُنَا وَهُنَاكَ بِأَنَّهُ خِدَاعٌ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَرَعَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَكُونُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَمُعَامَلَتُهُمُ الظَّاهِرَةُ غَيْرُ جَزَائِهِمُ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ عَمَلَهُمُ الظَّاهِرَ غَيْرُ كُفْرِهِمُ الْخَفِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُمْ خِدَاعٌ، وَمُقَابَلَةُ حَقِّ صُورَتِهِ صُورَةُ الْخِدَاعِ، وَلَكِنَّهُ لَا غِشَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ فِعْلَ الْمُشَارَكَةِ هُنَا خَاصٌّ بِالْفَاعِلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَصِيغَةُ " فَاعِلٍ " لَا تَطَّرِدُ فِيهَا الْمُشَارِكَةُ بِالْفِعْلِ كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَدَّرَةً أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّأْنِ أَوِ الْقَصْدِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَعَالَى. وَقَالَ شَيْخُنَا: الْعَمَلُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَصْدُقُهُ الْبَاطِنُ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِرْضَاءُ آخَرَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ: مُدَاجَاةً، وَمُدَارَاةً، وَمُخَادَعَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْصَدُ بِهِ الْمُخَادَعَةُ فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَكْفِي لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُ الْمُخَادِعِ لَا عَمَلُ الطَّائِعِ الْخَاضِعِ، وَهَذَا مُرَادُ الْقُرْآنِ مِنْ مُخَادَعَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ إِيمَانًا نَاقِصًا، لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ فِيهِ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى مُخَادَعَتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللهِ ظَنُّوا بِهِ مَا يُسَوِّغُ وَصْفَهُمْ بِمَا ذَكَرَ عَنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أَقُولُ: وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فِي صِيغَةِ " فَاعِلٍ " وَالْمُشَارَكَةُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْخَادِعُونَ الْمَخْدُوعُونَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ (يَخْدَعُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ مُخَادَعَتَهُمْ

لِلَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِمَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا صُورِيَّةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ عَمَلِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ، وَعَاقِبَتَهُ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ فِيهَا مَا مِثَالُهُ: إِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَصْغَى لِمُنَاجَاةِ سِرِّهِ يَجِدُ عِنْدَمَا يَهُمُّ بِعَمَلِ شَيْءٍ أَنَّ فِي قَلْبِهِ طَرِيقَيْنِ، وَفِي نَفْسِهِ خَصْمَيْنِ مُخْتَصِمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَأْمُرُهُ بِالْعَمَلِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْأَعْوَجِ، وَآخَرُ: يَنْهَاهُ عَنِ الْعِوَجِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بَاعِثُ الشَّرِّ، وَلَا يُجِيبُ دَاعِيَ السُّوءِ، إِلَّا إِذَا خَدَعَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا، وَصَرَفَهَا عَنِ الْحَقِّ وَزَيَّنَ لَهَا الْبَاطِلَ، وَهَذِهِ الشُّئُونُ النَّفْسِيَّةُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، تَكُونُ الْمُنَازَعَةُ ثُمَّ الْمُخَادَعَةُ ثُمَّ التَّرْجِيحُ وَيَمُرُّ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِفِكْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمَا يَشْعُرُونَ) فَإِنَّ الشُّعُورَ هُوَ إِدْرَاكُ مَا خَفِيَ. أَقُولُ: قَالَ الرَّاغِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّعْرِ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا - مِنْ مُفْرَدَاتِهِ وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشَّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُ عِلْمًا هُوَ فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشَّعْرِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي. وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ اهـ. أَقُولُ: وَيُنَاسِبُ هَذَا الشِّعَارُ - بِالْكَسْرِ - لِلْكِسَاءِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَمَسُّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ شَعَرَ بِهِ - كَنَصَرَ وَكَرُمَ - يَشْعُرُ شِعْرًا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - وَشُعُورًا مَعْنَاهُ عَلِمَ بِهِ وَفَطَنَ لَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْفِطْنَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ. وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الشُّعُورَ إِدْرَاكُ الْمَشَاعِرِ أَيِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إِدْرَاكُ مَا دَقَّ مِنْ حِسِّيٍّ وَعَقْلِيٍّ، فَلَا تَقُولُ: شَعَرْتُ بِحَلَاوَةِ الْعَسَلِ، وَبِصَوْتِ الصَّاعِقَةِ، وَبِأَلَمِ كَيَّةِ النَّارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَشْعُرُ بِحَرَارَةِ مَا فِي بَدَنِي، وَبِمُلُوحَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ فِي هَذَا الْمَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَبِهَيْنَمَةٍ وَرَاءَ الْجِدَارِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِدْرَاكُ مَا فِيهِ دِقَّةٌ وَخَفَاءٌ. فَمَعْنَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُخَادَعَتِهِمُ اللهَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِي كَذِبِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ وَرِيَائِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، فَلَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِيهِ، وَمَا كُلُّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَمْ يَتَرَبَّ عَلَى خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَا يُفَكِّرْ فِيمَا يُرْضِيهِ وَفِيمَا يُغْضِبُهُ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لَهُ وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَعْدَاءً وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِظْهَارِ عَدَاوَاتِهِمْ، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ بِهَا إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّهَا خِدَاعٌ وَرِيَاءٌ.

وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا سِرَّ مُخَادَعَتِهِمْ وَفَلْسَفَتَهَا بِبَيَانٍ عِلْمِيٍّ جَلِيٍّ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ إِذَا عَرَضَ زَاجِرُ الدِّينِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ قَامَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُسَهِّلُ لَهُمْ أَمْرَهُ مِنْ أَمَلٍ فِي الْغُفْرَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَوْ تَحْرِيفٍ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ بِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَلَكَاتِ السُّوءِ، الْمُغَشَّاةِ بِصُوَرٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُلَوِّنَةِ مِمَّا قَدْ يَتَجَلَّى لِلْأَعْيُنِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا وَمَا هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بِمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ خَادِعُونَ مَخْدُوعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عُمِّيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمُرُّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَتَسْتَعْرِضُهُ عِنْدَمَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ رَاسِخٌ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، بِصَيْرُورَتِهِ مَلَكَةً فِي النَّفْسِ مُتَصَرِّفَةً فِي الْإِرَادَةِ، بَاعِثَةً لَهَا عَلَى الْعَمَلِ، فَمِنَ الْعُلُومِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ مُمْتَزِجٌ بِهَا (عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَتْبَعُ امْتِزَاجَهُ هَذَا تَمَكُّنُ مَلِكَاتٍ أُخَرَ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ، وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ الَّذِي يُلَائِمُهَا) وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَلَا يُلَاحِظُهُ عِنْدَمَا يَعْمَلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الْعَلَمِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي نَفْسِهِ. وَمِنَ الْعُلُومِ مَا يُلَاحِظُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صُورَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَسْتَحْضِرُهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَةِ وَيَغِيبُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ الْقَلْبُ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالنَّفْسِ فَيَصِيرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهَا الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تُزَايِلُهَا (وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، كَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي يُحَصِّلُهُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مَثَلًا، وَكَعِلْمِ مَزَايَا الْفَضِيلَةِ وَرَزَايَا الرَّذِيلَةِ الَّذِي يُخَزِّنُهُ طُلَّابُ عُلُومِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالنُّظَّارُ فِي كُتُبِ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ، لِتَعْزِيزِ مَادَّةِ الْعِلْمِ، وَتَوْسِيعِ مَجَالِ الْقَوْلِ، وَتَوْفِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ الْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَالْأَدَاةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْعَامِلِ، يَبْقَى فِي خِزَانَةِ الْخَيَالِ، تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ عِنْدَمَا تَدْفَعُهَا الشَّهْوَةُ إِلَى تَزْيِينِ ظَاهِرِ الْمَقَالِ، لَا إِلَى تَحْسِينِ بَاطِنِ الْحَالِ، وَلَنْ يَكُونَ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْعِلْمِ أَدْنَى أَثَرٍ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ صَاحِبِهِ وَتَسْمِيَتُهُ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعَامِّ: " صُورَةٌ مِنَ الشَّيْءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ " وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ مَنْزِلَتُهُ إِلَى أَنْ يَنْدَرِجَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ (الْحَقِيقِيِّ) فَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْعِلْمِ كَاسْتِحْضَارِ الْكِتَابِ وَاللَّوْحِ وَإِدْرَاكِ مَا فِيهِ، ثُمَّ الذُّهُولِ عَنْهُ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ. فَهَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى - عِنْدَهُمْ عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ تَنْبَعِثُ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِي شَهَوَاتِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِذَوَاتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ عِنْدَهُمُ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ قَضَاؤُهَا وَالِانْصِبَابَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا خَزَّنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَأَبْعَدَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَجَعَلَهُ رَسْمًا مَخْزُونًا فِي الْخَيَالِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ، يَدْعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،

10

وَتُكَذِّبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَهُمْ إِلَى الدَّعْوَى الْقَوْلِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ مَا قَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (2: 3) فَإِنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ إِيمَانَهُمْ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ مَا الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لِمَنْ يَقْرَأُ لِيُحَاسِبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَزِنُ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِيمَانِ مَنْ قَبْلَهُ وَأَعْمَالِهِمْ، لَا لِمَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَى أَنَّهُ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ مَاتَ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْقَارِئُ نَفْسَهُ مِمَّنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ مَاتَ مَنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ فَالْقُرْآنُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، يَنْطَبِقُ حُكْمُهُ وَيَحْكُمُ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ (فَكُلٌّ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْدُرُ فِي عَمَلِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ عَنْ رُكُوبِ خَطِيئَاتِهِ، فَاعْتِقَادُهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ، لَا يَعْلُو عَنْ لَفْظٍ فِي مَقَالٍ، وَدَعْوَى عِنْدَ جِدَالٍ، فَإِذَا رَكَنَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ خَادِعٌ لِنَفْسِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ، يَظُنُّ أَنَّ عَلَّامَ الْغُيُوبِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْقُلُوبِ) . (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (7: 179) وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ (يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ) فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَلِضَعْفِ الْعَقْلِ أَسْبَابٌ: مِنْهَا: مَا هُوَ فِطْرِيٌّ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبَلَهِ وَالْعَتَهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ وَلَا يُلَامُ. وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّرْبِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، وَيَرَيْنُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَعْتَنُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَمْزِيقِ هَذِهِ الْحُجُبِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ السُّحُبِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ مُخَدِّرَاتِ الْعِرْفَانِ وَنُجُومِ الْفُرْقَانِ وَشُمُوسِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (43: 23) حَتَّى يَجِيءَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (33: 67) . وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَرَضَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: خُرُوجُ الْبَدَنِ عَنِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ وَصِحَّةِ أَعْضَائِهِ فَيَخْتَلُّ بِهِ بَعْضُ وَظَائِفِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَتَعْرِضُ الْآلَامُ لَهَا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اخْتِلَالِ مِزَاجِ النَّفْسِ، وَمَا يُخِلُّ بِكَمَالِهَا مِنْ نِفَاقٍ وَجَهْلٍ، وَارْتِيَابٍ وَشَكٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَاضْطِرَابِ حُكْمِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الْخَلْقِ، وَالْمَرَضُ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَخَصَّهُ شَيْخُنَا بِمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ وَبَيَانِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ عِنْدَمَا كَانُوا فِي فَتْرَةٍ حَظُّهُمْ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ أَلْفَاظِهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ إِقَامَةُ صُوَرِهَا. (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُنِيرُ بِبَعْثَةِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَوَجَدُوا مِنْهُ زَعْزَعَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَأَبَوُا الْإِيمَانَ، وَنَبَوَا عَنِ الْقُرْآنِ (وَزَادَ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَيْهِ) فَكَانَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَمًى فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَرَضًا عَلَى مَرَضِهِمْ. (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فَوْقَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، وَ " أَلِيمٌ " صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ أَلَمَ يَأْلَمُ فَهُوَ أَلِيمٌ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ نَفْسُهُ. (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَالِهِمْ) . أَقُولُ: وَأَمَّا مَرَضُ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ فَهُوَ الشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَعَنْ بَعْضِ تَلَامِيذِهِ: الرِّيَاءُ، وَحَسْبُكَ فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (9: 124 - 125) . أَقُولُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَكْذِبُونَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ،

11

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (يُكَذِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: إِثْبَاتُ جَمْعِهِمْ لِلرَّذِيلَتَيْنِ، أَيِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالثَّانِيَةُ سَبَبُ الْأُولَى، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَالْعَذَابُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، أَيْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَلَى الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَهَؤُلَاءِ فِي بَاطِنِهِمْ شَرٌّ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُكَذِّبُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْحَدُونَ جُحُودَ اسْتِكْبَارٍ، قَالَ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (6: 33) . قَالَ شَيْخُنَا: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْعَذَابُ فِيهَا مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ لَا بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لِمَ جُعِلَ الْعَذَابُ جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْكَذِبِ فِي التَّعْبِيرِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْهُ، وَبَيَانِ فَظَاعَتِهِ وَعِظَمِ جُرْمِهِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ مُشْتَمَلَاتِهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي غَايَاتِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَشَا الْكَذِبُ فِي قَوْمٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِمْ كُلُّ جَرِيمَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ قَبِيحًا إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِهِ وَمِنْهُ. اهـ. بِالْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) تَنْطِقُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغُرُورِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ التَّقَالِيدِ قَدْ سُوِّلَ لَهُ الْبَاطِلُ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، وَشُوِّهَ فِي نَظَرِهِ كُلُّ حَقٍّ لَمْ يَأْتِهِ عَلَى لِسَانِ رُؤَسَائِهِ وَمُقَلِّدِيهِ بِنَصِّهِ التَّفْصِيلِيِّ فَهُوَ يَرَاهُ قَبِيحًا، وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ هَذَا الْغُرُورَ بِمَا حَكَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بِمَا تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِنْ آمَنَ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي

يَجْتَثُّ أُصُولَ الْفَسَادِ وَيَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْإِدَادِ، وَيُحْيِي مَا أَمَاتَتْهُ الْبِدَعُ مِنْ إِرْشَادِ الدِّينِ، وَيُقِيمُ مَا قَوَّضَتْهُ التَّقَالِيدُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ. (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِالتَّمَسُّكِ بِمَا اسْتَنْبَطَهُ الرُّؤَسَاءُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَحْبَارُ وَالْعَرْفَاءُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِسُنَّتِهِمْ، وَأَدْرَى بِطَرِيقَتِهِمْ، فَكَيْفَ نَدَعُ مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْهُمْ وَنَذَرُ مَا يُؤْثِرُهُ آبَاؤُنَا وَشُيُوخُنَا عَنْهُمْ وَنَأْخُذُ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ وَطَارِفٍ لَيْسَ لَهُ تَلِيدٌ؟ هَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْسِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُصْلِحٌ فِي نَفْسِ إِفْسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ إِفْسَادِهِ عَارِفًا أَنَّهُ مُضِلٌّ - وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِفْسَادُهُ لِغَيْرِهِ لِعَدَاوَةٍ مِنْهُ لَهُ - فَإِنَّمَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَصْمَةِ الْإِفْسَادِ بِالتَّمْوِيهِ وَالْمُوَارَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسُوقًا إِلَى الْإِفْسَادِ بِسُوءِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا مِيزَانَ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ الْإِصْلَاحِ مِنَ الْإِفْسَادِ إِلَّا الثِّقَةُ بِالرُّؤَسَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُوَ يَدَّعِيهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمَ غَيْرَ مَا تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ تَقْلِيدِهِمْ وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مُفْسِدًا لِلْأُمَّةِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ وَالْحَقِيقَةَ الْوَاقِعَةَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا وَلَا اعْتِبَارَ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاشِئَ الْفَسَادِ وَمَصَادِرَ الْخَلَلِ وَلَا مَزَالِقَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا نَظَرَهُمُ الَّذِي يُمَيَّزُ ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُوقِعُوا غَيْرَهُمْ بِهَذِهِ الْمَهَالِكِ، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ الدَّاعِي إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِالْتِئَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُعَاءً إِلَى الْفُرْقَةِ وَالِانْفِصَامِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَأَيُّ إِفْسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَعَنِ الِاعْتِصَامِ بِدِينٍ فِيهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَفْسُدُ وَتَصْلُحُ بِأَهْلِهَا؟ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فَابْتَدَأَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ لِإِثْبَاتِ إِفْسَادِهِمْ بِكَلِمَةِ " أَلَا " الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ وَالْإِيقَاظُ وَتَوْجِيهُ النَّظَرِ، وَتَدُلُّ عَلَى اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَا يَحْكِيهِ بَعْدَهَا. (وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) بِأَنَّ هَذَا إِفْسَادٌ غَرَزَ فِي طَبَائِعِهِمْ بِمَا تَمَكَّنَ فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ بِتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ أُشْرِبُوا عَظَمَتَهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَانِدِينَ وَلَا مُرَائِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَمَلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يُخَادِعُونَ اللهَ) . وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ - كَمَا قَدَّمْنَا - فَلْيُحَاسِبْ بِهَا نَفْسَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُهُ وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لَهُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بِالْقَوْلِ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِهِ. وَأَقُولُ الْآنَ: هَذِهِ جُمْلَةُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَاضِعًا نُصْبَ عَيْنَيْهِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ، وَلَا سِيَّمَا فُقَهَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ، وَشِدَّةُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ السُّوءِ وَلَا سِيَّمَا فُقَهَاءِ عَصْرِنَا هَذَا، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَشُمُولِهَا

لَهُمْ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ مَا قَالُوا هُنَا، وَهُوَ لَا يَنْفِي رِيَاءَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنَ الْإِفْسَادِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وَمِنْهُ إِغْرَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدُهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِفْسَادٌ كَبِيرٌ فِي الْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَهُ بِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إِلَى حِفْظِ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمُ الْمُهَدَّدَةِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا كَتَبْتُ عَنْهُ رَأْيَهُ فِيمَنْ سَأَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ مَا ذُكِرَ وَأَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، هَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى أَوِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْمُؤْمِنُونَ؟ وَهِيَ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ - وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ سَأَلَ بَعْضًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالِ وَتَبَايُنِ الْآرَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (59: 14) فَأَيُّ مَانِعٍ لِنَهْيِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَنْ نَكْثِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِأَلَّا يُؤَلِّبُوا عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاكِثِينَ الْمُفْسِدِينَ: إِنَّ الْحَرْبَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْنَا شَرُّهَا فَيَطِيرَ مِنْ شَرَرِهَا مَا نَحْتَرِقُ بِهِ، فَدَعُوا تَأْلِيبَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ أَنْ يُجِيبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُفْسِدُونَ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِمُسَاعَدَةِ قَوْمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّنَا نَخْشَى مِنْهُ مَا لَا نَخْشَى مِنْهُمْ، فَقَدْ عِشْنَا مَعَهُمْ أَجْيَالًا لَمْ يُنَازِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ دِينِنَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يَحْتَقِرُونَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، بَلْ يَرَوْنَنَا فَوْقَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِينَا أَوْلَادَهُ لِنُرَبِّيَهُمْ وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ نُلَقِّنَهُمْ دِينَنَا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: إِنَّنَا ضَلَلْنَا عَنْ دِينِنَا نَفْسِهِ، وَيَعِيبُنَا بِتَحْرِيفِ سَلَفِنَا وَخَلَفِنَا لِكِتَابِنَا، وَبِمَا كَانَ مِنْ مَخَازِي تَارِيخِنَا كَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْثِ الْعُهُودِ، وَأَكْلِ السُّحْتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، لَا نَأْمَنُ أَنْ يُبْقِيَ لَنَا دِينَنَا وَمَكَانَتَنَا السَّامِيَةَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ هُوَ حَفِظَ عَهْدَهُ لَنَا، وَلَمْ يَغْدِرْ فَيُقَاتِلْنَا فَكَيْفَ إِذَا هُوَ غَدَرَ بِنَا وَقَاتَلَنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَوْمِهِ؟ . هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي السُّؤَالِ وَالسَّائِلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَعَلَّهُ أَقْوَى. وَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مَفْرُوضٌ وَفَرْضٌ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ جَوَانِحُهُمْ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَسَالِيبِ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهَا الْعُلَمَاءُ فِي بَيَانِ مُهِمَّاتِ الْمَسَائِلِ وَحَلِّ عَوِيصِ الْمَشَاكِلِ، وَيَقُولُونَ: إِذَا قِيلَ كَذَا قُلْنَا كَذَا، وَإِنْ سُئِلْنَا عَنْ هَذَا أَجَبْنَا بِكَذَا، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْبَلَاغَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِإِذَا عَمَّا كَانَ سَبَبُهُ قَوِيًّا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُسْكَتَ عَنْهُ، وَيُصَدَّرَ بِإِنْ إِذَا كَانَ سَبَبُهُ ضَعِيفًا وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُجَابَ عَنْهُ احْتِيَاطًا. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا - وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ جَعْلُهُ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ

13

كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ وَحِزْبِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَبِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فَعَلُوا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ وَإِنْ كَانَتِ الْغَزْوَتَانِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَرُوِيَ تَفْسِيرُ إِفْسَادِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَا قُلْنَاهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَدَعْوَاهُمْ: أَنَّ هَذَا إِصْلَاحٌ كَدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَكُلُّ مُفْسِدٍ وَضَالٍّ يُسَمِّي إِفْسَادَهُ وَضَلَالَهُ بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ، كَمَا يُسَمُّونَ الشِّرْكَ بِاللهِ فِي زَمَانِنَا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ: تَوَسُّلًا. . . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ ذَلِكَ الْجَهْلَ وَالْغُرُورَ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِصُورَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ تَشْوِيهًا مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَتُهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، وَهَذِهِ صُورَتُهُمْ فِي جَوْهَرِ إِيمَانِهِمْ، وَهِيَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الَّذِينَ تَعْتَقِدُونَ كَمَالَهُمْ وَتَرَوْنَ تَعْظِيمَهُمْ وَإِجْلَالَهُمْ: كَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَأَتْبَاعِهِمْ، الَّذِينَ كَانَ الْإِيمَانُ رَاسِخًا فِي جَنَابِهِمْ، وَمُؤَثِّرًا فِي وِجْدَانِهِمْ، وَمُصَرِّفًا لِأَبْدَانِهِمْ، أَوْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَائِكُمْ، (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسَّفَهِ: الطَّيْشُ وَخِفَّةُ الْعَقْلِ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ سُوءُ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ فَقِيلَ: سَفِهَ نَفْسَهُ، وَيَعْنُونَ بِالسُّفَهَاءِ أَتْبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاقِفِينَ عِنْدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، الْمُعْرِضِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمْ سَلَفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِمَا يَتَنَاقَلُونَهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) أَيْ وَحْدَهُمْ دُونَ مَنْ عَرَّضُوا بِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ سَلَفًا صَالِحًا تَرَكُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، زَعْمًا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَدْيِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اللَّحَاقُ بِهِ، وَاحْتِذَاءُ عَمَلِهِ، لِعُلُوِّهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَبُعْدِهِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ سَلَفِهِمُ انْتِظَارُ شَفَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسِيرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَجْدَرُ بِلَقَبِ السَّفِيهِ، أَهُمْ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ لَهُمْ أُسْوَةٌ صَالِحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا وَهَذِهِ حَالُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَقِيدَةِ وَقُبْحِ الْعَمَلِ؟ أَمْ مَنْ لَا سَلَفَ لَهُ إِلَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَقَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ مُطَمْئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَأَعْمَالُهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْإِحْسَانِ، كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ فَكَانُوا كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، بَلْ رُبَّمَا سَبَقُوهُمْ بِالْفَضَائِلِ، وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْفَوَاضِلِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ صَالِحٍ، وَدِينٍ قَيِّمٍ، هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ. (وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ السَّفَهَ مَحْصُورٌ فِيهِمْ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا عِنْدُهُمْ شُعُورٌ مَا

بِأَنَّهُمْ رَكِبُوا هَوَاهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ سَلَفِهِمْ وَلَا هُدَاهُمْ، يَنْتَحِلُونَ لَهُ الْعِلَلَ الضَّعِيفَةَ وَيَتَمَحَّلُونَ لَهُ الْأَعْذَارَ السَّخِيفَةَ، فَهُوَ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَكَيَّفُ بِهِ النَّفْسُ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ سَفَهِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حُسْنَ حَالِ سَلَفِهِمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَلَا يَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْأَمَانِيِّ وَالتَّعِلَّاتِ، كَقَوْلِهِمْ: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (3: 24) وَقَوْلِهِمْ (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (5: 18) وَشَعْبُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ، وَلَا يَصِحُّ نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعِلْمِ الْكَامِلِ الَّذِي يُزِيلُ الشُّبَهَ وَيَذْهَبُ بِالْعِلَلِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ. وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، يَعْتَقِدُونَ كَمَالَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِانْتِسَابِهِمْ إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الْعِظَامِ، وَلِكَوْنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَةِ اللهِ فِي الْقِدَمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَضُلَتْ سِوَاهَا بِكَوْنِهَا أُمَّةً وَسَطًا تَقُومُ عَلَى جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَسْعَى فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (2: 143) وَتَفْسِيرِ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (3: 110) وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَالتَّعِلَّاتُ. وَأَزِيدُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي شَرَحْتُ بِهِ قَوْلَ شَيْخِنَا فِي الدَّرْسِ: تَذْكِيرُ هَؤُلَاءِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي هَذَا كَمَا اتَّبَعُوهُمْ فِي غَيْرِهِ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ - أَزْيَدُ فِيهِ تَذْكِيرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (2: 78) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَفِي أَفْضَلِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (4: 123) الْآيَاتِ. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ جَرَيَانَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي مُنَافِقِي الْعَرَبِ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ - فَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، كَانُوا أَبْعَدَ عَنِ الْإِيمَانِ وَأَدْنَى إِلَى مُخَادَعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، فِي اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ -، أَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ عَادَوْا قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ وَهَجَرُوا وَطَنَهُمْ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِيَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ، فَلِأَنَّهُمْ شَارَكُوا الْمُهَاجِرِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَكَوْنُ هَذَا مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ - وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ: مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى

14

عَنْهُمْ فِي سُورَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (63: 7) . هَذَا - وَإِنَّنَا أَشَرْنَا إِلَى نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ فِي نُكْتَةِ نَفْيِ الْعِلْمِ الْآنَ مَا يُنَبِّهُ الْأَذْهَانَ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِي، فَمَوْضُوعُهُ عِلْمِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ ثَمَرَتَهُ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَتَهُ، فَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فِيمَا رَمَوْا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهِ بِشُبْهَةِ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا مَصْلَحَتَهُمْ وَمَصْلَحَةَ قَوْمِهِمُ الْأَنْصَارِ وَمَصْلَحَةَ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ سَبَبُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَتِهِ، وَمَنْ جَهِلَ الْمَلْزُومَ كَانَ بِلَوَازِمِهِ أَجْهَلَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِيمَانُ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ غَاوُونَ، أَوْ عُقَلَاءُ رَاشِدُونَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ فِي الْآيَاتِ: مَا فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ آخَرِ " السُّفَهَاءِ " وَأَوَّلِ " أَلَا " مِنْ قِرَاءَةِ تَحْقِيقِهِمَا بِالنُّطْقِ بِهِمَا مَعًا وَقِرَاءَتَيْ تَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَعَكْسِهِ، وَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِنْ كُلِّ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي وَصْفِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ - الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمِلَّةٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ - كَانَتْ عَامَّةً تَصَوِّرُ حَالَ أَفْرَادِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَانَ أُسْلُوبُهَا ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: (يُخَادِعُونَ) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) كَذَا - (قَالُوا) كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) الْآيَةَ، فَهُوَ وَصْفٌ قَدْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مِمَّنْ كَانَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، جَاءَ بَعْدَ الْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ وَحُكِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي،

لِيَكُونَ كَالتَّصْرِيحِ بِتَوْبِيخِ تِلْكَ الْفِئَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، الَّتِي بَلَغَتْ مِنَ التَّهَتُّكِ فِي النِّفَاقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ أَنْ تَظْهَرَ بِوَجْهَيْنِ، وَتَتَكَلَّمَ بِلِسَانَيْنِ، وَمَا بَلَغَ كُلُّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ بَعْضُ الْوَاهِمِينَ: إِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مُنَافِقِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْنِيدُهُ فَلَا نُعِيدُهُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ أَيْضًا تُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْوَاقِعِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " إِذَا " تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَعْنَى الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي لِتَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ وَإِيذَائِهِمْ بِأَنَّ بِضَاعَةَ النِّفَاقِ وَالْمُدَاجَاةِ لَا تَرُوجُ فِي سُوقِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ، وَأَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْهِمْ وَوَبَالَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ. كَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُدْهِنُونَ فِي دِينِهِمْ، فَإِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِمَا أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ وَعُمَّالِ الْإِفْسَادِ وَأَنْصَارِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمَا يُقِيمُونَ أَمَامَهُ مِنْ عَقَبَاتِ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا يُلْقُونَ فِيهِ مِنْ أَشْوَاكِ الْمَعَايِبِ وَتَضَارِيسِ الْمَذَامِّ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا، وَكَمْ مِنْ رَئِيسٍ مَغْمُولٍ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخُمُولِ، لَا يَنْصُرُ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ فِيهِ رَشَادَهُ، وَفِي عِزَّتِهِ عِزَّهُ وَإِسْعَادَهُ، وَكَمْ مِنْ مَرْءُوسٍ شَدِيدِ الْعَزِيمَةِ قَوِيِّ الشَّكِيمَةِ يَكُونُ لَهُ فِي نَصْرِ مَلَّتِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ أُمَّتِهِ، مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الرُّؤَسَاءُ، وَلَا يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْأُمَرَاءِ. وَلِلذُّبَابَةِ فِي الْجُرْحِ الْمُمِدِّ يَدٌ تَنَالُ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ يَدُ الْأَسَدِ (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ وَعَمَلِكُمْ، وَإِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، فَكَشَفَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا التَّلَوُّنِ وَهَذِهِ الذَّبْذَبَةِ، وَقَابَلَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا هَدَمَ بُنْيَانَهُمْ وَفَضَحَ بُهْتَانَهُمْ، فَقَالَ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَصْلُ الِاسْتِهْزَاءِ: الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فِي النَّفْسِ وَإِنْ أَظْهَرَ الْمُسْتَخِفُّ الِاسْتِحْسَانَ وَالرِّضَا تَهَكُّمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَالُ بِذَاتِهِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَازِمِهِ، وَالْمُسْتَهْزِئُ بِإِنْسَانٍ فِي نَحْوِ مَدْحٍ لِعِلْمِهِ وَاسْتِحْسَانٍ لِعَمَلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهِ غَيْرُ مُبَالٍ بِهِ وَلَا مُعْتَنٍ بِعِلْمِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرْجِعْهُ عَنْهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِرْسَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ فِي عَمَلِهِ الْقَبِيحِ، فَمَعْنَى ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ فَتَطُولُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُ، وَتُبْطِئُ عَنْهُمْ نِقْمَتُهُ) ثُمَّ يُسْقِطُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

15

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وَالْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ وَظُلْمَةُ الْبَصِيرَةِ، وَأَثَرُهُ الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلصَّوَابِ. أَقُولُ: هَذَا مُلَخَّصُ سِيَاقِ الدَّرْسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ التَّحَيُّرِ، يُقَالُ: عَمَهَ فَهُوَ عَمِهٌ، وَعَامِهٌ، وَجَمْعُهُ: عُمُّهٌ (بِالتَّشْدِيدِ) اهـ. وَالِاسْتِهْزَاءُ: فِعْلُ الْهَزْءِ - بِسُكُونِ الزَّايِ وَضَمِّهَا - وَقَصْدُهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَنْ هَزِئْتُ بِهِ وَمِنْهُ، وَفِي لُغَةٍ هَزَأْتُ، فَهُوَ مِنْ بَابَيْ تَعِبَ وَنَفَعَ - وَاسْتَهْزَأْتُ بِهِ، أَيِ اسْتَخْفَفْتُ بِهِ وَسَخِرْتُ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ، يُقَالُ: هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى - كَأَجَبْتُ وَاسْتَجَبْتُ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَمِنَ الْهُزُؤِ: وَهُوَ الْقَتْلُ السَّرِيعُ، يُقَالُ: هَزَأَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ، أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهَزْءُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ: وَالِاسْتِهْزَاءُ مِنَ اللهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ اللهِ اللهْوُ وَاللَّعِبُ - تَعَالَى الله عَنْهُ - وَقَوْلُهُ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْهُزُؤِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ أَخَذَهُمْ مُغَافَصَةً (أَيْ مُفَاجَأَةً عَلَى غِرَّةٍ) فَسَمَّى إِمْهَالَهُ إِيَّاهُمُ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِهِ اغْتِرَارَهُمْ بِالْهُزُؤِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاسْتِدْرَاجِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ اهـ. وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ أَوْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) (57: 13) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) (83: 29 - 35) وَقِيلَ: إِنَّ اسْتِهْزَاءَهُ تَعَالَى بِهِمْ إِجْرَاؤُهُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ فِي خِدَاعِهِ لَهُمْ. وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ طُغْيَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ تَجَاوُزُ فَيَضَانِهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ. وَالْمَدُّ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ، يُقَالُ: مَدَّ الْبَحْرُ زَادَ وَارْتَفَعَ مَاؤُهُ وَانْبَسَطَ وَمَدَّهُ اللهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (31: 27) وَمَدُّ الْبَحْرِ يُقَابِلُهُ الْجَزْرُ، وَهُوَ: انْحِسَارُ مَائِهِ عَنِ السَّاحِلِ وَنُقْصَانُ امْتِدَادِهِ، وَيُسَمَّى السَّيْلُ مَدًّا مِنْ قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمَدَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - لِلْجَيْشِ، يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (19: 75) وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ

16

قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (6: 110) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتْ حَالَهُمُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَعَمَهَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ بِخَلْقِ رَبِّهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَدْ فَسَّرُوا (اشْتَرَوْا) بِاسْتَبْدَلُوا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَصْلًا فِي الْمَعْنَى، وَكُلَّنَا نَعْتَقِدُ - وَالْحَقُّ مَا نَعْتَقِدُ - أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْتَارُ لَفْظًا عَلَى لَفْظٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ، وَلَا يُرَجِّحَ أُسْلُوبًا عَلَى أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ تَأْدِيَةُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَخُصُوصِيَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَا اخْتَارَهُ وَرَجَّحَهُ، وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِ ((اشْتَرَوْا)) عَلَى اسْتَبْدَلُوا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ لَا يَكُونُ شِرَاءً إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسْتَبْدَلُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَائِدَةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ وَهْمِيَّةً. ثَانِيهِمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَيْنَ مُتَبَايِعِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِكَ بَدَلَ آخَرَ، يُقَالُ: إِنَّكَ اسْتَبْدَلْتَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْآيَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى لِفَائِدَةٍ لَهُمْ بِإِزَائِهَا يَعْتَقِدُونَ الْحُصُولَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، وَمَثَلُهُمَا الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ، وَلَا يُؤَدِّيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِبْدَالِ. ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ سَمَاوِيَّةٌ فِيهَا مَوَاعِظُ وَأَحْكَامٌ، وَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللهَ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ التَّقَالِيدِ، وَأَغْلَالَ التَّقَيُّدِ بِإِرَادَةِ الْعَبِيدِ، وَيَرْعَى جَمِيعَ الْأُمَمِ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُرْجِعُ لِلْعُقُولِ نِعْمَةُ الِاسْتِقْلَالِ، وَيَجْعَلُ إِرَادَةَ الْأَفْرَادِ هِيَ الْمُصَرِّفَةَ لِلْأَعْمَالِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ مِنْ هِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالْكِتَابِ، وَلَكِنْ نَجَمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْبِدَعُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمُ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، وَعَلَا سُلْطَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى سُلْطَانِ الدِّينِ، فَضَلَّ الرُّؤَسَاءُ فِي فَهْمِهِ بِتَحْكِيمِ تَقَالِيدِهِمْ فِي أَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَهْمَلَ الْمَرْءُوسُونَ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ فِي الْكِتَابِ بِحَظْرِ الرُّؤَسَاءِ وَأَثَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفِي فَهْمِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَا هِدَايَتَيْنِ مَمْنُوحَتَيْنِ لَهُمْ لِإِسْعَادِهِمْ، وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ: لِلرُّؤَسَاءِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلِلْمَرْءُوسِينَ الِاسْتِعَانَةُ بِجَاهِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَرَفْعِ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ بِفَتَاوَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، هَكَذَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى - وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ - رَغْبَةً فِي الْحُطَامِ،

وَطَمَعًا فِي الْجَاهِ الْكَاذِبِ (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فِي الدُّنْيَا، إِذَ لَمْ تُثْمِرْ لَهُمْ ثَمَرَةً حَقِيقِيَّةً، بَلْ خَسِرُوا وَخَابُوا بِإِهْمَالِهِمُ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ وَلَا تُحْفَظُ الْمَنَافِعُ إِلَّا بِهِ، وَإِسْنَادُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ عَرَبِيٌّ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ: هُوَ النَّمَاءُ فِي التَّجْرِ، وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُثْمِرَ الرِّبْحَ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ (كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَكُنْ نَمَاءٌ فِي تِجَارَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ - الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنَّ إِسْنَادَ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ وَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ - تَأْوِيلٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُنَافِيهَا، وَلَا زَالَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُزَيِّنُ الْبُلَغَاءُ بِهِ كَلَامَهُمْ، وَيُبَلِّغُونَ بِهِ مَا يَشَاءُونَ مِنْ تَفْخِيمِ مَعَانِيهِمْ) . (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ فَهْمِهِ، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا فِيهَا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِظُلُمَاتِ التَّقَالِيدِ وَضَلَالَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي زَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ وَلَا مَسَّ الرُّشْدُ قُلُوبَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُمْ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ قَطُّ فِي فَهْمِ أَسْرَارِهِ وَاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهِ، وَلَا يَذْهَبْنَ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، ثُمَّ تَرَكُوا الْهُدَى لِلضَّلَالَةِ، فَيَتَنَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ آخِرِهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مُنِحَ الْهُدَى يَأْخُذُ بِهِ فَيَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَهَؤُلَاءِ حُمِّلُوهُ فَبَاعُوهُ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الِاشْتِرَاءِ، وَيُشْبِهُهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (41: 17) وَاللهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (الْهُدَى) بِالْإِمَالَةِ، أَيْ جَعْلِ مَدِّهَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَعَدَمُ الْإِمَالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْفُصْحَى، وَلَمَّا كَانَ يَعْسُرُ عَلَى لِسَانِ مَنِ اعْتَادَهَا تَرْكُهَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِيمَا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أَقُولُ: الْمَثَلُ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمِثْلُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَثِيلُ كَالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ وَالشَّبِيهِ وَزْنًا وَمَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مِنْ مَثُلَ الشَّيْءُ مُثُولًا إِذَا انْتَصَبَ بَارِزًا فَهُوَ مَاثِلٌ، وَمَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ - صِفَتُهُ الَّتِي تُوَضِّحُهُ وَتَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا يُرَادُ بَيَانُهُ مِنْ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَبْلَغُهُ: تَمْثِيلُ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ بِالصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَعَكْسُهُ، وَمِنْهُ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ وَتُسَمَّى الْأَمْثَالَ السَّائِرَةَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَمِنْهُ مَا يُسَمِّيهِ

الْبَيَانِيُّونَ الِاسْتِعَارَةَ التَّمْثِيلِيَّةَ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِ، وَالتَّمْثِيلُ: أَمْثَلُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَأَشَدُّهَا تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ وَإِقْنَاعًا لِلْعَقْلِ، قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (29: 43) وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ وَفَّاهُ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الْمُقْنِعِ إِلَّا إِمَامَهُمُ الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ فِي كِتَابِهِ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَهَاكَ مَا كُنْتُ كَتَبْتُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا، مُقْتَبِسًا مَعَانِيهِ مِنْ دُرُوسِ أُسْتَاذِنَا الْإِمَامِ: هَذَا مَثَلٌ مِنْ مَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ: الَّذِينَ قَرَعَ الْقُرْآنُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِ أَنْ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي شَرِّ فِرْقَةٍ وَأَطْوَارِهِمْ بِضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي أَتَمِّ مَجَالِيهِ، وَتَأَثُّرُ النُّفُوسِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ، نَاهِيكَ بِمَا فِي التَّنَقُّلِ فِي الْأَسَالِيبِ مِنْ تَوْجِيهِ الذِّهْنِ إِلَى سَابِقِ الْقَوْلِ وَدَعْوَةِ الْفِكْرِ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا مَضَى مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ بَلَاءَ هَذَا الصِّنْفِ عَظِيمٌ، وَدَاءَهُ دَفِينٌ، وَعِلَاجَهُ مُتَعَسِّرٌ - لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَنِعْمَةُ الْعَافِيَةِ - لِمَا كَانَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَلَا مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُعْنَى بِشَأْنِهِ كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَزْيِيفِ رَأْيِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ. ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الصِّنْفِ فِي مَجْمُوعِهِ مَثَلَيْنِ، وَيُنْبِئَانِ بِانْقِسَامِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، خِلَافًا لِمَا فِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ فِي أَنَّ الْمَثَلَيْنِ لِفَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَمَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ. (الْأَوَّلُ) : مَنْ آتَاهُمُ اللهُ دِينًا وَهِدَايَةً عَمِلَ بِهَا سَلَفُهُمْ فَجَنَوْا ثَمَرَهَا، وَصَلَحَ حَالُهُمْ بِهَا أَيَّامَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، آخِذِينَ بِإِرْشَادِ الْوَحْيِ، وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ سَلَفِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي حَقَائِقِ مَا جَاءَهُمْ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ عِنْدَ سَلَفِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَادَةٍ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا خُصُّوا بِهِ، أَوْ خَيْرًا سِيقَ إِلَيْهِمْ، لِظَاهِرِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ امْتَازُوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَمْ يُخَالِطْ سَرَائِرَهُمْ، وَلَمْ تَصْلُحْ بِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَأَخَذُوا بِتَقَالِيدَ وَعَادَاتٍ لَمْ تَدَعْ فِي نُفُوسِهِمْ مَجَالًا لِغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قَطُّ فِي كَوْنِهِمْ أَحْرَى بِالتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَوْجُودِ أَيْسَرُ مِنْ إِيجَادِ الْمَفْقُودِ، بَلْ لَمْ يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَ الْكِتَابِ الَّذِي اقْتَدَى مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا فِيهِ شُمُوسُ الْعِرْفَانِ وَنُجُومُ الْفُرْقَانِ، لِزَعْمِهِمْ: أَنَّ فَهْمَهُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، يُؤْخَذُ بِأَقْوَالِهِمْ مَا وَجَدُوا، وَبِكُتُبِهِمْ إِذَا فَقَدُوا. فَمَثَلُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الصِّنْفِ الْمَخْذُولِ - فِي فَقْدِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ، وَحِرْمَانِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالْمَرَّةِ، وَانْطِمَاسِ الْآثَارِ دُونَهَا عِنْدَهُ - مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَخْ. وَالْوَجْهُ فِي التَّمْثِيلِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِكِتَابٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ قَدْ طَلَبَ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ يَهْتَدِي بِهَا فِي الشُّبَهَاتِ، وَيَسْتَضِيئُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الرِّيَبِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَيُبْصِرُ عَلَى ضَوْئِهَا مَا قَدْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ مُفْتَرِسَةِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ بِمَا أُودِعَتْهُ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَكَادَ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَمْشِي عَلَى هِدَايَةٍ وَسَدَادٍ هَجَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ

19

التَّقْلِيدِ الْخَبِيثِ، وَعَصَبَ عَيْنَيْهِ شَيْطَانُ الْغُرُورِ، فَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ النُّورُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَوُّ الضَّلَالَةِ بَلْ طَفِئَ فِيهِ نُورُ الْفِطْرَةِ، وَتَعَطَّلَتْ قُوَى الشُّعُورِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ. وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إِلَخْ، وَهُوَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ بَصِيصٌ مِنَ النُّورِ، فَلَهُ نَظَرَاتٌ تَرْمِي إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَحْيَانًا، وَلِمَعَانِي التَّنْزِيلِ لَمَعَانٌ يَسْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَيَأْتَلِقُ فِي نَظَرِهِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ عِنْدَمَا تُحَرِّكُهُ الْفِطْرَةُ، أَوْ تَدْفَعُهُ الْحَوَادِثُ لِلنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ فِي ظُلُمَاتٍ حَوَالِكَ، وَمِنَ الْخَبْطِ فِيهَا عَلَى حَالٍ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَهَالِكِ، وَهُوَ فِي تَخَبُّطِهِ يَسْمَعُ قَوَارِعَ الْإِنْذَارِ الْإِلَهِيِّ وَيَبْرُقُ فِي عَيْنَيْهِ نُورُ الْهِدَايَةِ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُ ذَلِكَ الْبَرْقُ السَّمَاوِيُّ سَارَ، وَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ بِشُبَهِ الضَّلَالَاتِ الْغَرَّارَةِ قَامَ وَتَحَيَّرَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ نُذُرِ الْكِتَابِ وَدُعَاةِ الْحَقِّ كَمَنْ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِرْشَادَ الْمُرْشِدِ، وَلَا نُصْحَ النَّاصِحِ، يَخَافُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَارِعِ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَمِنْ صَوَاعِقِ النُّذُرِ أَنْ تُهْلِكَهُ. هَذَا هُوَ شَأْنُ فَرِيقَيْ هَذَا الصِّنْفِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَثَلَانِ إِجْمَالًا، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَ " الَّذِي " فِي الْجَمْعِ كَلَفْظَيْ " مَا " وَ " مِنْ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) (9: 69) وَإِنْ شَاعَ فِي " الَّذِي " الْإِفْرَادُ؛ لِأَنَّ لَهُ جَمْعًا، وَقَدْ رُوعِيَ فِي قَوْلِهِ " اسْتَوْقَدَ " لَفْظُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مَعْنَاهُ، وَالْفَصِيحُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى آخِرًا. وَالتَّفَنُّنُ فِي إِرْجَاعِ الضَّمَائِرِ مُتَفَرِّعَةً ضَرْبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى فِي الذِّهْنِ وَيَهَبُهُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَتَأْكِيدٍ بِمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْمُخْتَلِفَاتِ. أَقُولُ: اسْتَوْقَدَ النَّارَ: طَلَبَ وَقُودَهَا بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِمَعْنَى أَوْقَدَهَا وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ طَلَبَ بِإِضْرَامِهَا وَإِيرَائِهَا أَنْ تَقِدَ، يُقَالُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وَتَوَقَّدَتْ وَاتَّقَدَتْ وَاسْتَوْقَدَتْ - لَازِمٌ - وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ قَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، - وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ - وَأَمَّا مُنَافِقُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَتِهِمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (63: 3) الْآيَةَ. فَيُقَالُ فِيهِمْ: مَثَلُهُمْ وَصِفَتُهُمْ فِي إِسْلَامِهِمْ أَوَّلًا وَكُفْرِهِمْ آخِرًا كَمَثَلِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ أَوْقَدَ نَارًا لِيَنْتَفِعَ بِهَا فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَيُبْصِرُ مَا حَوْلَهُ مِمَّا عَسَاهُ يَضُرُّهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ يَنْفَعَهُ لِيَجْتَنِيَهُ (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) يُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَالشَّمْسُ وَأَضَاءَتْ - لَازِمٌ - وَيُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ وَأَضَاءَتْهُ النَّارُ، أَيْ أَظْهَرَتْهُ بِضَوْئِهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنْتَ لَمَّا ظَهَرْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ

وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْيَاءِ وَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهَا (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بِإِطْفَاءِ نَارِهِمْ بِنَحْوِ مَطَرٍ شَدِيدٍ نَزَلَ عَلَيْهَا، أَوْ عَاصِفٍ مِنَ الرِّيحِ جَرَفَهَا وَبَدَّدَهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَثَلِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَضْرُوبِ فِيهِمُ الْمَثَلُ مِنَ الْعَرَبِ، فَالنُّورُ نُورُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَضَاءَ قُلُوبَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (39: 22) وَذَهَابُهُ فِي الدُّنْيَا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ أَوِ الْجَزْمِ بِالْكُفْرِ حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُدْرِكُونَ مَنَافِعَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَأَمَّا ذَهَابُهُ بَعْدَهَا فَأَوَّلُهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَرَى بِالْمَوْتِ أَوْ قُبَيْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَنْزِلَتَهُ بَعْدَهَا، وَبَعْدَهُ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ أَيْ حَيَاةُ الْبَرْزَخِ، وَبَعْدَهَا مَوْقِفُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (57: 13 - 14) إِلَخْ. الْآيَةِ التَّالِيَةِ (15) ، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَصْدَقُ بَيَانٍ لِلْمُرَادِ مِنْ ذَهَابِ اللهِ بِنُورِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ إِجْبَارًا لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ فِتْنَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِلَخْ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَطْبِيقِ الْمَثَلِ عَلَى الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا مَعْنَاهُ: اسْتَوْقَدُوا بِفِطْرَتِهِمُ السَّلِيمَةِ نَارَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُهَا، فَاجَأَتْهُمُ التَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ، وَبَاغَتَتْهُمُ الْعَادَاتُ الْمَأْلُوفَةُ، وَشَغَلَهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْمَصَارِعِ وَالْمَفَاسِدِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَهَارِهِ الْمُشْرِقِ وَظُلُمَاتِ لَيْلِهَا الْبَهِيمِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا الدَّيْجُورَ بِذَلِكَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى ذَهَابِ نُورِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وَلَمْ يُقَلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، أَوْ أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ مَعَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عِنْدَمَا اسْتَوْقَدُوا النَّارَ فَأَضَاءَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ عَلَى سَبِيلِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، مُعْتَقِدِينَ صِحَّةَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، وَبِأَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُمْ عِنْدَمَا نَكَبُوا عَنْ تِلْكَ السَّبِيلِ، وَعَافُوا ذَلِكَ الْمَوْرِدَ السَّلْسَبِيلَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ الْمُسْتَرْشِدَ تَكُونُ لَهُ حَالَةٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى مَرْضِيَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَقَصْدِ اتِّبَاعِ هُدَاهُ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَذَهَبَ بِنُورِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ النُّورُ لَا يَبْقَى إِلَّا الظُّلْمَةُ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي ظُلْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ التَّقَالِيدِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا، وَبِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) شَيْئًا. حَذَفَ مَفْعُولَ يُبْصِرُونَ إِيذَانًا بِالْعُمُومِ، أَيْ لَا يُبْصِرُونَ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْهِدَايَةِ وَلَا يَرَوْنَ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِهَا لِأَنَّهُ صَرَفَ عِنَايَتَهُ عَنْهُمْ بِتَرْكِهِمْ سُنَّتَهُ وَإِهْمَالِهِمْ هِدَايَتَهُ وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَا وَيْلَ مَنْ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَرَمَهُ تَوْفِيقَهُ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ. هَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِفَرِيقٍ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ أَبْوَابِ الْهِدَايَةِ فَلَا يَثِقُ بِعُقَلِهِ وَلَا بِحَوَاسِّهِ وَلَا بِوِجْدَانِهِ إِذَا خَالَفَتْ تَقَالِيدَهُ، وَعَدَمُ الْإِبْصَارِ بِذَهَابِ النُّورِ غَيْرُ كَافٍ لِتَمْثِيلِ هَذَا الْيَأْسِ وَالْحِرْمَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَلُوحَ بَارِقٌ أَوْ يَذَرَ شَارِقٌ أَوْ يَصِيحَ طَارِقٌ، فَتَكُونَ الْهِدَايَةُ وَتَنْكَشِفَ الْغَوَايَةُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أَيْ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مَنْفَعَةَ السَّمْعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّفْسِ مَا يُلْقِيهِ الْمُرْشِدُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالدَّلَائِلِ النَّاصِعَةِ، فَلَا يُصِيخُونَ إِلَى وَعْظِ وَاعِظٍ، وَلَا يُصْغُونَ لِتَنْبِيهِ مُنَبِّهٍ ((فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ)) بَلْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ أَصَاخُوا، وَلَا يَفْقَهُونَ وَإِنْ سَمِعُوا، فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوا وَفَقَدُوا مَنْفَعَةَ الِاسْتِرْشَادِ بِالْقَوْلِ وَطَلَبِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَعَاهِدِهَا، فَلَا يَسْأَلُونَ بَيَانًا، وَلَا يَطْلُبُونَ بُرْهَانًا، وَفَقَدُوا خَيْرَ مَنَافِعِ الْإِبْصَارِ وَهُوَ نَظَرُ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَا يَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ فَيَنْزَجِرُوا، وَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَنْقَلِبُ بِهِ أَحْوَالُ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ ظُلُمَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَفَقَدَ فِيهَا جَمِيعَ حَوَاسِّهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا أَنْ يَصِيحَ هُوَ لِيُنْقِذَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلَا أَنْ يَرَى بَارِقًا يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ مِنْ تِيهِهِ بَلْ يَظَلُّ يَعُمُّهُ فِي الظُّلُمَاتِ حَتَّى يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ ضَارٍ، أَوْ يَصِلَ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَيَنْهَارَ بِهِ فِي شَرِّ قَرَارِهِ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

هَذَا هُوَ مَثَلُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ، الَّذِي كَانَ أَفْرَادُهُ وَلَا يَزَالُونَ فِتْنَةً لِلْبَشَرِ، وَمَرَضًا فِي الْأُمَمِ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ بِغُرُورِهِمْ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي اكْتَفَوْا بِهَا مِنْ دِينِهِمُ الْمَوْرُوثِ، يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ، وَيَلْهُونَ بِخَيَالَاتِهِمْ، وَيَجْنُونَ عَلَى مَشَاعِرِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ فَيُضَعِّفُونَهَا، وَيُصَارِعُونَ الْفِطْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ فَيَصْرَعُونَهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ كَالْجَمَادَاتِ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَيَأْلَفُ الْبَعْضُ الْآخَرُ الظُّلْمَةَ بِطُولِ التَّقْلِيدِ، وَيَكُونُ أَفْرَادُهُ فِي نُورِ الْبُرْهَانِ كَالْخَفَافِيشِ فِي نُورِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُمْ أَمْثَلُ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مِنَ الرَّجَاءِ وَرَمَقًا مِنَ الْحَيَاةِ، يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ كُلَّمَا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا، وَالْمَشْيِ فِي الْجَادَّةِ كُلَّمَا اسْتَبَانُوا طَرِيقَهَا، وَلَكِنْ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ ظُلُمَاتُ التَّقَالِيدِ الْعَارِضَةُ، وَتَقِفُ فِي السَّبِيلِ عَقَبَاتُ الْبِدَعِ الْمُعَارِضَةُ، وَقَدْ يُعِدُّهُمْ لِاسْتِمَاعِ قَوَارِعِ الْآيَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُمْ بِمَا حَرَّفُوا، وَصَوَادِعِ الْحُجَجِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ انْحَرَفُوا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهَا إِلَّا أَنَّهَا تُزْعِجُهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا صَنَّفُوا وَأَلَّفُوا، وَهَجْرِ مَا أَحَبُّوا وَأَلِفُوا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ بِعَظَمَةِ الرُّؤَسَاءِ، فَهُمْ يَتَرَاوَحُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَحُودِ وَأَهْلِ الْيَقِينِ (لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ) ، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهُمُ الْأَمَلُ، حَتَّى يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَجَلُ. أَلَا تَرَاهُمْ عِنْدَمَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ سِيرَتِهِمْ، وَالْتِوَاءَ طَرِيقَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّعْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَحِكَايَةِ مَا لَمْ يَرْضَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (43: 22) إِلَخْ: وَقَوْلِهِ فِي بَيَانِ نَدَمِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، عِنْدَمَا يَحُلُّ بِهِمُ الْوَعِيدُ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (33: 67) يَأْخُذُهُمُ الزِّلْزَالُ، وَيَتَوَلَّاهُمُ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ، وَتَنْشَقُّ لَهُمُ الظُّلْمَةُ عَنْ فَلَقٍ، وَيَلْمَعُ فِي نُفُوسِهِمْ نُورُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ فَيَمْشُونَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ تُحِيطُ بِهِمُ الظُّلُمَاتُ وَيَنْقَطِعُ بِهِمُ الطَّرِيقُ كَمَا أَلْمَعْنَا آنِفًا، وَأَسْبَابُ غَلَبَةِ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ: هِيَ مُوَافَقَةُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْهَوَى، وَتَفْضِيلُ عَرَضِ هَذَا الْأَدْنَى، وَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ بِمَا تَأَوَّلُوهُ فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، وَتَمَنِّي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (7: 169) بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَدْرُوسٌ بِجَدَلِيَّاتِ النَّحْوِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ دَارِسُ الصُّوَى وَالْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَحْلَامِ، وَمَقْرُوءٌ بِالتَّجْوِيدِ وَالْأَنْغَامِ، وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ، يَقْرَءُونَهُ لِكَسْبِ الْحُطَامِ لَا لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَتْلُونَهُ لِإِصْلَاحِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَكْتُبُونَهُ لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ مِنَ الْأَسْقَامِ

لَا لِشِفَاءِ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْآثَامِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْصَارٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَهُدَاةٌ يَعْتَصِمُونَ بِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ، لَتَبَدَّدَتِ الظُّلُمَاتُ أَمَامَ الْأَنْوَارِ، وَمَحَتْ آيَةَ اللَّيْلِ آيَةُ النَّهَارِ. تِلْكَ الْإِرْشَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَطَرِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالزِّلْزَالُ وَالِاضْطِرَابُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعْدِ، وَاسْتِبَانَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَلْمَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَالْبَرْقِ، وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْخَوْفِ مِنْ ذَمِّ الْجَمَاهِيرِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمَا يُخَالِفُهُمْ كَالظُّلُمَاتِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ بَلْ تُعَمِّيهِ عَلَى طَالِبِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي تَمْثِيلِ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ قَوْمٍ نَزَلَ بِهِمْ صَيِّبٌ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّيِّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهُ وَلَيْسَ مِلَاكُهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يُلِمُّ بِالنَّاسِ مِمَّا لَا دَافِعَ لَهُ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ السَّوَانِحَ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْأَفْكَارِ، وَالْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْحَابِ الْفِطْرَةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَثَلُ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، هِيَ أَمْرٌ وَهَبِيٌّ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ. قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّيِّبِ: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الظُّلُمَاتُ: هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السُّحُبِ وَظُلْمَةُ الصَّيِّبِ نَفْسِهِ، وَالرَّعْدُ: هُوَ الصَّوْتُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُسْمَعُ فِي السَّحَابِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ أَحْيَانًا، وَالْبَرْقُ: هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي السَّحَابِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَلْمَعُ مِنَ الْأُفُقِ حَيْثُ لَا سَحَابَ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ أَوْ صَوْتُهُ، وَالْبَرْقَ سَوْطُهُ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، كَأَنَّ الْمَلَكَ جِسْمٌ مَادِّيٌّ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ بِالْآذَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ، وَكَأَنَّ السَّحَابَ حِمَارٌ بَلِيدٌ لَا يَسِيرُ إِلَّا إِذَا زُجِرَ بِالصُّرَاخِ الشَّدِيدِ وَالضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صُرِفَتْ عَنْ مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْوَاضِعُونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَى مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَمَنْ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَلِعُوا بِحَشْوِ تَفَاسِيرِهِمْ بِالْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى كَذِبِهَا، كَمَا وَلِعُوا بِحَشْوِهَا بِالْقِصَصِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تَلَقَّفُوهَا مِنْ أَفْوَاهِ الْيَهُودِ وَأَلْصَقُوهَا بِالْقُرْآنِ لِتَكُونَ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْوَحْيِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِالْوَحْيِ غَيْرَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ وَأَسَالِيبُهُ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ عَنِ الْمَعْصُومِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُبُوتًا لَا يُخَالِطُهُ الرَّيْبُ. أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ رَدًّا عَلَى الْجَلَالِ فِيمَا تَبِعَ فِيهِ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَلَا يَصَحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمْثِلَةُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ رَأَيْنَا السُّيُوطِيَّ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ هَذِهِ

الرِّوَايَاتِ شَيْئًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِهِ (الدُّرُّ الْمَنْثُورُ) الْمُخَصَّصُ لِنَقْلِ الْمَأْثُورِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَأَنَّ هَذَا عَدَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِيهِ، وَفَسَّرَهُمَا الْبَغَوِيُّ بِمَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ، فَقَالَ فِي الرَّعْدِ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ وَفِي الْبَرْقِ: هُوَ النَّارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ. وَالْبَرْقُ: لَمَعَانُ سَوْطٍ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ. وَقِيلَ: الصَّوْتُ زُجْرُ السَّحَابِ، وَقِيلَ: تَسْبِيحُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ نُطْقُ الْمَلِكِ وَالْبَرْقُ ضَحِكُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّعْدُ اسْمُ الْمَلَكِ وَيُقَالُ لِصَوْتِهِ أَيْضًا رَعْدٌ، وَالْبَرْقُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يُزْجِي السُّحُبَ فَإِذَا تَبَدَّدَتْ ضَمَّهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتْ مِنْ فِيهِ النَّارُ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِيمَا يَظْهَرُ. أَقُولُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِمَّا كَانَ يُذِيعُهُ مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ، وَلَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَالْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَظَاهِرَ الْكَوْنِيَّةَ تَقَعُ بِفِعْلِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِالسَّحَابِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ شَيْءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُمْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ إِلَّا إِذَا تَمَثَّلُوا لِنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ أَوِ الْإِرْهَاصِ، كَتَمَثُّلِ الرُّوحِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -، وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبَرْقُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ لَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ. وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ: وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالرَّعْدُ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَبَبَهُ اضْطِرَابُ أَجْرَامِ السَّحَابِ وَاصْطِكَاكُهَا إِذَا حَدَتْهَا الرِّيحُ مِنَ الِارْتِعَادِ. اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَالسَّحَابُ: بُخَارٌ لَا يُحْدِثُ اضْطِرَابُهُ صَوْتًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الصَّيِّبِ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) الصَّاعِقَةُ هِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَيَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَهِيَ مَا يَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ فَيَصْعَقُ مَا يَنْزِلُ بِهِ، بِأَنْ يَهْلِكَ أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، وَمَا تَفْسِيرُنَا لِلْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَعْرُوفَةً لِكُلِّ النَّاسِ إِلَّا لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفُوا أَفْهَامَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ (أَرِسْطُو) حَكِيمِ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ أَنَّ تَلَامِيذَهُ سَأَلُوهُ عَنْ تَعْرِيفِ الْحَرَكَةِ، فَقَامَ وَمَشَى، وَمَا أَنْطَقَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى بَدَاهَتِهَا إِلَّا أَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَقْوَالًا فِي الْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ تَجْعَلُهَا غَامِضَةً خَفِيَّةً.

أَمَّا حَقِيقَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ وَأَسْبَابُ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ - أَيِ الْخَلِيقَةِ - وَحَوَادِثِ الْجَوِّ الَّتِي فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ مَعْرِفَتُهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ الظَّوَاهِرُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَصَرْفِ الْعَقْلِ إِلَى الْبَحْثِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ الْفَهْمُ وَالدِّينُ، وَالْعِلْمُ بِالْكَوْنِ يَنْمَى وَيَضْعُفُ فِي النَّاسِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ. فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ أَنَّ الصَّوَاعِقَ تَحْدُثُ مِنْ أَجْسَامٍ مَادِّيَّةٍ، لِمَا كَانَ يَشُمُّونَهُ فِي مَحَلِّ نُزُولِهَا مِنْ رَائِحَةِ الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَعُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي زَمَنٍ آخَرَ مُلَاحِظِينَ أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ لَا تَكُونُ دَائِمًا فِي مَحَلِّ الصَّاعِقَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ فِي الْكَوْنِ سَيَّالًا يُسَمُّونَهُ الْكَهْرَبَاءَ، مِنْ آثَارِهِ مَا تَرَوْنَ مِنَ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ وَالتُّرَامْوَايْ، وَهَذِهِ الْأَضْوَاءُ السَّاطِعَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ، مِنْ غَيْرِ شُمُوعٍ وَلَا زَيْتٍ وَلَا ذُبَالٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ سِلْكَيْنِ دَقِيقَيْنِ كَالْخُيُوطِ الَّتِي تُخَاطُ بِهَا الثِّيَابُ، أَحَدُهُمَا: يَحْمِلُ أَوْ يُوَصِّلُ السَّيَّالَ الْكَهْرَبَائِيَّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمُوجَبَ، وَالْآخَرُ: يُوَصِّلُ السَّيَّالِ الْمُسَمَّى بِالسَّالِبِ، وَبِاتِّصَالُ السِّلْكَيْنِ يَتَوَلَّدُ النُّورُ مِنْ تَلَاقِي السَّيَّالَيْنِ، وَبِانْقِطَاعِهِمَا أَوِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا يَنْفَصِلُ السَّيَّالَانِ، فَيَنْقَطِعُ الضَّوْءُ مِنَ الْمَصَابِيحِ وَالْحَرَكَةِ مِنَ الْآلَاتِ، وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَرْقُ فِي السَّحَابِ يَتَوَلَّدُ مِنَ اتِّصَالِ نَوْعَيْهَا: الْمُوجَبِ، وَالسَّالِبِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اسْتَنْزَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَبَسَ الصَّاعِقَةِ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّاعِقَةُ مِنْ أَثَرِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَهِيَ تَفْرِيغُ السَّحَابِ طَائِفَةً مِنْهَا فِي مَكَانٍ لِجَاذِبٍ فِي الْأَرْضِ يَجْذِبُهُ، وَكَثِيرًا مَا حَصَلَ الصَّعْقُ لِعُمَّالِ التِّلِغْرَافِ، لِمَا بَيْنَ السَّحَابِ وَالْأَسْلَاكِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِلصَّوَاعِقِ هَدَاهُمْ إِلَى حِفْظِ الْأَبْنِيَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْهَا بِاتِّخَاذِ الْقَضِيبِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسَمَّى قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ، فَلَا تَنْزِلُ الصَّوَاعِقُ عَلَى بِنَاءٍ رُفِعَ فَوْقَهُ هَذَا الْقَضِيبُ، وَلَا مَجَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلتَّطْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْ فُنُونِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ الْمَثَلِ. اسْتَحْضِرْ حَالَ قَوْمٍ مُشَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ صَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ قَصَفَتْ رُعُودُهُ، وَلَمَعَتْ بُرُوقُهُ، وَتَصَوَّرْ كَيْفَ يَهْوُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ كُلَّمَا حَدَثَ قَاصِفٌ مِنَ الرَّعْدِ لِيَدْفَعُوا شِدَّةَ وَقْعِهِ بِسَدِّ مَنَافِذِ السَّمْعِ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ هَذَا التَّعْبِيرَ الْمَجَازِيَّ اللَّطِيفَ لِلْإِشْعَارِ بِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسَدِّ آذَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِدْخَالِ أَنَامِلِهِمْ فِي صَمَالِيخِهَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحَاوِلُ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَوْفِ أَنْ يَغْرِسَ إِصْبَعَهُ كُلَّهَا فِي أُذُنِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلصَّوْتِ مَنْفَذٌ إِلَى سَمْعِهِ، لِمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْتِ الزُّؤَامِ، وَمُعَاجَلَةِ الْحِمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْجُبْنُ الْخَالِعُ، وَمُنْتَهَى حُدُودِ الْحَمَاقَةِ؛ لِأَنَّ سَدَّ الْآذَانِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ

مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ: فَقْدُ الْحَيَاةِ بِمُفَارَقَةِ الرَّوْحِ لِلْبَدَنِ، وَخَلْقُ اللهِ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِهِ، أَوْ عَنْ قَبْضِهِ لِلرُّوحِ وَتَوَفِّيهِ لِلنَّفْسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) يُرْشِدُنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْمَثَلِ وَتَقْرِيرِهِ إِلَى حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لِئَلَّا يُذْهِلَنَا مَا نَتَصَوَّرُهُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ أَنَّ التَّصَامُمَ وَالْهُرُوبَ مِنْ سَمَاعِ آيَاتِ الْحَقِّ، وَالْحَذَرَ مِنْ صَوَاعِقِ بَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ أَنْ تَذْهَبَ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَ حَيَاتَهُمُ الْمَلِيَّةَ مُرْتَبِطَةً بِهَا لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِهِمْ، وَمُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا، فَلَا يَهْرُبُونَ مِنْ بُرْهَانٍ إِلَّا وَيُفَاجِئُهُمْ بِرِهَانٌ آخَرُ، كَالْغَرِيقِ يَدْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَتَلَقَّاهُ مَوْجٌ حَتَّى يَقْذِفَ بِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ، أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى هَاوِيَةِ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا قَالَ: (مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: مُحِيطٌ بِهِمْ، أَقُولُ: فَوَضْعُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَرِدُ فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحَاطَةِ هُنَا إِحَاطَةُ الْقُدْرَةِ. فَمَنْ لَمْ يُمِتْهُ بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ أَمَاتَهُ بِغَيْرِهَا، تَنَوَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدٌ. وَالْمُحِيطُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَهُ وَيَنْفَلِتَ مِنْ قَبْضَتِهِ. (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) إِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ بِشِدَّةٍ مُفَاجِئًا مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَصَرِهِ تَأْثِيرًا يَكَادُ يَخْطَفُهُ، وَالْخَطْفُ: هُوَ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي فِيهِ خُطُوَاتٍ ثُمَّ يَعْتَكِرُ عَلَيْهِ الظَّلَامُ وَتَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ الْمَخَاوِفُ وَالْأَوْهَامُ فَيَقِفُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ يَعُودُ الْبَرْقُ إِلَى لَمَعَانِهِ، وَيُحَاكِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ مَا يَدْعُوهُمُ الدَّاعِي إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةَ، وَيُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى أَنَّهُمْ تَنْكَبُّوا الصِّرَاطَ السَّوِيَّ وَأُصِيبُوا بِالدَّاءِ الدَّوِيِّ، يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ فَيَعْزِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَتَسِيرُ أَفْكَارُهُمْ فِي نُورِهِ بَعْضَ خُطُوَاتٍ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِمُونَ أَنْ تَعَوُدَ إِلَيْهِمْ عَتَمَةُ التَّقْلِيدِ وَظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ، وَغُبْسَةُ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبَهَاتِ. فَتُقَيِّدُ الْفِكْرَ وَإِنْ لَمْ تُقِفْ سَيْرَهُ وَإِنَّمَا تَعُودُ بِهِ إِلَى الْحَيْرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ثُمَّ يَتَكَرَّرُ النَّظَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِلْمَامِ. وَفِيهِ: أَنَّهُمْ عَلَى سُوءِ الْحَالِ وَخَطَرِ الْمَآلِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنْهُمُ الْآمَالُ، كَمَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) حَتَّى لَا يَنْجَعَ فِيهِمْ وَعْظُ وَاعِظٍ، وَلَا تُفِيدَهُمْ هِدَايَةُ هَادٍ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ ذَهَبَ بِنُورِهِمْ كَمَا ذَهَبَ بِنُورِ أُولَئِكَ وَسَلَبَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ فَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لَا مِنْ تَتِمَّةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ كَنَّى عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَثَلَ قَدْ تَمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) بِالْوَصْفِ الَّذِي اقْتَضَى التَّمْثِيلَ، هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَتِمَّةً لِلْمَثَلِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ضُرِبَ

20

فِيهِمُ الْمَثَلُ، عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ لَا يُنَافِي الْآخَرَ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَمْنَعُ الْجَمْعَ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ، كَمَا ذَهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الْبَاطِنَةِ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّاهِرَةِ بِأُسْلُوبِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَهُ شَيْخُنَا فِي صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وَكَلَامُهُ أَظْهَرُ. (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لَيْسَ عِنْدِي عَنْ أُسْتَاذِنَا شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " قَدِيرٌ " بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَمِثْلُهُ كُلُّ صِيغَةِ مُبَالَغَةٍ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَلَامِ، لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي الْإِفْهَامِ، فَقَوْلُهُ: " عَلَّامُ الْغُيُوبِ " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: " عَالِمُ الْغَيْبِ " وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ، وَهَاهُنَا لَمَّا هَدَّدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا، عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ تَعَلُّقَ مَشِيئَتِهِ يَتَّصِلُ بِهِ تَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَتَأْثِيرُ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبِّبَاتِهَا مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى. (تَنْبِيهٌ صَادِعٌ فِي تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ) (وَظُهُورُ مَعَانِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْمُنَافِقِينَ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) عَقَّبَ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَنْبِيهٍ ارْتَاعَ لَهُ الْخَامِلُ وَالنَّبِيهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَعَانِيَهُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، فَلَا يَعِدُ وَيُوعِدُ وَيَعِظُ وَيُرْشِدُ أَشْخَاصًا مَخْصُوصِينَ، وَإِنَّمَا نِيطَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَتَبْشِيرُهُ وَإِنْذَارُهُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ الْقُرْآنَ إِمَامًا وَهَادِيًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ عَقْلَهُ وَمَشَاعِرَهُ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ بَلِ اكْتَفَى عَنْ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِ وَمُعَاصِرِيهِ فِي كُلِّ مَا هُمْ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا مَعْنَاهُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

فِي النَّاسِ الْمُنَادُونَ هُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : - وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، وَزَعْمًا أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، تَعَالَى الله عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا.

21

(قَالَ شَيْخُنَا) : وَأَخُصُّ طُلَّابَ عُلُومِ الدِّينِ بِالذِّكْرِ، فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَهُ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ تَظْهَرُ عَلَيْهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: ((أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي)) وَإِنَّمَا كَانَ أَدَبَهُ الْقُرْآنُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِهَذَا حَقَّ الِاشْتِغَالِ، وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرَةِ، وَمَنَابِعِ الْبِدَعِ الَّتِي فَشَتْ فِيهِمْ، وَمَثَارَاتِ الْفِتَنِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، وَيَعْرِفُ عِلَاجَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَتَلَقَّى عِلْمًا، إِلَّا مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَهُ الْقُرْآنُ فَيَجِدُهُ مِرْآتَهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُبْعِدٌ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ. كُلُّ مَا أَمَرَنَا بِهِ الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَنَا إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي خَلْقِنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَيَنْبَغِي لَنَا الْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51: 20، 21) وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِتَارِيخِ مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) (30: 42) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. لَا يَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ فَتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ بِوَعْدِهِ، وَتَخْشَعَ لِوَعِيدِهِ، إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَسَالِيبِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مَعَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ النَّحْوِ، كَنَحْوِ ابْنِ هِشَامٍ وَبَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ كَبَلَاغَةِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ ذَوْقٌ

فِي فَهْمِ اللُّغَةِ يُؤَهِّلُهُ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ أَنْ يُمَارِسَ الْبَلَاغَةَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ. فَهَلْ يَصْلُحُ لِمُسْلِمٍ بَلَغَ وَرَشَدَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ أَلَّا يَجْعَلَ الْقُرْآنَ إِمَامَهُ وَيَتَّخِذَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَيَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِدَعِ؟ . أَمَامَنَا عَقَبَتَانِ كَئُودَانِ لَا نَرْتَقِي عَمَّا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِاقْتِحَامِهِمَا، وَهُمَا الْكَسَلُ وَتَسْجِيلُ الْقُصُورِ عَلَى أَنْفُسِنَا بِجَهْلِ قِيمَةِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَصَاحِبُ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ يَمْقُتُ كُلَّ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَهْدِيهِ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُ ضِدَّ طَبْعِهِ، فَلَا يَرَى مَهْرَبًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِ وَغَيِّهِ، إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي مُرْشِدِهِ وَنَاصِحِهِ. عَلَى كُلٍّ مِنَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيَزِنَ بِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. فَإِنْ رَجَحَ بِهِ مِيزَانُهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقِيٌّ فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى. وَإِلَّا فَلْيَسْعَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرُّجْحَانُ. لَا بُدَّ لَنَا مِنَ النَّظَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِكْرِ الْقَوِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ. وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فَهُوَ ضَالٌّ. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ! هَذَا مَا تَذَكَّرْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ الْأُسْتَاذَ قَفَّى بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِنْفَيِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ بِإِزَاءِ الْقُرْآنِ، وَوَصَلَ بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الْآيَاتِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهَا بِالتَّفْصِيلِ. (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَافَ الْبَشَرِ تُجَاهَهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْهُدَى، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِيهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لَهُ، وَحِكْمَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حُجَّةً عَلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَاتٍ بِدَعْوَةِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الْحَقِّ بِبَيَانِ أُصُولِهِ وَأُسُسِهِ وَهِيَ: (1) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. مَعَ مُلَاحَظَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. (2) الْقُرْآنُ آيَتُهُ الْكُبْرَى وَدِينُهُ التَّفْصِيلِيُّ. (3) نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُرْسَلِ بِهَذَا الْقُرْآنِ. (4) الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ بِالنَّارِ. وَعَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ بِالْجَنَّةِ.

تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الرَّبِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَبَدْءُ الدَّعْوَةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ سُنَّةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (16: 36) فَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَبْدَأُ دَعْوَتَهُ بِقَوْلِهِ: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْأُمَمِ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ خَالِقَ الْخَلْقِ، هُوَ رَبُّهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهُمُ الْأَعْظَمُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْعِبَادَةِ الْأَعْظَمِ فِي وِجْدَانِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَبِغَيْرِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، كَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالنُّذُورِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ أَوِ الطَّوَافِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ تِمْثَالًا لِمَلِكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ قَبْرًا لِإِنْسَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فِي ضِمْنِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْعَرَبُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يُؤْمِنُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ إِمَّا بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهِ شَارِعًا يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يُصْدِرُهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّعَبُّدِ أَوِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ - لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ، احْتَجَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ " رَبٍّ " مُضَافًا إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وَوَصَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ وَالرِّزْقُ فَقَالَ: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ - أَيْ إِذَا كَانَ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِرِزْقِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَتَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لَهُ، وَتُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَفْضِيلًا مَنْ نَوْعِ تَفْضِيلِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ. وَهَاكَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ بِمَا كَتَبْتُهُ مِنْ سِيَاقِ دَرْسِ شَيْخِنَا مُفَصِّلًا لَهُ تَفْصِيلًا: يَقُولُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَوْلًا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ يَمَسَّ الْإِيمَانُ الْحَقُّ سَوَادَ قُلُوبِهِمْ، وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ بِحُكْمِ الْعَادَاتِ الْمَوْرُوثَةِ. وَقُلُوبُهُمْ مَشْغُولَةٌ عَنِ اللهِ الَّذِي لَا تُفِيدُ الْعِبَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَالشُّعُورِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، وَالصُّوَرِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَخْدَعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَزَّةٌ وَسَعَادَةٌ وَلَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يُرْزَءُوا بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا بِهَذَا الِافْتِتَانِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) جَمِيعًا عِبَادَةَ خُشُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَأَدَبٍ وَحُضُورٍ، كَأَنَّكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتَرَوْنَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ، وَيَنْظُرُ دَائِمًا إِلَى مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَهُوَ قُلُوبُكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى إِشْعَارِ نُفُوسِكُمْ هَذَا الْخُشُوعَ وَالْحُضُورَ

وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّهُ هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (16: 78) وَغَذَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، وَنَمَّاكُمْ بِكَرَمِهِ، كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ فَشَكَرُوهُ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ مُقِرِّينَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ، وَمُعَظِّمِينَ لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، فَلْيَدَعْ ذَلِكَ الصِّنْفُ احْتِقَارَ النِّعَمِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى السَّلَفِ فَقَطْ. فَإِنَّ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وَ (خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قَدْ رَبَّاكُمْ كَمَا رَبَّى سَلَفَكُمْ، وَوَهَبَكُمْ مِنَ الْهِدَايَاتِ مِثْلَمَا وَهَبَهُمْ، فَمَنْ شَكَرَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ زَادَهُ نِعَمًا، وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ جَعَلَهَا عَلَيْهِ نِقَمًا، لِيَكُونَ عِبْرَةً وَمَثَلًا لِلْآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فَقَالَ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14: 7) وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ أَنَابَ. هَكَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ، بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا. يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ: اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ: الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا تَنْزِيهُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ

22

الْآتِي، وَلَكِنَّهُ رَمْيٌ لِلْكَلَامِ بِدُونِ بَيَانٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي وَلَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلشَّيْءِ وَفِي هَذَا مَعْنَى التَّرَجِّي، فَحَيْثُ وَقَعَتْ " لَعَلَّ " فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ كَمَا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْقِيقَ (لِأَنَّ الْإِعْدَادَ بِمَا تَأْتِي " لَعَلَّ " بَعْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ خَشْيَةِ اللهِ وَتَعْظِيمَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ، وَتُعْلِي هِمَّةَ الْعَابِدِ وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَتَزْكُو نَفْسُهُ وَتَنْفِرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَتَأْلَفُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلَ، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّجَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّاسِ فَالْإِعْدَادُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَمُتَحَقِّقٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّقْوَى لَمَا اتَّقَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَمَعْنَى التَّرَجِّي فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ بِحُصُولِ سَبَبِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ كَسْبِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فَاسْتَعْمَلْنَا " لَعَلَّ " الْمُعَبِّرَةَ عَنِ التَّوَقُّعِ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ أَوِ الْإِعْدَادُ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْمَرْءِ مُسْتَعِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَبَّبِ بِلَفْظِ السَّبَبِ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، وَقَدْ عَدُّوا التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَصِيَغُهُمَا صِيَغُ إِنْشَاءٍ فَقَطْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرَجِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَأْمُولًا بِمَا يُذْكَرُ مِنْ سَبَبِهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُ قُوَّةَ أَسْبَابِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمُتَكَلِّمِ، وَتَارَةً بِالْمُخَاطَبِ، وَتَارَةً بِالْمُتَكَلَّمِ عَنْهُ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِمَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (65: 1) وَقَوْلَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) (26: 40) وَقَوْلَهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (40: 36) إِلَخْ. وَقَوْلَهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (20: 44) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ أَيْ (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) رَاجِينَ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى لَا قَوْلًا غَلِيظًا مُنَفِّرًا. وَتَأْتِي " لَعَلَّ " لِلْإِشْفَاقِ وَإِفَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ فَكَانَ بِهَا مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) (18: 6) الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) (11: 12) الْآيَةَ. لَمَّا ذَكَّرَ اللهُ عِبَادَهُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّقْوَى وَعَدَمَ إِطْرَاءِ السَّلَفِ بِرَفْعِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ الَّذِينَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) ذَكَّرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَقَالَ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) بِمَا مَهَّدَهَا وَجَعَلَهَا صَالِحَةً لِلِافْتِرَاشِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، أَيْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَلَائِلِ الْفِعَالِ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالْإِجْلَالَ. الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ، الْجَدِيرُ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، جَعَلَ الْأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ فِرَاشًا لِأَجْلِ مَنْفَعَتِكُمْ

(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) مُتَمَاسِكًا لِكَيْلَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْحَقَكُمْ. السَّمَاءُ: مَجْمُوعُ مَا فَوْقَنَا مِنَ الْعَالَمِ. وَالْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَوَّنَ اللهُ السَّمَاءَ بِنِظَامٍ كَنِظَامِ الْبِنَاءِ، وَسَوَّى أَجْرَامَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُشَاهَدَةِ وَأَمْسَكَهَا بِسُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ فَلَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْطَدِمُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، إِلَّا إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَبَطَلَ نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ لِيَعُودَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَالْوَاجِبُ مُلَاحَظَتُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هُوَ تَصَوُّرُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْفِرَاشِ وَالْمِهَادِ، وَنِعْمَةِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ كَالْبِنَاءِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ الْإِمْدَادِ، الَّذِي تُحْفَظُ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَادُ، وَهِيَ مَادَّةُ الْغِذَاءِ، الَّتِي بِهَا النُّمُوُّ وَالْبَقَاءُ، فَقَالَ: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) الثَّمَرَاتُ: مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّبَاتِ نَجْمًا كَانَ أَوْ شَجَرًا، يُصْلِحُ الزَّارِعُ وَالْغَارِسُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْبَذْرَ، وَيَغْرِسُ الْفَسِيلَ، وَيَتَعَاهَدُ ذَلِكَ بِالسَّقْيِ وَالْعَزْقِ، فَيَكُونُ لَهُ كَسْبٌ فِي رِزْقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَلَا فِي تَغْذِيَةِ النَّبَاتِ بِمَاءِ الْمَطَرِ أَوِ النَّهْرِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ، وَبِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَعَنَاصِرِهَا الْأُخَرِ، وَلَا فِي تَوَلُّدِ خَلَايَاهُ الَّتِي بِهَا نُمُوُّهُ وَلَا فِي إِثْمَارِهِ إِذَا أَثْمَرَ، إِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ الْقَدِيرِ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ لِنَزْدَادَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا فَلَا نَعْبُدَ مَعَهُ أَحَدًا. وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَا اللهَ تَعَالَى بِأَنْفُسِنَا، وَبِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا وَعَلَى سَلَفِنَا. وَبَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا ذَاتَهُ الْكَرِيمَةَ بِآثَارِ رَحِمْتِهِ وَمِنَنِهِ الْعَظِيمَةِ، وَصِرْنَا جَدِيرِينَ بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ فَلَا يُشْرَكُ بِهِ وَلَا يُجْحَدُ، قَالَ تَفْرِيعًا وَتَرْتِيبًا عَلَى مَا سَبَقَ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) مِنْ سَلَفِكُمُ الْمَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْجِزُونَ عَنْهُ وَلَا يَصِلُ كَسْبُكُمْ إِلَيْهِ، لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِثْلُكُمْ. الْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفُسِّرَ بِالشَّرِيكِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمُضَارِعُ وَالْكُفْءُ يُقَالُ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ وَمِنْ أَنْدَادِ فُلَانٍ، أَيْ يُضَارِعُهُ وَيُمَاثِلُهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ. وَالْأَنْدَادُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا فِي جَانِبِ اللهِ هُمُ الَّذِينَ خَضَعَ النَّاسُ لَهُمْ وَصَمَدُوا إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْحَاجَاتِ، لِمَعْنًى يَعْتَقِدُهُ فِيهِمُ الْخَاضِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَرْكِ الْأَنْدَادِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُسَمِّي ذَلِكَ الْخُضُوعَ وَالصُّمُودَ عِبَادَةً، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَحْيٌ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَيَتَحَامَوْا هَذَا اللَّفْظَ " الْعِبَادَةَ " وَيَسْتَبْدِلُوا بِهِ لَفْظَ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّوَسُّلِ مَثَلًا تَأْوِيلًا لِظَاهِرِ نَصِّ التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا فَكَانُوا يُؤَوِّلُونَ فَلَا يُسَمُّونَ هَذَا الِاتِّخَاذَ عِبَادَةً وَلَا أُولَئِكَ الْمُعَظَّمِينَ آلِهَةً أَوْ أَنْدَادًا أَوْ أَرْبَابًا. وَفَرْقٌ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ بِالْفِعْلِ وَالتَّسْمِيَةِ بِالْقَوْلِ. وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ دُعَاءَهُمْ غَيْرَ اللهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ تَوَسُّلًا وَاسْتِشْفَاعًا، وَيُسَمُّونَ تَشْرِيعَهُمْ

لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَتَحْلِيلَهُمْ لَهُمُ الْمُنْكَرَاتِ، وَتَحْرِيمَهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ، فِقْهًا وَاسْتِنْبَاطًا مِنَ التَّوْرَاةِ، إِلَّا أَنَّ مِنَ النَّصَارَى مَنْ لَا يَتَحَامَوْنَ التَّصْرِيحَ بِعِبَادَةِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ. وَصُوَرُ الْعِبَادَةِ تَخْتَلِفُ عِنْدَ الْأُمَمِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَأَعْلَاهَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ وَالدُّعَاءُ. وَقَالُوا: كُلُّ عَمَلٍ مَحْظُورٍ تَحْسُنُ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَادَةٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْعَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَلَهَا عِنْدُ أَهْلِ الْكِتَابِ صُوَرٌ أُخْرَى، وَالْمُؤَوِّلُونَ يَخُصُّونَ هَذِهِ الصُّوَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَإِذَا ابْتَدَعُوا صُورَةً فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّونَهَا بَلْ يَسْتَحِبُّونَهَا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوِ التَّأْوِيلِ عَنْ حَيِّزِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ سِوَى التَّوَسُّلِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ بِدُونِ فَهْمٍ لِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الْوَحْيِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقُدَمَاءُ الْفُرْسِ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا هُوَ الْإِلَهُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّ لِلشَّرِّ إِلَهًا يُضَادُّهُ، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ عَنْ هَذَا النِّدِّ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَدِينُونَ بِهِ كَمَا قُلْنَا وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ. لِذَلِكَ وَصَلَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ لِأَنَّكُمْ إِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ تَقُولُونَ اللهُ، وَإِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ تَقُولُونَ: اللهُ. فَلِمَاذَا تَسْتَغِيثُونَ إِذَنْ بِغَيْرِ اللهِ وَتَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ عِنْدَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ أَنَّ التَّقَرُّبَ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ يَكُونُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى قُلْتُمْ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ) (39: 3) . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ وَسَائِطَكُمْ وَشُفَعَاءَكُمْ، وَأَعَدَّكُمْ جَمِيعًا لِلتَّقْوَى الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَسَاوَى بَيْنَكُمْ فِي أَنْوَاعِ الْمَوَاهِبِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بِالْوَحْيِ لِيُعَلِّمُوكُمْ مَا أَخْطَأَ نَظَرُكُمْ وَرَأْيُكُمْ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَدُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ صَدَّ الْمَرْءُوسِينَ عَنْ تَرْكِ تَقَالِيدِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ خَوَّفَهُمُ الرُّؤَسَاءَ. فَقَدْ آثَرُوا رُؤَسَاءَهُمْ عَلَى اللهِ وَجَعَلُوهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَإِنَّ صَدَّ الرُّؤَسَاءِ عَنْ هَذَا الِاتِّبَاعِ تَوَقُّعُ زَوَالِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَاهِ لَدَى الْمَرْءُوسِينَ فَقَدِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا، فَالنِّدُّ: هُوَ الْمُكَافِئُ وَالْمِثْلُ، وَأَنْتُمْ بِتَرْكِكُمُ الْحَقَّ لِخَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ تُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَتَجْعَلُونَهُ أَقَلَّ الْأَنْدَادِ تَعْظِيمًا، فَفِرُّوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى اللهِ، وَلَا تَخَافُوا غَيْرَهُ وَلَا تَرْجُوا سِوَاهُ، فَعَارٌ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ اللهَ أَنْ يُؤْثِرَ رِضَاءَ أَحَدٍ عَلَى رِضَاهُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ رَئِيسٍ وَمَرْءُوسٍ، وَتَابِعٍ وَمَتْبُوعٍ، بَلْ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (3: 175) .

23

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) قُلْنَا:إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَالَ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ.

وَعَبَّرَ عَنْ كَوْنِ الرَّيْبِ بِـ ((إِنَّ)) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ لَا يُرْتَابَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ ظَاهِرٌ بِذَاتِهِ، يَتَلَأْلَأُ نُورُهُ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَلَكِنْ: إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ وَالتَّنْزِيلُ: مِنْ مَادَّةِ النُّزُولِ كَالْإِنْزَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، إِلَّا أَنَّ صِيغَةَ ((التَّفْعِيلِ)) الدَّالَّةَ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ تُفِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً وَهُوَ الْوَاقِعُ، وَصِيغَةُ أَنْزَلَ لَا تُنَافِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ مِثْلِهِ) فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ((مِثْلِهِ)) لِلْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا نَزَّلْنَا) . (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لِعَبْدِنَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَرْجَحُ، بِدَلِيلِ " مِنَ " الدَّاخِلَةِ عَلَى " مِثْلِهِ " الدَّالَّةِ عَلَى النُّشُوءِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَاثِلُ الرَّسُولَ بِالْأُمِّيَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ فَلْيَفْعَلْ. قَالَ تَعَالَى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ، أَيِ ادْعُوا كُلَّ مَنْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِيَشْهَدَ لَكُمْ (مِنْ دُونِ اللهِ) أَوِ ادْعُوَا كُلَّ أَحَدٍ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لِيُؤَيِّدَ دَعْوَاكُمْ، كَمَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَةَ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَانْظُرُوا هَلْ يُغْنِيكُمْ دُعَاؤُكُمْ شَيْئًا (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي دَعْوَاكُمْ (أَنَّ عِنْدَكُمْ فِيهِ رَيْبًا، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ الْمُرْتَابُ فِي رَيْبِهِ إِذَا خَفِيَتِ الْحُجَّةُ، وَغَلَبَتِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ جَادًّا فِي النَّظَرِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فِي أَنَّكُمْ مُرْتَابُونَ فَلَدَيْكُمْ مَا يُمَحِّصُ الْحَقَّ فَجِدُّوا فِي الْفِكْرِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي النَّظَرِ، وَتَدَبَّرُوا هَذَا الْكِتَابَ، وَهَا هُوَ ذَا مَعْرُوضٌ عَلَيْكُمْ، وَائْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَكُمْ ذَلِكَ فَلِخَاطِرِ الرَّيْبِ أَنْ يَمُرَّ بِنُفُوسِكُمْ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ إِعْرَاضِكُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ تَلْبِيَتِهِ؟) . (أَقُولُ) : هَذَا مُحَصِّلُ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْدَ كِتَابَتِنَا لَهُ، وَكَتَبَ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ لِإِيضَاحِهِ بِخَطِّهِ بَعْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ فِي الْمَنَارِ، وَتَرْجِيحُهُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي مِثَالِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعَجْزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ، لِمُوَافَقَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي هَذَا التَّحَدِّي. وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (17: 88)

ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا آيَةُ يُونُسَ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (10: 38) ثُمَّ آيَةُ هُودٍ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 11: 13) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ يُونُسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (11: 49) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) (28: 44) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 46، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ مَرْيَمَ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (3: 44) الْآيَةَ. وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ،

24

كَأَنَّهُ يَقُولُ أَدَعُ لَكُمْ مَا فِي سُورِ الْقَصَصِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، وَأَتَحَدَّاكُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرَ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهَا، مَعَ السَّمَاحِ لَكُمْ بِجَعْلِهَا قَصَصًا مُفْتَرَاةً مِنْ حَيْثُ مَوْضُوعُهَا، فَإِنْ جِئْتُمْ بِهِ مِثْلَ سُوَرِهِ الْقَصَصِيَّةِ فِي سَائِرِ مَزَايَاهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، فَأَنَا أَعْتَرِفُ لَكُمْ بِدَحْضِ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَهَا بِالتَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ " افْتَرَاهُ " فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا مُفْتَرَاةً، لَا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاحِدَةِ بَعْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْعَشْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الْغَيْبِ وَالْتِزَامُ الصِّدْقِ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِذَاتِهِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالتَّحَدِّيَ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ فِي عَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَتِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاحْتِجَاجُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُمُ الْيَهُودُ - وَهُمْ يَعُدُّونَ أَخْبَارَ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمِّيَّتِهِ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مَعَ بَقَاءِ التَّحَدِّي الْمُطْلَقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَأْتِي بَحْثُ وُجُوهِ هَذَا الْإِعْجَازِ قَرِيبًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) إِلَخْ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَتَجْتَثُّوا دَلِيلَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَا أَنْتُمْ بِفَاعِلِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي طَاقَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ بَعْدَ الْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ هُنَا فِي ذَاتِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ بِمَا يُثِيرُ حَمِيَّتِهِمْ وَيُغْرِيهِمْ بِتَكَلُّفِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا النَّفْيِ الِاسْتِقْبَالِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُؤَبَّدِ مِنْ عَاقِلٍ كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَقْلًا لَوْلَا أَنْ أَنْطَقَهُ اللهُ الَّذِي خَصَّهُ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدٍ. وَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ بِـ " إِنِ " الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا يُشَكُّ فِي شَرْطِهِ، أَوْ يَجْزِمُ الْمُتَكَلِّمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُنَا بِـ " إِذَا " لِأَنَّ الْمُحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ، وَلَكِنَّ الْقَوَاعِدَ الَّتِي تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ قَدْ يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى حَالِ الْمُخَاطَبِ لَا حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَبْلُغَهُ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَيُودِعَهُ فِي ذِهْنِهِ، فَهَاهُنَا يُخَاطِبُ اللهُ الْمُرْتَابِينَ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَالْوَاثِقِينَ الْمُوقِنِينَ، خِطَابًا يُؤْذِنُ أَوَّلُهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَازِمُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ جَائِزَةٌ مِنْهُمْ، وَدَاخِلَةٌ فِي حُدُودِ إِمْكَانِهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِهَذَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ حَالِهِمُ الَّتِي تُومِئُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَتُشِيرُ إِلَى إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِالسُّورَةِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى هَذَا الْإِيذَانِ

بَلِ الْإِيهَامِ بِالنَّقْضِ بِلَا تَلَبُّثٍ وَلَا تَرَيُّثٍ، وَأَبْطَلَ مُرَاعَاةَ الظَّاهِرِ بَلْ حَوَّلَهَا إِلَى تَهَكُّمٍ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ الَّذِي ذَهَبَ بِذَلِكَ الذَّمَاءِ، وَاسْتَبْدَلَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي أَفَاضَ الْعُلُومَ عَلَى أُمِّيٍّ لَمْ يَتَرَبَّ فِي مَعَاهِدِ الْعِلْمِ، وَأَظْهَرَ مُعْجِزَاتِ الْبَلَاغَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ مِنْهُ التَّبْرِيزُ بِهَا فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ اسْتِطَاعَةَ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُسْتَطِيعِينَ، وَلَوِ اسْتَعَنْتُمْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) . كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الصَّادِعَةِ الَّتِي تُثِيرُ النَّخْوَةَ، وَتُهَيِّجُ الْغَيْرَةَ مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَرُسُوخِ عِرْقِهِمْ فِي أَسَالِيبِهَا وَفُنُونِهَا، فِي عَصْرٍ ارْتَقَتْ فِيهِ دَوْلَةُ الْكَلَامِ ارْتِقَاءً لَمْ تَعْرِفْ مِثْلَهُ الْأَيَّامُ، حَتَّى كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهِ وَيَتَنَافَسُونَ، وَيُبَاهُونَ وَيُفَاخِرُونَ، وَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ الْمَجَامِعَ وَيُقِيمُونَ الْأَسْوَاقَ، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِأَخْبَارِهَا فِي الْآفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَنْهَضْ بَلِيغٌ مِنْ مَصَاقِعِهِمْ إِلَى الْمُنَاهَضَةِ (أَقُولُ) بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ((مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِأَسَلَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفَزَعِ إِلَى الْمُقَارَعَةِ بِأَسِنَّةٍ أَسَلِهِمْ)) وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، أَفَلَمْ يَكُنِ الْأَجْدَرُ بِمَدَارِهِ قُرَيْشٍ وَفُحُولِهَا، غُرَرِ بَنِي مَعَدٍّ وَحُجُولِهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ بِبَلَاغَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهَا بِسُوقِ عُكَاظَ وَغَيْرِهَا مِنْ مَجَامِعِ مُفَاخَرَاتِهِمْ، وَيُؤْثِرُوا هَذَا عَلَى سَوْقِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْخَمِيسِ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ آمَنَ بِهِ " رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَوَرَاءَ الْخَنْدَقِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا لَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِجِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا إِعَانَةَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَيْهِ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَإِخْرَاجِ بَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَرْتَقِي الْبَشَرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ - تَعَالَى جَدُّهُ - الْعَالِمُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَالِكُ لِأَعِنَّةِ قُدْرَتِهِمْ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ: إِنَّنَا نَجِدُهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ بِسَجْعِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ وَرَجَزِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، بَلْ جَاءَ عَلَى النَّمَطِ الْفِطْرِيِّ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَسَنَّى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَحْذُوَ مِثَالَهُ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا فَلَمْ يَأْتُوا وَلَنْ يَأْتِيَ غَيْرُهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ نُلَاحِظُ أَيْضًا: أَنَّ الْقُرْآنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ قَدْ تَحَدَّى بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى تَفَرُّقِ دِيَارِهِمْ، وَتَنَائِي أَقْطَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَمَّتِ الدَّعْوَةُ

وَبَلَغَتْ مَبْلَغَهَا وَلَمْ يَنْبَرِ أَحَدٌ لِلْمُعَارَضَةِ كَمَا قُلْنَا، أَلَا يَدُلَّ هَذَا عَلَى نِهَايَةِ الْعَجْزِ وَعُمُومِهِ، وَإِحْسَاسِ كُلِّ بَلِيغٍ بِالضَّعِيفِ فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْبِرَاءِ لِمُبَارَاتِهِ، وَالتَّسَامِي لِمُحَاكَاتِهِ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فَوْقَ الْقَدْرِ، خَارِقًا لِمَا يَعْتَادُ مَنْ كَسْبِ الْبَشَرِ؟ بَلَى، وَإِنَّ لِهَذَا الْإِعْجَازِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُعْجِزًا بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُوصَفْ بِالْبَلَاغَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخْرَى لِلْإِعْجَازِ يَنْطَوِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، مِنْهَا قَوْلُهُ هُنَا: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، عَالَمُ الْغَيْبِ وَمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي عَهْدِ نُزُولِهِ وَقَبْلَ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ: أَنَّ قَرْعَهُ لِسَمْعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقْتَضِي أَشَدَّ التَّحْرِيضِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْعَجْزُ، وَيَقُومُ الْبُرْهَانُ بِالْإِعْجَازِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ، لَوْلَا مُكَابَرَةُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِوِجْدَانِهِمْ، وَجُحُودُ أَلْسِنَتِهِمْ لَمَا اسْتَيْقَنَتْهُ قُلُوبُهُمْ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) وَأَمَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيَعْتَقِدُ الْخَوَارِقَ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِهِ وَيُبَادِرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) وَهِيَ مَوْطِنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، نُؤْمِنُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَلَا إِنَّهَا غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِهَا، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ لَهَا جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِهَا كَقَوْلِهِ: (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وَلَا يَسْبِقَنَّ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا وَقُودَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ " وَقُودِهَا " إِنَّ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - وَالْحِجَارَةَ بِعِبَادَةِ النَّاسِ لَهَا - سَبَبَانِ فِي إِيجَادِ النَّارِ وَإِعْدَادِهَا لَهُمْ، فَبِذَلِكَ كَانُوا كَالْوَقُودِ الَّذِي تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمُ السَّبَبِ وَهُوَ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فَإِنَّهَا اسْمِيَّةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَخَصَّ الْحِجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ الْمَعْبُودَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الَّذِينَ لَا يُجِيبُونَ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَالَّذِينَ يَنْحَرِفُونَ عَنْ أُصُولِهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا لِبِدَعٍ يَبْتَدِعُونَهَا، وَتَقَالِيدَ يُحْدِثُونَهَا، وَتَأْوِيلَاتٍ يُلَفِّقُونَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ وَهُيِّئَتِ النَّارُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ وَرَدَهَا وُرُودًا وَانْتَهَى إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ فَذَلِكَ الْمَوْطِنُ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّنْيَا مَوْطِنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى، أَوِ النَّارَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

فَصْلٌ فِي تَحْقِيقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ: قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا. إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ

بِالشِّعْرِ مِنِّي، لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لِحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: وَاللهِ مَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي أُفَكِّرْ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ)) وَكَانَ هَذَا سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) الْآيَاتِ. وَلَعَمْرِي إِنَّ مَسْأَلَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ لِإِحْدَى الْكُبَرِ، وَأَعْجَبُ الْعَجَائِبِ لِمَنْ فَكَّرَ وَأَبْصَرَ، وَلَمْ يُوَفِّهَا أَحَدٌ حَقَّهَا، عَلَى كَثْرَةِ مَا بَدَءُوا وَأَعَادُوا فِيهَا، وَمَا هُوَ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ وَلَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ: الْقُرْآنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ الَّتِي تَزِيدُ السُّورَةُ فِيهِ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَى السُّوَرِ الْمِئِينَ، إِلَى الْوُسْطَى مِنَ الْمُفَصَّلِ، إِلَى مَا دُونَهَا مِنَ الْعَشَرَاتِ فَالْآحَادِ كَالثَّلَاثِ الْآيَاتِ فَمَا فَوْقَهَا، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا تُقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ الْمُشْبِهِ لِلتَّلْحِينِ، الْمُعِينِ عَلَى الْفَهْمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْفَوَاصِلِ، وَتَفَاوُتِ آيَاتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ كَلِمَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةِ أَسْطُرٍ، وَمِنْهَا الْمُتَّفِقُ فِي أَكْثَرِ الْفَوَاصِلِ أَوْ كُلِّهَا، وَمِنْهَا الْمُخْتَلِفُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مُتَشَابِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي النَّظْمِ، مُتَشَابِهَةٌ كُلُّهَا فِي مَزْجِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ، وَبَيَانِ الْبَعْثِ وَالْمَآلِ، وَدَارِ الْأَبْرَارِ وَدَارِ الْفُجَّارِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ وَالْأَقْوَامِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ أَسَالِيبَ جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَذَلِكَ، لَا يُشْبِهُ أُسْلُوبٌ مِنْهَا أُسْلُوبًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، فَمُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُعْجِزًا (وَنَقُولُ) : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَوْغَلَ فِي مَهَامِهِ الْغَفْلَةِ، فَمَهْمَا تَخْتَلِفْ مَنْظُومَاتُ الشُّعَرَاءِ فَلَنْ تَعْدُوَ بُحُورَ الشِّعْرِ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالتَّوْشِيحَاتِ وَالْأَزْجَالَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، وَمَهْمَا تَخْتَلِفْ خُطَبُ الْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ فَلَنْ تَعْدُوَ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بَدَأَنَا الْقَوْلَ بِهَا، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَلَا تِلْكَ نَظْمَ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا أَكْثَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَظْمٌ وَأُسْلُوبٌ خَاصٌّ. فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُشْعِرَ سَمْعَكَ وَذَوْقَكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ وَنَظْمِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، فَائْتِ بِقَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يُسْمِعُكَ بَعْضَ أَشْعَارِ الْمُفْلِقِينَ، وَخَطَبَ الْمَصَاقِعِ الْمُفَوَّهِينَ،

الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ نَغَمٍ وَتَحْسِينٍ، ثُمَّ لِيَتْلُ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ كَسُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْقَمَرِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ - مَثَلًا - ثُمَّ حَكِّمْ ذَوْقَكَ وَوِجْدَانَكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا فِي أَنْفُسِهَا، ثُمَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ فِي نَفْسِكَ بَعْدَ اخْتِلَافِ وَقْعِهِ فِي سَمْعِكَ. بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ. إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ: (الْوَجْهُ الثَّانِي) : بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ "

مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " وَسَبَبُ هَذَا جَهْلُهُمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى نَفْسَهَا، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ عَلَى تَرْكِ النَّاسِ لِمُدَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، وَاسْتِظْهَارِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَاقْتِصَارِ مَدَارِسِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا وُضِعَ فِي فُنُونِهَا فَصَاحَةً وَبَيَانًا، وَأَشَدُّهَا عُجْمَةً وَتَعْقِيدًا، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي اقْتَصَرَ مُؤَلِّفُوهَا عَلَى سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ. فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً. فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا. الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ (وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ

طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَوَّلَهَا عَنْ عَقَائِدِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصَرَفَهَا عَنْ عَادَاتِهَا وَعَدَاوَاتِهَا، وَصَدَفَ بِهَا عَنْ أَثَرَتِهَا وَثَارَاتِهَا، وَبَدَّلَهَا بِأُمِّيَّتِهَا حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَبِجَاهِلِيَّتِهَا أَدَبًا رَائِعًا وَحِلْمًا، وَأَلَّفَ مِنْ قَبَائِلِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ وَاحِدَةً سَادَتِ الْعَالَمَ بِعَقَائِدِهَا وَفَضَائِلِهَا وَعَدْلِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا. اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ. وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ. وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا. إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ: (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (30: 1 - 5) الْآيَةَ، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) (48: 15)

الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (48: 16) وَقَوْلِهِ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (48: 27) وَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَمْثَالُهَا مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَعَمَّا سَيَقُولُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ أَظْهَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعْدُهُ تَعَالَى بِحِفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (15: 9) وَوَعَدُهُ بِحِفْظِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (5: 67) دَعْ مَا تَكَرَّرَ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (24: 55) وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا يُنْجِزْ لَنَا وَعْدَهُ هَذَا كُلَّهُ، بَلْ بَعْضَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهِ بِسِيَادَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ حَتَّى أُورُبَّةَ الْمُعَادِيَةَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (6: 65) الْآيَةَ، أَنَّهُ قَالَ " إِنَّهَا نَبَأٌ غَيْبِيٌّ عَمَّنْ يَأْتِي بَعْدُ " بَلْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، وَتَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ ظُهُورُ مِصْدَاقِهَا فِي حَرْبِ الْأُمَمِ الْكُبْرَى الْأَخِيرَةِ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ بِالْغَيْبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا بِمَا يَصِحُّ بِالْمُصَادَفَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَحْيَانًا مِنْ أَقْوَالِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَإِنَّ كَذِبَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ صِدْقِهِمْ - إِنْ صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا يَتَّفِقُ لَهُمْ صِدْقًا مِنْهُمْ - وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهُمْ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حِيَلِهِمْ وَتَلْبِيسَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ إِذَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ، كَتَشْنِيعِ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عَمُورِيَةَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا: السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ وَيَقُولُ فِيهَا: سَبْعُونَ أَلْفًا كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ ... جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ وَقَدْ قُتِلَ فِي عَصْرِنَا وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَاءِ مِصْرَ، فَوَجَدَ النَّاسُ فِي تَقْوِيمِ (نَتِيجَةِ) تِلْكَ السَّنَةِ لِأَحَدِ الْمُنَجِّمِينَ نَبَأً عَنْ قَتْلِهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا التَّقْوِيمِ أَنْ يَكُونَ طُبِعَ قُبَيْلَ دُخُولِ السَّنَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا التَّقْوِيمِ قَدْ طَبَعَ الْوَرَقَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا هَذَا النَّبَأُ بَعْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَوَضَعَهَا فِيهِ مَوْضِعَ وَرَقَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَأَحْرَقَهَا،

وَلَكِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ بَعْضُ النُّسَخِ مِنَ التَّقْوِيمِ فَوَجَدَ الْمُدَقِّقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْضَهَا، عَلَى أَنَّ دَأْبَ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَمَّا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ أَنْبَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِآرَائِهِمْ وَبِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَأَخْبَارِ الصُّحُفِ الدَّوْرِيَّةِ بِرُمُوزٍ وَكِنَايَاتٍ وَإِشَارَاتٍ يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَقَائِعَ بِأَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْهَا كَتَمُوهَا، وَتَعَذَّرَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَكِيُّونَ بِالْحِسَابِ كَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ وَمَطَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ التَّنْجِيمِ وَلَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ. إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ: (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : سَلَامَتُهُ عَلَى طُولِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، خِلَافًا لِجَمِيعِ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) وَإِنَّنَا نَجِدُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُصَنِّفُونَ الْكِتَابَ فَيُسَوِّدُونَ، ثُمَّ يُصَحِّحُونَ وَيُبَيِّضُونَ، ثُمَّ يَطْبَعُونَ وَيَنْشُرُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَغْلَاطِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا طَالَ الزَّمَانُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ قَدِ اسْتَخْرَجُوا مِنْهُ بَعْضَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، فَاضْطُرَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ الْإِيرَادَ، وَأَظْهَرَ بُطْلَانَ الِانْتِقَادِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ سَدِيدًا (قُلْتُ) : إِذَا كَانَتْ عَيْنُ الرِّضَى مُتَّهَمَةً فَعَيْنُ السُّخْطِ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ، وَإِنَّنَا إِذَا لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى كَلَامِ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ التُّهَمَ أَوْ يُزَيِّنُونَهَا بِخِلَابَةِ الْقَوْلِ - وَلَا إِلَى الْمُقَلِّدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَعَرَضْنَا مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّينَ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَعَارُضٌ حَقِيقِيٌّ مَعْنَوِيٌّ يُعَدُّ مَطْعَنًا صَحِيحًا فِيهِ، وَيَرَى النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا وَفِي مِجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) بَيَانَ كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الْمَعْقُولِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْهُ لَا فِي كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنَّ سَلَامَةَ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ أَمْرًا مُعْجِزًا يُتَحَدَّى بِهِ. إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ: (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَقَوَانِينِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ الْمُوَافِقَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِذَلِكَ يَفْضُلُ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الْوَضْعِيَّةِ، وَمِنَ الْآدَابِ الْفَلْسَفِيَّةِ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْصِفُونَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ، حَتَّى

كَبَرَاءِ السِّيَاسِيِّينَ مِنْ خُصُومِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلُورْدَ كُرُومَرَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ شَهِدَ فِي تَقْرِيرِهِ السَّنَوِيِّ الْأَخِيرِ عَنْ مِصْرَ بِنَجَاحِ الْإِسْلَامِ الْبَاهِرِ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ دُونَ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَعَلَّلَ الْأَخِيرَ بِأَنَّ مَا وُضِعَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ مَصَالِحَ جَمِيعِ النَّاسِ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ كِتَابًا سَأَلْتُهُ فِيهِ هَلْ يَعْنِي بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَمِ الْفِقْهَ الَّذِي وَضَعَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَزَجُوا فِيهِ آرَاءَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَهُ عَنْهُمَا وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ . وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِإِظْهَارِ خَطَئِهِ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا قَالَ فِيهِ: " إِنَّنِي عَنَيْتُ بِمَا كَتَبْتُ مَجْمُوعَ الْقَوَانِينِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْفِقْهَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَلَمْ أَعْنِ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ نَفْسَهُ " إِلَخْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ عُلُومَ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ هِيَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا يَنْبُغُ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِدِرَاسَتِهَا السِّنِينَ الطِّوَالَ إِلَّا الْأَفْرَادُ الْقَلِيلُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا نَشَأَ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ أَنْ يَأْتِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَيُؤَيِّدَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بَعْدَ أَنْ قَضَى ثُلْثَيْ عُمْرِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِقَاعِدَةٍ وَلَا أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، وَلَا حَكَمَ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى؟ . إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِعَجْزِ الزَّمَانِ عَنْ إِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ: (الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَصِفُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَدَرَارِيهَا وَنُجُومَهَا وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ وَالسَّحَابَ وَالْمَاءَ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَيَنَابِيعَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ التَّشْرِيعِ السَّوِيِّ لِلْأُمَمِ، وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيهِ بِكَلِمِهِ وَحُرُوفِهِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ، ثُمَّ عَجَزَتْ هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَوْ تُبْطِلَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ تُكَذِّبَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فَلْسَفَةَ الْيُونَانِ دَكًّا، وَنَسَخَتْ شَرَائِعَ الْأُمَمِ نَسْخًا، وَتَرَكَتْ سَائِرَ عُلُومِ الْأَوَائِلِ قَاعًا صَفْصَفًا، وَوَضَعَتْ لِأَخْبَارِ التَّارِيخِ قَوَاعِدَ فَلْسَفِيَّةً، وَرَجَعَتْ فِي تَحْقِيقِهَا إِلَى مَا عَثَرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ مِنَ الْآثَارِ الْعَادِيَّةِ، وَحَكَّمَتْ فِيهَا أُصُولَ الْعُمْرَانِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ، بِحَيْثُ لَمْ تُبْقِ لِعُلَمَاءِ الْأَوَائِلِ كِتَابًا غَيْرَ مُدَعْثَرِ الْأَعْضَادِ سَاقِطِ الْعِمَادِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، فَتِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَهَذِهِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ذَاكَ الِاخْتِلَافُ يَقَعُ مِنَ النَّاسِ بِقِلَّةِ الْعِرْفَانِ،

وَبِضِعْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الذُّهُولِ وَالنِّسْيَانِ، يُرِيدُ بَيَانَ شَيْءٍ فَيَخُونُهُ قَلَمُهُ وَلِسَانُهُ، وَيُعْوِزُهُ أَنْ يُحِيطَ بِأَطْرَافِهِ، وَأَنْ يُجَلِّيَهُ تَمَامَ التَّجَلِّي لِقَارِئِ كَلَامِهِ أَوْ سَامِعِهِ ثُمَّ يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ عَلَى عِلْمٍ فَتُوَاتِيهِ الْعِبَارَةُ فَيُؤَدِّي الْمُرَادَ، فَيَخْتَلِفُ مَا أَبْدَأَ مَعَ مَا أَعَادَ، أَوْ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ يَنْسَاهُ، فَيَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَيَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْكَلَامِ وَضَعْفٌ فِي الْمُتَكَلِّمِ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ. إِنَّ مَا يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ فِي زَمَانِهِمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْمُسَلَّمَاتِ، وَيَنْقُصُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ، لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي قَائِلِهِ، وَلَا ضَعْفًا فِي بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهُ بَيَانَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ. وَأَمَّا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْمَوْجُودَاتِ لِبَيَانِ الْعِبْرَةِ فِيهَا، أَوِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، لَا لِبَيَانِ حَقِيقَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ صِفَاتِهَا الْفَنِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ فَنِّهَا، فَهُوَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ مِنَ الْكَلَامِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَقَدْ يُنْتَقَدُ مِنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ، أَوْ يُوجِبُ نَقْصًا فِي اسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يَعِظُونَ دَهْمَاءَ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ وَالَّذِي لَا يُعَابُ فِيهِ مُخَالَفَتُهُ لِلْمَسَائِلِ الْفَنِّيَّةِ - وَقَدْ يُعَابُ فِيهِ تَكَلُّفُ مُوَافَقَتِهَا - جَاءَ مَعَ ذَلِكَ إِمَّا مُوَافِقًا وَإِمَّا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَعَارِفِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَانَتْ جَهْلًا، وَظَهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا تَجَدَّدَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالتَّشْرِيعِ الْعَدْلِ أَوْ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ تُعَدُّ لَهُ مَزِيَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْقُرْآنُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، مَرَّتِ الْعُصُورُ وَتَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خَطَأٌ قَطْعِيٌّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِهَذَا صَحَّ أَنْ تُجْعَلَ سَلَامَتُهُ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا تَحَدَّى لَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَجْزَ الْبَشَرُ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَظْهَرَ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، فَادُّخِرَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْعَصْرِيَّةَ، مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَفَلَكِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ، قَدْ نَقَضَتْ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَنَّ التَّشْرِيعَ الْعَصْرِيَّ أَقْرَبُ إِلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ مِنْ تَشْرِيعِهِ. قُلْتُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَلْفَيْنَا أَنَّ بَعْضَهَا جَاءَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ أَوْ فَهْمِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ جُمُودِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّضْلِيلِ، وَقَدْ رَدَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالنَّقْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ مِرَاءً ظَاهِرًا مَقْبُولًا، وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَاضْطَرَبَ الْعَالَمُ لَهُ اضْطِرَابًا عَظِيمًا، كَمَا أَنَّ

الْعِبْرَةَ فِي التَّشْرِيعِ بِمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ يَفْضُلُ التَّشْرِيعَ الْأُورُبِّيَّ الْمَادِّيَّ بِهَذَا وَيَسْبِقُهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ كَهَنَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ مِثْلَكُمْ أَنَّ كُتُبَهُمُ الْمُقَدَّسَةَ سَالِمَةٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَمُخَالِفَةِ حَقَائِقِ الْوُجُودِ الثَّابِتَةِ وَيَتَكَلَّفُونَ مِثْلَكُمْ لِرَدِّ مَا يُورِدُهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ وَالْمُؤَرِّخُونَ مُخَالِفًا لِتِلْكَ الْكُتُبِ. (قُلْتُ) : (إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ مُخَالَفَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ لِكَلَامِ الْخَلْقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَوْ بَقِيَتْ كَمَا أُنْزِلَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ بِالْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا فِي التَّابُوتِ (صُنْدُوقِ الْعَهْدِ) وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) قَدْ فُقِدَتْ مِنَ الْوُجُودِ عِنْدَمَا أَغَارَ الْبَابِلِيُّونَ عَلَى الْيَهُودِ وَأَحْرَقُوا هَيْكَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالتَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ يَرْجِعُ أَصْلُهَا إِلَى مَا كَتَبَهُ عِزْرَا الْكَاهِنُ بِأَمْرِ " ارتحشستا " مَلِكِ فَارِسَ الَّذِي أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَشَرِيعَةِ الْمَلِكِ، وَلِذَلِكَ تَكْثُرُ فِيهَا الْأَلْفَاظُ الْبَابِلِيَّةُ كَثْرَةً فَاحِشَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْضِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُدَوَّنْ فِي عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ وَعَنِ الْحَوَارِيِّينَ كَمَا نُقِلَ الْقُرْآنُ تَوَاتُرًا بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا كَنَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي هِيَ قِصَصٌ مُخْتَصَرَةٌ لَهُ وَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، كَمَا ظَهَرَ عَشَرَاتٌ غَيْرُهَا، فَاعْتَمَدَ أَرْبَعَةً مِنْهَا رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا قُسْطَنْطِينُ مِلْكُ الرُّومِ الَّذِي تَنَصَّرَ تَنَصُّرًا سِيَاسِيًّا، وَأَدْخَلَ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَوْرٍ جَدِيدٍ مَمْزُوجٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَرَفَضُوا الْبَاقِيَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْرَاةِ) .

إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِتَحْقِيقِ مَسَائِلَ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْبَشَرِ: (الْوَجْهُ السَّابِعُ) : اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى تَحْقِيقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ، ثُمَّ عُرِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا انْكَشَفَ لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ السَّادِسِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْعُلُومِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا اتِّصَالٌ بِقَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَى بَعْضِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلَنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (15: 22) كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ:إِنَّهُ

تَشْبِيهٌ لِتَأْثِيرِ الرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي السَّحَابِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَطَرِ بِتَلْقِيحِ ذُكُورِ الْحَيَوَانِ لِإِنَاثِهِ، وَلَمَّا اهْتَدَى عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ إِلَى هَذَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْهُمْ بِسَبْقِ الْعَرَبِ إِلَيْهِ. قَالَ مِسْتَرْ (أَجْنِيرِي) الْمُسْتَشْرِقُ الَّذِي كَانَ أُسْتَاذًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ أُكْسُفُورْدَ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا. اهـ. نَعَمْ إِنَّ أَهْلَ النَّخِيلِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْرِفُونَ التَّلْقِيحَ إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ بِأَيْدِيهِمُ اللَّقَاحَ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ إِلَى إِنَاثِهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ بَلْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (21: 30) أَيْ أَكَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً فَفَتَقْنَاهُمَا وَخَلَقْنَا مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي تُظِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (41: 11) إِلَخْ. وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ خَلْقُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (51: 49) وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (13: 3) وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي النَّبَاتِ أَصْلٌ لِسُنَّةِ التَّلْقِيحِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ الرِّيحَ تَنْقُلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنَ الذَّكَرِ إِلَى الْأُنْثَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى

عِدَّةُ آيَاتٍ، أَعَمُّهَا وَأَغْرَبُهَا وَأَعْجَبُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (36: 36) . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (15: 19) إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَكْبَرُ مِثَالٍ لِلْعَجَبِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ (مَوْزُونٍ) فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْكَوْنِ الْأَخِصَّائِيِّينَ فِي عُلُومِ الْكِيمْيَاءِ وَالنَّبَاتِ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّ الْعَنَاصِرَ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا النَّبَاتُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِدِقَّةٍ غَرِيبَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلَّا بِأَدَقِّ الْمَوَازِينِ الْمُقَدِّرَةِ مِنْ أَعْشَارِ الْغِرَامِ وَالْمِلِّيغِرَامِ، وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ نَبَاتٍ. أَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (كُلِّ) الْمُضَافِ إِلَى لَفْظِ (شَيْءٍ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْزُونِ - تَحْقِيقٌ لِمَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا بِتَصْنِيفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (39: 5) تَقُولُ الْعَرَبُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا أَدَارَهَا وَلَفَّهَا، وَكَوَّرَهَا بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ، فَالتَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: إِدَارَةُ الشَّيْءِ عَلَى الْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ كَالرَّأْسِ، فَتَكْوِيرُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ، وَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فِي الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (7: 54) . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (36: 38 - 40) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ. وَمِنْهُ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْوَارِدَةُ فِي خَرَابِ الْعَالِمِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَارِعَةٍ تَقْرَعُ الْأَرْضَ قَرْعًا، وَتَصُخُّهَا فَتَرُجُّهَا رَجًّا، وَتَبُسُّ جِبَالَهَا بَسًّا فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَحِينَئِذٍ تَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهَا مِنْ سُنَّةِ التَّجَاذُبِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا - وَفِيمَا قَبْلَهُ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِيَاقِ بَيَانِ آيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْعَرَبِ أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، لِتُوَافِقَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ظَوَاهِرَ وَتَقَالِيدَ أَوْ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْبَاطِلَةِ، فَإِظْهَارُ تَرَقِّي الْعِلْمِ لِحَقِيقَتِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى. هَذِهِ أَمِثْلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْفُنُونِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي خَطَرَتْ بِالْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ إِلَّا لِإِعْدَادِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيزِهَا بِبَعْضِ الْأَمِثْلَةِ

الْخَاصَّةِ بِالتَّارِيخِ، وَلَيْسَ التَّارِيخُ - مِنْ حَيْثُ هُوَ تَارِيخٌ وَاحِدٌ - مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تُطْلَبُ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ بِقَصْدِ سَرْدِ حَوَادِثِ التَّارِيخِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ أُمَمِ الرُّسُلِ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ، وَتَثْبِيتِ قَلْبِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهُ لِبَيَانِ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ إِلَخْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ بِدِقَّةِ التَّعْبِيرِ وَإِعْجَازِ الْبَيَانِ آيَاتٍ أُخْرَى تَظْهَرُ آنًا بَعْدَ آنٍ، دَالَّةً عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ الرَّحْمَنِ، فَكِتَابُهُ تَعَالَى مَظْهَرٌ لِقَوْلِهِ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (55: 29) . أَكْتَفِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتَّارِيخِ بِمَسْأَلَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَوَاهِدَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ حُكْمُ الْقُرْآنِ الْحَقِّ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ كَانَ يَدِينُ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أَعْظَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ مَكَانَةً فِي الْعَالِمِ وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا وَحَضَارَةً، وَلَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَدِّسُونَهُمَا، مَعَ بَيَانِ بَعْضِهِمْ لِمَا نَقَضَ الْعِلْمُ مِنْهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْكُتُبِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. مَا هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ فِي حَيَاتِهِ سِفْرًا وَلَمْ يَكْتُبْ سَطْرًا، وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ خَبَرًا؟ مُلَخَّصُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَنَسُوا نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْهُ، فَلَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ، وَلَمْ يُضَيِّعُوهُ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا أُوتُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ، وَأَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي إِقَامَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَعَمِلُوا بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْهُ وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُهَا، كَمَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا مُبِينًا، وَالنَّصَارَى غَلَوْا فِيهَا غُلُوًّا عَظِيمًا، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (5: 73) إِلَخْ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا تَفْصِيلَهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا الْحَقِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّارِيخِ الصَّحِيحِ، الَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّا وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمُصَدِّقِ لِلْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فِي حُكْمِهِ، الَّذِي كَانَ مَجْهُولًا بِتَفْصِيلِهِ عِنْدَ

جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ قَامَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ بَعْضُ كِبَارِ رِجَالِ الدِّينِ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ يَكْتُبُونَ فِي الْجَرَائِدِ مَا قَرَّرُوهُ فِي جَمْعِيَّاتِ الْكَنَائِسِ مِنْ أَنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يُثْبِتُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فِي الْجَرَائِدِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ مِنْ هَذِهِ التَّحْقِيقَاتِ، وَسَنَنْشُرُ غَيْرَهُ فِي مَجَلَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ (الْمَنَارِ) . وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَشَرٌ مُمْتَازٌ بِرُوحٍ قُدُسِيَّةٍ مِنَ اللهِ وَنَبِيٌّ لَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَبَيْنَ كَافِرٍ بِهِ. وَأَمَّا عَقِيدَةُ الْكَنِيسَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي رِجَالِهَا وَعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي قِسِّيسٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَاثُولِيكِ حَرَمَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ طُغْمَةِ كَهَنَتِهَا أَنَّ كِبَارَ عُلَمَائِهَا مُوَحِّدُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ ارْتِدَادِ الْعَوَامِّ لَصَرَّحُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِنَفْيِ التَّثْلِيثِ كَبَعْضِ قَسَاوِسَةِ الْبُرُوتِسْتَنْتِ. وَلَا يَزَالُ الْمُوَحِّدُونَ يَكْثُرُونَ فِي أُورُبَّا وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكَانِيَّةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَيَقْرُبُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهُمْ سَوْفَ يَفْعَلُونَ) . فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَاشَ مُعْظَمَهَا فِي عُزْلَةٍ عَنِ الْعَالَمِ وَعُلُومِهِ، رَعَى فِي أَوَائِلَهَا الْغَنَمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا، وَاتَّجَرَ فِي أَثْنَائِهَا سِنِينَ قَلِيلَةً قَلَّمَا كَانَ يُعَاشِرُ فِيهَا أَحَدًا؟ وَهِيَ الَّتِي ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ مُرَادَ الْقُرْآنِ مِنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ حَتَّى بَعْدَ فَتْحِهِمْ لِلْعَالِمِ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى عُلُومِهِ وَتَوَارِيخِهِ، إِلَى أَنْ وَصَلَ عِلْمُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْمَعْرُوفَةِ! كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَكْبَرَ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ حُسْبَانُهَا مُقْتَبَسَةً مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمَذَاهِبِ، بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ بِالتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ مَا خَالَفَ تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ خَطَأً سَبَبُهُ عَدَمُ جَوْدَةِ الْحِفْظِ أَوْ خَطَأً مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِغِشِّهِ، كَمَا غَشَّ بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِسْلَامَ خِدَاعًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَدْخَلُوهَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ. وَكَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دَحْضِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى كُلَّ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا فِي رِحْلَتِهِ مَعَ مَيْسَرَةَ مَوْلَى خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَهُوَ وَإِنْ كَانَ

فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ شَابًّا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ دُونَ مَيْسَرَةَ وَسَائِرِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ لِدِرَاسَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا أَيَّامًا فِي بَلْدَةِ (بُصْرَى) بَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَعَادُوا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ فِيهَا أَخْبَارَ جَمِيعِ الرُّسُلِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَحَفِظَهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ حِفْظًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا فِي هَذِهِ السُّوَرِ، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَيْهِ شُبْهَةً فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وُقُوفَهُ أَحْيَانًا عَلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ صَانِعٍ لِلسُّيُوفِ) رُومِيٍّ كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَفِيهِ نَزَلَ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (16: 103) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ تَصْرِيحُ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا قَصَّتْهُ السُّوَرُ مِنْهَا وَلَا قَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ خُصُومِهِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُكَذِّبَ أَوْ يُمَارِيَ فِي ذَلِكَ. هَذَا وَإِنَّ مَا لَخَّصْنَاهُ هُنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلِيٌّ نَزَلَ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، حُكْمُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْمُهَيْمِنِ، وَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، وَتَحْقِيقَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ نَفَى مَا نَفَاهُ، أَلَيْسَ هَذَا أَنْصَعَ بُرْهَانٍ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمَ اللهِ لَا حُكْمَ عَبْدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، وَلَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ إِلَّا مُتَعَصِّبٌ أَضَلَّهُ اللهُ. وَمَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ثُمَّ قَرَأَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ يَرَى أَمْرًا آخَرَ، يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ صَفْوَةَ مَا فِيهِمَا مِنْ صِحَّةِ عَقِيدَةٍ، وَمِنْ أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ، وَمِنْ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَمِنْ أُسْوَةٍ بِالْأَخْيَارِ حَسَنَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُخِلُّ بِهِ، أَوْ يَجْعَلُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ قُدْوَةً سَيِّئَةً، وَصَرَّحَ بِنَقْضِ مَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ فَرَضْنَا - تَنَزُّلًا - أَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ، أَفَلَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ فِي شَخْصِهِ أَرْقَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا؟ بَلَى، وَلَكِنْ كَيْفَ يُعْقَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، وَمُوحًى إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ أَوْ مُلْهَمِينَ؟ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتَضِي نَفْيَ النُّبُوَّةِ وَإِبْطَالَ الرِّسَالَةِ مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْقَلُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ غَيْرِهَا بِالتَّبَعِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْكَافِرِينَ بِالْوَحْيِ مِنَ الْبَاحِثَيْنِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يُفَضِّلُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمُ الدُّكْتُورُ شِبْلِي شُمَيْل السُّورِيُّ الْمَشْهُورُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَكِتَابَةً وَأَثْبَتَهُ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَقَدْ آنَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَشَارَكَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَمْهِيدٌ) الْإِيمَانُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِإِثْبَاتِهَا وَالدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الْعَالَمِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُودِعَ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا يُعْقَلُ هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ فِي الْعَالَمِ بِدُونِهِ - كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ - وَلَكِنَّ الْكَثِيرِينَ يُخْطِئُونَ فِي فَهْمِ صِفَاتِهِ وَالْكَلَامِ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ حُرِمُوا هَذَا الْإِيمَانَ قِسْمَانِ: هَمَجٌ مِنْ سُكَّانِ الْغَابَاتِ الْوَحْشِيَّةِ وَأَصْحَابُ شُبَهَاتٍ طَارِئَةٍ، وَمَثَلُ الْأَوَّلِ مَثَلُ الْخِدَاجِ الَّذِي يُولَدُ نَاقِصًا، وَمَثَلُ الثَّانِي مَثَلُ مَنْ يُصَابُ بِبَعْضِ مَشَاعِرِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، وَمَرَاكِزُ الْإِدْرَاكِ فِي الْمُخِّ يُصَابُ بَعْضُهَا بِالْمَرَضِ أَوِ الضِّعْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ بِكُفْرِ بَعْضِ الْمُتْقِنِينَ لِبَعْضِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، الَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الصَّنْعَةُ عَنِ الصَّانِعِ، كَمَا شَغَلَ حُبُّ لَيْلَى مَجْنُونَ بَنِي عَامِرٍ عَنْ شَخْصِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا زَارَتْهُ فَلَمْ يَحْفَلْ بِهَا. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا كَسْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِآيَاتٍ مِنْهُ دَانَتْ لَهَا عُقُولُ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدَايَةِ، وَخَضَعَتْ قُلُوبُهُمْ فَآمَنُوا وَاهْتَدَوْا، وَكَانَتْ حَالُهُمُ الْبَشَرِيَّةُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى خَيْرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ صَلَاحًا، وَقَدْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رُسُلًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ دَعَوْهَا إِلَى أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2: 62) . فَالرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُصْلِحَةِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِدَعٌ وَثَنِيَّةٌ وَخُرَافِيَّةٌ وَضَاعَتْ أَكْثَرُ تَعَالِيمِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَإِنَّمَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِنْهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا مِنَ الشَّوَائِبِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَكَذَلِكَ بَقِيَتْ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ آثَارٌ تَارِيخِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا نَرَاهُ فِي تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ. وَمِمَّا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ وَأَيَّدَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: كَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَجْمَعِينَ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَقَامَتْ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَآمَنَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ، وَكَابَرَهَا الْمُعَانِدُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ.

(الْمَقْصِدُ) قَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ وَرِسَالَتِهِ، أَيْ عَلَى كَوْنِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَرَجَّحَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا وَضْعِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّ تَأْيِيدَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِهَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي)) . وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَ عَصْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْأَذْكِيَاءِ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ اعْتِقَادًا اضْطِرَارِيًّا بِأَنَّ ظُهُورَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَيْدِيهِمْ عَقِبَ ادِّعَائِهِمْ مَا ادَّعَوْهُ، وَطَلَبِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُصَدِّقَهُمْ، وَيُعْطِيَهُمْ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِهِ إِيَّاهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ لِأَجْلِ تَصْدِيقِهِمْ، فَسَمِّ الدَّلَالَةَ عَقْلِيَّةً، أَوْ سَمِّهَا وَضْعِيَّةً، أَوِ اجْمَعْ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ إِنْ شِئْتَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَسُولٍ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ قَوْمِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَهْلَ عُلُومٍ رِيَاضِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ وَأُولِي سِحْرٍ وَصِنَاعَةٍ، آتَى رَسُولَهُ مُوسَى آيَاتٍ كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالسَّحَرَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ مُوسَى وَلَا مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّومَانِيُّونَ أُولِي السُّلْطَانِ فِي قَوْمِ عِيسَى وَالسِّيَادَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَاسِعٍ بِالطِّبِّ آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ ارْتَقَتْ فِي لُغَتِهَا فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَذْكِيَاءَهَا قَدْ وَجَّهُوا جَمِيعَ قُوَاهُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ إِلَى إِتْقَانِهَا، جَعَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ مُحَمَّدٍ الْكُبْرَى إِلَيْهِمْ كِتَابًا مُعْجِزًا لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ، فِي نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِهِ بِأَقْوَى مِمَّا قَامَتْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَى قَوْمِهِمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُجَّةِ الْقُرْآنِ مَا عَلِمْتَ. وَالْحُقُّ الَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِحَالِ زَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي عَهْدِهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ صَدَّقَ الْمُخْبِرِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سِلْسِلَةَ النَّقْلِ سَتَنْقَطِعُ، وَأَنَّ ثِقَةَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهِ سَتَضْعُفُ، وَأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرِّسَالَةِ سَتُنْكَرُ، فَجَعَلَ الْآيَةَ الْكُبْرَى عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمِيَّةً دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ، وَهِيَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ لِلْخَلْقِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَكَانَ مُسْتَقِلًّا مُطْلَقًا مَنْ أَسْرِ النَّظَرِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ وَقُيُودِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ السَّنِيعِ مِنَ الْمَعَانِي، فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ وَالنَّظْمِ الْمَنِيعِ مِنَ الْمَبَانِي مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَيْضًا،

إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَحْيًا اخْتَصَّهُ بِهِ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ -، نَاهِيكَ بِهِ وَقَدْ جَزَمَ بِعَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مَا هُوَ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ السَّبْعَةِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَحُجَّةٌ أَنْهَضُ وَأَقْوَى بِاعْتِبَارِ أُمِّيَّةِ مَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ تَمَحُّلُ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِإِعْجَازِهِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي جُمْلَتِهَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهَا؟ كَلَّا. سَبَقَ لَنَا أَنْ ضَرْبَنَا مَثَلًا لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَجُلًا ادَّعَى فِي بِلَادٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ وَأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ يُدَاوِي الْمَرْضَى بِمَا دَوَّنَهُ فِيهِ فَيَبْرَءُونَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ الْبَارِعُونَ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ خَيْرُ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنَ الْمَرْضَى وَقَبِلُوا مَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فَبَرِءُوا مِنْ عِلَلِهِمْ، وَصَارُوا أَحْسَنَ النَّاسِ صِحَّةً، فَهَلْ يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ هَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؟ كَلَّا. وَإِنَّ الْعِلْمَ بِطِبِّ الْأَرْوَاحِ أَعْلَى وَأَعَزُّ مَنَالًا مِنَ الْعِلْمِ بِطِبِّ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّ مُعَالَجَةَ أَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِ وَأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَعْسَرُ مِنْ مُدَاوَاةِ أَعْضَاءِ الْأَفْرَادِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالَجَ بِهِ أُمَّةً عَرِيقَةً فِي الشِّقَاقِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، غَرِيقَةً فِي الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ وَرَذَائِلِ الْوَثَنِيَّةِ، فَشُفِيَتْ وَاتَّحَدَتْ، وَتَعَلَّمَتِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَسَادَتِ الْأُمَمَ مِنْ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ بِسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ. كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ لَوِ اسْتَدَلَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ الْجَسَدَانِيُّ عَلَى صِحَّةِ دَعَوَاهُ بِعَمَلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ لِلنَّاسِ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالطِّبِّ لَأَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُ، كَذَلِكَ شَأْنُ هَذَا النَّبِيِّ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ الْعِلْمِيَّ الْمُؤَيَّدَ بِنَجَاحِ الْعَمَلِ بِهِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ جَعْلِ عَصَاهُ حَيَّةً أَوْ إِحْيَائِهِ مَيِّتًا. لِأَنَّ هَذَيْنِ عَلَى غَرَابَتِهِمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الطِّبِّ، فَهُمَا إِنْ دَلَّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَدَلَالَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالْإِتْيَانُ بِعَمَلٍ خَارِقٍ لِلْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ مَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ هُوَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِالْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، فَكَيْفَ بِالْإِتْيَانِ بِأَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؟ فَكَيْفَ بِصَلَاحِ حَالِ مَنْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْعُلُومِ دِينًا وَدُنْيَا؟ فَالْقُرْآنُ إِذًا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الطِّبِّ الرُّوحَانِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ وَحْيٌ مِنَ الرَّبِّ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ.

أَمَّا الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَأَمْثَالُ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ ثَقُلَ عَلَى طِبَاعِهِمْ تَرْكُ رِيَاسَتِهِمْ، وَصَيْرُورَتُهُمْ أَتْبَاعًا مُسَاوِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْعَصْرُ مِنْ أُنَاسٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ فَعَوَامُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ حِسِّيًّا. وَكَذَلِكَ الْمَفْتُونُونَ بِبَعْضِ الشُّبَهَاتِ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَمْثَالِهِمْ: عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ لَا كَلَامَ لَنَا مَعَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ أَوَّلًا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُونَ مَعْنَى الْوَحْيِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ. الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ. وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عِلْمٌ يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَلُّمٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مُقْتَرِنًا بِعِلْمٍ وُجْدَانِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَتَمِثْلُ لَهُمْ فَيُلَقِّنُهُمْ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (26: 192 - 194) فَأَيُّ اسْتِحَالَةٍ أَوْ بُعْدٍ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ؟ وَعَرَّفَهَ شَيْخُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: ((بِأَنَّهُ عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يُتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. (قَالَ) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ)) ، ثُمَّ بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا وَوُقُوعَهُ وَأَسْبَابَ شَكِّ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا. وَأَمَّا تَمَثُّلُ الْمَلَكِ فَكَانُوا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَنَقُولُ الْيَوْمَ: إِنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيبًا إِلَّا وَقَرَّبَتْهُ إِلَى الْعَقْلِ، بَلْ وَإِلَى الْحِسِّ تَقْرِيبًا، بَلْ ظَهَرَ مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا كَانَ يُعَدُّ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مُحَالًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ لَا غَرِيبًا فَقَطْ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْكِيمْيَائِيُّ يُحَلِّلُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ حَتَّى تَصِيرَ غَازَاتٍ لَا تُرَى مِنْ شِدَّةِ لُطْفِهَا، وَيُكَثِّفُ الْعَنَاصِرَ اللَّطِيفَةَ فَتَكُونُ كَالْجَامِدَةِ بِطَبْعِهَا، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ تَكْثِيفُ الْمَلَكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَرْوَاحِ ذَاتِ الْمِرَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَوَادِّ الْعَالَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِيهِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا.

دَعْ مُخْتَرَعَاتِ الْكَهْرَبَاءِ الْعَجِيبَةَ الَّتِي لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَّا وَفِيهَا نَظِيرٌ لَهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْحِسِّ، لَا مِنَ الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَهَلِ الْكَهْرَبَاءُ إِلَّا قُوَّةٌ مُسَخَّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ؟ وَدَعْ مَا يُثْبِتُهُ الْأُلُوفُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ كُلِّهَا مِنْ تَمَثُّلِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرٍ كَصُوَرِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَأْثُورَ عِنْدَنَا عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الرُّوحِ، وَوَقَائِعُهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ يُنْكِرُ مَا يُحْكَى مِنْ وُقُوعِ هَذَا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا الرَّجَاءَ فِي ثُبُوتِهِ فِي يَوْمٍ مَا، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ النَّاسِ. خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : مَا قِيلَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَكْذِيبًا وَخِذْلَانًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ كَذَّبَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الدَّلَالَةِ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ النَّظَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَوَّلِ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا هِدَايَةٌ عُلْيَا لِلْبَشَرِ، لَا تُغْنِيهِمْ عَنْهَا هِدَايَاتُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلَا هِدَايَةُ الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ هِدَايَاتٌ شَخْصِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، وَتِلْكَ هِدَايَةٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي جُمْلَتِهِ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ بِتَمْثِيلِهَا بِطِبِّ الْأَبْدَانِ لِيَفْهَمَهَا كُلُّ قَارِئٍ وَسَامِعٍ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهَا الْفَهْمَ التَّامَّ مِنْ طَرِيقِهِ الْعِلْمِيِّ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ الْهِدَايَةِ وَكَوْنِهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، عَلَى مَا فِي نَقْلِهِ مِنَ التَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، وَمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ الضَّعْفِ - وَمِنْ طَرِيقِهِ الْعَمَلِيِّ مَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ فِي هِدَايَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ هِدَايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَعَرَفَ تَأْثِيرَ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فِي أُمَمِهِمْ - عَلَى مَا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَيْضًا. وَلَا يَمْتَرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِ الْعِلْمِ الَّذِي مَوْضُوعُهُ هِدَايَةُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَنَقْلُهَا مِنْ حَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ إِلَى حَالٍ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْهَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْذِقُهَا، وَيَكُونُ إِمَامًا مُبْرَزًا فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَ مَنْ يَتَدَارَسُونَهُ فِي الْكُتُبِ بِهِ أَعْسَرُ مَسْلَكًا، وَأَوْعَرُ طَرِيقًا، وَأَنَّ فَلَاحَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُتَمَرِّسِينَ بِوَسَائِلِهِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ إِلَّا لِأَفْرَادٍ أُتِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ وَنُفُوذِ الْحُكُومَاتِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِهِمْ، فَمَا بَالُكَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ الرُّوحِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاحِ التَّامِّ مَعًا، عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ عَدَمِ سَبْقِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ؟ . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ: تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ يَمْلِكُ الْوِجْدَانَ، وَتُذْعِنُ لَهُ

النَّفْسُ بِالْإِيمَانِ، فَيَكُونُ هِدَايَةً تَزَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَاهْتَدَتْ بِهِ الْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ، فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا عَلَى عِلْمٍ بِحَقِيقَتِهَا، لَا تَقْلِيدًا لِآبَائِهِ وَقَوْمِهِ فِيهَا، لَا يَسَعُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ أَوِ الْفِيدَا أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمُرْسَلِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَصَحُّهَا نَسَبًا إِلَى مَنْ جَاءَ بِهِ. اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفَأَ الْقِنْدِيلَا وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ بِأَكْمَلِ نِظَامٍ، الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ بِالْحِكْمَةِ وَالْإِحْكَامِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَتَأَمَّلَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَمُتَوَاتِرًا، فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، وَإِتْيَانَهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْجَازِ، قَدْ كَانَ مِنْ أُمُورِ التَّعَالِيمِ الْبَشَرِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ الَّتِي قَلَبَتْ تَارِيخَ الْبَشَرِ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، بَلْ لَا يَسَعُهُ إِذَا أَنْصَفَ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الِانْقِلَابِيَّةَ فِي دِينِ الْأُمَمِ وَدُنْيَاهَا، قَدْ كَانَتْ بِعِنَايَةٍ مِنَ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، الْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ عَلَى قَلْبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَضَاهَا فِي قَوْمِهِ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ عُلُومِهِ، وَلَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ. هَذَا وَإِنَّ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مُقْدِمَاتٍ عِلْمِيَّةً وَفَلْسَفِيَّةً مُسْتَنْبَطَةً مِنْ حَاجَةِ الْبَشَرِ فِي كَمَالِهِمُ النَّوْعِيِّ فِي الدُّنْيَا، وَفِي اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ عَقَدَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِهَذَا الْبَحْثِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ " سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ خُلُودِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَكَوْنِهَا لَا تَزُولُ مِنَ الْوُجُودِ بِالْمَوْتِ الْمَعْهُودِ، وَهِيَ عَقِيدَةٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْبَشَرِ مِنَ الْمِلِّيِّينَ مُوَحِّدِيهِمْ وَوَثَنِيِّيهِمْ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَادِّيِّينَ الْجَدَلِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِمُدْرَكَاتِ الْحِسِّ. (وَثَانِيهُمَا) : مَأْخُوذٌ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ وَالشُّعُورِ النَّوْعِيِّ الْعَامِّ بِالْبَقَاءِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى آخَرَ فِي الْحَيَاةِ إِلَى هِدَايَةٍ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُدْرِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، فَيَسْتَقِلُّ عَقْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ لِلْبَقَاءِ الَّذِي يَعْقِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِلزَّوَالِ وَالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَصَوَّرْ وَلَا يَتَخَيَّلْ، وَإِنَّمَا عَاقِبَةُ الْمَوْتِ

انْحِلَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ الْجَسَدِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ الْمَادِّيَّةِ، فَاللهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ، وَتَأْبَى حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَجُودُهُ وَإِتْقَانُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، أَنْ يَحْرِمَهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ. وَبَيِّنَ فِي الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا التَّعَاوُنُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِالْأَخْذِ بِتَعَالِيمَ اعْتِقَادِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَهْوَاءُ وَالشَّهَوَاتُ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ فِيهَا نَفْسِيٌّ وِجْدَانِيٌّ لِصُدُورِهَا عَنِ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، بِوَحْيٍ أَوْحَاهُ إِلَى مَنِ اخْتَصَّهُ بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَلَوْلَا أَنْ طَالَ هَذَا الِاسْتِطْرَادُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لَأَوْرَدْتُ هَذَا الْفَصْلِ بِرُمَّتِهِ هُنَا، فَهُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ. إِلَّا أَنَّنِي أَقُولُ: إِنَّ أَعْلَمَ الْحُكَمَاءِ الْغَرْبِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَيَّنُوا فِي مَبَاحِثِهِمْ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تُرِكَ إِلَى مَدَارِكِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَنَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَسَلَّلَ مِنْ وِجْدَانِ الدِّينِ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ أَشْقَى مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، وَيَكُونُ جُلُّ شَقَائِهِ مِنْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، فَهُوَ إِذَا فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي تُسَاوِرُهَا الْآلَامُ الشَّخْصِيَّةُ، مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ، وَالْآلَامِ الْمَنْزِلِيَّةِ (الْعَائِلِيَّةِ) وَالْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، يَرَاهَا عَبَثًا ثَقِيلًا، وَيَرَى مِنَ السُّخْفِ أَوِ الْجُنُونِ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا مِنْهَا مُخْتَارًا لِأَجْلِ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ وَطَنٍ أَوْ أُمَّةٍ، وَيَرَى أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى فِي الْحَيَاةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لِأَلَمٍ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ، فَلَا يَتَزَوَّجَ وَلَا يَعْمَلَ أَدْنَى عَمَلٍ وَلَا يَتَكَلَّفَ أَدْنَى تَعَبٍ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ لَذَّاتِهِ الْجَسَدِيَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطَّرْقِ إِلَيْهَا، وَيَنْتَظَرَ الْمَوْتَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ وَنَزَلَتْ بِهِ آلَامٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ احْتِمَالُهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ ذُلٍّ مُخْزٍ فَلْيَبْخَعْ نَفْسَهُ وَيَتَعَجَّلِ الْمَوْتَ انْتِحَارًا. كُلُّ فَضَائِلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ، وَإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَيْهَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ خَيْرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَرَّرَهُ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَظِيمُ أُورُبَّا فِي عَصْرِهِ فِي بَيَانِ ((الْبَاعِثُ لِلْجُنْدِيِّ عَلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ)) مِنْ أَنَّهُ وَجَدَ أَنَّهُ الدِّينُ، وَفِي قَوْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ لَوْلَا الْإِيمَانُ لَمَا خَدَمَ الْأُمَّةَ الْأَلْمَانِيَّةَ فِي ظِلِّ عَاهِلِهَا، وَهُوَ يَكْرَهُ الْمُلُوكَ لِأَنَّهُ جُمْهُورِيٌّ بِالطَّبْعِ. وَلَئِنِ انْتَصَرَتِ الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ عَلَى الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ انْتِصَارًا تَامًّا كَامِلًا لِيَتَحَوَّلَنَّ جَمِيعُ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ إِلَى ذَرَائِعِ الْفَتْكِ وَالتَّدْمِيرِ، وَبِئْسَ الْمَثْوَى وَالْمَصِيرِ. وَهُوَ مَا جَزَمَ هِرْبِرْتُ سِبِنْسَرُ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا الِاجْتِمَاعِيِّينَ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ عَاقِبَةَ انْتِشَارِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ فِي أُورُبَّا: صَرَّحَ بِهِ لِشَيْخِنَا عِنْدَ الْتِقَائِهِ بِهِ فِي انْجِلْتِرَا. فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْهِدَايَةُ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِ الَّتِي أُفِيضَتْ عَلَى بَعْضِ خَوَاصِّهِ

وَهُمُ الرُّسُلُ مِنْ أُفُقٍ أَعْلَى مِنْ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ، فَكَانَتْ أُسْتَاذًا مُرْشِدًا لَهُ فِيهِمَا لِكَيْلَا يَسْتَعْمِلَهُمَا فِيمَا يَضُرُّهُ فِي سِيرَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهَادِيًا لَهُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَكْمَلُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَوْحَاهَا اللهُ إِلَى رُسُلِهِ لِيُبَلِّغُوهَا خَلْقَهُ، أَكْمَلُهَا هِدَايَةً وَإِرْشَادًا، وَأَصَحُّهَا تَارِيخًا وَإِسْنَادًا، وَلِذَلِكَ كَانَ خَاتِمَةً لَهَا، وَكَانَ آيَةً دَائِمَةً وَمُعْجِزَةً ثَابِتَةً بِأُسْلُوبِ عِبَارَتِهِ وَبِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا طَرَأَ عَلَى دُوَلِ خِلَافَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالِانْحِلَالِ صَدَّ النَّاسَ عَنْهُ، وَسَيَرْجِعُونَ إِلَى إِحْيَاءِ لُغَتِهِ، وَتَعْمِيمِ دَعْوَتِهِ فَيُنْقِذُ اللهُ بِهِ الْعَالَمَ مِنْ مَصَائِبِهِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي أَوْشَكَتْ أَنْ تُؤَدِّيَ بِهِ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) . خَاتِمَةُ الْبَحْثِ فِيمَنْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ: نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِكَلِمَةٍ فِيمَنْ حَاوَلُوا مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دَأْبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِحْصَاءُ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُمْ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَتَدْوِينُهُ وَعَزْوُهُ إِلَى أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ عُلَمَائِنَا وَيَنْقُلُونَ مِنْهَا كُلَّ طَعْنٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيُؤَيِّدُونَهُ، وَيَكْتُمُونَ رَدَّ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ أَوْ يَذْكُرُونَ مِنْهُ مَا يَرَوْنَهُ ضَعِيفًا وَيُورِدُونَهُ مَوْرِدَ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ لِتَنْفِيرِ ضُعَفَاءِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَقْلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ. وَقَدْ أَجْمَعَ رُوَاةُ الْآثَارِ وَالتَّارِيخِ عَلَى أَنَّ فَحَوْلَ الْبُلَغَاءِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ تَسْمُ نَفْسُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ - اللهُمَّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْ (مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ) أَنَّهُ عَارَضَ سُورَةَ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ مِنْهُ لِيُثْبِتَ لَدَى غَوْغَائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجُمَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ، إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ ". وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ أَوْرَدَهَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَزَعَمَ أَنَّهَا فَصِيحَةٌ مُتَنَاسِبَةُ الْمَعْنَى، بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي سُورَةِ (الْكَوْثَرِ) وَزَعَمَ أَنَّهُ سَأَلَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ (وَهُوَ هُوَ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مُعَارَضَةُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ص65 وَهَذِهِ عِبَارَاتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَجَاهِرْ، وَلَا تَعْتَمِدْ قَوْلَ سَاحِرٍ ". وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ جَاءَ مِنْ جَاهِلٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَلَا سِيَّمَا لُغَةُ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَخِيفُ الْعَقْلِ، فَمِنْ سُخْفِ عَقْلِهِ إِتْيَانُهُ بِكَلِمَةِ الْجَوَاهِرِ هُنَا وَتَرْتِيبُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إِعْطَائِهَا، وَفَرَضَ هَذَا وَحْيًا (لِمُسَيْلِمَةَ) الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ نَقْلٌ بِأَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ جَوَاهِرَ مَعْرُوفَةً تُذْكَرُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَتُذْكَرُ بِلَامِ الْجِنْسِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لِلْأَمْرِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالصَّلَاةِ هُنَا وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي جَهْرِ الشَّيْءِ أَوِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ،

وَأَمَّا الْفِقْرَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُولُهُ عَرَبِيٌّ قُحٌّ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَالٌ لِلسَّحَرَةِ تُعْتَمَدُ أَوْ لَا تُعْتَمَدُ إِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا، وَإِنَّمَا السَّحَرَةُ أُنَاسٌ مُفْسِدُونَ مُحْتَالُونَ فَعَّالُونَ لَا قَوَّالُونَ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي غَيَّرَهَا مِنَ السُّورَةِ صَحِيحَةٌ وَمُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ وَمُقْتَضَى الْحَالِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُعَارِضًا لَهَا بَلْ مُقَلِّدًا وَنَاقِلًا فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِاقْتِبَاسِ مَعَ التَّصَرُّفِ، كَمَنْ يُغَيِّرُ قَافِيَةَ أَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ بِمَعْنَاهَا أَوْ بِمَعْنَى آخَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ... أَنْ يُعَادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ... وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْحِدَقَا قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ... فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاحْتَرَقَا غَيَّرْتُ قَوَافِيَهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى بِالْبَدَاهَةِ فَقُلْتُ: مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ... أَنْ يُعَادَى طَرْفَ مَنْ مَقَلَا لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ... وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْمُقَلَا قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ... فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاشْتَعَلَا " مَقَلَ " نَظَرَ بِمُقْلَتِهِ، ثُمَّ غَيَّرْتُهَا أَيْضًا بِكَلِمَاتِ: نَظَرَا، أَوْ بَصَرَا - النَّظَرَا - فَاسْتَعَرَا - فَهَلْ أَكُونُ بِهَذَا مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ، وَفِي طَبَقَةِ صَاحِبِهِ مَنْ غَزَلِ الشِّعْرِ؟ إِعْجَازُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ: وَأَمَّا السُّورَةُ فَهِيَ فِي أُفُقٍ أَعْلَى مِمَّا قَالَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَيْهِ الْمُبَشِّرُ الْجَاهِلُ الْمُخَادِعُ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. " الْكَوْثَرُ " فِي السُّورَةِ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَحْكِيهِ أَوْ يَحُلُّ مَحَلَّهُ فِيهَا، إِذْ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْبَالِغُ مُنْتَهَى حُدُودِ الْكَثْرَةِ فِي الْخَيْرِ حِسِّيًّا كَانَ، كَالْمَالِ وَالرِّجَالِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى السَّخِيِّ الْجَوَادِ أَيْضًا. وَأَمَّا مَوْقِعُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْقِعُ كَلِمَةِ " الْأَبْتَرِ " فِي آخِرِهَا اللَّذَانِ اقْتَضَتْهُمَا الْبَلَاغَةُ وَتَأْبَى أَنْ يَحُلَّ غَيْرُهُمَا مَحَلَّهُمَا، فَهُوَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الْمَوْتَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الدَّوَائِرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَزُولُ بِزَوَالِ شَخْصِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (52: 30 - 31) وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَمَا رَأَوْا أَبْنَاءَهُ يَمُوتُونَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، أَوْ صَارَ أَبْتَرَ، أَيِ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ

بِانْقِطَاعِ وَلَدِهِ وَعَصَبِيَّتِهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْفَقْرَ وَانْقِطَاعَ الْعَقِبِ مَطْعَنًا فِي دِينِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَوْدِيعِ اللهِ لَهُ وَعَدَمِ عِنَايَتِهِ بِهِ تَبَعًا لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْغِنَى وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى رِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَتَهُمْ، وَدَحَضَ حُجَّتَهُمْ، وَجَعَلَ فَأْلَهَمَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ لَمَّا بَيَّنَ مَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ، قَالَ مَا تَفْسِيرُهُ بِالْإِيجَازِ: (إِنَّا) بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (أَعْطَيْنَاكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (الْكَوْثَرَ) : الَّذِي لَا تُحَدُّ كَثْرَتُهُ وَلَا تُحْصَرُ، مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَمَا لَا يُحْصَرُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْكَ فَتُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيُصَلَّى وَيُسَلَّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَالْحَوْضِ الَّذِي يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَحْشَرِ، فَلَفْظُ " الْكَوْثَرِ " يَشْمَلُ كُلَّ هَذَا وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَةِ وَنَبَأِ الْغَيْبِ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ: (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) (16: 1) أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِنْشَاءِ. . . فَأَيْنَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُوَافَقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ كَلِمَةِ " الْجُمَاهِرِ " الَّتِي اسْتَبْدَلَهَا بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَهِيَ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الضَّخْمُ - أَوْ كَلِمَةِ " الْجَوَاهِرِ " الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُبَشِّرُ الْمُرْتَابُ السَّبَّابُ، وَهِيَ كَذِبٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ؟ وَوَصَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْعُظْمَى بِالْأَمْرِ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وَمُتَوَلِّي أَمْرِكَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، (وَانْحَرْ) ذَبَائِحَ نُسُكِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (6: 162) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِي يَتِمُّ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَبِحَجِّهِ وَنُسُكِهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ - وَقَدْ كَانَ - وَنَحَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ خَاصَّةٌ بَعْدَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ الْعَامَّةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبِشَارَةٍ ثَالِثَةٍ: هِيَ تَمَامُ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ أَوْرَدَهَا مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ شَانِئِيهِ وَمُبْغَضِيهِ الَّذِينَ رَمَوْهُ بِلَقَبِ الْأَبْتَرِ وَتَرَبَّصُوا بِهِ الدَّوَائِرَ لِمَا يَرْجُونَ مِنَ انْقِطَاعِ ذِكْرِهِ وَاضْمِحْلَالِ دَعْوَتِهِ؟ فَأَجَابَ: (إِنَّ شَانِئَكَ) أَيْ مُبْغِضَكَ وَعَائِبَكَ بِالْفَقْرِ وَفَقْدِ الْعَقِبِ (هُوَ الْأَبْتَرُ) مِنْ دُونِكَ - وَهَذَا إِخْبَارٌ آخَرُ بِالْغَيْبِ قَدْ صَحَّ وَتَحَقَّقَ بَعْدَ كَرِّ السِّنِينَ، وَلَفْظُ " شَانِئٍ " مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَمَعْنَاهُ عَامٌّ، فَهُوَ يَشْمَلُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا أَوْ مُوَافَقَةً لِإِخْوَانِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَقَدْ بُتِرُوا كُلُّهُمْ وَهَلَكُوا، ثُمَّ نُسُوا كَأَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا، وَزَالَ مَا كَانُوا يَرْجُونَ

25

مِنْ بَقَاءِ الذِّكْرِ بِالْعَظَمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ وَالْعَصَبِيَّةِ، فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ، وَلَا يُنْسَبُ لَهُ عَقِبٌ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى إِيجَازِهَا فِي مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، قَدْ جَمَعَتْ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي فَسَّرَهَا الزَّمَانُ مَا تُعَدُّ بِهِ مُعْجِزَةً بَيِّنَةَ الْإِعْجَازِ، وَفِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَاللَّطَائِفِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا (فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ. أَنْبِيَاءُ الْعَجَمِ الْكَاذِبُونَ: هَذَا وَأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْقَرْنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ دَجَّالُونَ مِنْ إِيرَانَ، فَالْهِنْدِ، ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَشَارِعٌ جَدِيدٌ فَإِلَهٌ مَعْبُودٌ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمُنْتَظَرُ، وَقَدْ أَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَسَائِلَ وَكُتُبًا عَرَبِيَّةً ادَّعَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لِلْأَنَامِ، عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقَدْ ضَلَّ بِكُلٍّ مِنْهُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَهْمًا صَحِيحًا، ثُمَّ تَأَلَّفَتْ لَهُمْ أَحْزَابٌ وَعَصَبِيَّاتٌ بِمُسَاعَدَةِ الْأَجَانِبِ الْمُسْتَعْمَرِينَ الطَّامِعِينَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ لَهُمْ ثَرْوَةٌ يَسْتَمِيلُونَ بِهَا النَّاسَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ فِي " الْمَنَارِ "، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَا ظَهَرَ بِهِ جَهْلُهُمْ وَكَذِبُهُمْ، وَسَخَافَتُهُمْ فِيمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ. وَقَدْ كَانَ لِأَعْرِضِهِمْ دَعْوَى كِتَابٌ سَمَّاهُ (الْكِتَابَ الْأَقْدَسَ) حَاوَلَ فِيهِ مُحَاكَاةَ الْقُرْآنِ فِي فَوَاصِلِ آيَاتِهِ وَفِي أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ أَتْبَاعَهُ الْأَذْكِيَاءَ لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِخْفَاءِ هَذَا الْكِتَابِ وَجَمْعِ مَا كَانَ تَفَرَّقَ مِنْ نُسَخِهِ الْمَطْبُوعَةِ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَا يَدْرِي إِلَّا اللهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَثِقُوا بِأَنَّهُمُ اسْتَرَدُّوا سَائِرَ نُسَخِهِ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَنْقِيحٍ، وَإِبْرَازِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ فِي ثَوْبٍ جَدِيدٍ. وَهَذَا الْعَمَلُ يُؤَكِّدُ انْفِرَادَ الْقُرْآنِ بِالْإِعْجَازِ، وَكَوْنَهُ هُوَ حُجَّةَ اللهِ الْبَاقِيَةَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا أَعَدَّهُ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَجَحَدُوا بِهَا، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصِيبَ مُقَابِلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الدَّلِيلُ فَآمَنُوا، وَلَاحَ لَهُمْ نُورُ الْهِدَايَةِ فَاهْتَدَوْا، فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِفَائِدَتِهَا، إِذْ لَا بُدَّ بَعْدَ بَيَانِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ، مِنْ بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِرْشَادُ تَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَالْخِطَابُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْأَمْرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (نَبِّئْ عِبَادِي) (15: 49) وَقَوْلِهِ: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) (36: 13) فَهُوَ فِي عُمُومِهِ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهِ هُوَ الرَّسُولُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) وَلَمْ يَذْكُرْ بِمَاذَا آمَنُوا؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ اللهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّقْلُ الصَّرِيحُ، وَأَثْبَتَهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، وَالْوَحْيُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي كَانَ يَدْعُو إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِيهَا كَانَ مُؤْمِنًا وَيُصَدِّقُ بِمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ مِنَ الْيَقِينِ، وَلَا يَقِينَ إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبُرْهَانُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ عَقْلِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْإِرْشَادُ إِلَيْهَا سَمْعِيًّا، وَلَكِنْ (لَا يَنْحَصِرُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الْمُؤَدِّي إِلَى الْيَقِينِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَسَبَقَهُمْ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا الْفَلَاسِفَةُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَلَّمَا تَخْلُصُ مُقَدِّمَاتُهَا مِنْ خَلَلٍ، أَوْ تَصِحُّ طُرُقُهَا مِنْ عِلَلٍ، بَلْ قَدْ يَبْلُغُ أُمِّيٌّ عِلْمَ الْيَقِينِ بِنَظْرَةٍ صَادِقَةٍ فِي ذَلِكَ الْكَوْنِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ إِذَا تَجَلَّتْ بِغَرَائِبِهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ أُولَئِكَ الْأُمِّيِّينَ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي يَقِينِهِ آلَافٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَفَنِّنِينَ، الَّذِينَ أَفْنَوْا أَوْقَاتَهُمْ فِي تَنْقِيحِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبِنَاءِ الْبَرَاهِينِ، وَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَدْنَى الْمُقَلِّدِينَ) . (وَأَقُولُ) : كَانَ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَطْلَقَ اشْتِرَاطَ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ هُنَا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَالْبَحْثُ فِيهِ، ثُمَّ قَيَّدَهُ هُنَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ خَطَأَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي اشْتِرَاطِهِمُ الْبَرَاهِينَ الْمَنْطِقِيَّةَ الَّتِي سَمَّوْهَا قَطْعِيَّةً عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَلَلٍ وَعِلَلٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابٍ كَافٍ فِي النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَبَدَاهَةُ الْعَقْلِ فِيهِ كَافِيَةٌ عِنْدَ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَمْ يُبْتَلَ بِشُكُوكِ الْفَلَاسِفَةِ وَجَدَلِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا بِتَقْلِيدِ الْمُبْطِلِينَ. هَذَا وَإِنَّ إِطْلَاقَ الْإِيمَانِ وَذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَعْهُودٌ

فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلَّقَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا: مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجْمَالًا مِنَ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ عَرَفُوهُ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا. ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وَأَطْلَقَ فِي هَذَا أَيْضًا كَمَا أَطْلَقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَجَعْلِهِ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ مُتَّصِلًا بِهِ وَلَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالتَّفْصِيلِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إِلَخْ وَكَالْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) وَآخِرِهَا وَآخِرِ سُورَةِ (الْفُرْقَانِ) وَأَوَائِلِ سُورَةِ (الْمَعَارِجِ) وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَضِلُّ بِانْحِرَافٍ يَطْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ ثُمَّ يَضِلُّ بِضَلَالِهِ آخَرُونَ، فَتَكُونُ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ النَّاشِئَةُ عَنْ هَذَا الضَّلَالِ هِيَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الضَّالِّينَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا أَصْلُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ لَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ مَادَامَ بَعِيدًا عَنِ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ بَلَغَ فَسَادُ الطِّبَاعِ وَانْحِرَافُ الْفِطْرَةِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ مَبْلَغًا كَادُوا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرِ، كَمُتَنَطِّعِي الْبَرَاهِمَةِ إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ كَمَالَ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتَهَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْذِيبِ الْأَبْدَانِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَدُّوا فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا فَمَالُوا عَنْ سُنَنِ الِاعْتِدَالِ، وَمَنَّوْا أَبْدَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِالْفَسَادِ وَالِاعْتِلَالِ، وَكَبَعْضِ كَفَرَةِ الْعَرَبِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا فِي اللَّذَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَا شَرَّ إِلَّا فِي الْأَلَمِ الْجَسَدَانِيِّ، فَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمَرْضَى النُّفُوسِ الْمَحْرُومِينَ مِنَ الْكَمَالِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ كَمَثَلِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ فَصَارَ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا، وَإِنَّ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ يَشْتَهِي فِي طَوْرِ النَّقَهِ مَا لَا يَشْتَهِي فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَالَى فِي مُدَّةِ الْوَحَمِ: يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ... وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى عِنْدَ الْأَشْرَارِ، وَلِذَلِكَ يَدَّعُونَ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَيُنْكِرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِذِكْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ مُبْهَمًا عِنْدَهُمْ، وَلَا خِطَابًا بِغَيْرِ مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ مُعْتَلُّ الْفِطْرَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ، وَذِكْرِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَالْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ آيَاتُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبِهَا يَنْقَطِعُ تَلْبِيسُ الْأَغْبِيَاءِ، وَاعْتِذَارُ الْجُهَلَاءِ، وَحَقَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هُوَ مَنْ جَمَعَ

بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَيَهْدِي إِلَى تَحْدِيدِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةُ. بَشِّرْهُمْ (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وَرَدَ لَفْظُ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّاتِ كَثِيرًا فِي مُقَابَلَةِ النَّارِ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْبُسْتَانُ، وَالْجَنَّاتُ جَمْعُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا مَفْهُومَهُمَا اللُّغَوِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا دَارَا الْخُلُودِ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، فَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَبْرَارِ وَالْمُتَّقِينَ، وَالنَّارُ دَارُ الْفُجَّارِ وَالْفَاسِقِينَ، فَنُؤْمِنُ بِهِمَا بِالْغَيْبِ وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا، وَلَا نَزِيدُ عَلَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ فِيهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ. وَمِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْجَنَّاتِ قَوْلُهُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَسَاتِينَ حَيَاتُهَا بِالْأَنْهَارِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَهَلْ سُمِّيَتْ دَارُ النَّعِيمِ جَنَّةً وَجَنَّاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَذُكِرَتِ الْأَنْهَارُ تَرْشِيحًا لَهُ أَمْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْجَنَّاتِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذِكْرُ الْجَنَّةِ أَوِ الْجَنَّاتِ لَوَجَبَ التَّفْوِيضُ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ، أَمَا وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنْوَاعٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَذُكِرَ الثَّمَرَاتُ، فَقَدْ تَعَيَّنَ تَرْجِيحُ الشِّقِّ الثَّانِي، وَإِلَّا كَانَ هَرَبُنَا مِنْ تَشْبِيهِ أَسْرَى الْأَلْفَاظِ عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِدَلَالَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ فِيهَا أَنَّهُمْ (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا) كَلِمَةُ " مِنْ " الْأُولَى لِلِابْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجَنَّاتِ رِزْقًا مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) (39: 74) وَذَهَبَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ إِلَى اخْتِيَارِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ ثَمَرَاتِ الْآخِرَةِ بِثَمَرَاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْضُلُهَا فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) بَيَانٌ لِسَبَبِ الْقَوْلِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ أُتُوا بِمَا ذُكِرَ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَشَابِهًا بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يُؤْتَوْنَ بِرِزْقِ الْجَنَّةِ يُبَادِرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وُعِدُوا بِهِ وَأَنَّهُ عَيْنُ رِزْقِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ سَبَبَ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالطَّعْمِ؛ لِأَنَّ فَرْقًا عَظِيمًا بَيْنَ لَذَّةِ رِزْقِ الدُّنْيَا وَرِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ " كُلَّمَا " يُنَافِي هَذَا التَّفْسِيرَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعْرِفُونَ التَّفَاوُتَ مَعْرِفَةً تَذْهَبُ بِهِ وَتَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ هَذَا عَيْنُ ذَاكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الثِّمَارِ فَبِالِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْوَاعِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ مُنَافٍ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَشَابُهَ رِزْقَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ، وَاخْتِلَافَهُ فِي الطَّعْمِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ تَشْوِيقٍ،

لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِي التَّنَقُّلِ، ثُمَّ إِنَّ أَطْوَارَ الْجَنَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَطْوَارِ الدُّنْيَا، وَالتَّشْوِيقُ لِلنَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا عَهِدُوا وَاعْتَادُوا وَأَلِفُوا، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ حِفْظِ الْبِنْيَةِ مِنَ الِانْحِلَالِ، وَلَا انْحِلَالَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْبَقَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ هُنَاكَ عَلَى مَا وَرَدَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، أَوْ هُوَ لِتَحْصِيلِ لَذَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ أَمْرَ حَقِيقَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ لَذَّةٌ أَعْلَى مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا. أَقُولُ: بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: ((لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي)) وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (32: 17) . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ عَيْنُ مَا وُعِدُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَكُلَّمَا رُزِقُوا ثَمَرَةً مِنْهُ يَذْكُرُونَ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِمْ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَعَدَّ هَذَا الْجَزَاءَ، كَمَا تُفِيدُهُ آيَةُ (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِبَاطِ الْمَوْعُودِ بِهِ بِالْمَوْعُودِ عَلَيْهِ كَأَنَّ الْأَعْمَالَ عَيْنُ الْجَزَاءِ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (99: 7 - 8) وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُنَالِكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ رِزْقَ الْجَنَّةِ وَثَمَرَهَا يَتَشَابَهُ عَلَى أَهْلِهَا فِي صُورَتِهِ، وَيَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَذَّتِهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ. ثُمَّ قَالَ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أَيْ مُبَالَغٌ فِي تَطْهِيرِهِنَّ وَتَزْكِيَتِهِنَّ فَلَيْسَ فِيهِنَّ مَا يُعَابُ مِنْ خَبَثٍ جَسَدِيٍّ حَتَّى مَا هُوَ فِي الدُّنْيَا طَبِيعِيٌّ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا نَفْسِيٍّ كَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَسَائِرِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُنَّ طَهُرْنَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّطْهِيرِ، وَنِسَاءُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الصَّالِحَاتِ وَهُنَّ الْمَعْرُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَصُحْبَةُ الْأَزْوَاجِ فِي الْآخِرَةِ كَسَائِرِ شُئُونِهَا الْغَيْبِيَّةِ نُؤْمِنُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا لَا نَزِيدُ فِيهِ وَلَا نُنْقِصُ مِنْهُ، وَلَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ أَطْوَارَ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لَذَّةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمُصَاحِبَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ هِيَ التَّنَاسُلُ وَإِنْمَاءُ النَّوْعِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ تَنَاسُلًا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَذَّةُ الْمُصَاحَبَةِ الزَّوْجِيَّةِ هُنَاكَ أَعْلَى وَحِكْمَتُهَا أَسْمَى، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ رِزْقِ الْجَنَّةِ. (أَقُولُ) : هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُثْلَى فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ لِعَالَمِهِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا لَا مَلَكًا،

وَإِنَّمَا تَكُونُ لَذَّاتُهُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَأَسْلَمَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَمِنْهَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمُبَاشَرَةُ الزَّوْجِيَّةُ فَتَنَبَّهْ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ)) قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: ((جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا ((إِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ فِي الْجَنَّةِ زَوْجَيْنِ اثْنَتَيْنِ)) - قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِحْدَاهُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ كَثْرَتِهِنَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الْخُلُودُ فِي اللُّغَةِ: طُولُ الْمُكْثِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ خَلَدَ فِي السِّجْنِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَفِي الشَّرْعِ: الدَّوَامُ الْأَبَدِيُّ، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا هِيَ تَفْنَى بِهِمْ فَيَزُولُوا بِزَوَالِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَفَّقَنَا اللهُ لِمَا يَجْعَلُنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأَرْوَاحُ وَتَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ الْفَلَاحِ. (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا لَمْ يَخْتَلِفِ النَّظْمُ، وَلَمْ يَخْرُجِ الْكَلَامُ عَنِ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَحَالُ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَلَا فَصْلَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْوَصْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا ضَرْبَ الْأَمْثَالِ بِالْمُحَقَّرَاتِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ كَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْأَمْثَالَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِمُسْتَوْقِدِ النَّارِ وَالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللهِ ضَرَبُ الْأَمْثَالِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ الْقُدْوَةُ تَقْرِيرًا لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا نَصَّ هُنَا عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْ ضَرْبِ أَيِّ مَثَلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ هُنَاكَ عِنْدَ تَمْثِيلِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ ذِكْرِ الِاعْتِرَاضِ الْمُوَجَّهِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ هَذَا مَقَامَ رَدِّ شُبَهِ الْمُكَابِرِينَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَهُوَ أَظْهَرُ.

عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي سَبَبِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَدًّا لِمَا قِيلَ فَهِيَ رَدٌّ لِمَا قَدْ يُقَالُ، أَوْ يَجُولُ فِي خَوَاطِرِ أَهْلِ الْمُكَابَرَةِ وَالْجِدَالِ وَالْمُجَاحَدَةِ وَالْمِحَالِ. وَالِاسْتِحْيَاءُ - قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مِنَ الْحَيَاءِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَغَيُّرٌ فِي النَّفْسِ يُلِمُّ بِهَا إِذَا نُسِبَ إِلَيْهَا أَوْ عَرَضَ لَهَا فِعْلٌ تَعْتَقِدُ قُبْحَهُ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يَعْرِضُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْتَحِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، أَيْ إِنَّ نَفْسَهُ تَنْكَسِرُ فَتَنْقَبِضُ عَنْ فِعْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَحْيَا مِنْ عَمَلِ كَذَا، أَيْ إِنَّ نَفْسَهُ انْفَعَلَتْ وَتَأَلَّمَتْ عِنْدَمَا عُرِضَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ فَرَآهُ شَيْنًا أَوْ نَقْصًا، وَيُقَالُ: حَيِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ أُصِيبَ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا يُقَالُ: نُسِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي نَسَاهُ - وَهُوَ عِرْقٌ يُسَمُّونَهُ عِرْقَ النَّسَا بِفَتْحِ النُّونِ - وَحُشِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي حَشَاهُ. وَقَالُوا: إِنَّ الْحَيَاءَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِمَا يُصِيبُ مَوْضِعَهَا وَهُوَ النَّفْسُ، فَمَعْنَى عَدَمِ اسْتِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْفِعَالُ، وَلَا يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ التَّأَثُّرُ وَالضَّعْفُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، بَلْ هُوَ يَضْرِبُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْهَادِيَةِ وَالْمُطَابِقَةِ لِحَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يُجَلِّي الْحَقَائِقَ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ. وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ وَغَيْرَهُ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى اتِّصَافِ اللهِ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ فَقَالُوا: إِنَّ النَّفْيَ خَاصٌّ، وَمِثْلُهُ إِذَا وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالْمَنْفِيِّ، فَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُنْفَى عَنْهُ، لَا تَقُولُ: إِنَّ عَيْنِي لَا تَسْمَعُ وَأُذُنِي لَا تَرَى، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى نَفْيِ الِاسْتِحْيَاءِ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَرَى مِنَ النَّقْصِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بَعُوضَةً فَمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نِسْبَةُ الْحَيَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالنَّافُونَ لَهُ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ بِأَثَرِهِ وَغَايَتِهِ. أَقُولُ: هَذَا مُؤَدَّى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ، وَالْحَدِيثُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ مَرْوِيٌّ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْأَوَّلُ النَّسَائِيُّ، وَالثَّانِي التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنُوهُمَا، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَيَاءَ انْفِعَالُ النَّفْسِ وَتَأَلُّمُهَا مِنَ النَّقْصِ وَالْقَبِيحِ بِالْغَرِيزَةِ الْفُضْلَى، غَرِيزَةِ حُبِّ الْكَمَالِ فَهُوَ كَمَالٌ لَهَا خِلَافًا لِأُولِي الْوَقَاحَةِ الَّذِينَ يَعُدُّونَهُ ضَعْفًا وَنَقْصًا، وَإِنَّمَا النَّقْصُ الْإِفْرَاطُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بِحَيْثُ تَضْعُفُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّيْءِ الْحَسَنِ النَّافِعِ اتَّقَاءً لِذَمِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ أَوْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ. وَالْمَثَلُ فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ وَالشَّبِيهُ، وَضَرْبُهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَاعِهِ وَبَيَانِهِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُذْكَرَ لِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يُنَاسِبُهَا وَيُشَابِهُهَا وَيُظْهِرُ مِنْ حُسْنِهَا أَوْ قُبْحِهَا مَا كَانَ خَفِيًّا، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ الْأَحْوَالِ كَانَ قِصَّةً وَحِكَايَةً، وَاخْتِيرَ لَهُ لَفْظُ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ يَأْتِي عِنْدَ إِرَادَةِ التَّأْثِيرِ وَهَيْجِ الِانْفِعَالِ، كَأَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ يَقْرَعُ بِهِ أُذُنَ السَّامِعِ قَرْعًا يَنْفُذُ أَثَرُهُ إِلَى قَلْبِهِ،

26

وَيَنْتَهِي إِلَى أَعْمَاقِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ فِي الْكَلَامِ قَلْبًا حَيْثُ جُعِلَ الْمَثَلُ هُوَ الْمَضْرُوبُ وَإِنَّمَا هُوَ مَضْرُوبٌ بِهِ، هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى مِنْ جَعْلِ الضَّرْبِ لِلْمَثَلِ كَضَرْبِ الْقُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ أَوْ ضَرْبِ النُّقُودِ. وَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ التَّأْثِيرَ فَالْبَلَاغَةُ تَقْضِي بِأَنْ تُضْرَبَ الْأَمْثَالُ لِمَا يُرَادُ تَحْقِيرُهُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ بِحَالِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى الْعُرْفُ بِتَحْقِيرِهَا، وَاعْتَادَتِ النُّفُوسُ النُّفُورَ مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى بَلِيغٍ، وَلَا عَلَى عَاقِلٍ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُنْكِرِينَ لَمْ يَرَوْا فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا يُعَابُ فَتَحَمَّلُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا: كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ وَجَرَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُتَحَذْلِقِينَ الْمُتَكَيِّسِينَ إِذْ يَتَحَامَوْنَ ذِكْرَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي مَدْلُولَاتُهَا حَقِيرَةٌ فِي الْعُرْفِ، وَإِذَا اضْطُرُّوا لِذِكْرِهَا شَفَعُوهَا بِمَا يَشْفَعُ لَهَا كَقَوْلِهِمْ: " أَجَلَّكُمُ اللهُ " وَإِذَا كَانَ شَأْنُ الْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ ذِكْرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا مَنْ ذَكَرْنَا فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّنْفِيرُ هُوَ الْأَبْلَغُ فِي التَّأْثِيرِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْبَلَاغَةِ وَسِرُّهَا، كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) مُبَيِّنًا لِشَأْنٍ مِنْ شُئُونِ كَمَالِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقَاضِيًا عَلَى الَّذِينَ يَتَحَامَوْنَ ذِكْرَ الْبَعُوضَةِ وَأَمْثَالِهَا بِنَقْصِ الْعَقْلِ، وَخُسْرَانِ مِيزَانِ الْفَضْلِ، وَالْمُرَادُ بِمَا فَوْقَ الْبَعُوضَةِ مَا عَلَاهَا وَفَاقَهَا فِي مَرْتَبَةِ الصِّغَرِ وَمِنْهَا جِنَّةُ النَّسَمِ (الْمَيِكْرُوبَاتُ) الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالنَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ (ميكرسكوب) وَكَانُوا يَضْرِبُونَ الْمَثَلَ بِمُخِّ النَّمْلَةِ، وَفِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ: " أَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَعَزُّ مِنْ مُخِّ الْبَعُوضَةِ " وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ضَرْبَ مَثَلٍ مَا مِنَ الْأَمْثَالِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بَعُوضَةً أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا حَجْمًا، وَأَقَلَّ عِنْدَ النَّاسِ شَأْنًا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ نَقْصًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَيْسَ نَقْصًا فِي جَانِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ وَمُقَرِّرٌ لَهُ، وَسَائِقٌ إِلَى الْأَخْذِ بِهِ بِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ تَعْرِضُ لِلذِّهْنِ مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحِيطَ بِهَا وَيَنْفُذَ فِيهَا فَيَسْتَخْرِجَ سِرَّهَا، وَالْمَثَلُ هُوَ الَّذِي يُفَصِّلُ إِجْمَالَهَا وَيُوَضِّحُ إِبْهَامَهَا، فَهُوَ مِيزَانُ الْبَلَاغَةِ وَقِسْطَاسُهَا، وَمِشْكَاةُ الْهِدَايَةِ وَنِبْرَاسُهَا، وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ إِمَامَ الْبَلَاغَةِ وَالْوَاضِعَ الْأَوَّلَ لِعِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَمُؤَلِّفَ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَ (دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِتَحْقِيقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ) حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْأَوَّلِ: " وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّمْثِيلَ إِذَا جَاءَ فِي أَعْقَابِ الْمَعَانِي، أَوْ بَرَزَتْ هِيَ

بِاخْتِصَارٍ فِي مَعْرَضِهِ، وَنُقِلَتْ عَنْ صُوَرِهَا الْأَصْلِيَّةِ إِلَى صُورَتِهِ كَسَاهَا أُبَّهَةً، وَأَكْسَبَهَا مَنْقَبَةً، وَرَفَعَ مِنْ أَقْدَارِهَا، وَشَبَّ مِنْ نَارِهَا، وَضَاعَفَ قُوَاهَا فِي تَحْرِيكِ النُّفُوسِ لَهَا، وَدَعَا الْقُلُوبَ إِلَيْهَا، وَاسْتَثَارَ لَهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَفْئِدَةِ صَبَابَةً وَكَلَفًا، وَقَسَرَ الطَّبَائِعَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا مَحَبَّةً وَشَغَفًا ". " فَإِنْ كَانَ مَدْحًا كَانَ أَبْهَى وَأَفْخَمَ، وَأَنْبَلَ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمَ، وَأَهَزَّ لِلْعِطْفِ، وَأَسْرَعَ لِلْإِلْفِ، وَأَجْلَبَ لِلْفَرَحِ، وَأَغْلَبَ عَلَى الْمُمْتَدَحِ، وَأَوْجَبَ شَفَاعَةً لِلْمَادِحِ، وَأَقْضَى لَهُ بِغَرَرِ الْمَوَاهِبِ وَالْمَنَائِحِ، وَأَسْيَرَ عَلَى الْأَلْسُنِ وَأَذْكَرَ، وَأَوْلَى بِأَنْ تُعَلَّقَهُ الْقُلُوبُ وَأَجْدَرَ " " وَإِنْ كَانَ ذَمًّا كَانَ مَسُّهُ أَوْجَعَ، وَمِيسَمَهُ أَلَذَعَ، وَوَقْعُهُ أَشَدَّ، وَحَدُّهُ أَحَدَّ " " وَإِنْ كَانَ حِجَاجًا كَانَ بُرْهَانُهُ أَنْوَرَ، وَسُلْطَانُهُ أَقْهَرَ، وَبَيَانُهُ أَبْهَرَ " " وَإِنْ كَانَ افْتِخَارًا كَانَ شَأْوُهُ أَبْعَدَ، وَشَرَفُهُ أَجَدَّ، وَلِسَانُهُ أَلَدَّ " " وَإِنْ كَانَ اعْتِذَارًا كَانَ إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبَ، وَلِلْقُلُوبِ أَخْلَبَ، وَلِلسَّخَائِمِ أَسَلَّ، وَلِغَرْبِ الْغَضَبِ أَفَلَّ، وَفِي عَقْدِ الْعُقُودِ أَنْفَثَ، وَعَلَى حُسْنِ الرُّجُوعِ أَبْعَثَ " " وَإِنْ كَانَ وَعْظًا كَانَ أَشَفَى لِلصَّدْرِ، وَأَدْعَى إِلَى الْفِكْرِ، وَأَبْلَغَ فِي التَّنْبِيهِ وَالزَّجْرِ، وَأَجْدَرَ بِأَنْ يُجْلِي الْغَيَابَةَ، وَيُبْصِرَ الْغَايَةَ، وَيُبْرِئَ الْعَلِيلَ، وَيَشْفِي الْغَلِيلَ " إِلَخْ. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فَيُجَادِلُونَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، وَيُمَارُونَ بِالْبُرْهَانِ وَقَدْ تَعَيَّنَ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ الْمَوْضُوعِ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْحُجَّةِ، وَيَتَتَبَّعُونَ الْكَلِمَ الْمُفْرَدَ، حَتَّى إِذَا ظَفِرُوا بِكَلِمَةٍ لَا يَسْتَعْذِبُهَا ذَوْقُ الْمُتَظَرِّفِينَ، وَلَا تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُتَكَلِّفِينَ، أَظْهَرُوا الْعَجَبَ مِنْهَا، وَطَفِقُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهَا (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا) وَلَوْ أَنْصَفُوا لَعَرَفُوا، وَلَكِنَّهُمُ ارْتَابُوا فِي الْحَقِّ فَانْصَرَفُوا (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (18: 54) يَذْهَبُ بِهِ جَدَلُهُ إِلَى قِيَاسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمُتَنَطَّعِي الْمُتَأَدِّبِينَ، وَيُنْكِرُ عَلَى رَبِّهِ الْمَثَلَ وَالْقِيَاسَ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) أَيْ يُضِلُّ بِالْمَثَلِ أَوْ بِالْكَلَامِ الْمَضْرُوبِ فِيهِ الْمَثَلُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ شُبْهَةً عَلَى الْإِنْكَارِ وَالرَّيْبِ، وَيَهْدِي بِهِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ بِغَايَاتِهَا، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِحَسْبِ فَائِدَتِهَا، وَأَنْفَعُ الْكَلَامِ مَا جَلَّى الْحَقَائِقَ وَهَدَى إِلَى أَقْصَدِ الطَّرَائِقِ، وَسَاقَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ إِلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (29: 43) فَهَؤُلَاءِ الْعَالِمُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُمُ الْمَهْدِيُّونَ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: (مَاذَا أَرَادَ اللهُ) إِلَخْ، أَيِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْمَثَلَ لِكُفْرِهِمْ فَهُمُ الضَّالُّونَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَ شَأْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) فَعُرِفَتْ عِلَّةُ ضَلَالِهِمْ وَهِيَ الْفُسُوقُ، أَيِ الْخُرُوجُ عَنْ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي

هَدَاهُمْ إِلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ، وَبِكِتَابِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمُ الْعُصَاةُ بِمَا دُونَ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ هُنَا. وَتِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتُ حَادِثَةٌ بَعْدَ التَّنْزِيلِ وَقَدْ كَانَ التَّعْبِيرُ بِـ " يُضِلُّ " مُشْعِرًا بِأَنَّ الْمَثَلَ هُوَ مَنْشَأُ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ بِذَاتِهِ، فَنَفَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الضَّلَالِ رَاسِخٌ فِيهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُهْتَدِينَ فِي الْكَثْرَةِ كَالضَّالِّينَ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي التَّسْوِيَةِ إِفَادَةُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ - عَلَى قِلَّتِهِمْ - أَجَلُّ فَائِدَةً وَأَكْثَرُ نَفْعًا وَأَعْظَمُ آثَارًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْفَاسِقِينَ الضَّالِّينَ - عَلَى كَثْرَتِهِمْ - لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ: قَلِيلٌ إِذَا عُدُّوا كَثِيرٌ إِذَا اشْتَدُّوا وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْوَاحِدُ فِي الْقِتَالِ بِعَشَرَةٍ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَبِاثْنَيْنِ فِي حَالِ الضَّعْفِ، قِيلَ: هُوَ ضَعْفُ الْبَدَنِ، وَقِيلَ: بَلْ ضَعْفُ الْبَصِيرَةِ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ سَادُوا جَمِيعَ الْعَالَمِينَ: وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا ... إِلَى الْمَجْدِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلٌّ وَإِنْ كَثُرُوا وَأَمَّا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْإِضْلَالِ عَلَى الْهِدَايَةِ، فَلِأَنَّ سَبَبَهُ وَمَنْشَأَهُ مِنَ الْكُفْرِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ بِالْأَمْثَالِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ، فَزَادَتِ الْفَاسِقِينَ رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ؛ لِأَنَّ نُورَ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِتَمَادِيهِمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَقَطْعِ الْوَصْلِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ، وَقَدْ عُلِمَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ فِي الْآيَةِ لَفًّا وَنَشْرًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَإِنَّ الضَّلَالَ ذُكِرَ أَوَّلًا، وَهُوَ لِلْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالْهُدَى ذُكِرَ آخِرًا، وَهُوَ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. هَذَا وَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ وَضَلَالِ قَوْمٍ بِهِ وَهِدَايَةِ آخَرِينَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَثَلُ الْكَلَامِيُّ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَخْذًا مِمَّا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ فِي الْآيَةِ الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْمَثَلِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) (43: 56) وَقَوْلِهِ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (43: 57) وَقَالَ فِيهِ: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ 43: 59) فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِينَا إِلَى فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ دَحْضُ شُبْهَةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَاحِيَّتَهُ لِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا يُقْتَدَى بِهِ، وَهِيَ أَنَّهُ بَشَرٌ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْيَهُودُ. وَقَدْ حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَشَرًا مِثْلَنَا

فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَمَثَلٌ كَامِلٌ ضُرِبَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ؟ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) (38: 8) وَلِأَيِّ شَيْءٍ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ مَلَكًا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (25: 7) وَقَدْ أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (2: 23) . . . إِلَخْ، وَأَتْبَعَهَا بِوَعِيدِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ وَهُمُ الْكَافِرُونَ، وَبِشَارَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَهِيَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، كَرَّ عَلَى شُبْهَتِهِمْ بِالنَّقْضِ وَهِيَ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ بَشَرٌ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ. وَمُحَصَّلُهُ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ فِيمَا شَاءَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَيَضْرِبُهُ مَثَلًا لِلنَّاسِ يَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْصًا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ فَيَسْتَحِي مِنْ ضَرْبِهَا مَثَلًا، بَلْ مِنَ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالْمُحْتَقَرَةِ فِي الْعُرْفِ كَالْبَعُوضِ فَوَائِدَ وَمَنَافِعَ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مَثَلًا وَإِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ قَوْمُهُ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ؟ وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الْمَثَلِ هُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ أَوْ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَتَمَّ الظُّهُورِ، (فَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي نَصَبَهُ لِلنَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ ضَعِيفًا قَبْلَ أَنْ يُقَوِّيَهُ بِبُرْهَانِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي ثَبَتَ تَأْيِيدُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَالْكَافِرُونَ يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى النَّاسِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي نَظَرِهِمْ؟ وَمَاذَا يُرِيدُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ قُدْوَةً فِي أَضْعَفِهِمْ وَأَهْوَنِهِمْ؟ وَهَكَذَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) . . . إِلَخْ. وَقَدْ عُهِدَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ الِاقْتِدَاءُ بِالْحَيَوَانَاتِ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْ خِصَالِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْمُرَاقَبَةَ مِنَ الْقِطِّ، وَعَنْ بَعْضِ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مَرَّةً فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَيَئِسَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ، فَرَأَى خُنْفَسَةً تَتَسَلَّقُ جِدَارًا وَتَقَعُ، فَعَدَّ عَلَيْهَا الْوُقُوعَ فَزَادَ عَلَى ثَلَاثِينَ مَرَّةً وَلَمْ تَيْأَسْ حَتَّى تَمَكَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تَسَلُّقِهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَتْ، فَقَالَ: لَنْ أَرْضَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْخُنْفَسَاءُ أَثْبَتُ مِنِّي وَأَقْوَى عَزِيمَةً، فَرَجَعَ إِلَى الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ حَتَّى فَهِمَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ (تَيْمُورَ لنك) كَانَتْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْمُلْكِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ فَقْرِهِ وَمَهَانَتِهِ، فَسَرَقَ مَرَّةً غَنَمًا (وَكَانَ لِصًّا) فَفَطِنَ لَهُ الرَّاعِي فَرَمَاهُ بِسَهْمَيْنِ أَصَابَا كَتِفَهُ وَرِجْلَهُ فَعَطَّلَاهُمَا، فَآوَى إِلَى خَرِبَةٍ وَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِي مَهَانَتِهِ وَيُوَبِّخُ نَفْسَهُ عَلَى طَمَعِهَا فِي الْمُلْكِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى نَمْلَةً تَحْمِلُ تِبْنَةً وَتَصْعَدُ إِلَى السَّقْفِ وَعِنْدَمَا تَبْلُغُهُ تَقَعُ ثُمَّ تَعُودُ، وَظَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى نَجَحَتْ فِي الصَّبَاحِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: وَاللهِ لَا أَرْضَى بِأَنْ أَكُونَ أَضْعَفَ عَزِيمَةً وَأَقَلَّ ثَبَاتًا مِنْ هَذِهِ النَّمْلَةِ، وَأَصَرَّ عَلَى عَزْمِهِ حَتَّى صَارَ مَلِكًا وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.

27

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وَصَفَ الضَّالِّينَ بِالْفُسُوقِ، ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَالِ فُسُوقِهِمْ نَقْضَ الْعَهْدِ الْمُوَثَّقِ، وَقَطْعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَسَجَّلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانَ وَحَصَرَهُمْ فِي مَضِيقِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ فُسُوقِهِ (أَقُولُ) : فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيَانُ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْفُسَّاقِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضِلُّونَ حَتَّى بِمَا هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَشَدِّ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ تَأْثِيرًا وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ رُسُوخِهِمْ فِي الْفِسْقِ وَنَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ. . . إِلَخْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الضَّلَالَ فِيهِمْ خَلْقًا وَأَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ إِجْبَارًا. الْعَهْدُ هُنَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَقَدَّمِ الْآيَاتِ مَا يُشْعِرُ بِهِ، وَلَمْ يَتْلُ فِيمَا تَلَاهَا مَا يُبَيِّنُهُ، وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لَيْسَ فِي سَابِقِ الْآيَاتِ وَلَا فِي لَاحِقِهَا مَا يُفَسِّرُهُ وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْهُمَا إِلَى أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَالِ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى اللهِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا يُقْتَدَى بِهِ مِنَ الْبَشَرِ أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، أَوِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ لِمَجِيءِ الْأَمْثَالِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ بِمَا يُعَدُّ حَقِيرًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُرْفِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَظَرِّفِينَ مِنْهُمْ؟ دَلَّ ذِكْرُ الْعَهْدِ وَالسُّكُوتُ عَمَّا يُفَسِّرُهُ، وَإِطْلَاقُ مَا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ بِدُونِ بَيَانٍ مَا يُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا وَصَفَهُمْ إِلَّا بِمَا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ الْمُجْمَلِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَ الْوُجُودُ قَدْ تَكَفَّلَ بِبَيَانِهِ، وَالْوَاقِعُ قَدْ فَسَّرَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُرْشِدُ إِلَى فَهْمِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ هُنَا مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْفُسُوقِ، فَإِنَّ الْفَاسِقِينَ هُمُ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْفُسُوقِ: الْخُرُوجَ عَنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ، وَعَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ خَاصَّةً، فَعَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ مَا أَخَذَهُمْ بِهِ بِمَنْحِهِمْ مَا يَفْهَمُونَ بِهِ هَذِهِ السُّنَنَ الْمَعْهُودَةَ لِلنَّاسِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، أَوِ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الْمُرْشِدَةِ إِلَيْهَا وَهِيَ عَامَّةٌ، وَالْحُجَّةُ بِهَا قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ وُهِبَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَبَلَغَ سِنَّ الرُّشْدِ سَلِيمَ الْحَوَاسِّ، وَنَقْضُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ اسْتِعْمَالًا صَحِيحًا حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا وَخَرَجُوا مِنْ حُكْمِهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبَصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) وَكَمَا قَالَ أَيْضًا: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2: 171) .

هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ الْعَامُّ الشَّامِلُ، وَالْأَسَاسُ لِلْقِسْمِ الثَّانِي الْمُكَمِّلِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ، فَالْعَهْدُ فِطْرِيٌّ خُلُقِيٌّ، وَدِينِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَالْمُشْرِكُونَ نَقَضُوا الْأَوَّلَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهِ نَقَضُوا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَأَعْنِي بِالنَّاقِضِينَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَثَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمِيثَاقُ: اسْمٌ لِمَا يُوَثَّقُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَكُونُ مُحْكَمًا يَعْسُرُ نَقْضُهُ، وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْفِطْرِيَّ بِجَعْلِ الْعُقُولِ بَعْدَ الرُّشْدِ قَابِلَةً لِإِدْرَاكِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، وَوَثَّقَ الْعَهْدَ الدِّينِيَّ بِمَا أَيَّدَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَاتِ، وَقَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ بِالْعَهْدِ الثَّانِي أَيْضًا، فَمَنْ أَنْكَرَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ اللهِ فَاسِقٌ عَنْ سُنَنِهِ فِي تَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْمَائِهَا، وَإِبْلَاغِ قُوَاهَا وَمَلَكَاتِهَا حَدَّ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الْمُمْكِنِ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فَفِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ نَحْوُ مَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ جَاءَ مُتَمِّمًا لِمَا سَبَقَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ نَوْعَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ الْمُحْكَمَةِ، وَقَدْ سَمَّى اللهَ - تَعَالَى - التَّكْوِينَ أَمْرًا بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (كُنْ) وَأَمْرُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْأَخْذِ بِهِ، وَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ تَرْتِيبُ النَّتَائِجِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَوَصْلُ الْأَدِلَّةِ بِالْمَدْلُولَاتِ، وَإِفْضَاءُ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ بِالْغَايَاتِ، فَمَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ بَعْدَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ أَوْ أَنْكَرَ سُلْطَانَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ مَا شَهِدَتْ لَهُ بِهَا آثَارُهُ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ قَطَعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الْفِطْرِيِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ الدِّينُ بِهِ قَطْعًا فَهُوَ نَافِعٌ وَمَنْفَعَتُهُ تُثْبِتُهَا التَّجْرِبَةُ وَالدَّلِيلُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ حَتْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ مُضِرَّةً، فَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ هُمُ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِغَايَتِهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَبِالنُّبُوَّةِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ وَالنِّظَامِ الْفِطْرِيِّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ تَدْخُلُ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ. إِذَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ الْفِطْرَةِ وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَاهَا بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَائِهِ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ بِهِمْ، فَالْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ قَدْ قَطَعُوا صِلَاتَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَقَضُوا الْعَهْدَيْنِ؛ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ بَشَّرَهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ صِفَاتٍ وَأَعْمَالًا وَأَحْوَالًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ، فَحَرَّفُوا وَأَوَّلُوا وَاجْتَهَدُوا فِي صَرْفِهَا عَنْهُ وَهُمْ مُتَعَمِّدُونَ (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لِيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2: 146) وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ يَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا آخَرَ يَجِيءُ الزَّمَانُ بِهِ.

التَّعْبِيرُ بِالْقَطْعِ هُنَا أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالنَّقْضِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ مُتَمِّمًا لَهُ؛ كَأَنَّ عَهْدَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى النَّاسِ حَبْلٌ مُحْكَمُ الطَّاقَاتِ مُوَثَّقُ الْفَتْلِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْحَبْلَ قَدْ وَصَلَ بِحِكْمَةِ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَحُكْمِ أَمْرِ التَّشْرِيعِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، فَلَمْ يَكْتَفِ أُولَئِكَ الْفَاسِقُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ بِنَقْضِ حَبَلِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَحَلِّ طَاقَاتِهِ وَنَكْثِ فَتْلِهِ حَتَّى قَطَعُوهُ قَطْعًا، وَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ نِظَامَ الْفِطْرَةِ وَنِظَامَ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ أَصْلًا وَفَرْعًا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْوَصْفَ بِقَوْلِهِ: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وَأَيُّ إِفْسَادٍ أَكْبَرُ مِنْ إِفْسَادِ مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْعَقْلِ وَهِدَايَةَ الدِّينِ، وَقَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَبَيْنَ الْمَطَالِبِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ؟ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ وَوُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدٌ لِأَهْلِهَا؛ لِأَنَّ شَرَّهُ يَتَعَدَّى كَالْأَجْرَبِ يُعْدِي السَّلِيمَ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالْمُشَاهَدَةُ وَالتَّجْرِبَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمُصَدِّقَةٌ لَهَا خُصُوصًا إِذَا قَعَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ يَصُدُّونَ عَنْهَا وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، فَإِنَّ إِفْسَادَهُمْ يَكُونُ أَشَدَّ انْتِشَارًا وَأَشْمَلَ خَسَارًا. وَلَمَّا كَانَ إِفْسَادُ هَؤُلَاءِ عَامًّا لِلْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ فَقْدُ الْهِدَايَتَيْنِ؛ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانَ وَحَصَرَهُ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا خُسْرَانُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الصَّافِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَى الْأَكْثَرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ، يَرَوْنَهُمْ مُتَمَتِّعِينَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَغْبُوطُونَ سُعَدَاءُ بِهَا، فَيَكُونُ هَذَا الْحُسْبَانُ مِنْ آلَاتِ الْإِفْسَادِ، وَلَوْ سَبَرُوا أَغْوَارَهُمْ وَبَلَوْا أَخْبَارَهُمْ لَأَدْرَكُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ ظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَطَنِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لَذَّاتِهِمْ، وَيَقْذِفُ بِهِمْ إِلَى الْإِفْرَاطِ الَّذِي يُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ الْجَسَدِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ، وَيُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ كَوَامِنَ الْوَسَاوِسِ، وَيَجْعَلُ عُقُولَهُمْ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهَا صَوَالِجَةُ الْأَوْهَامِ، وَأَنَّ حُبَّ الرَّاحَةِ يُوقِعُهُمْ فِي تَعَبٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ تَعَبُ الْبِطَالَةِ وَالْكَسَلِ أَوِ الْعَمَلِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَمَنْ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَضَعِ الرَّاحَةَ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا بِصِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَأَدَبِ النَّفْسِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الدِّينُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَ (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

28

الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمُرْتَبِطٌ بِهِ ارْتِبَاطًا مُحْكَمًا، وَالْخِطَابُ لِلْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَضِلُّونَ بِالْمَثَلِ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْمُوَثَّقِ، وَقَطْعِ مَا أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوصَلَ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ تَكْوِينٍ وَهُوَ السُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ، أَوْ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَهُوَ الدِّيَانَةُ السَّمَاوِيَّةُ، ثُمَّ بَعْدِ هَذَا الْبَيَانِ جَاءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ عَنْ صِفَةِ كُفْرِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْبُرْهَانِ النَّاصِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ تُسَوِّغُ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أَيْ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكُفْرِ بِاللهِ - تَعَالَى - تَأْخُذُونَ، وَعَلَى أَيَّةِ شُبْهَةٍ فِيهِ تَعْتَمِدُونَ، وَحَالُكُمْ فِي مَوْتَتَيْكُمْ وَحَيَاتَيْكُمْ تَأْبَى عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَلَا تَدَعُ لَكُمْ عُذْرًا فِيهِ؟ وَبَيَّنَ هَذِهِ الْحَالَ بِقَوْلِهِ: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أَمْوَاتًا مُنْبَثَّةٌ أَجَزَاؤُكُمْ فِي الْأَرْضِ، بَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْجَامِدَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا السَّائِلَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْغَازِيَّةِ (الْهَوَائِيَّةِ) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْزَاءِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَخَلَقَكُمْ أَطْوَارًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَكُنْتُمْ بِالطَّوْرِ الْأَخِيرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفَضَّلَكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْكَائِنَاتِ (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بِقَبْضِ الرُّوحِ الْحَيِّ الَّذِي بِهِ نِظَامُ حَيَاتِكُمْ هَذِهِ فَتَنْحَلُ أَبْدَانُكُمْ بِمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهَا وَتَعُودُ إِلَى أَصْلِهَا الْمَيِّتِ؛ وَتَنْبَثُّ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَتُدْغَمُ فِي عَوَالِمِهَا حَتَّى يَنْعَدِمَ هَذَا الْوُجُودُ الْخَاصُّ بِهَا (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حَيَاةً ثَانِيَةً كَمَا أَحْيَاكُمْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى بِلَا فَرْقٍ إِلَّا مَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ أَرْقَى فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ وَأَكْمَلَ لِمَنْ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ، وَأَدْنَى مِنْهَا وَأَسْفَلَ فِيمَنْ يَدُسُّونَهَا وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهَا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 9 - 10) (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا قَدَّمْتُمْ، وَيُجَازِيكُمْ بِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ تَرَاخِيَ الْإِرْجَاعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَنْ حَيَاةِ الْبَعْثِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْخِيرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ طُولَ زَمَنِ الْوُقُوفِ وَالِانْتِظَارِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ مَعَهُ وَهَذَا فَضْلُهُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مَبْدَؤُكُمْ وَذَلِكَ مُنْتَهَاكُمْ، فَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ لَكُمْ مَثَلًا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَيَبْعَثُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُولَى، وَسَعَادَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُخْرَى؟ . لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُهَا وَمُثْبِتُهَا؟ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ عَلَى مَجْمُوعِ النَّاسِ بِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِالشُّذَّاذِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَيَاةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى كَافٍ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا لِهِدَايَةِ النَّاسِ زَعْمًا أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَدَ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَرِيمَ، وَجَعَلَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَرَكَّبَ صُورَتَهُ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الصَّغِيرَةِ وَالنُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ الْحَقِيرَةِ، وَالْعَلَقَةِ الدَّمَوِيَّةِ أَوِ الدُّودِيَّةِ، وَالْمُضْغَةِ اللَّحْمِيَّةِ (لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوَضَةً فَمَا فَوْقَهَا) وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْمَثَلِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ،

29

لَا لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِلَوَامِعِ شُهُبِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمْثِيلَ إِحْدَى الْحَيَاتَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأُخْرَى دَاحِضٌ لِحُجَّةِ مَنْ يَزْعُمُ عَدَمَ إِمْكَانِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ جَازَ فِي الْآخَرِ، وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ تَابِعٌ لَهُ. ثُمَّ بَعْدِ بَيَانِ بَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ بِذِكْرِ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى ذَكَّرَهُمْ بِآيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) فَالْكَلَامُ عَلَى اتِّصَالِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَانْتِظَامِ جَوَاهِرِهِ فِي سِلْكِ أُسْلُوبِهِ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) . . . إِلَخْ، انْتِقَالٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ غَفْلَةً عَنْ هَذَا الِاتِّصَالِ الْمَتِينِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ وُجُوهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ لَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ، وَفَنٌّ مِنْ فُنُونِ الْإِعْجَازِ، إِذَا أَمْكَنَ لِلْبَشَرِ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْبُلُوغُ إِلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِسْرَاعِ إِلَيْهِ هُنَا. يُصَوِّرُ لَنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (خَلَقَ لَكُمْ) قُدْرَتَهُ الْكَامِلَةَ، وَنِعَمَهُ الشَّامِلَةَ، وَأَيُّ قُدْرَةٍ أَكْبَرُ مِنْ قُدْرَةِ الْخَالِقِ؟ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَكْمَلُ مِنْ جَعْلِ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ مُهَيَّئًا لَنَا وَمُعَدًّا لِمَنَافِعِنَا؟ وَلِلْانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا) الِانْتِفَاعُ بِأَعْيَانِهَا فِي الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ. (وَثَانِيهُمَا) النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْأَرْضُ: هِيَ مَا فِي الْجِهَةِ السُّفْلَى، أَيْ مَا تَحْتَ أَرْجُلِنَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ: كُلُّ مَا فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، أَيْ فَوْقَ رُءُوسِنَا وَإِنَّنَا نَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ، وَمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِينَا نَنْتَفِعُ فِيهِ بِعُقُولِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُبْدِعِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِ " فِي " يَتَنَاوَلُ مَا فِي جَوْفِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ. (وَأَقُولُ هُنَا) : إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ نَصُّ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ " إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ الْإِبَاحَةُ " وَالْمُرَادُ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَكْلًا وَشُرْبًا وَلِبَاسًا وَتَدَاوِيًا وَرُكُوبًا وَزِينَةً، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَدْخُلُ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَضُرُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَنْفَعُ فِي بَعْضٍ، كَالسُّمُومِ الَّتِي يَضُرُّ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا وَيَنْفَعُ التَّدَاوِي بِهَا، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ حَقٌّ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ أَبَاحَهُ الرَّبُّ لِعِبَادِهِ تَدَيُّنًا بِهِ إِلَّا بِوَحْيِهِ وَإِذْنِهِ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (10: 59) وَمَا يَحْظُرُهُ الطَّبِيبُ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ طَعَامٍ حَلَالٍ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَمْنَعُ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ النَّاسَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ رِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ فَلَيْسَ مِنَ التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ لِلشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُتْبَعَانِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَأْمُرَانِ بِهِ بِحَقٍّ وَعَدْلٍ مَا دَامَتْ عِلَّتُهُ قَائِمَةً. قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يُقَالُ اسْتَوَى إِلَى الشَّيْءِ: إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ قَصْدًا مُسْتَوِيًا خَاصًّا بِهِ لَا يَلْوِي عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا تَعَدَّى اسْتَوَى بِـ " إِلَى " اقْتَضَى الِانْتِهَاءَ

إِلَى الشَّيْءِ إِمَّا بِالذَّاتِ وَإِمَّا بِالتَّدْبِيرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ إِرَادَتَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَادَّةِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ) (41: 11) . . . إِلَخْ، (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فَأَتَمَّ خَلْقَهُنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّخَانِيَّةِ فَجَعَلَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ تَامَّاتٍ مُنْتَظِمَاتِ الْخَلْقِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يُوَافِقُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْيَهُودِ عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالنُّورَ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ التَّسْوِيَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي طَوْرِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ يَكُونُ مَخْلُوقًا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كَمَا يَكُونُ عِنْدَ إِنْشَائِهِ خَلْقًا آخَرَ، وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَوْ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (21: 30) أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ثُمَّ فَصَّلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْخَلْقِ تَفْصِيلًا وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا سَابِقًا عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا، نَعَمْ إِنَّ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي لَا نَعْرِفُهَا، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُنَاقِضُ أَوْ تُخَالِفُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَأَنْوَارِهَا: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (79: 30) وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّ الْبَعْدِيَّةَ لَيْسَتْ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ وَلَكِنَّهَا الْبَعْدِيَّةُ فِي الذِّكْرِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا بَعْدَ فِي أَنْ تَقُولَ فَعَلْتُ كَذَا لِفُلَانٍ وَأَحْسَنْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَاعَدْتُهُ فِي عَمَلِ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ، تُرِيدُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ التَّأَخُّرِ فِي الزَّمَانِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ الَّذِي كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ هُوَ دَحْوُ الْأَرْضِ أَيْ جَعْلُهَا مُمَهَّدَةً مَدْحُوَّةً قَابِلَةً لِلسُّكْنَى وَالِاسْتِعْمَارِ لَا مُجَرَّدَ خَلْقِهَا وَتَقْدِيرِ أَقْوَاتِهَا فِيهَا، وَخَلْقُ اللهِ وَتَقْدِيرُهُ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا مَا دَامَتْ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِهَا. (وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْآنَ) أَنَّ الدَّحْوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: دَحْرَجَةُ الْأَشْيَاءِ الْقَابِلَةِ لِلدَّحْرَجَةِ كَالْجَوْزِ وَالْكَرَى وَالْحَصَا وَرَمْيِهَا، وَيُسَمُّونَ الْمَطَرَ الدَّاحِيَ؛ لِأَنَّهُ يَدْحُو الْحَصَا، وَكَذَا اللَّاعِبُ بِالْجَوْزِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ ((كُنْتُ أُلَاعِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا بِالْمَدَاحِي)) وَهِيَ أَحْجَارٌ أَمْثَالُ الْقُرْصَةِ كَانُوا يَحْفِرُونَ وَيَدْحُونَ فِيهَا بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ، فَإِنْ وَقْعَ الْحَجَرُ فِيهَا غَلَبَ صَاحِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ غُلِبَ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْدَهُ الدَّحْوُ: هُوَ رَمْيُ اللَّاعِبِ بِالْحَجَرِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ وَأَعَادَ الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ لُعْبَةِ الدَّحْوِ بِالْحِجَارَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ كَالْقُرْصَةِ لَا يَزَالُ مَأْلُوفًا عِنْدَ الصِّبْيَانِ فِي بِلَادِنَا وَيُسَمُّونَهُ لَعِبَ الْأُكْرَةِ، وَيُحَرِّفُهَا بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: الدُّكْرَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ قَالَ - تَعَالَى -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (79: 30) أَيْ أَزَالَهَا عَنْ مَقَرِّهَا كَقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) (73: 14) وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَحَا الْمَطَرُ الْحَصَا. . . إِلَخْ، وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ دَحْوِ الْأَرْضِ وَدَحْرَجَتِهَا مِنْ مَكَانِهَا عِنْدَ التَّكْوِينِ، وَرَجْفِهَا قُبَيْلَ خَرَابِهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَحَاهَا عِنْدَمَا

فَتَقَهَا هِيَ وَالسَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَادَّةِ الدُّخَانِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ رَتْقًا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَوْ إِشَارَةٌ - عَلَى الْأَقَلِّ - إِلَى أَنَّهَا كُرَةٌ أَوْ كَالْكُرَةِ فِي الِاسْتِدَارَةِ، وَإِلَّا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِدَحْوِهَا وَدَحْرَجَتِهَا حَرَكَتَهَا بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - فِي فَلَكِهَا (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (36: 40) وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ بَسَطَهَا أَيْ وُسَّعَهَا وَمَدَّ فِيهَا، وَأَنَّهُ سَطَحَهَا أَيْ جَعَلَ لَهَا سَطْحًا وَاسِعًا يَعِيشُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَغَيْرُهُمْ، فَمَنْ جَعَلَ مَسْأَلَةَ كُرَوِيَّتِهَا وَسَطْحِهَا أَمْرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ يَقُولُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قَوْمٌ يَطْعَنُونَ فِي الْآخَرِينَ فَقَدْ ضَيَّقُوا مِنَ اللُّغَةِ وَالدِّينِ وَاسِعًا بِقِلَّةِ بِضَاعَتِهِمْ فِيهِمَا مَعًا. وَحَاصِلُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَهَذِهِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي فَوْقَنَا بِالتَّدْرِيجِ وَمَا أَشْهَدَنَا خَلْقَهُنَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَنَا مَا ذَكَرَهُ لِلْاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلِلْامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِنِعْمَتِهِ، لَا لِبَيَانِ تَارِيخِ تَكْوِينِهِمَا بِالتَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَابْتِدَاءُ الْخَلْقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَا تَرْتِيبُهُ، إِلَّا أَنَّ تَسْوِيَةَ السَّمَاءِ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ يُظْهِرُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ تَكْوِينِ الْأَرْضِ، وَيُظْهِرُ أَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ سَبْعًا، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ إِلَيْهَا وَقَالَ: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) (2: 29) فَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِنَتَدَبَّرَ وَنَتَفَكَّرَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَادَ عِلْمًا فَلْيَطْلُبْهُ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْكَوْنِ (وَعَلَيْهِ بِدِرَاسَةِ مَا كَتَبَ الْبَاحِثُونَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَمَا اكْتَشَفَ الْمُكْتَشِفُونَ مِنْ شُئُونِهِ وَلْيَأْخُذْ مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ لَا بِمَا يَتَخَرَّصُ بِهِ الْمُتَخَرِّصُونَ وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالظُّنُونِ) وَحَسْبُهُ أَنَّ الْكِتَابَ أَرْشَدَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَبَاحَهُ لَهُ. هَذِهِ الْإِبَاحَةُ لِلنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي الْكَوْنِ، بَلْ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَيْهَا بِالصِّيَغِ الَّتِي تَبْعَثُ الْهِمَمَ وَتُشَوِّقُ النُّفُوسَ، كَكَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لَنَا مَحْبُوسًا عَلَى مَنَافِعِنَا هُوَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ خَاطَبَنَا الْقُرْآنُ بِهَذَا عَلَى حِينِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَسِيرَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالْعِلْمَ وَالدِّينَ خَصْمَانِ لَا يَتَّفِقَانِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَسْتَنْتِجُهُ الْعَقْلُ خَارِجًا عَنْ نَصِّ الْكِتَابِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَلِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ يُلِحُّ أَشَدَّ الْإِلْحَاحِ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، فَلَا تَقْرَأُ مِنْهُ قَلِيلًا إِلَّا وَتَرَاهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ الْأَكْوَانَ، وَيَأْمُرُكَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَاسْتِخْرَاجِ أَسْرَارِهَا، وَاسْتِجْلَاءِ حُكْمِ اتِّفَاقِهَا وَاخْتِلَافِهَا (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (10: 101) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (29: 20) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (22: 46) (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (88: 17) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ جِدًّا، وَإِكْثَارُ الْقُرْآنِ مِنْ شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَوُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخَلِيقَةِ - لِلْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَاسْتِخْرَاجِ عُلُومِهَا لِتَرْقِيَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي خُلِقَتْ هِيَ لِأَجْلِهِ - مُقَاوَمَةُ تِلْكَ التَّقَالِيدِ

الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَأَوْدَتْ بِهِمْ وَحَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَمَرَ اللهُ النَّاسَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ. كَانَتْ أُورُوبَّا الْمَسِيحِيَّةُ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الْجَهْلِ وَظُلُمَاتٍ مِنَ الْفِتَنِ، تَسِيلُ الدِّمَاءُ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَجْلِ الدِّينِ وَبِاسْمِ الدِّينِ وَلِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ فَاضَ طُوفَانُ تَعَصُّبِهَا عَلَى الْمَشْرِقِ، وَرَجَعَتْ بَعْدَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ تَحْمِلُ قَبَسًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَعُلُومِ أَهْلِهِ، فَظَهَرَ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ لَنَا الْحَقَّ فِي أَنْ نَتَفَكَّرَ وَأَنْ نَعْلَمَ وَأَنْ نَسْتَدِلَّ، فَحَارَبَهُمُ الدِّينُ وَرِجَالُهُ حَرْبًا عِوَانًا انْتَهَتْ بِظَفَرِ الْعِلْمِ وَرِجَالِهِ بِالدِّينِ وَرِجَالِهِ، وَبَعْدَ غَسْلِ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ قَامَ - مُنْذُ مِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ - رِجَالٌ مِنْهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى دَعَائِمِ الْعِلْمِ: الْمَدَنِيَّةَ الْمَسِيحِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ مَحْقِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَمَحْوِهَا - بَعْدَ انْهِزَامِهَا - مِنْ أَمَامِ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ الْعِلْمِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ، نَعَمْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا وَرَاءَ الْأُمَمِ كُلِّهَا فِي الْعِلْمِ حَتَّى سَقَطُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ أَشَدُّ جَهْلًا مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، فَجَهِلُوا الْأَرْضَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَضَعُفُوا عَنِ اسْتِخْرَاجِ مَنَافِعِهَا، فَجَاءَ الْأَجْنَبِيُّ يَتَخَطَّفُهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكِتَابُهُمْ قَائِمٌ عَلَى صِرَاطِهِ يَصِيحُ بِهِمْ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (45: 13) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (7: 32) الْآيَاتِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2: 171) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَادُوا، وَلَوْ عَادُوا لَاسْتَفَادُوا وَبَلَغُوا مَا أَرَادُوا، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُذَكِّرُهُمْ بِكَلَامِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (12: 87) . ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (2: 29) أَيْ فَهُوَ الْمُحِيطُ بِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَحِكْمَتِهِ وَبِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ بَيَانُهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَاقِلُ يُدْرِكُ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْمُحْكَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ لِهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَهَذَا الْآخِرُ يَتَّصِلُ بِأَوَّلِ الْآيَةِ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِبْطَالِ شُبَهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رَسُولًا، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ رَسُولٌ؛ لِأَنَّ قُصَارَى ذَلِكَ كُلِّهِ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِينَ عَلَى مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

30

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (تَمْهِيدٌ لِلْقِصَّةِ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ) إِنَّ أَمْرَ الْخِلْقَةِ وَكَيْفِيَّةَ التَّكْوِينِ مِنَ الشُّئُونِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَعِزُّ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا كَمَا هِيَ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خَبَرَ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِنَا، وَمَثَّلَ لَنَا الْمَعَانِيَ فِي صُوَرٍ مَحْسُوسَةٍ، وَأَبْرَزَ لَنَا الْحِكَمَ وَالْأَسْرَارَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْحِوَارِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ وَبَيَانِ الْحَقِّ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ قَانُونِ التَّخَاطُبِ: إِمَّا اسْتِشَارَةٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى، وَإِمَّا إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ وَمُحَاجَّةٌ وَجِدَالٌ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللهِ - تَعَالَى - أَيْضًا وَلَا بِمَلَائِكَتِهِ، وَلَا يُجَامِعُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ كَكَوْنِهِمْ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ مُقَدِّمَةً تَمْهِيدِيَّةً لِفَهْمِ الْقِصَّةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، فَكَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ غَيْرَهُ وَهُوَ التَّنْزِيهُ، فَإِذَا جَاءَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ أَوِ السَّنَةِ شَيْءٌ يُنَافِي ظَاهِرُهُ التَّنْزِيهَ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ طَرِيقَتَانِ: (إِحْدَاهُمَا) طَرِيقَةُ السَّلَفِ وَهِيَ التَّنْزِيهُ الَّذِي أَيَّدَ الْعَقْلُ فِيهِ النَّقْلَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (43: 11) وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (37: 180) وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي فَهْمِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ يُعْلِمُنَا بِمَضْمُونِ كَلَامِهِ مَا نَسْتَفِيدُ بِهِ فِي أَخْلَاقِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَحْوَالِنَا، وَيَأْتِينَا فِي ذَلِكَ بِمَا يُقَرِّبُ الْمَعَانِيَ مِنْ عُقُولِنَا وَيُصَوِّرُهَا لِمُخَيِّلَاتِنَا. (وَالثَّانِيَةُ) طَرِيقَةُ الْخَلْقِ وَهِيَ التَّأْوِيلُ، يَقُولُونَ: إِنَّ قَوَاعِدَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وُضِعَتْ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ، فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنِ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا جَزَمَ الْعَقْلُ بِشَيْءٍ وَوَرَدَ فِي النَّقْلِ

خِلَافُهُ يَكُونُ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ النَّقْلَ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى مُوَافِقٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي طَلَبُهُ بِالتَّأْوِيلِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَأَنَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّنَا نَسِيرُ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ فَائِدَةٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يُخَاطِبْنَا بِمَا لَا نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَعْنًى. (وَأَقُولُ) أَنَا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: إِنَّنِي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَهَدْيِهِمْ. عَلَيْهَا أَحْيَا وَعَلَيْهَا أَمُوتُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِنَا، وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَمِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي بَعْضَ التَّأْوِيلَاتِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدِي بِاخْتِبَارِي النَّاسَ أَنَّ مَا انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَذَاهِبِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، جَعَلَ قَبُولَ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَاعْتِقَادَهُ يَتَوَقَّفُ فِي الْغَالِبِ عَلَى تَلَقِّيهِ مِنَ الصِّغَرِ بِالْبَيَانِ الصَّحِيحِ وَتَخْطِئَةِ مَا يُخَالِفُهُ، أَوْ طُولِ مُمَارِسَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَعْرِفُ فِي كُتُبِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَنْفَعَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنْ كُتُبِ شَيْخَيِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -، وَإِنَّنِي أَقُولُ عَنْ نَفْسِي: إِنَّنِي لَمْ يَطْمَئِنُّ قَلْبِي بِمَذْهَبِ السَّلَفِ تَفْصِيلًا إِلَّا بِمُمَارَسَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ. فَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا بِآذَانِنَا شُبْهَاتٍ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَمْ يَسْهُلْ عَلَيْنَا دَفْعُهَا وَإِقْنَاعُ أَصْحَابِهَا بِصِدْقِ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَمْثَالٍ تُقَرِّبُهَا مِنْ عُقُولِهِمْ وَمَعْلُومَاتِهِمْ أَحْسَنَ التَّقْرِيبِ، وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَفِي مَعَانِي التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ، وَتَجِدُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَنَا فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، كَمَا أَخْطَأَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ هُوَ الْأَصْلُ فَيُرَدُّ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ لِأَجْلِ مُوَافَقَتِهِ مُطْلَقًا، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الدَّلِيلَيْنِ إِمَّا قَطْعِيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ قَطْعِيٍّ، فَالْقَطْعِيَّانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَارَضَا حَتَّى نُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَارَضَ ظَنِّيٌّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ قَطْعِيٍّ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْقَطْعِيِّ مُطْلَقًا، وَإِذَا تَعَارَضَ ظَنِّيٌّ مَعَ ظَنِّيٍّ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا رَجَّحْنَا الْمَنْقُولَ عَلَى الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ مَا نُدْرِكُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِمَّا نُدْرِكُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ نَظَرِيَّاتِنَا الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الْخَطَأُ جِدًّا؛ فَظَوَاهِرُ الْآيَاتِ فِي خَلْقِ آدَمَ مَثَلًا مُقَدَّمٌ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْبَاحِثِينَ فِي أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَتَعْلِيلِ أَطْوَارِهِ وَنِظَامِهِ مَا دَامَتْ ظَنِّيَّةً لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْقَطْعِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الْمُؤْمِنُ: أَنَّ مِنَ الْخَيْرِ لَكَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قَلْبًا بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَلَا تَحْفِلَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ يَرْضَاهُ أُسْلُوبُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَأَئِمَّةُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ قَدْ تَأَوَّلُوا بُعْدَ الظَّوَاهِرِ كَمَا فَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي آيَاتِ الْمَعِيَّةِ، وَآخَرُونَ فِي غَيْرِهَا، وَالَّذِي عَلَيْكَ - قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ - أَنْ تُوقِنَ

بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ كُلَّهُ حَقٌّ، وَأَلَّا تُؤَوِّلَ شَيْئًا مِنْهُ بِسُوءِ الْقَصْدِ، وَكَذَا مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ. وَالتَّفْسِيرُ الْمُوَافِقُ لِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا وَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَهُ تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَعَدَمُ تَشْبِيهِ عَالَمِ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا السِّيَاقِ بِمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الْأَزْهَرِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُ السَّلَفُ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ خَلْقٌ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِوُجُودِهِمْ وَبِبَعْضِ عَمَلِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِمْ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِمْ فَنُفَوِّضُ عِلْمَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا وَرَدَ أَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً نُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَجْنِحَةً مِنَ الرِّيشِ وَنَحْوِهِ كَأَجْنِحَةِ الطُّيُورِ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَرَأَيْنَاهَا، وَإِذَا وَرَدَ أَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِالْعَوَالِمِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ فَإِنَّنَا نَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي الْكَوْنِ عَالَمًا آخَرَ أَلْطَفَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَأَنَّ لَهُ عَلَاقَةً بِنِظَامِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ هَذَا بَلْ يَحْكُمُ بِإِمْكَانِهِ لِذَاتِهِ، وَيَحْكُمُ بِصِدْقِ الْوَحْيِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَقَدْ بَحَثَ أُنَاسٌ فِي جَوْهَرِ الْمَلَائِكَةِ وَحَاوَلُوا مَعْرِفَتَهُمْ وَلَكِنْ مَنْ وَقَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا السِّرِّ قَلِيلُونَ. وَالدِّينُ إِنَّمَا شُرِعَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَكَانَ الصَّوَابُ الِاكْتِفَاءَ بِالْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِ هَذَا الْبَحْثَ أَوِ الْعِلْمَ يَكَادُ يَكُونُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ خَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - بِزِيَادَةٍ فِي الْعِلْمِ فَذَلِكَ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - فِي هَذَا الْعِلْمِ الْلَّدُنِّيِّ الْخَاصِّ وَقَدْ سُئِلَ: " هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ. . . إِلَخْ. " وَأَمَّا ذَلِكَ الْحِوَارُ فِي الْآيَاتِ فَهُوَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ مَلَائِكَتِهِ، صَوَّرَهُ لَنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِالْقَوْلِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَكُونُ مِنَّا، وَأَنَّ هُنَاكَ مَعَانِيَ قُصِدَتْ إِفَادَتُهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِ - تَعَالَى - قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّهُ كَانَ يُعِدُّ لَهُ الْكَوْنَ، وَشَأْنٌ مَعَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَشَأْنٌ آخَرُ فِي بَيَانِ كَرَامَةِ هَذَا النَّوْعِ وَفَضْلِهِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ فَمَا وَرَاءَ الْبَحْثِ فِي حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّةِ الْخِطَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - فَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدِهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - فِي عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ يَرْضَى لِعَبِيدِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي صُنْعِهِ، وَمَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْرَارٍ فِي خَلْقِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَيْرَةِ، وَالسُّؤَالُ يَكُونُ بِالْمَقَالِ وَيَكُونُ بِالْحَالِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي اسْتِفَاضَةِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْ يَنَابِيعِهِ الَّتِي جَرَتْ سُنَنُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ

يُفِيضَ مِنْهَا (كَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ) وَرُبَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ طَرِيقٌ آخَرُ لِاسْتِفَاضَةِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَحْمِلَ سُؤَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذَلِكَ. (ثَانِيهِمَا) إِذَا كَانَ مِنْ أَسْرَارِ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكَمِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَنَحْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَلَا مَطْمَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَحِكَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. (ثَالِثِهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هَدَى الْمَلَائِكَةَ فِي حَيْرَتِهِمْ، وَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. (رَابِعِهَا) تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَكْذِيبِ النَّاسِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ عَلَى إِنْكَارِ مَا أَنْكَرُوا وَبُطْلَانِ مَا جَحَدُوا، فَإِذَا كَانَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قَدْ مَثُلُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَخْتَصِمُونَ وَيَطْلُبُونَ الْبَيَانَ وَالْبُرْهَانَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، فَأَجْدَرُ بِالنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ، وَبِالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ كَمَا عَامَلَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ؛ أَيْ فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَتُرْشِدَ الْمُسْتَرْشِدِينَ، وَتَأْتِيَ أَهْلَ الدَّعْوَةِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنَ الْكَلَامِ لَا يَزَالُ فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَكَوْنَهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَفِي الرَّسُولِ وَكَوْنَهُ يُبَلِّغُ وَحْيَ اللهِ - تَعَالَى - وَيَهْدِي بِهِ عِبَادَهُ، وَفِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِمَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى مُبَايِنَةٍ لَهَا أَوْ قَرِيبَةٍ مِنْهَا مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي سِيَاقِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْخَلَفُ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ وَوَضَعَ لَهُمْ تَعْرِيفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ وَيَعْلَمُونَ، وَالْقِصَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ لِتُقَرِّبَ مِنْ أَفْهَامِ الْخَلْقِ مَا تُفِيدُهُمْ مَعْرِفَتُهُ مِنْ حَالِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَمَالَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ، أَخْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَفَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُودِعُ فِي فِطْرَةِ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ مُطْلَقَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ مَا يَتَعَارَضُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَعِنُّ لَهُ تَكُونُ بِحَسْبِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فَقَدْ يُوَجِّهُ الْإِرَادَةَ إِلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لَازِمُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ - تَعَالَى -، فَعَجِبُوا كَيْفَ يَخْلُقُ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ وَسَأَلُوا اللهَ - تَعَالَى - بِلِسَانِ الْمَقَالِ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالتَّوْجِيهِ إِلَيْهِ لِاسْتِفَاضَةِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وَطَلَبِ الْبَيَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ الْبَشَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِهِدَايَتِهِمْ، كَمَا نَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (41: 11) .

فَأَوَّلُ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِلْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيقُ عَنْهُ عِلْمُ أَحَدٍ وَيَحَارُ فِي كَيْفِيَّتِهِ يَتَّسِعُ لَهُ عِلْمُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ مَا يَتَصَدَّى لَهُ مَهْمَا يَكُنْ بَعِيدَ الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَمَثَّلَ الْأُسْتَاذُ لِذَلِكَ بِمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ مَعَ مُرِيدِيهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِمْكَانَ أُمُورٍ وَأَعْمَالٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَصَوَّرُ إِمْكَانَهَا مِنْ قَبْلُ إِلَّا بَعْضُ كِبَارِ عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ عَمَلَ كَذَا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلُوا كَيْفَ يَعْمَلُونَهُ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ سِلْكًا لِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فِي دَقِيقَةٍ أَوْ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُمْ يُوصِلُونَ تِلْكَ الْأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ سِلْكٍ - وَقَدْ كَانَ - وَيُصَدِّقُونَ بِإِمْكَانِ إِيجَادِ آلَةٍ تَجْمَعُ نَقْلَ الصَّوْتِ وَرُؤْيَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ مَا يُحَاوِلُونَ الْآنَ، وَإِذَا قَالَ لَنَا أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنُ الْحُصُولِ صَدَّقْنَاهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَلَيْسَ تَصْدِيقُنَا تَقْلِيدًا وَلَا تَسْلِيمًا أَعْمَى كَمَا يُقَالُ، بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ عَنْ دَلِيلٍ، رُكْنُهُ قِيَاسُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا قَدْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوَحْدَةِ الْوَسَائِلِ. وَالْمَلَائِكَةُ أَعْلَمُ مِنَّا بِشَأْنِ اللهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، فَهُمْ وَإِنْ فَاجَأَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ خَلْقِ الْخَلِيقَةِ، يَرُدُّهُمْ إِلَى الْيَقِينِ أَدْنَى التَّنْبِيهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) جَوَابًا مُقْنِعًا أَيَّ إِقْنَاعٍ. عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ رُبَّمَا لَا يَذْهَبُ بِالْحَيْرَةِ وَلَا يُزِيلُ الِاضْطِرَابَ مِنْ نَفْسِ الْمُتَعَجِّبِ، وَإِنَّمَا تَسْكُنُ النَّفْسُ بِبُرُوزِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَتْ تَعْجَبُ مَنْ بُرُوزِهِ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ وَوُقُوفِهَا عَلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِإِكْمَالِ عِلْمِهِمْ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْخَلِيفَةِ الْإِنْسَانِيِّ وَسِرِّهِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ. فَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ - كَمَا سَيَأْتِي - فَعَلِمُوا أَنَّ فِي فِطْرَةِ هَذَا الْخَلِيفَةِ وَاسْتِعْدَادِهِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَقَامِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ لَا يَذْهَبُ بِحِكْمَةِ الِاسْتِخْلَافِ وَفَائِدَتِهِ وَمَقَامِهِ، وَنَاهِيكَ بِمَقَامِ الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ وَسِرِّ الْعَالَمِ وَحِكْمَتِهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعِصْمَةِ مَلَائِكَتِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْإِنْكَارِ. فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ النَّتِيجَةِ بَيْنَ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ، وَتَأْوِيلٍ وَتَفْهِيمٍ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنْ دَعَى إِلَيْهِ، فَهِيَ تُجَلِّي حَجَّةَ الرَّسُولِ وَدَعْوَتَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَيَسْتَفِيدُونَهُ بِالتَّعَلُّمِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُنَاسِبُ حَالَهُمْ فَالْبَشَرُ أَوْلَى بِالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ؛

لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ جُبِلَتْ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبُوا كُلَّ شَيْءٍ اكْتِسَابًا، وَهِيَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانٍ أَنَّ الْبَشَرَ أَوْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ حَتَّى يَعْلَمُوا، وَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا بَعْدَ أَنْ يُخْطِئُوا وَيُذْنِبُوا، وَأَنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ وَجُحُودَ الْحَقِّ وَمُنَاصَبَةَ الدَّاعِي إِلَيْهِ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ جِبِلَّةُ أَهْلِ الْفِكْرِ وَطَبِيعَةُ الْبَشَرِ. ثُمَّ إِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي (الْخَلِيفَةِ) مَذْهَبَيْنِ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ صِنْفٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَأَنَّهُ انْقَرَضَ، وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ سَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ سَيَحُلُّ مَحَلَّهُ وَيَخْلُفُهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) (10: 14) وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الصِّنْفَ الْبَائِدَ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَنْبَطُوا سُؤَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِهِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى الْخِلَافَةِ، أَجَابَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ هَذَا الْخَلِيفَةُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَمَالَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ فَلَيْسَ آدَمُ أَوَّلَ الصِّنْفِ الْعَاقِلِ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ طَائِفَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ تُمَاثِلُ الطَّائِفَةَ أَوِ الطَّوَائِفِ الْبَائِدَةِ مِنْهُ فِي الذَّاتِ وَالْمَادَّةِ، وَتُخَالِفُهَا فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا. هَذَا أَحْسَنُ مَا يُجْلَى فِيهِ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ فِيهِ قَدْ سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْفُرْسِ وَخُرَافَاتِهِمْ، وَمِنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ خَلْقٌ يُسَمَّوْنَ بَالْحِنِّ وَالْبِنِّ، أَوِ الطِّمِّ وَالرِّمِّ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ مُبَاشَرَةً كَانُوا يُسَمُّونَ الْجِنَّ، وَالْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بَالْحِنِ (بِالْمُهْمَلَةِ) وَالْبِنِّ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْجِنِّ، وَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَأَبَادَهُمُ اللهُ (كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا) وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَارَبَ الْجِنَّ فَدَحَرَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْجَزَائِرِ وَالْبِحَارِ. وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ سَنَدٌ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ، وَلَكِنْ تَقَالِيدُ الْأُمَمِ الْمَوْرُوثَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُنْبِئُ بِأَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِيهِ بِالْإِجْمَالِ، أَلَا وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَحْيَاءِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي سَكَنَتِ الْأَرْضَ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخَلِيفَةِ، وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً عَنِّي؛ وَلِهَذَا شَاعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خَلِيفَةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (38: 26) وَالظَّاهِرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمُ وَمَجْمُوعُ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَكِنْ مَا مَعْنَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَمَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ، هَلْ هُوَ اسْتِخْلَافُ بَعْضِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَعْضٍ، أَمِ اسْتِخْلَافُ الْبَعْضِ عَلَى غَيْرِهِ؟ .

جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ تُعَلَّمَ أَحْكَامُهُ لِلنَّاسِ وَتُنَفَّذَ فِيهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ يَصْطَفِيهِمْ لِيَكُونُوا خُلَفَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرَ أَحْكَامَ اللهِ وَسُنَنَهُ الْوَضْعِيَّةَ (أَيِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ) كَذَلِكَ أَظْهَرَ حِكَمَهُ وَسُنَنَهُ الْخَلْقِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخِلَافَةِ عَامًّا فِي كُلِّ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، نَطَقَ الْوَحْيُ وَدَلَّ الْعِيَانُ وَالِاخْتِيَارُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْعَالَمَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَخَصَّ كُلَّ نَوْعٍ غَيْرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِشَيْءٍ مَحْدُودٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَأَمَّا مَا لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ كَالْمَلَائِكَةِ فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَظَائِفَهُ مَحْدُودَةٌ. قَالَ - تَعَالَى -: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (21: 20) (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (37: 165، 166) (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) (37: 1، 2) (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحَا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (79: 1 - 5) عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ طَوَائِفُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ وَظِيفَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَوَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ مِنْهُمُ السَّاجِدَ دَائِمًا، وَالرَّاكِعَ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِبَارِ فَهُوَ حَالُ الْمَعْدِنِ وَالْجَمَادِ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا عَمَلَ. وَحَالُ النَّبَاتِ وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ حَيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَإِرَادَةً فَهُمَا لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي جَعْلِ عَمَلِ النَّبَاتِ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِبَيَانِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا، فَكُلُّ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْغَيْبِيَّةِ فَإِنَّ لَهُ اسْتِعْدَادًا مَحْدُودًا، وَعِلْمًا إِلْهَامِيًّا مَحْدُودًا، وَعَمَلًا مَحْدُودًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً عَنِ الَّذِي لَا حَدَّ لِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَا حَصْرَ لِأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِأَعْمَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ. وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ خَلَقَهُ اللهُ ضَعِيفًا. كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (4: 28) وَخَلَقَهُ جَاهِلًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (16: 78) وَلَكِنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَمَوْضِعٌ لِعَجَبِ الْمُتَعَجِّبِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَقْوِيَاءِ، وَمَعَ جَهْلِهِ فِي نَشْأَتِهِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، يُولَدُ الْحَيَوَانُ عَالِمًا بِالْإِلْهَامِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، وَتَكْمُلُ لَهُ قُوَاهُ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَيُولَدُ الْإِنْسَانُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِلْهَامِ إِلَّا الصُّرَاخُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ يَحِسُّ وَيَشْعُرُ بِالتَّدْرِيجِ الْبَطِيءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُعْطَى قُوَّةً أُخْرَى تَتَصَرَّفُ بِشُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ تَصَرُّفًا يَكُونُ لَهُ بِهِ السُّلْطَانُ عَلَى هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، فَيُسَخِّرُهَا وَيُذَلِّلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَشَاءُ تِلْكَ الْقُوَّةُ الْغَرِيبَةُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَقْلَ، وَلَا يَعْقِلُونَ سِرَّهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا، فَهِيَ الَّتِي تُغْنِي الْإِنْسَانَ عَنْ كُلِّ مَا وُهِبَ لِلْحَيَوَانِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَقِيهِ الْبَرْدَ وَالْحَرَّ، وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ بِهَا غِذَاءَهُ وَالَّتِي يُدَافِعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْطُو عَلَى عَدُوِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي يُعْطَاهَا الْحَيَوَانُ بِلَا كَسْبٍ، حَتَّى

كَانَ لَهُ بِهَا مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا كَانَ، وَسَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ التَّقْدِيرُ وَالْحُسْبَانُ. فَالْإِنْسَانُ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ غَيْرُ مَحْدُودِ الِاسْتِعْدَادِ وَلَا مَحْدُودِ الرَّغَائِبِ وَلَا مَحْدُودِ الْعِلْمِ وَلَا مَحْدُودِ الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى ضَعْفِ أَفْرَادِهِ يَتَصَرَّفُ بِمَجْمُوعِهِ فِي الْكَوْنِ تَصَرُّفًا لَا حَدَّ لَهُ بِإِذْنِ اللهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَكَمَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْمَوَاهِبَ وَالْأَحْكَامَ الطَّبِيعِيَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا أَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَمَلَّكَهُ الْأَرْضَ وَسَخَّرَ لَهُ عَوَالِمَهَا، أَعْطَاهُ أَحْكَامًا وَشَرَائِعَ، حَدَّ فِيهَا لِأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ حَدًّا يَحُولُ دُونَ بَغْيِ أَفْرَادِهِ وَطَوَائِفِهِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهِيَ تُسَاعِدُهُ عَلَى بُلُوغِ كَمَالِهِ؛ لِأَنَّهَا مُرْشِدٌ وَمُرَبٍّ لِلْعَقْلِ الَّذِي كَانَ لَهُ تِلْكَ الْمَزَايَا؛ فَلِهَذَا كُلِّهِ جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَخْلَقُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ. ظَهَرَتْ آثَارُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْخِلَافَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ فِي الْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَفِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْهَوَاءِ، فَهُوَ يَتَفَنَّنُ وَيَبْتَدِعُ وَيَكْتَشِفُ وَيَخْتَرِعُ وَيَجِدُّ وَيَعْمَلُ، حَتَّى غَيَّرَ شَكْلَ الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْحَزَنَ سَهْلًا، وَالْمَاحِلَ خِصْبًا، وَالْخَرَابَ عُمْرَانًا، وَالْبَرَارِيَ بِحَارًا أَوْ خِلْجَانًا، وَوَلَّدَ بِالتَّلْقِيحِ أَزْوَاجًا مِنَ النَّبَاتِ لَمْ تَكُنْ كَاللَّيْمُونِ الْمُسَمَّى " يُوسُفَ أَفَنْدِي " فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَهُ بِيَدِ الْإِنْسَانِ وَأَنْشَأَهُ بِكَسْبِهِ، وَقَدْ تَصَرَّفَ فِي أَبْنَاءِ جِنْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَمَا يَشَاءُ بِضُرُوبِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالتَّوْلِيدِ، حَتَّى ظَهَرَ التَّغَيُّرُ فِي خِلْقَتِهَا وَخَلَائِقِهَا وَأَصْنَافِهَا فَصَارَ مِنْهَا الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَمِنْهَا الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَيُسَخِّرُهُ لِخِدْمَتِهِ كَمَا سَخَّرَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ وَسَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَلَيْسَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى، أَنَّ جَعْلَ الْإِنْسَانَ بِهَذِهِ الْمَوَاهِبِ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ، يُقِيمُ سُنَنَهُ، وَيُظْهِرُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ، وَأَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَبَدَائِعَ حِكَمِهِ، وَمَنَافِعَ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ وُجِدَتْ آيَةٌ عَلَى كَمَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَسِعَةِ عِلْمِهِ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ خَلِيفَةً بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَيْفَ تَعْجَبُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ؟ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بَادَرُوا إِلَى السُّؤَالِ وَاسْتِفْهَامِ الِاسْتِغْرَابِ وَ (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) فَيَغْفُلُ بِذَلِكَ عَنْ تَسْبِيحِكَ وَتَقْدِيسِكَ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) بِلَا غَفْلَةٍ وَلَا فُتُورٍ؟ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ نَشَأَ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعِلْمِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ وَالْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَكَوْنُ هَذَا الْعِلْمِ الْمُصْرِّفِ لِلْإِرَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَكَوْنُ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَدْعَاةٌ لِلْفَسَادِ وَالتَّنَازُعِ الْمُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. نَعَمْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْوَاسِعَ لَا يُعْطَاهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَلَا مَجْمُوعُ النَّوْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً

فَيُشَابِهُ عِلْمُهُ عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى -، وَكُلَّمَا أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَهْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكُلَّمَا أُعْطِيَ حَظًّا مِنَ الْأَدَبِ وَالْعَقْلِ ظَهَرَ لَهُ ضَعْفُ عَقْلِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ: كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْـ ... ـرُ أَرَانِي نَقْصَ عَقْلِي وَإِذَا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلِي فَهُوَ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْسَعُ مَظَاهِرِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِالْعِلْمِ (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَأَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعِلْمَ بِحِكْمَةِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ خَلِيفَةً بِالْعِلْمِ وَمَا يَتْبَعُهُ فَقَالَ: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْخَلِيفَةِ أَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ وَعَمَلَهُمْ مَحْدُودَانِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ وَعَمَلَهُ غَيْرُ مَحْدُودَيْنِ، وَبِهَذِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَجْدَرَ بِالْخِلَافَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذِهِ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَهُمْ بَعْدَ مَا نَبَّهَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَقَالَ: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) أَيْ أَوْدَعَ فِي نَفْسِهِ عِلْمَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَعْيِينٍ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتُ، عَبَّرَ عَنِ الْمَدْلُولِ بِالدَّلِيلِ لِشِدَّةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَسُرْعَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ. وَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ: إِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومَاتِ أَنْفُسِهَا، وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَهِيَ تَتَغَيَّرُ وَتَخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: ثُمَّ إِنَّ الِاسْمَ قَدْ يُطْلَقُ إِطْلَاقًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَصِلُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْمَعْلُومِ، أَيْ صُورَةِ الْمَعْلُومِ فِي الذِّهْنِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: مَا بِهِ يُعْلَمُ الشَّيْءُ عِنْدَ الْعَالِمِ، فَاسْمُ اللهِ مَثَلًا هُوَ مَا بِهِ عَرَفْنَاهُ فِي أَذْهَانِنَا بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ وَنُسْنِدُ إِلَيْهِ صِفَاتِهِ، فَالْأَسْمَاءُ هِيَ مَا بِهِ نَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ، وَهِيَ الْعُلُومُ الْمُطَابِقَةُ لِلْحَقَائِقِ. وَالِاسْمُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ هُوَ الَّذِي جَرَى

31

الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ كَانَ الْيُونَانِيُّونَ يُطْلِقُونَ عَلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الْمَعْلُومِ لَفْظَ الِاسْمِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ هُوَ عَيْنُهَا أَوْ صُورَتُهَا مَشْهُورٌ كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ الْعِلْمَ عَيْنُ الْمَعْلُومِ أَوْ غَيْرُ الْمَعْلُومِ، وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ النَّاظِرُونَ؛ لِعَدَمِ الدِّقَّةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْإِطْلَاقَاتِ لِبَدَاهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَعْنَاهُ بِالضَّرُورَةِ، وَالِاسْمُ بِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّسُ وَيَتَبَارَكُ وَيَتَعَالَى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (87: 1) (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (55: 78) فَاسْمُهُ جَلَّ شَأْنُهُ مَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ مِنْهُ مَا نَعْلَمُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَا يُشْرِقُ فِي أَنْفُسِنَا مِنْ بَهَائِهِ وَجَلَالِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ نُرِيدَ مِنَ الْأَسْمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِي التَّأْوِيلِ عَمَّا قَالُوهُ مِنْ إِرَادَةِ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَكِنَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ. (وَأَقُولُ) : تَقَدَّمَ لَنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ اسْمَ اللهِ - تَعَالَى - يُسَبَّحُ وَيُعَظَّمُ، وَمِنْهُ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَتَسْبِيحَهُ وَتَعْظِيمَهُ بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِهِ خَاصٌّ بِالْقَلْبِ. وَمَنْ تَعَمَّدَ إِهَانَةَ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - يُكَفَّرُ كَمَنْ يَتَعَمَّدُ إِهَانَةَ كِتَابِهِ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ صِيغَةِ التَّعْلِيمِ هُوَ التَّدْرِيجُ، قَالَ - تَعَالَى -: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (2: 151) وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا تَدْرِيجًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (4: 113) وَقَوْلِهِ: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (3: 48) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ - وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ تَعْلِيمِ آدَمَ الْأَسْمَاءَ: أَنَّهُ كَانَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا أُرِيدَ بِآدَمَ شَخْصُهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ شَيْخُنَا: عَلَّمَ اللهُ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ - وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ فِي آنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي آنَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ - ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ عَامَّةٌ لِلنَّوْعِ الْآدَمِيِّ كُلِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ أَبْنَاؤُهُ الْأَسْمَاءَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقُوَّةِ لَهُمْ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ، عَلَّمَ اللهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) أَيْ أَطْلَعَهُمْ إِطْلَاعًا إِجْمَالِيًّا بِالْإِلْهَامِ الَّذِي يَلِيقُ بِحَالِهِمْ عَلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ عَرْضًا تَفْصِيلِيًّا لَعَلِمُوهَا وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ مَحْدُودًا وَالْحَالُ أَنَّهُ عَرَضَهَا عَلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْهَا سُؤَالَ تَعْجِيزٍ (فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) الْمُسَمَّيَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَسْمَائِهَا الْإِبَانَةُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا، وَمَعْنَى (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أَيْ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَوْقِعٌ لِلدَّهْشَةِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ مَا طَرَقَ نُفُوسَكُمْ وَطَرَأَ عَلَى أَذْهَانِكُمْ أَوَّلًا حَالًّا مَحَلَّهُ، وَمُصِيبًا غَرَضَهُ، وَلَمَّا تَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْخَلِيفَةُ. فَأَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ مَا عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ. (قَالُوا سُبْحَانَكَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ، فَلَفْظُ سُبْحَانَ مَصْدَرٌ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافًا كَمَعَاذَ اللهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى نُقَدِّسُكَ وَنُنَزِّهُكَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُكَ قَاصِرًا فَتَخْلُقُ الْخَلِيفَةَ عَبَثًا، أَوْ تَسْأَلُنَا شَيْئًا نُفِيدُهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنَا لَا نُحِيطُ بِعِلْمِهِ، وَلَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِنْبَاءِ بِهِ، وَكَلِمَةُ "

32

سُبْحَانَكَ " تَهْدِي إِلَى هَذَا فَكَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَحْدَهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ مَضْرُوبٌ سُرَادِقُهَا، مُثْمِرَةٌ حَدَائِقُهَا، مُتَجَلِّيَةٌ حَقَائِقُهَا. عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَبَعْدَ تَنْزِيهِ الْبَارِي تَبْرَّءُوا مِنْ عِلْمِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ فَقَالُوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) وَهُوَ مَحْدُودٌ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُحِيطُ بِكُلِّ الْمُسَمَّيَاتِ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بِخَلْقِكَ (الْحَكِيمُ) فِي صُنْعِكَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ تُشْعِرُ بِأَنَّ سُؤَالَ الِاسْتِغْرَابِ الْأَوَّلِ كَانَ يُتَنَسَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ (أَنْبَئُونِي) بِقَوْلِهِمْ: (لَا عِلْمَ لَنَا) خَتَمُوا الْجَوَابَ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْعِلْمِ الثَّابِتِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ صِيغَةَ (فَعِيلٍ) تَدُلُّ غَالِبًا عَلَى الصِّفَاتِ الرَّاسِخَةِ اللَّازِمَةِ، فَكَانَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مُؤْذِنًا بِأَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانَ يَجِبُ أَلَّا يَغْفَلَ مِثْلُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِسِعَةِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. (قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) فَكَانَ الْإِنْبَاءُ كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - وَذَكَرَهُ لِأَجْلِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ) اللهُ - تَعَالَى - لِلْمَلَائِكَةِ: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا سُدًى، وَلَا يَجْعَلُ الْخَلِيفَةَ فِي الْأَرْضِ عَبَثًا (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وَالَّذِي يُبْدُونَهُ هُوَ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَمَّا مَا يَكْتُمُونَ فَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ طَبَائِعُهُمْ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْمُرَاجَعَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ يُفَوِّضُ السَّلَفُ الْأَمْرَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَيَكْتَفُونَ بِمَعْرِفَةِ فَائِدَتِهَا وَحِكْمَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخَلَفُ فَيَلْجَئُونَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّمْثِيلُ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي كِتَابِهِ بِأَنْ يُبْرِزَ لَنَا الْأَشْيَاءَ الْمَعْنَوِيَّةَ فِي قَوَالِبِ الْعِبَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَيُجَلِّي لَنَا الْمَعَارِفَ الْمَعْقُولَةَ بِالصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، وَتَسْهِيلًا لِلْإِعْلَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّفْنَا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قِيمَةَ أَنْفُسِنَا، وَمَا أَوْدَعَتْهُ فِطْرَتُنَا، مِمَّا نَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَكْمِيلِ أَنْفُسِنَا بِالْعُلُومِ الَّتِي خُلِقْنَا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا مِنْ دُونِ الْمَلَائِكَةِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ لِتَظْهَرَ حِكْمَةُ اللهِ فِينَا، وَلَعَلَّنَا نُشْرِفُ عَلَى مَعْنَى إِعْلَامِ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِفَضْلِنَا، وَمَعْنَى سُجُودِهِمْ لِأَصْلِنَا (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (24: 35) .

34

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) بَعْدَمَا عَرَّفَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِمَكَانَةِ آدَمَ وَوَجْهِ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّجُودِ فَقَالَ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهُوَ سُجُودٌ لَا نَعْرِفُ صِفَتَهُ، وَلَكِنَّ أُصُولَ الدِّينِ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ إِذْ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَأَعْظَمُ مَظَاهِرِهِ الْخُرُورُ نَحْوَ الْأَرْضِ لِلْأَذْقَانِ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى التُّرَابِ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مِنْ تَحِيَّةِ النَّاسِ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَمِنْهُ سُجُودُ يَعْقُوبَ وَأَوْلَادِهِ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالسُّجُودُ لِلَّهِ - تَعَالَى - قِسْمَانِ: سُجُودُ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ لَهُ تَعَبُّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَسُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا لِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فِيهَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (13: 15) الْآيَةِ، وَقَالَ: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (55: 6) وَفِي مَعْنَاهِمَا آيَاتٌ: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (7: 11، 20: 116) أَيْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقِصَّةِ إِلَّا آيَةَ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (18: 50) وَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَصْلًا جَوْهَرِيًّا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ أَصْنَافٍ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ أَوْصَافٌ، كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْجِنَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) (37: 158) وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّاسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ حَقَائِقَهَا وَلَا نَبْحَثُ عَنْهَا وَلَا نَقُولُ بِنِسْبَةِ شَيْءٍ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَرِدْ لَنَا فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ (أَبَى) السُّجُودَ وَالِانْقِيَادَ (وَاسْتَكْبَرَ) فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْحَقِّ تَرَفُّعًا عَنْهُ، وَزَعْمًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ عُنْصُرًا، وَأَزْكَى جَوْهَرًا، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ) (7: 12) وَالِاسْتِكْبَارُ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَهُوَ الظُّهُورُ بِصِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ الَّتِي مِنْ آثَارِهَا التَّرَفُّعُ عَنِ الْحَقِّ، كَأَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْكِبْرَ لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ إِبْلِيسَ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ مِنْ حَقِّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَاسْتَكْبَرَ وَأَبَى؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُ سَبَبُ الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِكْبَارُ سَبَبُ الْإِبَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُفَسِّرِ يُعَلِّلُ مُخَالَفَةَ

التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي النَّظْمِ بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَكِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ فِي الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْإِبَاءُ، ثُمَّ يُذْكُرُ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَهُوَ الْكُفْرُ. (أَقُولُ) : وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ((كَانَ)) هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، وَخَطَّأَهُ ابْنُ فُورَكَ وَقَالَ: إِنَّ الْأُصُولَ تَرُدُّهُ، وَوَجْهُهُ عِنْدَ قَائِلِهِ: وَصَارَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَذَا الْعِصْيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مَنَاطَ كُفْرِهِ هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي الْكُفْرَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ الْمُذْعِنُ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا غَلَبَهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَعَصَى، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ. وَعِصْيَانُ إِبْلِيسَ رَفْضٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ كُفْرٌ بِغَيْرِ نِزَاعٍ كَكُفْرِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُمْ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ إِنَّ الْأُسْتَاذَ أَعَادَ هُنَا مُلَخَّصَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مُلَخَّصًا: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ بِإِخْبَارِ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي نَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْنَافٌ، لِكُلِّ صِنْفٍ وَظِيفَةٌ وَعَمَلٌ. وَنَقُولُ الْآنَ: إِنَّ إِلْهَامَ الْخَيْرِ وَالْوَسْوَسَةَ بِالشَّرِّ مِمَّا جَاءَ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُسْنِدَا إِلَى هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْغَيْبِيَّةِ. وَخَوَاطِرُ الْخَيْرِ الَّتِي تُسَمَّى إِلْهَامًا وَخَوَاطِرُ الشَّرِّ الَّتِي تُسَمَّى الْوَسْوَسَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحِلُّهُ الرُّوحُ، فَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ إِذَنْ أَرْوَاحٌ تَتَّصِلُ بِأَرْوَاحِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُمَثَّلَ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّمَاثِيلِ الْجُثْمَانِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَنَا (لِأَنَّ هَذِهِ لَوِ اتَّصَلَتْ بِأَرْوَاحِنَا، فَإِنَّمَا تَتَّصِلُ بِهَا مِنْ طُرُقِ أَجْسَامِنَا، وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِشَيْءٍ بِأَبْدَانِنَا لَا عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِدَاعِي الْخَيْرِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَنْ هِيَ مِنْ عَالَمٍ غَيْرِ عَالِمِ الْأَبْدَانِ قَطْعًا) وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ الْآيَةِ: الْإِيمَانُ بِمَضْمُونِهَا مَعَ التَّفْوِيضِ أَوِ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ تَمْثِيلٍ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِهَا بِالنَّظَرِ فِي الْحِكَمِ الَّتِي سِيقَتْ لَهَا الْقِصَّةُ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ إِسْنَادَ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ مَعْرُوفٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ إِلْهَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وَمِنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْمُحَدَّثِينَ وَكَوْنِ عُمَرَ مِنْهُمْ - وَالْمُحَدَّثُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمُلْهَمُونَ - وَمِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَهُوَ ((إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ

الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) ثُمَّ قَرَأَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (3: 268) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَالرِّوَايَةُ: ((إِيعَادٌ)) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا قَالُوهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَغْلَبِيٌّ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ الْإِلْمَامُ بِالشَّيْءِ وَالْإِصَابَةُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبًا آخَرَ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ: وَهُوَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُوَكَّلِينَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ إِنْمَاءِ نَبَاتٍ وَخِلْقَةِ حَيَوَانٍ وَحِفْظِ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْخَاصَّةِ بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النُّمُوَّ فِي النَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِرُوحِ خَاصٍّ نَفَخَهُ اللهُ فِي الْبَذْرَةِ فَكَانَتْ بِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَكُلُّ أَمْرٍ كُلِّيٍّ قَائِمٍ بِنِظَامٍ مَخْصُوصٍ تَمَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي إِيجَادِهِ، فَإِنَّمَا قِوَامُهُ بِرُوحٍ إِلَهِيٍّ سُمِّيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَلَكًا، وَمَنْ لَمْ يُبَالِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّوْقِيفِ يُسَمِّي هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ، إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مِنْ عَالَمِ الْإِمْكَانِ إِلَّا مَا هُوَ طَبِيعَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الطَّبِيعَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ هُوَ أَنَّ فِي بَاطِنِ الْخِلْقَةِ أَمْرًا هُوَ مَنَاطُهَا، وَبِهِ قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ مَلَكًا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً أَوْ نَامُوسًا طَبِيعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْعَاقِلُ مَنْ لَا تَحْجِبُهُ الْأَسْمَاءُ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ (وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَرَى لِلْأَرْوَاحِ وَجُودًا لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ الرُّوحَ وَلَكِنْ أَعْرِفُ قُوَّةً لَا أَفْهَمُ حَقِيقَتَهَا. وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ عَلَامَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ، وَكَلٌّ يُقِرُّ بِوُجُودِ شَيْءٍ غَيْرِ مَا يَرَى وَيُحِسُّ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَا يَصِلُ بِعَقْلِهِ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَمَاذَا عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِمَا غُيِّبَ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أُصَدِّقُ بِغَيْبٍ أَعْرِفُ أَثَرَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أُقَدِّرُهُ قَدْرَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، وَيَفْهَمُ بِذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَيَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؟) . يَشْعُرُ كُلُّ مَنْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَوَازَنَ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ عِنْدَمَا يَهِمُّ بِأَمْرٍ فِيهِ وَجْهٌ لِلْحَقِّ أَوْ لِلْخَيْرِ، وُوَجْهٌ لِلْبَاطِلِ أَوْ لِلشَّرِّ، بِأَنَّ فِي نَفْسِهِ تَنَازُعًا كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ عُرِضَ فِيهَا عَلَى مَجْلِسِ شُورَى فَهَذَا يُورِدُ وَذَاكَ يَدْفَعُ، وَاحِدٌ يَقُولُ: افْعَلْ، وَآخَرُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ، حَتَّى يَنْتَصِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَاطِرَيْنِ، فَهَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أُودِعَ فِي أَنْفُسِنَا، وَنُسَمِّيهِ قُوَّةً وَفِكْرًا - وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَى لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَرُوحٌ لَا تُكْتَنَهُ حَقِيقَتُهَا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَلَكًا

(أَوْ يُسَمِّيَ أَسْبَابَهُ مَلَائِكَةً) أَوْ مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حَجْرَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَحْجُرُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالسُّلْطَانِ النَّافِذِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ؟ (وَأَقُولُ) : إِنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ سَبَقَ بَيَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّبَبِ وَقَالَ: إِنَّهُ سُمِّيَ مَلَكًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْخَوَاطِرَ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ قَالَ: " ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَمَهْمَا اخْتَلَفَتِ الْحَوَادِثُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ، هَذَا مَا عُرِفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، فَمَهْمَا اسْتَنَارَتْ حِيطَانُ الْبَيْتِ بِنُورِ النَّارِ وَأَظْلَمَ سَقْفُهُ بِالدُّخَانِ عَلِمْتَ أَنَّ سَبَبَ السَّوَادِ غَيْرُ سَبَبِ الِاسْتِنَارَةِ، وَكَذَلِكَ لِأَنْوَارِ الْقَلْبِ وَظُلْمَتِهِ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ يُسَمَّى مَلَكًا، وَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ يُسَمَّى شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ إِلْهَامِ الْخَيْرِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، وَالَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ الشَّرِّ يُسَمَّى إِغْوَاءً وَخِذْلَانًا، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ تَحْتَاجُ إِلَى أَسَامِي مُخْتَلِفَةٍ " اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ فَلْيُرَاجِعْهُ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ. فَإِذَا صَحَّ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَدَبَّرَهَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، وَجَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْقُوَى مَخْصُوصًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا حُدِّدَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي خُصَّ بِهِ، خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ وَأَعْطَاهُ قُوَّةً يَكُونُ بِهَا مُسْتَعِدًّا لِلتَّصَرُّفِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْقُوَى وَتَسْخِيرِهَا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْقُوَى لَهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْخِيرِ، وَجَعَلَهُ بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لِغَيْرِهِ خَلِيفَةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقُوَى قُوَّةً وَاحِدَةً عَبَّرَ عَنْهَا بِإِبْلِيسَ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي (لَزَّهَا اللهُ بِهَذَا الْعَالَمِ لَزًّا، وَهِيَ الَّتِي تَمِيلُ بِالْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ أَوْ بِالْكَامِلِ إِلَى النَّقْصِ وَتُعَارِضُ مَدَّ الْوُجُودِ لِتَرُدَّهُ إِلَى الْعَدَمِ أَوْ تَقْطَعَ سَبِيلَ الْبَقَاءِ وَتَعُودَ بِالْمَوْجُودِ إِلَى الْفَنَاءِ أَوِ الَّتِي) تُعَارِضُ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصُدُّ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتُنَازِعُ الْإِنْسَانَ فِي صَرْفِ قُوَاهُ إِلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا خِلَافَتُهُ فَيَصِلُ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيِّ الَّتِي خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا (تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي ضَلَّلَتْ آثَارُهَا قَوْمًا فَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْعَالَمِ إِلَهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ. وَمَا هِيَ بِإِلَهٍ وَلَكِنَّهَا مِحْنَةُ إِلَهٍ لَا يَعْلَمُ أَسْرَارَ حِكْمَتِهِ إِلَّا هُوَ) . (قَالَ) : وَلَوْ أَنَّ نَفْسًا مَالَتْ إِلَى قَبُولِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَمْ تَجِدْ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مَا أَبْصَرَتْ مِنَ الْحَقِّ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ غَرَضَ الْأُسْتَاذِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ وَبِالْإِشَارَةِ إِقْنَاعُ مُنْكِرِي الْمَلَائِكَةِ بِوُجُودِهِمْ، بِتَعْبِيرٍ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمْ، وَقَدِ اهْتَدَى بِهِ

كَثِيرُونَ، وَضَلَّ بِهِ آخَرُونَ فَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ قُوًى لَا تَعْقِلُ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كِتَابَةً بِمَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ: (وَلَسْتُ أُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فَعَلَتِ الْعَادَةُ وَالتَّقَالِيدُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي الدِّينِ إِذْ يَنْفِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا يَنْفِرُ الْمَرْضَى أَوِ الْمُخَدَّجُونَ مِنْ جَيِّدِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُمْ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا قِوَامُ بِنْيَتِهِمْ، وَيَتَشَبَّثُونَ بِأَوْهَامٍ مَأْلُوفَةٍ لَهُمْ تَشَبُّثَ أُولَئِكَ الْمَرْضَى وَالْمُخَدَّجِينَ بِأَضَرِّ طَعَامٍ يُفْسِدُ الْأَجْسَامَ وَيَزِيدُ السَّقَامَ، لَا أَعْرِفُ مَا الَّذِي فَهِمُوهُ مِنْ لَفْظِ رُوحٍ أَوْ مَلَكٍ، وَمَا الَّذِي يَتَخَيَّلُونَهُ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ قُوَّةٍ، أَلَيْسَ الرُّوحُ فِي الْآدَمِيِّ مَثَلًا هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا سُلِبُوهُ سُلِبُوا مَا يُسَمَّى بِالْحَيَاةِ؟ أَوَلَيْسَتِ الْقُوَّةُ هِيَ مَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْآثَارُ فِيمَنْ وُهِبَتْ لَهُ، فَإِذَا سُمِّيَ الرُّوحُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ قُوَّةً، أَوْ سُمِّيَتِ الْقُوَّةُ لِخَفَاءِ حَقِيقَتِهَا رُوحًا فَهَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدِّينِ أَوْ يَنْقُصُ مُعْتَقِدُهُ شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ؟ . أَلَّا لَا يُسَمَّى الْإِيمَانُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ إِذْعَانًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَسْتَسْلِمَ الْوِجْدَانُ وَتَخْشَعَ الْأَرْكَانُ لِذَلِكَ السُّلْطَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يُلْقِيَ الْوَهْمُ سِلَاحَهُ وَيَبْلُغَ الْعَقْلُ فَلَاحَهُ، وَهَلْ يُسْتَكْمَلُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُمْكِنُهُ فَهْمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ عِلْمُهُ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَعْرِفُ الْحَقُّ أَهْلَهُ وَلَا يَضِلُّ سُبُلَهُ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، لَوْ أَنَّ مِسْكِينًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَشَدِّهِمْ ذَكَاءً وَأَذْرَبِهِمْ لِسَانًا أَخَذَ بِمَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّشَكُّلِ، ثُمَّ تَطَلَّعَ عَقْلُهُ إِلَى أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى نُورَانِيَّةِ الْأَجْسَامِ، وَهَلِ النُّورُ وَحْدَهُ لَهُ قِوَامٌ يَكُونُ بِهِ شَخْصًا مُمْتَازًا بِدُونِ أَنْ يَقُومَ بِجِرْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ ثُمَّ يَنْعَكِسُ عَنْهُ كَذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ أَوْ سِلْكِ الْكَهْرَبَاءِ، وَمَعْنَى قَابِلِيَّةِ التَّشَكُّلِ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي أَشْكَالٍ مِنَ الصُّوَرِ مُخْتَلِفَةٍ حَسْبَمَا يُرِيدُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، أَلَا يَقَعُ فِي حَيْرَةٍ؟ وَلَوْ سُئِلَ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَلَا يُحْدِثُ فِي لِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ حَلَّهُ؟ أَلَيْسَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَيْرَةِ يُعَدُّ شَكًّا؟ نَعَمْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْحَيْرَةُ حَيْرَةَ مَنْ وَقَفَ دُونَ أَبْوَابِ الْغَيْبِ يَطْرِفُ لِمَا لَا يَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، لَكِنَّهَا حَيْرَةُ مَنْ أَخَذَ بِقَولٍ لَا يَفْهَمُهُ، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُهُ. فَلَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَلَائِكَةِ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاطْمَأَنَّتْ بِإِيمَانِهِ نَفْسُهُ وَأَذْعَنَ لَهُ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِوَهْمِهِ سِلَاحٌ يُنَازِعُ بِهِ عَقْلَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ صَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ. فَلْيَرْجِعْ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي وَقَرَ فِيهَا تَقَالِيدُ حُفَّتْ بِالْمَخَاوِفِ، لَا عُلُومٌ حُفَّتْ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، هَؤُلَاءِ لَمْ يُشْرِقْ فِي نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ

الْإِلَهِيِّ وَالضِّيَاءِ الْمَلَكُوتِيِّ وَاللَّأْلَاءِ الْقُدُسِيِّ، أَوْ مَا يُمَاثِلُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، لَمْ يَسْبِقْ لِنُفُوسِهِمْ عَهْدٌ بِمُلَاحَظَةِ جَانِبِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ أَعْيُنُ بَصَائِرِهِمْ بِنَظْرَةٍ إِلَى مَطْلَعِ الْوُجُودِ مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ بَاقٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَّا وَجْهُ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ مَا كُشِفَ مِنَ الْكَوْنِ وَمَا لَطُفَ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ جُودِهِ، وَنِسْبَةٌ إِلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ الشَّرِيفُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْلَى بِذِكْرِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا الْخَسِيسُ إِلَّا مَا بَيَّنَ لَنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى وَلَا أَحَطَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ - وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ - لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَأَطْلَقُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَجُولَ فِي تِلْكَ الشُّئُونِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَقَرِّ الطُّمَأْنِينَةِ، حَيْثُ لَا يُنَازِعُ الْعَقْلَ شَيْءٌ مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَلَا تَجِدُ طَائِفًا مِنَ الْخَوْفِ، ثُمَّ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ مَكَانَ لَفْظٍ. هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي نَرَى آثَارَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّنَا، وَقَدْ خَفِيَتْ حَقَائِقُهَا عَنَّا، وَلَمْ يَصِلْ أَدَقُّ الْبَاحِثِينَ فِي بَحْثِهِ عَنْهَا إِلَّا إِلَى آثَارٍ تَجِلُّ إِذَا كُشِفَتْ وَتَقِلُّ بَلْ تَضْمَحِلُّ إِذَا حُجِبَتْ، وَهِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَمَالُ الْوُجُودِ وَبِهَا يَنْشَأُ النَّاشِئُ وَبِهَا يَنْتَهِي إِلَى غَايَتِهِ الْكَامِلُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى نَبِيهٍ وَلَا خَامِلٍ، أَلَيْسَتْ أَشِعَّةً مِنْ ضِيَاءِ الْحَقِّ؟ أَلَيْسَتْ أَجَلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ سُلْطَانِهِ؟ أَلَّا تُعَدُّ بِنَفْسِهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْعُرَ الشَّاعِرُ مِنْهَا بِضَرْبٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَالِاخْتِيَارِ خَاصٍّ بِهَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ لِاحْتِجَابِهِ بِمَا نَتَصَوَّرُهُ مِنْ حَيَاتِنَا وَاخْتِيَارِنَا؟ أَلَا تَرَاهَا تُوَافِي بِأَسْرَارِهَا مَنْ يَنْظُرُ فِي آثَارِهَا وَيُوَفِّيهَا حَقَّ النَّظَرِ فِي نِظَامِهَا؟ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ بِمَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْ شُئُونِهَا، وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اسْتِدْرَارِ مَنَافِعِهَا؟ . أَلَيْسَ الْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ الْأَعْلَى مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارُهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَ تِلْكَ الْقُوَى خَوَاصَّهَا وَقَدَّرَ لَهَا آثَارَهَا؟ لِمَ لَا نَقُولُ أَيُّهَا الْغَافِلُ: إِنَّهُ بِذَلِكَ وَهَبَهَا حَيَاتَهَا الْخَاصَّةَ بِهَا، وَلِمَ قَصَرْتَ مَعْنَى الْحَيَاةِ عَلَى مَا تَرَاهُ فِيكَ وَفِي حَيَوَانٍ مِثْلِكَ؟ ! مَعَ أَنَّكَ لَوْ سُئِلْتَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ فَهِمْتَهُ وَسَمَّيْتَهُ حَيَاةً لَمْ تَسْتَطِعْ لَهُ تَعْرِيفًا وَلَا لِفِعْلِهِ تَصْرِيفًا! لَا تَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ وَبِهِ نَقُولُ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمِنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (17: 44) ؟ أَفَلَا تَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ وَمَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ؟ هَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ تَسْكُنُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ وَهَلْ حَدَّدْتَ أَمْكِنَتَهَا وَرَسَمْتَ مَسَاكِنَهَا؟ وَهَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ يَجْلِسُ مَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِكَ؟ وَمَنْ يَكُونُ عَنْ يَسَارِكَ؟ هَلْ تَرَى أَجْسَامَهُمُ النُّورَانِيَّةَ تُضِئُ لَكَ فِي الظَّلَامِ أَوْ تُؤْنِسُكَ إِذَا هَجَمَتْ عَلَيْكَ الْأَوْهَامُ؟ فَلَوْ رَكَنْتَ إِلَى أَنَّهَا قُوًى أَوْ أَرْوَاحٌ مُنْبَثَّةٌ فِيمَا حَوْلَكَ

وَمَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا خَلْفَكَ، وَأَنَّ اللهَ ذَكَرَهَا لَكَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهَا سَلَفُكَ، وَبِالْعِبَارَةِ الَّتِي تَلَقَّفْتَهَا عَنْهُمْ كَيْلَا يُوحِشَكَ بِمَا يُدْهِشُكَ، وَتَرَكَ لَكَ النَّظَرَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ وُجُوهٍ تَعْرِفُهَا، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحُ لِنَفْسِكَ وَأَدْعَى إِلَى طُمَأْنِينَةِ عَقْلِكَ؟ أَفَلَا تَكُونُ قَدْ أَبْصَرْتَ شَيْئًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَوَقَفْتَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ؟ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ أَشِعَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَكُنْتَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُفَوِّضُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فَلَا تَرْمِ طُلَّابَ الْعِرْفَانِ بِالرَّيْبِ مَا دَامُوا يُصَدِّقُونَ بِالْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتَ بِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ الَّذِي صَدَّقْتَ بِرِسَالَتِهِ، وَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَعْلَى مِنْكَ كَعْبًا وَأَرْضَى مِنْكَ بِرَبِّهِمْ نَفْسًا، أَلَا إِنَّ مُؤْمِنًا لَوْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا قُلْنَا كَانَ مِنْ دِينِهِ فِي ثِقَةٍ، وَمِنْ فَضْلِ رَبِّهِ فِي سَعَةٍ) اهـ. هَذَا مَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ كَلَامِهِ فِي تَقْرِيبِ مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْكَائِنَاتِ مِنْ لَفْظِ الْقُوَى إِلَى مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَفْقَهُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْقُوَى وَإِسْنَادِ كُلِّ أَحْدَاثِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرَاتِهَا إِلَيْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِجَهْلِ كُنْهِهَا، وَإِلْمَامٌ أَيْضًا بِمَا كَانَ يَقُولُهُ قُدَمَاءُ الْيُونَانِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا مُدَبِّرًا هُوَ الْمُسَيِّرُ لِنِظَامِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ خَاضِعَةٌ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى الْعَامُّ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ هُوَ أَنَّ أَحْدَاثَ هَذَا الْعَالَمِ وَتَغَيُّرَاتِهَا وَتَطَوُّرَاتِهَا وَالنِّظَامَ فِيهَا كُلِّهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ خَفِيٍّ غَيْرِ أَجْزَاءِ مَادَّتِهَا، فَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا بِاصْطِلَاحَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَعْبِيرُ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ، وَتَعْبِيرُ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي حَرَّرَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ إِذْعَانُ الْعُقَلَاءِ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَقِيقِيَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ نِظَامَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ نَاطَهُ سُبْحَانَهُ بِمَوْجُودَاتٍ رُوحِيَّةٍ خَفِيَّةٍ ذَاتِ قُوًى عَظِيمَةٍ جِدًّا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُعْطِي أَحَدًا عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الْحَقِيقَةَ لَا يَحْجُبُهَا عَنْهُ اخْتِلَافُ التَّسْمِيَةِ، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ وَيُقْنِعَهُمْ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ الْوَحْيُ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِمُ الْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صَفْحَةِ 223 فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُبَّادُ الْأَلْفَاظِ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مُرَادَهُ، وَهُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي الْإِقْنَاعِ بِحَقِّيَّةِ الدِّينِ كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَحَدُ نَوَابِغِ رِجَالِ الْقَضَاءِ الْأَذْكِيَاءِ: إِنَّكَ بِتَفْسِيرِكَ لِلْقُرْآنِ بِالْبَيَانِ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَأْبَاهُ الْعِلْمُ قَدْ قَطَعْتَ الطَّرِيقَ عَلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ الْوَقْتُ الَّذِي يَهْدِمُونَ فِيهِ الدِّينَ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ قُيُودِهِ وَجَهْلِ رِجَالِهِ وَجُمُودِهِمْ. وَإِنَّنِي أَنَا قَدْ جَرَّبْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي اسْتَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ - تَعَالَى - فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهَا دَحْضًا، ذَلِكَ بِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ إِلَهَ

35

اللَّاهُوتِيِّينَ وَكَذَا إِلَهُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا إِلَهَ الْخَلِيقَةِ، فَإِذَا قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الدَّقِيقَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَوَحْدَةَ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي مَجْمُوعِهَا كُلِّهَا قَدْ وُجِدُوا بِالْمُصَادَفَةِ وَلَيْسَ لَهُمَا مَصْدَرٌ وُجُودِيٌّ؟ يَقُولُونَ: لَا، بَلْ لَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مَصْدَرٍ لَكِنَّنَا نَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ، حِينَئِذٍ. كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ: وَهَذَا أُسُّ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّنَا نَجْهَلُ كُنْهَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِآثَارِهِ فِي خَلْقِهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَنَا لَفْظِيٌّ. ذَلِكَ - وَإِنَّ تَرْتِيبَ النَّظْمِ يَلْتَئِمُ مَعَ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي السِّيَاقِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحِكَايَةِ وَبَرَزَتْ فِي صُورَةِ التَّمْثِيلِ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَبَقِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الدَّرْسِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَكُلَّ نَامُوسٍ مِنْ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ فِيهَا خُلِقَ خَاضِعًا لِلْإِنْسَانِ، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مُسْتَعِدًّا لِتَسْخِيرِهِ لِمَنْفَعَتِهِ إِلَّا قُوَّةَ الْإِغْرَاءِ بِالشَّرِّ، وَنَامُوسَ الْوَسْوَسَةِ بِالْإِغْرَاءِ الَّذِي يَجْذِبُ الْإِنْسَانَ دَائِمًا إِلَى شَرِّ طِبَاعِ الْحَيَوَانِ، وَيُعِيقُهُ عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهِ الْإِنْسَانِيِّ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْلِبُ هَذِهِ الْقُوَّةَ وَلَا يُخْضِعُهَا مَهْمَا ارْتَقَى وَكَمُلَ، وَقُصَارَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْكَامِلُونَ هُوَ الْحَذَرُ مِنْ دَسَائِسِ الْوَسْوَسَةِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا بِأَلَّا يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِ الْكَامِلِ تَجْعَلُهُ مُسَخَّرًا لَهَا وَتَسْتَعْمِلُهُ بِالشُّرُورِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (17: 65) وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) ثُمَّ زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا قَوْلَهُ: (أَمَّا سُلْطَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي الْفَنَاءِ وَقَطْعِ حَرَكَةِ الْوُجُودِ إِلَى الصُّعُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُ إِخْضَاعَهُ لِقُدْرَتِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَامِلٌ، وَلَا يُقَاوِمُ نُفُوذَهُ عَامِلٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا حُكْمُهَا فِي الْكَائِنَاتِ، إِلَى أَنْ تَبَدَّلَ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْبَصِيرَةِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

مُجْمَلُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَمَّا اسْتَعَدَّ لِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِيجَادَهُ وَاسْتِخْلَافَهُ فِي الْأَرْضِ آذَنَ اللهُ - تَعَالَى - الْأَرْوَاحَ الْمُنْبَثَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَدْبِيرِهَا وَنِظَامِهَا بِذَلِكَ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ فَهِمَتْ مِنْ مَعْنَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّظَامَ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، حَتَّى أَعْلَمَهَا اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّ عِلْمَهَا لَمْ يُحِطْ بِمَوَاقِعِ حِكْمَتِهِ وَلَا يَصِلْ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ عِلْمُهُ - تَعَالَى -، ثُمَّ أَوْجَدَ آدَمَ وَفَضَّلَهُ بِتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، عَلَى أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَا يَعْلَمُ إِلَّا طَائِفَةً مِنْهَا؛ وَلِذَلِكَ أَخْضَعَ لَهُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ إِلَّا رُوحًا وَاحِدًا هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَمَصْدَرُ الْإِغْوَاءِ فَقَدْ أَبَى الْخُضُوعَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ لِمَا كَانَ فِي طَبِيعَتِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادُ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِذَا كَانَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى الْغَيْبِيَّةِ عِلْمٌ مَحْدُودٌ فَكَيْفَ ظَهَرَ مِنَ الرُّوحِ الْإِبْلِيسِيِّ مَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَالتَّصَدِّي لِإِغْوَائِهِ؟ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِهَذَا الْعِصْيَانِ وَالْإِبَاءِ فَلَمَّا أُمِرَ عَصَى، وَلَمَّا وَجَدَ خَلْقًا مُسْتَعِدًّا لِلْوَسْوَسَةِ اتَّصَلَ بِهِ وَوَسْوَسَ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ أَلْوَانَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَالزُّهُورِ مَوْجُودَةٌ كَامِنَةٌ فِي الْبَذْرَةِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِعْدَادِ بِهَا بِبُلُوغِ الطَّوْرِ الْمَحْدُودِ مِنَ النُّمُوِّ. وَمُجْمَلُ الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَنَهَاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ قُرْبَهَا ظُلْمٌ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَزَلَّهُمَا عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِلَى ضِدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَقَبِلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ سَعَادَةَ هَذَا النَّوْعِ بِاتِّبَاعِ هُدَى اللهِ وَشَقَاءَهُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا قَدْ سِيقَتْ لِلْاعْتِبَارِ بِبَيَانِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا الْمَلَائِكَةَ وَالْبَشَرَ، وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُلَاقِي مِنَ الْإِنْكَارِ - وَتَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ - وَأَمَّا وَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَلَا تَأْسَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَلَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (فَقَدْ كَانَ الضَّعْفُ فِي طِبَاعِهِمْ يَنْتَهِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ سَلَفٍ لَهُمْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسَاوِسُ، وَتَذْهَبُ بِصَبْرِهِمُ الدَّسَائِسُ، انْظُرْ مَا وَقَعَ لِآدَمَ وَمَا كَانَ مِنْهُ، وَسُنَّةُ اللهِ مَعَ ذَلِكَ لَا تَتَبَدَّلُ، فَقَدْ عُوقِبَ آدَمُ عَلَى خَطِيئَتِهِ بِإِهْبَاطِهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ هَفْوَتَهُ) فَالْمَعْصِيَةُ دَائِمًا مَجْلَبَةٌ لِلشَّقَاءِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْبَشَرِ عَلَى أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الِانْحِرَافِ عَنْ سُبُلِهَا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي (الْجَنَّةِ) هَلْ هِيَ الْبُسْتَانُ أَوِ الْمَكَانُ الَّذِي تُظَلِّلُهُ الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ يَسْتَتِرُ الدَّاخِلُ فِيهِ كَمَا يَفْهَمُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ؟ أَمْ هِيَ الدَّارُ الْمَوْعُودُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتْرِيدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ: نَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ بُسْتَانٌ

مِنَ الْبَسَاتِينِ أَوْ غَيْضَةٌ مِنَ الْغِيَاضِ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ مُنَعَّمِينَ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا تَعْيِينُهَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْ مَكَانِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ خَاضَ فِي تَعْيِينِ مَكَانِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْحَلُّ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ: 1 - أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُوَ وَنَسْلُهُ خَلِيفَةً فِيهَا، فَالْخِلَافَةُ مَقْصُودَةٌ مِنْهُمْ بِالذَّاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً عَارِضَةً. 2 - أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ حَصَلَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ. 3 - أَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، فَكَيْفَ دَخَلَهَا الشَّيْطَانُ الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ؟ . 4 - أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ. 5 - أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ فِيهَا مِنَ التَّمَتُّعِ مِمَّا يُرِيدُ مِنْهَا. 6 - أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهَا الْعِصْيَانُ. وَبِالْجُمْلَةِ: إِنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا الْجَنَّةُ الْمَوْعُودُ بِهَا لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ فِي جَنَّةِ آدَمَ، وَمِنْهُ كَوْنُ عَطَائِهَا غَيْرَ مَجْذُوذٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (أَقُولُ) : وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِشْكَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ أَطَالَ فِي بَيَانِهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْوَقْفِ وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَقْوَى، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ لِي عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ آدَمَ أُسْكِنَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ هِيَ الدَّارُ الْأُولَى وَالدُّنْيَا، فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِلدَّارَيْنِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيُنَافِي أَيْضًا كَوْنَ الْجَنَّةِ دَارَ ثَوَابٍ يَدْخُلُهَا الْمُتَّقُونَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَلَمْ يَقُلْ: (ادْخُلْ) وَلَوِ انْتَقَلَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا إِلَى الْجَنَّةِ لَقَالَ هَذَا أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الِانْتِقَالِ، فَقَوْلُهُ: (اسْكُنْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخِلْقَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) إِبَاحَةٌ لِلتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ الْجَنَّةِ وَالتَّنَعُّمِ بِمَا فِيهَا أَيْ كُلَا مِنْهَا أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا هَنِيًّا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا نَهَاهُمَا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) لِأَنْفُسِكُمَا بِالْوُقُوعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَا نَقُولُ فِي تَعْيِينِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ، وَلَعَلَّ فِي خَاصِّيَّةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ خُرُوجِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ،

36

وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا ضَرَرٌ، أَوْ كَانَ النَّهْيُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنْهُ - تَعَالَى - لِيَظْهَرَ بِهِ مَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ضَرَرٌ. قَالَ - تَعَالَى -: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) أَيْ حَوَّلَهُمَا وَزَحْزَحَهُمَا عَنِ الْجَنَّةِ، أَوْ حَمَلَهُمَا عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِ الشَّجَرَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: (فَأَزَالَهُمَا) وَالشَّيْطَانُ: إِبْلِيسُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَخْضَعْ، وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُمَا بِمَا ذُكِرَ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ حَتَّى أَوْقَعَهُمَا فِي الزَّلَلِ وَحَمَلَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَا (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، فَكَانَ الذَّنْبُ مُتَّصِلًا بِالْعُقُوبَةِ اتِّصَالَ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - كَيْفِيَّةَ الْإِخْرَاجِ بِقَوْلِهِ: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) يَعْنِي آدَمَ وَزَوْجَهُ وَإِبْلِيسَ، فَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِالْجَمْعِ كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تُنَافِي هَذَا التَّقْدِيرَ فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ لَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَذُرِّيَّتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْهُبُوطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِانْتِقَالِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجَنَّةُ فِي رَبْوَةٍ، فَسِمَةُ الْخُرُوجِ مِنْهَا هُبُوطًا، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَلُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ، أَوْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: هَبَطَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: (اهْبِطُوا مِصْرًا) (2: 61) . ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ إِنَّ اسْتِقْرَارَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَمَتُّعَكُمْ فِيهَا يَنْتَهِيَانِ إِلَى زَمَنٍ مَحْدُودٍ وَلَيْسَا بِدَائِمَيْنِ، فَفِي الْكَلَامِ فَائِدَتَانِ: (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ الْأَرْضَ مُمَهَّدَةٌ وَمُهَيَّأَةٌ لِلْمَعِيشَةِ فِيهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ فِيهَا تُنَافِي الْخُلُودَ وَالدَّوَامَ، فَلَيْسَ الْهُبُوطُ لِأَجْلِ الْإِبَادَةِ وَمَحْوِ الْآثَارِ، وَلَيْسَ لِلْخُلُودِ كَمَا زَعَمَ إِبْلِيسُ بِوَسْوَسَتِهِ إِذْ سَمَّى الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا (شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (20: 120) يَعْنِي أَنَّ اللهَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ جَنَّةِ الرَّاحَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَمَلِ لَا لِيُفْنِيَهُمْ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَارِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا لِيُعَاقِبَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَتَاعِ، وَلَا لِيُمَتِّعَهُمْ بِالْخُلُودِ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْمَتَاعِ إِلَى حِينٍ. ثُمَّ قَالَ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) أَيْ أَلْهَمَهُ اللهُ إِيَّاهَا بِهَا وَهِيَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (7: 23) تَابَ آدَمُ بِذَلِكَ وَأَنَابَ إِلَى رَبِّهِ (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَعَادَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ التَّوَّابُ؛ أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَثِيرًا، فَمَهْمَا يُذْنِبِ

الْعَبْدُ وَيَنْدَمْ وَيَتُبْ يَتُبِ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ مَهْمَا يُسِئْ أَحَدُهُمْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِغَضَبِهِ - تَعَالَى - وَيَرْجِعْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحُفُّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هُبُوطِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ تَعْيِينِ الْأَمْكِنَةِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ. وَبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مَسْأَلَتَانِ قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَهُمَا: مَسْأَلَةُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَمَسْأَلَةُ عِصْمَةِ آدَمَ. فَأَمَّا الْأُولَى فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ فِيهَا وَلَا يَلْزَمُنَا حَمْلُ قَوْلِهُ - تَعَالَى -: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا وَرَدَتْ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ - حِكَايَةً تَارِيخِيَّةً - وَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَاسْتِعْدَادِ الْكَوْنِ لِأَنْ يَتَكَمَّلَ بِهِ، وَكَوْنِهِ قَدْ أُعْطِيَ اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا لِيُظْهِرَ حُكْمَ اللهِ وَيُقِيمَ سُنَنَهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ، وَكَوْنِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْ دَاعِيَةِ الشَّرِّ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكَوْنِ التَّارِيخِ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَهُ لِأَنَّ مَسَائِلَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَارِيخٌ لَيْسَتْ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ الدِّينُ مِنَ التَّارِيخِ إِلَى وَجْهِ الْعِبْرَةِ دُونَ غَيْرِهِ، لَمْ يُبَيَّنِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَمَا بُيِّنَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَكَانَ بَيَانُهُمَا سَبَبًا لِرَفْضِ الْبَاحِثِينَ فِي الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْخَلِيقَةِ لِدِّينِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الِاخْتِبَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ أَظْهَرَ خَطَأَ مَا جَاءَ مِنَ التَّارِيخِ فِي التَّوْرَاةِ، وَوُجِدَتْ لِلْإِنْسَانِ آثَارٌ فِي الْأَرْضِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْدَمُ مِمَّا حَدَّدَتْهُ التَّوْرَاةُ فِي تَارِيخِ تَكْوِينِهِ، فَقَامَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَرْكَبُ التَّعَاسِيفَ فِي التَّأْوِيلِ، وَفَرِيقٌ يَكْفُرُ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ. (أَقُولُ) فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي تَعْلِيلِ التَّوْصِيَةِ بِالنِّسَاءِ: ((فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ)) قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (21:37) كَمَا قَالُوا فِي شَرْحِهِ - وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ - وَلَمْ يَتَعَرَّضْ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلُ مَا سَتَرَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَا نَصُّهُ: (وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (4: 1) وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (7: 189) فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمَعْنَى مِنْ جِنْسِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (30: 21) فَإِنَّ الْمَعْنَى هُنَاكَ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِنَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ زَوْجَةٍ مَنْ بِدَنِ زَوْجِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ) . (قَالَ) : وَأَمَّا عِصْمَةُ آدَمَ فَالْجَرْيُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ يَذْهَبُ بِنَا إِلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ

وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَسَائِرِ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ مِمَّا لَا يَرْكَنُ الْعَقْلُ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ مُخَالَفَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ عَزْمُ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (20: 115) وَالِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ آدَمَ نِسْيَانًا، فَسُمِّيَ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ عِصْيَانًا، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ مِمَّا لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْكَلَامَ كُلَّهُ تَمْثِيلًا فَحَدِيثُ الْإِخْلَالِ بِالْعِصْمَةِ مِمَّا لَا يَمُرُّ بِذِهْنِ الْعَاقِلِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ فِي التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، أَوْ بِأُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهُوَ يَدْعُو بِهَا الْأَذْهَانَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَعَانِي، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (50: 30) فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَفْهِمُ مِنْهَا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسَعَتِهَا وَكَوْنِهَا لَا تَضِيقُ بِالْمُجْرِمِينَ مَهْمَا كَثُرُوا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (41: 11) وَالْمَعْنَى فِي التَّمْثِيلِ الظَّاهِرِ. (أَقُولُ) : وَهَذَا الْأَمْرُ يُسَمَّى أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (36: 82) فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيجَادِ، وَلَا أَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَثَرِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْأَوَامِرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا لِلْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي تَفْسِيرِ (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ كَوْنِيٌّ، وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَمِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ لِلرَّبِّ وَجَوَابِهَا فِي شَأْنِ إِغْوَائِهِ لِلْبَشَرِ وَإِنْظَارِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : وَتَقْرِيرُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ هَكَذَا: إِنَّ إِخْبَارَ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِجَعْلِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْيِئَةِ الْأَرْضِ وَقُوَى هَذَا الْعَالَمِ وَأَرْوَاحِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَنِظَامُهُ لِوُجُودِ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا فَيَكُونُ بِهِ كَمَالُ الْوُجُودِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَسُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَعْلِ خَلِيفَةٍ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعْطِي اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا حَدَّ لَهُمَا، هُوَ تَصْوِيرٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِذَلِكَ وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي خِلَافَتَهُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعْلِيمُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ فِي اسْتِعْمَارِهَا، وَعَرْضُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسُؤَالُهُمْ عَنْهَا وَتَنَصُّلُهُمْ فِي الْجَوَابِ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِ الشُّعُورِ الَّذِي يُصَاحِبُ كُلَّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْعَوَالِمِ مَحْدُودًا لَا يَتَعَدَّى وَظِيفَتَهُ، وَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي تَرْقِيَةِ الْكَوْنِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ، وَإِبَاءُ إِبْلِيسَ وَاسْتِكْبَارُهُ

عَنِ السُّجُودِ تَمْثِيلٌ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ عَنْ إِخْضَاعِ رُوحِ الشَّرِّ وَإِبْطَالِ دَاعِيَةِ خَوَاطِرِ السُّوءِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ زَمَنٌ يَكُونُ فِيهِ أَفْرَادُهُ كَالْمَلَائِكَةِ بَلْ أَعْظَمَ، أَوْ يَخْرُجُونَ عَنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ. هَذَا مُلَخَّصٌ مَا تَقَدَّمَ فِي سَابِقِ آيَاتِ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهَا فَيَصِحُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرَادَ بِالْجَنَّةِ الرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَجِدَ فِي الْجَنَّةِ - الَّتِي هِيَ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ - مَا يَلَذُّ لَهُ مِنْ مَرْئِيٍّ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَشْمُومٍ وَمَسْمُوعٍ، فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَهَوَاءٍ عَلِيلٍ، وَمَاءٍ سَلْسَبِيلٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (20: 118 - 119) وَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ السَّعَادَةِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِآدَمَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْقَبِيلَةِ، فَيُقَالُ: كَلْبٌ فَعَلَتْ كَذَا وَيُرَادُ قَبِيلَةُ كَلْبٍ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَذَا. يَعْنِي الْقَبِيلَةَ الَّتِي أَبُوهَا قُرَيْشٌ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالشَّجَرَةِ مَعْنَى الشَّرِّ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا عَبَّرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَقَامِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَنِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِشَجَرَةِ النَّخْلِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَبِالْهُبُوطِ مِنْهَا أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَأَمْرُ تَكْلِيفٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَوَّنَ النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَطْوَارِ التَّدْرِيجِيَّةِ الَّتِي قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (71: 14) فَأَوَّلُهَا طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ وَهِيَ لَا هَمَّ فِيهَا وَلَا كَدَرٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ، كَأَنَّ الطِّفْلَ دَائِمًا فِي جَنَّةٍ مُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ، يَانِعَةِ الثِّمَارِ جَارِيَةِ الْأَنْهَارِ، مُتَنَاغِيَةِ الْأَطْيَارِ، وَهَذَا مَعْنَى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَذِكْرُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِآدَمَ النَّوْعُ الْآدَمِيُّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّمُولِ وَعَلَى أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْمَرْأَةِ كَاسْتِعْدَادِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، فَأَمْرُ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالسُّكْنَى أَمْرُ تَكْوِينٍ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْبَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا هَكَذَا. وَأَمْرُهُمَا بِالْأَكْلِ حَيْثُ شَاءَا عِبَارَةٌ عَنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَإِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ تَهْدِي إِلَى قُبْحِهِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَهَذَانَ

الْإِلْهَامَانِ اللَّذَانِ يَكُونَانِ لِلْإِنْسَانِ فِي الطَّوْرِ الثَّانِي وَهُوَ طَوْرُ التَّمْيِيزِ هُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (90: 10) وَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالُهُ لَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةِ تِلْكَ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ فَتُقَوِّي فِيهَا دَاعِيَةَ الشَّرِّ، أَيْ إِنَّ إِلْهَامَ التَّقْوَى وَالْخَيْرِ أَقْوَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إِلَّا بِمُلَابَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ وَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ مِثَالٌ لِمَا يُلَاقِيهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ. وَأَمَّا تَلَقِّي آدَمَ الْكَلِمَاتِ وَتَوْبَتُهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَعْقُبُ الْأَفْعَالَ السَّيِّئَةَ، وَرُجُوعِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عِنْدَ الضِّيقِ وَالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ، وَتَوْبَةُ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ هِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنَ الضِّيقِ، وَالتَّفَلُّتِ مِنْ شَرَكِ الْبَلَاءِ، بَعْدَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَالِالْتِجَاءِ، وَذِكْرُ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ تَرُدُّ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنِ اعْتِقَادٍ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ سَجَّلَ مَعْصِيَةَ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِيهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عِيسَى وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْهَا وَهُوَ اعْتِقَادٌ تَنْبِذُهُ الْفِطْرَةُ، وَيَرُدُّهُ الْوَحْيُ الْمُحْكَمُ الْمُتَوَاتِرُ. فَحَاصِلُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَطْوَارَ الْفِطْرِيَّةَ لِلْبَشَرِ ثَلَاثَةٌ، طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ: وَهُوَ طَوْرُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَطَوْرُ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ: وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَطَوْرُ الرُّشْدِ وَالِاسْتِوَاءِ: وَهُوَ الَّذِي يَعْتَبِرُ فِيهِ بِنَتَائِجِ الْحَوَادِثِ، وَيَلْتَجِئُ فِيهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَهَكَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي أَفْرَادِهِ مِثَالًا لِلْإِنْسَانِ فِي مَجْمُوعِهِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : كَأَنَّ تَدَرُّجَ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ابْتَدَأَ سَاذَجًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، قَوِيمَ الْوِجْهَةِ، مُقْتَصِرًا فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ عَلَى الْقَصْدِ وَالْعَدْلِ، مُتَعَاوِنًا عَلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يُصِيبُهُ مِنْ مُزْعِجَاتِ الْكَوْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَصْرُ الَّذِي يَذْكُرُهُ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَيُسَمُّونَهُ بِالذَّهَبِيِّ. ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِ هَذَا النَّعِيمُ الْمُرَفِّهُ فَمَدَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ أَيْدِيَهُمْ إِلَى تَنَاوُلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، طَاعَةً لِلشَّهْوَةِ، وَمَيْلًا مَعَ خَيَالِ اللَّذَّةِ، وَتَنَبَّهَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِ سَائِرِهِمْ فَثَارَ النِّزَاعُ، وَعَظُمَ الْخِلَافُ، وَاسْتُنْزِلَ الشَّقَاءُ، وَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الثَّانِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ. ثُمَّ جَاءَ الطَّوْرُ الثَّالِثِ: وَهُوَ طَوْرُ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَتَحْدِيدُ حُدُودِ الْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الرَّغَبَاتِ، وَهُوَ طَوْرُ التَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ. (وَأَقُولُ الْآنَ) : إِنَّ تَوْبَةَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ بِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى

38

الْحَقِيقَةِ قَدْ كَانَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ وَاعْتِرَافِهِ مَعَ حَوَّاءَ بِظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَطَلَبِهِمَا الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْهُ - تَعَالَى -، لَا بِمُجَرَّدِ تَدَبُّرِ الْعَقْلِ وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ الْفِكْرِ. . . إِلَخْ، مَا قَالَهُ شَيْخُنَا هُنَا تَبَعًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ هُوَ فِي بَحْثِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ - مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ -: أَنَّ عَقْلَ الْبَشَرِ لَا يَسْتَقِلُّ بِوَضْعِ حُدُودِ لِلْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الْأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَشْرِيعٍ إِلَهِيٍّ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَزَ هُنَا فَتَرَكَ الْمَسْأَلَةَ مُبْهَمَةً مُظْلِمَةً، وَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ طَوْرَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ قَدْ بَلَغَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَقًى لَمْ يُعْرَفْ فِي التَّارِيخِ مَا يُقَارِبُهُ، وَوَضَعَ عُلَمَاؤُهُ وَحُكَمَاؤُهُ شَرَائِعَ وَقَوَانِينَ لِإِيقَافِ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ عِنْدَ حَدٍّ لَا يَتَفَاقَمُ شَرُّهُ، ثُمَّ نَرَى أَعْلَمَ هَذِهِ الْأُمَمِ وَدُوَلَهَا مَبْعَثَ الشُّرُورِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْخُبْثِ وَالرِّيَاءِ، وَالْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا هِدَايَةُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي تُذْعِنُ لَهُ الْأَنْفُسُ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى. (قَالَ) : وَبَقِيَ طَوْرٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ وَأَعْنِي بِهِ طَوْرَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الْهِدَايَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْهُبُوطِ مَرَّتَيْنِ، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْهُبُوطِ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الطَّوْرِ وَهُوَ أَنَّ حَالَهُمْ تَقْتَضِي الْعَدَاوَةَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمَتُّعَ بِهَا، وَعَدَمَ الْخُلُودِ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَآثَارِهِمَا، وَهِيَ أَنَّ حَالَةَ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا تَكُونُ عِصْيَانًا مُسْتَمِرًّا شَامِلًا، وَلَا تَكُونُ هُدًى وَاجْتِبَاءً عَامًّا - كَمَا كَانَ يُفْهَمُ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى آدَمَ وَهِدَايَتِهِ وَاجْتِبَائِهِ - وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ الْوَحْيَ وَيُعْلِمَهُمْ طُرُقُ الْهِدَايَةِ، فَمَنْ سَلَكَهَا فَازَ وَسَعِدَ، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَشَقِيَ، هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْهُبُوطِ لَا أَنَّهُ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا زَعَمُوا.

قَالَ - تَعَالَى -: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) أَيْ فَقَدِ انْتَهَى طَوْرُ النَّعِيمِ الْخَالِصِ وَالرَّاحَةِ الْعَامَّةِ وَادْخُلُوا فِي طَوْرٍ لَكُمْ فِيهِ طَرِيقَانِ: هُدًى وَضَلَالٌ، إِيمَانٌ وَكُفْرَانٌ، فَلَاحٌ وَخُسْرَانٌ (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) مِنْ رَسُولٍ مُرْشِدٍ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) الَّذِي أَشْرَعُهُ، وَسَلَكَ صِرَاطِي الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي أُحَدِّدُهُ (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِمَّا يَعْقُبُهَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْخُسْرَانِ (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّسْلِيمَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - وَيُوجِبُ مَثُوبَتَهُ، وَيَفْتَحُ لِلْإِنْسَانِ بَابَ الِاعْتِبَارِ بِالْحَوَادِثِ، وَيُقَوِّيهِ عَلَى مُصَارَعَةِ الْكَوَارِثِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرَ عِوَضٍ عَمَّا فَاتَهُ وَأَفْضَلَ تَعْزِيَةٍ عَمَّا فَقَدَهُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : الْخَوْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ، أَوْ تُوقِعِ حِرْمَانٍ مِنْ مَحْبُوبٍ يَتَمَتَّعُ بِهِ أَوْ يَطْلُبُهُ، وَالْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ إِذَا فَقَدَ مَا يُحِبُّ، وَقَدْ أَعْطَانَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الطُّمَأْنِينَةَ التَّامَّةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا تُحْدِثُهُ كَلِمَةُ (اهْبِطُوا) مِنَ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَمَا تُثِيرُهُ مِنْ كَوَامِنَ الرُّعْبِ، فَالْمُهْتَدُونَ بِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَخَافُونَ مِمَّا هُوَ آتٍ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهُدَى يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَيَعُدُّهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ وِجْهَتَهُ، يَسْهُلُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَسْتَقْبِلُهُ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا أَصَابَهُ أَوْ فَقَدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُوقِنٌ بِأَنَّ اللهَ يُخْلِفُهُ فَيَكُونُ كَالتَّعَبِ فِي الْكَسْبِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ بِلَذَّةِ الرِّبْحِ الَّذِي يَقَعُ أَوْ يُتَوَقَّعُ. وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الدِّينَ يُقَيِّدُ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَيَمْنَعُهُ بَعْضَ اللَّذَّاتِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى التَّمَتُّعِ بِهَا، وَيُحْزِنُهُ الْحِرْمَانُ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمَأْمَنُ مِنَ الْأَحْزَانِ، وَيَكُونُ بِاتِّبَاعِهِ الْفَوْزُ وَبِتَرْكِهِ الْخُسْرَانُ؟ فَجَوَابُهُ: إِنَّ الدِّينَ لَا يَمْنَعُ مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِصَابَتِهَا ضَرَرٌ عَلَى مُصِيبِهَا، أَوْ عَلَى أَحَدِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ الَّذِينَ يَفُوتُهُ مِنْ مَنَافِعِ تَعَاوُنِهِمْ - إِذَا آذَاهُمْ - أَكْثَرُ مِمَّا يَنَالُهُ بِالتَّلَذُّذِ بِإِيذَائِهِمْ، وَلَوْ تَمَثَّلَتْ لِمُسْتَحِلِّ اللَّذَّةِ الْمُحَرَّمَةِ مَضَارُّهَا الَّتِي تُعْقُبُهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي النَّاسِ، وَتَصَوَّرَ مَالَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي فَسَادِ الْعُمْرَانِ لَوْ كَانَتْ عَامَّةً، وَكَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُعْتَدِلَ الْفِطْرَةِ لَرَجَعَ عَنْهَا مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا كَدَرُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تُدَنِّسُ الرُّوحَ فَلَا تَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ!

39

(قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلَيْسَتْ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي حُرِّيَّةِ الْبَهَائِمِ بَلْ فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ وَمُحِيطِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَ هِدَايَةَ اللهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ تَمَتُّعًا حَسَنًا، وَيَتَلَقَّى بِالصَّبْرِ كُلَّ مَا أَصَابَهُ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ مَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يُصِيبَهُ فَلَا يَخَافُ وَلَا يَحْزَنُ. يُرِيدُ: أَنَّ رَجَاءَ الْإِنْسَانِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِيهِ مِنْ تَحَكُّمِ عَوَادِي الطَّبِيعَةِ فِيهِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ الرَّجَاءِ تَتَحَكَّمُ فِيهِ أَشَدَّ مِمَّا تَتَحَكَّمُ فِي الْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ طَبِيعَةً (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (4: 28) فَالْتِمَاسُ السَّعَادَةِ بِحَرِيَّةِ الْبَهَائِمِ هُوَ الشَّقَاءُ اللَّازِمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ الْحَسَنِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (11: 3) الْآيَةِ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مَعْلُولَةٌ لِلْاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ حَجَبَهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَافِرِينَ: لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ، يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُجَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَآيَاتُ سُورَةِ طَهَ فِي قِصَّةِ آدَمَ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ مِنْ آيَاتِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (20: 123 - 124) الْآيَاتِ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) (أَقُولُ) : الْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ: الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ مُلَازِمٌ لِشَيْءٍ بَاطِنٍ يُعْرَفُ بِهِ، وَيُدْرَكُ بِإِدْرَاكِهِ حِسِّيًّا كَانَ كَأَعْلَامِ الطُّرُقِ وَمَنَارِ السُّفُنِ، أَوْ عَقْلِيًّا كَالدَّلَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ اهـ بِالْمَعْنَى (قَالَ) : وَاشْتِقَاقُ الْآيَةِ إِمَّا مِنْ أَيْ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ أَيًّا مِنْ أَيْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّأَيِّي الَّذِي هُوَ التَّثَبُّتُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ اهـ. أَقُولُ: بَلْ أَصْلُهُ قَصْدُ آيَةِ الشَّيْءِ أَيْ شَخْصِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَتَأَيَّا الطَّيْرُ غُدْوَتَهُ ... ثِقَةً بِالشِّبَعِ مِنْ جُزُرِهِ أَيْ تَتَحَرَّى الطَّيْرُ وَتَقْصِدُ خُرُوجَهُ صَبَاحًا إِلَى الْقِتَالِ أَوِ الصَّيْدِ لِثِقَتِهَا بِمَا سَبَقَ مِنَ التَّجَارِبِ بِأَنْ تَسْتَشْبِعَ مِمَّا يَتْرُكُ لَهَا مِنَ الْفَرَائِسِ. وَأُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا سُوَرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَتَفْصِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَاصِلَةٌ يَقِفُ الْقَارِئُ عِنْدَهَا فِي تِلَاوَتِهِ، وَيُمَيِّزُهَا الْكَاتِبُ لَهُ بِبَيَاضٍ أَوْ بِنُقْطَةٍ دَائِرَةٍ أَوْ ذَاتِ نَقْشٍ أَوْ بِالْعَدَدِ، وَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْآيَاتِ بِفَوَاصِلِهَا التَّوْقِيفُ الْمَأْثُورُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا يُدْرَكُ مِنَ النَّظْمِ، وَالْآيَاتُ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا دَلَائِلٌ لَفْظِيَّةٌ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامُ وَالْآدَابِ

الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، كَمَا تَدُلُّ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا تَقْدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْبَشَرِ عَنْ مِثْلِهَا، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ - تَعَالَى - وَقُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْعُقُولِ وَبَرَاهِينِهَا، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ وَالْعِبَرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) . . . إِلَخْ، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا هُدَايَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُبَيِّنَةِ لِسَبِيلِ ذَلِكَ الْهُدَى - كَمَا قَالَ قَبْلَ قِصَّةِ آدَمَ: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) (2: 28) - أَوْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا اعْتِقَادًا، وَكَذَّبُوا بِهَا لِسَانًا، فَجَزَاؤُهُمْ مَا يَأْتِي، وَالتَّكْذِيبُ كُفْرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ اعْتِقَادٍ بِعَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ أَمْ مَعَ اعْتِقَادِ صِدْقِهِ وَهُوَ تَكْذِيبُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِهِ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (6: 33) كَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْقَلْبِيَّ قَدْ يُوجَدُ مَعَ تَصْدِيقِ اللِّسَانِ كَمَا هِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا بِالِاخْتِصَارِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي نَجْعَلُهَا دَلَائِلَ الْهِدَايَةِ وَحُجَجَ الْإِرْشَادِ بِأَنْ جَحَدُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِصِدْقِهَا اتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَعَمَلًا بِوَسْوَسَتِهِ وَذَهَابًا مَعَ إِغْوَائِهِ - (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ فِي آخِرِ (الْآيَةِ 25) وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْحَصْرِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْبُعَدَاءُ هُمْ - دُونَ مُتَّبِعِي هُدَايَ - أَصْحَابُ النَّارِ وَأَهْلُهَا هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، أَيْ هُمْ فِي خَوْفٍ قَاهِرٍ، وَحُزْنٍ مُسَاوِرٍ، وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الْآيَاتِ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ يَصِحُّ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ آيَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَسَائِرُ الْكُتُبِ تَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : بَعْدَ تَفْسِيرِ الْكُفْرِ بِالْجُحُودِ، وَالتَّكْذِيبِ بِالْإِنْكَارِ: وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْتِي فِي فِرَقٍ مِنَ النَّاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَقْوَى وَلَا إِيمَانَ لَهُ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ لِلنَّظَرِ فِيمَا جَاءَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَشْمَلُ عَدَمَ الِاعْتِقَادِ بِصِدْقِ الدَّعْوَى الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ وَاعْتِقَادَ كَذِبِهَا، وَالْجُحُودُ قَدْ يَأْتِي مِنَ الْمُعْتَقِدِ، قَالَ - تَعَالَى -: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) . فَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ مَا وُكِلَ إِلَى كَسْبِهِ، وَجُعِلَ فَلَاحُهُ وَخُسْرَانُهُ بِعَمَلِهِ؛ فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ أَيَّدَهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَبِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.

40

(يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَكَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَصْنَافِهِمْ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ التَّفَنُّنَ فِي مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ مُنْتَظِمَةٍ فِي سِلْكِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَخَصَائِصِهِ الْمُدْهِشَةِ الَّتِي لَمْ تَسْبِقُ لِبَلِيغٍ، وَلَنْ يَبْلُغَ شَأْوَهُ فِيهَا بَلِيغٌ، ذَكَرَ الْكِتَابَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَابْتَدَأَ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ بِهِ الْمُنْتَظِرِينَ لِلْهُدَى الَّذِي يُضِئُ نُورُهُ مِنْهُ، وَثَنَّى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَّثَ بِالْكَافِرِينَ، وَقَفَّى عَلَيْهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِفِرَقِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ، ثُمَّ طَالَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِعِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى كَوْنِ الْكِتَابِ مُنَزَّلًا مِنَ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَحَدَّى الْمُرْتَابِينَ بِمَا أَعْجَزَهُمْ، ثُمَّ حَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَبَشَّرَ وَوَعَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ وَالْقُدْوَةَ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ حَاجَّ الْكَافِرِينَ، وَجَاءَهُمْ بِأَنْصَعِ الْبَرَاهِينِ، وَهُوَ إِحْيَاؤُهُمْ مَرَّتَيْنِ وَإِمَاتَتُهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِمَنَافِعِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَبَيَّنَ أَطْوَارَهُ، ثُمَّ طَفِقَ يُخَاطِبُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا النُّبُوَّةُ تَفْصِيلًا، فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ الْيَهُودِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَذْكُرُهُ، وَالْكَلَامُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا التَّنْوِيعِ عَنِ انْتِظَامِهِ فِي سِلْكِهِ، وَحُسْنِ اتِّسَاقِهِ فِي سَبْكِهِ، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ فِي فَلَكِهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُرْسَلُ بِهِ، وَحَالُهُ مَعَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، قَالَ - تَعَالَى -: (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (أَقُولُ) : إِسْرَائِيلُ لَقَبُ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ ابْنِ نَبِيِّهِ إِسْحَاقَ ابْنِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللهِ. وَالْمُرَادُ بِبَنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ أَسْبَاطِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُهُ فِي كُتُبِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ كُلَّهَا بِاسْمِ جَدِّهَا الْأَعْلَى. وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَوَّلَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطُّوَلِ، وَكَانَ جُلُّ يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي جِوَارِهَا دَعَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَامَ

عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَتَارِيخِ سَلَفِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ وَطَنِهِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي سِيَاقِ دَرْسِهِ مَا مِثَالُهُ: ((اخْتَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ الشُّعُوبِ الْحَامِلَةِ لِلْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِأَنَّ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَقْوَى مِمَّا فِي دُخُولِ النَّصَارَى مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَطْلَقَهَا فِي التَّذْكِيرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا هِيَ نِعْمَةُ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ زَمَنًا طَوِيلًا (أَوْ أَعَمُّ) وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ شَعْبَ اللهِ كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقَبَةَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَكَانُوا بِهَا مُفَضَّلِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ لِلَّهِ شُكْرًا، وَأَشَدَّهُمْ لِنِعْمَتِهِ ذِكْرًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا النِّعْمَةَ حُجَّةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَسَبَبَ إِيذَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللهِ - تَعَالَى - مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - خِطَابَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بَعْدَهُ، فَقَالَ: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ يُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِ مَتَى قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ؛ أَيْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ شَعْبًا جَدِيدًا. هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْخَاصُّ الْمَنْصُوصُ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْعَهْدِ عَهْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّرَوِّي، وَوَزْنُ كُلِّ شَيْءٍ بِمِيزَانِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، لَا بِمِيزَانِ الْهَوَى وَالْغُرُورِ، وَلَوِ الْتَفَتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْعَامِّ، أَوْ إِلَى تِلْكَ الْعُهُودِ الْخَاصَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي كِتَابِهِمْ، لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ مَعَهُ وَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فَإِنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَهْدِ الْخَاصِّ فَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْرِ عُمُومِ الْعَهْدِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ عَهْدُ اللهِ وَأَمَّا عَهْدُهُمْ فَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَخَفْضُ الْعَيْشِ فِيهَا، هَذَا هُوَ الشَّائِعُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ وَعَدَهُمْ أَيْضًا بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا الْإِشَارَاتِ وَلِذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ: إِنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي فَشَا تَرْكُهُ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَوْفُ بَعْضِهِمْ مِنْ

بَعْضٍ لِمَا بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ فَوْتَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَنُزُولَ بَعْضِ الْمَضَارِّ بِكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُ الْجَمَاهِيرَ وَاتَّبَعْتُمُ الْحَقَّ فَالْأَوْلَى أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَرْهَبُوا إِلَّا مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْمَنَافِعِ كُلِّهَا، وَهُوَ اللهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى أَوِ النِّعَمِ كُلِّهَا، وَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى سَلْبِهَا، وَعَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، فَارْهَبُوهُ وَحْدَهُ لَا تَرْهَبُوا سِوَاهُ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِعُمُومِ الْعَهْدِ إِلَى الْعَهْدِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنَ السِّيَاقِ فَقَالَ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) مِنْ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا مِنَ الْإِرْشَادِ الْمُوصِلِ إِلَى السَّعَادَةِ، فَإِذَا نَظَرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ وَوَجَدْتُمُوهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَأُصُولِهِ وَوُعُودِ الْأَنْبِيَاءِ وَعُهُودِهِمْ، تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ بِمَا سَبَقَهُ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحَقِّ، وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ، بَعْدَمَا طَرَأَ مِنْ ضَلَالَةِ التَّأْوِيلِ وَجَهَالَةِ التَّقْلِيدِ، فَبَادِرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا) إِعْجَازُهُ (وَثَانِيهُمَا) كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أَيْ وَلَا تُبَادِرُوا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ وَالْجُحُودِ لَهُ مَعَ جَدَارَتِكُمْ بِالسَّبْقِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقْصَدُ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِيهِ حَقِيقَتُهَا. وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْيَهُودِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) الْآيَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) (2: 16) أَيْ لَا تُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَتَسْتَبْدِلُوا بِهِدَايَتِهِ هَذَا الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَهُوَ مَا يَسْتَفِيدُهُ رُؤَسَاؤُكُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ أَوْقَعَاهُمْ فِي الْكِبْرِ، وَمَا يَتَوَقَّعُهُ الْمَرْءُوسِينَ مِنَ الزُّلْفَى وَالْحُظْوَةِ بِتَقْلِيدِ الرُّؤَسَاءِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَمَا يَخْشَوْنَهُ إِذَا خَالَفُوهُمْ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْجَزَاءُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْحَقَّ قَلِيلٌ وَحَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا وَصَاحِبُهُ يَخْسَرُ عَقْلَهُ وَرُوحَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَاتِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ عِزَّ الْحَقِّ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الْعَظِيمِ وَحُسْنِ الْعَافِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ مَرْضَاةَ اللهِ - تَعَالَى - وَتَحُلُّ بِهِ نِقَمُهُ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِشِبْهِ مَا خَتَمَ بِهِ مَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وَلَيْسَ فِي هَذِهِ مَعَ سَابِقَتِهَا تَكْرَارٌ وَلَا شِبْهَ تَكْرَارٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ، فَقَدْ حَلَّ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَحِلَّهُ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْبَاطِلِ بِالْحَقِّ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ لِاتِّقَاءِ الرَّئِيسِ فَوْتَ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْمَرْءُوسِ، وَاتِّقَاءِ الْمَرْءُوسِ غَضَبَ الرَّئِيسِ، فَدَحَضَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَجَوَارِحُهُمْ، وَهُوَ الْمُسَخِّرُ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

42

ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْلَكَهُمْ فِي الْغَوَايَةِ وَالْإِغْوَاءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِهِمُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ، وَجَاءَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ - تَعَالَى - يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ بِهِ أُمَّةً، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ (هَاجَرَ) وَبَيَّنَ عَلَامَاتِهِ بِمَا لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَلْبِسُونَ عَلَى الْعَامَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَعَتَتْهُمُ الْكُتُبُ بِالْكَذَبَةِ (حَاشَاهُ) وَيَكْتُمُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ نُعُوتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى سِوَاهُ، وَمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ وَمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَكْمَلِ الْمَظَاهِرِ. وَمِنَ اللَّبْسِ أَيْضًا مَا يَفْتَرِيهِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَحْبَارُ فَيَكُونُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ عَنْ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ، وَهُوَ لَبْسُ أُصُولِ الدِّينِ بِالْمُحْدَثَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي زَادُوهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ أَعْلَمُ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لَهُمْ، فَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا يَقُولُونَ دُونَ مَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ كَلَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْعُذْرَ مِنْهُمْ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَكِتْمَانَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ترْكَ كِتَابِهِ لِكَلَامِ الرُّؤَسَاءِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَفَهْمًا، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْفَهْمِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مِنْهُ لِيَعْلَمَ فَيَعْمَلَ. ثُمَّ قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فَبَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ الْمُرْضِي لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانُوا ضَلُّوا عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الرُّسُومِ، فَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ مُقَوَّمًا كَامِلًا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْقَلْبِ وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُّرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ تُشْرَعْ لِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَتَغَيَّرُ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ؛ لِأَنَّهَا رَابِطَةٌ مُذَكِّرَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الرُّوحَ لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي دِينٍ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الرُّوحَ وَتُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ وَمَظْهَرُ شُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ وَالصِّلَةُ الْعَظِيمَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ قَرْنُ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الزَّكَاةِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ لَا يَنْسَى اللهَ - تَعَالَى - وَلَا يَغْفُلُ عَنْ فَضْلِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. مُوَاسَاةً لِعِيَالِهِ، وَمُسَاعَدَةً عَلَى مَصَالِحِهِمُ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنَ النَّاسِ بِحِذْقِهِ وَعَمَلِهِ مَعَهُمْ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ

غَنِيًّا إِلَّا بِهِمْ وَمِنْهُمْ، فَإِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْكَسْبِ لِآفَةٍ فِي فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي بَدَنِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ الْأَخْذُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُ حِفْظًا لِلْمَجْمُوعِ الَّذِي تَرْتَبِطُ مَصَالِحُ بَعْضِهِ بِمَصَالِحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْغَنِيَّ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى الْفَقِيرِ كَمَا أَنَّ الْفَقِيرَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَمْرَضُ فَتَغْفُلُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْفَقِيرِ وَالضَّعِيفِ مُبَالَغَةً وَغُلُوًّا فِي حُبِّ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ كَمَا يَقُولُونَ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللهُ بَذْلَ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقَ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقَ وَالْكُفْرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْآيَاتِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْبُخْلَ - وَمَنْبَعُهُ الْقَسْوَةُ عَلَى عِبَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ اسْتِرْسَالًا فِي الشَّهَوَاتِ وَمَيْلًا مَعَ الْأَهْوَاءِ - لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ قَطُّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَالرُّكُوعُ صُورَةُ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ أَخَّرَهُ وَلَمْ يَصِلْهُ بِالصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ لَا رِعَايَةَ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْرَضُ فِيهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، بَلْ هَذَا لَا يَرْتَضِيهِ الْبُلَغَاءُ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى -؟ وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ مُرَتَّبَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ - تَعَالَى -؛ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا رُوحُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَيَلِيهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى زَكَاةِ الرُّوحِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَهُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ الْبَدَنِيَّةِ أَوْ بَعْضُ صُورَتِهَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ فَرْضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِسَابِقَيْهِ وَمَا هُوَ بِعِبَادِهٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً لِأَنَّهُ يُؤَدَّى امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِظْهَارًا لِخَشْيَتِهِ، وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ عَادَةً لَا يُلَاحَظُ فِيهَا امْتِثَالٌ وَلَا إِخْلَاصٌ فَلَا يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا، وَإِنْ عَدَّهُ أَهَّلُ الرُّسُومِ كُلَّ شَيْءٍ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا بِالزَّكَاةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الزَّكَاةِ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.

44

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللهَ ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، وَأَنْ يَرْهَبُوهُ وَيَتَّقُوهُ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَأَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَأَنْ يَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيَكْتُمُوهُ عَمْدًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَطَفِقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى سِيرَتِهِمُ الْمُعْوَجَّةِ فِي الدِّينِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْخُرُوجِ مِنْهَا. الْيَهُودُ كَسَائِرِ الْمِلَلِ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِكِتَابِهِمْ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى أَحْكَامِهِ وَالْقِيَامَ بِمَا يُوجِبُهُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَلَّمَنَا أَنَّ مِنَ الْإِيمَانِ - بَلْ مِمَّا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ إِيمَانًا - مَا لَا يُعْبَأُ بِهِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وَكَانَتِ الْيَهُودُ فِي عَهْدِ بِعْثَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ وَصَلُوا فِي الْبُعْدِ عَنْ جَوْهَرِ الدِّينِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. كَانُوا - وَلَا يَزَالُونَ - يَتْلُونَ الْكِتَابَ تِلَاوَةً يَفْهَمُونَ بِهَا مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ، وَيُجِلُّونَ أَوْرَاقَهُ وَجِلْدَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرْضَاهُ - تَعَالَى -، يَتْلُونَ أَلْفَاظَهُ وَفِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَأْمُرُونَ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ الْقَارِئِينَ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ مَا كَانُوا يُبَيِّنُونَ مِنَ الْحَقِّ إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ، وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُعَارِضْ حُظُوظَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ؛ فَقَدْ عَهِدَ اللهُ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُقِيمُ مِنْ إِخْوَتِهِمْ نَبِيًّا يُقِيمُ الْحَقَّ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا

يُحَرِّفُونَ الْبِشَارَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤَوِّلُونَهَا. وَيَحْتَالُونَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَيَمْنَعُونَهَا، وَجُعِلَتْ لَهُمْ مَوَاسِمُ وَاحْتِفَالَاتٌ دِينِيَّةٌ تُذَكِّرُهُمْ بِمَا آتَى اللهُ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا مَنَحَهُمْ مِنَ النِّعَمِ؛ لِيَنْشَطُوا إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ قَسَتْ بِطُولِ الْأَمَدِ فَفَسَقَتِ النُّفُوسُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا. وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَا تَزَالُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَلَوْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ وَالْحَثِّ عَلَى الْخَيْرِ لَاعْتَرَفُوا وَمَا أَنْكَرُوا، وَلَكِنْ أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَقْوَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ؟ كَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ ظَوَاهِرِ الدِّينِ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ الْعِبَادَاتِ الْعَامَّةَ وَالِاحْتِفَالَاتِ الدِّينِيَّةَ وَبَعْضَ الْأُمُورِ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَالِ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَمْسِكُ مِنْهُمْ بِدِينِهِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَى الْأَحْبَارِ فَيُقَلِّدُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُ بِهِ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ بِمَا يَرَوْنَهُ صَوَابًا فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ هَوًى، وَإِلَّا لَجَئُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْحِيلَةِ لِيَأْخُذُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيُصِيبُ الْغَرَضَ، فَإِذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إِلَى حَمَلَةِ الْكِتَابِ فَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَظِيفَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَذَاكَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ بِالْإِجْمَالِ كَشَأْنِ الرُّؤَسَاءِ فِيمَا يَعْرِفُونَ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَحُثُّ عَلَى بِرٍّ، فَإِذَا كَانَ الْآمِرُ لَا يَأْتَمِرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ. وَبَّخَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ كَالْأَخْذِ بِالْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ لِأَهْلِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ عَلَيْهِ بِالسَّعَادَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَدَمِ تَذْكِيرِهَا بِذَلِكَ، وَمَا أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِسْيَانِ الْأَنْفُسِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَلَّا يَنْسَى نَفْسَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَسْبِقَهُ أَحَدٌ إِلَى السَّعَادَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِوَعْدِ الْكِتَابِ عَلَى الْبِّرِ، وَوَعِيدِهِ عَلَى تَرْكِهِ، فَكَيْفَ نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) وَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَعْرِفُونَ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَأْمُورُونَ؟ أَفَيَعْلَمُونَ مَعَ نَقْصِ الْعِلْمِ بِفَائِدَةِ الْعَمَلِ وَلَا تَعْمَلُونَ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَسَعَتِهِ؟ وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْقُولٍ قَفَّى عَلَى اسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) . يَعْنِي أَلَا يُوجَدُ فِيكُمْ عَقْلٌ يَحْبِسُكُمْ عَنْ هَذَا السَّفَهِ؟ فَإِنَّ مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ لَا يَدَّعِي كَمَالَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانَ الْيَقِينِيَّ بِهِ وَالْقِيَامَ بِالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ: هَذَا كِتَابُ اللهِ، هَذِهِ وَصَايَا اللهِ، هَذَا أَمْرُ اللهِ، قَدْ وَعَدَ الْعَامِلَ بِهِ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَخُذُوا بِهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِعُرَاهُ، وَحَافِظُوا عَلَيْهِ - ثُمَّ هُوَ لَا يَعْمَلُ وَلَا يَسْتَمْسِكُ؟ . مَثَلُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَمَامَهُ طَرِيقٌ مُضِئٌ نُصِبَتْ فِيهِ الْأَعْلَامُ وَالصُّوَى بِحَيْثُ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، ثُمَّ هُوَ يَسْلُكُ طَرِيقًا آخَرَ مُظْلِمًا طَامِسَ الْأَعْلَامِ وَكُلَّمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ

شَخْصًا نَصَحَ لَهُ أَلَّا يَمْشِيَ مَعَهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَهُ، أَوْ مَثَلِ سَاغِبٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْمَائِدَةِ الشَّهِيَّةِ، وَيَبِيتُ عَلَى الْجُوعِ وَالطَّوَى، أَوْ صَادٍ يَدُلُّ الْعِطَاشَ عَلَى مَوْرِدِ الْمَاءِ وَلَا يَرِدُ مَعَهُمْ. إِذَا كَانَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ صَحِيحِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ بِشُعَبِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الِائْتِمَارِ بِهَا، مَعَ تَذَكُّرِهَا وَتِلَاوَةِ كَلَامِ اللهِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ لِتَعْقِلَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْوَعْدِ عَلَى الْبِرِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفُجُورِ غَيْرُ يَقِينِيٍّ عِنْدَ الْآمِرِ الْمُخَالِفِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُقَلَاءَ فِي كَسْبِ الْمَالِ وَحِفْظِ الْجَاهِ الدُّنْيَوِيِّ وَإِنَّمَا ضَلُّوا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ بِأَخْذِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. الْخِطَابُ عَامٌّ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ هَذَا حَالَهُمْ، وَعِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ مُنْبِئٌ عَنْ حَالٍ طَبِيعِيَّةٍ لِلْأُمَمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الطَّوْرِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ هِدَايَةً لِلْعَالَمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، لَا حِكَايَةَ تَارِيخٍ يُقْصَدُ بِهَا هِجَاءَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَلْتُحَاسِبْ أُمَّةٌ نَفْسَهَا فِي أَفْرَادِهَا وَمَجْمُوعِهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ حَالُهَا كَحَالِ مَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِمْ، فَيَكُونَ حُكْمُهَا عِنْدَ اللهِ كَحُكْمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، لَا لِمُحَابَاةِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَقْوَامِ أَوْ مُعَادَاتِهِمْ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّكِلًا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ، كَالْأَذْكَارِ وَالصَّدَقَاتِ، لَا أَنَّهُ يَتْرُكُ لِعَدَمِ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْبَرِّ مَعَ هَذَا فَذَاكَ لِأَنَّهُ يُلَاحِظُ الْمُكَفِّرَاتِ فِي شَأْنِ نَفْسِهِ وَلَا يُلَاحِظُهَا فِي شَأْنِ غَيْرِهِ (نَقُولُ) : إِنَّ الْعَالِمَ بِالدِّينِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ عَامٌّ، فَكَيْفَ يُحَتِّمُ الْبِرَّ عَلَى غَيْرِهِ وَيُوهِمُهُ أَنَّهُ لَا يُقَرِّبُهُ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ سَخَطِهِ إِلَّا هُوَ، وَيَنْسَى نَفْسَهُ فَلَا يُحَتِّمُ عَلَيْهَا ذَلِكَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَجْهَلُ أَنَّ الشَّفَاعَاتِ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُثَبِّطَةً عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ أَوْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الدِّينِ؟ فَهَلْ يَكُونُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ هَادِمًا لِأُصُولِهِ وَسَائِرِ فُرُوعِهِ؟ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الْعَالِمِ بِالدِّينِ الَّذِي يَتْلُو كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْخِذْلَانِ يَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَدْيَانِ عِنْدَ فَسَادِ حَالِ الْأُمَمِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ اللَّطِيفِ وَهُوَ نِسْيَانُ النَّفْسِ مَعَ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّ الزَّاعِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْإِيمَانِ، نَسِيَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْعُمُ الْإِيمَانَ، وَصَاحِبُ هَذَا النِّسْيَانِ يَمْضِي فِي الْعَمَلِ الْقَبِيحِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ بَلِ انْبِعَاثًا مَعَ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي حَكَّمَهَا فِي نَفْسِهِ، وَمَلَّكَهَا زِمَامَ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُلَاحِظُهَا فِي غَيْرِهِ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ السَّيِّئَ أَوْ يَرَاهُ مُعْرِضًا عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ؛ وَلِذَلِكَ يَعِظُهُ وَيَذُمُّهُ. بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُوءَ حَالِهِمْ، وَأَنَّ عَقْلَهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ وَالْكِتَابَ لَمْ يُذَكِّرْهُمْ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِلْانْتِفَاعِ بِالْكِتَابِ وَالْعَقْلِ، وَالْعَمَلِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئَ الَّذِي سَبَبُهُ نِسْيَانُ

45

النَّفْسِ لَيْسَ طَبِيعِيًّا كَالنَّفْسِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَمُقَاوَمَتُهُ، بَلْ هُوَ اخْتِيَارِيٌّ وَسَبَبُهُ عَارِضٌ تُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِمَا أَرْشَدَ اللهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمْرٌ بِالصَّبْرِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَكْرَهُ. وَنَقُولُ بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ: هُوَ احْتِمَالُ الْمَكْرُوهِ بِنَوْعٍ مِنَ الرِّضَى وَالِاخْتِيَارِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ كَمَا يَقُولُ الْعَامَّةُ فِي أَمْثَالِهِمْ. . . وَذَكَرَ مَثَلًا بِمَعْنَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: صَبَرْتُ وَلَا وَاللهِ مَا لِيَ طَاقَةٌ ... عَلَى الصَّبْرِ، وَلَكِنِّي صَبَرْتُ عَلَى الرَّغْمِ وَالصَّبْرُ الْحَقِيقِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ يَحْصُلُ بِتَذَكُّرِ وَعْدِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلصَّابِرِينَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَعَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَصْبُو إِلَيْهَا، وَبِتَذَكُّرِ أَنَّ الْمَصَائِبَ مِنْ فِعْلِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ؛ فَيَجِبُ الْخُضُوعُ لَهُ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِهِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ هَذَا الصَّبْرِ أَنَّهُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْخُسْرَانِ مَتَى حَسُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا تُفِيدُهُ سُورَةُ (الْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُهُ الِاخْتِبَارُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ " مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ " وَرُبَّمَا أَتَيْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى الصَّبْرِ وَأَنَّهُ قُوَّةٌ مَنْ قُوَى النَّفْسِ تُدْخِلَ النِّظَامَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ تَكُونُ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَأْفِكُ النَّاسَ وَتَصْرِفُهُمْ عَنْ صِرَاطِ الشَّرِيعَةِ كَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَالْوَلُوعِ بِاللَّذَّاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُؤَلِّمَاتِ، ثُمَّ الْقِيَاسِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا رَغِبَ اللهُ فِيهِ، أَوْ أَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلِهِ، بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ أَوْلَى بِأَنْ يُتَّقَى، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ يُرْجَى وَيُطْلَبُ، وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ لِمَنْ يَفْقِدُونَ الصَّبْرَ فَيَقَعُونَ فِي الْخُسْرَانِ مَثَلًا: صَاحِبُ الْحَاجَةِ يَهُزُّهُ الطَّيْشُ وَالتَّسَرُّعُ إِلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَيَفْقِدُ الصَّبْرَ عَلَى مَرَارَتِهَا فَيَكْذِبُ لِاعْتِقَادِ أَنَّ حَاجَتَهُ تُقْضَى فَيَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ أَوْ يَجْلِبُ الْمَنْفَعَةَ بِالْكَذِبِ، وَأَنَّهُ بِالصِّدْقِ يَفُوتُهُ هَذَا، فَيَقْتَرِفُ جَرِيمَةَ الْكَذِبِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ ظَانٌّ بَلْ وَاهِمٌ، وَمَتَى اقْتَرَفَهُ مَرَّةً هَانَ عَلَيْهِ، فَيَعُودُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ كَذَّابًا (وَمَتَى عُرِفَ بِذَلِكَ ضَاعَتِ الثِّقَةُ بِهِ وَفَسَدَ حَالُهُ، وَأَصْبَحَ يَجِدُ الْحَاجَةَ إِلَى الصِّدْقِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ مِنْهَا إِلَى الْكَذِبِ) وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَدِيثُ ((لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِذَا ذُكِّرَ مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ تَذَكَّرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ الْوَعِيدَ عَلَى الْكَذِبِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللهِ وَآثَارٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا يَجْلِبُهُ لِصَاحِبِهِ مِنْ مَقْتِ اللهِ وَغَضَبِهِ، يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ الْمُكَفِّرَاتُ (وَمِثْلُهَا الشَّفَاعَاتُ وَسَعَةُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ) كَالِاسْتِغْفَارِ قَبْلَ النَّوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَقَوْلُ كَذَا مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً فَلَا يَبْقَى لِلْوَعِيدِ مَعَهَا أَثَرٌ، إِذْ يُذْعِنُ بِأَنَّ ذَنْبَهُ يُغْفَرُ لَا مَحَالَةَ، وَيَنْسَى سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -،

وَأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ غَيْرِ التَّائِبِ الْأَوَّابِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَجْهُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِنَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا، فَإِنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - فَنَعْلَمْ أَنَّنَا مِمَّنْ يَعْفُو عَنْهُمْ. (وَكَيْفَ نَتْرُكُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ مُسَجَّلَةٌ عَلَى الْكَاذِبِينَ، وَهِيَ بِعُمُومِهَا لَا تَدَعُ لِوَهْمٍ مَجَالًا فِي نُزُولِ سَخَطِ اللهِ بِالْكَاذِبِ، ثُمَّ نَخْتَرِعُ لِأَنْفُسِنَا تَعِلَّةً نَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فِي ارْتِكَابِ هَذِهِ الْجَرِيرَةِ وَنُسْنِدُهَا إِلَى سَعَةِ عَفْوِ اللهِ، أَوْ إِلَى مُجْمَلٍ مِنَ الْقَوْلِ لَا يُبَيِّنُهُ إِلَّا تِلْكَ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ؟ إِنْ هَذَا إِلَّا خَبَالٌ أَوْ تَصْوِيرُ خَيَالٍ، أَوْ فَقْدٌ لِلْإِيمَانِ بِصِحَّةِ تِلْكَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ. نَعُوذُ بِاللهِ) . (وَأَقُولُ) : إِنَّمَا جَعَلَ شَيْخُنَا جَرِيمَةَ الْكَذِبِ مَثَلًا لِاسْتِبَاحَةِ فَاسِدِي الدِّينِ لِلْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ الْعَامِّ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَشَرُّ الرَّذَائِلِ، حَتَّى إِنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَغْلِبُ الْمَرْءَ عَلَيْهِ ثَوْرَةُ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةُ شَهْوَةٍ، بَلْ يُقْتَرَفُ بِالتَّرَوِّي وَالتَّعَمُّدِ، وَلِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ عَامٌّ فَاشٍ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا هَذَا حَتَّى الْعُلَمَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّنَا سَمِعْنَا بِآذَانِنَا وَقَرَأْنَا وَرُوِّينَا عَنْ أَعْدَاءِ الْإِصْلَاحِ وَأَهْلِهِ مِنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى دُعَاتِهِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ عُقُولُنَا لَهُ تَأْوِيلًا إِلَّا بِمَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْخَبَالِ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّتِي فَسَدَتْ فِطْرَتُهَا أَوْ مِنْ فَقْدِ الْإِيمَانِ بِصِحَّةِ النُّصُوصِ، إِمَّا فَقْدًا تَامًّا عَامًّا، وَإِمَّا فَقْدًا خَاصًّا بِالْحَالِ الَّتِي يَفْتَرُونَ فِيهَا الْكَذِبَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْجَرَائِمِ عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) . . . إِلَخْ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ لَهُ. وَوَجْهُ الْعَجَبِ وَالْغَرَابَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَذِبِ: أَنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ انْتِصَارٌ لِلدِّينِ وَدِفَاعٌ عَنْهُ وَهُوَ هَدْمٌ لَهُ. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَثَلَ مَنْ يَقْتَرِفُ السَّيِّئَاتِ مُعْتَمِدًا عَلَى الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، كَمَثَلِ مَنْ يَرْتَكِبُ الْجَرَائِمَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ وَعَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ مُتَعَرِّضًا لِقَبْضِ الشُّرْطَةِ عَلَيْهِ وَسَوْقِهِ إِلَى الْمَحْكَمَةِ لِتَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِقُوبَةِ الْجَرِيمَةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْأَمِيرَ أَوِ السُّلْطَانَ قَدْ يَعْفُو عَنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَمَثَلُ هَذَا لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي حُمْقِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ بَيَّنَ لَنَا شَرْطَ نَفْعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَهُوَ اقْتِرَانُهَا بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (40: 7) الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا) (25: 71) وَقَوْلِهِ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (20: 82) وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَحَسْبُكَ قَوْلُهُ فِيهَا: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَرْضَى بِالْكَذِبِ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَمَنْ يَأْذَنُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَعْلَمُهُمْ غَيْرُهُ - عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْتَفِي بِالِاعْتِذَارِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَجَرَائِمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَذَكَرَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُمْ فِي الدِّينِ قَدَمَ صِدْقٍ، وَقَالَ: إِنَّ

مَنْ هَذَا رَأْيُهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الصِّدْقَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ شَأْنُ طَائِفَةٍ مَعْدُودَةٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، وَيَكْتَفِيَ بِهَذِهِ التُّكَأَةِ فِي تَسْلِيَةِ نَفْسِهِ وَتَجْرِيئِهَا عَلَى الْجَرَائِمِ. وَكَفَى بِهَذَا حُمْقًا، فَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ غَيْرِ النَّبِيِّ لَيْسَ مَعْصُومًا أَنْ يَكُونَ إِلْفَ مَآثِمَ، وَحِلْفَ جَرَائِمَ، وَخِدْنَ عَظَائِمَ، وَلَوْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ هَكَذَا لَكَانَتِ الشَّرَائِعُ عَبَثًا، وَالتَّهْذِيبُ لَغْوًا، وَلَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَ الْعُمْرَانُ. (وَهَلْ يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الشَّرَائِعَ وَالْحُدُودَ وَضُرُوبَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يُنْعِمِ اللهُ بِتَشْرِيعِهَا إِلَّا لِأَجْلِ الْمَعْصُومِينَ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْصُومُ إِلَى وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ؟ وَمَا فَائِدَتُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَيْقَنَ بِتَوْفِيقِ اللهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَمْرًا يُخَالِفُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَقْتَرِفُ شَيْئًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِينَ نَصِيبٌ فِي الْوَعِيدِ وَلَا الزَّجْرِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالرَّدْعِ وَأَحْوَجُهُمْ إِلَى التَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ؟) . وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّلَاةِ فَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَأْمُولِ؛ وَإِرْجَاعِ النَّفْسِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الرُّوحِ، وَلَكِنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) أَيْ: لَثَقِيلَةٌ شَدِيدَةُ الْوَقْعِ كَقَوْلِهِ: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (42: 13) إِلَّا عَلَى الْمُخْبِتِينَ الْمُتَطَامِنَةِ قُلُوبُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ لِلَّهِ - تَعَالَى -؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَفِيدُونَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَكُلِّ الْخَلَائِقِ الْحَسَنَةِ، لِمَا تُعْطِيهِ الصَّلَاةُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى -، كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) فَمِنْ خَوَاصِّ الصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَنَفْيِ الْجَزَعِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا النَّهْيُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا الْجُودُ وَالسَّخَاءُ، فَالْمُصَلِّي الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْبَارُّ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَجْلِ شَهْوَةٍ، وَلَا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ فِي مُعَامَلَاتِهِ مَعَ الْخَلْقِ مِنْ خَوْفٍ وَخَشْيَةٍ، هَذَا أَثَرُ صَلَاةِ الْخَاشِعِينَ بِالْإِجْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (23: 1، 2) . ثُمَّ وَصَفَ الْخَاشِعِينَ وَصْفًا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَيُظْهِرُ وَجْهَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فَقَالَ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَيْ: الَّذِينَ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ اللهِ - تَعَالَى - يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، بَعْدَ الْبَعْثِ لَا مَرْجِعَ لَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ شَيْخُنَا: فَالْإِيمَانُ بِلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُوقِفُ الْمُعْتَقِدَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاعْتِقَادُ يَقِينِيًّا، فَإِنَّ الَّذِي يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ ضَارٌّ يَجْتَنِبُهُ أَوْ أَنَّهُ نَافِعٌ يَطْلُبُهُ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الظَّنِّ، وَقَدْ فَسَّرَ الظَّنَّ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُنْجِي فِي الْآخِرَةِ، وَفَاتَهُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ

47

يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ لَا يَصِلُ إِيمَانُهُمْ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ الَّذِي يَأْخُذُ صَاحِبُهُ بِالِاحْتِيَاطِ. (أَقُولُ) : بَلْ هُوَ تَقْلِيدٌ عَادِيٌّ مَحْضٌ كَالْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ فَهُوَ لَا يُنْجِي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ. (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) تَقَدَّمَ تَذْكِيرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنِّعْمَةِ فِي آيَةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ، وَبِالْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ مِنْهُ وَالرَّهْبَةِ لَهُ وَحْدَهُ. (وَهِيَ آيَةُ 40) وَتَلَاهَا آيَاتٌ أَمَرَهُمْ فِيهَا بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَنَهَاهُمْ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى نِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبِرِّ مَعَ أَمْرِهِمْ لِلنَّاسِ بِهِ وَتِلَاوَتِهِمُ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي لَوْ سَلَكُوهَا عُوفُوا مِنْ هَذَا النِّسْيَانِ، تِلْكَ الطَّرِيقُ هِيَ: الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الَّتِي فَقَدُوهَا بِفَقْدِ رُوحِهَا، وَهُوَ: الْإِخْلَاصُ وَالْخُشُوعُ، وَبَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُجْمَلَةٌ وَالْإِجْمَالُ يُنَبِّهُ الْفِكْرَ إِلَى الذِّكْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا تَلَاهُ التَّفْصِيلُ وَالْبَيَانُ كَانَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ تَامٍّ لِكَمَالِ الْفَهْمِ (فَيَكُونُ التَّذَكُّرُ أَتَمَّ وَالتَّأَثُّرُ أَقْوَى، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ أَرْجَى) . ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ، وَتَفْضِيلَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى النَّاسِ، إِحْيَاءً لِشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَوَصْلِهِ بِالْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ حَكِيمٌ فِي الْوَعْظِ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ وَاعِظٍ أَنْ يَبْدَأَ وَعْظَهُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الشَّرَفِ وَشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْعُوظِينَ لِتَسْتَعِدَّ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ (وَتَجِدَ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ مَعُونَةً مِنَ الْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ عَلَى عَوَامِلِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ كَرَامَتَهَا وَعُلُوَّهَا إِلَى مَا فِي الرَّذَائِلِ مِنَ الْخِسَّةِ أَبَى لَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ - شُعُورُ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ - أَنْ تَنْحَطَّ إِلَى تَعَاطِي تِلْكَ الْخَسَائِسِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْوَسَائِلِ لِمُسَاعَدَةِ الْوَاعِظِ عَلَى بُلُوغِ قَصْدِهِ مِنْ نَفْسِ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ وَعْظَهُ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْوَعْظِ مَا يُؤْلِمُ نَفْسَ الْمَوْعُوظِ، وَحَرَجَا يَكَادُ يَحْمِلُهَا عَلَى النَّفْرَةِ مِنْ تَلْقِينِهِ، وَالِاسْتِنْكَافِ مِنْ سَمَاعِهِ، فَذِكْرُ الْوَاعِظِ لِمَا يُشْعِرُ بِكَرَامَةِ الْمُخَاطَبِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ، وَإِبَاءِ مَا يَنْمِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ أَنْ يَدُومَ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْتَرِفُ يُقْبِلُ بِالنَّفْسِ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا يُقْبِلُ الْجَرِيحُ عَلَى مَنْ يُضَمِّدُ جِرَاحَهُ وَيُسَكِّنُ آلَامَهُ) .

أَلَا وَإِنَّ هَذَا الشُّعُورَ، شُعُورَ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، مُلَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُفَارِقُهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهُ أَثَرٌ، وَفِي تَحَرِيكِ الْوَاعِظِ لَهُ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِكَرَامَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمَوْعُوظِ يَشْفَعَانِ لَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ الْوَعْظُ مِنْ مَظِنَّةِ الْإِهَانَةِ فَيَسْهُلُ احْتِمَالُهُ وَيَقْرُبُ قَبُولُهُ. شُعُورُ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ أَمْرٌ شَرِيفٌ يُحْيِيهِ الْإِيمَانُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ يَرَى أَنَّ لَهُ نِسْبَةً إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَنَدُهُ وَمُمِدُّهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْلُو نَفْسُهُ وَتَرْتَفِعُ كَمَا قِيلَ: قَوْمٌ يُخَالِجُهُمْ زَهْوٌ بِسَيِّدِهِمْ ... وَالْعَبْدُ يَزْهُو عَلَى مِقْدَارِ مَوْلَاهُ مَنْ كَانَ يَشْعُرُ لِنَفْسِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ يَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي أَنْ تَعِزَّ وَتُكْرَمَ، تَرَاهُ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ وَتَذَكَّرَ أَنَّهُ أَلَمَّ بِنَقِيصَةٍ يَتَأَلَّمُ وَيَتَمَلْمَلُ وَيَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي تَشَرَّفَ بِمَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - (وَأَنَّ شَرَفَ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ خَلَّصَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِ وَصَيَّرَهُ مَرْبُوبًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَرْفَعِ وَأَكْرَمِ كَرِيمٍ سَوَاءٌ - إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يَرَ مِنَ اللَّائِقِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ أَنْ يُجَاوِرَهُ مَا يُدَنِّسُهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ لِمَا يُذِلُّهُ، بَلْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ الظَّاهِرَ وَالْعِرْفَانَ الْهَادِيَ إِلَى مَقَامَاتِ الْكَرَامَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْطِنِهِ مِنَ الْقَلْبِ دَنَسٌ مِنْ رِجْسِ الرَّذَائِلِ) فَيَنْفِرُ مِنْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ التَّزَكِّي مِمَّا أَلَمَّ بِهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - (قَالَ) : لِهَذَا بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - تَذْكِيرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا بَدَأَ وَثَنَّى بِمَا ثَنَّى. وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا يُشْعِرُ بِغِلَظِ طِبَاعِهِمْ وَفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَأَدَّبُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الْكَرَامَةِ، يُؤَدَّبُ بِالتَّأْنِيبِ وَالْإِهَانَةِ. الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةْ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) مُؤَكِّدٌ لِمِثْلِهِ فِي الْآيَةِ 40 وَتَمْهِيدٌ لِمَا عَطَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ بَيَانِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَمَا تَخَلَّلَهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحُجَجِ، وَأَوَّلُهُ وَأَعْلَاهُ قَوْلُهُ: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَعْطَيْتُكُمْ مِنَ الْفَضْلِ - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِيمَا يَحْسُنُ - مَا لَمْ أُعْطِ غَيْرَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ - حَتَّى ذَاتِ الْمَزَايَا الدُّنْيَوِيَّةِ - كَالْمَصْرِيِّينَ وَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ أَنْوَاعِهَا، فَذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالتَّفْضِيلُ هُوَ مَنَاطُ الْأَخْذِ بِالْفَضَائِلِ وَتَرْكِ الرَّذَائِلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ رَذْلًا خَسِيسًا، لَا يُبَالِي مَا يَفْعَلُ. وَمَنْ يَرَى نَفْسَهُ مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا، فَإِنَّهُ يَتَرَفَّعُ عَنِ الدَّنَايَا وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُدَنِّسُ شَرَفَهُ وَتَذْهَبُ

48

بِفَضْلِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِالتَّفْضِيلِ: أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ الَّذِي فَضَّلَهُمْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ غَيْرَهَمْ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى عَدَمِ الذُّهُولِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِيُذَكِّرُوهَا عِنْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَبِرُّوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْبِرِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ آيَةُ تَفْضِيلِهِمْ. وَإِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَجْدَرُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، فَإِنَّ الْمُفَضَّلَ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إِلَى الْفَضَائِلِ مِمَّنْ فُضِّلَ هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَعْبٌ مِنَ الشُّعُوبِ يُزَاحِمُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلَا تَقْضِي هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا تُنَافِي أَنْ يَفْضُلَهُمْ أَخَسُّ الشُّعُوبِ - بَلْهَ غَيْرُهُ - إِذَا هُمُ انْحَرَفُوا عَنْ هَدْيِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَّتَهُمْ وَاهْتَدَى إِلَيْهَا ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي كَانَ مَفْضُولًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِمَرْضَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ تَقْيِيدِهِ بِمُدَّةِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا أَمَامَكُمْ سَيَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مَا لَا مَنْجَاةَ مِنْ هَوْلِهِ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ يَوْمٌ لَا تَقْضِي فِيهِ نَفْسٌ - مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهَا عَظِيمًا - عَنْ نَفْسٍ مَهْمَا يَكُنْ ذَنْبُهَا صَغِيرًا شَيْئًا مَا، كَحَمْلِ وِزْرِهَا أَوْ تَكْفِيرِ ذَنْبِهَا (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (35: 18) وَصَفَ الْيَوْمَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَثَلًا؛ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ دِفَاعِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ بِقَوْلِهِ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (1: 4) ثُمَّ وَصَفَهُ هُنَا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ فَقَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَلَا تُقْبَلُ) بِالتَّاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِشَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فِدَاءٌ أَوْ بَدَلٌ إِنْ هِيَ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْآيَةِ نَفْيُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْعَذَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِمَا يَشْمَلُ الثَّلَاثَ الْمَنْفِيَّةَ، وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمٌ لَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ فِيهِ وَلَا كَسْبَ، وَلَا يَنْطِقُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : أَيْ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ فَتُقْبَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) (26: 100) الْآيَةِ وَفَسَّرَ الْعَدْلَ بِالْفِدَاءِ قَالَ: (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا دَلِيلَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنَّمَا السِّيَاقُ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ، وَتَبْطُلُ مَنْفَعَةُ الْأَنْسَابِ، وَتَتَحَوَّلُ فِيهِ سُنَّةُ هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنِ انْطِلَاقِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِيَارِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى الْمُدَافَعَةِ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ يُوجَدُ لَهُ فِيهَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَهُ بِالْحَقِّ وَبِالْبَاطِلِ عَلَى سَوَاءٍ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَأْنٌ آخَرُ مَعَ رَبِّهِ، تَضْمَحِلُّ فِيهِ جَمِيعُ الْوَسَائِلِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ، قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَرَحْمَةِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ لَهُ، لِضَعْفِ حَوْلِهِ، وَضِيقِ طُولِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ عُضْوٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) . كَانَ الْيَهُودُ الْمُخَاطَبُونَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَخَلُّصُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْعِقَابِ بِفِدَاءٍ يُدْفَعُ بَدَلًا وَجَزَاءً عَنْهُ - كَمَا يَسْتَبْدِلُ بَعْضُ حُكَّامِهِمْ مَنْفَعَةً مَالِيَّةً بِعُقُوبَةٍ بَدَنِيَّةٍ - أَوْ بِشَفَاعَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى الْحَاكِمِ يُغَيِّرُ بِهَا رَأْيَهُ وَيَفْسَخُ إِرَادَتَهُ. وَلَقَدِ اكْتَسَحَ الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَآثَارَهَا الْعَمَلِيَّةَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَأَتَى بُنْيَانَهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْهَا فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَمْ يُلَقَّنُوا الدِّينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا كَمَا أَرْشَدَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَلُقِّنُوهُ كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ كُتُبُ التَّقْلِيدِ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ مُبْتَدَعَةٍ، فَكَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَعَلَى جَهْلٍ بِالْإِسْلَامِ، وَجَاءَ قَوْمٌ آخَرُونَ تَعَمَّدُوا الْإِفْسَادَ فَجَعَلُوا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالْكَذِبَ صِدْقًا. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا بَعْضَ الْعَادَاتِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ يُعْمَلُ بِهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنْ إِرْثِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ، كَإِعْطَائِهِمْ لِغَاسِلِ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِنَ النَّقْدِ يُسَمُّونَهُ " أُجْرَةَ الْمُعَدِّيَةِ " أَيْ أُجْرَةَ نَقْلِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْمَلُونَهُ لِلْأَمْوَاتِ، وَلِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْوِلَايَةَ وَالْقُرْبَ مِنَ اللهِ، وَمِثْلُهُ أَكْثَرُ تَقَالِيدِهِمْ فِي بِنَاءِ الْمَقَابِرِ وَاحْتِفَالَاتِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُكَفِّرَاتِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْيَهُودُ كَقُرْبَانِ الْإِثْمِ، وَقُرْبَانِ الْخَطِيئَةِ، وَقُرْبَانِ السَّلَامَةِ، وَالْمَحْرَقَةِ وَالِاكْتِفَاءُ مِمَّنْ لَمْ يَجِدِ الْقُرْبَانَ بِحَمَامَتَيْنِ يُكَفِّرُ بِهِمَا عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَالَ: وَكَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِذَاتِهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَا مُكَفِّرَاتٌ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ التَّوْرَاةَ حَقَّ فَهْمِهَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَفِّرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ تَقْدِيمَ الْقُرْبَانِ يَكُونُ تَرْبِيَةً وَعُقُوبَةً. وَقَدْ أَخْبَرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ عَدْلٌ يَفْتَدِي الْإِنْسَانُ بِهِ. قَالَ: وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ بِانْتِسَابِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَوْ لَا تَمَسُّهُمْ

إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً؛ لِأَنَّ لَهُمُ الْجَاهَ وَالتَّأْثِيرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي الْعَذَابِ، ثُمَّ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةَ الْأَحْبَارِ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ. وَمَتَى ضَعُفَ الدِّينُ يُوجَدُ مِنْ رُؤَسَائِهِ مَنْ يُرَوِّجُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ فِي الْعَامَّةِ لِمَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَكَذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَمَحَا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَرْضَاةُ اللهِ - تَعَالَى - بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (2: 254) وَأُخْرَى نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ مَنْفَعَةِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (74: 48) وَآيَاتٌ تُفِيدُ النَّفْيَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) وَقَوْلِهِ (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْكُمُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَنَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ (أَيِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِذْنِ وَالْمَشِيئَةِ) مَعْهُودٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ النَّفْيِ الْقَطْعِيِّ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (87: 6، 7) وَقَوْلِهِ: (فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (11: 107) فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِإِثْبَاتِهَا، فَمَا مَعْنَاهَا؟ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ: هِيَ أَنْ يَحْمِلَ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ كَانَ أَرَادَ غَيْرَهُ - حَكَمَ بِهِ أَمْ لَا - فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ، وَفَسْخِهَا لِأَجْلِ الشَّفِيعِ. فَأَمَّا الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ عِلْمُهُ بِمَا كَانَ إِرَادَةً أَوْ حَكَمَ بِهِ؛ كَأَنْ كَانَ أَخْطَأَ ثُمَّ عَرَفَ الصَّوَابَ، وَرَأَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَوِ الْعَدْلَ فِي خِلَافِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَأَنَّ الْعَدْلَ فِي خِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ يُفَضِّلُ مَصْلَحَةَ ارْتِبَاطِهِ بِالشَّافِعِ الْمُقَرَّبِ مِنْهُ عَلَى الْعَدَالَةِ. وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ - تَعَالَى - عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ. (قَالَ شَيْخُنَا) : فَمَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَفِيهِ يَقْضِي مَذْهَبُ السَّلَفِ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا مَزِيَّةٌ يَخْتَصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ " الشَّفَاعَةُ " وَلَا نُحِيطُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي لِسَانِ التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا دُعَاءٌ يَسْتَجِيبُهُ اللهُ - تَعَالَى. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ

49

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بِثَنَاءٍ يُلْهِمُهُ يَوْمَئِذٍ فَيُقَالُ لَهُ: ((ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعُ)) وَلَيْسَ فِي الشَّفَاعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَرْجِعُ عَنْ إِرَادَةٍ كَانَ أَرَادَهَا لِأَجْلِ الشَّافِعِ وَإِنَّمَا هِيَ إِظْهَارُ كَرَامَةٍ لِلشَّافِعِ بِتَنْفِيذِ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ عُقَيْبَ دُعَائِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا مَا يُقَوِّي غُرُورَ الْمَغْرُورِينَ اللَّذِينَ يَتَهَاوَنُونَ بِأَوَامِرِ الدِّينِ وَنَوَاهِيهِ اعْتِمَادًا عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، بَلْ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا طَاعَتُهُ وَرِضَاهُ (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (74: 48، 49) وَ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) . (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) هَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ مُجْمَلَةً، وَابْتُدِئَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ التَّفْضِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذِكْرِهِ، وَهُوَ نُهُوضُ الْهِمَّةِ إِلَى التَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الرِّضَا بِمَا دُونَ الْمَقَامِ الَّذِي رَفَعَهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ إِلَى آخَرِ مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَاتِ جَزَاءً عَلَى جَرَائِمِهِمْ، وَبِلُطْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ وَإِنْجَائِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِيُعَرِّفَهُمْ مِقْدَارَ فَضْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ مَعًا. وَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ سِلْسِلَةِ الذِّكْرَيَاتِ فَقَوْلُهُ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عَطْفُ تَفْصِيلٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أَيْ: نِعَمِيَ الْكَثِيرَةَ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِرْعَوْنُ لَقَبٌ لِمَنْ تَوَلَّى مُلْكَ مِصْرَ قَبْلَ الْبَطَالِسَةِ، وَإِلَهُ خَاصَّتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى قَوْمِهِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّنْجِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ظُلْمٍ أَوْ شَرٍّ، بَيَّنَ مَا نَجَّاهُمْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أَيْ: يُكَلِّفُونَكُمْ وَيَبْغُونَكُمْ مَا يَسُوءُكُمْ وَيُذِلُّكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أَيْ: يَقْتُلُونَ ذُكْرَانَ نَسْلِكُمْ، وَيَسْتَبْقُونَ إِنَاثَهُ أَحْيَاءً لِإِضْعَافِكُمْ وَإِذْلَالِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى قَطْعِ نَسْلِكُمْ وَإِبَادَتِكُمْ (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أَيْ: وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَفِي التَّنْجِيَةِ مِنْهُ - فِي كُلٍّ مِنْهُمَا - بَلَاءٌ وَامْتِحَانٌ عَظِيمٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (7: 168) .

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ عِبَارَةِ الْجَلَالِ مَا مِثَالُهُ: خَاطَبَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهَا أُمَّةُ كَذَا، هُوَ إِنْعَامٌ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ، وَيَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى اللَّاحِقِينَ مِنْهُمْ وَالسَّابِقِينَ، كَمَا يَصِحُّ الْفَخْرُ بِهِ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَلَبُوسٍ يَلْبَسُهُ، أَوْ لَذِيذِ طَعَامٍ يَطْعَمُهُ، يَكُونُ إِنْعَامًا عَلَى الشَّخْصِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى لِسَانِ فُلَانٍ وَلَا عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى مُجْتَمَعٍ بِعُنْوَانِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالرَّابِطَةِ الَّتِي رَبَطَتْ أَفْرَادَهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَاصِلُ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ مُسَبِّبًا عَنْ عَمَلِ الْأُمَّةِ شَرًّا أَوْ خَيْرًا، وَيَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي الْأُمَّةِ يُورِثُهُ السَّلَفُ الْخَلَفَ مَا بَقِيَتِ الْأُمَّةُ، وَأَنْوَاعُ الْبَلَاءِ الَّتِي ذَكَّرَهَا بِهَا الْيَهُودَ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي كَانَ الْبَلَاءُ عُقُوبَةً عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّعْبِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يَتُوبُ عَلَى الشَّعْبِ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ وَيُفِيضُ عَلَيْهِ النِّعَمَ؛ فَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ تَرْبِيَةً وَتَعْلِيمًا تُفِيدُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا نِعْمَةً وَسَعَادَةً. لَا أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِيمَاءٌ أَوْ إِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يَسْتَحْضِرُوا تَارِيخَ أُمَّتِهِمُ الْمَاضِيَ لِيَتَذَكَّرُوا صُنْعَ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ فَيُعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَعْمَاءَ وَضَرَّاءَ، وَسَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَيَتَفَكَّرُوا فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ؛ فَالرَّوَابِطُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَمِ وَجَمَاعَاتِهَا كَالرَّوَابِطِ الْحَيَوِيَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِلَا فَرْقٍ. تَعَثَرُ الرِّجْلُ فَتُخْدَشُ أَوْ تُوثَأُ، وَالْأَلَمُ يُلِمُّ بِالشَّخْصِ كُلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصٌ حَيٌّ بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ تَسْتَوِي فِيهَا رِجْلُهُ وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ؛ وَلِذَلِكَ يَسْعَى بِجُمْلَتِهِ لِإِزَالَةِ أَلَمِ الرِّجْلِ، وَيَتَوَقَّى أَسْبَابَ الْعِثَارِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ. عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا بِمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَأَنْعَمَ عَلَى أُمَّتِنَا - الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِشَعْبٍ وَلَا جِنْسٍ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَكَانَ لَهُمْ بِهِ نِعَمٌ لَا تُحْصَى تُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَ الشُّعُوبِ الْقَوِيَّةِ وَدِيَارَهَمْ وَجَعَلَ لَهُمُ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدَهَا وَلَا إِفْرَاطَ؛ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ غَلَوْا وَأَفْرَطُوا، وَالَّذِينَ قَصَّرُوا وَفَرَّطُوا، ثُمَّ لَمَّا كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ أَنْزَلَ بِهَا أَلْوَانًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ التَّتَارَ إِنَّمَا نَكَّلُوا بِهَا وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَيْهَا الْغَرْبِيُّونَ أَيَّامَ حُرُوبِ الصَّلِيبِ وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ،

ثُمَّ إِنَّ الْفِتَنَ لَا تَزَالُ تَحُلُّ بِدِيَارِهِمْ، وَتُنْقِصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَسَوْطَ عَذَابِ اللهِ يُصَبُّ عَلَيْهَا بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا قُرُونٌ وَهِيَ لَا تَعْتَبِرُ بِمَا مَضَى، وَلَا تَتَرَبَّى بِمَا حَضَرَ، بَلْ جَهِلَتِ الْمَاضِيَ فَحَارَتْ فِي الْحَاضِرِ، لَا تَعْرِفُ سَبَبَهُ وَلَا الْمَخْرَجَ مِنْهُ. أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْهَا هُمْ أَجْهَلُهَا بِتَارِيخِهَا، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَاضِيهَا وَلَا حَاضِرِهَا؟ وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي بَلَاءٍ كَبِيرٍ، وَيَعْتَذِرُونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ، وَيَكِلُونَ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ النَّجَاةَ مِنْهُ أَوِ الْبَقَاءَ فِيهِ. إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهَا وَتَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَتَهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا الْمَاضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَتَبُّعِ السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ إِلَى الْيَنْبُوعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ. كَانَ سَلَفُنَا - رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ - يَضْبِطُونَ أَحْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِكُلِّ اعْتِنَاءٍ وَدِقَّةٍ، حَتَّى كَانُوا يَرْوُونَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ أَوِ النُّكْتَةَ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَمَعْشُوقَتِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ أُمَّةً بِدِينِهَا وَلُغَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَعَادَاتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ خَلَفُهَا عَنْ سَلَفِهَا هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ بِحِفْظِ تَارِيخِهَا، تَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّغَيُّرِ بِتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَتَقَلُّبَاتِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ جَهْلِ الْمُتَأَخِّرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَبِكَيْفِيَّةِ حُدُوثِ التَّغْيِيرِ الضَّارِّ لِلْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ، بِهَذَا تَفْعَلُ فَوَاعِلُ الْكَوْنِ بِالْأُمَّةِ الْجَاهِلَةِ أَفَاعِيلَهَا حَتَّى تَقْلِبَ كِيَانَهَا، وَتُقَوِّضَ بُنْيَانَهَا، وَتَقْطَعَ عُرَى الرُّبُطِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا لِلْمَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهِيَ لَا حِفَاظَ لَهَا فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ تَكُونُ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ. عُنِيَتْ أُمَّتُنَا بِالتَّارِيخِ عِنَايَةً لَمْ تَسْبِقْهَا بِهِ أُمَّةٌ، فَلَمْ تَكْتَفِ بِضَبْطِ الْوَقَائِعِ وَتُلْقِيهَا بِالرِّوَايَةِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، بَلْ تَفَنَّنَتْ فِيهَا فَصَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْأَشْخَاصِ كَمَا صَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْبِلَادِ وَالشُّعُوبِ، ثُمَّ نَوَّعَتْ تَارِيخَ الْأَشْخَاصِ فَجَعَلَتْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ تَارِيخًا، فَنَرَى فِي الْمَكَاتِبِ طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ، وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبَقَاتِ النَّحْوِيِّينَ، وَطَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ، وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ اهْتَدَى بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ الْعُمْرَانِ وَأُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ التَّارِيخِ فَصَنَّفَ ابْنُ خَلْدُونَ فِي ذَلِكَ مُقَدِّمَةَ تَارِيخِهِ، وَلَوْ لَمْ تَنْقَطِعْ بِنَا سِلْسِلَةُ الْعِلْمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَكُنَّا أَتْمَمْنَا مَا بَدَأَ بِهِ سَلَفُنَا، وَلَكِنَّنَا تَرَكْنَاهُ وَسَبَقَنَا غَيْرُنَا إِلَى إِتْمَامِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ؛ فَالتَّارِيخُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَكْبَرُ لِلْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ

الْيَوْمَ إِلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْعُمْرَانِ وَعِزَّةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مِنْهُ، وَكَانَ الِاعْتِقَادُ بِوُجُوبِ حِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ هُوَ الْمُرْشِدُ الثَّانِي إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ الدِّينُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أُهْمِلَ التَّارِيخُ، بَلْ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ سُنَّةَ قَوْمٍ آخَرِينَ. نَكْتَفِي الْآنَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ وَنَعُودُ إِلَى إِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي صَرَفَتْنَا إِلَيْهِ بِمُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ لِسَلَفِهِمْ، وَإِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مِصْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْوَتُهُ وَنَمَا نَسْلُهُ وَنَسْلُهُمْ فِيهَا وَكَثُرَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا النُّمُوُّ كَانَ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَا يُحِبُّونَ مُسَاكَنَةَ الْغُرَبَاءِ، فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ نُمُوَّ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَافَ مَغَبَّةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِذَا كَثُرُوا يَتَبَسَّطُونَ فِي الْأَرْضِ وَيُزَاحِمُونَ الْمِصْرِيِّينَ، فَطَفِقَ يَسْتَذِلُّهُمْ وَيُكَلِّفُهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، كَصُنْعِ الطُّوبِ لِبِنَاءِ الْهَيَاكِلِ وَالْبَرَابِي لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الذُّلَّ يُقَلِّلُ النَّسْلَ وَيُفْضِي بِالْأُمَّةِ إِلَى الِانْقِرَاضِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا مَعَ الِاسْتِذْلَالِ يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْحُكَّامُ الْمِصْرِيُّونَ يَزْدَادُونَ نَسْلًا، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُحَافِظُونَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَا يُمَازِجُونَ الْمِصْرِيِّينَ، وَعِنْدَهُمُ الْأَثَرَةُ وَالْإِبَاءُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَفْضَلُ خَلْقِهِ، خَافُوا أَنْ يَقْوَوْا بِالْكَثْرَةِ فَيَعْدُوا عَلَيْهِمْ وَيَغْلِبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَزْدَادُونَ عَلَى الذُّلِّ نَسْلًا؛ لِأَنَّ الذُّلَّ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الذَّلِيلَ الَّذِي لَا تُطْلَقُ إِرَادَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَضْعُفُ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَهُ، فَهُوَ يَذْبُلُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْحَلَ وَيَمُوتَ، وَالْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاةَ الْأُمَمِ هِيَ قُوَّةُ الْأَرْوَاحِ وَالْإِرَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْمُولٌ

50

بِالرُّوحِ. وَالْعَمَلُ النَّافِعُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ، فَمَتَى خُذِّلَتِ النُّفُوسُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَى إِرَادَتِهَا تَبِعَهَا الْجِسْمُ فَيَضْعُفُ بِضَعْفِهَا، وَالضَّعِيفُ يَأْتِي بِنِتَاجٍ ضَعِيفٍ، وَيَكُونُ نَسْلُ نِتَاجِهِ أَضْعَفَ مِنْ نَسْلِهِ، وَيَتَسَلْسَلُ هَكَذَا حَتَّى يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ ضَعْفِ النَّسْلِ إِسْرَاعُ الْمَوْتِ إِلَى صِغَارِهِ قَبْلَ بُلُوغِ سِنِّ الرُّشْدِ، وَبِهَذَا يَنْقَرِضُ النَّسْلُ، كَمَا حَصَلَ لِهُنُودِ أَمْرِيكَا وَسُكَّانِ شَمَالِيِّ أُسْتُرَالِيَا. اسْتَبْطَأَ الْمِصْرِيُّونَ أَثَرَ الِاسْتِذْلَالِ فِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فَعَمِلُوا عَلَى انْقِرَاضِهِمْ بِقَتْلِ ذُكْرَانِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءِ إِنَاثِهِمْ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ بِأَنْ يَقْتُلْنَ كُلَّ ذَكَرٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْخَلْقِ أَنَّ قِوَامَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ وَحِفْظَ الْأَجْنَاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالذُّكُورِ. وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) تَبَعًا لِغَيْرِهِ: إِنَّ سَبَبَ الْعَذَابِ وَتَقْتِيلِ الْأَبْنَاءِ دُونَ الْبَنَاتِ هُوَ أَنَّ بَعْضَ الْكَهَنَةِ أَخْبَرَ فِرْعَوْنَ بِأَنْ سَيُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَدٌ يَنْزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَيَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ هُلْكُهُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا يُعْرَفُ فِي التَّارِيخِ، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَيَتَنَاقَلُونَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا. (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) جَاءَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ذِكْرُ تَنْجِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ النَّجَاةَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِعْمَتَهُ فِي طَرِيقِ الْإِنْجَاءِ بِالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ فِيهَا، إِذْ جَعَلَ وَسِيلَتَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَجَعَلَ فِي طَرِيقِهِ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. لَمَّا أَرْسَلَ اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِلَى أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِطْلَاقِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْبَادِ وَالتَّعْذِيبِ، لَمْ يَزِدْهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَّا تَعْذِيبًا وَتَعْبِيدًا، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْبَأَ مُوسَى بِأَنَّهُ يُقَسِّي

قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَا يُخَفِّفُ الْعَذَابَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يُرْسِلُهُمْ مَعَ مُوسَى حَتَّى يُرِيَهُ آيَاتِهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ زَادَ ظُلْمًا وَعُتُوًّا، فَأَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا يُسَخِّرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمُ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ لِعَمَلِ اللَّبِنِ (الطُّوبِ) ، وَيُكَلِّفُوهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا التِّبْنَ وَيَعْمَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ اللَّبِنِ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَعْطَى اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَحَاوَلَ فِرْعَوْنُ مُعَارَضَتَهَا بِسِحْرِ السَّحَرَةِ، فَلَمَّا آمَنَ السَّحَرَةُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَرَأَى مَا رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، سَمَحَ بِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ طَرَدَهُمْ، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي شَهْرِ أَبِيبٍ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُمْ فِي مِصْرَ 430 سَنَةٍ. ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَأَنْجَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) أَيْ: وَاذْكُرُوا مِنْ نِعَمِنَا عَلَيْكُمْ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهِ طَرِيقًا يَبَسًا سَلَكْتُمُوهُ فِي هَرَبِكُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ (فَأَنْجَيْنَاكُمْ) بِعُبُورِهِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) إِذْ عَبَرُوا وَرَاءَكُمْ (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذَلِكَ بِأَعْيُنِكُمْ، لَوْلَاهُ لَعَظُمَ عَلَيْكُمْ خَبَرُ غَرَقِهِمْ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : فَلْقُ الْبَحْرِ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ مُوسَى. وَقَدْ قُلْنَا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ ": إِنَّ الْخَوَارِقَ الْجَائِزَةَ عَقْلًا، أَيِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَلَا ارْتِفَاعُهُمَا لَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهَا بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي يَدِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يَمْنَعُنَا هَذَا الْإِيمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، كَمَا قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ، فَانْتَهَى بِذَلِكَ زَمَنُ الْمُعْجِزَاتِ، وَدَخَلَ الْإِنْسَانُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فِي سِنِّ الرُّشْدِ، فَلَمْ تَعُدْ مُدْهِشَاتُ الْخَوَارِقِ هِيَ الْجَاذِبَةُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقْوِيمِ مَا يَعْرِضُ لِلْفِطْرَةِ مِنَ الْمَيْلِ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي الْفِكْرِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا كَانَ فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ (النَّوْعِيَّةِ) بَلْ أَرْشَدَهُ - تَعَالَى - بِالْوَحْيِ الْأَخِيرِ (الْقُرْآنِ) إِلَى اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ كُلَّ إِرْشَادَاتِ الْوَحْيِ مُبَيِّنَةً مُعَلِّلَةً مُدَلِّلَةً حَتَّى فِي مَقَامِ الْأَدَبِ (كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) . فَإِيمَانُنَا بِمَا أَيَّدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ لِجَذْبِ قُلُوبِ أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ لَمْ تَرْتَقِ عُقُولُهُمْ إِلَى فَهْمِ الْبُرْهَانِ، لَا يُنَافِي كَوْنَ دِينِنَا هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَكَوْنِهِ حَتَّمَ عَلَيْنَا الْإِيمَانَ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْعِيَانُ، مِنْ أَنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ. (أَقُولُ) : وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْعَقْلُ هُوَ وُقُوعُ الْمُحَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَيَّدَ نَبِيٌّ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَمَا وَقَعَ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُعْجِزَاتِ " خَوَارِقَ الْعَادَاتِ " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَهَا أَسْبَابًا

خَفِيَّةً رُوحِيَّةً لَمْ يُطْلِعِ اللهُ الْأُمَمَ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ خَصَّ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ اللهَ يَخْلُقُهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَنَ وَالنَّوَامِيسَ لَا تَحْكُمُ عَلَى وَاضِعِهَا وَمُدَبِّرِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ. (قَالَ) : وَزَعَمَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْمُتَهَوِّرِينَ أَنَّ عُبُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ كَانَ فِي إِبَّانِ الْجَزْرِ، فَإِنَّ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ رُقَارِقَ إِذَا كَانَ الْجَزْرُ الَّذِي عُهِدَ هُنَاكَ شَدِيدًا يَتَيَسَّرُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُرَ مَاشِيًا، وَلَمَّا أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ وَرَآهُمْ قَدْ عَبَرُوا الْبَحْرَ تَأَثَّرَهُمْ، وَكَانَ الْمَدُّ تَفِيضُ ثَوَائِبُهُ (وَهِيَ الْمِيَاهُ الَّتِي تَجِيءُ عُقَيْبَ الْجَزْرِ) فَلَمَّا نَجَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَانَ الْمَدُّ قَدْ طَغَى وَعَلَا حَتَّى أَغْرَقَ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَحَقُّقُ إِنْعَامِ اللهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتِمُّ بِهَذَا التَّوْفِيقِ لَهُمْ وَالْخِذْلَانِ لِعَدْوِهِمْ، وَلَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ بِهِ عَلَيْهِمْ كَوْنُهُ لَيْسَ آيَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْمُعْجِزَاتِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، كَذَا قَالُوا. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً لَهُ وَصْفُ كُلِّ فِرْقٍ مِنْهُ بِالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَإِذَا تَيَسَّرَ تَأْوِيلُ كُلِّ آيَاتِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَتَعَسَّرُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (26: 63) وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ اهـ. وَيَقُولُ الْمُؤَوِّلُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا عَبَرُوا انْفَرَقَ بِهِمْ، وَكَانُوا لِاسْتِعْجَالِهِمْ وَاتِّصَالِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ قَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ الْمَاءَ الرَّقَارِقَ فِرْقَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُمْتَدَّيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) وَلَمْ يَقُلْ: فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ هُنَا لِلْآلَةِ، كَمَا تَقُولُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (26: 63) فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّ الِانْفِلَاقَ كَانَ بِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ لَا بِالْعَصَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى مُوسَى هُوَ أَنْ يَخُوضَ الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ عُهِدَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ عَصًا إِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَاءٍ كَتُرْعَةٍ أَوْ نَهْرٍ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ الْمَاءَ أَوَّلًا بِعَصَاهُ ثُمَّ يَمْشِي، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعَبِّرَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى: أَيْ أَلْهَمَهُ اللهُ عِنْدَ مَا وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ وَيَمْشِيَ، فَفَعَلَ وَمَشَى وَرَاءَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِجَمْعِهِمُ الْكَبِيرِ، فَانْفَلَقَ بِهِمُ الْبَحْرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (26: 63) فَهُوَ تَشْبِيهٌ مَعْهُودٌ مِثْلُهُ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (11: 42) وَقَوْلِهِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) (42: 32) فَالْأَمْوَاجُ وَالسُّفُنُ وَالْجَوَارِي لَا تَكُونُ كَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، وَالْأَعْلَامِ الْبَاسِقَةِ، وَإِنَّمَا تَقْضِي الْبَلَاغَةُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، لِكَمَالِ التَّصْوِيرِ وَإِرَادَةِ التَّأْثِيرِ. هَذَا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَأْوِيلُ الْمُؤَوِّلِينَ وَلَمْ يَبْسُطْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَإِنَّمَا قَرَّرَ أَنَّ

51

فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحَكَى عَنِ الْمُتَهَوِّرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ خِلَافَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُبُورَ الْبَحْرِ كَانَ فِي وَقْتِ الْجَزْرِ، وَإِنَّمَا بَسَطْنَا تَأْوِيلَهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّنَا لَمْ نَقُلْ بِهِ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَهْتَدِ لِتَوْجِيهِهِ مِثْلَهُمْ، وَلَا يَهِمُّنَا أَنْ نُنَازِعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ بِخُصُوصِهَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ تَأْيِيدًا لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِذَا كَانُوا يَنْفُونَهَا كُلَّهَا فَالْأَوْلَى لَهُمْ أَلَّا يَتْعَبُوا فِي تَأْوِيلِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِإِثْبَاتِهَا أَوَّلًا فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْوَحْيِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ هُنَا: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ (بِكُمْ) سَبَبِيَّةٌ، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ لَا لِلْآلَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنَاهُ وَفَصَلْنَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ حَتَّى حَصَلَتْ فِيهِ مَسَالِكُ لِسُلُوكِكُمْ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ، أَوْ مُتَلَبَّسًا بِكُمْ. وَأَزْيَدُ الْآنَ: أَنَّنِي رَأَيْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِبِضْعِ سِنِينَ جُزْءًا مِنْ تَفْسِيرِ الْأَصْبَهَانِيِّ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ كُوبْرِيلِّي بَاشَا فِي الْآسِتَانَةِ، فَرَاجَعْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ فَأَلْفَيْتُهُ يَذْكُرُ فِي الْبَاءِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ: إِنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ حَصَلَ بِهِمْ، أَيْ: بِنَفْسِ عُبُورِهِمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: قِيلَ: مَعْنَاهُ فَرَقْنَاهُ لَكُمْ، وَقِيلَ: فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ نِعْمَةَ الْإِنْجَاءِ مِنِ اسْتِبْعَادِ الظَّالِمِينَ، وَالْبُعْدِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، ذَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي وَلِيَتْهَا، وَذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ، وَلَمَّا ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ اسْتَبْطَئُوهُ فَاتَّخَذُوا عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَعَبَدُوهُ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَسَيَأْتِي هُنَاكَ تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ وَبَيَانُ كُفْرِهَا؛ لِيَظْهَرَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَانَدَتَهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْهُمْ مَعَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ وَبَعْدَ إِغْدَاقِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا. وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ الظُّلْمِ ذَكَّرَهُمْ بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ، ثُمَّ بِالْعَفْوِ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ التَّوْبَةِ، فَقَالَ: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هَذِهِ النِّعْمَةَ بِدَوَامِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى هَذَا بِذِكْرِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْمِنَّةُ الْكُبْرَى، فَقَالَ: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ: وَلَكِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، وَمَعْنَى

52

قَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وَ (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أَيْ: لِيُعِدَّكُمْ بِهَذَا الْعَفْوِ لِلْاسْتِمْرَارِ عَلَى الشُّكْرِ وَيَعِدَّكُمْ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ لِلْاهْتِدَاءِ وَيُهَيِّئَكُمْ لِلْاسْتِرْشَادِ، فَلَا تَقَعُوا فِي وَثَنِيَّةٍ أُخْرَى، وَإِنَّ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْهِدَايَةِ بِفَهْمِ الْكِتَابِ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ هُدًى وَنُورٌ يُرْجِعُهُمْ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ اهْتَدَى بِهِ مِنْهُمُ الْمُسْتَبْصِرُونَ، وَجَاحَدَهُ الرُّؤَسَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ، وَالْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّذْكِيرِ غَيْرُ مَا سَبَقَهُ، وَمِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ يَجِيءَ تَالِيًا لَهُ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ: مَهَدَّ أَوَّلًا لِلتَّذْكِيرِ تَمْهِيدًا يَسْتَرْعِي السَّمْعَ، وَيُوَجِّهُ الْفِكْرَ وَيَسْتَمِيلُ الْقَلْبَ، وَهُوَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ مُجْمَلَةً وَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْتَاحُ الْإِنْسَانُ لِحَدِيثٍ كَحَدِيثِ مَنَاقِبِ قَوْمِهِ وَمَفَاخِرِهِمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ وَيَشْرَحُهَا، فَبَدَأَ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ ذِكْرُ سَيِّئَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهُوَ تَنْجِيَتُهُمْ مِنْ ظُلْمِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ أَكْبَرَ ضُرُوبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ - وَهُوَ قَتْلُ الْأَبْنَاءِ - يُخَفِّضُ مِنْ عُتُوِّ تِلْكَ النُّفُوسِ الْمُعْجَبَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ الَّتِي تَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ لَا يُسَوِّدُ عَلَيْهِمْ شَعْبًا آخَرَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يُنَفِّرُ بِهَا عَنِ الْإِصْغَاءِ وَالتَّدَبُّرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَاجِئْهَا بِشَيْءٍ فِيهِ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ وَعَمَلُ السُّوءِ إِلَيْهَا، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ نِعْمَةٍ خَاصَّةٍ خَالِصَةٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى ذِكْرِهَا، إِذْ لَا يَشُوبُ الْفَخْرَ بِهَا تَنْغِيصٌ مِنْ تَذَكُّرِ غَضَاضَةٍ تَتَّصِلُ بِوَاقِعَتِهَا، وَهِيَ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِنْجَاؤُهُمْ، وَإِغْرَاقُ عَدُوِّهِمْ.

54

لَا جَرَمَ أَنَّ نُفُوسَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَانَتْ تَهْتَزُّ وَتَأْخُذُهَا الْأَرْيَحِيَّةُ عِنْدَ مَا تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ بِعِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَارَنُوا بَيْنَ هَذَا التَّذْكِيرِ وَبَيْنَ تَذْكِيرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتِلْكَ الْقَوَارِعِ الشَّدِيدَةِ، لَمْ يَتْرُكْهَا بَعْدَ هَذِهِ الْهَزَّةِ تَجْمَحُ فِي عُجْبِهَا وَفَخْرِهَا، وَتَتَمَادَى فِي إِبَائِهَا وَزَهْوِهَا، بَلْ عَقَّبَ عَلَيْهَا فَذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً لَهُمْ، هِيَ كُبْرَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، وَهِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَقَدَّمَ عَلَى ذِكْرِهَا خَبَرَ مُوَاعَدَةِ مُوسَى وَهِيَ مِنَ النِّعَمِ، وَخَتَمَهَا بِذِكْرِ الْعَفْوِ، ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِذِكْرِ نِعْمَةِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، وَهَذَا مَا يَجْعَلُ أَنْفُسَ السَّامِعِينَ الْوَاعِينَ قَلِقَةً يَتَنَازَعُهَا شُعُورُ اعْتِرَافِ الْمُذَكِّرِ الْوَاعِظِ لَهَا بِالشَّرَفِ، وَشُعُورُ رَمْيِهِ إِيَّاهَا بِالظُّلْمِ وَالسَّرَفِ. بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَعَدَّتْ تِلْكَ النُّفُوسُ؛ لِأَنْ تَسَمَعَ آيَاتٍ مَبْدُوءَةٍ بِذِكْرِ سَيِّئَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ وَلَا تَوْطِئَةٍ، فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّذْكِيرِ مَبْدُوءًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا تُلْقِيهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا عَبَدُوهُ إِذْ كَانَ يُنَاجِي رَبَّهُ فِي الْمِيقَاتَيْنِ: الزَّمَانِيِّ، وَالْمَكَانِيِّ (يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) إِلَهًا عَبَدْتُمُوهُ. وَالْقِصَّةُ مُفَصَّلَةٌ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ الْمَكِّيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ مُوسَى فِيهِمَا مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا تَقَدَّمَ وَجْهُهُ فِي سِيَاقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أَيْ فَتُوبُوا إِلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ هُوَ أَدْنَى مِنْكُمْ، وَهُوَ مِنْ خَلْقِكُمْ، أَيْ تَقْدِيرِكُمْ وَصُنْعِكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ قَتْلَ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ كَقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِيَبْخَعَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ نَفْسَهُ انْتِحَارًا. تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي التَّوْبَةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَحْوُ أَثَرِ الرَّغْبَةِ فِي الذَّنْبِ مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا هُوَ شُعُورُ التَّائِبِ بِعَظَمَةِ مَنْ عَصَاهُ، وَمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَوْنِ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ فِي الْمَآلِ، لَا جَرَمَ أَنَّ الشُّعُورَ بِهَذَا السُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ بَعْدَ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ يَبْعَثُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْهَيْبَةَ وَالْخَشْيَةَ، وَيُحْدِثُ فِي رُوحِهِ انْفِعَالًا مِمَّا فَعَلَ، وَنَدَمًا عَلَى صُدُورِهِ عَنْهُ، وَيُزِيدُ هَذَا الْحَالَ فِي النَّفْسِ تَذَكُّرُ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَمَا رَتَّبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. هَذَا أَثَرُ التَّوْبَةِ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا الْأَثَرُ يُزْعِجُ التَّائِبَ إِلَى الْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ تُضَادُّ ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي تَابَ مِنْهُ وَتَمْحُو أَثَرَهُ السَّيِّئَ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (11: 114) فَمِنْ عَلَامَةِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْإِتْيَانُ بِأَعْمَالٍ تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا كَانَتْ لِتَأْتِيَهَا لَوْلَا ذَلِكَ الشُّعُورُ الَّذِي يُحْدِثُهُ الذَّنْبُ، وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنِ التَّوْبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مَعَ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْوَنَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْسَانٍ يُذْنِبُ مَعَ آخَرَ يُبَاهِي بِهِ أَنْ يَجِيءَ مُعْتَرِفًا بِالذَّنْبِ مُعْتَذِرًا عَنْهُ؟ وَهَذَا ذُلٌّ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ أُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَشَقِّ الْأَعْمَالِ

فِي تَحْقِيقِ التَّوْبَةِ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ مَا عَمِلُوا بِأَيْدِيَهُمْ وَقَدْ قَالَ: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ لِيَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ وَالْبُرْهَانَ عَلَى جَهْلِهِمْ، ذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى هُوَ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ، وَالْقِصَّةُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ: دَعَا مُوسَى إِلَيْهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ، فَأَجَابَهُ بَنُو لَاوَى، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوا السُّيُوفَ وَيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفَعَلُوا، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ " نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ "، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا سَبْعُونَ أَلْفًا وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنِ الْعَدَدَ، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْقِصَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِهِ فَنُمْسِكُ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي جَمِيعِ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ، يَقِفُ عِنْدَ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَيُثْبِتُ أَنَّ الْفَائِدَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى سِوَاهُ. قَالَ - تَعَالَى -: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) لِأَنَّهُ يُطَهِّرُكُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ الَّذِي دَنَّسْتُمْ بِهِ أَنْفُسَكُمْ وَيَجْعَلُكُمْ أَهْلًا لِمَا وَعَدَكُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِمَثُوبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - لَا تَتِمَّةٍ لِكَلَامِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ مُوسَى بِهِ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْكَثِيرُ التَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لَهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ قَبْلَهَا جَرَائِمُهُمْ، الرَّحِيمُ بِهِمْ، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ لَعَجَّلَ بِإِهْلَاكِهِمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمُ الْكُبْرَى وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ بِهِ. (وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ: يَا مُوسَى لَنْ نُصَدِّقَ بِمَا جِئْتَ بِهِ تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاتِّبَاعٍ، حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَانًا جَهْرَةً، فَيَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ لَكَ، (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أَيْ فَأَخَذَتِ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِكُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَالْقِصَّةُ هُنَالِكَ مَقْصُودَةٌ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا هُنَا التَّذْكِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سُؤَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَاقِعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا تَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا: لِمَاذَا اخْتُصَّ مُوسَى وَهَارُونُ بِكَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ دُونِنَا؟ وَانْتَشَرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَجَرَّأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ وَهَاجُوا عَلَى مُوسَى وَبَنِي هَارُونَ وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الشَّعْبِ، وَقَالُوا لِمُوسَى: لَسْتَ أَفْضَلَ مِنَّا، فَلَا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَتَرَفَّعَ وَتَسُودَ عَلَيْنَا بِلَا مَزِيَّةٍ، وَإِنَّنَا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَهُمْ إِلَى خَيْمَةِ الْعَهْدِ فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَجَاءَتْ نَارٌ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَخَذَتِ الْبَاقِينَ، وَهَذِهِ النَّارُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا هُنَا بِالصَّاعِقَةِ، وَهَلْ ثَمَّةَ مِنْ نَارٍ غَيْرُ الِاشْتِعَالِ بِالْكَهْرَبَاءِ، وَهُوَ مَا تُحْدِثُهُ الصَّاعِقَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْشِقَاقَ فِي الْأَرْضِ

56

أَيْضًا؟ . وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْعَذَابُ تِلْكَ الطَّائِفَةَ وَالْآخَرُونَ يَنْظُرُونَ، وَهَكَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَمَرَّدُونَ وَيُعَانِدُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ سَوْطُ عَذَابِ اللهِ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ، فَرُمُوا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْهَوَامُّ وَغَيْرُهَا حَتَّى أَمَاتَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَمُجَاحَدَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْثِ هُوَ كَثْرَةُ النَّسْلِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا وَظُنَّ أَنْ سَيَنْقَرِضُونَ بَارَكَ اللهُ فِي نَسْلِهِمْ؛ لِيُعِدَّ الشَّعْبَ - بِالْبَلَاءِ السَّابِقِ - لِلْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا الْآبَاءُ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ لَهَا. وَالْعِبْرَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْآيَاتِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ وَاحِدٌ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الضَّمَائِرُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالَّذِينَ صُعِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالشُّكْرِ، وَمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَّا لِبَيَانِ مَعْنَى وِحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَا يَبْلُوهَا اللهُ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا يُجَازِيهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيهَا يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ اللَّاحِقُ مِنْهَا بِمَا كَانَ لِلسَّابِقِ، كَأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَمُ مُتَكَافِلَةً، يَعْتَبِرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا سَعَادَتَهُ بِسَعَادَةِ سَائِرِ الْأَفْرَادِ وَشَقَاءَهُ بِشَقَائِهِمْ، وَيَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْعُقُوبَةِ إِذَا فَشَتِ الذُّنُوبُ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ لَمْ يُوَاقِعْهَا هُوَ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) وَهَذَا التَّكَافُلُ فِي الْأُمَمِ هُوَ الْمِعْرَاجُ الْأَعْظَمُ لِرُقِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْأُمَّةَ الَّتِي تَعْرِفُهُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِلشَّرِّ فَتَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. بَعْدَ هَذَا ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - نِعْمَةً أُخْرَى، بَلْ نِعْمَتَيْنِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَفَرُوا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا كَانَ بِهِ الْكُفْرَانُ، بَلْ طَوَاهُ وَأَشَارَ بِمَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا اللهَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْمَطْوِيِّ وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ فِي التَّذْكِيرِ، وَضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَعَائِمِ الْإِعْجَازِ. أَمَّا النِّعْمَةُ الْأُولَى فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ الذِّكْرَى، مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا فِي الْوُقُوعِ، فَإِنَّ التَّظْلِيلَ اسْتَمَرَّ إِلَى دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَلَوْلَا أَنْ سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْغَمَامَ يُظَلِّلُهُمْ فِي التِّيهِ لَسَفَعَتْهُمُ الشَّمْسُ وَلَفَحَتْ وُجُوهَهُمْ. وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِوَصْفِ الْغَمَامِ بِالرَّقِيقِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، بَلِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي كَثَافَتَهُ إِذْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ الظَّلِيلُ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّظْلِيلِ إِلَّا بِسَحَابٍ كَثِيفٍ يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ وَوَهَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ الَّتِي بِهَا الْمِنَّةُ إِلَّا بِالْكَثِيفِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ.

57

وَأَمَّا النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) مَا مُنِحَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - يُسَمَّى إِيجَادُهُ إِنْزَالًا وَمِنَّةً (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (57: 25) عَلَى أَنَّ الْمَنَّ يَنْزِلُ كَالنَّدَى، وَهُوَ مَادَّةٌ لَزِجَةٌ حُلْوَةٌ تُشْبِهُ الْعَسَلَ، تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ مَائِعَةً، ثُمَّ تُجَمَّدُ وَتَجِفُّ فَيَجْمَعُهَا النَّاسُ، وَمِنْهَا التَّرَنْجَبِينُ وَبِهِ فَسَّرَ الْمَنَّ مُفَسِّرُنَا وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا السَّلْوَى فَقَدْ فَسَّرُوهَا بِالسُّمَّانِيِّ، وَهُوَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ، فَمَعْنَى النُّزُولِ يَصِحُّ فِيهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا. وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) مُقَدَّرٌ فِيهِ الْقَوْلُ. وَفِي (سِفْرِ الْخُرُوجِ) أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكَلُوا الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَنَّ طَعْمَهُ كَالرُّقَاقِ بِالْعَسَلِ، وَكَانَ لَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْخُبْزِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَكْلٌ سِوَاهُ إِلَّا السَّلْوَى، فَقَدْ كَانَ مَعَهُمُ الْمَوَاشِي، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنَ النَّبَاتِ وَالْبُقُولِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تَقْرِيرٌ لِقَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ الدِّينُ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ لِمَنْفَعَتِهِ، وَكُلُّ مَا يَنْهَاهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ دَفَعَ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ نَفْعَ اللهِ فَيَنْفَعَهُ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ ضَرَّهُ فَيَضُرَّهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ. فَكُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (2: 86) (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) الْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: الْمَدِينَةُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمُجْتَمَعِ النَّاسِ وَمَسْكَنِ النَّمْلِ الَّذِي يَبْنِيهِ، وَمَادَّتُهَا تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَمِنْهَا قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتُهُ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْأُمَّةِ نَفْسِهَا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْبِلَادِ الصَّغِيرَةِ وَلَا يَصِحُّ هُنَا؛ فَإِنَّ الرَّغَدَ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا يَشَاءُ إِلَّا فِي الْمُدُنِ الْوَاسِعَةِ الْحَضَارَةِ. (قَالَ شَيْخُنَا) : وَنَسْكُتُ عَنْ تَعْيِينِ الْقَرْيَةِ كَمَا سَكَتَ الْقُرْآنُ، فَقَدْ أُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِدُخُولِهَا خَاشِعِينَ لِلَّهِ خَاضِعِينَ لِأَمْرِهِ مُسْتَشْعِرِينَ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَنِعَمَهُ وَأَفْضَالَهُ، وَهُوَ مَعْنَى السُّجُودِ وَرُوحِهِ الْمُرَادِ هُنَا.

59

وَأَمَّا صُورَةُ السُّجُودِ مِنْ وَضْعِ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادَهُ؛ لِأَنَّهَا سُكُونٌ وَالدُّخُولُ حَرَكَةٌ وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِطَّةِ: الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ خَطَايَا التَّقْصِيرِ وَكُفْرُ النِّعَمِ، وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ بِغَيْرِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، كَأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالشَّيْءِ فَيُخَالِفُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أُمِرَ بِخِلَافِهِ، يُقَالُ: بَدَّلْتُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ، أَيْ جِئْتُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ مَكَانَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَدَلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ كُلِّ تَعْبِيرٍ، خِلَافًا لِمَا يَتَرَاءَى لِغَيْرِ الْبَلِيغِ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلُوا الْقَوْلَ بِغَيْرِهِ، دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَإِنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ سَيِّدِهِ قَدْ يُخَالِفُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّهُمْ خَالَفُوا الْأَمْرَ خِلَافًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ غَيْرُ الَّذِي قِيلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحَرَكَةٍ يَأْتُونَهَا، وَكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا، وَتَعَبَّدُوا بِذَلِكَ، وَجُعِلَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا عَنْهُمْ، فَقَالُوا غَيْرَهُ وَخَالَفُوا الْأَمْرَ، وَكَانُوا مِنَ الْفَاسِقِينَ. وَأَيُّ شَيْءٍ أَسْهَلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْكَلَامِ، يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ، وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُكَلَّفُوا قَوْلَهُ لِسُهُولَةِ الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ أُمِرَ هَؤُلَاءِ بِكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا فَعَصَوْا بِتَرْكِهَا؟ إِنَّمَا يَعْصِي الْعَاصِي إِذَا كُلِّفَ مَا يَثْقُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ مَا اعْتَادَتْ، وَأَشَقُّ التَّكَالِيفِ حَمْلُ الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ تُفَكِّرَ فِي غَيْرِ مَا عَرَفَتْ، وَحَثُّ النُّفُوسِ عَلَى أَنْ تَتَكَيَّفَ بِغَيْرِ مَا تَكَيَّفَتْ. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى تَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالصُّورَةِ عَلَى الرُّوحِ، فَفَسَّرَ السُّجُودَ كَكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ بِالِانْحِنَاءِ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا (حِطَّةٌ) فَدَخَلُوا زَحْفًا عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ، أَيْ: أَنَّنَا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَكْلِ. مَنْشَأُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ، وَلِلْيَهُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَتَأْوِيلَاتٌ خُدِعَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَا نُجِيزُ حَشْوَهَا فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْجَلَالُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّورَتَيْنِ، وَبَيَانِ وُجُوهِهَا، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ هَذَا الرِّجْزَ كَانَ خَاصًّا بِالظَّالِمِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوهُ، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَشَدَّ التَّأْكِيدِ بِوَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، فَقَالَ: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وَلَمْ يَقُلْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ؛ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّأْكِيدِ الِاحْتِرَاسُ مِنْ إِبْهَامِ كَوْنِ الرِّجْزِ كَانَ عَامًّا، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وَفِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُحْسِنِينَ مَا فِيهِ.

وَأَقُولُ الْآنَ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ عِلَّةٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (5: 38) : فَالسَّرِقَةُ عِلَّةٌ لِلْقَطْعِ. وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُنَا كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا السَّبَبَ الْخَاصَّ الْعَارِضَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي بِبَيَانِ سَبَبٍ عَامٍّ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ هُمْ يَفْعَلُونَهُ دَائِمًا وَهُوَ قَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُمْ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، الَّذِي كَانَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْهُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَنَسْكُتُ عَنْ تَعْيِينِ نَوْعِ ذَلِكَ الرِّجْزِ، كَمَا هُوَ شَأْنُنَا فِي كُلِّ مَا أَبْهَمَهُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ الطَّاعُونُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مِنَ السَّمَاءِ) وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ. وَالرِّجْزُ: هُوَ الْعَذَابُ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ رِجْزٌ. وَقَدِ ابْتَلَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطَّاعُونِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِضُرُوبٍ أُخْرَى مِنَ النِّقَمِ فِي إِثْرِ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ ذَلِكَ تَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُنَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً وَتَبْصِرَةً، فَنُعَيِّنُ مَا عَيَّنَهُ، وَنُبْهِمُ مَا أَبْهَمَهُ (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هَذَا بَيَانٌ لِحَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هِجْرَتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ، فِيهَا أَصَابَهُمُ الظَّمَأُ فَعَادُوا عَلَى مُوسَى بِاللَّائِمَةِ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ الْخِصْبَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ بِالْأَمْوَاهِ، وَكَانُوا عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ يَمُنُّونَ عَلَيْهِ أَنْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مِصْرَ وَيَجْهَرُونَ بِالنَّدَمِ. فَاسْتَغَاثَ مُوسَى بِرَبِّهِ وَاسْتَسْقَاهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) أَيْ طَلَبَ السُّقْيَا لَهُمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بِتِلْكَ الْعَصَا الَّتِي ضَرَبَ بِهَا الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) . (قَالَ) : وَكَوْنُ هَذَا الْحَجَرِ هُوَ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ تَدَحْرَجَ بِثَوْبِ مُوسَى يَوْمَ كَانَ يَغْتَسِلُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الثَّوْبِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، فَيُحْمَلُ تَعْرِيفُ

60

الْحَجَرِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا يُفْهِمُ التَّعْرِيفُ أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي ضُرِبَ فَتَفَجَّرَتْ مِنْهُ الْمِيَاهُ حَجَرٌ مَخْصُوصٌ لَهُ صِفَاتٌ تُمَيِّزُهُ عِنْدَهُمْ، كَكَوْنِهِ صُلْبًا أَوْ عَظِيمًا تَتَّسِعُ مِسَاحَتُهُ لِتِلْكَ الْعُيُونِ، وَيَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ مَوَارِدُ لِتِلْكَ الْأُمَمِ، (أَوْ كَوْنِهِ يَقَعُ تَحْتَ أَعْيُنِهِمْ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ، لَيْسَ فِي مَحِلَّتِهِمْ سِوَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ؛ لِيُفِيدَنَا بُعْدَ الْمَرْغُوبِ عَنِ التَّنَاوُلِ، وَعَظَمَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَثَرَهَا الْجَلِيلَ فِي تَقْرِيبِهِ وَتَحْصِيلِهِ) وَعُبِّرَ عَنْهُ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ بِالصَّخْرَةِ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّ لَنَا فَائِدَةً فِي أَكْثَرِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ مِنَ التَّعْيِينِ لَمَا تَرَكَهُ. ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَوِّرَ حَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاغْتِبَاطَهُمْ بِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغَدِ فِي مَهَاجِرِهِمْ، فَقَالَ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ بِالْأَمْرِ لِيَسْتَحْضِرَ سَامِعُ الْخِطَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمَ فِي ذِهْنِهِ، وَيَتَصَوَّرَ اغْتِبَاطَهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ الْآنَ وَالْخِطَابُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجَارَى وَلَا تُمَارَى، ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أَيْ لَا تَنْشُرُوا فَسَادَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَكُونُوا فِي الشُّرُورِ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلنَّاسِ. يُقَالُ: عَثَا إِذَا نَشَرَ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ وَأَثَارَ الْخُبْثَ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِفْسَادِ وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِ (مُفْسِدِينَ) حَالًا مِنْ ضَمِيرِ (تَعْثَوْا) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ فِي الْقَصَصِ، وَيَقُولُونَ هُنَا: إِنَّ الِاسْتِسْقَاءَ وَضَرْبَ الْحَجَرِ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِدُخُولِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَذُكِرَ هُنَا بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ يُفْهَمُ مِمَّا قُلْنَاهُ مِرَارًا فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّارِيخَ وَسَرْدَ الْوَقَائِعِ مُرَتَّبَةً بِحَسْبِ أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالْعِظَةُ بِبَيَانِ النِّعَمِ مُتَّصِلَةً بِأَسْبَابِهَا لِتُطْلَبَ بِهَا، وَبَيَانِ النِّقَمِ بِعِلَلِهَا لِتُتَّقَى مِنْ جِهَتِهَا، وَمَتَى كَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْوَقَائِعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّذْكِيرِ وَأَدْعَى إِلَى التَّأْثِيرِ. إِنَّ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ لِهَذَا الْعَهْدِ قَدْ رَجَعُوا إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَقَالُوا: سَتَأْتِي أَيَّامٌ يَسْتَحِيلُ فِيهَا تَرْتِيبُ الْحَوَادِثِ وَالْقَصَصِ بِحَسْبِ تَوَارِيخِهَا لِطُولِ الزَّمَنِ، وَكَثْرَةِ النَّقْلِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ سِيَرِ الْمَاضِينَ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ النَّتَائِجِ وَالْآثَارِ فِي حَالِ الْحَاضِرِينَ، وَقَالُوا: إِنَّ الطَّرِيقَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنْ نَنْظُرَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ كَالثَّوَرَاتِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَنُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَنَتَائِجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ لِجُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ بِالتَّارِيخِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ الْوَقَائِعِ هُوَ مِنَ الزِّينَةِ فِي وَضْعِ التَّأْلِيفِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ، بَلْ رُبَّمَا يُصَدُّ عَنْهُ بِمَا يُكَلِّفُ الذِّهْنَ مِنْ مُلَاحَظَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ، جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَيَّدَهُ سَيْرُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِنْسَانِ.

هَذَا مَا نَقُولُهُ لَهُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ لَا فِيهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَرْضَ التِّيهِ هِيَ الْأَرْضُ الْمُمْتَدَّةُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيْدَاءِ فِلَسْطِينَ مِمَّا يَلِي حُدُودَ مِصْرَ، وَفِيهَا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ بِلَا خِلَافٍ. (وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ) أَنَّهُ كَانَ فِي رُفَيْدِيمَ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ (سِينَ) الَّتِي بَيْنَ إِيلِيمَ وَسَيْنَاءَ. وَيُطْلَقُ التِّيهُ عَلَى ضَلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْأَرْضِ. وَالْعِبْرَةُ فِي الْقِصَّةِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يُحَاوِلُ نَزْعَ مَا فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي أُشْرِبُوا عَقَائِدَهُ فِي مِصْرَ، وَمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي طَبَعَهُ فِيهَا اسْتِبْدَادُ الْمِصْرِيِّينَ وَتَعْبِيدُهُمْ إِيَّاهُمْ؛ لِيَكُونُوا أَعْلِيَاءَ أَعِزَّاءَ بِعِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَهِيَ بِلَادُ الشَّامِ الَّتِي وَعَدَ اللهُ بِهَا آبَاءَهُمْ، وَكَانُوا لِطُولِ الْإِقَامَةِ فِي مِصْرَ قَدْ أَلِفُوا الذُّلَّ وَأَنِسُوا بِالشَّعَائِرِ وَالْعَادَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يَخْطُونَ خُطْوَةً إِلَّا وَيُتْبِعُونَهَا بِخَطِيئَةٍ، وَكُلَّمَا عُرِضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ يَتَبَرَّمُونَ بِمُوسَى وَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مِصْرَ وَيَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَيْهَا (كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ) وَيَسْتَبْطِئُونَ وَعْدَ اللهِ، فَتَارَةً يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ، وَتَارَةً يَصْنَعُونَ عِجْلًا وَيَعْبُدُونَهُ، وَتَارَةً يَفْسُقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ أَبَوْا وَاعْتَذَرُوا بِالْخَوْفِ مِنْ أَهْلِهَا الْجَبَّارِينَ، لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجُبْنِ الَّذِي هُوَ حَلِيفُ الذُّلِّ، وَكَانَ مُوسَى أَرْسَلَ كَالِبًا وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ رَائِدَيْنِ لِيَنْظُرَا حَالَ الْبِلَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمَا عَشْرَةً مِنْ بَقِيَّةِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ قَوْمًا جَبَّارِينَ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَأَخْبَرَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا وَعَدَ اللهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا سَهْلٌ وَالظَّفَرَ مَضْمُونٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُمَا بَلْ (قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) (5: 24) ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ انْقِرَاضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَأَشَّبَتْ فِي نُفُوسِهِمْ عَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَايَلَتْهَا صِفَاتُ الرُّجُولِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ مِزَاجُهَا وَتَعَذَّرَ عِلَاجُهَا، وَخُرُوجِ نَشْءٍ جَدِيدٍ يَتَرَبَّى عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَأَخْلَاقِ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ، فَتَاهُوا حَتَّى انْقَرَضَ أُولَئِكَ الْمُصَابُونَ بِاعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، وَبَقِيَ النَّشْءُ الْجَدِيدُ وَبَعْضُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

61

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. كَانُوا قَوْمًا فَلَّاحَةً فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ، فَأَجْمَعُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَطَلَبَتْ أَنْفُسُهُمُ الشَّقَاءَ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ وَنَقْدِهِ وَرَدِّهِ مَا نَصُّهُ: فَلَّاحَةٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ فَلَّاحٍ بِمَعْنَى الزُّرَّاعِ، وَعِكْرُهُمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَصْلُهُمْ، وَأَجَمَ الطَّعَامُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلِمَ كَرِهَهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا بَعَثَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُخْرِجَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَالسَّبَبُ فِي جَهْرِهِمْ بِذَلِكَ وَثَوْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ تَمَكُّنُ الْعَادَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا وَجَاءَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَأْلَفُونَ نَزَعُوا إِلَى مَا كَانُوا قَدْ عُوِّدُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ الْتِمَاسُ عُذْرٍ لَهُمْ، وَلَمَا عَدَّ اللهُ هَذَا الْقَوْلَ فِي خَطَايَاهُمْ، بَلْ إِنَّ السَّآمَةَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا مَا شَذَّ مِنْهَا لِعَادَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ، وَلَا يُعَدُّ مَا هُوَ مِنْ مَنَازِعِ الطِّبَاعِ جُرْمًا إِذَا لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ فِي مَحْظُورٍ. وَسِيَاقُ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَمَا يَلْحَقُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) (2: 63) . . . إِلَخْ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عُدِّدَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمْ مَعَ تَضَافُرِ الْآيَاتِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَتَوَارُدِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ كُلُّهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِيرَادَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَاسْتِحْقَاقِ غَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ مَقَالِهِمْ هَذَا. وَالَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ النَّزَقَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى طِبَاعِهِمْ وَمَلَكَ الْبَطَرُ أَهْوَاءَهُمْ حَتَّى كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هَيَّأَهُمُ اللهُ لَهُ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْخَسْفِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. وَمَعَ كَثْرَةِ مَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْقَائِمَةِ عَلَى صِدْقِ

وَعْدِهِ لَهُمْ، لَمْ تَسْتَيْقِنْهُ أَنْفُسُهُمْ، بَلْ كَانُوا عَلَى رَيْبٍ مِنْهُ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَدَعَهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَجَاءَ بِهِمْ فِي الْبَرِّيَّةِ لِيُهْلِكَهُمْ؛ فَلِذَلِكَ دَأَبُوا عَلَى إِعْنَاتِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنَ الطَّلَبِ فِيمَا يُسْتَطَاعُ وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ، حَتَّى يَيْأَسَ مِنْهُمْ فَيَرْتَدَّ بِهِمْ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ أَلْفَوُا الذِّلَّةَ، وَلَهُمْ مَطْمَعٌ فِي الْعَيْشِ وَأَمَلٌ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْهَلَكَةِ، مِمَّا ذَكَرَهُ اللهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وَيُرْشِدُ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِعْنَاتِ قَوْلُهُمْ: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) ، فَقَدْ عَبَّرَ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ بِمَا فِيهِ حَرْفُ النَّفْيِ الَّذِي يَأْتِي لِسَلْبِ الْفِعْلِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَعَ تَأْكِيدِهِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَكَ أَمَلٌ فِي بَقَائِنَا مَعَكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنِ الْتِزَامِ طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ كَمَا تَزْعُمُ فَادْعُهُ يُخْرِجْ لَنَا مَا يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ نَبْقَى مَعَكَ؛ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَكَ وَوَعَدْتَنَا - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَرِّيَّةٍ غَيْرِ مُنْبِتَةٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ هَذَا عَنْ سَآمَةٍ وَلَا أَجَمٍ مِنْ وَحْدَةِ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّهُ نَزَقٌ وَبَطَرٌ كَمَا بَيَّنَا، وَطَلَبٌ لِلْخَلَاصِ مِمَّا يَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أَخْبَارِهِمْ. وَوَصَفُوا الطَّعَامَ بِالْوَاحِدِ مَعَ أَنَّهُ نَوْعَانِ - الْمَنُّ وَالسَّلْوَى - لِأَنَّهُمَا طَعَامُ كُلِّ يَوْمٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ يَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ عِدَّةَ أَلْوَانٍ لَا تَتَغَيَّرُ: إِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَلْوَانِ هِيَ غِذَاؤُهُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، فَهِيَ غِذَاءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْأَلْوَانُ تَغَيَّرَ نَوْعُ الْغِذَاءِ فَكَانَ طَعَامًا مُتَعَدِّدًا. وَالْبَقْلُ مِنَ النَّبَاتِ: مَا لَيْسَ بِشَجَرِ دِقٍّ وَلَا جِلٍّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا يَنْبُتُ فِي بَزْرِهِ وَلَا يَنْبُتُ فِي أُرُومَةٍ ثَابِتَةٍ. وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْبَقْلِ وَدِقِّ الشَّجَرِ أَنَّ الْبَقْلَ إِذَا رُعِيَ لَمْ يَبْقَ لَهُ سَاقٌ، وَالشَّجَرُ تَبْقَى لَهُ سُوقٌ وَإِنْ دَقَّتْ. وَأَرَادُوا مِنَ الْبَقْلِ مَا يَطْعَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَطَايِبِ الْخُضَرِ كَالْكَرَفْسِ وَالنَّعْنَاعِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُغْرِي بِالْقَضْمِ، وَيُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ، وَالْقِثَّاءُ: هِيَ أُخْتُ الْخِيَارِ، تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ " الْقَتَّةُ " وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ مَعْرُوفَانِ، وَالْفُومُ هُوَ: الْحِنْطَةُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ هُوَ: الثُّومُ. أُبْدِلَتِ الثَّاءُ فَاءً كَمَا فِي جَدَثٍ وَجَدَفٍ. وَطَلَبُهُمْ لِلْحِنْطَةِ هُوَ طَلَبُهُمْ لِلْخُبْزِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهَا. (قَالَ) مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى أَشَرِهِمْ وَإِنْكَارًا لِتَبَرُّمِهِمْ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ؟ أَيْ أَتَطْلُبُونَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَسِيسَةَ بَدَلَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى؟ وَالْمَنُّ فِيهِ الْحَلَاوَةُ الَّتِي تَأْلَفُهَا أَغْلَبُ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالسَّلْوَى مِنْ أَطْيَبِ لُحُومِ الطَّيْرِ، وَفِي مَجْمُوعِهَا غِذَاءٌ تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ، وَلَيْسَ فِيمَا طَلَبُوهُ مَا يُسَاوِيهِمَا لَذَّةً وَتَغْذِيَةً. أَقُولُ: وَالْأَدْنَى فِي اللُّغَةِ الْأَقْرَبُ، وَاسْتُعِيرَ لِلْأَخَسِّ وَالْأَدْوَنِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْبُعْدُ لِلرِّفْعَةِ، وَالِاسْتِبْدَالُ طَلَبُ شَيْءٍ بَدَلًا مِنْ آخَرَ، وَالْبَاءُ تَدَخُلُ الْمُبْدَلَ مِنْهُ الْمُرَادَ تَرْكِهِ. ثُمَّ قَالَ: (اهْبِطُوا مِصْرًا) مِنَ الْأَمْصَارِ (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أَيْ فَإِنَّكُمْ إِنْ هَبَطْتُمُوهُ وَنَزَلْتُمُوهُ وَجَدْتُمْ فِيهِ مَا سَأَلْتُمْ.

أَمَّا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي قَضَى اللهُ أَنْ تُقِيمُوا فِيهَا إِلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنْبِتَ هَذِهِ الْبُقُولَ، وَأَنَّ اللهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - لَمْ يَقْضِ عَلَيْكُمْ بِالتِّيهِ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ إِلَّا لِجُبْنِكُمْ وَضَعْفِ عَزَائِمِكُمْ عَنْ مُغَالَبَةِ مَنْ دُونِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، فَلَوْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ مِنْ كَرَاهَتِكُمْ لِلطَّعَامِ الْوَاحِدِ، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ قَضَيْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ. فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْخَلَاصَ مِمَّا كَرِهْتُمْ، فَأَقْدِمُوا عَلَى مُحَارَبَةِ مَنْ يَلِيكُمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ، فَإِنَّ اللهَ كَافِلٌ لَكُمُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُونَ طَلِبَتَكُمْ، فَالْتَمِسُوا الْخَيْرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي أَفْعَالِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ خُلُقٌ خَبِيثٌ مِنْ أَخْلَاقِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ يُضَادُّ الْإِبَاءَ وَالْعِزَّةَ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ فِيهِ مَعْنَى اللِّينِ. فَالذِّلُّ بِالْكَسْرِ: اللِّينُ، وَبِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: ضِدَّ الصُّعُوبَةِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ الْمَادَّةَ وَجَدْتَهَا لَا تَخْلُو مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. صَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ لَيِّنٌ يَنْفَعِلُ لِكُلِّ فَاعِلٍ، وَلَا يَأْبَى ضَيْمَ ضَائِمٍ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الَّذِي يُهَوِّنُ عَلَى النَّفْسِ قَبُولَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ غَالِبًا عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْقَوْلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِذْلَالِ وَالْقَهْرِ. وَكَثِيرًا مَا تَرَى الْأَذِلَّاءَ تَحْسَبُهُمْ أَعِزَّاءَ يَخْتَالُونَ فِي مِشْيَتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ، وَيُبَاهُونَ بِمَا لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ وَآبَاءٍ، وَرُبَّمَا فَاخَرُوا مَنْ لَا يَخْشَوْنَ سَطْوَتَهُ مِنَ الْكُبَرَاءِ: وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا وَلَكِنْ مَتَى شَعَرَ الذَّلِيلُ بِنِيَّةٍ مِنْ نَفْسِ الْقَاهِرِ، أَوْ طَافَ بِذِهْنِهِ خَيَالُ يَدٍ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ اسْتَخْذَى وَاسْتَكَانَ، وَظَهَرَ السُّكُونُ عَلَى بَدَنِهِ، وَاشْتَمَلَ الْخُشُوعُ عَلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي يَسْطَعُ مِنَ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَسْكَنَةَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفَقْرُ مَسْكَنَةً؛ لِأَنَّ الْعَائِلَ الْمُحْتَاجَ تَضْعُفُ حَرَكَتُهُ وَيَذْهَبُ نَشَاطُهُ، فَهُوَ بِعَدَمِ مَا يَسُدُّ عَوَزَهُ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ عَالَمِ الْجَمَادِ، فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ حَاجَةُ الْأَحْيَاءِ فَيَسْكُنُ. وَالْمُشَاهَدَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى تَحْقِيقِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَسْكَنَةِ فِي أَوْضَاعِ أَعْضَائِهِمْ وَمَا يَبْدُو عَلَى وُجُوهِهِمْ وَمَا طُبِعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. فَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَهُودِ هُوَ جَعْلُ الذُّلِّ وَضَعْفِ الْعَزِيمَةِ مُحِيطِينَ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ الْقُبَّةُ الْمَضْرُوبَةُ بِمَنْ فِيهَا. أَوْ إِلْصَاقُهُمَا بِطِبَاعِهِمْ كَمَا تُطْبَعُ الطُّغْرَّى عَلَى السِّكَّةِ، (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أَيْ رَجَعُوا بِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ أَوْ عَادَ بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَوْطِهِ وَمُنْتَهَى سَعْيِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ آخِرُ أَطْوَارِ الْيَهُودِ فِي بَغْيِهِمْ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِهِ: فَقْدُ الْمُلْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَقَالَ شَيْخُنَا: اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ فَقَدْ أَصَابَهُ، فَقَدْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنْكِيرُ الْغَضَبِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ سَخَطِهِ جَلَّ شَأْنُهُ. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) (أَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَبِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ بِسَبَبِ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ

بِآيَاتِ اللهِ. . . إِلَخْ. فَإِنَّهُمْ بِإِحْرَاجِهِمْ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِعْنَاتِهِمْ لَهُ فِي الْمَطَالِبِ، مَعَ كَثْرَةِ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْعَجَائِبِ، وَمَا أَظْهَرَ اللهُ مِنَ الْغَرَائِبِ، وَقَدْ دَلُّوا عَلَى أَنْ لَا أَثَرَ لِلْآيَاتِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَهُمْ بِهَا كَافِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَنِسْيَانُ الْآيَاتِ وَعَدُّهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ يَعُدُّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ كُفْرًا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ قَتَلَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْهُمْ إِلَّا بِحَقِّهِ الْمُبَيَّنِ فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ دَلَّ فِيهِمْ عَلَى طِبَاعٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْكَرَمِ، وَقُلُوبٍ غُلْفٍ دُونَ الْفَهْمِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَالْأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا مَقْهُورًا، ثُمَّ هُوَ مَهْبِطُ غَضَبِ اللهِ وَمَحَطُّ نِقَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ كُفْرًا لِنِعَمِهِ، وَقَوْلُهُ: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) مَعَ أَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ يَزِيدُ فِي شَنَاعَةِ حَالِهِمْ، وَيُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي الْفَهْمِ، وَلَا مُتَأَوِّلِينَ لِلْحُكْمِ، بَلِ ارْتَكَبُوا هَذَا الْجُرْمَ الْعَظِيمَ عَامِدِينَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِ مُخَالِفُونَ لِمَا شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ فِي كِتَابِ دِينِهِمْ. (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ: ذَلِكَ الذُّلُّ وَتِلْكَ الْخَلَاقَةُ بِالْغَضَبِ إِنَّمَا لَزِمَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَصَوُا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ وَلِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا تِلْكَ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَهُمْ فِي شَرَائِعِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ وَالْحُدُودُ هِيَ الْوَسِيلَةُ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَتَمْكِينِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْكَافِلَةَ بِنِظَامِهِمْ، الْحَافِظَةَ لِبِنَاءِ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا أَهْمَلُوهَا فَسَدَتْ أُلْفَتُهُمْ، وَانْهَدَمَ بِنَاؤُهُمْ، وَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِمُ الذِّلَّةُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فَارَقَتْهُمْ إِلَّا مُنْهَزِمَةً مِنْ يَدَيِ سُلْطَانِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُدُّهَا عَنْهُمْ إِلَّا مَعَاقِلُ النِّظَامِ تَحْتَ رِعَايَتِهِ، وَلَزِمَتْهُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ بَعْدَ هَذَا لُزُومَ الطَّابِعِ لِلْمَطْبُوعِ. وَالْمُتَبَادِرُ - وَعَدَّهُ الْأُسْتَاذُ احْتِمَالًا - أَنْ تَرْجِعَ الْإِشَارَةُ فِي (ذَلِكَ) إِلَى الثَّانِي أَيِ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِ النَّبِيِّينَ. أَيْ إِنَّ كُفْرَهُمْ وَجَرَاءَتَهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ بِالْقَتْلِ، إِنَّمَا مَنْشَؤُهُمَا عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدِينُ بِدِينٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أيًّا كَانَتْ يَتَهَيَّبُ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَالَفَتَهَا، فَإِذَا خَالَفَهَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ تَرَكَتِ الْمُخَالَفَةُ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ، وَضَعُفَتْ هَيْبَةُ الشَّرِيعَةِ فِي نَظَرِهِ، فَإِذَا عَادَ زَادَ ضَعْفُ سُلْطَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَصِيرَ الْمُخَالَفَةُ طَبْعًا وَرَيْنًا، وَيَنْسَى مَا قَامَ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ، وَيَضْرَى بِالْعُدْوَانِ، كَمَا يَضْرَى الْحَيَوَانُ بِالِافْتِرَاسِ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ الْعَامِلُ تَقْوَى مَلَكَتُهُ فِيهِ خُصُوصًا مَا اتَّبَعَ فِيهِ الْهَوَى. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

أَحَاطَ الْقَضَاءُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْيَهُودِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، فَأَلْزَمَ الذُّلَّ بَاطِنَهُمْ، وَكَسَا بِالْمَسْكِّنَةِ ظَاهِرَهُمْ، وَبَوَّأَهُمْ مَنَازِلَ غَضَبِهِ، وَجَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مَسَاقِطَ نِقَمِهِ، فَذَلِكَ اللهُ الَّذِي يَقُولُ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) سَجَّلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُفْرٍ بِآيَاتِ اللهِ، وَانْصِرَافٍ عَنِ الْعِبْرَةِ، وَاسْتِعْصَاءٍ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، وَخُرُوجٍ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَحْكَامِهَا، اقْتَرَفَ ذَلِكَ سَلَفُهُمْ، وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ خَلَفُهُمْ، فَحُقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، فَلَوْ قَرَّ الْخُطَّابُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يَتْلُهَا مِنْ رَحْمَتِهِ مَا بَعْدَهَا، لَحُقَّ عَلَى كُلِّ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنْ يَيْأَسَ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ لِلْأَمَلِ فِي عَفْوِ اللهِ مُتَنَفَّسٌ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْقُنُوطُ لَازِمًا لِكُلِّ عَاصٍ، قَابِضًا عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُعْتَدٍ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ سَبَبَ مَا نَزَلَ بِالْيَهُودِ إِنَّمَا هُوَ عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ لَهُمْ، وَسُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَأَحْكَامُهُ الْعَادِلَةُ فِيهِمْ لَا تَتَبَدَّلُ؛ لِهَذَا جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . . . إِلَخْ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ مُتَضَمِّنًا لِجَمِيعِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِ نَبِيٍّ سَابِقٍ وَانْتَسَبَ إِلَى شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ مَاضِيَةٍ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ السَّابِقَ، وَإِنْ حُكِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَمْ يُصِبْهُمْ إِلَّا لِجَرِيمَةٍ قَدْ تَشْمَلُ الشُّعُوبَ عَامَّةً، وَهِيَ الْفُسُوقُ عَنْ أَوَامِرِ اللهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ، فَكُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَمَا أَجْرَمُوا سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ مَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا أَخَذَهُمْ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ مِلَّةِ يَهُودٍ، بَلْ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) . وَأَمَّا أَنْسَابُ الشُّعُوبِ وَمَا تَدِينُ بِهِ مِنْ دِينٍ وَمَا تَتَّخِذُهُ مِنْ مِلَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَاءِ اللهِ وَلَا غَضَبِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِفْعَةُ شَأْنِ قَوْمٍ وَلَا ضِعَتُهُمْ، بَلْ عِمَادُ الْفَلَاحِ وَوَسِيلَةِ الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى -، بِأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهِ سُطُوعًا عَلَى النَّفْسِ مِنْ مَشْرِقِ الْبُرْهَانِ، أَوْ جَيَشَانًا فِي الْقَلْبِ مِنْ عَيْنِ الْوِجْدَانِ، فَيَكُونُ الِاعْتِقَادُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ خَالِيًا مَنْ شَوْبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالْيَقِينُ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ خَالِصًا مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدِ ارْتَقَى بِإِيمَانِهِ مُرْتَقًى يَشْعُرُ فِيهِ بِالْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ. فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى الْجَنَابِ الْأَرْفَعِ أَغْضَى هَيْبَةً وَأَطْرَقَ إِلَى أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ خُشُوعًا، وَإِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، مِمَّا سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ، شَعَرَ فِي نَفْسِهِ عِزَّةً بِاللهِ، وَوَجَدَ فِيهَا قُوَّةً تَصْرِفُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُوَاهُ. لَا يَعْدُو حَدًّا ضُرِبَ لَهُ، وَلَا يَقِفُ دُونَ غَايَةٍ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، سَيِّدًا لِكُلِّ شَيْءٍ بَعْدَهُ. كَتَبَ مَا تَقَدَّمَ الْأُسْتَاذُ بِقَلَمِهِ؛ إِذِ اقْتَرَحْتُ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي دَرْسِهِ وَإِنَّنِي أُتِمُّهُ عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي جَرَيْتُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ:

62

هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي يَكُونُ أَصْلًا لِتَهْذِيبِ أَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَمَصْدَرًا لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ عَنْهُ. وَلِلْإِيمَانِ إِطْلَاقٌ آخَرُ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالدِّينِ فِي الْجُمْلَةِ، أَيِ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَبِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فُلَانٌ النَّبِيُّ مَثَلًا هُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَيَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، فَهُوَ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ لُغَةً وَعُرْفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا، وَبِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْثًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي تَفْصِيلِهِ لِلْإِذْعَانِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النُّفُوسِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَا اللهِ وَلَا غَضَبِهِ. . . إِلَخْ، وَهُوَ كَوْنُ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) مُرَادٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ سَيَتَّبِعُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْفِرَقُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي عُرِفَتْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْأَلْقَابِ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ يَهُودٍ وَالَّذِينَ هَادُوا، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ النَّصَارَى، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ الصَّابِئِينَ (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) هَذَا بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ؛ أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا - وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَوَصْفُهُ آنِفًا - وَآمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا تَصْلُحُ بِهِ نَفْسُهُ وَشُئُونُهُ مَعَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُ، وَمَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِمَجْهُولٍ فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ أَتَمَّ بَيَانٍ، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ إِنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَادِلَ، سَوَاءٌ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُحَابِي فِيهَا فَرِيقًا وَيَظْلِمُ فَرِيقًا. وَحُكْمُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ لَهُمْ أَجَرَهُمُ الْمَعْلُومُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ يَوْمَ يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ. وَتَقَدَّمَ هَذَا التَّعْبِيرُ فِي الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهِ. فَالْآيَةُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْأُمَمِ، تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 133 - 124) فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي حَمْلِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . . إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . . . إِلَخْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُعَامَلَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ الْفِرَقِ أَوِ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ بِنَبِيٍّ وَوَحْيٍ بِخُصُوصِهَا؛

الظَّانَّةِ أَنَّ فَوْزَهَا فِي الْآخِرَةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلًا، فَاللهُ يَقُولُ: إِنَّ الْفَوْزَ لَا يَكُونُ بِالْجِنْسِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِيمَانٍ صَحِيحٍ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّفْسِ، وَعَمَلٌ يَصْلُحُ بِهِ حَالُ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ نَفَى كَوْنَ الْأَمْرِ عِنْدَ اللهِ بِحَسْبِ أَمَانِيِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا بَعْدُ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ نَبِيِّكُمْ، وَدِينُنَا بَعْدُ دِينِكُمْ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) (4: 12) الْآيَةِ. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ - تَعَالَى - وَكَذَبُوا، لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ)) . وَالْحِكْمَةُ فِي عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِالنَّعْيِ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ - أَيًّا كَانَ - ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ هَذَا الْغُرُورَ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ اكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ جِنْسِيَّةً فَقَطْ. وَتَرْكُ الْعَمَلِ لَازِمٌ أَوْ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، أَيْ عَدَمِ فَهْمِ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَتَبِعَ هَذَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ بِمَا هُوَ فِيهِ لَا يَنْظُرُ فِيمَا سِوَاهُ نَظَرًا صَحِيحًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْخِلَافَ الْمَشْهُورَ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ: إِنَّهُمْ نَاجُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِشَرْعٍ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ بِالْعَقْلِ يُدْرَكُ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِلُ، عَدَّهُمْ غَيْرَ نَاجِينَ. وَهَذَا رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ إِلَّا بِالشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ النَّظَرِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ أَنْبِيَاءَ وَلَا يَجِدُونَ لَدَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ، سَالِمًا مِنَ النَّزَعَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا مِثْلُ الْيَهُودِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّوْا أَهْلَ فَتْرَةٍ، فَإِنَّهُمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَتَحْرِيفِهِمْ بَعْضَ مَا حَفِظُوا، قَدْ بَقِيَ جَوْهَرُ دِينِهِمْ مَعْرُوفًا لَمْ يَغْشَ أَحْكَامَهُ مَا يَمْنَعُ الِاهْتِدَاءَ بِهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: (وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) (5: 43) وَكَذَلِكَ الْمَسِيحِيُّونَ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ فَتْرَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ وَوَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَزِيَادَةً مِمَّا حَفِظُوا مِنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ، وَرُوحُ الدَّعْوَةِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا وَلَا يَأْخُذُونَ بِتِلْكَ

الْأَحْكَامِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ يَحُولُ دُونَ الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَإِنْ كَانُوا فِرْقَةً مِنَ النَّصَارَى كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْوِفَاقِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّقَالِيدِ، كَالْمَعْمُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ وَتَعْظِيمِ يَوْمِ الْأَحَدِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ أَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْأَصْلِ أَشَدَّ، حَتَّى إِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا تَأْثِيرَ الْكَوَاكِبِ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الْبِدَعُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رُوحِ الْمَسِيحِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الزُّهْدَ وَالتَّوَاضُعَ اللَّذَيْنِ يَفِيضَانِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ تُؤْثَرُ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالنَّصَارَى صَارُوا أَشَدَّ أُمَمِ الْأَرْضِ عُتُوًّا وَطَمَعًا وَإِسْرَافًا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَيُقَالُ: إِنَّ الصَّابِئَةَ مِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُؤْمِنُونَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ كَمَا اخْتَلَطَ عَلَى الْحُنَفَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ، فَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَإِلَّا فَهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُسْأَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ فَهْمِهِ كَمَا يَجِبُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ هَدْيٌ آخَرُ، كَأَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ. عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ تُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ، أَوْ بَلَغَهُمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ بُعِثُوا، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ صَحِيحٌ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا، كَالْحُنَفَاءِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِهِمَا شَيْئًا خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَحُجَّةُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (17: 15) وَقَوْلِهِ: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (4: 165) وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِبُلُوغِ دَعْوَةِ أَيِّ نَبِيٍّ فِي رُكْنَيِ الدِّينِ الرَّكِينَيْنِ، وَهُمَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ مُرْسَلًا إِلَيْهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، فَلَا تَتَوَقَّفُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَلَى بُلُوغِ دَعْوَةِ رَسُولٍ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الرُّسُلُ مُؤَكِّدِينَ لِمَا يَفْهَمُ الْعَقْلُ مُوَضِّحِينَ لَهُ وَمُبَيِّنِينَ أُمُورًا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهَا، كَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَكَيْفِيَّاتِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِي اللهَ - تَعَالَى. وَأَوَّلُوا آيَةَ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (17: 15) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا بِإِفْنَاءِ الْأُمَّةِ أَوِ اسْتِذْلَالِهَا، وَالذَّهَابِ بِاسْتِقْلَالِهَا، وَيُنَافِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ (وَمَا كُنَّا) مِنْ إِرَادَةِ نَفْيِ الشَّأْنِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ، وَلَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ أَدِلَّةٌ وَمُنَاقَشَاتٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِهَا. وَعَنِ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّ النَّاسَ فِي شَأْنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ - أَيْ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا لِذَلِكَ الْعَهْدِ - هَؤُلَاءِ نَاجُونَ حَتْمًا (أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أُخْرَى صَحِيحَةٌ) . وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَدِلَّتِهَا إِهْمَالًا أَوْ عِنَادًا

63

أَوِ اسْتِكْبَارًا وَهَؤُلَاءِ مُؤَاخَذُونَ حَتْمًا. وَمَنْ بَلَغَتْهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَوْ مَعَ فَقْدِ شَرْطِهَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، وَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ. هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِأُصُولِ الْكَلَامِ. (وَأَقُولُ) عِبَارَتُهُ فِي كِتَابِ فَيْصَلِ التَّفْرِقَةِ فِي هَذَا الصِّنْفِ هِيَ: وَصِنْفٌ ثَالِثٌ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ بَلَغَهُمُ اسْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَلْ سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا أَنَّ كَذَّابًا مُدَلِّسًا اسْمَهُ مُحَمَّدٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَمَا سَمِعَ صِبْيَانُنَا أَنَّ كَذَّابًا يُقَالُ لَهُ: (الْمُقَفَّعُ) (لَعَنَهُ اللهُ) تَحَدَّى بِالنُّبُوَّةِ كَاذِبًا، فَهَؤُلَاءِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اسْمَهُ لَمْ يَسْمَعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ، وَهَؤُلَاءِ سَمِعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا لَا يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ فِي الطَّلَبِ اهـ. وَأَقُولُ فِي حَلِّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: إِنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ - وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا وَبِشَرْطِهَا - إِذَا آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي بَيَّنَهُ نَبِيُّهُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَهُمْ نَاجُونَ مَأْجُورُونَ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذَا آمَنُوا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَنَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ شَيْءٌ، بَلْ يَتَنَاوَلَهُمُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَقْوَالِهِمْ دُونَ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْقَلْبِ، وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنْ نَازَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَقْهَرَهُ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) ثُمَّ أَزِيدُ الْآنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالتَّفْصِيلَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهَا. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِشَرْطِهَا أَوْ مُطْلَقًا نَاجِينَ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. إِذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ بَعْثُ الرُّسُلِ شَرًّا مِنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. وَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُحَاسِبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ مَا بِحَسْبِ مَا عَقَلُوا وَاعْتَقَدُوا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمُقَابِلِهِمَا، وَسَتَجِدُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

أَطْمَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي رَحْمَتِهِ بَعْدَمَا قَرَّعَهُمْ بِالنُّذُرِ الَّتِي تَكَادُ تُوقِعُ الْيَأْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْمَنْفَذَ إِلَى هَذَا الطَّمَعِ، بَلِ الْبَابِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الرَّجَاءِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعَثَ لِتَقْرِيرِهِمَا الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَهُمَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْيَقِينِيُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَإِشْرَاكُ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا يَقْضِي بِانْتِهَاءِ السِّيَاقِ، بَلْ لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ ذَلِكَ الْإِطْمَاعَ بِالتَّذْكِيرِ بِبَعْضِ الْوَقَائِعِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا فِيهَا الْعُقُوبَةَ فَحَالَتْ دُونَ وُقُوعِهَا الرَّحْمَةُ فَقَالَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) فَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ قِصَّةً وَهِيَ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ظَلَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ وَخَوَّفَهُمْ بِرَفْعِهِ فَوْقَهُمْ؛ لِيُذْعِنُوا وَيُؤْمِنُوا، ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِلْجَاءٌ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّ مَا يُفْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ يَعُودُ اخْتِيَارِيًّا بَعْدَ زَوَالِ مَا بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَمِنْهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ كَانَ جَائِزًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَيَزِيدُ مَنْ قَالَ هَذَا: أَنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْخَاصِّ بِالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2: 256) وَقَوْلِهِ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (10: 99) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ إِلَى غَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الْفَصِيحِ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إِلَى إِضَافَاتٍ وَلَا مُلْحَقَاتٍ، وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا مَسْأَلَةَ رَفْعِ الطُّورِ فَوْقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (7: 171) وَالنَّتْقُ: الزَّعْزَعَةُ وَالْهَزُّ وَالْجَذْبُ وَالنَّفْضُ، وَنَتَقَ الشَّيْءَ يَنْتِقُهُ وَيَنْتُقُهُ - مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَنَصَرَ - نَتْقًا، جَذَبَهُ وَاقْتَلَعَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِضَرْبٍ مِنَ الزِّلْزَالِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالنَّتْقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الزَّعْزَعَةِ وَالنَّفْضِ، وَالْمَفْهُومُ مَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْإِيمَانَ وَعَاهَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ. فَرَفْعُ الطُّورِ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي رَأَوْهَا بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، كَانَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ وَاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَتُحَرِّكُ الشُّعُورَ وَالْوِجْدَانَ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) أَيْ تَمَسَّكُوا بِهِ وَاعْمَلُوا بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، لَا يُلَابِسُ نُفُوسَكُمْ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَا يَصْحَبُهَا وَهَنٌ وَلَا وَهْمٌ، ثُمَّ قَالَ: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْعِلْمَ رَاسِخًا فِي النَّفْسِ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهَا. وَيُؤْثَرُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَهْتِفُ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ. فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَحْضُرُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا غَيْرَ سَالِمٍ مِنْ إِبْهَامٍ وَغُمُوضٍ، فَإِذَا بَرَزَ لِلْوُجُودِ بِالْعَمَلِ صَارَ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، ثُمَّ يَنْقَلِبُ النَّظَرِيُّ

64

مِنْهُ بِالتَّكْرَارِ وَالْمُوَاظَبَةِ بَدِيهِيًّا ضَرُورِيًّا، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ فَلَا يُنْسَى. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ حَلِيفُ الْكُفْرِ، وَإِنَّهُ لَيَصِلُ بِالْإِنْسَانِ إِلَى حَدٍّ يُسَاوِي فِيهِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ مُعَرِفَةٌ بِالشَّيْءِ قَطُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الْهِدَايَةِ فَسَلَّمَ بِهَا وَقَبِلَهَا ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا حَتَّى نَسِيَهَا، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُقْنِعٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا بِمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرَ، وَكَوْنِهِ بِالْمُؤَاخَذَةِ أَجْدَرَ، وَالثَّانِي مَعْذُورٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّاسِي هِيَ الَّتِي تَلِي مَنْزِلَةَ الْجَاحِدِ الْمُعَانِدِ، وَهُوَ خَلِيقٌ بِأَنْ يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ رَبَّهُ (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (20: 125، 126) . وَأَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْحُجَّةَ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا التَّغَنِّي بِأَلْفَاظِهِ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ لَا أَثَرَ فِيهَا لِلْقُرْآنِ، وَأَعْمَالُهُمْ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا شَرُّ نَوْعَيِ النِّسْيَانِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَثَلٌ: عَبِيدٌ أَقْطَعَهُمْ سَيِّدُهُمْ بُسْتَانًا وَكَلَّفَهُمْ إِصْلَاحَهُ وَعِمَارَتَهُ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا يُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهِ كَيْفَ يَسِيرُونَ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَكَيْفَ تَكُونُ حَيَاتُهُمْ فِيهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ بِمُكَافَأَةٍ وَأَجْرٍ فَوْقَ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْبُسْتَانِ وَغَلَّاتِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ وَرَاءَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْبُسْتَانِ، وَمَا يَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْكِتَابِ تَعْظِيمَ رِقِّهِ وَوَرَقِهِ، وَالتَّغَنِّيَ بِلَفْظِهِ، وَتَكْرَارَ تِلَاوَتِهِ، بِدُونِ مُبَالَاةٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا اعْتِبَارٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ، بَلْ عَاثُوا فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ مُفْسِدِينَ فَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَهَلْ يَكُونُ حَظُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْعُذْرِ مِنْهُمْ؟ ! أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْعَمَلِ، وَوَصَلَهُ بِذِكْرِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ إِعْدَادُهُ النَّفْسَ لِتَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَالَ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، فَإِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - فَتَكُونُ بِهَا نَقِيَّةً تَقِيَّةً، رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (20: 132) . وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْآيَةَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقَبُولِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَامَلَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّفْحِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَقَالَ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ وَانْصَرَفْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ مِنْ بَعْدِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَمُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَسْتَكِينُ لَهَا النُّفُوسُ (فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ إِنَّكُمْ بِتَوَلِّيكُمُ اسْتَحْقَقْتُمُ الْعِقَابَ، وَلَكِنْ حَالَ دُونَ نُزُولِهِ بِكُمْ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخَسِرْتُمْ

65

سَعَادَةَ الدُّنْيَا، وَهِيَ التَّمَكُّنُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، ثُمَّ خَسِرْتُمْ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَهِيَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. فَمِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ وَفَّقَكُمْ لِلْعَمَلِ بِالْمِيثَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ. شَايَعَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الطُّورِ كَانَ آيَةً كَوْنِيَّةً، أَيْ أَنَّهُ انْتُزِعَ مِنَ الْأَرْضِ وَصَارَ مُعَلَّقًا فَوْقَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهَا نَصًّا فِيهِ، إِذِ الرَّفْعُ وَالِارْتِفَاعُ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ - أَوْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ - رَفِيعًا عَالِيًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (88: 13) وَقَالَ: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (56: 34) فَكُلٌّ مِنَ السُّرُرِ وَالْفُرُشِ تَكُونُ مَرْفُوعَةً وَهِيَ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (7: 171) لَيْسَ نَصًّا أَيْضًا فِي كَوْنِ الْجَبَلِ رُفِعَ فِي الْهَوَاءِ. فَأَصْلُ النَّتْقِ فِي اللُّغَةِ: الزَّعْزَعَةُ وَالزَّلْزَلَةُ كَمَا سَبَقَ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ نَتَقَ الْبَعِيرُ الرَّحْلَ: زَعْزَعَهُ، وَنَتَقْتُ الزُّبْدَ: أَخْرَجْتُهُ بِالْمَخْضِ، وَنَتَقَ اللهُ الْجَبَلَ: رَفَعَهُ مُزَعْزَعًا فَوْقَهُمْ. اهـ. وَالظُّلَّةُ: كُلُّ مَا أَظَلَّكَ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ رَأْسِكَ أَوْ فِي جَانِبِكَ، وَهُوَ مُرْتَفِعٌ لَهُ ظِلٌّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِجَانِبِ الطُّورِ رَأَوْهُ مَنْتُوقًا، أَيْ مُرْتَفِعًا مُزَعْزَعًا، فَظَنُّوا أَنْ سَيَقَعُ بِهِمْ، وَيَنْقَضُّ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثَرِ زِلْزَالٍ تَزَعْزَعَ لَهُ الْجَبَلُ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ كَوْنِ ذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ، لَا يَكُونُ مُنْكِرُ ارْتِفَاعِ الْجَبَلِ فِي الْهَوَاءِ مُكَذِّبًا لِلْقُرْآنِ. (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أَبَاحَ اللهُ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَمَلَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَحَظَرَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إِحْيَاءً لِلشُّعُورِ الدِّينِيِّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِضْعَافًا لِشَرَهِهِمْ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ وَحُبِّهِمْ لِلدُّنْيَا، فَتَجَاوَزَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ حُدُودَ اللهِ فِي السَّبْتِ وَاعْتَدُوهَا، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءَ مَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِآدَابِ الدِّينِ، وَجَزَاءُ مِثْلِهِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مُحِيطِ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالرُّتُوعُ فِي مَرَاتِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْقِرْدِ فِي نَزَوَاتِهِ، وَالْخِنْزِيرِ فِي شَهَوَاتِهِ، وَقَدْ سَجَّلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِحُكْمِ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلِيقَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أَيْ وَأُقْسِمُ أَنَّكُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ نَبَأَ الَّذِينَ تَجَاوَزُوا حُدُودَ حُكْمِ الْكِتَابِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ يَوْمَ السَّبْتِ - وَسَيَأْتِي نَبَؤُهُمْ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ - (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مُسِخَتْ صُوَرُهُمْ وَلَكِنْ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، فَمُثِّلُوا بِالْقِرْدَةِ

كَمَا مُثِّلُوا بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (62: 5) وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (5: 60) وَالْخُسُوءُ: هُوَ الطَّرْدُ وَالصَّغَارُ. وَالْأَمْرُ لِلتَّكْوِينِ، أَيْ فَكَانُوا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَأَخْلَاقِهِ كَالْقِرْدَةِ الْمُسْتَذَلَّةِ الْمَطْرُودَةِ مِنْ حَضْرَةِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الِاعْتِدَاءَ الصَّرِيحَ لِحُدُودِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِلَا خَجَلٍ وَلَا حَيَاءٍ حَتَّى صَارَ كِرَامُ النَّاسِ يَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُمْ أَهْلًا لِمُجَالَسَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ (أَيْلَةُ) وَقِيلَ: (طَبَرِيَّةُ) أَوْ (مَدْيَنُ) وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنِ الْمَكَانَ وَلَا الزَّمَانَ، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا ذُكِرَ قَائِمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ مُجَاحَدَتَهُمْ وَمُعَانَدَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَتْ بِدْعًا مَنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهَا عِبْرَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَيَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعِيشُ عِيشَةً بَهِيمِيَّةً. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مَعْنَى (كُونُوا قِرَدَةً) أَنَّ صُوَرَهُمْ مُسِخَتْ فَكَانُوا قِرَدَةً حَقِيقِيِّينَ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا النَّقْلُ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ اللهَ لَا يَمْسَخُ كُلَّ عَاصٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ الْكُبْرَى فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اللَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مَنْ يَفْسُقْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَيَتَنَكَّبِ الصِّرَاطَ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُ، يَنْزِلْ عَنْ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ وَيَلْتَحِقْ بِعَجْمَاوَاتِ الْحَيَوَانِ. وَسُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدَةٌ، فَهُوَ يُعَامِلُ الْقُرُونَ الْحَاضِرَةَ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ نَكَالًا، وَهُوَ مَا يُفْعَلُ بِشَخْصٍ مِنْ إِيذَاءٍ وَإِهَانَةٍ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ؛ أَيْ عِبْرَةً يَنْكُلُ مَنْ يَعْلَمُ بِهَا أَيْ يَمْتَنِعُ عَنِ اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ (النِّكْلُ) لِلْقَيْدِ، أَوْ هُوَ أَصْلُهَا وَمِنْهَا النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ، وَمَا بَيْنَ يَدَيْهَا يُرَادُ بِهِ مَنْ وَقَعَتْ فِي زَمَنِهِمْ كَمَا يُرَادُ بِمَا خَلْفَهَا مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى. وَأَمَّا كَوْنُهَا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، فَهُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَتَّعِظُ بِهَا فِي نَفْسِهِ بِالتَّبَاعُدِ عَنِ الْحُدُودِ الَّتِي يُخْشَى اعْتِدَاؤُهَا (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (2: 187) وَيَعِظُ بِهَا غَيْرَهُ أَيْضًا، وَلَا يَتِمُّ كَوْنُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ نَكَالًا لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْأُمَمِ وَتَهْذِيبِ الطِّبَاعِ، وَذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَمَشْهُورٌ عِنْدَ عَرْفَاءِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ (وَحَدِيثُ الْمَسْخِ وَالتَّحْوِيلِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ تَحَوَّلُوا مِنْ أُنَاسٍ إِلَى قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّهْوِيلُ وَالْإِغْرَابُ؛ فَاخْتِيَارُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ هُوَ الْأَوْفَقُ بِالْعِبْرَةِ وَالْأَجْدَرُ بِتَحْرِيكِ الْفِكْرَةِ) .

67

وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ فِيهِ عَلَى كَوْنِ مَا ذُكِرَ مَسْخًا لِصُوَرِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي أَنَّ الْمَسْخَ مَعْنَوِيٌّ، وَقَوْلَ الْآخَرِينَ إِنَّهُ صُوَّرِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ صُوَّرِيٌّ، فَمَا مُرَادُهُ بِذَلِكَ؟ . (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) هَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يَقُصَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَسْوَتِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ لِلْاعْتِبَارِ بِهَا. وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ التَّنَطُّعَ فِي الدِّينِ وَالْإِحْفَاءَ فِي السُّؤَالِ، مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِي الْأَحْكَامِ، فَمَنْ شَدَّدَ شُدِّدَ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) (5: 101، 102) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)) وَقَدِ امْتَثَلَ سَلَفُنَا الْأَمْرَ فَلَمْ يُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ فِطْرِيًّا سَاذَجًا وَحَنِيفِيًّا سَمْحًا، وَلَكِنْ مِمَّنْ خَلَفَهُمْ مَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَحْكَامًا اسْتَنْبَطَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنْهَا حَتَّى صَارَ الدِّينُ حِمْلًا ثَقِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ فَسَئِمَتْهُ وَمَلَّتْ، وَأَلْقَتْهُ وَتَخَلَّتْ.

72

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ لَمْ يَلْتَزِمْ تَرْتِيبَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَلَا طَرِيقَةَ الْكُتَّابِ فِي تَنْسِيقِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ حَتَّى فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يُنَسِّقُ الْكَلَامَ فِيهِ بِأُسْلُوبٍ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَيُحَرِّكُ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ تَحْرِيكًا، وَيَهُزُّ النَّفْسَ لِلْاعْتِبَارِ هَزًّا. وَقَدْ رَاعَى فِي قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْوَاعَ الْمِنَنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهَا، وَضُرُوبَ الْكُفْرَانِ وَالْفُسُوقِ الَّتِي قَابَلُوهَا بِهَا، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ تَأْدِيبِهِمْ بِالْعُقُوبَاتِ، وَابْتِلَائِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَكَيْفَ كَانُوا يُحْدِثُونَ فِي أَثَرِ كُلِّ عُقُوبَةٍ تَوْبَةً، وَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ تَوْبَةٍ نِعْمَةً، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى بَطَرِهِمْ، وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى كُفْرِهِمْ. كَانَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ يَذْكُرُ النِّعْمَةَ، فَالْمُخَالَفَةَ، فَالْعُقُوبَةَ، فَالتَّوْبَةَ، فَالرَّحْمَةَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَرْنَا الْآنَ وَأَجْمَلْنَا، وَأَوْضَحْنَا مِنْ قَبْلُ وَفَصَّلْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتَلَفَ النَّسَقُ فَذَكَرَ الْمُخَالَفَةَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (2: 72) ثُمَّ الْمِنَّةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) (2: 73) . . . إِلَخْ، وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرَ وَسِيلَةِ الْخَلَاصِ، وَهِيَ ذَبْحُ الْبَقَرَةِ بِمَا يُعْجِبُ السَّامِعَ وَيُشَوِّقُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهَا (حَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ عَهْدٌ لِسَبَبِ أَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَالْمُفَاجَأَةُ بِحِكَايَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْجِدَالِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ يُثِيرُ الشَّوْقَ فِي الْأَنْفُسِ إِلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، فَتَتَوَجَّهُ الْفِكْرَةُ بِأَجْمَعِهَا إِلَى تَلَقِّيهِ) إِذِ الْحِكْمَةُ فِي أَمْرِ اللهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ خَفِيَّةٌ وَجَدِيرَةٌ بِأَنْ يَعْجَبَ مِنْهَا السَّامِعُ وَيَحْرِصَ عَلَى طَلَبِهَا، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَعْتَدْ فَهْمَ الْأَسَالِيبِ الْأَخَّاذَةِ بِالنُّفُوسِ الْهَازَّةِ لِلْقُلُوبِ. وَأَقُولُ: قَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كُتَّابُ الْقِصَصِ الْمُخْتَرَعَةِ وَالْأَسَاطِيرِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. يَقُولُ أَهْلُ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ؛ إِذْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؟ وَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا إِلَّا نَصِيبًا مِنَ الْكُتَّابِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُذْبَحَ بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ فِي وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ، وَيَغْسِلَ جَمِيعُ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَقْتَلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الَّتِي كُسِرَ عُنُقُهَا فِي الْوَادِي، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ أَيْدِيَنَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ، اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَيُتِمُّونَ دَعَوَاتٍ يَبْرَأُ بِهَا مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَمَلِ مِنْ دَمِ الْقَتِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَيُرَادُ بِذَلِكَ حَقْنُ الدِّمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ هُوَ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْقِصَّةِ، أَوْ كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِيهِ، وَمَا هَذِهِ بِالْقِصَّةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي صَحَّحَهَا الْقُرْآنُ، وَلَا هَذَا الْحُكْمُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَرَّفُوهُ أَوْ أَضَاعُوهُ وَأَظْهَرَهُ اللهُ - تَعَالَى. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَاسُ فِي قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا زَادَ

عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَالْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ التَّارِيخِ وَالْعِلْمِ الْيَوْمَ يَقُولُونَ مَعَنَا: إِنَّهُ لَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا أَزْمِنَةَ الظُّلُمَاتِ إِلَّا بَعْدَ التَّحَرِّي وَالْبَحْثِ وَاسْتِخْرَاجِ الْآثَارِ، فَنَحْنُ نَعْذُرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ حَشَوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ بِالْقِصَصِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَا نُعَوِّلُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقِفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ لَا نَتَعَدَّاهَا، وَإِنَّمَا نُوَضِّحُهَا بِمَا يُوَافِقُهَا إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَتْلِ الْبَقَرَةِ هُوَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَنَصُّهُ: (1) إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعًا فِي الْحَقْلِ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ. (2) يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ. (3) فَالْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةٌ مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا لَمْ تَجُرَّ بِالنِّيرِ. (4) وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي. (5) ثُمَّ يَتَقَدَّمَ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوَى. لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ، وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ. (6) وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقِ فِي الْوَادِي. (7) وَيُصَرِّحُونَ وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ. (8) اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فَدَيْتَ يَارَبُّ، وَلَا تَجْعَلْ دَمَ بَرِّيٍّ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. فَيُغْفَرُ لَهُمُ الدَّمُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ لِفَصْلِ النِّزَاعِ فِي وَاقِعَةِ قَتْلٍ، وَيَرْوُونَ فِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ أَخَ الْمَقْتُولِ، قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ اتَّهَمَ أَهْلَ الْحَيِّ بِالدَّمِ وَطَالَبَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى الْفَصْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ الْقَاتِلِ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ اسْتَغْرَبُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لِمَا يَطْلُبُونَ وَالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بِقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أَيْ سُخْرِيَةً يُهْزَأُ بِنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ سَفَهِهِمْ وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَجِبُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ أَمْرُهُ مِنَ الِاحْتِرَامِ وَالِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ

بَادِيَ الرَّأْيِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَامْتَثَلُوا وَانْتَظَرُوا النَّتِيجَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ فِي جَوَابِهِمْ هَذَا رَمْيٌ لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَلْتَجِئُ إِلَى اللهِ وَأَعْتَصِمُ بِتَأْدِيبِهِ إِيَّايَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْهُزْءِ بِالنَّاسِ. (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) أَيْ مَا الصِّفَاتُ الْمُمَيِّزَةُ لَهَا؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ السُّؤَالَ مِمَّا هِيَ لَيْسَ جَارِيًا هُنَا عَلَى اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ مِنْ جَعْلِهِ سُؤَالًا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَسَبِ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ، وَالْعَرَبُ يَسْأَلُونَ بِ " مَا " عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَمَيِّزُ الشَّيْءَ فِي الْجُمْلَةِ كَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ) أَيْ غَيْرُ مُسِنَّةٍ، انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا (وَلَا بِكْرٌ) لَمْ تَلِدْ بِالْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لَمْ تَلِدْ كَثِيرًا (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) الْعَوَانُ: النَّصَفُ فِي السِّنِّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَهَائِمِ، أَيْ هِيَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّنَّيْنِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ (ذَلِكَ) مُتَعَدِّدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُنْفَرِدًا. وَ (بَيْنَ) مِنَ الْكَلِمِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمُتَعَدِّدِ تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُمْ أَوْ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرِ الْمُفْرَدَيْنِ فِيمَا هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ، أَوْ " مَا ذُكِرَ " كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِسْمِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ الْمُمَيِّزَ لِلْبَقَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالَ: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَالْمُبَادَرَةُ بَعْدَهُ لِلْامْتِثَالِ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا تَنَطُّعًا وَاسْتِقْصَاءً فِي السُّؤَالِ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الْفَاقِعُ: الشَّدِيدُ الصُّفْرَةِ فِي صَفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهُ لَوْنٌ آخَرُ، وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَخُصُّهُ بِالْأَصْفَرِ، بَلْ يَجْعَلُهُ وَصْفًا لِكُلِّ لَوْنٍ صَافٍ. وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُمَيِّزَاتِ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا تَنَطُّعًا إِذْ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) وَقَدْ أَرَادُوا بِهَذَا السُّؤَالِ زِيَادَةَ التَّمْيِيزِ كَكَوْنِهَا عَامِلَةً أَوْ سَائِمَةً (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ) سَائِمَةٌ (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) أَيْ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ فِي الْحِرَاثَةِ وَلَا فِي السَّقْيِ (مُسَلَّمَةٌ) مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ (لَا شِيَةَ فِيهَا) أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ آخَرُ غَيْرَ الصُّفْرَةِ الْفَاقِعَةِ. وَالشِّيَةُ: مَصْدَرٌ كَالْعِدَةِ مِنْ وَشَى الثَّوْبَ يَشِيهُ إِذَا جَعَلَ فِيهِ خُطُوطًا مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ بِنَحْوِ تَطْرِيزٍ. وَلَمَّا اسْتَوْفَى جَمِيعَ الْمُمَيِّزَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ وَلَمْ يَرَوْا سَبِيلًا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ وَمَا قَارَبُوا أَنْ يَذْبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ أَنِ انْتَهَتْ أَسْئِلَتُهُمْ، وَانْقَطَعَ مَا كَانَ مِنْ تَنَطُّعِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا ((لَوْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ)) وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا.

وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةً فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّشْدِيدِ، وَهُوَ الْمَصِيرُ إِلَى بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا صَحِيحًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَشْتَبِهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيمَا ذُكِرَ بِأَنَّ أَحْكَامَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِأَفْعَالِ النَّاسِ الْعَارِضَةِ، وَيَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ تَرْبِيَةٌ لِلنَّاسِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ الْبَلِيغُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا أَشْعَرَ بِسُؤَالٍ، كَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ مَفْصُولًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) وَهَذَا يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ مُوسَى إِذْ قَالُوا ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ) . . . إِلَخْ. وَهَكَذَا وَرَدَ غَيْرُهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي التَّنْزِيلِ، كَمَا تَرَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ. (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) هَذَا هُوَ أَوَّلُ الْقِصَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَهِيَ الْقَتْلُ، ثُمَّ التَّنَازُعُ فِي الْقَاتِلِ ثُمَّ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ لِكَشْفِ الْحَقِيقَةِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا كَانَ مِنْ إِلْحَاحِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا سَبَقَ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أُسْنِدَ فِيهِ الْقَتْلُ إِلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا فِي مَجْمُوعِهَا وَتَكَافُلِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَالتَّدَارُؤُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، فَمَعْنَاهُ: التَّدَافُعُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خِصَامٌ وَاتِّهَامٌ، وَكَانَ كُلٌّ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَدَّعِي الْبَرَاءَةَ وَيَتَّهِمُ غَيْرَهُ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْعَارِفِينَ بِهِمْ حُظُوظٌ وَأَهْوَاءٌ كَتَمُوا فِيهَا الْحَقِيقَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالْجَرِيمَةِ: (وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مِنَ الْإِيقَاعِ بِقَوْمٍ بُرَآءُ تَتَّهِمُونَهُمْ بِالْقَتْلِ لِإِخْفَاءِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَكْرُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى) فَهُوَ بَيَانٌ لِإِخْرَاجِ مَا يَكْتُمُونَ. وَيَرْوُونَ فِي هَذَا الضَّرْبِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً. قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ اضْرِبُوا الْمَقْتُولَ بِلِسَانِهَا، وَقِيلَ: بِفَخِذِهَا

73

وَقِيلَ: بِذَنَبِهَا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ ضَرَبُوهُ فَعَادَتْ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَقَالَ: قَتَلَنِي أَخِي أَوِ ابْنُ أَخِي فُلَانٍ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوهُ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مُجْمَلِهِ فَكَيْفَ بِتَفْصِيلِهِ؟ وَالظَّاهِرُ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ وَسِيلَةً عِنْدَهُمْ لِلْفَصْلِ فِي الدِّمَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْقَاتِلِ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ قُرْبَ بَلَدٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ؛ لِيُعْرَفَ الْجَانِي مِنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ غَسَلَ يَدَهُ وَفَعَلَ مَا رُسِمَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَرِيءٌ مِنَ الدَّمِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ. وَمَعْنَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى - عَلَى هَذَا - حِفْظُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ عُرْضَةً لِأَنْ تُسْفَكَ، بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ تِلْكَ النَّفْسِ، أَيْ يُحْيِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْإِحْيَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (5: 32) وَقَوْلِهِ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (2: 179) فَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَعْنَاهُ الِاسْتِبْقَاءُ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) بِمَا يَفْصِلُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَيُزِيلُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (4: 105) ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْ شَيْخِنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِهَا مَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ تَفْقَهُونَ أَسْرَارَ الْأَحْكَامِ، وَفَائِدَةَ الْخُضُوعِ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَا تَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَا وَقَعَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّوْا أَمْرَ اللهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَعَنُّتٍ. قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (أَقُولُ) : وَصَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ مَا أَزَالَ أَثَرَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَهَبَ بِعِبْرَتِهَا مِنْ عُقُولِهِمْ، فَقَالَ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) فَالْعَطْفُ بِ (ثُمَّ) يُفِيدُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ قَدْ خَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ لِمَا رَأَوْا فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا رَأَوْا، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ كَانَ أَمْرُ قَسْوَتِهَا مَا وَصَفَهُ - عَزَّ وَجَلَّ. وَالْقَسْوَةُ الصَّلَابَةُ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَوَصْفُ الْقُلُوبِ بِالْقَسْوَةِ مَجَازُ تَشْبِيهٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الِاسْتِعَارَةَ بِالْكِنَايَةِ، وَيَصِحُّ فِي (أَوْ) التَّرْدِيدُ وَالتَّشْكِيكُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لَا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ

74

بِاعْتِبَارِ مَا يُعْهَدُ فِي التَّخَاطُبِ الْعَرَبِيِّ، كَأَنَّ عَرَبِيًّا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فِي قَسْوَتِهَا تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا. وَيَصِحُّ فِيهَا التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنَّ الْقَسْوَةَ عَمَّتْ قُلُوبَكُمْ، فَأَقَلُّهَا قَسْوَةً تُشْبِهُ الْحَجَرَ الصَّلْدَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قَسْوَةً، وَأَظْهَرُ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ بَلْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ؛ إِذْ لَا شُعُورَ فِيهَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلَا عَاطِفَةَ تَفِيضُ مِنْهَا بِعِبْرَةٍ، وَالْحِجَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَفِيضُ بِالْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضِعَ ظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ. وَصَفَ الْحِجَارَةَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَنْ شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِهَا فِي الصَّلَابَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَهَا بِالْإِضْرَابِ، وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ أَشَدُّ صَلَابَةً، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَ ضَعْفِ الصَّلَابَةِ فِي الْحِجَارَةِ وَشِدَّتِهَا فِي الْقُلُوبِ، فَكَأَنَّ الْكَلَامَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا عَنِ الْحِجَارَةِ دُونَ الْقُلُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ مَا اعْتُبِرَتْ عُنْوَانًا لَهُ وَهُوَ الْوِجْدَانُ وَالْعَقْلُ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَائِقُ الْإِقْنَاعِ وَالْإِذْعَانِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْقَلْبِ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ أَنْ يَتَأَثَّرَ مِمَّا يَتَأَثَّرُ مِنْهُ الْوِجْدَانُ أَوِ الْعَقْلُ أَوِ الرُّوحُ مُطْلَقًا، وَفِي الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فَقَدَتْ خَاصِّيَّةَ التَّأَثُّرِ وَالِانْفِعَالِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ، حَتَّى كَأَنَّ أَصْحَابَهَا هَبَطُوا مِنْ دَرَجَةِ الْحَيَوَانِ إِلَى دَرَكَةِ الْجَمَادِ كَالْحِجَارَةِ، بَلْ نَزَلُوا عَنْ دَرَكَةِ الْحِجَارَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) التَّفَجُّرُ: تَفَعُّلُ مِنَ الْفَجْرِ وَهُوَ الشِّقُّ الْوَاسِعُ يَكُونُ لِلْمُطَاوَعَةِ، كَفَجَّرْتُهُ فَتَفَجَّرَ (بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا) وَيَكُونُ لِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَحُصُولِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِثْلُهُ التَّشَقُّقُ إِلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ، وَلِمَا فِي التَّفَجُّرِ مِنْ مَعْنَى السَّعَةِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ خُرُوجِ الْأَنْهَارِ مِنَ الصُّخُورِ الْكِبَارِ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي الْجِبَالِ، وَعَبَّرَ بِالتَّشَقُّقِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ الَّذِي يُصَدَّقُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِجَارَةَ عَلَى صَلَابَتِهَا وَقَسْوَتِهَا تَتَأَثَّرُ بِالْمَاءِ الرَّقِيقِ اللَّطِيفِ فَيَشُقُّهَا وَيَنْفُذُ مِنْهَا بِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ وَيَنْفَعُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقُلُوبُ فَلَمْ تَعُدْ تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالنُّذُرِ وَلَا بِالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ، فَالْحِكَمُ لَا تَقْوَى عَلَى شَقِّهَا وَالنُّفُوذِ مِنْهَا إِلَى أَعْمَاقِ الْوِجْدَانِ، وَأَنْوَارُ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَتْ فِيهَا فَلَا يَظْهَرُ شُعَاعُهَا عَلَى إِنْسَانٍ، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَشُقُّهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ كَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْيَنَابِيعِ الْحَجَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُفَجِّرُهُ إِلَّا الْمَاءُ الْقَوِيُّ الْغَمْرُ الَّذِي يُسَمَّى نَهْرًا. (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وَهُوَ مَا يَنْحَطُّ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ، وَمِنْ أَثْنَائِهِ بِسَبَبِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ كَالْبَرَاكِينَ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهَا الصُّخُورُ وَتَنْدَكُّ الْجِبَالُ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا شَبَهًا لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهِيَ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ فِي الْكَوْنِ تَفْزَعُ بِهَا نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اللهِ، وَتَخْشَعُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِعَظَمَتِهَا وَخَفَاءِ سِرِّ إِيجَادِهَا،

كَمَا تَفْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ حَوَادِثِ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَدُكُّ الصُّخُورَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ، وَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْقُلُوبُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ لَا تَتَأَثَّرُ بِهَا وَلَا تَزْدَادُ إِيمَانًا. فَمُلَخَّصُ التَّشْبِيهِ: أَنَّ قُلُوبَكُمْ تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ فِي الْقَسْوَةِ، بَلْ قَدْ تَزِيدُ فِي الْقَسَاوَةِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحِجَارَةَ الصُّمَّ تَتَأَثَّرُ فِي بَاطِنِهَا بِالْمَاءِ اللَّطِيفِ النَّافِعِ، بَعْضُهَا بِالْقَوِيِّ مِنْهُ وَبَعْضُهَا بِالضَّعِيفِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّأْثِيرُ فِي الْوِجْدَانِ وَالنُّفُوذُ إِلَى الْجَنَانِ، وَالْحِجَارَةُ تَتَأَثَّرُ بِالْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللهُ فِي الْكَوْنِ كَالصَّوَاعِقِ وَالزَّلَازِلِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُشْبِهُهَا، فَلَا أَفَادَتْ فِيهَا الْمُؤَثِّرَاتُ الدَّاخِلِيَّةُ، وَلَا الْمُؤَثِّرَاتُ الْخَارِجِيَّةُ كَمَا أَفَادَتْ فِي الْأَحْجَارِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أَيْ فَهُوَ سَيُرَبِّيكُمْ بِضُرُوبِ النِّقَمِ، إِذَا لَمْ تَتَرَبَّوْا بِصُنُوفِ النِّعَمِ. (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَرَوْنَ أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَمُصَدِّقُونَ بِالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَطْمَعُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُجْلٍ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِ الدِّينِ، وَحَالٌّ لِجَمِيعِ إِشْكَالَاتِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَوَاضِعٌ لَهُ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تُرْهِقُ النَّاسَ عُسْرًا (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (7: 157) . كَانَ هَذَا الطَّمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى وَجْهٍ نَظَرِيٍّ مَعْقُولٍ، لَوْلَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِجَعْلِ الدِّينِ

75

رَابِطَةً جِنْسِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هِدَايَةً رُوحِيَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَيُحَرِّفُونَ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ، وَمَا أَعْذَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَمَعِهِمْ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَا قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ التَّشْرِيعِ، وَشَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا عُلِمَ بِهِ أَنَّهُمْ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ عَلَى عِرْقٍ رَاسِخٍ وَنَحِيزَةٍ مَوْرُوثَةٍ لَا يَكْفِي فِي زِلْزَالِهَا كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ رَيْبٌ، وَلَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ شَكٌّ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ السُّورَةَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِهَذَا وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَانِدُهُ وَيُبَاهِتُهُ، وَمِنْهُمُ الْمُذَبْذَبُ الَّذِي يَمِيلُ مَعَ الرِّيحَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ فِي شَرْحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَكَانَ الْأَكْثَرُونَ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءً لِلرَّسُولِ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الطَّمَعَ بِدُخُولِ الْيَهُودِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَوَصَلَ الْإِنْكَارَ بِحُجَّةٍ وَاقِعَةٍ نَاهِضَةٍ، تَجْعَلُ تِلْكَ الْحُجَّةَ النَّظَرِيَّةَ دَاحِضَةً، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَأَصْنَافِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ جَاءَ مَا يُذَكِّرُ بِهِ تَذْكِيرًا. قَالَ - تَعَالَى -: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَلَكِنْ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَارِكُونَهُ فِي الْأَلَمِ مِنْ إِيذَائِهِمْ وَالطَّمَعِ بِهِدَايَتِهِمْ فَأَشْرَكَهُمْ بِالتَّسْلِيَةِ كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْبِسَاطِ مَعَهُمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِلَى حَدِّ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِبَعْضِ الشُّئُونِ الْمَلِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً، وَكَانَ يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا يَعْقُبُ حَتَّى نَهَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِأَوْصَافِ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (3: 118) وَالْآيَةُ التَّالِيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ أَيْضًا. أَمَّا الْحُجَّةُ الَّتِي وَصَلَهَا بِإِنْكَارِ الطَّمَعِ بِإِيمَانِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ فَهِيَ تَعْمُدُ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللهِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ بِأَمْرِ اللهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ لِسَمَاعِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَالِ الَّتِي يُكَلِّمُهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا، وَقَدْ سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -

عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ إِلَى حَيْثُ كَانَ يُنَاجِي اللهَ - تَعَالَى -، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَهُمْ أَنْ صَدَّقُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِ وَكُنْهِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا نُصَدِّقُ بِهِ تَصْدِيقَ يَقِينٍ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَارِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، حَرَّفُوا كَلَامَ اللهِ الَّذِي حَضَرُوا وَحْيَهُ وَأَذْعَنُوا لَهُ، بِأَنْ صَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ بِالتَّأْوِيلِ - كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ - وَهَذَا التَّحْرِيفُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ، مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُسَمَّى التَّارِيخَ الْمُقَدَّسَ. فَدَلَّ هَذَا مَا سَبَقَهُ عَلَى أَنَّ الْقَسْوَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ التَّأَثُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَمُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَالتَّفَصِّيَ مِنْ عِقَالِ الشَّرِيعَةِ، كَانَ شَنْشَنَةً قَدِيمَةً فِيهِمْ، ثُمَّ تَأَصَّلَ فَصَارَ غَرِيزَةً مَطْبُوعَةً، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ، وَلَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَسَلُّقِ شَيْءٍ مِنَ الرَّيْبِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَعَانَدُوا وَجَاحَدُوا وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةَ، وَيُؤْخَذُونَ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ دِينٍ دَلَائِلُهُ عَقْلِيَّةٌ، وَآيَتُهُ الْكُبْرَى مَعْنَوِيَّةٌ! وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ بِمَا فِيهِ مِنْ عُلُومِ الْهِدَايَةِ، وَدَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ، وَأَنْبَاءِ الْغَيْبِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُمِّيٍّ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُزَاحِمْ فُحُولَ الْبَلَاغَةِ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، وَفَهْمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ الْحُرَّةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، الَّذِينَ لَطُفَ شُعُورُهُمْ وَرَقَّ وِجْدَانُهُمْ، وَصَحَّتْ أَذْوَاقُهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا هُنَا تَحْرِيفَ كَلَامِ التَّوْرَاةِ الْمَكْتُوبِ لَمَا قَالَ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ، فَزِيَادَةُ (يَسْمَعُونَ) هُنَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّحْرِيفَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) نَصٌّ فِي التَّعَمُّدِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا عَسَاهُ يُعْتَذَرُ لَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ. ثُمَّ قَالَ: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَيْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِعْلَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالصَّوَابِ وَاسْتِحْضَارِهِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِسْيَانٍ أَوْ ذُهُولٍ، وَفِي هَذَيْنَ الْقَيْدَيْنِ مِنَ النَّعْيِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ بَطَلَ بِهِمَا عُذْرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ تَعَمُّدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ! ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الِاحْتِجَاجِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ هُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْكِي سَيِّئَاتِهِمْ مُبْتَدِئًا بِكَلِمَةِ (وَإِذْ) لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَالِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ (إِذَا) هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ حَالٍ وَاقِعَةٍ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرَّةٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْحَاضِرِينَ بَيَانُ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، قَالَ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ؟ .

76

تُرْشِدُ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْبَشَرِ فِي زَمَنِ الْإِصْلَاحِ، وَهِيَ أَنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي الْحَيْرَةِ بَيْنَ الْهِدَايَةِ الْجَدِيدَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيَتَحَرَّوُا اتِّبَاعَهُ أَيْنَ كَانَ، وَلَكِنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ فِي مَنْفَعَتِهِمُ الْخَاصَّةِ، يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ نَجْهَرَ بِالْجَدِيدِ فَيُخْذَلَ حِزْبُهُ وَيَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ فَنَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَا نَأْمَنُ إِنْ بَقِينَا عَلَى الْقَدِيمِ أَنْ يَتَقَلَّصَ ظِلُّهُ، وَيُذَلَّ أَهْلُهُ فَنَكُونَ مَعَ الضَّالِّينَ. فَالْحَزْمُ أَنْ نُوَافِقَ كُلَّ حِزْبٍ نَخْلُو بِهِ، وَنَعْتَذِرَ إِلَى الْآخَرِ إِذَا هُوَ عَلِمَ بِمَا كَانَ مِنَّا إِلَى أَنْ نَتَبَيَّنَ الْفَوْزَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُونَ هَكَذَا مُذَبْذَبِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) . . . إِلَخْ. الضَّمِيرُ فِي (قَالُوا) الثَّانِيَةِ غَيْرُ الضَّمِيرِ فِي (قَالُوا) الْأُولَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ وَلَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَمِثْلُهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) (2: 232) فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْعَضَلِ الْأَوْلِيَاءُ لَا الْمُطَلِّقُونَ. وَالْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، فَيُوَجِّهُ كُلَّ كَلَامٍ إِلَى صَاحِبِهِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ. فَإِذَا وَجَّهَ الْخِطَابَ بِالطَّلَاقِ إِلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ يُوَجِّهُ الْخِطَابَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَضَلِ - وَهُوَ مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزَوُّجِ - إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَخَرَّجُ قَوْلُهُ: (قَالُوا آمَنَّا) وَقَوْلُهُ: (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ) فَالْكَلَامُ فِي مَجْمُوعِ الْيَهُودِ، وَيُوَجِّهُ الْأَوَّلَ إِلَى الَّذِينَ يُلَاقُونَ الْمُؤْمِنِينَ (وَالثَّانِي) إِلَى الَّذِينَ يُلَاقِيهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَيَعْذِلُونَهُمْ عَلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ. الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا: الْإِنْعَامُ بِالشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شَبَّهَ الَّذِي يُعْطَى الشَّرِيعَةَ بِالْمَحْصُورِ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ مِنَ الضِّيقِ، أَوْ مَعْنَى (بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيئُكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ، وَقَوْلُهُ: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) مَعْنَاهُ يُقِيمُونَ بِهِ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكُمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَا تُحَدِّثُونَهُمْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ لَمَا عَلِمَ بِهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِثْلُنَا لَا يَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْكِتَابِ شَيْئًا. هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَفْسِيرِ (عِنْدَ رَبِّكُمْ) وَهُوَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (24: 13) أَيْ فِي حُكْمِهِ الْمُبَيَّنِ فِي كِتَابِهِ. وَذَهَبَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُحَاجَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَالنَّظْمُ لَا يَأْبَاهُ، وَلَكِنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا مِنَ اللَّائِمِينَ الْمُؤَنِّبِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يُنْجِي عِنْدَ اللهِ سِوَاهُ، وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَا يَجْعَلُهُ تَعْلِيلًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، يُحَدِّثُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ وَيُقَوِّي حُجَّتَهُمْ، بَلْ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ تَرْكَ تَحْدِيثِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا فِي الْآخِرَةِ.

مِثْلُ هَذِهِ الذَّبْذَبَةِ تَكُونُ مِنَ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ وَلَا سِيَّمَا ضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ إِرَادَةٌ قَوِيَّةٌ لَثَبَتُوا ظَاهِرًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا، وَلَمْ يُصَانِعُوا مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْأُولَى أَوِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلَوُّنَ وَالدِّهَانَ فِي الدِّينِ، وَلِقَاءَ كُلِّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ يُظْهِرُونَ لَهُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ أَمْرِ الْآخَرِ، فَقَالَ: (أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يَعْنِي أَيَقُولُ اللَّائِمُونَ أَوِ الْمُنَافِقُونَ كُلُّهُمْ مَا قَالُوا، وَيَكْتُمُونَ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَتَمُوا، وَيُحَرِّفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا حَرَّفُوا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرٍ وَكَيْدٍ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانٍ وَوُدٍّ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ - تَعَالَى -، فَلِمَ لَا يَحْفَلُونَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَإِحَاطَتِهِ بِمَا يَجُولُ فِي أَطْوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ مِنْ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ شَأْنُ عُلَمَائِهِمْ، يُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حُكْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ عَامَّتِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْأَحْكَامِ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ أَمَانِيٌّ يَتَمَنَّوْنَهَا وَتَجُولُ صُوَرُهَا فِي خَيَالَاتِهِمْ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ هِيَ كُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ يَلْهَوْنَ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَحِلُّ الذَّمِّ لَا مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ، فَإِنَّ الْأُمِّيَّ قَدْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَيَعْقِلُهُ عَنْهُمْ بِدَلِيلِهِ فَيَكُونُ عِلْمُهُ صَحِيحًا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ ظَنًّا مَعَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ عَنْ رُؤَسَاءِ دِينِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهُمْ وَسَلَّمُوهُ تَسْلِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا وَعِلْمًا؟ نَقُولُ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ وَلَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ عِلْمًا إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا وَمُسَلَّمًا إِلَّا لِأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَلَوْ أُرِدَ عَلَيْهِمْ لَتَزَلْزَلَ مَا عِنْدَهُمْ ثُمَّ زَالَ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ الشَّكُّ وَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الظَّنَّ أَوِ التَّرَدُّدَ كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِأَنْ يُوقِظَهُ نَقِيضُهُ وَيَذْهَبَ بِهِ مَتَى طَرَأَ، وَنَوْمُ الظَّنِّ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى اعْتِقَادًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْأَمَانِيُّ تُوجَدُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالِانْحِطَاطِ، يَفْتَخِرُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبِسَلَفِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَا، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَتُسَوِّلُ لَهُمُ الْأَمَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. هَكَذَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَقَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ وَتَلَوْنَا تُلُوَّهُمْ، فَظَهَرَ فِينَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) وَإِنَّنَا نَقْرَأُ أَخْبَارَهُمْ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ وَلَا نَسْخَرُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَنَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ، وَنَحْنُ غَارِقُونَ فِيهَا!

78

ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ مَضَى عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَأَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَاهِلُ يَأْخُذُ عَنِ الْعَالِمِ الْعَقِيدَةَ بِبُرْهَانِهَا، وَالْأَحْكَامَ بِرِوَايَتِهَا، وَلَا يَتَقَلَّدُ رَأْيَهُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْأَمَانِيَّ بِالْأَكَاذِيبِ ابْتِدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْقِرَاءَاتِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا اعْتِبَارٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (62: 5) وَقَدْ وَرَدَ التَّمَنِّي بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّمَنِّي قَدْ بَرَزَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى سَبَقُوا مَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَدْ أَمْسَوْا أَكْثَرَ الْأُمَمِ تِلَاوَةً لِكِتَابِهِمْ، وَأَقَلَّهُمْ فَهْمًا لَهُ وَاهْتِدَاءً بِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِتَارِيخِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَوُقُوفٍ عَلَى حَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَّا نُسْخَةً مِنْ حَالِ بَعْضِ الشُّعُوبِ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ. . . كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مِرَاءً وَجِدَالًا فِي الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيِّنًا بَاهِرًا، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَذِبًا وَغُرُورًا وَأَكْلًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا الْفَاحِشِ، وَغِشًّا وَتَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ وَأَفْضَلُ النَّاسِ كَمَا يَعْتَقِدُ أَشْبَاهُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَمَانِيُّ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا اللَّفْظُ وَالنَّظْمُ فَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (إِلَّا أَمَانِيَّ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ قَاصِرٌ لَا يَشْمَلُ الْأَمَانِيَّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وَالْآيَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: مَا عَلِمْتُ فُلَانًا إِلَّا فَاضِلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَجْمُوعَةُ أَمَانِيٍّ يُمَنُّونَهَا أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا هُوَ لَهُمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، وَأَمَّا مَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، كَآيَةِ الرَّجْمِ وَوَصَفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

79

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَا بُدِئَ الْكَلَامُ بِالْفَاءِ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَعِيدٌ عَلَى أَنْ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ، وَتَأْلِيفِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ وَإِيهَامِ الْعَامَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبُوهُ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ بِكُتُبِ الدِّينِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا عُلَمَاؤُهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) ، فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ مَثَارُ الْأَمَانِيِّ وَالْغُرُورِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ عَلَى أَصْحَابِهَا الْهَلَاكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَصْنَافَ الْيَهُودِ مِنْ مُنَافِقِينَ وَمُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ فَقَالَ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ) . أَقُولُ: أَيْ وَيْلٌ وَهَلَاكٌ عَظِيمٌ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكُتُبَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُودِعُونَهَا آرَاءَهُمْ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا قَائِلِينَ:إِنَّ مَا فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي نَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُنَا، يَخْطُبُونَ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَيْلَ الْعَامَّةِ وَوُدَّهُمْ، وَيَبْتَغُونَ الْجَاهَ عِنْدَهُمْ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالدِّينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) ، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْحَقُّ وَيُتْرَكُ لِأَجْلِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَثْمَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَغْلَاهَا، وَأَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا؛ وَلِذَلِكَ كَرَّرَ الْوَعِيدَ فَقَالَ: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ، فَالْهَلَاكُ وَالْوَيْلُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ أَقْطَارِهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَسِيلَةِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَقْصِدِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَرَى نُسْخَةً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْيَهُودُ، فَلْيَنْظُرْ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يَرَاهَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً، يَرَى كُتُبًا أُلِّفَتْ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ حَرَّفُوا فِيهَا مَقَاصِدَهُ وَحَوَّلُوهَا إِلَى مَا يَغُرُّ النَّاسَ وَيُمَنِّيهِمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صَادَّةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا يَعْمَلُ هَذَا إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ يَتَعَمَّدُ إِفْسَادَهُ وَيَتَوَخَّى إِضْلَالَ أَهْلِهِ، فَيَلْبَسُ لِبَاسَ الدِّينِ وَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ أَهْلِ الصَّلَاحِ، يُخَادِعُ بِذَلِكَ النَّاسَ لِيَقْبَلُوا مَا يَكْتُبُ وَيَقُولُ، وَرَجُلٌ يَتَحَرَّى التَّأْوِيلَ وَيَسْتَنْبِطُ الْحِيَلَ لِيُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْمَالِ وَالْجَاهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ وَقَائِعَ، طَابَقَ فِيهَا بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، ذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْقُضَاةِ وَالْمَأْذُونِينَ، وَلِلْعُلَمَاءِ وَالْوَاعِظِينَ، فَسَقُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ وَيَغْتَرُّ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ نَفْعَ أُمَّتِهِ، كَمَا كَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودُ يُفْتُونَ بِأَكْلِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لِيَسْتَغْنِيَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّهُ مُبْطَلٌ، وَلَكِنْ تَغُرُّهُ أَمَانِيُّ الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ.

80

(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ غُرُورِهِمْ، عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَقَالَ: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قِيلَ: هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْيَهُودِ أَنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَالْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّفَاعَةُ يَمْكُثُ فِي النَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَّا كَانَ افْتِئَاتًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلًا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَذَا مَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) ، أَيْ هَلْ عَهِدَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ فَكَانَ حَقًّا لَكُمْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: هَلِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ اعْتِقَادًا وَائْتِمَارًا وَانْتِهَاءً وَتَخَلُّقًا، فَأَنْتُمْ وَاثِقُونَ بِعَهْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَغْفِرَةِ مَا عَسَاهُ يَفْرُطُ مِنْهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ أَوِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ مُدَّةً قَصِيرَةً؟ ! وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَسْتُمْ عَلَى عَهْدٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، أَيْ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيْئًا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِذِ الْعِلْمُ بِمِثْلِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ جُرْأَةٌ وَافْتِيَاتٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا: إِمَّا اتِّخَاذُ عَهْدِ اللهِ، وَإِمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا كَانَ اتِّخَاذُ الْعَهْدِ لَمْ يَحْصُلْ، تَعَيَّنَ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِجَهْلِكُمْ وَغُرُورِكُمْ، (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) الْآيَةِ، (بَلَى) مُبْطِلَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: لِلسَّيِّئَةِ هُنَا إِطْلَاقُهَا، وَخَصَّهَا مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالشِّرْكِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) مَعْنًى؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ، وَمَعْنَى إِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ هُوَ حَصْرُهَا لِصَاحِبِهَا، وَأَخْذُهَا بِجَوَانِبِ إِحْسَاسِهِ وَوِجْدَانِهِ، كَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِيهَا لَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ

81

مَخْرَجًا مِنْهَا، يَرَى نَفْسَهُ حُرًّا مُطْلَقًا وَهُوَ أَسِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَسَجِينُ الْمُوبِقَاتِ، وَرَهِينُ الظُّلُمَاتِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْإِحَاطَةُ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الذُّنُوبِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْإِصْرَارِ، قَالَ - تَعَالَى -: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (83: 14) أَيْ مِنَ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ، فَفِي كَلِمَةِ (يَكْسِبُونَ) مَعْنَى الِاسْتِرْسَالِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَرَانَ عَلَيْهِ: غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي غُلْفٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْفَذٌ لِلنُّورِ يَدْخُلُ إِلَيْهَا مِنْهُ، وَمَنْ أَحْدَثَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ يَقَعُ فِيهَا تَوْبَةً نَصُوحًا وَإِقْلَاعًا صَحِيحًا، لَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطَايَا، وَلَا تَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ السَّيِّئَاتُ. رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ - وَصَحَّحَاهُ - وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (83: 14)) ) . لِمِثْلِ هَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. قَوْلُهُ: (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) خَبَرُ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ الْأَحِقَّاءُ بِهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَلَمْ يُؤَوِّلْهَا بِالشِّرْكِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوَّلُوا جَزَاءَهَا فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ مُدَّةِ الْمُكْثِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْمَعَاصِي عُمْرَهُ وَأَحَاطَتِ الْخَطَايَا بِنَفْسِهِ فَانْهَمَكَ فِيهَا طُولَ حَيَاتِهِ. أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ هُرُوبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأْيِيدًا لِمَذْهَبِهِمْ أَنْفُسِهِمُ الْمُخَالِفِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مَنْ تُحِيطُ بِهِ خَطِيئَتُهُ، لَا يَكُونُ أَوْ لَا يَبْقَى مُؤْمِنًا. (وَأَقُولُ) -: إِنَّ فَتْحَ بَابِ تَأْوِيلِ الْخُلُودِ يُجَرِّئُ أَصْحَابَ اسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي الْعَذَابِ طُولُ مُكْثِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ خَلْقَهُ عَذَابًا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِمَنْفَعَتِهِمْ لَا لِمَنْفَعَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا الْمَنْفَعَةَ، وَإِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ كَمَا يَرَى فَاتِحُو الْبَابِ، فَقَدْ وَضَحَ عُذْرُ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ لِعُلَمَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِيمَةٌ، وَهِيَ أَكْبَرُ مُشْكِلَاتِ الدِّينِ. نَعَمْ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ - وَلَوْ سُكُوتِيًّا - وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ بَابٌ لَا يَكَادُ يَسُدُّهُ - مَتَى فُتِحَ - شَيْءٌ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ أَهْلِ النَّارِ أَضْدَادَهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ،

82

وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فَ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . أَقُولُ: أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَصْحَابُهَا الْحَقِيقِيُّونَ بِهَا، بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ وَفَضْلِهِ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا، إِذْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا مَنْ آمَنَ فَمَاتَ وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهُ الْوَقْتُ لِلْعَمَلِ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ الصَّحِيحِ، وَمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْآجَالِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فِيهِ. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَلِيَّةِ، وَبِالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ وَعَوَاقِبِهِ، وَذَلِكَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّفْسَ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْغَرَقِ، وَإِيتَاءِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَسْهِيلِ الْمَعِيشَةِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِمَا سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَمَا أَعْقَبَهُ كُفْرُ النِّعَمِ مِنَ النِّقَمِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِهَذِهِ الْأُصُولِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّذْكِيرُ بِأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ إِهْمَالِهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا. هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَأْتِي إِعَادَةَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا مَضَى، قَضَى بِهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ وَكَثْرَةِ الْمُشَاغَبَاتِ وَالْمُمَارَاةِ، فَالْخِطَابُ مَعَهُمْ دَائِمًا فِي بَابِ الْإِطْنَابِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَاحَظَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْنِبُ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ شُحِنَتْ بِهِ أَذْهَانُهُمْ مِمَّا يُسَمَّى عِلْمًا أَوْ فِقْهًا، فَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَنْ يَصِلَ شُعَاعُ الْحَقِّ إِلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَكْتَفِي بِالْإِيجَازِ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الدَّقِيقَةِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُرْعَةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْإِحْسَاسِ لِقُرْبِهِمْ مِنَ السَّذَاجَةِ الْفِطْرِيَّةِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي ضِمْنِ تَمْثِيلٍ يُغْنِي عِنْدَهُمْ عَنِ الْإِسْهَابِ وَالتَّطْوِيلِ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْأَصْنَامِ: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (22: 73) .

83

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِي سِيَاقِ خِطَابِهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) . . . إِلَخْ بَيَانٌ لَهُ - أَيْ لِلْمِيثَاقِ - لَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ. يُقَالُ: أَخَذْتُ عَلَيْكَ عَهْدًا تَفْعَلُ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: أَنْ تَفْعَلَ كَذَا سَوَاءٌ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، يُلَاحَظُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدِ امْتَثَلَ فَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ، أَوْ إِنَّهُ - لِتَوْثِيقِهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَأْكِيدِهِ - سَيَمْتَثِلُ حَتْمًا فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. (أَقُولُ) وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، وَإِنَّمَا يَخْشَى عَلَيْهِمُ الشِّرْكَ بِهِ كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْيَالِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ، فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ عِبَادَةُ أَحَدٍ سِوَاهُ مِنْ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ وَلَا مَا دُونَهُمَا بِدُعَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (4: 36) فَالتَّوْحِيدُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ وَتُحْسِنُونَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَالْإِحْسَانُ نِهَايَةُ الْبِرِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَجِبُ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ الْأَمْرَ بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا الْآنَ أَنَّ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ يُقْتَلُ، وَقَدْ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (17: 23) . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبَ وُجُودِ الْوَلَدِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإِنَّهُ لَا مِنَّةَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِكْرَامًا لَهُ وَلَا عِنَايَةً بِهِ، كَيْفَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا أَوْ مَوْجُودًا فَيُكْرَمُ! ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِبَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَإِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْوَلَدُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَاجِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَوَدُّ أَلَّا يُولَدَ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ أَوْ وَلَدَانِ فَقَطْ فَيَكُونَ لَهُ أَكْثَرُ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ مَعْلُولًا لِإِرَادَتِهِمَا الْوَلَدَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْإِحْسَانُ بِوَلَدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ حَظٌّ سِوَاهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَا لَا وُجُودَ لَهُ، ذَلِكَ كَلَامٌ شِعْرِيٌّ، وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِحْسَانِ عَلَى الْوَلَدِ هِيَ الْعِنَايَةُ الصَّادِقَةُ الَّتِي بَذَلَاهَا فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ أَيَّامَ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا جَاهِلًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا، إِذْ كَانَا يَحُوطَانِهِ بِالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَيَكْفُلَانِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا عَنْ عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ، بَلْ مَعَ الشَّغَفِ الصَّحِيحِ وَالْحَنَانِ الْعَظِيمِ، وَمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ لِكُلِّ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى أَمْرٍ عَسِيرٍ فَضْلَهُ، وَيُكَافِئَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي الْمُسَاعِدِ، وَمَا كَانَتْ بِهِ الْمُسَاعَدَةُ، فَكَيْفَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الشُّكْرِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُسَاعِدَانِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَيَّامَ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ؟ ! .

وَكَذَلِكَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ - كَمَا يَقُولُ النَّاسُ - كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا، هَذَا كَلَامٌ شِعْرِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ أَيْضًا، فَإِنَّ جِسْمَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْحِنْطَةَ وَالْغَنَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ وَالِدَيْهِ، وَإِنَّمَا لِحُبِّ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ مَنْبَعَانِ: (أَحَدُهُمَا) : حَنَانٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِمَا لِإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ (وَثَانِيهُمَا) : مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ الْبَشَرِ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْأَوْلَادِ، وَمِنَ الْأَمَلِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي الْمَالِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الشَّرَفَ وَالْجَاهَ أَيْضًا. وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ لَهُ شَرَفًا ... كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ بِمَكَانَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ لَا يُخْشَى زَوَالُهَا، تَرَكَ النَّصَّ عَلَى الْإِحْسَانِ بِهِمْ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ بِمَنْ دُونَهُمْ فِي النَّسَبِ، فَقَالَ: (وَذِي الْقُرْبَى) . الْإِحْسَانُ هُوَ الَّذِي يُقَوِّي غَرَائِزَ الْفِطْرَةِ، وَيُوَثِّقُ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبُيُوتُ فِي وَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ دَرَجَةَ الْكَمَالِ، وَالْأُمَّةُ: تَتَأَلَّفُ مِنَ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) ، فَصَلَاحُهَا صَلَاحُهَا، وَهَاهُنَا قَالَ الْأُسْتَاذُ كَلِمَةً جَلِيلَةً وَهِيَ: (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ لَا تَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ) ، وَذَلِكَ أَنَّ عَاطِفَةَ التَّرَاحُمِ وَدَاعِيَةَ التَّعَاوُنِ إِنَّمَا تَكُونَانِ عَلَى أَشَدِّهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ، فَمَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ حَتَّى لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ، فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى مِنْهُ لِلْبُعَدَاءِ وَالْأَبْعَدِينَ؟ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ بِنْيَةِ أُمَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِ اللُّحْمَةُ النَّسَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى لُحْمَةٍ طَبِيعِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَيُّ لُحْمَةٍ بَعْدَهَا تَصِلُهُ بِغَيْرِ الْأَهْلِ فَتَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْهُمْ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُهُمْ، وَيَرَى مَنْفَعَتَهُمْ عَيْنَ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتَهُمْ عَيْنَ مَضَرَّتِهِ، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ لِأُمَّتِهِ؟ قَضَى نِظَامُ الْفِطْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ نَعْرَةٍ، وَصِلَتُهَا أَمْتَنَ مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، فَجَاءَ الدِّينُ يُقَدِّمُ حُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَجَعْلَ حُقُوقِهِمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الشَّخْصِ. ثُمَّ ذَكَرَ حُقُوقَ أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَقَالَ: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقَدْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمِسْكِينِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِفَقْرٍ وَلَا مَسْكَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - الْوَصِيَّةَ بِالْيَتِيمِ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَهَى عَنْ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَشَدَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى أَكْلِ مَالِهِ تَشْدِيدًا خَاصًّا، وَلَوْ كَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَتَامَى، لَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ. كَلَّا إِنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْيَتِيمِ لَا يَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ تَبْعَثُهُ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِأُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمَّ إِنْ وُجِدَتْ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ عَاجِزَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ، فَأَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِمَا أَكَّدَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَيْتَامِ

أَنْ يَكُونُوا مِنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَائِهِمْ يُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً؛ لِئَلَّا يَفْسُدُوا وَيَفْسُدَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَيَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ فَتَنْحَلُّ انْحِلَالًا، فَالْعِنَايَةُ بِتَرْبِيَةِ الْيَتَامَى هِيَ الذَّرِيعَةُ لِمَنْعِ كَوْنِهِمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِسَائِرِ الْأَوْلَادِ. وَالتَّرْبِيَةُ لَا تَتَيَسَّرُ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْقُدْوَةِ، فَإِهْمَالُ الْيَتَامَى إِهْمَالٌ لِسَائِرِ أَوْلَادِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا يُرَادُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ السَّائِلُونَ الشَّحَّاذُونَ الْمُلْحِفُونَ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى كَسْبِ مَا يَفِي بِحَاجَاتِهِمْ، أَوْ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبُوا، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً، يَبْتَغُونَ بِهَا الثَّرْوَةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ كَسْبٍ يَكْفِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فَهُوَ كَلَامٌ جَدِيدٌ لَهُ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ، وَلِذَلِكَ تَغَيَّرَ فِيهِ الْأُسْلُوبُ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْمِيثَاقِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ الْحُقُوقَ الْعَمَلِيَّةَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ بِالْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَامِلَ جَمِيعَ النَّاسِ، فَالَّذِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَنْشَأُ فِيهِمْ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِتَصْلُحَ بِذَلِكَ حَالُ الْبُيُوتِ. ثُمَّ إِنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِنْ قَوْمِهِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ إِحْسَانِهِ وَإِحْسَانِ أَمْثَالِهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَمَ لِلْأَوَّلِينَ، وَلَا غَنَاءَ عِنْدَ الْآخِرِينَ، فَفَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ. ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ مَا بِهِ إِصْلَاحُ الْبُيُوتِ مِنْ إِعَانَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَمَا بِهِ صَلَاحُ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِنْ مَعُونَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ عَلَى إِصْلَاحِ بُيُوتِهِمْ، بَقِيَ بَيَانُ حُقُوقِ سَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ النَّصِيحَةُ لَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُجَرَّدَ التَّلَطُّفِ بِالْقَوْلِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْخِطَابِ، فَالْحُسْنُ هُوَ النَّافِعُ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُقُوقِ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ إِصْلَاحَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا. جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُجْمَلًا لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَأَكْبَرُ ذَلِكَ النَّوْعِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وَإِنَّمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزِّ سُلْطَانِهِ، وَلَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَرُسُومِهَا الظَّاهِرَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَيْضًا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تِلْكَ الْمُحْرَقَاتُ وَالْقَرَابِينُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا أَوْ شُكْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ،

فَإِنَّ لَهُمْ زَكْوَاتٍ مَالِيَّةٍ، مِنْهَا مَالٌ مَخْصُوصٌ يُؤَدَّى لِآلِ هَارُونَ وَهُوَ إِلَى الْآنِ فِي (اللَّاوِيِّينَ) ، وَمِنْهَا مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَمِنْهَا سَبْتُ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَرْكُهَا فِي كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ مَرَّةً بِلَا حَرْثٍ وَلَا زَرْعٍ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ. قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أَيْ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُكُمْ، أَنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنْتُمْ فِي حَالَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لَهُ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ مُنْصَرِفًا عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُوَفِّيَهُ حَقَّهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَوَلٍّ عَنْ شَيْءٍ مُعْرِضًا عَنْهُ وَمُهْمِلًا لَهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) لَازِمًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَيْسَ تَكْرَارًا كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْمَعْنَى، وَمُؤَكِّدٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَلِّي. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا زَادَهُ الْمُفَسِّرُ مِنْ قَوْلِهِ: ((فَقَبِلْتُمْ ذَلِكَ) لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ وَعِيدٍ وَزَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ، وَفِي كَلِمَةِ (ثُمَّ) نَفْسِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَلِّيَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. وَقَدْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَلِّي مَعَ الْإِعْرَاضِ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الدِّينَ إِلَّا فِي كِتَابِهِ، فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُحِلُّونَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُبِيحُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَحْظُرُونَ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَيَضَعُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الِاحْتِفَالَاتِ وَالشَّعَائِرِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الدِّينَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَدِلَّاءُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى فَهْمِ كِتَابِهِ وَمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَ سَنَنَ الْيَهُودِ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ جَمِيعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَحُكْمُ الْجَمِيعِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، فَهُوَ لَا يُحَابِي أَحَدًا (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) وَكَذَلِكَ كَانُوا قَدْ قَطَعُوا صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَبَخِلُوا بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَقَدُوا رُوحَ الصَّلَاةِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَلَكِنَّهُمُ الْآنَ عَادُوا إِلَى بَعْضِ مَا تَرَكُوا، وَلَمْ يَعُدِ الَّذِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ أَوِ اتَّبَعُوا بِغَيْرِ شُعُورِ سُنَّتِهِمْ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ) فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانُوا فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ فِي كُلِّ زَمَنٍ، فَإِنَّهُ لَا تَخْلُو أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ وَقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَدَمُ بَخْسِ الْمُحْسِنِينَ حَقَّهُمْ، وَبَيَانُ أَنَّ وُجُودَ قَلِيلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْأُمَّةِ لَا يَمْنَعُ عَنْهَا الْعِقَابَ الْإِلَهِيِّ إِذَا فَشَا فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَقَلَّ الْمَعْرُوفُ. لَوْ تَدَبَّرَ جُهَّالُنَا هَذِهِ الْآيَةَ، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ وَالْأَبْدَالِ فِي تَحَمُّلِ الْبَلَاءِ عَنْهُمْ، وَمَنْعِ الْعَذَابِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْأُمَّةِ بِبَرَكَتِهِمْ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْطَابَ

84

مَوْجُودُونَ حَقِيقَةً، فَإِنَّ وُجُودَهُمْ لَا يُغْنِي عَنِ الْأُمَّةِ شَيْئًا، وَقَدْ عَصَى اللهَ جَمَاهِيرُهَا وَقَضَوْا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأُمَمِ عَزِيزَةً إِنَّمَا يَكُونُ بِمُحَافَظَةِ الْجَمَاهِيرِ فِيهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْعِزَّةُ وَيُحْفَظُ بِهَا الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، لَا يَعْتَبِرْ بِآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ فُتِنَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَحَلَّ بِجَمِيعِ بِلَادِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (47: 24) ، (أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (9: 126) . (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهَمِّ الْمَأْمُورَاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ - تَعَالَى - الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَا بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَأْتَمِرُوا بِهَا، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التَّذْكِيرُ بِأَهَمِّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ - تَعَالَى - الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِاجْتِنَابِهَا، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيِ الَّذِينَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ فَقَالَ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) وَقَالَ هُنَا: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) تَمَادِيًا فِي سِيَاقِ الِالْتِفَاتِ، وَتَذْكِيرًا بِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَاعْتِبَارِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، يُصِيبُ الْخَلْفَ أَثَرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مَا اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ، وَجَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَمَا تُؤَثِّرُ أَعْمَالُ الشَّخْصِ السَّابِقَةُ فِي قُوَاهُ النَّفْسِيَّةِ، وَطَبْعِ مَلَكَاتِهِ

بَعْدَ انْحِلَالِ مَادَّةِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي ابْتَدَأَتِ الْعَمَلَ، وَحُلُولِ مَوَادٍّ أُخْرَى فِي مَحِلِّهَا تَتَمَرَّنُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَمَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي صِغَرِهِ، يَبْقَى أَثَرُهُ فِي قُوَاهُ فِي كِبَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ. وَقَدْ أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دَمَ بَعْضٍ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ بِعِبَارَةٍ تُؤَكِّدُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا شَرِيفًا يَبْعَثُهَا عَلَى الِامْتِثَالِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَلْبٌ يَشْعُرُ، وَوِجْدَانٌ يَتَأَثَّرُ، فَقَالَ: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) فَجَعَلَ دَمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ كَأَنَّهُ دَمُ الْآخَرِ عَيْنُهُ، حَتَّى إِذَا سَفَكَهُ كَانَ كَأَنَّهُ بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ. وَقَالَ: (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) عَلَى هَذَا النَّسَقِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ الْمُعْجِزُ بِبَلَاغَتِهِ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ. فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَجْرُوا عَلَيْهَا فِي الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهَا عِنْدَهُمْ لَا تُطَاوِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الَّتِي تُدْهِشُ صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الرَّقِيقِ، فَهَذَا إِرْشَادٌ حَكِيمٌ طَلَعَ مِنْ ثَنَايَا الْأَحْكَامِ يَهْدِي إِلَى أَسْرَارِهَا وَيُومِئُ إِلَى مَشْرِقِ أَنْوَارِهَا، مَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْأُمَمِ إِلَّا بِالتَّحَقُّقِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَشُعُورِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِأَنَّ نَفْسَهُ نَفْسُ الْآخَرِينَ وَدَمَهُ دَمُهُمْ، لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ بَيْنَ الرُّوحِ الَّتِي تَجُولُ فِي بَدَنِهِ وَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالدِّمَاءِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا إِخْوَانُهُ الَّذِينَ وُحِّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا لَا تَرْتَكِبُوا مِنَ الْجَرَائِمِ مَا تُجَازَوْنَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ. وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَسْفِكُونَ) كَمَا قِيلَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) مِنْ تَضَمُّنِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا كَانَ مِنِ اعْتِرَافِ سَلَفِهِمْ بِالْمِيثَاقِ وَقَبُولِهِ، وَشُهُودِهِمُ الْوَحْيَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (ثَانِيهُمَا) : أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرُونَ أَنْفُسُهُمْ، أَيْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْقُرْآنِ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَتَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، بَلْ تَشْهَدُونَ بِهِ وَتُعْلِنُونَهُ، فَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَيْكُمْ بِهِ. ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَتَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا، ذَكَرَ نَقْضَهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) الْحَاضِرُونَ الشَّاهِدُونَ الْمُشَاهِدُونَ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ قَبْلَكُمْ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَيْكُمْ كَمَا كَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ؛ كَانَ (بَنُو قَيْنُقَاعَ) مِنَ الْيَهُودِ أَعْدَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِخْوَانِهِمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الْأَوَّلُونَ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالْآخَرُونَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَبَقِيَ بَنُو النَّضِيرِ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَالَفَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْأَوْسَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءً، وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَمَعَ كُلٍّ حُلَفَاؤُهُ، فَهَذَا مَا احْتَجَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِهِمْ

85

أَنْفُسِهِمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَيَتْبَعُ هَذَا الْقِتَالَ الْأَسْرُ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) . وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ، وَتَظَاهَرُونَ أَصْلُهُ تَتَظَاهَرُونَ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَقِيسٌ مَشْهُورٌ. كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ يُظَاهِرُ حُلَفَاءَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُعَاوِنُهُمْ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ بِالْإِثْمِ كَالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَبِالْعُدْوَانِ كَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ. وَمِنْ مَثَارَاتِ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانُوا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى يَفْدِي كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْرَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ فِي الْكِتَابِ بِفِدَاءِ أَسْرَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالْكِتَابِ، فَلِمَ قَاتَلُوا شَعْبَ إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؟ هَذَا لَعِبٌ بِالْكِتَابِ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدِّينِ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَسَرْتُمُوهُمْ وَأَخْرَجْتُمُوهُمْ بِالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعَرَبِ، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) بِمِيثَاقٍ أَغْلَظَ مِنْ طَلَبِ مُفَادَاتِهِمْ. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آخَرَ مِنْهُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ أَنَّ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ بِأَهْوَنِ الْأُمُورِ مَعَ الْكُفْرِ بِأَعْظَمِهَا؟ وَالْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِالْكُفْرِ دَلِيلٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) فَالْقُرْآنُ يُصَرِّحُ هُنَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَضْطَرِبُ نَفْسُهُ قَبْلَ إِصَابَتِهِ، وَلَا يَتَأَلَّمُ وَيَنْدَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - تَائِبًا، بَلْ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ بِلَا مُبَالَاةٍ بِنَهْيِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى -، الْمُصَدِّقَ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ وَمُوجِبَاتِ عُقُوبَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ لِإِيمَانِ قَلْبِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أَنَّ لِكُلِّ اعْتِقَادٍ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَلِكُلِّ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهُ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ شَارِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) . وَلَقَدْ سَمَّى اللهُ الذَّنْبَ هَاهُنَا كُفْرًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ الْكُفْرِ فَقَالَ: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . . . إِلَخْ. أَوْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - كَمَا أَوْعَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى نَقْضِ مِيثَاقِ الدِّينِ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَالشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وِحْدَتِهِمْ وَرِبَاطِ جِنْسِيَّتِهِمْ بِالْخِزْيِ الْعَاجِلِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ، وَقَدْ دَلَّ الْمَعْقُولُ، وَشَهِدَ الْوُجُودُ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ فَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاعْتَدَتْ حُدُودَ شَرِيعَتِهَا، إِلَّا وَانْتَكَثَ فَتْلُهَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَنَزَلَ بِهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَهُوَ الْخِزْيُ الْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا لِيَعْتَبِرَ بِهَا مَنْ صَرَفَتْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا.

وَأَمَّا الْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَهَادٍ إِلَى حِكْمَةٍ عُلْيَا؛ ذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا سَحَلَ مَرِيرُهَا، وَاخْتَلَّتْ بِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ أُمُورُهَا، وَكَثُرَتْ فِي ذَا الْعَالَمِ شُرُورُهَا، حَتَّى سَلَبَتْ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِمَنْ حَافَظُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، تَكُونُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسْلَبَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، فَإِنَّ سَعَادَةَ الدَّارِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالٍ بَدَنِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ النَّفْسِ فِي خُلُقٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَمَرَةُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ إِلَيْهَا بِعَمَلِ الْحِسِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ نَعِيمُ الْآخِرَةِ جَزَاءَ حَرَكَاتٍ جَسَدِيَّةٍ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الرُّوحَانِيَّةُ؟ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 7 - 10) . (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ (تُرَدُّونَ) بِالْخِطَابِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ (تَعْمَلُونَ) بِالْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ وَيَعْقُوبَ (يَعْمَلُونَ) عَلَى الْغِيبَةِ لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى (مَنْ يَفْعَلُ) . ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) أَيْ جَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَأَهْمَلُوا مِنْ شَرِيعَتِهِ، حَتَّى لَمْ يَتَّبِعُوا مِنْهَا إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَا يُعَارِضُ شَهَوَاتِهِمْ كَالْحَمِيَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ كُلَّ حَلِيفٍ عَلَى الِانْتِصَارِ لِمُحَالِفِهِ الْمُشْرِكِ وَمُظَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُ بِهِمْ رَابِطَةُ الدِّينِ وَالنَّسَبِ (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ ظُلْمَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَفَسَادُ أَخْلَاقِهِمْ (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) بِشَفَاعَةِ شَافِعٍ، أَوْ وِلَايَةِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللهِ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) ؟ وَأَنَّى يُؤْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ أَعْمَالُهُمْ بِإِحَاطَةِ الْخَطَايَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أَخَذَتْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الرَّحْمَةِ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ سَبِيلَ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ، فَمِنَ الْجَهْلِ إِهْمَالُهُمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَنَقْضُهُمْ مِيثَاقَ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَهَمِّ مَا وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَاعْتِمَادُهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) . وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي قَوْلِهِ: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِ وَالْجَمَاهِيرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَقْضِي الْحَالُ فِيهَا بِتَقَدُّمِ الِاسْمِ وَتَأَخُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ مَا يُشْتَقُّ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ تُصَدَّرَ بِضَمِيرٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَوَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ يَتَّفِقُ فِيهَا ذَوْقُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهَا.

87

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) عُهِدَ فِي سِيرَةِ الْبَشَرِ أَنَّ الْأُمَّةَ تُوعَظُ وَتُنْذَرُ، فَتَتَّعِظُ وَتَتَدَبَّرُ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ بَعْدَ النَّذِيرِ تَقْسُو الْقُلُوبُ، وَيَذْهَبُ أَثَرُ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الصُّدُورِ، وَتَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَتَنْسَى مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ مِمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ، أَوْ تُحَرِّفُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ، وَزُخْرُفِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَلَقَدْ يَكُونُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا بَعْضُ الْعُذْرِ لِجَهْلِهِ بِمَا فَعَلَ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخْذِهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ لِكَمَالِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ. بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ السُّنَّةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (57: 16) وَلِهَذَا كَانَ - تَعَالَى - يُرْسِلُ الرُّسُلَ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَطُولَ أَمَدُ الْإِنْذَارِ عَلَى النَّاسِ فَيَفْسُقُوا وَيَضِلُّوا، وَلَا يَعْرِفُ التَّارِيخُ شَعْبًا جَاءَتْ فِيهِ الرُّسُلُ تَتْرَى كَشَعْبِ إِسْرَائِيلَ؛ لِذَلِكَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ صِحَّةِ الْعُذْرِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى الْإِنْذَارِ، وَفِي نَاحِيَةٍ عَمَّا يُرْجَى قَبُولُهُ مِنَ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ؛ لِهَذَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) فَلَمْ يَمُرَّ زَمَنٌ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى آخِرِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَّا وَكَانَ فِيهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ أَنْبِيَاءُ مُتَعَدِّدُونَ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْلَمُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ بِالرُّسُلِ يَدٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ وَنِسْيَانِ الشَّرَائِعِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ لِاعْتِذَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُكُمْ، فَإِنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءَتْكُمْ تَتْرَى ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَهُمْ مَا كَانَ. ذَكَرَ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْإِجْمَالِ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، فَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ: فَهِيَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا عَادَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَأَمَّا رُوحُ الْقُدُسِ فَهُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ أَنْبِيَاءَهُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ

وَهُوَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) (42: 52) الْآيَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُقَدَّسٌ، أَوْ لِأَنَّهُ يُقَدِّسُ النُّفُوسَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ " الرُّوحُ الْأَمِينُ "؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ يَأْمَنُ مَعَهَا التَّلْبِيسَ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (26: 193، 194) . (ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ) : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِجِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ الشَّرَائِعَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ " حَاتِمُ الْجُودِ "، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا رُوحُ عِيسَى نَفْسِهِ، وَوَصْفُهَا بِالْقَدَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ بِمَعْنَى إِعَاذَتِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تُقَدِّسُ النُّفُوسَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الْإِنْجِيلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ رُسُلٍ كَثِيرِينَ فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى، وَأَعْطَاهُ مَا لَمْ يُعْطِ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَحَظِّ سَابِقِيهِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا مِنَ الْمَوَاهِبِ مِثْلُ مَا أُوتِيَ. مَاذَا كَانَ حَظُّ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ كَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُمْ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي قَوْلِهِ: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) ، فَاتَّبَعْتُمُ الْهَوَى وَأَطَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ، وَعَصَيْتُمُ الرُّسُلَ وَاحْتَمَيْتُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْذَرُوكُمْ وَدَعَوْكُمْ إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِكُمْ، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) كَانَ الْمَعْهُودُ فِي التَّخَاطُبِ وَكَلَامِ النَّاسِ أَنَّ تُذْكَرَ هَذِهِ الْمَسَاوِئُ ثُمَّ يُوَبَّخُونَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ طَوَاهَا فِي الْخِطَابِ وَأَدْمَجَهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ لِتُفَاجِئَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّقْبِيحِ، وَتَبْرُزَ لَهَا فِي ثَوْبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ السُّوءَى مِمَّا لَا يَخْفَى خَبَرُهَا، وَلَا تَغِيبُ عَنِ الْإِنْكَارِ صُوَرُهَا، فَلَا يَنْبَغِي الْإِلْمَاعُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي سِيَاقِ تَقْرِيعِ مُجْتَرِحِيهَا، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِكْرُ الْإِنْسَانِ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَوْرَدَ خَبَرَ الْقَتْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْفَظِيعَةِ، وَتَمْثِيلِهَا لِلسَّامِعِ حَتَّى يُمَثِّلَهَا فِي الْخَيَالِ، وَإِنْ مَرَّتْ عَلَيْهَا الْقُرُونُ وَالْأَحْوَالُ؛ لِأَنَّهَا أَفَاعِيلٌ لَا تَخْلَقُ جِدَّتُهَا، وَدِمَاءٌ لَا تَطِيرُ رَغْوَتُهَا، وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لِيُمَثِّلُ تِلْكَ الصُّورَةَ الْمُشَوَّهَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا قَرَعَتِ الذِّهْنَ بِمَفْهُومِهَا، يَتَنَاوَلُ الْخَيَالُ ذَلِكَ الْمَفْهُومَ وَيُصَوِّرُهُ بِالصُّورَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يُنَاسِبُهُ. قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَيُرْوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ نَبِيًّا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا، فَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي الدَّعْوَةِ

88

إِلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَدَلِيلُهَا مَحْصُورٌ فِي الْإِنْبَاءِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مُنْتَشِرًا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثِيرًا بِكَثْرَتِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُجَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَعْجَبُونَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِجَابَتِهِمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُجَاحَدَةَ وَالْمُعَانَدَةَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ شَنْشَنَتِهِمْ، وَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَالْغُلْفُ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ. وَالْمُرَادُ أَنَّنَا لَا نَعْقِلُ قَوْلَكَ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِنَا مَفْهُومُ دَعْوَتِكَ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ) (41: 5) . وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمَا يُشْعِرُ بِكَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَقَالَ: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ غُلْفًا لَا تَفْهَمُ الْحَقَّ بِطَبْعِهَا، وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَحَرَّفُوهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ قَدْ أَنِسُوا بِالْكُفْرِ وَانْطَبَعُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ قَبُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعَهُ عِلَّتَهُ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكُفْرَ، وَالْعِصْيَانِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ، كَمَا هِيَ السَّنَةُ فِي أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّعْنَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرُسُلِهِ إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْمَنُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَتَحْكِيمِهِ فِي الْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ. وَلَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِالشَّرِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَمَا تُعْطِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبِسُوهَا مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا وَلَمْ يَفْقَهُوا حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِإِرَادَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّكُهَا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَيُصَرِّفُهَا عَامِلُ اللَّذَّةِ، فَالْإِيمَانُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ، وَرَسْمًا يَلُوحُ فِي الْخَيَالِ، تُكَذِّبُهُ الْأَعْمَالُ وَتَطْمِسُهُ السَّجَايَا الرَّاسِخَةُ وَالْخِلَالُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ نَرَى آيَاتِ الْقُرْآنِ تُبْطِلُهُ بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ، فَقَلِيلًا مَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ (مَا) زَائِدَةٌ وَمَا هِيَ بِزَائِدَةٍ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَجَلَّ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَلِمٌ زَائِدٌ، وَإِنَّمَا تَأْتِي (مَا) هَذِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ تَارَةً وَلِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا

الْمُقَامِ كَمُبْتَدَأِ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِيمَانًا قَلِيلًا ذَلِكَ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَأَمَّا الَّتِي لِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ فَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (3: 159) أَيْ فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ خَصَّكَ اللهُ بِهَا لِنْتَ لَهُمْ عَلَى مَا لَقِيتَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - هَذِهِ الرَّحْمَةَ بِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 128) وَقَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) . هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمُسْتَقِرَّ، وَعِصْيَانَهُمُ الْمُسْتَمِرَّ، كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمْ وَإِبْعَادِهِمْ، كَانَ لِلْوَهْمِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ وَعَمَّهُمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَهْمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَنَّ تَأْثِيرَ مَا ذُكِرَ فِي مَجْمُوعِ الشَّعْبِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ أَفْرَادَهُ اسْتِغْرَاقًا، وَإِنَّمَا غَمَرَ الْأَكْثَرِينَ، وَيُرْجَى أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ النَّفَرُ الْقَلِيلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. أَقُولُ: وَفِيهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقِّ مَا لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّاسِ. (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

89

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) . . . إِلَخْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ قَلِيلًا حَالَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا وَكِتَابًا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا أَوْ أَقَلَّ بَعْدَمَا جَاءَ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ ثُمَّ كَفَرُوا؟ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَيَصِحُّ أَيْضًا هَذَا الِاتِّصَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَالْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، نَكَّرَهُ لِلتَّفْخِيمِ، وَقَوْلُهُ: (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ فِي قَوْلِهِ: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) مَعْنَاهُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ الْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ وَالْحُكْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّصْرِ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَحَارِبِينَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَفْتِحُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالنَّبِيِّ الْمُنْتَظَرِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَظْهَرُ فَيَنْصُرُ كِتَابُهُ التَّوْحِيدَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَيَخْذُلُ الْوَثَنِيَّةَ الَّتِي تَنْتَحِلُونَهَا وَيُبْطِلُهَا، فَيَكُونُ مُؤَيِّدًا لِدِينِ مُوسَى. أَقُولُ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيهِمْ وَفِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ، قَالُوا: كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ قَهْرًا دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادَ وَإِرَمَ. . . إِلَخْ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ (يَسْتَفْتِحُونَ) : يَسْتَنْصِرُونَ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ. . . إِلَخْ. وَتَتِمَّتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَشَذَّ بَعْضُهُمْ كَالْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ أَوْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ: اللهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي نَجِدُ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمْ يُعَرِّجِ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهَا لِأَنَّهَا عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهَا وَمُخَالَفَتِهَا لِلرِّوَايَاتِ الْمَعْقُولَةِ شَاذَّةُ الْمَعْنَى - بِجَعْلِ الِاسْتِفْتَاحِ دُعَاءً بِشَخْصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " بِحَقِّهِ " وَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللهِ فَيُدْعَى بِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ رِوَايَاتِ الدُّعَاءِ بِحَقِّهِ وَالِاسْتِنْصَارِ بِشَخْصِهِ، بَلْ ذَكَرَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ بِأَنْ يَبْعَثَهُ لِيَقْتُلَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ لَا فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُ مَجِيئِهِ قَرِيبًا، عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) . أَعَادَ (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) وَهِيَ عَيْنُ الْأَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ، وَوَصَلَ بِهِ الْجَوَابَ وَهُوَ (كَفَرُوا بِهِ) ذَلِكَ أَنَّهُ رَاعَهُمْ كَوْنُهُ بُعِثَ فِي الْعَرَبِ فَحَسَدُوهُ، فَحَمَلَهُمُ الْحَسَدُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ جُحُودًا وَبَغْيًا، فَسُجِّلَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ بِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكُفْرَ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَظْهَرَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ. ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا الْكُفْرِ وَسَبَبَهُ، وَبَيَّنَ فَسَادَ رَأْيِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ)

90

أَيْ بِئْسَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ. شَرَى الشَّيْءَ وَاشْتَرَاهُ: يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى بَاعَ الشَّيْءَ، وَبِمَعْنَى ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى بَاعُوا؛ أَيْ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَبَاعُوهَا بِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَغْيًا وَحَسَدًا لِلنَّبِيِّ وَحُبًّا فِي الرِّيَاسَةِ وَاعْتِزَازًا بِالْجِنْسِيَّةِ، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ ثَمَنًا لِأَنْفُسِهِمُ الَّتِي خَسِرُوهَا بِالْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا كَمَا يَفْقِدُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى ابْتَاعُوا، أَيْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ ثَمَنًا لِلْكُفْرِ الَّذِي ذُكِرَتْ عِلَّتُهُ آنِفًا. وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْقَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَ، وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ. وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِكُفْرِهِمْ لَا لِشِرَائِهِمْ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ لِمَحْضِ الْبَغْيِ الَّذِي أَثَارَهُ الْحَسَدُ كَرَاهَةَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ الْوَحْيَ مِنْ فَضْلِهِ بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، وَأَيُّ بَغْيٍ أَقْبَحُ مِنْ بَغْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَيُقَيِّدَ رَحْمَتَهُ، فَلَا يَرْضَى مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَحْيَ فِي آلِ إِسْمَاعِيلَ كَمَا جَعَلَهُ فِي آلِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ؟ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يُنْزِلَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) فَهُوَ الْغَضَبُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ حَدِيثًا بِالْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الَّذِي لَحِقَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِإِعْنَاتِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْكُفْرِ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (2: 61) ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ الْغَضَبِ الْمُزْدَوِجِ فَقَالَ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أَيْ مَقْرُونٌ بِالْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَبِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدٌ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الذَّنْبِ. وَقَالَ: (وَلِلْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ (وَلَهُمْ) لِمَا فِي الْمَظْهَرِ مِنْ بَيَانِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي سَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا الْعَذَابُ مُطْلَقٌ، يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ تَتْبَعُهَا عُقُوبَتُهَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا اللهُ كَذَلِكَ لِتَكُونَ عِبْرَةً يَتَأَدَّبُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ كُلِّ شَخْصٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِي عَقْلِهِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهِ. اعْتَذَرَ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ لَمْ تَفْهَمِ الدَّعْوَةَ وَلَمْ تَعْقِلِ الْخِطَابَ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَيْهِ

91

مِنَ الْغَضَبِ وَالْهَوَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِذَارًا آخَرَ لَهُمْ مَقْرُونًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَقَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) صِيغَةُ الدَّعْوَةِ تُشْعِرُ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ لَا لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ فَلَانٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: آمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا هُمْ مُبَلِّغُونَ، فَتَقْيِيدُ الْخُضُوعِ لِوَحْيِ اللهِ بِكَوْنِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا عَلَى شَخْصٍ مِنْ شَعْبِ كَذَا بِعَيْنِهِ تَحَكُّمٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَقَضَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مُقَيَّدَةً بِأَهْوَاءِ فَرِيقٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِيرَادُ الدَّعْوَةِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِطْلَاقِ مَعَ إِيرَادِ الْجَوَابِ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) يُشْعِرُ بِقُوَّةِ حُجَّةِ الدَّعْوَةِ، وَوَهَنِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ مِنَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدَّعُونَ هَذَا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) مِنْ مَدْلُولٍ وَلَازِمٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَالْبِشَارَةِ بِرَسُولٍ مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ أَيْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَوْنِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ بِمُسَاوَاتِهِ لِمَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُوسَى يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ كَمَا اتُّبِعَ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ يَتْبَعُ دَلِيلَهُ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ مَوْضُوعٍ، قَالَ: إِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَ الْمَنَزَّلِ إِلَيْهِمْ (وَهُوَ الْحَقُّ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ بِالدَّلِيلِ حَالَ كَوْنِهِ (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) ، فَهُوَ مُؤَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمَا اقْتَرَفُوا مِنْ فُحْشِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْفُسُوقِ عَنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُحَكِّمُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ قَالَ: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ فِيهِ النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَوِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ مَا كَفَرُوا بِهِ هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ثُبُوتِ مَضْمُونِهَا عَلَى حُدُوثِ مَا جُعِلَتْ قَيْدًا لَهُ، وَمَا كَفَرُوا بِهِ كَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ قَبْلِ كُفْرِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هُوَ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ شَيْخُنَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ قَرَأَ دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ، وَقَوْلُهُ: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُقَارَنَةُ لِمَا هِيَ قَيْدٌ لَهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ كُفْرِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِالتَّبَعِ لِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لَهَا، وَلَوْ فِيمَا صَدَّقَهَا فِيهِ، وَالْكُفْرُ بِبَعْضِهِ كَالْكُفْرِ بِهِ كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَيْضًا: وَضْعُ الْمُضَارِعِ (تَقْتُلُونَ) مَوْضِعَ الْمَاضِي (قَتَلْتُمْ) لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ إِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا الْجُرْمِ الْفَظِيعِ مُبَالَغَةً فِي التَّقْرِيعِ، وَإِغْرَاقًا فِي التَّشْنِيعِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ، فَتُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقْتَرِفُونَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

92

فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنْبِيَاءُ إِلَّا مَنْ يُبَكِّتُهُمْ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ، وَصَلَهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ قَبْلُ) دَفْعًا لِذَلِكَ الْوَهْمِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَلِمَ) وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنَّ خِطَابَ الْخَلَفِ بِإِسْنَادِ مَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ إِلَيْهِمْ مَقْصُودٌ لِبَيَانِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَكَوْنِهَا فِي الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مَا تُبْلَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرُ الْأَخْلَاقِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهَا، وَالْأَعْمَالُ الْفَاشِيَةُ فِيهَا مُنْبَعِثَةٌ عَنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ، فَمَا جَرَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَذَفَاتِ الْمُصَادَفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ أَخْلَاقٍ رَاسِخَةٍ فِي الشَّعْبِ تَبِعَ الْآخِرُونَ فِيهَا الْأَوَّلِينَ، إِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالْإِقْرَارِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَجْمُوعُ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمَا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَلَمَا تَمَادَى وَاسْتَمَرَّ. فَالْحُجَّةُ تَقُومُ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ الْغَابِرِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَأَقَرَّهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الدِّينِ وَلَا رَفْضًا لِلشَّرِيعَةِ، وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَفَاعِلُ الْكُفْرِ وَمُجِيزُهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ. (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)

سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (الْآيَةَ 2: 51) ثُمَّ أَعَادَهُ هُنَا بِعِبَارَةٍ وَأُسْلُوبٍ آخَرَيْنِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ، أَمَّا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ وَالْأُسْلُوبِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا السِّيَاقُ فَقَدْ كَانَ أَوَّلًا فِي تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيَانِ مَا قَابَلُوهَا بِهِ مِنَ الْكُفْرَانِ، وَهُوَ هُنَا فِي ذِكْرِ الْآيَاتِ وَرَدِّ شُبُهَاتِهِمُ الْمَانِعَةِ بِزَعْمِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَهُنَاكَ يَقُولُ إِنَّ النِّعَمَ الَّتِي أَسْبَغَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ شُكْرٍ عِنْدَكُمْ إِلَّا اتِّخَاذُ عِجْلٍ تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ، وَهَاهُنَا يَقُولُ إِنَّ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لَمْ تَزِدْكُمْ إِلَّا إِيغَالًا فِي الشِّرْكِ وَانْهِمَاكًا فِي الْوَثَنِيَّةِ، فَكَيْفَ تَعْتَذِرُونَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ بِأَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَهَذَا شَأْنُكُمْ فِيهِ؟ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يُنْبِئُ بِفَسَادِ قُلُوبِ الْقَوْمِ وَفَسَادِ عُقُولِهِمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوِجْدَانِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقْلِ وَالْجَنَانِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَاهُنَا قَدْ كَانَتْ فِي مِصْرَ قَبْلَ الْمِيعَادِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَقَدْ كَانَتْ فِي أَرْضِ الْمِيعَادِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا قَدْ عُلِمَ مِمَّا قُلْنَاهُ وَفِيهِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مُعَامَلَتِهِمْ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إِذْ قَالُوا: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَلَا يُؤْمِنُوا إِلَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَجِ كُلِّهَا بُطْلَانُ شُبَهِهِمْ وَكَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ. قَالَ: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْمَجِيءِ لَا مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ فِي ذَلِكَ الِاتِّخَاذِ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) أَيْ ظُلْمٌ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ - تَعَالَى -؟ وَلَا تَغْفُلُ عَنِ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِهِ) ، وَحَذْفِ مَفْعُولِ (اتَّخَذْتُمْ) أَيِ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ هُنَا أَيْضًا أَخْذَ الْمِيثَاقِ وَرَفْعَ الطُّورِ كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ فِي آيَةٍ تَقَدَّمَتْ، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) وَقَالَ هُنَا: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) وَأَمَرَهُمْ فِي تِلْكَ بِالْحِفْظِ، وَأَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ بِالْفَهْمِ وَالطَّاعَةِ. وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (وَاذْكُرُوا) : إِنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ، فَالْعِبَارَتَانِ تَتَلَاقَيَانِ فِي الْمَعْنَى وَالْمُرَادِ. وَفِي اخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ فِي الْبَلَاغَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّبْقِ إِلَى الْعِبَارَةِ الَّتِي يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي نَظْمِ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ. رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُ عِلْمًا بِشَيْءٍ مَا، لَهُ كَلِمَاتٌ فِي اللُّغَةِ تُؤَدِّيهِ بِوُجُوهٍ مِنَ النَّظْمِ، وَأَنَّ الْكَلِمَاتِ وَالْوُجُوهَ مَحْدُودَةٌ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى أَتَمِّهَا أَدَاءً وَأَبْلَغِهَا تَأْثِيرًا، كَانَ كَالسَّابِقِ إِلَى انْتِقَاءِ أَكْرَمِ جَوْهَرَةٍ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ أَمَامَهُ، أَوْ إِلَى أَنْفَسِ عِقْدٍ وَأَحْسَنِهِ نَظْمًا مِنْ عُقُودٍ عُرِضَتْ عَلَيْهِ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (40: 28) قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَشَرَةُ ضُرُوبٍ مِنَ النَّظْمِ

93

بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَا مِنْ ضَرْبٍ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقَدٌ بِالْخَطَلِ أَوْ إِيهَامِ خِلَافِ الْمُرَادِ أَوِ الْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا نَظْمَ الْآيَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْمَعْنَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَتَأَتَّى نَظْمٌ آخَرُ يُؤَدِّي مُؤَدَّاهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْإِعْجَازَ لَيْسَ إِلَهِيًّا. لَوْ أُخِذَ مَا قَالُوهُ مُسَلَّمًا عَلَى إِطْلَاقِهِ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَتَجَلَّى لَهُ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهُ جَمِيعُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ لَهُ، وَجَمِيعُ ضُرُوبِ النَّظْمِ، وَوُجُوهُ الْأَسَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي تَرْتِيبِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَتَأْلِيفِهَا فَيَخْتَارُ الْأَحْسَنَ وَالْأَبْلَغَ مِنْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءَ بِهِ مُؤَيَّدًا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ بِمَا قَالُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَلْفَاظِ آيَةِ (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) . . . إِلَخْ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَعَانِي لَا سِيَّمَا الْكُلِّيَّةِ تَرَاهَا تَتَجَلَّى فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّظْمِ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ، وَأَمَامُنَا الْآنَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِشَرِيعَتِهِ وَوَصَايَاهُ، وَكَانَ أَخْذُ هَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْقِفِ رَهْبَةٍ وَخُشُوعٍ يُعِينُ عَلَى أَخْذِهِ بِالْجِدِّ وَالْعَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ الْجَبَلُ مَرْفُوعًا فَوْقَهُمْ بِصِفَةٍ لَمْ يَعْهَدُوهَا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَقَضُوا هَذَا الْمِيثَاقَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَاغُوهُ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِأَيْدِيهِمْ عَنْ حُبٍّ مُتَمَكِّنٍ مِنَ النَّفْسِ وَغَالِبٍ عَلَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَكِنْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنِ الْمِيثَاقِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِحِفْظِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ رَجَاءَ التَّقْوَى، وَكَآيَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (7: 171) وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا هُنَاكَ، وَكِلَاهُمَا غَايَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ. وَذَكَرَهُ هُنَا بِنَظْمٍ آخَرَ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الْحَاضِرِينَ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَابِرِينَ فَقَالَ: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) أَيْ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْمِيثَاقَ وَفَهِمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ بَلْ خَالَفُوهُ تَعَنُّتًا وَتَأَوُّلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ بِمَثَابَةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّجَوُّزِ مَعْرُوفٌ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ وَفِي هَذَا الْعَهْدِ، يُعَبِّرُونَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلٍ يَحْكِيهِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى حُكِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ وَعَنِ الْجَمَادَاتِ أَيْضًا، وَهُوَ أُسْلُوبٌ أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ أَوْ فِي اللُّغَاتِ الرَّاقِيَةِ فَقَطْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْبَحَ أَمْثِلَةِ هَذَا الْعِصْيَانِ بِعِبَارَةٍ مُدْهِشَةٍ فِي بَلَاغَتِهَا فَقَالَ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) ، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ فَرَائِدِ الِاسْتِعَارَاتِ يُتَمَثَّلُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَإِشْرَابُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: مُخَالَطَتُهُ إِيَّاهُ وَامْتِزَاجُهُ بِهِ ، يُقَالُ: بَيَاضٌ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ، أَوْ هُوَ مِنَ الشُّرْبِ كَأَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْبُوبَ شَرَابٌ يُسَاغُ، فَهُوَ يَسْرِي فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ وَيُمَازِجُهُ كَمَا يَسْرِي الشَّرَابُ الْعَذْبُ الْبَارِدُ فِي لَهَاتِهِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْأَكْثَرُونَ هُنَا مُضَافًا مَحْذُوفًا، فَقَالُوا: الْمُرَادُ " حُبُّ الْعِجْلِ "

وَذَهَبَ بَعْضُ الْجَامِدِينَ عَلَى الظَّوَاهِرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّرْبِ هُنَا حَقِيقَتُهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى لَمَّا سَحَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ طَفِقُوا يَشْرَبُونَ الْمَسْحُوقَ مَعَ الْمَاءِ، وَغَفَلَ صَاحِبُ هَذَا الزَّعْمِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فِي قُلُوبِهِمْ) ، وَالشَّرَابُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَالشُّرْبُ غَيْرُ الْإِشْرَابِ. وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَزَاعِمُ وَقِصَصٌ فِي الْعِجْلِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ وَلَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ يُنْقَلُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ (بِكُفْرِهِمْ) لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: سَبَبُ هَذَا الْحُبِّ الشَّدِيدِ لِعِبَادَةِ الْعِجْلِ هُوَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ فِي مِصْرَ، فَقَدْ رَسَخَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ بِطُولِ الزَّمَنِ، وَوَرِثَهُ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ. وَأَمَّا السِّيَاقُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفَيْنِ لِأُسْلُوبِ تِلْكَ الْآيَةِ مَعَ الْاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَرَدُّ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِشَرِيعَةٍ لَا يُطَالِبُهُمُ اللهُ بِالْإِيْمَانِ بِغَيْرِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا؛ وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ صَحَّ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِشَرِيعَةٍ - وَالْإِيْمَانُ الْحَقِيقِيُّ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِرَادَةِ - فَبِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ ذَلِكَ الْإِيْمَانُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا عِبَادَةُ الْعِجْلِ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَقْضُ الْمِيثَاقِ. لَكِنَّ هَذَا الزَّعْمَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، بَلْ يَصِحُّ الْقَطْعُ بِعَدَمِهِ بِدَلِيلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ أَثَرًا لَهُ. وَلَا يَنْسَى الْقَارِئُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَبْطِ الْإِيْمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (2: 81) الْآيَةَ. هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِطَبِيعَةِ الْإِيْمَانِ وَأَثَرِهِ فِي عَمَلِ الْمُؤْمِنِ. وَتَلِيهَا حُجَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِفَائِدَةِ الْإِيْمَانِ وَمَثُوبَتِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . الْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ ثَوَابُهَا وَنَعِيمُهَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ الْمَثُوبَةِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، أَوِ الْعُقُوبَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَاسْتَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِ (لَكُمْ) فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمَحْذُوفِ، وَإِنَّمَا أَوْجَزَ هُنَا فِي خِطَابِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكِي عَنْ شَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) وَالْخَالِصَةُ: هِيَ السَّالِمَةُ مِنَ الشَّوَائِبِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) الْخَالِصَةَ بِالْخَاصَّةِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَالتَّخْصِيصُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنْ دُونِ النَّاسِ) يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاكُمْ وَصَدَقَ قَوْلُكُمْ إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ؛ فَلَنْ تَمَسَّكُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لَا تَزِيدُ عَلَى أَيَّامِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَا تَتَجَاوَزُ عَابِدِيهِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الَّذِي يُوصِلُكُمْ إِلَى ذَلِكَ النَّعِيمِ الْخَالِصِ الدَّائِمِ، لَا مُنَازِعَ لَكُمْ فِيهِ وَلَا مُزَاحِمَ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَمَا أَنْتُمْ بِصَادِقِينَ؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَرْغَبَ الْإِنْسَانُ عَنِ السَّعَادَةِ وَيَخْتَارَ الشَّقَاءَ عَلَيْهَا. : وَالتَّمَنِّي هُوَ ارْتِيَاحُ النَّفْسِ وَتَشَوُّفُهَا إِلَى الشَّيْءِ تَوَدُّهُ وَتُحِبُّ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ.

95

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّمَنِّي بِالسُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَعَلَّهُ فَسَّرَهُ بِاللَّازِمِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَمَنَّى شَيْئًا طَلَبَهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ بِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - عَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللهِ - تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْقِتَالِ، يُعَبِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، وَمَا هُوَ إِلَّا صِدْقُ الْإِيْمَانِ بِمَا أَعَدَّ اللهُ للْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. أَقُولُ: تَفْسِيرُ التَّمَنِّي بِلَازِمِهِ الْقَوْلِيِّ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْعَمَلِيِّ كَالتَّعَرُّضِ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الْإِيْمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ يَدْفَعُ إِيرَادَ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّمَنِّي تَمَنِّيَ النَّفْسِ فَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَتَمَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ الْمَوْتَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِحَقِيقَتِهِ يَدْفَعُ كُلَّ إِيرَادٍ؛ فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ حُجَّةٌ عَلَى مُدَّعِي الْإِيْمَانِ، وَاسْتِحْقَاقَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِأَهْلِهِ فِي الْآخِرَةِ تُقْنِعُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِمَّا صَادِقُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْمَوْتَ وَالْوُصُولَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِارْتِيَاحٍ إِذَا كَانَ حِفْظُ الْحَقِّ يَقْتَضِي بَذْلَهَا، وَإِمَّا كَاذِبُونَ فِيهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانُوا شَدِيدِي الْحِرْصِ عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُجَّةَ الْإِلْزَامِيَّةَ أَمَامَ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةً، فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْاحْتِجَاجِ عَلَى الْيَهُودِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مِيزَانًا يَزِنُونَ بِهِ دَعْوَاهُمُ، الْيَقِينَ فِي الْإِيْمَانِ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَنْزَلَهَا لِذَلِكَ. لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: يَا لَيْتَنَا نَمُوتُ، أَوْ كَلِمَةً هَذَا مَعْنَاهَا لَكَانَ الْاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّعْجِيزِ عَنْ لَفْظٍ يُحَرِّكُونَ بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ نَفِيِ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاصُونَ مُقْتَرِفُونَ لِلذُّنُوبِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةَ، لَا أَنَّ أَلْسِنَتَهُمْ عَاجِزَةٌ عَنِ النُّطْقِ بِكَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَمَنِّي، وَإِنْ كَذِبًا - وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - وَقَدْ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْأَيْدِي؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَرَى عُرْفُ اللُّغَةِ عَلَى جَعْلِهَا كِنَايَةً عَنِ الشَّخْصِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَامِلٌ مُطْلَقًا، وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حُكْمِهِمْ بِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الشُّعُوبِ مَحْرُومٌ مِنْهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِفْتَانًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ ظَالِمٌ مِثْلَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي الْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْفَنَاءِ فِي حُبِّ الْبَقَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا يَدَّعُونَ، وَلَا ثِقَةَ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَقَالَ: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) كَذَلِكَ كَانُوا وَكَذَلِكَ هُمُ الْآنَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيرَتِهِمْ وَنِظَامِ مَعِيشَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَكُونُونَ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، يُحَاجُّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُشَاغِبُونَهُ وَيُجَاحِدُونَهُ، مُعْتَزِّينَ بِشَعْبِهِمْ مُغْتَرِّينَ بِكِتَابِهِمْ، بَلْ ذَهَبَ

96

بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ فَقَطْ. وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلتَّحْقِيرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ شَدِيدُو الْحِرْصِ عَلَى الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ. ثُمَّ خَصَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ بِالذِّكْرِ، عُرِفُوا بِشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى الْحَيَاةِ وَتَمَنِّي طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَهَا، فَقَالَ: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أَيْ أَنَّهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، ثُمَّ بَيَّنَ مِثَالًا مِنْ هَذَا الْحِرْصِ مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أَيْ يَتَمَنَّى لَوْ يُعَمِّرُهُ اللهُ وَيُبْقِيهِ أَلْفَ سَنَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْأَلْفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مُنْتَهَى أَسْمَاءِ الْعَدَدِ، فَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِكِتَابِهِ، وَيَتَوَقَّعُ سَخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ فَيَرَى أَنَّ الدُّنْيَا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْآخِرَةِ وَمَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهَا. قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أَيْ وَمَا تَعْمِيرُهُ الطَّوِيلُ بِمُزَحْزِحِهِ، أَيْ مُنَحِّيهِ وَمُبْعدُهُ عَنِ الْعَذَابِ الْمُعَدِّ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ مَيِّتٌ مَهْمَا طَالَ عُمُرُهُ، وَكُلُّ مَالَهُ حَدٌّ فَهُوَ مُنْتَهٍ إِلَيْهِ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلَوْ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ لَعَلِمُوا أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ قَبْضَتِهِ وَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا هُوَ) مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَمَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ " مَا " حِجَازِيَّةٌ وَالضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى (أَحَدُهُمْ) اسْمُهَا، وَ (بِمُزَحْزِحِهِ) خَبَرُهَا، وَالْبَاءَ زَائِدَةٌ فِي الْإِعْرَابِ، وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) فَاعِلُ مُزَحْزِحِهِ. (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ تَعِلَّاتِ الْيَهُودِ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنْ عَدَمِ الْإِيْمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، زَعَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِدَايَةٍ فِي غَيْرِهِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْقُضُ دَعْوَاهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَبْنَاؤُهُ، فَأَبْطَلَ زَعْمَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ تَعِلَّةً أُخْرَى أَغْرَبَ مِمَّا سَبَقَهَا، وَفَنَّدَهَا

97

كَمَا فَنَّدَ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَدُوُّهُمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَحْيٍ يَجِيءُ هُوَ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ. مِنْهَا: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ صُورِيَّا مِنْ عُلَمَائِهِمْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ فَقَالَ: هُوَ جِبْرِيلُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ عَدُوُّ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ مِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانَ، وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دَخَلَ مِدْرَاسَهَمْ، فَذَكَرَ جِبْرِيلَ، فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا، يُطْلِعُ مُحَمَّدًا عَلَى أَسْرَارِنَا، وَأَنَّهُ صَاحِبُ كُلِّ خَسْفٍ وَعَذَابٍ، وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الْخِصْبِ وَالسَّلْمِ. . . إِلَخْ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُرَاءٌ، وَخَطَلُهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا عُنِيَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِهِ وَرَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِتَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَشَاهِدٌ عَلَى فَسَادِ تَصَوُّرِهِمْ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ؛ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِيهِ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِأَقْوَالِهِمْ وَلَا اعْتِدَادَ بِمِرَائِهِمْ وَجِدَالِهِمْ. قَالَ - تَعَالَى -: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ حِكَايَةً عَنِ اللهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّ شَأْنَ جِبْرِيلَ كَذَا؛ فَهُوَ إذًا عَدُوٌّ لِوَحْيِ اللهِ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا وَلِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِخَلْقِهِ وَبُشْرَاهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَيَانِ ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي تَقْيِيدِ تَنْزِيلِهِ (بِإِذْنِ اللهِ) : وَإِذَا كَانَ يُنَاجِي رُوحَكَ وَيُخَاطِبُ قَلْبَكَ بِإِذْنِ اللهِ لَا افْتِيَاتًا مِنْ نَفْسِهِ، فَعَدَاوَتُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَصُدَّ عَنِ الْإِيْمَانِ بِكَ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَهَا تَعِلَّةً وَيَنْتَحِلَهَا عُذْرًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ. فَقَوْلُهُ: (بِإِذْنِ اللهِ) حُجَّةٌ أُولَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْكُتُبِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمُطَابِقًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَآمِنُوا بِهِ لِهَذِهِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، لَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ، ثُمَّ عَزَّزَهَا بِثَالِثَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَهُدًى) أَيْ: نَزَّلَهُ هَادِيًا مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى الْأَدْيَانِ، فَأَلْقَتْ أَهْلَهَا فِي حَضِيضِ الْهَوَانِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْفُضُ الْهِدَايَةَ الَّتِي تَأْتِيهِ وَتُنْقِذُهُ مِنْ ضَلَالٍ هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي مَجِيئِهَا كَانَ عَدُوًّا لَهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّ هَذَا الرَّفْضَ مِنْ عَمَلِ الْغَبِيِّ الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ. ثُمَّ أَيَّدَ الْحُجَجَ الثَّلَاثَ بِرَابِعَةٍ، فَقَالَ: (وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ تُعَادُونَ جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ بِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَنْذَرَ الْمُفْسِدِينَ، وَقَدْ أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَيَّ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَا لَكُمَ أَنْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الْبُشْرَى إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيْمَانِ، لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهَا قَدْ نَزَلَ بِإِنْذَارِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ جِبْرِيلَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ " جِبْرَ " وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَوِ السِّرْيَانِيَّةِ: الْقُوَّةُ، وَمِنْ " إِيلَ "، وَمَعْنَاهُ: الْإِلَهُ، أَيْ قُوَّةُ اللهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَبْدُ اللهِ. وَفِيهِ 13 لُغَةً مِنْهَا ثَمَانِ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ، أَرْبَعٌ فِي الْمَشْهُورَاتِ: جَبْرَئِيلُ كَسَلْسَبِيلٍ، قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ

وَالْكِسَائِيُّ، وَجِبْرَيِلُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَجَبْرَئِلُ كَجَحْمَرِشٍ قَرَأَ بِهَا عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَجِبْرِيلُ كَقِنْدِيلٍ قَرَأَ بِهَا الْبَاقُونَ. وَأَرْبَعٌ فِي الشَّوَاذِّ: جَبْرَإِلُ، وَجَبْرَائِيلُ، وَجَبْرِئْلُ، وَجَبْرِينُ. وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْالْتِفَاتِ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِي) وَقَدْ قَالُوا فِي نُكْتَتِهِ: إِنَّهَا حِكَايَةُ مَا خَاطَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ. وَلَا أَرَى صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا مُسْتَنْكِرًا صِيغَةَ التَّكَلُّمِ فِي هَذَا الْمُقَامِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ لَا تَبْعُدُ عَنِ الْأَفْهَامِ، وَمِنْهَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ الْبَارِزَ فِي (نَزَّلَهُ) لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا عَيَّنَتْهُ قَرِينَةُ الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَخَامَةِ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ لِشُهْرَتِهِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ (قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ) . أَقَامَ الْحُجَجَ عَلَى حَمَاقَتِهِمْ وَسُخْفِهِمْ فِي دَعْوَى عَدَاوَةِ جِبْرِيلَ، وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْإِيْمَانِ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي طُوِيَتْ فِيهَا الْحُجَجُ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْعَدَاوَةِ فَقَالَ: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) بِكُفْرِهِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْهِدَايَةِ (وَمَلَائِكَتِهِ) بِرَفْضِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي فُطِرُوا عَلَيْهِ، وَكَرَاهَةِ الْقِيَامِ بِمَا يَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ - عَزَّ وَجَلَّ -؛ لِأَنَّهُمْ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) ، (وَرُسُلِهِ) بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَقَتْلِ بَعْضٍ (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِلُ بِالْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيكَالَ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، مَنْ مَقَتَهَا وَعَادَاهَا فِي أَحَدِهِمَا فَقَدْ عَادَاهَا فِي الْآخَرِ (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) أَيْ مَنْ عَادَى اللهَ وَعَادَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ اللهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ رَحْمَةً لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ وَمُعَادٍ لَهُ، وَاللهُ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ أَيْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ لِلْأَعْدَاءِ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ دَعَاهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَوْلِيَاءِ (وَمِيكَالَ) بِوَزْنِ مِيعَادٍ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ وَعَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ (مِيكَائِلَ) ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ (مِيكَائِيلَ) وَفِي الشَّوَاذِّ: مِيكَئِلُ، وَمِيكَئِيلُ؛ وَمِيكَايِيلُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بَعْدَ بَيَانِ فَسَادِ الْعِلَّةِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَلَكِنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ الْحَقِّ وَأَعْدَاءُ كُلِّ مَنْ يُمَثِّلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، فَالتَّصْرِيحُ بِعَدَاوَةِ جِبْرِيلَ كَالتَّصْرِيحِ بِعَدَاوَةِ مِيكَالَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ، لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَمُعَادَاةُ الْقُرْآنِ كَمُعَادَاةِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَمُعَادَاةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمُعَادَاةِ سَائِرِ رُسُلِ اللهِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُمْ وَاحِدَةٌ، فَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ وَحَالُهُمْ يَدُلَّانِ عَلَى مُعَادَاةِ كُلِّ مَنْ ذَكَرَ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لِلْكَافِرِينَ) وَضْعٌ لِلْمُظْهَرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ؛ لِبَيَانِ أَنَّ سَبَبَ عَدَاوَتِهِ -

99

تَعَالَى - لَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُعَادِي قَوْمًا لِذَوَاتِهِمْ وَلَا لِأَنْسَابِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ لَهُمُ الْكُفْرَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ مُعَاقَبَةَ الْعَدُوِّ لِلْعَدُوِّ. (أَقُولُ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ عَذَابَ اللهِ وَانْتِقَامَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ لَا يُشْبِهُ انْتِقَامَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَزُعَمَائِهَا، وَإِنَّمَا قَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يُزَكِّيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ شَقَاؤُهُ تَابِعٌ لِآثَارِ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ فِي نَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (43: 76) . ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى تُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ مَا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِلنَّبِيِّ يُسَمَّى تَنْزِيلًا وَإِنْزَالًا وَنُزُولًا لِبَيَانِ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا أَنَّ هُنَاكَ نُزُولًا حِسِّيًّا مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ. قَالَ هَذَا شَيْخُنَا: وَعُلُوُّ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِينَ هَرَبًا مِنِ اسْتِلْزَامِهَا الْحَصْرَ وَالتَّحَيُّزَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ التَّنْزِيهَ الْقَطْعِيَّ يُبْطِلُ اللُّزُومَ. وَمَسْأَلَةُ الْجِهَاتِ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَإِذْ كَانَ الرَّبُّ - تَعَالَى - بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، فَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ فَوْقَهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (16: 50) فَمَاذَا يُقَالُ فِيمَنْ دُونَهُمْ؟ وَتُوَجُّهُ الْبَشَرِ إِلَى رَبِّهِمْ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ وَقِبَلَ السَّمَاءِ فِطْرِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهُوَ فَوْقَ الْخَلْقِ فِي جُمْلَتِهِ وَفَوْقَ الْعِبَادِ أَيْنَمَا كَانُوا مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ، وَهُنَالِكَ مَقَامُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي لَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا يُحْصَرُ فِي حَيِّزٍ، وَإِنَّمَا الْحَيِّزُ وَالْحَصْرُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْاعْتِبَارِيَّةِ فِي دَاخِلِ دَائِرَةِ الْخَلْقِ. وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ عَرَاهُمْ مَا عَرَاهُمْ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (34: 23) . وَشَيْخُنَا عَلَى دَعْوَتِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَانَ لَا يَزَالُ مُتَأَثِّرًا بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَأَمَّا كَوْنُ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَيِّنَاتٍ فَهِيَ أَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا الْبَشَرَ وَبِقَرْنِ الْمَسَائِلِ الْاعْتِقَادِيَّةِ فِيهَا بِبَرَاهِينِهَا، وَالْأَحْكَامُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ بِوُجُوهِ مَنَافِعِهَا، لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِدَايَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالْاتِّبَاعِ، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَ صَاحِبِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَالنُّورِ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُظْهِرُهُ (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَانْغَمَسُوا فِي ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، فَتَرَكُوا طَلَبَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِطْرَتَهُمْ نَاقِصَةٌ لَا اسْتِعْدَادَ فِيهَا لِإِدْرَاكِهِ بِذَاتِهِ عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ كَلَامِ مُقَلِّدِيهِمْ، وَكَذَا الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى حَسَدًا لِمَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَعِنَادًا لَهُ.

100

بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - شَأْنَيْنِ مِنْ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمَا: أَنَّهُ لَا ثِقَةَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ لِمَا عُرِفَ عَنْهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ، وَأَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيْمَانِ أَكْثَرِهِمْ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ قَدْ مَلَكَتْ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ قَدْ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ نَقْضُ الْعُهُودِ قَدْ وَقَعَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ دُونَ فَرِيقٍ، فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ أَحَدٌ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْأَقَلُّونَ، كَلَّا بَلْ هُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، هَمْزَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ وَقَالُوا مَا قَالُوا، وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ النَّبْذُ: طَرْحُ الشَّيْءِ وَإِلْقَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعُهُودِ هُنَا عُهُودُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (فَرِيقٌ) يُوهِمُ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ، وَكَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْوَفَاءَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلِيلُونَ، وَالنَّاقِضِينَ هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَضْرَبَ عَنْهُ وَقَالَ: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فَهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا إِيْمَانَ لَهُمْ، أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ. وَفِيهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ كَانَ وَصَدَقَ اللهُ الْعَظِيمُ. (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

101

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 41 وَالْآيَةِ 89 وَقَوْلُهُ: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) بَيَانٌ لِحَالٍ جَدِيدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الشَّنَاعَاتِ فِي مُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُجَاحَدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ قَدْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ الَّذِي يُفَاخِرُونَ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِالْهِدَايَةِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِسِوَاهُ - نَبَذُوهُ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ بِحَالِهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَاتِ الَّتِي فِيهِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى هَذَا الرَّسُولِ، وَمُصَدِّقٌ لَهُ بِمَقَالِهِ بِاعْتِرَافِهِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَتَوْبِيخِهِ الْيَهُودَ عَلَى تَحْرِيفِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِ بَعْضٍ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِنَبْذِ الْكِتَابِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ أَنَّهُمْ طَرَحُوهُ بِرُمَّتِهِ وَتَرَكُوا التَّصْدِيقَ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَرَحُوا جُزْءًا مِنْهُ وَهُوَ مَا يُبَشِّرُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُبَيِّنُ صِفَاتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيْمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، أَيْ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِتَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَإِنْكَارِهِ بِمَنْ يُلْقِي الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ حَتَّى لَا يَرَاهُ فَيَتَذَكَّرُهُ. وَتَرْكُ الْجُزْءِ مِنْهُ كَتَرْكِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَعْضِ يَذْهَبُ بِحُرْمَةِ الْوَحْيِ مِنَ النَّفْسِ وَيُجَرِّئُ عَلَى تَرْكِ الْبَاقِي (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (5: 32) (وَقَالَ) : وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَشَّرٌ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كِتَابِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَلَمْ يَضُرَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْجُحُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ قَدْ قَبِلَهَا الْآخَرُونَ وَاهْتَدَى بِهَا مَنْ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّتَيْنِ وَمِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمُنَجِّي وَالْمُخَلِّصُ لَهُمْ، وَحُرِمُوا مِنْ هِدَايَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ هِدَايَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَالَمِينَ. قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا ذَكَرَ نَبْذَهُمُ الْكِتَابَ: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ نَبَذُوهُ نَبْذَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كِتَابُ اللهِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَرْكِهِ وَإِهْمَالِهِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمْرُهُ - وَلَكِنْ طَافَ بِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَغُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ - فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعُودَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ النَّابِذَ لِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ وَآمِرٌ بِاتِّبَاعِهِ، يَتَمَادَى بِهِمُ الزَّمَانُ وَلَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ، وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْيِ الْحَالِ وَالْاسْتِقْبَالِ دُونَ نَفْيِ الْمَاضِي.

102

مَبْحَثُ السِّحْرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ - مُجَاحَدَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَدًا لَهُ - قَدْ تَبَدَّلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ وَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ) مِنَ الْإِنْسِ فِي قِصَصِهَا وَأَسَاطِيرِهَا، أَوْ مِنَ الْجِنِّ فِي وَسْوَسَتِهَا، أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (6: 112) (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أَيْ مَا كَانَتْ تَتْلُو عَلَى عَهْدِهِ وَفِي أَيَّامِ مُلْكِهِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مُلْكَهُ قَامَ عَلَى أَسَاسِ السِّحْرِ وَالطِّلَسْمَاتِ، وَأَنَّهُ ارْتَدَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِ الْوَثَنِيَّاتِ (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وَمَا سَحَرَ (وَلَكِنَّ) أُولَئِكَ (الشَّيَاطِينَ) الَّذِينَ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، هُمُ الَّذِينَ (كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) لِيَفْتِنُوا بِهِ الْعَامَّةَ وَيُضِلُّونَهُمْ عَنْ طَلَبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَسْبَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَمَنَاهِجِهَا الْمَشْرُوعَةِ. هَذِهِ الْأَوْهَامُ وَالْأَكَاذِيبُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا افْتَجَرَهُ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَسْوَسُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَصَدَّقُوهُمْ فِي بَعْضِ مَا زَعَمُوهُ مِنْ حِكَايَاتِ السِّحْرِ، وَكَذَّبُوهُمْ فِيمَا رَمَوْا بِهِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى دَجَاجِلَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَوْمِ يَتْلُونَ أَقْسَامًا وَعَزَائِمَ، وَيَخُطُّونَ خُطُوطًا وَطَلَاسِمَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَعُهُودَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَقِي حَامِلَهَا مِنِ اعْتِدَاءِ الْجِنِّ وَمَسِّ الْعَفَارِيتِ، وَلَقَدْ رَأَى كَاتِبُ هَذَا التَّفْسِيرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ حَدَاثَتِهِ يُصَدِّقُ بِهِ وَيَعْتَقِدُ فَائِدَتَهُ. وَقَدْ زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَحَرَ وَدَفَنَ السِّحْرَ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَأَنَّهُ أَضَاعَ خَاتَمَهُ الَّذِي كَانَ بِهِ مُلْكُهُ، فَوَقَعَ فِي يَدِ آخَرَ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ لِلْحُكْمِ، إِلَى آخِرِ مَا خَلَطُوا فِيهِ التَّارِيخَ بِالدَّجَلِ. وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ الَّذِي جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ مِنَ النَّاسِ وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا النَّاسُ وَتَنَاقَلُوهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ إِنَّمَا دَفَنَ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ كُتُبًا أُخْرَى فِي الْعُلُومِ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَتْ، أَشَاعَ الشَّيَاطِينُ أَنَّهَا كُتُبُ سِحْرٍ، وَأَنْشَأَ الدَّجَّالُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَحِلُونَ مَا شَاءُوا وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى تِلْكَ الْكُتُبِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا قَالُوهُ عَلَى سُلَيْمَانَ وَمُلْكِهِ مِنْ خَبَرِ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ مَكْذُوبٌ، افْتَرَاهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَقَدْ قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا؛ لِنَعْتَبِرَ بِمَا افْتَرَاهُ هَؤُلَاءِ النَّاسُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَبِتَرْجِيحِ فَرِيقٍ مِنْ خَلْفِهِمُ الْاشْتِغَالَ بِذَلِكَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى إِنَّهُمْ نَبَذُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُحْكَى فِيهَا عَنِ النَّاسِ صَحِيحًا، فَذِكْرُ السِّحْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ نِسْبَةَ الْكُفْرِ إِلَى سُلَيْمَانَ الَّتِي عُلِمَتْ مِنَ النَّفْيِ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقِصَصَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ لَا لِبَيَانِ التَّارِيخِ وَلَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْاعْتِقَادِ بِجُزْئِيَّاتِ الْأَخْبَارِ عِنْدَ الْغَابِرِينَ، وَإِنَّهُ لِيُحْكَى مِنْ عَقَائِدِهِمُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَمِنْ تَقَالِيدِهِمُ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ، وَمِنْ عَادَاتِهِمُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ، فَحِكَايَةُ الْقُرْآنِ لَا تَعْدُو مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْطِنَ الْهِدَايَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعِبَارَةِ أَوِ السِّيَاقِ وَأُسْلُوبِ النَّظْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ وَاسْتِهْجَانِ الْقَبِيحِ. وَقَدْ يَأْتِي فِي الْحِكَايَةِ بِالتَّعْبِيرَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ أَوِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا كَقَوْلِهِ: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (2: 275) وَكَقَوْلِهِ: (بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) (18: 90) وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَأْلُوفٌ، فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ كُتَّابِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ يَذْكُرُونَ آلِهَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ كَلَامِهِمْ عَنِ الْيُونَانِ وَالْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ. وَيَقُولُ أَهْلُ السَّوَاحِلِ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ، أَوْ سَقَطَ قُرْصُ الشَّمْسِ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي الْمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنِ الْمَرْئِيِّ. جَاءَ ذِكْرُ السِّحْرِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَذُكِرَ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ. وَإِذَا أَرَدْنَا فَهْمَهُ مِنْ عُرْفِ اللُّغَةِ وَجَدْنَا أَنَّ السِّحْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ وَخَفِيَ، وَقَالُوا: سَحَرَهُ وَسَحَّرَهُ بِمَعْنَى خَدَعَهُ وَعَلَّلَهُ، وَقَالُوا: عَيْنٌ سَاحِرَةٌ وَعُيُونٌ سَوَاحِرُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) ، وَالسَّحْرُ بِالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ الرِّئَةُ وَهِيَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالرِّئَةُ فِي الْبَاطِنِ، فَمَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ صُنْعُهُ حَتَّى لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيْرُ أَهْلِهِ فَهُوَ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَمِنْهُ الْخِدَاعُ: وَهُوَ أَنْ يُظْهَرَ لَكَ شَيْءٌ غَيْرُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْوَاقِعُ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَتَأْثِيرُ الْعُيُونِ فِي عُشَّاقِ الْحِسَانِ، وَالْكَلَامُ الْبَلِيغُ فِي عُشَّاقِ الْبَيَانِ، مِمَّا يَخْفَى مَسْلَكُهُ وَيَدِقُّ سَبَبُهُ، حَتَّى يَعْسُرَ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْوُقُوفُ عَلَى الْعِلَّةِ فِي تَأْثِيرِهِ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ السِّحْرَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ يَخْدَعُ الْأَعْيُنَ فَيُرِيهَا مَا لَيْسَ بِكَائِنٍ كَائِنًا فَقَالَ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (20: 66) وَالْكَلَامُ فِي حِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) (7: 116) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا أَنَّ السِّحْرَ كَانَ يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّارِيخُ يَشْهَدُ بِهَذَا، وَقَدْ كَانَ الْمِصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ لَقَبَ السَّاحِرِ عَلَى الْعَالِمِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (43: 49) وَمَجْمُوعُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِمَّا حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا صِنَاعَةٌ عِلْمِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَعْرِفُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ فَيُسَمُّونَ الْعَمَلَ بِهَا سِحْرًا لِخَفَاءِ سَبَبِهِ وَلُطْفِ مَأْخَذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ تَأْثِيرُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي نَفْسٍ أُخْرَى لِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالزِّئْبَقِ عَلَى إِظْهَارِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ بِصُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ وَتَخْيِيلِ أَنَّهَا تَسْعَى.

وَقَدِ اعْتَادَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا التَّأْثِيرَاتِ النَّفْسِيَّةَ صِنَاعَةً وَوَسِيلَةً لِلْمَعَاشِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ وَأَسْمَاءٍ غَرِيبَةٍ اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُلُوكِ الْجَانِّ، وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ إِذَا دُعُوا بِهَا وَيَكُونُونَ مُسَخَّرِينَ لِلدَّاعِي. وَلِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ فِي إِثَارَةِ الْوَهْمِ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَسَبَبُهُ اعْتِقَادُ الْوَاهِمِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِقَارِئِهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ خَاصِّيَّةَ التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْعَقِيدَةُ الْفَاسِدَةُ تَفْعَلُ فِي النَّفْسِ الْوَاهِمَةِ مَا يُغْنِي مُنْتَحِلَ السِّحْرِ عَنْ تَوْجِيهِ هِمَّتِهِ وَتَأْثِيرِ إِرَادَتِهِ. وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اعْتِقَادِ الدَّهْمَاءِ أَنَّ السِّحْرَ عَمَلٌ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالشَّيَاطِينِ وَأَرْوَاحِ الْكَوَاكِبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَفِي أَحْكَامِهِ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي فُرُوقِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، وَيَتَكَرَّرُ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُعْجِزَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) أَيْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. (وَالثَّانِي) : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الشَّيَاطِينِ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِمْ. وَانْتِحَالُ الْيَهُودِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ أَمْرٌ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. أَيْ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وَهَاهُنَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بِمَاذَا اتَّبَعُوا أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ فِي رَمْيِهِ بِالْكُفْرِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ اسْتُخْرِجَ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ؟ فَأَجَابَ عَلَى طَرِيقِ الْاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) . . . إِلَخْ، وَنَفْيُ الْكُفْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ وَإِلْصَاقُهُ بِالشَّيَاطِينِ الْكَاذِبِينَ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ، فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى وَصْفِ الْيَهُودِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَا، وَيَضُرُّونَ بِهَا النَّاسَ خِدَاعًا وَتَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا. ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) فَأَجْمَلَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْوَجِيزَةِ خَبَرَ قِصَّةٍ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهَا كَمَا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ تَعْلِيمِ السِّحْرِ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ، أَشَعْوَذَةٌ وَتَخْيِيلٌ، أَمْ خَوَاصٌّ طَبِيعِيَّةٌ، وَتَأْثِيرَاتٌ نَفْسِيَّةٌ؟ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْجَازِ انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، يَذْكُرُ الْأَمْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ الْاعْتِبَارِ بِهِ فَيَنْظِمُهُ فِي أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ مَهْمَا يَكُنِ اعْتِقَادُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تَفْصِيلِهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَكَرَ السِّحْرَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِأَسَالِيبَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؟

وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ وَكَلَ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ إِلَى بَحْثِ الْإِنْسَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَلَوْ بَيَّنَ مَسَائِلَهَا بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ لَجَاءَتْ مُخَالِفَةً لِعِلْمِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِهِمْ فِي كُلِّ جِيلٍ لَمْ يَرْتَقِ الْعِلْمُ فِيهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ، وَلَكَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّكِّ أَوِ التَّكْذِيبِ، فَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي كُتُبِ الْوَحْيِ لِتَفْسِيرِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ بِمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا فِيهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ كِتَابَ الدِّينِ جَاءَ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْعِلْمِ ظَنِّيًّا أَوْ فَرْضِيًّا. فِي (الْمَلَكَيْنِ) قِرَاءَتَانِ، فَتْحُ اللَّامِ وَكَسْرُهَا، فَالْأُولَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْأَسْوَدِ وَالضَّحَّاكِ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا (دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) . . . وَقِيلَ. بَلْ هُمَا رَجُلَانِ صَاحِبَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ فَشُبِّهَا بِالْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمَا النَّاسُ بِالْحَوَائِجِ الْأَهْلِيَّةِ وَيُجِلُّونَهُمَا أَشَدَّ الْإِجْلَالِ فَشُبِّهَا بِالْمُلُوكِ، وَتِلْكَ عَادَةُ النَّاسِ فِيمَنْ يَنْفَرِدُ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ وَلَيْسَ بِإِنْسَانٍ، كَمَا يَقُولُونَ فِيمَنْ كَانَ سَيِّدًا عَزِيزًا يُظْهِرُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ: " وَهَذَا سُلْطَانُ زَمَانِهِ "، جَلَّتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ فَقَدْ قَدَّ هَؤُلَاءِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ أَدِيمٍ وَاحِدٍ، كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ - اللَّذَيْنِ كَانَ يُتَحَدَّثُ بِخَبَرِهِمَا وَلَا يُحَدَّدُ تَارِيخُهُمَا - عَلَى مِثَالِهِمُ الْيَوْمَ لَا يَقْصِدُونَ لِلْفَصْلِ فِي شُئُونِهِمُ الْأَهْلِيَّةِ مِنَ الْجِهَةِ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَّا إِلَى أَهْلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ أَهْلِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، هَذَا مَا نُشَاهِدُهُمْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا، وَهَذَا مَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعَلَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُمَا مَلَكَيْنِ (بِفَتْحِ اللَّامِ) حِكَايَةً لِاعْتِقَادِ النَّاسِ فِيهِمَا، وَأَجَازَ أَيْضًا كَوْنَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ - تَعَالَى - فِي الْيَهُودِ: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ) ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ غَيْرُ السِّحْرِ ضُمَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي كَوْنِ تَعْلِيمِهِ سَيِّئَةً مَذْمُومَةً أَوْ هُوَ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ أَوِ النَّوْعِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِنْزَالِ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ كَوَحْيِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَيُشْكِلُ عَدُّهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ الَّذِي يُذَمُّ تَعَلُّمُهُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (أُنْزِلَ) تُسْتَعْمَلُ فِي مَوَاضِعَ لَا صِلَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالُوا: أُنْزِلَتْ حَاجَتِي عَلَى كِرِيمٍ، وَأُنْزِلَ لِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَيُقَالُ: قَدْ أُنْزِلَ الصَّبْرُ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ، وَقَالَ - تَعَالَى -: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (57: 25) وَقَالَ: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (9: 26) . وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ عَمَّا أُوتِيَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ لَهُ مَأْخَذٌ غَيْرُهُمَا، يُرَادُ أَنَّهُمَا أَلْهَمَاهُ إِلْهَامًا وَاهْتَدَيَا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أُسْتَاذٍ وَلَا مُعَلِّمٍ. وَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا وَحْيًا لِخَفَاءِ مَنْبَعِهِ. وَلَيْسَ الْوَحْيُ إِلْهَامَ الْخَوَاطِرِ خَاصًّا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفِ الْقُرْآنِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَا بِمَا يَكُونُ مَوْضُوعُهُ خَيْرًا أَوْ حَقًّا، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (16: 68) ، وَقَالَ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرَضِعِيهِ)

(28: 7) وَقَالَ: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (6: 112) وَقَالَ الشَّاعِرُ: رَأْسُ الْغَوَايَةِ فِي الْعَقْلِ السَّقِيمِ ... فَمَا فِيهِ فَأَكْثَرُهُ وَحْيُ الشَّيَاطِينِ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَجْهًا آخَرَ فِي تَفْسِيرِ (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، وَنَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ، أَيْ: إِنَّ الْيَهُودَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيَرْتَقُونَ بِسَنَدِهِ إِلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، وَمَا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، فَكَيْفَ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْوَاقِعِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ هَذَا التَّضْعِيفَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْإِنْزَالِ خَاصَّةً، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمَا إِنْزَالًا مِنَ اللهِ فَيَنْظِمُهُ الْيَهُودُ فِي سِلْكِ الْعُلُومِ الْمَحْمُودَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ افْتَجَرَاهُ وَاخْتَرَعَاهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا. ثُمَّ قَالَ: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) أَيْ إِنَّ مَا عِنْدَنَا هُوَ أَمْرٌ يَبْتَلِي بِهِ اللهُ النَّاسَ وَيَخْتَبِرُهُمْ فَلَا تَتَعَلَّمْ مَا هُوَ كُفْرٌ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَّمَاهُ. هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ وَيَقُولَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ تَعَلَّمَ مِنَّا وَعَمِلَ بِهِ كَفَرَ، وَمَنْ تَعَلَّمَ وَتَوقَّى عَمَلَهُ ثَبَتَ عَلَى الْإِيْمَانِ، فَلَا تَكْفُرْ بِاعْتِقَادِ جَوَازِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَمَا لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّمَا نَحْنُ أُولُو فِتْنَةٍ نَبْلُوكَ وَنَخْتَبِرُكَ أَتَشْكُرُ أَمْ تَكْفُرُ؟ وَنَنْصَحُ لَكَ أَلَّا تَكْفُرَ. وَلَعَلَّهُمَا يَقُولَانِ هَذَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حُسْنِ اعْتِقَادِ النَّاسِ بِفَضْلِهِمَا إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ هُمَا مَلَكَانِ. وَإِنَّنَا نَسْمَعُ الدَّجَاجِلَةَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هَذَا وَيُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ رُوحَانِيُّونَ، يَقُولُونَ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُمُ الْكِتَابَةَ لِلْمَحَبَّةِ وَلِلْبُغْضِ: نُوصِيكَ بِأَلَّا تَكْتُبَ هَذَا لِجَلْبِ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِلَى حُبِّ رَجُلٍ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَا تَكْتُبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يَبْغَضَ الْآخَرَ، وَأَنْ تَخُصَّ هَذِهِ الْفَوَائِدَ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَاشِقِينَ الْفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ عُلُومَهُمْ إِلَهِيَّةٌ، وَأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ رُوحَانِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ صَحِيحُو النِّيَّةِ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يُسْنِدُونَ سِحْرَهُمْ إِلَى مَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، وَنَرَى دَجَاجِلَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَغَيْرِهِمْ يُسْنِدُونَ خُزَعْبَلَاتِهِمْ إِلَى " دَانْيَالَ النَّبِيِّ "، وَهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا أُنْزِلَ) نَفِيٌ بِحَسَبِ تَوْجِيهِنَا السَّابِقِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ: إِنَّمَا نَحْنُ مَفْتُونُونَ، فَلَا تَكُنْ مِثْلَنَا. قَالَ - تَعَالَى -: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِتَصْوِيرِ مَا كَانَ كَأَنَّهُ كَائِنٌ، فَالْكَلَامُ تَصْوِيرٌ لِلْقِصَّةِ لَا حُكْمٌ بِمَضْمُونِهَا، أَيْ أَنَّهُمْ

كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا وُضِعَ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا يُسَمِّيهِ الدَّجَاجِلَةُ الْآنَ " كِتَابَ الْبِغْضَةِ " وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ بِطَبْعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ أَوْ بِخَارِقَةٍ لَا تُعْقَلُ لَهَا عِلَّةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا يَتَعَلَّمُونَهُ هَلْ هُوَ كِتَابَةُ تَمَائِمَ، أَوْ تِلَاوَةُ رُقًى وَعَزَائِمَ، أَوْ أَسَالِيبُ سِعَايَةٍ، أَوْ دَسَائِسُ تَنْفِيرٍ وَنِكَايَةٍ، أَوْ تَأْثِيرٌ نَفْسَانِيٌّ، أَوْ وَسْوَاسٌ شَيْطَانِيٌّ؟ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ عِلْمًا كَانَ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي الْوَاقِعِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَحَكَّمَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ مَا ذَكَرَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنَا فِي بَيَانِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مِثْلِهِ مِرَارًا. لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ وَلَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى بَحْثِ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهِمْ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ السِّحْرِ عَنْهُمْ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ، وَفَوْقَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْقُوَى وَالْقَدَرِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ أُصِيبَ أَحَدٌ بِضَرَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَحْصُلَ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ عِنْدَ حُصُولِهَا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَهَذَا الْحُكْمُ التَّوْحِيدِيُّ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَالْقُرْآنُ لَا يُتْرَكُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بَلْ يُبَيِّنُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَجْلِ بَيَانِ الْحَقِّ فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ الْقُوَّةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَسْبَابِ عَنْهُمْ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، يَضُرُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ يُعَاقِبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ عُرِفَ بِإِيذَاءِ النَّاسِ يَمْقُتُهُ النَّاسُ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الضَّارِّ مِنْ جِهَةٍ نَافِعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى - وَرُبَّمَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَكْبَرَ مِنْ إِثْمِهِ - نَفَى الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْمَضَرَّةِ. فَهَذَا النَّفْيُ وَاجِبٌ فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ - تَعَالَى - فَإِنَّنَا نَرَى مُنْتَحِلِي السِّحْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَحْقَرَهُمْ، وَلَوْ عَقَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِمْ يَلْتَمِسُونَ الْمَنَافِعَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِيقَاعَ بِأَعْدَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ الشَّقِيَّ فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهَبَ السَّعَادَةَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، هَذِهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (2: 281) لَا جَرَمَ أَنَّهَا تَكُونُ حَالًا سُوْأَى، وَالْيَهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ هَذَا وَاسْتَبْدَلَهُ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ الْمُوصِلِينَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ حَظَرَتْ تَعْلِيمَ السِّحْرِ، وَجَعَلَتْهُ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشَدَّدَتِ الْعُقُوبَةَ

عَلَى فَاعِلِهِ وَعَلَى اتِّبَاعِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكُهَّانِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْعِلْمُ قَوْلَهُ: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فَإِنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ مُتَمَكِّنٌ مِنَ النَّفْسِ مُتَسَلِّطٌ عَلَى إِرَادَتِهَا يُحَرِّكُهَا إِلَى الْعَمَلِ، وَعِلْمٌ إِجْمَالِيٌّ خَيَالِيٌّ يَلُوحُ فِي الذِّهْنِ مُبْهَمًا عِنْدَمَا يَعْرِضُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ كَكِتَابٍ وَإِلْقَاءِ سُؤَالٍ، وَهُوَ يَقْبَلُ التَّحْرِيفَ وَالتَّأْوِيلَ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْفَذٌ إِلَى الْإِرَادَةِ وَلَا سَبِيلٌ، فَقَدْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ السُّحْتِ كَالرِّشْوَةِ وَالرِّبَا بِالتَّأْوِيلِ، كَمَا يَفْعَلُ غَيْرُهُمُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ. وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ حُرْمَةً مَا ذُكِرَ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ الْمُحَرَّمِ، وَيَفْقَهُونَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَسِرَّهُ، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا تَوَعَّدَ اللهُ مُرْتَكِبَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا، وَيَتَذَكَّرُونَهُ وَقْتَ الْعَمَلِ - بِمَا لِلْعَقِيدَةِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِرَادَةِ - لَمَا ارْتَكَبُوا مَا ارْتَكَبُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ فَقَدُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِلْمِ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ تَصَوُّرُ أَنَّ السِّحْرَ وَالْخِدَاعَ كِلَاهُمَا حَرَامٌ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ عِبَارَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَحْتَمِلُ ضُرُوبًا مِنَ التَّأْوِيلِ كَكَوْنِ النَّهْيِ خَاصًّا بِمُعَامَلَةِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (3: 75) إِذَا أَكَلْنَا أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَكَاشْتِرَاطِ الضَّرَرِ فِي السِّحْرِ مَعَ ادِّعَاءِ أَنَّ مَا يَأْتُونَهُ مِنْهُ نَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْحُرُمَاتِ قَدِ انْتُهِكَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ التَّأْوِيلَاتِ حَتَّى جَوَّزَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ هَدْمَ رُكْنٍ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِالْحِيلَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الزَّكَاةِ الَّذِي يُحَارَبُ تَارِكُوهُ شَرْعًا، وَتَرَى هَذِهِ الْحِيَلَ قَدْ أَثَّرَتْ فِي الْأُمَّةِ أَسْوَأَ التَّأْثِيرِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا غَنِيٌّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَلَا يَعْتَقِدُ الْمُتَمَسِّكُ بِالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءِ أَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ بِحِيلَةٍ يُسَمِّيهَا شَرْعِيَّةً، وَقَدْ أَخَذَهَا عَمَّنْ يُسَمَّوْنَ فُقَهَاءَ، وَيَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ إِنَّ الْحِيَلَ عَلَى التَّزْوِيرِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَهَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ مَجَالٌ وَاسِعٌ وَمَيْدَانٌ فَسِيحٌ، وَلَهَا أَقْبَحُ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ الْعَامَّةِ وَاسْتِبَاحَتِهِمُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالتَّأْوِيلَاتُ الْبَاطِلَةُ الْهَادِمَةُ لِدِينِهِ مَعْدُودَةً مِنْ عِلْمِ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِيهَا مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا مِمَّنْ يُعَدُّونَ صَالِحِينَ، وَمِنْ أَعْجَبِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّالِحِينَ يَشْهَدُ الزُّورَ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ نَقَلَ الثِّقَاتُ أَنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَسْتَمِيلُ قَلْبَهُ الشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ، وَإِرَادَةُ الْاسْتِعَانَةِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى دَفْعِ الْمَظْلَمَةِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْأَذَى، فَيَأْمُرُ الشَّيْخُ بِأَنْ تُطْوَى الْوَرَقَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى قَوْلِ الزُّورِ بِحَيْثُ يُحْجَبُ سَوَادُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَرَاهُ وَيَضَعُ تَوْقِيعَهُ وَخَتْمَهُ فِي ذَيْلِهَا كَأَنَّهُ وَضَعَهُمَا عَلَى وَرَقَةٍ خَالِيَةٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَالِيَةً مِنَ الْكِتَابَةِ، وَيَعْرِفُ مَا فِيهَا مِنَ الْكَذِبِ. فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (25: 72) وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (16: 105) وَبِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا

103

مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ - ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ)) . وَبِمَا رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنَّهُ مُسْلِمٌ)) ، وَذَكَرَهُنَّ. بَلَى إِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ التَّأْوِيلُ أَفْسَدَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينٍ دِينَهُمْ. أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَالِمِ الْعَابِدِ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَاسْتِحْلَالِهَا بِتِلْكَ الْحِيلَةِ السَّخِيفَةِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً أُخْرَى، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ عِنْدَ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ الْأَزْهَرِ الْمَعْرُوفِينَ كَانَ وَعَدَنِي وَعْدًا وَأَخْلَفَ، فَسَأَلْتُهُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ فُقَهَاءَنَا الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَقُلْتُ وَقَدْ تَمَيَّزْتُ مِنَ الْغَيْظِ: إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْوَفَاءِ وَفِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ (بَلْ قُلْتُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا) وَإِنَّنِي أُبَرِّئُ الْأَئِمَّةَ مِنَ الْقَوْلِ بِحِلِّ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْذُرُ الْفُقَهَاءَ إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَعَدَ بِالْوَفَاءِ وَيُلْزِمَهُ ذَلِكَ إِلْزَامًا، وَلَا أَعْذُرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَدَاوَلَةِ. وَلَقَدْ صَارَ الْعَالَمُ الْمُسْلِمُ عَاجِزًا فِي أَكْبَرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِنْكَارِ مَا يُخَالِفُ هَدْيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اشْتَهَرُوا بِاخْتِيَارِ كُتُبِهِمْ لِلتَّدْرِيسِ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى نَصْرِ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَتَرْجِيحِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ هِيَ أَنَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْاهْتِدَاءِ بِهِمَا قَدِ انْقَرَضُوا، فَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَالْاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ قَوَاعِدِ أَئِمَّتِهِمْ جَمِيعَ مَسَائِلِ الدِّينِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِكُلِّ مَا قَالُوا، وَأَلَّا نَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا لِلتَّبَرُّكِ بِهِمَا، فَإِنْ رَأَيْنَا خِلَافًا بَيْنَ قَوْلِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِ الْفَقِيهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّهِمَ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا، وَنُنَزِّهَ فَهْمَ الْفَقِيهِ الْمَيِّتِ وَعَقْلَهُ، وَنَعْمَلَ بِقَوْلِهِ مُكَابِرِينَ أَنْفُسَنَا الَّتِي سُجِّلَ عَلَيْهَا الْحِرْمَانُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالسُّنَّةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا صَاحِبُهَا بِأَنَّ لَيْلَهَا كَنَهَارِهَا أَيْ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا أَحَدٌ! ! ! هَذَا مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ أَشَدَّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ، وَسَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ، فَقَدْ أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِهِ (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (30: 47) . ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْإِيْمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا السِّحْرِ الْخَادِعِ وَاتِّبَاعِ نَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ، أَوْ لَوْ آمَنُوا بِكِتَابِهِمْ إِيْمَانًا حَقِيقِيًّا - وَمِنْهُ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ - وَاتَّقَوْا بِالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِهِ

مَغَبَّةَ مَا يَنْتَظِرُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ، لَكَانَ ثَوَابُ اللهِ لَهُمْ عَلَى الْإِيْمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مَا تَوَهَّمُوهُ فِي الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ. ثُمَّ قَالَ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ إِنَّهُمْ فِي كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، يَتَّبِعُونَ الظُّنُونَ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا صَحِيحًا لَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوهُ فَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ: أَنَّ بَابِلَ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ كَانَتْ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ (قَبْلَ الْكُوفَةِ) فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ الْفُرَاتِ بَعِيدَةً عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَ اشْتِقَاقِهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْخَلْطِ، إِشَارَةً إِلَى مَا يَرْوِيهِ الْعِبْرَانِيُّونَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَلْسِنَةِ هُنَاكَ. وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَلَوْ كَانَا مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَمَا مُنِعَا مِنَ الصَّرْفِ، وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَتَأَكُّدِهِ، وَقَدْ شَدَّدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَعَادَتِهِ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ: إِنَّمَا الزَّائِدَةُ مَا يُذْكَرُ لِلتَّحْلِيَةِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى مَا وِفَاقًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمَثُوبَةُ الثَّوَابُ، وَ (لَمَثُوبَةٌ) خَبَرُ (لَوْ) ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَيْ لَكَانَتْ مَثُوبَةٌ مِنَ اللهِ خَيْرًا. وَقَدْ قَدَّرُوا لَهَا فِعْلًا فَقَالُوا: الْأَصْلُ لَأُثِيبُوا مَثُوبَةً، فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَرُكِّبَ الْبَاقِي جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِيَدُلَّ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ، وَنُكِّرَتْ لِبَيَانِ أَنَّهَا مَهْمَا قَلَّتْ فَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَصْلُهَا الثَّوْبُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، كَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَثُوبُ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أَقُولُ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرٍ لَهُ عِلَاقَةٌ بِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاضِي السِّيَاقِ الْخَاصِّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَدْءِ انْتِقَالٍ مِنْهُ إِلَى سِيَاقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَ (رَاعِنَا) كَلِمَةٌ كَانَتْ تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصَّحَابَةِ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

104

وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا لُغَةً هُوَ: رَاعِنَا سَمْعَكَ وَهُوَ كَأَرْعِنَا سَمْعَكَ: أَيِ اسْمَعْ لَنَا مَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَنُرَاجِعَكَ الْقَوْلَ فِيهِ لِنَفْهَمَهُ عَنْكَ، أَوْ رَاقِبْنَا وَانْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِنَا فِي حِفْظِ مَا تُلْقِيهِ عَلَيْنَا وَفَهْمِهِ. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَرَاعَيْتُ الْأَمْرَ - نَظَرْتُ إِلَامَ يَصِيرُ وَأَنَا أُرَاعِي فُلَانًا - أَنْظُرُ مَاذَا يَفْعَلُ، وَأَرْعَيْتُهُ سَمْعِي، وَأَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَرَاعِنِي سَمْعَكَ اهـ. وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوهَا فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاوِينَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا لِتُوَافِقَ كَلِمَةَ شَتْمٍ بِلِسَانِهِمُ الْعِبْرَانِيِّ. قِيلَ: كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا " رَاعَيْنَا " وَقِيلَ: كَانُوا يُرِيدُونَ بِتَحْرِيفِهَا نِسْبَتَهُ إِلَى الرُّعُونَةِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) (4: 46) الْآيَةَ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَهُ صِلَةٌ وَارْتِبَاطٌ بِشَأْنِ الْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي شُئُونِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ هُوَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّتْمِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ، وَلَا أَقُولُ بِهَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ " خِلَافٌ " وَالْمُرَادُ لَا تُخَالِفُوهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (رَاعِنَا) مِنَ الْمُرَاعَاةِ. وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الرِّعَايَةِ أَيِ ارْعَنَا نَرْعَكَ، وَفِي خِطَابِ النَّبِيِّ بِذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ تَأْدِيبٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) (49: 2) كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ الْغِلَاظِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ خَبَرَهُمْ، أَوِ الَّذِينَ عَرَفْتُمْ سُوءَ أَدَبِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ اجْمَعُوا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ. (قَالَ) : وَهَا هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ إِذَا رَعَى مَعَهَا، فَيَجُوزُ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَةَ بِصَرْفِهَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَنَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَشَنَّعَ عَلَى الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ سُوءِ قَصْدِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ رَضُوا بِصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ حُمُرٌ؛ لِأَنَّ السَّبَّابَ يَسُبُّ نَفْسَهُ كَمَا يَسُبُّ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَائِلِ: اقْتُلُونِي وَمَالِكًا ... وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي قَالَ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا) ، نَهَاهُمْ - تَعَالَى - عَنْ كَلِمَةٍ كَانُوا يَقُولُونَهَا وَأَمَرَهُمْ بِكَلِمَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا تُفِيدُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْهَا. فَكَلِمَةُ (انْظُرْنَا) تُفِيدُ مَعْنَى كَلِمَةِ (رَاعِنَا) فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْظَارِ وَالْإِمْهَالِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ (انْظِرْنَا) مِنَ الْإِنْظَارِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. تَقُولُ: نَظَرْتُ الشَّيْءَ

وَنَظَرْتَ إِلَيْهِ إِذَا وَجَّهْتَ إِلَيْهِ بَصَرَكَ وَرَأَيْتَهُ، وَتَقُولُ: نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرْتُهُ وَمِنْهُ (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) (36: 49) أَذِنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ (انْظُرْنَا) وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمَاعِ لِلنَّبِيِّ لِيَعُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ مِنَ الدِّينِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لِبَيَانِ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ الَّذِي يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ الْمُوجِعَ أَشَدَّ الْإِيجَاعِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنْبٌ مُجَاوِرٌ لِلْكُفْرِ يُوشِكُ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْاحْتِرَاسُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلْمُسَاوَاةِ، بَلْهَ الْأَلْفَاظِ الْمُنَافِيَةِ لِلْآدَابِ. أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُعَامِلُ أُسْتَاذَهُ وَمُرْشِدَهُ مُعَامَلَةَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، يَقِلُّ احْتِرَامُهُ لَهُ وَتَزُولُ هَيْبَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَقِلَّ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ أَوْ تَعْدَمَ، وَإِذَا لَمْ تَزُلِ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَلِّمًا، فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَزُولُ لَا مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُرَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةِ، وَمَنْ أَرَاهُ مِثْلِي لَا أَرْضَاهُ إِمَامًا وَقُدْوَةً لِي، فَإِنْ رَضِيتُهُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَالتَّقْلِيدِ وَكَذَّبَتْنِي الْمُعَامَلَةُ، فَأَيُّ قِيمَةٍ لِهَذَا الرِّضَى، وَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأً فَوْقَهُ عِلْمًا وَكَمَالًا، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَلَا الْفِعْلِيَّةِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ اللَّمَمِ، وَعَنْ مِثْلِ هَذَا نَهَى الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -؛ لِئَلَّا يَجُرَّهُمُ الْأُنْسُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ التَّرْبِيَةُ إِلَّا بِكَمَالِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (33: 21) الْآيَةَ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَخِطَابُهُ خِطَابُ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِسَعَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ وَيَأْخُذُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بِالْأَدَبِ وَيَسْأَلُ عَمَّا لَا يَفْهَمُهُ بِالْأَدَبِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَهُوَ الشَّقِيُّ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِشَقَائِهِ شَقَاءٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُجَاوَرَةِ أَنَّ سُوءَ الْأَدَبِ بِنَحْوِ مَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، هُوَ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (4: 46) فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تُحَاكِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُوُعِّدُوا عَلَيْهَا بِهَذَا الْوَعِيدِ عَلَى أَنَّهَا كُفْرٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ غَيْرَ مُحَرَّفَةٍ وَلَا مَقْصُودًا بِهَا مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ، تُسَمَّى مُجَاوِرَةً لِأَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهَا مُوهِمَةٌ وَخَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِ الْأَدَبِ اللَّائِقِ بِالْمُؤْمِنِينَ. (قَالَ) : إِنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الرَّسُولِ حَظًّا مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا بِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لَهُ وَالْإِنْصَاتُ لِأَجْلِ تَدَبُّرِهِ، هُوَ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الَّذِي بِهِ

105

كَانَ الرَّسُولُ رَسُولًا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالْاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ، فَمَا هَذَا الْأَدَبُ الَّذِي يُقَابِلُهُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ؟ إِنَّهُمْ يَلْغَطُونَ فِي مَجْلِسِ الْقُرْآنِ، فَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يُنْصِتُونَ، وَمَنْ أَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ فَإِنَّمَا يُنْصِتُ طَرَبًا بِالصَّوْتِ وَاسْتِلْذَاذًا بِتَوْقِيعِ نَغَمَاتِ الْقَارِئِ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ وَاسْتَجَادَتِهِ مَا يَقُولُونَهُ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَهْتَزُّونَ لِلتِّلَاوَةِ وَيُصَوِّتُونَ بِأَصْوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَا يَفْعَلُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ بِلَا فَرْقٍ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مَدْعَاةً لِسُرُورِهِمْ فِي مِثْلِ قِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْفَضِيلَةِ وَلَا سِيَّمَا الْعِفَّةُ وَالْأَمَانَةُ، أَلَيْسَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْقُرْآنِ مِنْهُ بِالْأَدَبِ اللَّائِقِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا، وَتَتَوَعَّدُ عَلَى تَرْكِهِ بِجَعْلِهِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ الَّذِي يَسُوقُ صَاحِبَهُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (23: 68، 69) ؟ . ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يَقُولُ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلِمْتُمْ شَأْنَهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ حَسَدَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلَا يُبَالَى بِعُدْوَانِهِمْ، وَلَا يَضُرُّكُمْ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، فَهُمْ لِحَسَدِهِمْ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَدْنَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ الْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّهُ النِّظَامُ الْكَامِلُ، وَالْفَضْلُ الشَّامِلُ، وَالْهِدَايَةُ الْعُظْمَى، وَالْآيَةُ الْكُبْرَى، جَمَعَ بِهِ شَمْلَكُمْ، وَوَصَلَ حَبْلَكُمْ، وَوَحَّدَ شُعُوبَكُمْ وَقَبَائِلَكُمْ، وَطَهَّرَ عُقُولَكُمْ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّى نُفُوسَكُمْ مِنْ أَدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَامَكُمْ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ، فَكَيْفَ لَا يَحْرِقُ الْحَسَدُ عَلَيْهِ أَكْبَادَهُمْ وَيُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ عَلَيْكُمْ وَأَحْقَادَهُمْ؟ . (أَقُولُ) الْوُدُّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، وَتَمَنِّي وُقُوعِهِ، يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قَصْدًا، وَعَلَى الْآخَرِ تَبَعًا. وَيَكُونُ مَفْعُولُ الْأَوَّلِ مُفْرَدًا وَالثَّانِي جُمْلَةً، وَنَفْيُهُ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ، فَالْمَعْنَى: مَا يُحِبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَدْنَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ فَلِحَسَدِهِمْ لِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ الْكِتَابُ وَالنُّبُوَّةُ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَحْتَكِرُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِأَنَّ فِي التَّنْزِيلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَرُسُوخِهِ وَانْتِشَارِهِ مَا خَيَّبَ آمَالَهُمْ فِي تَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْتِهَاءِ أَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا بَيَّنَ جَهْلَهُمْ وَجَهْلَ جَمِيعِ الْحَاسِدِينَ فَقَالَ: (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، أَيْ أَنَّ الْحَاسِدَ لِغَبَاوَتِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمُعْتَرِضًا عَلَيْهِ أَنْ أَنْعَمَ عَلَى الْمَحْسُودِ بِمَا أَنْعَمَ، وَلَا يَضُرُّ اللهَ - تَعَالَى - سُخْطُ السَّاخِطِينَ، وَلَا يُحَوِّلُ مَجَارِيَ نِعَمِهِ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ، فَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

106

الْعَظِيمِ - أَسْنَدَ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ الْأَعْظَمِ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا حَقُّهُ لِذَاتِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي مَنْحِهِمَا وَلَا فِي مَنْعِهِمَا. (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: إِنَّ أَصْلَ النَّسْخِ النَّقْلُ، سَوَاءً كَانَ نَقْلَ الشَّيْءِ بِذَاتِهِ كَمَا يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، أَيْ نَقَلَتْهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ نَقْلَ صُورَتِهِ كَمَا يُقَالُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، إِذَا نَقَلْتُ عَنْهُ صُورَةً مِثْلَ الْأُولَى، وَوَرَدَ: نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ: أَيْ أَزَالَتْهُ. وَأَصْلُ النِّسْيَانِ التَّرْكُ أَوْ هُوَ غَايَتُهُ اللَّازِمَةُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (20: 126) أَيْ تَرَكْتَهَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا، فَجَزَاؤُكَ أَنْ تُتْرَكَ فِي الْعَذَابِ فَاحْفَظِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ. (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) (16: 101) ، فَالنَّسْخُ هُنَا بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ، أَيْ إِذَا جَعَلْنَا آيَةً بَدَلًا مِنْ آيَةٍ، فَإِنَّنَا نَجْعَلُ هَذَا الْبَدَلَ خَيْرًا مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، فَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ هُوَ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ - تَعَالَى - بِعَدَمِ تِلَاوَةِ الْآيَةِ فَتُنْسَى بِالْمَرَّةِ. (قَالَ) : وَهَذَا بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ، فَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ فِي عَطْفِهِ عَلَيْهِ بِ (أَوْ) ؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا تَكْرَارٌ يَجِلُّ كَلَامُ اللهِ عَنْهُ؟ . وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ نَسْخَ الْحُكْمِ وَحْدَهُ وَنَسْخَهُ مَعَ التِّلَاوَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ لِلْجُمْهُورِ، وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَسْخِ الْآيَةِ فِي ذَاتِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا شُرِعَ حُكْمٌ فِي وَقْتٍ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ زَالَتِ الْحَاجَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُنْسَخَ الْحُكْمُ وَيُبَدَّلَ بِمَا يُوَافِقُ الْوَقْتَ الْآخَرَ، فَيَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلَهُ فِي فَائِدَتِهِ مِنْ حَيْثُ قِيَامُ الْمَصْلَحَةِ بِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَاءِ إِزَالَةُ الْآيَةِ مِنْ ذَاكِرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا: أَيَكُونُ

بَعْدَ التَّبْلِيغِ أَمْ قَبْلَهُ؟ فَقِيلَ: بَعْدَهُ كَمَا وَرَدَ فِي أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَقِيلَ: قَبْلَهُ حَتَّى أَنَّ السُّيُوطِيَّ رَوَى فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا فَيَنْسَاهَا نَهَارًا، فَحَزِنَ لِذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَكْذُوبَةٌ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا النِّسْيَانِ مُحَالٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (75: 17) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (15: 9) وَقَدْ قَالَ الْمُحَدِّثُونَ وَالْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ مُخَالَفَتَهُ لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ نَقْلِيًّا، كَأُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا، فَإِنَّ هَذَا النِّسْيَانَ يُنَافِي الْعِصْمَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا. وَقَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا ذَكَرَ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى النَّسْخِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ، أَيْ أَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ عَلَى اللهِ كَمَا زَعَمَ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُهُ، ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةَ. وَالْخِطَابُ فِي (تَعْلَمْ) لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رُبَّمَا كَانُوا يَمْتَعِضُونَ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى النَّسْخِ، وَضَعِيفُ الْإِيْمَانِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُعَابَ مَا يَأْخُذُ بِهِ، فَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الشُّبْهَةِ أَوِ الْحَيْرَةِ فِيهَا؛ فَفِي الْكَلَامِ تَثْبِيتٌ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَدَعْمٌ لِإِيْمَانِهِمْ، وَتَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى شَخْصٍ يُرَادُ غَيْرُهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمُوَلِّدِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِمْ: (إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْسَخَ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَمِنْ آيَةِ إِرَادَةِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الِالْتِفَاتُ عَنِ الْأَفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أَيْ أَنَّ وَلِيَّكُمْ وَنَاصِرَكُمْ هُوَ اللهُ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَلَا تُبَالُوا بِمَنْ يُنْكِرُ النَّسْخَ أَوْ يَعِيبُكُمْ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَهْوِيَكُمْ إِنْكَارُهُمْ فَيُمِيلَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا لِلْمُنْكِرِينَ إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يَضُرُّوكُمْ أَوْ يَنْفَعُوكُمْ إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرَكُمْ. وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِكُمْ سُوءًا فَلَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْكُمْ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ، وَهَذَا كَلَامٌ

108

جَدِيدٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَقَالُوا: إِنَّ (أَمْ) هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ لَا لِلْإِضْرَابِ؛ لِأَنَّ أَمِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (بَلْ) يُقْصَدُ بِهَا الْإِضْرَابُ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ هُنَا. هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ قَوْلِهِمْ. (قَالَ) : وَاسْتَشْهَدُوا لِ (أَمِ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَهِنْدٌ تَقَوَّلَتْ ... أَمِ الْقَوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ؟ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ (أَمْ) هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالسَّابِقِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْإِضْرَابَ وَالِاسْتِفْهَامَ مَعًا، وَتَجِدُ (الْجَلَالَيْنِ) يُقَدِّرَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَقَدْ قَدَّرَا فِيهِ هُنَا " بَلْ أَتُرِيدُونَ "، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سَأَلَ مُوسَى قَوْمُهُ تَبَرُّمًا وَإِعْنَاتًا؟ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَ أُولَئِكَ، وَقَدْ أَتْبَعَ التَّحْذِيرَ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أَيْ إِنَّ تَرْكَ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا لِإِعْنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُؤَالِ غَيْرِهَا لِتَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا هُوَ مِنِ اخْتِيَارِ الْكُفْرِ عَلَى الْإِيْمَانِ وَاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. وَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ وَاسْتَبْدَلَ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، وَالْبَاءُ تُقْرَنُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا بِالْبَدَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (2: 61) . (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : هَذَا تَقْرِيرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا وَازَنَّا بَيْنَ سِيَاقِ آيَةِ (مَا نَنْسَخْ) وَآيَةِ (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) ، نَجِدُ أَنَّ الْأُولَى خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) (16: 101) الْآيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ شِدَّةَ الْعِنَايَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ بِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ، فَذِكْرُ الْعِلْمِ وَالتَّنْزِيلِ وَدَعْوَى الِافْتِرَاءِ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِالْآيَاتِ فِيهَا آيَاتُ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْقُدْرَةِ وَالتَّقْرِيرُ بِهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَلَا يُنَاسِبُ مَوْضُوعَ الْأَحْكَامِ وَنَسْخِهَا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا ذِكْرَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَوْ قَالَ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ أَرَادَ نَسْخَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنِ انْتِهَاءِ الزَّمَنِ أَوِ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَحْكَامُ مُوَافِقَةً لِلْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي فَهْمِ الْإِنْسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى (نُنْسِهَا) نَتْرُكُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا - وَإِنْ صَحَّ لُغَةً - لَا يَلْتَئِمُ مَعَ تَفْسِيرِهَا؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا مَعَ تَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، (قَالَ) : وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْآيَةَ هُنَا هِيَ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَيْ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نُقِيمُهَا دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ نُزِيلُهَا

وَنَتْرُكُ تَأْيِيدَ نَبِيٍّ آخَرَ، أَوْ نُنْسِهَا النَّاسَ لِطُولِ الْعَهْدِ بِمَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنَّنَا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي قُوَّةِ الْإِقْنَاعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ أَوْ مِثْلِهَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَسَعَةِ مُلْكِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِآيَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَمْنَحُهَا جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ، وَالْآيَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هِيَ: الدَّلِيلُ وَالْحُجَّةُ وَالْعَلَامَةُ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا حُجَجٌ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، وَدَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ فِيهَا بِالْوَحْيِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمِنْ قَبِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِاسْمِ الْعَامِّ. وَلَقَدْ كَانَ مِنْ يَهُودَ مَنْ يُشَكِّكُ فِي رِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُحْتَكَرَةٌ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ فِي تَفْنِيدِ زَعْمِهِمْ هَذَا وَقَالُوا: (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) (28: 48) أَيْ مِنَ الْآيَاتِ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ هَذَا: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) (28: 48) . . . إِلَخْ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْيَهُودُ يُرِيدُونَ تَشْكِيكَهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ قُدْرَةَ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ مَحْدُودَةً وَلَا مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ بِآحَادٍ مِنْهَا لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتِ الْحُجَّةُ مَحْصُورَةً فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لَا تَتَعَدَّاهَا، بَلِ اللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى وَبِمِثْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ وَاحِدٍ فَيَخُصُّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَيَحْصُرُ فِيهِ هِدَايَةَ الرِّسَالَةِ، كَلَّا إِنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَصَرَّفُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، فَيَكُونُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِنِعَمِهِ وَانْحَرَفَ عَنْ سُنَنِهِ. انْظُرْ كَيْفَ أَسْفَرَتِ الْبَلَاغَةُ عَنْ وَجْهِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَظَهَرَ أَنَّ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ وَسَعَةَ الْمُلْكِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ دُونَ مَعْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهَا لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَيَزِيدُ هَذَا سُفُورًا وَوُضُوحًا قَوْلُهُ عَقِبَهُ: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ؟ فَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَتَجَرَّءُوا عَلَى طَلَبِ غَيْرِهَا وَقَالُوا: (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (2: 55) ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ كُلَّمَا رَأَوْا آيَةً طَلَبُوا غَيْرَهَا حَتَّى رَأَوْا تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (كَمَا سُئِلَ مُوسَى) يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ. قَدْ أَرْشَدَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِهَذَا إِلَى أَنَّ التَّفَنُّنَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ، وَعَدَمَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَجِيءُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ هُوَ دَأْبُ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكُفْرِ، الْجَامِدِينِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَالْمُجَاحَدَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِنْكَارِ هَذَا الطَّلَبِ: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)

(17: 59) ، وَالْمُرَادُ الْآيَاتُ الْمُقْتَرَحَةُ، بِدَلِيلِ السِّيَاقِ، وَهُوَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضُوعُ مَوْضُوعَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ أَحْكَامٍ بِأَحْكَامٍ تَنْسَخُهَا، لَمَا كَانَ لِلتَّوَعُّدِ بِالْكُفْرِ وَجْهٌ وَجِيهٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ وَسَطَ الْجَادَّةِ، وَمَالَ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَمَتَى انْحَرَفَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَنِ الْوَسَطِ، يَخْرُجُ عَنِ الْمَنْهَجِ وَيَبْعُدُ عَنْهُ كُلَّمَا أَوْغَلَ فِي السَّيْرِ، فَيَهْلَكُ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصِدِ. وَالْمُرَادُ بِسَوَاءِ السَّبِيلِ: الْحَقُّ وَالْخَيْرُ اللَّذَانِ تَكْمُلُ الْفِطْرَةُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِمَا، وَمَنْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ وَقَعَ فِي الْبَاطِلِ لَا مَحَالَةَ، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (10: 32) . هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي تَتَّصِلُ بِهِ الْآيَاتُ، وَيَلْتَئِمُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَتَدَفَّقُ بِالْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ الْعَقْلُ وَيَسْتَحْلِيهِ الذَّوْقُ، إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي فَهْمِ نَظْمِهِ، وَلَا فِي تَوَخِّيهِ مُفْرَدَاتِهِ كَالْإِنْسَاءِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، وَقَدِ اضْطُرَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّسْخِ نَسْخُ الْأَحْكَامِ - مَعَ مَا عَرَفْتَ مِنَ التَّكَلُّفِ - إِلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ نِسْيَانِ الْوَحْيِ، وَطَفِقُوا يَلْتَمِسُونَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَوْرَدُوا قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (18: 24) ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَلَا الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (87: 6، 7) فَهُوَ يُؤَكِّدُ عَدَمَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (11: 108) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ. وَقَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (7: 188) . وَالنُّكْتَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّابِتَةَ الدَّائِمَةَ إِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ - تَعَالَى - لَا بِطَبِيعَتِهَا فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُغَيِّرَهَا لَفَعَلَ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنْ مَهَمَّاتِ الدِّينِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ تُزَاحَ عَنْهُ الْأَوْهَامُ فِي كُلِّ مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِضَ فِيهِ، فَلَيْسَ امْتِنَاعُ نِسْيَانِ الْوَحْيِ طَبِيعَةً لَازِمَةً لِلنَّبِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ وَمِنْحَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَيْسَ خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَاجِبٌ عَقْلِيٌّ أَوْ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَشِيئَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (أَوْ نَنْسَأَهَا) أَيْ نُؤَخِّرُهَا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَقَامِ نَسْخِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَظْهَرُ فِي نَسْخِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي تُقْتَرَحُ عَلَى نَبِيٍّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، قَدْ تُنْسَخُ بِآيَةٍ جَدِيدَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، وَقَدْ تُؤَخَّرُ بِالْآيَةِ الْجَدِيدَةِ، ثُمَّ تُعْطَى فِي وَقْتٍ آخَرَ بَعْدَ الِاقْتِرَاحِ، وَلَكِنَّ تَأْخِيرَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ.

109

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِدِينِهِمْ - مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسِيَّةٌ لَهُمْ تَقُومُ بِهَا مَنَافِعُ جِنْسِهِمْ - لَمْ يَكْتَفُوا بِكُفْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَيْدِ لَهُ وَنَقْضِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ حَسَدًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ عَلَى نِعْمَةِ النُّبُوَّةِ، بَلْ هُمْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ مَا قَصَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يُضْمِرُونَهُ وَمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَسَدِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَرَفُوا أَنَّهَا الْحَقُّ، وَأَنَّ وَرَاءَهَا السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يُحْرَمُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ وَيَرْجِعُوا كُفَّارًا كَمَا كَانُوا، وَذَلِكَ شَأْنُ الْحَاسِدِ يَتَمَنَّى أَنْ يُسْلَبَ مَحْسُودُهُ النِّعْمَةَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ضَارَّةً بِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِذَا تَمَّتْ وَثَبَتَتْ يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا سِيَادَةُ الْمَحْسُودِ عَلَيْهِ وَإِدْخَالُهُ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، كَمَا كَانَ يَتَوَقَّعُ عُلَمَاءُ يَهُودَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ؟ وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّنْبِيهُ تَتِمَّةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - قَبْلَ آيَاتٍ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (2: 105) وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَنَا مَا كَانَ مِنْ مُحَاوَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحَيُّلِهِمْ عَلَى تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: بِأَنْ يُؤْمِنُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَيَكْفُرُوا آخِرَهُ، لَعَلَّ ضُعَفَاءَ الْإِيْمَانِ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ اقْتِدَاءً بِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِذَلِكَ بَعْضَ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّنْبِيهِ أَوِ التَّنْبِيهَاتِ أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا يَبْدُو مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْيَانًا مِنْ إِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مَكْرُ السَّوْءِ، يَبْعَثُ عَلَيْهِ الْحَسَدُ لَا النُّصْحُ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ. وَقَالَ: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) لِيُبَيِّنَ أَنَّ حَسَدَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شُبْهَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى حَقٍّ يَعْتَقِدُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ خُبْثُ النُّفُوسِ وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ وَالْجُمُودُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ ظَهَرَ لِصَاحِبِهِ الْحَقُّ؛ وَلِذَلِكَ قَفَّاهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أَيْ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِانْطِبَاقِ مَا يَحْفَظُونَ مِنْ بِشَارَاتِ كُتُبِهِمْ بِنَبِيِّ آخِرِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُقَابِلُوا هَذَا الْحَسَدَ وَمَا يَنْبَعِثُ عَنْهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ، وَلَمْ يَقُلْ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا عَنْهُمْ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ عَامِلُوا جَمِيعَ النَّاسِ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (25: 63) . أَقُولُ: الْعَفْوُ تَرْكُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً) (9: 66) وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُذْنِبِ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ، فَيَشْمَلُ تَرْكَ الْعِقَابِ وَتَرْكَ اللَّوْمِ وَالتَّثْرِيبِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَفِي أَمْرِهِ - تَعَالَى - لَهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ الْقُدْرَةِ وَالشَّوْكَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْحَ إِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى خِلَافِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغْرَّنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَثْرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ بَاطِلِهِمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْقَوِيِّ الْعَادِلِ لِلْقَوِيِّ الْجَاهِلِ، (قَالَ) : وَفِي إِنْزَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعْفِهِمْ مَنْزِلَ الْأَقْوِيَاءِ، وَوَضْعِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ مَوْضِعَ الضُّعَفَاءِ، إِيذَانٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ هُمُ الْمُؤَيَّدُونَ بِالْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لَهُمْ مَا ثَبَتُوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَمَهْمَا يَتَصَارَعُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَصْرَعُ الْبَاطِلَ، كَمَا قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي غَفْلَةِ الْحَقِّ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فَوَعَدَهُمْ بِأَنْ سَيَمُدُّهُمْ بِمَعُونَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عَلَى قُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ عَنْهَا شَيْءٌ فِي الْعَالَمِينَ تَأْيِيدًا لِلْوَعْدِ، وَكَشْفًا لِشُبْهَةِ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: أَنَّى لِهَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ، الضَّعِيفَةِ الْقُوَى، أَنْ تَنْتَحِلَ لِنَفْسِهَا وَصْفَ الْمُلُوكِ الْعَالِينَ، وَتَقِفَ مَعَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ مَوْقِفَ الْعَافِينَ الْقَادِرِينَ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ يَقُولُ لِمِثْلِ هَذَا الْمُشْتَبِهِ: إِنَّ الَّذِي أَوْقَفَهَا هَذَا الْمَوْقِفَ، وَمَنَحَهَا هَذَا الْوَصْفَ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَهَبَهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا تَتَضَاءَلُ دُونَهُ جَمِيعُ الْقُوَى، وَهُوَ مَا يُؤَيِّدُ بِهِ سُبْحَانَهُ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (22: 40) وَقَدْ فَعَلَ. أَقُولُ: جَعَلَ شَيْخُنَا الْأَمْرَ فِي الْغَايَةِ الَّتِي قَيَّدَ بِهَا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَاحِدَ الْأُمُورِ، إِذْ فَسَّرَهُ بِالنَّصْرِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوهُ وَاحِدَ الْأَوَامِرِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ، وَيُعَبِّرُ بَعْضُهُمْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيَعْنُونَ آيَةَ التَّوْبَةِ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ هُنَا الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَوْقِيتٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْسُوخًا، أَيْ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِنْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَاهَدَ جَمِيعَ الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَهْدًا أَمَّنَهُمْ فِيهِ عَلَى

110

أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، فَغَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ بِمُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَكَانَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَيَصْفَحُ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : ثُمَّ بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ دَلَّهُمْ عَلَى بَعْضِ وَسَائِلِ تَحَقُّقِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُوَثِّقُ عُرْوَةَ الْإِيْمَانِ، وَتُعْلِي الْهِمَّةَ، وَتَرْفَعُ النَّفْسَ بِمُنَاجَاةِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ بِالِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَالتَّعَارُفِ فِي مَسَاجِدِهَا، وَالزَّكَاةِ الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فَتَتَكَوَّنُ بِاتِّصَالِهِمْ وَحْدَةُ الْأُمَّةِ حَتَّى تَكُونَ كَجِسْمٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وَلَمْ تُذْكَرْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ إِلَّا وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الذِّكْرَ لِبَيَانِ فَائِدَةٍ خَاصَّةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَفَادَ مِنْ ذِكْرِهِمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ أَدَائِهَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا الرُّوحِيَّةِ فِي صُورَتِهَا الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمُنَاجَاتِهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِشْعَارِ الْقَلْبِ عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ يَنْمُو الْإِيْمَانُ، وَتَقْوَى الثِّقَةُ بِاللهِ، وَتَتَنَزَّهُ النَّفْسُ أَنْ تَأْتِيَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَتَسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةُ فَتَكُونُ أَقْوَى نَفَاذًا فِي الْحَقِّ، وَأَشَدَّ بُعْدًا عَنِ الْأَهْوَاءِ، فَنُفُوسُ الْمُصَلِّينَ جَدِيرَةٌ بِالنَّصْرِ لِمَا تُعْطِيهَا الصَّلَاةُ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنَ الثِّقَةِ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دَلِيلًا أَيَّدَ بِهِ الْوَعْدَ، فَقَوْلُهُ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) هِدَايَةً إِلَى طَرِيقِ الِاقْتِنَاعِ التَّامِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ حَتَّى يَكُونَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبُهَاتُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمُشَاغَبَاتُ وَالْمُجَادَلَاتُ. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ بِقَرْنِ الزَّكَاةِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ، وَالزَّكَاةَ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَالَ - كَمَا يَقُولُونَ - شَقِيقُ الرُّوحِ، فَمَنْ جَادَ بِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - كَانَ بَذْلُهُ مَزِيدًا فِي إِيْمَانِهِ، فَهِيَ إِصْلَاحٌ رُوحِيٌّ أَيْضًا. وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي سِيَاقٍ كَشَفَ شُبْهَةَ مَنْ يَشْتَبِهُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيْمَانِ فِي نَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَعْلِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَبَيَانِ أَنَّ إِقَامَةَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ وَسَائِلِ النَّصْرِ وَالسُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ، وَلَكِنَّ الْبَيَانَ جَاءَ فِي صُورَةٍ عَامَّةٍ، وَهَذَا مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَجِدُ لَهَا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ نَظِيرًا يَنْتَقِلُ مِنْ بَيَانِ حُكْمٍ إِلَى آخَرَ، فَيَكُونُ الثَّانِي قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَشَامِلًا لِلْأَوَّلِ بِعُمُومِهِ، وَتَكُونُ صِلَةُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هِيَ الرَّابِطَ فِي النَّظْمِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (تَجِدُوهُ) هُوَ كَقَوْلِهِ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (99: 7) وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَرَى وَيَجِدُ جَزَاءَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَثَرِ الْعَمَلِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ وَارْتِقَائِهَا بِهِ كَانَ الْجَزَاءُ

بِمَثَابَةِ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَوَصَلَ الْوَعْدُ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْإِحْسَانِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَخَافُوا أَنْ يُنْقِصَكُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ شَيْئًا. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ آخِرُ مَا أَدَّبَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى مَا يُخَامِرُ الْبَعْضَ مِنْهُمْ وَمَا يَعِنُّ لَهُ مِنَ الشُّبَهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ وَإِعْزَازِهِ لِحِزْبِهِ، وَكَانَ أَوَّلُهَا قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا) (2: 104) وَكَأَنَّ مَنْشَأَ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ هُوَ مَا يَرَوْنَهُ فِي التَّنْزِيلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ مَقْرُونَةٌ بِمُسَبِّبَاتِهَا، وَأَنَّ حَوَادِثَ الْكَوْنِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ، وَمَا كَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُ قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ بِأَنَّ الْإِيْمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَتَوَكَّلُ صَاحِبُهُ - بَعْدَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ - عَلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِنَايَةِ الْغَيْبِيَّةِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّذِي يُصْلِحُ النُّفُوسَ، وَيُؤَلِّفُ - مَعَ الِاعْتِقَادِ - بَيْنَ الْقُلُوبِ، هُمَا أَكْبَرُ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ، وَأَقْرَبُ وَسَائِلِ السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْإِرْشَادُ وَالتَّأْدِيبُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَكْرَهُمُ السَّيِّئَ كَانَ مَثَارًا لِبَعْضِ الْخَوَاطِرِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَالْكَلَامُ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ مِنْهُمُ - الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى - فَقَالَ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .

111

هَذَا بَيَانٌ لِحَالَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، مَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ يَعْرِفُونَهَا: أَمَّا الْأُولَى فَمَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ بَدِيعٌ غَيْرُ مُخِلٍّ. وَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا يُنَافِي انْسِحَابَ حُكْمِهَا عَلَى الْآخِرِينَ، أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُرْوَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا - تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ فَقَالَ: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، وَالْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ وَلَا يُدْرِكُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ نَاطِقٌ بِأُمْنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَمَانِيَّ مُتَعَدِّدَةً هِيَ لَوَازِمٌ لَهَا، كَنَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَكَوُقُوعِ أَعْدَائِهِمْ فِيهِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَمَانِيَّ بِالْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ: تِلْكَ أُمْنِيَّتُهُمْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذَا الْوَجْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُنَاكَ وُجُوهٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ بِتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ لِقَوْلِهِ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (وَدَّ كَثِيرٌ) وَقَوْلِهِ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ أَمْثَالُ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ - تَعَالَى - بِالْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَقَرَّرَ لَنَا قَاعِدَةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ بِدَعْوَى يَنْتَحِلُهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ يُؤَيِّدُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي خُوطِبَتْ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً لِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِأَدِلَّتِهَا وَبَرَاهِينِهَا؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِتَقْلِيدِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا بُرْهَانَهُ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، سَوَاءً عَرَفُوا لِمَاذَا أُمِرُوا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 22) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ نَفْيِ الْمَضَرَّاتِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَنَافِعِ. عَلَّمَ الْقُرْآنُ أَهْلَهُ أَنْ يُطَالِبُوا النَّاسَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمْ عَلَى سَوَاءِ الْمَحَجَّةِ. وَجَدِيرٌ بِصَاحِبِ الْيَقِينِ أَنْ يُطَالِبَ خَصْمَهُ بِهِ وَيَدْعُوَهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ، قَالُوا بِالدَّلِيلِ وَطَالَبُوا بِالدَّلِيلِ وَنَهَوْا عَنِ الْأَخْذِ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ الطَّالِحُ فَحَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْلِيدِ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَيْرِ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ، حَتَّى كَأَنَّ الْإِسْلَامَ خَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، أَوِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، وَصَارَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِإِبْطَالِ

التَّقْلِيدِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ بِالْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ، مَعَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ، يُطَالِبُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الدَّلِيلِ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْأَخْذَ بِقَالَ وَقِيلَ، وَيَا لَيْتَهُ كَانَ الْأَخْذُ بِقَالَ اللهُ، وَقِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَخْذُ بِقَالَ فُلَانٌ وَقِيلَ عَنْ عِلَّانٍ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (53: 23) . قَالَ - تَعَالَى - رَدًّا عَلَيْهِمْ: (بَلَى) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِإِثْبَاتِ نَفْيٍ سَابِقٍ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِهِمْ: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) . . . إِلَخْ، أَيْ بَلَى إِنَّهُ يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ هُودًا وَلَا نَصَارَى؛ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللهِ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِشَعْبٍ دُونَ شَعْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُهَا وَيَعْمَلُ لَهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) . إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5) وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَبَّرَ هُنَا عَنْ إِسْلَامِ الْقَلْبِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِتَوْجِيهِ الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (6: 79) لِأَنَّ قَاصِدَ الشَّيْءِ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ لَا يُوَلِّيهِ دُبُرَهُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ إِلَى شَيْءٍ لَهُ جِهَةٌ تَابِعًا لِقَصْدِهِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ، وَجَعَلَ التَّوَجُّهَ بِالْوَجْهِ إِلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ (وَهِيَ الْقِبْلَةُ) بِأَمْرِ اللهِ مُذَكِّرًا بِإِقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ الَّذِي لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، فَالْإِنْسَانُ يَتَضَرَّعُ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِوَجْهِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ يَظْهَرُ أَثَرُ الْخُشُوعِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَوْحِيدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْعَمَلِ، بِأَلَّا يَجْعَلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَرْءُ مُسْلِمًا. ذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيْمَانَ الْخَالِصَ وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ الْوَعْدَ بِالْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِحْقَاقَ الْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَيَّدَهُ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، فَقَالَ: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ تَقْرِنُ الْإِيْمَانَ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، كَقَوْلِهِ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 123، 124) وَهَذَا فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، نَفَى أَمَانِيَّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا نَفَى أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَ أَمْرَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ مَنُوطًا بِالْإِيْمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا. وَكَقَوْلِهِ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (21: 94) الْآيَةَ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لِلْمُسْلِمِ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَالْمُحْسِنِ فِي عَمَلِهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ، نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ الَّذِي يُرْهِقُ الْكَافِرِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْحُزْنَ الَّذِي يُصِيبُهُمْ فَقَالَ:

112

(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَحْزَانَ تُسَاوِرُ الَّذِينَ لَبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَسَاءُوا أَعْمَالَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ. تَرَى أَصْحَابَ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ دَائِمٍ مِمَّا لَا يُخِيفُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِثُبُوتِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الْقَاهِرَةِ لِكُلِّ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْهُ عَمَلٌ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبَبِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ، يَسْتَخْذُونَ لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَيَرْتَعِدُونَ مِنْ حَوَادِثِ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيبَةِ، إِذَا لَاحَ لَهُمْ نَجْمٌ مُذَنَّبٌ تَخَيَّلُوا أَنَّهُ مُنْذِرٌ يُهَدِّدُهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ تَوَهَّمُوا أَنَّهَا مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الْعِبَادِ، وَتَرَاهُمْ فِي جَزَعٍ وَهَلَعٍ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ، وَنُزُولِ الْكَوَارِثِ، لَا يَصْبِرُونَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (70: 19 - 23) هَذِهِ حَالُ مَنْ فَقَدَ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ وَحُرِمَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (41: 16) وَإِنَّمَا كَانَ صَاحِبُ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُ، وَحُزْنٍ مِمَّا يَنْزِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا اخْتَرَعَهُ لَهُ وَهْمُهُ مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ الَّتِي يُحَكِّمُهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُهَا حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِدُ عِنْدَهَا غَنَاءً إِذَا هُوَ لَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَا هُوَ مِنْ سُلْطَتِهَا عَلَى يَقِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الظَّانِّينَ أَوِ الْوَاهِمِينَ. وَأَمَّا ذُو التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، وَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ قَدْ هَدَى الْإِنْسَانَ إِلَى السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا فِي أَفْعَالِهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ، بَحَثَ فِي سَبَبِهِ وَاجْتَهَدَ فِي تَلَافِيهِ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا اللهُ - تَعَالَى - لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَا مَرَدَّ لَهُ، سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، فَلَا يَحَارُ وَلَا يَضْطَرِبُ؛ لِأَنَّ سَنَدَهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، وَالْقُوَّةَ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا كَبِيرَةٌ لَا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِ سَبَبُ الْحُزْنِ أَوْ عَرَضَ لَهُ مُقْتَضَى الْخَوْفِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُمَا إِلَّا كَمَا يُطِيفُ الْخَاطِرُ بِالْبَالِ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الزَّوَالُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (13: 28) فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْأَمَانِيُّ وَلَا يَخْدَعَنَّكُمُ الِانْتِسَابُ الْبَاطِلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذِهِ هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَسْلِمُوا وُجُوهَكُمْ لِلَّهِ تَسْلَمُوا، وَاعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ تُؤْجَرُوا، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (فَلَهُ أَجْرُهُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ (مَنْ) ، وَجَمَعَهُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) . . . إِلَخْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا. بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَزْكِيَةَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَفْسَهُ، وَحُكْمَهُ بِحِرْمَانِ غَيْرِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ ذَكَرَ طَعْنَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ خَاصَّةً فَقَالَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ، فَالشَّيْءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُتَحَقِّقُ،

113

وَالِاعْتِقَادَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَا تُسَمَّى شَيْئًا، فَكَفَرُوا بِعِيسَى وَهُمْ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ الَّتِي تُبَشِّرُ بِهِ، وَتَذْكُرُ مِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلَا تَزَالُ الْيَهُودُ إِلَى الْيَوْمِ تَدَّعِي أَنَّ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا يَأْتِ، وَتَنْتَظِرُ ظُهُورَهُ وَإِعَادَتَهُ الْمُلْكَ إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ (وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ لِإِنْكَارِهِمُ الْمَسِيحَ الْمُتَمِّمَ لِشَرِيعَتِهِمْ، يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أَيْ يَتْلُو كُلٌّ مِنْهُمْ كِتَابَهُ، فَكِتَابُ الْأَوَّلِينَ (التَّوْرَاةُ) يُبَشِّرُ بِرَسُولٍ مِنْهُمْ ظَهَرَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِكِتَابِهِمْ، وَكِتَابُ الْآخِرِينَ (الْإِنْجِيلُ) يَقُولُ بِلِسَانِ الْمَسِيحِ: إِنَّهُ جَاءَ مُتَمِّمًا لِنَامُوسِ مُوسَى، لَا نَاقِضًا لَهُ، وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ، فَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، تَرَكَ بَعْضُهُمْ أَوَّلَهُ، وَبَعْضُهُمْ آخِرَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ كُلِّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَالْكِتَابُ الَّذِي يَقْرَءُونَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (كَذَلِكَ) أَيْ نَحْوَ ذَلِكَ السُّخْفِ وَالْجُزَافِ (قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، تَعَصَّبَ كُلٌّ لِمِلَّتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا جِنْسِيَّةً، وَزَعَمَ أَنَّهَا هِيَ الْمُنْجِيَةُ لِكُلِّ مَنْ وُسِمَ بِهَا وَرَضِيَ بِاسْمِهَا وَلَقَبِهَا، وَالْحَقُّ وَرَاءَ جَمِيعِ الْمَزَاعِمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِأَسْمَاءٍ وَلَا أَلْقَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيْمَانٌ خَالِصٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى هَذَا لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَاخْتَلَفُوا فِي أُصُولِهِ وَلَكِنَّهُمْ تَعَصَّبُوا وَتَحَزَّبُوا لِأَهْوَائِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي آرَائِهِمْ (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا عَلَيْهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِمَاذَا يَحْكُمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهِمْ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ فِي النَّعِيمِ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَيُلْقِي بِأَهْلِهِ فِي الْجَحِيمِ. هَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ. وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ تَمَارَوْا مَعَ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا قَالَ فِي إِنْكَارِ حَقِيقَةِ دِينِ الْآخَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ فَهْمَ الْآيَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَالْآيَةُ تَحْكِي لَنَا اعْتِقَادَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْأُخْرَى سَوَاءً قَالَ ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. عَلَى أَنَّ مَا يُرْوَى فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ تَارِيخِ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عِنْدَنَا غَيْرُ كَافٍ فِي ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْبَحْثِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ الْمِلَلِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْقُرْآنُ؛ لِأَجْلِ أَنْ نَفْهَمَهُ تَمَامَ الْفَهْمِ وَنَعْرِفَ مَا يَحْكِيهِ عَنْهُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشُّئُونِ وَالْأَعْمَالِ، هَلْ كَانَ عَامًّا فِيهِمْ أَوْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَأُسْنِدَ إِلَى الْأُمَّةِ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا مِنْ إِرَادَةِ تَكَافُلِهَا، وَمُؤَاخَذَةِ الْجَمِيعِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاهِيَ عَنْهُ؟ وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ أَصْلٌ لِكِتَابِ النَّصَارَى،

114

وَكِتَابَ النَّصَارَى مُتَمِّمٌ لِكِتَابِ الْيَهُودِ، قَدْ صَارُوا إِلَى حَالٍ مِنَ التَّهَافُتِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ لَا يُعْتَدُّ مَعَهَا بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَطَعْنُهُمْ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيْمَانِ بِهِ لَا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِمْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ، بَلْ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَتَعَصُّبٍ لِلْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ وَالْآرَاءِ. فَإِذَا كَانَتِ الْيَهُودُ كَفَرَتْ بِعِيسَى وَأَنْكَرَتْهُ - وَهُوَ مِنْهُمْ - وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ لِإِعَادَةِ مَجْدِهِمْ وَتَجْدِيدِ عِزِّهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَارَى قَدْ رَفَضَتِ التَّوْرَاةَ وَكَفَّرَتْ أَهْلَهَا - وَهِيَ حُجَّتُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ - فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ شَعْبٍ غَيْرِ شَعْبِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ لِشَرَائِعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ جِنْسِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَهُمْ؟ ! . وَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، مُؤَيِّدٌ لِمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تُطَالِبُ الْمُدَّعِيَ بِالْبُرْهَانِ، وَإِلَى النَّعْيِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِآرَائِهِمْ، الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، وَإِلَى التَّحَرِّي فِي الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ وَالتَّحَرِّي وَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الْخَطَأِ وَالتَّزْيِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَسَاهُ يَكُونُ مَعَهُ صَوَابًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ نَاطِقٌ بِإِنْكَارِ حُكْمِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا فَصْلٍ وَلَا فُرْقَانٍ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِ حَقٌّ ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةِ وَالْبِدَعُ، وَعَرَضَ لَهُ التَّحْرِيفُ وَالتَّأْوِيلُ، فَتَجْرِيدُهُ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَعَصُّبًا لِلتَّقَالِيدِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، وَأَنَّى لِلْمُقَلِّدِينَ بِذَلِكَ؟ وَانْظُرْ كَيْفَ أَلْحَقَ التَّقْلِيدُ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالدِّينِ الْإِلَهِيِّ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ هَذَا مَا فَعَلَهُ التَّقْلِيدُ بِهِمْ، وَبِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) الْآيَةَ فِيهِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَهِيَ دُخُولُ (تَيْطَسَ الرُّومَانِيِّ) بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَخْرِيبُهَا حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ تَلًّا مِنَ التُّرَابِ، وَهَدْمُهُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الْجُدُرِ الْمُدَعْثَرَةِ، وَإِحْرَاقُهُ مَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ نُسَخِ التَّوْرَاةِ، وَكَانَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَوْعَدَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ هُمُ الَّذِينَ هَيَّجُوا الرُّومَانِيِّينَ وَأَغْرَوْهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا أَدْرِي هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ أَمْ لَا، فَإِنَّ قَائِلِيهِ لَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ وَلَا بِنُقُولٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَتَشَتُّتِهِمْ وَاسْتِخْفَائِهِمْ مِنِ اضْطِهَادِ الْيَهُودِ كَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانُوا يَوَدُّونَ الْإِيقَاعَ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمُ انْتِقَامًا مِنْهُمْ، وَتَحْقِيقًا لِوَعِيدِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّومَانِيِّينَ - وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ - لَمْ تَكُنْ حُرُوبُهُمْ دِينِيَّةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُحَارِبُونَ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ لِشَغَبِهِمْ وَفِتَنِهِمْ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي بِلَادِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِهَدْمِ الْمَعْبَدِ وَإِحْرَاقِ كُتُبِ الدِّينِ، فَهَذِهِ قَرَائِنُ تُرَجِّحُ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَسِيحِيِّينَ يَدٌ فِي إِغَارَةِ تَيْطَسَ، وَلَكِنْ لَا يُجْزَمُ بِهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ نَقْلٌ تَارِيخِيٌّ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ الْخَبَرَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْآيَةَ فِي اتِّحَادِ الْمَسِيحِيِّينَ مَعَ (بَخْتِنْصَرَ الْبَابِلِيِّ) عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّ حَادِثَةَ بَخْتِنْصَرَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيَّةِ بِسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَرِّخًا مِنْ أَكْبَرِ الْمُؤَرِّخِينَ لَالْتُمِسَ لَهُ الْعُذْرُ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى حَادِثَةِ (أَدْرِينَالَ الرُّومَانِيِّ) الَّذِي جَاءَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَبَنَى مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ أُورْشَلِيمَ وَزَيَّنَهَا وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَّامَاتِ، وَبَنَى هَيْكَلًا لِلْمُشْتَرَى عَلَى أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، وَحَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ دُخُولَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ مَنْ يَدْخُلُهَا الْقَتْلَ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهُ (بَخْتِنْصَرَ الثَّانِيَ) لِشِدَّةِ مَا قَاسَوْا مِنْ ظُلْمِهِ وَاضْطِهَادِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا لِلْمُؤَرِّخِ. (الثَّانِي) : ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) نَزَلَ فِي مَنْعِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ حَادِثَةَ الرُّومَانِيِّينَ كَانَتْ قَدْ طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ فَلَا مُنَاسَبَةَ لِإِرَادَتِهَا بِالْآيَةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا سَعَوْا فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، بَلْ كَانُوا عَمَرُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَرَوْنَهَا مَنَاطَ عِزِّهِمْ وَمَحِلَّ شَرَفِهِمْ وَفَخْرِهِمْ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي خَرَابِهَا هُمْ مُشْرِكُو الرُّومَانِيِّينَ. وَيَكُونُ قَرْنُ مَا عَمِلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَنْعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ اسْمُ اللهِ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِمَا عَمِلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِيِّينَ مِنَ التَّخْرِيبِ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَسَاوِي الْفِعْلَيْنِ فِي الْقَبِيحِ. (الثَّالِثُ) : أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُنْبِئَةً بِأَمْرٍ وَقَعَ، وَلَكِنْ بِأَمْرٍ سَيَقَعُ، وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِغَارَةِ الصَّلِيبِيِّينَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَتَخْرِيبِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ. (الرَّابِعُ) : وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُنْبِئَةٌ عَنْ أَمْرٍ سَيَقَعُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَادِثَةُ (الْقَرَامِطَةِ) الَّذِينَ هَدَمُوا الْكَعْبَةَ وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ، كَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَعْنِ الْيَهُودِ مِنْهُمْ بِالنَّصَارَى وَقَوْلِهِمْ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَطَعْنِ النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ كَذَلِكَ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ: إِنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا سَيَقَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْبَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ فَوَقَعَتْ، وَكَانَتْ حَادِثَتُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا الْمَسَاجِدَ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى طُولِهَا مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ (الْقَرَامِطَةِ) فَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمِلَلِ. (قَالَ شَيْخُنَا) : سَوَاءً كَانَتِ الْآيَةُ فِي حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ أَوْ مُنْتَظَرَةٍ أَوْ كَانَتْ وَعِيدًا لِلَّذِينِ لَا يَحْتَرِمُونَ الْمَعَابِدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ احْتِرَامِ كُلِّ مَعْبَدٍ يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللهِ - تَعَالَى - بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَبِتَحْرِيمِ السَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، وَبِالْحُكْمِ عَلَى الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهَا وَيَسْعَوْنَ فِي خَرَابِهَا - أَيْ هَدْمِهَا أَوْ تَعْطِيلِ شَعَائِرِهَا وَمَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ فِيهَا - بِكَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِبْطَالَ شَعَائِرِ الْمَعَابِدِ الَّتِي تُذَكِّرُ بِهِ، وَتُشْعِرُ الْقُلُوبَ عَظَمَتَهُ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الدِّينِ يُفْضِي إِلَى نِسْيَانِ النَّاسِ الرَّقِيبَ الْمُهَيْمِنَ عَلَيْهِمْ، فَيُمْسُونَ كَالْهُمْلِ وَتَفْشُو فِيهِمُ الْمُنْكَرَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، وَانْتِهَاكُ الْحُرُمَاتِ، وَهَضْمُ الْحُقُوقِ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ. وَعِبَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - بِذِكْرِهِ وَالصَّلَاةُ لَهُ تَنْهَيْ بِطَبِيعَتِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْكِتَابُ، فَمَنْ عَلِمَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهَا وَيَسْعَى فِي إِزَالَتِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ الْمَعَابِدِ مِنَ الْأَرْضِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ

فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِاحْتِرَامِ كَنَائِسِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، وَاحْتِرَامِ مَعَابِدِ الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ أَيْضًا كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، بَلِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعُدُّ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْوَثَنِيُّونَ الْخُلَّصُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَيَبْنُونَ الْمَسَاجِدَ لِذِكْرِ غَيْرِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى سِوَاهُ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِمْ وَلَمْ يَتَوَعَّدْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ سُخْفِهِمْ. (أَقُولُ) : لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُ مَا بُنِيَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْقِبَابِ عَلَى قُبُورِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَارْتَكَبُوا فِيهَا الْمَحْظُورَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي يُعَدُّ بَعْضُهَا مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَلَا سِيَّمَا الْمَعَاصِي الَّتِي تُفْعَلُ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا وَتَوَسُّلًا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ الزَّوَاجِرِ لِلْفَقِيهِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ وَيَحْتَجُّونَ بِهَدْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، إِنَّمَا يَعْنِي شَيْخُنَا بِتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ هُنَا إِبْطَالَ التَّدَيُّنِ وَالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي، لَا إِبْطَالَ الْبِدَعِ الَّتِي شَوَّهَتِ الْإِسْلَامَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي شَأْنِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَسَاجِدِ: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) أَيْ فَكَيْفَ يَدْخُلُونَهَا مُفْسِدِينَ وَمُخَرِّبِينَ؟ وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِيهِ وَالْعِلْمِ بِدَرَجَةِ نَفْعِهِ أَوْ ضَرِّهِ. وَمَا كَانَتْ عِبَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا نَافِعَةً وَمَا كَانَ تَرْكُهَا إِلَّا ضَارًّا. وَمَا عَسَاهُ يُوجَدُ فِي عِبَادَاتِ الْأُمَمِ مِنَ الْخُرَافَاتِ الضَّارَّةِ، فَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِمَّا يُبْعِدُ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَيُوقِعُ فِي إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَمْزُوجَةَ بِنَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ أَهْوَنُ مِنَ التَّعْطِيلِ الْقَاضِي بِالْجُحُودِ الْمُطْلَقِ؛ لِذَلِكَ تَوَعَّدَ اللهُ - تَعَالَى - أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِهِ: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فَأَمَّا خِزْيُ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يُعْقِبُهُ الظُّلْمُ مِنْ فَسَادِ الْعُمْرَانِ، الْمُفْضِي إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَنَاهِيكَ بِظُلْمٍ يَحِلُّ الْقُيُودَ وَيَهْدِمُ الْحُدُودَ، وَيُغْرِي النَّاسَ بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الشُّرُورِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ ظُلْمُ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، إِذَا وَقَعَ هَذَا الظُّلْمُ كَانَ الْحَاكِمُ الظَّالِمُ مَخْذُولًا فِي حُكْمِهِ، وَالْفَاتِحُ الظَّالِمُ غَيْرَ أَمِينٍ فِي فَتْحِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَطْبِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ هَذَا الظُّلْمُ فَانْظُرْ مَاذَا حَلَّ بِالرُّومَانِيِّينَ، وَمَاذَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَبِمَاذَا انْتَهَى عُدْوَانُ الصَّلِيبِيِّينَ، وَكَيْفَ انْقَرَضَ حِزْبُ الْقَرَامِطَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَنَحْنُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، ذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْأَرْضُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُمَا نَاحِيَتَاهَا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أَيْ أَيَّ مَكَانٍ تَسْتَقْبِلُونَهُ فِي صَلَاتِكُمْ فَهُنَاكَ وَجْهُ الْقِبْلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهَا. وُوَجَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَابِدِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَجْهَ الْمَعْبُودِ، وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ

الْمَادَّةِ وَالْجِهَةِ وَاسْتِقْبَالُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلًا، شَرَعَ لِلنَّاسِ مَكَانًا مَخْصُوصًا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَاسْتِقْبَالِ وَجْهَهُ - تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ) . . . إِلَخْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ (الْجَلَالُ) فِي تَفْسِيرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْجِهَتَانِ الْمَعْلُومَتَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (55: 17) وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ مَا قَالَهُ (الْجَلَالُ) ، فَإِنَّ الْمُرَادَ عَلَى كُلِّ حَالٍ: أَيَّةُ جِهَةٍ اسْتَقْبَلْتَ وَتَوَجَّهْتَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِكَ فَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ كُلَّ الْجِهَاتِ لَهُ (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ) لَا يَتَحَدَّدُ وَلَا يُحْصَرُ، فَيَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، (عَلِيمٌ) بِالْمُتَوَجِّهِ إِلَيْهِ أَيْنَمَا كَانَ، أَيْ فَاعْبُدِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَيْنَمَا حَلَلْتَ، وَلَا تَتَقَيَّدْ بِالْأَمْكِنَةِ، فَإِنَّ مَعْبُودَكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ. أَقُولُ: بَلْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بَائِنًا مِنْهُ. وَأَزْيَدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيهِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ سَتَأْتِي فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فِي السَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا فِيمَنْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْقِبْلَةِ فَيُخْطِئُونَ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَالتَّعْلِيلُ يَصِحُّ فِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ أَيْنَمَا تَوَجَّهَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا يَقْصِدُ بِصَلَاتِهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ - تَعَالَى - مُقْبِلٌ عَلَيْهِ رَاضٍ عَنْهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَلْتَزِمُونَ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةً مُعَيَّنَةً كَالْتِزَامِ النَّصَارَى جِهَةَ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ يَقْتَضِي أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ كُلِّ قُطْرٍ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَجُّهَهَمْ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ لُغَةً، وَالْمَعْنَى: فَهُنَاكَ الْقِبْلَةُ الَّتِي يَرْضَاهَا لَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (58: 7) . وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ فِيهَا إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي الْهَيْكَلِ وَالْمَعْبَدِ الْمَخْصُوصِ، وَفِي إِبْطَالِ هَذَا إِزَالَةُ مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنْعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مِنْ أَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالٌ لَهَا بِالْمَرَّةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي ذَلِكَ التَّوَهُّمَ مِنْ حَيْثُ تُثْبِتُ لَنَا قَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الِاعْتِقَادِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، وَلَا تَحْصُرُهُ الْأَمْكِنَةُ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْبِقَاعِ

116

وَالْمَعَاهِدِ، وَلَا تَنْحَصِرُ عِبَادَتُهُ فِي الْهَيَاكِلِ وَالْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ لِانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللهِ وَإِبْطَالِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ فِي أَشْرَفِ الْمَعَاهِدِ عَلَى خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْبَيَانِ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى فِيهِ فُنُونًا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ قَدْ جَاءَتْ فِي خِلَالِ الْقَصَصِ وَسِيَاقِ الْأَحْكَامِ، تَقْرَأُ الْآيَةَ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عِظَةٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ وَاقِعَةٍ تَارِيخِيَّةٍ فِيهَا عِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ، فَتَرَاهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْبَيَانِ، وَلَكِنَّهَا بِاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا قَدْ أَزَالَتْ وَهْمًا أَوْ تَمَّمَتْ حُكْمًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقْتَبِسُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْبَيَانِ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهَا فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَطْلَقَ لَهُمُ اللُّغَةَ مِنْ عِقَالِهَا، وَعَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّفِيعَةِ مَا كَانَتْ تَسْتَحْلِيهِ أَذْوَاقُهُمْ، وَتَنْفَعِلُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَتَهْتَزُّ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ بِهِ أَرْيَحِيَّتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُوَفَّقُوا لِاقْتِبَاسِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْجَدِيدَةِ، عَلَى أَنَّ مَلَكَتَهُمْ فِي حُسْنِ الْبَيَانِ، قَدِ ارْتَفَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَسَنُعْطِي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ تَكُونُ مُنَاسَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ. ثُمَّ عَادَ الْكِتَابُ إِلَى النَّسَقِ السَّابِقِ فِي تَعْدَادِ مَخَازِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بَعْدَمَا ذَكَرَ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَا ذَكَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (2: 111) وَقَوْلِهِ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) (2: 113) . . . إِلَخْ، وَيَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعًا. وَإِلَى فِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ. وَوَجْهُ الْعُمُومِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ النَّصَارَى قَالَتِ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْأُمَمِ بَيْنَ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِسْنَادِ مُنْبِئٌ بِتَكَافُلِ الْأُمَمِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ كَلِمَةَ ((عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)) قَالَهَا بَعْضُ الْيَهُودِ لَا كُلُّهُمْ.، وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللهِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ رَدَّ عَلَى مُدَّعِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ: (سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) نَزَّهَ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِكَلِمَةِ (سُبْحَانَهُ) الَّتِي تُفِيدُ التَّنْزِيهَ، مَعَ التَّعَجُّبِ مِمَّا يُنَافِيهِ، كَأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُهُ - تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ - تَعَالَى - جِنْسًا يُمَاثِلُهُ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى عِلْمٍ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَإِنَّمَا يَكُونُ زَاعِمًا فِيهِ الْمَزَاعِمَ وَظَانًّا فِيهِ الظُّنُونَ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّانُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُ، وَهَذَا الْوَلَدُ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ -

117

تَعَالَى - لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُوَ السَّمَاءُ، أَوْ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَلَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مُجَانِسًا لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، قَانِتٌ لِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ، أَيْ خَاضِعٌ لِقَهْرِهِ مُسَخَّرٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا كَانُوا سَوَاءً فِي كَوْنِهِمْ مُسَخَّرِينَ لَهُ بِفِطْرَتِهِمْ، مُنْقَادِينَ لِإِرَادَتِهِ بِطَبِيعَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِتَخْصِيصِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ وَلَدًا مُجَانِسًا لَهُ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) نَعَمْ إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ كَمَا اخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا يَرْتَقِي بِالْمَخْلُوقِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْخَالِقِ، وَلَا يُعَرِّجُ بِالْمَوْجُودِ الْمُمْكِنِ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يُودِعُ سُبْحَانَهُ فِي فِطْرَةِ مَنْ شَاءَ مَا يُؤَهِّلُهُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) وَلَيْسَتْ شُبْهَةُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْبَشَرِ آلِهَةً بِأَمْثَلَ مِنْ شُبْهَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً، إِذِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَظْهَرُ مَثَلًا مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَسِيحِ، وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ. وَقَدْ غَلِّبَ فِي الْمِلْكِيَّةِ مَا لَا يَعْقِلُ فَقَالَ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) . . . إِلَخْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَسْخِيرِهَا لَهُ التَّسْخِيرُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ، لَا التَّسْخِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْكَاسِبُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَسْتَوِي فِي التَّسْخِيرِ الطَّبِيعِيِّ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ أَظْهَرُ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْقُنُوتَ لَهُ - تَعَالَى -، جَمَعَهُ بِضَمِيرِ الْعَاقِلِ فَغَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُنُوتِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي يَشْعُرُ بِمُوجَبِهِ وَيَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ قُنُوتٌ يَلِيقُ بِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَمُسَخَّرٌ لِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَبِالْقُنُوتِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّسْخِيرُ وَقَبُولُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِلْكِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهِيَ كَلِمَةُ (مَا) ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ وَعُرْفِ أَهْلِهَا أَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَعْقِلُ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقُنُوتِ عَبَّرَ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَمِمَّا يُعْهَدُ مِنْهُمْ وَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ لُغَةً وَعُرْفًا وَهَذَا كَمَا تَرَى مِنْ أَدَقِّ التَّعْبِيرِ وَأَلْطَفِهِ، وَأَعْلَى الْبَيَانِ وَأَشْرَفِهِ. ثُمَّ زَادَ هَذَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا فَقَالَ: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْبَدِيعَ بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ، فَهُوَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ " أَبْدَعَ " وَاسْتَشْهَدُوا بِبَيْتٍ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ جَاءَ فِيهِ (سَمِيعٌ) بِمَعْنَى مُسْمِعٍ، وَقَالُوا: قَدْ تَعَاقَبَ فَعِيلٌ وَمُفْعِلٌ فِي حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ كَحَكِيمٍ وَمُحْكِمٍ، وَقَعِيدٍ وَمُقْعِدٍ، وَسَخِينٍ وَمُسْخِنٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْإِبْدَاعَ هُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِصُورَةٍ مُخْتَرَعَةٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي سَبْقَ الْمَادَّةِ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَمَعْنَاهُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ يَقْتَضِي شَيْئًا مَوْجُودًا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيرُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُخْتَرِعُ

لَهُمَا وَالْمُوجِدُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ بِنَاؤُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَيَقُولُ: إِنَّ بَدِيعًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَبَدِيعَ السَّمَاوَاتِ مَعْنَاهُ: الْبَدِيعَةُ سَمَاوَاتُهُ، وَفِي هَذَا تَرْكٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي قَضَى فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ، أَنْ تَكُونَ مُتَضَمِّنَةً ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَحْكِيمَ الْقِيَاسِ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَحْكِيمٌ جَائِزٌ، فَمَا كَانَ لِلدَّخِيلِ فِي الْقَوْمِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَيَضَعَ لَهَا قَانُونًا يُبْطِلُ بِهِ كَلَامًا آخَرَ ثَبَتَ عَنْهُمْ، وَيَعُدُّهُ خَارِجًا عَنْ لُغَتِهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِ نُطْقِهِمْ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحَ الْمَعْنَى، حَكَمْنَا بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَشَوَاهِدُهُ الْمَسْمُوعَةُ أَكْثَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ أَمْرٍ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مَوْجُودًا، فَكُنْ وَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - بِإِيجَادِ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَجُودُهُ، كَأَمْرٍ يَصْدُرُ فَيَعْقُبُهُ الِامْتِثَالُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ إِلَّا حُصُولُ الْمُرَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ قَوْلٌ حَقِيقِيٌّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَجِيبٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَذْهَبَيْنِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُمَا: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَأْوِيلِ مِثْلِهِ مَعْرُوفَةٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِرْجَاعُ النَّقْلِيِّ إِلَى الْعَقْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَهَاهُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ مَعْنَى (يَكُونُ) يُوجَدُ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ (كُنْ) هُنَا هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ، فَالْأَوَّلُ مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَأَمْرُ التَّكْلِيفِ يُخَاطَبُ بِهِ الْعَاقِلُ فَيُسَمَّى الْمُكَلَّفَ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُهُ فَضْلًا عَنِ الْمَعْدُومِ، وَأَمْرُ التَّكْوِينِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَعْدُومِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلُهُ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي وَقْتِ كَذَا. فَتَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَسَبِ مَا فِي عِلْمِهِ فَيُوجَدُ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُسَمِّيهِ الْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَيُسَمِّي مُقَابِلَهُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَيَكُونُ) فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فَهُوَ يَكُونُ كَمَا أَرَادَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْعَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ يَكُونُ مَنْصُوبًا. ذَلِكَ شَأْنُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُوَ أَغْمَضُ أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَطْمَعَ فِيهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا السِّرِّ بِهَذَا التَّعْبِيرِ

118

الَّذِي يُقَرِّبُهُ مِنَ الْفَهْمِ بِمَا لَا يَتَشَعَّبُ فِيهِ الْوَهْمُ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ تَعْبِيرٌ آخَرُ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: (كُنْ فَيَكُونُ) ، فَالتَّوَالُدُ مُحَالٌ فِي جَانِبِهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَا يُعْهَدُ فِي حُدُوثِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَوَلُّدِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ لَا يَعْدُو طَرِيقَيْنِ: الِاسْتِعْدَادُ الْقَهْرِيُّ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ كَحُدُوثِ الْحَرَارَةِ مِنَ النُّورِ، وَتَوَلُّدِ الْعُفُونَةِ مِنَ الْمَاءِ يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ، وَالسَّعْيِ الِاخْتِيَارِيِّ كَتَوَلُّدِ النَّاسِ بِالِازْدِوَاجِ الَّذِي يُسَاقُونَ إِلَيْهِ مَعَ اخْتِيَارِهِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحَالًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَكَانَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُبْدِعُ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكُهُ وَمُسَخَّرَةٌ لِإِرَادَتِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (37: 180 - 182) . (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) قُلْنَا: إِنَّ السِّيَاقَ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تُجَاهَ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِي شُئُونِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ وَمَعَ النَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ، وَشَيْخُنَا لَا يَزَالُ يَجْعَلُ السِّيَاقَ وَاحِدًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَقَدْ قَالَ هُنَا مَا مِثَالُهُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فِي الْإِيْمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيْمَانِ، وَذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَا تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ عَدَمَ إِيْمَانِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَضُ شُبْهَةً عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَطَاعِنَهُمْ فِيهِ مُتَهَافِتَةٌ مَنْقُوضَةٌ بِطَعْنِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَخَبُّطِهِمْ فِي أَمْرِ كُتُبِهِمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ شُبْهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ جَرَوْا فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالضَّلَالِ فَقَالَ: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أَيِ الْجَاهِلُونَ بِالْكِتَابِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ لَا يَعْلَمُونَ كُفَّارُ مَكَّةَ خَاصَّةً وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَيُرَجِّحُ الْعُمُومَ كَوْنُ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ) كَمَا

كَلَّمَ هَذَا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا (أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ) مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحْنَاهَا. يَعْنُونَ مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (17: 90) الْآيَاتِ (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الرُّسُلِ الِاخْتِصَاصَ بِالْوَحْيِ مِنْ دُونِهِمْ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) لِأَنَّ الطُّغْيَانَ قَدْ سَاوَى بَيْنَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ تَوَاصَوْا بِمَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (51: 53) وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالَفَتَهُ هِيَ الْبَاطِلُ أَوِ الضَّلَالُ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاخْتَلَفَتْ وُجُوهُهُ؛ وَآثَارُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْكُلِّيِّ تَتَشَابَهُ فِيمَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجُزْئِيَّاتُ، وَالتَّشَابُهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَاسْتِبْعَادِ كَوْنِ وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا يُوحَى إِلَيْهِ وَاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا. وَمِثَالُ الِاخْتِلَافِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ طَلَبُ قَوْمِ مُوسَى رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً، وَطَلَبُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ أَمَامَهُمْ فَيَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ، وَالطَّلَبُ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْعِنَادُ وَالتَّعَنُّتُ لَا تُقَيَّدُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (6: 7) وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَصِفُونَهُمْ بِالسِّحْرِ ثُمَّ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ حِكَايَةِ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أَيْ أَنَّنَا لَمْ نَدَعْكَ يَا مُحَمَّدُ بِغَيْرِ آيَةٍ بَلْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْكَ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلرَّيْبِ طَرِيقًا إِلَى نَفْسِ مَنْ يَعْقِلُهَا. وَقَدْ قَالَ: (بَيَّنَّا الْآيَاتِ) وَلَمْ يَقُلْ: أَعْطَيْنَاكَ الْآيَاتِ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ اللهِ وَكَلَامِهِ، يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ بِطَرِيقٍ مَعْقُولٍ بَيِّنٍ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ الْفَهْمُ، وَلَا يَحَارُ فِيهِ الذِّهْنُ، وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صُنْعِهِ يَسْتَخْذِي لَهَا الْعَقْلُ وَيَخْضَعُ لَهَا؛ لِشُعُورِهِ بِأَنَّهَا مِنْ قُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّتِهِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَرَوْنَهُ فَوْقَ مَا يَعْقِلُونَ طَرِيقَانِ مَعْهُودَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ فِي الْوَاقِعِ أَوْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّحْرَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ؛ وَلِذَلِكَ ضَلَّتِ الْأُمَمُ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَضِلَّ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَعْقُولَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (2: 2) . نَعَمْ إِنَّ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةَ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ وَالْيَقِينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الَّذِينَ يُوقِنُونَ هُمُ الَّذِينَ خَلَصَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ كُلِّ رَأْيٍ وَتَقْلِيدٍ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَأَخَذُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْعَهْدَ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِدَلِيلِهِ وَبُرْهَانِهِ، فَهُمْ إِذَا قَامَ عِنْدَهُمُ الْبُرْهَانُ اعْتَقَدُوا وَأَيْقَنُوا إِيقَانًا، وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ الْيَقِينُ مِنْ مِثْلِهِمْ

119

لَا مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ أَوَّلًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُونَ لَهُ الدَّلِيلَ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدِيهِمْ قَالُوا بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا أَصَابُوهُ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَقَدُوا، رَضُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، وَإِذَا نَهَضَ لَهُمْ مُخَالِفًا لِتَقَالِيدِهِمْ، رَفَضُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِالتَّعِلَّاتِ الْمُنْتَحَلَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْجَمَاهِيرُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي الْأَثَرِ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَهْلِ الْيَقِينِ الَّذِينَ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَمُحِّصَتْ أَفْكَارُهُمْ، فَسَلِمُوا مِنْ عِلَّةِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ الْمَانِعَيْنِ لِشُعَاعِ الْحَقِّ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى الْعُقُولِ، وَلِحَرَارَتِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ الصُّدُورَ إِلَى الْقُلُوبِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَنْصَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ بِيَقِينِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُوقَ مِنْهُ، وَلَا السُّكُوتَ عَنِ الِانْتِصَارِ لَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَاجِعُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ طُبِعُوا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ تَنْزِلُ الشَّرَائِعُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَوْلَا اسْتِعْدَادُهُمْ لَهَا لَمَا شُرِعَتْ أَوْ لَمَا نَجَحَتْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَبَعٌ لَهُمْ وَعِيَالٌ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالشَّيْءِ الثَّابِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ مَنْ يَأْخُذُ بِهِ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ رِيَاحُ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ، بَلْ يَكُونُ الْآخِذُ بِهِ سَعِيدًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالْيَقِينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْعُلُومَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَغَيْرَهَا فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْعَقَائِدِ الْحَقِّ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَالشَّرَائِعِ الصَّحِيحَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (بَشِيرًا) لِمَنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ بِالسَّعَادَتَيْنِ، (وَنَذِيرًا) لِمَنْ لَا يَأْخُذُ بِهِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا وَخِزْيِ الْآخِرَةِ (وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أَيْ فَلَا يَضُرُّكَ تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ بِجُحُودِهِمْ إِلَى الْجَحِيمِ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُبْعَثْ مُلْزِمًا لَهُمْ وَلَا جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، فَيُعَدُّ عَدَمُ إِيْمَانِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْكَ تُسْئَلُ عَنْهُ، بَلْ بُعِثْتَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا بِالْبَيَانِ وَالدَّعْوَةِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا هَادِيًا بِالْفِعْلِ وَلَا مُلْزِمًا بِالْقُوَّةِ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مُعَلِّمِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ، وَلَا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَلَا مُكْرِهِينَ، فَإِذَا جَاهَدُوا فَإِنَّمَا يُجَاهِدُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ لَا إِكْرَاهًا عَلَيْهِ، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُطَالِبُ النَّاسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عَمَّا سَيُلَاقُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ، فَمِثْلُ هَذَا النَّهْيِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى الْيَوْمِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ قَبْرَيْهِمَا فَدَلَّهُ عَلَيْهِمَا، فَزَارَهُمَا وَدَعَا لَهُمَا وَتَمَنَّى لَوْ يَعْرِفُ حَالَهُمَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ: ((لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ)) ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ

120

فِي ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَثَرٌ مُعْضَلٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِذِكْرِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ صَارَ يَفْشُو فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحَ يُهْجَرُ وَيُنْسَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ وَحُكْمِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَافِي صُدُورَ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فَعَادَ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِقَالِ بِالْمُنَاسَبَاتِ الدَّقِيقَةِ. وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنْشِئِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ الَّذِينَ يَخُصُّونَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلَامِ بِمَوْضُوعٍ مُعَيَّنٍ وَيُسَمُّونَهَا فَصْلًا أَوْ بَابًا، وَلَكِنَّ لِلْقُرْآنِ أَغْرَاضًا يُبْرِزُهَا بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكُلَّمَا لَاحَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ أَوِ الدِّفَاعِ عَنْهُ، جَاءَ بِهِ يَجْذِبُ إِلَيْهِ الْأَذْهَانَ، وَيُسَارِقُ بِهِ خَطَرَاتِ الْقُلُوبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ التَّنَاسُقِ، وَحِفْظِ الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ، لِهَذَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِعِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيَتَجَلَّى الرُّوحُ الْوَاحِدُ فِي أَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التَّنَاسُبِ وَالتَّقَارُبِ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهُمْ مِنْ مُتِمَّاتِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ أَدَّى غَرَضًا مَقْصُودًا فِي ذَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهُمْ فِي عَرَضِ الْكَلَامِ كَالْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى سَرْدِ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رُجُوعًا إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ. وَقَالَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنَ الْقَبِيحِ أَشَدَّ التَّأَلُّمِ إِذَا وَقَعَ مِمَّنْ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرْجُو أَنْ يُبَادِرَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِيْمَانِ بِهِ، وَأَلَّا يَرَى مِنْهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْمُجَاحَدَةَ وَالْعِنَادَ؛ وَلِهَذَا كَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ رَأَى مِنْ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي مُجَاحَدَتِهِ أَشَدَّ مِمَّا رَأَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ جَاءَ لِمَحْوِ دِينِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَمَقْصِدِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَقْوِيمِ عِوَجِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ التَّقَالِيدِ، وَتَرْقِيَةِ الْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ إِلَى أَعْلَى مَا اسْتَعَدَّ لَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الِارْتِقَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالْأَدَبِيِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (3: 64) الْآيَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الصَّعْبِ - لَوْلَا إِعْلَامُ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ تَعْرِفَ دَرَجَةَ فَتْكِ التَّقْلِيدِ بِعُقُولِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِفْسَادِ الْأَهْوَاءِ لِقُلُوبِهِمْ، لِذَلِكَ سَلَّى اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ عَمَّا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَرَّفَهُ فِيهَا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى اتِّحَادِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ قَدْ تَعَصَّبَ لِتَقَالِيدِهِ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ جِنْسِيَّةً لَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا الدُّخُولَ فِيهَا وَقَبُولَ لَقَبِهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مُرَادٌ بِهِ مَا هُمْ

عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي غَيَّرُوا بِهَا وَجْهَ الدِّينِ الْوَاحِدِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يَحْكُمُ بِكُفْرِ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُ - تَعَالَى - فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) أَيِ اجْهَرْ بِقَوْلِ الْحَقِّ. وَهُوَ أَنَّ الْهُدَى الصَّحِيحَ هُوَ هُدَى اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ دُونَ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَفَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى وَتَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ فَإِنْ أَرَدْتَ اسْتِرْضَاءَهُمْ فَلَنْ يَرْضُوا عَنْكَ إِلَّا أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى كُتُبِهِمْ، وَجَعَلُوهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا لِدِينِهِمْ، (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الْيَقِينِ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْمُبِينِ، وَالَّذِي بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَحْوِيلِ الْقَوْلِ عَنْ مَعْنَاهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَنِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، (مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أَيْ فَإِنَّكَ لَنْ تَنْجَحَ وَلَنْ تَصِلَ إِلَى حَقِّكَ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ؛ وَلِأَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُكَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَا يُرْضِيهِ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ الْهَوَى طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَالضَّالُّ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا مُوَافَقَتُهُ عَلَى ضَلَالِهِ وَمُجَارَاتُهُ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى شُئُونَكَ وَيَنْصُرُكَ بِمَعُونَتِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكَ وَيَتَوَلَّاكَ مِنْ بَعْدِهِ؟ (أَقُولُ) : وَمَفْهُومُ هَذَا الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، أَنَّ ثَبَاتَهُ عَلَى هُدَى اللهِ الْمُؤَيَّدِ بِالْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَوَلِّيهِ - تَعَالَى - لَهُ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ شَرْطَ ((إِنْ)) لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ مُتَوَقَّعٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ فُرِضَ لِبَيَانِ مَضْمُونِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَفِيهِ أَنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَأْيِيدُ مُتَّبِعِي الْهُدَى عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ وَأَنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ الْمَنْصُورُونَ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دُونَهُ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : مَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْإِنْذَارَ الشَّدِيدَ الْمُوَجَّهَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، الْمُؤَيَّدِ مِنْهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْعِصْمَةِ، عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَعِيدُ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى الْأُمَّةِ، عَلَى حَدِّ ((إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ)) فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُخَاطِبُ النَّاسَ كَافَّةً فِي شَخْصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا جَرَى عُرْفُ التَّخَاطُبِ مَعَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ، فَقَدْ يُقَالُ لِلْمَلِكِ: إِذَا فَعَلْتَ هَذَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ كَذَا، وَالْمُرَادُ إِذَا فَعَلَتْهُ دَوْلَتُكَ أَوْ أُمَّتُكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِسْنَادُ عَمَلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وَهُوَ يَعْلَمُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ عَصَمَهُ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، إِنَّمَا جَاءَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ؛ لِيُرْشِدَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّنْ يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ وَيَأْخُذُ بِهَدْيِهِ، فَهُوَ يُرْشِدُنَا بِهَذَا التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ إِلَى الصَّدْعِ بِالْحَقِّ وَالِانْتِصَارِ لَهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَنْ يُخَالِفُهُ، مَهْمَا قَوِيَ حِزْبُهُمْ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، وَإِنَّهُ لَتَهْدِيدٌ تَرْتَعِدُ مِنْهُ فَرَائِصُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا

121

أَنِسُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ضَعْفًا فِي الْحَقِّ، كَأَنْ تَرَكُوا الْجَهْرَ بِهِ أَوِ الدِّفَاعَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ إِنْكَارِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ وَلَغَطِ النَّاسِ بِهِمْ، فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَرَفَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَلِيُّ أَهْلِهِ وَنَاصِرُهُمْ، لَا يَخَافُ فِي تَأْيِيدِهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِمَنْ يُسَمِّيهِمُ النَّاسُ عُلَمَاءَ وَعَارِفِينَ فِي سُكُوتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمُجَارَاتِهِمْ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا كَلِمَاتٌ يَتَلَقَّفُونَهَا وَعَادَاتٌ يَتَقَلَّدُونَهَا، لَا حُجَّةَ لِلْأَحْيَاءِ فِيهَا سِوَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَيِّتِينَ دَرَجُوا عَلَيْهَا. (قَالَ) : وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْعِلْمِ عِنْدَ الضَّالِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ، وَقَدْ نُفِيَ عَنْهُ كَوْنُهُ عِلْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) (53: 23) وَبِقَوْلِهِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (2: 78) فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ، وَاتَّبَعَ مَا وَجَدَ عَلَيْهِ السَّابِقِينَ، بِدُونِ بَيِّنَةٍ يَعْرِفُ بِهَا وَجْهَ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَنْظُرُ فِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَقَدِ اتَّبَعَ الْهَوَى بَعْدَ الَّذِي جَاءَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَاءَ بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالنَّكَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَلَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ، اللهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَا عَرَفْنَاهُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) الصِّلَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) الْآيَةَ، وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا سَبَقَهَا مِنْ إِيئَاسِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ آيَةَ: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى) قَدْ سَلَّتْ مَا كَانَ يُخَالِجُ النُّفُوسَ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِيْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْطِقُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرْجَى إِيْمَانُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا هُوَ عِلَّةُ الرَّجَاءِ وَمَنَاطُ الْأَمَلِ، وَهُوَ تِلَاوَةُ كِتَابِهِمْ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَعَدَمُ الْجُمُودِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالتَّقَالِيدِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِالْأَمَانِيِّ وَالظُّنُونِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ نَفْسُكَ

تُحَدِّثُكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيْمَانِ بِمَا جِئْتَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ مَا عِنْدَهُمْ وَيُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُمْ وَأُصُولَ شَرَائِعِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَقْتَلِعُ جُذُورَ دِينِ الْوَثَنِيِّينَ وَيَمْحُوهُ مَحْوًا، فَيَكُونُ الْوَثَنِيُّونَ أَجْدَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمُعَانَدَتِكَ وُمُجَاحَدَتِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَلْحَقُوا بِدِينِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ، وَأَلْصَقُوا بِهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْعَادَاتِ مَا غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ فَهْمٍ، وَجَعَلَهُمْ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ بِغَيْرِ عَقْلٍ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَبْعَدَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيْمَانِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً فَلَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الْجُمُودُ عَلَى عَادَاتٍ صَارَتْ مُمَيِّزَةً لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَزَالُ فِيهِمْ نَفَرٌ يُرْجَى مِنْهُمْ تَدَبُّرُ الشَّيْءِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُمُ (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وَهُمْ (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) ، أَيْ يَفْهَمُونَ أَسْرَارَهُ وَيَفْقَهُونَ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ. وَفَائِدَةَ نَوْطِ التَّكْلِيفِ بِهِ، لَا يَتَقَيَّدُونَ فِي ذَلِكَ بِآرَاءِ مَنْ سَبَقَهُمْ فِيهِ، وَلَا بِتَحْرِيفِهِمْ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، (أُولَئِكَ) هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّرَقِّي فِي الدِّينِ، وَإِقَامَةِ قَوَاعِدِهِ عَلَى الْأَسَاسِ الْمَتِينِ، وَ (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يُزِيلُ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ الْجَاهِلِينَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لِهَذِهِ السَّعَادَةِ، الْمَحْرُومُونَ مِمَّا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجْدِ وَالسِّيَادَةِ، سَوَاءً كَانَ كُفْرُهُمْ بِتَحْرِيفِهِ لَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ التَّقْلِيدِيَّةَ، أَمْ بِإِهْمَالِهِ اكْتِفَاءً بِقَوْلِ عُلَمَائِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) لِلْهُدَى الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : عَبَّرَ عَنِ التَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ بِالتِّلَاوَةِ حَقَّ التِّلَاوَةِ لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التِّلَاوَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، وَالتَّعْبِيرُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَكَمَ بِنَفْيِ رِضَاهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْيًا مُؤَكَّدًا لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا مُجَرَّدَ التِّلَاوَةِ وَتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْأَلْفَاظِ، لَا يَعْقِلُونَ عَقَائِدَهُ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ حِكَمَهُ وَمَوَاعِظَهُ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الرُّؤَسَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَقُولُونَ، فَلَا عَجَبَ إِذَا أَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ وَلَا ضَرَرَ فِي إِعْرَاضِهِمْ. وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّهُمْ لِتَدَبُّرِهِمْ وَفَهْمِهِمْ أَسْرَارَ الدِّينِ، وَعِلْمِهِمْ بِوُجُوبِ مُطَابَقَتِهَا لِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، يَعْقِلُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ مَصْلَحَةِ الْبَشَرِ فِي تَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَفِي نِظَامِ مَعَايِشِهِمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِإِيْمَانِ أَمْثَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ أَفَادَ حُكْمًا جَدِيدًا وَإِرْشَادًا عَظِيمًا، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَتْلُو الْكِتَابَ لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَلَا حَظَّ لَهُ مِنَ الْإِيْمَانِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ أَسْرَارَهُ وَلَا يَعْرِفُ هِدَايَةَ اللهِ فِيهِ. وَقِرَاءَةُ الْأَلْفَاظِ لَا تُفِيدُ الْهِدَايَةَ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ يَفْهَمُ

مَدْلُولَاتِهَا كَمَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُ وَالْمُعَلِّمُ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَهْمَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرِ، وَمَا التَّصَوُّرُ إِلَّا خَيَالٌ يَلُوحُ وَيَتَرَاءَى ثُمَّ يَغِيبُ وَيَتَنَاءَى، وَإِنَّمَا الْفَهْمُ فَهْمُ التَّصْدِيقِ وَالْإِذْعَانِ مِمَنْ يَتَدَبَّرُ الْكِتَابَ مُسْتَهْدِيًا مُسْتَرْشِدًا مُلَاحِظًا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِيَأْخُذَ بِهِ فَيَهْتَدِي وَيَرْشَدُ، وَالْمُقَلِّدُونَ مَحْرُومُونَ مِنْ هَذَا فَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِنَّمَا الْهِدَايَةُ عِنْدَهُمْ مَحْصُورَةٌ فِي كَلَامِ رُؤَسَائِهِمُ الدِّينِيِّينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مَيِّتِينَ. وَإِذَا كُنَّا نَعْتَبِرُ بِمَا قَصَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (12: 111) فَإِنَّنَا نَعْرِفُ حُكْمَ أَهْلِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ - تَعَالَى - مِمَّا ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا نَعْرِفُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (47: 24 (وَقَوْلِهِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (38: 29) فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ لَمْ تَحُلْ دُونَ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ كَمَا أُنْبِئَتْ لِلتَّحْذِيرِ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) (2) وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَتْلُو أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ هِدَايَتِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ حَاضِرِي الدَّرْسِ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أُنْزِلَ لِذَلِكَ وَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَاللهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ يَقُولُ إِنَّهُ أَنْزَلَهُ: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (38: 29) ، فَالْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ يُصَرِّحَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أُخِذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجُعِلَ مَعْنَاهُ - أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُطَالِبُ عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَذَكُّرٍ. وَقَدْ جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَصِفُ حَالَ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِرُ تَرَاقِيَهُمْ)) وَقَدْ سَمَّاهُمْ شِرَارَ الْخَلْقِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ قَدِ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ الْأَغَانِي وَالْمُطْرِبَاتِ، وَإِذَا طَالَبْتَ أَحَدَهُمْ بِالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَاحْتَجَّ عَلَيْكَ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا فَلَانٌ أَوْ حُلْمٍ رَآهُ فُلَانٌ، وَهَكَذَا انْقَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ

وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (30: 47) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (23: 68، 69) ، وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ مَثَلًا رَجُلًا يُرْسِلُ كِتَابًا إِلَى آخَرَ فَيَقْرَؤُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ هَذْرَمَةً أَوْ يَتَرَنَّمُ بِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ إِجَابَةَ مَا طَلَبَ فِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ الرَّسُولَ أَوْ غَيْرَهُ: مَاذَا قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِيهِ، وَمَاذَا يُرِيدُ مِنْهُ؟ أَيَرْضَى الْمُرْسِلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِهَذَا أَمْ يَرَاهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ؟ فَالْمَثَلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يُقَاسُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُرْسَلُ لِأَجْلِ وَرَقِهِ، وَلَا لِأَجْلِ نُقُوشِهِ، وَلَا لِأَجْلِ أَنْ تُكَيِّفَ الْأَصْوَاتُ حُرُوفَهُ وَكَلِمَهُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ مُرَادَ الْمُرْسَلِ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِهِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ بِالْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ بِالتَّدَبُّرِ، وَأَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ - وَلَوْ قَلِيلَةً - بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمَنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْقَارِئِينَ أَنْ يَقْرَءُوا لَهُ الْقُرْآنَ وَيُفْهِمُوهُ مَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ التَّشْكِيكِ فِيهِ. أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - الْحُجَجَ الدَّامِغَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ نَادَاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْغُرُورِ الْمَانِعِ فِي الْإِيْمَانِ فَقَالَ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، وَقَدْ سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فِي أَوَّلِ الْمُحَاجَّةِ ثُمَّ أُعِيدَ هُنَا لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَدَبُّرِ الْكِتَابِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ هُوَ كُفْرٌ بِهِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ كَرَّمَهُ رَبُّهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّعُوبِ بِإِيتَائِهِ الْكِتَابَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْهُ كَحَظِّ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. فَإِذَا كَانَ ابْتَدَأَ الْعِظَةَ وَالدَّعْوَةَ بِذِكْرِ هَذَا التَّفْضِيلِ لِتَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْأَنْظَارُ، وَتُصْغِيَ إِلَيْهَا الْأَسْمَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (2: 47) فَلَا غَرْوَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا التَّفْضِيلَ

123

ثَانِيًا: بَعْدَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ لِإِزَالَةِ مَا رُبَّمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِيَاءِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْفِيرِ عَمَّا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي يَتَحَامَاهُ الْبُلَغَاءُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إِعَادَةِ الشَّيْءِ لِإِفَادَةِ مَا لَا يُسْتَفَادُ بِدُونِهِ. كَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ فَذْلَكَةُ الْقِصَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ تَعْتَذِرُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ بِأَنَّ بَعْضَ سَلَفِكُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَهُ وَيَتَدَبَّرُونَهُ، وَأَنَّكُمُ اسْتَغْنَيْتُمْ بِتَدَبُّرِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَنْ أَنْ تَفْهَمُوا وَتَتَدَبَّرُوا، فَإِنَّهُ يَوْمٌ لَا يُغْنِي فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَيُؤَيِّدُ الْآيَةَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) . . . إِلَخْ، وَإِذَا كَانَ لَا يُجْزِي فَهْمُ سَلَفِكُمْ عَنْكُمْ أَنَّكُمْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، فَلَا تَنْفَعُكُمْ شَفَاعَتُهُمْ أَيْضًا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدَاءٌ تَفْتَدُونَ بِهِ، وَتَجْعَلُونَهُ مُعَادِلًا لِمَا فَرَّطْتُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ بِالْمُكَفِّرَاتِ تُؤْخَذُ عَدْلًا عَمَّا فَرَّطُوا فِيهِ وَبِشَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ شَيْءٌ آخَرُ، ثُمَّ قَطَعَ حَبْلَ رَجَائِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ فَقَالَ: (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِمْ نَصْرٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأُولَى مَا يُغْنِي عَنِ الْإِطَالَةِ هُنَا، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ قَدِ اخْتَلَفَ تَفَنُّنًا، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ مَنْفِيَّةَ الْقَبُولِ، وَتَأَخَّرَ ذِكْرُ الْعَدْلِ غَيْرَ مَأْخُوذٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْيُ قَبُولِ الْعَدْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ نَفِيُ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ ثَانِيًا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَذَا التَّفَنُّنِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَمَنْ مَنَعَ الْعِوَضَ فِي الْآخَرِ، لَزِمَهُ مَنْعُ الشَّفَاعَةِ، فَإِنْ جَوَّزَهَا جَوَّزَهُ. (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَّنَ شُئُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ لِبِشَارَةِ رُسُلِهِمْ بِهِ، وَشُئُونَهُمْ فِي التَّلَاعُبِ بِدِينِهِمْ وَشُئُونَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَصْلٍ وَنَسَبٍ يُجِلُّهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ جَمِيعًا، وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَنَسَبُهُ، فَهُوَ فِي هَذَا السِّيَاقِ يُبَيِّنُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ - وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ - الْمُحْتَكِرِينَ لِلْوَحْيِ فِي قَوْمِهِمْ وَالْمُفَضِّلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْعَرَبِ بِنَسَبِهِمْ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حُجَّةً لَمَا قَامَتْ هَذِهِ

124

الْحُجَّةُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْمِهِ، إِذِ الْمِلَّةُ فِي الْأَصْلِ وَاحِدَةٌ وَالنَّسَبُ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا النِّعْمَتَيْنِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَحَالِ غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا السِّيَاقِ: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (2: 146) وَجَرَى شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ عَلَى طَيَّتِهِ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ وَمَا قَبْلَهُ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ. كَانَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، ذَكَرَ حَقِّيَّةَ الْكِتَابِ وَكَوْنَهُ مِنْ نُصُوعِ الْبُرْهَانِ بِحَيْثُ يَدْفَعُ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ أَوْ يَتَسَامَى إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيْمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيْمَانِ بِهِ، وَأَطَالَ الْحِجَاجَ وَالْمُنَاظَرَةَ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْضِعَ الرَّجَاءِ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيْمَانِ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَهُمْ فِي أَهْلِ الدِّينِ، وَصَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَكُتُبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا نَسُوا، وَعَلَّمَهُمْ مَا جَهِلُوا، وَأَصْلَحَ لَهُمْ مَا حَرَّفُوا وَزَادَهُمْ مَعْرِفَةً بِأَسْرَارِ الدِّينِ وَحِكْمَتِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِمَا كَفَرُوا، وَفِي مَوْضِعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا آمَنُوا، قَالَ - تَعَالَى - فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: (أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (26: 197) وَقَدْ جَاءَتْ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ جُمُودِ الْقَرَائِحِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْبَلَاغَةِ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَمِنْ فَسَادِ الْأَذْهَانِ بِالتَّعَوُّدِ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، فَكَانَ يُبْدَأُ لَهُمُ الْمَعْنَى وَيُعَادُ، وَيُسَاقُ إِلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِطُرُقٍ بَيِّنَةٍ، وَيُؤَكَّدُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ تَبْعُدُ بِهِ عَنْ قَبُولِ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَكَانَ مِمَّا حُجُّوا بِهِ التَّذْكِيرُ بِحَالِ سَلَفِهِمُ الْأَنْبِيَاءِ وَبِحَالِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ عِصْيَانِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ بَلْ قَتْلِهِمْ فِي عَهْدِهِمْ، وَالْغُرُورِ بِانْتِظَارِ شَفَاعَتِهِمْ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) وَمَا بَعْدَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَضَمَّنُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهِمْ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمَا بَنَيَا لَهُمُ الْكَعْبَةَ مَعْبَدَهُمُ الْأَكْبَرَ، وَكَانُوا فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ قَدِ اخْتَلَطُوا بِالْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ الَّتِي تَعْرِفُ لَهُمْ هَذَا النَّسَبَ. وَإِنَّكَ لَتَرَى الْكَلَامَ هُنَا جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالْإِشَارَةِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ حِدَّةِ الْفِكْرِ وَصَفَاءِ الْأَذْهَانِ وَدِقَّةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْوِجْدَانِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَافَّةً يُجِلُّونَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَعْتَقِدُونَ نُبُوَّتَهُ، وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ مِنْهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ فِي قِصَّتِهِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْعَرَبِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، فَتِلْكَ حُجَجُ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ لِإِصْلَاحِ دِينِهِمْ وَتَرْقِيَتِهِمْ فِيهِ، وَدِينُ اللهِ وَاحِدٌ فِي جَوْهَرِهِ، وَهَذِهِ حُجَجُهُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي جَاءَ لِمَحْوِهَا مِنَ الْأَرْضِ وَإِثْبَاتِ نَقِيضِهَا، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ

وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَدْ أَقَامَ الْحُجَجَ عَلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. قَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ، أَقُولُ: أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَظْهَرُهَا فِي مُتَعَلِّقِ " إِذْ " هُنَا قَوْلَانِ: (1) أَنَّهُ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ وَمِنْ أَمْثَالِهِ وَهُوَ " اذْكُرْ " إِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ " وَاذْكُرْ " لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِقَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ (إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) . . . إِلَخْ، وَإِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ لِلْمُكَلَّفِينَ (وَاذْكُرُوا) وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. (2) أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، وَالْكَلِمَاتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ وَعَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا مَضْمُونُهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَأَقَامَهُ كُلَّهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ، ابْتَلَاهُ اللهُ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ)) . وَاسْتَنْبَطَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْعَدَدِ مِنْ أَرْبَعِ سُوَرٍ لَيْسَ فِيهَا خِطَابٌ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَالَ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ: جَعَلَ التَّكْلِيفَ بِالْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَتُعْرَفُ بِهَا عَادَةً، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلِمَاتِ مَا هِيَ وَلَا الْإِتْمَامَ كَيْفَ كَانَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْهَمُ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ، وَأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِثْبَاتِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَامَلَ إِبْرَاهِيمَ مُعَامَلَةَ الْمُبْتَلِي أَيِ الْمُخْتَبِرِ لَهُ لِتَظْهَرَ حَقِيقَةُ حَالِهِ وَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَثَرٌ لَهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فَضْلُهُ بِإِتْمَامِهِ مَا كَلَّفَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ وَإِتْيَانِهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. هَذَا هُوَ الْمُبَادِرُ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينِ لَمْ يَأْلُوا فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَاتِ وَالْخَبْطِ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا خِصَالُ الْإِيْمَانِ وَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلِمَاتِ إِلَى الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ الَّتِي رَآهَا وَاسْتَدَلَّ بِأُفُولِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابٌ، وَحَاشَ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا قَالَ: (هَذَا رَبِّي) تَمْهِيدًا لِلْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (6: 83) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَعْلُ اللهِ إِيَّاهُ إِمَامًا وَتَكْلِيفُهُ بِإِقَامَةِ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرِهِ وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ مُفَسِّرٌ لِلْإِبْهَامِ فِيهَا. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَمَرُهُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْأَمْرُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ جَعَلُوهَا عَشْرًا؟ وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ الْخِصَالُ الْعَشْرُ الَّتِي تُسَمَّى خِصَالَ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالْاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ إِيرَادِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِ (الْجَلَالِ) فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَاتِ إِنَّهَا الْخِصَالُ الْعَشْرُ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْجَرَاءَةِ الْغَرِيبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذَا مِمَّا أَدْخَلَهُ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ

لِيَتَّخِذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا، وَأَيُّ سَخَافَةٍ أَشَدُّ مِنْ سَخَافَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - ابْتَلَى نَبِيًّا مِنْ أَجْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِتْمَامِهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالتَّمْهِيدِ لِجَعْلِهِ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَأَصْلًا لِشَجَرَةِ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ لَوْ كُلِّفَ بِهَا صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ لَسَهُلَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا عَظِيمًا؟ وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُؤْخَذُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ وَلَا يَنْبَغِي تَعْيِينُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَهُوَ صَفْوَةُ الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ فِي سُورْيَا كِتَابًا عَقِبَ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ بِخِصَالِ الْفِطْرَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فَكَيْفَ يُخَالِفُهُ فِيهِ؟ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ فِي ذَلِكَ وَأَطْنَبَ فِي مَدْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ كِتَابَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: ((الشَّيْخُ رَشِيدٌ يُجِيبُ هَذَا الْحَيَوَانَ)) . . . فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ - وَكَانَ صَدِيقًا لِي - كِتَابًا لَطِيفًا كَانَ مِمَّا قُلْتُهُ فِيهِ عَلَى مَا أَتَذَكَّرُ: إِنَّنَا لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْتَزَمَ مُوَافَقَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كُلِّ مَا يُرْوَى عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ عِنْدَهُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ؟ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده: إِنَّهُ يُجِلُّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا يُصَدِّقُهَا، وَلَمَّا كَانَتْ مِثْلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَوِ الطَّعْنِ فِي أَيِّ عَالِمٍ بِأَنَّهُ خَالَفَ فُلَانًا الصَّحَابِيَّ أَوِ الْإِمَامَ فُلَانًا مِمَّا يَرُوجُ فِي سُوقِ الْعَوَامِّ، نَذْكُرُ هُنَا مَا قَالَهُ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ (الْكَلِمَاتِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ مُقِرًّا لَهُ، قَالَ هَذَا: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، (قَالَ) : وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ اهـ. الْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ يُدْلِي بِهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهِيَ الْحَقُّ. ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَتَمَّ الْكَلِمَاتِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - (قَالَ) لَهُ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) وَقَدْ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِمَامَةَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - وَاصْطِفَائِهِ لَا بِسَبَبِ إِتْمَامِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّ الْإِمَامَةَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تُنَالُ بِكَسْبِ الْكَاسِبِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا فَائِدَةُ الِابْتِلَاءِ: فَهِيَ تَعْرِيفُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا اخْتَصَّهُ اللهُ بِهِ، وَتَقْوِيَةٌ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِمَامَتُهُ لِلنَّاسِ بِدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ - وَكَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ عَمَّتْهُمْ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ - فَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ الْإِيْمَانُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ

الرِّسَالَةِ، وَتَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، فَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْهَا دِينُ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا بَشَّرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِجَعْلِهِ إِمَامًا لِلنَّاسِ؟ (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أَيْ قَالَ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَهُوَ إِيجَازٌ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَرَى إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي دُعَائِهِ هَذَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا يَعْلَمُ مِنْ أَنَّ بَقَاءَ وَلَدِهِ بَقَاءٌ لَهُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ يَكُونُ هُوَ عَلَيْهَا، لِيَكُونَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْبَقَاءِ جَسَدًا وَرُوحًا. وَمِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (14: 40) وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي طَلَبِهِ، فَلَمْ يَطْلُبِ الْإِمَامَةَ لِجَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ بَلْ لِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ وَفِي هَذَا مُرَاعَاةٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ أَيْضًا. وَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ، فَمَنْ خَالَفَ فِي دُعَائِهِ سُنَنَ اللهِ فِي خَلِيقَتِهِ أَوْ فِي شَرِيعَتِهِ، فَهُوَ غَيْرُ جَدِيرٍ بِالْإِجَابَةِ، بَلْ هُوَ سَيِّئُ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ لِأَنْ يُبْطِلَ لِأَجْلِهِ سُنَّتَهُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ أَوْ يَنْسَخَ شَرِيعَتَهُ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَإِتْمَامِ الدِّينِ. وَبِمَاذَا أَجَابَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ دَعَاهُ هَذَا الدُّعَاءَ؟ (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنَّنِي أُعْطِيكَ مَا طَلَبْتَ، وَسَأَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَلَكِنَّ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَفِي الْعِبَارَةِ مِنَ الْإِيجَازِ مَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا. وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي الْجَوَابِ بِذِكْرِ الْمَانِعِ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظُّلْمُ لِتَنْفِيرِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الظُّلْمِ وَتَبْغِيضِهِ إِلَيْهِمْ لِيَتَحَامَوْهُ وَيُنَشِّئُوا أَوْلَادَهُمْ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى التَّبَاعُدِ عَنْهُ لِكَيْلَا يَقَعُوا فِيهِ فَيُحْرَمُوا مِنْ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ وَأَشْرَفُهَا، وَلِتَنْفِيرِ سَائِرِ النَّاسِ مِنَ الظَّالِمِينَ وَتَرْغِيبِهِمْ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اعْتَادُوا الْاقْتِدَاءَ بِالرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُحَرِّفُونَ أَوْ يُؤَوِّلُونَ الْأَحْكَامَ لِتُطَابِقَ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَدْ دَرَجُوا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا عَدَا عَصْرَ النُّبُوَّةِ وَمَا قَارَبَهُ، كَعَصْرِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ شَهَادَةِ التَّارِيخِ الَّتِي لَا تُرَدُّ. أَقُولُ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا أَشَدُّ أَنْوَاعِهِ قُبْحًا وَضَرَرًا وَهُوَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، وَمِنْهُ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) وَ (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (2: 254) وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى الْحَصْرِ أَوِ الْقَصْرِ، وَمَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقِرِّينَ بِالرِّسَالَةِ غَيْرُ أَهْلٍ لِإِمَامَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةُ بَاطِلٍ وَشَرٍّ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَإِذَا كَانَ فُقَهَاؤُنَا يَقُولُونَ: بِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُنْبَذُ عَهْدُهُ إِلَّا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ دُونَ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، فَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ؛ لَا لِأَنَّ الظَّالِمَ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ

فِي اخْتِيَارِهِ وَبَيْعَتِهِ الْعَدَالَةَ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ أَيْضًا. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : الْإِمَامَةُ الصَّحِيحَةُ وَالْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ فِيمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْأَرْوَاحُ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَلَكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تَمْلِكُ عَلَى صَاحِبِهَا طُرُقَ الْعَمَلِ فَتَسُوقُهُ إِلَى خَيْرِهَا وَتَزَعُهُ عَنْ شَرِّهَا، وَلَا حَظَّ لِلظَّالِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ الرَّسْمِ وَأَهِلُ الْخِدَاعِ وَالِانْخِدَاعِ بِالظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ يَصِفُونَ أَعْمَالَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ بِالرَّسْمِيَّةِ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَذَكَرَ لَنَا فِي كِتَابِهِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) (16: 20) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (11: 75) وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا شَيْئًا مِنْ زِيِّهِ وَصِفَةِ ثِيَابِهِ، وَلَا وَصَفَ أَنْوَاعَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، بَلْ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُ الصَّالِحَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ. قَالَ: وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا أُصُولِيًّا، وَهُوَ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الْخِلَافَةِ فِيمَا اشْتَرَطُوا الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ، وَنُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ (رح) كَانَ يُفْتِي سِرًّا بِجَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَيُسَاعِدُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ عَلَى مَا كَانَ يَنْزِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ. اكْتَفَى الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الدَّرْسِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَلِّلُ إِبَاءَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، بِاعْتِقَادِ عَدَمِ صِحَّةِ إِمَامَتِهِمْ، وَعَدَمِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِمْ، وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْإِمَامَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَلَوِيِّينَ خَاصَّةً. ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا أَئِمَّةَ الْعِلْمِ وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَرْعَوُوا عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِالظَّالِمِينَ حَتَّى بَعْدَ هَذَا التَّحْذِيرِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِهِ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ فَإِنَّهُمْ ظَلُّوا عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ وَهُمُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ يَدَّعُونَ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِمْ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ، وَتَحَرِّي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. اكْتَفَى الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي الدَّرْسِ، وَنَزِيدُهَا إِيضَاحًا فَنَقُولُ: قَدْ غَلَبَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَاءُ السَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ، حَتَّى إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ، فَقَدْ سُجِنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَاوَلُوا إِكْرَاهَهُ عَلَى قَبُولِ الْقَضَاءِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ إِقْبَالِ النَّاسِ عَلَى الْأَخْذِ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ وَلَمْ يَقْبَلْ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَضُرِبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ سَبْعِينَ سَوْطًا لِأَجْلِ فَتْوَى لَمْ تُوَافِقْ غَرَضَ السُّلْطَانِ، نَقَلَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ عَنْ شُذُورِ الْعُقُودِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَنَقَلَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِ عَهْدِهِ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الْجُمُعَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِعُذْرِهِ. وَسُعِيَ بِهِ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ عَمُّ

أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا يَرَى أَيْمَانَ بَيْعَتِكُمْ هَذِهِ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ جَعْفَرٌ وَدَعَا بِهِ وَجَرَّدَهُ وَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ، وَمُدَّتْ يَدُهُ حَتَّى انْخَلَعَتْ كَتِفُهُ، وَارْتَكَبَ مِنْهُ أَمْرًا عَظِيمًا. وَخَبَرُ طَلَبِ هَارُونَ الرَّشِيدِ الشَّافِعِيَّ لِلْقَضَاءِ وَإِبَائِهِ وَاخْتِفَائِهِ ثُمَّ هَرَبِهِ مَشْهُورٌ، وَسَبَبُهُ الْوَرَعُ. وَأَشْهَرُ مِنْهُ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَحَبْسُهُ وَضَرْبُهُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ؛ لِيَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَهَكَذَا عَامَلَ الْمُلُوكُ الظَّالِمُونَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ وَبَلَغُوا مِنْهُمْ وَمِنَ النَّاسِ بِظُلْمِهِمْ مَا أَرَادُوا مِنْ إِفْسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعِي الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ الْيَوْمَ اتِّبَاعَهُمْ كَانُوا أَقَلَّ تَوَغُّلًا وَإِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنْ أَكْثَرِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّكَ لَتَرَى أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَعًا لِأَهْوَاءِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَهَدَاهُ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ - بَلْ هُمُ الْغُرَبَاءُ فِي الْأَرْضِ. وَالْعِبْرَةُ فِي مِثْلِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَدَءُوا بِتَحْكِيمِ أَهْوَائِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوُا النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ اسْتَمَالُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ آذَوْهُ وَأَهَانُوهُ، وَلَكِنْ كَانَ الدِّينُ وَطَلَبُ الْحَقِّ غَالِبًا عَلَى أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ فِي عُلُوٍّ وَرِفْعَةٍ، وَكَأَنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ السِّيَاطُ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ. وَلَوْ أَمَرَ أَحَدُ السَّلَاطِينِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِضَرْبِ عَالَمٍ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى عَهْدَ بَيْعَتِهِ صَحِيحًا أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا لَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ (كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ) لَمَا رَأَيْتَ لَهُ رِفْعَةً وَلَا احْتِرَامًا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأَعْرَضَ الْجَمِيعُ عَنْهُ. فَأَمَّا الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ بِفَضْلِهِ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِوُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا الْغَوْغَاءُ مِنَ الْعَامَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِقُلُوبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَ كُفْرَهُ أَوْ فِسْقَهُ وَابْتِدَاعَهُ. ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالظَّالِمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِقْنَاعِ الْعَامَّةِ بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الَّذِي يَنْطِقُ بِأَنَّ عَهْدَ اللهِ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَغَشُّوهُمْ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفَ النَّاسُ سِيرَتَهُمْ مَعَ خُلَفَاءِ زَمَنِهِمْ لَمَا تَيَسَّرَ غِشُّهُمْ. هَذَا وَإِنَّ الْحَاكِمِينَ عَلَى عَهْدِهِمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعٍ لَهُمَا فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُهُ السُّوقَةُ، وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُونَ، بَلْ يَشْرَعُونَ لِلنَّاسِ أَحْكَامًا جَدِيدَةً يَأْخُذُونَهَا مِنْ قَوَانِينِ الْأُمَمِ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَلَا تُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ، وَيُلْزِمُونَ عُمَّالَهُمْ وَقُضَاتَهُمُ الْحُكْمَ بِهَا بِاسْمِهِمْ لَا بَاسِمَ اللهِ - تَعَالَى - (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5: 45)

125

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوْ أَيُّهَا النَّاسُ - إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا أَيْ ذَا أَمْنٍ، بِأَنْ خَلَقْنَا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى حَجِّهِ وَالرِّحْلَةِ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَصَوْبٍ مَا كَانَ بِهِ مَثَابَةً لَهُمْ، وَمِنِ احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَعَدَمِ سَفْكِ دَمٍ فِيهِ مَا كَانَ بِهِ أَمْنًا، وَلَفْظُ (الْبَيْتَ) مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا، كَانَ كُلُّ عَرَبِيٍّ يَفْهَمُ هَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ. يُذَكِّرُ اللهُ - تَعَالَى - الْعَرَبَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَوِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ جَعْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَرْجِعًا لِلنَّاسِ يَقْصِدُونَهُ ثُمَّ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، وَمَأْمَنًا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بِلَادِ الْمَخَاوِفِ الَّتِي يُتَخَطَّفُ النَّاسُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَبِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْبَيْتِ وَأَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي هَذَا التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي تَقْرِيرِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانِ بِنَائِهَا عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي تَحْتَرِمُهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اخْتَارَ الْمَثَابَةَ عَلَى نَحْوِ الْقَصْدِ وَالْمَزَارِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَثَابَةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَزِيَادَةً فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: ثَابَ الْمَرْءُ إِلَى الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَصَدَهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَيْتُ مَعْبَدًا وَشِعَارًا عَامًّا، كَانَ النَّاسُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِزِيَارَتِهِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ يَشْتَاقُونَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَثُوبَ إِلَيْهِ فَعَلَ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِجُثْمَانِهِ، رَجَعَ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَكَوْنُهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِرُجُوعِ بَعْضِ زَائِرِيهِ إِلَيْهِ، وَحَنِينِ غَيْرِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ لَهُ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ جَعْلُهُ أَمْنًا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرَى قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يُزْعِجُهُ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ حُبِّ الِانْتِقَامِ وَالتَّفَاخُرِ بِأَخْذِ الثَّأْرِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) قَدْ يُقَالُ: مَا وَجْهُ الْمِنَّةِ عَلَى الْعَرَبِ عَامَّةً بِكَوْنِ الْبَيْتِ أَمْنًا لِلنَّاسِ وَالْفَائِدَةُ

فِيهِ إِنَّمَا هِيَ لِلنُّجَاةِ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ مَا مِنْ قَوِيٍّ إِلَّا وَيُوشِكُ أَنْ يُضْطَرَّ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِلَى مَفْزَعٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ لِدَفْعِ عَدُوٍّ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ لِهُدْنَةٍ يَصْطَلِحُ فِي غُضُونِهَا مَعَ خَصْمٍ يَرَى سِلْمَهُ خَيْرًا مِنْ حَرْبِهِ، وَوَلَاءَهُ أَوْلَى مِنْ عَدَائِهِ، فَبِلَادٌ كُلُّهَا أَخْطَارٌ وَمَخَاوِفُ لَا رَاحَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمِنَّةَ عَلَى الْعَرَبِ إِذْ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا آمِنًا بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (أَوْلَمَ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (29: 67) . قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَاتَّخَذُوا) بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى (جَعَلْنَا) وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، أَيْ وَقُلْنَا اتَّخِذُوا أَوْ قَائِلِينَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَحُذِفَ الْقَوْلُ لِلْإِيجَازِ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ ذِهْنُ التَّالِي أَوِ السَّامِعِ الْمَأْمُورِينَ حَاضِرِينَ وَالْأَمْرُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِلْمَاضِي بِصُورَةِ الْحَاضِرِ لِيَقَعَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَأَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ كَمَا وُجِّهَ إِلَى سَلَفِهِمْ فِي عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ وَآلُ بَيْتِهِ وَمَنْ أَجَابَ دَعَوْتَهُمَا إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ، لَا أَنَّهُ حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ سِيقَتْ لِلْفُكَاهَةِ وَالتَّسْلِيَةِ بَلْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ (اتَّخِذُوا) أَمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَعْنَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَمَا قُلْنَا يَتَضَمَّنُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ قَدِ اتَّخَذُوا مَقَامَهُ مُصَلًّى؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ شُعُورِ الْخَلَفِ بِشَرَفِ عَمَلِ السَّلَفِ وَبَعْثِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. وَ (مَقَامِ) اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْقِيَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ مَوَاقِفُ الْحَجِّ كُلُّهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةٌ وَالْجِمَارُ. اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْمُصَلَّى، فَقَالَ مَنْ فَسَّرَ الْمَقَامَ بِالْحَجَرِ: إِنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَيْ صَلَاتُنَا الْمَخْصُوصَةُ وَعَلَيْهِ (الْجَلَالُ) وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ الْآيَةَ)) وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُصَلَّى مَوْضِعُ الصَّلَاةِ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ، وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتُهُ مُطْلَقَةً، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُرَجِّحُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ مِنْ دَلِيلِهِ أَنَّ الْحِجْرَ لَا يَسَعُ لِلصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ: ((إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى خَلْفَهُ)) فَكَيْفَ يُتَّخَذُ مِنْهُ مَحَلٌّ لِلصَّلَاةِ؟ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا ((هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)) بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ هُوَ الْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ

وَإِنَّمَا صَلَاتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَاكَ مَشْرُوعَةٌ، عَلَى أَنَّ فِي سَنَدِ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ مَقَالًا، وَالْخِطَابُ فِي الْأَصْلِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُنَا هَذِهِ صَلَاتَهُمْ، فَحَمْلُ الْمَقَامِ عَلَى جَمِيعِ شَعَائِرِ الْحَجِّ الَّتِي قَامَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ صَلَاةَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى عِبَادَتِهِ كَمَا يَشْمَلُ صَلَاتَنَا وَمَنَاسِكَنَا أَظْهَرُ، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ تَشْمَلُ الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ عَلَى اللهِ، وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَيَقُولُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: حَيْثُمَا صَلَّيْتَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَثَمَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ صَلَاةَ رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ أَمْكَنَ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُلَاصِقًا لِلْكَعْبَةِ فَأَخَّرَهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عِنْدَهُمْ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مَزِيدُ كَلَامٍ فِي هَذَا الْمُقَامِ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) . . . إِلَخْ؛ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالشَّيْءِ وَصَّاهُ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمَا أَنْ يُطَهِّرَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ وَسَمَّاهُ بَيْتَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَعْبَدًا يُعْبَدُ فِيهِ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَجِبُ أَنْ يُطَهِّرَاهُ مِنْهُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الرِّجْسِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ كَالشِّرْكِ وَأَصْنَامِهِ وَاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَالتَّنَازُعِ. وَتَخْصِيصُ اللهِ - تَعَالَى - ذَلِكَ الْبَيْتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، لَيْسَ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي مَوْقِعِهِ وَلَا فِي أَحْجَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْتًا لِلَّهِ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ بَيْتَهُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُصَلُّونَ، وَبِأَنْ يُعْبَدَ فِيهِ عِبَادَةً خَاصَّةً. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى مَوْجُودٍ غَيْبِيٍّ مُطْلَقٍ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي جِهَةٍ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى خَالِقِهِمْ وَشُكْرِهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَاسْتِمْدَادِ رَحْمَتِهِ وَمَعُونَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعْلِي مَدَارِكَهُمْ عَنِ التَّقَيُّدِ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى ضِيقِهَا وَعَنِ الِاسْتِخْذَاءِ لِمَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا، وَيَرْفَعُ نُفُوسَهُمْ عَنِ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَنْ عَيَّنَ لَهُمْ مَكَانًا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَسَمَّاهُ بَيْتَهُ رَمْزًا إِلَى أَنَّ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ تَحْضُرُهُ، فَإِذَا كَانَ الْحُضُورُ الْحَقِيقِيُّ مُحَالًا عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَحْضُرُهُ رَحْمَتُهُ الْإِلَهِيَّةُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى تِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، لَوْ وَجَدَ الْعَبْدُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَلَوْ كَلَّفَ اللهُ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ مُطْلَقًا - وَقَدْ عَلَّمَهُمْ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَإِرْشَادِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - لَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ وَالِاضْطِرَابِ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى ذَاتٍ غَيْبِيَّةٍ مُطْلَقَةً، وَلَوِ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ لِنَفْسِهِ عِبَادَةً تَلِيقُ بِهَذَا التَّنْزِيهِ الَّذِي أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ وَصَدَّقَهُ الْعَقْلُ، لَمَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الْآخَرُونَ، وَبِذَلِكَ يَفْقِدُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تَجْمَعُهُمْ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ إِذْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ بَيْتًا يَقْصِدُونَهُ

وَيَثُوبُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَإِنْ بَعُدَ الْمَكَانُ، وَلَا يُخْشَى عَلَى الْمُؤْمِنِ تَوَهُّمُ الْحُلُولِ فِي ذَاتِ اللهِ بِنِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَفَى سُبْحَانَهُ كُلَّ إِيهَامٍ بِقَوْلِهِ: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (2: 115) . أَقُولُ: وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُ السَّمَاءِ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ لِإِشْعَارِهَا بِعُلُوِّهِ - تَعَالَى - عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ لِلْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يُؤَيِّدُ مَا رَجَّحَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ جَعْلِ الْمُصَلَّى بِالْمَعْنَى الْعَامِّ أَيِ الْمَعْبَدِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ طَهَّرَاهُ بِأَمْرِهِ لِأَدَاءِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِيهِ كَالطَّوَافِ، وَفِي مَعْنَاهُ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْعُكُوفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جَمْعُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مَأْمُورًا هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَنَا. (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مِنَّةٍ أَوْ مِنَنٍ أُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهِيَ مَا تَضَمَّنَهُ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جَعْلِ الْبَلَدِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا سَبَقَتْ بِهِ الْمِنَّةُ مِنْ جَعْلِ الْبَيْتِ آمِنًا. وَقَدْ فَسَّرَ الْجَلَالُ (أَمْنًا) بِقَوْلِهِ: ذَا أَمْنٍ: مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهُ بِالسُّوءِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْنَى كَوْنِهِ ذَا أَمْنٍ، أَيْ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِيهِ يَكُونُ آمِنًا مِمَّنْ يَسْطُو عَلَيْهِ فَيَظْلِمُهُ أَوْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْبَيْتِ لَمْ يَطُلْ زَمَنُ تَعَدِّيهِ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ زَمَنٌ طَوِيلٌ لَمْ يَكُنِ الْبَيْتُ فِيهِ آمِنًا، بَلْ لَمْ يَنْجَحْ أَحَدٌ تَعَدَّى عَلَيْهِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّعَدِّي الْقَصِيرُ هُوَ التَّعَدِّي الْعَارِضُ عَلَى بَعْضِ مَنِ اعْتَصَمَ فِيهِ (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الرِّزْقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِنَقْلِ جِبْرِيلَ الطَّائِفَ مِنْ حَوْرَانَ فِي بِلَادِ الشَّامِ أَوْ فِلَسْطِينَ إِلَى مَكَانِهِ الْآنَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبَيْتِ وَبَلَدِهِ مَكَّةَ لَا فِي الطَّائِفِ. وَرِزْقُ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْمُصَدِّقَيْنِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) (28: 57) فَالثَّمَرَاتُ تُجْبَى وَتُجْمَعُ مِنْ حَيْثُ تَكُونُ وَتُسَاقُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهَا مِنَ الطَّائِفِ أَوْ مِنَ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ أَوِ الرُّومِ مَثَلًا، وَكَوْنُهَا تُجْمَعُ مِنْ أَقْطَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَظْهَرُ فِي صِدْقِ الْآيَةِ وَأَدَلُّ عَلَى التَّسْخِيرِ. وَحَدِيثُ نَقْلِ الطَّائِفِ لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْصَقُوهُ بِكِتَابِ اللهِ وَجَعَلُوهُ تَفْسِيرًا لَهُ وَهُوَ بَرِئٌ مِنْهُ وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي صِدْقِهِ إِلَيْهِ.

126

وَقَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ بِدُعَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ وَقَدْ جَعَلَ رِزْقَ الدُّنْيَا عَامًّا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (17: 20) وَلَكِنَّ تَمْتِيعَ الْكَافِرِ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمُرِ الْقَصِيرِ، وَمَصِيرُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى شَرِّ مَصِيرٍ، وَذَلِكَ جَوَابُ اللهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَيْ وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ أَيْضًا فَأُمَتِّعُهُ بِهَذَا الرِّزْقِ قَلِيلًا، وَهُوَ مُدَّةُ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَسُوقُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ سَوْقًا اضْطِرَارِيًّا لَا يَقْصِدُهُ هُوَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ كُفْرَهُ يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ غَايَاتٍ وَآثَارًا اضْطِرَارِيَّةً تُفْضِي وَتَنْتَهِي إِلَيْهَا بِطَبِيعَتِهَا بِحَسَبِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا يُفْضِي الْإِسْرَافُ فِي الشَّهَوَاتِ أَوِ التَّعَبُ أَوِ الرَّاحَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا. فَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ مُخْتَارُونَ فِي كُفْرِهِمْ وَفِسْقِهِمْ، فَعِقَابُهُمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ عَلَى أَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ سَيَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ اللهِ بِمَا أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ، وَأَسَاسُهَا أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ وَأَعْمَالَهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ لَهَا الْأَثَرُ الَّذِي يُفْضِي بِهِ إِلَى سَعَادَتِهِ أَوْ شَقَائِهِ اضْطِرَارًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بِقَضَاءِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدِ اضْطَرَّ الْكَافِرَ إِلَى الْعَذَابِ وَأَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، إِذْ جَعَلَ الْأَرْوَاحَ الْمُدَنَّسَةَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ مَحِلَّ سُخْطِهِ، وَمَوْضِعَ انْتِقَامِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا جَعَلَ أَصْحَابَ الْأَجْسَادِ الْقَذِرَةِ عُرْضَةً لِلْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَالْمَعَارِفُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ كَسْبِيَّةً، وَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنِ اخْتِيَارِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ، وَقَدْ هَدَاهُ اللهُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا نَزَّلَهُ مِنَ الْوَحْيِ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَعَرَّضَهَا لِلْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا كَسْبِيٌّ، وَأَثَرُهَا ضَرُورِيٌّ. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَنْ كَفَرَ) . . . إِلَخْ إِيجَازٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - اسْتَجَابَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَ لَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَهُوَ إِيجَازٌ لَمْ يَكُنْ يُعْهَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ مَا كَانَ يُخَاطِبُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُعْتَبِرِينَ، كَمَا تَكَرَّرَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.

127

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ذَكَّرَ اللهُ - تَعَالَى - الْعَرَبَ أَوَّلًا بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْبَيْتِ، أَنْ جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَبِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَلَدِ الْبَيْتِ وَاسْتِجَابَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُعَاءَهُ إِذْ جَعَلَهُ بَلَدًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ الثَّمَرَاتُ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ فَيَتَمَتَّعُ أَهْلُهُ بِهَا، وَهِيَ نِعَمٌ يَعْرِفُونَهَا لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَذَكَرَ عَهْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِأَنْ يُطَهِّرَا بَيْتَهُ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ؛ لِيُنَبِّهَهُمْ بِإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَبِتَطْهِيرِهِ لِأَجْلِ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ وَعِبَادَتِهَا الْفَاسِدَةِ وَعَنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الذَّمِيمَةِ كَطَوَافِ الْعُرْيَانِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بَعْدَ هَذَا بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبَيْتَ بِمُسَاعَدَةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَذَكَرَ لَهُمْ مِنْ دُعَائِهِمَا هُنَالِكَ مَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَيَجْذِبُهُمْ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ الَّذِي يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ وَيُفَاخِرُونَ بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَنْتَسِبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِحَقٍّ وَتَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَرَى أَنَّهَا أَهْدَى مِنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ بَنَيَا هَذَا الْبَيْتَ لِعِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَصَّاصِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ جَاءُونَا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا، وَتَفَنَّنُوا فِي رِوَايَاتِهِمْ عَنْ قِدَمِ الْبَيْتِ، وَعَنْ حَجِّ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِ، وَعَنِ ارْتِفَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي وَقْتِ الطُّوفَانِ، ثُمَّ نُزُولِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ يُنَاقِضُ أَوْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهِيَ فَاسِدَةٌ فِي تَنَاقُضِهَا وَتَعَارُضِهَا، وَفَاسِدَةٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا، وَفَاسِدَةٌ فِي مُخَالَفَتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَسْتَحِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إِدْخَالِهَا

فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَإِلْصَاقِهَا بِهِ وَهُوَ بَرِئٌ مِنْهَا. وَمِنْ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِي زَمَنِ آدَمَ، وَوَصْفُهُمْ حَجَّ آدَمَ إِلَيْهَا وَتَعَارُفَهُ بِحَوَّاءَ فِي عَرَفَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ قَدْ ضَلَّتْ عَنْهُ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَحَاوَلُوا تَأْكِيدَ ذَلِكَ بِتَزْوِيرِ قَبْرٍ لَهَا فِي جُدَّةَ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّهَا هَبَطَتْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا بِسَبَبِ الطُّوفَانِ وَحُلِّيَتْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ كَانَ يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ - وَقِيلَ: زُمُرُّدَةً - مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ أَوْ زُمُرُّدِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ مُودَعَةً فِي بَاطِنِ جَبَلِ أَبِي قَبِيسٍ فَتَمَخَّضَ الْجَبَلُ فَوَلَدَهَا، وَأَنَّ الْحَجَرَ إِنَّمَا اسْوَدَّ لِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ الْحُيَّضِ لَهُ، وَقِيلَ: لِاسْتِلَامِ الْمُذْنِبِينَ إِيَّاهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ خُرَافَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ بَثَّهَا زَنَادِقَةُ الْيَهُودِ فِي الْمُسْلِمِينَ لِيُشَوِّهُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَيُنَفِّرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْهُ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : لَوْ كَانَ أُولَئِكَ الْقَصَّاصُونَ يَعْرِفُونَ الْمَاسَ لَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْهَجُ الْجَوَاهِرِ مَنْظَرًا وَأَكْثَرُهَا بَهَاءً، وَقَدْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ يُزَيِّنُوا الدِّينَ وَيُرَقِّشُوهُ بِرِوَايَاتِهِمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا رَاقَتْ لِلْبُلْهِ مِنَ الْعَامَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَرُوقُ لِأَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّرِيفَ - هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الشَّرَفِ الْمَعْنَوِيِّ - هُوَ مَا شَرَّفَهُ اللهُ - تَعَالَى -، فَشَرَفُ هَذَا الْبَيْتِ إِنَّمَا هُوَ بِتَسْمِيَةِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بَيْتَهُ، وَجَعْلِهِ مَوْضِعًا لِضُرُوبٍ مِنْ عِبَادَتِهِ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَا بِكَوْنِ أَحْجَارِهِ تَفْضُلُ سَائِرَ الْأَحْجَارِ، وَلَا بِكَوْنِ مَوْقِعِهِ يَفْضُلُ سَائِرَ الْمَوَاقِعِ، وَلَا بِكَوْنِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ عَالَمِ الضِّيَاءِ، وَكَذَلِكَ شَرَفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ لَيْسَ لِمَزِيَّةٍ فِي أَجْسَامِهِمْ وَلَا فِي مَلَابِسِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاصْطِفَاءِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ، وَتَخْصِيصِهِمْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا أَحْسَنَ زِينَةً وَأَكْثَرَ نِعْمَةً مِنْهُمْ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُشَيِّدُ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ - إِذْ قَالَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: ((أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ دَنَا فَقَبَّلَهُ)) رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ)) ثُمَّ قَبَّلَهُ. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَوَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)) وَحَدِيثُ عُمَرَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْمَرْفُوعَةَ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ سَنَدًا، وَمَا رُوِيَ مِنْ مُرَاجَعَةِ عَلِيٍّ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ الْحَجَرَ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّمَا اسْتِلَامُهُ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فِي مَعْنَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا إِلَى اللهِ الَّذِي لَا يُحَدِّدُهُ مَكَانٌ، وَلَا تَحْصُرُهُ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ غُرِزَ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ تَكْرِيمُ الْبُيُوتِ وَالْمَعَاهِدِ، وَالْآثَارِ وَالْمَشَاهِدِ الَّتِي تُنْسَبُ لِلْأَحْيَاءِ، أَوْ تُضَافُ إِلَى الْعُظَمَاءِ:

أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارَ لَيْلَى أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ لِلدِّيَارِ، فِي حَالِ غَيْبَةِ السَّاكِنِ وَالدِّيَارِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا حُرِمَتْ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُذْكِي نَارَ الْحُبِّ، وَتُهَيِّجُ الْإِحْسَاسَ وَالشُّعُورَ بِلَذَّةِ الْقُرْبِ، تُحَاوِلُ أَنْ تُذْكِيَ تِلْكَ النَّارَ، بِالتَّعَلُّلِ بِالْأَطْلَالِ وَالْآثَارِ، وَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا خَصَّصَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالتَّقْبِيلِ؟ فَإِنَّ كُلَّ مَشْعَرٍ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاعِرِ قَدْ خُصَّ بِمَزِيَّةٍ تُثِيرُ شُعُورًا دِينِيًّا خَاصًّا يَلِيقُ بِهِ، فَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا كَانَ الْوُقُوفُ وَالِاجْتِمَاعُ، وَتَعَارُفُ أَهْلِ الْآفَاقِ وَالْأَصْقَاعِ، مَخْصُوصًا بِعَرَفَةَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِقَاعِ؟ وَلِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالشَّعَائِرِ مَعَانٍ وَأَسْرَارٌ أُخْرَى عِنْدَ بَعْضِ الْخَوَاصِّ، لَا يَنْبَغِي شَرْحُهَا لِعَامَّةِ النَّاسِ. وَقَدْ جَعَلَ الْقُصَّاصُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَسْرَارَ، وَجَعَلُوا مَزِيَّةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَمَشَاعِرَهُ وَحَجَرَهُ الْمُكَرَّمَ مَحْصُورَةً فِي مُخَالَفَتِهَا لِسَائِرِ الْحِجَارَةِ، وَكَوْنِ أَصْلِهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَبَقِيَتْ حِجَارَتُهَا كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ بِضَاعَتُهُمُ الْمُزْجَاةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الدِّينِ إِلَّا هَذِهِ الرُّسُومَ الظَّاهِرَةَ، وَمِنْهَا كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ الْحَرِيرِيَّةُ الْمُزَرْكَشَةُ فَإِنَّهَا عِنْدَ عَامَّتِنَا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَإِنْ حَرَّمَ حُضُورَ احْتِفَالِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ (كَالْبَاجُورِيِّ) وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِذَاتِهَا فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بَلْ لِمَا فِي الِاحْتِفَالِ بِهَا مِنَ الْبِدَعِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَفِي جَمَلِهَا الَّذِي يُقَبِّلُ مِقْوَدَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيِّينَ الْمُدْهِنِينَ لَهُمْ، وَهَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ يَفْهَمُ الدِّينَ، وَيَأْخُذُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، مَا يُنَاسِبُ اسْتِعْدَادَ عَقْلِهِ، وَيَحْسُنُ فِي نَظَرِ جِيرَانِهِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْفَوْضَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُدِيرَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ أَهْلُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، فَيَضَعُونَ لَهُمْ نِظَامًا يُتَّبَعُ فِي تَعْمِيمِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3: 101) . وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْقَوَاعِدَ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ مَا يَقْعُدُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْأَسَاسِ أَوْ مِنَ السَّاقَاتِ، وَرَفْعُهَا: إِعْلَاءُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا أَوْ إِعْلَاؤُهَا نَفْسِهَا عَلَى الْخِلَافِ، وَ (مِنَ الْبَيْتِ) قَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيَرْفَعُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُرِيدَ بِ (الْبَيْتِ) الْعَرْصَةُ أَوِ الْبُقْعَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ (مِنْ) لِلْبَيَانِ: وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْبَيْتُ بِمَعْنَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَالْجُدْرَانِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (الْبَيْتِ) مَجْمُوعُ الْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفِي الْكَلَامِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَوَاعِدِ أَوَّلًا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ وَيُحَرِّكُهُ إِلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ مَا هِيَ؟ وَقَوَاعِدُ أَيِّ شَيْءٍ هِيَ؟ فَإِذَا جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَحْسَنَ وَقْعًا فِي النَّفْسِ، وَأَشَدَّ تَمَكُّنًا فِي الذِّهْنِ، وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ: فَهِيَ الْإِلْمَاعُ إِلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ مِنَ اللهِ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُسَاعِدًا لَهُ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) . . . إِلَخْ حِكَايَةٌ لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْبِنَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ ذَلِكَ، حُذِفَ الْقَوْلُ لِلْإِيجَازِ الَّذِي عُهِدَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ بَيَانٌ لِحَالِهِمَا وَقْتَئِذٍ، وَتَقَبَّلَ اللهُ الْعَمَلَ: قَبِلَهُ وَرَضِيَ بِهِ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لِأَقْوَالِنَا (الْعَلِيمُ) بِأَعْمَالِنَا وَبِنِيَّتِنَا فِيهَا. (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الْمُسْلِمُ وَالْمُسَلِّمُ وَالْمُسْتَسْلِمُ وَاحِدٌ وَهُوَ: الْمُنْقَادُ الْخَاضِعُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ: مَا يَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ - أَيِ الْإِخْلَاصُ فِي الِاعْتِقَادِ - أَيْ لَا يَتَوَجَّهُ الْمُسْلِمُ بِقَلْبِهِ إِلَّا إِلَى اللهِ وَلَا يَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا بِاللهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ مَرْضَاةَ اللهِ - تَعَالَى - لَا اتِّبَاعَ الْهَوَى وَإِرْضَاءَ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا يُرْضِيهِ - تَعَالَى - مِنَّا أَنْ نُزَكِّيَ نُفُوسَنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنُرَقِّيَ عُقُولَنَا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ، فَبِذَلِكَ نَكُونُ مَحِلَّ عِنَايَتِهِ - تَعَالَى - وَمُسْتَوْدَعَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَوْضِعَ كَرَامَتِهِ، وَمَنْ يَقْصِدُ بِأَعْمَالِهِ إِرْضَاءً لِشَهْوَتِهِ وَاتِّبَاعَ هَوَاهُ لَا يَزِيدُ نَفْسَهُ إِلَّا خُبْثًا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (25: 43) ؟ . وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَنْدَفِعُ لِمُعْظَمِ الْأَعْمَالِ بِسَائِقِ طَلَبِ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّذَّةِ وَهُوَ سَائِقٌ فِطْرِيٌّ، فَكَيْفَ يُنَافِيهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ. وَمِثَالُهُ طَلَبُ الْغِذَاءِ لِقِوَامِ الْجِسْمِ يَسُوقُ إِلَيْهِ التَّلَذُّذَ بِالطَّعَامِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ طَلَبُ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا يُطْلَبُ لِلَذَّةٍ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَلَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَلًّا لَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي دِيَانَةٍ أُخْرَى، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِنَا، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ نَافِعٌ لَنَا، وَقَدْ أَبَاحَ لَنَا مَا لَا ضَرَرَ فِي فِعْلِهِ وَلَا فِي تَرْكِهِ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ إِذَا قُصِدَ بِهَا مُجَرَّدُ اللَّذَّةِ، وَأَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا مَعَ اللَّذَّةِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَفُعِلَتْ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا، وَمِنْ نِيَّةِ الْمَرْءِ الصَّالِحَةِ فِي الزِّينَةِ وَالطِّيبِ أَنْ يَسُرَّ إِخْوَانَهُ بِلِقَائِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَقَرَّبَ

128

إِلَى امْرَأَتِهِ وَيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْهَوَى الْمَذْمُومُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْهَوَى الْبَاطِلُ، كَأَنْ يَتَزَيَّنَ الرَّجُلُ وَيَتَطَيَّبَ لِلْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ، أَوْ لِيَسْتَمِيلَ إِلَيْهِ النِّسَاءَ الْأَجْنَبِيَّاتِ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الزِّينَةُ مَذْمُومَةً شَرْعًا وَ ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) . دَعَا هَذَانِ النَّبِيَّانِ الْعَظِيمَانِ لِأَنْفُسِهِمَا بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَعَوَا بِذَلِكَ لِذَرِّيَّتِهِمَا فَقَالَا: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ كَإِسْلَامِنَا لِيَسْتَمِرَّ الْإِسْلَامُ لَكَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَتَعَاوُنِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَضَافَا الذُّرِّيَّةَ إِلَى ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِمَا مَعًا وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيُرَجِّحُهُ الْحَالُ وَالْمَحِلُّ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وَعَزْمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَنْ يَدَعَ إِسْمَاعِيلَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِسْلَامِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعَ هُوَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِهَذِهِ الذُّرِّيَّةِ بِأَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ - تَعَالَى - دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ فِيهَا مِنْهَا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (22: 78) وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ الَّذِي شَرَحْنَاهُ، فَمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الْمُسْلِمُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ بِهِ اسْمٌ فِي حُكْمِ الْجَامِدِ يُطْلَقُ عَلَى أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مَنْ يُولَدُ فِيهَا أَوْ يَقْبَلُ لَقَبَهَا مُسْلِمًا ذَلِكَ الْإِسْلَامَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَكُونُ مِنَ الَّذِينَ تَنَالُهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ جَرَى إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا، فَخَصَّاهُ بِبَعْضِ الذُّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَنْ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِسْلَامَ. (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أَيْ عَلِّمْنَا إِيَّاهَا عِلْمًا يَكُونُ كَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَالْمَنَاسِكُ: جَمْعُ مَنْسَكٍ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَفْصَحِ مِنَ النُّسُكِ (بِضَمَّتَيْنِ) وَمَعْنَاهُ غَايَةُ الْعِبَادَةِ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ النُّسُكِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ خَاصَّةً، وَالْمَنَاسِكِ فِي مَعَالِمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ، (وَتُبْ عَلَيْنَا) أَيْ وَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ لِنَتُوبَ وَنَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ حَالٍ أَوْ عَمَلٍ يَشْغَلُنَا عَنْكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (9: 118) أَوِ الْمَعْنَى: اقْبَلْ تَوْبَتَنَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ((وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)) وَتَابَ - بِالْمُثَنَّاةِ - كَثَابَ (بِالْمُثَلَّثَةِ) وَمَعْنَاهُ: رَجَعَ. وَيُقَالُ: تَابَ الْعَبْدُ: إِلَى رَبِّهِ أَيْ رَجَعَ

إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَافَ الذَّنْبِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللهِ أَيْ عَنْ طَرِيقِ دِينِهِ وَمُوجِبَاتِ رِضْوَانِهِ، وَيُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ اللهِ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ كَأَنَّ الرَّحْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَنْحَرِفُ عَنِ الْمُذْنِبِ بِاقْتِرَافِهِ أَسْبَابَ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا تَابَ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَعَطَفَ رَبُّهُ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ النَّاسِ، فَعَبْدُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرْتَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ مَا أَمَرْتَهُ بِتَرْكِهِ، وَصَدِيقُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَعْتَذِرُ إِذَا هُوَ قَصَّرَ فِي عَمَلٍ لَكَ فِيهِ فَائِدَةٌ عَمَّا فِي إِمْكَانِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ، وَوَلَدُكَ يَتُوبُ إِذَا قَصَّرَ فِي أَدَبٍ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؛ لِيَكُونَ فِي نَفْسِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا، وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ تَوْبَاتُ التَّائِبِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَفَهْمِ أَسْرَارِ شَرِيعَتِهِ، فَعَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ مُوجِبَاتِ سُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَسْبَابِ عُقُوبَتِهِ إِلَّا الْمَعَاصِيَ الَّتِي شَدَّدَتِ الشَّرِيعَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، وَإِذَا تَابُوا مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ فَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْهَا، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ سَيِّئٍ لَوَثَةً فِي النَّفْسِ تَبْعُدُ بِهَا عَنِ الْكَمَالِ، وَلِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ أَثَرًا فِيهَا يُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ وَصِفَاتِهِ، فَالتَّقْصِيرُ فِي الصَّالِحَاتِ يُعَدُّ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَهْبِطُ بِالنَّفْسِ وَتُبْعِدُهَا عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، فَهِيَ إِذَا قَصَّرَتْ فِيهَا تَتُوبُ، وَإِذَا شَمَّرَتْ لَا تَأْمَنُ النَّقَائِصَ وَالْعُيُوبَ، وَيَخْتَلِفُ اتِّهَامُ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ لِأَنْفُسِهِمْ بِاخْتِلَافِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصِفَاتِ النَّفْسِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي سَيْرِهَا، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكَمَالِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَمَعْنَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَاسْتِحْقَاقِ رِضْوَانِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ((حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ)) وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى التَّوْبَةِ الَّتِي طَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ - (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ الْكَثِيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِكَ - وَإِنْ كَثُرَ تَحَوُّلُهُمْ عَنْ سَبِيلِكَ - بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ إِلَيْكَ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهُمْ، الرَّحِيمُ بِالتَّائِبِينَ. (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالِارْتِقَاءِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُمْ وَيُعِدُّهُمْ لِظُهُورِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَابَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الدَّعْوَةَ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ ((أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى)) . . . إِلَخْ، ثُمَّ وُصِفَ هَذَا الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَعَظَمَةِ شَأْنِكَ، وَالدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ رُسُلِكَ إِلَى خَلْقِكَ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، أَوِ الْمُرَادُ آيَاتُ الْوَحْيِ الَّتِي تُنْزِلُهَا عَلَيْهِ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى تَفْصِيلِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَبَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. وَتِلَاوَتُهَا: ذِكْرُهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْسَخَ فِي النَّفْسِ وَتُؤَثِّرَ فِي الْقَلْبِ. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْكِتَابَ بِالْقُرْآنِ، وَالْحِكْمَةَ

129

بِالسُّنَّةِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى عُمُومِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ وَجْهٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِيمَا سَبَقَ دَلَائِلَ الْعَقَائِدِ وَبَرَاهِينَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَبَقَ - دُونَ الْوَحْيِ وَإِلَّا كَانَ مُكَرَّرًا. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَصْدَرُ كَتَبَ، يُقَالُ: كَتَبَ كِتَابًا وَكِتَابَةً، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا بُدَّ فِي إِصْلَاحِهَا وَتَهْذِيبِهَا مِنْ تَعْلِيمِهَا الْكِتَابَةَ، وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمُجَاوِرَةُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا اللَّحَاقُ بِهَا أَوْ سَبْقُهَا، حَتَّى تَكُونَ مِنَ الْكَاتِبِينَ مِثْلَهَا، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْرِفَةُ سِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَسْرَارُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّرَائِعُ وَمَقَاصِدُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِسِيرَتِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنْ أَرَادُوا مِنَ السُّنَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُفْهَمُ مِنِ اسْمِهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالسُّنَّةِ مَا يُفَسِّرُهَا بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَالْمُحَدِّثُونَ، فَلَا تَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهَا، فَالْحِكْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ مَا أَحَاطَ بِحَنَكَيِ الْفَرَسِ مِنَ اللِّجَامِ وَفِيهَا الْعِذَارَانِ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى مَا يُضْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ وَإِتْقَانُهُ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ يُحَقَّقُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ وَيَفْهَمُ أَسْرَارَهُ وَمَقَاصِدَهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (2: 269) وَلَنْ يَكُونَ أَحَدٌ دَاخِلًا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى يَقْبَلَ تَعْلِيمَ الْحِكْمَةِ مِنْ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ. عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّ تَعْلِيمَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ لَا يَكْفِي فِي إِصْلَاحِ الْأُمَمِ وَإِسْعَادِهَا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُقْرَنَ التَّعْلِيمُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالْحَمْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِحُسْنِ الْأُسْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَقَالَ: (وَيُزَكِّيهِمْ) أَيْ يُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَيَنْزِعُ مِنْهَا تِلْكَ الْعَادَاتِ الرَّدِيئَةَ، وَيُعَوِّدُهَا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الَّتِي تَطْبَعُ فِي النُّفُوسِ مَلَكَاتِ الْخَيْرِ، وَيُبَغِّضُ إِلَيْهَا الْقَبِيحَةَ الَّتِي تُغْرِيهَا بِالشَّرِّ، ثُمَّ خَتَمَا الدُّعَاءَ بِهَذَا الثَّنَاءِ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، الْعَزِيزُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا يُنَالُ بِضَيْمٍ، وَلَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرٍ، وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ أَحْسَنَ مَوْضِعٍ، وَيُتْقِنُ الْعَمَلَ وَيُحْسِنُ الصُّنْعَ، وَالسِّرُّ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُنَا إِزَالَةُ مَا رُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّهْنِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ، مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي دُعِيَ بِهَا لِلْعَرَبِ مُنَافِيَةٌ لِطَبَائِعِهِمْ، بَعِيدَةٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَإِنَّهُمْ جَمُدُوا عَلَى بَدَاوَتِهِمْ، وَأَلِفُوا غِلْظَتَهُمْ وَخُشُونَتَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، خُصَمَاءُ التَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، لَا يَخْضَعُونَ لِنِظَامٍ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا اسْتِعْدَادَ فِيهِمْ لِلْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْخُشُونَةِ وَالْقَسْوَةِ، فَيَجْعَلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟ لَوْلَا أَنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَالْمَسْئُولَ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.

130

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَهُ مِنِ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، وَأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ بِبِنَاءِ بَيْتِهِ وَتَطْهِيرِهِ لِعِبَادَتِهِ فَفَعَلَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَدْعُو بِمَا عُلِمَ مِنْهُ مَا هِيَ مِلَّتُهُ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا تَوْحِيدُ اللهِ وَإِسْلَامُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَعْظِيمُ الْبَيْتِ بِتَطْهِيرِهِ، وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ فِيهِ عَنْ بَصِيرَةٍ بِأَسْرَارِهَا تَجْعَلُ الْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ كَالْمَحْسُوسِ الْمُبْصَرِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أَيِ امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا؛ كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ مِلَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ وَتَفْخَرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ تَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَتَنْتَحِلُونَ لِأَنْفُسِكُمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالْوَسَاطَةِ! . قَالَ: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) بِهَذِهِ الْمِلَّةِ فَجَعَلْنَاهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لِجِوَارِ اللهِ بِعَمَلِهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا، وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ بِهَا. فَمِلَّةٌ جَعَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمَكَانَةَ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَجَنَى عَلَى إِدْرَاكِ عَقْلِهِ فَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَإِنْ خَسِرَ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: قَوْلُ (الْجَلَالِ) فِي تَفْسِيرِ (سَفِهَ نَفْسَهُ) أَيْ جَهِلَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ

131

لِلَّهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ، وَسَفِهَ: يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الْمُتَعَدِّي: اسْتَخَفَّ وَامْتَهَنَ وَأَخَّرَهُ (الْجَلَالُ) وَهُوَ الرَّاجِحُ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ (نَفْسَهُ) تَمْيِيزٌ لِفَاعِلِ (سَفِهَ) وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ، أَيْ حَمُقَتْ. وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ كَأَنَّهُ رَجَّحَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَأَقُولُ: سَفُهَ بِالضَّمِّ - كَضَخُمَ - سَفَاهَةً صَارَ سَفِيهًا، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ - كَتَعِبَ - سَفَهًا هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ دَائِمًا وَأَنَّ أَصْلَ سَفِهَ نَفْسَهُ بِالرَّفْعِ، فَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَسَفِهَ نَفْسًا، فَأُضِيفَتِ النَّفْسُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ غَبِنَ رَأْيَهُ. وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) (2: 142) . (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أَيِ اصْطَفَاهُ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ وَنَصَبَ لَهُ مِنْ بَيِّنَاتِهِ، فَأَجَابَ الدَّعْوَةَ وَ (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَ (الْجَلَالُ) قَدَّرَ كَلِمَةَ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ " إِذْ " كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: (اصْطَفَيْنَاهُ) وَقَدْ نَشَأَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ، فَأَرَاهُ اللهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ بَصِيرَتَهُ، فَنَفَذَتْ أَشِعَّتُهَا مِنَ الْعَالِمِ الشَّمْسِيِّ، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ رَبًّا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَبَهَرَهُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَأَفْحَمَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى. (وَوَصَّى بِهَا) أَيْ بِالْمِلَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ أَخِيرًا، (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) بَنِيهِ أَيْضًا، إِذْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِوَلَدِهِ: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ بِهِدَايَتِكُمْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْوَحْيَ فِيكُمْ (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُوا ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لِئَلَّا تَمُوتُوا فِيهَا فَتَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ بَيْنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا النَّهْيُ إِرْشَادَ مَنْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى عَدَمِ الْيَأْسِ وَأَنْ يُبَادِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ لِئَلَّا يَمُوتَ عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ انْتِقَالٌ إِلَى إِشْرَاكِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ وَصِيَّةُ يَعْقُوبَ، وَاخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ فَقَدْ كَانَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، فَانْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ وَالْإِلْحَاحِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْأُولَى فِي خِطَابِ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَةِ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْمُخْتَصَرَةِ لِجُمُودِ أَذْهَانِهِمْ وَاعْتِيَادِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ وَلَمْ يَقُلْ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ بَنِيهِمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ

133

أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَبْنَائِهِمَا مَعًا، وَهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) . ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَحُكْمَ الرَّاغِبِ عَنْهَا وَوَصِيَّتَهُ بَنِيهِ بِهَا، وَوَصِيَّةَ حَفِيدِهِ يَعْقُوبَ بَنِيهِ بِهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَنِي إِبْرَاهِيمَ كَانُوا يُوصَوْنَ بِمَا أَوْصَاهُمْ أَبُوهُمْ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ أَخَذَ الْوَصِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، وَذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الدَّقِيقَةِ. ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ أَمْرَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَيُؤَكِّدَهَا وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أَقُولُ: هَذَا إِضْرَابٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَانْتِقَالٌ إِلَى اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وُجِّهَ إِلَى الْيَهُودِ عَنْ وَصِيَّةِ جَدِّهِمْ يَعْقُوبَ لِآبَائِهِمُ الْأَسْبَاطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مَعْنَاهُ أَكُنْتُمْ غَائِبِينَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذِ احْتَضَرَ يَعْقُوبُ فَسَأَلَ بَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِهِ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ لِيُشْهِدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالسُّؤَالُ بِ (مَا) أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ بِ " مَنْ " لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا أُنْزِلَ مَنْزِلَتَهُ بِسَبَبٍ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَالسُّؤَالُ بِكَلِمَةِ (مَا) يَعُمُّ الْعَاقِلَ وَغَيْرَهُ، وَتَتَعَيَّنُ (مَا) فِي السُّؤَالِ عَنِ الْعَاقِلِ إِذَا أُرِيدَ وَصْفُهُ نَحْوَ (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) (26: 23) ؟ وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لِلنُّحَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَصْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَفْظِ ((الْعَاقِلِ)) شَرْعًا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتَهُ - تَعَالَى - تَوْقِيفِيَّةٌ، (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) عَرَّفُوا الْإِلَهَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِعِبَادَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ، وَدَعَوُا الْأُمَمَ إِلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ فَشَتْ فِيهِ عِبَادَةُ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سَحَرَةُ مُوسَى عِنْدَمَا آمَنُوا: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (7: 121 - 122) . وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ، ذُكِرَ مَعَ آبَائِهِ لِلتَّغْلِيبِ أَوْ لِتَشْبِيهِ الْعَمِّ بِالْأَبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ((عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَائِزٌ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَخِلَافًا لِجُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ (إِلَهًا وَاحِدًا) أَيْ نَعْبُدُهُ حَالَ كَوْنِهِ إِلَهًا وَاحِدًا لَا نُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا بِدُعَاءٍ، وَلَا تَوَجُّهٍ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ مُنْقَادُونَ مُذْعِنُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ (لَهُ) . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ مَا مَعْنَاهُ: خُلَاصَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَقِيدَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَتَكْرَارُ لَفْظِ (الْإِسْلَامِ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ حَقِيقَةِ الدِّينِ. ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدَّعِي أَنَّ لَهَا دِينًا خَاصًّا بِهَا وَأَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْقَبَائِلُ وَالشُّعُوبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كُلٌّ يَدَّعِي دِينًا خَاصًّا بِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ،

134

فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنَ التَّعَصُّبِ لِلتَّقَالِيدِ وَأَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَرُوحَهُ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَالْخُضُوعُ وَالْإِذْعَانُ لِهِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهَذَا كَانَ يُوصِي أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ أَبْنَاءَهُمْ وَأُمَمَهُمْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (42: 13)) فَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْجَهْلِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحُظُوظِ وَالْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالرُّؤَسَاءِ، فَالْقُرْآنُ يُطَالِبُ الْجَمِيعَ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى أَصْلَيْهِ، الْعَقْلِيِّ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالْقَلْبِيِّ: وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِ اللهِ الْقَيِّمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِسْلَامِ فِي عُرْفِنَا الْيَوْمَ، فَهُوَ لَقَبٌ يُطْلَقُ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ مُمَيِّزَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعَادِيَّةٌ تُمَيِّزُهُمْ عَنْ سَائِرِ طَوَائِفِ النَّاسِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِأَلْقَابٍ دِينِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّقَبِ الْعُرْفِيِّ عِنْدَ أَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ خَاضِعًا مُسْلِمًا لِدِينِ اللهِ مُخْلِصًا لَهُ أَعْمَالَهُ، بَلْ يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا عَلَى مَنِ ابْتَدَعَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ مَا يُنَافِيهِ، وَمَنْ فَسَقَ عَنْهُ وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. وَمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ لِأَنَّهُ رُوحُ كُلِّ دِينٍ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّقَبِ لَا مَعْنَى لَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى: وَبِهِ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ خَصَّصَ الرَّغْبَةَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَيْلِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ " أَمْ " تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ كَمَا هُنَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِالِانْتِقَالِ، فَفِيهَا مَعْنَى الْإِضْرَابِ. (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، أَقُولُ: الْأُمَّةُ هُنَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَآبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِذَا بَدَأْتَ بِالْأَفْضَلِ قُلْتَ: إِبْرَاهِيمُ وَأَوْلَادُهُ وَأَحْفَادُهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. (قَدْ خَلَتْ) مَضَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ (لَهَا مَا كَسَبَتْ) مِنْ عَمَلٍ تُجْزَى بِهِ (وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) مِنْ عَمَلٍ تُجْزَوْنَ بِهِ، وَلَا يُجْزَى أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ (وَلَا تُسْئَلُونَ) يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سُؤَالَ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلَا يُسْئَلُونَ عَمَّا تَعْمَلُونَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ يُسْأَلُ عَنْ عَمَلِهِ وَيُجَازَى بِهِ دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ،

135

فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ هُوَ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَكَانَ قُدْوَةً لَهُ فِيهِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ لِبَنِيهِمُ؛ اسْتِدْرَاكًا عَلَى مَا عَسَاهُ يَقَعُ فِي أَذْهَانِ ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أَنَّ هَذَا السَّلَفَ الَّذِي لَهُ عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْمَكَانَةُ يَشْفَعُ لَهُمْ فَيَنْجُونَ وَيَسْعَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِبَادِهِ أَلَّا يُجْزَى أَحَدٌ إِلَّا بِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَلَا يُسْأَلَ إِلَّا عَنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلُ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 36 - 39) . . . إِلَخْ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَعَمِلَ بِمَا يُرْشِدُونَ إِلَيْهِ كَانَ نَاجِيًا وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُمْ فِي النَّسَبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَدْيِهِمْ كَانَ هَالِكًا وَإِنْ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِأَقْرَبِ سَبَبٍ (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (11: 46) وَإِذَا لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِمْ ذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ بِهِمْ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ صِلَةٌ إِلَّا الْأَقْوَالَ الْكَاذِبَةَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ (بِالْمَحْسُوبِيَّةِ) ، وَيَقُولُونَ فِي مُخَاطَبَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ: ((الْمَحْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ)) وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ الْجَائِعُ يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ وَالِدُهُ دُونَهُ، وَالظَّمْآنُ يَرْوَى بِشُرْبِ وَالِدِهِ. (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)

وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ فَالْعَاصِي يَنْجُو بِصَلَاحِ وَالِدِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَهِيَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ لَا يُفِيدُ مَعَهَا تَأْوِيلُ الْمَغْرُورِينَ وَلَا غُرُورُ الْجَاهِلِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَقِيقَةَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيْمَانِ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَجْدَرُ بِإِجْلَالِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى بَيَانِ وَحْدَةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّفَاقِ النَّبِيِّينَ فِي جَوْهَرِهِ، وَبَيَانِ جَهْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ، وَقِصَرِ نَظَرِهِمْ عَلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ كُلُّ دِينٍ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، أَوِ التَّقَالِيدِ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَبَعُدَ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْآخَرِ أَشَدَّ الْبُعْدِ، وَصَارَ الدِّينُ الْوَاحِدُ كُفْرًا وَإِيْمَانًا، كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهِ يَحْتَكِرُ الْإِيْمَانَ لِنَفْسِهِ وَيَرْمِي الْآخَرَ بِالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا وَكِتَابُهُمْ وَاحِدًا. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) بَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، وَالضَّمِيرُ فِي (وَقَالُوا) لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَ (أَوْ) لِلتَّوْزِيعِ أَوِ التَّنْوِيعِ، أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ يَدْعُونَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا، وَالنَّصَارَى يَدْعُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَعْهُودٌ فِي اللُّغَةِ - وَلَوْ صدَقَ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُهْتَدِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَكَيْفَ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَوْنِهِ إِمَامَ الْهُدَى وَالْمُهْتَدِينَ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - مُلَقِّنًا لِنَبِيِّهِ الْبُرْهَانَ الْأَقْوَى فِي مُحَاجَّتِهِمْ (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ أَوِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي هُدَاهُ وَلَا فِي هَدْيِهِ، فَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْجَادَّةِ بِلَا انْحِرَافٍ وَلَا زَيْغٍ، الْعَرِيقَةُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ بِلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا شِرْكٍ. وَالْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَائِلُ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي عَصْرِهِ كَانُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْكُفْرُ، فَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمْ وَتَنَكَّبَ طَرِيقَتَهُمْ، وَلَا يُسَمَّى الْمَائِلُ حَنِيفًا إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَيْلُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُعَبَّدَةِ، وَفِي الْأَسَاسِ: مَنْ مَالَ عَنْ كُلِّ دِينٍ أَعْوَجَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَقِيمِ، وَبِهِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بَعْضُهُمْ، أَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنَ اللُّغَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ. وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ: مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَنِيفِ بِالْحَاجِّ وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِهِ أَنَّهُ مِمَّا حُفِظَ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : قَالَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنَ الشِّرْكِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ بَعْضِ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا أَكُونُ حَنِيفِيًّا. وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَاءَتْ مِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ، وَقَدْ نَاظَرْتُ بَعْضَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا فَلَمْ يَجِدْ مَا يَحْتَجُّ بِهِ إِلَّا عِبَارَةَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ الْآنَ يَجْمَعُ كُلَّ مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا، وَلَا دَلِيلَ فِي كَلِمَةِ النَّصْرَانِيِّ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ لُغَةً عَلَى الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِكَلِمَتِهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ دِينِ الْعَرَبِ مُطْلَقًا؛ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَنْتَسِبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُمُ الْحُنَفَاءَ أَيْضًا، وَالسَّبَبُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالدَّعْوَى أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقِيقَةً

ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ فَأَخَذَتْهُمْ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ وَأَنْسَتْهُمْ أَحْكَامَ مِلَّتِهِمْ وَأَعْمَالَهَا - نَسُوا بَعْضَهَا بِالْمَرَّةِ وَخَرَجُوا بِبَعْضٍ آخَرَ عَنْ أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَالْحَجِّ، وَنَفْيُ الشِّرْكِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي آخِرِ الْآيَةِ احْتِرَاسٌ مِنْ وَهْمِ الْوَاهِمِينَ، وَتَكْذِيبٌ لِدَعْوَى الْمُدَّعِينَ. أَقُولُ: لَا بِدْعَ أَنْ يَنْسَى الْأُمِّيُّونَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ خَرَجُوا بِدِينِهِمْ عَنْ وَضْعِهِ الْأَوَّلِ فَنَسُوا بَعْضًا وَحَرَّفُوا بَعْضًا، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ؛ فَالْيَهُودُ أَضَافُوا التِّلْمُودَ إِلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَسَمُّوا مَجْمُوعَ ذَلِكَ مَعَ تَفَاسِيرِهِ وَآرَاءِ أَحْبَارِهِمْ فِيهِ الْيَهُودِيَّةَ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ ظَهَرَ دِينُهُمْ بِشَكْلٍ لَوْ رَآهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ أَخَذُوا الدِّينَ عَنِ الْمَسِيحِ مُبَاشَرَةً لَمَا عَرَفُوا أَيَّ دِينٍ هُوَ. وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِفْظِ كِتَابِهِمْ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ يَعْمَلُونَ بِاسْمِ الدِّينِ أَعْمَالًا يَظُنُّهَا الْجَاهِلُونَ بِدِينِهِمْ أَعْظَمَ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَمَا هِيَ مِنَ الدِّينِ وَإِنَّمَا هِيَ بِدَعُ الْمُضِلِّينَ، فَالْإِفْرِنْجُ يَكْتُبُونَ فِي رِحَلَاتِهِمْ أَنَّ رَقْصَ الْمَوْلَوِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَنَّ مَا يَكُونُ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ فِي لَيَالِي الْمَوْلِدِ وَالْمِعْرَاجِ وَنِصْفِ شَعْبَانَ مِنَ الرَّقْصِ وَالْعَزْفِ بِالطُّبُولِ وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَهَمِّ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمُ (الصَّلَاةَ الْكُبْرَى) وَلَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ وَسِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُدَوَّنَتَانِ فِي الْكُتُبِ لَنَسِينَا الْأَصْلَ وَاكْتَفَيْنَا بِهَذِهِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ مِئَاتَ الْأُلُوفِ الَّتِي تَحُجُّ إِلَى مَشَاهِدِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْجِيلَانِيِّ بِالْعِرَاقِ، وَالْبَدَوِيِّ وَأَمْثَالِهِ بِمِصْرَ كُلَّ عَامٍ لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَحُجُّ الْبَيْتَ مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلُّهُمْ، وَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَخْشَعُ مِنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ أَرَادَ بَقَاءَ هَذَا الدِّينِ وَحِفْظَهُ وَسَيَرْجِعُ إِلَى كِتَابِهِ الرَّاجِعُونَ، وَيَهْتَدِي بِهِ الْمُهْتَدُونَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُقَلِّدُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْقَشِعُ ظُلُمَاتُ هَذِهِ الْبِدَعِ الَّتِي هُمْ فِيهَا يَتَخَبَّطُونَ. وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) . . . إِلَخْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِقْنَاعِ وَلَيْسَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً، وَوَجَّهُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيُكَابِرُونَ فِي مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْإِقْنَاعِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُكَابَرَتِهَا وَالْمِرَاءِ فِيهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ حُجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى وَجْهِهَا الْوَجِيهِ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَجَرَّأَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقُرْآنُ حَتَّى فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ افْتِتَانُهُمْ بِالطَّرِيقَةِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي أَخَذُوهَا عَنْ كُتُبِ الْيُونَانِ، وَلَقَدِ اهْتَدَى بِحُجَجِ الْقُرْآنِ الْأُلُوفُ وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ، وَقَلَّمَا اهْتَدَى بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ فِي وُقُوعِ شُبُهَاتِهِمُ الَّتِي يُورِدُونَهَا عَلَى الْعَقَائِدِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا سِوَى الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ، وَقَدْ مُحِيَتْ فِي عَصْرِنَا تِلْكَ الشُّبُهَاتُ، وَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ هَاتِيكَ النَّظَرِيَّاتِ، وَقَامَ بِنَاءُ الْعِلْمِ عَلَى أُسُسِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ وَالْمُجَرَّبَاتِ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، فَهُمُ الْقَائِلُونَ مَا ذُكِرَ

136

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ طَبِيعَةِ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ مَا ذُكِرَ - إِنْ صَحَّ - لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، فَإِنَّهُمْ مَا قَالُوا إِلَّا مَا هُوَ لِسَانُ حَالِ مِلَّتِهِمْ. وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أَوْ يُصَدِّقُ الْقَائِلِينَ بِاعْتِقَادِهِ وَسِيرَتِهِ. أَمَرَ اللهُ النَّبِيَّ بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أَيْ لَا تَكُنْ دَعْوَتُكُمْ إِلَى شَيْءٍ خَاصٍّ بِكُمْ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، بَلِ انْظُرُوا إِلَى جِهَةِ الْجَمْعِ وَالِاتِّفَاقِ، وَادْعُوا إِلَى أَصْلِ الدِّينِ وَرُوحِهِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا نِزَاعَ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ بِنُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، مَعَ الْإِسْلَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ. وَالْأَسْبَاطُ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَالْفِرَقُ أَوِ الشُّعُوبُ الْإِثْنَى عَشَرَ الْمُتَشَعِّبَةُ مِنْهُمْ. قَالَ - تَعَالَى -: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) (7: 160) وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْسَلِينَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الدَّرْسِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسْبَاطِ الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ أَنْبِيَاءَ الْأَسْبَاطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي نُبُوَّةِ غَيْرِ يُوسُفَ مِنْ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ شَيْءٌ. (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْوَحْيِ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ إِذْ عَبَّرَ بِأَنْزَلَ تَارَةً وَبِأُوتِيَ تَارَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِأَنْزَلَ ذُكِرَ هُنَا فِي جَانِبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كُتُبٌ تُؤْثَرُ، وَلَا صُحُفٌ تُنْقَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى نَبِيٍّ لَا يَسْتَلْزِمُ إِعْطَاءَهُ كِتَابًا يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ غَيْرَ مُرْسَلٍ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِلَيْهِ يَكُونُ خَاصًّا بِهِ، وَيَكُونُ إِرْشَادُهُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْمَلُوا بِشَرْعِ رَسُولٍ آخَرَ إِنْ كَانَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولٌ وَإِلَّا كَانَ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ وَمُعِدًّا لِلنُّفُوسِ لِبَعْثَةِ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَأَمَّا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ فَقَدْ يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ الشِّفَاهِيِّ وَلَا يُعْطَى كِتَابًا بَاقِيًا، وَقَدْ يُكْتَبُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي عَصْرِهِ فَيَضِيعُ مِنْ بَعْدِهِ، فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) لَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كِتَابٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ هُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ فِي جَوْهَرِهِ وَأُصُولِهِ لِمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَا ذَكَرَ اللهُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّصِّ هُوَ رُوحُ ذَلِكَ الْوَحْيِ كُلِّهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْأَعْلَى ذِكْرُ صُحُفٍ لِإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) هُنَا: إِنَّهَا عَشْرٌ، فَنُؤْمِنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صُحُفٌ وَلَا نَزِيدُ عَلَى مَا وَرَدَ شَيْئًا، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لَهُمْ صُحُفًا وَلَا كُتُبًا، فَنُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِالْإِجْمَالِ وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَيْنُ

مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ وَحْيِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كُتُبٌ تُؤْثَرُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) فَهُوَ يُشِيرُ بِالْإِيتَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ لَهُ وُجُودٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ أَقْوَامَهُمْ يَأْثُرُونَ عَنْهُمْ كُتُبًا. وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْمُرَادَ الْإِيْمَانُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - وَمَا أَعْطَاهُ لِأُولَئِكَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِجْمَالًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ فَلَا نُكَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ وَدَعَا إِلَيْهِ فِي عَصْرِهِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ بَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ الْإِيْمَانَ التَّفْصِيلِيَّ وَالْعَمَلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ((أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا (آمَنَّا بِاللهِ) الْآيَةَ)) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا ((آمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَلْيَسَعْكُمُ الْقُرْآنُ)) وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فَيُشْكِلُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أَيْ مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلِهِ بَعْدُ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ دَاوُدَ مِنْهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِكُتُبٍ أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنْ يَشْمَلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَهُمَا بِهَا كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) (17: 101) وَقَالَ: (وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) (2: 87) ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِمُوسَى وَعِيسَى وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أَيْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ إِجْمَالًا وَنَأْخُذُ التَّفْصِيلَ عَنْ خَاتَمِهِمُ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَزَادَنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا الزَّمَانَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَالْعُمْدَةُ فِي الدِّينِ عَلَى إِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ - تَعَالَى - (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : أَيْ مُذْعِنُونَ مُنْقَادُونَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيْمَانُ الصَّحِيحُ وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ لِأَهْوَائِكُمْ وَتَقَالِيدِكُمْ لَا تَحُولُونَ عَنْهَا. (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ الْآيَةَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ لَفْظَ (مِثْلِ) زَائِدٌ وَاسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرَهُ كَعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَطِّئُ كُلَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً زَائِدَةً أَوْ حَرْفًا زَائِدًا. وَقَالَ: إِنَّ لِمِثْلِ هُنَا مَعْنًى لَطِيفًا وَنُكْتَةً دَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ طَرَأَتْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِاللهِ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَضَاعُوا لُبَابَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَمَسَّكُوا بِالْقُشُورِ وَهِيَ رُسُومُ

137

الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَنَقَصُوا مِنْهَا وَزَادُوا عَلَيْهَا مَا يُبْعِدُ كُلًّا مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ، وَيَزِيدُ فِي عَدَاوَتِهِ وَبَغْضَائِهِ لَهُ، فَفَسَقُوا عَنْ مَقْصِدِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ الْعَمَلَ بِالدِّينِ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ لَنَا حَقِيقَةَ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيقَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ فَوَقَعُوا فِي الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، أَمَرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِيْمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمِثْلِ مَا نُؤْمِنُ نَحْنُ بِهِ لَا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ ادِّعَاءِ حُلُولِ اللهِ فِي بَعْضِ الْبَشَرِ، وَكَوْنِ رَسُولِهِمْ إِلَهًا أَوِ ابْنَ اللهِ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِي بَعْضِ الرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ، فَالَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي اللهِ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِالتَّنْزِيهِ، وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالتَّشْبِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَلَوْ قَالَ: فَإِنْ آمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ وَمَا أُوتُوهُ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجَادِلُونَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ دُونَكُمْ، وَلَفْظُ (مِثْلِ) هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ عِرْقَ الْجَدَلِ. عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِيْمَانِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ إِيْمَانُ أَحَدِهِمَا كَإِيْمَانِ الْآخَرِ فِي صِفَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَمَا يَكُونُ فِي نَفْسِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مُتَعَلِّقِ الْإِيْمَانِ يَكَادُ يَكُونُ مُحَالًا، فَكَيْفَ يَتَسَاوَى إِيْمَانُ أُمَمٍ وَشُعُوبٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ الْخِلَافِ الْعَظِيمِ فِي طُرُقِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ؟ وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الشَّوَاذِّ - لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ الْمِثْلَ، فَكَيْفَ نَقُولُ وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ مِثْلِ مُتَوَاتِرًا: إِنَّهُ زَائِدٌ؟ . (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ أَعْرَضُوا عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَلُبَابِهِ بِإِيْمَانٍ كَإِيْمَانِكُمْ (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أَيْ إِنَّ أَمْرَهُمْ مَحْصُورٌ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، أَيِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيقَاعِ فِي الْمَشَقَّةِ، أَوْ شَقِّ الْعَصَا بِتَحَرِّي الْخِلَافِ وَالتَّعَصُّبِ لِمَا يَفْصِلُهُمْ وَيُبَيِّنُهُمْ مِنْكُمْ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ يَكْفِيكَ إِيذَاءَهُمْ وَمَكْرَهُمُ السَّيِّئَ وَيُؤَيِّدُ دَعْوَتَكَ، وَيَنْصُرُ أُمَّتَكَ؛ فَهَذَا الْوَعْدُ بِالْكِفَايَةِ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَاصًّا، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ مَا شَاقُّوا النَّبِيَّ لِذَاتِهِ وَمَا كَانَ لَهُمْ حَظٌّ فِي مُقَاوَمَةِ شَخْصِهِ، فَالْإِيذَاءُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ يَدْعُو إِلَى دِينٍ غَيْرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَمَا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِيْمَانِ وَكَانَ النَّاسُ يُقَاوِمُونَهُمْ لِأَجْلِهِ، فَلَمَّا انْحَرَفُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَنْهُ خَرَجُوا عَنِ الْوَعْدِ، وَلَوْ عَادَ لَعَادَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْكِفَايَةِ وَالنَّصْرِ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (22: 40) . (صِبْغَةَ اللهِ) أَيْ صُبِغْنَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صِبْغَةَ اللهِ وَفِطْرَتَهُ فُطِرْنَا عَلَيْهَا، وَهِيَ مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، فَلَا دَخْلَ فِيهَا لِلتَّقَالِيدِ الْوَضْعِيَّةِ وَلَا لِآرَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَأَهْوَاءِ الزُّعَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةِ مُتَوَسِّطٍ وَلَا صُنْعِ صَانِعٍ، وَالصِّبْغَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ صِيغَةٌ لِلْهَيْئَةِ مِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ إِذَا لَوَّنَهُ بِلَوْنٍ خَاصٍّ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ صِبْغَتِهِ فَهِيَ جِمَاعُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُزَكِّي

138

النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ. وَأَمَّا مَا أَضَافَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الدِّينِ مِنْ آرَاءِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فَهُوَ مِنَ الصَّنْعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالصِّبْغَةِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ جَعَلَ الدِّينَ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً مُفَرِّقَةً، وَالْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا مُتَنَافِرَةً مُتَمَزِّقَةً (وَنَحْنُ لَهُ) وَحْدَهُ (عَابِدُونَ) فَلَا نَتَّخِذُ أَحْبَارَنَا وَعُلَمَاءَنَا أَرْبَابًا يَزِيدُونَ فِي دِينِنَا وَيَنْقُصُونَ، وَيُحِلُّونَ لَنَا بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيَمْحُونَ مِنْ نُفُوسِنَا صِبْغَةَ اللهِ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ، وَيُثْبِتُونَ مَكَانَهَا صِبْغَةَ الْبَشَرِ الْقَاضِيَةَ بِالشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَعْمَالٍ صِنَاعِيَّةٍ كَالْمَعْمُودِيَّةِ عِنْدَ النَّصَارَى مَثَلًا، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِيهِ عَلَى مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (30: 30) : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ جَارٍ عَلَى نَسَقِ سَابِقِهِ مُؤْتَلِفٌ مَعَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا نَازِلٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ لِلرَّدِّ عَلَى كَلِمَاتٍ قَالَهَا الْيَهُودُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ تَابِعِينَ لَنَا فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَّا وَالشَّرِيعَةَ نَزَلَتْ عَلَيْنَا، وَلَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِ أَنْبِيَاءُ وَلَا شَرَائِعُ، نَعَمْ لَا نُنْكِرُ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ مِثْلَهُ دَائِمًا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَنَاسِقَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، مُزِيلَةٌ لِشُبُهَاتٍ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْقَوْمِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا خَاصَّةً بِرَدِّ قَوْلٍ لِأَحَدِ يَهُودِ الْحِجَازِ. الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمِلَّةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ صِبْغَةُ اللهِ الَّتِي لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِيهَا، بَلْ هِيَ بَرِيئَةٌ مِنِ اصْطِلَاحَاتِ النَّاسِ وَتَقَالِيدِ الرُّؤَسَاءِ فَهِيَ الْجَدِيرَةُ بِالِاتِّبَاعِ، وَلَكِنَّ التَّقَالِيدَ وَالْأَوْضَاعَ قَدْ طَمَسَتْهَا بَعْدَمَا جَرَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهَا. وَحَلَّتْ تِلْكَ التَّقَالِيدُ مَحِلَّهَا حَتَّى ذَابَتْ هِيَ فِيهَا، وَخَفِيَتْ فَلَمْ تَعُدْ تُعْرَفُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدٌ -

139

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيَانِهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، فَيُبَيِّنُ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الْمُحَاجَّةِ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُزِيلُ الْمَوَانِعَ وَيُبْطِلُ الشُّبُهَاتِ الْمُعْتَرِضَةَ فِي طَرِيقِ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِمَا تَرَى مِنَ الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ) بِدَعْوَاكُمُ الِاخْتِصَاصَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَزَعْمِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ هَذَا الْقُرْبُ وَالِاخْتِصَاصُ بِاللهِ دُونَنَا (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، فَنِسْبَةُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَاحِدَةٌ: هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الرَّبُّ وهُمُ الْمَرْبُوبُونَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ (وَلَنَا أَعْمَالُنَا) الَّتِي تَخْتَصُّ آثَارُهَا بِنَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) كَذَلِكَ، وَرُوحُ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا الْإِخْلَاصُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَجْعَلُهَا مُقَرِّبَةً لِصَاحِبِهَا مِنَ اللهِ وَوَسِيلَةً لِمَرْضَاتِهِ (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) مِنْ دُونِكُمْ، فَإِنَّكُمُ اتَّكَلْتُمْ عَلَى أَنْسَابِكُمْ وَأَحْسَابِكُمْ، وَاغْتَرَرْتُمْ بِمَا كَانَ مِنْ صَلَاحِ آبَائِكُمْ وَأَجْدَادِكُمْ، وَاتَّخَذْتُمْ لَكُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ مِنْهُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَى جَاهِهِمْ، مَعَ انْحِرَافِكُمْ عَنْ صِرَاطِهِمْ، وَمَا هُوَ إِلَّا التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ الْمَبْنِيِّ عَلَى صِدْقِ الْإِيْمَانِ، وَهُوَ مَا نَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الْآنَ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِدْلَاءَ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِالنَّسَبِ، وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْقَلْبِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُفِيدُ، وَمَا كَانَ سَلَفُكُمْ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِهِ؟ هَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقَرَّبًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَبِيهِ (آزَرَ) الْمُشْرِكِ، أَمْ كَانَ قُرْبُهُ وَفَضْلُهُ بِإِخْلَاصِهِ وَإِسْلَامِ قَلْبِهِ إِلَى رَبِّهِ؟ فَكَمَا جَعَلَ اللهُ النُّبُوَّةَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَجَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِخْلَاصِ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا صَحَّ لَكُمْ إِنْكَارُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي سَلَفِهِ الْعَرَبِ أَنْبِيَاءُ فَأَنْكِرُوا نُبُوَّةَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ لَا يَتَّحِدُ الْمَعْلُولُ؟ وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: إِبْطَالُ مَعْنَى شُبْهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَهُمْ بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَدَرَجَ عَلَيْهِ مَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ رُوحَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَمِلَاكَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ، وَكُلُّ عَمَلٍ أَمَرَ بِهِ الدِّينُ فَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ إِصْلَاحُ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ بِسَلَامَةِ الِاعْتِقَادِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا الْمَعْنَى وَحُفِظَتْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الصُّورِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ إِنَّهَا تَضُرُّ بِدُونِهِ، لِأَنَّهَا تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَتَصُدُّهُ عَنِ الْمُفِيدِ

140

وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ أَزْهَقُوا هَذَا الرُّوحَ الْإِلَهِيَّ مِنْ دِينِهِمْ، فَسَوَاءً كَانَ مَا حَفِظُوهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَعْمَالِ مَأْثُورًا عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ أَمْ غَيْرَ مَأْثُورٍ، إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى دِينِ اللهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ عَرَفَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ إِحْيَاءٌ لِرُوحِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَتَكْمِيلٌ لِشَرَائِعِهِ وَآدَابِهِ بِمَا يَصْلُحُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ هَذَا وَتَأَمَّلَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَسَيَرْجِعُ مَنْ يُرِيدُ اللهُ بِهِمُ الْخَيْرَ إِلَى دِينِ اللهِ - تَعَالَى - بِالرُّجُوعِ إِلَى كِتَابِهِ الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدَ آرَاءِ النَّاسِ فَجَاوَزُوهُ بِأَنْ حَرَّمُوا الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا رَجَعَ الْأُلُوفُ وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى ذَلِكَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَرْجِعُ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ فَيَعُمُّ الْعَالَمِينَ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ (أَمْ) هُنَا مُعَادِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا خِلَافًا (لِلْجَلَالِ) وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الِامْتِيَازَ لَكُمْ عَلَيْنَا وَالِاخْتِصَاصَ بِالْقُرْبِ مِنَ اللهِ دُونَنَا هُوَ مِنَ اللهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ. . . إِلَخْ؟ أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ امْتِيَازَ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا عَلَيْهَا؟ إِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا فَإِنَّ اللهَ يُكَذِّبُكُمْ فِيهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْضًا أَنَّ اسْمَيِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ حَدَثَا بَعْدَ هَؤُلَاءِ، بَلْ حَدَثَ اسْمُ الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ مُوسَى، وَاسْمُ النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ عِيسَى، كَمَا حَدَثَ لِلْيَهُودِ تَقَالِيدُ كَثِيرَةٌ صَارَ مَجْمُوعُهَا مُمَيِّزًا لَهُمْ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَجَمِيعُ تَقَالِيدِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمُ الْمُمَيِّزَةِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ حَادِثَةٌ، فَإِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَدُوَّ التَّقَالِيدِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى عَلَى كَثْرَةِ مَا أَحْدَثُوا أَقْرَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْسُوا جَمِيعًا كَيْفَ زَلْزَلَ (رُوحُ اللهِ) تَقَالِيدَ الْيَهُودِ الظَّاهِرَةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ ادَّعَوُا اتِّبَاعَهُ زَادُوا عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي ابْتِدَاعِ التَّقَالِيدِ وَالرُّسُومِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ، إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، وَعَلَى النَّصَارَى إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. كَلَّا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ مِلَّتَهُ هِيَ الْمِلَّةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَانَتْ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الَّتِي تَقَلَّدُوهَا غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ فَمَا بَالُهُمْ صَارُوا يَنُوطُونَ النَّجَاةَ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا عَدَاهَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ؟ فَهُوَ لَا يُثْبِتُ لَهُمُ الْقَوْلَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِكَذِبِهِمْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ

لِنَبِيِّهِ (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أَيْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدِ ارْتَضَى لِلنَّاسِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِاعْتِرَافِكُمْ وَتَصْدِيقِ كُتُبِكُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَلِمَاذَا لَا تَرْضُونَ أَنْتُمْ تِلْكَ الْمِلَّةَ لِأَنْفُسِكُمْ؟ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ أَمِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرْضِيهِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (أَمْ يَقُولُونَ) بِالتَّحْتِيَّةِ شَاذَّةٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا سَبْعِيَّةٌ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. (وَأَقُولُ) : قِرَاءَةُ التَّاءِ هِيَ لِابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، وَهِيَ لِلْخِطَابِ، وَقِرَاءَةُ الْيَاءِ لِلْبَاقِينَ، فَلَا عِبْرَةَ بِعَدِّ ابْنِ جَرِيرٍ إِيَّاهَا شَاذَّةً. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ؟ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُ: إِنَّ عِنْدَكُمْ شَهَادَةً مِنَ اللهِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَكَانَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَإِذَا كَتَمْتُمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الطَّعْنِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَتَمْتُمْ شَهَادَةَ اللهِ، وَكُنْتُمْ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ، وَإِذَا اعْتَرَفْتُمْ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَقُولُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ وَتَحِقَّ عَلَيْكُمُ الْكَلِمَةُ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ثَابِتٌ، لَا يَقْبَلُ مُرَاوَغَةَ مُبَاهِتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمَكْتُومَةَ هِيَ شَهَادَةُ الْكِتَابِ الْمُبَشِّرَةِ بِأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ، وَهُمُ الْعَرَبُ أَبْنَاءُ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانُوا - وَلَا يَزَالُونَ - يَكْتُمُونَهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى غَيْرِ الْمُطَّلِعِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَبِالتَّحْرِيفِ عَلَى الْمُطَّلِعِ، فَهُوَ يُبَيِّنُ هُنَا - بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَاطِلٌ - أَنَّ هُنَاكَ شَهَادَةً صَرِيحَةً بِأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْعَرَبِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا ثَالِثًا وَرَاءَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) وَالدَّلِيلِ الْإِلْزَامِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) . . . إِلَخْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مُجَادِلُونَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، مُبَاهِتُونَ لِلنَّبِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، إِذْ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَبِهُوا فِي أَمْرِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ كِتَابِهِمْ لَهُ؛ فَإِذَا كَانَ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْتَهَى بِهِمْ إِلَى آخِرِ حُدُودِ الظُّلْمِ - وَهُوَ كِتْمَانُ شَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - تَعَصُّبًا لِجِنْسِيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي ارْتَبَطَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ بِالْمَرْءُوسِينَ بِرَوَابِطِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ - فَكَيْفَ يُنْتَظَرُ مِنْهُمْ أَنْ يُصْغُوا إِلَى بَيَانٍ، أَوْ يَخْضَعُوا لِبُرْهَانٍ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا يَتَضَمَّنُ التَّوْبِيخَ وَالتَّقْرِيعَ الْمُؤَكَّدَيْنِ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، ثُمَّ خَتَمَ الْمُحَاجَّةَ بِتَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَمَلِ، وَعَدَمِ فَائِدَةِ النَّسَبِ فَقَالَ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَإِنَّمَا تُسْئَلُونَ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَتُجَازَوْنَ عَلَيْهَا، فَلَا يَنْفَعُكُمْ وَلَا يَضُرُّكُمْ سِوَاهَا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يُثْبِتُهَا كُلُّ دِينٍ قَوِيمٍ، وَكُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَلَكِنَّ قَاعِدَةَ الْوَثَنِيَّةِ الْقَاضِيَةَ بِاعْتِمَادِ النَّاسِ فِي طَلَبِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا عَلَى كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ تَغْلِبُ مَعَ الْجَهْلِ كُلَّ دِينٍ وَكُلَّ عَقْلٍ،

وَمَنَعَ الْجَهْلُ التَّقْلِيدَ الْمَانِعَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ جَمِيعًا، اللهُمَّ إِلَّا مُكَابَرَةَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَتَأْوِيلَ نُصُوصِ الشَّرْعِ، تَطْبِيقًا لَهُمَا عَلَى مَا يَقُولُ الْمُقَلَّدُونَ الْمُتَّبَعُونَ (بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْبَاءِ) وَقَدْ أَوَّلَ الْمُؤَوِّلُونَ نُصُوصَ أَدْيَانِهِمْ تَقْرِيرًا لِاتِّبَاعِ رُؤَسَائِهِمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى جَاهِهِمْ فِي الْآخِرَةِ؛ لِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ يُبَالِغُ فِي تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ بِالْعَمَلِ وَالْكَسْبِ وَتَبْيِينِهَا، وَنَفْيِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَنْ لَمْ يَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَلِذَلِكَ أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ بِنَصِّهَا فِي مَقَامِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُفْتَخِرِينَ بِسَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ، الْمُعْتَمِدِينَ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ. وَفَائِدَةُ الْإِعَادَةِ تَأْكِيدُ تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ بِنَاءِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْآبَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَطْمَعُ فِي تَأْوِيلِ الْقَوْلِ طَامِعٌ، وَالْإِشْعَارُ بِمَعْنًى يُعْطِيهِ السِّيَاقُ هُنَا وَهُوَ: أَنَّ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ الْمُشَاغِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُخَالِفَةٌ لِأَعْمَالِ سَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ فِي وَضْعِهَا الْأَوَّلِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ وَحَفَدَتَهُ، قَدْ مَضَوْا إِلَى رَبِّهِمْ بِسَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَانْقَطَعَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَتَنَكَّبَ طَرِيقَهُمْ، وَانْحَرَفَ عَنْ صِرَاطِهِمْ، وَإِنْ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَجْزِيٌّ بِعَمَلِهِ، لَا يَنْفَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَا شَخْصُهُ بِالْأَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ بَيَانِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِيصَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِهَا، وَبَيَانِ دُرُوجِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْقَوْمِ بِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْخَيْرَ وَالْكَمَالَ، وَكَوْنُهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ وَلَا هَذِهِ النَّصْرَانِيَّةِ اللَّتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَهُمْ، فَجَاءَتْ قَاعِدَةُ الْأَعْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ لَا يَكُونُونَ مُتَّحِدِينَ فِي الدِّينِ وَلَا مُتَسَاوِينَ فِي الْجَزَاءِ، فَأَفَادَتْ هُنَا مَا لَمْ تُفِدْهُ هُنَاكَ. وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَيُحَكِّمُوا قَاعِدَةَ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِالتَّسْمِيَةِ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ. وَأَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ شَرْعًا وَعَقْلًا: أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَسْبَابِ إِلَى الْبَرْزَخِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا كَسْبَ فِيهَا، وَأَمْرُهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19)

142

الْجُزْءُ الثَّانِي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَتْ صَخْرَةُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الْمَعْرُوفَةُ هِيَ قِبْلَتَهُمْ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا زَمَنًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَشَوَّفُ لِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ حَوَّلَ اللهُ الْقِبْلَةَ إِلَيْهَا ; بَلْ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ فِي مَكَّةَ فَيُصَلِّي فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مُسْتَقْبِلًا لِلشَّمَالِ، فَلَمَّا هَاجَرَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ هَذَا الْجَمْعُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ الْكَعْبَةِ هِيَ الْقِبْلَةَ، فَأَمَرَهُ اللهُ بِذَلِكَ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِبَيَانِ مَا يَقَعُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْوِيلِ وَإِخْبَارِ اللهِ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَتَلْقِينِهِمُ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَيْهِ وَالْحِكْمَةَ السَّدِيدَةَ فِيهِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا بَيَانَ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ، كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا وَجَهْلٍ بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فِي كَوْنِهَا مُحَاجَّةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ الدِّينِ ; لِإِمَالَتِهِمْ عَنِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى

فِيهِ، وَالْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَقُّهٍ فِيهِ وَلَا نُفُوذٍ إِلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعِ الْأَحْكَامُ إِلَّا لِأَجْلِهَا، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) السَّفَهُ وَالسَّفَاهَةُ: الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ وَالْفِكْرِ أَوِ الْأَخْلَاقِ. يُقَالُ: سَفَّهَ حِلْمَهُ وَرَأْيَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ ; أَيْ: مُضْطَرِبٌ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ. وَاضْطِرَابُ الْحِلْمِ - الْعَقْلِ - وَالرَّأْيِ: جَهْلٌ وَطَيْشٌ، وَاضْطِرَابُ الْأَخْلَاقِ: فَسَادٌ فِيهَا لِعَدَمِ رُسُوخِ مَلَكَةِ الْفَضِيلَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ السُّفَهَاءِ وَأَحْسَنَ مَا شَاءَ: هُمُ الَّذِينَ خَفَّتْ أَحْلَامُهُمْ وَاسْتَمْهَنُوهَا بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ، يُرِيدُ الْمُنْكِرِينَ لِتَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَفَائِدَةُ تَقْدِيمِ الْإِخْبَارِ تَوْطِينُ النَّفْسِ وَإِعْدَادُ الْجَوَابِ اهـ. وَوَلَّاهُ عَنِ الشَّيْءِ: صَرَفَهُ عَنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: سَيَقُولُ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ السُّخَفَاءُ: أَيُّ شَيْءٍ جَرَى لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَحَوَّلَهُمْ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَهِيَ قِبْلَةُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ وَهَاكَ تَفْصِيلَ الْجَوَابِ: لَيْسَتْ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الصُّخُورِ فِي مَادَّتِهَا وَجَوْهَرِهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَنَافِعُ وَخَوَاصُّ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ فِي نَفْسِهِ - مِنْ حَيْثُ هُوَ حَجَرٌ وَطِينٌ - أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) (2: 127) وَإِنَّمَا يَجْعَلُ اللهُ لِلنَّاسِ قِبْلَةً ; لِتَكُونَ جَامِعَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (2: 115) وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَالْحَجِّ، وَلَكِنَّ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ مِنْ أَهَلِ الْجُمُودِ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقِبْلَةَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ هِيَ الصَّخْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ أَوِ الْبِنَاءُ الْمُعَيَّنُ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَقَّنَهَا اللهُ لِنَبِيِّهِ فِي الرَّدِّ عَلَى السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أَيْ: إِنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لَا فَضْلَ لِجِهَةٍ مِنْهَا بِذَاتِهَا عَلَى جِهَةٍ، وَإِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُخَصِّصَ مِنْهَا مَا شَاءَ فَيَجْعَلُهُ قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الَّذِي (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَهُوَ صِرَاطُ الِاعْتِدَالِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا يُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ نِسْبَةَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالْقُلُوبِ، وَاتِّبَاعِ وَحْيِهِ فِي تَوَجُّهِ الْوُجُوهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 213) إِلَخْ، أَيْ: عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْهِدَايَةِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. قَالُوا: إِنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي الْأَمْرِ إِفْرَاطٌ، وَالنَّقْصَ عَنْهُ تَفْرِيطٌ وَتَقْصِيرٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَيْلٌ عَنِ الْجَادَّةِ الْقَوِيمَةِ فَهُوَ شَرٌّ وَمَذْمُومٌ، فَالْخِيَارُ: هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْأَمْرِ ; أَيِ: الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا: وَلَكِنْ يُقَالُ لِمَ اخْتِيرَ لَفْظُ الْوَسَطِ عَلَى لَفْظِ الْخِيَارِ مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْأَوَّلُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

143

(أَحَدُهُمَا) : أَنَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِلتَّعْلِيلِ الْآتِي ; فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِهِ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَرَى أَحَدَهُمَا مِنْ جَانِبٍ وَثَانِيَهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ حَالِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَا حَالَ الْوَسَطِ أَيْضًا. (وَثَانِيهِمَا) : أَنَّ فِي لَفْظِ الْوَسَطِ إِشْعَارًا بِالسَّبَبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهِ ; أَيْ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خِيَارٌ وَعُدُولٌ ; لِأَنَّهُمْ وَسَطٌ، لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُفْرِطِينَ، وَلَا مِنْ أَرْبَابِ التَّعْطِيلِ الْمُفَرِّطِينَ، فَهُمْ كَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَقْضِي عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالْمَادِّيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا الْحُظُوظَ الْجَسَدِيَّةَ كَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقِسْمٌ تَحْكُمُ عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ. وَأَمَّا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَقَدْ جَمَعَ اللهُ لَهَا فِي دِينِهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ: حَقِّ الرُّوحِ، وَحَقِّ الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحَانِيَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْطَاهَا جَمِيعَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ وَرُوحٌ، حَيَوَانٌ وَمَلَكٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا تَعْرِفُونَ الْحَقَّيْنِ، وَتَبْلُغُونَ الْكَمَالَيْنِ (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ) بِالْحَقِّ (عَلَى النَّاسِ) الْجُسْمَانِيِّينَ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ الدِّينِ، وَالرُّوحَانِيِّينَ إِذْ أَفْرَطُوا وَكَانُوا مِنَ الْغَالِينَ، تَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفَرِّطِينَ بِالتَّعْطِيلِ الْقَائِلِينَ: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (45: 24) بِأَنَّهُمْ أَخْلَدُوا إِلَى الْبَهِيمِيَّةِ، وَقَضَوْا عَلَى اسْتِعْدَادِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَزَايَا الرُّوحَانِيَّةِ، وَتَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفْرِطِينَ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ هَذَا الْوُجُودَ حَبْسٌ لِلْأَرْوَاحِ وَعُقُوبَةٌ لَهَا. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِالتَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ جَمِيعِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، تَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ، وَجَنَوْا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَقُوَاهَا الْحَيَوِيَّةِ، تَشْهَدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَتَسْبِقُونَ الْأُمَمَ كُلَّهَا بِاعْتِدَالِكُمْ وَتَوَسُّطِكُمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا هُدِيتُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْكَمَالُ الْإِنْسَانِيُّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ كَمَالٌ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، يُؤَدِّي حُقُوقَ رَبِّهِ، وَحُقُوقَ نَفْسِهِ، وَحُقُوقَ جِسْمِهِ، وَحُقُوقَ ذَوِي الْقُرْبَى، وَحُقُوقَ سَائِرِ النَّاسِ (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أَيْ: إِنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْمِثَالُ الْأَكْمَلُ لِمَرْتَبَةِ الْوَسَطِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَسَطًا بِاتِّبَاعِهَا لَهُ فِي سِيرَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَهُوَ الْقَاضِي بَيْنَ النَّاسِ فِيمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَمَنِ ابْتَدَعَ لِنَفْسِهِ تَقَالِيدَ أُخْرَى أَوْ حَذَا حَذْوَ الْمُبْتَدِعِينَ، فَكَمَا تَشْهَدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى النَّاسِ بِسِيرَتِهَا وَارْتِقَائِهَا الْجَسَدِيِّ وَالرُّوحِيِّ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا عَنِ الْقَصْدِ، يَشْهَدُ لَهَا الرَّسُولُ - بِمَا وَافَقَتْ فِيهِ سُنَّتَهُ وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِيهِ - بِأَنَّهَا اسْتَقَامَتْ عَلَى صِرَاطِ الْهِدَايَةِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَأَنَّهُ

قَالَ: إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ لَكُمْ وَصْفُ الْوَسَطِ إِذَا حَافَظْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَدْيِ الرَّسُولِ وَاسْتَقَمْتُمْ عَلَى سُنَّتِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْحَرَفْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْجَادَّةِ، فَالرَّسُولُ بِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَسِيرَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3: 110) إِلَخْ ; بَلْ تَخْرُجُونَ بِالِابْتِدَاعِ مِنَ الْوَسَطِ وَتَكُونُونَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ - وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : يُقَالُ إِنَّ هَذَا خَبَرٌ عَظِيمٌ بِمِنْحَةٍ جَلِيلَةٍ، وَمِنَّةٌ بِنِعْمَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلِمَ جِيءَ بِهِ مُعْتَرِضًا فِي أَطْوَاءِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَجِئِ ابْتِدَاءً أَوْ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ سَتَكُونُ عَظِيمَةً، وَأَنْ سَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهُ، وَلَوْ كَانَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ثَانِيًا وَصَرَفَهُ عَنْ قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ صَلَّى أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتِمَالَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَدِهَانًا لَهُمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ وَطَنِهِ وَتَعْظِيمُهُ، فَعَادَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي دِينِهِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ - عَلَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَالِ فِي أَفْكَارِ قَائِلِيهَا - تُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُطَمْئِنُّ الرَّاسِخُ فِي الْإِيمَانِ يَحْزَنُ لِشُكُوكِ النَّاسِ وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ رُبَّمَا يَضْطَرِبُ وَيَتَزَلْزَلُ ; لِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ إِثَارَةِ رِيَاحِ الشُّبَهِ وَالتَّشْكِيكِ، وَلَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهِيَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ لَا تَغْلُو فِي شَيْءٍ، وَلَا تَقِفُ عِنْدَ الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; بِاعْتِدَالِهِمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَفَهْمِهِمْ لِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَسْرَارِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا لَا شَأْنَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهَا بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدَةً - إِذْ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُدُّهُ جِهَةٌ - كَانَ الْتِزَامُ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا لِغَيْرِ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَيْلًا مَعَ الْهَوَى، أَوْ تَخْصِيصًا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفَسِهِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَدِلُ فِي أَمْرِهِ، نَعَمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حِكْمَةِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْوَاقِعِ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لَمْ يَأْمُرْ إِلَّا بِمَا ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُمْتَثِلِينَ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى الْبِرِّ، مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِعْلَامَ اللهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَلْقِينَهُ إِيَّاهُمُ الْحُجَّةَ، وَإِنْزَالَهُمْ مَنْزِلَةَ الشُّهَدَاءِ وَالْمُحَكَّمِينَ، ثُمَّ تَبْيِينَهُ لَهُمْ حِكْمَةَ التَّحْوِيلِ، كَانَ مُؤَيِّدًا وَمُسَدِّدًا لَهُمْ، وَنُورًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا ; إِعْلَامٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ اضْطِرَابِ

السُّفَهَاءِ فِي أَقْوَالِهِمْ، أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِفْهَامِ مُجْمَلًا، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ وَجْهُ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَا تَسْبِقَ إِلَى النُّفُوسِ، وَالْغَرَضُ إِقَامَةُ الْمَوَانِعِ مِنْ تَأْثِيرِهَا عِنْدَ وُرُودِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَاخْتِصَارٌ لِلْبُرْهَانِ بِبَيَانِ أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ كَسَائِرِ الْجِهَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى ; أَيْ: يُخَصِّصُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فَيَجْعَلُهُ قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَانٌ لِمَكَانَةِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ كُلَّ أَصْلٍ دِينِيٍّ بِدَلِيلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَكُلِّفَتِ الْعَدْلَ وَالِاعْتِدَالَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ; أَيْ: فَلَا يَلِيقُ بِهَا أَنْ تُبَالِيَ بِانْتِقَادِ السُّفَهَاءِ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أَيْ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ فِيمَا مَضَى هِيَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ ثُمَّ أَمَرْنَاكَ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا لِيَتَبَيَّنَ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتَ عَلَى إِيمَانِهِ مِمَّنْ لَا ثَبَاتَ لَهُ، فَتَعْلَمُوا الْمُتَّبِعَ لِلرَّسُولِ مِنَ الْمُنْقَلِبِ عَلَى عَقِبَيْهِ، بِرُجُوعِهِ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَّا لِيَكُونَ عِلْمُنَا الْغَيْبِيُّ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا وَمَآلِهِمَا عِلْمَ شَهَادَةٍ بِوُقُوعِ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ; أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ الصَّادِقِينَ، وَرَيْبُ الْمُرْتَابِينَ، وَعَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ مَنْ فَقِهَ فِي الشَّيْءِ فَعَرَفَ سِرَّهُ وَحِكْمَتَهُ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ الْآخِذُ بِالظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ وَلَا عِرْفَانٍ، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ الْمُطَمْئِنِّ بِالْإِيمَانِ فَلَا يَثْبُتَانِ فِي مَهَابِّ عَوَاصِفِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ. وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : وَمَا صَيَّرْنَا الْقِبْلَةَ لَكَ الْآنَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَهِيَ الْكَعْبَةُ إِلَخْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَقَلِّينَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي أَوَّلًا إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ النَّسْخُ قَدْ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَبِيلِ (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (17: 60) فَالرُّؤْيَا لَمْ تَكُنْ بِنَفْسِهَا فِتْنَةً وَإِنَّمَا افْتَتَنَ النَّاسُ إِذْ أُخْبِرُوا بِهَا وَلَمْ يَفْقَهُوا الْمُرَادَ مِنْهَا، كَذَلِكَ الْقِبْلَةُ، لَيْسَ فِي جَعْلِ جِهَةِ كَذَا قِبْلَةً فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا الْفِتْنَةُ فِيمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ صَرْفًا عَنْ قِبْلَةٍ إِلَى غَيْرِهَا. فَالسُّفَهَاءُ وَالْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّحْوِيلَ وَيَرَوْنَهُ أَمْرًا إِدًّا، وَالَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى فِقْهِ ذَلِكَ يَرَوْنَهُ أَمْرًا حَكِيمًا جِدًّا ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) فَمَنَحَهُمُ الِاعْتِدَالَ فِي الْفِكْرِ، وَالْإِدْرَاكَ فِي الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. ثُمَّ قَالَ: مَا مِثَالُهُ - مُوَضِّحًا قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِنَعْلَمَ) - مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَمِثْلُهُ: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) (72: 28) وَقَوْلُهُ: (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ) (5: 94) وَالْعَقْلُ وَالنَّقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى قَدِيمٌ لَا يَتَجَدَّدُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَقْوَالٌ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَظْهَرَهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا أَنْ تَنْسِبَ إِلَى الرَّئِيسِ وَالْكَبِيرِ مَا يَحْدُثُ بِأَمْرِهِ

وَتَدْبِيرِهِ، يَقُولُونَ: فَتَحَ الْأَمِيرُ الْبَلَدَ وَقَاتَلَ الْجَيْشَ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُونَ هَذَا وَالْأَمِيرُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْعَامِلِينَ، فَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ إِذَا أُرِيدَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجُمْهُورِ أَسْنَدُوهُ إِلَى الْمُقَدَّمِ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلِيَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَخَاطَبَهُمْ خِطَابَ السَّيِّدِ ; صَحَّ بِحَسَبِ هَذَا الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الَّتِي تَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ، فَمَعْنَى (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إِلَّا لِيَعْلَمَ عِبَادِي الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْلَامِي إِيَّاهُمْ. وَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي قَلَبَتْهُ رِيحُ الشُّبْهَةِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَيْثُ لَا يُمَازُ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ ; لِقِيَامِهِمْ جَمِيعًا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَكَذَا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ بِمَا يَبْتَلِي بِهِ النَّاسَ مِنَ الْفِتَنِ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (29: 2، 3) وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ جَاءَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((يَا عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقِنِي)) خَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَرِضَ عِبَادِي الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِيَالُ اللهُ فَلَمْ تَعُدْهُمْ إِلَخْ. نَعَمْ إِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْهَا أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِقَطْعِ الْعَقْلِ بِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (51: 57) وَقَالَتِ الْعَرَبُ: إِنِّي جَائِعٌ فِي بَطْنِ غَيْرِي، وَعُرْيَانٌ فِي ظَهْرِ غَيْرِي، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أَيْ: يُعْطِي عِبَادَهُ الْمُحْتَاجِينَ، وَاللهُ يُكَافِئُهُ عَنْهُمْ إِذْ كَانُوا عَاجِزِينَ. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ (لِنَعْلَمَ) وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا عِلْمُ الظُّهُورِ وَالْوُقُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا سَتَقَعُ لَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ، وَيَعْلَمُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ، وَالْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: (لِنَعْلَمَ) يُرَادُ الثَّانِي ; أَيْ: لِنَعْلَمَ عِلْمَ وُقُوعٍ وَوُجُودٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا التَّجَدُّدُ فِي الْمَعْلُومِ لَا فِي نَفْسِ الْعِلْمِ ; أَيْ: إِنَّ الْمَعْلُومَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ وَظَهَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ جِهَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنُحَوِّلَهَا وَنَمْتَحِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحْوِيلِ لِيَظْهَرَ مَا ثَبَتَ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ مِنِ اتِّبَاعِ بَعْضِ النَّاسِ لِلرَّسُولِ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى هِدَايَتِهِ، وَانْقِلَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِظْهَارِهِ مَا أَكَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الرَّيْبِ، وَبِذَلِكَ يَمْتَازُ الْمُهْتَدُونَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَتَقُومُ الْحُجَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَعْنَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ: هُوَ الِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَرَاءِ وَهُوَ طَرِيقُ الْعَقِبَيْنِ، فَالْمُنْقَلِبُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادُوا إِلَى

مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَبْلَغُهَا: انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، أَوْ مِنْ سُوءٍ إِلَى أَسْوَأَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ فِي مُتَعَلِّقِهِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) (18: 109) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (31: 27) فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ هُنَا: الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا، عَبَّرَ عَنْهَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْهَا وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ (كُنْ) اهـ. أَقُولُ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي التَّعْبِيرُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَبَعْدَ وُجُودِهِ بِعِلْمِ الشَّهَادَةِ كَمَا قُلْتُ آنِفًا، وَأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ كَلِمَاتُ التَّكْوِينِ أَنْفُسُهَا لَا مُتَعَلِّقَاتُهَا الَّتِي هِيَ الْمَوْجُودَاتُ، فَعِلْمُ اللهِ قِسْمَانِ: غَيْبٌ وَشَهَادَةٌ، وَكَلِمَاتُهُ قِسْمَانِ: تَشْرِيعٌ وَتَكْوِينٌ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أَيْ: وَإِنَّ الْقِبْلَةَ أَوْ قِصَّتَهَا فِي نَسْخِهَا وَالتَّحَوُّلِ عَنْهَا لَكَبِيرَةُ الشَّأْنِ شَدِيدَةُ الْوَقْعِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، أَوْ مَا كَانَتْ إِلَّا كَبِيرَةً يَشُقُّ التَّحَوُّلُ عَنْهَا (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أَيْ: هَدَاهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالْعِلْمِ بِحِكَمِ شَرْعِهِ، فَعَقَلُوا أَنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِطَاعَةِ اللهِ بِهَا لَا بِسِرٍّ فِي ذَاتِهَا أَوْ مَكَانِهَا، وَأَنَّ حِكْمَتَهَا اجْتِمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ اتِّحَادِهِمْ وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ. (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أَقُولُ: أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُضِيعَ إِيمَانَكُمُ الْبَاعِثَ لَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ، فَلَوْ كَانَ نَسْخُ الْقِبْلَةِ مِمَّا يُضِيعُ الْإِيمَانَ بِنَقْضِهِ أَوْ نَقْصِهِ أَوْ فَوْتِ ثَوَابِ مَا كَانَ قَبْلَهُ لَمَا نَسَخَهَا. أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُمُ (الْجَلَالُ) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلَاةُ، إِذْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَبُّوا أَنْ يَعْرِفُوا حَالَ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ التَّحْوِيلِ أَوْ صَلَاةَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ مَا كَانَ أَثَرَ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ ; أَيْ: مَتَى كُنْتُمْ تُصَلُّونَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، فَصَلَاتُكُمْ مَقْبُولَةٌ ; لِأَنَّهَا أَثَرُ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ فِي الْقَلْبِ الْمُصْلِحِ لِلنَّفْسِ، فَتَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا إِيمَانًا لَيْسَ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الدِّينِ، بَلْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَزِيَّتَهَا فِي مَنْشَئِهَا الْبَاعِثِ عَلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْإِيمَانُ دَائِمًا بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَالصَّلَاةُ آيَةُ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيَّةِ الْخَفِيَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ آيَةً إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ، وَالزَّكَاةُ هِيَ الدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَغُشُّ الْجَاهِلُ نَفْسَهُ بِالصَّلَاةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَقَامَهَا كَمَا أَمَرَ اللهُ إِذَا أَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي هِيَ صُورَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ خَالِيَةً مِنْ رُوحِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ

الزَّكَاةَ آيَةٌ حِسِّيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغُشَّ نَفْسَهُ بِهَا إِنْسَانٌ، فَلْيُحَاسِبْ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَكِتَابِهِ نَفْسَهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْفِتْنَةِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْقَلِبُ إِلَى الْكُفْرِ وَيَتْرُكُ الْإِيمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْبُتُ عَلَى إِيمَانِهِ عَالِمًا أَنَّ الِاعْتِقَادَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ الْجِهَاتَ فِي نَفْسِهَا مُتَسَاوِيَةٌ لَا فَضْلَ لِجِهَةٍ مِنْهَا عَلَى جِهَةٍ، بَشَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ بِأَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَا يُضِيعُ اللهُ أَجْرَهُمْ، وَلَا يَلِتْهُمْ مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا السِّيَاقَ الْعَجِيبَ، وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِ رُوَاةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ يُمَزِّقُونَ الطَّائِفَةَ الْمُلْتَئِمَةَ مِنَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ عِضِينَ مُتَفَرِّقَةً، بِمَا يُفَكِّكُونَ الْآيَاتِ وَيَفْصِلُونَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبِمَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُوثَقَةِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ جُمْلَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، كَمَا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، انْظُرْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدُ إِعْجَازَهَا فِي بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ أَنْ مَهَّدَتْ لِلْأَمْرِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مَا يُشْعِرُ بِهِ فِي ضِمْنِ حِكَايَةِ شُبْهَةِ الْمُعْتَرِضِينَ الَّتِي سَتَقَعُ مِنْهُمْ، وَبِتَوْهِينِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِإِسْنَادِهَا إِلَى السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ وَإِيرَادِهَا مُجْمَلَةً، وَبِوَصْلِهَا بِالدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهَا، وَبِذِكْرِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا اعْوِجَاجَ، وَلَا تَفْرِيطَ عِنْدَ سَالِكِيهِ وَلَا إِفْرَاطَ، وَبِذِكْرِ مَكَانَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِدِينِهَا، وَاعْتِدَالِهَا فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا، وَبِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ الْأُولَى قِبْلَةً ثُمَّ التَّحْوِيلِ عَنْهَا، وَبِالتَّلَطُّفِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَكُونُ مِنَ ارْتِدَادِ بَعْضِ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ عَنْ دِينِهِمُ افْتِتَانًا بِالتَّحْوِيلِ وَجَهْلًا بِالْأَمْرِ، إِذْ أَوْرَدَ الْخَبَرَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ حَتَّى لَا يَعْظُمَ وَقْعُهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِبَيَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَبِيرَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَحِكَمِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ بِتَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِثَابَةِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّحَوُّلِ أَمْرًا صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. أَفَيَصِحُّ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ الْمُوثَقِ بَعْضُ جُمَلِهِ وَآيَاتِهِ بِبَعْضٍ أَنْ نَفُكَّ وَثَقَهُ وَيُجْعَلُ نُتَفًا نُتَفًا، وَيُقَالُ: إِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ نَزَلَتْ لِحَادِثَةٍ حَدَثَتْ، أَوْ كَلِمَةٍ قِيلَتْ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَلْبِ الْوَضْعِ، وَجَعْلِ الْأَوَّلِ آخِرًا وَالْآخِرِ أَوَّلًا، وَجَعْلِ آيَاتِ التَّمْهِيدِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ آيَاتِ الْمَقْصِدِ؟ أَتَسْمَحُ لَنَا اللُّغَةُ وَالدِّينُ بِأَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ عِضِينَ ; لِأَجْلِ رِوَايَاتٍ رُوِيَتْ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِسْنَادَ بَعْضِهَا قَوِيٌّ بِحَسَبِ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الرَّاوِينَ؟ ! (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ النَّفْيِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ أَجْرَهُ هِيَ مِنْ آثَارِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُخْشَى أَنْ تَتَخَلَّفَ وَأَنْ يَضِيعَ أَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. قَالَ (الْجَلَالُ) : وَالرَّأْفَةُ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ، وَقَدَّمَ الْأَبْلَغَ

لِلْفَاصِلَةِ، وَأَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا الْقَوْلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيُنْكِرُ مِثْلَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا فَلَيْسَ فِيهِ كَلِمَةٌ تَقَدَّمَتْ وَلَا كَلِمَةٌ تَأَخَّرَتْ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ إِثْبَاتٌ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا قَالُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ السَّجْعِ وَالشِّعْرِ: إِنَّهُ قَدَّمَ كَذَا وَأَخَّرَ كَذَا لِأَجْلِ السَّجْعِ وَلِأَجْلِ الْقَافِيَةِ. وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا الْتِزَامَ فِيهِ لِلسَّجْعِ، وَهُوَ مِنَ اللهِ الَّذِي لَا تَعْرِضُ لَهُ الضَّرُورَةُ، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِتَأَثُّرِهِمْ بِقَوَانِينِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهِمْ فِي تَوْجِيهِ الْكَلَامِ، مَعَ الْغَفْلَةِ فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ عَنْ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا لِكُلِّ كَلِمَةٍ فِي مَكَانِهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ عِنْدَ أَهْلِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ اهـ. (وَأَقُولُ) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْفَوَاصِلَ مُلْتَزَمَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ بِغَيْرِ أَدْنَى ضَرُورَةٍ، وَلَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ بِتَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى بَلَاغَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) 7: 128 وَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (20: 132) . (ثُمَّ قَالَ) : وَعِنْدِي أَنَّ الرَّأْفَةَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ، فَإِنَّ الرَّأْفَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، وَالرَّحْمَةُ تَشْمَلُ دَفْعَ الْأَلَمِ وَالضُّرِّ وَتَشْمَلُ الْإِحْسَانَ وَزِيَادَةَ الْإِحْسَانِ، فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ هُنَا فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الدَّعْوَى، فَهُوَ وَاقِعٌ فِي مَوْقِعِهِ كَمَا تُحِبُّ الْبَلَاغَةُ وَتَرْضَى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ رَءُوفٌ بِالنَّاسِ ; لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ فَلَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامَلٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يُظْهِرُ صِدْقَ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ لِيُضِيعَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ، بَلْ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ. وَإِذَا كَانَ أَثَرُ الرَّأْفَةِ دَفْعَ الْبَلَاءِ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي تَعَالَى بِدَفْعِ الْبَلَاءِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَأْفَتِهِ، بَلْ يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْإِحْسَانِ الشَّامِلِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الْإِنْسَانِ انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ أَثَرُهُ مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالِانْفِعَالُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا وُصِفَ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِآثَارِهَا وَغَايَاتِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ (ص 64 ج 1) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ (الرَّءُوفُ) بِالْمَدِّ، وَالْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ.

144

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) . قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَشَوَّفُ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَرْجُوهُ، بَلْ قَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُهُ ; لِأَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهَا أَدْعَى إِلَى إِيمَانِ الْعَرَبِ ; أَيْ: وَعَلَى الْعَرَبِ الْمُعَوَّلُ فِي ظُهُورِ هَذَا الدِّينِ الْعَامِّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ اسْتِعْدَادًا لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا بُعْدَ فِي تَشَوُّفِهِ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ جَاءَ بِإِحْيَاءِ مِلَّتِهِ، وَتَجْدِيدِ دَعْوَتِهِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الرَّغْبَةِ عَنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَى هَوَى نَفْسِهِ، كَلَّا إِنَّ هَوَى الْأَنْبِيَاءِ لَا يَعْدُو أَمْرَ اللهِ تَعَالَى وَمُوَافَقَةَ رِضْوَانِهِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ هَوًى وَرَغْبَةٌ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ مَثَلًا وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِخِلَافِهِ لَانْقَلَبَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ إِلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ إِلَى مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَرَضِيَهُ ; بَلِ الْمَقَامُ أَدَقُّ وَالسِّرُّ أَخْفَى، إِنَّ رُوحَ النَّبِيِّ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الدِّينِ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِتَفْصِيلِ مَسَائِلِهِ، فَهِيَ تَشْعُرُ بِصَفَائِهَا وَإِشْرَاقِهَا بِحَاجَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا شُعُورًا إِجْمَالِيًّا كُلِّيًّا، لَا يَكَادُ يَتَجَلَّى فِي جُزْئِيَّاتِ الْمَسَائِلِ وَآحَادِ الْأَحْكَامِ إِلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِتَشْرِيعِهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ قَلْبُ النَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ طَالِبًا بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ بَيَانَ مَا يَشْعُرُ بِهِ مُجْمَلًا، وَإِيضَاحَ مَا يَلُوحُ لَهُ مُبْهَمًا، فَيَنْزِلُ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِهِ، وَيُخَاطِبُهُ بِلِسَانِ قَوْمِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَهَكَذَا الْوَحْيُ إِمْدَادٌ فِي مَوْطِنِ اسْتِعْدَادٍ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْعِبَادِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمٌ شُرِعَ لِسَبَبٍ مُؤَقَّتٍ وَزَمَنٍ فِي عِلْمِ اللهِ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ رُوحَ النَّبِيِّ تَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ،

فَإِذَا تَمَّ الْمِيقَاتُ، وَأَزِفَ وَقْتُ الرُّقِيِّ إِلَى مَا هُوَ آتٍ وَجَدَتْ مِنَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى النَّسْخِ مَا يُوَجِّهُهَا إِلَى الشَّارِعِ الْعَلِيمِ وَالدَّيَّانِ الْحَكِيمِ، كَمَا كَانَ يَتَقَلَّبُ وَجْهُ نَبِيِّنَا فِي السَّمَاءِ تَشَوُّفًا إِلَى تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أَيْ: إِنَّنَا نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَتَرَدُّدَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فِي السَّمَاءِ مَصْدَرِ الْوَحْيِ وَقِبْلَةِ الدُّعَاءِ ; انْتِظَارًا لِمَا تَرْجُوهُ مِنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. فَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَلُّبَ الْوَجْهِ بِالدُّعَاءِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ هِيَ شُعُورُ الْقَلْبِ بِالْحَاجَةِ إِلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُ، وَصِدْقُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِيمَا يَرْغَبُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ اللهَ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَمَا أَسَرَّتْ، فَإِنْ وَافَقَتْهَا الْأَلْسِنَةُ فَهِيَ تَبَعٌ لَهَا، وَإِلَّا كَانَ الدُّعَاءُ لَغْوًا يُبْغِضُهُ اللهُ تَعَالَى، فَالدُّعَاءُ الدِّينِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِحْسَاسِ الدَّاعِي بِالْحَاجَةِ إِلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنْ هَذَا الْإِحْسَاسِ يُعَبِّرُ اللِّسَانُ بِالضَّرَاعَةِ وَالِابْتِهَالِ، فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ مَنْ سَابِقِهِ. فَتَقَلُّبُ الْوَجْهِ فِي السَّمَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى انْتِظَارًا لِمَا كَانَتْ تَشْعُرُ بِهِ رُوحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرْجُوهُ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِلِسَانِهِ طَالِبًا هَذَا التَّحْوِيلَ وَلَا تَنْفِي ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: مِنْ كَمَالِ أَدَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ انْتَظَرَ وَلَمْ يَسْأَلْ. وَهَذَا التَّوَجُّهُ هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَهْدِي قَلْبَ صَاحِبِهِ إِلَى مَا يَرْجُوهُ وَيَطْلُبُهُ، لِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) أَيْ: فَلَنَجْعَلَنَّكَ مُتَوَلِّيًا قِبْلَةً تُحِبُّهَا وَتَرْضَاهَا، وَقَرَنَ الْوَعْدَ بِالْأَمْرِ فَقَالَ: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ الْمَكَانَ أَوِ الشَّيْءَ: هِيَ جَعْلُهُ قُبَالَتَهُ وَأَمَامَهُ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ: جَعْلُهُ وَرَاءَهُ. وَالشَّطْرُ فِي الْأَصْلِ: الْقِسْمُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الشَّيْءِ تَقُولُ: جَعَلَهُ شَطْرَيْنِ، وَمِنْهُ شَطْرُ الْبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ وَهُوَ الْمِصْرَاعُ مِنْهُ، وَكَذَا الْمُتَّصِلُ كَشَطْرَيِ النَّاقَةِ وَأَشْطُرِهَا وَهِيَ أَخْلَافُهَا: شَطْرَانِ أَمَامِيَّانِ وَشَطْرَانِ خَلْفِيَّانِ. وَيُطْلَقُ عَلَى النَّحْوِ وَالْجِهَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَالْوَاجِبُ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْهَا وَعَدَمِ رُؤْيَتِهَا وَلَا يَجِبُ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ، أَوْ يَلْمِسُهَا بِيَدِهِ أَوْ بَدَنِهِ. فَإِنْ صَحَّ إِطْلَاقُ الشَّطْرِ عَلَى عَيْنِ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ الشَّدِيدِ، لَا سِيَّمَا عَلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً فَقَالَ: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أَيْ: وَفِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُمْ فَاسْتَقْبِلُوا جِهَتَهُ بِوُجُوهِكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسْلِمُونَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، لَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ جِهَةَ الْمَشْرِقِ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَعْرِفُوا مَوْقِعَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجِهَتَهُ حَيْثُمَا كَانُوا ; وَلِذَلِكَ وَضَعُوا عِلْمَ سَمْتِ الْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ (الْجُغْرَافِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ) . وَقَدْ عُهِدَ مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ النَّبِيُّ وَلَا يُذْكَرُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ أَمْرًا لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

بِهِ، فَإِذَا أُرِيدَ التَّخْصِيصُ جِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) (17: 79) وَقَوْلُهُ: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (33: 50) وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيَّ فِيهَا نَصًّا صَرِيحًا لِلتَّأْكِيدِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحَالُ فِي حَادِثَةِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ حَادِثَةً كَبِيرَةً اسْتَتْبَعَتْ فِتْنَةً عَظِيمَةً، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَتِهِ بِهَا وَيُقَرِّرَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِهَا، وَشَرَّفَهُمْ بِالْخِطَابِ مَعَ خِطَابِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتَشْتَدَّ قُلُوبُهُمْ وَتَطْمَئِنَ نُفُوسُهُمْ، وَيَتَلَقَّوْا تِلْكَ الْفِتْنَةَ الَّتِي أَثَارَهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْكَافِرُونَ بِالْحَزْمِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ سَابَقِ الْكَلَامِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. بَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِ السُّفَهَاءِ مُثِيرِي الْفِتْنَةِ فِي مَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أَيْ: إِنَّ تَوَلِّيَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الْحَقُّ الْمُنَزَّلُ مِنَ اللهِ عَلَى نَبِيِّهِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ الْفَاتِنِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُقِيمِينَ فِي الْحِجَازِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْفِتْنَةُ عَظِيمَةً ; لِأَنَّ كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَسَائِلِ الْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ قَلَّمَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بَيْنَ الْعَرَبِ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ تَتَقَبَّلُ كَلَامَهُ وَلَوْ نَطَقَ بِالْمُحَالِ ; لِأَنَّ الثِّقَةَ بِمَظْهَرِهِ تَصُدُّ عَنْ تَمْحِيصِ خَبَرِهِ، فَهُوَ فِي حَالِهِ الظَّاهِرَةِ شُبْهَةٌ إِذَا أَنْكَرَ، وَحُجَّةٌ إِذَا اعْتَرَفَ، وَلِأَنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ النَّاسِ قَدِ اعْتَادُوا تَقْلِيدَ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا دَلِيلٍ. وَقَدْ جَرَى أَصْحَابُ الْمَظَاهِرِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِغُرُورِ النَّاسِ بِهِمْ، فَصَارَ الْغَرَضُ لَهُمْ مِنْ أَقْوَالِهِمُ التَّأْثِيرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيُسْنِدُونَ مَا يَقُولُونَ إِلَى كُتُبِهِمْ كَذِبًا صَرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا بَعِيدًا، كَمَا كَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَاءَ بِهِ، وَيَذْكُرُونَ لِلنَّاسِ أَقْوَالًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُتُبِهِمْ وَمَا هِيَ مِنْ كُتُبِهِمْ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا خِدَاعًا، وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْخَادِعِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ غَيْرَ مَا يَعْتَقِدُونَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ قَامَ عِنْدَهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ بِشَارَةُ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ - كَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ - مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ الْحَقُّ لَا مَحِيصَ عَنْهُ، لَا مَكَانَ مُعَيَّنٌ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالضَّمَائِرِ، الْحَسِيبُ عَلَى مَا فِي السَّرَائِرِ الرَّقِيبُ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَيُخْبِرُ نَبِيَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تَعْمَلُونَ) بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ. سَبَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ رَاجِيًا بِإِيمَانِهِمْ مَا لَا يَرْجُوهُ مِنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ، فَبِمِقْدَارِ حِرْصِهِ وَرَجَائِهِ كَانَ يَحْزُنُهُ عُرُوضُ الشُّبَهِ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَيَتَمَنَّى لَوْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ مَا يَمْحُو كُلَّ شُبْهَةٍ لَهُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِمُخَادَعَتِهِمُ النَّاسَ أَخْبَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُشْتَبِهِينَ فِي الْحَقِّ فَتُزَالُ شُبْهَتُهُمْ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ

145

مُعَانِدُونَ جَاحِدُونَ عَلَى عِلْمٍ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْآيَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُعَانِدِ وَلَا تُرْجِعُ الْجَاحِدَ عَنْ غَيِّهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا أَمْ لَا. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ وَلَمْ يُعِيدُوا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا - إِنْ صَحَّ - عَلَى أَنَّ خَطَأَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا مَغْفُورٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَأَنَّ النَّسْخَ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بِالشَّكِّ، وَرِوَايَةُ 16 عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ شَكٍّ فَهِيَ الصَّوَابُ. (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أَيْ: وَتَاللهِ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَكُلِّ حُجَّةٍ عَلَى صِدْقِكَ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فَضْلًا عَنْ مِلَّتِكَ، فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ وَلَا إِعْرَاضُهُمْ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ مُقْنِعَةً أَوْ صَارِفَةً لَهُمْ عَنْ عِنَادِهِمْ، فَهُمْ قَوْمٌ مُقَلِّدُونَ لَا نَظَرَ لَهُمْ وَلَا اسْتِدْلَالَ. وَكَمَا أَيْأَسَهُ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ قِبْلَتَهُ أَيْأَسَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ قِبْلَتَهُمْ، فَقَالَ: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) فَإِنَّكَ الْآنَ عَلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يُجِلُّونَهُ جَمِيعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّيَّةِ مِلَّتِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَهِيَ الْأَجْدَرُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهَا، وَتَرْكِ الْخِلَافِ إِلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ أَتْبَاعُ إِبْرَاهِيمَ لَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنْ تَعَصُّبِهِمْ لِمَا أَلِفُوا، وَعِنَادِهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا، وَإِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْقِبْلَةِ، وَكَوْنِ الْجِهَاتِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ دُونَ الِافْتِرَاقِ فَأَيُّ دَلِيلٍ أَمْ أَيَّةُ آيَةٍ تُرْجِعُهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ؟ وَأَيَّةُ فَائِدَةٍ تُرَجَّى مِنْ مُوَافَقَتِكَ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اخْتَلَفُوا هُمْ فِي الْقِبْلَةِ فَجَعَلَ النَّصَارَى لَهُمْ قِبْلَةً غَيْرَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِيسَى بَعْدَ مُوسَى؟ ! (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ جَمُدَ بِالتَّقْلِيدِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَنْظُرُ فِي آيَةٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَلَا فِي فَائِدَةِ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَهُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ، أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ، أَغْلَفُ الْقَلْبِ لَا يَعْقِلُ (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ: وَلَئِنْ فُرِضَ أَنْ تَتَّبِعَ مَا يَهْوَوْنَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ اجْتِهَادًا مِنْكَ تَقْصِدُ بِهِ اسْتِمَالَتَهُمْ إِلَى دِينِكَ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ الْحَقُّ الْيَقِينُ بِالنَّصِّ الْمَانِعِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلظَّنِّ، إِنَّكَ إِذْ تَفْعَلُ هَذَا فَرْضًا - وَمَا أَنْتَ بِفَاعِلِهِ - تَكُونُ مِنْ جَمَاعَةِ الظَّالِمِينَ (وَحَاشَاكَ) وَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ (إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) وَبَيَانُهُ أَنَّنَا قَدْ أَقَمْنَا لَكَ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعِلْمِ الَّذِي عَرَفْتَ بِهِ أَنَّ نِسْبَةَ الْجِهَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ جُمُودَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ إِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنَ التَّقْلِيدِ وَحِرْمَانِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ النَّظَرِ، وَأَنَّ طَعْنَهُمْ فِيكَ وَفِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ إِلَّا جُحُودًا وَمُعَانِدَةً لَكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّكَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ يَأْتِي مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. فَبَعْدَ هَذَا الْعِلْمِ كُلِّهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ

مِنْ أَتْبَاعِكَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُفَكِّرَ فِي أَهْوَاءِ الْقَوْمِ اسْتِمَالَةً لَهُمْ ; إِذْ لَا مَحَلَّ لِهَذِهِ الِاسْتِمَالَةِ، وَالْحَقُّ قَوِيٌّ بِذَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ - مُجَارَاةً لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِمَا يَرْجُو مِنْ فَائِدَتِهِمْ أَوِ اتِّقَاءِ مَضَرَّتِهِمْ - فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَظَالِمٌ لِمَنْ يَسْلُكُ بِهِمْ هَذَا السَّبِيلَ الْجَائِرَ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) هَذَا الْخِطَابُ بِهَذَا الْوَعِيدِ لِأَعْلَى النَّاسِ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَشَدُّ وَعِيدٍ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْهَوَى، وَيُحَاوِلُ اسْتِرْضَاءَ النَّاسِ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ ; فَإِنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُمَّتُهُ ; إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّبِعَ هُوَ أَهْوَاءَهُمْ، أَوْ أَنْ يُجَارِيَهُمْ عَلَى شَيْءٍ نَهَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، لِيَتَنَبَّهَ الْغَافِلُ وَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَاءِ النَّاسِ وَلَوْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ مِنَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَقْطَعُ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَيُرْدِي النَّاسَ فِي مَهَاوِي الْبَاطِلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ لَا يُتَسَامَحُ فِيهِ مَعَ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَى اللهِ تَعَالَى لَسَجَّلَ عَلَيْهِ الظُّلْمَ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (2: 270) فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَارِبُ مَكَانَتَهُ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ . نَقْرَأُ هَذَا التَّشْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَنَسْمَعُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ، وَلَا نَزْدَجِرُ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّاسِ وَمُجَارَاتِهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّكَ تَرَى الَّذِينَ يَشْكُونَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَيَعْتَرِفُونَ بِبُعْدِهَا عَنِ الدِّينِ يُجَارُونَ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُمَازِجُونَهُمْ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالُوا: ((مَاذَا نَعْمَلُ؟ مَا فِي الْيَدِ حِيلَةٌ)) ((الْعَامَّةُ عَمًى)) 0 ((آخِرُ زَمَانٍ)) وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هِيَ جُيُوشُ الْبَاطِلِ تُؤَيِّدُهُ وَتُمَكِّنُهُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَحُلَّ بِأَهْلِهِ الْبَلَاءُ وَيَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّكَ تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِفِينَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَى مُنْكِرِهَا، وَيُسَفِّهُونَ رَأْيَهُ وَيَعُدُّونَهُ عَابِثًا أَوْ مَجْنُونًا، إِذْ يُحَاوِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ الْمُنْكَرَ وَيُنْكِرُونَ الْمَعْرُوفَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْأَعْجَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ إِزَالَةَ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْبِدَعِ، وَمُقَاوَمَةَ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ وَالْفِتَنِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْعَامَّةَ تَحْسَبُهَا مِنَ الدِّينِ، فَإِذَا أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ تَزُولُ ثِقَتُهُمْ بِالدِّينِ كُلِّهِ لَا بِهَا خَاصَّةً! ! وَبِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ خَيْرٍ يُقَارِنُهَا كَالذِّكْرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَوَاسِمِ وَالِاحْتِفَالَاتِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْمَوَالِدِ وَكُلُّهَا بِدَعٌ وَمُنْكَرَاتٌ، حَتَّى إِنَّ الذِّكْرَ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الشَّرْعِ! ! وَالسَّبَبُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا كُلِّهِ هُوَ مُحَاوَلَةُ إِرْضَاءِ النَّاسِ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَتَأْوِيلِهَا لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَكَتَ الْعَالِمُونَ بِكَوْنِهَا بِدَعًا وَمُنْكَرَاتٍ عَلَيْهَا، إِنَّهُمْ سَكَتُوا بِالثَّمَنِ (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) (9: 9) وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُونَ التَّعَجُّبَ مِنْ جُحُودِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، وَمَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ جُحُودًا، وَلَا أَقْوَى جُمُودًا. هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى اتِّبَاعِ الْعُلَمَاءِ أَهْوَاءَ الْعَامَّةِ بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَرَحَ شَارِحٌ اتِّبَاعَهُمْ لِأَهْوَاءِ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُجَهَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ،

146

وَكَيْفَ يُفْتُونَهُمْ وَيُؤَلِّفُونَ الْكُتُبَ لَهُمْ، وَيَخْتَرِعُونَ الْأَحْكَامَ وَالْحِيَلَ الشَّرْعِيَّةَ لِأَجْلِهِمْ، وَكَيْفَ حَرَّمُوا عَلَى الْأُمَّةِ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَلْزَمُوهَا كُتُبَهُمْ ; لَظَهَرَ لِقَارِئِ الشَّرْحِ كَيْفَ أَضَاعَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ دِينَهُمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَلَبَانَ لَهُ وَجْهُ التَّشْدِيدِ فِي الْآيَةِ بِتَوْجِيهِ الْوَعِيدِ فِيهَا إِلَى النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ، فَلَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تَحْكُمَ عَلَى مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ يُسَمِّيهِمُ الْحُكَّامُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، إِذَا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَ الْعَامَّةِ أَوْ شَهَوَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وَيَمْكُرُونَ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ وَمِنْ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِمَا يَظْهَرُ مِنْ آيَاتِهِ وَآثَارِ هِدَايَتِهِ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَرْبِيَتَهُمْ وَحِيَاطَتَهُمْ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِهِمْ: - أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي بِابْنِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنِّي لَسْتُ أَشُكُّ فِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَمَّا وَلَدِي فَلَعَلَّ وَالِدَتَهُ خَانَتْ. فَقَدِ اعْتَرَفَ مَنْ هَدَاهُ اللهُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ كَهَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ عَرَفُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْرِفَةً لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الشَّكُّ (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَمَاذَا يُرْجَى مِنْهُمْ بَعْدَ هَذَا؟ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (يَعْرِفُونَهُ) لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَاسْتَبْعَدُوا عَوْدَهُ إِلَى الرَّسُولِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْآيَاتِ، وَمَعَ مَا يُعْهَدُ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْقَرَائِنِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ. وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْكِتْمَانَ إِلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذْ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَآمَنَ وَاهْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْحَدُهُ عَنْ جَهْلٍ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ لَجَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأُمَمِ بِالْعَدْلِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ أَيُّهَا الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ، أَوْ أَنَّ جِنْسَ الْحَقِّ فِي الدِّينِ هُوَ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ الْمُعْتَنِي بِشَأْنِكَ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَوْهَامِ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ شُبْهَةً عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ الَّذِي عَلَّمَكَ اللهُ فَتَمْتَرِيَ بِهِ، وَالنَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَجَّهَ الْخِطَابَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ أَمَّتُهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ

148

رَاسِخٍ فِي الْإِيمَانِ، وَخُشِيَ عَلَيْهِ الِاغْتِرَارُ بِمَظَاهِرِ أُولَئِكَ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّ بِأَمْثَالِهِمُ الْأَغْرَارُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ; وَلِذَلِكَ ارْتَدَّ بِفِتْنَةِ الْقِبْلَةِ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) احْتَجَّ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونِ أَنَّهُ الْحَقُّ) وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ أَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) أَيْ: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ عَنِ اللهِ فَهُوَ حَقٌّ، فَمَا بَالُهُمْ يُشَاغِبُونَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ خَاصَّةً؟ فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ بَعْدَ إِيرَادِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ اعْتِرَاضِيًّا كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ جَاءَ بِحُجَّةٍ أُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ تُرْغِمُ أُنُوفَ الْمُعَارِضِينَ، وَخَتَمَ بَعْدَهَا الْأَمْرَ بِتَوْلِيَةِ الْوُجُوهِ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَأْكِيدِهِ فَقَالَ: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (مَوْلَاهَا) أَيْ: لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وِجْهَةٌ تُوَلِّيهَا فِي صَلَاتِهَا، فَلَمْ تَكُنْ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ قِبْلَةً فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَيْثُ تُعَدُّ رُكْنًا ثَابِتًا فِي الدِّينِ الْمُطْلَقِ كَتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانَا يُوَلِّيَانِ الْكَعْبَةَ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَقْبِلُونَ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ النَّصَارَى ذَلِكَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ يَسْتَقْبِلُونَ جِهَاتٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ رُكْنًا ثَابِتًا فِي الْأَدْيَانِ فَأَيَّةُ شُبْهَةٍ مِنَ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ تَقَالِيدِ الْمِلَلِ عَلَى فِتْنَةِ الْمُشَاغِبِينَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَيُّ وَجْهٍ لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَزَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنَ

الْغُمَّةِ، حَتَّى جَعَلُوهُ مُسَوِّغًا لِلطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ وَالتَّشْرِيعِ؟ وَسَيَأْتِي إِيضَاحٌ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (2: 177) إِلَخْ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا مِنْ مُخِّهِ وَجَوْهَرِهِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ ; بَلْ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْأُمَمِ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا الِاتِّبَاعُ الْمَحْضُ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الْوَحْيِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ التَّخْصِيصِ لِلنَّاسِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَمْثَالِهَا مِنَ الْفُرُوعِ الْمَأْخُوذَةِ بِالتَّسْلِيمِ ; كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَكَوْنِ الرُّكُوعِ مَرَّةً وَالسُّجُودِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَيْفَ وَقَدْ ظَهَرَتْ؟ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أَيْ: ابْتَدِرُوا كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِالْعَمَلِ، وَلْيَحْرِصْ كُلٌّ مِنْكُمْ عَلَى سَبْقِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمُرْشِدِ لَا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهَذَا الْأَمْرُ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا) ذَكَرَ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ أَوْ تَرْكِهَا، لَا عَلَى الْكَوْنِ فِي بَلَدِ كَذَا أَوْ جِهَةِ كَذَا ; أَيْ: فَفِي أَيَّةِ جِهَةٍ وَأَيِّ مَكَانٍ تُقِيمُونَ فَاللهُ تَعَالَى يَأْتِي بِكُمْ وَيَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ; إِذِ الْبِلَادُ وَالْجِهَاتُ لَا شَأْنَ لَهَا فِي أَمْرِ الدِّينِ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا الشَّأْنُ لِعَمَلِ الْبِرِّ وَاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَلَا يُعْجِزُهُ الْإِتْيَانُ بِالنَّاسِ مَهْمَا بَعُدَتْ بَيْنَهُمُ الْمَسَافَاتُ، وَتَنَاءَتْ بِهِمُ الدِّيَارُ وَالْجِهَاتُ، فَالتَّصْرِيحُ بِالْقُدْرَةِ تَذْكِيرٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى الدَّعْوَى، وَالْأَمْرُ بِالْخَيْرَاتِ هُنَا بَعْدَ بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمِلَلِ فِي الْقِبْلَةِ إِجْمَالٌ يُفَصِّلُهُ ذِكْرُ أَنْوَاعِ الْبِرِّ فِي آيَةِ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الْمُشَارُ إِلَيْهَا آنِفًا وَسَتَأْتِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْفَاتِنِينَ وَالْمَفْتُونِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ: إِنَّ مُخَّ الدِّينِ وَجَوْهَرَهُ هُوَ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَهَلْ رَأَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَتْبَاعَهُ قَصَّرُوا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ أَمْ هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى كُلِّ مَكْرُمَةٍ، وَالْمُسَارِعُونَ إِلَى كُلِّ مَبَرَّةٍ، الْمُتَّصِفُونَ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ؟ فَفِي الْكَلَامِ مَعَ بَيَانِ رُوحِ الدِّينِ وَمَقْصِدِهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ تَرَكُوا فَضَائِلَ الدِّينِ وَقَصَّرُوا فِي عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، وَاكْتَفَوْا مِنْ عِلْمِ الدِّينِ بِالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ، وَاسْتِنْبَاطِ الشُّبَهِ لِلطَّعْنِ فِي الْعَامِلِينَ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجَادِلِينَ الْمُشَاغِبِينَ، ثُمَّ تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ فَضَائِلَ سَلَفِهِمْ، وَاتَّبَعُوا سَنَنَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ، وَجَدَلِهِمْ حَتَّى صَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ: وَمِنْ أَيِّ مَكَانٍ خَرَجْتَ وَفِي أَيِّ بُقْعَةٍ حَلَلْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ فِي صَلَاتِكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ الْأَمْرَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَا يَخْتَصُّ بِبِلَادٍ دُونَ أُخْرَى وَلَا بِحَضَرٍ دُونَ سَفَرٍ. وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ بِالتَّحْوِيلِ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَأَعْلَمَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ ; بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ وَأَيْنَ تَوَجَّهَ، وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الْقِبْلَةِ أَنَّ أَصْحَابَهَا يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَدْ وَثَّقَ الْأَمْرَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أَيْ: وَإِنَّ تَوَلِّيَكَ إِيَّاهُ لَهُوَ الْحَقُّ الْمُحْكَمُ بِوَحْيِ رَبِّكَ فَلَا يُنْسَخُ (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

150

أَيْ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَحْتَ نَظَرِ الْحَقِّ دَائِمًا فَهُوَ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (24: 63) وَفِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (يَعْمَلُونَ) بِالْيَاءِ، وَهُوَ يَعُودُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ فِي الْقِبْلَةِ. يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: لَا يَحْزُنْكَ أَمْرُهُمْ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ، وَمَا هُوَ بِغَافِلٍ عَنْ فَسَادِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَقَرَنَ بِهَا صِيغَةَ الْأَمْرِ السَّابِقَةِ وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ خِطَابِ النَّبِيِّ وَخِطَابِ الْأُمَّةِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلَ وَبَيَانَ الْحِكَمِ لَهُ وَهِيَ ثَلَاثٌ: الْأُولَى قَوْلُهُ: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) لَيْسَ هَذَا الْجَمْعُ وَالْإِعَادَةُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْعِلَّةِ وَتَوْطِئَةٌ ; لِبَيَانِ الْحِكَمِ الْمَوْصُولَةِ بِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ لَا يَذُوقُونَ طَعْمَ الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ يَكْتَفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ: كُلُّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، وَهُوَ نَظْمٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَا سِيَّمَا مَقَامُ الْإِطْنَابِ وَالتَّأْكِيدِ وَالِاحْتِجَاجِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْمُحَاجُّونَ فِي الْقِبْلَةِ الْمَعْرُوفُونَ ; وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمَا الْمُنَافِقُونَ. وَوَجْهُ انْتِفَاءِ حُجَّتِهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُبْعَثُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يَكُونُ عَلَى قِبْلَتِهِ وَهِيَ الْكَعْبَةُ، فَجَعْلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً دَائِمَةً لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّحْوِيلُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ لِإِحْيَاءِ مِلَّتِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ غَيْرَ بَيْتِ رَبِّهِ الَّذِي بَنَاهُ وَكَانَ يُصَلِّي هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ إِلَيْهِ، فَدُحِضَتْ حُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَكُبِتَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَظَلُّونَ يَلْغَطُونَ بِالِاحْتِجَاجِ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا لِلْإِضْلَالِ، كَقَوْلِ الْيَهُودِ: رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ قَوْمِهِ لِإِرْضَائِهِمْ وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِهِمْ، وَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، وَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ مُتَرَدِّدٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى قِبْلَةٍ. وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الْهَوَى لِلْأَعْدَاءِ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِكِتَابٍ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِبُرْهَانٍ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى حِكَمِ الْأُمُورِ وَأَسْرَارِهَا بَلْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَشَرْعِهِ بِلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، وَحَرَّكُوا رِيَاحَ الشُّبَهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا قِيمَةَ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ ; فَإِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ كَمَا وُصِفُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) إِذْ لَا مَرْجِعَ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تَمَكُّنَ لَهُ فِي النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ وَلَا إِلَى هَدْيً سَمَاوِيٍّ (وَاخْشَوْنِي) أَنَا، فَلَا تَعْصُونِي بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ

رَسُولِي عَنِّي، فَإِنَّنِي الْقَدِيرُ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ وَأَوْعَدْتُكُمْ، وَقَدْ وَعَدْتُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَنْ أُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَيْتُ لَهُمْ وَأُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، وَإِنَّنِي لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَالْآيَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الَّذِي يُخْشَى جَانِبُهُ وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْشَى ; فَإِنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَمَا آفَةُ الْحَقِّ إِلَّا تَرْكُ أَهْلِهِ لَهُ، وَخَوْفُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا مَنْ لَهُ شُبْهَةُ حَقٍّ كَصَاحِبِ النِّيَّةِ السَّلِيمَةِ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَيَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ عَمِيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ لَأَخَذَ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا لَا يُخْشَى جَانِبُهُ، خِلَافًا لِمَا فَهِمَ بَعْضُ الطُّلَّابِ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ مُشَارَكَةِ الظَّالِمِينَ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَأُولَئِكَ لَا يُخْشَوْنَ وَلَا يُبَالَى بِهِمْ، وَهَذَا لَا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ وَلَكِنَّهُ يُبَالَى بِهِ، وَيُعْتَنَى بِأَمْرِهِ بِتَوْضِيحِ السَّبِيلِ، وَتَفْصِيلِ الدَّلِيلِ، لِمَا يُرْجَى مِنْ قُرْبِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ إِذَا عَرَفَهُ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) يَعُمُّ الْيَهُودَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُنَافِقِينَ خِلَافًا لِمَنْ قَالُوا: إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، مَعَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السُّفَهَاءَ بِمَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةَ، وَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا. ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ أَوِ الْحِكْمَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بِاسْتِقْلَالِ قِبْلَتِكُمْ فِي بَيْتِ رَبِّكُمُ الَّذِي بَنَاهُ جَدُّكُمْ، وَجَعَلَ الْأُمَمَ فِيهَا تَبَعًا لَكُمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عَرَبِيٌّ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَهُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ أَوَّلًا وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ وَامْتَدَّتْ مِنْهُمْ وَبِهِمْ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَكَانُوا إِذَا آمَنُوا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ وِجْهَتُهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ بَيْتَهُمُ الْحَرَامَ، وَأَنْ يُحْيُوا سُنَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ; لِأَنَّهُ مَعْبَدُهُمْ وَأَشْرَفُ أَثَرٍ عِنْدَهُمْ، يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَاهُ وَرَفَعَ قَوَاعِدَهُ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ شَرَفُهُمْ وَمَجْدُهُمْ، وَمَوْطِنُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ، فَأَتَمَّ اللهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ بِإِعْطَائِهِمْ مَا يُحِبُّونَ، وَتَوْجِيهِ جَمِيعِ شُعُوبِ الْإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِهِمْ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ النِّعَمِ. نَعَمْ ; إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَامْتِثَالُهُ نِعْمَةٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَشَرَفٌ لِلْأُمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِتَارِيخِهَا الْمَاضِي وَبِمَجْدِهَا الْآتِي، وَكَانَ أَثَرُهُ حَمِيدًا نَافِعًا فِيهَا، تَكُونُ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالْمِنَّةُ أَكْمَلَ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالْإِتْمَامِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ: أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَشْغُولَةً بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَكَانَ سُلْطَانُ أَهْلِ الشِّرْكِ مُتَمَكِّنًا فِيهَا، وَالْأَمَلُ فِي انْكِشَافِهِ عَنْهَا بَعِيدًا فَصَرَفَهُ اللهُ أَوَّلًا عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتٍ مُدَنَّسٍ بِعِبَادَةِ الشِّرْكِ - وَقَدْ كَانَ اللهُ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَمَّا قَرُبَ زَمَنُ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَعِبَادَتِهَا وَإِزَالَةِ سُلْطَةِ الْوَثَنِيِّينَ عَنْهُ، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى قِبْلَةً

لِلْمُوَحِّدِينَ ; لِيُوَجِّهَ النُّفُوسَ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِتَطْهِيرِهِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَالسَّيْرِ فِيهِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْإِتْمَامِ وَكَوْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مُقَدِّمَةً لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ فَتْحِ مَكَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (48: 2) فَكَانَ فِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَنَصْرِ اللهِ التَّوْحِيدَ عَلَى الشِّرْكِ وَمَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنْ نَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي الْأَنَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ بَعْدَمَا ذَكَرَ: (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا) (48: 3) . ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِكْمَةَ الثَّالِثَةَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ: (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أَيْ: وَلْيُعِدَّكُمْ بِذَلِكَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُوخِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْمَحَاجَّاتِ تُظْهِرُ ضَعْفَ الْبَاطِلِ وَزُهُوقَهُ، وَتُبَيِّنُ قُوَّةَ الْحَقِّ وَثُبُوتَهُ، فَالْحُجَّةُ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا، وَالشُّبْهَةُ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا، وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْكَوْنِ بِأَنَّ الْفِتَنَ تُنِيرُ الطَّرِيقَ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَتُرْخِي سُدُولَ ظُلْمَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَتُمَحِّصُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَمْحَقُ الْكَافِرِينَ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَرَى نَفْسَهُ عَلَى الْحَقِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ التَّمَكُّنَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ لَا يُعْرَفُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ لِلْمُحِقِّ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ وَيُعَارِضُهُ فِي الْحَقِّ، هُنَالِكَ تَتَوَجَّهُ قُوَاهُ إِلَى تَأْيِيدِ حَقِّهِ وَتَمْكِينِهِ، وَيُحِسُّ بِحَاجَتِهِ إِلَى الْمُنَاضَلَةِ دُونَهُ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يُظْهِرُ الْبَاطِلُ الْحَقَّ بَعْدَ خَفَائِهِ ; فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الْحَقِّ تَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَنْقِيحِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِمَّا عَسَاهُ يَلْتَصِقُ بِهِ أَوْ يُجَاوِرُهُ مِنْ غَوَاشِي الْبَاطِلِ، وَتَجْعَلُ عِلْمَهُ بِهِ مُفَصَّلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُجْمَلًا، وَمُبَرْهَنًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَلَّمًا، فَهِيَ مُدْرِجَةُ الْكَمَالِ لِأَهْلِ الْيَقِينِ، وَمَزَلَّةُ الرَّيْبِ لِلْمُقَلِّدِينَ. قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: جَزَى اللهُ أَعْدَاءَنَا عَنَّا خَيْرًا إِذْ لَوْلَاهُمْ مَا وَصَلْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْقُرْبِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: عِدَاتِي لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَّةٌ ... فَلَا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّي الْأَعَادِيَا هُمُ بَحَثُوا عَنْ زَلَّتِي فَاجْتَنَبْتُهَا ... وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَدُوَّ يُنَقِّبُ عَنِ الزَّلَّاتِ، وَيَبْحَثُ فِي الْهَفَوَاتِ، وَطَالِبُ الْحَقِّ يَتَوَجَّهُ دَائِمًا إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّظَرِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا وَجَدَ فِي كَلَامِ الْعَدُوِّ مَغْمَزًا صَحِيحًا تَوَقَّاهُ، أَوْ عِثَارًا فِي طَرِيقِهِ نَحَّاهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ثَبَتَ عَلَى حَقِّهِ، وَعَرَفَ مَنَافِذَ الطَّعْنِ فِيهِ فَسَدَّهَا، فَكَانَ بِذَلِكَ مِنَ الْكَمَلَةِ الرَّاسِخِينَ ; لِهَذَا كُلِّهِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَثَارَهَا السُّفَهَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مُعِدَّةٌ لِلِاهْتِدَاءِ وَوَسِيلَةٌ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ النَّاهِضَاتِ فِي بَيَانِهِ وَحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ) أَيْ: يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بِاسْتِيلَائِكُمْ عَلَى بَيْتِهِ الَّذِي

151

جَعَلَهُ قِبْلَةً لَكُمْ، وَتَطْهِيرِكُمْ إِيَّاهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي فِي قَلْبِ بِلَادِكُمْ، وَمَوْضِعُ شَرَفِكُمْ وَفَخْرِكُمْ، كَمَا أَتَمَّهَا عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِهِ رَسُولًا مِنْكُمْ، فَالْقِبْلَةُ فِي بِلَادِكُمْ، وَالرَّسُولُ مِنْ أُمَّتِكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلْعَرَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الرَّسُولَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَ بِهَا نِعْمَةً تَامَّةً، وَرَحْمَةً شَامِلَةً فَقَالَ: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّ الْآيَاتِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَأَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ الْوَحْيِ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةٍ (يَتْلُو) عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ أَعَمُّ، فَكُلُّ بُرْهَانٍ يُقِيمُهُ فَقَدْ تَلَا عَلَيْهِمْ عِبَارَتَهُ، وَذَكَرَ لَهُمْ فِيهِ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَوَجْهُ الْمِنَّةِ أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا إِذْعَانٍ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى يَكُونُ بِهَا الْعَقْلُ مُسْتَقِلًّا، وَالدِّينُ مُؤَيِّدًا لَهُ وَهَادِيًا، لَا مُرْغِمًا وَلَا مُعَطِّلًا، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ، فَهِيَ فِي نَفْسِهَا آيَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِأَنْوَاعِ إِعْجَازِهَا الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا (ص 159 - 191 ج1) وَتَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا. الْآيَاتُ تَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ، وَيَلِيهَا تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُزَكِّيكُمْ) أَيْ: يُطَهِّرُ نُفُوسَكُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ، وَالرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَةِ، وَيُخَلِّقُهَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ بِمَا لَكُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُسْوَةِ لَا بِالْقَهْرِ وَالسَّطْوَةِ، وَخَصَّ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) التَّزْكِيَةَ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ كَمَا جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَاحِي لِلشِّرْكِ، جَاءَ بِالتَّهْذِيبِ الْمُطَهِّرِ مِنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ وَقَبَائِحِ الْعَادَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْعَرَبِ، فَقَدْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهُمْ - يَدْفِنُونَهُنَّ حَيَّاتٍ - وَيَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْقَسْوَةِ وَالشُّحِّ، وَكَانُوا يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَهْوَنِ سَبَبٍ يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمُ الْجَاهِلِيَّةَ ; لِمَا اعْتَادُوهُ مِنَ الْبَغْيِ فِي الثَّارَاتِ وَمِنْ شَنِّ الْغَارَاتِ وَنَهْبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّسَفُّلِ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَتَزَوَّجُ زَوْجَ أَبِيهِ أَوْ يَعْضِلُهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ زَكَّاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِاقْتِدَائِهِمْ بِأَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ فِي عِبَادَاتِهِ الْكَامِلَةِ وَآدَابِهِ الْعَالِيَةِ، وَجَمْعِهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْفُرْقَةِ، وَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى صَارُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلَتْ شَرِيعَتُهُ ذِمَّتَهُمْ وَاحِدَةً يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَإِذَا أَعْطَى مَوْلًى أَوْ رَقِيقٌ لَهُمْ أَمَانًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ مُحَارِبٍ كَانَ ذَلِكَ كَتَأْمِينِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، فَأَيُّ تَزْكِيَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ؟ .

وَأَقُولُ: إِنَّهُمْ بِزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ هَذِهِ فَتَحُوا الْعَالَمَ وَكَانُوا أَئِمَّةَ أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَقِرُ جِنْسَهُمْ كُلَّهُ، فَإِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنَّمَا عَرَفُوا فَضْلَ الْإِسْلَامِ بِعَدْلِهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي فُتُوحِهِمْ، وَمَا فَهِمُوا الْقُرْآنَ إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَتَعَلُّمِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ. وَالرَّسُولُ الَّذِي زَكَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي زَكَّتْ أُمَمًا كَثِيرَةً حَقِيقٌ بِأَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ أَزْكَى الْأَنْفُسِ وَأَكْمَلَهَا، وَلَكِنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَسْتَدِلُّ بِآيَةِ (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (19: 19) عَلَى تَفْضِيلِ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَوَصْفُ الْغُلَامِ بِالزَّكِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْغِلْمَانِ، فَضْلًا عَمَّنْ زَكَى الْأَنَامَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْعَبْدِ الَّذِي عَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (18: 74) الْآيَةَ، فَهَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوصَفَا بِوَصْفِهِ؟ وَبَعْدَ ذِكْرِ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ أَمْرَ التَّعْلِيمِ فَقَالَ: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أَيِ: الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ، أَوِ الْكِتَابَةَ الَّتِي تَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ: فَهِيَ الْعِلْمُ الْمُقْتَرِنُ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَمَنَافِعِهَا، الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ. (أَقُولُ) : وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهَا أُطْلِقَتْ عَلَى بَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ كَالْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْوَصَايَا الْمَقْرُونَةِ بِعِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (17: 39) وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ أَنَّ اللهَ آتَاهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مِنْهَا وَصَايَاهُ لِابْنِهِ الْمُعَلِّلَةَ بِأَسْبَابِ النَّهْيِ (رَاجِعْ 31: 12 - 19 الْآيَاتِ) فَحِكْمَةُ الْقُرْآنِ أَعْلَى الْحِكَمِ، وَتَلِيهَا حِكْمَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: ((فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ)) وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ((الْقُرْآنَ)) بَدَلَ ((الْحِكْمَةَ)) . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ هُنَا بِتَفْصِيلٍ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَاكَ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: دَعَا الْقُرْآنُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَبَيَّنَ أُصُولَ الْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مَعَ السُّوقَةِ وَالْمَرْءُوسِينَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ نِظَامَ الْبُيُوتِ - الْعَائِلَاتِ - وَلَمْ يُفَصِّلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ

بِالْأُسْوَةِ وَالْعَمَلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّنَّةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بُيُوتِهِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ; فَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلْقُرْآنِ بِتَفْصِيلِ مُجْمَلِهِ وَبَيَانِ مُبْهَمِهِ، وَإِظْهَارِ مَا فِي أَحْكَامِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْمَنَافِعِ ; وَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ كَالْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - لِتَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَلَوْلَا هَذِهِ التَّرْبِيَةُ بِالْعَمَلِ لَمَا كَانَ الْإِرْشَادُ الْقَوْلِيُّ كَافِيًا فِي انْتِقَالِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ طَوْرِ الشَّتَاتِ وَالْفُرْقَةِ وَالْعَدَاءِ وَالْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ إِلَى الِائْتِلَافِ وَالِاتِّحَادِ وَالتَّآخِي وَالْعِلْمِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ، وَمَرَّنَتْهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. كُلُّنَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْفَضِيلَةَ وَالرَّذِيلَةَ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ يَعْرِفُونَ الْحُكْمَ يَرَوْنَ حِكْمَتَهُ، وَدُونَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لِمَ كَانَ هَذَا حَرَامًا؟ وَلَا تَنْفُذُ أَفْهَامُهُمْ فِي أَعْمَاقِ الْحُكْمِ فَتَصِلُ إِلَى فِقْهِهِ وَسِرِّهِ، فَتَعْلَمُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمِ مِنَ الضَّرَرِ لِمُرْتَكِبِهِ وَلِلنَّاسِ، وَمَا وَرَاءَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَفَقِهُوهُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَيْهِ وَمُلَاحَظَةِ آثَارِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرَبِّينَ فِي الْعَمَلِ بِهِ - كَمَا أَخَذَ الصَّحَابَةُ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمَةِ الْإِجْمَالِ وَالْإِبْهَامِ فِي الْمَعْرِفَةِ إِلَى نُورِ التَّجَلِّي وَالتَّفْصِيلِ، حَتَّى تَكُونَ الْجُزْئِيَّاتُ مُشْرِقَةً وَاضِحَةً، وَلَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى إِحْلَالِ الْحَلَالِ بِالْعَمَلِ، وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ بِالتَّرْكِ، فَقَدْ وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) عَلَى فِقْهِ الدِّينِ وَنَفَذَ بِهِمْ إِلَى سِرِّهِ، فَكَانُوا حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ، عُدُولًا نُجَبَاءَ، حَتَّى أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَحْكُمُ الْمَمْلَكَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُقِيمُ فِيهَا الْعَدْلَ وَيُحْسِنُ السِّيَاسَةَ وَهُوَ لَمْ يَحْفَظْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْضَهُ، وَلَكِنَّهُ فَقِهَهُ حَقَّ فِقْهِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى - فِقْهُ الدِّينِ وَمَعْرِفَةُ أَسْرَارِ الْأَحْكَامِ - غَيْرُ التَّزْكِيَةِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهَا وَيُعِينُ عَلَيْهَا، حَتَّى يُطَابِقَ الْعِلْمُ الْعَمَلَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَبَأٌ عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (2: 129) الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ ذِكْرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى التَّزْكِيَةِ، وَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ التَّزْكِيَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَاحَظَ فِي دَعْوَتِهِ الطَّرِيقَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيمَ يَكُونُ أَوَّلًا ثُمَّ تَكُونُ التَّزْكِيَةُ ثَمَرَةً لَهُ وَنَتِيجَةً، وَهَاهُنَا ذَكَرَ التَّرْتِيبَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ وَالْوُقُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا تَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، وَإِلَى الِاعْتِقَادِ بِإِعَادَةِ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ كُلَّ نَفْسٍ وَيَجْزِيهَا بِعَمَلِهَا وَصِفَاتِهَا، فَأَجَابَ النَّاسُ دَعَوْتَهُ بِالتَّدْرِيجِ، وَكُلُّ مَنْ آمَنَ لَهُ كَانَ يَقْتَدِي بِهِ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ أَحْكَامٌ وَلَا شَرَائِعُ، ثُمَّ شُرِعَتِ الْأَحْكَامُ بِالتَّدْرِيجِ، فَالتَّزْكِيَةُ بِالتَّأَسِّي بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ إِقَامَةِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَمُقَدَّمَةً عَلَى تَلَقِّي الشَّرَائِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْأَحْكَامِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أَيْ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ الْبُيُوتِ وَالْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسِيَاسَةِ الْحُرُوبِ وَالْأُمَمِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، إِذْ لَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ سِوَى الْوَحْيِ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ اهـ. يَعْنِي: كَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَسِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَكُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّحَ أَغْلَاطَهُمْ، وَبَيَّنَ سَقَاطَهُمْ، وَخَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ - وَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ - اهْتِمَامًا بِهِ وَتَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، وَلَكِنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَعَطْفَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ مَا قَبْلَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ أَنْفُسِكُمْ، وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمَةِ فِيكُمْ، وَقَدْ بَلَغُوا بِتَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْلَغًا فَاقُوا فِيهِ سَائِرَ الْأُمَمِ ; أَيْ: فَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْكِتَابِ بَلْ هُنَاكَ زِيَادَةٌ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لِتَبْيِينِهَا، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ هَذَا التَّعْلِيمِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَبِالْآيَاتِ: الدَّلَائِلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَصْدَرُ كَتَبَ أَيْ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَةَ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أُمِّيِّينَ. (فَاذْكُرُونِي) فِي قُلُوبِكُمْ بِمَا شَرَعْتُ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ لِلْفَوَائِدِ الثَّلَاثِ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَبِمَا أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعْمَةِ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْكُمْ يُعَلِّمُكُمْ وَيُزَكِّيكُمْ، وَبِكُلِّ مَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ ذَلِكَ، وَلَا تَنْسَوْا أَنَّنِي أَنَا الْمُتَفَضِّلُ بِإِفَاضَةِ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَيْكُمْ (أَذْكُرْكُمْ) بِإِدَامَتِهَا وَتَمْكِينِهَا وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مِنَ النَّصْرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَاذْكُرُونِي بِأَلْسِنَتِكُمْ بِأَسْمَائِي الْحُسْنَى، وَالتَّحَدُّثِ بِنِعَمِي الَّتِي لَا تُحْصَى، وَالثَّنَاءِ عَلَيَّ بِهَا سِرًّا وَجَهْرًا، أَذْكُرْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِرِضَائِي عَنْكُمْ وَقُرْبِي مِنْكُمْ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ، إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا)) إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَبِيرَةٌ جِدًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّنِي أُعَامِلُكُمْ بِمَا تُعَامِلُونَنِي بِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ وَنَحْنُ الْعَبِيدُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنَّا وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ ; أَيْ: وَهَذِهِ أَفْضَلُ تَرْبِيَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: إِذَا ذَكَرُوهُ ذَكَرَهُمْ بِإِدَامَةِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَإِذَا نَسُوهُ نَسِيَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ مَا يَحْفَظُ النِّعَمَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَزِيدَ بِمُقْتَضَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ فَقَالَ: (وَاشْكُرُوا لِي) هَذِهِ النِّعَمَ بِالْعَمَلِ بِهَا وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مَا وُجِدَتْ لِأَجْلِهِ (وَلَا تَكْفُرُونِ) أَيْ: لَا تَكْفُرُوا نِعَمِي بِإِهْمَالِهَا أَوْ صَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ مَا وُجِدَتْ لِأَجْلِهِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ إِذْ كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى فَحَوَّلَتِ الدِّينَ عَنْ قُطْبِهِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُصْلِحُ لِلْأَفْرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ،

153

وَعَطَّلَتْ مَا أَعْطَاهَا اللهُ مِنْ مَوَاهِبِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَالْمُلْكِ فَلَمْ تَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهَكَذَا انْحَرَفُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عَنْ أَصْلِهِ، فَسَلَبَهُمُ اللهُ مَا كَانَ وَهَبَهُمْ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ رَحِمَهُمْ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ بِهِدَايَةٍ عَامَّةٍ تُعَرِّفُهُمْ وَجْهَ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَتُحَذِّرُهُمُ الْعَوْدَ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَقَدِ امْتَثَلَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْأَوَامِرَ زَمَنًا قَصِيرًا فَسَعِدُوا، ثُمَّ تَرَكُوهَا بِالتَّدْرِيجِ فَحَلَّ بِهِمْ مَا نَرَى كَمَا قَالَ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14: 7) فَإِذَا عَادُوا عَادَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانَ أَعْطَى سَلَفَهُمْ وَإِلَّا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ذَهَبَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي جُمَلِهِ وَآيَاتِهِ مُفَكَّكَةً مُنْفَصِلًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ ; الْتِمَاسًا لِسَبَبِ النُّزُولِ فِي كُلِّ آيَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ جُمَلِهِ وَكَمَالِ نَظْمِهِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَانَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) هُوَ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبْرِ فِيهِ الصَّبْرُ عَنِ الْمَعَاصِي وَحُظُوظِ النَّفْسِ، وَاعْتَمَدَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ (الْجَلَالُ) ، وَقَدْ أَوْرَدَ قَوْلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَسَأَلَ اللهَ تَعَالَى الصَّبْرَ عَلَى احْتِمَالِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ عَمَلٍ نَفْسِيٍّ أَوْ بَدَنِيٍّ أَوْ تَرْكٍ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ، وَالْمَعْنَى: اسْتَعِينُوا عَلَى إِقَامَةِ دِينِكُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنْ مَصَائِبِ الْحَيَاةِ بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ، وَبِالصَّلَاةِ الَّتِي تَكْبُرُ بِهَا الثِّقَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْغُرُ بِمُنَاجَاتِهِ فِيهَا كُلُّ الْمَشَاقِّ وَأَعَمُّهَا الْمَصَائِبُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ النَّفْعِ كَالْجِهَادِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا أَهَمَّ مَوَاضِعِهِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ مَعَ بَيَانِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَوَجْهِ الِاتِّصَالِ بِمَا مِثَالُهُ مُوَضَّحًا.

ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى افْتِتَانَ النَّاسِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَإِزَالَةُ شُبَهِ الْفَاتِنِينَ وَالْمَفْتُونِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشَاغِبِينَ، وَحِكَمُ التَّحْوِيلِ وَفَوَائِدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا إِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَالْبِشَارَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَكَّةَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ طُرُقًا لِلْهِدَايَةِ، لِمَا فِي الْفِتَنِ مِنَ التَّمْحِيصِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُنَافِقِ، فَهِيَ تُظْهِرُ الثَّابِتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُطَمْئِنَ بِهِ، وَتَفْضَحُ الْمُنَافِقَ الْمُرَائِي فِيهِ بِمَا تُظْهِرُ مِنْ زِلْزَالِهِ وَاضْطِرَابِهِ فِيمَا لَدَيْهِ، أَوِ انْقِلَابِهِ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ، ثُمَّ شَبَّهَ هَذِهِ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ بِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ فِيهِمْ، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْبِيتِ فِي مُقَاوَمَةِ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. وَقَفَّى ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ ; لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ الَّذِي صَوَّرَهُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ بِصُورَةِ النِّقْمَةِ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَجَلُّ مِنَّةٍ وَأَكْبَرُ نِعْمَةٍ. لَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا وَشُكْرُهَا لِلْمُنْعِمِ جَلَّ شَأْنُهُ كَانَتْ تُقْرَنُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَصَائِبِ، أَكْبَرُهَا مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْبَاطِلِ وَأَحْزَابِهِ، وَأَصْغُرُهَا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ، أَلَيْسَ مِنَ النَّسَبِ الْقَرِيبِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَمِنْ كَمَالِ الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ أَمْرٌ آخَرُ بِالصَّبْرِ، وَأَنْ يَعِدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا كَمَا وَعَدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى ذَاكَ؟ بَلَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، مُتَمِّمَةٌ لِلْإِرْشَادِ فِيهَا، وَقَدْ هَدَى سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ إِلَى عِلَاجِ الدَّاءِ قَبْلَ بَيَانِهِ، فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ أَشْعَرَهُمْ بِمَا يُلَاقُونَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُ وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، أَوِ السَّعْيِ لِعِيَالِهِ - اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ أَوِ انْزِوَاءً فِي خَلْوَةٍ - عَامِلًا بِهَا. كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَكَانَتِ الْأُمَمُ كُلُّهَا مُنَاوِئَةً لَهُمْ، فَالْمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فَتِئُوا يُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا يُلَاقُونَ فِي مُهَاجِرِهِمْ مَا يُلَاقُونَ مِنْ عَدَاوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَكْرِهِمْ، وَمِنْ مُرَاوَغَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَيْدِهِمْ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَعِينُوا فِي مُقَاوَمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي سَائِرِ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. أَمَّا الصَّبْرُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَمْ تُذْكَرْ فَضِيلَةٌ أُخْرَى فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ التَّوَاصِي بِهِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ مَقْرُونًا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ ; إِذْ لَا بُدَّ لِلدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَلَكَةُ الثَّبَاتِ وَالِاحْتِمَالِ الَّتِي تُهَوِّنُ عَلَى صَاحِبِهَا كُلَّ مَا يُلَاقِيهِ فِي سَبِيلِ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ.

فَضِيلَةٌ هِيَ أَمُّ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُرَبِّي مَلَكَاتِ الْخَيْرِ فِي النَّفْسِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلَّا وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الصَّبْرُ فِي ثَبَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَمَلٍ اخْتِيَارِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ إِثْبَاتُ حَقٍّ أَوْ إِزَالَةُ بَاطِلٍ أَوِ الدَّعْوَةُ إِلَى عَقِيدَةٍ، أَوْ تَأْيِيدُ فَضِيلَةٍ، أَوْ إِيجَادُ وَسِيلَةٍ إِلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ ; لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي تُقَابَلُ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَاوَمَةِ وَالْمُحَادَّةِ ; الَّتِي يُعْوَزُّ فِيهَا الصَّبْرُ، وَيَعِزُّ مَعَهَا الثَّبَاتُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ، وَمُصَارَعَةِ الشَّدَائِدِ، فَالثَّابِتُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الصَّابِرُ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَكَلِّفًا، وَمَتَى رَسَخَتِ الْمَلَكَةُ يُسَمَّى صَاحِبُهَا صَبُورًا وَصَبَّارًا، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمِلٍ لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَعَهُمْ وَبَشَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ لِلْحَقِّ وَالثَّبَاتِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْجَزَاءِ، بَلِ الصَّبْرُ نَفْسُهُ مَلَكَةٌ اكْتِسَابِيَّةٌ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، حَتَّى فَازُوا بِعَاقِبَةِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودَةِ وَنَصَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْخُسْرِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ. الْمُتَحَمِّلُ لِلْمَكْرُوهِ مَعَ السَّآمَةِ وَالضَّجَرِ لَا يُعَدُّ صَابِرًا، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ مُنْتَحِلِي الْعِلْمِ وَمُدَّعِي الصَّلَاحِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، تَرَاهُمْ أَضْعَفَ النَّاسِ قُلُوبًا وَأَشَدَّهُمُ اضْطِرَابًا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ مَا يَهْوُونَ، عَلَى أَنَّ عُنْوَانَ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِعُرْوَةِ الدِّينِ هُوَ جَرَسُ الذِّكْرِ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي وَلَا لِلذَّاكِرِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْقَلْبِ عَادِمَ الثِّقَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُبَرِّيءُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الْجَزَعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) إِلَخْ، وَقَدْ جَعَلَ ذِكْرَهُ مَعَ الثَّبَاتِ فِي الْبَأْسَاءِ فِي قَرْنٍ، إِذْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (8: 45) وَقَدْ قَرَنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الصَّلَاةَ بِالصَّبْرِ وَجَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ذَرِيعَةَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ مِنَ الشَّدَائِدِ. وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ مُصَلِّينَ لَكَانُوا مِنَ الصَّابِرِينَ، وَإِنَّمَا تِلْكَ حَرَكَاتٌ تَعَوَّدُوهَا فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا سَاهِينَ عَنْهَا، أَوْ يَقْصِدُونَ بِهَا قُلُوبَ النَّاسِ يَبْتَغُونَ عِنْدَهَا الْمَكَانَةَ الرَّفِيعَةَ بِالدِّينِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ سِوَاهَا، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ، وَيُحَاوِلَ تَحْصِيلَ مَلَكَةِ الصَّبْرِ عِنْدَمَا تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُهُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى عَمَلٍ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالُ الْعَظِيمَةُ كَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ وَالِانْتِقَالِ بِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; لِذَلِكَ تَرَى كَثِيرِينَ يَشْرَعُونَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ

فَيُعْوِزُهُمُ الصَّبْرُ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْخُطْوَةِ الثَّانِيَةِ. وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَلَكَةِ فَهُوَ خَائِنٌ لِنَفْسِهِ جَاهِلٌ بِمَا أَوْدَعَ اللهُ فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، فَهُوَ بِاحْتِقَارِهِ لِنَفْسِهِ مُحْتَقِرٌ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِحْسَاسِ بِالْعَجْزِ قَدْ سَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحِرْمَانَ مِنْ جَمِيعِ الْفَضَائِلِ. وَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ فَوَجْهُهَا مَحْجُوبٌ لَا يَكَادُ يَنْكَشِفُ إِلَّا لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَوَصَفَ ذَوِيهَا بِفُضْلَى الصِّفَاتِ وَهِيَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَمُنَاجَاتُهُ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ سُبْحَانَهُ وَاسْتِغْرَاقُهُ فِي الشُّعُورِ بِهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ سُلْطَانِهِ. تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا جَلَّ ذِكْرُهُ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (2: 45) وَقَالَ فِيهَا: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (29: 45) وَلَيْسَتْ هِيَ الصُّورَةُ الْمَعْهُودَةُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ بِاللِّسَانِ خَاصَّةً، الَّتِي يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ أَنْ يَتَعَوَّدَهَا، وَالَّتِي نُشَاهِدُ مِنَ الْمُعْتَادِينَ لَهَا الْإِصْرَارَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَاجْتِرَاحِ الْآثَامِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَيُّ قِيمَةٍ لِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْخَفِيفَةِ فِي نَفْسِهَا حَتَّى يَصِفَهَا رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ بِالْكِبَرِ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، إِنَّمَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ وَالْأَقْوَالُ صُورَةً لِلصَّلَاةِ لِتَكُونَ وَسِيلَةً لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ، وَتَنْبِيهِ الذَّاهِلِينَ، وَدَافِعًا يَدْفَعُ الْمُصَلِّي إِلَى ذَلِكَ التَّوَجُّهِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَلْبَ بِعَظَمَةِ اللهِ وَسُلْطَانِهِ حَتَّى يَسْتَسْهِلَ فِي سَبِيلِهِ كُلَّ صَعْبٍ، وَيَسْتَخِفَّ بِكُلِّ كَرْبٍ، وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ احْتِمَالُ كُلِّ بَلَاءٍ، وَمُقَاوَمَةُ كُلِّ عَنَاءٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ شَيْئًا يَعْتَرِضُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا وَيَرَى سَيِّدَهُ وَمَوْلَاهُ أَكْبَرَ مِنْهُ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ كَبِيرٌ، إِلَّا مَا كَانَ مُرْضِيًا لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَوَارِثِ. ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ مَعَكُمْ لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعِيَّةَ هُنَا مَعِيَّةُ الْمَعُونَةِ، فَالصَّابِرُونَ مَوْعُودُونَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالْمَعُونَةِ وَالظَّفَرِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مُعِينَهُ وَنَاصِرَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْعَظِيمَةَ لَا تَتِمُّ وَلَا يَنْجَحُ صَاحِبُهَا إِلَّا بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فَهُوَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ، وَاللهُ مَعَهُ بِمَا جَعَلَ هَذَا الصَّبْرَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ ; لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِمْرَارَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّجَاحِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَيْسَ اللهُ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ تَنَكَّبَ سُنَّتَهُ، وَلَنْ يَثْبُتَ فَيَبْلُغَ غَايَتَهُ. عَلِمَ اللهُ تَعَالَى مَا سَيُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِقَامَتِهِ مِنَ الْمُقَاوَمَاتِ وَتَثْبِيطِ الْهِمَمِ، وَمَا يَقُولُهُ لَهُمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَمَا يَقُولُ الضُّعَفَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ: كَيْفَ تُبْذَلُ هَذِهِ النُّفُوسُ وَتُسْتَهْدَفُ لِلْقَتْلِ بِمُخَالَفَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا؟ وَمَا الْغَايَةُ مِنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهَ لِأَجْلِ

154

تَعْزِيزِ رَجُلٍ فِي دَعْوَتِهِ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَرُبَّمَا أَثَّرَ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فَاسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ، فَعَلَّمَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مُجَاهَدَةِ الْخَوَاطِرِ وَالْهَوَاجِسِ، وَمُقَاوَمَةِ الشُّبُهَاتِ وَالْوَسَاوِسِ. فَأَمَرَ أَوَّلًا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَعْظَمَ شَيْءٍ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَحِمَايَتِهِ، ذَكَرَهُ مُدْرَجًا فِي سِيَاقِ تَقْرِيرِ حَقِيقَةٍ وَدَفْعِ شُبْهَةٍ فَقَالَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ) أَيْ: لَا تَقُولُوا فِي شَأْنِهِمْ هُمْ أَمْوَاتٌ. وَقَالُوا: إِنَّ اللَّامَ فِي (لِمَنْ) لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَالتَّرْكِيبُ مَأْلُوفٌ (بَلْ) هُمْ (أَحْيَاءٌ) فِي عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِكُمْ (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) بِحَيَاتِهِمْ إِذْ لَيْسَتْ فِي عَالَمِ الْحِسِّ الَّذِي يُدْرَكُ بِالْمَشَاعِرِ. ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَيَاةُ حَيَاةً خَاصَّةً غَيْرَ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا جَمِيعُ الْمِلِّيِّينَ فِي جَمِيعِ الْمَوْتَى مِنْ بَقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَشْبَاحِهِمْ ; وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَجْسَادِ وَإِنْ فَنِيَتْ أَوِ احْتَرَقَتْ أَوْ أَكَلَتْهَا السِّبَاعُ أَوِ الْحِيتَانُ، وَقَالُوا: إِنَّهَا حَيَاةٌ لَا نَعْرِفُهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ مِثْلَهُمْ: إِنَّنَا لَا نَعْرِفُهَا وَنَزِيدُ إِنَّنَا لَا نُثْبِتُ مَا لَا نَعْرِفُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَيَاةٌ يَجْعَلُ اللهُ بِهَا الرُّوحَ فِي جِسْمٍ آخَرَ يَتَمَتَّعُ بِهِ وَيُرْزَقُ، وَرَوَوْا فِي هَذَا رِوَايَاتٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَهُوَ ((إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ)) وَقِيلَ: إِنَّهَا حَيَاةُ الذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ الضَّلَالُ وَالْهُدَى - رُوِيَ هَذَا عَنِ الْأَصَمِّ - أَيْ: لَا تَقُولُوا إِنَّ بَاذِلَ رُوحِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ضَالٌّ بَلْ هُوَ مُهْتَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا حَيَاةٌ رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، فَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَدِّ (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (82: 13، 14) أَيْ: إِنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ فِي الرُّوحِ إِنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا تَقُومُ بِجِسْمٍ لَطِيفٍ ((أَثِيرِيٍّ)) فِي صُورَةِ هَذَا الْجِسْمِ الْمُرَكِّبِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ

155

فِي الدُّنْيَا، وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ تَجُولُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْجِسْمِ الْمَادِّيِّ، فَإِذَا مَاتَ الْمَرْءُ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ فَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ وَتَبْقَى مَعَهُ وَهُوَ جِسْمٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَلَّلُ، وَأَمَّا هَذَا الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَتَبَدَّلُ فِي كُلِّ بِضْعِ سِنِينَ. قَالَ: وَيَقْرُبُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ ; أَيْ: لَهَا صُورَةٌ، وَمَا الصُّورَةُ إِلَّا عَرَضٌ، وَجَوْهَرُ هَذَا الْعَرَضِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْأَثِيرِ. وَإِذَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَثِيرِ النُّفُوذُ فِي الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ كَمَا يَقُولُونَ حَتَّى إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقِلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى طَبَقَةِ الْهَوَاءِ فَلَا مَانِعَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الرُّوحُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُوَ يَحُلُّ بِهَا جِسْمًا آخَرَ تَنْعَمُ بِهِ وَتُرْزَقُ سَوَاءٌ كَانَ جِسْمَ طَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (3: 169) وَهَذَا الْقَوْلُ يُقَرِّبُ مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْعِلْمِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ تَمْتَازُ بِهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى سَائِرِ أَرْوَاحِ النَّاسِ، بِهَا يُرْزَقُونَ وَيَنْعَمُونَ، وَلَكِنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا وَلَا حَقِيقَةَ الرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ بِهَا، وَلَا نَبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فَضْلَ الشَّهَادَةِ الَّتِي اسْتُهْدِفَ لَهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَجْمُوعَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يَبْلُوهُمْ وَيَمْتَحِنُهُمْ بِهَا وَهِيَ لَا تُنَافِي مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا فَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) أَيْ: وَلَنَمْتَحِنَنَّكُمْ بِبَعْضِ ضُرُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَصَائِبِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْمَعَايِشِ، وَأَكَّدَ هَذَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِتَوْطِينِ الْأَنْفُسِ عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُمْ بِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إِلَى الْإِيمَانِ لَا يَقْتَضِي سَعَةَ الرِّزْقِ وَقُوَّةَ السُّلْطَانِ، وَانْتِفَاءِ الْمَخَاوِفِ وَالْأَحْزَانِ ; بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، كَمَا أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْخَلْقِ وُقُوعَ الْمَصَائِبِ بِأَسْبَابِهَا. وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ مَنْ يَسْتَفِيدُ مِنْ مَجَارِي الْأَقْدَارِ، إِذْ يَتَرَبَّى وَيَتَأَدَّبُ بِمُقَاوَمَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَخْطَارِ، وَمَنْ لَمْ تُعَلِّمْهُ الْحَوَادِثُ، وَتُهَذِّبْهُ الْكَوَارِثُ فَهُوَ جَاهِلٌ بِهَدْيِ الدِّينِ، مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْبَلَاءِ الْمُبِينِ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا بِهَذَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِهَا مَلَكَةُ الصَّبْرِ الَّتِي يُقْرَنُ بِهَا الظَّفَرُ، وَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَهْلًا لِأَنْ يُبَشَّرَ بِاحْتِمَالِ الْبَلَاءِ وَالِاسْتِفَادَةِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. فَالْبِشَارَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُبَشَّرَ بِهِ إِيذَانًا بِذَلِكَ وَهُوَ إِيجَازٌ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذِكْرُ مَا يُبَشَّرُونَ بِهِ لَخَرَجَ الْكَلَامُ إِلَى تَطْوِيلٍ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَبَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ يَقَعُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ فَيُصَابِرُهَا وَيَنْجَحُ فِي أَعْقَابِهَا وَهِيَ كَثِيرَةٌ،

156

وَهَكَذَا الْخَوْفُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ - وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ - ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَهُ بِالْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ مَصَائِبِ الِامْتِحَانِ، فَهُوَ نِعْمَةٌ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ لَا مُصِيبَةٌ يُطْلَبُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَوْ فِيهَا لِأَجْلِ تَهْوِينِ خَطْبِهَا، وَأَمَّا الْجُوعُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ مَا يُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ وَلَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمْ يُؤْمِنُ فَيُفْصَلُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ صِفْرَ الْيَدَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفَقْرُ عَامًا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَوَّلِ عَهْدِهِمْ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْوَالِ وَهِيَ الْأَنْعَامُ الَّتِي كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا الثَّمَرَاتُ فَهِيَ عَلَى أَصْلِهَا، وَكَانَ مُعْظَمُهَا ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ. وَقِيلَ: هِيَ الْوَلَدُ ثَمَرُ الْقَلْبِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ جُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ كَانُوا يَتَبَلَّغُونَ بِتَمَرَاتٍ يَسِيرَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي غَزْوَتَيِ الْأَحْزَابِ وَتَبُوكَ. وَأَمَّا نَقْصُ الْأَنْفُسِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوَتَانِ مِنَ اجْتِوَاءِ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَتْ عِنْدَ هِجْرَتِهِمْ إِلَيْهَا بَلَدَ وَبَاءٍ وَحُمَّى ثُمَّ حَسُنَ مَنَاخُهَا. ثُمَّ وَصَفَ الصَّابِرِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَيْ: قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مُعَبِّرِينَ بِهِ عَنْ حَالِهِمْ وَمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوهَا حِفْظًا، أَوْ يَلْفِظُوهَا لَفْظًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ لَهَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّلَبُّسُ بِمَعْنَاهَا وَالتَّحَقُّقُ فِي الْإِيمَانِ بِأَنَّهُمْ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَمُلْكِ اللهِ وَإِلَى اللهِ يَرْجِعُونَ، فَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا سَبَقَتْ بِهِ الْحِكْمَةُ، وَارْتَضَاهُ النِّظَامُ الْإِلَهِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ يَنْطَلِقُ اللِّسَانُ بِالْكَلِمَةِ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَتَمَكُّنِهِ مِنَ النَّفْسِ، فَأَصْحَابُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَالشُّعُورِ هُمُ الْجَدِيرُونَ بِالصَّبْرِ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْجَزَعُ نُفُوسَهُمْ، وَلَا تُقْعِدُ الْمَصَائِبُ هِمَمَهُمْ، بَلْ تَزِيدُهُمْ ثَبَاتًا وَمُثَابَرَةً فَيَكُونُونَ هُمُ الْفَائِزِينَ. وَلَا يُنَافِي الصَّبْرَ وَالتَّثَبُّتَ مَا يَكُونُ مِنْ حُزْنِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ ; بَلْ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ، وَلَوْ فَقَدَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ لَكَانَ قَاسِيًا لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَإِنَّمَا الْجَزَعُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ وَالْأَخْذِ بِعَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ مَذْمُومَةٍ ضَارَّةٍ يَنْهَى عَنْهَا الشَّرْعُ وَيَسْتَقْبِحُهَا الْعَقْلُ، كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ((أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى عِنْدَمَا حَضَرَ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتُ، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتَنَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا الرَّحْمَةُ، وَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِالْبَلَاءِ

157

قَبْلَ وُقُوعِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَاسْتِعْدَادُهَا لِتَحَمُّلِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ ((مَا مَنْ دُهِّيَ بِالْأَمْرِ كَالْمُعْتَدِّ)) هَذَا إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْخَبَرِ إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ، فَكَيْفَ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ هِدَايَةُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ؟ ذَكَرَ الْبَلَاءَ وَبَشَّرَ الصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْوَصْفَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْبِشَارَةَ، وَخَتَمَ الْقَوْلَ بِبَيَانِ الْجَزَاءِ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أَيْ أُولَئِكَ الصَّابِرُونَ الْمُحْتَسِبُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمِ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ مَا يَحُولُ دُونَ تَبْرِيحِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ صَلَوَاتِهِ الْعَامَّةِ وَرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فَالْمُرَادُ بِهَا أَنْوَاعُ التَّكْرِيمِ وَالنَّجَاحِ، وَإِعْلَاءُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((أَنَّهَا الْمَغْفِرَةُ لِذُنُوبِهِمْ)) وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَهِيَ مَا يَكُونُ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْمُصِيبَةِ مِنْ حُسْنِ الْعَزَاءِ، وَبَرَدِ الرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ، فَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ يَحْسُدُ الْمُلْحِدُونَ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الْمَحْرُومَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ فِي الْمُصِيبَةِ تَضِيقُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِمَا رَحُبَتْ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَبْخَعُ نَفْسَهُ إِذَا لَمْ يَعُدْ لَهُ رَجَاءٌ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْرِفُهَا وَيَنْتَحِرُ بِيَدِهِ وَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أَيْ: إِلَى مَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ فِي أَوْقَاتِ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ إِذْ لَا يَسْتَحْوِذُ الْجَزَعُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَذْهَبُ الْبَلَاءُ بِالْأَمَلِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُونَ هُمُ الْفَائِزِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالرَّاحَةِ فِيهَا، الْمُسْتَعِدِّينَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ بِعُلُوِّ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، دُونَ أَهْلِ الْجَزَعِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ الْمُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ الْمُؤَكَّدَةُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ. (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) . عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ الْكَلَامِ عَنْ مُعَانَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ التَّحْوِيلُ شُبْهَةً مِنْ شُبُهَاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ حِكَمِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ تَوْجِيهُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ - كَمَا يُوَجِّهُونَ إِلَيْهِ وُجُوهَهُمْ - لِأَجْلِ تَطْهِيرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْآثَامِ، كَمَا عَهِدَ اللهُ إِلَى أَبَوَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَإِلَّا كَانُوا رَاضِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّ فِي طَيِّ (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) (2: 150) بِشَارَةٌ بِهَذَا الِاسْتِيلَاءِ، مُفِيدَةٌ لِلْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ عَلَّمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا هِيَ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ مِنَ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَأَشْعَرَهُمْ بِمَا يُلَاقُونَ

158

فِي سَبِيلِ الْحَقِّ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ وَيُقَوِّي ذَلِكَ الْأَمَلَ، فَذَكَرَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ هِيَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهَا تَصْرِيحًا ضِمْنِيًّا بِأَنْ سَيَأْخُذُونَ مَكَّةَ وَيُقِيمُونَ مَنَاسِكَ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا، وَتَتِمُّ بِذَلِكَ لَهُمُ النِّعْمَةُ وَالْهِدَايَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ السِّيَاقِ السَّابِقِ لِإِفَادَةِ حُكْمٍ جَدِيدٍ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا تُوُهِّمَ ; بَلْ هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَوْضُوعِ وَمُرْتَبِطَةٌ بِهِ أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ تَأْكِيدٌ لِلْبِشَارَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَحْيَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلَّتَهُ وَجُعِلَتِ الصَّلَاةُ إِلَى قِبْلَتِهِ ; كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَلْوِيَنَّكُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، وَكَثْرَةُ الْأَصْنَامِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى تَطْهِيرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِحْيَاءِ تِلْكَ الشَّعَائِرِ الْعِظَامِ، كَمَا لَا يَلْوِيَنَّكُمْ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ تَقَوُّلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا زِلْزَالُ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ ثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ: جَبَلَانِ، أَوْ عَلَمَا جَبَلَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا 760 ذِرَاعًا وَنِصْفُ، وَالصَّفَا تُجَاهَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ عَلَتْهُمَا الْمَبَانِي وَصَارَ مَا بَيْنَهُمَا سُوقًا. وَالشُّعَيْرَةُ وَالشِّعَارُ وَالشِّعَارَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ أَوِ الشَّيْءِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَأُطْلِقَ عَلَى مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ وَتُسَمَّى مَشَاعِرُ ((جَمْعُ مَشْعَرٍ)) وَعَلَى الْعَمَلِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْمَخْصُوصِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَنُسُكٌ، فَفِي آيَةٍ أُخْرَى (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ) (5: 2) وَهِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْهَدْيِ وَهُوَ جَرْحُ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْإِبِلِ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ نُسُكٌ، وَيُشْعَرُ الْبَقَرُ أَيْضًا دُونَ الْغَنَمِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي اللُّغَةِ شِعَارُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَتَعَارَفُ بِهِ الْجَيْشُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَرَمَى رَجُلٌ جَمْرَةً فَأَصَابَتْ جَبْهَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ: شَعَرْتَ جَبْهَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ جَرَحْتَ، سُمِّيَ الْجُرْحُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ لِهْبِيٌّ: سَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مَا قَالَ. فَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ دِينِ اللهِ أَوْ أَعْلَامِ دِينِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْمَالِ شَعَائِرَ وَعَلَامَاتٍ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِهَا عَلَامَةٌ عَلَى الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. فَالشَّعَائِرُ إِذَنْ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعَبُّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى ; وَلِذَلِكَ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّعَائِرِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ

الْحَجِّ، وَكُلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الزَّجَاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ) أَيْ جَمِيعَ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي أَشْعَرَهَا اللهُ ; أَيْ: جَعَلَهَا إِعْلَامًا لَنَا إِلَخْ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ الشَّعَائِرَ مِنْ أَشْعَرَهُ بِالشَّيْءِ: أَعْلَمَهُ بِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ بِهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّعَبُّدِ ; إِذْ قَدْ أَعْلَمَنَا اللهُ تَعَالَى بِالْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَبُّدَ فِيهَا أَيْضًا، وَالشَّعَائِرُ لَمْ تُطْلَقْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَأَلْحَقَ بِهَا بَعْضُهُمْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى نَوْعٌ يُسَمَّى بِالشَّعَائِرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ كَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ كَافَّةً ; لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ فَلَهَا عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَفْهَمَهَا فَهَذَا أَحَدُ أَقْسَامِ الشَّرَائِعِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ مَا تَعَبَّدَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ كَالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَكَالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ سَمَّاهُ اللهُ بَيْتَهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَسَائِرِ الْعَالَمِ. فَهَذَا شَيْءٌ شَرَعَهُ اللهُ وَتَعَبَّدَنَا بِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَنَا وَلَكِنَّنَا نَحْنُ لَا نَفْهَمُ سِرَّ ذَلِكَ تَمَامَ الْفَهْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. أَقُولُ: وَهَذَا النَّوْعُ يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ نَصِّ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى، لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِرَأْيِ أَحَدٍ وَلَا بِاجْتِهَادِهِ، إِذْ لَوْ أُبِيحَ لِلنَّاسِ الزِّيَادَةُ فِي شَعَائِرِ الدِّينِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي عُمُومِ لَفْظٍ أَوْ قِيَاسٍ لَأَمْكَنَ أَنْ تَصِيرَ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَا يُفَرِّقَ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ الْأَصْلِ الْمُشْتَرَعِ وَالدَّخِيلِ الْمُبْتَدَعِ، فَيَكُونُ الْمُسْلِمُونَ كَالنَّصَارَى، فَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ شَعَيْرَةً أَوْ عِبَادَةً فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِمَّنْ يَصَدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (42: 21) وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي مِثْلِ تَحَرِّي الْقِبْلَةِ مِنَ الْعَمَلِ التَّعَبُّدِيِّ، وَفِي الْقَضَاءِ، وَلِيُرَاجِعِ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) وَقَوْلِهِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَمِنَ الْعَبَثِ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَعْرِفُ لَهُ فَائِدَةً لِقَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يَفْهَمَ كُلَّ مَا يَفْهَمُهُ! وَلَا يَأْتِي هَذَا الْعَبَثُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يَشْرَعُ لَنَا إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُنَا وَمَصْلَحَتُنَا، وَأَنَّهُ بِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا نَعْلَمُ، وَالتَّجْرِبَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ فَإِنَّ الطَّائِعِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الدِّينِ تُصْلَحُ أَحْوَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُرْجَى لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا يُرْجَى، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا فَهْمًا كَامِلًا فَائِدَةَ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعَمَلِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ الْغَزَّالِيُّ مَثَلُ مَنْ وَثِقَ بِالطَّبِيبِ وَجَرَّبَ دَوَاءَهُ فَوَجَدَهُ نَافِعًا وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَيَّةَ فَائِدَةٍ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْأُخْرَى، وَحَسْبُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الدَّوَاءَ الْمُرَكَّبَ نَافِعٌ يَشْفِي بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْمَرَضِ.

السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ التَّعَبُّدِيِّ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) حَجُّ الْبَيْتِ: قَصْدُهُ لِلنُّسُكِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمَنَاسِكِ الْمَعْرُوفَةِ هُنَالِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ. وَالِاعْتِمَارُ: مَنَاسِكُ الْعُمْرَةِ وَهِيَ دُونُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ وَلَا مَبِيتٌ بِمُزْدَلِفَةَ وَلَا رَمْيُ جِمَارٍ فِي مِنًى. وَالْجُنَاحُ بِالضَّمِّ: الْمَيْلُ إِلَى الْإِثْمِ، كَجُنُوحِ السَّفِينَةِ إِلَى وَحْلٍ تَرْتَطِمُ فِيهِ، وَالْإِثْمُ نَفْسُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ. وَيَطَّوَّفُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ التَّطَوُّفِ وَهُوَ تَكْرَارُ الطَّوَافِ أَوْ تَكَلُّفُهُ. وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْجُنَاحِ - وَهُوَ الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنْ جَادَّةِ النُّسُكِ - فِي التَّطَوُّفِ بِهِمَا، وَهَذَا التَّطَوُّفُ هُوَ الَّذِي عُرِفَ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا فَسَوَاءٌ كَانَ رُكْنًا كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ وَاجِبًا كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ مَنْدُوبًا كَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالُوا فِي حِكْمَةِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ الَّذِي يَصْدُقُ بِالْمُبَاحِ: إِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَخْطِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا مِنْ مَنَاسِكِ إِبْرَاهِيمَ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الطَّلَبَ جَزْمًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) فِي هَذَا التَّطَوُّفِ وَغَيْرِهِ أَوْ كَرَّرَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ فَزَادَ عَلَى الْفَرِيضَةِ ; أَيْ: تَحَمَّلَهُ طَوْعًا - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فَإِنَّ التَّطَوُّعَ فِي اللُّغَةِ: الْإِتْيَانُ بِمَا فِي الطَّوْعِ أَوْ بِالطَّاعَةِ أَوْ تَكَلُّفُهَا أَوِ الْإِكْثَارُ مِنْهَا، وَأُطْلِقَ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالْخَيْرِ ; لِأَنَّهُ طَوْعٌ لَا كُرْهَ وَلَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَعَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: ((إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ)) أَيْ تَزِيدَ عَلَى الْفَرِيضَةِ (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) أَيْ: فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُ ; لِأَنَّهُ شَاكِرٌ يَجْزِي عَلَى الْإِحْسَانِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَصْلًا مِنْ ذِكْرَى نَشْأَةِ الدِّينِ الْأُولَى بِمَكَّةَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ كَغَيْرِهِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ؟ وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْرَأَتِهِ (سَارَّةَ) مَا كَانَ (مِنْ حَمْلِهَا إِيَّاهُ عَلَى طَرْدِ سُرِّيَّتِهِ هَاجَرَ مَعَ طِفْلِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفَصْلِ 21 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) خَرَجَ بِهِمَا إِلَى بَرِّيَّةِ فَارَّانِ (أَيْ مَكَّةَ) فَوَضَعَهُمَا فِي مَكَانِ زَمْزَمَ تَحْتَ دَوْحَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ سُكَّانٌ وَلَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ - وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ زَوَّدَهَا بِخُبْزٍ - وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَتْ لَهُ: إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: ((إِلَى اللهِ)) قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللهِ. وَهُنَالِكَ دَعَا إِبْرَاهِيمُ بِمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَتِهِ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) إِلَى قَوْلِهِ -

(يَشْكُرُونَ) (14: 37) فَلَمَّا نَفِدَ الْمَاءُ عَطِشَتْ وَجَفَّ لَبَنُهَا وَعَطِشَ وَلَدُهَا فَجَعَلَ يَتَلَوَّى وَيَنْشَغُ (يَشْهَقُ لِلْمَوْتِ) فَكَانَتْ تَذْهَبُ فَتَصَعَدُ الصَّفَا تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، ثُمَّ تَذْهَبُ فَتَصَعَدُ الْمَرْوَةَ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى وَلَدِهَا فَتَرَاهُ يَنْشَغُ، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَبَعْدَ الْأَخِيرِ وَجَدَتْ عِنْدَهُ صَوْتًا فَقَالَتْ: أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غَوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ جِبْرِيلَ عِنْدَ زَمْزَمَ فَغَمَزَ بِعَقِبِهِ الْأَرْضَ فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، وَمَرَّ نَاسٌ مَنْ جُرْهُمَ بِالْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ عَائِفَةٍ - أَيْ تُخُومٍ عَلَى الْمَاءِ - فَاهْتَدَوْا إِلَيْهِ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ وَنَشَأَ إِسْمَاعِيلُ مَعَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَا ذَكَرَ سَعْيَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا)) . (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِالشَّاكِرِ لَا يَظْهَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، فَالشُّكْرُ فِي اللُّغَةِ: مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانُ بِالثَّنَاءِ وَالْعِرْفَانِ، وَشُكْرُ النَّاسِ لِلَّهِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ نِعَمِهِ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ يَدٌ أَوْ يَنَالُهُ مِنْ أَحَدٍ نِعْمَةٌ يَشْكُرُهَا لَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى. فَالْمَعْنَى إِذَنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِثَابَةِ الْمُحْسِنِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتْ مُقَابَلَةُ الْعَامِلِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شُكْرًا، وَسَمَّى اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَاكِرًا. وَأَزِيدُ عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِالْمَزِيدِ مِنْهَا، فَسُمِّيَ هَذَا شُكْرًا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ. وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا التَّعْبِيرِ تَعْلِيمُنَا الْأَدَبَ، فَقَدْ عَلَّمَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذَا أَدَبًا مِنْ أَكْمَلِ الْآدَابِ بِمَا سَمَّى إِحْسَانَهُ وَإِنْعَامَهُ عَلَى الْعَامِلِينَ شُكْرًا لَهُمْ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا، فَيَكُونُ إِنْعَامًا عَلَيْهِ وَيَدًا عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ لَهُمْ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ يَفْهَمُ هَذَا الْخِطَابَ الْأَعْلَى أَنْ يَرَى نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَهُوَ لَا يَشْكُرُهُ وَلَا يَسْتَعْمِلُ نِعَمَهُ فِيمَا سِيقَتْ لِأَجْلِهِ؟ ثُمَّ هَلْ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَرَى بَعْضَ النَّاسِ يُسْدِي إِلَيْهِ مَعْرُوفًا ثُمَّ لَا يَشْكُرُهُ لَهُ وَلَا يُكَافِئُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَوْقَ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ رُتْبَةً وَأَعْلَى مِنْهُ طَبَقَةً؟ فَكَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى جَدُّهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - إِنْعَامَهُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِلَى النَّاسِ شُكْرًا، وَاللهُ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُعْوِزُونَ؟ . شُكْرُ النِّعْمَةِ وَالْمُكَافَأَةُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَانِ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ وَالْمُكَافَأَةِ مَفْسَدَةٌ لَا تُضَاهِيهَا مَفْسَدَةٌ ; إِذْ هِيَ مَدْعَاةُ تَرْكِ الْمَعْرُوفِ كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا شُكْرَهُ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَتَنَا وَمَنْفَعَتَنَا ; لِأَنَّ كُفْرَانَ نِعَمِهِ بِإِهْمَالِهَا

159

أَوْ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ بِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ تَعَالَى، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَالْبَلَاءِ. وَأَمَّا تَرْكُنَا شُكْرَ النَّاسِ وَتَقْدِيرَ أَعْمَالِهِمْ قَدْرَهَا سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُمُ النَّافِعُ مُوَجَّهًا إِلَيْنَا أَوْ إِلَى غَيْرِنَا مِنَ الْخَلْقِ، فَهُوَ جِنَايَةٌ مِنَّا عَلَى النَّاسِ وَعَلَى أَنْفُسِنَا ; لِأَنَّ صَانِعَ الْمَعْرُوفِ إِذَا لَمْ يَلْقَ إِلَّا الْكُفْرَانَ فَإِنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ عَمَلَ الْمَعْرُوفِ فِي الْغَالِبِ، فَنُحْرَمُ مِنْهُ وَنَقَعُ مَعَ الْأَكْثَرِينَ فِي ضِدِّهِ فَنَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ((فِي الْغَالِبِ)) لِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ وَيَسْعَى فِي الْخَيْرِ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَطَلَبًا لِلْكَمَالِ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ النُّفُوسِ الْكَبِيرَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَا يَنْظُرُ ذَوُوهَا إِلَى مُقَابَلَةِ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ بِالشُّكْرِ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الصَّنِيعَةِ جَهْلُ النَّاسِ بِقِيمَةِ صَنِيعَتِهِمْ، قَلَّمَا تَلِدُ الْقُرُونُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ مَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مِنْهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ تَرْكَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، كَانَ الْفُتُورَ وَالْوَنْيَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَدَعِ الْمَعْرُوفَ فَاعِلُهُ لِكُفْرَانِ النَّاسِ لِسَعْيِهِ تَرَكَهُ لِلْيَأْسِ مِنْ فَائِدَتِهِ، أَوْ لِلْحَذَرِ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ ; إِذِ الْحَاسِدُونَ مِنَ الْأَشْرَارِ يَسْعَوْنَ دَائِمًا فِي إِيذَاءِ الْأَخْيَارِ، كَذَلِكَ الشُّكْرُ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاضِ هِمَّةِ أَعْلِيَاءِ الْهِمَّةِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عَلَيْهَا جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ; ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَمَلَهُمُ الْخَيْرَ نَافِعًا فَيَزِيدُونَ مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ ضَائِعًا يَكُفُّونَ عَنْهُ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) بَعْدَ بَيَانِ حُسْنِ أَثَرِ الشُّكْرِ فِي الْمُخْلِصِينَ: وَيَرْوُونَ فِي هَذَا حَدِيثًا ارْتَقَى بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ وَهُوَ ((عَجِبْتُ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ يَسْمَنُ مِنْ أُذُنَيْهِ)) أَيْ كَانَ إِذَا ذُكِرَتْ أَعْمَالُهُ الشَّرِيفَةُ وَسَعْيُهُ فِي الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ يُسَرُّ وَيَسْمَنُ، هَذَا وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْلَصُ الْمُخْلِصِينَ الْفَانِي فِي اللهِ تَعَالَى لَا يَبْتَغِي بِعَمَلِهِ غَيْرَ مَرْضَاتِهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ أَجْدَرَ بِذَلِكَ مِمَّنْ إِذَا سَلِمَ مِنَ الِانْبِعَاثِ إِلَى الْخَيْرِ بِبَاعِثِ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ حُبِّ الثَّنَاءِ لِذَاتِهِ فَضْلًا عَنْ مَقْتِ الْكُفْرَانِ وَالْكَنُودِ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)

كَانَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ بَعْضَ مَا فِي كُتُبِهِمْ بِعَدَمِ ذِكْرِ نُصُوصِهِ لِلنَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَوِ السُّؤَالِ عَنْهُ كَالْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ وَكَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الَّذِي وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَيَكْتُمُونَ بَعْضَهُ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالتَّرْجَمَةِ أَوِ النُّطْقِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهِ بِالتَّأْوِيلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ (كَمَا فَعَلُوا بِلَفْظِ الْفَارِقْلِيطَ) فَفَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمُ اللَّعْنَةَ الْعَامَّةَ الدَّائِمَةَ، قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) (قَالَ شَيْخُنَا) : هَذِهِ الْآيَةُ عَوْدٌ إِلَى أَصْلِ السِّيَاقِ وَهُوَ مُعَادَاةُ النَّبِيِّ وَمُعَانَدَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَمِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَالْكَلَامُ فِي الْقِبْلَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ جُحُودِهِمْ وَعَدَائِهِمْ أَيْضًا، وَجَاءَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ وَعِيدَ هَؤُلَاءِ الْكَاتِمِينَ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْكِتْمَانِ وَرَدَ مَوْرِدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، وَتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيذَائِهِمْ، ثُمَّ عَادَ هُنَا فَذَكَرَهُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْكَارِهِمْ أَخْبَارَ أَنْبِيَائِهِمْ عَنْهُ وَبِشَارَتِهِمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِهِمْ ذَلِكَ حُجَّةً سَلْبِيَّةً عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ ; إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُبَشِّرُوا بِأَنْ سَيُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَجِئْ بَيَانٌ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ دِينِهِ وَكِتَابِهِ. فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ جَمِيعَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِفَةِ هَذَا الْكِتْمَانِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْذِفُونَ أَوْصَافَهُ وَالْبِشَارَاتِ فِيهِ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَاطَأَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَلَوْ فَعَلَهُ الَّذِينَ كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ لَظَهْرَ اخْتِلَافُ كُتُبِهُمْ مَعَ كُتُبِ إِخْوَانِهِمْ فِي الشَّامِ وَأُورُبَّا مَثَلًا، وَيَذْهَبُ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ كَانَ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَحَمْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى إِذَا سُئِلُوا: هَلْ لِهَذَا النَّبِيِّ ذِكْرٌ

فِي كُتُبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا. عَلَى أَنَّ فِي كُتُبِهِمْ أَوْصَافًا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَظْهَرُهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَكِتَابِ أَشْعَيَا فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ إِلَّا بِغَايَةِ التَّمَحُّلِ وَالتَّعَسُّفِ. وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا انْطِبَاقَهَا عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ الْغَيْرَ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّأْوِيلِ بَلْ كَتَمُوا مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ أَيْضًا حَتَّى أَفْسَدُوا الدِّينَ وَانْحَرَفُوا بِالنَّاسِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ فَقَالَ: (أُولَئِكَ) أَيِ: الَّذِينَ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَحُرِمُوا النُّورَ السَّابِقَ وَالنُّورَ اللَّاحِقَ، أَوِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ هَذَا الْكِتْمَانُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أَمَّا لَعْنُ اللهِ لَهُمْ فَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا لَعْنُ اللَّاعِنِينَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ لَعْنُهُمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِفِعْلَتِهِمْ هَذِهِ مَوْضِعُ لَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ الْآتِي ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) عَنِ الْكِتْمَانِ (وَأَصْلَحُوا) عَمَلَهُمْ بِالْأَخْذِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ عَنِ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ (وَبَيَّنُوا) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ أَوْ بَيَّنُوا إِصْلَاحَهُمْ، وَجَاهَرُوا بِعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَأَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُ عَمَلَهُ وَيُسِرُّهُ مُوَافَقَةً لِلنَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ لِئَلَّا يَعِيبُوهُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَإِيثَارِ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ ; لِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ إِظْهَارَ إِصْلَاحِهِمْ وَالْمُجَاهَرَةَ بِأَعْمَالِهِمْ ; لِيَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِضُعَفَاءِ التَّائِبِينَ. (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَرْجِعُ وَأَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بَعْدَ الْحِرْمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّعْنَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَلْ أَسْنَدَ إِلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِعْلَ التَّوْبَةِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيسِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ أَنْ قَالَ: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يَصِفُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَثْرَةِ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ، لِلْإِيذَانِ بِالتَّكْرَارِ، كُلَّمَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ وَتَابَ، حَتَّى لَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِذَا هُوَ عَادَ إِلَى ذَنْبِهِ. فَأَيُّ تَرْغِيبٍ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ لِمَنْ يَشْعُرُ وَيَعْقِلُ؟ ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا، فَكُلُّ مَنْ يَكْتُمُ آيَاتِ اللهِ وَهِدَايَتَهُ عَنِ النَّاسِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ اللَّعْنَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ وَأَشْبَاهُهُ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ لَبِسُوا لِبَاسَ الدِّينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْتَحَلُوا الرِّيَاسَةَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِ، حَاوَلُوا التَّفَصِّي مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا سُئِلَ الْعَالِمُ عَنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فَكَتَمَهُ، وَأَخَذُوا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ قَاعِدَةً هِيَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَشْرُ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَيَانُهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا يَعْلَمُهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَالِمٌ غَيْرُهُ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُحِيلَ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ

الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ، وَقَدْ رَدَّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فَقَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكِتْمَانِ، بَلْ أَمَرَ بِبَيَانِ هُدَاهُ لِلنَّاسِ، وَبِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْعَدَ مَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ، وَذَكَرَ لَهُمُ الْعِبَرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الَّذِينَ قَصَّرُوا فِيهَا مِنْ قَبْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (3: 187) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) - إِلَى قَوْلِهِ فِي الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْحَقِّ - (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3: 104، 105) وَقَوْلِهِ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ فِي عِصْيَانِهِمُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ لَعْنَتِهِمْ (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (5: 78، 79) إِلَخْ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَعَنَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا لِتَرْكِهِمُ التَّنَاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِي فِي كُلِّ قُطْرٍ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ ; كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِتَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلِنَهْيِهِمْ وَأَمْرِهِمْ تَأْثِيرٌ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (3: 104) إِلَخْ. (أَقُولُ) وَمَا وَرَدَ مِنْ تَدَافُعِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي الْفَتْوَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ، لَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ وَسِيَاجِهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُئَوِّلِينَ مَذْهَبًا آخَرَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ، فَتَرْكُ الْمُؤْمِنِ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ وَعِيدَ الْكَافِرِينَ فَيُلْحِقُهُ بِالْكُفَّارِ. وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ أَلِفَتْهُ الْأَسْمَاعُ، وَأَخَذَ بِالتَّسْلِيمِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِفْحَامِ وَالْإِقْنَاعِ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْمَعُهُ عَلَى عِلَّاتِهِ يَرَى نَفْسَهُ مُلْزَمًا بِرَمْيِ تَارِكِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْكُفْرِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلْعَقَائِدِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى اللهِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى كِتَابِهِ فِي الدُّنْيَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِذَا بَحَثْتَ فِيهِ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الَّذِي يَرَى حُرُمَاتِ اللهِ تُنْتَهَكُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَدِينَ اللهِ يُدَاسُ جِهَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرَى الْبِدَعَ تَمْحُو السُّنَنَ، وَالضَّلَالَ يَغْشَى الْهُدَى، وَلَا يَنْبِضُ لَهُ عِرْقٌ وَلَا يَنْفَعِلُ لَهُ وِجْدَانٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ لِنُصْرَتِهِ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ، هُوَ هَذَا الَّذِي إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يُصَادِرَكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِزْقِكَ أَوْ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، تَجِيشُ فِي صَدْرِهِ الْمَرَاجِلُ وَيَضْطَرِبُ بَالُهُ وَيَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ، وَرُبَّمَا تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، وَهَجَرَ الرُّقَادُ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ وَيُعْمِلُ الْفِكْرَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ وَإِحْكَامِ التَّدْبِيرِ لِمُدَافَعَةِ ذَلِكَ الْخَصْمِ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِ، فَهَلْ يَكُونُ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ مِثْلِ هَذَا قِيمَتُهُ؟ وَهَلْ يُصَدَّقُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مَنْ قَلْبِهِ، وَالْبُرْهَانَ عَلَيْهِ قَدْ حَكَمَ عَقْلَهُ، وَالْإِذْعَانَ إِلَيْهِ قَدْ ثَلَّجَ صَدْرَهُ؟

161

يَسْهُلُ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ الْجَدَلِ أَنْ يُجَادِلَ نَفْسَهُ وَيَغُشَّهَا بِمَا يُسَلِّيهَا بِهِ مِنَ الْأَمَانِي الَّتِي يُسَمِّيهَا إِيمَانًا، وَلَكِنَّهُ لَوْ حَاسَبَهَا فَنَاقَشَهَا الْحِسَابَ وَرَجَعَ إِلَى عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ لَعَلِمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَنَّهُ يَعْبُدُ شَهْوَتَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي سَرَدَهَا الْكِتَابُ سَرْدًا، وَأَحْصَاهَا عَدًّا - وَأَظْهَرُهَا بَذْلُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ - كُلُّهَا بَرِيئَةٌ مِنْهُ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ كُلَّهَا رَاسِخَةٌ فِيهِ. فَلْيُحَاسِبِ امْرُؤٌ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنِ لِلْكَافِرِينَ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الَّذِينَ يَتُوبُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانَ أُولَئِكَ اللَّاعِنِينَ وَشَرْطَ اسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْخُلُودُ فِي دَارِ الْهَوَانِ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَأُولَئِكَ تُسَجَّلُ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ وَيَخْلُدُونَ فِيهَا لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَهَا شَفَاعَةٌ وَلَا وَسِيلَةٌ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا مِنَ النَّاسِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الْعُمُومُ لَا يَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ دِينِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَمَذَاهِبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ أَهْلَ مَذَاهِبِهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يَلْعَنُونَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ مِنْهُمْ، فَهُمْ إِذَا شُرِحَتْ لَهُمْ أَحْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى غَيِّهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَعَادَتِهِمْ، وَحَالُ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مَعَهُمْ، وَذُكِرَ لَهُمْ كَيْفَ يُشَاقُّونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ أَوْ يَرَوْنَهُمْ مَحَلًّا لِلَّعْنَةِ وَمُسْتَحِقِّينَ لِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ هُمْ أَهْلٌ لِلَّعْنَةِ وَمَوْضُوعٌ لَهَا مِنَ اللهِ وَمِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مِنَ النَّاسِ إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْكُفْرُ وَأَهْلُهُ وَعِنَادُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْحَقِّ لَعَنَهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي حَمْلِ صِفَاتِ الْكُفْرِ عَلَى أَصْحَابِهَا. وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِ لَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مَعَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ وَحْدَهُ كَافِيَةٌ فِي خِزْيِهِمْ وَنَكَالِهِمْ، هِيَ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ يَرَاهُمْ مَحَلًّا لِلَعْنَةِ اللهِ وَمَقْتِهِ، فَلَا يُرْجَى أَنْ يَرْأَفَ بِهِمْ رَائِفٌ، وَلَا أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شَافِعٌ ; لِأَنَّ اللَّعْنَةَ صُبَّتْ عَلَيْهِمْ بِاسْتِحْقَاقٍ عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ، وَمَنْ حَرَمَهُ سُوءُ سَعْيِهِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ فَمَاذَا يَرْجُو مِنْ سِوَاهُ؟ (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) أَيْ: مَاكِثِينَ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ، لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ; أَيْ: يُمْهَلُونَ مِنَ (الْإِنْظَارِ) لِيَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا، أَوْ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ نَظَرَ مَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ، قَالُوا

162

إِنَّ الْخُلُودَ فِي اللَّعْنَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلُودِ فِي أَثَرِهَا وَهُوَ النَّارُ بِقَرِينَةِ (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) وَلَا أَذْكُرُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ يَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّعْنَ بِمَعْنَى الطَّرْدِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخُلُودُ فِيهِ عِبَارَةً عَنْ دَوَامِهِ هُوَ ; أَيْ: هُمْ مَطْرُدُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى طَرْدًا دَائِمًا لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَسْلَمُوا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِهِ هُوَ غَايَةُ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِ الرُّوحِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَتَدْسِيَةِ النَّفْسِ، فَمَتَى مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَبَطَلَ كَسْبُهُ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَلِّيَ تِلْكَ الْغُمَّةَ، وَيُنِيرَ هَاتِيكَ الظُّلْمَةَ، وَحُرِمَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، فَكَأَنَّ خُلُودَهُ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ قَدْ نَشَأَ عَنْ وَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ، فَهُوَ دَائِمٌ بِدَوَامِ ذَاتِهِ الَّتِي هِيَ عِلَّتُهُ، وَامْتَنَعَ أَيْضًا أَنْ يُنْظَرَ وَيُمْهَلَ فِيهِ، أَوْ يَنْظُرَ اللهُ إِلَيْهِ وَيُزَكِّيَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ، فَهُوَ الْجَانِي وَالْمُعَذِّبُ لِنَفْسِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْجُو مِنْ غَيْرِهِ؟ (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) . نَطَقَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَلْعُونُونَ لَا تُرْجَى لَهُمْ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا، فَإِنْ هُمْ مَاتُوا - عَلَى كِتْمَانِهِمْ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كُفْرُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ - كَانُوا خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا شَيْءٌ ; إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمُ افْتِدَاءٌ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشُّفَعَاءِ (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (40: 18) لِأَنَّ اللَّعْنَةَ تَعُمُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ لِلْعَوَالِمِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرَّحْمَةَ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْءُوسِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ فِي الضَّلَالِ وَيَتَّخِذُونَ كَلَامَهُمْ دِينًا مِنْ دُونِ كِتَابِ اللهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ شَارِعَ الدِّينِ وَمُحِقَّ الْحَقِّ هُوَ وَاحِدٌ لَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ، وَلَا تُكْتَمُ هِدَايَتُهُ، وَلَا يُجْعَلُ كَلَامُ الْبَشَرِ مِعْيَارًا عَلَى كَلَامِهِ، وَهُوَ مُفِيضُ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ; إِذِ الرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ

163

اللَّازِمَةِ، لِيَتَذَكَّرَ أُولَئِكَ الضَّالُّونَ الْكَاتِمُونَ لِبَيِّنَاتِ اللهِ، الْمُؤْثِرُونَ عَلَيْهَا آرَاءَ رُؤَسَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ ثِقَةً بِهِمْ، وَاعْتِمَادًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، أَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَعْلَمُوا وَجْهَ خَطَئِهِمْ فِي كِتْمَانِ الْحَقِّ وَمُعَادَاةِ أَهْلِهِ عِنَادًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقْلِيدًا مِنَ الْمَرْءُوسِينَ. فَقَالَ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ: وَإِلَهُكُمُ الْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا إِلَّا هُوَ، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا. وَالشِّرْكُ بِهِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) يَتَعَلَّقُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَرْءُ أَنَّ فِي الْخَلْقِ مَنْ يُشَارِكُهُ تَعَالَى أَوْ يُعِينُهُ فِي أَفْعَالِهِ، أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَصُدُّهُ عَنْ بَعْضٍ بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا يَكُونُ مِنْ بِطَانَةِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ وَحَوَاشِيهِمْ وَحُجَّابِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ، فَهُوَ يَتَوَجَّهُ إِلَى هَذَا الْمُؤَثِّرِ عِنْدَ اللهِ بِزَعْمِهِ عِنْدَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ فَيَدْعُوهُ مَعَهُ، وَقَدْ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِهِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ لِكَشْفِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ أَعْيَتْهُ أَسْبَابُهُمَا وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ. (وَثَانِيهِمَا) يَتَعَلَّقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ إِسْنَادُ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، أَوْ أَنْ تُؤْخَذَ أَحْكَامُ الدِّينِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَنْ غَيْرِهِ ; أَيْ: غَيْرِ كِتَابِهِ وَوَحْيِهِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنْهُ رُسُلُهُ بِحُجَّةِ أَنَّ مَنْ يُأْخَذُ عَنْهُمُ الدِّينُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْوَحْيِ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ فَيُتْرَكُ الْأَخْذَ مِنَ الْكِتَابِ لِرَأْيِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَهُ اللهُ وَلَا يَكْتُمُوهُ، لَا أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ، كَمَا زَادَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كُلُّهُمْ عِبَادَاتٍ وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً زَائِدَةً عَلَى الْوَحْيِ أَوْ مُخَالِفَةً لَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ لِأَجْلِهَا دُونَ الْعَكْسِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ كَذَلِكَ (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) أَيِ: الْكَامِلُ الرَّحْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضَ الْعَبْدُ عَنْ أَسْبَابِ رَحْمَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رَحْمَةِ سِوَاهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَهُ، فَحَسْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِالتَّصَدِّي لَهَا عَنْ رَجَاءِ سِوَاهَا وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْخَائِبِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَبَّهَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي يَرْقُبُونَهَا مِنْ شِرْكِهِمْ إِنَّمَا هِيَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَحْدَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا أَنْتُمْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ لِأَجْلِهِ تَعَالَى فَهُوَ بِتَفَرُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ يَكْفِيكُمْ كُلَّ ضَرَرٍ تَخَافُونَهُ، وَيُعْطِيكُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ كُلَّ مَا تَرْجُونَهُ، فَإِنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ دُونِهِ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلِاعْتِمَادِ ; بَلِ اعْتِمَادُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الشِّرْكِ فَيَجِبُ أَنْ تَطْرَحُوهُ جَانِبًا، وَتَعْتَقِدُوا أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْمَنَافِعِ وَالْقَادِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَإِيقَاعِهَا هُوَ وَاحِدٌ لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَلَا أَوْسَعَ مَنْ رَحِمْتِهِ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ أَمْرَ الْوَحِدَةِ هَذَا التَّأْكِيدَ تَحْذِيرًا مَنْ طُرُقِ الشِّرْكِ الْخَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَسَاسُ

الدِّينِ وَأَصْلُهُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَعَانِيَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَاسْمَيْ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ. أَرَأَيْتَ هَذَا الِاتِّصَالَ الْمُحْكَمَ بَيْنَ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا؟ إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ قَطَعَ عُرَاهُ وَفَصَمَهَا، وَجَعَلَ الْآيَةَ جَوَابًا لِقَوْمٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، قَالَهُ (الْجَلَالُ) . وَيَقُولُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْحُكْمُ تُعِينُ عَلَى فَهْمِهِ وَفِقْهِ حِكْمَتِهِ وَسِرِّهِ، وَمِثْلُهَا مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ الْوَقَائِعِ كَغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، وَمُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمُقَرِّرَةُ لِلتَّوْحِيدِ - وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنَ الدِّينِ - فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْتِمَاسِ أَسْبَابٍ لِنُزُولِهَا بَلْ هِيَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِظَارِ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُبَيِّنُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، وَمَا عَسَاهُ يَكُونُ قَدْ قَارَنَ نُزُولَهَا مِنْ حَادِثَةٍ أَوْ سُؤَالٍ مِثْلِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا فَهُوَ إِنْ صَحَّ رِوَايَةً لَا يَزِيدُنَا بَيَانًا فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا لَا سِيَّمَا بَعْدَ الَّذِي عُلِمَ مِنَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا كَمَا يَلِيقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَمِثْلُ هَذَا السَّبَبِ يَجْعَلُ الْقُرْآنَ مُبَدَّدًا مُتَفَرِّقًا لَا تَرْتَبِطُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا تَتَّصِلُ أَنْحَاؤُهُ، وَمِثْلُهُ مَا قَالُوهُ فِي سَبَبِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا جَاءَتْ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ مِنْ وَصْلِ الدَّلِيلِ بِالدَّعْوَى، وَلَكِنَّهُمْ رَوَوْا فِي سَبَبِهَا رِوَايَاتٍ مِنْهَا أَنَّ آيَةَ (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ سَمِعَ بِهَا مُشْرِكُو مَكَّةَ فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَعَجِبُوا كَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَطَلَبُوا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ سَمِعُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَكَأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ تَكُنْ طَرَأَتْ عَلَى أَذْهَانِهِمْ، وَلَا طَرَقَتْ أَبْوَابَ مَسَامِعِهِمْ. عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ (ص) كَانَ قَدْ أَقَامَ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى هَذَا التَّوْحِيدِ عَشْرَ سِنِينَ وَنَيِّفًا، وَسَبَقَ لَهُمُ التَّعَجُّبُ مِنْهُ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ عُجَابٌ) (38: 5) وَمُعْظَمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ آيَاتٌ وَبَرَاهِينٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَرَاهُ فِي التَّنْزِيلِ الْمَدَنِيِّ مِنْ آيَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُخْرَى فِي دَلِيلِهِ قَدْ كَانَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا أَنْ نَزَلَ الدَّلِيلُ بَعْدَ الْمَدْلُولِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ وَسَبَبٍ مُتَأَخِّرٍ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ بَيَانِ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَتَقْرِيرِ مَعْنَاهَا: وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلَّذِينَ قَالُوا: انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، أَوْ صِفْ لَنَا رَبَّكَ ; لِأَنَّ هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ هَذَا الرَّبِّ الْعَظِيمِ، أَوْ مِمَّنْ يَبْغِي أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ عِلْمِ الْمَسْئُولِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ بِذِكْرِ جَمِيعِ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ إِلَّا الْوَحْدَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَهِيَ صِفَاتٌ لَا تُعْقَلُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا، وَسَبَبُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُشْرِكُونَ مَعَ اللهِ أَحَدًا فِيهَا، وَإِنَّمَا أَشْرَكُوا فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ، وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا عَدَمَ اكْتِفَائِهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَعْلِيلِهِ: إِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ الْوَحْدَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ

164

ظَاهِرٌ لَا تَطْلُبُ الْبَلَاغَةُ غَيْرَهُ ; لِأَنَّ الْوَحْدَةَ تُذَكِّرُ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الْكَاتِمِينَ لِلْحَقِّ بِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَلْجَأً غَيْرَ اللهِ يَقِيهِمْ عُقُوبَتَهُ وَلَعْنَتَهُ. وَذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَهَا يُرَغِّبُهُمْ فِي التَّوْبَةِ وَيَحُولُ دُونَ يَأْسِهِمْ مِنْ فَضْلِ اللهِ بَعْدَ إِيئَاسِهِمْ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَهُ، فَيُطَابِقُ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْكِتْمَانَ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) (2: 160) إِلَخْ. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إِلَخْ، هَذِهِ آيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ تَشْرَحُ لَنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَهُ تَعَالَى، عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِدَلَائِلِهَا وَبَرَاهِينِهَا كَمَا أَلْمَعْنَا. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَجْنَاسٌ (الْأَوَّلُ وَالثَّانِي) مِنْهَا: خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَفِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ كَثِيرَةُ الْأَنْوَاعِ يُدْهِشُ الْمُتَأَمِّلِينَ بَعْضُ ظَوَاهِرِهَا، فَكَيْفَ حَالُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا اكْتَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ عَجَائِبِهَا، الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ أَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهَا! تَتَأَلَّفُ هَذِهِ الْأَجْرَامُ السَّمَاوِيَّةُ مِنْ طَوَائِفَ يَبْعُدُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَا يُقَدَّرُ بِالْمَلَايِينِ وَأُلُوفِ الْمَلَايِينِ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهَا نِظَامٌ كَامِلٌ مُحْكَمٌ، وَلَا يُبْطِلُ نِظَامُ بَعْضِهَا نِظَامَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ لِلْمَجْمُوعِ نِظَامًا عَامًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَأَقْرَبُ تِلْكَ الطَّوَائِفِ إِلَيْنَا مَا يُسَمُّونَهُ النِّظَامَ الشَّمْسِيَّ نِسْبَةً إِلَى شَمْسِنَا هَذِهِ الَّتِي تَفِيضُ أَنْوَارُهَا عَلَى أَرْضِنَا، فَتَكُونُ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِيهَا، وَالْكَوَاكِبُ التَّابِعَةُ لِهَذِهِ الشَّمْسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَبْعَادِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ كُلٌّ مِنْهَا فِي مَدَارِهِ وَحُفِظَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ حَكِيمَةٍ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ. وَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ لَانْفَلَتَتْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ السَّابِحَةُ فِي أَفْلَاكِهَا فَصَدَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهَلَكَتِ الْعَوَالِمُ بِذَلِكَ، فَهَذَا النِّظَامُ آيَةٌ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ آيَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. هَذِهِ هِيَ السَّمَاوَاتُ نُشِيرُ إِلَى آيَاتِهَا عَنْ بُعْدٍ (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (51: 20) فِي جِرْمِهَا وَمَادَّتِهَا وَشَكْلِهَا وَعَوَالِمِهَا الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا نِظَامٌ عَجِيبٌ وَسُنَنٌ إِلَهِيَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي تَكْوِينِهَا، وَتَوَالُدِ مَا يَتَوَالَدُ مِنْ أَحْيَائِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَنْوَاعِ الْجَمَادَاتِ مِنَ الصُّخُورِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، وَالْجَوَاهِرِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْخَوَاصِّ وَالْأَلْوَانِ، لَشَاهَدْتَ مِنَ النِّظَامِ فِيهَا وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ فِي اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا مَا تَعْلَمُ بِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهَا تَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى إِبْدَاعِ إِلَهٍ حَكِيمٍ رَءُوفٍ رَحِيمٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ (كَانَ) يَرَى أَنَّ فِي الْجَمَادِ حَيَاةً خَاصَّةً بِهِ دُونَ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ، وَلَا أَدْرِي أَقَالَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَانِ جِنْسَانِ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى يَشْمَلَانِ أَنْوَاعًا وَأَفْرَادًا مِنْهَا يَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهَا. الْجِنْسُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وَهُوَ أَنْ يَجِئَ أَحَدُهُمَا فَيَذْهَبُ الْآخَرُ،

وَيَطُولُ هَذَا فَيَقْصُرُ ذَاكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحُسْبَانٍ مُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْفُصُولِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ هُوَ أَثَرُ مُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِلشَّمْسِ وَحَرَكَتِهَا بِإِزَائِهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَشْرُوحٌ فِي مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَفِي الْمَشَاهِدِ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُصُولِ، وَمَا لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى وَحْدَةِ مُبْدِعِ هَذَا النِّظَامِ الْمُطَّرِدِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْهَمَهَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَسْبَابَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ وَتَقْدِيرَهُ. وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) (17: 12) فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِي إِلَى مَا فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى. وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (25: 62) وَهَذِهِ هِدَايَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ. وَهُنَاكَ آيَاتٌ تُشِيرُ إِلَى أَسْبَابِ هَذَا الِاخْتِلَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (39: 5) وَقَوْلِهِ: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (7: 54) وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا حَوْلَ الشَّمْسِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ ((الْمَنَارِ)) بِالتَّفْصِيلِ وَفِي ((التَّفْسِيرِ)) بِالْإِجْمَالِ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ، وَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ النِّظَامَ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ وَاهِبِهِ وَمُقَدِّرِهِ، وَنَقُولُ: إِنَّ آثَارَهُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى فَظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ آنِفًا. الْجِنْسُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) الْفُلْكُ - بِالضَّمِّ - اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ وَلِجَمْعِهَا، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَأْتِيَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي آخِرِ الْآيَاتِ لِيَكُونَ مَا لِلْإِنْسَانِ فِيهِ صُنْعٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ صُنْعٌ عَلَى حِدَةٍ. وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهَا عُقَيْبَ آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هِيَ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حَاجَةً إِلَى تَحْدِيدِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُرَاقَبَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْمُسَافِرُونَ فِي الْبَحْرِ أَحْوَجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْجِهَاتِ ; لِأَنَّ خَطَرَ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ، وَفَائِدَةُ الْمَعْرِفَةِ لَهُمْ أَعْظَمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ رَبَّانِيِّ السُّفُنِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ النُّجُومِ (الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ) وَعِلْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْعِلْمِ. قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (6: 97) فَهَذَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ ذِكْرِ الْفُلْكِ وَمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ الْفُلْكِ آيَةً فَلَا يَظْهَرُ بَادِي الرَّأْيِ كَمَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا رَحْمَةً مِنْ قَوْلِهِ: (بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أَيْ: فِي أَسْفَارِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ، وَمَا يُعْرَفُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ ; إِذْ كَانَتِ الْفُلْكُ كُلُّهَا شِرَاعِيَّةً فَلَمْ يَكُنِ الْبُخَارُ يُسَيِّرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْبَوَاخِرِ وَالْبَوَارِجِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَحْكِي مُدُنًا كَبِيرَةً فِيهَا جَمِيعُ الْمَرَافِقِ

الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْمُتْرَفُونَ وَالْمُلُوكُ فِي الْبَرِّ مِنَ الْأَرَائِكِ وَالسُّرُرِ وَالْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ قِلَاعًا وَحُصُونًا فِيهَا أَقْتَلُ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهَدَى إِلَيْهَا الْإِنْسَانَ، فَلَا بُدَّ لِفَهْمِ كَوْنِهَا آيَةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ فَهْمِ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَطَبِيعَةِ قَانُونِ الثِّقَلِ فِي الْأَجْسَامِ وَطَبِيعَةِ الْهَوَاءِ وَالرِّيحِ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَعْرِفَةَ طَبِيعَةِ الْبُخَارِ وَالْكَهْرَبَاءِ الَّتِي هِيَ الْعُمْدَةُ فِي سَيْرِ الْفُلْكِ الْكُبْرَى فِي زَمَانِنَا، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى سُنَنٍ إِلَهِيَّةٍ مُطَّرِدَةٍ مُنْتَظِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَصْدَرُ الْإِبْدَاعِ وَالنِّظَامِ وَهِيَ قُوَّةُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْحَكِيمِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْجِنْسُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ: (وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ) الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا: جِهَةُ الْعُلُوِّ أَوِ السَّحَابُ لَا مَا قَالَهُ الْمَخْذُولُونَ الَّذِينَ تَجَرَّءُوا عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَزَعَمُوا أَنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَحْرًا، قَالُوا: إِنَّهُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَإِنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي تَفْصِيلٍ اخْتَرَعُوهُ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ أَسْرَى النَّقْلِ وَلَوْ خَالَفَ الْحِسَّ وَالْبُرْهَانَ، وَنُزُولُ الْمَطَرِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ وَلَا نَظَرِ عَقْلٍ، وَقَدْ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَنُزُولِهِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْكَائِنَاتِ، وَوَصَفُوا بِالتَّدْقِيقِ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَاتِ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَرْحُهُمُ الطَّوِيلُ عَنِ الْكَلِمَةِ الْوَجِيزَةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَطَرُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (30: 48) فَحَرَارَةُ الْهَوَاءِ هِيَ الَّتِي تُبَخِّرُ الْمِيَاهَ وَالرُّطُوبَاتِ وَتُثِيرُهَا الرِّيَاحُ فِي الْجَوِّ حَتَّى تَتَكَاثَفَ بِبُرُودَتِهَا وَتَكُونَ كِسَفًا مِنَ السَّحَابِ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيَنْزِلُ بِثِقَلِهِ إِلَى الْأَرْضِ، كَثِيرًا مَا شَاهَدْنَا فِي جِبَالِ سُورِيَةَ كَمَا يُشَاهِدُ النَّاسُ فِي غَيْرِهَا أَنْ يَنْعَقِدَ السَّحَابُ فِي أَثْنَاءِ الْجَبَلِ وَيَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَوْقَهُ حَيْثُ لَا مَطَرَ، وَقَدْ يَخْتَرِقُ النَّاسُ مِنْطَقَةَ الْمَطَرِ إِلَى مَا فَوْقَهَا. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْجِنْسَ مِنْ آيَاتِهِ بِأَعْظَمِ آثَارِهِ فَقَالَ: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أَيْ: أَوْجَدَ بِسَبَبِهِ الْحَيَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِخُلُوِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِحْيَاءِ كَالنُّمُوِّ وَالتَّغَذِّي وَالنِّتَاجِ، وَبَثَّ: أَيْ نَشَرَ وَفَرَّقَ فِي أَرْجَائِهَا مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَدُبُّ عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَبِالْمَاءِ حَدَثَتْ حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَبِهِ اسْتَعَدَّتْ لِظُهُورِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فِيهَا. وَهَلِ الْمُرَادُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ وَمَا تَلَاهُ مِنْ تَوَلُّدِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُلِّ دَابَّةٍ أَوْ هُوَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ آحَادِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ دَائِمًا فِي جَمِيعِ بِقَاعِ

الْأَرْضِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (21: 30) فَهُوَ يَذْكُرُ جَعْلَ كُلِّ شَيْءٍ حَيًّا بِالْمَاءِ فِي إِثْرِ ذِكْرِ انْفِصَالِ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَجْمُوعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ رَتْقًا ; أَيْ: مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلًا بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِبَعْضٍ عَلَى كَوْنِهِ ذَرَّاتٍ غَازِيَّةً كَالدُّخَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّكْوِينَ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) (41: 11) وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْفَتْقُ فِي الْأَجْرَامِ انْفَصَلَ جِرْمُ الْأَرْضِ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ قِطْعَةً مُسْتَقِلَّةً مَائِرَةً مُلْتَهِبَةً، وَكَانَتْ مَادَّةُ الْمَاءِ - وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ (عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ) بِالْأُكْسُجِينِ وَالْهِدْرُوجِينِ - تَتَبَخَّرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُلَاقِي فِي الْجَوِّ بُرُودَةً تَجْعَلُهَا مَاءً فَيَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا وَصَفْنَا آنِفًا فَيَبْرُدُ مِنْ حَرَارَتِهَا، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى صَارَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَاءً، وَتَكَوَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَابِسَةُ فِيهِ وَخَرَجَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ وَكُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْإِحْيَاءُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُشَاهَدُ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ دَائِمًا فَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (22: 5) وَذَلِكَ أَنَّنَا نَرَى كُلَّ أَرْضٍ لَا يَنْزِلُ فِيهَا الْمَطَرُ وَلَا تَجْرِي فِيهَا الْمِيَاهُ مِنَ الْأَرَاضِي الْمَمْطُورَةِ لَا فِي ظَاهِرِهَا وَلَا فِي بَاطِنِهَا خَالِيَةً مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَرْضٍ مُجَاوِرَةٍ لَهَا ثُمَّ يَعُودُ مِنْهَا، فَحَيَاةُ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ وَإِيجَادِ أَصُولِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِحْيَاءُ الْمُتَجَدِّدُ فِي أَشْخَاصِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ وَتُنَمَّى كُلَّ يَوْمٍ. وَهَذِهِ الْمِيَاهُ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْيَابِسَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَرْضُ مِصْرَ، فَيُقَالُ: إِنْ حَيَاتَهَا بِمَاءِ النِّيلِ دُونَ الْمَطَرِ ; فَإِنَّ مِيَاهَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْمَطَرِ ; فَهُوَ يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ فَيَجْتَمِعُ فَيَنْدَفِعُ، وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَأَرْشَدَنَا إِلَى آيَتِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (39: 21) الْآيَةَ. فَالْبُحَيْرَاتُ الَّتِي هِيَ يَنَابِيعُ النِّيلِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ أَيَّامَ الْفَيَضَانِ هِيَ مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّ هَذِهِ الْيَنَابِيعَ وَيَمُدُّ النَّهْرَ نَفْسَهُ فِي مَجْرَاهُ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَكَثْرَةُ الْفَيَضَانِ وَقِلَّتُهُ تَابِعَةٌ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ السَّنَوِيِّ وَقِلَّتِهِ هُنَاكَ. هَذَا هُوَ الْمَاءُ فِي كَوْنِهِ مَطَرًا وَفِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ وَهُوَ آيَةٌ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُودِهِ وَتَكَوُّنِهِ ; فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى سُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ حَكِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ آيَةٌ فِي تَأْثِيرِهِ

فِي الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ أَيْضًا، فَإِنَّ هَذَا النَّبَاتَ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاتِهِ، ثُمَّ هُوَ مُخْتَلِفٌ فِي أَلْوَانِهِ وَطُعُومِهِ وَرَوَائِحِهِ، فَتَجِدُ فِي الْأَرْضِ الْوَاحِدَةِ نَبْتَةَ الْحَنْظَلِ مَعَ نَبْتَةِ الْبِطِّيخِ مُتَشَابِهَتَيْنِ فِي الصُّورَةِ مُتَضَادَّتَيْنِ فِي الطَّعْمِ، وَتَجِدُ النَّخْلَةَ وَتَمْرَهَا مَا تَذُوقُ حَلَاوَةً وَلَذَّةً، وَتَجِدُ فِي جَانِبِهَا شَجَرَةَ اللَّيْمُونِ الْحَامِضِ وَالنَّارِنْجِ وَثَمَرَهَا مَا تَعْرِفُ حُمُوضَةً وَمُلُوحَةً، وَتَجِدُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمَا شَجَرَةَ الْوَرْدِ لَهَا مِنَ الرَّائِحَةِ مَا لَيْسَ لِلنَّخْلَةِ وَمَا يُخَالِفُ فِي أَرِيجِهِ زَهْرَ النَّارِنْجِ، بَلْ يُوجَدُ فِي الشَّجَرِ مَا لَهُ زَهْرٌ ذَكِيُّ الرَّائِحَةِ ; فَإِذَا قَطَعْتَ الْغُصْنَ الَّذِي فِيهِ هَذَا الزَّهْرَ تَنْبَعِثُ مِنْهُ رَائِحَةٌ خَبِيثَةٌ ; فَتِلْكَ السُّنَنُ - الَّتِي يَتَكَوَّنُ بِهَا الْمَطَرُ وَيَنْزِلُ - جَارِيَةٌ بِنِظَامٍ وَاحِدٍ دَقِيقٍ، وَكَذَلِكَ طُرُقُ تَغَذِّي النَّبَاتِ بِالْمَاءِ هِيَ جَارِيَةٌ بِنِظَامٍ وَاحِدٍ، فَوَحْدَةُ النِّظَامِ وَعَدَمُ الْخَلَلِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا لِلْخَلْقِ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الشَّامِلَةِ، وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِيمَا بَثَّ اللهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَإِنَّهَا آيَاتٌ عَلَى الْوَحْدَةِ وَدَلَائِلُ وُجُودِيَّةٌ عَلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ. الْجِنْسُ السَّادِسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) ذَكَرَ آيَةَ الرِّيَاحِ بَعْدَ آيَةِ الْمَطَرِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا وَتَذْكِيرًا بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ الرِّيَاحَ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ وَتَسُوقُهُ فِي الْجَوِّ إِلَى حَيْثُ يَتَحَلَّلُ بُخَارُهُ فَيَكُونُ مَطَرًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي آيَةِ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) (30: 48) وَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَتَدْبِيرُهَا وَتَوْجِيهُهَا عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَوَفْقَ الْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، فَهِيَ تَهُبُّ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَتَارَةً تَأْتِي نَكْبَاءَ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَدْ تَكُونُ مُتَنَاوِحَةً ; أَيْ: تَهُبُّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمِنْهَا الْعَقِيمُ، وَمِنْهَا الْمُلَقِّحَةُ لِلنَّبَاتِ وَلِلسَّحَابِ، وَإِذَا هَبَّتْ حَارَّةً فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ فَهِيَ تَهُبُ عَقِبَ ذَلِكَ لَطِيفَةَ الْحَرَارَةِ أَوْ بَارِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى سُنَّةٍ حَكِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ مَصْدَرِهَا، وَرَحْمَةِ مُدَبِّرِهَا. الْجِنْسُ السَّابِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيِ: الْغَيْمِ الْمُذَلَّلِ الْمَسْحُوبِ فِي الْجِوَاءِ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ. ذَكَرَ السَّحَابَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُثِيرُهُ وَتَجْمَعُهُ، وَهِيَ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يُمْطِرُ وَتُفَرِّقُ شَمْلَهُ أَحْيَانًا فَيَمْتَنِعُ الْمَطَرُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ مَعَ أَنَّهُ سَبَبُهُ الْمُبَاشِرُ لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ ; فَإِنَّهُ يَتَكَوَّنُ بِنِظَامٍ وَيَعْتَرِضُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِنِظَامٍ، فَهُوَ فِي ظَاهِرِهِ آيَةٌ تُدْهِشُ النَّاظِرَ الْجَاهِلَ بِالسَّبَبِ لَوْ لَمْ يَأْلَفْ ذَلِكَ وَيَأْنَسْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا مَنْ وَقَفَ عَلَى السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اجْتِمَاعِ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَافْتِرَاقِهَا وَعُلُوِّهَا وَهُبُوطِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ بِالْجَاذِبِيَّةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا جَاذِبِيَّةُ الثِّقَلِ، وَالْجَاذِبِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَجَاذِبِيَّةُ الْمُلَاصَقَةُ وَغَيْرُهَا، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى ظَوَاهِرِهَا فَيَرَاهَا كَمَا تَرَاهَا الْعَجْمَاوَاتُ

فَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَاتٍ ; لِأَنَّهُ أَهْمَلَ آلَةَ الْفَهْمِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا وَهِيَ الْعَقْلُ ; وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَنَّ فِيهَا (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي أَسْبَابِهَا، وَيُدْرِكُونَ حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، وَيُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، وَالسُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ، عَلَى قُدْرَةِ مُبْدِعِهَا وَحِكَمْتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَبِقَدْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ يَكْمُلُ التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يُشْرِكُ بِاللهِ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَأَكْثَرُهُمْ جَهْلًا. أَلَيْسَ أَكْبَرُ خُذْلَانٍ لِلدِّينِ وَجِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَلَّا يَنْظُرَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِي آيَاتِهِ الَّتِي يُوَجِّهُهُمْ كِتَابُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ مِنْهَا؟ أَلَيْسَ مِنْ أَشَدِّ الْمَصَائِبِ عَلَى الْمِلَّةِ أَنْ يَهْجُرَ رُؤَسَاءُ دِينٍ كَهَذَا الدِّينِ الْعُلُومَ الَّتِي تَشْرَحُ حِكَمَ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَيَعُدُّوهَا مُضْعِفَةً لِلدِّينِ أَوْ مَاحِيَةً لَهُ خِلَافًا لِكِتَابِ اللهِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ لَهُمْ بِهَا وَيُعَظِّمُ شَأْنَ النَّظَرِ فِيهَا؟ بَلَى ; وَإِنَّهُمْ لَيُصِرُّونَ عَلَى تَقَالِيدِهِمْ هَذِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِيهَا سَنَنَ قَوْمٍ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ كَلِمَةً فِي أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ خَذَلُوهُ: هَكَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كَافَّةً، كَأَنَّهُمْ تَعَاهَدُوا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُمْ وَاحِدًا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَافِرِينَ يُنْفِقُونَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى الطَّعْنِ فِي نَبِيِّهَا: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (51: 53) . وَقَدْ يَزْعُمُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَادُونَ عِلْمَ الْكَوْنِ بِاسْمِ الدِّينِ أَنَّ النَّظَرَ فِي ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَافٍ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ صَانِعِهَا وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَكْتَفِي مِنَ الْكِتَابِ بِرُؤْيَةِ جِلْدِهِ الظَّاهِرِ وَشَكْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ مَا أُودِعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ هُوَ كِتَابُ الْإِبْدَاعِ الْإِلَهِيِّ الْمُفْصِحُ عَنْ وُجُودِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِلَى هَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (18: 109) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٍ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (31: 27) فَكَلِمَاتُ اللهِ فِي التَّكْوِينِ بِاعْتِبَارِ آثَارِهَا وَمِصْدَاقِهَا هِيَ آحَادُ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَنْطِقُ بِلِسَانٍ أَفْصَحَ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، لَكِنْ لَا يَفْهَمُهُ الَّذِينَ هُمْ عَنِ السَّمْعِ مَعْزُولُونَ وَلِلْعِلْمِ مُعَادُونَ، الْوَاهِمُونَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تُقْتَبَسُ مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ الْوُجُودِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ زَعْمُهُمْ حَقِيقَةً لَا وَهْمًا لَكَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ اسْتَدَلَّ فِي كِتَابِهِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ، وَذَكَرَ الدَّوَرَ وَالتَّسَلْسُلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ وَالْمَطَرِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَرْشَدَنَا الْقُرْآنُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَاسْتِخْرَاجِ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْهَا.

165

أَلَا إِنَّ لِلَّهَ كِتَابَيْنِ: كِتَابًا مَخْلُوقًا وَهُوَ الْكَوْنُ، وَكِتَابًا مُنَزَّلًا وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا يُرْشِدُنَا هَذَا إِلَى طُرُقِ الْعِلْمِ بِذَاكَ بِمَا أُوتِينَا مِنَ الْعَقْلِ، فَمَنْ أَطَاعَ فَهُوَ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَمَنْ أَعْرَضَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) هَذِهِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي أَقَامَتْهَا الْآيَةُ السَّابِقَةُ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلُوا بِهِ أَنْدَادًا يَلْتَمِسُونَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ، وَيَدْفَعُونَ بِبَرَكَتِهِمُ الْبَلَاءَ وَالنِّقْمَةَ، وَيَأْخُذُونَ عَنْهُمُ الدِّينَ وَالشِّرْعَةَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ النِّدَّ هُوَ الْمُمَاثِلُ، وَزَادَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ فِيهِ قَيْدًا فَقَالَ: إِنَّهُ الْمُمَاثِلُ الَّذِي يُعَارِضُ مِثْلَهُ وَيُقَاوِمُهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُمَاثِلُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسُلْطَانِهِ يُعَارِضُونَهُ فِي الْخَلْقِ وَيُقَاوِمُونَهُ فِي التَّدْبِيرِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ صَرِيحَةٍ فِي أَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي يُفْهَمُ أَوْ يُتَوَهَّمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُفَسِّرِينَ ; بَلْ يَعْتَقِدُونَ - غَالِبًا - أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّ الْأَنْدَادَ وُسَطَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَقْضُونَ حَاجَاتِهِمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَوْ يَقْضِيهَا هُوَ لِأَجْلِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ لِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ بِأَنَّ الْمُذْنِبِينَ الْمُقَصِّرِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُصُولَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الرَّعَايَا الضُّعَفَاءِ مَعَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَالْوَثَنِيُّونَ يَقِيسُونَ اللهَ تَعَالَى عَلَى مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَعُظَمَاءِ الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ اسْتَعْبَدُوا النَّاسَ اسْتِعْبَادًا بَلْ تَعَبَّدُوهُمْ

166

فَعَبَدُوهُمْ، فَالْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّهُمْ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ يَقُولُونَ: اللهُ، كَثِيرَةٌ، وَقَالَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَقَالَ أَيْضًا: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفًى) (39: 3) أَيْ: يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَخْ. وَالْأَنْدَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَعَمُّ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَيَشْمَلُ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ خَضَعَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ خُضُوعًا دِينِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) إِلَخْ. فَالْمُرَادُ إِذًا مِنَ النِّدِّ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ يُؤْخَذُ عَنْهُ مَا لَا يُؤْخَذُ إِلَّا عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ الْأَوَّلِ - عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا - أَنَّ لِلْأَسْبَابِ مُسَبِّبَاتٍ لَا تَعْدُوهَا بِحِكْمَةِ اللهِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ لِلَّهَ تَعَالَى أَفْعَالًا خَاصَّةً بِهِ، فَطَلَبُ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا لَيْسَ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا تَخْفَى عَلَيْنَا أَسْبَابُهَا، وَيَعْمَى عَلَيْنَا طَرِيقُ طِلَابِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْنَا بِإِرْشَادِ الدِّينِ وَالْفِطْرَةِ أَنْ نَلْجَأَ فِيهَا إِلَى ذِي الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ وَنَطْلُبُهَا مِنْ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ لَعَلَّهُ بِعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ يَهْدِينَا إِلَى طَرِيقِهَا أَوْ يُبْدِلُنَا خَيْرًا مِنْهَا، وَيَجِبُ مَعَ هَذَا بَذْلُ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي الْعَمَلِ بِمَا نَسْتَطِيعُ مِنَ الْأَسْبَابِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْإِمْكَانِ شَيْءٌ مَعَ اعْتِقَادِنَا بِأَنَّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَرَحْمَتِهِ بِنَا ; إِذْ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا طُرُقًا لِلْمَقَاصِدِ، وَهَدَانَا إِلَيْهَا بِمَا وَهَبَنَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ. لَا يَسْمَحُ الدِّينُ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَتْرُكُوا الْحَرْثَ وَالزَّرْعَ وَيَدْعُوا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْحَبَّ مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ عَمَلِ مِنْهُمْ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (56: 64) وَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْقِيَامِ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْمُمْكِنَةِ لِإِنْجَاحِ الزِّرَاعَةِ مِنَ الْحَرْثِ وَالتَّسْمِيدِ وَالْبَذْرِ وَالسَّقْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَتَّكِلُوا عَلَى اللهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَهْدِهِمْ لِسَبَبِهِ بِكَسْبِهِمْ كَإِنْزَالِ الْأَمْطَارِ، وَإِفَاضَةِ الْأَنْهَارِ، وَدَفْعِ الْجَوَائِحِ، فَإِنِ اسْتَطَاعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِعَمَلِهِمْ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، مَعَ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هِدَايَتِهِمْ إِلَيْهِ وَإِقْدَارِهِمْ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ يَحْظُرُ الدِّينُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَى الْحَرْبِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْبِلَادِ عُزَّلًا، أَوْ حَامِلِي دُونَ سِلَاحِ الْعَدُوِّ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِمُ اتِّكَالًا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ ; بَلْ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُعِدُّوا لِلْأَعْدَاءِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ، وَيَتَّكِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْهُجُومِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالْأَقْدَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ اعْتِمَادًا عَلَى اللهِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِاللهِ، وَمَنِ الْتَجَأَ إِلَى مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ مِنْ دُونِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِاللهِ. وَهَذَا الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ - مِنْ إِنْسَانٍ مُكَرَّمٍ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ

الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ مَا دُونُ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ الْخَلِيقَةِ، أَوْ صَنَمٍ أَوْ تِمْثَالٍ جُعِلَ تِذْكَارًا لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ - يُسَمَّى نِدًّا لِلَّهِ وَشَرِيكًا لَهُ وَوَلِيًّا مِنْ دُونِهِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يُنْزِلِ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَسَّمَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَنْدَادَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يَعْمَلُ بِالِاسْتِقْلَالِ ; أَيْ: يَقْضِي حَاجَةَ مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَقِسْمٍ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَيَتَوَسَّطُ لِصَاحِبِ الْحَاجَةِ فَتُقْضَى، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّفِيعُ نِدَّا ; لِأَنَّهُ يَسْتَنْزِلُ مَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ عَنْ رَأْيِهِ وَيُحَوِّلُ مِنْ إِرَادَتِهِ، وَتَحْوِيلُ الْإِرَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِتَغْيِيرِ الْعِلْمِ بِالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ ; إِذِ الْإِرَادَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ دَائِمًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى. وَأَقَلُّ تَغْيِيرٍ فِي عِلْمِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَهُمُّهُ أَمْرُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُ وَيَتَمَنَّى لَوْ تُقْضَى حَاجَتُهُ (وَسَتَرَى بَيَانَ هَذَا وَدَلِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ) . وَلَا يَرْغَبُ عَنِ الْأَسْبَابِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالْأَنْدَادِ وَالشُّفَعَاءِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَلِيلَ الثِّقَةِ بِالسَّبَبِ أَوْ طَالِبًا مَا هُوَ أَعْجَلُ مِنْهُ، كَالْمَرِيضِ يُعَالِجُهُ الْأَطِبَّاءُ فَيَتَرَاءَى لَهُ أَوْ لِأَحَدِ أَقَارِبِهِ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ تَأْثِيرَهُمْ فِي السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْأَسْبَابِ طَلَبَا لِلتَّعْجِيلِ بِالشِّفَاءِ، وَمِثْلُهُ سَائِرُ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى مَنِ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ لِيَكْفُوهُمْ عَنَاءَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ (وَذَكَرَ مِنْهُمْ طُلَّابَ خِدْمَةِ الْحُكُومَةِ) . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ مِنَ الْأَنْدَادِ فَهُوَ: مَنْ يُتَّبَعُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِلنَّاسِ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دَلِيلُهُ، وَيُتَّخَذُ رَأْيُهُ دِينًا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ ; اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْوَحْيِ مِمَّنْ قَلَّدُوهُ دِينَهُمْ، وَأَوْسَعُ مِنْهُمْ فَهْمًا فِيمَا نَزَّلَ اللهُ. وَفِي هَؤُلَاءِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) كَمَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَدْ عَظُمَتْ فِتْنَةُ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ بِهِمْ حَتَّى كَانَ حُبُّهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أَيْ: يَجْعَلُونَ مِنْ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ نُظَرَاءَ لَهُ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْحُبَّ ضُرُوبٌ شَتَّى تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَعِلَلِهَا، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْأُنْسِ بِالْمَحْبُوبِ أَوِ الرُّكُونِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَقَدْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ شَخْصًا لِأَنَّهُ يَأْنَسُ بِهِ وَيَرْتَاحُ إِلَى لِقَائِهِ لِمُشَاكَلَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُشَاكَلَةَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَظْهَرُ فِيهِمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُبِّ. وَمِنْ أَسْبَابِ الْحُبِّ اعْتِقَادُ الْمُحِبِّ أَنَّ فِي الْمَحْبُوبِ قُدْرَةً فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَنُفُوذًا يَعْلُو نُفُوذَهُ، مَعَ ثِقَتِهِ بِأَنَّهُ يَهْتَمُّ لِأَمْرِهِ وَيَعْطِفُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ اللُّجْأُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى

مَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ بِدُونِهِ. فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُحْدِثُ انْجِذَابًا مِنَ الْمُعْتَقِدِ يَصْحَبُهُ شُعُورٌ خَفِيٌّ بِأَنَّ لَهُ قُوَّةً عَالِيَةً مُسْتَمَدَّةً مِمَّنْ يُحِبُّ، وَيَعْظُمُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُبِّ بِمِقْدَارِ مَا يَعْتَقِدُ فِي الْمَحْبُوبِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْمَزَايَا الَّتِي بِهَا كَانَ مَصْدَرَ الْمَنَافِعِ وَرُكْنَ اللَّاجِئِ، وَكُلُّ مَا لِلْمَخْلُوقِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ. وَأَمَّا قُوَّةُ الْخَالِقِ وَقُدْرَتُهُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ، وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ، وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي تَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَالسُّلْطَانِ الْمُطَاعِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ حُبَّهُ تَعَالَى أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا يُحَبُّ لِلرَّجَاءِ فِيهِ وَانْتِظَارِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحُبُّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى ; إِذْ لَا يُلْجَأُ إِلَى غَيْرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا يُلْجَأُ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ قَدْ أَشْرَكُوا أَنْدَادَهُمْ مَعَهُ فِي هَذَا الْحُبِّ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِمْ إِيَّاهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَا يَخُصُّونَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْحُبِّ ; إِذْ لَا يَرْجُونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْدَادِهِمْ مِثْلَهُ أَوْ ضَرْبًا مِنَ التَّوَسُّطِ الْغَيْبِيِّ فِيهِ، فَهُمْ كُفَّارٌ مُشْرِكُونَ بِهَذَا الْحُبِّ الَّذِي لَا يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ مُوَحَّدٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ شِرْكِهِمْ هَذَا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ; لِأَنَّ حُبَّهُمْ لَهُ خَاصٌّ بِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُشْرِكُونَ فِيهِ غَيْرَهُ، فَحُبُّهُمْ ثَابِتٌ كَامِلٌ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَهُ هُوَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُسْتَمَدُّ مِنْهُ كُلُّ كَمَالٍ، وَأَمَّا مُتَّخِذُو الْأَنْدَادِ فَإِنَّ حُبَّهُمْ مُتَوَزِّعٌ مُتَزَعْزِعٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا اسْتِقْرَارَ. لِلْمُؤْمِنِ مَحْبُوبٌ وَاحِدٌ يَعْتَقِدُ أَنَّ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ عَلَى جَمِيعِ الْأَكْوَانِ، فَمَا نَالَهُ مِنْ خَيْرٍ كَسْبِيٍّ فَهُوَ بِتَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَمَا جَاءَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَهُوَ بِتَسْخِيرِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَكِلُهُ إِلَيْهِ، وَيُعَوِّلُ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُشْرِكِ أَنْدَادٌ مُتَعَدِّدُونَ، وَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ، فَإِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، أَوْ نَزَلَ بِهِ ضُرٌّ لَجَأَ إِلَى بَشَرٍ أَوْ صَخْرٍ، أَوْ تَوَسَّلَ بِحَيَوَانٍ أَوْ قَبْرٍ، أَوِ اسْتَشْفَعَ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، لَا يَدْرِي أَيُّهُمْ يَسْمَعُ وَيُسْمَعُ، وَيَشْفَعُ فَيُشَفَّعُ، فَهُوَ دَائِمًا مُبَلْبَلُ الْبَالِ، لَا يَسْتَقِرُّ مِنَ الْقَلَقِ عَلَى حَالٍ. هَذَا هُوَ حُبُّ الْمُشْرِكِينَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَمِنَ الْحُبِّ نَوْعٌ سَبَبُهُ الْإِحْسَانُ السَّابِقُ، كَمَا أَنَّ سَبَبَ الْأَوَّلِ الرَّجَاءُ بِالْإِحْسَانِ اللَّاحِقِ، وَمِنَ الْإِحْسَانِ مَا تَتَمَتَّعُ بِهِ سَاعَةً أَوْ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا مَتَاعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَمِنْهُ مَا تَكُونُ بِهِ سَعِيدًا فِي حَيَاتِكَ كُلِّهَا كَالتَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّعْلِيمِ النَّافِعِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا خَفِيَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ بِكَسْبِهِمْ. وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ أَنْ يُحْسِنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِإِحْسَانٍ إِذَا قَبِلَهُ الْمُحْسِنُ إِلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ يَكُونُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَيْثُ تَكُونُ سَعَادَتُهُ بِهِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا الْإِحْسَانُ الَّذِي يَعْجَزُ عَنْهُ الْبَشَرُ هُوَ هِدَايَةُ الدِّينِ الَّتِي تُعَلِّمُ النَّاسَ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْعُقُولُ

وَتَخْرُجُ بِهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَالتَّعَالِيمِ الَّتِي تَتَهَذَّبُ بِهَا النُّفُوسُ وَتَتَزَكَّى مِنَ الصِّفَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَقَوَانِينَ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُغَذِّي الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهَا كُسُوفٌ وَلَا مِحَاقٌ. فَالدِّينُ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُحْسِنُ اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَى الْبَشَرِ عَلَى لِسَانِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَلَا صُنْعَ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِتَلَقٍّ وَلَا تَعَلُّمٍ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (53: 4) فَيَجِبُ أَنْ يُحَبَّ صَاحِبُ هَذَا الْإِحْسَانِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُبًّا لَا يُشْرَكُ بِهِ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فِي كَلَامِنَا قَدْ أَشْرَكُوا أَنْدَادَهُمْ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْحُبِّ ; إِذْ جَعَلُوا لَهُمْ شَرِكَةً فِي هَذَا الْإِحْسَانِ بِسُوءِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَمَا يَأْخُذُونَ بِآرَائِهِمْ عَلَى أَنَّهَا دِينٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَيْنَ أَخَذُوهَا - وَإِنْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ بَلْ وَإِنْ نَهَوْهُمْ عَنْهُ - يَتَمَسَّكُونَ كَذَلِكَ بِتَأْوِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ، كَأَنَّ التَّأْوِيلَ أُنْزِلَ مَعَهُ بِدُونِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَدَلَالَةِ اللُّغَةِ وَبَقِيَّةِ نُصُوصِ الدِّينِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللهَ تَعَالَى وَيَخُصُّونَهُ بِهَذَا الْحُبِّ كَمَا يُوَحِّدُونَهُ بِالتَّشْرِيعِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ الدِّينَ إِلَّا عَنِ الْوَحْيِ، وَلَا يَفْهَمُونَهُ إِلَّا بِقَرَائِنِ مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ نَاقِلُونَ لِلنُّصُوصِ وَمُبَيِّنُونَ لَهَا، بَلْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ نَفْسِهِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ يَسْتَرْشِدُونَ بِنَقْلِهِمْ وَبَيَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُقَلِّدُونَهُمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَلَا عِبَادَتِهِمْ، وَلَا يَأْخُذُونَ بِآرَائِهِمْ فِي الدِّينِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سَيْرِ الْأَرْوَاحِ مِنْ عَالَمٍ إِلَى عَالَمٍ ; بَلْ يَجُوزُونَ كُلَّ عَقَبَةٍ وَيَدُوسُونَ كُلَّ رِئَاسَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَابْتِغَاءِ رِضْوَانِهِ، فَهُمْ مُتَعَلِّقُونَ بِاللهِ وَمُخْلِصُونَ لَهُ (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفًى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (39: 3) (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (98: 5) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (12: 40) فَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُخْلِصُونَ لِلَّهِ فِي دِينِهِمُ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ أَحْكَامَهُ إِلَّا عَنْ وَحْيِهِ، وَأَمَّا مُتَّخِذُو الْأَنْدَادِ وَمُحِبُّوهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُمُ الَّذِينَ وَرَدَ فِي بَعْضِهِمْ (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (24: 48) فَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ حُكْمَ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَلَكِنْ إِذَا دُعُوا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِآرَاءِ رُؤَسَائِهِمْ أَقْبَلُوا مُذْعِنِينَ. بَعْدَ هَذَا ذَكَرَ اللهُ وَعِيدَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) . قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: (وَلَوْ تَرَى) بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَخَطْبًا فَظِيعًا، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ ((إِنَّ)) فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ ; أَيْ: لَوْ يُشَاهِدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَدْنِيسِهَا بِالشِّرْكِ، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِمَا غَشُّوهُمْ بِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَحَمَلُوهُمْ عَلَى أَنْ يَتْلُوَا تِلْوَهُمْ،

وَيَتَّخِذُوا الْأَنْدَادَ مِثْلَهُمْ، حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْأَنْدَادُ وَالْأَرْبَابُ، أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا يَظْهَرُ تَصَرُّفُهَا الْمُطْلَقُ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ سُلْطَانُهَا تَمَثُّلَ الْمَشْهُودِ، فَلَا تَحْجِبُهُمْ عَنْهَا أَسْبَابٌ ظَاهِرَةٌ، وَلَا تَخْدَعُهُمْ عَنْهَا قُوًى تُتَوَهَّمُ كَامِنَةً، لَعَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ الَّتِي تُدِيرُ عَالَمَ الْآخِرَةِ هِيَ عَيْنُ الْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُدِيرُ عَالَمَ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَأْثِيرَ لِغَيْرِهَا فِيهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ بِدُونِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي اللُّجْأِ إِلَى سِوَاهَا، وَإِشْرَاكِ غَيْرِهَا مَعَهَا، وَأَنَّ هَذَا الضَّلَالَ هَبَطَ بِعُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، وَكَانَ مَنْشَأَ عِقَابِهِمْ وَعَذَابِهِمْ، وَلَوْ رَأَوْا مَعَ هَذَا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ لَرَأَوْا أَمْرًا هَائِلًا عَظِيمًا يَنْدَمُونَ مَعَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ. وَأَمْثَالُ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ يَشُوبُ إِيمَانَهُ بِأَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ الشِّرْكِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ هِيَ تُتْرَكُ كُلُّهَا وَيُتْرَكُ مَعَهَا مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيُؤْخَذُ بِالشِّرْكِ الصَّحِيحِ عَمَلًا بِأَقْوَالِ أُنَاسٍ مِنَ الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْرَفُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ وَلِيًّا عَمَلًا بِبَعْضِ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ أَوْ لِاخْتِرَاعِ بَعْضِ الطَّغَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرَفُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ تَارِيخٌ يُوثَقُ بِهِ، وَلَا رِوَايَةٌ يَصِحُّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخَلَفُ الطَّالِحُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ عَلَى كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ ; لِأَنَّ الْعَامَّةَ اعْتَقَدَتْ صَلَاحَهُمْ وَوِلَايَتَهُمْ، وَالْعَامَّةُ قُوَّةٌ تَخْضَعُ لَهَا الْخَاصَّةُ فِي أَكْثَرِ الْأَزْمَانِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ فِيهَا عِلْمِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ الْجَلَالِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهَا بَصَرِيَّةٌ وَإِنَّمَا سُلِّطَتْ عَلَى الْمَعْقُولِ لِإِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُمُ الْأَمْرُ وَيَتَشَخَّصُ لَرَأَوْا أَمْرًا هَائِلًا عَظِيمًا لَا يُتَصَوَّرُ نَظِيرُهُ، وَهُوَ مَجَازٌ لَا أَلْطَفَ مِنْهُ وَلَا أَبْدَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَذَابِ مَظَاهِرُهُ فَتَكُونُ مُسَلَّطَةً عَلَى مَحْسُوسٍ. وَقِرَاءَةُ ((وَلَوْ تَرَى)) أَيْ: لَوْ رَأَيْتَ حَالَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ يَوْمَئِذٍ لَرَأَيْتَ كَذَا وَكَذَا. وَحَذْفُ جَوَابِ ((لَوْ)) مَعْهُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي كَلَامِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَوْ إِجْمَالًا. يَقُولُونَ فِي شَخْصٍ تَغَيَّرَ حَالُهُ وَانْتَقَلَ إِلَى طَوْرٍ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانًا الْيَوْمَ - وَيَسْكُتُونَ - وَالْمُرَادُ مَعْلُومٌ وَالْإِجْمَالُ فِيهِ مَقْصُودٌ ; لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصْوِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَيَخْتَرِعُ لَهُ الْخَيَالُ مَا يُمْكِنُ مِنَ الصُّوَرِ، وَ (لَوْ) عَلَى كُلِّ حَالٍ هِيَ الَّتِي لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ لَا يُرَاعَى فِيهَا امْتِنَاعٌ لِامْتِنَاعٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَمَحَبَّتِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَبَّةِ مَا يَجِدُهُ الْمُحِبُّ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأُنْسِ بِالْمَحْبُوبِ وَالثِّقَةِ بِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَاللُّجْأِ إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَكْوَارِ الْإِنْسَانِ فِي وِجْدَانِهِ وَاعْتِقَادِهِ: إِنَّنَا قَدِ اشْتَرَطْنَا فِي ابْتِدَاءِ قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ جَاءَ مُكَمِّلًا لِلْأَرْوَاحِ وَسَائِقًا لَهَا إِلَى سَعَادَتِهَا فِي طَوْرِهَا الدُّنْيَوِيِّ وَطَوْرِهَا الْأُخْرَوِيِّ. وَلَا يَتِمُّ لَنَا هَذَا إِلَّا بِالِاعْتِبَارِ وَهُوَ أَنْ نَنْظُرَ فِي الْحُسْنِ الَّذِي يَمْدَحُهُ

اللهُ تَعَالَى وَيَأْمُرُ بِهِ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَنْفُسِنَا لِنَرَى هَلْ نَحْنُ مُتَّصِفُونَ بِهِ؟ وَنَنْظُرُ فِي الْقَبِيحِ الَّذِي يَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ نَجْتَهِدُ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِنَا مِنَ الْقَبِيحِ وَتَحْلِيَتِهَا بِالْحُسْنِ. وَهَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْحَثَ وَنَنْظُرَ هَلِ اتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ أَنْدَادًا كَمَا اتَّخَذَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْدَادًا أَمْ لَا؟ فَإِنَّ هَذَا أَهَمُّ مَا يَبْحَثُ فِيهِ قَارِئُ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الْبَاحِثِينَ السَّبَبُ فِي سُقُوطِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَهْلِ الْعَمِيمِ - إِلَّا أَفْرَادًا فِي بَعْضِ شُعُوبِهِمْ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهُمْ أَثَرٌ - وَبَحَثُوا فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَمَا حَدَثَ فِيهِ فَكَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ فِي الِانْقِلَابِ، وَكَانَ مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَةُ التَّصَوُّفِ، وَظَنُّوا أَنَّ التَّصَوُّفَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَهْلِ بِدِينِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ عَقَائِدِهِمْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَمَا ظَنُّوا، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا هُنَا ذِكْرُ تَارِيخِهِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهِ وَطُرُقِهِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ الْغَرَضَ مِنْهُ بِالْإِجْمَالِ، وَمَا كَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ. ظَهَرَ التَّصَوُّفُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْإِسْلَامِ فَكَانَ لَهُ شَأْنٌ كَبِيرٌ وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَهْذِيبَ الْأَخْلَاقِ وَتَرْوِيضَ النَّفْسِ بِأَعْمَالِ الدِّينِ، وَجَذْبَهَا إِلَيْهِ وَجَعْلَهُ وِجْدَانًا لَهَا، وَتَعْرِيفَهَا بِأَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ بِالتَّدْرِيجِ. ابْتُلِيَ الصُّوفِيَّةُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ بِالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ جَمَدُوا عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوَارِحِ وَالتَّعَامُلِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ أَسْرَارِ الدِّينِ وَيَرْمُونَهُمْ بِالْكُفْرِ، وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ وَالسُّلْطَةُ لِلْفُقَهَاءِ لِحَاجَةِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ إِلَيْهِمْ، فَاضْطَرَّ الصُّوفِيَّةُ إِلَى إِخْفَاءِ أَمْرِهِمْ، وَوَضْعِ الرُّمُوزِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَعَدَمِ قَبُولِ أَحَدٍ مَعَهُمْ إِلَّا بِشُرُوطٍ وَاخْتِبَارٍ طَوِيلٍ، فَقَالُوا: لَا بُدَّ فِيمَنْ يَكُونُ مِنَّا أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا طَالِبًا فَمُرِيدًا فَسَالِكًا وَبَعْدَ السُّلُوكِ إِمَّا أَنْ يَصِلَ وَإِمَّا أَنْ يَنْقَطِعَ، فَكَانُوا يَخْتَبِرُونَ أَخْلَاقَ الطَّالِبِ وَأَطْوَارَهُ زَمَنًا طَوِيلًا لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ صَحِيحُ الْإِرَادَةِ صَادِقُ الْعَزِيمَةِ لَا يَقْصِدُ مُجَرَّدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِهِمْ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَبَعْدَ الثِّقَةِ يَأْخُذُونَهُ بِالتَّدْرِيجِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا لِلشَّيْخِ (الْمَسْلَكِ) سُلْطَةً خَاصَّةً عَلَى مُرِيدِيهِ، حَتَّى قَالُوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ مَعَ الشَّيْخِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ ; لِأَنَّ الشَّيْخَ يَعْرِفُ أَمْرَاضَهُ الرُّوحِيَّةَ وَعِلَاجَهَا، فَإِذَا أُبِيحَ لَهُ مُنَاقَشَتُهُ وَمُطَالَبَتُهُ بِالدَّلِيلِ تَتَعَسَّرُ مُعَالَجَتُهُ أَوْ تَتَعَذَّرُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ، حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ بِمَعْصِيَةٍ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لِخَيْرِهِ، وَأَنَّ فِعْلَهَا نَافِعٌ لَهُ وَمُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمُ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ وَالطَّاعَةُ الْعَمْيَاءُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْعِرْفَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَذَا. ثُمَّ أَحْدَثُوا إِظْهَارَ قُبُورِ مَنْ يَمُوتُ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَالْعِنَايَةَ بِزِيَارَتِهَا لِأَجْلِ تَذَكُّرِ سُلُوكِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ وَمُشَاهَدَتِهِمْ ; لِأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُدْوَةِ وَالتَّأَسِّي، وَالتَّأَسِّي هُوَ طَرِيقُ التَّرْبِيَةِ الْقَوِيمُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ. فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْإِجْمَالِ أَنَّ قَصْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَ صَحِيحًا، وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ

إِلَّا الْخَيْرَ الْمَحْضَ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ وَحُسْنَ النِّيَّةِ أَسَاسُ طَرِيقِهِمْ، وَلَكِنْ مَاذَا كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ كَانَ مِنْهُ أَنَّ مَقَاصِدَ الصُّوفِيَّةِ الْحَسَنَةَ قَدِ انْقَلَبَتْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ رُسُومِهِمُ الظَّاهِرَةِ إِلَّا أَصْوَاتٌ وَحَرَكَاتٌ يُسَمُّونَهَا ذِكْرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ صُوفِيٍّ، وَإِلَّا تَعْظِيمُ قُبُورِ الْمَشَايِخِ تَعْظِيمًا دِينِيًّا مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ لَهُمْ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً تَعْلُو الْأَسْبَابَ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِهَا الْمُسَبَّبَاتُ بِحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، بِهَا يُدِيرُونَ الْكَوْنَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُونَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ تَكَلَّفُوا بِقَضَاءِ حَاجِّ مُرِيدِيهِمْ وَالْمُسْتَغِيثِينَ بِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ عَيْنُ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ. وَزَادُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا آخَرَ هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ قُبْحًا وَهَدْمًا لِلدِّينِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ شَيْءٌ وَالْحَقِيقَةَ شَيْءٌ آخَرُ، فَإِذَا اقْتَرَفَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ قَالُوا فِي الْمُجْرِمِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُنْكِرِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِلنَّاسِ دِينَيْنِ، وَأَنَّهُ يُحَاسِبُهُمْ بِوَجْهَيْنِ، وَيُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَتَيْنِ - حَاشَ لِلَّهِ - نَعَمْ ; جَاءَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ ذِكْرُ الْحَقِيقَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِهِ أَنَّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يَعْلُو أَفْهَامَ الْعَامَّةِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكَمِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَحَسْبُ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْوُقُوفُ عِنْدَ ظَاهِرِهِ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ فَفَهِمَ مِنْهُ شَيْئًا أَعْلَى مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُ الْعَامَّةِ فَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ لِلتَّزَيُّدِ مِنَ الْعِلْمِ بِاللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ ; فَهَذَا مَا يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا سِوَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ أَوْ يُنَافِيهَا، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ نَصِيبًا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ سِوَاهُ (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (35: 28) . هَكَذَا كَانَ الْقَوْمُ، الصُّوفِيَّةُ الْحَقِيقِيُّونَ فِي طَرَفٍ، وَالْفُقَهَاءُ فِي طَرَفٍ آخَرَ، وَبَعْدَمَا فَسَدَ التَّصَوُّفُ وَانْقَلَبَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُنَاقِضَةٍ لَهَا، وَضَعُفَ الْفِقْهُ فَصَارَ مُنَاقَشَةً لَفْظِيَّةً فِي عِبَارَاتِ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ، اتَّفَقَ الْمُتَفَقِّهَةُ الْجَامِدُونَ وَالْمُتَصَوِّفَةُ الْجَاهِلُونَ، وَأَذْعَنَ أُولَئِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَاعْتَرَفُوا لَهُمْ بِالسِّرِّ وَالْكَرَامَةِ، وَسَلَّمُوا لَهُمْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ، فَصِرْتَ تَرَى الْعَالِمَ قَرَأَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ مِنْ رَجُلٍ جَاهِلٍ أُمِّيٍّ وَيَرَى أَنَّهُ يُوَصِّلُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَ الْأَئِمَّةُ وَاسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْهُمَا كُلُّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلِمَاذَا شَرَعَ اللهُ هَذَا الدِّينَ، وَالنَّاسُ أَغْنِيَاءُ عَنْهُ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْأُمِّيِّينَ وَأَشْبَاهِ الْأُمِّيِّينَ؟ وَهَلِ الْقُصُورُ إِذًا فِيمَا نَزَّلَ اللهُ تَعَالَى أَمْ فِي بَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ وَبَيَانِ الْأَئِمَّةِ لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ؟ حَاشَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِهِ غَيْرَ مَا نَزَّلَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُ الصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ التَّحَقُّقِ

بِمَعَارِفِهِمَا، وَالتَّخَلُّقِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِمَا، وَأَخْذِ النُّفُوسِ بِالْعَمَلِ بِهِمَا، مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَا جُمُودٍ عَلَى الظَّوَاهِرِ. وَلَقَدْ تَشَوَّهَتْ سِيرَةُ مُدَّعِي التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَصَارَتْ رُسُومُهُمْ أَشْبَهَ بِالْمَعَاصِي وَالْأَهْوَاءِ مِنْ رُسُومِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا التَّصَوُّفَ مِنْ قَبْلِهُمْ، وَأَظْهَرُهَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الِاحْتِفَالَاتُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا ((الْمَوَالِدَ)) وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَبِعَ الْفُقَهَاءَ فِي اسْتِحْسَانِهَا الْأَغْنِيَاءُ، فَصَارُوا يَبْذُلُونَ فِيهَا الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ بَعْضُ هَذَا الْمَالِ لِنَشْرِ عِلْمٍ أَوْ إِزَالَةِ مُنْكَرٍ أَوْ إِعَانَةِ مَنْكُوبٍ لَضَنُّوا بِهِ وَبَخِلُوا، وَلَا يَرَوْنَ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مُنَافِيًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّ كَرَامَةَ الشَّيْخِ الَّذِي يَحْتَفِلُونَ بِمَوْلِدِهِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتُحِلُّ لِلنَّاسِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ. فَالْمَوَالِدُ أَسْوَاقُ الْفُسُوقِ، فِيهَا خِيَامٌ لِلْعَوَاهِرِ، وَحَانَاتٌ لِلْخُمُورِ، وَمَرَاقِصٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الرِّجَالُ لِمُشَاهَدَةِ الرَّاقِصَاتِ الْمُتَهَتِّكَاتِ، الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، وَمَوَاضِعُ أُخْرَى لِضُرُوبٍ مِنَ الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يُقْصَدُ بِهَا إِضْحَاكُ النَّاسِ. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَوَالِدِ يَكُونُ فِي الْمَقَابِرِ، وَيُرَى كِبَارُ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ يَتَخَطَّوْنَ هَذَا كُلَّهُ لِحُضُورِ مَوَائِدِ الْأَغْنِيَاءِ فِي السُّرَادِقَاتِ وَالْقِبَابِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا وَيَنْصِبُونَ فِيهَا الْمَوَائِدَ الْمَرْفُوعَةَ، وَيُوقِدُونَ الشُّمُوعَ الْكَثِيرَةَ، احْتِفَالًا بِاسْمِ صَاحِبِ الْمَوْلِدِ، وَيُهَنِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْعَمَلِ الشَّرِيفِ فِي عُرْفِهِمْ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ شَرْحِ مَفَاسِدِ الْمَوَالِدِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ كِبَارِ الشُّيُوخِ فِي الْأَزْهَرِ دَعَوْهُ مَرَّةً لِلْعَشَاءِ عِنْدَ أَحَدِ الْمُحْتَفِلِينَ، فَأَبَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّنِي لَا أُحِبُّ أَنْ أُكَثِّرَ سَوَادَ الْفَاسِقِينَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَالِدَ كُلَّهَا مُنْكَرَاتٌ، وَوَصَفَ مَا يَمُرُّ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَوْضِعِ الطَّعَامِ. ثُمَّ قَالَ لِشَيْخٍ صَدِيقٍ لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ: كَمْ يُنْفِقُ صَاحِبُكَ فِي احْتِفَالِهِ بِالْمَوْلِدِ؟ قَالَ: أَرْبَعَمِائَةِ جُنَيْهٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ كَلَّمْتَ صَاحِبَكَ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْأَزْهَرِ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ بَذْلُهُ شَرْعِيًّا، وَهَؤُلَاءِ الْمُجَاوِرُونَ يَذْكُرُونَهُ بِخَيْرٍ وَيَدْعُونَ لَهُ. فَأَجَابَ ذَلِكَ الشَّيْخُ قَائِلًا: إِنَّ الْكَوْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا الَّذِي أُرِيدُ، فَإِنَّ كَوْنَنَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا هَذِهِ النَّفَقَاتُ فِي الطُّرُقِ الْمَذْمُومَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُنْفِقَ صَاحِبُكَ عَلَى نَشْرِ عِلْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ بَعْضُ الْإِنْفَاقِ عِنْدَنَا فِي الْخَيْرِ وَيَبْقَى لِلْمَوَالِدِ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ. فَقَالَ الشَّيْخُ حِينَئِذٍ: أَمَا قَرَأْتَ حِكَايَةَ الشَّعْرَانِيِّ مَعَ الزَّمَّارِ إِذْ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يَنْفُخُ فِي مِزْمَارٍ وَالنَّاسُ يَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ فَمَا كَانَ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا أَنْ قَالَ: يَا عَبْدَ الْوَهَّابِ أَتُرِيدُ أَنْ يَنْقُصَ مُلْكُ رَبِّكَ مِزْمَارًا؟ فَعَلِمَ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الْأُسْتَاذُ: ثُمَّ تَرَكَنِي الْمَشَايِخُ بَعْدَ سَرْدِ الْحِكَايَةِ وَذَهَبُوا إِلَى الْمَوْلِدِ، فَلْيَنْظُرِ النَّاظِرُونَ إِلَى أَيْنَ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ بِبَرَكَةِ التَّصَوُّفِ وَاعْتِقَادِ أَهْلِهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا مُرَاعَاةِ شَرْعٍ! اتَّخَذُوا الشُّيُوخَ أَنْدَادًا، وَصَارَ يُقْصَدُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْأَضْرِحَةِ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَشِفَاءُ الْمَرْضَى وَسَعَةُ الرِّزْقِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْعِبْرَةِ وَتَذَكُّرِ الْقُدْوَةِ، وَصَارَتِ الْحِكَايَاتُ الْمُلَفَّقَةُ نَاسِخَةً فِعْلًا لِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَغِبُوا عَمَّا شَرَعَ اللهُ إِلَى مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُرْضِي غَيْرَهُ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا لَهُ وَصَارُوا كَالْإِبَاحِيِّينَ فِي الْغَالِبِ، فَلَا عَجَبَ إِذَا عَمَّ فِيهِمُ الْجَهْلُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الضَّعْفُ، وَحُرِمُوا مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ ; لِأَنَّهُمُ انْسَلَخُوا مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا بَلْ وَلَا فِي الثَّانِي، وَلَا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْبِدَعِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا سَرَتْ إِلَيْنَا بِالتَّقْلِيدِ أَوِ الْعَدْوَى مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِذْ رَأَى قَوْمُنَا عِنْدَهُمْ أَمْثَالَ هَذِهِ الِاحْتِفَالَاتِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا مِثْلَهَا يَكُونُ لِدِينِهِمْ عَظْمَةٌ وَشَأْنٌ فِي نُفُوسِ تِلْكَ الْأُمَمِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُقُوطِهِمْ فِيمَا سَقَطُوا فِيهِ. وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فِي الْفَتْكِ بِهِمْ بِأَضْعَفَ مِنْ أَثَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَرْكُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِبْدَالُ أَقْوَالِ النَّاسِ بِهِمَا. فَلَوْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ عَاقِلٌ أَوْ شَعْبٌ مُرْتَقٍ لَحَارَ، لَا يَدْرِي بِمَ يَأْخُذُ؟ وَلَا عَلَى أَيِّ الْمَذَاهِبِ وَالْكُتُبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ يَعْتَمِدُ، وَلَصَعُبَ عَلَيْنَا إِقْنَاعُهُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ دُونَ سِوَاهُ، أَوْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ وَقَفْنَا عِنْدَ حُدُودِ الْقُرْآنِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لَسَهُلَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ مَا الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا وَلَا عُسْرَ، وَمَا الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ؟ وَلَكِنَّنَا إِذَا نَظَرْنَا فِي أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَتَشَعُّبِهَا، وَخِلَافَاتِهِمْ وَعِلَلِهَا، فَإِنَّنَا نَحَارُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِذْ نَجِدُ بَعْضَهَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ فِيهِ: الْمُدْرِكُ قَوِيٌّ وَلَكِنَّهُ لَا يُفْتِي بِهِ. وَلِمَاذَا؟ لِأَنَّ فُلَانًا قَالَ، فَقَوْلُ رَجُلٍ مِنْ رِجَالٍ كَثِيرِينَ جِدًّا نَجْهَلُ تَارِيخَ أَكْثَرِهِمْ يَكْفِي لِتَرْكِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَبِهَذَا قُطِعَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَيَنْبُوعِهِ. وَنَحْنُ لَا نَطْعَنُ فِي أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ أَوِ الْمُرَجِّحِينَ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ تَارِيخُهُ مَعْرُوفًا لَنَا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ ; بَلْ نُحْسِنُ فِيهِمُ الظَّنَّ وَنَقُولُ: إِنَّهُمْ قَالُوا بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ بَلْ بَاحِثِينَ، وَإِنَّا نَسْتَرْشِدُ بِكَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ دَالُّونَ وَمُبَيِّنُونَ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ شَارِعُونَ ; بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا إِلَى كِتَابِهِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ

وَلَا يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَقَائِدِهِ وَعِبَادَتِهِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ وَاسِطَةٌ فَهِيَ وَاسِطَةُ الدَّلَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا نَزَّلَ اللهُ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى مَا نَزَلَ لِأَجْلِهِ مِنْ حَيَاةِ الرُّوحِ وَالْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ. فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُؤْخَذُ الدِّينُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنْ لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، فَلَا نَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْهُ، وَطَلَبُنَا مِنْهُ يَكُونُ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي وَضَعَهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا، فَإِنْ جَهِلْنَا أَوْ عَجَزْنَا فَإِنَّنَا نَلْجَأُ إِلَى قُدْرَتِهِ، وَنَسْتَمِدُّ عِنَايَتَهُ وَحْدَهُ، وَبِهَذَا نَكُونُ مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا أَمَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا كَانَ مِنْ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (13: 33) . وَبَقِيَ صِنْفٌ آخَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَهُمُ الْعَامَّةُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا هُمْ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُحِلُّونَ لِمَرْضَاتِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُخَالِفُونَ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ بِضُرُوبٍ سَخِيفَةٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِخِلَافِ النَّصِّ الْتِمَاسًا لِخَيْرِهِمْ أَوْ هَرَبًا مِنْ سُخْطِهِمْ كَتَمُوا حُكْمَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ: أَهَذَا حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ وَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ يَغُضُّ مِنْ صَوْتِهِ بِالْجَوَابِ، وَلَا يَجْهَرُ بِالْقَوْلِ مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ، إِذَا كَانَ الْجَوَابُ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَصْحَابِ السُّلْطَةِ. وَنَقُولُ: ((مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ)) حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، إِذْ يُسَمُّونَ النِّفَاقَ وَالْمُحَابَاةَ فِي الدِّينِ مُدَارَاةً لَمَّا كَانَتِ الْمُدَارَاةُ مَحْمُودَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِمَّنْ قَبْلَهُمْ يُسَمُّونَ كِتْمَانَهُمْ بِأَسْمَاءَ مَحْمُودَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَعَنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَجَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. فَهَلْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فَيَرْضَى لِهَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤْثِرُوا الْعَامَّةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ أَنْدَادًا لَهُ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ أَوْ أَشَدَّ؟ تَرَى الْعَالِمَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْتَسِبُ إِلَى الشَّرْعِ وَيُحْتَرَمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَّبِعُ هَوَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ إِذَا أُوذُوا فِي اللهِ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ، فَلَا يَتَّخِذُونَ اللهَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، فَهَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُؤْمِنًا إِذَا كَانَ يَتْرُكُ دِينَهُ لِأَجْلِ النَّاسِ؟ أَمْ شَرْطُ الْإِيمَانِ أَنْ يَصْبِرَ فِي سَبِيلِهِ عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ؟ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (29: 2) إِلَخْ. كَلَّا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِتْنَةٌ لِبَعْضٍ وَسَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) التَّبَرُّؤُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ التَّفَصِّي مِمَّنْ يُكْرَهُ قُرْبُهُ وَجِوَارُهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ لَاحِقُهُ بِسَابِقِهِ فِي مَوْضُوعِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ. وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ عَذَابَ اللهِ تَعَالَى سَيَحُلُّ بِمُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّابِعِ فِي الِاتِّخَاذِ وَالْمَتْبُوعِ فِيهِ،

وَفِي أَنْوَاعِ الِاتِّبَاعِ الْمَذْمُومِ مِنَ التَّشْرِيعِ بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى وَالتَّقْلِيدِ فِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ وَبَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَفْصِيلَ حَالِ التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ فِي ذَلِكَ، وَأَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَمْثِيلًا لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَنْكَشِفُ فِيهِ الْغِطَاءُ وَيَرَى النَّاسُ فِيهِ الْعَذَابَ بِأَعْيُنِهِمْ وَيَعْرِفُونَ أَسْبَابَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَعَ، وَالْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ. وَرَأَى الرُّؤَسَاءُ الْمُضِلُّونَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أَنَّ إِغْوَاءَهُمْ لِلنَّاسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا رَأْيَهُمْ، وَقَلَّدُوهُمْ دِينَهُمْ قَدْ ضَاعَفَ عَذَابَهُمْ، وَحَمَّلَهُمْ مِثْلَ أَوْزَارِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ فَوْقَ أَوْزَارِهِمْ، فَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، وَتَنَصَّلُوا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوُا الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ جَزَاؤُهُمْ مَاثِلًا لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَأَنَّى يَنْفَعُهُمُ التَّبَرُّؤُ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أَيِ: الرَّوَابِطُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِهِ الْحَقَّ عَلَى الرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَسْتَفِيدُهَا الرَّئِيسُ بِاسْتِهْوَاءِ الْمَرْءُوسِ وَإِخْضَاعِهِ لَهُ وَحَمْلِهِ عَلَى اتِّبَاعِهِ، أَمَا وَقَدْ صَدَرَ عَنْ نُفُوسٍ تَرْتَعِدُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ الَّذِي أَشْرَفَتْ عَلَيْهِ بِمَا جَنَتْ وَاقْتَرَفَتْ، بَعْدَمَا تَقَطَّعَتِ الرَّوَابِطُ وَالصِّلَاتُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَتْبُوعِينَ وَاصْطَلَمَتْ، فَلَا مَنْفَعَةَ لِلْمُتَبَرِّئِ تُرِكَتْ فَيُحْمَدُ تَرْكُهَا، وَلَا هِدَايَةَ لِلْمُتَبَرَّأِ مِنْهُ تُرْجَى فَيُحْمَدُ أَثَرُهَا، وَ (الْأَسْبَابُ) جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ النَّخْلُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشَّجَرِ ثُمَّ غُلِّبَ فِي كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصِدٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَعْنَوِيَّةِ. لَوْلَا أَنْ حِيلَ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ وَهِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَكَانَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشَدُّ زِلْزَالٍ لِجُمُودِهِمْ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ فِي الدِّينِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ أَمِ الْمَيِّتِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّقْلِيدُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ أَمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; إِذْ كُلُّ هَذَا مِمَّا يُؤْخَذُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ رَأْيٌ وَلَا قَوْلٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَضَاءِ وَمَا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِأُولِي الْأَمْرِ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِشَرْطِهِ إِقَامَةً لِلْعَدْلِ وَحِفْظًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ نَقَلَةٌ وَأَدِلَّاءٌ لَا أَنْدَادٌ وَلَا أَنْبِيَاءٌ، فَلَا عِصْمَةَ تَحُوطُ أَحَدَهُمْ فَيُعْتَمَدُ عَلَى فَهْمِهِ وَقُصَارَى الْعَدَالَةِ أَنْ يُوثَقَ بِنَقْلِهِ وَيُسْتَعَانَ بِعِلْمِهِ، وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ يُرَدُّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَهُنَاكَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ وَالْحُكْمُ الْعَدْلُ. وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ. فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (7: 38، 39) فَكُلٌّ يُؤَاخَذُ بِعَمَلِهِ. فَإِذَا حَمَلَ الْأَوَّلُ الْآخِرَ عَلَى رَأْيِهِ وَدَعَاهُ إِلَى اتِّبَاعِهِ فِيهِ أَوْ فِي رَأْيِ غَيْرِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ هُوَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَعَلَيْهِ إِثْمُهُ وَمِثْلُ إِثْمِ مَنْ أَضَلَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ إِثْمِهِمْ شَيْءٌ، إِذْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ فَاتَّخَذُوهُمْ.

167

وَأَمَّا مَنْ يُبْدِي فِي الدِّينِ فَهْمًا، وَيُقَرِّرُ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُكْمًا، يُرِيدُ أَنْ يَفْتَحَ بِهِ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفِقْهِ، وَيُسَهِّلَ لَهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ، ثُمَّ هُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَعْرِضُوا قَوْلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَيَنْهَاهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتَنِعُوا بِدَلِيلِهِ ; فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، أَعْلَامِ التُّقَى، وَلَيْسَ يَضُرُّهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيَجْعَلَ نِدًّا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُخْطِئًا وَجَاءَ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ لَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْسِبُ ضَلَالَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِحَقٍّ وَيَقُولُ: مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَوْلِي عَلَى عِلَّاتِهِ وَلَا أَعْرِفُكَ، فَالَّذِينَ يُتَّخَذُونَ أَنْدَادًا يَتَبَرَّءُونَ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ عَبَدَهُمُ النَّاسُ كَالْمَسِيحِ وَبَعْضِ أُولِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، أَوْ قَلَّدُوهُمْ وَأَخَذُوا بِأَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَبَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِهِمْ، بَلْ مَعَ نَهْيِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ وَحْيِهِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا الْقِسْمُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا ; لِأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا أُولَئِكَ الْأَخْيَارَ أَوْ قَلَّدُوهُمْ فِي دِينِهِمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ; إِذِ اتِّبَاعُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا، وَلَا يُقَلِّدُونَ فِي دِينِهِ أَحَدًا وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ دِينَهُ عَنْ وَحْيِهِ فَقَطْ. وَقِسْمٌ أَضَلُّوا النَّاسَ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِذْ تَتَقَطَّعُ بِهِمْ أَسْبَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ - هُنَا - بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) أَيْ: نَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا لِنَتَبَرَّأَ مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ وَنَتَنَصَّلَ مِنْ رِيَاسَتِهِمْ، أَوْ لِنَتَّبِعَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَنَأْخُذَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَنَهْتَدِيَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى هُنَا ((الْآخِرَةِ)) فَنَتَبَرَّأُ مِنْ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ; إِذْ نَسْعَدُ بِعَمَلِنَا مِنْ حَيْثُ هُمْ أَشْقِيَاءُ بِأَعْمَالِهِمْ (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ لَهُمْ كَيْفَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ قَدْ كَانَ لَهَا أَسْوَأُ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ إِذْ جَعَلَتْهَا مُسْتَذَلَّةً مُسْتَعْبَدَةً لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَأَوْرَثَهَا ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالصَّغَارِ مَا كَانَ حَسْرَةً وَشَقَاءً عَلَيْهَا، فَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي كَوَّنَتْ هَذِهِ الْحَسَرَاتِ فِي النَّفْسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَسْعَدُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ بِتَزْكِيَتِهَا، وَتَشْقَى بِتَدْسِيَتِهَا (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) إِلَى الدُّنْيَا صَحِيحِي الْعَقِيدَةِ لِيُصْلِحُوا أَعْمَالَهُمْ، فَيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ هِيَ ذَوَاتُهُمْ بِمَا طَبَعَتْهَا عَلَيْهِ خُرَافَاتُ الشِّرْكِ وَحُبُّ الْأَنْدَادِ. (الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، نَعَمْ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنْ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا يَفْصِلُ بَيْنَ

الْمُسْلِمِينَ وَالْقُرْآنِ إِذْ يَصْرِفُونَ كُلَّ وَعِيدٍ فِيهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَنْصَرِفُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ ; لِهَذَا تَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَّعِظُونَ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يَتَحَرَّكُ بِهَا اللِّسَانُ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِحُقُوقِهَا كَافِيَةٌ لِلنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَافِرِينَ يَقُولُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهُزُّ جَسَدَهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ كَمَا يَهُزُّهُ جَمَاهِيرُهُمْ، فَهَلْ هَذَا كُلُّ مَا أَرَادَهُ اللهُ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ لَيْسَ هَذَا الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ الْجَاهِلُونَ مِنْ مُرَادِ الْمُفَسِّرِينَ، فَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ضُرُوبَ الشِّرْكِ وَصِفَاتِ الْكَافِرِينَ وَأَحْوَالَهُمْ إِلَّا عِبْرَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِكِتَابِهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فَيَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ التَّقْلِيدِ حَالُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ كِتَابِ رَبِّهِمْ ; بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ قَدِ انْقَرَضُوا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلِفَهُمُ الزَّمَانُ لِمَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ الَّتِي لَا تَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِمْ، كَمَعْرِفَةِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْفُنُونِ الصِّنَاعِيَّةِ وَالْإِحَاطَةِ بِخِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْقَرْنَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَ أَحَدًا ; أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ كَانَ الْعَامِّيُّ مِنْهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِينِهِ يَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ مَسَائِلِهِ ; إِذْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُلَقِّنُونَ النَّاسَ الدِّينَ بِبَيَانِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ اللهِ فِيهِ فَيُجَابُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ كَذَا أَوْ جَرَتْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ عَلَى كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَسْئُولِ فِيهِ هَدْيٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ذَكَرَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ وَمَا يَرَاهُ أَشْبَهَ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْهَدْيِ أَوْ أَحَالَ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَمَّا تَصَدَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا - وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ - كَانُوا يَذْكُرُونَ الْحُكْمَ بِدَلِيلِهِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلَهُ وَيَقْتَنِعْ بِهِ. ثُمَّ جَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى مَنْ جَعَلَ قَوْلَ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. ثُمَّ خَلَفَ خَلْفٌ أَعْرَقُ مِنْهُمْ فِي التَّقْلِيدِ فَمَنَعُوا كُلَّ النَّاسِ أَخْذَ أَيِّ حُكْمٍ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَعَدُّوا مَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَهُمَا وَالْعَمَلَ بِهِمَا زَائِغًا. وَهَذَا غَايَةُ الْخِذْلَانِ وَعَدَاوَةِ الدِّينِ، وَقَدْ تَبِعَهُمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَكَانُوا لَهُمْ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَسَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: إِنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْأَخْذِ بِقَوْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِمْ، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ أَقْوَالِهِمْ لِكِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ إِذَا

ظَهَرَتْ مُخَالِفَةً لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا اهـ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي (الْمَنَارِ) إِيرَادُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ مَعْزُوَّةً إِلَى كُتُبِهَا وَرُوَاتِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِنَا مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُكْثِرُ الْخِلَافَ لِأَبِي حَنِيفَةَ! فَقَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ أُوتِيَ مَا لَمْ نُؤْتَ فَأَدْرَكَ فَهْمُهُ مَا لَمْ نُدْرِكْهُ، وَنَحْنُ لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْفَهْمِ إِلَّا مَا أُوتِينَا، وَلَا يَسَعُنَا أَنْ نُفْتِيَ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْ أَيْنَ قَالَ. وَرُوِيَ عَنْ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي مَأْتَمٍ فَاجْتَمَعْ فِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَأَبُو يُوسُفَ وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ وَآخَرُ، فَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِنَا مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَفِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا قَلْتَ قَوْلًا وَكِتَابُ اللهِ يُخَالِفُهُ؟ قَالَ: اتْرُكُوا قَوْلِي لِكِتَابِ اللهِ. فَقِيلَ: إِذَا كَانَ خَبَرُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَالِفُهُ؟ فَقَالَ: اتْرُكُوا قَوْلِي لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقِيلَ: إِذَا كَانَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُهُ؟ قَالَ: اتْرُكُوا قَوْلِي لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ جَاءَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ قَوْلُ أَصْحَابِهِمْ فَإِنْ وَافَقَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَذَاكَ وَإِلَّا وَجَبَ تَأْوِيلُهَا، وَجَرَى الْعَمَلُ عَلَى هَذَا، فَهَلِ الْعَامِلُ بِهِ مُقَلِّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمْ لِلْكَرْخِيِّ؟ وَرَوَى حَافِظُ الْمَغْرِبِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ، ثُمَّ حَذَا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى هَذَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ حَذْوَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَهَلْ هُمْ عَلَى مَذْهَبِهِ وَطَرِيقَتِهِ الْقَوِيمَةِ؟ وَأَمَّا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فَالنُّصُوصُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ، وَأَتْبَاعُهُمَا أَشَدُّ عِنَايَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا سِيَّمَا الْحَنَابِلَةَ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي ((الْمُحَاوَرَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ)) مِنَ ((الْمُحَاوَرَاتِ بَيْنَ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ)) وَطَائِفَةً أُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَتْبَاعِهِ فِي ((الْمُحَاوَرَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ)) وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنْ نَهْيِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَنِ التَّقْلِيدِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ جَاهِلَةٌ لَا تَعْرِفُ مِنَ الدِّينِ

شَيْئًا لَا مِنْ أُصُولِهِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا إِلَى إِلْزَامِهِمْ مَعْرِفَةَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ مِنْ دَلَائِلِهَا وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا، فَلَا مَنْدُوحَةَ إِذَنْ عَنِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ - وَهِيَ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي اللهِ وَصِفَاتِهِ وَفِي الرِّسَالَةِ وَالرُّسُلِ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا فَصَّلَهُ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ مِنْهُ - وَالتَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأُولَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمَا قَالَهُ إِلَّا الَّذِينَ يُحِبُّونَ إِرْضَاءَ النَّاسِ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ، وَإِهْمَالِ مَا وَهَبَهُمْ مِنَ الْعَقْلِ لِيَنْطَبِقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) وَالْمُرَادُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ أَيْ عُقُولَهُمْ لَا تَفْقَهُ الدَّلَائِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَعْيُنُهُمْ لَا تَنْظُرُ الْآيَاتِ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ، وَأَسْمَاعُهُمْ لَا تَفْهَمُ النُّصُوصَ فَهْمَ تَدَبُّرٍ وَاعْتِبَارٍ، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُقَلِّدِينَ. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْلِيفُ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَوَانِينِ الْمَنْطِقِ، وَلَا الْتِزَامُ طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى فَرْضِ انْتِفَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا إِيرَادُ الشُّكُوكِ وَالْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، بَلْ أَفْضَلُ الطُّرُقِ فِيهِ وَأَمْثَلُهَا طَرِيقُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فِي عَرْضِ الْكَائِنَاتِ عَلَى الْأَنْظَارِ وَإِرْشَادِهَا إِلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ فِيهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِهَا وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. هَذَا هُوَ حُكْمُ اللهِ الصَّرِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) (47: 19) وَقَالَ: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (53: 28) وَطَالَبَ بِالْبُرْهَانِ وَجَعَلَهُ آيَةَ الصِّدْقِ (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (27: 64) وَجَعَلَ سَبِيلَهُ الَّذِي أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنْ سِوَاهُ الدَّعْوَةَ إِلَى الدِّينِ عَلَى بَصِيرَةٍ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (6: 153) . وَأَمَّا فَرْضُ الْأُمَّةِ جَاهِلَةً وَإِقْرَارُهَا عَلَى ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِاسْمِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُقَلِّدُ بِهِ الْجَاهِلُونَ أَمْثَالَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا سُلْطَانٍ، وَقَدْ قَرَنَهُ تَعَالَى مَعَ الشِّرْكِ فِي التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 33) . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ وَمَسَائِلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَمِنْهَا مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا التَّقْلِيدُ فِيهِ وَهِيَ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ كَيْفِيَّاتِهَا وَفُرُوضِهَا فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا وَأَعْمَالَهَا مُتَوَاتِرَةٌ. وَتَلْقِينَهَا مَعَ مَا وَرَدَ فِي فَوَائِدِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْهَدْيِ النَّبَوِيِّ يَجْعَلُ الْمُسْلِمَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهَا وَفِقْهٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا أَسْهَلَ مِنْهُ. وَمِنْهَا فُرُوعٌ دَقِيقَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ أَحَادِيثَ غَيْرِ مُتَوَاتِرَةٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ،

وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي مِثْلِهَا بِأَنَّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ مِنْهَا بِطَرِيقٍ يَعْتَقِدُ بِهِ ثُبُوتَهُ عَمِلَ بِهِ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ مُنْقَطِعًا لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ جَمِيعِ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْآحَادِ وَيَعْمَلَ بِهَا، كَيْفَ وَالصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ لَمْ يَكْتُبُوا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَتَصَدَّوْا لِجَمْعِهِ وَتَلْقِينِهِ لِلنَّاسِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ كِتَابَتِهِ، وَمَنْ حَدَّثَ فَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ مَا يَعْلَمُ إِذَا عَرَضَ لَهُ سَبَبٌ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ، فَمِثْلُ هَذِهِ الْفُرُوعِ يُعْذَرُ الْعَامِّيُّ بِجَهْلِهَا بِالْأَوْلَى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي قَبُولِ مَا يَبْلُغُهُ مِنْهَا، فَلَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمُ بِكُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ لِكَثْرَةِ الْمَوْضُوعَاتِ وَالضِّعَافِ فِيهَا، وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَّا إِذَا كَانُوا يُرِيدُونَ تَرْكَ دِينِهِمْ بِرُمَّتِهِ اكْتِفَاءً بِبَعْضِ الْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تَمْيِيزُ السُّنَّةِ فِيهَا مِنَ الْبِدْعَةِ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ. فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنْ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي التَّقْلِيدِ الْمَحْضِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُمُ اتَّخَذُوا مُقَلِّدِيهِمْ أَنْدَادًا وَسَيَتَبَرَّأُ الْمَتْبُوعُ مِنَ التَّابِعِ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، وَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ) هُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ ; أَيْ: كَذَلِكَ النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ إِرَاءَتِهِمُ الْعَذَابَ سَيُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ تَنَطَّعُوا فِي إِعْرَابِهَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفَتْهُمْ قَوَاعِدُ النَّحْوِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا، عَلَى أَنَّ لَهُ نَظَائِرَ فِي كَلَامِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ هِيَ مِمَّا بَقِيَ لَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ لَمْ تُفْسِدْهَا الْعُجْمَةُ ; إِذْ لَا تَمَجُّهَا أَذْوَاقُ الْأَعْجَمِينَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ فِيهِ الْبَاءُ لِمَعْنًى خَاصٍّ لَا يَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرُوهُ هُنَا مِنْ مَعَانِيهَا، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ هُنَا كَمَا قَالَ (الْجَلَالُ) : تَقَطَّعَتْ عَنْهُمُ الْأَسْبَابُ لَا تَرَى فِي نَفْسِكَ الْأَثَرَ الَّذِي تَرَاهُ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْعِبَارَةِ الْأُولَى الَّتِي تُمَثِّلُ لَكَ التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ كَعِقْدٍ انْفَرَطَ بِانْقِطَاعِ سِلْكِهِ فَذَهَبَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ فِي نَاحِيَةٍ. أَقُولُ: وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ قَدْ كَانُوا مُرْتَبِطِينَ فِي الدُّنْيَا وَمُتَّصِلًا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ يَسْتَمِدُّهَا كُلٌّ مِنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ مِنَ الْآخَرِ، فَشُبِّهَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ الَّتِي حَمَلَتِ الرُّؤَسَاءَ عَلَى قَوْدِ الْمَرْءُوسِينَ، وَالتَّابِعِينَ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَتْبُوعِينَ بِالْأَسْبَابِ: وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْحِبَالُ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَرْبُوطًا مَعَ الْآخَرِينَ بِحِبَالٍ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَقَدْ تَقَطَّعَتْ هَذِهِ الْحِبَالُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْبُوذًا

168

فِي نَاحِيَةٍ لَا يَصِلُهُ بِالْآخَرِ شَيْءٌ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنَ الْفَاعِلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْخَاصَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) وَ (سُبْحَانَ اللهِ) فَإِذَا فَسَّرْتَ ذَلِكَ بِالتَّحْلِيلِ وَالْإِرْجَاعِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فَقُلْتَ فِي الْأَوَّلِ: كَفَى اللهُ شَهِيدًا أَوْ كَفَتْ شَهَادَتُهُ، وَفِي الثَّانِي: تَسْبِيحًا لِلَّهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرُ الْأَوَّلِ وَمَوْقِعُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْخَاصَّةِ تُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ. (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) ذَكَرَ (الْجَلَالُ) أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِيمَنْ حَرَّمَ السَّوَائِبَ وَنَحْوَهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي طَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ كَمُدْلِجٍ وَبَنِي صَعْصَعَةَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ لَمَا كَانَ مُقْتَضِيًا فَصْلَ الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهَا وَجَعْلَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ أَتَمَّ الِاتِّصَالِ. فَإِنَّ الْآيَاتِ الْأُولَى بَيَّنَتْ حَالَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ وَمَا سَيُلَاقُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَنْدَادَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُتَّخَذُ شَارِعًا يُؤْخَذُ بِرَأْيِهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغًا عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يُجْعَلُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ حُجَّةً بِذَاتِهِ لَا يُسْأَلُ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَهَلْ هُوَ فِيهِ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ أَمْ لَا، وَقِسْمٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُدْعَى فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ مِنْ طَرِيقِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَعْتَمِدُونَ عَلَى إِغَاثَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادِ لِلنَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ، وَأَنْ سَيَتَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بَيْنَهُمْ، وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الْمَنَافِعُ الَّتِي يَجْنِيهَا الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي تَصِلُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ مُحَرَّمَةٌ ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَكْلِ الْخَبَائِثِ وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَهَى

عَنْهَا، وَبَيَّنَ سَبَبَ جُمُودِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ وَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هُدًى. فَالْكَلَامُ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ قَطْعًا. قَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) الْحَلَالُ: هُوَ غَيْرُ الْحَرَامِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (6: 145) فَمَا عَدَا هَذَا فَكُلُّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا ; أَيْ غَيْرَ خَبِيثٍ. وَفَسَّرَ (الْجَلَالُ) الطَّيِّبَ بِالْحَلَالِ - عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ - أَوْ بِالْمُسْتَلَذِّ، وَالْأَوَّلُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَالتَّأْسِيسُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَالثَّانِي لَا يُظْهِرُ تَقْيِيدَ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي الْأَرْضِ بِهِ، وَرَجَّحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الطَّيِّبَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِحَصْرِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا ذُكِرَ الْمُحَرَّمُ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِعَارِضٍ فَتَعَيَّنَ بَيَانُهُ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُؤْخَذُ بِغَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ، كَمَا يَكُونُ فِي أَكْلِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ بِلَا مُقَابِلٍ إِلَّا أَنَّهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُسَيْطِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ أَكْلِ الْمَرْءُوسِينَ بِجَاهِ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ لِيَسْتَمِدَّ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى فِيهَا جَمِيعُ النَّاسِ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ الرِّبَا وَالرَّشْوَةُ وَالسُّحْتُ وَالْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالسَّرِقَةُ فَكُلُ ذَلِكَ خَبِيثٌ، وَكَذَا مَا عَرَضَ لَهُ الْخُبْثُ بِتَغَيُّرِهِ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَتَحَرَّرُ مَا أَبَاحَهُ الدِّينُ وَتَلْتَئِمُ الْآيَةُ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَأَتْبَعَ الْأَمْرَ النَّهْيَ فَقَالَ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) قَرَأَ الْأَئِمَّةُ (خُطُوَاتِ) بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ - وَبِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ خَطَا يَخْطُو فِي مَشْيِهِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا سِيرَتَهُ فِي الْإِغْوَاءِ، وَوَسْوَسَتَهُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِكَوْنِهِ عَدُوًّا لِلنَّاسِ بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ. وَالْعِلْمُ بِعَدَاوَتِهِ لَنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّيْطَانُ بِهَذَا الْأَثَرِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ وَحْيُ الشَّرِّ وَخَوَاطِرُ الْبَاطِلِ وَالسُّوءِ فِي النَّفْسِ، فَهُوَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَحْيِ وَالْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ، قَالَ تَعَالَى: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (6: 112) وَلَا أَبْيَنَ وَأَظْهَرَ مِنْ عَدَاوَةِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ وَالضَّلَالِ، فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى خَوَاطِرِهِ وَيَضَعَ لَهَا مِيزَانًا، فَإِذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ عَرَضَ لَهُ سَبَبُ مُعَاوَنَةِ عَامِلٍ عَلَى خَيْرٍ، أَوْ صَدَقَةٍ عَلَى بَائِسٍ فَقِيرٍ، فَعَارَضَهُ خَاطِرُ التَّوْفِيرِ وَالِاقْتِصَادِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَنْخَدِعْ لِمَا يُسَوِّلُهُ لَهُ مِنْ إِرْجَاءِ هَذَا الْعَطَاءِ لِأَجْلِ وَضْعِهِ فِي مَوْضِعٍ أَنْفَعَ، أَوْ بَذْلِهِ لِفَقِيرٍ أَحْوَجَ، وَإِذَا هَمَّ بِدِفَاعٍ عَنْ حَقٍّ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَخَطَرَ لَهُ مَا يُثَبِّطُ عَزْمَهُ أَوْ يُمْسِكُ لِسَانَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ. وَأَظْهَرُ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ مَا يُجَرِّئُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَلْبَسُ عَلَى الْمُتَجَرِّئِ عَلَيْهَا بِالْمَصْلَحَةِ وَسِيَاسَةِ النَّاسِ،

169

كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا وَحْيَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَخَوَاطِرَهَمَا تُلِمُّ بِكُمْ وَتَطُوفُ بِنُفُوسِكُمْ، فَإِنَّهُمَا مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ الْعَدَاوَةِ مِنْ تَعْلِيلِ النَّهْيِ فَقَالَ: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ) دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَأَمَّا السُّوءُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَسُوءُكَ وُقُوعُهُ أَوْ عَاقِبَتُهُ، فَمِنَ الشُّرُورِ مَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ مُنْدَفِعًا بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ الشَّرَّ فَاجَأَهُ السُّوءُ وَعَاجَلَهُ الضَّرَرُ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَظْهَرُ السُّوءُ فِي بِدَايَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَّصِلُ بِنِهَايَتِهِ، كَمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ أَضَاعَ وَقْتَهُ وَبَذَلَ كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنَ التَّعْلِيمِ شَيْئًا، فَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ يَصْرِفُ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبَعْضَ الْآبَاءِ عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمْ، فَتَكُونُ عَاقِبَتُهُمُ السَّوْءَى ذَاتِ نَاحِيَتَيْنِ: سَلْبِيَّةٌ وَهِيَ الْحِرْمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ، وَإِيجَابِيَّةٌ وَهِيَ مَصَائِبُ الْجَهْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي تَمْيِيزِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْهَا رُبَّمَا لَا تَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ فَكُلُّ مَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَحْوِ الزِّنَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَحْشَاءُ فِي الْغَالِبِ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ مِنَ السُّوءِ، وَأَسْوَأُ السُّوءِ - مَبْدَأً وَعَاقِبَةً - تَرْكُ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَضَتْ حِكْمَةُ الْبَارِي بِرَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِهَا اعْتِمَادًا عَلَى أَشْخَاصٍ مِنَ الْمَوْتَى أَوِ الْأَحْيَاءِ يَظُنُّ بَلْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَكْوَانِ بِدُونِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ اتِّخَاذُ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فِعْلِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَبْلِيغًا لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ السُّوءِ إِهْمَالًا لِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَكُفْرًا بِالْمُنْعِمِ بِهَا، وَإِعْرَاضًا عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَجَهْلًا بِاطِّرَادِهَا، وَصَاحِبُهُ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنَ السَّرَابِ الْمَاءَ، أَوْ يَنْعَقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ غَيْرَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ، وَهَذَا شَأْنُ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (13: 33) وَأَمَّا الرُّؤَسَاءُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَامَّةَ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى اتِّبَاعَهُمْ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أَيْ: وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ فِي دِينِهِ الَّذِي دَانَ بِهِ عِبَادَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ عَقَائِدَ وَأَوْرَادَ وَأَعْمَالٍ تَعَبُّدِيَّةٍ وَشَعَائِرَ دِينِيَّةٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَتَحْرِيمِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ قِيَاسٍ وَاسْتِحْسَانٍ ; لِأَنَّهُمَا ظَنٌّ لَا عِلْمٌ، فَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ شِرْكٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي إِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَتَحْرِيفِ الشَّرَائِعِ، وَاسْتِبْدَالِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ زَعْمُ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ أَنَّ لِلَّهِ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ لَا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا بِدُونِ وَسَاطَتِهِمْ، فَحَوَّلُوا بِذَلِكَ قُلُوبَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَعَنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَوَجَّهُوهَا إِلَى قُبُورٍ لَا تُعَدُ وَلَا تُحْصَى، وَإِلَى عَبِيدٍ ضُعَفَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا،

170

وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا؟ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا تَوَسُّلًا إِلَيْهِ ; أَيْ: يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالشِّرْكِ بِهِ، وَدُعَاءِ غَيْرِهِ مِنْ دُونِهِ أَوْ مَعَهُ. وَهُوَ يَقُولُ: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) وَيَقُولُ: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) (6: 41) أَيْ: دُونَ غَيْرِهِ. أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْحِيَلِ لِهَدْمِ رُكْنِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا زَادُوهُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَمَّا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَنِ اللهِ تَعَالَى: ((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: كُلُّ مَنْ يَزِيدُ فِي الدِّينِ عَقِيدَةً أَوْ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كِتَابِ اللهِ أَوْ كَلَامِ الْمَعْصُومِ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. وَمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالزَّائِرَاتِ لِلْقُبُورِ وَمَا يَأْتِينَهُ هُنَاكَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَبِتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ بِقِرَاءَةِ الْبُرْدَةِ وَنَحْوِهَا بِالنَّغْمَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَبِحَمْلِ الْمَبَاخِرِ الْفِضِّيَّةِ وَالْأَعْلَامِ أَمَامَهَا، وَبِالِاجْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الدَّلَائِلِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَوْرَادِ بِالصِّيَاحِ الْخَاصِّ، وَقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذَا جَاءَ مِنِ اسْتِحْسَانِ مَا عِنْدَ الطَّوَائِفِ الْأُخَرِ. وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ صَيْحَةٌ غَيْرُ صَيْحَةِ الْأَذَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) (17: 110) وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَلَمْ يُشْرَعْ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحُ الشَّدِيدَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَجِيجُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِ أَصْوَاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا عَقِيرَتَهُمْ جَهْدَ الْمُسْتَطَاعِ كَمَا يَفْعَلُ مُقَلِّدَةُ التَّصَوُّفِ. قَالَ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَسَاهُلِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهَا تُقَوِّي أَصْلَ الْعَقِيدَةِ وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لِسُلْطَانِ الدِّينِ، أَوْ لِسُلْطَانِهِمُ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الدِّينِ. وَلَقَدْ دَخَلْتُ كَنِيسَةَ (بَيْتِ لَحْمٍ) فَسَمِعْتُ هُنَاكَ أَصْوَاتًا خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهَا أَصْوَاتُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ يَقْرَءُونَ حِزْبَ الْبِرِّ مَثَلًا ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ قِسِّيسُونَ، فَهَذِهِ الْبِدَعُ قَدْ سَرَتْ إِلَيْنَا مِنْهُمْ كَمَا سَرَتْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ ; اسْتِحْسَانًا مِنْهُمْ مَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ أُولَئِكَ تَوَهُّمًا أَنَّهُ يُفِيدُ الدِّينَ أُبَّهَةً وَفَخَامَةً وَيَزِيدُ النَّاسَ بِهِ اسْتِمْسَاكًا، فَكَانَ أَنْ تَرَكَ النَّاسُ مُهِمَّاتِ الدِّينِ اكْتِفَاءً بِهَذِهِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الصَّائِحِينَ فِي الْأَضْرِحَةِ وَقِبَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَفِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ عَسَاهُ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَحْرِصُ عَلَى الْجَمَاعَةِ بَعْضَ حِرْصِهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِلصِّيَاحِ بِقِرَاءَةِ الْحِزْبِ فِي لَيْلَةِ الْوَلِيِّ فُلَانٍ، وَلَقَدْ أَنِسَ النَّاسُ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَاسْتَوْحَشُوا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَالسُّنَنِ حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أَيْ: وَإِذَا قِيلَ لِمُتَّبِعِي خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا بُرْهَانٍ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا

مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، قَالُوا: لَا، نَحْنُ لَا نَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللهُ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا ; أَيْ: وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَهُوَ مَا تَقَلَّدْنَاهُ مِنْ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا، وَشُيُوخِ عُلَمَائِنَا. لَمْ يُخَاطِبْ هَؤُلَاءِ بِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَتَشْنِيعِهِ خِطَابًا لَهُمْ بَلْ حَكَى عَنْهُمْ حِكَايَةً بَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ فِيهَا، كَأَنَّهُ أَنْزَلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ وَلَا يَعْقِلُ الْحُجَجَ وَالدَّلَائِلَ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ الْآتِي. وَلَوْ كَانَ لِلْمُقَلِّدِينَ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا لَكَانَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ كَافِيَةً بِأُسْلُوبِهَا لِتَنْفِيرِهِمْ مِنَ التَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَجِيلٍ يَرْغَبُونَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ اسْتِئْنَاسًا بِمَا أَلِفُوهُ مِمَّا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا شَنَاعَةً ; إِذِ الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ عَلَى مَا أَنْزَلُ اللهُ تَقْلِيدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ كَبُرَ عَقْلُهُ وَحَسُنَ سَيْرُهُ ; إِذْ مَا مِنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فِي فِكْرِهِ، وَمَا مِنْ مُهْتَدٍ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَضِلَّ فِي بَعْضِ سَيْرِهِ، فَلَا ثِقَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ، فَكَيْفَ يَرْغَبُ الْعَاقِلُ عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ مَعَ دَعْوَاهُ الْإِيمَانَ بِالتَّنْزِيلِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِالْوَحْيِ لَوَجَبَ أَنْ يُنَفِّرَهُ عَنِ التَّقْلِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) ؟ ! فَإِنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تُنْقَضُ. أَقُولُ: الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، " وَلَوْ " لِلْغَايَةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ وَجَزَاءٍ. وَالتَّقْدِيرُ أَيَتَّبِعُونَ مَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ إِذْ لَا يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الْعَقْلِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ حَقٌّ، وَلَا يَهْتَدُونَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَعْمَالِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ أَيْ حَتَّى فِي تَجَرُّدِهِمْ مِنْ دَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، هَذَا مَا أَفْهَمُهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ جَهَلَةً لَا يُفَكِّرُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ لَاتَّبَعُوهُمْ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّظَرِ أَوِ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْغَيْرِ فِي الدِّينِ إِذَا عَلِمَ بِدَلِيلٍ مَا أَنَّهُ مُحِقٌّ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ بَلِ اتِّبَاعٍ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ اهـ. وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْأُلُوسِيُّ بِغَيْرِ عَزْوٍ وَوَصَلَهُ بِآيَةِ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (16: 43) وَفِيهِ: أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي التَّقْلِيدِ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَبَيْنَ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَأَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ - فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحِقًّا - وَبَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُحِقٌّ إِلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى دَلِيلِهِ وَفَهْمِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) فِي طَلَبِ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرٍ قَطْعِيٍّ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ كَوْنُ الرُّسُلِ رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا عَنْ رَأْيٍ اجْتِهَادِيٍّ. وَقَالَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَتَعَقَّبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ:

عَقْلُ الشَّيْءِ: مَعْرِفَتُهُ بِدَلَائِلِهِ وَفَهْمُهُ بِأَسْبَابِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْبَاحِثُونَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ الْبَاحِثَ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا أَخْطَأَ يَوْمًا فِي طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ فِي مَوْضُوعِ الْبَحْثِ فَقَدْ يُصِيبُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، لِأَنَّ عَقْلَهُ يَتَعَوَّدُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ، وَاسْتِفَادَةَ الْمَطَالِبِ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَبْحَثُونَ وَلَا يَسْتَدِلُّونَ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَسَجَّلُوا عَلَى عُقُولِهِمُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْفَهْمِ، فَهُمْ لَا يُوصَفُونَ بِإِصَابَةٍ ; لِأَنَّ الْمُصِيبَ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَالْمُقَلِّدُ إِنَّمَا يَعْرِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقُولُ إِنْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ عَارِفٌ بِالْقَوْلِ فَقَطْ ; وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَمَا سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةَ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَمْنَعُ اتِّبَاعَ غَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى حُسْنِ الْعَمَلِ وَالصَّوَابِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِ الْعَاقِلِ الْمُهْتَدِي. (نَقُولُ) : وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ الْمُقَلِّدُ أَنَّ مَتْبُوعَهُ يَعْقِلُ وَيَهْتَدِي إِذَا هُوَ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ؟ فَإِنْ هُوَ اتَّبَعَهُ فِي طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَنْعِي عَلَيْهِ هَذَا، إِذْ هُوَ اسْتِفَادَةٌ لِلْعِلْمِ مَحْمُودَةٌ لَا تَقْلِيدَ فِي الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَظْنُونِ لِغَيْرِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَسَمِعَ قَوْلَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي نُبُوَّتِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا بِالدَّلِيلِ لَعُدَّ مُقَلِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ (وَأَقُولُ) إِنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّظَرُ الِاسْتِدْلَالِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ ; بَلْ يَكْفِي فِيهَا اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لِصِدْقِهِ بِمَعْرِفَةِ حَالِهِ وَحُسْنِ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَرْتَبَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَإِثْبَاتِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَذَا وَإِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) بَحْثًا، فَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْعُمُومُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ، بَلْ يَكْتَفُونَ فِيهِ كُلِّهِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا بَحْثٍ وَهُوَ مَا مَرَّ. (وَثَانِيهَا) : أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُلَغَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ الْغَالِبِ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا. يَقُولُونَ فِي الضَّالِّ فِي عَامَّةِ شُئُونِهِ: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ. وَيَقُولُونَ فِي الْبَلِيدِ إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَعْقِلَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ وَيَفْهَمَ الثَّانِي بَعْضَ الْمَسَائِلِ. (وَثَالِثُهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْعِبَارَةِ نَفْيَ الْعَقْلِ عَنْ آبَائِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا: أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ

171

إِنَّ اتِّبَاعَ الشَّخْصِ لِذَاتِهِ مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي، وَهَذَا قَوْلٌ مَأْلُوفٌ، فَمَنْ يَقُولُ: أَنَا أَتَّبِعُ فُلَانًا فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُ، يُقَالُ لَهُ: أَتَتَّبِعُهُ وَلَوْ كَانَ لَا يَعْمَلُ خَيْرًا؟ أَيْ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَّبِعُ آخَرَ لِذَاتِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُحَسِنًا وَمُصِيبًا أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّ عَمَلِهِ بَاطِلًا ; لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا مَنْ يَنْظُرُ وَيُمَيِّزُ، وَهَذَا لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُ. (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنِ اتِّبَاعِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ شَأْنِهِمْ، وَالزِّرَايَةِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ: صِفَتُهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ لِآبَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) أَيْ: كَصِفَةِ الرَّاعِي لِلْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ يَنْعِقُ وَيَصِيحُ بِهَا فِي سَوْقِهَا إِلَى الْمَرْعَى وَدَعْوَتِهَا إِلَى الْمَاءِ وَزَجْرِهَا عَنِ الْحِمَى فَتُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَتَنْزَجِرُ بِزَجْرِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ نُعَاقِهِ بِالتَّكْرَارِ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي يَدْعُوهَا فَتُقْبِلُ، وَيَزْجُرُهَا فَتَنْزَجِرُ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مِمَّا يَقُولُ شَيْئًا وَلَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ أَصْوَاتًا تُقْبِلُ لِبَعْضِهَا وَتُدْبِرُ لِلْآخَرِ بِالتَّعْوِيدِ، وَلَا تَعْقِلُ سَبَبًا لِلْإِقْبَالِ وَلَا لِلْإِدْبَارِ، وَمَعْنَى الْمَثَلِ هُنَا - كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ - أَنَّ صِفَةَ الْكُفَّارِ وَشَأْنَهُمْ كَشَأْنِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ كَمُقَابِلِهِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بَعْدَ سِيبَوَيْهِ بِالتَّمْثِيلِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشْبِيهِ مُتَعَدِّدٍ بِمُتَعَدِّدٍ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ الْحَقِّ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الضَّالَّ مَنْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ مَعَ طَلَبِهِ أَوْ جَهْلِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَرَى الْحَقَّ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَيَصْرِفُ نَفْسَهُ عَنْ دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا، فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ يَرْضَى بِأَلَّا يَكُونَ لَهُ فَهْمٌ وَلَا عِلْمٌ، بَلْ يَقُودُهُ غَيْرُهُ وَيَصْرِفُهُ كَيْفَ شَاءَ، فَهُوَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي تُقْبِلُ بِدُعَائِهِ وَتَنْزَجِرُ بِنِدَائِهِ، مُسَخَّرَةً لِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ، وَلَا تَفْهَمُ لِمَاذَا دَعَا وَلِمَاذَا زَجَرَ؟ فَدَعْوَتُهَا إِلَى الرَّعْيِ وَإِلَى الذَّبْحِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ اعْتِقَادًا بِلَا دَلِيلٍ، وَيَقْبَلُ تَكْلِيفًا بِغَيْرِ فِقْهٍ وَلَا تَعْلِيلٍ.

وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ التَّقْلِيدَ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هِدَايَةٍ هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا عَقَلَ دِينَهُ وَعَرِفَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتَنَعَ بِهِ. فَمَنْ رُبِّيَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَالْعَمَلِ - وَلَوْ صَالِحًا - بِغَيْرِ فِقْهٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يُذَلَّلَ الْإِنْسَانُ لِلْخَيْرِ كَمَا يُذَلَّلُ الْحَيَوَانُ، بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يَرْتَقِيَ عَقْلُهُ وَتَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالْعِلْمِ بِاللهِ وَالْعِرْفَانِ فِي دِينِهِ، فَيَعْمَلُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ يَفْقَهُ أَنَّهُ الْخَيْرُ النَّافِعُ الْمُرْضِيُّ لِلَّهِ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ ; لِأَنَّهُ يَفْهَمُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَدَرَجَةَ مَضَرَّتِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَقْلٍ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمَثَلِ بِأَنَّهُمْ (صُمٌّ) لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ (بُكْمٌ) لَا يَنْطِقُونَ بِهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَعِلْمٍ (عُمْيٌ) لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) مَبْدَأَ مَا هُمْ فِيهِ وَلَا غَايَتَهُ كَمَا يُطْلَبُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَنْقَادُونَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْحَيَوَانِ، وَلِذَلِكَ اتَّبَعُوا مَنْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، فَالْعَاقِلُ لَا يُقَلِّدُ عَاقِلًا مِثْلَهُ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُقَلِّدَ جَاهِلًا ضَالًّا هُوَ دُونَهُ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِهِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ حُبُّ الْحُطَامِ، وَارْتِبَاطُ مَصَالِحِ الْمَرْءُوسِينَ بِمَصَالِحِ الرُّؤَسَاءِ فِي الرِّزْقِ وَالْجَاهِ، وَخَاطَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ إِذْ أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ خَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا، وَبَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْكَافِرِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُودُهُمُ الرُّؤَسَاءُ كَمَا يَقُودُ الرَّاعِي الْغَنَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي عَقْلٍ وَلَا فَهْمٍ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ، وَأَجْدَرُ بِالْعِلْمِ وَأَحْرَى بِالِاهْتِدَاءِ فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) الْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ مَا طَابَ كَسْبُهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْهَا وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا تَدَيُّنًا لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْحَمْقَى الَّذِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ

172

فَطَفِقُوا يُحِلُّونَ بَعْضَهَا وَيُحَرِّمُونَ بَعْضًا بِوَسَاوِسِ شَيَاطِينِهِمْ وَتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمْ، وَأُعْطُوا مِيزَانًا يُمَيِّزُونَ بِهِ الْخَوَاطِرَ الشَّيْطَانِيَّةَ الضَّارَّةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَمَا أَقَامُوا بِهِ وَلَا لَهُ وَزْنًا، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَرَامَ مِنَ الْحَلَالِ لَكِنَّهُمْ نَفَضُوا أَيْدِيهِمْ مِنْ عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ ذُلَّ الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، فَهُوَ يَقُولُ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِثْلَهُمْ (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الَّذِي خَلَقَهَا لَكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَسْبَابَهَا بِأَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ فِي طَلَبِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَاسْتِخْرَاجِهَا، وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَيْسَ لِمَنِ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُؤْمِنُونَ بِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَاشْكُرُوا لَهُ خَلْقَ هَذِهِ النِّعَمِ وَإِبَاحَتَهَا لَكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا تَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الرِّزْقَ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِلَّا كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ بِهِ كَافِرِينَ لِنِعَمِهِ، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ جَهِلُوا مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَرُؤَسَاءَ يَشْرَعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ. وَمِنَ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى اسْتِعْمَالُ الْقُوَى الَّتِي غُذِّيَتْ بِتِلْكَ الطَّيِّبَاتِ فِي نَفْعِ أَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ وَجِنْسِكُمْ. وَلَيْسَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا يَأْخُذُهُ شُيُوخُ الطَّرِيقِ مِنْ مُرِيدِيهِمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَالسُّحْتِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ فَهْمِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِتَارِيخِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا فِرَقًا وَأَصْنَافًا، مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةً بِأَجْنَاسِهَا أَوْ أَصْنَافًا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَكَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ الْمَذْهَبُ الشَّائِعُ فِي النَّصَارَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ النَّفْسِ وَاحْتِقَارُهَا وَحِرْمَانُهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ، وَاحْتِقَارُ الْجَسَدِ وَلَوَازِمِهِ، وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَّا إِلَّا إِحْيَاءَ الرُّوحِ، وَكَانَ الْحِرْمَانُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ، مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْقِدِّيسِينَ، أَوْ بِالرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَامُّ كَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْكَثِيرَةِ كَصَوْمِ الْعَذْرَاءِ وَصَوْمِ الْقِدِّيسِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ دُونَ السَّمَكِ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ وَالْبَيْضَ أَيْضًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ قَدْ وَضَعَهَا الرُّؤَسَاءُ وَلَيْسَ لَهَا أَثَرٌ يُنْقَلُ عَنِ التَّوْرَاةِ أَوْ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَنْدَادًا، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَقَدْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ مَحْصُورٌ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَتَرْكِ

173

حُظُوظِ الْجَسَدِ، إِذْ رَأَوْا فِي دِينِهِمْ وَفِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ وَحَوَارِيِّيهِ مِنْ طَلَبِ الْمُبَالَغَةَ فِي الزُّهْدِ مَا يُؤَيِّدُهَا. وَقَدْ تَفَضَّلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجَعْلِهَا أُمَّةً وَسَطًا تُعْطِي الْجَسَدَ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فَأَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ لِتَتَّسِعَ دَائِرَةُ نِعَمِهِ الْجَسَدِيَّةِ عَلَيْنَا، وَأَمَرَنَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِيَكُونَ لَنَا مِنْهَا فَوَائِدُ رُوحَانِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَلَمْ نَكُنْ جُثْمَانِيِّينَ مَحْضًا كَالْأَنْعَامِ، وَلَا رُوحَانِيِّينَ خُلَّصًا كَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَنَا أَنَاسِيَ كَمَلَةً بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ. ظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَلَهُ وَجْهٌ فِيمَا قَالَ -: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِلدَّاعِي، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ وَالِاسْتِطْرَادِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءُ قِسْمٍ جَدِيدٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ سَرْدُ الْأَحْكَامِ ; فَإِنَّهُ يَذْكُرُ بَعْدَهَا أَحْكَامَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَأَحْكَامَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْقِسْمُ بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (2: 243) الْآيَةَ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ وَآخَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّنَاسُبِ مِثْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَأُخْرَى فِي الْقِسْمِ الْوَاحِدِ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (11: 1) . بَعْدَ ذِكْرَ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) هَذَا حَصْرٌ لِمُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مِنَ الْحَيَوَانِ بِصِيغَةِ ((إِنَّمَا)) الدَّالَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ الْإِعْلَامُ بِهِ وَهُوَ آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ لِمَا فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنِ اسْتِقْذَارِهَا، وَلِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهَا، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ بِمَرَضٍ سَابِقٍ أَوْ بِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مُعْدِيًا وَالْمَوْتُ الْفُجَائِيُّ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ فِي الْجِسْمِ كَالْكَرْبُونِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الِاخْتِنَاقِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَيُزَادُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِمَاتَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ سَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَخْنُوقَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا ; وَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ كُلُّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِغَيْرِ قَصْدِ الزَّكَاةِ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ - إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ. (وَالدَّمَ) أَيِ: الْمَسْفُوحَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ قَذِرٌ لَا طَيِّبٌ، وَضَارٌّ كَالْمَيْتَةِ (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) فَإِنَّهُ قَذِرٌ ; لِأَنَّ أَشْهَى غِذَاءِ الْخِنْزِيرِ إِلَيْهِ الْقَاذُورَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ، وَهُوَ ضَارٌّ

فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ وَلَا سِيَّمَا الْحَارَةَ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ الْقَتَّالَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ لَهُ تَأْثِيرًا سَيِّئًا فِي الْعِفَّةِ وَالْغَيْرَةِ (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وَهُوَ مَا يُذْبَحُ وَيُقَدَّمُ لِلْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُعْبَدُ. وَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا دِينِيٌّ مَحْضٌ لِحِمَايَةِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْوَثَنِيَّةِ فَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لِغَيْرِ اللهِ عَلَى ذَبِيحَةٍ فَإِنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ أَهَلَّ بِاسْمِهِ تَقَرُّبَ عِبَادَةٍ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ وَلَوْ مَعَ اسْمِ اللهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعَدَّ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا يَجْرِي فِي الْأَرْيَافِ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ - لَا سِيَّمَا ذَبْحَ الْمَنْذُورِ - بِسْمِ اللهِ، اللهُ أَكْبَرُ، يَا سَيِّدُ، يَدْعُونَ السَّيِّدَ الْبَدَوِيَّ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَيَتَقَبَّلَ النَّذْرَ وَيَقْضِيَ حَاجَةَ صَاحِبِهِ، (قَالَ) وَكَيْفَمَا أَوَّلْتَهُ فَهُوَ مُحَرَّمُ، وَمِثْلُ ذِكْرِ السَّيِّدِ ذِكْرُ الرَّسُولِ أَوِ الْمَسِيحِ ; إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الذَّبْحِ غَيْرُ اسْمِ الْمُنْعِمِ بِالْبَهِيمَةِ الْمُبِيحِ لَهَا، فَهِيَ تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ بِاسْمِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ سِوَاهُ، وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِمَّنْ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يُنْعِمْ وَلَمْ يُبِحْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاضِعٍ لِلدِّينِ (فَمَنِ اضْطُرَّ) إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ سِوَاهُ (غَيْرَ بَاغٍ) لَهُ أَيْ: غَيْرُ طَالِبٍ لَهُ، رَاغِبٍ فِيهِ لِذَاتِهِ (وَلَا عَادٍ) مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِالْمَوْتِ جُوعًا أَشَدُّ ضَرَرًا مَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، بَلِ الضَّرَرُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ مُحَقَّقٌ، وَهُوَ فِي فِعْلِهِ مَظْنُونٌ، وَرُبَّمَا كَانَتْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِسَدِّ الرَّمَقِ مَانِعَةٌ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَمَّا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُ مُضْطَرًّا فَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِجَازَةَ عَمَلِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَا اسْتِحْسَانَهُ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إِذْ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الضَّارَّ، وَجَعَلَ الضَّرُورَاتِ بِقَدْرِهَا، لِيَنْتَفِيَ الْحَرَجُ وَالْعُسْرُ عَنْهُمْ، وَوَكَّلَ تَحْدِيدَهَا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ، فَهُوَ يَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيهِ لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهِ. وَفَسَّرَ الْجَلَالُ كَلِمَةَ (بَاغٍ) بِالْخَارِجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَ (عَادٍ) بِالْمُعْتَدِي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ (قَالَ) : وَيَلْحَقُ بِهِمْ كُلُّ عَاصٍ بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَالْمِكَاسِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْعَاصِيَ كَغَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الضَّرَرِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا دَفْعُهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَطَعْنَا. فَكَيْفَ لَا تَتَنَاوَلُهُ إِبَاحَةُ الرُّخَصِ؟ ! ثُمَّ إِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلسِّيَاقِ أَنْ تُحَدَّدَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُجِيزُ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ، وَتَفْسِيرُ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُحَدِّدُ لَهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: (مَا نَبْغِي) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ)) وَفِي التَّنْزِيلِ (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) (18: 28) أَيْ: لَا تَتَجَاوَزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَالْكَلَامُ فِي تَحْدِيدِ الضَّرُورَةِ وَتَمَامِ بَيَانِ حُكْمِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَكْلِ، لَا فِي السِّيَاسَةِ وَعُقُوبَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الدَّوْلَةِ وَالْمُؤْذِينَ لِلْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ لَازِمًا لِئَلَّا يَتَّبِعَ النَّاسُ أَهْوَاءَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الِاضْطِرَارِ إِذَا هُوَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ بِلَا حَدٍّ وَلَا قَيْدٍ، فَيَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَلَيْسَ

بِمُضْطَرٍّ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِشَهْوَتِهِ إِلَى مَا وَرَاءَ حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) كَيْفَ تُقَدَّرُ الضَّرُورَةُ بِقَدْرِهَا، وَالْأَحْكَامُ عَامَّةٌ يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَيَذْكُرُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسَائِلَ خِلَافِيَّةً فِي الْمَيْتَةِ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُؤْكَلُ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَتُهُ، إِذْ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى دَائِمًا فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى وَقَرَأَهُ هُوَ فِيهَا، وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كَانَتْ خُطَّتُهُ الْغَالِبَةُ فِيهِ تَرْكَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ عِبَارَاتِهِ كَمَا هُنَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذِكْرُ الْخِلَافِ وَسِيلَةً إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ. وَقَدْ زَادَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ - تَبَعًا لِفُقَهَائِهِمْ - مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى اسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي دَلَالَتِهَا نَظَرٌ، وَبِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَصْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ) (6: 145) إِلَخْ. وَفَنَّدْتُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ (غَفُورٌ) لَهُ فِيهَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا لِصَاحِبِ الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذِكْرَ وَصْفِ الرَّحِيمِ يُنْبِئُ بِأَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ وَالتَّخْفِيفَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا الْغَفُورُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي تَحْدِيدِ الِاضْطِرَارِ دَقِيقٌ جِدًّا، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُضْطَرِّ، وَيَصْعُبُ عَلَى مَنْ خَارَتْ قُوَاهُ مِنَ الْجُوعِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيَقِي مِنَ الْهَلَاكِ بِالتَّدْقِيقِ وَأَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، وَالصَّادِقُ الْإِيمَانِ يَخْشَى أَنْ يَقَعَ فِي وَصْفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَاللهُ تَعَالَى يُبَشِّرُهُ بِأَنَّ الْخَطَأَ الْمُتَوَقَّعَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

174

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي مَحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ قَدْ دَخَلَ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ تَكُونُ مُقَرِّرَةً لِحُكْمٍ مِنْهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) تَقْرِيرٌ لِحُكْمٍ فِي الْأَكْلِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ، وَبَيَّنَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْأَكْلِ، وَنَقْضَ الْقُرْآنِ لِمَا وَضَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَوْهَاقِ الْأَحْكَامِ، وَإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ لِلنَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَاتُ جَارِيَةً عَلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ، وَيُشَرِّعُونَ لَهُمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ مِنْ حَيْثُ يَكْتُمُونَ مَا شَرَعَهُ بِالتَّأْوِيلِ أَوِ التَّرْكِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ فِي شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْعَقَائِدِ كَكِتْمَانِ الْيَهُودِ أَوْصَافَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْأَكْلِ وَالتَّقَشُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُمُونَهَا إِذَا كَانَ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) (6: 91) وَفِي حُكْمِهِمْ كُلُّ مَنْ يُبْدِي بَعْضَ الْعِلْمِ وَيَكْتُمُ بَعْضَهُ لِمَنْفَعَتِهِ لَا لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِهِ، وَهَذَا هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أَيِ: الَّذِينَ يُخْفُونَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يُبَلِّغُونَهُ لِلنَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ مَوْضُوعُهُ، أَوْ يُخْفُونَ مَعْنَاهُ عَنْهُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَوْ تَحْرِيفِهِ أَوْ وَضْعِ غَيْرِهِ فِي مَوْضِعِهِ بِرَأْيِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِمَا يَكْتُمُونَهُ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي كَالرِّشْوَةِ، وَالْجَعْلِ عَلَى الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ، أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُوَقَّتَةِ إِذِ اتَّخَذُوا الدِّينَ تِجَارَةً. وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ مِنِ اسْتِفَادَةِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَمِنْهُ عَكْسُهُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

(قَالَ شَيْخُنَا) : هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الدِّينِ عَامٌّ فِي الرُّؤَسَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمِنْهُ مَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ يُلَاحِظُونَهُ زَمَنَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ حِفْظُ مَا بِيَدِهِمُ الَّذِي يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يَفُوتُهُمْ بِتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بَدَلًا مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ إِلَى إِصْلَاحٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَا هُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَعِدُهُمْ بِخَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ هُوَ الْفَقْرُ وَالذُّلُّ وَالْخِذْلَانُ حَاضِرُهُ أَوْ مُنْتَظِرُهُ. مَاذَا كَانَ شَأْنُ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ؟ ذُلٌّ وَاضْطِهَادٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى، فَقَدْ كَانُوا يَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنْ دُخُولِ مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَكْرَهُوهُمْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ عَلَى التَّنَصُّرِ. مَاذَا كَانَ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ؟ فَقْرٌ حَاضِرٌ وَذُلٌّ غَالِبٌ، وَحَجْرٌ عَلَى الْعُقُولِ، وَمَنْعٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ، وَتَحَكُّمٌ فِي الْإِرَادَةِ، وَسَيْطَرَةٌ عَلَى خَطِرَاتِ الْقُلُوبِ وَأَهْوَاءِ النُّفُوسِ. كَانَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ قُطْرٍ وَكُلِّ مَمْلَكَةٍ، وَكَانَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ حُرُوبٌ تَشِبُّ، وَغَارَاتٌ تُشَنُّ، وَدِمَاءٌ تُسْفَكُ، وَحُقُوقٌ تُنْتَهَكُ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ سَيُخْرِجُهُمْ مِنْ سَعَادَةٍ إِلَى شَقَاءٍ، وَمِنْ نِعْمَةٍ إِلَى بَلَاءٍ، هَبْ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَبَقِيَّةٌ مِنَ الْجَاهِ، أَلَيْسَ هُوَ مِنْ فَخْفَخَةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، أَلَمْ يَكُنْ مُنَغَّصًا بِالْخَوْفِ عَلَيْهِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِ؟ هَبْ أَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ شُعُوبِهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُوَّةِ، أَلَمْ تَكُنْ تُشْبِهُ الزَّوْبَعَةَ تَعْصِفُ وَلَا تَلْبَثُ أَنْ تَزُولَ؟ نَعَمْ إِنَّ مَا كَانَ يَغُرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلْغُرُورِ، لِأَنَّهُ مَتَاعٌ حَقِيرٌ، وَثَمَنٌ قَلِيلٌ، وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ زَالَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِهِ وَتَقَوَّضَتْ تِلْكَ السُّلْطَةُ، وَانْدَكَّتْ صُرُوحُ تِلْكَ الْعَظَمَةِ، وَأُجْلِيَ الْيَهُودُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَزَالَ مُلْكُ غَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ بِلَادٍ رَفَضُوا فِيهَا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا شَأْنُ الْبَاطِلِ لَا يَثْبُتُ أَمَامَ الْحَقِّ ; فَإِنَّ أَحْكَامَ الْبَاطِلِ مُؤَقَّتَةٌ لَا ثَبَاتَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِنَّمَا بَقَاؤُهَا فِي نَوْمِ الْحَقِّ عَنْهَا، وَحُكْمُ الْحَقِّ هُوَ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ، فَلَا يُغْلَبُ أَنْصَارُهُ مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ وَهُوَ عَامٌّ كَمَا يَدُلُّ لَفْظُهُ، وَكَمَا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مِنَ اطِّرَادِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْيِيدِ أَنْصَارِ الْحَقِّ وَخَذْلِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ. كُلُّ ثَمَنٍ يُؤْخَذُ عِوَضًا عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ قَلِيلٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَلِيلًا فِي ذَاتِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ فِي جَنْبِ مَا يَفُوتُ آخَذَهُ مِنْ سَعَادَةِ الْحَقِّ الثَّابِتَةِ بِذَاتِهَا، وَالدَّائِمَةِ بِدَوَامِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَلَوْ دَامَ لِلْمُبْطِلِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ ثَمَنِ الْبَاطِلِ إِلَى نِهَايَةِ الْأَجَلِ - وَمَا هُوَ إِلَّا قَصِيرٌ - فَمَاذَا يَفْعَلُ وَقَدْ فَاتَتْهُ بِذَلِكَ سَعَادَةُ الرُّوحِ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بِاخْتِيَارِهِ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (9: 38)

قَدْ يَعْتَرِضُ النَّاظِرُ فِي التَّارِيخِ مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ ذَهَابِ عِزِّ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّ عِيشَةَ الْيَهُودِ كَانَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْهَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مَقْهُورِينَ بِحُكْمِ النَّصَارَى الشَّدِيدِ وَتَعَصُّبِهِمُ الْفَاحِشِ، فَسَاوَى الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَاهُمْ كَمَالَ الْحُرِّيَّةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَحَسُنَتْ حَالُهُمْ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَكَثُرَ مَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَقِلَّ. وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقْوَوْا عَلَى جَمِيعِ نَصَارَى أُورُوبَّا فَبَقِيَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَمَالِكِ سُلْطَانُهَا وَمَا تَتَمَتَّعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَمَالِكِ الْوَثَنِيَّةِ وَهُمْ أَعْرَقُ فِي الْبَاطِلِ مِنَ النَّصَارَى. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ الْحِجَازِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْتُمُونَ مَا عَرَفُوا مِنْ نَعْتِهِ وَيُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَهُمُ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَلَقُوا جَزَاءَهُمُ الَّذِي تَمَّ بِجَلَّائِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا يَهُودُ سُورِيَةَ وَغَيْرِهَا (كَالْأَنْدَلُسِ) فَقَدْ كَانُوا يُسَاعِدُونَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَدُعَاتِهَا حَتَّى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ لِيَخْلُصُوا مِنْ ظُلْمِ النَّصَارَى وَاسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِمْ، فَنَالُوا مَنْ حَسْنِ الْجَزَاءِ بِمِقْدَارِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَوْ آمَنُوا وَقَبِلُوا الْحَقَّ كُلَّهُ وَأَيَّدُوهُ لِذَاتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَأُوتُوا أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَجَزَاءَهُمْ ضِعْفَيْنِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً وَارِثِينَ وَسَادَةً عَالِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ مُلْكُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بِضَعْفِ حُقِّ الْإِسْلَامِ عَنْ بَاطِلِهِمْ، فَإِنَّ الَّذِينَ حَاوَلُوا فَتْحَ مَا وَرَاءَ الْأَنْدَلُسِ مِنْ أُورُبَّا لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ كُلِّهِمْ نَشْرَ دَعْوَةِ الْحَقِّ، إِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَالْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَعْتَدِيَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ لِأَجْلِ سَلْبِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ; فَإِنَّ الْمُعْتَدِيَ مُبْطِلٌ، وَالْمُدَافِعَ مُحِقٌّ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِلَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ إِذَا أَخَذَ لَهُ أُهْبَتَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ الْمَمَالِكِ الَّتِي لَمْ يَقْوَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ تَرْكِ الدَّعْوَةِ لِأَجْلِ الْهِدَايَةِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُبِيحُ الْحَرْبَ لِذَاتِهَا - وَقَدْ حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ - وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَعْمِيمَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَمَنْ عَارَضَهَا وَجَبَ جِهَادُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يَقْبَلَهَا أَوْ يَكُونَ لِأَهْلِهَا السُّلْطَانُ الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ نَشْرِهَا بِدُونِ مُعَارِضٍ ; أَيْ: أَنَّهُ يُوجِبُ الْجِهَادَ مَا دَامَ النَّاسُ يُفْتَنُونَ فِي الدِّينِ - أَيْ لَا تَكُونُ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ فِيهِ وَلَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ - أَوْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى بِلَادِهِمْ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (2: 190 - 193) وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا قَرِيبًا. (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أَيْ: أُولَئِكَ الْكَاتِمُونَ لِكِتَابِ اللهِ وَالْمُتَّجِرُونَ بِهِ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مِنْ ثَمَنِهِ إِلَّا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ وَانْتِهَاءِ مَطَامِعِهِمْ بِعَذَابِهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ إِلَّا النَّارَ أَوْ طَعَامَ النَّارِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَنَافِعِ بِالْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّهَا، وَالْمَعْنَى لَا تَمْلَأُ بُطُونَهُمْ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ الْأَكْلَ لَمَّا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِذِكْرِ الْبَطْنِ إِذَا قِيلَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَرَأَيْنَاهُمْ

يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنِ الِامْتِلَاءِ ; يَقُولُونَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ يُرِيدُونَ مَلَأَ بَطْنَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ دُونَ امْتِلَاءِ بَطْنِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُشْبِعُ جَشَعَهُمْ، وَلَا يَذْهَبُ بِطَمَعِهِمْ إِلَّا النَّارُ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ((وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ)) وَاسْتَشْهَدُوا لِلتَّعْبِيرِ بِأَكْلِ النَّارِ عَنْ سَبَبِ عَذَابِهَا بِقَوْلِ الْقَائِلِ فِي زَوْجِهِ: دِمَشْقُ خُذِيهَا لَا تَفُتْكِ فَلَيْلَةٌ ... تَمُرُّ بِعُودِي نَعْشُهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالدَّمِ الدِّيَةَ الَّتِي هُوَ سَبَبُهَا - وَأَكْلُهَا عَارٌ عِنْدَهُمْ - فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُبْتَلَى بِأَكْلِ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَرُعْ زَوْجَهُ وَيُزْعِجْهَا بِضَرَّةٍ هِيَ مِنَ الْجَمَالِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَأَكْلُ الدِّيَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَهْلِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالُوا: إِنَّ الْكَلَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ شَائِعَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَجَمَعُوا بِهَذَا بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (15: 92) وَقَوْلِهِ: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) (7: 6) وَقِيلَ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أَيْ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَقَدْ مَاتُوا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ: شَدِيدُ الْأَلَمِ. ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَخْ، أَوِ الْمَجْزِيُّونَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَّرَهُمُ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا الْهُدَى فَهُوَ كِتَابُ اللهِ وَشَرْعُهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (2: 2) وَأَمَّا الضَّلَالَةُ: فَهِيَ الْعِمَايَةُ الَّتِي لَا يَهْتَدِي بِهَا الْإِنْسَانُ لِمَقْصِدِهِ، وَتَكُونُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَآرَاءِ النَّاسِ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ - وَهَذِهِ الْآرَاءُ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَا حَدَّ، فَأَهْلُهَا فِي خِلَافٍ وَشِقَاقٍ دَائِمٍ كَمَا سَيَأْتِي - فَمَنْ أَجَازَ لِنَفْسِهِ اتِّبَاعَ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَةِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ تَرَكَ الْهُدَى الْوَاضِحَ الْمُبِينَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ، وَصَارَ إِلَى تِيهٍ مِنَ الْآرَاءِ مُشْتَبَهِ الْأَعْلَامِ، يَضِلُّ بِهِ الْفَهْمُ، وَلَا يَهْتَدِي فِيهِ الْوَهْمُ، وَذَلِكَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَشِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حُدُودَ الْعُبُودِيَّةِ، وَحُقُوقَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِفَهْمِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ (وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أَيْ: وَاشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَثَرُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ مُتَّبِعَ الْهُدَى هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ لِمَا يَفْرُطُ مِنْهُ وَمَا يُلِمُّ هُوَ بِهِ مِنَ السُّوءِ، وَمُتَّبِعَ الضَّلَالِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَذَابِ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى الْحَقِّ يَعْرِفُ هَذَا، فَإِذَا هُوَ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ بَعْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ فَقَدِ اشْتَرَى الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَكَانَ هُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ إِذِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، غُرُورًا بِالْعَاجِلِ، وَاسْتِهَانَةً بِالْآجِلِ (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أَيْ: إِنَّ صَبْرَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ الَّذِي تَعَرَّضُوا لَهُ مَثَارُ الْعَجَبِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمُ الْمَوْصُوفَ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، فَتَهَوُّكُهُمْ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ تَهَوُّكُ مَنْ لَا يُبَالِي

بِهِ، كَأَنَّهُ مِمَّا يُطِيقُهُ وَيُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتْرُكُ ضَلَالَتَهُ اتِّقَاءً لَهُ، وَصِيغَةُ التَّعَجُّبِ قَالُوا يُرَادُ بِهَا تَعْجِيبُ النَّاسِ مِنْ شَأْنِهِمْ إِذْ لَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةُ التَّعَجُّبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى ; إِذْ لَا شَيْءَ غَرِيبٌ عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مَجْهُولٌ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَافِيهَا، وَحَاضِرُهَا عِنْدَهُ كَمَاضِيهَا وَآتِيهَا (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (34: 3) وَالصَّبْرُ عَلَى النَّارِ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْهُمْ فَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ حَالًا، وَلَا مُتَوَقَّعٍ فَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ مَآلًا، فَلَا صَبْرَ هُنَالِكَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَالُهُمْ فِي تَهَوُّكِهِمْ وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الْعَبَثِ بِدِينِ اللهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ لِلتَّنْفِيرِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ الْعَجَبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُقَالَ: عَجَبٌ يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ كَعَجَبِ الْبَشَرِ مِمَّا يُكْبِرُونَ أَمْرَهُ وَيَجْهَلُونَ سَبَبَهُ، وَيَتَأَوَّلُهُ الْأَكْثَرُونَ بِالرِّضَى مِنَ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْعِبَارَةِ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا: إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَكْلِهِمُ النَّارَ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ هُوَ تَصْوِيرٌ لِحَالِهِمْ وَتَمْثِيلٌ لِمَآلِهِمْ. أَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَتَجَلَّى لَكَ إِذَا تَمَثَّلْتَ حَالَ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَقَدْ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ بِكِتْمَانِ وَصْفِ الرَّسُولِ، وَهُمْ يُقَارَعُونَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيُذَكَّرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَيَّامِهِ فَيَشْعُرُونَ بِجَاذِبَيْنِ مُتَعَاكِسَيْنِ: جَاذِبِ الْحَقِّ الَّذِي عَرَفُوهُ، وَجَاذَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي أَلِفُوهُ، ذَاكَ يُحْدِثُ لَهُمْ هِزَّةً وَتَأْثِيرًا، وَهَذَا يُحْدِثُ لَهُمُ اسْتِكْبَارًا وَنُفُورًا، وَقَدْ غَلَبَ عُقُولَهُمْ مَا عَرَفُوا، وَغَلَبَ قُلُوبَهُمْ مَا أَلِفُوا، فَثَبَتُوا عَلَى مَا حَرَّفُوا وَانْحَرَفُوا، وَصَارُوا إِلَى حَرْبٍ عَوَانٍ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، يَتَصَوَّرُونَ الْخَطَرَ الْآجِلَ فَيَتَنَغَّصُ عَلَيْهِمُ التَّلَذُّذُ بِالْعَاجِلِ، وَيَتَذَوَّقُونَ حَلَاوَةَ مَا هُمْ فِيهِ فَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى مَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ. أَلَيْسَ هَذَا الشُّعُورُ بِخَذْلِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْبَاطِلِ، وَاخْتِيَارِ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى نَارًا تَشِبُّ فِي الضُّلُوعِ؟ أَلَيْسَ مَا يَأْكُلُونَهُ مِنْ ثَمَنِ الْحَقِّ ضَرِيعًا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ؟ بَلَى ; فَإِنَّ عَذَابَ الْبَاطِنِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الظَّاهِرِ، كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دُخُولُ النَّارِ لِلْمَهْجُورِ خَيْرٌ ... مِنَ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ يَتَّقِيهِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي النَّارِ أَدْنَى ... عَذَابًا مِنْ دُخُولِ النَّارِ فِيهِ فَهَذَا تَأْوِيلٌ وَجِيهٌ لِأَكْلِهِمُ النَّارَ وَلِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ، نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَائِي الصَّافِيَةِ تَتَمَثَّلُ لَهُمُ الْمَعَانِي بِأَتَمِّ مَا تَتَمَثَّلُ بِهِ لِسَائِرِ الْأَرْوَاحِ الْمَحْجُوبَةِ بِالظَّوَاهِرِ، الْمَخْدُوعَةِ بِالْمَظَاهِرِ، الَّتِي يَصْرِفُهَا الِاشْتِغَالُ بِالْحِسِّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَرَاتِبِ النَّفْسِ. فَلَا غَرْوَ إِذَا تَمَثَّلَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ

176

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالُ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ - الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمُ الْهَوَى، وَوَاثَبُوا الْحَقَّ يُقَارِعُهُمْ وَيُقَارِعُونَهُ، وَنَاصَبُوا الدَّلِيلَ يُنَازِعُهُمْ وَيُنَازِعُونَهُ - بِحَالِ الَّذِي يَتَقَحَّمُ فِي النَّارِ، وَيُكْرِهُ نَفْسَهُ عَلَى الِاصْطِبَارِ، كَمَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي بَاعُوا بِهِ الْحَقَّ نَارًا يَزْدَرِدُونَهَا، إِذْ كَانَ آلَامًا يَتَحَمَّلُونَهَا ; فَمُكَابَرَةُ الْبُرْهَانِ أَشَدُّ الْعَذَابِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَمُحَارَبَةُ الْقَلْبِ (الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ) أَوْجَعُ الْآلَامِ عِنْدَ الْفُضَلَاءِ، فَالْعَاقِلُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ أَكْثَرِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ عَقْلَهُ الْعِلْمَ وَذِهْنَهُ الْفَهْمَ، فَقَدْ قِيلَ (لِدِيُوجِينَ) : لَا تَسْمَعْ، فَسَدَّ أُذُنَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: لَا تُبْصِرْ، فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: لَا تَذُقْ، فَقَبِلَ. فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْهَمْ. فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ. فَلَا غَرْوَ إِذَا مُثِّلَتْ لِلنَّبِيِّ حَالُ أُولَئِكَ الْمُكَابِرِينَ لِلْحَقِّ مِمَّا ذُكِرَ وَأَظْهَرَتْهُ الْبَلَاغَةُ بِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ تَارَةً، وَبِصُورَةِ أَكْلِ النَّارِ تَارَةً. قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أَيْ: ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي شَأْنِهِمْ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُقَاوَى، فَمَنْ غَالَبَهُ غُلِبَ، وَمَنْ خَذَلَهُ خُذِلَ. ثُمَّ قَالَ: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللهُ لِلْحُكْمِ فِي الْخِلَافِ وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ لَفِي شِقَاقٍ وَعَدَاءٍ بِعِيدٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ فَأَنَّى يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُخَالِفُ الْآخَرَ بِمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ مَذْهَبٍ أَوْ رَأْيٍ فِيهِ حَتَّى صَارَ (أَيِ الْكِتَابُ) وَهُوَ مُزِيلُ الِاخْتِلَافِ - أَعْظَمَ أَسْبَابِهِ، يُطْرَقُ لِأَجْلِ إِزَالَتِهِ وَالْحُكْمِ فِيهِ كُلُّ بَابٍ غَيْرُ بَابِهِ؟ وَالشِّقَاقُ: الْخِلَافُ وَالتَّعَادِي، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ يَنْأَى كُلٌّ بِجَانِبِهِ عَنِ الْآخَرِ فَيَكُونُ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا بَعِيدًا كَمَا تَرَى. هَذَا حُكْمٌ آخَرُ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ حُكْمِ كِتْمَانِهِ، فَهُوَ يُفْهِمُنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ بُعْدٌ عَنِ الْحَقِّ كَكِتْمَانِهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالْمُخْتَلِفُونَ لَا يَدْعُونَ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَا يَسْلُكُونَ سَبِيلًا وَاحِدَةً. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُتْبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (6: 153) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى خِلَافٍ فِي الدِّينِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا شِيَعًا كُلٌّ يَذْهَبُ إِلَى مَذْهَبٍ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (6: 159) وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ الْفَهْمِ ضَرُورِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَزُولَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ. (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ 4: 59) فَلَا عُذْرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الَّذِي جَعَلَ لِكُلِّ مُشْكِلٍ مَخْرَجًا. الشِّقَاقُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلِاخْتِلَافِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأُمَّةِ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلتَّقْلِيدِ وَالِانْتِصَارِ لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا - وَلَوْ بِدُونِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ - إِذْ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَسَهُلَ عَلَى الْأُمَّةِ

أَنْ تُرْجِعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُسْتَنْبِطِينَ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِعَرْضِهِ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ صَرِيحَانِ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا تَوَلَّى الْعَقْدَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ بِرِضَاهَا أَوْ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا عَمَلًا، وَنُقِلَ عَنْ أَعْلَمِهِمْ قَوْلًا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ فِيهِ خِلَافًا صَحِيحًا، فَإِذَا وُجِدَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَهُوَ أَنَّ لِلْبَالِغَةِ الرَّاشِدَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَفَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ - وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَرُدُّوا الرِّوَايَةَ الْمُخَالِفَةَ وَيَعْمَلُوا بِالْمُوَافِقَةِ؟ بَلَى ; وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الشِّقَاقِ الْبَعِيدِ. وَيَتَوَهَّمُ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَرْكَ أَقْوَالِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِهَانَةٌ لَهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّعْظِيمِ لَهُمْ، وَالِاتِّبَاعِ لِسِيرَتِهِمُ الْحَسَنَةِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ إِهَانَةٌ - وَكَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَدْيِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - أَفَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً وَيَكُونُ تَعْظِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِهَانَتَهَا كُفْرٌ وَتَرْكٌ لِلدِّينِ؟ عَلَى أَنَّ تَرْكَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، فَإِنَّ أَتْبَاعَ كُلِّ إِمَامٍ تَارِكُونَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذْهَبِهِمْ ; بَلْ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إِلَّا وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِهِ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِنَصِّ الْإِمَامِ وَلَا سِيَّمَا الْحَنَفِيَّةُ. هَذَا - وَإِنَّ الْكِتَابَ لَا مَثَارَ فِيهِ لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ إِذَا صَحَّتِ النِّيَّةُ، فَكُلُّ مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ تَعَلُّمًا صَحِيحًا وَيَنْظُرُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ وَسِيرَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينِ لَهُمْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْهَمَهُ، وَمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ لَا يَقْتَضِي الشِّقَاقَ، بَلْ يَسْهُلُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الْفَهْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَطُرُقِ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا، وَمَا ظَهَرَ لِكُلِّهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ الرَّاجِحُ يَعْتَمِدُونَهُ إِذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهَا، وَمَا عَسَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ الْأَفْرَادِ مِنْ فَهْمٍ خَاصٍّ بِمَعَارِفِهِ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي شِقَاقًا ; لِأَنَّ الشِّقَاقَ فِيهِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَأَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا بِمَا حَقَّقْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ الطَّبْعَةِ الْأُولَى لِهَذَا الْجُزْءِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ مِنَ النُّصُوصِ فَهُوَ الشَّرْعُ الْعَامُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهُ عَمَلًا وَقَضَاءً، وَأَنَّ مَا كَانَ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (2: 219) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

177

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ادَّعَى (الْجَلَالُ) أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ يُوَلُّونَ وُجُوهَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالْيَهُودِ الَّذِينَ يُوَلُّونَهَا قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا ادِّعَاءٌ لَمْ يَثْبُتْ، وَالصَّحِيحُ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَكْبَرُوا أَمْرَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَاتِ التَّحْوِيلِ وَحِكَمِهِ، وَطَالَ خَوْضُهُمْ فِيهَا حَتَّى شَغَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَغَلَا كُلُّ فَرِيقٍ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ مُقَابِلِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ خِلَافٍ يُثِيرُ الْجَدَلَ وَالنِّزَاعَ، فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى غَيْرِ قِبْلَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونُ صَاحِبُهَا عَلَى دِينِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هِيَ كُلُّ شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ وَأَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كَافَّةً أَنَّ مُجَرَّدَ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ قِبْلَةً مَخْصُوصَةً لَيْسَ هُوَ الْبِرَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدِّينِ ; ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ إِنَّمَا شُرِعَ ; لِأَجْلِ تَذْكِيرِ الْمُصَلِّي بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى فِي صَلَاتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَلِيَكُونَ شِعَارًا لِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، فَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ وَسِيلَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِتَوْلِيَةِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ رُكْنًا مِنَ الْعِبَادَةِ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أُصُولَ الْبِرِّ وَمَقَاصِدَ الدِّينِ فَقَالَ: (لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِنَصْبِ الْبِرِّ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهِ، وَكِلَاهُمَا ظَاهِرٌ، وَالْبِرُّ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - لُغَةً: التَّوَسُّعُ فِي الْخَيْرِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَحْرِ فِي تَصَوُّرِ سَعَتِهِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَشَرْعًا: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَوْجِيهُ الْوُجُوهِ إِلَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لَيْسَ هُوَ

الْبِرَّ وَلَا مِنْهُ، بَلْ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ عَمَلًا صَالِحًا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي آيَاتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَأَحَلْنَا فِيهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ فِيهَا مَجَامِعَ الْبِرِّ (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ (لَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وَنَافِعُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّخْفِيفِ ; أَيْ: وَلَكِنْ جُمْلَةُ الْبِرِّ هُوَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ إِلَخْ، وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمَعْنَى بِالذَّاتِ، وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، وَالْقُرْآنُ جَارٍ عَلَى الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى لَا عَلَى فَلْسَفَةِ النُّحَاةِ وَقَوَانِينِهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ، وَبَلَاغَةُ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ إِنَّمَا هِيَ فِي إِيصَالِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ إِلَى الذِّهْنِ عَلَى أَجْلَى وَجْهٍ يُرِيدُهُ الْمُتَكَلِّمُ وَأَحْسَنِ تَأْثِيرٍ يَقْصِدُهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يَزَالُ مَأْلُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى فَسَادِ أَلْسِنَتِهِمْ فِي اللُّغَةِ، يَقُولُونَ: لَيْسَ الْكَرْمُ أَنْ تَدْعُوَ الْأَغْنِيَاءَ وَالْأَصْدِقَاءَ إِلَى طَعَامِكَ وَلَكِنَّ الْكَرَمَ مَنْ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْكَسْبِ، فَالْكَلَامُ مَفْهُومٌ بِدُونِ أَنْ نَقُولَ إِنَّ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ ذَا الْكَرَمِ مَنْ يُعْطِي، أَوْ لَكِنَّ الْكَرَمَ عَطَاءُ مَنْ يُعْطِي. وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي حَاجَةٍ إِلَى بَيَانِ النُّكْتَةِ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ إِلَخْ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْعِبَارَةِ ; فَإِنَّهَا تُمَثِّلُ لَكَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فَتُفِيدُكَ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِهِمَا، وَتَلَبُّسِ الْمُؤْمِنِ الْبَارِّ بِهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِيمَانَ بَاعِثٌ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهِيَ مُنْبَعِثَةٌ عَنْهُ وَأَثَرٌ لَهُ تَسْتَمِدُّ مِنْهُ وَتَمُدُّهُ وَتُغَذِّيهِ ; أَيْ: أَنَّهَا تُمَثِّلُ لَكَ الْمَعْنَى فِي الشَّخْصِ، أَوِ الشَّخْصَ عَامِلًا بِالْبِرِّ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّفْسِ هُنَا مِنْ إِسْنَادِ الْمَعْنَى إِلَى الْمَعْنَى، وَمِنْ إِسْنَادِ الذَّاتِ إِلَى الذَّاتِ كَمَا هُوَ مَذُوقٌ وَمَفْهُومٌ. ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ; لِأَنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ بِرِّ وَمَبْدَأُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ أَصْلًا لِلْبِرِّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّفْسِ بِالْبُرْهَانِ، مَصْحُوبًا بِالْخُضُوعِ وَالْإِذْعَانِ، فَمَنْ نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ وَسَمِعَ مِنْهُمُ اسْمَ اللهِ فِي حَلِفِهِمْ وَاسْمَ الْآخِرَةِ فِي حِوَارِهِمْ، وَقَبِلَ مِنْهُمْ بِالتَّسْلِيمِ أَنَّ لَهُ إِلَهًا، وَأَنَّ هُنَاكَ يَوْمًا آخَرَ يُسَمَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ أَهْلَ دِينِهِ هُمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْبِرِّ وَإِنْ زَادَتْ مَعَارِفُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُسَلَّمَةِ ; فَحِفْظُ الصِّفَاتِ الْعِشْرِينَ الَّتِي حَدَّدَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا مَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَقْلًا، وَأَضْدَادَهَا الَّتِي تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَإِنْ حَفِظَ الْعَقِيدَةَ السُّنُوسِيَّةِ الْمُسَمَّاةَ بِأُمِّ الْبَرَاهِينِ أَيْضًا. وَلَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ تُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَةُ خَطَأَهُمْ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ الدِّينِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْإِذْعَانِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ هَذَا الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. الْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةٍ تَمْلِكُ الْعَقْلَ بِالْبُرْهَانِ، وَالنَّفْسَ بِالْإِذْعَانِ حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُؤْثِرَ أَمْرَهُمَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)

(9: 24) وَإِيمَانُ التَّقْلِيدِ قَدْ يُفَضِّلُ صَاحِبُهُ حُبَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ. الْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ مَعْرِفَةٌ تَطْمَئِنُّ بِهَا الْقُلُوبُ وَتَحْيَا بِهَا النُّفُوسُ وَتَخْنِسُ مَعَهَا الْوَسَاوِسُ، وَتَبْعُدُ بِهَا عَنِ النَّفْسِ الْهَوَاجِسُ، فَلَا تُبْطِرُ صَاحِبَهَا النِّعْمَةُ، وَلَا تُؤَيِّسُهُ النِّقْمَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (13: 28) (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (57: 23) وَإِيمَانُ التَّقْلِيدِ لَا يَفْتَأُ صَاحِبُهُ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ، مَيِّتَ النَّفْسِ، إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ فَهُوَ فَرِحٌ فَخُورٌ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَهُوَ يَئُوسٌ كَفُورٌ. الْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ: مَعْرِفَةٌ تَتَمَثَّلُ لِلْمُؤْمِنِ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ دَوَاعِي الشَّرِّ وَأَسْبَابُ الْمَعَاصِي فَتَحُولُ دُونَهَا، فَإِذَا نَسِيَ فَأَصَابَ الذَّنْبَ بَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ. فَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3: 135) وَهُمْ (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (8: 2) وَإِيمَانُ التَّقْلِيدِ يُصِرُّ صَاحِبُهُ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَيَقْتَرِفُ الْفَوَاحِشَ عَامِدًا عَالِمًا لَا يَسْتَحِي مِنَ اللهِ وَلَا يَوْجَلُ قَلْبُهُ إِذَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَخَافُهُ إِذَا عَصَاهُ. الْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ: هُوَ الَّذِي إِذَا عَلِمَ صَاحِبُهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ فِي دِينِهِ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَكَانَ انْبِعَاثُهُ إِلَى تَلَافِيهَا أَعْظَمَ مِنِ انْبِعَاثِهِ إِلَى دَفْعِ الْأَذَى عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَجَلْبِ الرِّزْقِ إِلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَإِيمَانُ الْمُقَلِّدِ لَا غَيْرَةَ مَعَهُ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْإِيمَانِ (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (24: 48، 49) الْآيَاتِ. يَذْكُرُ الْقُرْآنُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَثِيرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي شَرَحَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَجْمَعِهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الْآنَ، وَلَكِنَّ أَهْلَ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ لَا أَثَرَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ إِلَّا مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ قَوْمِهِمْ مِنَ الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الرُّسُومِ يُئَوِّلُونَ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِجَعْلِهِمُ الْإِيمَانَ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا كَامِلًا، وَهُوَ الَّذِي يَصِفُ الْقُرْآنُ أَهْلَهُ بِمَا يَصِفُهُمْ بِهِ، وَقِسْمًا نَاقِصًا، وَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يُجَامِعُ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْإِيمَانَ النَّاقِصَ كَافٍ لِنَيْلِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا صَحِبَهُ بَعْضُ الرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْشِدُنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ الرُّسُومَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا الْبِرُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ آثَارِهِ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ. فَالْإِيمَانُ بِاللهِ يَرْفَعُ النُّفُوسَ عَنِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعْبَادِ لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ اسْتَذَلُّوا الْبَشَرَ بِالسُّلْطَةِ

الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ دَعْوَى الْقَدَاسَةِ وَالْوَسَاطَةِ عِنْدَ اللهِ، وَدَعْوَى التَّشْرِيعِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ، أَوِ السُّلْطَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهِيَ سُلْطَةُ الْمُلْكِ وَالِاسْتِبْدَادِ، فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى تَهْبِطُ بِالْبَشَرِ إِلَى دَرَكَةِ الْحَيَوَانِ الْمُسَخَّرِ أَوِ الزَّرْعِ الْمُسْتَنْبَتِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْمَلَائِكَةِ يُعَلِّمُ الْإِنْسَانَ أَنَّ لَهُ حَيَاةً فِي عَالَمٍ غَيْبِيٍّ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ وَعَمَلُهُ لِأَجْلِ خِدْمَةِ هَذَا الْجَسَدِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ لَا يُبَالِي إِلَّا بِالْأُمُورِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا ذَلِيلًا لِبَشَرٍ مِثْلِهِ لِلَقَبٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ وَقَدْ أَعَزَّهُ اللهُ بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا أَئِمَّةُ الدِّينِ عِنْدَهُ مُبَلِّغُونَ لِمَا شَرَعَ اللهُ، وَأَئِمَّةُ الدُّنْيَا مُنَفِّذُونَ لِأَحْكَامِ اللهِ، وَإِنَّمَا الْخُضُوعُ الدِّينِيُّ لِلَّهِ وَلِشَرْعِهِ لَا لِشُخُوصِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ ; لِأَنَّ مَلَكَ الْوَحْيِ رُوحٌ عَاقِلٌ عَالِمٌ يَفِيضُ الْعِلْمَ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى رُوحِ النَّبِيِّ بِمَا هُوَ مَوْضُوعُ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْتُونَ النَّبِيِّينَ الْكِتَابَ (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مَنْ كُلِّ أَمْرٍ) (97: 4) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (26: 193 - 195) فَيَلْزَمُ مِنْ إِنْكَارِ الْمَلَائِكَةِ إِنْكَارُ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَإِنْكَارُ الْأَرْوَاحِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ أَنْكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ يَكُونُ أَكْبَرُ هَمِّهِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَحُظُوظَهَا، وَذَلِكَ أَصْلٌ لِشَقَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ شَقَاءِ الْآخِرَةِ. وَالْمَلَائِكَةُ: خَلْقٌ رُوحَانِيٌّ عَاقِلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ - كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْكِتَابِ عَلَى الْكُتُبِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَوْ صَحَّ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَأَذْعَنُوا لَهُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ هِدَايَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ جَهِلُوا وَحْدَةَ الدِّينِ فَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيَّةَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا حَقَّ الْإِيمَانِ بِكِتَابِهِمْ إِذْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ صَحِيحًا لَقَارَنَهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ كَانُوا كَمَنْ نَزَلْ فِيهِمْ (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمِنًا قُلْ لَمْ تُؤَمِّنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (49: 14، 15) فَهَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي حَصَرَ اللهُ الصِّدْقَ فِي أَصْحَابِهِ كَانَ قَدْ فُقِدَ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ حَالُ مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَإِنَّ الَّذِي تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ صَارَ نَادِرًا جِدًّا وَلِذَلِكَ حُرِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ، وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ يَعُودَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى التَّخَلُّقِ بِمَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ، فَالْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ

يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ قَبِيحٌ ضَارٌّ لَا تَتَوَجَّهُ إِرَادَتُهُ إِلَى إِتْيَانِهِ، وَالْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ حَسَنٌ نَافِعٌ لَا بُدَّ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ. فَمَا بَالُ مُدَّعِي الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ حَتَّى صَارُوا يَعُدُّونَ حِفْظَهُ وَقِرَاءَتَهُ مِنْ مَوَانِعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَكَانَ مِنْ قَوَانِينِهِمْ أَنَّ حَافِظَ الْقُرْآنِ لَا يُطَالَبُ بِتَعَلُّمِ فُنُونِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ حَافِظٌ، وَصَارَ حَمَلَةُ الْكِتَابِ لَا يُطَالَبُونَ بِبَذْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِذَا مَا طُولِبَ أَحَدُهُمْ بِبَذْلِ شَيْءٍ لِإِعَانَةِ الْمَنْكُوبِينَ أَوْ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْحُفَّاظِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، بَخِلَ الْقُرَّاءُ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى فَجَازَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بُخْلِهِمْ، وَوَفَّاهُمْ مَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى سُوءِ ظَنِّهِمْ بِرَبِّهِمْ، حَتَّى صَارُوا فِي الْغَالِبِ أَذَلَّ النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ عَالَةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَالْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ يَقْتَضِي الِاهْتِدَاءَ بِهَدْيِهِمْ، وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَالتَّأَدُّبَ بِآدَابِهِمْ، وَيَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِمْ وَالْعِلْمِ بِسُنَّتِهِمْ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِمْ مَنْ رَغِبُوا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا عُذْرَ بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ السُّنَّةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ ; فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاقْتِدَاءِ بِشَخْصٍ إِلَّا الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَإِنَّمَا طَرِيقَةُ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ الْبَحْثُ عَنِ السُّنَّةِ وَتَقْدِيمُهَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ هِدَايَةٍ وَإِرْشَادٍ، وَلَا يُغْنِي عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولَهُ شَيْءٌ أَبَدًا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (33: 21) فَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَذَا التَّأَسِّي، عَلَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ يَقْضِي عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ يَعْرِفَ سِيرَتَهُمْ وَطَرِيقَةَ أَخْذِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَأُصُولَ اسْتِدْلَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ لَا يَعْرِفُونَ ; بَلْ يَنْدُرُ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَلَامَ مَنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَهُ وَتَقْلِيدَهُ، بَلْ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَئِمَّتِهِمْ عِدَّةَ وَسَائِطَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فَهُمْ يُقَلِّدُونَهُمْ دُونَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمُرَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَهُنَاكَ قَوْمٌ غَشِيَهُمُ الْجَهْلٌ فَغَشَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِيمَانًا بِالرَّسُولِ وَحُبًّا لَهُ بِمَا يَصِيحُونَ بِهِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَالدَّلَائِلِ وَأَمْثَالِهَا، أَوِ الْمَدَائِحِ الشِّعْرِيَّةِ، وَهُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ بِأَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ، وَسُنَّتِهِ السَّنِّيَّةِ، وَسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَأَشَدُّهُمْ نُفُورًا عَنِ التَّأَسِّي بِهِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ، أَوْ نُهُوا عَنِ الْبِدَعِ فِي دِينِهِ وَالزِّيَادَةِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الَّذِينَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّهُمْ يَرِدُونَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُذَادُونَ ; أَيْ: يُطْرَدُونَ دُونَهُ فَيَقُولُ: ((أُمَّتِي)) فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَيَقُولُ: ((سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي)) ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ أُصُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَتُهُ، وَبَدَأَ بِأَقْوَاهَا

دَلَالَةً عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أَيْ: وَأَعْطَى الْمَالَ لِأَجْلِ حُبِّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى حُبِّهِ إِيَّاهُ ; أَيِ: الْمَالَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْإِيتَاءُ غَيْرُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْآتِي، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ وَوَاجِبٌ كَالزَّكَاةِ ; وَذَلِكَ حَيْثُ تَعْرِضُ الْحَاجَةُ إِلَى الْبَذْلِ فِي غَيْرِ وَقْتِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ بِأَنْ يَرَى الْوَاجِدُ مُضْطَرًّا بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهُوَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ نِصَابٌ مُعَيَّنٌ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا رَغِيفًا وَرَأَى مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، وَلَيْسَ الْمُضْطَرُّ وَحْدُهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ، بَلْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنَ أَنْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ (ذَوِي الْقُرْبَى) وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا احْتَاجَ وَفِي أَقَارِبِهِ غَنِيٌّ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِعَاطِفَةِ الرَّحِمِ، وَمِنَ الْمَغْرُوزِ فِي الْفِطْرَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْلَمُ لِفَاقَةِ ذَوِي رَحِمِهِ وَعَدَمِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا يَأْلَمُ لِفَاقَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ يَهُونُ بِهَوَانِهِمْ وَيَعْتَزُّ بِعِزَّتِهِمْ، فَمَنْ قَطَعَ الرَّحِمَ وَرَضِيَ بِأَنْ يَنْعَمَ وَذَوُو قُرْبَاهُ بَائِسُونَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ، وَبَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، وَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ رَحِمًا كَانَ حَقُّهُ آكَدَ وَصِلَتُهُ أَفْضَلَ (وَالْيَتَامَى) فَإِنَّهُمْ لِمَوْتِ كَافِلِهِمْ تَتَعَلَّقُ كَفَالَتُهُمْ وَكِفَايَتُهُمْ بِأَهْلِ الْوُجْدِ وَالْيَسَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَيْلَا تَسُوءَ حَالُهُمْ، وَتَفْسَدَ تَرْبِيَتُهُمْ فَيَكُونُوا مَصَائِبَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ (وَالْمَسَاكِينَ) أَهْلُ السُّكُونِ وَالْعِفَّةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ ; فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَعَدَ بِهِمُ الْعَجْزُ عَنْ كَسْبِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ لِلرِّضَى بِالْقَلِيلِ عَنْ مَدِّ كَفِّ الذَّلِيلِ وَجَبَتْ مُسَاعَدَتُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ (وَابْنَ السَّبِيلِ) الْمُنْقَطِعُ فِي السَّفَرِ لَا يَتَّصِلُ بِأَهْلٍ وَلَا قَرَابَةٍ حَتَّى كَأَنَّ السَّبِيلَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَرَحِمُهُ وَأَهْلُهُ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ بِمَكَانٍ مِنَ اللُّطْفِ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ سِوَاهُ، وَفِي الْأَمْرِ بِمُوَاسَاتِهِ وَإِعَانَتِهِ فِي سَفَرِهِ تَرْغِيبٌ مِنَ الشَّرْعِ فِي السِّيَاحَةِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ (وَالسَّائِلِينَ) الَّذِينَ تَدْفَعُهُمُ الْحَاجَةُ الْعَارِضَةُ إِلَى تَكَفُّفِ النَّاسِ، وَأَخَّرَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ فَيُعْطِيهِمْ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ لِمُوَاسَاةِ غَيْرِهِ، وَالسُّؤَالُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ أَلَّا يَتَعَدَّاهَا (وَفِي الرِّقَابِ) أَيْ: فِي تَحْرِيرِهَا وَعِتْقِهَا وَهُوَ يَشْمَلُ ابْتِيَاعَ الْأَرِقَّاءِ وَعِتْقِهِمْ وَإِعَانَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِمْ وَمُسَاعَدَةَ الْأَسْرَى عَلَى الِافْتِدَاءِ، وَفِي جَعْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَذْلِ حَقًّا وَاجِبًا فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى رَغْبَةِ الشَّرِيعَةِ فِي فَكِّ الرِّقَابِ وَاعْتِبَارِهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِيَكُونَ حُرًّا إِلَّا فِي أَحْوَالٍ عَارِضَةٍ تَقْضِي الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْأَسِيرُ رَقِيقًا، وَأَخَّرَ هَذَا عَنْ كُلِّ مَا سَبَقَهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ قَدْ تَكُونُ لِحِفْظِ الْحَيَاةِ وَحَاجَةُ الرَّقِيقِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ حَاجَةٌ إِلَى الْكَمَالِ. وَمَشْرُوعِيَّةُ الْبَذْلِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ لَا تَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ، وَلَا بِامْتِلَاكِ نِصَابٍ مَحْدُودٍ، وَلَا بِكَوْنِ الْمَبْذُولِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَمْلِكُ كَكَوْنِهِ عُشْرًا أَوْ رُبْعَ الْعُشْرِ

أَوْ عُشْرَ الْعُشْرِ مَثَلًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ بِالْإِحْسَانِ مَوْكُولٌ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْمُعْطِي وَحَالَةِ الْمُعْطَى. وَوِقَايَةُ الْإِنْسَانِ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَقْدِيرَ لَهُ. وَقَدْ أَغْفَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ هَذِهِ الْحُقُوقَ الْعَامَّةَ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَاةِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُعْتَدِلَةِ الشَّرِيفَةِ، فَلَا يَكَادُونَ يَبْذُلُونَ شَيْئًا لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ لِبَعْضِ السَّائِلِينَ، وَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ النَّاسِ اسْتِحْقَاقًا ; لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً وَأَكْثَرُهُمْ وَاجِدُونَ، وَلَوْ أَقَامُوهَا لَكَانَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَايِشِهِمْ خَيْرًا مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَتَصَوَّرُ الْبَاحِثُونَ مِنْ مَذَاهِبِ الِاشْتِرَاكِيِّينَ وَالْمَالِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أَيْ: أَدَّاهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَقْوَمِهِ وَأَدَامَهَا، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الرُّوحَانِيُّ الرَّكِينُ لِلْبِرِّ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُكَرِّرُ الْقُرْآنُ الْمُطَالَبَةَ بِهَا لَا تَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَقْوَالِهَا فَقَطْ. وَإِنْ جَاءَ بِهَا الْمُصَلِّي تَامَّةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ ; لِأَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ هُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتُهَا، وَإِنَّمَا الْبِرُّ وَالتَّقْوَى فِي سِرِّ الصَّلَاةِ وَرُوحِهَا الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَلْبِ الطِّبَاعِ السَّقِيمَةِ، وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِالْغَرَائِزِ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) فَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ تَطَهَّرَتْ نَفْسُهُ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ، وَمِنَ الْبُخْلِ وَالْمَنْعِ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ، وَكَانَ شُجَاعًا كَرِيمًا قَوِيَّ الْعَزِيمَةِ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ لَا يَرْضَى بِالضَّيْمِ، وَلَا يَخْشَى فِي الْحَقِّ الْعَذْلَ وَاللَّوْمَ ; لِأَنَّهُ بِمُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي صَلَاتِهِ، وَاسْتِشْعَارِهِ عَظَمَتَهُ وَسُلْطَانَهُ الْأَعْلَى فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ يَكُونُ اللهُ تَعَالَى غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يُبَالِي مَا لَقِيَ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا أَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَصُورَةُ الصَّلَاةِ لَا تُعْطِي صَاحِبَهَا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا مِنَ الْبِرِّ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ السَّنَاءِ الْإِلَهِيِّ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى تَوَجُّهِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي ذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ، وَهُوَ رُوحُهَا وَسِرُّهَا الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا نُعِيدُ التَّذْكِيرَ كُلَّمَا أَعَادَهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ. (وَآتَى الزَّكَاةَ) الْمَفْرُوضَةَ ; أَيْ: أَعْطَاهَا مُسْتَحِقِّيهَا. قَلَّمَا تُذْكَرُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَيُقْرَنُ بِهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَالصَّلَاةُ مُهَذِّبَةٌ لِلرُّوحِ، وَالْمَالُ - كَمَا يَقُولُونَ - قَرِينُ الرُّوحِ، فَبَذْلُهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ رُكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ، وَآيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ عَلَى مُحَارَبَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ إِلَّا تَقْلِيدَ بَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْمَيِّتُونَ، وَنَشَرَهَا الرُّؤَسَاءُ وَالْحَاكِمُونَ، يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ عَمْدًا

بِاسْمِ الدِّينِ، بِمَا تُعَلِّمُهُمْ هَذِهِ الْكُتُبُ مِنَ الْحِيَلِ الَّتِي تُمْنَعُ بِهَا الْحُقُوقُ الثَّابِتَةُ، وَآكَدُهَا الزَّكَاةُ الَّتِي ذَكَرَ الْكِتَابُ مَصَارِفَهَا الثَّمَانِيَةَ، وَقَضَى بِأَنْ تَبْقَى بِبَقَائِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَيُسَمُّونَهَا حِيَلًا شَرْعِيَّةً، وَمَا نِسْبَتُهَا إِلَى الشَّرْعِ إِلَّا كَنِسْبَةِ مِنْجَلِ الْحَاصِدِ إِلَى الزَّرْعِ، أَوِ الْعَاصِفَةِ فِي الْقَلْعِ. فَمَانِعُ الزَّكَاةِ يَهْدِمُ فِي الظَّاهِرِ رُكْنًا مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَيَنْقُضُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ تَحْتِهِ أَسَاسَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ فَرِيضَتِهِ، وَإِزَالَةِ حِكْمَتِهِ، فَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ، وَلَمْ يُذْعِنْ لِأَمْرِهِ، بَلْ فَسُقَ عَنْ أَمْرِ مَوْلَاهُ، وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَتَجَرَّأَ عَلَى تَبْدِيلِ كَلِمَاتِ اللهِ، فَنَسَخَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ مِنْ كِتَابِهِ الْآمِرَةَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّهَا آيَةُ الْإِيمَانِ وَصَلَاحِ الْعُمْرَانِ، ثُمَّ هُوَ يُسَمِّي هَذَا الْحِنْثَ الْعَظِيمَ، وَالْجُرْمَ الْكَبِيرَ حُكْمًا مَشْرُوعًا، وَدِينًا مَتْبُوعًا وَوَاللهِ إِنَّ نِسْبَةَ هَذَا السَّفَهِ إِلَى الشَّرْعِ لَأَدَلُّ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ، إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَشْرَعَ اللهُ لَنَا شَيْئًا وَيُؤَكِّدَهُ عَلَيْنَا سَبْعِينَ مَرَّةً ثُمَّ يَرْضَى بِأَنْ نَحْتَالَ عَلَيْهِ وَنُخَادِعَهُ فِي تَرْكِهِ، وَنَزْعُمَ أَنَّهُ - تَقَدَّسَ وَتَعَالَى - أَذِنَ لَنَا بِهَذِهِ الْمُخَادَعَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ! إِذَنْ لِمَاذَا فَرَضَ وَأَوْجَبَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ، وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ، وَحَكَمَ وَأَحْكَمَ؟ هَلْ كَانَ ذَلِكَ لَغْوًا مِنَ الْكَلَامِ، وَجَهْلًا بِحِكْمَةِ وَضْعِ الْأَحْكَامِ؟ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحِيَلَ الشَّيْطَانِيَّةَ لَمْ يَجِدْ لَهَا وَاضِعُوهَا شُبْهَةً مِنْ تَحْرِيفِ كِتَابِ اللهِ وَتَأْوِيلِ آيَاتِهِ كَمَا هِيَ طَرِيقَتُهُمْ فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَأْيِيدِ آرَائِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ الْحَوْلَ وَالنِّصَابَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَمَقْصِدُهُ وَهُوَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَكَوْنُهُ آيَةَ الْإِيمَانِ، وَتَرْكُهُ آيَةُ النِّفَاقِ وَالْكُفْرَانِ. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ بِالْهُدَى وَالْعَمَلِ كَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً لِإِبْطَالِ الْكِتَابِ وَالْهُرُوبِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَخْذُولِينَ لَمَّا تَرَكُوا الِاهْتِدَاءَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَجَعَلُوا عِبَارَاتِ الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفُوهَا هِيَ مَآخِذَ الدِّينِ وَيَنَابِيعَهُ صَارُوا يَحْتَالُونَ فِي تَطْبِيقِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَارَاتِ الْمَخْلُوقَةِ، فَيَكْتُبُ أَحَدُهُمْ مَثَلًا: تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى مَالِكِ النِّصَابِ إِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَهُوَ مَالِكٌ لَهُ، ثُمَّ يَعْمَدُ هُوَ وَغَيْرُهُ إِلَى تَطْبِيقِ دِينِهِ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَيَهَبُ مَالَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَلَوْ مَعَ الِاشْتِرَاطِ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَهُ لَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِحَسَبِ نَصِّ الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ فِقْهًا، وَيَدُكُّ بِكَلِمَةِ كِتَابِهِ الْمَخْلُوقِ كِتَابَ اللهِ الْقَدِيمَ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الْحَكِيمِ، وَحِكْمَةَ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَيَزْعُمُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَقِيهٌ فِي الدِّينِ، يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَاتِّبَاعُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَرُبَّمَا يَتَبَجَّحُ إِذَا سَمِعَ أَوْ قَرَأَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ ((وَيُلْهِمُهُ رُشْدَهُ)) . فَيَا أَهْلَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُفْسِدْهَا فِقْهُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ عَلَى اللهِ لِهَدْمِ دِينِهِ أَفْتُونَا:

هَلِ الْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ يَنْطَبِقُ عَلَى أُصُولِ الْبِرِّ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى الْفِقْهِ وَالرُّشْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ فِي حَدِيثِهِ هَذَا، أَمْ هَذِهِ فِتْنَةٌ مِنْ فِتَنِ التَّقْلِيدِ وَأَخْذِ الدِّينِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُحْدَثَةِ دُونَ كِتَابِ اللهِ الْمَجِيدِ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْبِرِّ فِي الْأَعْمَالِ إِلَى الْبِرِّ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ أَهَمُّ أُصُولِ الْبِرِّ وَهُوَ الْوَفَاءُ وَالصَّبْرُ بِضُرُوبِهِ الْمُبَيَّنَةِ بَعْدُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَعْمَالَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَالْأَخْلَاقَ بِصِيغَةِ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَفْعَالٌ، وَالْأَخْلَاقَ صِفَاتٌ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْفَى وَصَبْرَ تَكَلُّفًا لَا يَكُونُ بَارًّا حَتَّى يَصِيرَ الْوَفَاءُ وَالصَّبْرُ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَلَوْ بِتَكْرَارِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّلِ، فَقَدْ وَرَدَ ((الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ)) وَقَدَّمَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ فِي النُّفُوسِ، وَلَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ وَبَذْلُ الْمَالِ، فَلَا أَعَوْنَ مِنْهُمَا عَلَى الْوَفَاءِ وَالصَّبْرِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْعَهْدُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الْمَرْءُ لِآخَرَ، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَا عَاهَدَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ اللهَ بِإِيمَانِهِمْ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ لِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ دِينُهُ، وَيُذْكَرُ الْعَهْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرًا وَيُرَادُ بِهِ فِي الْغَالِبِ مَا يُعَاهِدُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَذَا الْعَهْدِ أَلَّا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ. وَفِي مَعْنَى الْعُهُودِ الْعُقُودُ وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْوَفَاءِ بِهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ مَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ الثَّابِتِ عِنْدَهُ، وَلِقَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا الْأَمْرُ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَهُوَ مَعْقُولُ الْفَائِدَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ: إِنَّ كُلَّ الْتِزَامٍ يُخَالِفُ أُصُولَ الْقَوَانِينِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاهِدَ الْإِنْسَانُ أَحَدًا أَوْ يُعَاقِدَهُ عَلَى أَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدِّينِ لَا بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ وَلَا بِنِيَّةِ الْغَدْرِ، وَالنَّقْضُ الْأَوَّلُ مَعْصِيَةٌ، وَالثَّانِي مَعْصِيَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ ; لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْغَدْرِ وَالْغِشِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْبِرُّ فِي الْإِيفَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُوفِي مِنْ نَفْسِهِ بِدُونِ إِلْزَامِ حَاكِمٍ يَقَعُ أَوْ يُتَوَقَّعُ إِذَا هُوَ لَمْ يُوفِ، أَوْ خَوْفِ أَيِّ جَزَاءٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ، فَمَنْ أَوْفَى خَوْفًا مِنْ إِهَانَةٍ تُصِيبُهُ أَوْ ذَمٍّ يَلْحَقُ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ بَارٍّ، وَلَا هُوَ مِنَ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْإِيفَاءَ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ مِنْ أَهَمِّ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى لِنِظَامِ الْمَعِيشَةِ وَالْعُمْرَانِ، وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ وَسَائِلِهِ - وَالزَّكَاةُ فَرْعٌ مِنْهُ فِي وَجْهٍ آخَرَ - فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ - وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ - لِنُؤَدِّبَ بِهَا نُفُوسَنَا فَنَعِيشَ فِي الدُّنْيَا عِيشَةً رَاضِيَةً، وَنَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ عِيشَةَ الْآخِرَةِ الْمَرْضِيَّةَ ; إِذِ الْمُصَلِّي أَجْدَرُ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ هُمْ عِيَالُ اللهِ بِمَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ فِيهَا مِنَ الشُّعُورِ بِسُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَعُمُومِ هَذَا السُّلْطَانِ وَالْإِحْسَانِ لَهُ وَلِلنَّاسِ كَافَّةً، وَالْغَدْرُ

وَالْإِخْلَافُ مِنَ الذُّنُوبِ الْهَادِمَةِ لِلنِّظَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْنِيَةِ لِلْأُمَمِ. وَمَا فَقَدَتْ أُمَّةٌ الْوَفَاءَ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْأَمَانَةِ وَقِوَامُ الصِّدْقِ إِلَّا وَحَلَّ بِهَا الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ، وَلَا يُعَجِّلُ اللهُ الِانْتِقَامَ مِنَ الْأُمَمِ لِذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ يَفْشُو فِيهَا كَذَنْبِ الْإِخْلَالِ بِالْعَهْدِ وَالْإِخْلَافِ بِالْوَعْدِ، وَانْظُرْ حَالَ أُمَّةٍ اسْتَهَانَتْ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُهُودِ وَلَمْ تُبَالِ بِالْتِزَامِ الْعُقُودِ تَرَ كَيْفَ حَلَّ بِهَا عَذَابُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِذْلَالِ، وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَضَيَاعِ الثِّقَةِ بَيْنَهَا حَتَّى فِي الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ، فَهُمْ يَعِيشُونَ عِيشَةَ الْأَفْرَادِ لَا عِيشَةَ الْأُمَمِ: صُوَرٌ مُتَحَرِّكَةٌ، وَوُحُوشٌ مُفْتَرِسَةٌ يَنْتَظِرُ كُلُّ وَاحِدٍ وَثْبَةَ الْآخَرِ عَلَيْهِ، إِذَا أَمْكَنَ لِيَدِهِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَضْطَرُّ كُلُّ وَاحِدٍ إِذَا عَاقَدَ أَيَّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ، وَيَحْتَرِسَ مِنْ غَدْرِهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ، فَلَا تَعَاوُنَ وَلَا تَنَاصُرَ، وَلَا تَعَاضُدَ وَلَا تَآزُرَ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا بِهَذِهِ الْمَزَايَا التَّحَاسُدَ وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّعَادِيَ وَالتَّعَارُضَ، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وَلَكِنَّهُمْ أَذِلَّاءُ لِلْعَبِيدِ (قَالَ) : وَقَدْ أَحْصَيْتُ فِي سَنَةٍ قَضَايَا التَّخَاصُمِ فِي مَحْكَمَةِ بَنْهَا فَأَلْفَيْتُ أَنَّ خَمْسًا وَسَبْعِينَ قَضِيَّةً فِي الْمِائَةِ مِنْهَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ فِي النَّاسِ وَفَاءٌ لَسَلِمُوا مِنْ كُلِّ هَذَا الْبَلَاءِ. (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) قَالُوا: إِنَّ الْبَأْسَاءَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ، أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ، وَفَسَّرُوا الْبَأْسَ بِاشْتِدَادِ الْحَرْبِ، وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ وَفِي غَيْرِهَا، وَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ مَنْ صَبَرَ فِيهَا كَانَ فِي غَيْرِهَا أَصْبَرَ، لِمَا فِي احْتِمَالِهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الْقَلْبِ ; فَإِنَّ الْفَقْرَ إِذَا اشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُ يَضِيقُ لَهُ الذَّرْعُ، وَيَكَادُ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَالضُّرُّ إِذَا بَرَّحَ بِالْبَدَنِ يُضْعِفُ الْأَخْلَاقَ حَتَّى لَا يَكَادَ الْمَرْءُ يَحْتَمِلُ مَا كَانَ يُسَرُّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، فَمَا بَالُكَ بِالْمَرَضِ وَآلَامِهِ وَمَا يَطْرَأُ فِي أَثْنَائِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوءُ النَّفْسَ، وَأَمَّا حَالَةُ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْهَلَكَةِ بِخَوْضِ غَمَرَاتِ الْمَنِيَّةِ يُطْلَبُ فِيهَا مِنَ الصَّبْرِ مَا لَا يُطْلَبُ فِي غَيْرِهَا ; لِأَنَّ الظَّفَرَ مَقْرُونٌ بِالصَّبْرِ، وَبِالظَّفَرِ حِفْظُ الْحَقِّ الَّذِي يُنَاضِلُ مَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ دُونَهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَيُحَاوِلُ إِظْهَارَهُ وَيَبْغِي انْتِشَارَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالصَّبْرِ حِينَ الْبَأْسِ، لَا الْمُحَارِبُ لِطَمَعِ الدُّنْيَا وَأَهْوَاءِ الْمُلُوكِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا بِالْكُفْرِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّبْرَ فِي حِينِ الْبَأْسِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْبِرِّ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِإِرْشَادِ هَذِهِ النُّصُوصِ أَعْظَمَ أُمَّةٍ حَرْبِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ فَمَا زَالَ اسْتِبْدَادُ الْحُكَّامِ يُفْسِدُ مِنْ بَأْسِهِمْ، وَتَرْكُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَفُلُّ مِنْ غَرْبِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهُمُ الْأُمَمُ كُلُّهَا فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ، وَحَتَّى صِرْنَا نَسْمَعُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ: فَرَّ لَعَنَهُ اللهُ، خَيْرُ مَنْ مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَنِ الصَّبْرِ وَأَدْنَاهُمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ وَالْفَزَعِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ،

فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ وَالْفُرُوسِيَّةَ وَالرِّمَايَةَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ الَّتِي تُزْرِي بِالْعَالِمِ وَتَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَقْرَءُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ الْمُرَاهَنَةَ - وَهِيَ مِنَ الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ - فِي السِّبَاقَةِ وَالرِّمَايَةِ خَاصَّةً عِنَايَةً بِهِمَا وَتَرْغِيبًا لِلْأُمَّةِ فِيهِمَا فَهَذَا الْبُعْدُ عَنِ الدِّينِ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ، هُوَ الَّذِي قَالَ الْجَاحِظُ: إِنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ. وَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا حُكْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْبَرَرَةِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ. قَالَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أَيْ: أُولَئِكَ الْأَبْرَارُ الرَّاسِخُونَ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَةِ وَالْمُنْفِقُونَ لِلْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ السِّتَّةِ، وَالْمُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمُؤْتُونَ لِلزَّكَاةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ أُمُورِ الْمِلَّةِ الْمَالِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالْمُوفُونَ بِعُهُودِهِمُ الثَّلَاثَةِ: الدِّينِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَالصَّابِرُونَ فِي مَوَاقِفِ الشِّدَّةِ الثَّلَاثَةِ - هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ دُونَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الَّذِينَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّقْوَى أَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ، وَالتَّقْوَى: أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ سَخَطِ اللهِ وِقَايَةً بِأَنْ تَتَحَامَى أَسْبَابَ خِذْلَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . ذَكَرَ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ مُحَتَّمًا عِنْدَ الْيَهُودِ، وَأَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ مُحَتَّمَةً عِنْدَ النَّصَارَى، وَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ وَسَطًا يَفْرِضُ الْقِصَاصَ إِذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَيُجِيزُ الدِّيَةَ إِذَا عَفَوْا، وَقَدْ أَقَرَّهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا كَانَ حَتْمًا عِنْدَ الْيَهُودِ: كَمَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ التَّثْنِيَةِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنِ الدِّيَةَ كَانَتْ حَتْمًا عِنْدَ النَّصَارَى ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ شَيْءٌ يُحَتِّمُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ وَصَايَا التَّسَاهُلِ وَالْعَفْوِ وَجَزَاءِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الدِّيَةِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجَزَاءِ يُنَافِي هَذِهِ الْوَصَايَا.

وَإِذَا نَظَرْنَا فِي أَعْمَالِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَشَرَائِعِهِمْ فِي الْقَتْلِ نَجِدُ الْقُرْآنَ وَسَطًا حَقِيقِيًّا لَا بَيْنَ مَا نُقِلَ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَطْ بَلْ بَيْنَ مَجْمُوعِ آرَاءِ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَكَّمُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْقَبَائِلِ وَضَعْفِهَا، فَرُبَّ حُرٍّ كَانَ يُقْتَلُ مِنْ قَبِيلَةٍ فَلَا تَرْضَى قَبِيلَتُهُ بِأَخْذِ الْقَاتِلِ بِهِ، بَلْ تَطْلُبُ بِهِ رَئِيسَهَا، وَأَحْيَانًا كَانُوا يَطْلُبُونَ بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً وَبِالْأُنْثَى ذَكَرًا، وَبِالْعَبْدِ حُرًّا، فَإِنْ أُجِيبُوا وَإِلَّا قَاتَلُوا قَبِيلَةَ الْقَاتِلِ وَسَفَكُوا دِمَاءً كَثِيرَةً، وَهَذَا إِفْرَاطٌ وَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ الْخَشِنَةِ، وَفَرْضُ التَّوْرَاةِ قَتْلَ الْقَاتِلِ إِصْلَاحٌ فِي هَذَا الظُّلْمِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الْقَوَانِينِ فِي زَمَانِنَا هَذَا مَنْ يُنْكِرُ الْمُعَاقَبَةَ بِالْقَتْلِ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ الْقَسْوَةِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ فِي الْبَشَرِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُجْرِمَ الَّذِي يَسْفِكُ الدَّمَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ تَرْبِيَةً لَا انْتِقَامًا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ، وَيُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْجَرِيمَةُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْإِقْرَارِ، بِأَنْ ثَبَتَتْ بِالْقَرَائِنِ أَوْ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِذَا عَلَّمَتِ النَّاسَ التَّرَاحُمَ فِي الْعُقُوبَاتِ فَذَلِكَ أَحْسَنُ تَرْبِيَةً لَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مَرْضَى الْعُقُولِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعُوا فِي مُسْتَشْفَيَاتِ الْأَمْرَاضِ الْعَقْلِيَّةِ وَيُعَالَجُوا فِيهَا إِلَى أَنْ يَبْرَءُوا. وَإِذَا دَقَّقْنَا النَّظَرَ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ نَرَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُشَرِّعُوا أَحْكَامًا خَاصَّةً بِقَوْمٍ تَعَلَّمُوا وَتَرَبَّوْا عَلَى الطُّرُقِ الْحَدِيثَةِ وَسِيسُوا بِالنِّظَامِ وَالْحُكْمِ حَتَّى لَا سَبِيلَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَثْأَرُوا لَهُ مِنَ الْقَاتِلِ وَلَا أَنْ يَسْفِكُوا لِأَجْلِهِ دِمَاءً بَرِيئَةً، وَحَتَّى يُؤْمَنَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ بُيُوتِ الْقَاتِلِينَ وَبُيُوتِ الْمَقْتُولِينَ، وَوُجِدَتْ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ وَسَائِلِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَالَجَةِ - لَا أَحْكَامًا عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَمَعَ هَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ يَغْتَرُّونَ بِآرَائِهِمْ وَيَرَوْنَهَا شُبْهَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا النَّافِذُ الْبَصِيرَةِ الْعَارِفُ بِمَصَالِحِ الْأُمَمِ الَّذِي يَزِنُ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ بِمِيزَانِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَا بِمِيزَانِ الْوِجْدَانِ الشَّخْصِيِّ الْخَاصِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَبِّي الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ وَالْقَبَائِلَ كُلَّهَا، وَأَنَّ تَرْكَهُ بِالْمَرَّةِ يُغْرِي الْأَشْقِيَاءَ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْحَبْسِ وَالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبَ عَلَى أَهْلِهَا التَّرَاحُمُ أَوِ التَّرَفُ وَالِانْغِمَاسُ فِي النَّعِيمِ كَبَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ

178

الْبِلَادِ وَكُلِّ الشُّعُوبِ، بَلْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي غَيْرِهَا مَنْ يُحَبِّبُ إِلَيْهِ الْجَرَائِمَ أَوْ يُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ كَوْنُ عُقُوبَتِهَا السِّجْنَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا مِنْ بَيْتِهِ، وَإِنَّ فِي مِصْرَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مَنْ يُسَمِّي السِّجْنَ نُزُلًا أَوْ فُنْدُقًا، وَسَمِعْتُ أَنَا غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورِيَةَ يَقُولُ: إِذَا فَعَلَ فُلَانٌ كَذَا فَإِنَّنِي أَقْتُلُهُ وَأُقِيمُ فِي الْقَلْعَةِ عَشْرَ سِنِينَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ غَالِبًا بِالسِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَلْعَةِ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، وَيَعْفُو السُّلْطَانُ فِي عِيدِ جُلُوسِهِ عَمَّنْ تَمَّ لَهُ ثُلُثَا الْمُدَّةِ الْمَحْكُومِ بِهَا عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ، وَاشْتُهِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُجْرِمِينَ فِي مِصْرَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بَعْضَ السُّجُونِ الْعَصْرِيَّةِ ((لُوكَانْدَةَ كُولَسَ)) بِالْإِضَافَةِ إِلَى كُولَسَ بَاشَا مُدِيرِ السُّجُونِ الَّذِي أُنْشِئَتْ فِي عَهْدِهِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسْرِقُ كَذَا أَوْ أَضْرِبُ فُلَانًا وَأَشْتُو فِي لُوكَانْدَةِ كُولَسَ فَإِنَّ الشِّتَاءَ فِيهَا أَرْحَمُ وَأَنْعَمُ مِنَ الشِّتَاءِ فِي بَيْتِنَا أَوْ فِي الشَّوَارِعِ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى الْمُجْرِمِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَقْتُلَ لِأَنَّ عِقَابَ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ السُّجُونِ - وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ - أَهْوَنُ مِنْ عِيشَتِهِ الشَّقِيَّةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي أَصْحَابِ الثَّارَاتِ الَّتِي لَا تَمُوتُ؟ - فَقَتْلُ الْقَاتِلِ هُوَ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَقَدْ بَالَغَ فِي الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ مُعَدِّلُ الْقَانُونِ الْمِصْرِيِّ حَيْثُ أَجَازَ الْحُكْمَ بِالْإِعْدَامِ إِذَا وُجِدَتِ الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ عَلَى ثُبُوتِ التُّهْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُجِيزُهُ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودِ الرُّؤْيَةِ. وَقَدْ تَقَعُ فِي كُلِّ بِلَادٍ صُوَرٌ مِنْ جَرَائِمِ الْقَتْلِ يَكُونُ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ ضَارًّا وَتَرْكُهُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، كَأَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ أَخَاهُ أَوْ أَحَدَ أَقَارِبِهِ لِعَارِضٍ دَفَعَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْعَائِلُ لِذَلِكَ الْبَيْتِ، وَإِذَا قُتِلَ يَفْقِدُونَ بِقَتْلِهِ الْمُعِينَ وَالظَّهِيرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ أَحْيَانًا مَفَاسِدُ وَمَضَارُّ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَقْتُولِ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَدَمَ قَتْلِهِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ لَهُمْ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ تُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ حَتْمًا لَازِمًا فِي كُلِّ حَالٍ، بَلْ يَكُونُ هُوَ الْأَصْلَ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ جَائِزًا بِرِضَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَعَفْوِهِمْ، فَإِذَا ارْتَقَتْ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ فِي شَعْبٍ أَوْ قَبِيلٍ أَوْ بَلَدٍ إِلَى أَنْ صَارَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ يَسْتَنْكِرُونَ الْقَتْلَ وَيَرَوْنَ الْعَفْوَ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ فَذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَمْنَعُهُمْ مِنْهُ بَلْ تُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ فِي الْقِصَاصِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمَا كَانَ لِيَرْتَقِيَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عِلْمُ الْإِنْسَانِ. قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الْقِصَاصُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يُفِيدُ الْمُسَاوَاةَ، فَمَعْنَى الْقِصَاصِ هُنَا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ ; لِأَنَّهُ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ مُسَاوٍ لِلْمَقْتُولِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ شَرْعِيَّةُ الْقِصَاصِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ وَإِبْطَالُ ذَلِكَ الِامْتِيَازِ الَّذِي لِلْأَقْوِيَاءِ عَلَى الضُّعَفَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) أَيْ: إِنَّ هَذَا الْقِصَاصَ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا جَوْرَ، فَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ حُرًّا يُقْتَلُ هُوَ بِهِ لَا غَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الْقَبِيلَةِ، وَلَا أَكْثَرُ

مِنْ وَاحِدٍ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا يُقْتَلُ هُوَ بِهِ لَا سَيِّدُهُ، وَلَا أَحَدُ الْأَحْرَارِ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا قَتَلَتْ تُقْتَلُ هِيَ، وَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ فِدَاءً عَنْهَا، خِلَافًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسِهِ أَيًّا كَانَ، لَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الثَّأْرِ يُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ مَفْهُومَ اللَّفْظِ بِحَدِّ ذَاتِهِ وَسِيَاقِ مُقَابَلَةِ الْأَصْنَافِ بِالْأَصْنَافِ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَرِيقٌ بِفَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَقَدْ جَرَى الْعَمَلُ مِنْ زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآنِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَيِّدَهُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ مُطْلَقًا، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ أَضْعَفُ، وَلِهَذِهِ الْخِلَافَاتِ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ نَسْخًا. وَإِنَّمَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مِنَ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ وَعَدَمِهِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ. فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِلَخْ، وَأَمَّا كَوْنُ الْحُرِّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَالرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ الْقِصَاصِ وَلَا يُعَارِضُهُ مَفْهُومُ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمُخَالِفَ لِلْمَنْطُوقِ، وَبَعْضَهُمْ يَعْتَبِرُهُ بِشَرْطٍ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لِمَا ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مُنْطَبِقًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ دِمَاءٌ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْآخَرِ فَأَقْسَمُوا لَنَقْتُلَنَّ الْحُرَّ مِنْكُمْ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَحَاكَمُوا إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَبَارَءُوا. وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَلَّا يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، كَمَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ يُعْتَبَرُ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّخْصِيصِ غَرَضٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ اهـ. وَالْبَيْضَاوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْكَافِرُ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُبَيِّنِ لِإِجْمَالِ الْآيَةِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهَا السَّيِّدَ يَقْتُلُ عَبْدَهُ، قَالُوا: لَا يُقْتَلُ بِهِ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إِلَّا عَنِ النَّخَعِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَرِّرَ هَذَا التَّعْزِيرَ بِشِدَّةٍ تَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِالدَّمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ، فَإِذَا عُهِدَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْقَسْوَةِ مَا يَقْتُلُونَ بِهِ عَبِيدَهُمْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ السَّيِّدَ بِعَبْدِهِ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا الْوَالِدَيْنِ فَقَالُوا: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَّلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْحُدُودَ تُوضَعُ حَيْثُ

تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ لِلْجِنَايَةِ لِتَكُونَ رَادِعَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْفِطْرَةِ بِأَنَّ قُلُوبَ الْأُصُولِ مَجْبُولَةٌ مِنْ طِينَةِ الشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ عَلَى الْفُرُوعِ ; حَتَّى لَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَقْسُو الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ، وَقَلَّمَا يَقْسُو وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ قَوِيٍّ كَعُقُوقٍ شَدِيدٍ أَوْ فَسَادٍ فِي أَخْلَاقِ الْوَلَدِ جَنَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَالْإِفْرَاطِ فِي حُبِّ الذَّاتِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقَسْوَةَ لَا تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ إِلَّا لِأَمْرٍ يَكَادُ يَكُونُ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ، كَعَارِضِ جُنُونٍ مِنَ الْوَالِدِ، أَوْ إِيذَاءٍ لَا يُطَاقُ مِنَ الْوَلَدِ - وَلَمَّا كَانَ هَذَا شَاذًّا نَادِرًا جُعِلَ كَالْعَدَمِ فَلَمْ يُلَاحَظْ فِي وَضْعِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّوَاذِّ الَّتِي يَنْدُرُ أَنْ تَقَعَ، وَمَعَ هَذَا يُعَزَّرُ مَنْ يَقْتُلُ وَلَدَهُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ لَائِقًا بِحَالِهِ وَمُرَبِّيًا لِأَمْثَالِهِ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ هَذَا الشُّذُوذِ فِي الْوَالِدَيْنِ طُغْيَانُ الْحُكْمِ الِاسْتِبْدَادِيِّ وَجُنُونُ الْعِشْقِ ; فَكَثِيرًا مَا قَتَلَ الْمُلُوكُ أَوْلَادَهُمْ، وَكَانَتْ سُنَّةُ سَلَاطِينِ آلِ عُثْمَانَ أَنْ تُسَلِّمَ الْقَوَابِلُ أَبْنَاءَ أُسْرَتِهِمْ كُلَّهُمْ لِلْقَتْلِ عَقِبَ الْوِلَادَةِ إِلَّا مَنْ يُسَمَّى وَلِيَّ الْعَهْدِ الْوَارِثَ لِلسَّلْطَنَةِ، وَيَلِي ذَلِكَ قَتْلُ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى الْأُمَّهَاتِ بِثَوَرَانِ جُنُونِ الْعِشْقِ. وَقَدِ اضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْقِصَاصِ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلَ وَلَا الْمَقْتُولَ وَلَا وَلِيَّ الدَّمِ وَلَا عَصَبَةَ الْقَاتِلِ وَلَا سَائِرَ النَّاسِ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) الْحُكَّامُ خَاصَّةً. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا أَوْرَدَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ بَعْضِهِمْ: وَهَذِهِ مُشَاغَبَةٌ وَتَشْكِيكٌ كَمُشَاغَبَاتِ الرَّازِيِّ وَشُكُوكِهِ وَالْخِطَابُ مَفْهُومٌ بِالْبَدَاهَةِ، وَالْآيَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مُخَاطَبَةِ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ وَالْمَصَالِحِ ; لِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ مُتَكَافِلَةً وَمُطَالَبَةً بِتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا، وَبِالْخُضُوعِ لِأَحْكَامِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْيَهُودِ بِإِسْنَادِ مَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمْ إِلَيْهِمْ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأُمَّةَ فِي هَدْيِ الْقُرْآنِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ يُخَاطَبُ الْبَعْضُ مِنْهَا بِالْكُلِّ وَالْكُلُّ بِالْبَعْضِ، كَمَا يُقَالُ لِلشَّخْصِ جَنَيْتَ وَجَنَتْ يَدُكَ، وَأَخْطَأْتَ وَأَخْطَأَ سَمْعُكَ أَوْ رَأْيُكَ، فَفِي هَذَا الْخِطَابِ بِالْقِصَاصِ يَدْخُلُ الْقَاتِلُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْخُضُوعِ لِحُكْمِ اللهِ، وَيَدْخُلُ الْحَاكِمُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّنْفِيذِ، وَيَدْخُلُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُسَاعَدَةِ الشَّرْعِ وَتَأْيِيدِهِ. وَمُرَاقَبَةِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ لِلْحُكْمِ بِهِ وَتَنْفِيذِهِ. اهـ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ إِفَادَةَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ سُلْطَةَ الْحُكْمِ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا، كُلٌّ يَقُومُ بِقِسْطِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي التَّشْرِيعِ بِالشُّورَى، وَالتَّنْفِيذِ لِلْأَحْكَامِ، وَالْخُضُوعِ لَهَا بِشُرُوطِهَا. بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَهُوَ أَصْلُ الْعَدْلِ ذَكَرَ أَمْرَ الْعَفْوِ وَهُوَ مُقْتَضَى التَّرَاحُمِ وَالْفَضْلِ، فَقَالَ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) إِلَخْ. أَيْ: فَمَنْ عَفَا لَهُ أَخُوهُ فِي الدِّينِ

مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ فِي الْقِصَاصِ - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ إِنْ تَعَدَّدُوا - وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا يَعْفُو مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذَا الْحَقَّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِوُجُودِهِ، وَيُهَانُونَ بِفَقْدِهِ، وَيُحْرَمُونَ مِنْ عَوْنِهِ وَرِفْدِهِ، فَمَنْ أَزْهَقَ رُوحَهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا إِزْهَاقَ رُوحِهِ، لِمَا تَسْتَفِزُّهُمْ إِلَيْهِ نُعَرَةُ الْقَرَابَةِ وَطَبِيعَةُ الْمَصْلَحَةِ ; فَإِذَا لَمْ يُجَبْ طَلَبُهُمْ، وَلَمْ يَقْتَصَّ الْحَاكِمُ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَالُونَ لِلِانْتِقَامِ، وَيَفْشُو بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ التَّشَاحُنُ وَالْخِصَامُ، وَإِذَا جَاءَ الْعَفْوُ مِنْ جَانِبِهِمْ أُمِنَ الْمَحْذُورُ وَالْفِتْنَةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ اسْتِعْطَافُ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ لَهُمْ، وَاسْتِعْتَابُهُمْ إِيَّاهُمْ بِإِثَارَةِ عَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَأَرِيحِيَّةِ الْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ اللهُ تَعَالَى حَجْبَ الدَّمِ، وَلَيْسَ لِلْحُكُومَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْعَفْوِ إِذَا رَضُوا بِهِ، وَلَا أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالْعَفْوِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ فَتَحْفَظُ قُلُوبَهُمْ، وَتُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ، وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ الِانْتِقَامِ بِأَيْدِيهِمْ - إِذَا قَدَرُوا - فَيَزِيدُ الْبَلَاءُ، وَيَكْثُرُ الِاعْتِدَاءُ، أَوْ يَعِيشُ النَّاسُ فِي تَبَاغُضٍ وَعَدَاءٍ، وَفَوْضَى تُسْتَبَاحُ فِيهَا الدِّمَاءُ. وَعِبَارَةُ الْآيَةِ تُشْعِرُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْعَفْوَ ; وَلِذَلِكَ فَرَضَ اتِّبَاعَ الْعَفْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ يُرَجَّحُ جَانِبُهُ عَلَى الْآخَرِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (شَيْءٌ) هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: عُفِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ بِأَنْ نَالَهُ بَعْضُهُ مِمَّنْ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا وَيُؤَكِّدُهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَافِي بِلَفْظِ الْأَخِ الَّذِي يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَطْعِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ فَاعِلُهُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمُ اسْتِعْمَالُ عُفِيَ مُتَعَدِّيَةً بِاللَّامِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا بِمَعْنَى تَرَكَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عَفَا الشَّيْءَ بِمَعْنَى تَرَكَهُ بَلْ أَعْفَاهُ، وَعَفَا يُعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنْبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (9: 143) وَقَالَ: (عَفَا اللهُ عَنْهَا) (5: 101) فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ مَا فِي الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ يَعْنِي وَلِيَّ الدَّمِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَى بِأَخْذِ الدِّيَةِ قَالَ تَعَالَى: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أَيْ: مَنْ نَالَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعَفْوِ فَالْوَاجِبُ فِي شَأْنِهِ أَوْ قَضِيَّتِهِ تَنْفِيذُ الْعَفْوِ وَثُبُوتُ الدِّيَةِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاتِّبَاعِ الْعَفْوِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ الْحَاكِمِ وَعَلَى الْعَافِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُوا فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يُرْهِقُوا الْقَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، بَلْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدِّيَةَ بِالرِّفْقِ وَالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يَسْتَنْكِرُهُ النَّاسُ، وَعَبَّرَ عَنِ الثَّانِي بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَلَا يَمْطُلَ وَلَا يَنْقُصَ وَلَا يُسِيءَ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ. وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)

(4: 92) هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ مَا قَالُوهُ مِنِ احْتِمَالِ غَيْرِهِ. وَيُؤَكِّدُ رَغْبَةَ الشَّارِعِ فِي الْعَفْوِ امْتِنَانُهُ عَلَيْنَا بِإِجَازَتِهِ وَوَعِيدِهِ لِمَنِ اعْتَدَى، أَمَّا الِامْتِنَانُ بِهِ فَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وَأَيُّ تَخْفِيفٍ وَرُخْصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ حَجْبِ الدَّمِ بِتَجْوِيزِ الْعَفْوِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْهُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَالِ؟ فَهَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ رَغَّبَهَا فِي التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْوَعِيدُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ وَالرِّضَى بِالدِّيَةِ بِأَنِ انْتَقَمَ مِنَ الْقَاتِلِ (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الْمَوْلَى الْعَافِي أَوْ غَيْرِهِ إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ; بَلْ يَقْتُلُهُ الْحَاكِمُ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الْإِمَامِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَرَاهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَا يُؤَيِّدُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَبَيَانٌ لِحِكْمَتِهِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَ الْعَفْوِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْغَدْرِ بَعْدَهُ عِنَايَةً بِهِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْغِيرَ شَأْنِهِ. وَبَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ لِوَضْعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ لِلْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ، بِهَذِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبِتِلْكَ يُعْرَفُ الْعَدْلُ وَمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصَالِحِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْعَثَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَأَدْعَى إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ، وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِيهَا أَنْ جَعَلَ فِيهَا الضِّدَّ مُتَضَمِّنًا لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ فِي الْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ الْقِصَاصُ، وَعَرَّفَ الْقِصَاصَ وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ نَوْعًا مِنَ الْحَيَاةِ عَظِيمًا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُجْهَلُ سِرُّهُ. ثُمَّ إِنَّهَا فِي إِيجَازِهَا قَدِ ارْتَقَتْ أَعْلَى سَمَاءٍ لِلْإِعْجَازِ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ كَلِمَةً فِي مَعْنَاهَا عَنْ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ يَعْجَبُونَ مِنْ إِيجَازِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الطَّاقَةَ لَا تَصِلُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ غَايَتِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. وَإِنَّمَا فُتِنُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَظَنُّوا أَنَّهَا نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْبَيَانُ، وَيُفْصِحَ بِهِ اللِّسَانُ ; لِأَنَّهَا قِيلَتْ قَبْلَهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا لِبُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَوْلِهِمْ: أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ. . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ ((الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ)) أَبْلَغُهَا، وَأَيْنَ هِيَ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ الْعُلْيَا، وَحِكْمَتِهِ الْمُثْلَى؟ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: (فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ; أَيْ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَقَلُّ. (وَثَانِيهَا) أَنَّ قَوْلَهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ،

179

ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَقَوْلُهُ: (فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ مَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِمُطَلَقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَاةَ مُنَكَّرَةً، بَلْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ. (وَثَالِثُهَا) أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ تَكْرِيرٌ لِلَّفْظِ الْقَتْلِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَكْرِيرٌ. (وَرَابِعُهَا) أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ، وَالْآيَةُ تُفِيدُ الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ وَعَنِ الْجَرْحِ وَغَيْرِهِمَا، فَهِيَ أَجْمَعُ لِلْفَوَائِدِ. (وَخَامِسُهَا) أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ فِي قَوْلِهِمْ مَطْلُوبٌ تَبَعًا ; مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ وَهُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. (وَسَادِسُهَا) أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا قَتْلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا النَّافِي لِوُقُوعِ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا ; فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ كَلَامِ الْعَرَبِ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ يَسِيرَيْنِ. وَذَكَرَ السَّيِّدُ الْأُلُوسِيُّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِاخْتِصَارٍ أَدَقَّ وَزَادَ عَلَيْهَا نَحْوَهَا فَقَالَ: (الْأَوَّلُ) قِلَّةُ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الْمَلْفُوظَ هُنَا - أَيْ فِي الْآيَةِ - عَشَرَةُ أَحْرُفٍ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّنْوِينُ حَرْفًا عَلَى حِدَةٍ وَهُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا. (الثَّانِي) الِاطِّرَادُ ; إِذْ فِي كُلِّ قِصَاصٍ حَيَاةٌ وَلَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا أَدْعَى لِلْقَتْلِ. (الثَّالِثُ) مَا فِي تَنْوِينِ (حَيَاةٌ) مِنَ النَّوْعِيَّةِ أَوِ التَّعْظِيمِ. (الرَّابِعُ) صَنْعَةُ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ فَهُوَ مُقَابِلُهَا. (الْخَامِسُ) النَّصُّ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ أَعْنِي ((الْحَيَاةَ)) فَإِنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ إِنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا لَا لِذَاتِهِ. (السَّادِسُ) الْغَرَابَةُ مِنْ حَيْثُ جُعِلَ الشَّيْءُ فِيهِ حَاصِلًا فِي ضِدِّهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَظْرُوفَ إِذَا حَوَاهُ الظَّرْفُ صَانَهُ عَنِ التَّفَرُّقِ، فَكَأَنَّ الْقِصَاصَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَحْمِي الْحَيَاةَ مِنَ الْآفَاتِ. (السَّابِعُ) الْخُلُوُّ عَنِ التَّكْرَارِ مَعَ التَّقَارُبِ ; فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ اسْتِبْشَاعٍ وَلَا يُعَدُّ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ حَتَّى يَكُونَ مُحَسِّنًا. (الثَّامِنُ) عُذُوبَةُ اللَّفْظِ وَسَلَاسَتُهُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ تَوَالِي الْأَسْبَابِ الْخَفِيفَةِ ; إِذْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ حَرْفَانِ مُتَحَرِّكَانِ عَلَى التَّوَالِي إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُنْقِصُ مِنْ سَلَاسَةِ اللَّفْظِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَيْضًا الْخُرُوجُ مِنَ الْفَاءِ إِلَى اللَّامِ أَعْدَلُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ لِبُعْدِ الْهَمْزَةِ مِنَ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَعْدَلُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَلِفِ إِلَى اللَّامِ. (التَّاسِعُ) عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْحَيْثِيَّةِ - أَيِ التَّعْلِيلِ - وَقَوْلُهُمْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا. (الْعَاشِرُ) تَعْرِيفُ الْقِصَاصِ بِلَامِ الْجِنْسِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الضَّرْبِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ لَا يَشْمَلُهُ. (الْحَادِي عَشَرَ) خُلُوُّهُ مَنْ أَفْعَلَ الْمُوهِمِ أَنَّ فِي التَّرْكِ نَفْيًا لِلْقَتْلِ أَيْضًا. (الثَّانِي عَشَرَ) اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ الْحَيَاةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْيٍ اكْتَنَفَهُ قَتْلَانِ وَإِنَّهُ لِمَا يَلِيقُ بِهِمْ. (الثَّالِثَ عَشَرَ) خُلُوُّهُ مِمَّا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ مِنْ كَوْنِ

الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَلَتْ كَلِمَتُهُ، وَبَهَرَتْ آيَتُهُ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ عَلَى كَوْنِهَا أَبْلَغَ، وَكَلِمَتِهَا أَوْجَزَ، قَدْ أَفَادَتْ حُكْمًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَبُلَغَائِهِمْ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْعُقُوبَةِ وَبَيَانُ أَنَّ فِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَصِيَانَةَ النَّاسِ مِنِ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِالْقَتْلِ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ أَوْ يَنْتَفِيَ فَهُوَ يَصْدُقُ بِاعْتِدَاءِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ، وَالْإِسْرَافِ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا لِتَضْعُفَ فَلَا تَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ قَتْلَنَا لِعَدُوِّنَا إِحْيَاءٌ لَنَا، وَتَقْلِيلٌ أَوْ نَفْيٌ لِقَتْلِهِ إِيَّانَا، وَأَيْنَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ؟ فَالْآيَةُ الْحَكِيمَةُ قَرَّرَتْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهَا ; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا يَرْتَدِعُ عَنِ الْقَتْلِ فَيَحْفَظُ الْحَيَاةَ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالدِّيَةِ لَا يَرْدَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ سَفْكِ دَمِ خَصْمِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْإِيقَاعِ بِعَدُوِّهِ، وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَرَاعَةِ الْعِبَارَةِ وَبَلَاغَةِ الْقَوْلِ مَا يَذْهَبُ بِاسِتِبْشَاعِ إِزْهَاقِ الرُّوحِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَيُوَطِّنُ النُّفُوسَ عَلَى قَبُولِ حُكْمِ الْمُسَاوَاةِ إِذْ لَمْ يُسَمِّ الْعُقُوبَةَ قَتْلًا أَوْ إِعْدَامًا، بَلْ سَمَّاهَا مُسَاوَاةً بَيْنَ النَّاسِ تَنْطَوِي عَلَى حَيَاةٍ سَعِيدَةٍ لَهُمْ، هَذَا وَإِنَّ دُوَلَ الْإِفْرِنْجِ تَجْرِي عَلَى سُنَّةِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ لِأَعْدَائِهَا وَخُصُومِهَا أَنْفَى لِقَتْلِهِمْ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ شَأْنُهُمْ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالشُّعُوبِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا بِاسْمِ الِاسْتِعْمَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَأَيْنَ هِيَ مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَاوَاتِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنَامِ؟ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْحِكْمَةِ وَالْبُرْهَانِ: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) فَخَصَّ بِالنِّدَاءِ أَصْحَابَ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ، مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَيَعْرِفُ مَا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ وَمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: الْقِصَاصُ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَالْعَفْوُ وَهُوَ الْفَضْلُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سِرَّ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَقْلَهُ فِي فَهْمِ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِلْأَنَامِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ مَنْفَعَةَ الْقِصَاصِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، فَهُوَ بِلَا لُبٍّ وَلَا جَنَانٍ. وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا حَنَانٍ. وَقَوْلُهُ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) جَعَلَهُ (الْجَلَالُ) تَعْلِيلًا لِشَرْعِ الْقِصَاصِ وَقَدَّرَ لَهُ ((شَرَعَ)) أَيْ: لَمَّا كَانَ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لَكُمْ كَتَبْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَشَرَعْنَاهُ لَكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الِاعْتِدَاءَ، وَتَكُفُّونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَالشَّرْعِيَّةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْآيَةِ، وَإِيجَازُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهَا لِأَجْلِ التَّعْلِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ ((شَرَعَ)) وَيَتَعَلَّقُ الرَّجَاءُ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ:

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَكُمُ الْحَيَاةُ فِي الْقِصَاصِ لِتَعُدَّكُمْ وَتُهَيِّئَكُمْ لِلتَّقْوَى وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَائِرِ ضُرُوبِ الِاعْتِدَاءِ، إِذِ الْعَاقِلُ حَرِيصٌ عَلَى الْحَيَاةِ وَلُوعٌ بِالْأَخْذِ بِوَسَائِلِهَا، وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ غَوَائِلِهَا. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَجْهُ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْمَوْتِ يُذَكِّرُ بِمَا يُطْلَبُ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِأَنْ يُوصُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ حُضُورِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَظُهُورِ أَمَارَاتِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةُ أَعْمَالِهِمْ خَيْرًا، وَهُوَ عَلَى نَسَقِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ بِالْقِصَاصِ مِنِ اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ مُتَكَافِلَةً يُخَاطَبُ الْمَجْمُوعُ مِنْهَا بِمَا يُطْلَبُ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَقِيَامُ الْأَفْرَادِ بِحُقُوقِ الشَّرِيعَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ وَالِائْتِمَارِ وَالتَّنَاهِي، فَلَوْ لَمْ يَأْتَمِرِ الْبَعْضُ وَجَبَ عَلَى الْبَاقِينَ حَمْلُهُ عَلَى الِائْتِمَارِ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أَيْ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا حَضَرَتِ الْوَاحِدَ مِنْكُمْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَعَلَامَاتُهُ (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يَتْرُكُهُ لِوَرَثَتِهِ (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تُوصُوا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ وَلَا بِكَثْرَتِهِ الضَّارَّةِ بِالْوَرَثَةِ بِأَلَا يَزِيدَ الْمُوصِي بِهِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ عَنْ ثُلُثِ الْمَتْرُوكِ لِلْوَارِثِينَ. وَالْوَصِيَّةُ: الِاسْمُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالتَّوْصِيَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُوصَى بِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَمَلٍ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَتَتَأَكَّدُ فِي الْمَرَضِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا تَجِبُ عِنْدَ حُضُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي، يُقَالُ: أَوْصَى وَوَصَّى فُلَانًا بِكَذَا مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الْمَالِ، وَوَصَّى بِفُلَانٍ، وَأَوْصَى لَهُ بِكَذَا مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ وَأَوْصَاهُ فِيهِ ; أَيْ: فِي شَأْنِهِ، وَإِيصَاءُ اللهِ بِالشَّيْءِ وَفِيهِ أَمْرُهُ. وَفَسَّرُوا الْخَيْرَ بِالْمَالِ، وَقَيَّدَهُ الْأَكْثَرُونَ بِالْكَثِيرِ أَخْذًا مِنَ التَّنْكِيرِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ (الْجَلَالُ) بِذَلِكَ.

180

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَقْتَصِرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذِكْرِ الْمَالِ فَقَطْ إِلَّا مُفَسِّرُنَا وَقَوْلُهُ صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرُوهُ وَجْهًا، وَذَكَرُوا مَعَهُ قَوْلَ مَنْ قَيَّدَهُ بِالْكَثِيرِ كَالْبَيْضَاوِيِّ، وَجَزَمَ الْمُفَسِّرُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ ; فَكَلَامُ الْجَلَالَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّنِي أُفَصِّلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا، وَأَشْرَحُ اسْتِدْلَالَهُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: - أَمَّا الْأُولَى فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْمَالَ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ خَيْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرًا، كَمَا لَا يُقَالُ فُلَانٌ ذُو مَالٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا وَإِنْ تَنَاوَلَ اللَّفْظُ صَاحِبَ الْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَيَّدُوا هَذَا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا رَجُلٌ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ. قَالَتْ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. قَالَتْ: كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ. قَالَتْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) وَهَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَلِيًا دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي الْمَوْتِ وَلَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ فَدَعْ مَالَكَ لِوَرَثَتِكَ - فَعِبَارَتُهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الْكَثِيرِ فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَدَمَ تَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ، فَهُوَ مَوْكُولٌ عِنْدَهُ إِلَى اعْتِقَادِ الشَّخْصِ وَحَالِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُرْفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْبُيُوتِ، فَمَنْ يَتْرُكْ سَبْعِينَ دِينَارًا فِي مَنْزِلٍ فَقْرٍ، وَبَلَدٍ قَفْرٍ، وَهُوَ مِنَ الدَّهْمَاءِ فَقَدْ تَرَكَ خَيْرًا. وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ أَوِ الْوَزِيرَ، إِذَا تَرَكَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ فَهُمَا لَمْ يَتْرُكَا إِلَّا الْعَدَمَ وَالْفَقْرَ، وَمَا لَا يَفِي بِتَجْهِيزِهِمَا إِلَى الْقَبْرِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ خِلَافِيَّةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ بِحَدِيثِ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُبَيِّنٌ لِلْآيَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُهُ، بَلْ تُؤَكِّدُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، وَالْحَدِيثُ مِنَ الْآحَادِ، وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ لَا يُلْحِقُهُ بِالْمُتَوَاتِرِ اهـ. أَيْ وَالظَّنِّيُّ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يَنْسَخُ الْقَطْعِيَّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَكُلُّهُ قَطْعِيٌّ؟ وَقَدْ زَادَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا، وَبِأَنَّ السِّيَاقَ يُنَافِي النَّسْخَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا شَرَعَ لِلنَّاسِ حُكْمًا وَعَلِمَ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ بَعْدَ زَمَنٍ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَكِّدُهُ وَيُوَثِّقُهُ بِمِثْلِ مَا أَكَدَّ بِهِ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ وَعِيدِ مَنْ بَدَّلَهُ، وَبِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي

آيَةِ الْمَوَارِيثِ مَخْصُوصَةٌ بِغَيْرِ الْوَارِثِ، بِأَنْ يَخُصَّ الْقَرِيبَ هُنَا بِالْمَمْنُوعِ مِنَ الْإِرْثِ وَلَوْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَوَالِدَاهُ كَافِرَانِ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ لَهُمَا بِمَا يُؤَلِّفُ بِهِ قُلُوبَهُمَا، وَقَدْ أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (29: 8) الْآيَةَ، وَفِي آيَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ لِلَّهِ وَلَهُمَا (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (31: 15) الْآيَةَ. أَفَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَخْتِمَ هَذِهِ الْمُصَاحَبَةَ بِالْمَعْرُوفِ بِالْوَصِيَّةِ لَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ الْكَثِيرِ (قَالَ) : وَجَوَّزَ بَعْضُ السَّلَفِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَخُصَّ بِهَا مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ مِنَ الْوَرَثَةِ كَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ غَنِيًّا وَالْبَعْضُ الْآخَرُ فَقِيرًا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ وَهُوَ غَنِيٌّ وَهِيَ لَا عَائِلَ لَهَا إِلَّا وَلَدُهَا وَيَرَى أَنَّ مَا يُصِيبُهَا مِنَ التَّرِكَةِ لَا يَكْفِيهَا، وَمِثْلُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ وَلَدِهِ أَوْ إِخْوَتِهِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ - عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ فَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْحَكِيمَ الْخَبِيرَ اللَّطِيفَ بِعِبَادِهِ الَّذِي وَضَعَ الشَّرِيعَةَ وَالْأَحْكَامَ لِمَصْلَحَةِ خَلْقِهِ لَا يُحَتِّمُ أَنْ يُسَاوِيَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ قَدْ وَضَعَ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ الْعَادِلَةِ عَلَى أَسَاسِ التَّسَاوِي بَيْنَ الطَّبَقَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ سَوَاسِيَةٌ فِي الْحَاجَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَرَابَةِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَجْعَلَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرِ الْإِرْثِ، أَوْ يَجْعَلَ نَفَاذَ هَذَا مَشْرُوطًا بِنَفَاذِ ذَلِكَ قَبْلَهُ، وَيَجْعَلَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ; لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا يَكُونُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ فِي الْحَاجَةِ أَحْيَانًا، فَقَدْ قَالَ فِي آيَاتِ الْإِرْثِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (4: 12) فَأَطْلَقَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا مَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِتِلْكَ. أَقُولُ: وَرَأَيْتُ الْأُلُوسِيَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ آيَةَ الْإِرْثِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى وَصِيَّةٍ مُنْكَرَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وَرُتِّبَ عَلَى الْمُطْلَقِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ، كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ نَسْخٌ اهـ. فَأَمَّا دَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَقَاعِدَةُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ إِنْ سَلِمَتْ لَا تُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهَا ; لِأَنَّ شَرْعَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يُنَافِي شَرْعَ الْوَصِيَّةِ لِصِنْفٍ مَخْصُوصٍ، وَنَظِيرُ هَذَا الْأَمْرُ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ بِمُوَاسَاةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى مِنْهُمْ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْهُمَا مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ، إِلَّا إِذَا وُجِدَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَمَا فِي الْآيَتَيْنِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ

الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِنَّمَا آيَةُ الْوَصِيَّةِ خَاصَّةٌ، وَذِكْرُ الْوَصِيَّةِ مُنَكَّرَةً فِي آيَةِ الْإِرْثِ يُفِيدُ الْإِطْلَاقَ الَّذِي يَشْمَلُ ذَلِكَ الْخَاصَّ وَغَيْرَهُ، فَإِنْ سَلَّمْنَا لِذَلِكَ الْحَنَفِيِّ أَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ مُتَأَخِّرَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ تُذْكَرَ فِيهَا الْوَصِيَّةُ بِالتَّعْرِيفِ لِتَدُلَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ ; إِذْ لَوْ رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ لَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَلَوْ كَانَ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ يَقْتَضِي مَا قَالَهُ لَمَا قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ الْأُلُوسِيُّ نَفْسُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ سَمَّى التَّخْصِيصَ نَسْخًا، فَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ كَافِرَيْنِ. قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: مَنْ لَمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِذَوِي قَرَابَتِهِ - مِمَّنْ لَمْ يَرِثْ - فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَسَمَّى هَذَا كَغَيْرِهِ نَسْخًا لِلْوُجُوبِ. وَلَنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مَشْرُوعَةٌ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِعُمُومِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِغَيْرِ الْوَارِثِ، فَحُكْمُهَا إِذَا لَمْ يَبْطُلْ. فَمَا هَذَا الْحِرْصُ عَلَى إِثْبَاتِ نَسْخِهَا، مَعَ تَأْكِيدِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا وَالْوَعِيدِ عَلَى تَبْدِيلِهَا؟ إِنْ هَذَا إِلَّا تَأْثِيرُ التَّقْلِيدِ. فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُ آيَةَ الْوَصِيَّةِ، فَيُقَالُ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا إِذَا عُلِمَ أَنَّهَا بَعْدَهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ حُكْمَ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ يُلْصِقُوهُ بِهِ بِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ لِيَصْلُحَ نَاسِخًا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ ثِقَةِ الشَّيْخَيْنِ بِهِ فَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْهُمَا مُسْنَدًا، وَرِوَايَةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مَحْصُورَةٌ فِي عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي إِسْنَادِ الثَّانِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا حَسَّنَهٌ التِّرْمِذِيُّ ; لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يَرْوِيهِ عَنِ الشَّامِيِّينَ، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ خَاصَّةً. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْلُولٌ ; إِذْ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْهُ، وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا رُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ فِي ضَعْفِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا رِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ صُحِّحَتْ إِلَّا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَالَّذِي صَحَّحَهَا هُوَ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي التَّصْحِيحِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا لَمْ يَرْضَيَاهَا ; فَهَلْ يُقَالُ إِنَّ حَدِيثًا كَهَذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ؟ وَقَدْ تَوَسَّعَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسْخِ، وَمُلَخَّصُ مَا قَالَهُ: إِنَّ النَّسْخَ فِي الشَّرَائِعِ جَائِزٌ، مُوَافِقٌ لِلْحِكْمَةِ وَوَاقِعٌ، فَإِنَّ شَرْعَ مُوسَى نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ، وَشَرْعَ عِيسَى نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَشَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَسَخَتْ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ الَّتِي تَقْبَلُ النَّسْخَ إِنَّمَا تُشْرَعُ لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ، وَالْمَصْلَحَةُ تَخْتَلِفُ

بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَالْحَكِيمُ الْعَلِيمُ يُشَرِّعُ لِكُلِّ زَمَنٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا تُنْسَخُ شَرِيعَةٌ بِأُخْرَى يَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ بَعْضُ أَحْكَامِ شَرِيعَةٍ بِأَحْكَامٍ أُخْرَى فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاتِهِمْ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ هُنَاكَ خِلَافًا فِي نَسْخِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَلَوْ بِالْقُرْآنِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُفَسِّرُ الشَّهِيرُ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ يُخَرِّجُ كُلَّ مَا قَالُوا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْصِيصِ أَوِ التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَسْخٌ لِحُكْمٍ لَا نَدْرِي هَلْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِهَادِهِ أَمْ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى غَيْرِ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ الْوَحْيَ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ آيَةٍ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْكِتَابِ يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى بِتِلَاوَتِهَا وَبِتَذَكُّرِ نِعْمَتِهِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ حُكْمٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَلِحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِلَى حُكْمٍ يُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يُنْسَخُ حُكْمٌ إِلَّا بِأَمْثَلَ مِنْهُ كَالتَّخْفِيفِ فِي تَكْلِيفِ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ عَشْرِ أَمْثَالِهِمْ بِالِاكْتِفَاءِ بِمُقَابَلَةِ الضِّعْفِ بِأَنْ تُقَاتِلَ الْمِائَةُ مِائَتَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالنَّسْخِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَعُلِمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقَالُ إِنَّ الثَّانِيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى. وَأَمَّا آيَاتُ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَخْبَارِ فَلَا نَسْخَ فِيهَا، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَنَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِمَا. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا نَسْخُ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ لِحَدِيثِ الْآحَادِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ الْقَوِيُّ فَهُوَ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ وَلَوْ مُتَوَاتِرًا، أَوِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ الظَّنِّيَّ - وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ - لَا يَنْسَخُ الْقَطْعِيَّ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ. وَالْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ، فَمَتَى أَيْقَنَّا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ وَاسْتَوْفَتْ شُرُوطَ النَّسْخِ تُعْتَبَرُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ كَمَا إِذَا نَسَخَتْ آيَةٌ آيَةً. وَذَهَبَ آخَرُونَ وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَمَا فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِحَدِيثٍ مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَتُهُ لِأَنَّ لِلْقُرْآنِ مَزَايَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ نَاسِخَةٍ بَلْ بَيَّنَ أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ وَمُبَيِّنَةٌ (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَا أَعْرِفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَالْأُصُولِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَقُولُونَ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَإِنِ اشْتُهِرَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ لَهُ، وَالدَّلِيلُ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ فَهُوَ قَطْعِيٌّ، وَأَحَادِيثُ الْآحَادِ ظَنِّيَّةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكْذُوبَةً مِنْ بَعْضِ رِجَالٍ السَّنَدِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالصَّلَاحِ لِخِدَاعِ النَّاسِ اهـ. أَقُولُ: وَهُنَاكَ تَمْيِيزٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَطْعًا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَإِنَّ فِيهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ دُونَ الْوَحْيِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) (8: 67) وَقَوْلِهِ: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (9: 43) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ وَلَوْ خَبَرِ آحَادٍ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى الْحُكْمِ ظَنِّيَّةٌ فَكَأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَنْسَخْ إِلَّا حُكْمًا ظَنِّيًّا، وَفَاتَهُمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ أَيْضًا ظَنِّيَّةٌ، فَكَأَنَّنَا نَنْسَخُ حُكْمًا ظَنِّيًّا إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّارِعِ قَطْعِيٌّ بِحُكْمٍ ظَنِّيٍّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ، أَوْ قَالَهُ رَأْيًا لَا تَشْرِيعًا. وَلَمَّا كَانَ الْخِلَافُ هُنَا ضَعِيفًا جِدًّا احْتَاجَ الْقَائِلُونَ بِنَسْخِ حَدِيثِ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ إِلَى زَعْمِ تَوَاتُرِهِ بِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَازِ وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ قَطْعًا. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ إِلَّا وَمَعَهَا كِتَابٌ يُؤَيِّدُهَا، وَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكِتَابَ نَسَخَ الْكِتَابَ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَصْحِيحَ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ تَعْظِيمًا لَهُ أَنْ يُرَدَّ قَوْلُهُ، وَتَعْظِيمُ اللهِ تَعَالَى أَوْلَى، ثُمَّ تَعْظِيمُ رَسُولِهِ يَتْلُو تَعْظِيمَهُ وَلَا يَبْلُغُهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ الرَّسُولُ وَيُتَّبَعُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْ أَغْرَبِ مَبَاحِثِ الْنَسْخِ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ - الَّذِينَ يُبَالِغُ إِمَامُهُمْ فِي الِاتِّبَاعِ فَيَمْنَعُ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ هُوَ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِهَا وَلَا يُبَالِي بِرَأْيِ أَحَدٍ يُخَالِفُهَا، ثُمَّ هُوَ يَقُولُ إِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - يَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ يَنْسَخُ السُّنَّةَ مَعَ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْعِلَّةِ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فَهِمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ غَيْرَ مُرَادٍ لِلشَّارِعِ، فَإِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ يُنَافِي هَذَا الْعُمُومَ وَصَحَّ عِنْدَنَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَجْعَلَهُ مُخَصِّصًا لِعِلَّةِ عُمُومِ الْحُكْمِ، وَلَا نَقُولَ - رَجْمًا بِالْغَيْبِ - إِنَّهُ مَنْسُوخٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ظَنَنَّاهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْمُجَازَفَةُ فِي الْقِيَاسِ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ وَقَدْ تَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَإِلَى إِبْطَالِ الْيَقِينِ بِالظَّنِّ،

وَتَرْجِيحِ الِاجْتِهَادِ عَلَى النَّصِّ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَحْفِلَ بِكُلِّ مَا قِيلَ، وَأَنْ نَعْتَصِمَ بِكِتَابِ اللهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّهَا لَا تُعَارِضُهَا بَلْ تُؤَيِّدُهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَهَا، وَلَا بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَسْخِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ وَحُكْمُهَا بَاقٍ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ خَاصًّا بِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُجَازِفِينَ الَّذِينَ يُخَاطِرُونَ بِدَعْوَى النَّسْخِ فَتَنْبِذُ مَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَمَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْوَصِيَّةِ أَوْ حَقَّقْتُهُ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ لِي، الْمُطِيعِينَ لِكِتَابِي. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ مَعْنَى الْمَكْتُوبِ: الْمَفْرُوضُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لِلنَّدْبِ، وَيُؤَيِّدُ الْفَرْضِيَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَعِيدِ الْمُبَدِّلِينَ لَهُ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أَيْ: بَدَّلَ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) مِنَ الْمُوصِي أَوْ عَلِمَ بِهِ عِلْمًا صَحِيحًا مِنْ كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ كَمَا سَيَأْتِي وَمِنَ الْحُكْمِ بِهَا (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) مِنْ وَلِيٍّ وَوَصِيٍّ وَشَاهِدٍ وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الْمُوصِي وَثَبَتَ أَجْرُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (إِنِ اللهَ سَمِيعٌ) لِمَا يَقُولُهُ الْمُبَدِّلُونَ فِي ذَلِكَ (عَلِيمٌ) بِأَعْمَالِهِمْ فِيهِ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ الْوَعِيدِ، وَالضَّمِيرُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْحَقِّ أَوِ الْإِيصَاءِ ; أَيْ: أَثَرِهِ وَمُتَعَلَّقِهِ. وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَبِحَدِيثِ ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَمِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَدَاوُدُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَنْدُوبَةٌ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ فِي الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) الْجَنَفُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْخَطَأُ، وَالْإِثْمُ يُرَادُ بِهِ تَعَمُّدُ الْإِجْحَافِ وَالظُّلْمِ، وَالْمُوصِي فَاعِلُ الْإِيصَاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (مُوَصٍّ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّوْصِيَةِ. وَالْمَعْنَى إِنْ خَرَجَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَتَنَازَعَ الْمُوصَى لَهُمْ فِيهِ أَوْ تَنَازَعُوا مَعَ الْوَرَثَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ إِذَا وَجَدَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيلِ الْجَنَفِ وَالْحَيْفِ ; لِأَنَّهُ تَبْدِيلُ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ وَإِزَالَةُ مَفْسَدَةٍ بِمَصْلَحَةٍ، فَقَلَّمَا يَكُونُ إِصْلَاحٌ إِلَّا بِتَرْكِ بَعْضِ الْخُصُومِ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ حَقًّا لَهُ لِلْآخَرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهَا ; أَيْ: إِنَّ الْمُبَدِّلَ لِلْوَصِيَّةِ آثِمٌ إِلَّا مَنْ رَأَى إِجْحَافًا أَوْ جَنَفًا فِي الْوَصِيَّةِ فَبَدَّلَ فِيهَا لِأَجْلِ الْإِصْلَاحِ وَإِزَالَةِ التَّخَاصُمِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فَعَبَّرَ بِـ (خَافَ)

182

بَدَلًا عَنْ (رَأَى) أَوْ (عَلِمَ) تَبْرِئَةً لِلْمُوصِي مِنَ الْقَطْعِ بِجَنَفِهِ وَإِثْمِهِ وَاحْتِمَاءً مِنْ تَقْيِيدِ التَّصَدِّي لِلْإِصْلَاحِ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ يَقِينًا، يَعْنِي إِنَّ مَنْ يَتَوَقَّعُ النِّزَاعَ لِلْجَنَفِ أَوِ الْإِثْمِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْإِصْلَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوقِنًا بِذَلِكَ، وَلِلتَّعْبِيرِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ بِالْخَوْفِ شَوَاهِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْمُصْلِحُ مُثَابٌ مَأْجُورٌ، وَنَفْيُ الْإِثْمِ عَنْ تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ الْمُحَرَّمِ تَبْدِيلُهَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ ; إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّبْدِيلُ لِلْإِصْلَاحِ مَطْلُوبًا لَمْ يَنْفِ الْإِثْمَ عَنْهُ. وَخَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لِلْإِشْعَارِ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ خَالَفَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الْكَلَامُ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ كُلِّ حُكْمٍ وَمَا يَلِيهِ، وَالصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ وَالْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ، وَفِي الشَّرْعِ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَشَيَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ احْتِسَابًا لِلَّهِ، وَإِعْدَادًا لِلنَّفْسِ وَتَهْيِئَةً لَهَا لِتَقْوَى اللهِ بِالْمُرَاقَبَةِ لَهُ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ عَلَى كَبْحِ جِمَاحِ الشَّهَوَاتِ، لِيَقْوَى صَاحِبُهَا عَلَى تَرْكِ الْمَضَارِّ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ فَكَانَ رُكْنًا مَنْ كُلِّ دِينٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْعِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ

183

ذَرَائِعِ التَّهْذِيبِ، وَفِي إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى لَنَا بِأَنَّهُ فَرَضَهُ عَلَيْنَا كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إِشْعَارٌ بِوَحْدَةِ الدِّينِ أُصُولِهِ وَمَقْصِدِهِ، وَتَأْكِيدٌ لِأَمْرِ هَذِهِ الْفَرْضِيَّةِ وَتَرْغِيبٌ فِيهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَبْهَمَ اللهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ حَتَّى الْوَثَنِيَّةِ، فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي أَيَّامِ وَثَنِيَّتِهِمْ، وَانْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى الْيُونَانِ فَكَانُوا يَفْرِضُونَهُ لَا سِيَّمَا عَلَى النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الرُّومَانِيُّونَ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِالصِّيَامِ، وَلَا يَزَالُ وَثَنِيُّو الْهِنْدِ وَغَيْرُهُمْ يَصُومُونَ إِلَى الْآنِ، وَلَيْسَ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مَدْحُهُ وَمَدْحُ الصَّائِمِينَ، وَثَبَتَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ مَعْرُوفًا مَشْرُوعًا وَمَعْدُودًا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْيَهُودُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ يَصُومُونَ أُسْبُوعًا تِذْكَارًا لِخَرَابِ أُورْشَلِيمَ وَأَخْذِهَا، وَيَصُومُونَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ آبَ. أَقُولُ: وَيُنْقَلُ أَنَّ التَّوْرَاةَ فَرَضَتْ عَلَيْهِمْ صَوْمَ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَهُ بِلَيْلَتِهِ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ عَاشُورَاءَ، وَلَهُمْ أَيَّامٌ أُخَرُ يَصُومُونَهَا نَهَارًا. وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي أَنَاجِيلِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ نَصٌّ فِي فَرِيضَةِ الصَّوْمِ، وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُهُ وَمَدْحُهُ وَاعْتِبَارُهُ عِبَادَةً كَالنَّهْيِ عَنِ الرِّيَاءِ وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ فِيهِ، بَلْ تَأْمُرُ الصَّائِمَ بِدَهْنِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ حَتَّى لَا تَظْهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ الصِّيَامِ فَيَكُونُ مُرَائِيًا كَالْفُرِيسِيِّينَ، وَأَشْهَرُ صَوْمِهِمْ وَأَقْدَمُهُ الصَّوْمُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ الَّذِي صَامَهُ مُوسَى وَكَانَ يَصُومُهُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْحَوَارِيُّونَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ وَضَعَ رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ ضُرُوبًا أُخْرَى مِنَ الصِّيَامِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالطَّوَائِفِ، وَمِنْهَا صَوْمٌ عَنِ اللَّحْمِ وَصَوْمٌ عَنِ السَّمَكِ وَصَوْمٌ عَنِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ، وَكَانَ الصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ - كَصَوْمِ الْيَهُودِ - يَأْكُلُونَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَغَيَّرُوهُ وَصَارُوا يَصُومُونَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَلَا نُطِيلُ فِي تَفْصِيلِ صِيَامِهِمْ، بَلْ نَكْتَفِي بِهَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أَيْ فُرِضِ عَلَيْكُمْ كَمَا فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ قَبْلِكُمْ. فَهُوَ تَشْبِيهُ الْفَرْضِيَّةِ بِالْفَرْضِيَّةِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ صِفَتُهُ وَلَا عِدَّةُ أَيَّامِهِ، وَفِي قِصَّتَيْ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ عَنِ الْكَلَامِ ; أَيْ: مَعَ الصِّيَامِ عَنْ شَهَوَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالشَّرَابِ وَالطَّعَامِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ عَمَّا تُنَازِعُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، لَا مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ: كُلُّ مُمْسِكٍ عَنْ طَعَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ سَيْرٍ فَهُوَ صَائِمٌ. ثُمَّ قَالَ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ أَيْ: قِيَامٌ بِلَا اعْتِلَافٍ اهـ. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِكِتَابَةِ الصِّيَامِ بِبَيَانِ فَائِدَتِهِ الْكُبْرَى وَحِكْمَتِهِ الْعُلْيَا، وَهُوَ أَنَّهُ يُعِدُّ نَفْسَ الصَّائِمِ لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ شَهَوَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُبَاحَةِ الْمَيْسُورَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَاحْتِسَابًا

لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ، فَتَتَرَبَّى بِذَلِكَ إِرَادَتُهُ عَلَى مَلَكَةِ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّبْرِ عَنْهَا فَيَكُونُ اجْتِنَابُهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِ، وَتَقْوَى عَلَى النُّهُوضِ بِالطَّاعَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالِاصْطِبَارِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَيْهَا أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الصِّيَامُ نِصْفُ الصَّبْرِ)) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَهَذَا مَعْنَى دَلَالَةِ ((لَعَلَّ)) عَلَى التَّرَجِّي ; فَالرَّجَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ، وَمَوْضِعُهُ هُنَا الْمُخَاطَبُونَ لَا الْمُتَكَلِّمُ، وَمَنْ لَمْ يَصُمْ بِالنِّيَّةِ وَقَصْدِ الْقُرْبَةِ لَا تُرَجَّى لَهُ هَذِهِ الْمَلَكَةُ فِي التَّقْوَى. فَلَيْسَ الصِّيَامُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ لِذَاتِهِ بَلْ لِتَرْبِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا. قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ الْوَثَنِيِّينَ كَانُوا يَصُومُونَ لِتَسْكِينِ غَضَبِ آلِهَتِهِمْ إِذَا عَمِلُوا مَا يُغْضِبُهَا، أَوْ لِإِرْضَائِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا إِلَى مُسَاعَدَتِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ وَالْأَغْرَاضِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِرْضَاءَ الْآلِهَةِ وَالتَّزَلُّفَ إِلَيْهَا يَكُونُ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِمَاتَةِ حُظُوظِ الْجَسَدِ، وَانْتَشَرَ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَنَحْوَهُ إِنَّمَا فُرِضَ ; لِأَنَّهُ يُعِدُّنَا لِلسَّعَادَةِ بِالتَّقْوَى، وَأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنَّا وَعَنْ عَمَلِنَا، وَمَا كَتَبَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ إِلَّا لِمَنْفَعَتِنَا. (ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا) قُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى ((لَعَلَّ)) الْإِعْدَادُ وَالتَّهْيِئَةُ، وَإِعْدَادُ الصِّيَامِ نُفُوسَ الصَّائِمِينَ لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَعْظَمُهَا شَأْنًا، وَأَنْصَعُهَا بُرْهَانًا وَأَظْهَرُهَا أَثَرًا، وَأَعْلَاهَا خَطَرًا - شَرَفًا - أَنَّهُ أَمْرٌ مَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِ الصَّائِمِ لَا رَقِيبَ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَسِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ شَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَالْخُضُوعِ لِإِرْشَادِ دِينِهِ مُدَّةَ شَهْرٍ كَامِلٍ فِي السَّنَةِ، مُلَاحِظًا عِنْدَ عُرُوضِ كُلِّ رَغِيبَةٍ لَهُ - مِنْ أَكْلِ نَفِيسٍ، وَشَرَابٍ عَذْبٍ، وَفَاكِهَةٍ يَانِعَةٍ، وَغَيْرٍ ذَلِكَ كَزِينَةِ زَوْجَةٍ أَوْ جَمَالِهَا الدَّاعِي إِلَى مُلَابَسَتِهَا - أَنَّهُ لَوْلَا اطِّلَاعُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمُرَاقَبَتُهُ لَهُ لَمَا صَبَرَ عَنْ تَنَاوُلِهَا وَهُوَ فِي أَشَدِّ التَّوْقِ لَهَا، لَا جَرَمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ تَكْرَارِ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلْعَمَلِ مَلَكَةُ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ، وَفِي هَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي تَعْظِيمِهِ وَتَقْدِيسِهِ أَكْبَرُ مُعِدِّ لِلنُّفُوسِ وَمُؤَهِّلٍ لَهَا لِضَبْطِ النَّفْسِ وَنَزَاهَتِهَا فِي الدُّنْيَا، وَلِسَعَادَتِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكَمَا تُؤَهِّلُ هَذِهِ الْمُرَاقَبَةُ النُّفُوسَ الْمُتَحَلِّيَةَ بِهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ تُؤَهِّلُهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا أَيْضًا، انْظُرْ هَلْ يُقْدِمُ مَنْ تُلَابِسُ هَذِهِ الْمُرَاقَبَةُ قَلْبَهُ عَلَى غِشِّ النَّاسِ وَمُخَادَعَتِهِمْ؟ هَلْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَرَاهُ اللهُ آكِلًا لِأَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ؟ هَلْ يَحْتَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَهَدْمِ هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ مِنْ أَرْكَانِ دِينِهِ؟ هَلْ يَحْتَالُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا؟ هَلْ يَقْتَرِفُ الْمُنْكَرَاتِ جِهَارًا؟ هَلْ يَجْتَرِحُ السَّيِّئَاتِ وَيَسْدُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ سِتَارًا؟ كَلَّا. إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ لَا يَسْتَرْسِلُ

فِي الْمَعَاصِي ; إِذْ لَا يَطُولُ أَمَدُ غَفْلَتِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا نَسِيَ وَأَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَكُونُ سَرِيعَ التَّذَكُّرِ قَرِيبَ الْفَيْءِ وَالرُّجُوعِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) فَالصِّيَامُ أَعْظَمُ مُرَبٍّ لِلْإِرَادَةِ، وَكَابِحٍ لِجِمَاحِ الْأَهْوَاءِ، فَأَجْدَرُ بِالصَّائِمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَعْمَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَيْرٌ، لَا عَبْدًا لِلشَّهَوَاتِ. إِنَّمَا رُوحُ الصَّوْمِ وَسِرُّهُ فِي هَذَا الْقَصْدِ وَالْمُلَاحَظَةِ الَّتِي تُحْدِثُ هَذِهِ الْمُرَاقَبَةَ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ لَاحَظَهُ مَنْ أَوْجَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ - قَالُوا: أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْغُفْرَانُ لِلْكَبَائِرِ مَعَ التَّوْبَةِ مِنْهَا ; لِأَنَّ الصَّائِمَ احْتِسَابًا وَإِيمَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا يَكُونُ مِنَ التَّائِبِينَ عَمَّا اقْتَرَفَهُ فِيمَا قَبْلَ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ((يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي)) رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَالَ أُولَئِكَ الْغَافِلِينَ عَنِ اللهِ وَعَنْ أَنْفُسِهِمُ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَذَكَرَ بَعْضَ حِيَلِ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ كَالْأَدْنِيَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ وَلَوْ فِي بُيُوتِ الْأَخْيِلَةِ حَيْثُ تَأْكُلُ الْجُرُذُ، وَالَّذِينَ يَغْطِسُونَ فِي الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ وَيَشْرَبُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَمَا قَذَفَ بِهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ - كَالْمُجَاهِرِينَ بِالْفِطْرِ - إِلَّا تَلْقِينُهُمُ الْعِبَادَةَ جَافَّةً خَالِيَةً مِنَ الرُّوحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالسِّرِّ الَّذِي أَفْشَيْنَاهُ، فَحَسِبُوهَا عُقُوبَةً كَمَا كَانَ يَحْسَبُهَا الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ، وَمَا كُلُّ إِنْسَانٍ يَتَحَمَّلُ الْعُقُوبَةَ رَاضِيًا مُخْتَارًا. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَهَاهُنَا شَيْءٌ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَيَشْمَئِزُّ الْإِنْسَانُ مِنْ شَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ بِطَبْعِهِ فَتَضْعُفُ النُّفُوسُ وَيَعْجَزُ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي. وَفِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْإِعْنَاتِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُ مِنْ جَمِيعِ مَطَالِبِ الدِّينِ وِرَاثَةً عَنْ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى، وَإِذَا طَبَّقْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى مَا نَعْهَدُهُ وُجُودًا وَوُقُوعًا لَا نَجِدُهُ وَاقِعًا ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ يَضْرِي بِالشَّهَوَاتِ وَتَقْوَى نَهْمَتُهُ وَيَشْتَدُّ قَرْمُهُ، وَآثَارُ هَذَا ظَاهِرَةٌ فِي صَوْمِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ فِي رَمَضَانَ أَكْثَرُ تَمَتُّعًا بِالشَّهَوَاتِ مِنْهُمْ فِي عَامَّةِ السَّنَةِ، فَمَا سَبَبُ هَذَا وَمَا مَثَارُهُ؟ أَلَيْسَ هُوَ الضَّرَاوَةُ بِالشَّهَوَاتِ؟ بَلَى. وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّوْمَ بِالْوِجَاءِ فِي كَسْرِ سَوْرَةِ الشَّهْوَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ يَصْرِفُهَا حَسَبَ الشَّرْعِ لَا حَسَبَ الشَّهْوَةِ.

هَذَا مَا كَتَبْتُهُ وَنُشِرَ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى وَرَآهُ شَيْخُنَا ثُمَّ بَدَا لِي فِيهِ ; فَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) وَالْوِجَاءُ - بِالْكَسْرِ - رَضُّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ يُضْعِفُ الشَّهْوَةَ الزَّوْجِيَّةَ إِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهَا كَالْخِصَاءِ، وَالصِّيَامُ يُضْعِفُ هَذِهِ الشَّهْوَةَ إِذَا طَالَ وَاقْتَصَرَ الصَّائِمُ فِي اللَّيْلِ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ - وَاسْتُشْكِلَ - بِأَنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ فِي تَهْيِيجِ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ، فَإِذَا تَمَادَى عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ سَكَنَ ذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَمِنْ وُجُوهِ إِعْدَادِ الصَّوْمِ لِلتَّقْوَى أَنَّ الصَّائِمَ عِنْدَمَا يَجُوعُ يَتَذَكَّرُ مَنْ لَا يَجِدُ قُوتًا فَيَحْمِلُهُ التَّذَكُّرُ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ الدَّاعِيَتَيْنِ إِلَى الْبَذْلِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَيَرْتَضِي لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا ارْتَضَاهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (48: 29) . وَمِنْ فَوَائِدِ عِبَادَةِ الصِّيَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالسُّوقَةِ، وَمِنْهَا تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ النِّظَامَ فِي الْمَعِيشَةِ، فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يُفْطِرُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ دَقِيقَةً وَاحِدَةً وَقَلَّمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ دَقِيقَةً وَاحِدَةً. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الصِّحِّيَّةِ أَنَّهُ يُفْنِي الْمَوَادَّ الرَّاسِبَةَ فِي الْبَدَنِ وَلَا سِيَّمَا أَبْدَانِ الْمُتْرَفِينَ أُولِي النَّهَمِ وَقَلِيلِي الْعَمَلِ، وَيُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ الضَّارَّةَ، وَيُطَهِّرُ الْأَمْعَاءَ مِنْ فَسَادِ الذِّرْبِ وَالسُّمُومِ الَّتِي تُحْدِثُهَا الْبِطْنَةُ، وَيُذِيبُ الشَّحْمَ أَوْ يَحُولُ دُونَ كَثْرَتِهِ فِي الْجَوْفِ وَهِيَ شَدِيدَةُ الْخَطَرِ عَلَى الْقَلْبِ، فَهُوَ كَتَضْمِيرِ الْخَيْلِ الَّذِي يَزِيدُهَا قُوَّةً عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُومُوا تَصِحُّوا)) رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى حُسْنِهِ وَيُؤَيِّدُهُ ((اغْزُوا تَغْتَنِمُوا وَصُومُوا تَصِحُّوا وَسَافِرُوا تَسْتَغْنُوا)) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَطِبَّاءِ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ صِيَامَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ يَذْهَبُ بِالْفَضَلَاتِ الْمَيِّتَةِ فِي الْبَدَنِ مُدَّةَ سَنَةٍ. وَأَعْظَمُ فَوَائِدِهِ كُلِّهَا الْفَائِدَةُ الرُّوحِيَّةُ التَّعَبُّدِيَّةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَهِيَ أَنْ يَصُومَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ الْمُلَاحَظُ فِي النِّيَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَمَنْ صَامَ لِأَجْلِ الصِّحَّةِ فَقَطْ فَهُوَ غَيْرُ عَابِدٍ لِلَّهِ فِي صِيَامِهِ، فَإِذَا نَوَى الصِّحَّةَ مَعَ التَّعَبُّدِ كَانَ مُثَابًا كَمَنْ يَنْوِي التِّجَارَةَ مَعَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْعِبَادَةُ لَاكْتَفَى بِالْجُوعِ وَالْحَمِيَّةِ، وَآيَةُ الصِّيَامِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْمُلَاحَظَةِ التَّحَلِّي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ أَحَاسِنِ الصِّفَاتِ وَالْخِلَالِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا أَشُكُّ فِي أَنَّ مَنْ يَصُومُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، مُطَمْئِنًا بِحَيْثُ لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا وَلَا انْزِعَاجًا. نَعَمْ ; رُبَّمَا يُوجَدُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْفُتُورِ

الْجُسْمَانِيِّ، وَأَمَّا الرُّوحَانِيُّ فَلَا، وَأَعْرِفُ رَجُلًا لَا يَغْضَبُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يَغْضَبُ لَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَمَلَّ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ مَا كَانَ يَمَلُّهُ فِي أَيَّامِ الْفِطْرِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَائِمٌ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى: (وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ) وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ مَا وَرَدَ فِي عَلَامَاتِ الصَّائِمِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْمَآتِمِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ إِلَّا النِّسَائِيِّ مَرْفُوعًا ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) . أَيْنَ هَذَا كُلُّهُ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ مِنْ إِثَارَتِهِ لِسُرْعَةِ السُّخْطِ وَالْحُمْقِ وَشِدَّةِ الْغَضَبِ لِأَدْنَى سَبَبٍ، وَاشْتُهِرَ هَذَا بَيْنَهُمْ وَأَخَذُوهُ بِالتَّسْلِيمِ حَتَّى صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلصَّوْمِ، فَهُمْ إِذَا أَفْحَشَ أَحَدُهُمْ قَالَ الْآخَرُ: لَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَائِمٌ. وَهُوَ وَهْمٌ اسْتَحْوَذَ عَلَى النُّفُوسِ فَحَلَّ مِنْهَا مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ لَهُ أَثَرُهَا، وَمَتَى رَسَخَ الْوَهْمُ فِي النَّفْسِ يَصْعُبُ انْتِزَاعُهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَتَعَاهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّرْبِيَةِ الْحَقِيقِيَّةِ دَائِمًا، فَكَيْفَ حَالُ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمِ، الْمُنْحَدِرِينَ فِي تَيَّارِ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الشَّائِعَةِ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَصِيرِهِمْ، وَلَا يَشْعُرُونَ فِي أَيِّ لُجَّةٍ يُقْذَفُونَ، فَتَأْثِيرُ الصَّوْمِ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَافٍ لِلتَّقْوَى الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا، وَمُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا أَهْلَهَا، وَمِنْ أَشْهَرِهَا حَدِيثُ ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)) وَهِيَ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الْوِقَايَةُ وَالسِّتْرُ، فَهُوَ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَمِنْ عِقَابِهَا وَغَايَتِهِ دُخُولُ النَّارِ، وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ لَفْظَ أَبِي عُبَيْدَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عِنْدَ أَحْمَدَ ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا)) زَادَ الدَّارِمِيُّ ((بِالْغِيبَةِ)) وَقَالَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ: إِنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ، وَحَكَى عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ إِلَخْ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ فِيمَنْ يَعْصِي اللهَ وَهُوَ صَائِمٌ: إِنَّهُ كَمَنْ يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُلَاحِظُونَ فِي صَوْمِهِمْ حِفْظَ رَسْمِ الدِّينِ الظَّاهِرِ وَمُوَافَقَةَ النَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْحَائِضَ تَصُومُ وَتَرَى الْفِطْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَارًا وَمَأْثَمًا، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ الْحَائِضِ لِحِفْظِ ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ هَيْكَلِ شَعَائِرِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْأَفْرَادَ شَيْئًا فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي دُنْيَاهُمْ لِخُلُوِّهِ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُؤَهِّلُهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَذَكَرَ فِي الدَّرْسِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَآكِلِ رَمَضَانَ وَشَرَابِهِ بِحَيْثُ يُنْفِقُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَكَادُ يُسَاوِي نَفَقَةَ سَائِرِ السَّنَةِ. حَتَّى كَأَنَّهُ مَوْسِمُ أَكْلٍ، وَكَأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الطَّعَامِ فِي النَّهَارِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوْمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ)) رَوَاهُ النِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَا نُطِيلُ بِشَرْحِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فَهُمْ يَعْلَمُونَهُ عِلْمًا تَامًّا، وَفِيمَا كُتِبَ كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَةَ حَقِّهِ مِنْ بَاطِلِهِ.

184

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الصِّيَامَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَيْنَا مُعَيَّنٌ مَحْدُودٌ فَقَالَ: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أَيْ: مُعَيَّنَاتٍ بِالْعَدَدِ، أَوْ قَلِيلَاتٍ وَهِيَ أَيَّامُ رَمَضَانَ كَمَا سَيَأْتِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ غَيْرُ رَمَضَانَ، وَهِيَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَيَّنَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْأَيَّامُ الْبِيضُ أَيِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا بَعْدَهُ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ (شَهْرُ رَمَضَانَ) الْآتِيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَلَوْ وَقَعَ لِنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَامَّةِ. نَعَمْ ; وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ الْآحَادِيِّ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ، بَعْضُهَا بِالْأَمْرِ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَبَعْضُهَا بِالتَّخْيِيرِ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَامًّا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَصُومُونَهُ اسْتِحْبَابًا مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، بَلْ يَدُلُّ حَدِيثُ ((لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ مِنَ التَّاسِعِ)) مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ مِنْ سَنَتِهِ تِلْكَ، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ فِي آخِرِ زَمَنِ الْبَعْثَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ تَمْحِيصِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَلَكِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَلَعٌ بِتَكْثِيرِ اسْتِخْرَاجِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى سِعَةِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمًا بِإِبْطَالِ الْقُرْآنِ بَادِي الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تُضَاهِي حُجَّةَ الْقُرْآنِ فِي الْقَطْعِ وَالْقُوَّةِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْسَبَ هَذَا هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدُ اللهِ عَظِيمٌ. (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أَيْ: مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ غَيْرِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ ; أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا أَفْطَرَ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَصُمْهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عُرْضَةٌ لِاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ بِالصِّيَامِ، وَإِطْلَاقِ كَلِمَةِ (مَرِيضًا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِالْمَرَضِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَعْسُرُ مَعَهُ الصَّوْمُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ; لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تُقْرَنُ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ، فَرُبَّ مَرَضٍ لَا يَشُقُّ مَعَهُ الصَّوْمُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ ضَارًّا بِالْمَرِيضِ وَسَبَبًا فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ، وَتَحْقِيقُ الْمَشَقَّةِ عُسْرٌ، وَعِرْفَانُ الضَّرَرِ أَعْسَرُ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْمَرَضِ الَّذِي يَعْسُرُ الصَّوْمُ مَعَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وَلَا دَلِيلَ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِأَصْلِ الرُّخْصَةِ، وَكَمَالُهَا أَلَّا يَكُونَ فِيهَا تَضْيِيقٌ. وَكَذَلِكَ السَّفَرُ يَشْمَلُ إِطْلَاقُهُ وَتَنْكِيرُهُ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ وَسَفَرَ الْمَعْصِيَةِ. فَالْعُمْدَةُ فِيهِ مَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ سَفَرًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرْعِ. وَالْعُرْفُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ النَّقْلِ، فَالَّذِي يَرْكَبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سَيَّارَةً بُخَارِيَّةً أَوْ طَيَّارَةً هَوَائِيَّةً مَسَافَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ أَوْ مَسَافَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِتَقْدِيرِ سَيْرِ الْأَثْقَالِ لِيَمْكُثَ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ يَعُودُ إِلَى بَلَدِهِ وَدَارِهِ، وَلَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مُسَافِرًا بَلْ مُتَنَزِّهًا. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْإِطْلَاقَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)) وَيُرَجِّحُ كَوْنَ الرِّوَايَةِ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ ; حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ)) وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. بَلْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي الْمِيلِ الْوَاحِدِ، وَمَا رُوِيَ فِي قَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسَافَةٍ أَطْوَلَ لَا يُنَافِي هَذَا ; فَإِنَّ الْقَصْرَ فِيهَا أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ يُبَاحُ فِيهِ الْفِطْرُ، وَأَمَّا الْعَاصِي بِالسَّفَرِ فَهُوَ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِطْلَاقِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا كَغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) . وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) يُومِئُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ بَلْ يُفْطِرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنَ السَّفَرِ بِجَعْلِهِ كَالْمَرْكُوبِ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا)) وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي بُصْرَةَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ وَتَسْمِيَتُهُ سُنَّةٌ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ)) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (الْبُخَارِيُّ) : وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عَسْفَانَ وَقُدَيْدٍ - بِالتَّصْغِيرِ - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((حَتَّى بَلَغَ عَسْفَانَ)) وَالْكَدِيدُ تَابِعَةٌ لِعَسْفَانَ وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ، وَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَخْ. وَذَهَبَتِ الظَّاهِرِيَّةُ أَوْ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ الْإِفْطَارِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالْآيَةُ لَا تَقْتَضِيهِ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ بِخِلَافِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْعُدَّةِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ صَامَا، وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى ضَيَّقَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُشَدِّدْ عَلَى غَيْرِهِمَا وَهُوَ كَمَا تَرَى. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَنْ صَامَ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَمَنْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَبِذَلِكَ مَضَتِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمُ الْمُفْطِرُ وَمِنْهُمُ الصَّائِمُ لَا يَعِيبُ أَحَدٌ عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِفْطَارِ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْمَشَقَّةِ فَيُفْطِرُونَ جَمِيعًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ:

سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ)) فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا)) فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا - الْحَدِيثَ. ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ. وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)) وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: ((هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ)) فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ ; لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تُطْلَقَ فِي مُقَابِلِ الْوَاجِبِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ (الصَّادِقِ) عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ (الْبَاقِرِ) ابْنِ عَلِيٍّ (زَيْنِ الْعَابِدِينَ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ - كُرَاعُ بِالضَّمِّ وَالْغَمِيمِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ وَادٍ أَمَامَ عَسْفَانَ - وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)) أَيْ: لِأَنَّهُمْ أَبَوُا الِاقْتِدَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبُولِ الرُّخْصَةِ وَالْحَالُ حَالُ مَشَقَّةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ فَالْعِصْيَانُ ظَاهِرٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ ((مَا هَذَا؟)) فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)) وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَقَالَ: الْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْمَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِطْرُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَشَقَّةُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ عَنِ الْفَرْضِ بَلْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْحَضَرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ)) وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ الْإِثْمُ، وَإِذَا كَانَ آثِمًا بِصَوْمِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قَالُوا: ظَاهِرُهُ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ أَوْ فَالْوَاجِبُ عِدَّةٌ، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، وَمُقَابِلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الْمَشَقَّةَ الشَّدِيدَةَ. حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشُقَّ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُهُمَا أَيْسَرُهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الصِّيَامُ أَيْسَرَ - كَمَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدُ - فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ أَفْضَلَ لِمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَتَضَرَّرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ ظُنَّ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي طُعْمَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ رَغِبَ عَنِ الرُّخْصَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) وَكَذَلِكَ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُجْبَ أَوِ الرِّيَاءَ إِذَا صَامَ فِي السَّفَرِ، فَقَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ أَفْضَلَ لَهُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا سَافَرْتَ فَلَا تَصُمْ فَإِنَّكَ إِنْ تَصُمْ قَالَ أَصْحَابُكَ: اكْفُوا الصَّائِمَ، وَارْفَعُوا لِلصَّائِمِ. وَقَامُوا بِأَمْرِكَ، وَقَالُوا: فُلَانٌ صَائِمٌ. فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ أَجْرُكَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ((الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ)) فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَذَكَرَ أَنَّ مَا عَدَا هَذَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا فَهُوَ مَوْقُوفٌ وَمُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ)) فَسَلَكَ الْمُجِيزُونَ فِيهِ طُرُقًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَيُقْصَرُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَلِذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ وَلَفْظُهُ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ كَضَجْعَةِ الْوَجِعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا لِصَاحِبِكُمْ، أَيُّ وَجَعٍ بِهِ)) ؟ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ، وَلَكِنَّهُ صَائِمٌ وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ: ((لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا

فِي السَّفَرِ، عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ)) فَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أُخِذَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنِ الصَّوْمِ مِنْ وُجُوهِ الْقُرْبِ، فَيَنْزِلُ قَوْلُهُ: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)) عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَالَ: وَالْمَانِعُونَ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّفْظَ عَامُّ وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السَّبَبِ وَالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ ; فَإِنَّ بَيْنَ الْعَامَّيْنِ فَرْقًا وَاضِحًا، وَمَنْ أَجْرَاهُمَا وَاحِدًا لَمْ يُصِبْ ; فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ كَنُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ فِي قِصَّةِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ. وَأَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهِيَ الْمُرْشِدَةُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ وَتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: هَذِهِ الْقِصَّةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ مَنِ اتَّفَقَ لَهُ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فَهُوَ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ عَلَى أَصْلِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ نَفْيَ الْبِرِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ أَبَى قَبُولَ الرُّخْصَةِ، فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يَبْلُغَ رَجُلٌ هَذَا بِنَفْسِهِ فِي فَرِيضَةِ صَوْمٍ وَلَا نَافِلَةٍ، وَقَدْ أَرْخَصَ اللهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَهُوَ صَحِيحٌ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ أَثِمَ، وَجَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْبِرِّ الْكَامِلُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْبِرِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِرًّا ; لِأَنَّ الْإِفْطَارَ قَدْ يَكُونُ أَبَرَّ مِنَ الصَّوْمِ إِذَا كَانَ لِلتَّقْوَى عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ مَثَلًا. قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَافِ)) الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِخْرَاجَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَسْكَنَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمِسْكِينَ الْكَامِلُ الْمَسْكَنَةِ الَّذِي لَا يَجِدُ غَنِيًّا يُغْنِيهِ وَيَسْتَحِي أَنْ يَسْأَلَ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ ; أَيْ: وَعَلَى الَّذِينَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ فِعْلًا فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُونَ فِيهِ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ مِنْهُ أَهْلِيهِمْ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَعْلَاهُ وَلَا أَدْنَاهُ، وَيُطْعِمُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ أَكْلَةً وَاحِدَةً أَوْ بِقَدْرِ شِبَعِ الْمُعْتَدِلِ الْأَكْلَةِ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَهَا بِمُدٍّ وَهُوَ - بِالضَّمِّ - رُبُعُ الصَّاعِ، وَقَدَّرُوهُ بِالْحَفْنَةِ وَهِيَ مِلْءُ الْكَفَّيْنِ مِنَ الْقَمْحِ أَوِ التَّمْرِ، وَتَرَتُّبُ الْفِدْيَةِ عَلَى الْإِفْطَارِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ يُعْرَفُ بِالْقَرِينَةِ كَقَوْلِهِ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يَعْنِي: إِذَا أَفْطَرَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِطَاقَةُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ، فَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ أَطَاقَ الشَّيْءَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ بِحَيْثُ يَتَحَمَّلُ بِهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هُنَا الشُّيُوخُ الضُّعَفَاءُ، وَالزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يُرْجَى بُرْءُ أَمْرَاضِهِمْ وَنَحْوُهُمْ، كَالْفَعَلَةِ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ مَعَاشَهُمُ الدَّائِمَ

بِالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ كَاسْتِخْرَاجِ الْفَحْمِ الْحَجَرِيِّ مِنْ مَنَاجِمِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إِذَا كَانَ الصِّيَامُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ وَكَانُوا يَمْلِكُونَ الْفِدْيَةَ. أَقُولُ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ أَوِ الْخَيْطِ أَوِ الْفَتْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ فِتَلِهِ الَّتِي يُبْرَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَتُسَمَّى الْقُوَّةَ، أَوْ مِنَ الطَّوْقِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الرَّاغِبِ: الطَّاقَةُ اسْمٌ لِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشَقَّةٍ، وَذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالطَّوْقِ الْمُحِيطِ بِالشَّيْءِ فَقَوْلُهُ: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (2: 286) أَيْ: مَا يَصْعُبُ عَلَيْنَا مُزَاوَلَتُهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا قُدْرَةَ لَنَا بِهِ. . وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُطِيقَ لَهُ يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ أَفْطَرَ أَوْ لَمْ يُفْطِرْ، لَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَعَ شَرْطٍ آخَرَ اهـ. أَيْ: وَهُوَ الْإِفْطَارُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَعَ زِيَادَةِ ((وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا - يَعْنِي - عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا)) وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا وَزَادَ فِي آخِرِهِ ((وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ لِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ حُبْلَى: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَا يُطِيقُهُ فَعَلَيْكِ الْفِدَاءُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكِ)) وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوجِبُونَ عَلَى الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الْفِدْيَةَ وَالْقَضَاءَ مَعًا. وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ)) وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ((رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ)) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ. قَالَ شَيْخُنَا: ذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ إِذْ فَهِمُوا أَنَّ الْإِطَاقَةَ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ، وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَالْجَلَالِ حَرْفَ نَفْيٍ فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ، لِيُوَافِقَ مَذْهَبَهُ، وَالْآيَةُ مُوَافَقَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى جَعْلِ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْهَمْزَةَ فِي الْإِطَاقَةِ لِلسَّلْبِ فَمَعْنَاهَا الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ. وَهُوَ قَوْلٌ مَنْقُولٌ مَعْقُولٌ، وَيَظْهَرُ بِإِرَادَةِ سَلْبِ الطَّاقَةِ ; أَيِ: الْقُوَّةِ بِهِ لَا قَبْلَهُ. وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِحْكَامِ. أَقُولُ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَقْسَامٍ فِي الصِّيَامِ: الْأَوَّلُ: الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ الْقَادِرُ عَلَى الصِّيَامِ بِلَا ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ وَلَا مَشَقَّةٍ تُرْهِقُهُ، وَالصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمًا، وَتَرْكُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُتَعَمِّدَهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَضَاءُ مِثْلِهِ وَلَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. الثَّانِي: الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، وَيُبَاحُ لَهُمَا الْإِفْطَارُ مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرَ التَّعَرُّضُ لِلْمَشَقَّةِ، فَإِذَا تَعَرَّضَا لِلضَّرَرِ بِالْفِعْلِ بِأَنْ عَلِمَا أَوْ ظَنَّا ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّ الصَّوْمَ يَضُرُّهُمَا

وَجَبَ الْإِفْطَارُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ فِي الْأَفْضَلِ لِلْمُسَافِرِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ إِذَا كَانَ أَيْسَرَ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ آخَرُ كَحَمْلِ رِفَاقِهِ فِي السَّفَرِ عَلَى خِدْمَتِهِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْمَنْدُوبَاتِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ رِفَاقُهُ، فَإِنْ كَانَ يُعْجِزُهُ عَنْ عَمَلٍ وَاجِبٍ وَجَبَ الْفِطْرُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْمَرِيضُ كَالْمُسَافِرِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَفْضَلِ لَهُ وَأَنَّهُ الْأَيْسَرُ، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ مَا يَكُونُ الصِّيَامُ عِلَاجًا لَهُ أَوْ مُسَاعِدًا عَلَى زَوَالِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَوَائِدِهِ الصِّحِّيَّةِ. الثَّالِثُ: مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِسَبَبٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْهَرَمِ وَضَعْفِ الْبِنْيَةِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْمَرَضِ الزَّمِنِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَتَكَرَّرُ سَبَبُ مَشَقَّتِهِ كَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وَيُطْعِمُوا بَدَلًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مَا يُشْبِعُ الرَّجُلَ الْمُعْتَدِلَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ الْوَاجِبِ الْحَتْمِ وَالرُّخَصِ فِيهِ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) بِأَنْ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لِأَنَّ فَائِدَتَهُ وَثَوَابَهُ لَهُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ) تَدُلُّ عَلَى هَذَا لِأَنَّهَا تَفْرِيعٌ عَلَى حَصْرِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلَا يَصْلُحُ تَفْرِيعًا عَلَى حُكْمِ الْفِدْيَةِ ; لِأَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ دَائِمًا مَعَ الْفِدْيَةِ عَنْهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْدَبَ لِلتَّطَوُّعِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ. وَجَعَلَ (الْجَلَالُ) التَّطَوُّعَ مُتَعَلِّقًا بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَاسْتَبْعَدَهُ شَيْخُنَا. وَأَقْرَبُ مِنْهُ شُمُولُهُ لَهُمَا. (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أَيْ: وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ كَمَا قَرَأَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَإِنَّمَا هِيَ تَفْسِيرٌ ; أَيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَةِ الْجَسَدِ وَالنَّفْسِ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ بِالتَّقْوَى وَتَقْوِيَتِهِ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو أُمَامَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ فِيهِ، لَا إِنْ كُنْتُمْ تَصُومُونَ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ وَلَا عِلْمٍ بِسِرِّ الْحُكْمِ وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَكَوْنِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ ; لِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، أَوِ اتِّبَاعًا لِعَادَاتِ الْخُلَطَاءِ وَالْمُعَاشِرِينَ. هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِأَهْلِ الرُّخَصِ وَأَنَّ الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ التَّرَخُّصِ بِالْإِفْطَارِ، وَهَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَتُنَافِيهِ أَحَادِيثُ وَرَدَتْ، وَيُبْعِدُهُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَيَّنَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْهُ وَمِنَ الْفِطْرِ. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أَنْزِلُ فِيهِ الْقُرْآنُ) هَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْنَا وَأَنَّهَا أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الشَّهْرِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَأُفِيضَتْ عَلَى الْبَشَرِ فِيهِ هِدَايَةُ الرَّحْمَنِ، بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ

185

خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، بِالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ لِلْأَنَامِ، الدَّائِمَةِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ ; فَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ بَدْؤُهُ وَأَوَّلُهُ (هُدًى لِلنَّاسِ) أَيْ: أُنْزِلَ حَالَ كَوْنِهِ هُدًى كَامِلًا لِلنَّاسِ كَافَّةً (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى) أَيْ: وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَاضِحَاتٍ لَا لَبْسَ فِي حَقِّيَّتِهَا، وَلَا خَفَاءَ فِي حُكْمِهَا وَأَحْكَامِهَا، مِنْ جِنْسِ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنَّهُ أَبْيَنُهُ وَأَكْمَلُهُ (وَالْفُرْقَانِ) الَّذِي يُفَرِّقُ لِلْمُهْتَدِي بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، فَحُقَّ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مَا لَا يُعْبَدُ فِي غَيْرِهِ تَذَّكُّرًا لِإِنْعَامِهِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ وَشُكْرًا عَلَيْهَا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ مُبْهَمَةً أَوَّلًا وَتَعْيِينِهَا بَعْدَ ذَلِكَ: أَنَّ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ الَّذِي يُشْعِرُ بِالْقِلَّةِ يُخَفِّفُ وَقْعَ التَّكْلِيفِ بِالصِّيَامِ الشَّاقِّ عَلَى النُّفُوسِ وَهُوَ الْأَصْلُ ; إِذْ لَيْسَ رَمَضَانُ عَامًّا فِي الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا. ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّعْيِينَ وَالْبَيَانَ بَعْدَ ذِكْرِ حِكْمَةِ الصِّيَامِ وَفَائِدَتِهِ وَذِكْرِ الرُّخَصِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ خَيْرِيَّةِ الصِّيَامِ فِي نَفْسِهِ وَاسْتِحْبَابِ التَّطَوُّعِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُعِدُّ النَّفْسَ لِأَنْ تَتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالرِّضَى جَعْلَ تِلْكَ الْأَيَّامِ شَهْرًا كَامِلًا. وَانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأَ هُنَا بِذِكْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَوَصْفِ الْقُرْآنِ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْكِي عَنْهُ لَذَّاتِهِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ حُكْمِ الصَّوْمِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَمْرِ فَلَمْ يُفَاجِئِ النُّفُوسَ بِهِ مَعَ ذَلِكَ التَّمْهِيدِ لَهُ حَتَّى قَدَّمَ الْعِلَّةَ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ حَذْفِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ كَلِمَةَ (شَهْرُ رَمَضَانَ) مُبْتَدَأٌ، أَوْ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ حَذْفَ الْخَبَرِ جَارٍ عَلَى مَا نَعْهَدُهُ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ بِحَذْفِ مَا لَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ بِحَذْفِهِ، وَإِنَّ الْبَيَانَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِهِ فِي ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّتَهَا وَحِكْمَتَهَا، وَهِيَ هُنَا إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى بِهِ وَجَعَلَهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى ; أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ هُدًى فِي نَفْسِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ الْجِنْسُ الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى السَّمَاوِيِّ، وَكُتُبُ اللهِ كُلُّهَا هُدًى وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي بَيَانِهَا كَالْقُرْآنِ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كِتَابَ دَانْيَالَ النَّبِيِّ فَإِنَّ اللهَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا لِيَهْتَدِيَ بِهِ مَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، بَلْ هُوَ كَالْأَلْغَازِ وَالرُّمُوزِ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِعَنَاءٍ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الَّتِي سَمَّاهَا اللهُ تَعَالَى (نُورًا وَهُدًى) (6: 91) فِيهَا غَوَامِضُ وَمُشْكِلَاتٌ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا، فَلَمْ يَكُنْ ضِيَاءُ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ مُتَبَلِّجًا وَسَاطِعًا مِنْ سُطُورِهَا سُطُوعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي نَرَاهُ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ أَنْفُسَهُمْ مَا كَانُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ وَالْبَشَائِرِ وَهِيَ الْإِنْجِيلُ الْحَقِيقِيُّ فِي اعْتِقَادِنَا. أَقُولُ: بَلْ فِيهَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ تُقَالَ لَهُمْ ; أَيْ: لَوْلَا الْمَوَانِعُ مِنْهَا فِي عَهْدِهِ، وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ الْفَارِقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ

الَّذِي يَقُولُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ - يَعْنِي مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسَيَرَى الْقَارِئُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِيَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَفْهَمُوهَا، وَلَا أَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ حَارُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَالْقُرْآنُ يَمْتَازُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مِنَ الْهُدَى الَّذِي تُوصَفُ بِهِ كُلُّهَا، وَبَيِّنَاتٌ مِنَ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بَيْدَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرْضَوْا كَافَّةً بِأَنْ يَمْتَازَ الْقُرْآنُ بِالْبَيَانِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ بَيَانٌ وَالْهُدَى لِجَمِيعِ النَّاسِ - كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ - فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ تَغْمِيضَهُ، وَسَلَّمَ لَهُمْ مُقَلِّدَتُهُمْ أَنَّهُ غَامِضٌ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ النَّاسِ أُوتُوا عِلْمًا جَمًّا، وَفَاقُوا سَائِرَ الْبَشَرِ بِعُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ، كَمَا فَاقُوهُمْ بِعُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادَ كَانُوا فِي بَعْضِ الْقُرُونِ الْأُولَى وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَأَنَّهُمْ قَدِ انْقَرَضُوا وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُمْ وَلَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْهَمَ الْقُرْآنَ وَلَوْ أَحْكَامَهُ فَقَطْ، وَتَجِدُ هَذَا الْقَوْلَ الْمُنَاقِضَ لِلْقُرْآنِ وَالنَّاقِضَ لَهُ مُسَلَّمًا بَيْنَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ، وَمَنْ نَبَذَهُ اهْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ، رُبَّمَا نَبَذُوهُ بِلَقَبِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ؟ أَمَا وَسِرِّ الْحَقِّ لَوْلَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَبَّسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَلْبَسُونَ، وَحَكَّمُوا فِيهِ آرَاءَ مَنْ يُقَلِّدُونَ لَكَانَ نُورُ بَيَانِهِ مُشْرِقًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ، كَالشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَتَّبِعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَيَضَعُوا كُتُبًا فِي الدِّينِ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَيَانَهَا أَجْلَى، وَالِاهْتِدَاءَ بِهَا أَوْلَى ; لِأَنَّهَا بِزَعْمِهِمْ أَبْيَنُ حُكْمًا، وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَذْهَانِ فَهْمًا. قُلْنَا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْنَا صِيَامَ هَذَا الشَّهْرِ بِخُصُوصِهِ، تَذْكِيرًا بِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ لِنَصُومَهُ شُكْرًا لَهُ عَلَيْهَا، وَمِنَ الشُّكْرِ أَنْ تَكُونَ هِدَايَتُنَا بِالْقُرْآنِ فِي مِثْلِ وَقْتِ نُزُولِهِ أَكْمَلَ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ مُوَصِّلًا إِلَى حَقِيقَةِ التَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ نَنْتَفِعْ بِالصِّيَامِ فِي أَخْلَاقِنَا وَأَعْمَالِنَا، وَلَمْ نَهْتَدِ بِالْقُرْآنِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِنَا، فَأَيْنَ الِانْتِفَاعُ بِالنِّعْمَةِ وَأَيْنَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا؟ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ يَتَدَارَسُونَهُ فِيهِ وَيَقُومُونَ لَيْلَهُ بِهِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِدَاءِ وَالِاعْتِبَارِ، فَمَاذَا كَانَ مِنِ اقْتِدَاءِ الْخَلَفِ بِهِمْ؟ كَانَ أَنَّ بَعْضَ الْوُجَهَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ يَسْتَحْضِرُونَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى لَهُمْ بِالْقُرْآنِ فِي حُجُرَاتِ الْخَدَمِ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ مَعَ أَمْثَالِهِمْ وَأَقْتَالِهِمْ لَاهُونَ لَاعِبُونَ، وَمَنْ عَسَاهُ يُصْغِي مِنْهُمْ أَحْيَانًا إِلَى الْقَارِئِ ; فَإِنَّمَا يُرِيدُ التَّلَذُّذَ بِسَمَاعِ صَوْتِهِ الْحَسَنِ وَتَوْقِيعِهِ الْغِنَائِيِّ، فَقَدْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ إِمَّا مَهْجُورًا، وَإِمَّا لَذَّةً نَفْسِيَّةً فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (6: 70) .

وَأَمَّا مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ - مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْيَقِينِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُتَفَرِّقًا فِي مُدَّةِ الْبِعْثَةِ كُلِّهَا - فَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِهِ كَانَ فِي رَمَضَانَ، وَذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ; أَيْ: الشَّرَفِ، وَاللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ كُلِّهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِ، وَقَدْ ظَنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِلتَّفْسِيرِ مُنْذُ عَصْرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ، وَرَوَوْا فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ مُنَجَّمًا بِالتَّدْرِيجِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ مِنْهُ شَيْءٌ خِلَافًا لِظَاهِرِ الْآيَاتِ، وَلَا تَظْهَرُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا وَلَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ رَمَضَانَ شَهْرَ الصَّوْمِ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا ; لِأَنَّ وُجُودَ الْقُرْآنِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هِدَايَةً لَنَا، وَلَا تَظْهَرُ لَنَا فَائِدَةٌ فِي هَذَا الْإِنْزَالِ وَلَا فِي الْإِخْبَارِ، وَقَدْ زَادُوا عَلَى هَذَا رِوَايَاتٍ فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ أُنْزِلَتْ فِي رَمَضَانَ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ كُلِّفَتْ صِيَامَ رَمَضَانَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا هِيَ حَوَاشٍ أَضَافُوهَا لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا إِذْ يَكْفِينَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِ هِدَايَتَنَا وَجَعَلَهُ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا وَمَوَاسِمِ عِبَادَتِنَا، وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى إِنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي رَمَضَانَ، وَلَا إِنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، بَلْ قَالَ بَعْدَ إِنْزَالِهِ: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (85: 21، 22) فَهُوَ مَحْفُوظٌ فِي لَوْحٍ بَعْدَ نُزُولِهِ قَطْعًا، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي ذَكَرُوا أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَأَنَّ مِسَاحَتَهُ كَذَا، وَأَنَّهُ كُتِبَ فِيهِ كُلُّ مَا عَلِمَ اللهُ تَعَالَى فَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، فَالْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ فِيهِ عِنْدَ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا تَفْصِيلٍ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ نَصٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أَيْ: فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ دُخُولَ الشَّهْرِ أَوْ حُلُولَهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا فَلْيَصُمْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ السَّنَةُ مِنْهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. وَشُهُودُهُ فِيهَا يَكُونُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ، فَعَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَوْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ رُؤْيَةُ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يَصُومَ، وَإِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فِي اللَّيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَجَبَ صِيَامُ يَوْمِهَا وَكَانَ أَوَّلُ رَمَضَانَ مَا بَعْدَهُ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا ثَابِتَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَجَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْيَوْمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهْرِ هُنَا الْهِلَالُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنِ الْهِلَالِ بِالشَّهْرِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ: شَهِدَ الْهِلَالَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: رَآهُ، وَمَعْنَى شَهِدَ حَضَرَ،

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْكُمْ حُلُولَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَلَمْ يَقُلْ ((فَصُومُوهُ)) لِمِثْلِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَمْ يُحَدِّدِ الْقُرْآنُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ خِطَابُ اللهِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِنَ الْمَوَاقِعِ مَا لَا شُهُورَ فِيهَا وَلَا أَيَّامَ مُعْتَدِلَةً، بَلِ السَّنَةُ كُلُّهَا قَدْ تَكُونُ فِيهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً تَقْرِيبًا كَالْجِهَاتِ الْقُطْبِيَّةِ، فَالْمُدَّةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ فِي لَيْلٍ - وَهِيَ نِصْفُ السَّنَةِ - يَكُونُ الْقُطْبُ الْجَنُوبِيُّ فِي نَهَارٍ وَبِالْعَكْسِ، وَيَقْصُرُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَيَطُولَانِ عَلَى نِسْبَةِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْقُطْبَيْنِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَهُوَ وَسَطُ الْأَرْضِ. أَرَأَيْتَ هَلْ يُكَلِّفُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يُقِيمُ فِي جِهَةِ الْقُطْبَيْنِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ فِي يَوْمِهِ - وَهُوَ سَنَةٌ أَوْ مِقْدَارُ عِدَّةِ أَشْهَرٍ - خَمْسَ صَلَوَاتٍ إِحْدَاهَا حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَخْ، وَيُكَلِّفُهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِالتَّعْيِينِ وَلَا رَمَضَانَ لَهُ وَلَا شُهُورَ؟ كَلَّا إِنَّ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى عَلَى كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْمُحِيطِ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ - لَا مِنْ تَأْلِيفِ الْبَشَرِ - مَا تَرَاهُ فِيهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْخِطَابِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانِ مَنْ جَاءَ بِهِ وَلَا مَكَانِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ كُلُّ مَا فِيهِ مُنَاسِبًا لِحَالِ زَمَانِهِ وَبِلَادِهِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ أَنَّ فِي الْأَرْضِ بِلَادًا نَهَارُهَا كَعِدَّةِ أَنْهُرٍ أَوْ أَشْهُرٍ مِنْ أَنْهُرِنَا وَأَشْهُرِنَا وَلَيَالِيهَا كَذَلِكَ. فَمُنَزِّلُ الْقُرْآنِ - وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَخَالِقُ الْأَرْضِ وَالْأَفْلَاكِ - خَاطَبَ النَّاسَ كَافَّةً بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْتَثِلُوهُ، فَأَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ، وَالرَّسُولُ بَيَّنَ أَوْقَاتَهَا بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي هِيَ الْقِسْمُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقْدُرُوا لِلصَّلَوَاتِ بِاجْتِهَادِهِمْ وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِ اللهِ الْمُطْلَقِ. وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، مَا أَوْجَبَ رَمَضَانَ إِلَّا عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَحَضَرَهُ، وَالَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ شَهْرٌ مِثْلُهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَسْأَلَةَ التَّقْدِيرِ بَعْدَمَا عَرَفُوا بَعْضَ الْبِلَادِ الَّتِي يَطُولُ لَيْلُهَا وَيَقْصُرُ نَهَارُهَا وَالْبِلَادِ الَّتِي يَطُولُ نَهَارُهَا وَيَقْصُرُ لَيْلُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ عَلَى أَيِّ الْبِلَادِ يَكُونُ فَقِيلَ عَلَى الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّشْرِيعُ كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ عَلَى أَقْرَبِ بِلَادٍ مُعْتَدِلَةٍ إِلَيْهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزٌ فَإِنَّهُ اجْتِهَادِيٌّ لَا نَصَّ فِيهِ. (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أُعِيدَ ذِكْرُ الرُّخْصَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ - بَعْدَ تَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّوْمِ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ وَيُنْدَبُ التَّطَوُّعُ بِهِ، وَبَعْدَ تَحْدِيدِهِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي لَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ مَا لَهُ - أَنَّ صَوْمَ هَذَا الشَّهْرِ حَتْمٌ لَا تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ، أَوْ تَتَنَاوَلُهُ وَلَكِنْ لَا تُحْمَدُ فِيهِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ تَأْكِيدَ الصَّوْمِ بِمِثْلِ مَا أَكَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ يَقْتَضِي تَأْكِيدَ أَمْرِ الرُّخْصَةِ أَيْضًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَتَاهَا مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي صِيَامِهِ، بَلْ رَوَى الْمُحَدِّثُونَ: أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ

عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ كَانُوا - عَلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ الرُّخْصَةِ فِي الْقُرْآنِ - يَتَحَامَوْنَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَوَّلًا، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فَلَمْ يَمْتَثِلُوا حَتَّى أَفْطَرَ هُوَ بِالْفِعْلِ، وَسَمَّى الْمُمْتَنِعَ عَنِ الْفِطْرِ عَاصِيًا كَمَا تَقَدَّمَ. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ ; أَيْ: يُرِيدُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنْ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الصِّيَامِ، وَسَائِرِ مَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَنْ يَكُونَ دِينُكُمْ يُسْرًا تَامًّا لَا عُسْرَ فِيهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ ضَرْبًا مِنَ التَّحْرِيضِ وَالتَّرْغِيبِ فِي إِتْيَانِ الرُّخْصَةِ، وَلَا غَرْوَ فَاللهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا ((التَّخْيِيرُ)) . (أَقُولُ) : وَالْآيَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ إِذَا لَمْ يَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ أَوْ عُسْرٌ ; لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الرُّخْصَةِ، وَإِلَّا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ لِوُجُودِ عِلَّتِهَا، وَيَتَأَكَّدُ بِوُجُودِ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى فِي الْفِطْرِ كَالْقُوَّةِ عَلَى الْجِهَادِ وَتَقَدَّمَ بَسْطُهُ ; ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَا يُرِيدُ إِعْنَاتَ النَّاسِ بِأَحْكَامِهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْيُسْرَ بِهِمْ وَخَيْرَهُمْ وَمَنْفَعَتَهُمْ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الدِّينِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ أَخَذُوا قَاعِدَةَ ((الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ)) وَوَرَدَ فِي هَذَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَشْهَرِهَا ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ هُنَا حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ لَا إِرَادَةُ التَّكْوِينِ. زُرْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي عَهْدِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ بِطَرَابُلْسَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1311هـ فَاجْتَمَعْتُ فِي مَدِينَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُفْتِيهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ آلِ التَّمِيمِيِّ فَسَأَلَنِي مُمْتَحِنًا: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وَمَا يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ عَقْلًا وَلَكِنَّنَا نَرَى الْعُسْرَ وَاقِعًا مُشَاهَدًا فَكَيْفَ هَذَا؟ قُلْتُ: إِنَّ الْآيَةَ فِي تَعْلِيلِ الرُّخْصَةِ فِي الصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، لَا فِي التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ كَالْعُسْرِ فِي الْمَالِ وَالرِّزْقِ، فَأَعْجَبَهُ الْجَوَابُ وَدَعَا لِي بِالْفَتْحِ، وَلَمْ أَكُنْ حَضَرْتُ شَيْئًا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ. ثُمَّ قَالَ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ (لِتُكْمِلُوا) بِالتَّخْفِيفِ. مِنَ الْإِكْمَالِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ - بِالتَّشْدِيدِ - مِنَ التَّكْمِيلِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) كَأَنَّهُ قَالَ: رَخَّصَ لَكُمْ فِي حَالَيِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ; لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، فَمَنْ لَمْ يُكْمِلْهَا أَدَاءً لِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ أَكْمَلَهَا قَضَاءً بَعْدَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِتَقْوِيَةِ الْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ) (61: 8) أَيْ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَهُوَ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ كَثِيرًا وَرَجَّحَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ النَّافِعَةِ لَكُمْ بِأَنْ تَذْكُرُوا عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَحِكْمَتَهُ فِي إِصْلَاحِ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يُرَبِّيهِمْ بِمَا يَشَاءُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِمَا يَخْتَارُ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ بِالرُّخَصِ اللَّائِقَةِ بِحَالِهِمْ (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

186

لَهُ هَذِهِ النِّعَمَ كُلَّهَا، بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَإِعْطَاءِ كُلٍّ مِنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ حَقَّهَا، فَتَكُونُوا مِنَ الْكَامِلِينَ. ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ تَعْلِيلَاتٍ مُرَتَّبَةً بِأُسْلُوبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَامِلٍ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ ; أَيْ: شَرَعَ لَكُمْ مَا ذَكَرَ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِمَنْ شَهِدَهُ سَالِمًا صَحِيحًا لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعِدَّةِ دُونَ عِدَّةِ الشَّهْرِ يُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّكْلِيفِ الْعَامِّ لِلصَّوْمِ هُوَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ، وَكَوْنُهَا رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ خَاصٌّ بِمَنْ شَهِدَهُ مِمَّنْ لَمْ تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ الْغَرِيبَةِ وَبَلَاغَتِهِ الَّتِي لَا يَخْطُرُ مِثْلُهَا عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ سَفَرٍ ; لِتُكَبِّرُوهُ وَتُعَظِّمُوا شَأْنَهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرُّخْصَةِ بِالْفِطْرِ وَالْعَزِيمَةِ بِالْقَضَاءِ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْفِدْيَةَ فِي حَالِ الْمَشَقَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ بِالصَّوْمِ، وَأَرَادَ بِكُمُ الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَقَدْ صَوَّرْنَا تَرْتِيبَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِمَا نَرَاهُ أَوْضَحَ مِمَّا صَوَّرُوهُ بِهِ. هَذَا مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَطُبِعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ الصِّيَامِ الْمَشْرُوعِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، لَا بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهَا أَدَاءً فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ وَقَضَاءً فِي حَالِ الرُّخْصَةِ، وَإِرَادَةُ الْيُسْرِ دُونَ الْعُسْرِ تَعْلِيلٌ لِلرُّخَصِ الثَّلَاثِ: لِلسَّفَرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْفِدْيَةَ، وَالتَّكْبِيرُ تَعْلِيلٌ لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِصِيَامِ الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَمَظْهَرُهُ الْأَكْبَرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ إِذْ شُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ الْقَوْلِيُّ عَامَّةَ لَيْلِهِ وَإِلَى مَا بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَكُونُ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ كُلِّهَا وَعَلَى غَيْرِهَا. (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ ; فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَرَوَوْا فِي سَبَبِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَضْعَفُ سَنَدًا، وَأَقَلُّ نَاصِرًا وَعَدَدًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ

بِبَعِيدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اعْتَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا وَسَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِلَهِهِمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَؤُلَاءِ الْوَسَائِلُ وَالْوَسَائِطُ إِمَّا أَشْخَاصٌ وَإِمَّا أَمْثِلَةُ أَشْخَاصٍ كَالتَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى التَّجَرُّدِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ حَتَّى هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِآيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ، فَكَانُوا أَهْلَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ. وَلَكِنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ، فَهِيَ لَيْسَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ طَالَبَنَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ الصِّيَامِ وَبِتَكْبِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُعِدُّنَا لِشُكْرِهِ تَعَالَى، وَالتَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ يَكُونَانِ بِالْقَوْلِ نَحْوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، كَمَا يَكُونَانِ بِالْعَمَلِ، وَمَا كَانَ بِالْقَوْلِ يَأْتِي فِيهِ السُّؤَالُ: هَلْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمُنَادَاةِ، أَمْ بِالْمُخَافَتَةِ وَالْمُنَاجَاةِ! فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ إِنْ لَمْ يَقَعْ، فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رَوَوْهُ فِي سَبَبِهَا أَمْ لَا. (قَالَ) : وَيُرْوَى فِي نُزُولِهَا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُمْ: ((ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا)) وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تُفِيدُنَا الْآيَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَفْعُ الصَّوْتِ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّرْعُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَنْ بَالَغَ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ رُبَّمَا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ تَعَمَّدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّيَاحِ فِي دُعَائِهِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ كَانَ إِلَى عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ. (أَقُولُ) : أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ)) وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا عَلَوْا عَقَبَةً أَوْ ثَنِيَّةً. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْآيَةِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمَقَامِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ النَّهْيِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لَهَا بَلْ هُوَ عَمَلٌ بِهَا. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْعَادِلِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا. قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِأَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ مَا يُرَاعُونَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَجُعِلَتْ بِأُسْلُوبِ الْفَتْوَى عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُؤْمِنُوا

بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ وَلَا وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ يُبَلِّغُهُ دُعَاءَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، أَوْ يُشَارِكُهُ فِي إِجَابَتِهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ، لِيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكْبِيرِ وَالشُّكْرِ، عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ مُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ، مُجَازٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، تَأْكِيدًا لَهُ وَحَثًّا عَلَيْهِ اهـ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنْ يُبَيِّنَ مَعَ كُلِّ حُكْمٍ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ وَفَائِدَتَهِ فِي تَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَمْزُجُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا يُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُعِينُ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَيُثْبِتُ الْإِيمَانَ بِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَيَا لَيْتَ فُقَهَاءَنَا اقْتَدَوْا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَجْعَلُوا كُتُبَ الْأَحْكَامِ جَافَّةً مَقْصُورَةً عَلَى ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، كَأَنَّ الدِّينَ دِينٌ مَادِّيٌّ جُسْمَانِيٌّ لَا غَرَضَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ فِيهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قُرْبِ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَسْمَعُ أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ. وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِنْهُمْ. اهـ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْكَلَامَ تَمْثِيلًا ; لِأَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْحِصَارِ فِي الْمَكَانِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُرْبِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ تَكُونُ نِسَبُ الْأَمْكِنَةِ وَمَا فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، فَهُوَ تَعَالَى قَرِيبٌ بِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِذْ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَعَلَيْهِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ ; فَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) (56: 85) أَيْ: إِذَا بَلَغَتْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ حَاضِرًا فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ: (وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) (56: 85) وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ أَنْ يُبْصَرَ فَيَنْفِي هُنَا إِبْصَارَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَأْنُ الذَّاتِ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مَذْكُورٌ بِنَصِّهِ فِي كِتَابِ ((الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ)) لِلشَّعْرَانِيِّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَازِمُ الْقُرْبِ مَقْصُودٌ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَلَا إِلَى الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِي التَّوَسُّلِ بِالشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّنِي قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَأَنَّنِي أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (أَيْ كَمَا فِي سُورَةِ ق) . هَذَا مَا كَتَبْتُهُ مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى كَلِمَةِ شَيْخِنَا فِي قُرْبِ الْوُجُودِ، وَطُبِعَ أَوَّلًا وَاطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ إِخْوَانِنَا السَّلَفِيِّينَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ ; فَإِنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ أَوْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْبَ بِالْعِلْمِ كَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ عِبَادِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ عَلَى إِجْمَالِهَا أَقْرَبُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ

السَّلَفِيِّينَ ; فَإِنَّ الْبَائِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ - الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ - هُوَ الَّذِي تَكُونُ نِسْبَةُ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَنْ فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقُرْبُ الصِّفَاتِ لَا يُعْقَلُ بِدُونِ قُرْبِ الذَّاتِ ; إِذْ لَا انْفِصَالَ بَيْنَهُمَا وَلَا انْفِكَاكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إِمْرَارُ النُّصُوصِ فِي الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَسْنَدَ ((الْقُرْبَ)) فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَتَيْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ ق إِلَى ذَاتِهِ، فَنَأْخُذُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ إِثْبَاتِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ الَّتِي يُفْهَمُ بِهَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ، وَالْجَامِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ مِنَ الْإِيجَادِ لِلْعِبَادِ وَالْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ وُجُودِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، فَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ (ق) يُنَاسِبُ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) (50: 17) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (50: 16) وَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يُنَاسِبُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ تَعَالَى كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَقُرْبُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يُنَاسِبُ الْإِمْدَادَ بِسَمْعِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَتِهِ وَهِيَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) مِنْهُمْ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ (إِذَا دَعَانِ) وَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَحْدِي فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ ; أَيْ: يَجِبُ أَنْ يُدْعَى وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ تُعِينُهُ أَوْ تُسَاعِدُهُ أَوْ تَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِجَابَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ تُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ. وَقَدْ فَسَّرُوا الدَّعْوَةَ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَقَالُوا: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُجِيبُ كُلَّ دَاعٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِجَابَةَ فَهُوَ يُجِيبُ إِنْ شَاءَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (6: 41) فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يُعْطِي الْكَثِيرَ فَاطْلُبْ مِنْهُ ; أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ طَالِبٍ عَيْنَ مَا طَلَبَهُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِجَابَةَ أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْإِشْكَالِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الصِّيَاحِ بِتَكْبِيرِهِ وَدُعَائِهِ، وَلَا إِلَى أَنْ يَتَّخِذُوا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَسُؤَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصْمُدُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَحْدَهُ.

(أَقُولُ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الْآيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَارِفَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعَالِمَ بِشَرْعِهِ وَبِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ لَا يَقْصِدُ بِدُعَائِهِ رَبَّهُ إِلَّا هِدَايَتَهُ إِلَى الطُّرُقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ تَحْصُلَ الرَّغَائِبُ بِهَا، وَتَوْفِيقُهُ وَمَعُونَتُهُ فِيهَا، فَهُوَ إِذَا سَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ فِي عِلْمِهِ أَوْ فِي رِزْقِهِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَحْيًا يُوحَى، وَلَا أَنْ تُمْطِرَ لَهُ السَّمَاءُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ اللهَ شِفَاءَ مَرَضِهِ أَوْ مَرِيضِهِ الَّذِي أَعْيَاهُ عِلَاجُهُ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَخْرِقَ اللهُ الْعَادَاتِ، أَوْ يَجْعَلَهُ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِالدُّعَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ إِيَّاهُ إِلَى الْعِلَاجِ، أَوِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الشِّفَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ مُرْشِدٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ، فَكَمْ مِنْ عِنَايَةٍ بِالْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، الدَّاعِينَ لَهُ بَعْدَمَا اجْتَهَدُوا فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ فَلَمْ يُفْلِحُوا. وَمِنْ عِنَايَتِهِ الْهِدَايَةُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَإِلْهَامُ النَّفْسِ الْعَمَلَ الْمُفِيدَ، وَتَقْوِيَةُ الْمِزَاجِ عَلَى الْمَرَضِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ يُجَابُ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِلَّا اللهُ، فَيَجِبُ أَلَّا يُدْعَى سِوَاهُ (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) فَعَسَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَذَا الْمَوْسُومُونَ بِسِمَةِ الْإِيمَانِ، الَّذِينَ يَدْعُونَ عِنْدَ الضِّيقِ غَيْرَ الرَّحْمَنِ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْقُبُورِ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ. وَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ هَذَا الشِّرْكَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، بِأَنَّ الْكَرَامَاتِ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُمْ لِلْأَمْوَاتِ كَالْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (6: 41) وَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي حَتَّى قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: (إِذَا دَعَانِ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الدَّاعِيَ شَخْصٌ يَطْلُبُ شَيْئًا، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَحَقِّقًا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يُدْعَى، فَهُوَ يَقُولُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا خَصَّنِي بِالدُّعَاءِ وَالْتَجَأَ إِلَيَّ الْتِجَاءً حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ ذَهَبَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَيَّ، وَشَعَرَ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ إِلَّا إِلَيَّ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَطْمَعُ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَا يَطْلُبُ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ، وَإِنَّمَا يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ جَمِيعِ الْوَسَائِلِ مِنْ طُرُقِهَا الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ تَمَّ لِلْعَبْدِ مَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنِهِ الَّتِي يُفِيضُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ مُتَّبِعِي سُنَنَهِ فِي الْخَلْقِ، وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِسُؤْلِهِ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَهَادِي الْقُلُوبِ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا وَخَفِيَ عَلَيْهَا، وَيَطْلُبُ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ مِمَّنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يُجَابُ لَا مَحَالَةَ. وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الدُّعَاءُ الْمُجَابُ هُوَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِ الِاسْتِعْدَادِ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الطَّمَعِ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، فَمَنْ يَتْرُكُ السَّعْيَ وَالْكَسْبَ وَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ أَلْفَ جُنَيْهٍ)) فَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَاهِلٌ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرِيضُ لَا يُرَاعِي الْحَمِيَّةَ وَلَا يَتَّخِذُ الدَّوَاءَ، وَيَقُولُ: رَبِّ اشْفِنِي وَعَافِنِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَبْطِلْ سُنَنَكَ الَّتِي قُلْتَ: إِنَّهَا لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُحَوَّلُ لِأَجْلِي

وَكَمِ اسْتَجَابَ اللهُ لَنَا مِنْ دُعَاءٍ، وَكَشَفَ عَنَّا مِنْ بَلَاءٍ، وَرَزَقَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَحْتَسِبُ وَلَا نَتَّخِذُ الْأَسْبَابَ، وَلَكِنْ بِتَسْخِيرِهِ هُوَ لِلْأَسْبَابِ. سَأَلَ سَائِلٌ فِي الدَّرْسِ: إِذَا كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا فَعَلَامَ السُّؤَالُ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِذَا كَانَتْ إِجَابَتِي أَوْ عَدَمُهَا مُقَدَّرًا فَلِمَ السُّؤَالُ؟ هَذَا لَا يُقَالُ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا الْحِكْمَةُ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِنَا وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُنَا؟ قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ فَزَعُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَشُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَعُونَتِهِ وَالْتِجَاؤُهُ إِلَيْهِ. وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: فَادْعُ اللهَ. قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي. (أَقُولُ) : وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مَطْلُوبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهُ الْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِاللِّسَانِ هُوَ أَثَرُ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَفَزَعِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فَهُوَ مُذَكِّرٌ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ ; وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَّ الْعِبَادَةِ، فَهُوَ يُطْلَبُ لِذَلِكَ، وَإِجَابَةُ اللهِ الدُّعَاءَ تَقَبُّلُهُ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُ وَفَزِعَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَمْ لَمْ يَصِلْ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ((رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَمَتْنُهُ صَحِيحٌ فَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) قَالُوا: اسْتَجَابَ لَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَأَجَابَهُ إِلَى الشَّيْءِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَيُؤْتِيَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْتِجَابَةُ قِيلَ هِيَ الْإِجَابَةُ، وَحَقِيقَتُهَا التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ، لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. اهـ. وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (8: 24) أَنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ وَعَكسَهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ

فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي وَالطَّلَبِ أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (3: 195) وَالْمَعْنَى: وَإِذْ كُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُمْ مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَانِي مِنْهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا هُمْ لِي بِتَحَرِّي مَا أَمَرْتُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لَهُمْ كَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، كَمَا أُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ بِقَبُولِ عِبَادَتِهِمْ، وَتَوَلِّي إِعَانَتِهِمْ، فَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي يُطَاعُ طَاعَةَ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا دَعَانَا غَيْرُهُ إِلَى عِبَادَةٍ اخْتَرَعَهَا بِاجْتِهَادِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ لَا نُجِيبُهُ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّنَا لَا نَدْعُو غَيْرَهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ هُنَا: إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ وَأَنَّ حَظَّ مَنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ مِنْهُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَيُطَالِبَهَا بِأَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي عُدَّ بِهَا مُسْلِمًا صَادِرَةً عَنِ الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ وَالِاحْتِسَابِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَفِي ذِكْرِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الِاسْتِجَابَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَيَقُومُ بِهَا وَهُوَ خُلْوٌ مَنْ رُوحِ الْإِيمَانِ (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (49: 14) . (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أَيْ: بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالرُّشْدُ وَالرَّشَادُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، فَعَلَّمَنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً بِرُوحِ الْإِيمَانِ لَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَاشِدًا مَهْدِيًّا، فَمَنْ يَصُومُ اتِّبَاعًا لِلْعَادَةِ وَمُوَافَقَةً لِلْمُعَاشِرِينَ فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى وَلَا لِلرَّشَادِ، وَرُبَّمَا زَادَهُ فَسَادًا فِي الْأَخْلَاقِ وَضَرَاوَةً بِالشَّهَوَاتِ ; لِذَلِكَ يُذَكِّرُنَا تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا نَفْعُ الْأَعْمَالِ فِي صُدُورِهَا عَنْهُ وَتَمْكِينِهَا إِيَّاهُ. (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .

187

بَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى سَرْدِ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فَقَالَ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا أَفْطَرُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَغَشَّوْنَ النِّسَاءَ إِلَى وَقْتِ النَّوْمِ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ صَامَ وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَصُومُونَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أَنَّ التَّشْبِيهَ يَتَنَاوَلُ كَيْفِيَّةَ الصَّوْمِ، فَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَاصَلَ الصَّوْمَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَكَانَ عَامِلًا فَأَضْوَاهُ الْجُوعُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ خَبَرُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَسْخَ هُنَا ; فَإِنَّ التَّشْبِيهَ لَيْسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْفَرْضِيَّةِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، مُتَمِّمَةٌ لِأَحْكَامِ الصَّوْمِ، مَبْنِيَّةٌ لِمَا امْتَازَ بِهِ صَوْمُنَا مِنَ الرُّخْصَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَقَالَ: إِذَا صَحَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَمَا فُرِضَ الصِّيَامُ كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَذْهَبُ فِي فَهْمِهِ مَذْهَبًا كَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَاهُ أَحْوَطَ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى ; وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَا رَوَوْهُ مِنْ إِتْيَانِ عَمَرَ أَهْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: ((لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ)) . (أَقُولُ) : أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ - بِكَسْرِ الصَّادِ - صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ مَجْهُودًا، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللهُ (أُحِلَّ لَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) قَالَ فِي لِبَابِ النُّقُولِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الصَّوْمِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ - وَقَوْلُ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَمَّرَ عِنْدَهُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ. قَالَ: مَا نِمْتِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَ كَعْبٌ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَدَا عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتْ. اهـ. فَأَنْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ اضْطِرَابًا، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مُقَارَبَةَ النِّسَاءِ مُحَرَّمَةً فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كَأَنْهُرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، وَأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِ كُلِّ رِوَايَةٍ عَلَى طَائِفَةٍ، وَإِلَّا تَعَارَضَتَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا. وَهَذَا الْجَمْعُ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا قُرْآنِيًّا فَيُقَالُ إِنَّهُ نُسِخَ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ أَوْقَعَهُمْ فِيهِ الْإِجْمَالُ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْبَيَانِ (قَالَ) : وَقَوْلُهُ: (أُحِلَّ لَكُمْ) لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ مِنْ كَمَالِ الصِّيَامِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ عَدَمُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَعَدَمُ مُقَارَبَةِ النِّسَاءِ بَعْدَهُ أَوْ مُطْلَقًا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (5: 96) وَلَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِهِ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ كَانَ جَرْيًا عَلَى سُنَّتِهِ فِي إِجَازَةِ عَمَلِ كُلِّ أَحَدٍ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الِاجْتِهَادَ مِنَ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ لِأَحَدٍ بِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُلْزِمُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا إِلَّا الْعَمَلَ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. أَمَّا لَيْلَةُ الصِّيَامِ فَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُصْبِحُ مِنْهَا الْمَرْءُ صَائِمًا، وَأَمَّا الرَّفَثُ إِلَى النِّسَاءِ فَهُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَيْهِنَّ وَمُبَاشَرَتُهُنَّ، وَأَصْلُهُ الْإِفْصَاحُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. يُقَالُ: رَفَثَ فِي كَلَامِهِ إِذَا فَحَشَ وَأَفْصَحَ بِذِكْرِ الْوِقَاعِ وَشُئُونِهِ أَوْ حَادَثَ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّفَثُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَحَقَّقَ الرَّاغِبُ أَنَّ الرَّفَثَ كَلَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ ذِكْرِ الْوِقَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى جَوَازِ دُعَائِهِنَّ إِلَى ذَلِكَ وَمُكَالَمَتِهِنَّ فِيهِ. وَعُدِّيَ بِـ (إِلَى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ النَّزَاهَةَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، كَقَوْلِهِ: (لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) وَ (أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وَ (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) وَ (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ) وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَدْ ذَكَرَ هُنَا اللَّفْظَ الصَّرِيحَ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ اسْتِهْجَانُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْكَلِمَةَ بِمَعْنَى مَا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ شَأْنِ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى أُحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ جِيءَ بِاللَّفْظِ عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ

عَلَيْهِ سُنَّةُ الْكِتَابِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِهْجَانِهِ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ وَإِنْ حَلَّ فَهُوَ مِنَ الْحَلَالِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) قَوْلٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحُكْمِ ; أَيْ: إِذَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ هَذِهِ الْمُلَابَسَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، فَإِنَّ اجْتِنَابَهُنَّ عُسْرٌ عَلَيْكُمْ، فَلِهَذَا رَخَّصَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ لَيْلَةَ الصِّيَامِ. قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ لَفْظَ (لِبَاسٌ) هُنَا مَصْدَرٌ ((لَابَسَهُ)) بِمَعْنَى: خَالَطَهُ وَعَرَفَ دَخَائِلَهُ، لَا بِمَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ اللِّبَاسِ وَالْإِزَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ هُنَّ سَكَنَ لَكُمْ وَأَنْتُمْ سَكَنَ لَهُنَّ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَانَقَةِ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بُقُولِ الذُّبْيَانِيِّ: إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ السَّتْرِ الْمَقْصُودِ مِنَ اللِّبَاسِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَتْرٌ لِلْآخَرِ وَإِحْصَانٌ لَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْغَشَيَانِ وَالتَّغَشِّي مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ عَنْ وَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أَيْ: تَنْتَقِصُونَهَا بَعْضَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهَا مِنَ اللَّذَّاتِ تَوَهُّمًا أَنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّخَوُّنِ أَيِ النَّقْصِ مِنَ الشَّيْءِ، أَوْ مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تَعْتَقِدُونَ شَيْئًا ثُمَّ لَا تَلْتَزِمُونَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، الَّتِي هِيَ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْأَمَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ تَخْتَانُونَ اللهَ، كَمَا قَالَ: (لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) (8: 72) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى الصَّائِمِ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِهِمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَدْ خَانُوا أَنْفُسَهُمْ فِي اعْتِقَادِهَا، فَكَانُوا كَمَنْ يَتَغَشَّى امْرَأَتَهُ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَعِصْيَانُهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَهُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا عَاصِينَ بِمَا فَعَلُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) فَإِنْ كَانَ ذَنْبُهُمْ تَحْرِيمَ مَا أَبَاحَ اللهُ لَهُمْ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ أَوِ التَّوَرُّعِ عَنْهُ لِيُوَافِقَ صِيَامُهُمْ صِيَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتُفَسَّرُ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ ذِكْرِ فَرْضِ الصِّيَامِ مُجْمَلًا، وَالتَّشْبِيهُ فِيهِ مُبْهَمًا، وَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ الَّذِي أَدَّى إِلَى التَّضْيِيقِ عَلَى النَّفْسِ وَإِيقَاعِهَا فِي الْحَرَجِ، وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ هُوَ مُخَالَفَةُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ كَانُوا فَهِمُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تَحْرِيمُ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَيْلًا مُطْلَقًا أَوْ تَحْرِيمُهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، فَالتَّوْبَةُ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَاهَا ; أَيْ إِنَّ اللهَ قَبْلَ تَوْبَتِكُمْ، وَعَفَا عَنْ خِيَانَتِكُمْ أَنْفُسِكُمْ (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الْمُبَاشِرَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَاضَعَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا: مَسُّ كُلٍّ بَشَرَةَ الْآخَرِ ; أَيْ: ظَاهَرَ جِلْدِهِ، فَهِيَ كَالْمُلَامَسَةِ فِي حَقِيقَتِهَا وَكِنَايَتِهَا وَهِيَ مِنْ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى فَالْآنَ بَاشَرُوهُنَّ ; إِذْ أُحِلَّ لَكُمُ الرَّفَثُ إِلَيْهِنَّ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ النَّافِي لِمَا فَهِمْتُمْ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي كِتَابَةِ الصِّيَامِ عَلَيْكُمْ، فَالْأَمْرُ بِالْمُبَاشِرَةِ لِلْإِبَاحَةِ النَّاسِخَةِ أَوِ النَّافِيَةِ لِذَلِكَ

الْحَظْرِ، فَهِيَ كَالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَاطْلُبُوا بِمُبَاشَرَتِهِنَّ مَا قَدَّرَهُ لِجِنْسِكُمْ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ مِنْ جَعْلِ الْمُبَاشِرَةِ سَبَبًا لِلنَّسْلِ، أَوْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ كَتَبَهُ لِكُلٍّ مِنْكُمْ بِأَنْ تَكُونَ مُبَاشَرَتُكُمْ بِقَصْدِ إِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، زَادَ بَعْضُهُمْ: لَا لِمَحْضِ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَاللَّذَّةِ الَّتِي يُشَارِكُكُمْ فِيهَا الْبَهَائِمُ، وَهُوَ يُشْعِرُ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِاللَّذَّةِ الزَّوْجِيَّةِ مَذْمُومٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَحْرُومَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَوِ اللَّذَيْنِ رُزِقَا بَعْضَ الْأَوْلَادِ ثُمَّ انْقَطَعَ نِتَاجُهُمَا لَا يُذَمُّ وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِغَيْرِ إِفْرَاطٍ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ لِإِحْصَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَرَامِ. وَلِمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفُقَرَاءِ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟)) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ((فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهَا لَا يُقْصَدُ بِهَا الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أَيْ: وَيُبَاحُ لَكُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ كَالْمُبَاشِرَةِ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الْفَجْرِ، فَمَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ الصِّيَامُ. وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْخَيْطَيْنِ، وَالْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، فَمَتَى أَسْفَرَ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِتَسْمِيَتِهِ خَيْطًا، فَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ كَالْأَعْمَشِ مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ تُنَافِيهِ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ. هَذَا مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ غَيْرُ دَقِيقٍ، وَسَأُفَصِّلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الِاسْتِدْرَاكِ وَالْإِيضَاحِ الَّذِي تَرَاهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي بَيَانِ آخَرِ اللَّيْلِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ - وَحُكْمُهَا - يُشْعِرُ بِكَرَاهَتِهَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْإِبَاحَةِ الَّذِي تَتْلُوهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ الْمَنْدُوبِ التَّغْلِيسُ بِهَا. (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) فُهِمَ مِنْ غَايَةِ وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَبْدَأُ الصِّيَامِ. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ غَايَتَهُ وَهِيَ ابْتِدَاءُ اللَّيْلِ بِغُرُوبِ قُرْصِ الشَّمْسِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَهَابِ شُعَاعِهَا عَنْ جُدْرَانِ الْبُيُوتِ وَالْمَآذِنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْأَغْوَارِ وَالْقِيعَانِ ذَهَابُ شُعَاعِهَا عَنْ شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ بَعِيدَةً كَانَتْ أَوْ قَرِيبَةً، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ فِي أُفُقِهِمُ الَّذِي يَتْلُوهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ ((مِنْ هَاهُنَا)) عِنْدَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَلِلْمَبَانِي الْعَصْرِيَّةِ الشَّامِخَةِ فِي بِلَادِ أَمْرِيكَا حُكْمُهَا فِي ذَلِكَ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْإِطْنَابِ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، وَأَظْهَرَ فِي رَحْمَةِ الشَّارِعِ

الْحَكِيمِ (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْإِبْهَامِ وَلَا لِلْإِيهَامِ مَجَالٌ ; أَيْ: وَلَا تُبَاشِرُوا النِّسَاءَ حَالَ عُكُوفِكُمْ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْعِبَادَةِ، فَالْمُبَاشَرَةُ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَلَوْ لَيْلًا كَمَا تُبْطِلُ الصِّيَامَ نَهَارًا. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ كُلِّهَا، وَسُمِّيَتْ حُدُودًا ; لِأَنَّهَا حَدَّدَتِ الْأَعْمَالَ وَبَيَّنَتْ أَطْرَافَهَا وَغَايَاتَهَا، حَتَّى إِذَا تَجَاوَزَهَا الْعَامِلُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ وَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا - وَالْحَدُّ طَرَفُ الشَّيْءِ وَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَحُدُودُ اللهِ مَحَارِمُهُ الْمُبَيَّنَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَوْ بِتَحْدِيدِ الْحَلَالِ الْمُقَابِلِ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ هُنَا بِمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَوْ لَيْلًا وَقَوْلُهُ: (فَلَا تَقْرَبُوهَا) هُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَلَا تَعْتَدُوهَا) (2: 229) لِأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ قَرُبَ مِنَ الْحَدِّ أَوْشَكَ أَنْ يَعْتَدِيَهُ، كَالشَّابِّ يُدَاعِبُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ، يُوشِكُ أَلَّا يَمْلِكَ إِرَبَهُ فَيَقَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِالْإِنْزَالِ، فَالْقُرْبُ مِنَ الْحَدِّ يَتَحَقَّقُ بِاسْتِبَاحَةِ أَقْصَى مَا دُونَهُ، كَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الزَّوْجِ بِمَا دُونِ الْوِقَاعِ، وَكَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِلصَّائِمِ، وَتَعَدِّيهِ يَتَحَقَّقُ بِالْوُقُوعِ فِيمَا بَعْدَهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْأَوَّلِ يُفِيدُ كَرَاهَتَهُ وَشِدَّةَ تَحْرِيمِ مَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَنْهَنَا اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ قُرْبِ حُدُودِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الزِّنَا وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَقَدْ تَعَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى تَعَدِّيهَا، وَهَذَانِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مَنْ قَرُبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا. وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ النِّسَاءِ فِي الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ، فَتَخْصِيصُ النَّهْيِ بِهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ حُمِلَ عَلَى عُمُومِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ الِاحْتِيَاطِيِّ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُ الْأَمْرَ بِتَعْجِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تَقْرَبُوهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَلَا بِالْهَوَى وَالرَّأْيِ بَلِ اقْبَلُوهَا كَمَا هِيَ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَخْطِئَةِ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ بِمَا كَانَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ وَاتِّبَاعِ آرَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ يَجِبُ فِيهِ الِاتِّبَاعُ الْمَحْضُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَتَجَاوَزُوا الْمَنْصُوصَ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ عَلَيْكُمْ فِيهَا بِالِاتِّبَاعِ الْمَحْضِ، فَمَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَخُذُوا، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَذَرُوا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ ((إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ - مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ - فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ ((رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ)) فِي تَعْلِيلِ السُّكُوتِ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ: عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ وَرُخْصَتِهِ وَفَائِدَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أَتَمَّ الْبَيَانِ وَأَكْمَلَهُ، لِيُعِدَّهُمْ لِلتَّقْوَى، وَالتَّبَاعُدِ عَنِ الْوَهْمِ وَالْهَوَى.

اسْتِدْرَاكٌ وَإِيضَاحٌ لِتَفْسِيرِ آيَاتِ الصِّيَامِ (وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنْهَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ) (مَسْأَلَةُ بَدْءِ الصِّيَامِ وَهَلْ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ أَمْ تَبَيُّنُ بَيَاضِ النَّهَارِ لِلنَّاسِ؟) إِنَّ مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَبَيَّنْتُ بِهِ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي تَحْدِيدِ نَهَارِ الصِّيَامِ يُبْنَى عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَشْبِيهِ الْعَرَبِ أَوَّلَ الصُّبْحِ بِالْخَيْطِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَلَمَا تَبَدَّتْ لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَمِنْهُ قَوْلُ كَمَالِ الدَّيْنِ بْنِ النَّبِيهِ الشَّاعِرِ فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْعَقِيمِ: وَتُرِيكَ خَيْطَ الصُّبْحِ مَفْتُولًا إِذَا ... صُبَّتْ مِنَ الرَّاوُوقِ فِي الطَّاسَاتِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَصْدُقُ بِالْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَا يَظْهَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَصَحَّ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا أَوَّلًا أَنَّ الْخَيْطَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا النَّهَارُ وَاللَّيْلُ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وَلَمْ يَنْزِلْ (مِنَ الْفَجْرِ) فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ بِاسْتِبْعَادِ تَأَخُّرِ نُزُولِ هَذَا الْبَيَانِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْآيَاتِ. وَالْعُمْدَةُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ((إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ)) زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَضَحِكَ وَقَالَ: ((أَنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ)) وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ ((إِنَّ وِسَادَكَ لِعَرِيضٌ طَوِيلٌ)) وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَدِيٍّ فِي الْآيَةِ: ((لَمَّا نَزَلَتْ)) عَلَى عِلْمِهِ بِنُزُولِهَا لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ عَنْهُ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَضِّحُ هَذَا ; فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ قَالَ لَهُ: ((فَكُلْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)) قَالَ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ إِلَخِ الْحَدِيثِ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ سَهْلٍ مِنَ الْفَتْحِ: وَمَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدُ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ: الْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ اللَّيْلُ وَبِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَالْخَيْطُ: اللَّوْنُ. (ثُمَّ قَالَ) : وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ طُلُوعُ الْفَجْرِ، فَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَنَزَعَ تَمَّ صَوْمُهُ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ لَمْ يَفْسَدْ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّبَيُّنُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللهُ لَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا شَكَكْتَ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السُّحُورِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كُلْ حَتَّى لَا تَشُكَّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا، كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى لَا تَشُكَّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ صَارَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْصِي. وَقَالَهُ ابْنُ بُزَيْزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَحْرُمُ الْأَكْلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بِتَبَيُّنِهِ عِنْدَ النَّاظِرِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَمْ لَا؟ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ. اهـ. وَيَعْنِي الْحَافِظُ بِالْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) : ((كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ; فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)) قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانَيْهِمِا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا. اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ الرِّوَايَاتِ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي السُّنَنِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ النَّهَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الصِّيَامُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ بِهِ الْأَعْمَشُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ إِلَى جَوَازِ السُّحُورِ إِلَى أَنْ يَتَّضِحَ الْفَجْرُ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَاللهِ النَّهَارُ غَيْرَ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ. وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ مَنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مَنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ حَتَّى لَا يَرَى الْفَجْرَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحُ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ حِينَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَبَيُّنِ بَيَاضِ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ أَنْ يَنْتَشِرَ الْبَيَاضُ فِي الطُّرُقِ وَالسِّكَكِ وَالْبُيُوتِ، ثُمَّ حَكَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ. وَرَوَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ وَلَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ

الْفَجْرُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: قَدِ ابْيَضَّ وَسَطَعَ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ؟ فَنَظَرْتُ فَقُلْتُ: قَدِ اعْتَرَضَ، فَقَالَ: الْآنَ أَبْلَغَنِي شَرَابِي. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا الشُّهْرَةُ لَصَلَّيْتُ الْغَدَاةَ ثُمَّ تَسَحَّرْتُ. قَالَ إِسْحَاقُ: هَؤُلَاءِ رَأَوْا جَوَازَ الْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لَكِنْ لَا أَطْعَنُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ الرُّخْصَةَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي وَلَا أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً (قُلْتُ) : وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى الْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَعْمَشُ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. (أَقُولُ) : وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَنُوطًا بِمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ بَدْوِهِمْ وَحَضَرِهِمْ بِالْحِسِّ كَمَوَاقِيتِ صَلَوَاتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَثُبُوتِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ وَإِلَّا فَبِإِكْمَالِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ - فَإِنَّ لَنَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَدْءِ الصِّيَامِ بَحْثَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَا بَسَطْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي اتِّحَادِ أَوَّلِ وَقْتِهِمَا، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ بَدْءَ الصِّيَامِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِمَا، وَهُمُ الْجُمْهُورُ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْفَجْرِ الصَّادِقِ انْتِشَارَ الضَّوْءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ النَّهَارُ. وَهَاهُنَا يَأْتِي (الْبَحْثُ الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّ ظُهُورَ الصُّبْحِ لِعَامَّةِ النَّاسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّيَالِي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ ; فَإِنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ لَا يَظْهَرُ، وَيُرَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ بَلْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الْعِبَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْفَجْرِ وَتَبَيُّنِ النَّهَارِ لَا بِحِسَابِ الْمُوَقِّتِينَ وَالْفَلَكِيِّينَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى تَوَلُّدِ الْهِلَالِ وَوُجُودِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَا يَعْمَلُ أَحَدٌ بِحِسَابِهِمْ حَتَّى الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِصِحَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَلَوْ إِجْمَالِيًّا، وَمَنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ لِحِسَابَاتِهِمُ الدَّقِيقَةِ فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْفَجْرِ وَمَسْأَلَةِ الْقَمَرِ، فَلِمَاذَا يَتَّبِعُ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَضَرِ الْمَدَنِيِّ حِسَابَهُمْ فِي الْفَجْرِ دُونَ الْهِلَالِ؟ إِنَّ نَصَّ الْآيَةِ يَنُوطُ بَدْءَ الصِّيَامِ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَيَاضُ النَّهَارِ نَاصِلًا مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ وَجَّهَ نَظَرَهُ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ. وَقِيلَ: بِحَيْثُ يَرَوْنَهُ فِي طُرُقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ، فَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْأَذَانَيْنِ ((فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)) وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. اهـ. وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ لَهُ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وَيَظْهَرُ النَّهَارُ لَهُمْ، لَا أُنَاسٌ يَرْصُدُونَ الْفَجْرَ مِنْ مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى أَوَّلِ مَا يَرَوْنَهُ فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ مِنِ انْتِشَارِ الضَّوْءِ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي يُسَمَّى

الْفَجْرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَظْهَرُ كَذَنَبِ السَّرْحَانِ (الذِّئْبِ) ثُمَّ اسْتَطَارَتُهُ - مُعْتَرِضًا - الَّتِي حَدَّدُوا بِهَا الْفَجْرَ الصَّادِقَ ; فَإِنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الرَّاصِدُ الْمُرَاقِبُ لِلْأُفُقِ دُونَ الْجُمْهُورِ الَّذِي خَاطَبَهُ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) إِلَخْ فَجَعَلَ لَهُمْ بَدْءَ صِيَامِهِمْ وَقْتًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمُتَنَبِّي بِقَوْلِهِ: وَهَبْنِي قُلْتُ هَذَا الصُّبْحُ لَيْلٌ ... أَيَعْمَى الْعَالِمُونَ عَنِ الضِّيَاءِ؟ وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ وَلَكِنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَمِيلَ بَعْضُ أَفْرَادِهِمْ بِطَبْعِهِ إِلَى التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُونَ فِي الْوَسَطِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي تَحْدِيدِ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي الصِّيَامِ، هَلْ هُوَ أَوَّلُ مَا يُسَمَّى الْفَجْرُ الصَّادِقُ أَوْ تَبَيُّنُ بَيَاضِ النَّهَارِ لِلنَّاسِ مِنْهُ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ الْمُبِيحَيْنِ لِلْفِطْرِ. وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ كُلُّهَا يُسْرٌ لَا عُسْرَ وَلَا حَرَجَ فِيهَا، وَلَا فِي مَعْرِفَتِهَا وَثُبُوتِهَا وَحُدُودِهَا، وَأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ إِفْرَاطِ الْغُلَاةِ الْمُشَدِّدِينَ، وَتَفْرِيطُ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَسَاهِلِينَ، وَمِنْ مُبَالَغَةِ الْخَلَفِ فِي تَحْدِيدِ الظَّوَاهِرِ مَعَ التَّفْرِيطِ فِي إِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَنَّهُمْ حَدَّدُوا أَوَّلَ الْفَجْرِ وَضَبَطُوهُ بِالدَّقَائِقِ وَزَادُوا عَلَيْهِ فِي الصِّيَامِ إِمْسَاكَ عِشْرِينَ دَقِيقَةً قَبْلَهُ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ تَبَيُّنَ بَيَاضِ النَّهَارِ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ إِلَّا بَعْدَهُ بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً تَقْرِيبًا، وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ التَّامِّ خَمْسَ دَقَائِقَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيهِ ظُهُورَ بَعْضِ النُّجُومِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اعْتِدَاءِ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ اجْتِهَادٌ لَا تَعَمُّدَ، وَالثَّابِتُ فِي السُّنَّةِ نَدْبُ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ وَقْتَ بَدْءِ الصِّيَامِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَأَخْذُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَّبَعَةِ أَضْبُطُ وَأَحْوَطُ وَأَوْفَى بِحَاجَةِ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَجِبُ إِعْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّرُوسِ الدِّينِيَّةِ وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّحُفِ الْمُنَشَّرَةِ أَيْضًا بِأَنَّ وَقْتَ الْإِمْسَاكِ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي التَّقَاوِيمِ (النَّتَائِجِ) وَالصُّحُفِ إِنَّمَا وُضِعَ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى قُرْبِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ بَدْءُ الصِّيَامِ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ لِيَتَعَجَّلَ الْمُتَأَخِّرُ فِي سُحُورِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ بِإِتْمَامِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُ، وَلَوْ بِدَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ صِيَامَهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صِيَامُهُ، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ الِاحْتِيَاطُ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ لِيَتَيَسَّرَ التَّغْلِيسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ.

مَسْأَلَةُ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((مَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السُّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفُطُورَ)) . وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَجْهُولٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعَجَلُهُمْ فِطْرًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ: ((لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ)) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوِدِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سُحُورًا - قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثُ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ صِحَاحٌ مُتَوَاتِرَةٌ - يَعْنِي وَاللهُ أَعْلَمُ بِالْعَمَلِ بِهَا. وَأَمَّا فَصْلُ مَا بَيْنَ السُّحُورِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ فَفِيهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَسَأَلَهُ أَنَسٌ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَاتِ ; أَيْ: مُتَوَسِّطَةٌ لَا طَوِيلَةٌ وَلَا قَصِيرَةٌ وَلَا سَرِيعَةٌ وَلَا بَطِيئَةٌ، وَنَقَلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ بِالْعَمَلِ وَلَا سِيَّمَا هَذَا الْوَقْتِ ; فَإِنَّهُ وَقْتُ تِلَاوَةٍ وَذِكْرٍ، وَلَوْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ لَقَالَ مَثَلًا: قَدْرُ دَرَجَةٍ أَوْ ثُلْثِ أَوْ خُمْسِ سَاعَةً. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ سُورَةَ فُصِّلَتْ 54 آيَةً مِنْهَا (حم) آيَةٌ. وَسُورَةُ الشُّورَى 53 آيَةً مِنْهَا (حم) آيَةٌ (عسق) آيَةٌ. فَهَذَا قَدْرُ مَا بَيْنَ سَحُورِهِمْ وَصِلَاتِهِمْ لِلْفَجْرِ، وَهُوَ نَحْوُ خَمْسِ دَقَائِقَ. مَسْأَلَةُ تَحْدِيدِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْعِيدَيْنِ فِي الْأَقْطَارِ (وَالْعَمَلُ بِالْحِسَابِ الْقَطْعِيِّ) قَدْ نَشَرْتُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مَقَالًا طَوِيلًا شَرَحْتُ فِيهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَذَكَرْتُ أَقْوَالَ الْفُقَهَاءِ وَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْأَمْصَارِ ثُمَّ لَخَّصْتُ خُلَاصَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ الْآتِيَةِ: (1) إِنَّ إِثْبَاتَ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَوَّلِ شَهْرِ شَوَّالٍ هُوَ كَإِثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ نَاطَهَا الشَّارِعُ كُلَّهَا بِمَا يَسْهُلُ الْعِلْمُ بِهِ عَلَى الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَغَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا التَّعَبُّدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَا بِتَبَيُّنِ الْخَيْطِ

الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ; أَيْ: انْفِصَالِ كُلٍّ مِنَ الْآخَرِ بِرُؤْيَةِ ضَوْءِ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَلَا التَّعَبُّدُ بِرُؤْيَةِ ظِلِّ الزَّوَالِ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَلَا بِرُؤْيَةِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغِيبَةِ الشَّفَقِ لِوَقْتَيِ الْعِشَاءَيْنِ، فَغَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ مَوَاقِيتِ الْعِبَادَةِ مَعْرِفَتُهَا وَمَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَوْطِ إِثْبَاتِ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوْ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِشَرْطِهِ قَدْ عَلَّلَهُ بِكَوْنِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِهِ كَانَتْ أُمِّيَّةً أَوْ مِنْ مَقَاصِدِ بِعْثَتِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ لَا إِبْقَاؤُهَا فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (62: 2) وَفِي مَعْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ لِعِلْمِ الْكِتَابَةِ وَالْحِكْمَةِ حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ. (2) إِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ فِي عِبَادَتِهَا مَا أَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ وَسِيلَةً وَمَقْصِدًا، فَإِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ كُلُّهَا أَوْ أَهْلُ كُلِّ قُطْرٍ مِنْهَا عَلَى الْعَمَلِ بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَعَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مِنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ وَالظِّلِّ وَالْغُرُوبِ وَالشَّفَقِ وَالْهِلَالِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَبِالتَّقْدِيرِ أَوْ رُؤْيَةِ الْعَلَامَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَجُوزُ لِمُؤَذِّنِ الْفَجْرِ أَنْ يُؤَذِّنَ إِلَّا إِذَا رَأَى ضَوْءَهُ مُعْتَرِضًا فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّيَالِي ; فَفِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ وَلَا سِيَّمَا أَوَاخِرِهِ يُرَى مُتَأَخِّرًا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يُرَى فِيهِ فِي لَيَالِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ الْمُظْلِمَةِ بِقَدْرِ تَأْثِيرِ نُورِ الْقَمَرِ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ (وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالَيِ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ) وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ: ((إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)) قَالَ بَعْضُ رُوَاتِهِ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَإِمَّا أَنْ تَعْمَلَ بِالْحِسَابِ وَالْمَرَاصِدِ عِنْدَ ثُبُوتِ إِفَادَتِهَا الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، (وَلَوْ) مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ ظَاهِرِ النَّصِّ وَالْمُرَادِ مِنْهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ وَأَعَمُّ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّحْوِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَكُونُ إِثْبَاتُ الشَّهْرِ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ ظَنِّيًّا أَوْ دُونَ الظَّنِّيِّ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَنَّ الْعِلْمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّنِّ، فَلَا يُعْمَلُ بِالظَّنِّ مَعَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ، فَمَنْ أَمْكَنَهُ رُؤْيَةُ الْكَعْبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا وَيَعْمَلَ بِظَنِّهِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. (3) إِذَا قِيلَ: إِنَّ إِفَادَةَ الْحِسَابِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِوُجُودِ الْهِلَالِ وَإِمْكَانِ رُؤْيَتِهِ خَاصٌّ بِالْفَلَكِيِّ الْحَاسِبِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعِلْمِ بِهِ كَمَا ذَكَرْتُمْ وَلَا يَكُونُ عِلْمُهُمْ حُجَّةً عَلَى

غَيْرِهِمْ (قُلْنَا) : إِنَّ الَّذِينَ لَمَّ يُبِيحُوا الْعَمَلَ بِالْحِسَابِ قَدْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ لَا يُفِيدُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجْرٍ آنِفًا، وَالْحِسَابُ الْمَعْرُوفُ فِي عَصْرِنَا هَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُمْكِنُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَائِهِمُ الَّذِينَ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنْ يُصْدِرُوا حُكْمًا بِالْعَمَلِ بِهِ فَيَصِيرُ حُجَّةً عَلَى الْجُمْهُورِ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحُكْمِ بِإِثْبَاتِ الشَّهْرِ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَالسَّمَاءُ صَحْوٌ لَيْسَ فِيهَا قَتَرٌ وَلَا سَحَابٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ ; فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ (وَكَذَا الْحُكْمُ بِرُؤْيَةِ الْوَاحِدِ لِلْهِلَالِ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا لِكَثْرَةِ مَا يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِالْقَطْعِ كَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعُدُولِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَاسِفَةً) . (4) يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِذَا غُمَّ عَلَى النَّاسِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ - أَيِ السُّلْطَانُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ - فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَهُ. (5) إِذَا تَقَرَّرَ لَدَى أُولِي الْأَمْرِ الْعَمَلُ بِالتَّقَاوِيمِ الْفَلَكِيَّةِ فِي مَوَاقِيتِ شَهْرَيِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ، كَمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَصِيَامِ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى اللَّيْلِ، امْتَنَعَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَوْ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَتَّفِقُ مَطَالِعُهَا، وَهَذِهِ لَا ضَرَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي صِيَامِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي صَلَوَاتِهَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّنَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِالرُّؤْيَةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِيتِ الْعِبَادَاتِ أَخْذًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَحُسْبَانِهَا تَعَبُّدِيَّةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤَذِّنٍ أَلَّا يُؤَذِّنَ حَتَّى يَرَى نُورَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ مُسْتَطِيرًا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ، وَحَتَّى يَرَى الزَّوَالَ وَالْغُرُوبَ إِلَخْ، وَإِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِالْحِسَابِ الْمَقْطُوعِ بِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصِدِ الشَّارِعِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْمَوَاقِيتِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ وَضْعُ تَقْوِيمٍ عَامٍّ تُبَيَّنُ فِيهِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ كُلِّ شَهْرٍ فِي كُلِّ قُطْرٍ عِنْدَ الْمَانِعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَتُوَزَّعُ فِي الْعَالَمِ، فَإِذَا زَادُوا عَلَيْهَا اسْتِهْلَالَ جَمَاعَةٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَإِنْ رَأَوْهُ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَأَمَّا هَذَا الِاخْتِلَافُ وَتَرْكُ النُّصُوصِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِيتِ - عَمَلًا بِالْحِسَابِ مَا عَدَا مَسْأَلَةَ الْهِلَالِ - فَلَا وَجْهَ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (2: 85) وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ اهـ. فَصْلٌ فِيمَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَمَا لَا يُفْطِرُهُ مُلَخَّصٌ مِنْ رِسَالَةٍ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ 31 مِنَ الْمَنَارِ (قَالَ رَحِمَهُ اللهُ) : وَهَذَا نَوْعَانِ: مِنْهُ مَا يُفْطِرُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يُنَافِي الصَّوْمَ، فَلَا تَصُومُ

الْحَائِضُ لَكِنْ تَقْضِي الصِّيَامَ. وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: ((وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ مِنَ الْأَنْفِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَفِي السُّنَنِ حَدِيثَانِ: (أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنِ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ)) وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ قَالُوا هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ: لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ: وَمَا أُرَاهُ مَحْفُوظًا. قَالَ: وَرَوَى يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَا يَرَى الْقَيْءَ يُفْطِرُ الصَّائِمَ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ كَمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا فِي أَنَّ مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَالْمُجَامِعُ النَّاسِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَيُذْكَرُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ: إِحْدَاهَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالثَّالِثَةُ: عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللهُ بِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَمَنْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا وَلَا مُرْتَكِبًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُبْطِلُ عِبَادَتَهُ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ فَعَلَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ. وَطَرَدَ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَبْطُلُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَا نَاسِيًا وَلَا مُخْطِئًا لَا الْجِمَاعُ وَلَا غَيْرُهُ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ طَرَدَ هَذَا أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَطِّرُ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ كَمَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ لَكِنْ خَالَفَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّاسِي، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُفْطِرُ النَّاسِي وَيُفْطِرُ الْمُخْطِئُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَ النَّاسِيَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَقَالُوا: النِّسْيَانُ لَا يُفْطِرُ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ

الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَلَّا يُفْطِرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَأَنْ يُمْسِكَ إِذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ ضَعِيفٌ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ وَيُؤَخِّرَ السُّحُورَ، وَمَعَ الْغَيْمِ الْمُطْبِقِ لَا يُمْكِنُ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ وَقْتٌ طَوِيلٌ جِدًّا يُفَوِّتُ الْمَغْرِبَ وَيُفَوِّتُ تَعْجِيلَ الْفُطُورِ، وَالْمُصَلِّي مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلِهَا، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غُرُوبُ الشَّمْسِ أُمِرَ بِتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ فَرُبَّمَا يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ وَهُوَ لَا يَسْتَيْقِنُ غُرُوبَ الشَّمْسِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: (الْأَوَّلُ) عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الْغَيْمِ التَّأْخِيرُ إِلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ الْغُرُوبَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ مَعَ نَبِيِّهِمْ أَعْلَمُ وَأَطْوَعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. (وَالثَّانِي) لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْقَضَاءِ لَشَاعَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ فِطْرُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ: أَوَبُدٌّ مِنَ الْقَضَاءِ؟ قِيلَ: هِشَامٌ قَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ أَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامًا قَالَ: لَا أَدْرِي قَضَوْا أَمْ لَا؟ ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ، وَقَدْ نَقَلَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ، وَعُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنِ ابْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) . وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْفَجْرُ، فَهُوَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِهِ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمَا يَقْطُرُ فِي إِحْلِيلِهِ. وَمُدَاوَاةُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَطِّرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالْكُحْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالتَّقْطِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُفَطَّرُ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ وَيُفَطَّرُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفَطَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فِي الصِّيَامِ وَيَفْسَدُ الصَّوْمُ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ، وَلَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ وَبَلَّغُوهُ

الْأُمَّةَ كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَا حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا - عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الْكُحْلِ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ وَلَمْ يَرْوِهُ غَيْرُهُ وَلَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُفَطِّرُ كَالْحُقْنَةِ وَمُدَاوَاةِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حُجَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ بِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْقِيَاسِ، وَأَقْوَى مَا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلُهُ: ((وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)) قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغِ يُفَطِّرُ الصَّائِمَ إِذَا كَانَ بِفِعْلِهِ، وَعَلَى الْقِيَاسِ كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ مِنْ حُقْنَةٍ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ حَشْوِ جَوْفِهِ. وَالَّذِينَ اسْتَثْنَوُا التَّقْطِيرَ قَالُوا: التَّقْطِيرُ لَا يَنْزِلُ إِلَى جَوْفِهِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا فَالدَّاخِلُ إِلَى إِحْلِيلِهِ كَالدَّاخِلِ إِلَى فَمِهِ وَأَنِفِهِ، وَالَّذِينَ اسْتَثْنَوُا الْكُحْلَ، قَالُوا: الْعَيْنُ لَيْسَتْ كَالْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، وَلَكِنْ هِيَ تَشْرَبُ الْكُحْلَ كَمَا يَشْرَبُ الْجِسْمُ الدُّهْنَ وَالْمَاءَ، وَالَّذِينَ قَالُوا الْكُحْلُ يُفَطِّرُ، قَالُوا: إِنَّهُ يَنْفُذُ إِلَى دَاخِلِهِ حَتَّى يَتَنَخَّمَهُ الصَّائِمُ ; لِأَنَّ فِي دَاخِلِ الْعَيْنِ مَنْفَذًا إِلَى دَاخِلِ الْحَلْقِ. وَإِذَا كَانَ عُمْدَتُهُمْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ وَنَحْوَهَا ; لَمْ يَجُزْ إِفْسَادُ الصَّوْمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً إِذَا اعْتُبِرَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ فَقَدْ قُلْنَا فِي الْأُصُولِ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ أَيْضًا، وَإِنْ دَلَّ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دَلَالَةً خَفِيَّةً، فَإِذَا عَلِمْنَا بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمِ الشَّيْءَ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِبٍ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُثْبِتَ لِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَاسِدٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْطَارِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْطِرَةً. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِهِ، وَهَذَا كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ، وَلَمْ يُوجِبِ الْغُسْلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِلَا إِنْزَالٍ، وَلَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنَ الْفَزَعِ الْعَظِيمِ ; وَإِنْ كَانَ فِي مَظِنَّةِ خُرُوجِ الْخَارِجِ، وَلَا سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنَ الْمَنِيِّ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ، بَلِ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ قَمِيصَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنَ الْمَنِيِّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ((يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ)) لَيْسَ مِنَ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهِمَا. وَغَسْلُ عَائِشَةَ لِلْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِهِ وَفَرَكُهَا إِيَّاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الثِّيَابَ تُغْسَلُ مِنَ الْوَسَخِ وَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَالْوُجُوبُ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَأْمُرْ هُوَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نُقِلَ أَنَّهُ أَمَرَ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، بَلْ أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ حُسْنِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. فَإِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقِلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُحْلَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَا تَعُمُّ بِالدُّهْنِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْبَخُورِ وَالطِّيبِ ; فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُفَطِّرُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنِ الْإِفْطَارَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الطِّيبِ وَالْبَخُورِ وَالدُّهْنِ، وَالْبَخُورُ قَدْ يَتَصَاعَدُ إِلَى الْأَنْفِ وَيَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ وَيَنْعَقِدُ أَجْسَامًا، وَالدُّهْنُ يَشْرَبُهُ الْبَدَنُ وَيَدْخُلُ إِلَى دَاخِلِهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَذَلِكَ يَتَقَوَّى بِالطِّيبِ قُوَّةً جَيِّدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَطَيُّبِهِ وَتَبْخِيرِهِ وَإِدِّهَانِهِ، وَكَذَلِكَ اكْتِحَالِهِ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجْرَحُ أَحَدُهُمْ إِمَّا فِي الْجِهَادِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ مَأْمُومَةً وَجَائِفَةً، فَلَوْ كَانَ هَذَا يُفَطِّرُ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ ; عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مُفْطِرًا. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) إِثْبَاتُ التَّفْطِيرِ بِالْقِيَاسِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا وَذَلِكَ إِمَّا قِيَاسٌ عَلَى بَابِهِ الْجَامِعِ، وَإِمَّا بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ معدي لَهَا إِلَى الْفَرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ هُنَا مُنْتَفٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُفَطِّرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مُفَطِّرًا: هُوَ مَا كَانَ وَاصِلًا إِلَى دِمَاغٍ أَوْ بَدَنٍ، أَوْ مَا كَانَ دَاخِلًا مِنْ مَنْفَذٍ أَوْ وَاصِلًا إِلَى الْجَوْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَجْعَلُهَا أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ هِيَ مَنَاطَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا جَعَلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُفَطِّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمِمَّا يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ وَالْجَوْفِ مِنْ دَوَاءِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ، وَمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الْكُحْلِ وَمِنَ الْحُقْنَةِ وَالنُّقَطِ فِي الْإِحْلِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْلِيقِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بِهَذَا الْوَصْفِ دَلِيلٌ، كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا جَعَلَا هَذَا مُفَطِّرًا لِهَذَا - قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، وَكَانَ قَوْلُهُ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا)) قَوْلًا - بِأَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ - بِلَا عِلْمٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ عَلَى اللهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَمَنِ اعْتَقَدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ مَذْهَبٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، أَوْ دَلَالَةَ لَفْظٍ عَلَى مَعْنًى لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ، وَهَذَا اجْتِهَادٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اتِّبَاعُهَا. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَدُلَّ كَلَامُ الشَّارِعِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، إِذَا سَبَرْنَا أَوْصَافَ الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْعِلَّةِ إِلَّا الْوَصْفُ الْمُعِينُ، وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا عِلَّةَ الْأَصْلِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوِ الدَّوْرَانِ أَوِ الشَّبَهِ الْمُطَّرِدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ السَّبْرِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ مُنَاسِبَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ أَثْبَتَا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالْحَيْضِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى الْمُتَوَضِّئَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِذَا كَانَ صَائِمًا، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ أَقْوَى حُجَجِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ (مَنْ) نَشِقَ الْمَاءَ بِمَنْخِرَيْهِ يَنْزِلُ الْمَاءُ إِلَى حَلْقِهِ وَإِلَى جَوْفِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِلشَّارِبِ بِفَمِهِ، وَيُغَذِّي بَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَيَزُولُ الْعَطَشُ وَيُطْبَخُ الطَّعَامُ فِي مَعِدَتِهِ كَمَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْمَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِذَلِكَ لِعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ إِلَّا فِي دُخُولِ الْمَاءِ مِنَ الْفَمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، بَلْ دُخُولُ الْمَاءِ إِلَى الْفَمِ وَحْدَهُ لَا يُفَطِّرُ، فَلَيْسَ هُوَ مُفَطِّرًا وَلَا جُزْءًا مِنَ الْمُفَطِّرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ، بَلْ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى الْفِطْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمُدَاوَاةُ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ; فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا يُغَذِّي أَلْبَتَّةَ، وَلَا يُدْخِلُ أَحَدٌ كُحْلًا إِلَى جَوْفِهِ لَا مِنْ أَنْفِهِ وَلَا مِنْ فَمِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ لَا تُغَذِّي بَلْ تَسْتَفْرِغُ مَا فِي الْبَدَنِ، كَمَا لَوْ شَمَّ شَيْئًا مِنَ الْمُسَهِّلَاتِ، أَوْ فَزِعَ فَزَعًا أَوْجَبَ اسْتِطْلَاقَ جَوْفِهِ، وَهِيَ لَا تَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ. وَالدَّوَاءُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ فِي مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ لَا يُشْبِهُ مَا يَصِلُ إِلَيْهَا مِنْ غِذَائِهِ انْتَهَى. كَلَامُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

188

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ - وَفِيهَا حُكْمُ أَكْلِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ - مَهَّدَ لِحُكْمِ أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْعَامَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبِهَا ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الْخِطَابُ لِعَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمُرَادُ لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، وَاخْتَارَ لَفْظَ (أَمْوَالَكُمْ) وَهُوَ يَصْدُقُ بِأَكْلِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ لِلْإِشْعَارِ بِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ احْتِرَامَ مَالِ غَيْرِكَ وَحِفْظَهُ هُوَ عَيْنُ الِاحْتِرَامِ وَالْحِفْظِ لِمَالِكِ ; لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ التَّعَدِّي وَأَخْذِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ يُعَرِّضُ كُلَّ مَالٍ لِلضَّيَاعِ وَالذَّهَابِ، فَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ الْبَلِيغَةِ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَبَيَانٌ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِ الْآكِلِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي هُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا ; لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمٌ مِنْ كُلِّ جِنَايَةٍ تَقَعُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِاسْتِحْلَالِهِ مَالَ غَيْرِهِ يُجَرِّئُ غَيْرَهُ عَلَى اسْتِحْلَالِ أَكْلِ مَالِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمَا أَبْلَغَ هَذَا الْإِيجَازَ! وَمَا أَجْدَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِوَصْفِ الْإِعْجَازِ! . وَفِي الْإِضَافَةِ مَعْنًى آخَرُ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ مَالَ نَفْسِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَأَلَّا يُضَيِّعَهُ فِي سَبِيلِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَنَظَرَ فِيهِ آخَرٌ بِمَا رَضِيَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّ فَهْمَهُ مِنَ الْآيَةِ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ: (بَيْنَكُمْ) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ الْأَخْذِ، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، تَجَوَّزُوا فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْأَكْلَ أَعَمُّ الْحَاجَاتِ مِنَ الْمَالِ وَأَكْثَرُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُفَضِّلُ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنَ الْأَهْوَاءِ يُنْفِقُ فِيهِ الْمَالَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْأَكْلِ وَتَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ أَكَلُ الْمَالِ فِي مَقَامِ أَخْذِهِ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطْلِ وَالْبُطْلَانِ ; أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْفَاقَهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى كَسْبٍ يَكْفِيهِ وَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِ الْفَقْرُ اعْتِمَادًا عَلَى السُّؤَالِ، وَنَقُولُ: إِنَّهَا كَمَا حَرَّمَتْ إِعْطَاءَهُ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْأَخْذَ إِذَا هُوَ أَعْطَاهُ مُعْطٍ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَةً وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا، وَلَا لِلْمُضْطَرِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَةِ اضْطِرَارِهِ بِسَعْيِهِ وَكَسْبِهِ. أَقُولُ: وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَارِي الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَعِيرَ ثَوْبًا يُصَلِّي فِيهِ أَوْ يَقْبَلَهُ صَدَقَةً مِمَّنْ يَبْذُلُهُ لَهُ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ الَّتِي لَا يُكَلِّفُهُ الْإِسْلَامُ احْتِمَالَهَا، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَارِيًا. قَالَ: وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الرِّبَا لِأَنَّهُ أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِدُونِ مُقَابِلٍ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ الْمُعْطِي، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ بِمَا يَقَعُ فِي النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ، وَقَالَ: إِنَّ رُوحَ الشَّرِيعَةِ تُعَلِّمُنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَسِبَ الْمَالَ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ أَحَدًا، وَإِنَّمَا أَجْمَلُ وَأَوْجَزُ الْقُرْآنُ فِي الْبَاطِلِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ بِوُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ، وَحَسْبُ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ كُلِّ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، عَلَى أَنَّهُ بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ فِي أُمُورٍ قَدْ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ كَالْإِدْلَاءِ إِلَى الْحُكَّامِ الْآتِي، وَكَتَحْرِيمِ الرِّبَا ; أَيْ: رِبَا الْفَضْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ دُونَ رِبَا النَّسِيئَةِ الْمُحَرَّمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَهُوَ لَا خَفَاءَ فِي بُطْلَانِهِ ; لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فِي أَجَلِ الدَّيْنِ الَّذِي اسْتُهْلِكَ لَا لِمَنْفَعَةٍ جَدِيدَةٍ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ بِغَصْبِ الْمَنْفَعَةِ، بِأَنْ يُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي عَمَلٍ لَا يُعْطِيهِ عَلَيْهِ أَجْرًا، أَوْ يَنْقُصَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى أَوْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ ضُرُوبِ التَّعَدِّي وَالْغِشِّ وَالِاحْتِيَالِ، كَمَا يَقَعُ مِنَ السَّمَاسِرَةِ فِيمَا يَذْهَبُونَ فِيهِ مِنْ مَذَاهِبِ التَّلْبِيسِ وَالتَّدْلِيسِ ; إِذْ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ السِّلَعَ الرَّدِيئَةَ، وَالْبَضَائِعَ الْمُزْجَاةَ، وَيُسَوِّلُونَ لَهُمْ فَيُوَرِّطُونَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مُسْتَعِينًا بِإِيهَامِ الْآخَرِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا صِحَّةَ، بِحَيْثُ لَوْ عَرَفَ الْخَفَايَا وَانْقَلَبَ وَهْمُهُ عِلْمًا لَمَا بَاعَ أَوْ لَمَا اشْتَرَى فَهُوَ آكِلٌ لِمَالِهِ بِالْبَاطِلِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُوهِمِينَ بَاعَةُ التَّوْلَاتِ وَالتَّنَاجِيسِ وَالتَّمَائِمِ، وَكَذَا الْعَزَائِمُ، وَخَتَمَاتُ الْقُرْآنِ، وَالْعَدَدُ الْمَعْلُومُ مِنْ سُورَةِ (يس) أَوْ بَعْضُ الْأَذْكَارِ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ هُزُؤِ هَؤُلَاءِ بِالدِّينِ أَنْ كَانَ بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ يَبِيعُ سُورَةَ (يس) لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ أَوْ لِرَحْمَةِ الْأَمْوَاتِ، يَقْرَؤُهَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَيَعْقِدُ لِكُلِّ مَرَّةٍ عُقْدَةً فِي خَيْطٍ يَحْمِلُهُ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءَهُ طَالِبُ ابْتِيَاعِ الْقِرَاءَةِ وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْمُسَاوَمَةِ يَحُلُّ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُقَدِ، بِقَدْرِ مَا يَطْلُبُ مِنَ الْعَدَدِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ رُؤَسَاءِ بَعْضِ

النَّصَارَى نَحْوَ هَذَا فِي بَيْعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْقَدَادِيسَ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ، حَتَّى عَلِمْنَا أَنَّنَا قَدِ اتَّبَعْنَا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا فِي جُحْرِ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلُوهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ كُلَّ أَجْرٍ يُؤْخَذُ عَلَى عِبَادَةٍ فَهُوَ أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ مَضَى الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى عِبَادَةٍ مَا مَعْرُوفًا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَلِمَةٌ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَا يُعْقَلُ أَنْ تُحَقَّقَ الْعِبَادَةُ وَتَحْصُلَ بِالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ تَحَقُّقَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَإِرَادَةِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَتَى شَابَ هَذِهِ النِّيَّةَ شَائِبَةٌ مِنْ حَظِّ الدُّنْيَا خَرَجَ الْعَمَلُ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً خَالِصَةً لِلَّهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا مِنَ الْحُظُوظِ وَالشَّوَائِبِ. أَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ تَسْمِيَةُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ شِرْكًا، فَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ - إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِصُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَتَنْصَبُّ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى فَيَقُولُ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْبَلُوا هَذَا وَأَلْقُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: وَعَزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي)) وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُونَ: ((مَا كَتَبْنَا إِلَّا مَا عَمِلَ)) إِلَخْ، وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ ((إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِهِ ; فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ)) . وَإِنَّمَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ الْعِبَادَةَ وَالْأَجْرَ مَعًا، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُسْتَأْجَرْ لِلْقِرَاءَةِ (مَثَلًا) لَقَرَأَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْأُجْرَةَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَا يَقْرَأُ تِلْكَ الْخَتْمَةَ أَوِ الْعَدَدَ مِنَ السُّوَرِ أَوِ الذِّكْرِ فَأَمْرُهُ أَقْبَحُ، وَذَنْبُهُ أَكْبَرُ، وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، فَدَافِعُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ خَاسِرٌ لِمَالِهِ، وَآخِذُهُ مِنْهُ خَاسِرٌ لِمَآلِهِ، وَمِثْلُ قَصْدِ الْأُجْرَةِ الْمَالِيَّةِ الرِّيَاءُ ; فَإِنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ، فَأَجَازَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّعْلِيمِ يَصُدُّ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْكَسْبِ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى، فَإِذَا لَمْ نَجْزِ الْمُعَلِّمَ يَتَعَسَّرُ عَلَيْنَا أَنْ نَجِدَ مَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ الْأَوْلَادِ، وَلَيْسَ زَمَنُنَا كَزَمَانِ السَّلَفِ يَتَفَرَّغُ فِيهِ النَّاسُ لِنَشْرِ الْعِلْمِ وَإِفَادَتِهِ تَعَبُّدًا لِلَّهِ وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَنْ عَلَّمَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ كَسَائِرِ الصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ، لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى أَصْلِ الْعَمَلِ بَلْ عَلَى إِتْقَانِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَالنُّصْحِ فِيهِ وَالنُّصْحِ لِمَنْ يُعَلِّمُهُمْ. وَأَذْكُرُ أَنَّنِي سَمِعْتُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ الَّذِي يُعْطَى رَاتِبًا مِنَ الْأَوْقَافِ الْخَيْرِيَّةِ أَنْ يَأْخُذَ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِأَجْلِ سَدِّ الْحَاجَةِ لَا بِقَصْدِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْلِيمِ نَفْسِهِ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَسْتَعْفِفَ إِذَا هُوَ اسْتَغْنَى، فَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْوَقْفِ شَيْئًا.

وَقَالُوا فِي الْمُؤَذِّنِ مِثْلَ مَا قَالُوا فِي مُعَلِّمِ الْقُرْآنِ، وَيَأْتِي فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُعَلِّمِ. وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى جَوَابِ السَّائِلِ عَنْ مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ تَعْرِضُ لَهُ ; إِذِ الْإِجَابَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى الْعَارِفِينَ وَكِتْمَانُ الْعِلْمِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ، وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ أَخْذٍ لِلْمَالِ بِغَيْرِ رِضًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، لَا شَائِبَةَ لِلْجَهْلِ أَوِ الْوَهْمِ أَوِ الْغِشِّ أَوِ الضَّرَرِ فِيهِ، وَمِمَّا تَعْرِضُ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَائِبُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأُجْرَةِ لِأَجْلِ الْمَوْتَى، أَوْ دَفْعِ ضَرَرِ الْجِنِّ أَوْ غَيْرِهِ عَنِ الْأَحْيَاءِ، وَالَّذِي يُعْطِي الْأُجْرَةَ عَلَيْهَا يَجْهَلُ ذَلِكَ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا تَكُونُ سَبَبًا لِنَفْعِ الْمَيِّتِ أَوِ الْحَيِّ أَوْ دَفْعِ ضَرَرِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الْجِنِّ فِي الدُّنْيَا (مَثَلًا) ، وَالْجَاهِلُ بِالشَّرْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ عُرْضَةٌ لِقَبُولِ الْإِيهَامِ وَالْغِشِّ مِنَ الدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي الْبُيُوتِ لِأَجْلِ اتِّعَاظِ أَهْلِهَا وَتَقْوِيَةِ شُعُورِ الْإِيمَانِ بِسَمَاعِهِ، بَلْ هَذَا كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ الَّذِي بَسَطْنَاهُ آنِفًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِكْرَامُ الْقُرَّاءِ بِغَيْرِ صِفَةِ الْأُجْرَةِ. ذَكَرَ الْأَكْلَ مُجْمَلًا عَامًّا، ثُمَّ بَيَّنَ نَوْعًا مِنْهُ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ لِمَا يَقَعُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ ; إِذْ يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَاكِمَ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الشَّارِعِ فِي بَيَانِ الْحَقِّ وَمُنَفِّذُ الشَّرْعِ إِذَا حَكَمَ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ وَلَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَلَا يَكُونُ مِنَ الْبَاطِلِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) أَيْ: وَلَا تُلْقُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ رَشْوَةً لَهُمْ (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إِبْطَالًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ إِلَّا بَيَانُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِالْعَدْلِ ; بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَاكِمَ عِبَارَةٌ عَنْ شَخْصِ الْعَدْلِ النَّاطِقِ بِمَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ اهـ. أَيْ: فَإِذَا نَطَقَ بِغَيْرِ الْحَقِّ خَطَأً أَوِ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَتَعْرِيفُهُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ غَيْرَ مَا يَعْرِفُهُ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ إِلْزَامُ خَصْمِهِ التَّنْفِيذَ. نَعَمْ ; إِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِالْبَاطِلِ فِي الْوَاقِعِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ يَكُونُ مَعْذُورًا فِيمَا يَأْكُلُهُ بِحُكْمِهِ، وَلَا يُعْذَرُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحِقٍّ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدْ نَفَتِ الْآيَةُ الِاشْتِبَاهَ وَبَيَّنَتْ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْحُكَّامِ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُحِلُّهُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ، وَمَعَ هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حُكْمِ الْقَاضِي، هَلْ هُوَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ أَمْ يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى الْقَاضِي وَحْدَهُ إِنْ تَعَمَّدَ الْجَوْرَ دُونَ الْمَحْكُومِ لَهُ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يُنَفَّذُ ظَاهِرًا فَقَطْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِنَحْوِ الطَّلَاقِ وَعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ

يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ زُورًا، وَأَنَّ حُكْمَهُ بِالْمَالِ لَا يُنَفَّذُ إِلَّا ظَاهِرًا فَلَا يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ تَنَاوُلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ. وَأَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ وُضُوحًا بِالتَّمْثِيلِ فَأَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ أَوِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَةِ زُورٍ حَرُمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَعِيشَا مَعًا عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا شَهِدَ شُهُودُ الزُّورِ بِأَنَّ فُلَانًا عَقَدَ عَلَى فُلَانَةٍ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ الْعَقْدِ حَلَّ لِلرَّجُلِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ اكْتِفَاءً بِحُكْمِ الْقَاضِي الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُخَالِفَاهُ إِلَّا لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمَا قُوَّةُ دَلِيلِ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ: مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)) وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ بِمَعْنَاهُ. وَالْمُنْتَصِرُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ يَقْصُرُونَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّهَا الْمَوْضُوعُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ كَمَا تَرَاهُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلِبَعْضِهِمْ فِيهِمَا مِنَ التَّحْرِيفِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى، وَرَدَّ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ بِالْقَاعِدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ بِلَفْظِهِ تَنَاوَلَهَا بِعِلَّتِهِ بِالْأَوْلَى. وَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبْرَةٌ لِوُكَلَاءِ الدَّعَاوَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ بِالْمُحَامِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقْبَلَ الْوَكَالَةَ فِي دَعْوَى يَعْتَقِدُ أَنَّ صَاحِبَهَا مُبْطِلٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي مُحَاوَلَةِ إِثْبَاتِهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُ بُطْلَانُهَا فِي أَثْنَاءِ التَّقَاضِي. وَإِنَّنَا نَرَاهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى خَلَابَتِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَلَحْنِهِمْ فِي الْخِطَابِ (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (2: 269) . وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إِلْقَاءُ الدَّلْوِ، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ، هَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ: إِلْقَاءُ الدَّلْوِ يُرَادُ بِهِ إِخْرَاجُ الْمَاءِ، وَإِلْقَاءُ الْمَالِ إِلَى الْحُكَّامِ يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ لِلْمُلْقِي، وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ بَعِيدًا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (بِهَا) قِيلَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى لَا تُلْقُوهَا إِلَيْهِمْ بِالرِّشْوَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الرِّشْوَةَ رِشَاءُ الْحَكَمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ وَلَا تُلْقُوا بِحُكُومَةِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ، وَالْفَرِيقُ مِنَ الشَّيْءِ: الْجُمْلَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ، وَالْإِثْمُ: فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ((أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَشْوَعَ الْحَضْرَمِيَّ وَامْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ عَابِسٍ اخْتَصَمَا فِي أَرْضٍ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَحَكَمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَحْلِفَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، فَهَمَّ بِهِ، فَنَزَلَتْ)) وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ:

189

(تَعْلَمُونَ) مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ، وَهُوَ احْتِرَاسٌ عَمَّنْ يَأْكُلُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ حَقُّهُ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ وَفُرُوعٌ لَا تُحْصَى، ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مِثْلَ مَا إِذَا عَلِمَ زَيْدٌ أَنَّ أَبَاهُ أَوْدَعَ لَهُ وَدِيعَةَ كَذَا عِنْدَ فُلَانٍ الَّذِي مَاتَ فَطَالَبَ وَلَدَ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّ أَبَاهُ تَرَكَهُ تُرَاثًا فَمَنْ حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْهُمَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَهُ بِالْإِثْمِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ مِصْرَ، مِنْ كَثْرَةِ التَّقَاضِي وَالْخِصَامِ، وَالْإِدْلَاءِ إِلَى الْحُكَّامِ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُطَالِبُ غَرِيمَهُ بِحَقِّهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَحْكَمَةِ، وَلَعَلَّهُ لَوْ طَالَبَهُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّقَاضِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاكِمُ الْآخَرَ لِمَحْضِ الِانْتِقَامِ وَالْإِيذَاءِ وَإِنْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ اهـ. (أَقُولُ) : وَكَمْ مِنْ ثَرْوَةٍ نَفِدَتْ، وَبُيُوتٍ خَرِبَتْ، وَنُفُوسٍ أُهِينَتْ، وَجَمَاعَةٍ فُرِقَّتْ، وَمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنْ سَبَبٍ إِلَّا الْخِصَامَ، وَالْإِدْلَاءَ بِالْمَالِ إِلَى الْحُكَّامِ، وَلَوْ تَأَدَّبَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ بِآدَابِ الْكِتَابِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ لَكَانَ لَهُمْ مِنْ هِدَايَتِهِ مَا يَحْفَظُ حُقُوقَهُمْ، وَيَمْنَعُ تَقَاطُعَهُمْ وَعُقُوقَهُمْ، وَيَحُلُّ فِيهِمُ التَّرَاحُمُ وَالتَّلَاحُمُ، مَحَلَّ التَّزَاحُمِ وَالتَّلَاحُمِ، وَإِنَّكَ تَرَى مِنْ أَذْكِيَائِهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَنْ هَدْيِ الدِّينِ أَغْنِيَاءٌ، وَقَدْ عَمُوا عَمَّا أَصَابَهُمْ بِتَرْكِهِ مِنَ الْأَرْزَاءِ، فَهُمْ بِالْفِسْقِ عَنْهُ يَتَنَابَذُونَ وَيَتَحَاسَدُونَ، وَيَتَنَافَدُونَ وَيَتَنَاقَدُونَ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ. (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حُكْمَ الْأَمْوَالِ عَقِبَ ذِكْرِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَالصِّيَامُ عِبَادَةٌ مَوْقُوتَةٌ لَا يَتَعَدَّى فَرْضُهَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَالْأَمْوَالُ وَسِيلَةٌ لِعِبَادَةِ الْحَجِّ وَهُوَ يَكُونُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَلِعِبَادَةِ الْقِتَالِ مُدَافَعَةً عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَهِيَ قَدْ كَانَتْ مَمْنُوعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ بَعْدَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ وَالْأَمْوَالِ بِذِكْرِ مَا يُشْرَعُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنَ الْحَجِّ وَمِنَ الْقِتَالِ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَبْدَأُ ذَلِكَ بِذِكْرِ حِكْمَةِ اخْتِلَافِ الْأَهِلَّةِ

قَالَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أَيْ: مَوَاقِيتُ لَهُمْ فِي صِيَامِهِمْ وَحَجِّهِمْ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَفِي نَحْوِ عِدَّةِ النِّسَاءِ وَآجَالِ الْعُقُودِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ ; فَإِنَّ التَّوْقِيتَ بِهَا يَسْهُلُ عَلَى الْعَالِمِ بِالْحِسَابِ وَالْجَاهِلِ بِهِ وَعَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَهِيَ مَوَاقِيتُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَأَمَّا السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ فَإِنَّ شُهُورَهَا تُعْرَفُ بِالْحِسَابِ فَهِيَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلْحَاسِبِينِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ضَبْطِهَا إِلَّا بَعْدَ ارْتِقَاءِ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ النَّبِيَّ عَنِ الْأَهِلَّةِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ: لِمَ خُلِقَتْ؟ وَالرِّوَايَتَانِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ بْنَ غُنَيْمَةَ قَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَعْظُمَ وَيَسْتَوِيَ وَيَسْتَدِيرَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقَضُّ وَيَدِقُّ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ لَا يَكُونُ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ؟ فَنَزَلَتْ)) وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا السَّبَبُ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْبَلَاغَةِ يَذْكُرُونَهُ فِي مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ وَعَدَمِهَا، وَزَعَمُوا أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِينَ بَيَانُ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، وَأَنَّ الْجَوَابَ إِنَّمَا جَاءَ بِبَيَانَ الْحِكْمَةِ دُونَ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّهُ مَوْضُوعُ الدِّينِ، جَرْيًا عَلَى مَا يُسَمَّى فِي الْبَلَاغَةِ أُسْلُوبَ الْحَكِيمِ أَوِ الْأُسْلُوبَ الْحَكِيمَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُ قَالَ كَانَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَهِلَّةِ إِنْ لَمْ تَكُونُوا تَعْرِفُونَهَا، وَإِلَّا فَعَلَيْكُمُ الِاكْتِفَاءُ بِهَا وَعَدَمُ مُطَالَبَةِ الشَّارِعِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ سُؤَالَهُمْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ الْفَلَكِ إِلَى أُسْتَاذِهِ فِيهِ لَمَا عُدَّ قَبِيحًا وَلَا قِيلَ: إِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّهُ مُوَجَّهٌ مِنْ أُمِّيٍّ إِلَى نَبِيٍّ لَا إِلَى فَلَكِيٍّ، فَهُوَ قَبِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ النَّظَرُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَأَسْبَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ مَذْمُومًا، وَكَيْفَ يُذَمُّ وَقَدْ أَرْشَدَنَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَحَثَّنَا فِي كِتَابِهِ عَلَيْهِ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (50: 6) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَةٌ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ رِوَايَةَ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الطُّرُقِ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي طَلَبِ بَيَانِ الْعِلَّةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ - وَلَوْ مَعَ الْعِلَّةِ - غَيْرُ بَعِيدٍ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْجَوَابَ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمُنَاسَبَةِ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي السُّؤَالِ وَأَنَّهُ عَنِ الْعِلَّةِ مَا بُعِثَ الْأَنْبِيَاءُ لِبَيَانِهِ فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْهُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: الْعُلُومُ الَّتِي نَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِنَا عَلَى أَقْسَامٍ: - الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أُسْتَاذٍ كَالْمَحْسُوسَاتِ وَالْوِجْدَانَاتِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا نَجِدُ لَهُ أُسْتَاذًا ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا مَطْمَعَ لِلْبَشَرِ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ كَيْفِيَّةُ

التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ الْأَوَّلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِسِرِّ الْقَدَرِ. يُمْكِنُ لِلنَّبَاتِيِّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَتَكَوَّنُ مِنْهُ النَّبَاتُ وَكَيْفَ يَنْبُتُ وَيَنْمُو وَيَتَغَذَّى، وَلِلطَّبِيبِ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ تَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ وَالْأَطْوَارِ الَّتِي يَتَدَرَّجُ فِيهَا مُنْذُ يَكُونُ نُطْفَةً إِلَى أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا مُسْتَقِلًّا عَاقِلًا، وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ نَبَاتِيٌّ وَلَا طَبِيبٌ كَيْفَ وُجِدَتْ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ أَوْ مَادَّتُهُمَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَا كَيْفَ وُجِدَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الْعِلَاقَةَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ - جِهَةِ الْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ - لَا يُمْكِنُ اكْتِنَاهُهَا، وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ اكْتِنَاهُ ذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَيَسَّرُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْرِفُوهُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثِ كَالْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالزِّرَاعِيَّةِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَمِنْهَا أَسْبَابُ أَطْوَارِ الْهِلَالِ، وَتَنَقُّلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (36: 39) . الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَجِبُ عَلَيْنَا لِلْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي فِطَرِنَا الشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَهَدَى عُقُولَنَا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ بِمَا نَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِنَا ; فَإِنَّ هَذَا الشُّعُورَ وَهَذِهِ الْهِدَايَةَ مُبْهَمَانِ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى تَحْدِيدِهِمَا مِنْ حَيْثُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي اللهِ تَعَالَى وَفِي حِكْمَةِ خَلْقِنَا، وَمُرَادُهُ مِنَّا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ مَصِيرِنَا، وَمِنْ حَيْثُ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ. وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقٍ صِنَاعِيٍّ أَوْ كَسْبٍ بَشَرِيٍّ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْأُمَمُ فِي الْحَيْرَةِ وَالْخَطَأِ فِي مَسَائِلِهِ لِجَهْلِهِمْ بِالصِّلَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ أَعْمَالَنَا تُفِيدُهُ أَوْ تُؤْلِمُهُ، وَأَنَّهُ يُنْعِمُ عَلَيْنَا أَوْ يَنْتَقِمُ مِنَّا بِالْمَصَائِبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْحَيَاةَ الْأُخْرَى تَكُونُ بِهَذِهِ الْأَجْسَادِ وَالْجَزَاءَ فِيهَا يَكُونُ بِهَذَا الْمَتَاعِ، فَاخْتَرَعُوا الْأَدْوِيَةَ لِحِفْظِ أَجْسَادِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَاجِزًا عَنْ تَحْدِيدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى شُكْرًا لِلَّهِ وَاسْتِعْدَادًا لِتِلْكَ الْحَيَاةِ ; لِأَنَّ الْحَوَاسَّ وَالْعَقْلَ لَا يُدْرِكَانِ ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى عَقْلٍ آخَرَ يُدْرِكُ بِهِ مَا يَعُوزُ أَفْرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذَا الْعَقْلُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ. وَبَقِيَ (قِسْمٌ خَاصٌّ) وَهُوَ مَا يَسْتَطِيعُ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ إِدْرَاكَ الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فِيهِ دَائِمًا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُلْقِي الْغِشَاوَةَ عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، فَتَحُولَ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ تُشَبِّهُ النَّافِعَ بِالضَّارِّ وَتَلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. مِثَالٌ ذَلِكَ

السِّعَايَةُ وَالْمَحَلُّ، يُدْرِكُ الْعَقْلُ مَا فِيهِ مِنِ الضَّرَرِ وَالْقُبْحِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى لِنَفْسِهِ فَائِدَةً مِنَ السِّعَايَةِ بِشَخْصٍ زَيَّنَهَا لَهُ هَوَاهُ فَيَرَاهَا حَسَنَةً مِنْ حَيْثُ يَخْفَى عَلَيْهِ ضَرَرُهَا لِذَاتِهَا، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ، وَقَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ مَضَرَّتَهُمَا فِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الشَّهْوَةَ تَحْجُبُهُ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَيُؤْثِرُ حُكْمَ لَذَّتِهِ عَلَى حُكْمِ عَقْلِهِ الَّذِي يَنْهَاهُ عَنْ كُلِّ ضَارٍّ، فَصَارَ مُحْتَاجًا إِلَى مُعَلِّمٍ آخَرَ يَنْصُرُ الْعَقْلَ عَلَى الْهَوَى، وَوَازِعٍ يَكْبَحُ مِنْ جِمَاحِ الشَّهْوَةِ لِيَكُونَ عَلَى هُدًى. فَمَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُطَالَبُ الْأَنْبِيَاءُ بِبَيَانِهِ، وَمُطَالَبَتُهُمْ بِهِ جَهْلٌ بِوَظِيفَتِهِمْ، وَإِهْمَالٌ لِلْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى الَّتِي وَهَبَهُ اللهُ إِيَّاهَا لِيَصِلَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يُطَالَبُونَ بِمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْبَشَرِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (2: 55) وَأَمَّا مَا كَانَ إِدْرَاكُهُ لَيْسَ مُمْكِنًا، وَكَسْبُهُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ مُتَعَذِّرًا أَوْ تَحْدِيدُهُ مُتَعَسِّرًا، فَهُوَ الَّذِي نَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى هَادٍ يُخْبِرُ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِنَأْخُذَهُ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ ; وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الرَّسُولَ عَقْلٌ لِلْأُمَّةِ، وَهِدَايَةٌ وَرَاءَ هِدَايَةِ الْحَوَّاسِ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. لَوْ كَانَ مِنْ وَظِيفَةِ النَّبِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ الْعُلُومَ الطَّبِيعِيَّةَ وَالْفَلَكِيَّةَ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُعَطَّلَ مَوَاهِبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَيُنْزَعَ الِاسْتِقْلَالُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَيُلْزِمَ بِأَنْ يَتَلَقَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ كُلَّ شَيْءٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرُّسُلِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ كَافِيًا لِتَعْلِيمِ أَفْرَادِهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ هَذَا النَّوْعَ الَّذِي نَعْرِفُهُ، نَعَمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُنَبِّهُونَ النَّاسَ بِالْإِجْمَالِ إِلَى اسْتِعْمَالِ حَوَاسِّهِمْ وَعُقُولِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَزِيدُ مَنَافِعَهُمْ وَمَعَارِفَهُمُ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا نُفُوسُهُمْ، وَلَكِنْ مَعَ وَصْلِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيَزِيدُ فِي الْعِبْرَةِ. وَقَدْ أَرْشَدَنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى وُجُوبِ اسْتِقْلَالِنَا دُونَهُ فِي مَسَائِلِ دُنْيَانَا فِي وَاقِعَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ إِذْ قَالَ: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) وَمِنْ هَاهُنَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ خَطَأً، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَ السَّائِلِينَ بِقَوْلِهِ: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (17: 85) أَيْ: إِنَّهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا يُسْأَلُ النَّبِيُّ عَنْهَا، كَمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ اخْتِلَافِ أَطْوَارِ الْأَهِلَّةِ خَطَأً لَا تَصِحُّ مُجَارَاةُ السَّائِلِ عَلَيْهِ بَلْ عَدَّهُ الْقُرْآنُ مِنْ قَبِيلِ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنِ التَّارِيخَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَسْهُلُ عَلَى الْبَشَرِ تَدْوِينُهَا وَالِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْوَحْيِ فَلِمَاذَا كَثُرَ سَرْدُ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ أَكْثَرَ؟ وَالْجَوَابُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مِنَ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ لِلْأُمَمِ أَوِ الْبِلَادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ الْآيَاتُ وَالْعِبَرُ تَجَلَّتْ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ، لِبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِنْذَارًا لِلْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ وَقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ - وَسَتَرَى ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَلِذَلِكَ لَمْ تُذْكَرْ قِصَّةٌ بِتَرْتِيبِهَا وَتَفَاصِيلِهَا، وَإِنَّمَا

يَذْكُرُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِيهَا (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (12: 111) (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (11: 120) وَكُلُّ مَا تَرَاهُ فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ الْقَوْمِ مِنَ الْقَصَصِ الْمُسْهِبَةِ وَالتَّارِيخِ الْمُتَّصِلِ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ مِمَّا أُلْحِقَ بِالتَّوْرَاةِ بَعْدَ مُوسَى بِقُرُونٍ، بَلْ كُتِبَ أَكْثَرُ تَوَارِيخِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بَعْدَ السَّبْيِ وَرُجُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَابِلَ. وَمَنْ أَرَادَ كَمَالَ الْبَيَانِ فِي وَظَائِفِ الرُّسُلِ فَعَلَيْهِ بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَإِذَا كَانَ مَا وَرَدَ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأَهِلَّةِ لَمْ يَصِحَّ سَنَدًا - كَمَا تَقَدَّمَ - فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّ السُّؤَالَ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي قَالُوهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ، فَمَا كُلُّ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ بَاطِلٌ، وَلَا كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاقِعٌ، فَرُبَّ سَنَدٍ قَالُوا إِنَّهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ جَارِحًا فِي أَحَدٍ مِنْ رِجَالِهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ خَفِيَ كَذِبُهُ وَاسْتَتَرَ أَمْرُهُ. يَدُلُّ عَلَى السُّؤَالِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ: (يَسْأَلُونَكَ) وَيَسْتَأْنِسُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَلَى الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) فَإِنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَنْ يَسْأَلُ النَّبِيَّ عَمَّا لَمْ يُبْعَثِ النَّبِيُّ لِبَيَانِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عِرْفَانُهُ عَلَى الْوَحْيِ فَهُوَ فِي طَلَبِهِ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ مَطْلَبِهِ كَمَنْ يَطْلُبُ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ ظَهْرِهِ دُونَ بَابِهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ الِاتِّصَالُ وَالِالْتِحَامُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْآيَةِ أَحْكَمَ وَأَقْوَى. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا مُفِيدٌ لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ الَّذِي يُعْرَفُ مِيقَاتُهُ لِأَهْلِهِ لَكَانَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا تَأْدِيبَ السَّائِلِينَ بِتَمْثِيلِ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِمِثَالٍ لَا يَرْتَضِيهِ عَاقِلٌ وَهُوَ إِتْيَانُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفِيدُوهُ وَتَحْسِينُهُ لَهُمْ بِجَعْلِهِ كَإِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوُا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ((كَانَتْ قُرَيْشُ تَدَّعِي الْحُمْسَ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنَ الْأَبْوَابِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ وَسَائِرُ الْعَرَبِ لَا يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ فِي الْإِحْرَامِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُسْتَانٍ إِذْ خَرَجَ مِنْ بَابِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَإِنَّهُ خَرَجَ مَعَكَ مِنَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ: ((مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ)) ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ فَعَلْتَهُ فَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتَ، قَالَ ((إِنِّي رَجُلٌ أَحْمَسِيٌّ)) قَالَ لَهُ: فَإِنَّ دِينِي دِينُكَ،

فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَعَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الدُّخُولِ مِنَ الْبَابِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ سَقْفَ الْبَابِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِخَطَئِهِمْ فِي ذَلِكَ بَيَّنَ لَهُمُ الْبِرَّ الْحَقِيقِيَّ فَقَالَ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ: إِنَّ الْبِرَّ هُوَ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِالتَّخَلِّي عَنِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضْلِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَاجْتِنَابِ الْبَاطِلِ، فَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلْيَكُنْ بَاطِنُكُمْ عُنْوَانًا لِظَاهِرِكُمْ بِطَلَبِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا، وَاتَّقُوا اللهَ رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا فِي أَعْمَالِكُمْ، وَتَبْلُغُوا غَايَةَ آمَالِكُمْ، فَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ: أَنَّ الْأَهِلَّةَ جَمْعُ هِلَالٍ: وَهُوَ الْقَمَرُ فِي لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ: حَتَّى يَحْجُرَ ; أَيْ: يَسْتَدِيرُ بِخَطٍّ دَقِيقٍ، وَقِيلَ: حَتَّى يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَبْعٍ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ إِذَا صَرَخَ حِينَ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِلْإِعْلَامِ بِهَا يَقُولُونَ: الْهِلَالُ وَاللهِ، وَأَهَلَّ الرَّجُلُ: رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَأَهَلَّ بِذِكْرِ اللهِ وَبِاسْمِ اللهِ، وَأَهَلَّ الْقَوْمُ وَاسْتَهَلُّوا: رَأَوُا الْهِلَالَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) .

190

وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ لِلْمُحْرِمِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِذَا فُوجِئُوا بِالْقِتَالِ بَغْيًا وَعُدْوَانًا، فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ عَامَّةً وَفِي الْحَجِّ خَاصَّةً. وَهُوَ فِي أَشْهُرٍ هِلَالِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ كَانَ الْقِتَالُ فِيهَا مُحَرَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَرَضِيَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ الْقَابِلَ وَيُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَطُوفُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ، تَجَهَّزَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَخَافُوا أَلَّا تَفِيَ لَهُمْ قُرَيْشٌ وَأَنْ يَصُدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْقُوَّةِ وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَكَرِهَ أَصْحَابُهُ قِتَالَهُمْ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ ; فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) يَقُولُ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَخَافُونَ أَنْ يَمْنَعَكُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ عَنْ زِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ وَالِاعْتِمَارِ فِيهِ نَكَثًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ وَفِتْنَةً لَكُمْ فِي الدِّينِ، وَتَكْرَهُونَ أَنْ تُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِقِتَالِهِمْ فِي الْإِحْرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِنَّنِي أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ دِفَاعٌ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ عِبَادَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَتَرْبِيَةً لِمَنْ يَفْتِنُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَيَنْكُثُ عَهْدَكُمْ، لَا لِحُظُوظِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا، وَالضَّرَاوَةِ بِحُبِّ التَّسَافُكِ، فَقَاتِلُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ الشَّرِيفَةِ مَنْ يُقَاتِلُكُمْ (وَلَا تَعْتَدُوا) بِالْقِتَالِ فَتَبْدَءُوهُمْ، وَلَا فِي الْقِتَالِ فَتَقْتُلُوا مَنْ لَا يُقَاتِلُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَالْمَرْضَى، أَوْ مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَكَفَّ عَنْ حَرْبِكُمْ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ كَالتَّخْرِيبِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ يُفِيدُ الْعُمُومَ. عَلَّلَ الْإِذْنَ بِأَنَّهُ مُدَافَعَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أَيْ: إِنَّ الِاعْتِدَاءَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِذَاتِهَا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَفِي أَرْضِ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ ثُمَّ قَالَ: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أَيْ: إِذَا نَشِبَ الْقِتَالُ فَاقْتُلُوهُمْ أَيْنَمَا أَدْرَكْتُمُوهُمْ وَصَادَفْتُمُوهُمْ وَلَا يَصُدَنَّكُمْ عَنْهُمْ أَنَّكُمْ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى فِي الْآيَةِ بِشَرْطِهِ (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أَيْ: مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهُ وَهُوَ مَكَّةُ ; فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا بِمَا كَانُوا يَفْتِنُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ صَدُّوهُمْ عَنْ دُخُولِهَا لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، فَرَضِيَ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَسْمَحُوا لَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ بِدُخُولِهَا، لِأَجَلِ النُّسُكِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، أَلَيْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ يُقَوِّيَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَأْذَنَ لَهُمْ بِأَنْ يَعُودُوا إِلَى وَطَنِهِمْ نَاسِكِينَ مُسَالِمِينَ، وَأَنْ يُقَاوِمُوا مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْخَائِنِينَ؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ إِنَّهُمْ أَقَامُوا دِينَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ دُونَ الْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ؟ كَلَّا. لَا يَقُولُ

191

هَذَا إِلَّا غِرٌّ جَاهِلٌ، أَوْ عَدُوٌّ مُتَجَاهِلٌ. ثُمَّ زَادَ التَّعْلِيلَ بَيَانًا فَقَالَ: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أَيْ: إِنَّ فِتْنَتَهُمْ إِيَّاكُمْ فِي الْحَرَمِ عَنْ دِينِكُمْ بِالْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْمُصَادَرَةِ فِي الْمَالِ، أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ ; إِذْ لَا بَلَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِيذَائِهِ وَاضْطِهَادِهِ وَتَعْذِيبِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنْ عَقْلِهِ وَنَفْسِهِ، وَرَآهُ سَعَادَةً لَهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. وَالْفِتْنَةُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ، فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا أَذَابَهُمَا بِالنَّارِ لِيَسْتَخْرِجَ الزَّغَلَ مِنْهُمَا. وَيُسَمَّى الْحَجَرُ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ أَيْضًا فَتَّانَةً (كَجَبَّانَةٍ) ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الْفِتْنَةُ فِي كُلِّ اخْتِبَارٍ شَاقٍّ، وَأَشَدُّهُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ وَعَنِ الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (29: 2) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا تَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (22: 39، 40) الْآيَاتُ. وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ مُعَلَّلًا بِسَبَبِهِ مُقَيَّدًا بِشُرُوطِهِ الْعَادِلَةِ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْفِتْنَةَ هُنَا وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِالشِّرْكِ وَجَرَى عَلَيْهِ (الْجَلَالُ) ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْآيَاتِ عَنْ سِيَاقِهَا، وَذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ. (قِيلَ) : وَرَدَّ قَوْلَهُمْ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ مَشْرُوطًا لِاعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَجْلِ أَمْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ. وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ وَقِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنَ بَعْضِهَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعُمُومَاتِ فِيهَا بِحُكْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ شَرْعٌ ثَابِتٌ عَامٌّ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أُدْرِكُوا فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَقَالَ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) أَيْ: إِنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَكُونُ آمِنًا، إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ هُوَ فِيهِ وَيَنْتَهِكَ حُرْمَتَهُ فَلَا أَمَانَ حِينَئِذٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمْرًا عَظِيمًا يُتَحَرَّجُ مِنْهُ أَكَّدَ الْإِذْنَ فِيهِ بِشَرْطِهِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْغَايَةِ فَقَالَ: (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) وَلَا تَسْتَسْلِمُوا لَهُمْ، فَالْبَادِئُ هُوَ الظَّالِمُ، وَالْمُدَافِعُ غَيْرُ آثِمٍ

(كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) أَيْ: إِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُجَازِيَ الْكَافِرِينَ مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ، فَيُعَذِّبُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ تَعَرُّضِهِمْ لِلْعَذَابِ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَيَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ((وَلَا تَقْتُلُوهُمْ. . . . حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)) مِنْ قَتَلَ الثُّلَاثِيِّ، وَيَخْرُجُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ بَعْضِ الْأُمَّةِ كَقَتْلِ جَمِيعِهَا لِتَكَافُلِهَا. وَالْمُرَادُ حَتَّى لَا يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْكُمْ، فَإِنْ قَتَلُوا أَحَدًا فَاقْتُلُوهُمْ وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ. ثُمَّ قَالَ: (فَإِنِ انْتَهَوْا) عَنِ الْقِتَالِ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، أَوْ عَنِ الْكُفْرِ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ مِنْهُمْ (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يَمْحُو عَنِ الْعَبْدِ مَا سَلَفَ، إِذَا هُوَ تَابَ عَمَّا اقْتَرَفَ، وَيَرْحَمُهُ فِيمَا بَقِيَ، إِذَا هُوَ أَحْسَنَ وَاتَّقَى (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (7: 56) . (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) عَطَفَ عَلَى (قَاتِلُوا) فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَتِلْكَ بَيَّنَتْ بِدَايَةَ الْقِتَالِ وَهَذِهِ بَيَّنَتْ غَايَتَهُ وَهِيَ أَلَّا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ حَتَّى لَا تَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَفْتِنُونَكُمْ بِهَا وَيُؤْذُونَكُمْ ; لِأَجْلِ الدِّينِ، وَيَمْنَعُونَكُمْ مِنْ إِظْهَارِهِ أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (9: 39) أَيْ: يَكُونُ دِينُ كُلِّ شَخْصٍ خَالِصًا لِلَّهِ لَا أَثَرَ لِخَشْيَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَلَا يُفْتَنُ لِصَدِّهِ عَنْهُ وَلَا يُؤْذَى فِيهِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الدِّهَانِ وَالْمُدَارَاةِ، أَوِ الِاسْتِخْفَاءِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ قَرَارَ الشَّرَكِ، وَالْكَعْبَةُ مُسْتَوْدَعَ الْأَصْنَامِ، فَالْمُشْرِكُ فِيهَا حُرٌّ فِي ضَلَالَتِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَغْلُوبٌ عَلَى هِدَايَتِهِ، قَالَ: (فَإِنِ انْتَهَوْا) أَيْ: فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أَيْ: فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْعُدْوَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الظَّالِمِينَ تَأْدِيبًا لَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ، فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِالْحَذْفِ، وَاسْتِغْنَاءٌ عَنِ الْمَحْذُوفِ بِالتَّعْلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ فَلَا عُدْوَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ظَالِمًا بِارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ; أَيْ: فَلَا يُحَارَبُونَ عَامَّةً وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُجْرِمُ بِجَرِيمَتِهِ، ثُمَّ زَادَ تَعْلِيلَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ بَيَانًا بِبِنَائِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ عَادِلَةٍ مَعْقُولَةٍ فَقَالَ تَعَالَى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

194

لَمَّا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّسُكِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَاتَلُوهُمْ رَمْيًا بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَوْ قَابَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَامَئِذٍ بِالْمِثْلِ وَلَمْ يَرْضَ النَّبِيُّ بِالصُّلْحِ لَاحْتَدَمَ الْقِتَالُ، وَلَمَّا خَرَجُوا فِي الْعَامِ الْآخَرِ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَكَرِهُوا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنِ اعْتَدَوْا وَنَكَثُوا الْعَهْدَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِنَّمَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُدَافَعَةِ، وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْفِتْنَةِ وَإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ - لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ - هُوَ أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ مَنْعُهُمُ الْحَقَّ وَتَأْيِيدُهُمُ الشِّرْكَ. ثُمَّ بَيَّنَ قَاعِدَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ - أَيْ: مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ - يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْقِصَاصِ وَالْمُسَاوَاةُ فَقَالَ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ حُجَّةً لِوُجُوبِ مُقَاصَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى انْتِهَاكِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمَثْلِ، لِيَكُونَ شَهْرٌ بِشَهْرٍ جَزَاءً وِفَاقًا. وَفِي جُمْلَةِ (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) مِنَ الْإِيجَازِ مَا تَرَى حُسْنَهُ وَإِبْدَاعَهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي مَعَ مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ - وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَهُ - لِمَكَانِ كَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَاعِدَةِ وَتَأْيِيدًا لِلْحُكْمِ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا تَتَأَتَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَسَمَّى الْجَزَاءَ اعْتِدَاءً لِلْمُشَاكَلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْقَاتِلِ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ بِأَنْ يُذْبَحَ إِذَا ذَبَحَ، وَيُخْنَقَ إِذَا خَنَقَ، وَيُغْرَقَ إِذَا أَغْرَقَ، وَهَكَذَا. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ. وَالْقَصْدُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى قَدْرِ الِاعْتِدَاءِ بِلَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَأَزْيَدُ عَلَى هَذَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْمَقَامِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ كَقَتْلِ الْمُجْرِمِينَ بِلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَالْمُقَاتِلُ بِالْمَدَافِعِ وَالْقَذَائِفِ النَّارِيَّةِ أَوِ الْغَازِيَةِ السَّامَّةِ يَجِبُ أَنْ يُقَاتَلَ بِهَا، وَإِلَّا فَاتَتِ الْحِكْمَةُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ وَهِيَ مَنْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ، وَتَقْرِيرُ الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالْآدَابُ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ شَرْحِ الْقِصَاصِ وَالْمُمَاثَلَةِ: (وَاتَّقُوا اللهَ) فَلَا تَعْتَدُوا عَلَى أَحَدٍ وَلَا تَبْغُوا وَلَا تَظْلِمُوا فِي الْقِصَاصِ بِأَنْ تَزِيدُوا فِي الْإِيذَاءِ. وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا بَيَّنَ مِنْ مَزِيَّتِهَا وَفَائِدَتِهَا فَقَالَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَبَقَاؤُهُ هُوَ الْأَصْلَحُ، وَالْعَاقِبَةُ لَهُ فِي كُلِّ مَا يُنَازِعُهُ بِهِ الْبَاطِلُ ; لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى اتِّقَاءَ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ. وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ - وَهُوَ الْقِتَالُ - يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ، أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (قَاتِلُوا) رَابِطٌ لِأَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْحَجِّ بِحُكْمِ الْأَمْوَالِ السَّابِقِ، فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا يَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ مُجْمَلًا، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مَا يَجِبُ مِنْ إِنْفَاقِهِ مِنْهُ

195

كَذَلِكَ. وَسَبِيلُ اللهِ هُوَ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا الْأَمْرِ وَحِكْمَتَهُ عَلَى مَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي ضِمْنِ حُكْمٍ آخَرَ. فَقَالَ: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُكُمْ وَيُمَكِّنُ الْأَعْدَاءَ مِنْ نَوَاصِيكُمْ فَتَهْلِكُونَ. وَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ التَّطَوُّعُ فِي الْحَرْبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِالطُّرُقِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعَدُوُّ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُخَاطَرَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، بِأَنْ تَكُونَ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى لَا لِنَصْرِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِ حِزْبِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَافُ الَّذِي يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) (7: 31) . وَفَسَّرَ (الْجَلَالُ) (سَبِيلِ اللهِ) بِطَاعَتِهِ: الْجِهَادُ وَغَيْرُهُ. وَ (التَّهْلُكَةِ) بِالْإِمْسَاكِ عَنِ النَّفَقَةِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ. قَالَ: لِأَنَّهُ يُقَوِّي الْعَدُوَّ عَلَيْكُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَصَابَ مُفَسِّرُنَا وَأَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ التَّهْلُكَةِ ; أَيْ: لَا تُقَاتِلُوا إِلَّا حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكُمُ النَّصْرُ وَعَدَمُ الْهَزِيمَةِ. وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا سَبَقَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ، وَلَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْأُسْلُوبِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْتَئِمُ وَيُنَاسِبُ هُوَ مَا قَالَهُ (الْجَلَالُ) وَآخَرُونَ، فَالْمَعْنَى: إِذَا لَمْ تَبْذُلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَأْيِيدِ دِينِهِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنْ مَالٍ وَاسْتِعْدَادٍ فَقَدْ أَهْلَكْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا (وَأَنْفِقُوا) الْآيَةَ، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَهُ لَمَّا خَاطَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدَخَلَ فِي صَفِّ الرُّومِ فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَذَكَرَهُ. أَقُولُ: وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا بِالْمِرْصَادِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَوِ انْصَرَفُوا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ إِلَى تَثْمِيرِ الْأَمْوَالِ لَاغْتَالُوهُمْ، وَإِصْلَاحُ الْأَمْوَالِ وَاسْتِثْمَارُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ هُوَ أَسَاسُ الْقُوَّةِ، فَقُوى الدُّوَلِ عَلَى قَدْرِ ثَرْوَتِهَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تُقَصِّرُ فِي تَوْفِيرِ الثَّرْوَةِ هِيَ الَّتِي تُلْقِي بِأَيْدِيهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالَّتِي تُقَصِّرُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلِاسْتِعْدَادِ لِقِتَالِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا تَكُونُ أَدْنَى إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا ثَرْوَةَ مَعَ الظُّلْمِ، وَلَا عَدْلَ مَعَ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ الِاسْتِبْدَادِيِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى عُمُومِهِ ; أَيْ: أَحْسِنُوا كُلَّ أَعْمَالِكُمْ وَأَتْقِنُوهَا فَلَا تُهْمِلُوا إِتْقَانَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ بِالْإِنْفَاقِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ (التَّوْبَةِ) الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ. وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مُحَصِّلُ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ سَبَبِ

نُزُولِهَا، وَهُوَ إِبَاحَةُ الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا بَدَأَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، وَأَلَّا يُبْقُوا عَلَيْهِمْ إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَاعْتَدَوْا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَحُكْمُهَا بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ لَا نَاسِخَ وَلَا مَنْسُوخَ ; فَالْكَلَامُ فِيهَا مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَمْزِيقِهِ، وَلَا إِلَى إِدْخَالِ آيَةِ بَرَاءَةٌ فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِيهَا، وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا عَلَى عُمُومِهِ - وَلَوْ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ - فَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ أُسْلُوبِهَا وَحَمَّلَهَا مَا لَا تَحْمِلُ. وَآيَاتُ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ. وَآيَاتُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ آيَاتُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي نَاكِثِي الْعَهْدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (9: 7) وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِكْثِهِمْ: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (9: 13) الْآيَاتِ. كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَبْدَءُوا فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَكَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ بَلَدِهِ وَفِتْنَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيذَاؤُهُمْ وَمَنْعُ الدَّعْوَةِ - كُلُّ ذَلِكَ كَافِيًا فِي اعْتِبَارِهِمْ مُعْتَدِينَ، فَقِتَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُ كَانَ مُدَافَعَةً عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ ; وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْقِتَالِ ; وَإِنَّمَا تَكُونُ الدَّعْوَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لَا بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، فَإِذَا مُنِعْنَا مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقُوَّةِ بِأَنْ هُدِّدَ الدَاعِي أَوْ قُتِلَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ لِحِمَايَةِ الدُّعَاةِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ لَا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ ; فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (2: 256) وَيَقُولُ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (10: 99) وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ الدَّعْوَةَ وَيُؤْذِي الدُّعَاةَ أَوْ يَقْتُلُهُمْ أَوْ يُهَدِّدُ الْأَمْنَ وَيَعْتَدِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَاللهُ تَعَالَى لَا يَفْرِضُ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ; لِأَجْلِ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ، وَلَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْكَسْبِ. وَلِقَدْ كَانَتْ حُرُوبُ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَغَلُّبِ الظَّالِمِينَ لَا لِأَجْلِ الْعُدْوَانِ، فَالرُّومُ كَانُوا يَعْتَدُونَ عَلَى حُدُودِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ حَوْزَةَ الْإِسْلَامِ وَيُؤْذُونَهُمْ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ يُؤْذُونَ مَنْ يُظَنُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْفُرْسُ أَشَدَّ إِيذَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ مَزَّقُوا كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَضُوا دَعْوَتَهُ وَهَدَّدُوا رَسُولَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ اقْتَضَتْهُ طَبِيعَةُ الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مُوَافِقًا لِأَحْكَامِ الدِّينِ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ أَنْ يَبْسُطَ الْقَوِيُّ

196

يَدَهُ عَلَى جَارِهِ الضَّعِيفِ، وَلَمْ تُعْرَفْ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ أَرْحَمَ فِي فُتُوحَاتِهَا بِالضُّعَفَاءِ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، شَهِدَ لَهَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْقِتَالِ أَنَّهُ شُرِعَ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَنَشْرِهَا، فَعَلَى مَنْ يَدَّعِي مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ أَنَّهُ يُحَارِبُ لِلدِّينِ أَنْ يُحْيِيَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَيُعِدَّ لَهَا عُدَّتَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ بِحَسَبِ حَالِ الْعَصْرِ وَعُلُومِهِ، وَيَقْرِنُ ذَلِكَ بِالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِحِمَايَتِهَا مِنَ الْعُدْوَانِ، وَمَنْ عَرَفَ حَالَ الدُّعَاةِ إِلَى الدِّينِ عِنْدَ الْأُمَمِ الْحَيَّةِ وَطُرُقَ الِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَتِهِمْ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ بَطَلَ مَا يَهْذِي بِهِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ - حَتَّى مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ - مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَامَ بِالسَّيْفِ، وَقَوْلُ الْجَاهِلِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ: إِنَّهُ لَيْسَ دِينًا إِلَهِيًّا ; لِأَنَّ الْإِلَهَ الرَّحِيمَ لَا يَأْمُرُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّ الْعَقَائِدَ الْإِسْلَامِيَّةَ خَطَرٌ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ ; فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ لِلْعَالَمِينَ. (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)

اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا جَلِيٌّ جِدًّا لَا سِيَّمَا لِمَنْ قَرَأَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ آيَاتِ الْقِتَالِ السَّابِقَةَ نَزَلَتْ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَانَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنَ السِّيَاقِ بَيَانَ أَحْكَامِ الْحَجِّ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ ; لِأَنَّ شُهُورَهُ بَعْدَ شَهْرِهِ الَّذِي هُوَ رَمَضَانُ. وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُمْرَةَ وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَرَادَ الْقَضَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَخَافَ أَصْحَابُهُ غَدْرَ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ وَاضْطِرَارَهُمْ إِلَى قِتَالِهِمْ إِذَا هُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَبَدَءُوا بِالْقِتَالِ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى أَحْكَامَ الْقِتَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَجِّ فِي الْجَوَابِ عَنْ حِكْمَةِ اخْتِلَافِ الْأَهِلَّةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى إِتْمَامِ أَحْكَامِ الْحَجِّ فَقَالَ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فَالْعَطْفُ وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِتْمَامِ ظَاهِرَانِ فِي أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْحَجِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ كَمَا قَالَ فِي الصِّيَامِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فُرِضَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ أَزَالَ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنَ الشَّرَكِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَزَادَ فِيهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَالْعِبَادَاتِ، فَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي فَرْضِيَّتِهِ وَفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ ; بَلْ هِيَ فِي وَاقِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَبِقَاصِدِيهِمَا، وَقَدْ كَانُوا تَوَجَّهُوا إِلَى ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهَا بِعَامٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ سَابِقَةٌ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْإِتْيَانُ بِهِمَا تَامَّيْنِ، ظَاهِرًا بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ عَلَى وَجْهِهَا، وَبَاطِنًا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ قَصْدِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ أَوِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهِمَا، وَلَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ إِذَا لَمْ تَكُنِ التِّجَارَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْأَصْلِ. وَسَيَأْتِي التَّفْصِيلُ فِي حُكْمِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ فِي تَفْسِيرِ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (2: 198) . وَأَمَّا الرِّيَاءُ وَحُبُّ السُّمْعَةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْحَجِّ فَالْحَجُّ ذَنْبٌ لِلْمُرَائِي لَا طَاعَةٌ، وَإِذَا عَرَضَ الرِّيَاءُ فِي أَثْنَائِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدْ بَدَأَ بِالنُّسُكِ لِوَجْهِ اللهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ، وَقِيلَ: بَلْ يُؤَاخَذُ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الطَّاعَةَ وَالْإِخْلَاصَ وَقَدْرِ قَصْدِهِ الرِّيَاءَ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ تَعَالَى بِمِقْدَارٍ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (99: 7، 8) وَتَجِدُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُفَصَّلًا فِي كِتَابِ ((الرِّيَاءِ)) مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ ((الْإِحْيَاءِ)) فَرَاجِعْهُ. وَقَدْ نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ لِحَالِ عَامَّةِ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَقَالَ: إِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَأَرْكَانُهُ وَوَاجِبَاتُهُ وَلَا يَقْصِدُونَهَا لِلْجَهْلِ بِهَا، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ زِيَارَةَ (أَبُو إِبْرَاهِيمَ) يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْحَجِّ مَعْنًى سِوَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْهَائِمُونَ الْمُغْرَمُونَ بِالْحَجِّ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحُجُّ لِيُقَالَ لَهُ الْحَاجُّ

فُلَانُ أَوْ لِيُحْتَفَلَ بِقُدُومِهِ، وَهَذَا مِنْ أَخَسِّ ضُرُوبِ الرِّيَاءِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقْتَرِضُ بِالرِّبَا وَيَحُجُّ فَيُرِيدُ أَنْ يَعْبُدَ بِأَنْكَرِ الْمُنْكَرَاتِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ بِالْوُجُوبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ خِطَابٌ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا، وَهُوَ يَصْدُقُ وَإِنْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ سُنَّةً. وَيَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (3: 97) وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي الْعُمْرَةِ فَمُتَعَارِضَةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ النَّاطِقَةَ بِأَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَبِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ ضَعِيفَةٌ، وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: ((لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ)) وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَكْذُوبٌ وَبَاطِلٌ. وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ اتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ عَلَى تَضْعِيفِهِ. وَأَقْوَى أَحَادِيثِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْعَقِيلِيِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ: ((حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَا نَكِيرٍ بَلْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمَ فِي إِيجَابِ الْعُمْرَةِ حَدِيثًا أَوْجَبَ مِنْ هَذَا وَلَا أَصَحَّ مِنْهُ، فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ صَارِفٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا السَّائِلَ لَمْ يَقْصِدِ السُّؤَالَ عَنْ مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ حُكْمَهُمَا وَإِنَّمَا سَأَلَ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا عَنْ أَبِيهِ الَّذِي يُقْعِدُهُ عَنْهُمَا الْعَجْزُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ الْعُمْرَةِ سُنَّةً مُتَّبَعَةً لَا فَرْضًا لَازِمًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا عَدَمُ ذِكْرِهَا فِي الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْوُجُوبِ وَلَا فِي حَدِيثِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ تَطَوُّعُ النُّسُكِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ لَفْظُ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ فَمَتَى شَرَعَ فِيهَا كَانَ إِتْمَامُهُمَا وَاجِبًا. وَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْإِتْمَامِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا إِنْ صَحَّ لَا يُنَافِيهِ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَضَمِّخًا بِالزَّعْفَرَانِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللهِ فِي عُمْرَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، فَقَالَ: ((أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ)) ؟ قَالَ: هَأَنَذَا، فَقَالَ لَهُ: ((أَلْقِ عَنْكَ ثِيَابَكَ ثُمَّ اغْتَسِلْ وَاسْتَنْشِقْ مَا اسْتَطَعْتَ ثُمَّ مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ)) .

وَأَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ (1) الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلشَّيْءِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّارِعُ لِإِحْرَامِ أَهْلِ كُلِّ قُطْرٍ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْإِحْرَامِ. (2) الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. (3، 4) الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. (5) الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ لِلشَّعْرِ. فَمَنْ أَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالَ فَقَدْ أَدَّى الْفَرِيضَةَ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. وَلَهُ أَعْمَالٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ مَنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَأَرْكَانُ الْعُمْرَةِ هِيَ مَا عَدَا الْوُقُوفَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ مُرْتَدًّا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً. هَذَا مَا كَتَبْتُهُ عَقِبَ حُضُورِ دَرْسِ التَّفْسِيرِ عَلَى شَيْخِنَا وَطُبِعَ فِي الْمَنَارِ سَنَةَ 1322 هـ ثُمَّ عَلَى حِدَةٍ سَنَةَ 1325 وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْحَجَّ مِمَّا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ فِي التَّصْرِيحِ بِفَرْضِيَّتِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ الْحَجُّ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَالطَّائِفِ وَكَانَ فَتْحُهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ خَرَجُوا لِلْحَجِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِإِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَانَتْ تَمْهِيدًا لِحَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ إِذْ أَذَّنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَجُّوا فِيهَا بِأَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَنَزَلَتْ آيَةُ: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (9: 28) وَلِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فُرِضَ قَبْلَهَا وَنَفَذَ فِيهَا. أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مَا عَسَاهُ يَحُولُ دُونَهُ فَقَالَ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الْحَصْرُ وَالْإِحْصَارُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ وَالتَّضْيِيقُ، يُقَالُ: حَصَرَهُ عَنِ السَّفَرِ وَأَحْصَرَهُ عَنْهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْإِحْصَارَ هُوَ الْمَنْعُ بِسَبَبِ النَّاسِ وَالْحَصْرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى الْآتِي بَعْدُ: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ مَنْعُ الْعَدُوِّ ; أَيْ: إِنْ مُنِعْتُمْ مِنْ إِتْمَامِ النُّسُكِ فَعَلَيْكُمْ مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ وَسَهُلَ حُصُولُهُ وَثَمَنُهُ مِنَ الْهَدْيِ ; وَهُوَ مَا يَهْدِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ النَّعَمِ لِيُذْبَحَ وَيُفَرَّقَ عَلَى فُقَرَائِهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ: الشَّاةُ وَهِيَ أَدْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: جَمَلٌ أَوْ بَقَرَةٌ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا اسْتَيْسَرَ لَهُ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا عَظُمَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنْ يَذْبَحَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَلَوْ فِي الْحِلِّ وَيَتَحَلَّلُ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَبَحَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِهَا وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ عَلَى الْأَرْجَحِ.

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يَبْعَثُ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَيَجْعَلُ لِلْمَبْعُوثِ بِيَدِهِ يَوْمَ أَمَارَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ ذَبَحَ تَحَلَّلَ. ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَكُونُ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ نِيَّةُ النُّسُكِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهِ بِالتَّلْبِيَةِ وَلُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ مِنْ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ مَعَ كَشْفِ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ وَلُبْسِ النَّعْلَيْنِ الْعَرَبِيَّيْنِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُمَا - وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِحْلَالِ وَالتَّحَلُّلِ - يَكُونُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِ شِعْرِهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلْقِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْصَارِ حَيْثُ يَحْصُرُ الْحَاجُّ وَإِلَّا فَالْكَعْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) (5: 95) وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (22: 33) وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَحْرِ الْهَدْيِ فِي مَحِلِّ الْإِحْصَارِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَدْيِ أَنْ يَبْلُغَ الْكَعْبَةَ ; لِأَنَّهُ مُهْدًى إِلَيْهَا، وَحَالُ الْإِحْصَارِ حَالُ ضَرُورَةٍ وَلَا سِيَّمَا إِحْصَارُ السَّنَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا الْآيَةُ، فَقَدْ كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ تَعَالَى بِإِرْسَالِ الْهَدْيِ إِلَيْهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً لَهُمْ، عَلَى أَنَّ إِبْلَاغَهُ مَحِلَّهُ فِي حَالِ الْإِحْصَارِ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا أَوْ مُتَعَسِّرًا، فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ الْإِحْلَالُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ إِنَّ اكْتِفَاءَهُمْ بِذَبْحِهِ فِي أَدْنَى مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَتَيْنِ النَّاطِقَتَيْنِ بِبُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ وَالْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَبْحَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَوَّلِ الْحَرَمِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ احْتَاجُوا فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ إِلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ ; أَيْ: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ الْهَدْيَ بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْهَدْيِ فِي مَقَامِ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاهَا بِأَصْحَابِهِ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ لَا عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَالْهَدْيُ: جَمْعُ هَدِيَّةٍ كَجَدْيٍ وَجَدِيَّةٍ وَالْمَحِلُّ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - اسْمُ مَكَانٍ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ حِلًّا ; أَيْ: صَارَ حَلَالًا، ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ إِذَا صَارَ حَرَامًا. ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يُؤْذِيهِ عَدَمُ الْحَلْقِ فَقَالَ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) مَرَضًا يَنْفَعُهُ فِيهِ الْحَلْقُ وَيَضُرُّهُ عَدَمُهُ (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) كَقَمْلٍ أَوْ جُرْحٍ (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أَيْ: فَعَلَيْهِ إِنْ حَلَقَ فَدِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: يُؤْذِيكَ هَوَامُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَكَرَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ

أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ)) قَالَ الْبُخَارِيُّ: ((وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. وَالْفَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ قِيلَ وَبِالْفَتْحِ: مِكْيَالٌ بِالْمَدِينَةِ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُكَالُ فِيهِ مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ. وَقَوْلُهُ بَيْنَ سِتَّةٍ أَيْ مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَالنُّسُكُ هَاهُنَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ شَاةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) الْإِحْصَارَ وَذَهَبَ خَوْفُ الْعَدُوِّ. قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: وَمِثْلُهُ الْمَرَضُ أَوْ كُنْتُمْ فِي حَالِ أَمْنٍ وَسِعَةٍ (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أَيْ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ الْعُمْرَةِ ; أَيْ: أَدَائِهَا بِأَنْ أَتَمَّهَا وَتَحَلَّلَ وَبَقِيَ مُتَمَتِّعًا إِلَى زَمَنِ الْحَجِّ لِيَحُجَّ مِنْ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ لَهُ مِنَ الْهَدْيِ ; أَيْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ جَبْرٌ أَقَلُّهُ شَاةٌ، لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ الْمِيقَاتِ، يَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ جَوَازًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى فَمَنْ قَامَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الْهَدْيَ لِعَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ الْمَالِ (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ: فَعَلَيْهِ صِيَامُهَا فِي أَيَّامِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَتَمْتَدُّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَشْهرِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ وَهَذَا أَوْسَعُ (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) مِنَ الْحَجِّ إِلَى بِلَادِكُمْ، وَيَصْدُقُ بِالشُّرُوعِ فِي الرُّجُوعِ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ، قَالُوا: يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى وَطَنِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، فَيَجُوزُ الصَّوْمُ عِنْدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ)) وَلِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى وَقْتِهَا، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ يَصْدُقُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَصُومَهَا بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَلِأَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْقُرْبَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) إِشَارَةً إِلَى الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ، مُبَيِّنٌ لِجُمْلَةِ الْعَدَدِ الْوَاجِبِ كَمَا بَيَّنَ تَفْصِيلَهُ، وَمُزِيلٌ لِوَهْمِ مَنْ عَسَاهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لِلسَّبْعَةِ لِلتَّخْيِيرِ، كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ: جَالَسَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ عَدَدَ السَّبْعَةِ لِلْكَثْرَةِ فِي الْآحَادِ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ عَدَدَ السَّبْعِينَ لِغَايَةِ الْكَثْرَةِ، فَالْفَذْلَكَةُ تُزِيلُ وَهْمَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا ; وَلِذَلِكَ أَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ كَامِلَةً. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ حُكْمًا وَكَانَ فِي التَّعْبِيرِ الْمَأْلُوفِ عَنْهُ مَا يُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ - وَلَوْ لِبَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ - يَأْتِي بِمَا يُؤَكِّدُ الْحُكْمَ وَيَنْفِي أَدْنَى وَهْمٍ يَعْرِضُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ كِتَابَهُ بِالْمُبِينِ وَبِالتِّبْيَانِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ

فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُطْلَقَ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ شَيْءٍ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ، كَمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمُ النَّفْيَ فِي قَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) (2: 184) . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ مَضْمُومَةً إِلَى الْحَجِّ أَوْ إِلَى وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ خَاصٌّ بِالْآفَاقِيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْحَرَمِ فَقَالَ: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ هُمُ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى هَذَا التَّمَتُّعِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِالسَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ وَحْدَهُ ثُمَّ السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَلَا مُتْعَةَ وَلَا قِرَانَ عِنْدِهِمْ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْجَزَاءُ عَلَى التَّمَتُّعِ مِنَ الْهَدْيِ أَوْ بَدَلِهِ ; لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إِذَا تَمَتَّعَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَيَكُونُ حَجُّهُ نَاقِصًا يُجْبَرُ بِالْهَدْيِ أَوْ بَدَلِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ التَّعْبِيرَ بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ رُخْصَةٌ دُونَ ((عَلَى)) الْمُفِيدَةِ لِلْجَزَاءِ. وَحُضُورُ الْأَهْلِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَالَ (الْجَلَالُ) : وَالْأَهْلُ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْسِ، وَمَا قُلْنَاهُ فِي الْكِنَايَةِ أَظْهَرُ وَالْعِبَارَةُ تَشْمَلُ مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرُهُمْ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ، وَقَالَ طَاوُسٌ: هُمْ أَهْلُ الْحِلِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ مَنْ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَالشَّافِعِيُّ: هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ; أَيْ: مَسَافَةِ الْقَصْرِ عِنْدَهُ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالْإِعْلَامِ بِشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللهَ) بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى امْتِثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُكُمْ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) بِمَا جَعَلَ عَاقِبَةَ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ شَدِيدَةً عَلَى الْمُفَرِّطِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ عِلْمًا صَحِيحًا رُجِيَ لَكُمُ الِاسْتِمْسَاكُ بِحَبْلِ التَّقْوَى وَكُنْتُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّةِ عِلْمٍ بِسِرِّ وَعِيدِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْلِفُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَتَّقِ صَاحِبُهُ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَرَمِيَّ فِيهِ لَيْسَ كَالْآفَاقِيِّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ حَجًّا وَاعْتِمَارًا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ نَذْكُرُهَا هُنَا لِإِفَادَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْفِقْهَ، أَوْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ: التَّمَتُّعُ، وَالْإِفْرَادُ، وَالْقِرَانُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ; أَيُّ الضُّرُوبِ كَانَتْ، فَالتَّمَتُّعُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُتِمَّهَا وَيَتَحَلَّلَ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ التَّحَلُّلُ فَتَدْخُلُ فِي الْقِرَانِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْإِفْرَادُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ثُمَّ يَعْتَمِرَ بَعْدَ أَدَائِهِ، وَالْقِرَانُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ أَوِ الْعَكْسُ كَمَا تَقَدَّمَ.

197

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي حَجِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ تَمَتُّعًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إِفْرَادًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ قِرَانًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُحَدِّثُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِوُجُوهٍ، أَقْوَاهَا وَأَجْمَعُهَا أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَصَارَ قِرَانًا، فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِفْرَادِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْقِرَانِ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ تَمَتُّعًا فَتَصِحُّ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ حَجَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قِرَانًا، وَلِذَلِكَ فَضَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقِرَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مَنَ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ. وَحَكَى اسْتِنْكَارَهُمْ وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدًّا عَلَيْهِمْ: ((لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيُ لَأَحْلَلْتُ)) وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الْأَفْضَلَ التَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَا مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ الْقِيَمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: أَفْتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَفْتَاهُمْ بِفِعْلِهِ حَتْمًا وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةً لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَمَنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ)) وَالْمُرَادُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ: أَخْذُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنَ الْإِهْلَالِ: الْإِحْرَامُ، وَإِذَا كَانَ سَوْقُ الْهَدْيِ فِي هَذَا الزَّمَانِ شَاقًّا عَلَى حُجَّاجِ الْآفَاقِ وَكَثِيرَ النَّفَقَةِ إِلَّا عَلَى أَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ يُحْرِمُونَ بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، وَبَعْدَ أَدَاءِ أَرْكَانِهَا يَتَحَلَّلُونَ مِنْهَا بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ قَبْلَ عَرَفَةَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ إِلَى عَرَفَاتٍ. (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ ; أَيْ: إِنَّهُ يُؤَدَّى فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِ

يَوْمٍ مِنْهَا إِلَى آخِرِ يَوْمٍ ; بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِ مِنْ غُرَّةِ أَوَّلِهَا وَتَنْتَهِي أَرْكَانُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فِي أَثْنَاءِ آخِرِهَا، فَالْوُقُوفُ فِي التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَبَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ، الَّذِي فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (9: 3) وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ السَّلَفِ تَأْخِيرَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ وَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِأَحَدٍ عَلَى تَحْدِيدِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) إِقْرَارٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ الْعَمَلِيِّ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ النَّسِيءِ فِيهَا، لِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّهُ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَمَنْ يُصَلِّي قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَمَالُكٌ بِلَا كَرَاهَةٍ. وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ الْأَشْهُرِ وَكَوْنِهَا جَمْعَ قِلَّةٍ، وَهَلْ وَرَدَ فِي بَيَانِهَا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ؟ وَأَقُولُ: إِنَّهُ بَحْثٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) أَنَّهَا هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الْمَعْرُوفَةُ لِلْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهَا إِلَّا مَا قِيلَ فِي الثَّالِثِ مِنْهَا: هَلْ تَكُونُ أَيَّامُهُ كُلُّهَا أَيَّامَ حَجٍّ أَمْ تَنْتَهِي أَرْكَانُ الْحَجِّ فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ؟ فَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ سِرُّ جَعْلِهَا خَبَرًا عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ - وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ - يَكُونُ فِي التَّاسِعِ مِنَ الثَّالِثِ عُلِمَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَكَرَّرُ فِيهَا، فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا حَجَّ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أَيْ: أَوْجَبَهُ وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّفَثِ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ بِأَيِّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ خَاصَّةً، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسِّبَابِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ. وَالْجِدَالُ: قِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْجِلَادِ مِنَ الْجَدَلِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ، وَقِيلَ هُوَ الْمِرَاءُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَكْثُرُ عَادَةً بَيْنَ الرُّفْقَةِ وَالْخَدَمِ فِي السَّفَرِ ; لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ تُضَيِّقُ الْأَخْلَاقَ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ وَغَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فِي بَعْضِهَا لِلتَّحْرِيمِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ لَا يُفْسِدُ النُّسُكَ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ لِلْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الصَّرِيحِ فِي أُمُورِ الْوِقَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصِّيَامِ إِلَخْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِبًا وَبِحَسَبِ حَالِ

الْقَوْمِ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، فَأَمَّا الرَّفَثُ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: الْجِمَاعُ، وَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ الْخُرُوجُ عَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الْحِلِّ، كَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَالزِّينَةِ بِاللِّبَاسِ الْمَخِيطِ، وَالْجِدَالُ: هُوَ مَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَبَائِلِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّفَاخُرِ فِي الْمَوْسِمِ، فَبِهَذَا يَكُونُ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَإِلَّا حُمِلَتْ كُلُّهَا عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ، فَجُعِلَ الرَّفَثُ قَوْلَ الْفُحْشِ، وَالْفُسُوقُ التَّنَابُزَ بِالْأَلْقَابِ عَلَى حَدِّ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) (49: 11) وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ وَالْخِصَامُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَنَاهِي كُلُّهَا آدَابًا لِسَانِيَّةً. وَالنُّكْتَةُ فِي مَنْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (عَلَى أَنَّهَا آدَابٌ لِسَانِيَّةٌ) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْحَرَمِ وَتَغْلِيظُ أَمْرِ الْإِثْمِ فِيهِ ; إِذِ الْأَعْمَالُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلِلْمَلَأِ آدَابٌ غَيْرُ آدَابِ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَهْلِ، وَيُقَالُ فِي مَجْلِسِ الْإِخْوَانِ مَا لَا يُقَالُ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي أَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ الْآدَابِ وَأَفْضَلِ الْأَحْوَالِ، وَنَاهِيكَ بِالْحُضُورِ فِي الْبَيْتِ الَّذِي نَسَبَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ النِّسْبَةِ فِي تَفْسِيرِ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) (2: 125) الْآيَاتِ. وَأَمَّا السِّرُّ فِيهَا - عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ - فَهُوَ أَنْ يَتَمَثَّلَ الْحَاجُّ أَنَّهُ بِزِيَارَتِهِ لِبَيْتِ اللهِ تَعَالَى مُقْبِلٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى قَاصِدٌ لَهُ، فَيَتَجَرَّدُ عَنْ عَادَاتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَيَنْسَلِخُ مِنْ مَفَاخِرِهِ وَمُمَيِّزَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِحَيْثُ يُسَاوِي الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَيُمَاثِلُ الصُّعْلُوكُ الْأَمِيرَ، فَيَكُونُ النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي زِيٍّ كَزِيِّ الْأَمْوَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَصْفِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا وَإِشْعَارِهَا مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْأُخُوَّةِ لِلنَّاسِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ((مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) وَذَلِكَ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ وَالتَّقَلُّبَ فِي تِلْكَ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ يَمْحُو مِنَ النُّفُوسِ آثَارَ الذُّنُوبِ وَظُلْمَتَهَا وَيُدْخِلُهَا فِي حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ، لَهَا فِيهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ التَّصْرِيحُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِذِكْرِ الْحَجِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْمُرَادُ بِأَوَّلِهَا زَمَانُ الْحَجِّ كَقَوْلِهِمْ: الْبَرْدُ شَهْرَانِ، وَبِالثَّانِي الْحَجُّ نَفْسُهُ الْمُسَمَّى بِالنُّسُكِ، وَبِالثَّالِثِ مَا يَعُمُّ زَمَانَ أَدَائِهِ وَمَكَانَهُ وَهُوَ أَرْضُ الْحَرَمِ وَمَا يَتْبَعُهَا كَعَرَفَاتٍ، كَمَا تَعُمُّ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (22: 25) جَمِيعَ أَرْضِ الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ خِيَامَهُ خَارِجَ حُدُودِ الْحَرَمِ فَيَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ وَيُصَلِّي ثُمَّ يَجِيءُ خِيَامَهُ فَيُبَيِّتُ فِيهَا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُهِينَ أَحَدَ خَدَمِهِ فَيَكُونُ مُلْحِدًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَجَمِيعُ أَمْكِنَةِ الْحَرَمِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ وَمَشَاعِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ الَّتِي يَجِبُ احْتِرَامُهَا، وَأَهَمُّهَا اجْتِنَابُ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ فِيهَا، إِلَّا أَنَّ الرَّفَثَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ قَبِيحًا. وَلَوْ قَالَ: فَمَنْ فَرَضَهُ فِيهِنَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِيهِ، لَمْ يُؤَدِّ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلَّهَا. وَمِنَ الْقِرَاءَاتِ فِيهَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ ((رَفَثُ وَفُسُوقُ)) بِالرَّفْعِ ((وَجِدَالَ))

بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِجِنْسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا بِالنَّصِّ وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) وَفِيهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ وَيُشْعِرُ الْعَطْفُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنِ اتْرُكُوا هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَمْنُوعَةَ فِي الْحَجِّ لِتَخْلِيَةِ نُفُوسِكُمْ وَتَصْفِيَتِهَا، وَحَلُّوهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ لِتَتِمَّ لَكُمْ تَزْكِيَّتُهَا، فَإِنَّ النُّفُوسَ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ اسْتِعْدَادًا لِلِاتِّصَافِ بِالْخَيْرِ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ عَلَيْكُمْ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَبِأَنَّكُمْ وَافَقْتُمْ فِيهِ سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) قَالُوا: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَدْعِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ تَرْكِ التَّزَوُّدِ زَعْمًا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، ثُمَّ يَقْدُمُونَ فَيَسْأَلُونَ النَّاسَ فَنَزَلَتْ. فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى عَلَى هَذَا اتِّقَاءُ السُّؤَالِ وَبَذْلِ مَاءِ الْوَجْهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنَ الْعِبَارَةِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا أَنَّ الزَّادَ هُوَ زَادُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تُدَّخَرُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ التَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) وَالْمَعْنَى مِنَ التَّقْوَى مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا بِهِ يَتَّقِي سَخَطَ اللهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا الْبِرُّ وَالتَّنَزُّهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُعَلِّلُ بِأَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ زَادٍ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا، أَمَّا مَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ فَلَا يَصْلُحُ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا مَا أَوْرَدُوا مِنَ السَّبَبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ سَامِعِ اللَّفْظِ، وَالسَّبَبُ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ وَلَا مُشَارًا إِلَيْهِ فِيهَا فَلَا يَصْلُحُ قَرِينَةً عَلَى الْمُرَادِ مِنْ أَلْفَاظِهَا، نَعَمْ إِنَّ السَّبَبَ قَدْ يُنِيرُ السَّبِيلَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَفْهُومَةً بِنَفْسِهَا ; لِأَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ أَتَمَّهَا بِقَوْلِهِ: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يَعْنِي مَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ فَلْيَتَّقِنِي فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نُورٍ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْوَى وَأَهْلًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا. أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ كَالتَّزَوُّدِ وَتَحَامِي وَسَائِلِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ الْمَذْمُومِ وَاللهُ أَعْلَمُ. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

198

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ مِمَّا عَسَاهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّزَوُّدِ مِنَ التَّقْوَى وَعَمَلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَهُوَ خَيْرُ الزَّادِ، ثُمَّ مِنْ مُخَاطَبَةِ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى تَعْرِيضًا بِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِي لَا لُبَّ لَهُ وَلَا عَقْلَ، وَهُوَ أَنَّ أَيَّامَ الْحَجِّ لَا يُبَاحُ فِيهَا غَيْرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، فَيَحْرُمُ فِيهَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ فِي الْمَوْسِمِ، كَمَا يَحْرُمُ الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ التِّجَارَةِ غَالِبًا، وَالتَّرَفُّهُ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ الْمَخِيطِ وَالْحَلْقِ، وَالْإِفْضَاءُ إِلَى النِّسَاءِ، فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ مِنَ الْفَهْمِ وَعَلَّمَنَا أَنَّ الْكَسْبَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللهِ غَيْرُ مَحْظُورٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُنَافِي الْإِخْلَاصَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَى التِّجَارَةِ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَرُجِ الْكَسْبُ لَمْ يُسَافِرْ لِأَجْلِ الْحَجِّ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ. وَحَمَلَ أَبُو مُسْلِمٍ ذَلِكَ عَلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ وَمَنَعَ الْكَسْبَ فِي أَيَّامِهِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَنَفْيُ الْجُنَاحِ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَمَا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمِجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوْسِمِ ; فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ بِزِيَادَةٍ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ. وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَالَهُ تَفْسِيرًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَكْرِي - أَيِ الرَّوَاحِلَ لِلْحُجَّاجِ - فَهَلْ لَنَا مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ - وَذَكَرَهَا - فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ)) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ تُلَبُّونَ؟ أَلَسْتُمْ تَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ أَلَسْتُمْ أَلَسْتُمْ؟ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتَأَثَّمُونَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ حَتَّى كَانُوا يَقْفِلُونَ حَوَانِيتَهُمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْكَسْبَ طَلَبُ فَضْلٍ مِنَ اللهِ لَا جُنَاحَ فِيهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنْ رَبِّكُمْ) يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِسَائِلٍ: وَهَلْ كُنَّا نَعِيشُ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ؟ أَقُولُ: لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ رُخْصَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَهُ إِذَا أُرِيدَ بِأَيَّامِ الْحَجِّ الْأَيَّامَ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهَا الْمَنَاسِكُ بِالْفِعْلِ لَا كُلَّ أَيَّامِ شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ أَوْ عَشْرَهُ الْأُوَلَ، وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ عِبَادَةً لَا تُزَاحِمُهَا فِيهِ عِبَادَةٌ أُخْرَى كَالتَّلْبِيَةِ لِلْحُجَّاجِ وَالتَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ

وَالتَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ ذِكْرُ الْحَجِّ الْخَاصِّ الَّذِي يُكَرَّرُ فِي أَثْنَائِهِ إِلَى انْتِهَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ، وَلِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي التَّحْدِيدِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْكَسْبَ مُبَاحٌ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَأَنَّهُ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَمُلَاحَظَةِ أَنَّهُ فَضْلٌ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى يَكُونُ فِيهِ نَوْعَ عِبَادَةٍ، وَأَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ أَدَائِهَا أَفْضَلُ، وَالتَّنَزُّهَ عَنْ جَمِيعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ أَكْمَلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمَكَانِ: الدَّفْعُ مِنْهُ، مُسْتَعَارٌ مِنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ، وَأَصْلُهُ أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَيُقَالُ أَيْضًا: أَفَاضَ فِي الْكَلَامِ إِذَا انْطَلَقَ فِيهِ كَمَا يَفِيضُ الْمَاءُ وَيَتَدَفَّقُ، وَعَرَفَاتٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مَوْقِفُ الْحَاجِّ فِي النُّسُكِ يَجْتَمِعُ فِيهَا كُلَّ عَامٍ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الِاسْمُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعٌ وُضِعَ لِمُفْرَدٍ كَأَذْرُعَاتٍ وَهُوَ مُرْتَجَلٌ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا لِلتَّسْمِيَةِ أَحْسَنُهَا أَنَّهُ يَتَعَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ إِلَى رَبِّهِمْ بِالْعِبَادَةِ، أَوْ أَنَّهُ يُشْعِرُ بِتَعَارُفِ النَّاسِ فِيهِ، وَعَرَفَةُ اسْمٌ لِلْيَوْمِ يَقِفُ فِيهِ الْحُجَّاجُ بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى الْمَكَانِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلِعَرَفَاتٍ أَرْبَعَةُ حُدُودٍ: حَدٌّ إِلَى جَادَّةِ طَرِيقِ الْمَشْرِقِ، وَالثَّانِي إِلَى حَافَاتِ الْجَبَلِ الَّذِي وَرَاءَ أَرْضِهَا، وَالثَّالِثُ إِلَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي تَلِي قَرْنَيْهَا عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةِ، وَالرَّابِعُ وَادِي عُرَنَةَ - بِضَمٍّ فَفَتَحَ - وَلَيْسَتْ عَرِنَةُ وَلَا نَمِرَةَ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - مِنْ عَرَفَاتٍ. وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ: جَبَلُ الْمُزْدَلِفَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَيُسَمَّى قُزَحَ - بِضَمٍّ فَفَتْحٍ - وَسُمِّيَ مَشْعَرًا ; لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْعِبَادَةِ، وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لِحُرْمَتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَاتٍ إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ - بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ - وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَلَا مِنْ مِنًى بَلْ هُوَ مَسِيلُ مَاءٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ، وَقَدِ اسْتَوَتْ أَرْضُهُ الْآنَ أَوْ هُوَ مِنْ مِنًى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنَ الْحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَذْكُرَ اللهُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِيهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَقِيلَ بِصَلَاةِ الْعِشَاءَيْنِ جَمْعًا، وَلَيْسَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ بَلْ قَالُوهُ لِيَنْطَبِقَ عَلَى قَوْلِهِمُ: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الذِّكْرَ هُنَاكَ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْآيَةِ وَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْمَنَاسِكِ مَعَ قَوْلِهِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) أَوْ ((لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)) هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) فَكُلُّ مَا الْتَزَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِلَاتِهِ وَنُسُكِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ مُبَيِّنٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي

كِتَابِ اللهِ، وَأَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَمَا صَحَّتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: ((وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ)) وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا ((أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَا (أَيْ: نَاقَتُهُ الْمَجْدُوعَةُ وَهَذَا اسْمُهَا وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ وَيُمَدُّ) حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَلَّهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ)) الْحَدِيثَ - وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ هُوَ قُزَحٌ وَأَنَّ الذِّكْرَ غَيْرُ صَلَاةِ الْعِشَاءَيْنِ جَمْعًا، وَالْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ ((وَتُسَمَّى جَمْعًا)) مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَكُوهُ بَعْدَ الْمَبِيتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَبِيتَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا لَا يُخْشَى التَّهَاوُنُ فِيهِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُبَيِّنْ كُلَّ الْمَنَاسِكِ بَلِ الْمُهِمَّ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَاقِيَ بِالْعَمَلِ. ثُمَّ قَالَ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أَيْ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً حَسَنَةً إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ كَمَا كُنْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَذْكُرُونَهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ غَيْرِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ لَا يَفْرَغُ قَلْبُكُمْ لَهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ لَا لِلتَّعْلِيلِ كَمَا قِيلَ (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أَيْ: وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ زُمْرَةِ الضَّالِّينَ عَنِ الْحَقِّ فِي عَقَائِدِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الرَّاسِخِينَ فِي الضَّلَالِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ اللهِ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الْخَيَالِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَهُ إِلَهًا، وَتَجْعَلُونَ لَهُ وُسَطَاءَ شُرَكَاءَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُونَ عِنْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَيَالَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَلَا بَأْسَ بِجَعْلِ ضَمِيرِ (قَبْلِهِ) لِلْهُدَى كَمَا قَالَ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ لَسَبْقِ فِعْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) (97: 1) . (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) جَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ الْخِطَابَ هُنَا لِقُرَيْشٍ خَاصَّةً، إِذْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: ((أَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ - وَهُمُ الْحُمْسُ - كَانُوا يَقِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمُزْدَلِفَةَ تَرَفُّعًا عَنِ الْوُقُوفِ مَعَ الْعَرَبِ فِي عَرَفَاتٍ، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهَا ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا)) أَيْ إِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ: الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَاتٍ كَالْأُولَى قَالَ: وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ. وَأَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا ; لِأَنَّ الْأُسْلُوبَ يُنَافِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَاتِ كُلِّهَا عَامٌّ. قَالَ: وَهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا كَثِيرًا وَلَا يَذْكُرُونَ لَهُ نُكْتَةً تُزِيلُ التَّفَاوُتَ مِنَ النَّظْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ قَالَ هَذَا كَأَنَّ الْمَعْنَى هَكَذَا: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ مِنْ

199

أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِيهَا امْتِيَازُ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا قَبِيلٍ عَلَى قَبِيلٍ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ وَتَرْكَ التَّفَاخُرِ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ الْمُمَيِّزَةَ لَا وَجْهَ لَهَا، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُفِيضُوا مَعَ النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفَاضَةِ هُنَا الدَّفْعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَاتٍ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدُ الْوُقُوفِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَفِي الْإِفَاضَةِ مِنْهَا إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِمَا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَغْفُلُوا عَنْهُ فِيهَا عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مِنْهَا ذَكَرَ الْإِفَاضَةَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ) يُفِيدُ أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَمُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، فَفِيهِ تَأْكِيدُ إِبْطَالِ تِلْكَ الْعَادَةِ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِامْتِيَازِ فِي الْمَوْقِفِ تَرَفُّعًا عَنِ النَّاسِ إِذْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَتَسَاوُونَ فِي الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ أَيْضًا، فَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مَعَ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْإِفَاضَةِ فِيهَا الدَّفْعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَثَرِ وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمَا، وَقَوْلُهُ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) يُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْفَارُ مِمَّا أَحْدَثُوا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَنَاسِكِ وَإِدْخَالِ الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ فِيهَا، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِغْفَارٌ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَمِنْ عَامَّةِ الذُّنُوبِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُوَجَّهُ إِلَى مَنْ بَعْدَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ تَائِبًا مُنِيبًا. (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .

200

(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) كَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَجَامِعٌ فِي الْمَوْسِمِ يُفَاخِرُونَ فِيهَا بِآبَائِهِمْ وَيَذْكُرُونَ أَنْسَابَهُمْ وَفِعَالَهُمْ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ فِي الْمَوْسِمِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ وَيَحْمِلُ الْحَمَالَاتِ وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ غَيْرَ فِعَالِ آبَائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَذَكَرُوا آبَاءَهُمْ إِلَخْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ بِمِنًى بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْجَبَلِ يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَعَاكَظُونَ وَيَتَنَاشَدُونَ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَذْكُرُوا اللهَ تَعَالَى بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَهِيَ أَعْمَالُ الْحَجِّ كَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ أَشَدَّ مِنْ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقَدْ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ خَطَبَ النَّبِيُّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى تَرْكِ تِلْكَ الْمُفَاخَرَاتِ. رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَّا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى. أَبَلَّغْتُ؟)) قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ بَلِ اذْكُرُوهُ أَشَدَّ مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ وَفِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ مَا تَرَى حُسْنَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ تَعَسَّفَ فِي إِعْرَابِهِ الَّذِينَ حَكَّمُوا النَّحْوَ الَّذِي وَضَعُوهُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ إِذَا ظَفِرَ أَحَدُهُمْ بِبَيْتِ شِعْرٍ لِأَحَدِ أَجْلَافِ الْأَعْرَابِ يَطِيرُ فَرَحًا بِهِ وَيَجْعَلُهُ قَاعِدَةً، ثُمَّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ إِعْرَابُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَتَّخِذُهَا قَاعِدَةً، بَلْ يَتَكَلَّفُ فِي إِرْجَاعِهَا إِلَى كَلَامِ أُولَئِكَ الْأَجْلَافِ وَتَصْحِيحِهَا بِهِ كَأَنَّ كَلَامَهُمْ هُوَ الْأَصْلُ الثَّابِتُ، وَيُعْجِبُنِي أَيْضًا مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ إِيجَازًا وَاخْتِصَارًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا أَوْ كُونُوا أَشَدَّ ذِكْرًا، وَمِثْلُ هَذَا شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ هُنَا كَلِمَتَهُ الَّتِي يُكَرِّرُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَبْدَأَ إِصْلَاحٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ فَيَدْعُونَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) الْخَلَاقُ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ. ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ يَطْلُبُ حَظَّ الدُّنْيَا مُطْلَقًا وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ يَطْلُبُ حَسَنَةً فِيهَا ; لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلَّ هَمِّهِ لَا يُبَالِي أَكَانَتْ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ حَسَنَةً أَمْ سَيِّئَةً، فَهُوَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَيَسْلُكُ إِلَيْهَا كُلَّ طَرِيقٍ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَافِعٍ لِغَيْرِهِ وَلَا ضَارٍّ، فَبِاسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخِرَةِ وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الرِّضْوَانِ مَوْضِعٌ مِنْ نَفْسِهِ يَرْجُوهُ وَيَدْعُو اللهَ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخَافُ

201

مَا تَوَعَّدَ اللهُ بِهِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا فَيَلْجَأُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقِيَهُ شَرَّهُ، فَحِرْمَانُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنْ خَلَاقِ الْآخِرَةِ هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَتَفْضِيلِهِ حُظُوظَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ عَلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ ; لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْأُولَى كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَسْأَلُ رَبَّهُ إِلَّا الْمَزِيدَ مِنْ حُظُوظِهَا وَشَهَوَاتِهَا. وَقَدْ يَنَالُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِدُونِ هَمٍّ كَبِيرٍ فِي الْعَمَلِ لَهَا، وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ وَقَدِ اشْتُرِطَ لِسَعَادَتِهَا خَيْرَ الْعَمَلِ، فَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (17: 18، 19) الْآيَاتُ. وَبِاللهِ مَا أَبْلَغَ حَذْفَ مَفْعُولِ (آتِنَا) فِي هَذَا الْمَقَامِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الْإِيجَازِ الَّتِي تَحَارُ فِيهَا الْأَفْهَامُ، وَتَعْجَزُ عَنْهَا قَرَائِحُ الْأَنَامِ، فَإِنَّهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُعْنَى بِهِ أَفْرَادُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمُتَفَاوَتِي الْهِمَمِ الْمُخْتَلِفِي الْأَهْوَاءِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ، حُسْنِهَا وَقَبِيحِهَا، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، كَبِيرِهَا وَخَسِيسِهَا، وَمَا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ مِنْهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ فَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَمْ تَمَسَّ أَسْرَارُ الدِّينِ وَحِكَمُهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ تُشْرِقْ أَنْوَارُ هِدَايَتِهِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ فِي رُسُومِهِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ هَمُّهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَذَكَرُوا هُنَا مَا رُوِيَ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ رَأْيِهِمْ بِالسِّيَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْلِمِينَ كَمَا وُجِدَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَمَنْ بَلَا النَّاسَ وَفَلَّاهُمْ عَرَفَ ذَلِكَ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أَيْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، لَا حُظُوظَ الدُّنْيَا وَحْدَهَا كَيْفَمَا كَانَتْ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْحَسَنَةِ هَلْ هِيَ الْعَافِيَةُ أَوِ الْكَفَافُ أَوِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ أَوِ الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ أَوِ الْمَالُ الصَّالِحُ أَوِ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ، وَرُوِيَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَلَعَلَّ كُلَّ ذِي قَوْلٍ يُطْلِقُهَا عَلَى الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (حَسَنَةً) وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ حَيَاةً حَسَنَةً، وَانْظُرْ بِمَ تَكُونُ حَيَاةُ الْمَرْءِ حَسَنَةً فَيَكُونُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ دَعَا اللهَ تَعَالَى دُعَاءً إِجْمَالِيًّا فَلْيَدْعُهُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِيهِمَا يَكُنْ مُهْتَدِيًا بِالْآيَةِ. وَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ فَدَعَاهُ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَسَنَةٌ فَهُوَ مُهْتَدٍ بِهَا، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حَسَنَةِ الْآخِرَةِ أَيْضًا فَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَذَابِ النَّارِ، وَرَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ الْمَرْأَةُ السُّوءُ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (2: 186) أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ

وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَاسْتِمْدَادِ الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْهُ، لِلْهِدَايَةِ إِلَى مَا يَعْجَزُ الْعَبْدُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) بِقَوْلِهِ: أَيِ احْفَظْنَا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالذُّنُوبِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا، فَطَلَبُ الْحَيَاةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ بِالْأَخْذِ بِأَسْبَابِهَا الْمُجَرَّبَةِ فِي الْكَسْبِ وَالنِّظَامِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَةِ النَّاسِ بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ وَالْعُرْفِ، وَقَصْدِ الْخَيْرِ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَتَوَقِّي الشُّرُورِ كُلِّهَا، وَطَلَبُ الْحَيَاةِ الْحَسَنَةِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَطَلَبُ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ يَكُونُ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، مَعَ الْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ الْمُحَتَّمَةِ. هَذَا هُوَ الطَّلَبُ بِلِسَانِ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا الطَّلَبُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ فَهُوَ يَصْدُقُ بِمَا يُذَكِّرُ الْقَلْبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ مِنَ اللهِ، فَالسَّعْيُ لَهَا مَعَ الْإِيمَانِ هُوَ عَيْنُ الطَّلَبِ مِنْ فَيْضِهِ وَإِحْسَانِهِ، مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُعْطِيَ بِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، لَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَحَلَّهَا وَحِكْمَتَهَا غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إِلَى سِوَاهُ فِي الْهِدَايَةِ إِلَى مَا خَفِيَ وَالْمَعُونَةِ عَلَى مَا عَسُرَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّقْسِيمِ مَنْ لَا يَطْلُبُ إِلَّا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ دَاعِي الْجِبِلَّةِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَهَدْيِ الدِّينِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ مَنْ لَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا يَكُنْ غَالِبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ بِالْجُوعِ وَالْبَرْدِ وَالتَّعَبِ يَحْمِلُهُ كَرْهَا عَلَى الْتِمَاسِ تَخْفِيفِ أَلَمِ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ، وَالشَّرْعُ يُكَلِّفُهُ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ حُقُوقًا لِبَدَنِهِ وَلِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلِرَحِمِهِ وَلِزَائِرِيهِ وَإِخْوَانِهِ وَأُمَّتِهِ لَا تَصِحُّ عُبُودِيَّتُهُ إِلَّا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا الْغُلُوَّ مَذْمُومٌ خَارِجٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَصِرَاطِ الدِّينِ مَعًا، وَمَا نَهَى اللهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَذَمَّهُمْ عَلَى التَّشَدُّدِ فِيهِ إِلَّا عِبْرَةً لَنَا، وَقَدْ نَهَانَا عَنْهُ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ فَقَالَ لَهُ: ((هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللهَ بِشَيْءٍ؟)) قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سُبْحَانَ اللهِ إِذًا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ فَهَلَّا قُلْتَ: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) وَدَعَا لَهُ فَشَفَاهُ اللهُ تَعَالَى. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا فِي الْغُلُوِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ سَمِعَ قَارِئًا يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (3: 152) فَصَاحَ أَوَاهُ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللهَ؟ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنُ الظَّاهِرِ قَبِيحُ الْبَاطِنِ، فَالْآيَةُ خِطَابٌ لِخِيَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَشَيْخُهُ مِنِ الصُّوفِيَّةِ لَمْ يَبْلُغُوا مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، فَإِرَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْحَقِّ إِرَادَةٌ لِمَرْضَاةِ اللهِ وَعَمَلٌ بِسُنَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا فِيهَا الْغَنِيمَةُ فِي الْحَرْبِ، وَبِالْآخِرَةِ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَلْ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ

202

أَنَّ مَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَآثَرُوا الشَّهَادَةَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْغَنِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللهَ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ الصُّوفِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْغُلَاةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا مِنْهُ لِلَّهِ وَطَلَبًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ (أَقُولُ) : كَلَّا إِنَّمَا هِيَ فَلْسَفَةٌ خَيَالِيَّةٌ مِنْ خَيَالَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْبُرْهُمِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ قَدْ شُغِلَ بِهَا أَفْرَادٌ عَنْ فِطْرَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ مَعًا فَجَعَلُوهَا أَعْلَى مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَأَوَّلُوا لَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (18: 28) وَمَا إِرَادَةُ وَجْهِهِ تَعَالَى إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَحَرِّي هِدَايَةِ دِينِهِ فِيهِ، لَا مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ أَنَّ إِرَادَةَ وَجْهِهِ تَعَالَى هُوَ الْوُصُولُ إِلَى ذَاتِهِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ بِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَدْنُو مِنْ كُنْهِهَا الْأَفْكَارُ وَلَا الْأَوْهَامُ، مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، بَلْ إِدْرَاكُ كُنْهِ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُ تَعَالَى فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا أَعْلَى مَرَاتِبَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا هِيَ مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَدُعَاؤُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَهُ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَبِهَذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِيَارَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ رَبَّهُ عِبَادَةً خَاصَّةً، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ مَنْ يَعْرِفُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُبِّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَتِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ بِتَجَلِّيهِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَيَانًا لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَظِّ هَؤُلَاءِ: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) الْإِشَارَةُ بِـ (أُولَئِكَ) إِلَى الَّذِينَ يَطْلُبُونَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَالْحَسَنَةَ فِي الْمَنْزِلَتَيْنِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرِيقِ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَحْدَهَا قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) (2: 200) فَإِنَّ الْعَطْفَ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْفَرِيقُ لَهُ حَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَظٍّ سِوَاهُ، وَمَجْمُوعُ الْكَلَامِ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (42: 20) وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ صَرِيحًا أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَا دَعَوُا اللهَ تَعَالَى فِيهِ بِكَسْبِهِمْ، وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بَعْدَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَالسَّعْيِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى ; وَلِهَذَا قَالَ: (مِمَّا كَسَبُوا) وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ مَا طَلَبُوا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِأَسْبَابِهَا وَيَسْعَوْنَ لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا، كَانَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ كَسْبِهِمْ هَذَا فِي الدَّارَيْنِ عَلَى قَدْرِهِ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يُوَفِّي كُلَّ كَاسِبٍ أَجْرَهُ عَقِبَ عَمَلِهِ بِحَسَبِهِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ مَضَتْ بِأَنْ تَكُونَ الرَّغَائِبُ آثَارَ الْأَعْمَالِ،

فَهُوَ يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ بِلَا إِبْطَاءٍ، وَكَمَا يَكُونُ الْجَزَاءُ سَرِيعًا فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَثَرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَظْهَرُ لِلْمَرْءِ عَقِبَ الْمَوْتِ وَهُوَ أَوَّلُ قَدَمٍ يَضَعُهَا فِي بَابِ عَالَمِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا أَحْسَنُ بَيَانٍ لِمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ (سَرِيعُ الْحِسَابِ) مِنْ أَنَّهُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حِسَابُ الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ أَقْرَبُهَا إِلَى التَّصَوُّرِ أَنَّ سُرْعَةَ الْحِسَابِ عِبَارَةٌ عَنْ إِطْلَاعِ كُلِّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ أَوْ إِعْلَامِهِ بِمَا لَهُ مِمَّا كَسَبَ، وَمَا عَلَيْهِ مِمَّا اكْتَسَبَ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي لَحْظَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَوَرَدَ: فِي قَدْرِ فَوَاقِ النَّاقَةِ، وَوَرَدَ: بِمِقْدَارِ لَمْحَةِ الْبَصَرِ. أَقُولُ: هَذَا مَا كُنْتُ كَتَبْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ شَيْخُنَا (رَحِمَهُ اللهُ) مِنْ كَوْنِ النَّصِيبِ فِيهَا شَامِلًا لِجَزَاءِ هَذَا الْفَرِيقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَطُبِعَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ فَكَّرْتُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ (مِمَّا كَسَبُوا) وَالْحَالُ أَنَّ جَزَاءَ الْآخِرَةِ يُضَاعَفُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا هِيَ الَّتِي لَا يَنَالُ النَّاسُ فِيهَا كُلَّ مَا يَطْلُبُونَ بِكَسْبِهِمْ وَلَا دُعَائِهِمْ وِفَاقًا لِاسْتِشْهَادِي عَلَيْهِ آنِفًا بِآيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (17: 18) فَرَجَحَ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالنَّصِيبِ مِنَ الْكَسْبِ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَأَشَارَ إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ الَّذِي يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ مَا حَكَيْتُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَكَانُوا لَا يَذْكُرُونَهُ هُنَاكَ، وَبِذِكْرِهِ عِنْدَ تَمَامِ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى حَيْثُ كَانُوا يَذْكُرُونَ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ: (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) حَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ مِنًى، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَادِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى ثَالِثَ عَشَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: ((إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ - أَيْ مُزْدَلِفَةَ - قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)) وَأَرْدَفَ رَجُلًا يُنَادِي بِهِنَّ: أَيْ أَرْكَبَ رَجُلًا وَرَاءَهُ يُنَادِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ الْحُكْمَ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ وَلَوْ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَنْفِرُ بِهَا الْحَاجُّ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِلْمَبِيتِ فِيهَا وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَأَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الَّتِي يَرْمُونَ فِيهَا الْجِمَارَ وَيَنْحَرُونَ فِيهَا هَدْيَهُمْ وَضَحَايَاهُمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ مِنْهَا جَازَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِثِ جَازَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْعِبَادَةِ. فَالْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِلْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَمْيِ الْجِمَارِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا

203

يَعْرِفُونَهَا وَيَعْمَلُونَ بِهَا، وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ الْمُهِمِّ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَهُوَ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ يَذْكُرُ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعَ فِيهَا، وَذِكْرَ اللهِ تَعَالَى وَدُعَاءَهُ، وَتَأْثِيرَ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَلَا يَذْكُرُ صِفَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَوْنِ الرُّكُوعِ يُفْعَلُ مَرَّةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالسُّجُودِ يُفْعَلُ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْعَمَلِ. وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ التَّكْبِيرُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينَ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمْعٍ (مُزْدَلِفَةَ) إِلَى مِنًى فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ((أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ)) وَوَرَدَ فِي التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ ((أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ وَفِي مَجْلِسِهِ وَفِي مَمْشَاهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَمِيعًا)) . وَأَمَّا الذِّكْرُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَهُوَ التَّكْبِيرُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَهُوَ أَعَمُّ، فَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ أَنَسًا وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ)) وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ ((أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ يَدَيْهِ يَوْمَ عَرَفَةَ يَدْعُو)) وَفِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةِ السَّنَدِ ((أَنَّ أَكْثَرَ دُعَائِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمَلِكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) وَقَدْ ذَكَرْنَا ذِكْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ التَّلْبِيَةَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِلْحَاجِّ وَيَلِيهَا التَّكْبِيرُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَفْظُ التَّلْبِيَةِ الْمَأْثُورُ ((لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)) هَذَا هُوَ الْمَرْفُوعُ وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ مَا شَاءَ، وَالتَّكْبِيرُ الْمَرْفُوعُ صَحِيحًا: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَيَزِيدُونَ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي التَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ مَشْرُوطًا بِالتَّقْوَى فَقَالَ: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) أَيْ: مَنِ اسْتَعْجَلَ فِي تَأْدِيَةِ الذِّكْرِ عِنْدَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ، وَهِيَ رَمْيُ الْجَمَرَاتِ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَتَمَّهَا كَذَلِكَ، إِذَا اتَّقَى كُلٌّ مِنْهُمَا اللهَ تَعَالَى وَوَقَفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، فَإِنَّ تَحْصِيلَ مَلَكَةِ التَّقْوَى هِيَ الْغَرَضُ مِنَ الْحَجِّ وَمِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَالْوَسِيلَةُ الْكُبْرَى إِلَيْهَا كَثِيرَةٌ

ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ مَعَ اللِّسَانِ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَيَكُونَ عَبْدًا لَهُ لَا لِلْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُذَكِّرَاتٌ لِلنَّاسِي. وَالْجِمَارُ ثَلَاثٌ، وَهِيَ كَالْجَمَرَاتِ جَمْعُ جَمْرَةٍ، وَمَعْنَاهَا هُنَا مُجْتَمَعُ الْحَصَى، مِنْ جَمَرَهُ بِمَعْنَى جَمَعَهُ، وَرَمْيُهَا مِنْ ذِكْرَيَاتِ النُّسُكِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَبْحِ الْقَرَابِينَ هُنَالِكَ، وَعَامَّةُ أَعْمَالِ الْحَجِّ ذِكْرَيَاتٌ لِنَشْأَةِ الْإِسْلَامِ الْأُولَى فِي عَهْدِ الْخَلِيلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ جَمْرَةٍ تُرْمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ صَغِيرَةٍ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، وَتَمْتَازُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ مِنْهَا بِأَنَّهَا تُرْمَى قَبْلَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ أَيْضًا. ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَكَانَتِهَا فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أَيِ: اتَّقُوهُ فِي حَالِ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ يَقِينٍ بِأَنَّكُمْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُرِيكُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) (19: 63) فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ فَيَبْعَثُهَا عَلَى الْعَمَلِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ تَارَةً وَيَتْرُكُ أُخْرَى لَتَنَازُعِ الشُّكُوكِ قَلْبَهُ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ تَكْرَارَ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ وَبَيَانِ مَكَانَةِ التَّقْوَى، ثُمَّ الْأَمْرُ بِهَا تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْإِيجَازِ مَا هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِعْجَازِ، حَتَّى سَكَتَ عَنْ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ الْوَاجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِهَا - كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُهِمَّ فِي الْعِبَادَةِ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يُصْلِحُ النُّفُوسَ وَيُنِيرُ الْأَرْوَاحَ، حَتَّى تَتَوَجَّهَ إِلَى الْخَيْرِ وَتَتَّقِيَ الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا مِنَ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ يَرْتَقِي فِي فَوَائِدِ الذِّكْرِ وَثَمَرَاتِهِ فَيَكُونُ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)

204

أَرْشَدَتْنَا آيَاتُ الْمَنَاسِكِ السَّابِقَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ الْعِبَادَاتِ هُوَ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ، وَإِنَارَةُ الْأَرْوَاحِ بِنُورِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَاسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِلَى أَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا مِنَ الْوُجُوهِ الْحَسَنَةِ لَا يُنَافِي التَّقْوَى بَلْ يُعِينُ عَلَيْهَا بَلْ هُوَ مِمَّا يَهْدِي إِلَيْهِ الدِّينُ خِلَافًا لِأَهْلِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ تَعْذِيبَ الْأَجْسَادِ وَحِرْمَانَهَا مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَإِلَى أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَجْعَلُ لَذَّاتِهَا أَكْبَرَ هَمِّهِ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ; لِأَنَّهُ مُخَلَّدٌ إِلَى حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ لَمْ تَسْتَنِرْ رُوحُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَرْتَقِ عَقْلُهُ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلُّ التَّقْوَى وَمَنْزِلُهَا الْقُلُوبُ دُونَ الْأَلْسِنَةِ، وَكَانَ الشَّاهِدُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ الْأَعْمَالُ دُونَ مُجَرَّدِ الْأَقْوَالِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ النَّاسَ فِي دَلَالَةِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى حَقَائِقِ أَحْوَالِهِمْ وَمَكْنُونَاتِ قُلُوبِهِمْ قِسْمَانِ، فَكَانَتْ هَذِهِ مُتَّصِلَةً بِتِلْكَ فِي بَيَانِ مَقْصِدِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَهُوَ إِصْلَاحُ الْقُلُوبِ، وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَهَا عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يُقَالُ أَعْجَبَهُ الشَّيْءُ إِذَا رَاقَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ وَرَآهُ عَجَبًا ; أَيْ: طَرِيفًا غَيْرَ مُبْتَذَلٍ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ، وَفِي قَوْلِهِ: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنَ النَّاسِ فَرِيقًا يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ; لِأَنَّكَ تَأْخُذُ بِالظَّوَاهِرِ وَهُوَ مُنَافِقُ اللِّسَانِ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، وَيَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، فَهُوَ يَعْتَمِدُ عَلَى خَلَابَةِ لِسَانِهِ، فِي غِشِّ مُعَاشِرِيهِ وَأَقْرَانِهِ، يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ، نَصِيرٌ لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، خَاذِلٌ لِلْبَاطِلِ وَالرَّذِيلَةِ، مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، مُجْتَنِبٌ لِلْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، لَا يُرِيدُ لِلنَّاسِ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَسْعَى إِلَّا فِي سَبِيلِ النَّفْعِ (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أَيْ: يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ مُوَافِقٌ لِمَا يَقُولُ وَيَدَّعِي. وَفِي مَعْنَى الْحَلِفِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانَ: اللهُ يَعْلَمُ أَوْ يَشْهَدُ بِأَنَّنِي أُحِبُّ كَذَا وَأُرِيدُ كَذَا. قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (36: 16) وَهُوَ تَأْكِيدٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَلَيْسَ اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ قَلْبِي ... يُحِبُّكَ أَيُّهَا الْبَرْقُ الْيَمَانِي وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا آكَدُ مِنَ الْيَمِينِ، وَعَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ قَالَهُ كَاذِبًا يَكُونُ مُرْتَدًّا ; لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَأَقُولُ: إِنَّ أَقَلَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ صَاحِبُهُ نِسْبَةَ الْجَهْلِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (2: 9) فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُبَالِغُ فِي الْخَلَابَةِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى النَّاسِ بِالْقَوْلِ (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) أَيْ: وَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَشَدُّ النَّاسِ مُخَاصَمَةً وَعَدَاوَةً لِمَنْ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ، أَوْ هُوَ أَشَدُّ خُصَمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْخِصَامَ جَمْعُ خَصْمٍ كَكِعَابٍ جَمْعُ كَعْبٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَاللَّدَدُ شِدَّةُ الْخُصُومَةِ وَلَدِدَ (كَتَعِبَ) الرَّجُلُ لَازِمٌ، وَلَدَدَ خَصْمَهُ (كَنَصَرَ) شَدَّدَ خُصُومَتَهُ، وَلَادَّهُ لِلْمُشَارَكَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ قَالَهُ

بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْخِصَامَ بِمَعْنَى الْجِدَالِ ; أَيْ: وَهُوَ قَوِيُّ الْعَارِضَةِ فِي الْجَدَلِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَخْتَلِبَ النَّاسَ وَيَغُشَّهُمْ بِمَا يُظْهِرُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ فِي شُئُونِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: فَالْأَوْصَافُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةٌ: حُسْنُ الْقَوْلِ بِحَيْثُ يُعْجِبُ السَّامِعَ، وَإِشْهَادُ اللهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ الَّذِي يَقْبَلُهُ خَالِيَ الذِّهْنِ، وَقُوَّةُ الْعَارِضَةِ فِي الْجَدَلِ الَّتِي يُحَاجُّ بِهَا الْمُنْكَرُ أَوِ الْمُعَارِضُ، وَأَمَّا بَيَانُ سُوءِ حَالِهِ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِ، فَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ وَقَدْ مَهَّدَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وَالتَّمْهِيدُ فِي بِدَايَةِ الْكَلَامِ لِلْمُرَادِ مِنْهُ فِي غَايَتِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ وَأَفْنَانِهَا. هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ النَّاسِ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَتَخْتَلِفُ الْخَلَابَةُ اللِّسَانِيَّةُ فِي الْأُمَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، فَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَغُشَّ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ إِلَّا الْفَرْدَ أَوِ الْأَفْرَادَ الْمَعْدُودِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَغُشَّ الْأُمَّةَ فِي مَجْمُوعِهَا حَتَّى يُنَكِّلَ بِهَا تَنْكِيلًا وَإِنَّ الْجَرَائِدَ فِي عَصْرِنَا هَذَا قَدْ تَكُونُ طَرِيقًا لِلْغِشِّ الْعَامِّ، كَمَا تَكُونُ طَرِيقًا لِلنُّصْحِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَلْبِيسُهَا سَهْلًا عَلَى مَنْ يُعْجِبُ الْعَامَّةَ قَوْلُهُمْ فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا الْجَهْلُ لَا سِيَّمَا فِي طَوْرِ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; إِذْ تَخْتَلِفُ ضُرُوبُ الدَّعْوَةِ وَطُرُقُ الْإِرْشَادِ. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ الظَّرْفَ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ ; أَيْ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِهَا، وَطُرُقِ جَمْعِ الْمَالِ وَإِحْرَازِ الْجَاهِ فِيهَا ; لِأَنَّ حُبَّهَا قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَالْمَيْلَ إِلَى لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قَلْبِهِ، وَصَارَ هُوَ الْمُصَرِّفُ لِشُعُورِهِ وَلُبِّهِ، فَيَنْطَلِقُ لِسَانُهُ - وَمِثْلُهُ قَلَمُهُ - فِي كُلِّ مَا يَسْتَهْوِي أَصْحَابَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَيَسْتَمِيلُ أَهْلَ السِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الدِّينِ جَاءَ بِالْخَطَلِ وَالْحَشْوِ، وَوَقَعَ فِي الْعَسْلَطَةِ وَاللَّغْوِ، فَلَا يَحْسُنُ وَقْعُ قَوْلِهِ فِي السَّمْعِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ أَنَّ رُوحَ الْمُتَكَلِّمِ تَتَجَلَّى فِي قَوْلِهِ، وَضَمِيرِهِ الْمَكْنُونِ يَظْهَرُ فِي لَحْنِهِ (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (47: 30) .

وَفِي الْحِكَمِ: (كُلُّ كَلَامٍ يُبْرِزُ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ مِنَ الْقَلْبِ الَّذِي عَنْهُ صَدَرَ) وَلِهَذَا كَانَ إِرْشَادُ الْمُخْلِصِينَ نَافِعًا، وَخِدَاعُ الْمُنَافِقِينَ صَادِعًا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي التَّفْسِيرِ تَكُونُ جُمْلَةُ (وَيُشْهِدُ اللهَ) وَصْفًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ حَالٍ مِمَّا قَبْلَهُ ; أَيْ: أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ إِلَّا الْكَلَامَ فِي الدُّنْيَا لِيُعْجِبَ السَّامِعَ وَيَخْدَعَهُ، وَلَكِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ قَلْبَهُ مَعَ اللهِ، وَأَنَّهُ حَسَنُ السَّرِيرَةِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى هَذَا فِي سِيرَةِ الْمُجْرِمِينَ ظَاهِرًا جَلِيًّا كَمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى: يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ، وَيَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ، وَيَشْرَبُونَ الْخُمُورَ، وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى الْفُجُورِ، وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدِّينِ عَلَى أَهْلِ النَّزَاهَةِ وَالتَّقْوَى، زَاعِمِينَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ قَدْ عَمَرَتْ ظَوَاهِرُهُمْ بِالْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ، وَلَكِنَّ بَوَاطِنَهُمْ خَرِبَةٌ بِسُوءِ الِاعْتِقَادِ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ إِنَّنَا نَحْنُ نَأْكُلُ الرِّبَا أَوِ الْقِمَارَ وَلَكُنَّا نُحَرِّمُهُ، وَنَأْتِي فِي نَادِينَا وَخَلْوَتِنَا الْمُنْكَرَ وَلَكِنَّا لَا نَسْتَحْسِنُهُ، وَأَنَّ مَا نَبْتَزُّهُ مِنْ جُيُوبِ الْأَغْنِيَاءِ بِخَلَابَتِنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَرْفِيهَ مَعِيشَتِنَا، وَإِنَّمَا هُوَ أَجْرٌ عَلَى السَّعْيِ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهِمْ، وَمُكَافَأَةً عَلَى خِدْمَةِ أَوْطَانِهِمْ. فَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى أَلَدُّ الْخُصَمَاءِ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَدَلَّتْ هِدَايَتُهُ فِي كِتَابِهِ، عَلَى أَنَّ سَلَامَةَ الِاعْتِقَادِ وَإِخْلَاصَ السَّرِيرَةِ هُمَا يَنْبُوعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَقْوَالِ النَّافِعَةِ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (7: 58) . وَانْظُرْ مَا قَالَهُ عَزَّ شَأْنُهُ، فِي وَصْفِ فَرِيقِ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْعَرِيضَةِ، وَالْقُلُوبِ الْمَرِيضَةِ، قَالَ: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا) . فِي تَفْسِيرِ التَّوَلِّي هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ الدَّعْوَى الْقَوْلِيَّةِ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ مُخَاطِبِهِ وَذَهَبَ إِلَى شَأْنِهِ فَإِنَّ سَعْيَهُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ مَا قَالَ، يَدَّعِي الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ وَحُبَّ الْخَيْرِ، ثُمَّ هُوَ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ; ذَلِكَ أَنَّهُ لَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ، فَهُوَ يُعَادِي لِأَجْلِهَا أَهْلَ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ وَيُؤْذِيهِمْ ; لِأَنَّهُ أَلَدُّ خَصْمٍ لَهُمْ لِلتَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ فِي الْغَرَائِزِ وَالسَّجَايَا، وَيُعَادِي أَيْضًا الْمُزَاحِمِينَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَمْثَالِهِ الْمُفْسِدِينَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ وَرَاءَ التَّمَتُّعِ وَأَسْبَابِهِ إِلَّا الْكَيْدَ لِلنَّاسِ وَمُحَاوَلَةَ الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَهُوَ يُفْسِدُ بِاعْتِدَائِهِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) بِمَا يَكُونُ مِنْ أَثَرِ إِفْسَادِهِ فِي اعْتِدَائِهِ، وَهُوَ ذَهَابُ ثَمَرَاتِ الْحَرْثِ: وَهُوَ الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ: وَهُوَ مَا تَنَاسَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَكَاسِبِ أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ كُبْرَى لِلَّذِينَ يَقْطَعُونَ الزَّرْعَ وَيَقْتُلُونَ الْبَهَائِمَ بِالسُّمِّ وَغَيْرِهِ انْتِقَامًا مِمَّنْ يَكْرَهُونَهُمْ، وَهِيَ جَرَائِمُ فَاشِيَةٌ فِي أَرْيَافِ مِصْرَ لِهَذَا الْعَهْدِ، فَأَيْنَ الْإِسْلَامُ وَأَيْنَ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ؟ وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرْثِ هَهُنَا: النِّسَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (2: 223) وَبِالنَّسْلِ: الْأَوْلَادُ، وَهَلِ الْمُرَادُ نِسَاءُ النَّاسِ وَأَوْلَادُهُمْ، أَمْ نِسَاءُ الْمُفْسِدِينَ وَأَوْلَادُهُمْ خَاصَّةً؟ لَعَلَّ الْأَمْرَ أَعَمُّ ; فَإِنَّ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ يَطْمَحُونَ بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى نِسَاءِ النَّاسِ أَوْ يَسْعَوْنَ فِي إِفْسَادِ

205

نِظَامِ الْبُيُوتِ بِمَا يُلْقُونَ مِنَ الْفِتَنِ وَيَعْمَلُونَ مِنِ التَّفْرِيقِ لَا تَكَادُ تَسْلَمُ بُيُوتُهُمْ مِنَ الْخَرَابِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ بَاطِنًا فَقَطْ، فَالْمُفْسِدُ الشِّرِّيرُ يُؤْذِي نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ قَدْ يُعْمِيهِ الْغُرُورُ عَنْهَا أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مِنْ سَعْيِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ إِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيذَاءِ الشَّدِيدِ وَقَدْ صَارَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْذِي مُسْتَرْسِلًا فِي إِفْسَادِهِ وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُفْسِدِينَ يُؤْذُونَ إِرْضَاءً لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَوْ خَرِبَ الْمُلْكُ بِإِرْضَائِهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ (تَوَلَّى) صَارَ وَالِيًا لَهُ حُكْمٌ يَنْفَذُ وَعَمَلٌ يَسْتَبِدُّ بِهِ، وَإِفْسَادُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالظُّلْمِ مُخَرِّبِ الْعُمْرَانِ وَآفَةِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَإِهْلَاكُهُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ يَكُونُ إِمَّا بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْمُصَادَرَةِ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِمَّا بِقَطْعِ آمَالِ الْعَامِلِينَ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَفَوَائِدِ مَكَاسِبِهِمْ. وَمَنِ انْقَطَعَ أَمَلُهُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، إِلَّا الضَّرُورِيُّ الَّذِي بِهِ حِفْظُ الدِّمَاءِ، وَلَا حَرْثَ وَلَا نَسْلَ إِلَّا بِالْعَمَلِ. وَقَدْ شَرَحَتْ لَنَا حَوَادِثُ الزَّمَانِ وَسِيَرُ الظَّالِمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَرَأْنَا وَشَاهَدْنَا أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الظُّلْمُ تَهْلَكُ زِرَاعَتُهَا، وَتَتْبَعُهَا مَاشِيَتُهَا، وَتَقِلُّ ذُرِّيَّتُهَا، وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ الصُورِيَّانِ، وَيَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَفْسَدُ الْأَخْلَاقُ، وَتَسُوءُ الْأَعْمَالُ حَتَّى لَا يَثِقَ الْأَخُ بِأَخِيهِ، وَلَا يَثِقَ الِابْنُ بِأَبِيهِ فَيَكُونُ بَأْسُ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا شَدِيدًا وَلَكِنَّهَا تَذِلُّ وَتَخْنَعُ لِلْمُسْتَعْبِدِينَ لَهَا. وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ الْمَعْنَوِيَّانِ، وَفِي التَّارِيخِ الْغَابِرِ وَالْحَاضِرِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، مَا فِيهِ ذِكْرَى وَمُزْدَجَرٌ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُفْسِدُ يُشْهِدُ اللهَ عَلَى هِدَايَةِ قَلْبِهِ، عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ عَمَلِهِ فِي الْإِفْسَادِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) أَيْ: إِنَّ إِفْسَادَ هَذَا الْمُنَافِقِ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُودِ، وَالظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، فَإِفْسَادُهُ فِي عَمَلِهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَلْبِهِ وَكَذِبِهِ فِي إِشْهَادِ اللهِ عَلَيْهِ (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (5: 64) لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةَ الْمَحْمُودَةَ، لَا تَكُونُ مَحْمُودَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا أَصْلَحَ صَاحِبُهَا عَمَلَهُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ تُرْشِدُنَا إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ مَجَالِسِ الْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ سَعْيٍ وَعَمَلٍ، وَالْعَمَلُ إِمَّا خَيْرٌ وَإِصْلَاحٌ، وَإِمَّا شَرٌّ وَإِفْسَادٌ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ.

206

وَلَمَّا كَانَ الْإِفْسَادُ يَصْدُرُ تَارَةً عَنِ الْجَهْلِ وَسُوءِ الْفَهْمِ، وَأَحْيَانًا عَنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَكَانَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ سَرِيعَ التَّوْبَةِ، مُبَادِرًا إِلَى قَبُولِ النَّصِيحَةِ، وَكَانَ شَأْنُ الْآخَرِ الْإِصْرَارَ عَلَى ذَنْبِهِ، كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ الْمُفْسِدِ مَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُخْطِئِ، فَقَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أَيْ: أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْغَضَبُ، وَيَعْظُمُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَتَأْخُذُهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْأَنَفَةُ، وَتَخْطَفُهُ الْحَمِيَّةُ وَطَيْشُ السَّفَهِ، فَيَكُونُ كَالْمَأْخُوذِ بِالسِّحْرِ، لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ فِكْرٌ ; لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى إِفْسَادِهِ لَا يَبْغِي عَنْهُ حِوَلًا. وَعَبَّرَ عَنِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْحَمِيَّةِ بِالْعِزَّةِ ; لِلْإِشْعَارِ بِوَجْهِ الشُّبْهَةِ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَهُوَ تَخَيُّلُهَا النُّصْحَ وَالْإِرْشَادَ ذِلَّةً تُنَافِي الْعِزَّةَ الْمَطْلُوبَةَ. قَالَ شَيْخُنَا: هَذَا الْوَصْفُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي تَفْسِيرِ التَّوَلِّي بِالْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الظَّالِمَ الْمُسْتَبِدَّ يَكْبُرُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْشَدَ إِلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ يُحَذَّرَ مِنْ مَفْسَدَةٍ ; لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي رَكِبَهُ وَعَلَاهُ يَجْعَلُهُ أَعْلَى النَّاسِ رَأْيًا وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، بَلِ الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الَّذِي لَا يَخَافُ اللهَ تَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ الْحَقِّ كَمَا أَنَّهُ فَوْقَ أَهْلِهِ فِي السُّلْطَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفَنُ رَأْيِهِ خَيْرًا مِنْ جَوْدَةِ آرَائِهِمْ، وَإِفْسَادُهُ نَافِذًا مَقْبُولًا دُونَ إِصْلَاحِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِي كَذَا؟ وَإِنَّ الْأَمِيرَ مِنْهُمْ لَيَأْتِي أَمْرًا فَيَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ فِي شَخْصِهِ أَوْ فِي مُلْكِهِ وَيَوَدُّ لَوْ يَهْتَدِي السَّبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَيَعْرِضُ لَهُ نَاصِحٌ يَشْرَعُ لَهُ السَّبِيلَ فَيَأْبَى سُلُوكَهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا النَّجَاةَ وَالْفَوْزَ إِلَّا أَنْ يَحْتَالَ النَّاصِحُ فِي إِشْرَاعِهَا فَيَجْعَلُهُ بِصِيغَةٍ لَا تُشْعِرُ بِالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَا بِأَنَّ السَّيِّدَ الْمُطَاعَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ. وَقَدْ عَرَضْتُ نَصِيحَةً عَلَى بَعْضِهِمْ مَعَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّصِيحَةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ لَهُ بِالْحَدِيثِ ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) وَبَيَانِ مَعْنَاهُ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: إِنَّنِي أَنْصَحُ لَكَ وَلِأَنَّكَ إِمَامِي، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرُ عَهْدِ النَّاصِحِ بِهِ، فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَرْضَ حَاكِمٌ مُسْلِمٌ بِأَنْ يُبْذَلَ لَهُ مَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْأَئِمَّةِ، وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ يَنْصَحُونَ لِلْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُونَ بِالنُّصْحِ بِحَسَبِ مَكَانِهِمْ مِنَ الدِّينِ، وَأَمَّا الطُّغَاةُ الْبُغَاةُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا مَا يَخْدَعُونَ بِهِ الْعَامَّةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْذُونَ مَنْ يُشِيرُ إِشَارَةً مَا إِلَى أَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَقْوَى اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ فِي عِيَالِ اللهِ الَّذِينَ سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْحُكْمِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ كُلِّ

مَا يَهْوَوْنَ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالظُّلْمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الدِّينِ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، فَهَلْ تَجِدُ دَعْوَى فِرْعَوْنَ الْأُلُوهِيَّةَ غَرِيبًا عَجِيبًا؟ ! وَحَمْلُ التَّوَلِّي عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ لَا يَتَنَافَى مَعَ أَخْذِ الْعِزَّةِ بِالْإِثْمِ مِنْ جَرَّاءِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ مُفْسِدٍ النُّفُورَ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاحِ وَالِاحْتِمَاءَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ يَرَى أَمْرَهُ بِالتَّقْوَى وَالْخَيْرِ تَشْهِيرًا بِهِ، وَصَرْفًا لِعُيُونِ النَّاسِ إِلَى مَفَاسِدِهِ الَّتِي يَسْتُرُهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ وَخِلَابَتِهِ، وَلَكِنَّ التَّعْبِيرَ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْوُلَاةِ وَالسَّلَاطِينِ. وَقَدْ يَبْلُغُ نُفُورُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَقِّ وَالدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ إِلَى حَدِّ اسْتِثْقَالِهِمْ وَالْحِقْدِ عَلَيْهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي إِيذَائِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ ; إِذْ يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - عَلَى إِطْلَاقِهِمَا - كَافِيَانِ فِي فَضِيحَتِهِمْ، وَذَاهِبَانِ بِخِلَابَتِهِمْ، فَلَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ دُعَاةِ الْخَيْرِ وَلَا يَرْتَاحُونَ إِلَى ذِكْرِهِمْ، بَلْ يَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِهِمْ وَعَثَرَاتِهِمْ لِيُوقِعُوا بِهِمْ وَيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِزَلَّةٍ ظَاهِرَةٍ الْتَمَسُوهَا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأَوُّلِ، أَوِ الِاخْتِرَاعِ وَالتَّقَوُّلِ; وَلِذَلِكَ تَجِدُ طَعْنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ قَبِيلِ طَعْنِ الْكَافِرِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، إِنَّ فُلَانًا مَغْرُورٌ لَا يُعْجِبُهُ أَحَدٌ، خَطَّأَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ، سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، شَنَّعَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. هَذِهِ آثَارُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِيقَاعِ بِالْآمِرِ بِالتَّقْوَى، وَإِنْ قَدَرُوا حَبَسُوا وَضَرَبُوا، وَنَفَوْا وَقَتَّلُوا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ يَأْنَفُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أَيْ: هِيَ مَصِيرُهُ، وَكَفَاهُ عَذَابُهَا جَزَاءً عَلَى كِبْرِيَائِهِ وَحَمِيَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ وَصَفَ جَهَنَّمَ، وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، بِقَوْلِهِ: (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ لِلرَّاحَةِ، وَاللَّامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، فَاللهُ تَعَالَى يُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِلْوَعِيدِ بِأَنَّ الَّذِي يَرَى عِزَّتَهُ مَانِعَةً لَهُ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ سَيَكُونُ مِهَادُهُ وَمَأْوَاهُ النَّارَ، وَهِيَ بِئْسَ الْمِهَادُ وَشَرُّهُ، لَا رَاحَةَ فِيهَا، وَلَا اطْمِئْنَانَ لِأَهْلِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِالْمِهَادِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الرَّاحَةِ لِلتَّهَكُّمِ. وَأَنْتَ تَرَى مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ وَمِنْ كَوْنِ التَّقْسِيمِ حَقِيقِيًّا فِي نَفْسِهِ شَارِحًا لِمَا عَلَيْهِ الْبَشَرُ فِي حَيَاتِهِمْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ مُلْتَئِمًا مَعَهُ فِي السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلَامَ عَامٌّ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ لَهُ سَبَبًا خَاصًّا لَا يُنَافِي عُمُومَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ لِلْآيَاتِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَا - لَمَّا هَلَكَتْ سَرِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ -: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا، لَا هُمْ قَعَدُوا فِي أَهْلِيهِمْ، وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَظْهَرَ لَهُ الْإِسْلَامَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ

207

الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ. فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَتَانِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُمَا سَبَبًا حَمَلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مُطَابَقَةً لِلْحَادِثَتَيْنِ اللَّتَيْنِ إِنْ صَحَّتَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ; فَإِنَّ الْأَخْنَسَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ الْمُقَابِلَ لِمَنْ تَأْخُذُهُ الْعِزَّةُ إِذَا ذُكِّرَ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ) وَكَانَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُوصَفَ هَذَا الْفَرِيقُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ عَدَمِ الدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ بِالْقَوْلِ، أَوْ مَعَ مُطَابَقَةِ قَوْلِهِ لِعَمَلِهِ، وَمُوَافَقَةِ لِسَانِهِ لِمَا فِي قَلْبِهِ، وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتْ هَذَا الْوَصْفَ وَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ بِهِ. فَإِنَّ مَنْ يَشْرِي ; أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ لِلَّهِ، لَا يَبْغِي ثَمَنًا لَهَا غَيْرَ مَرْضَاتِهِ، لَا يَتَحَرَّى إِلَّا الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَقَوْلَ الْحَقِّ، مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْقَلْبِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانَيْنِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ، وَلَا يُؤْثِرُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ كُبَرَائِهَا وَمُتْرَفِيهَا مِنَ الْقُصُورِ، وَمَتَاعِ الزِّينَةِ وَالْغُرُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْتَدُّ الْقُرْآنُ بِإِيمَانِهِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْقَوْلِيُّ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَلَا يَمَسُّ سَوَادَ الْقُلُوبِ، وَلَا تَظْهَرُ آثَارُهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَلَا يَحْمِلُ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحُقُوقِ لِدِينِهِ وَمِلَّتِهِ وَلَا لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ فِي كِتَابٍ، وَلَا يُقَامُ لِصَاحِبِهِ وَزْنٌ فِي يَوْمِ اللهِ، بَلْ يُخْشَى أَنْ يُقَالَ لِذَوِيهِ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (46: 20) . ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الشِّرَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَشْرَحُ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُفَسِّرُهَا، وَتُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعُوا وَأَنَّ اللهَ قَدِ اشْتَرَى، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (9: 111) وَقَدْ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَعَهَا مِيزَانًا لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، فَنَفْسُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ لَا لِلشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْمَكْرِ الشَّيْطَانِيِّ، فَمَنْ آثَرَ شَهْوَتَهُ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ، وَالْتِزَامِ حُدُودِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى هَدْيِ دِينِهِ، فَلَا وَزْنَ لَهُ فِي سُوقِ هَذَا الْبَيْعِ وَلَا قِيمَةَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيَكْبُرُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْمَفْتُونِينَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَذَّاتِهَا وَقُصُورِهَا، وَخُمُورِهَا وَحُورِهَا، وَإِنْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ زُعَمَاءِ الدِّينِ، وَخِدْمَتِهِ الْمُخْلِصِينَ; لِأَنَّ الْحَقَّ مُرٌّ فِي مَذَاقِ الْمُبْطِلِينَ. وَالْآيَةُ لَا تُنَافِي مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الدُّعَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرَعَ لَنَا طَلَبَ الدُّنْيَا مِنَ الْوُجُوهِ الْحَسَنَةِ كَمَا شَرَعَ لَنَا طَلَبَ الْآخِرَةِ، بَلْ هِيَ مُؤَيِّدَةٌ لَهَا، فَإِنَّ طَلَبَهَا مِنَ الطُّرُقِ الْحَسَنَةِ; أَيِ: الْمَشْرُوعَةِ النَّافِعَةِ، لَا يُنَافِي مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِبَيْعِ النَّفْسِ لَهُ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِفَاعِلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَنَا أَنْ نَتَمَتَّعَ بِهَا حَلَالًا، وَنَكُونَ مُثَابِينَ مَرْضِيِّينِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ)) ؟ قَالُوا:

نَعَمْ. قَالَ: ((فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَلَكِنَّ الَّذِي يُنَافِي مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى وَيُنَافِي سَعَادَةَ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ هُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْمَرْءُ فِي سَبِيلِ حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ خَارِجَ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ فَيُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُبَالِيَ أَنْ يَهْلِكَ بِإِفْسَادِهِ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَجِهَادِ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمَا، أَوِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فَرْضًا عَيْنِيًّا عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِهِمَا مَعًا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَهِيَ الَّتِي يَحْفَظُ بِهَا دِينَهُ وَيُصْلِحُ بِهَا حَالَ عِبَادِهِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِالْحَلَالِ، وَيَتَمَتَّعَ بِالْحَلَالِ، وَيَنْفَعَ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرَّ غَيْرَهُ، وَأَنْ يُصَلِّيَ وَيَصُومَ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ أَوْسَعَ وَعَمَلُهُ أَشْمَلَ وَأَنْفَعَ، فَيُسَاعِدَ عَلَى نَفْعِ النَّاسِ وَدَرْءِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ بِالْمَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَمُقَاوَمَةِ الشَّرِّ، وَلَوْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى بَذْلِ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي وَاجِبٍ يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ الْمِلَّةِ وَعِزَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَخَرَجَ مِنْ زُمْرَةِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ أَكْبَرَ إِجْرَامًا مِمَّنْ يُقَصِّرُ فِي وَاجِبٍ لَا يَضُرُّ تَقْصِيرُهُ فِيهِ إِلَّا بِنَفْسِهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ هِيَ أَنْ تَرْتَقِيَ وَيَتَّسِعَ وُجُودُهَا فِي الدُّنْيَا، فَيَعْظُمَ خَيْرُهَا وَيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهَا، وَتَكُونُ فِي الْآخِرَةِ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَجَعَلُوا أَكْثَرَ أَعْمَالِهِمْ خِدْمَةً لِلنَّاسِ وَسَعْيًا فِي خَيْرِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْخَسِيسَةِ; لِأَجْلِ نَفْعِهِ سُبْحَانَهُ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا شَرَعَ هَذَا لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِاتِّسَاعِ وُجُودِهِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ سَيِّدَ النَّاسِ، فَلْيَعْرِضْ مُدَّعُو الْإِيمَانِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ وَآثَرُوا مَرْضَاتِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَلْيَعْرِضْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنْصِفِينَ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ وَاسِعُ الْوُجُودِ خَادِمٌ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، لَا جَرَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (49: 14) فَإِنَّ مَعْنَى أَسْلَمْنَا انْقَدْنَا لِأَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ وَأَخَذْنَا بِأَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ تُعْجِبُكَ أَقْوَالُهُمْ مِنْ صِنْفِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَصُومُونَ، وَلَا يُزَكُّونَ وَلَا يَحُجُّونَ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَيَأْتُونَ كَثِيرًا مِنَ الْكَبَائِرِ جِهَارًا، وَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِصْرَارًا.

ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي; أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ أَقْوَى فِي طَلَبِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ وَأَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورِينَ، وَالْإِخْبَارَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، فَالْقُرْآنُ يُصَوِّرُ الْمُؤْمِنِينَ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا شَرَعَ هَذَا إِلَّا رَأْفَةً بِعِبَادِهِ فَقَالَ: (وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) إِذْ يَرْفَعُ هِمَمَ بَعْضِهِمْ وَيُعْلِي نُفُوسَهُمْ حَتَّى يَبْذُلُوهَا فِي سَبِيلِهِ لِدَفْعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ عَنْ عِبَادِهِ وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ فِيهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَغَلَبَ شَرُّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا صَلَاحٌ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (2: 251) وَإِنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي إِزَالَةِ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بَيْعَ النَّفْسِ يُؤْذِنُ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُمَتِّعَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ بِلَذَّاتِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ - وَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - لَمَا قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ الرَّءُوفِ الدَّالِّ عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، فَيَالَلَّهُ مَا أَعْجَبَ بَلَاغَةَ كَلَامِ اللهِ، وَمَا أَعْظَمَ خِذْلَانَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هُدَاهُ. وَمِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ الْمُوجَزِ بَيَانُ حَقِيقَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي النَّاسِ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِعَمَلِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ دُونِهِمْ; إِذْ تُظْهِرُ ثَمَرَاتُ إِصْلَاحِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنَّ عَلَى مَنْ يَبْذُلُ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فِي نَفْعِ عِبَادِهِ أَلَّا يَتَهَوَّرَ وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا يُقَدِّرُ الْأُمُورَ بِقَدْرِهَا; إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الشِّرَاءِ إِهَانَةَ النَّفْسِ وَلَا إِذْلَالَهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ دَفْعُ الشَّرِّ وَتَقْرِيرُ الْخَيْرِ الْعَامِّ رَأْفَةً بِالْعِبَادِ، وَإِيثَارًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. وَإِنَّ أُمَّةً يَتَّصِفُ جَمِيعُ أَفْرَادِهَا أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ لَجَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسُودَ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ سَادَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ، وَإِنَّ أُمَّةً تُحْرَمُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ لَخَلِيقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَعْبَدَةً لِجَمِيعِ الْمُتَغَلِّبِينَ، وَكَذَلِكَ اسْتُعْبِدَ خَلَفُنَا الطَّالِحُونَ، فَهَلْ نَحْنُ مُعْتَبِرُونَ؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

208

بَعْدَ مَا بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى مَا يَجْمَعُ الْبَشَرَ كَافَّةً عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّلَامِ، وَالْوِفَاقِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَشَرَّفَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) إِلَخْ. السِّلْمُ الْمُسَالَمَةُ وَالِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ، فَيُطْلَقُ عَلَى الصُّلْحِ وَالسَّلَامِ، وَعَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (السَّلْمِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالصُّلْحِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ (الْجَلَالُ) ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ (كَافَّةً) حَالٌ مِنَ السِّلْمِ; أَيْ: فِي جَمِيعِ شَرَائِعِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ أَسَاسَهَا الِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَمِنْ أُصُولِهَا الْوِفَاقُ وَالْمُسَالَمَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَرْكُ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ. وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ، وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ فِيهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حِصْنٌ مَنِيعٌ لِلدَّاخِلِينَ فِي كَنَفِهِ، وَهُوَ لِلْكَامِلِينَ مِنْهُمْ أَمْرٌ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) (33: 1) وَلِمَنْ دُونَهُمْ أَمْرٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ وَتَحَرِّي الْكَمَالِ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ فَالدُّخُولُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا لَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَكْمَلَهُ لِخَلْقِهِ كَافَّةً بِبَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ إِيمَانُكُمْ بِهِ مَعَ بَقَائِكُمْ عَلَى تَعَادِيكُمْ وَتَفَرُّقِكُمْ، وَدِينُ اللهِ جَامِعٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ. وَهَاكَ مَا كَتَبْتُهُ بَعْدَ حُضُورِ دَرْسِ تَفْسِيرِ شَيْخِنَا لِلْآيَةِ: هَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَاعِدَةٌ لَوْ بَنَى جَمِيعُ عُلَمَاءِ الدِّينِ مَذَاهِبَهُمْ عَلَيْهَا لَمَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْخِلَافِ فِي الْأُمَّةِ، ذَلِكَ أَنَّهَا تُفِيدُ وُجُوبَ أَخْذِ الْإِسْلَامِ بِجُمْلَتِهِ، بِأَنْ نَنْظُرَ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّارِعُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ نَصٍّ قَوْلِيٍّ وَسُنَّةٍ مُتَّبَعَةٍ، وَنَفْهَمَ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَنَعْمَلَ بِهِ، لَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ أَوْ سُنَّةٍ وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ أَدَّتْ إِلَى تَرْكِ مَا يُخَالِفُهَا مِنَ النُّصُوصِ وَالسُّنَنِ، وَحَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ أَوِ الْمَسْخِ بِالتَّأْوِيلِ، أَوْ تَحْكِيمِ الِاحْتِمَالِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَلَوْ أَنَّكَ دَعَوْتَ الْعُلَمَاءَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - الَّذِي عَرَفُوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلى قَائِلِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ - لَوَلَّوْا مِنْكَ فِرَارًا، وَأَعْرَضُوا عَنْكَ اسْتِكْبَارًا، وَقَالُوا: مَكَرَ مَكْرًا كُبَّارًا، إِذْ دَعَا إِلَى تَرْكِ الْمَذَاهِبِ، وَحَاوَلَ إِقَامَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ. وَمِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّنَا نَجِدُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَائِنَا هُدًى وَنُورًا لَوِ اتَّبَعَتْهُ الْأُمَّةُ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لَاسْتَقَامَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَوَصَلَتْ إِلَى الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ إِلَى بُحْبُوحَةِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالسَّبَبُ فِي بَقَاءِ الْغَلَبِ لِسُلْطَانِ الْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ فُشُوُّ الْجَهْلِ، وَتَعَصُّبُ أَهْلِ الْجَاهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَذَاهِبِهِمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَنْتَسِبُونَ، وَبِجَاهِهَا يَعِيشُونَ وَيُكْرَمُونَ، وَتَأْيِيدُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ لَهُمُ اسْتِعَانَةً بِهِمْ عَلَى إِخْضَاعِ الْعَامَّةِ، وَقَطْعِ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّفْسِيِّ عَلَى الْأُمَّةِ; لِأَنَّ هَذَا أَعْوَنُ لَهُمْ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ، وَأَشَدُّ تَمْكِينًا لَهُمْ

مِمَّا يَهْوَوْنَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ; إِذِ اتِّفَاقُ كَلِمَةِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَاجْتِمَاعُهَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ كَذَا بِدَلِيلِ كَذَا مُلْزِمٌ لِلْحَاكِمِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِيهِ; لِأَنَّ الْخَوَاصَّ إِذَا اتَّحَدُوا تَبِعَهُمُ الْعَوَامُّ، وَهَذِهِ هِيَ الْوَسِيلَةُ الْفَرْدَةُ لِإِبْطَالِ اسْتِبْدَادِ الْحُكَّامِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَيَّدٌ بِالنَّعْيِ عَلَى الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ; أَيْ: يَعْمَلُونَ بِبَعْضِهِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ وَيَتْرُكُونَ بَعْضًا بِتَأْوِيلٍ أَوْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَشَأْنِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ. فَوُجُوبُ أَخْذِ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ بِجُمْلَتِهِ، وَفَهْمِ هِدَايَتِهِ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ثَبَتَ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي ذَاتِهِ، سَوَاءٌ فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ أَوْ لَا; لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا آنِفًا فِي جَعْلِ الْقُرْآنِ عِضِينَ، وَفِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ النُّصُوصِ تُثْبِتُهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (كَافَّةً) تَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا; أَيِ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَصْرِفُ نِدَاءَ (الَّذِينَ آمَنُوا) إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - أَيْ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَالْوَحْيِ - حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ مَعَ إِذْعَانِ النَّفْسِ، فَمَنْ صَدَّقَ بِالشَّيْءِ وَأَذْعَنَ لَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي أَعْمَالِهِ وَانْقَادَ لِأَحْكَامِهِ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ خَطَأٌ; فَالْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ الْإِذْعَانِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ فِي مَوْضُوعِهِ عِلْمٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ وَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الْمُعَارَضُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ نَظَرِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ فَلَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ. وَقَدْ صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ صَاحِبُ الْمُوَافَقَاتِ بِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْحَقَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَآيَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَمُعَزِّزَةٌ لَهُ، وَيَدُلُّ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةُ وَابْنُ يَامِينَ وَأَسَدُ وَأُسَيْدُ ابْنَا كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ عُمَرَ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ - كُلُّهُمْ مِنْ يَهُودَ -: يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمَ السَّبْتَ نُعَظِّمُهُ فَدَعْنَا فَلْنُسْبِتْ فِيهِ، وَإِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللهِ فَدَعْنَا فَلْنَقُمْ بِهَا بِاللَّيْلِ، فَنَزَلَتْ. فَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْيَهُودِ خَاصَّةً لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَهِيَ تَنِمُّ عَلَى نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْآيَةِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ السِّلْمِ، وَهُوَ الْمُسَالَمَةُ وَالْوِفَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - أَخْذُ الدِّينِ بِجُمْلَتِهِ - لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَفْعِ الشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبَلِ الْوَحْدَةِ، وَشَدِّ أَوَاخِي الْإِخَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الشَّيْءُ إِلَّا بِرَفْعِ أَسْبَابِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِتَحَقُّقِ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (3: 103) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) (8: 46)

وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ أَعْنَاقَ بَعْضٍ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ خَالَفْنَا كُلَّ هَذِهِ النُّصُوصِ فَتَفَرَّقْنَا وَتَنَازَعْنَا وَشَاقَّ بَعْضُنَا بَعْضًا بِشُبْهَةِ الدِّينِ، إِذِ اتَّخَذْنَا مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً، كُلُّ فَرِيقٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبٍ وَيُعَادِي سَائِرَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ يَنْصُرُ الدِّينَ وَهُوَ يَخْذُلُهُ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا سُنِّيٌّ يُقَاتِلُ شِيعِيًّا، وَهَذَا شِيعِيٌّ يُنَازِلُ إِبَاضِيًّا، وَهَذَا شَافِعِيٌّ يُغْرِي التَّتَارَ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا حَنَفِيٌّ يَقِيسُ الشَّافِعِيَّةَ عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ، يُحَادُّونَ مَنِ اتَّبَعَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (23: 68) أَمْ أُمِرُوا بِهَذَا مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَمِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ؟ كَلَّا; بَلْ كَانَ التَّعَادِي وَالتَّنَازُعُ انْحِرَافًا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَكَمَا خَالَفَ الْمُفَرِّقُونَ الْمُتَنَازِعُونَ رَبَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ خَالَفُوا مَا اتَّبَعَهُ بِهِ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، إِذْ قَالَ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ - بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ - وَهُمَا مَا بَيْنَ قَدَمَيْ مَنْ يَخْطُو بِنَقْلِهِمَا فِي الْمَشْيِ; أَيْ: لَا تَسِيرُوا سَيْرَهُ وَتَتَّبِعُوا سُبُلَهُ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مُطْلَقًا. وَسُبُلُ الشَّيْطَانِ وَخُطُوَاتُهُ هِيَ كُلُّ أَمْرٍ يُخَالِفُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّبُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (6: 153) فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ سَبِيلًا وَاحِدَةً سَمَّاهَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا; لِأَنَّهَا أَقْرَبُ طَرِيقٍ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّلَامِ، وَأَنَّ هُنَاكَ سُبُلًا مُتَعَدِّدَةً يَتَفَرَّقُ مُتَّبِعُوهَا عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ وَهِيَ طُرُقُ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ جَعَلَ التَّفَرُّقَ تَابِعًا لِاتِّبَاعِ سُبُلٍ هِيَ غَيْرُ صِرَاطِ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ سَبِيلَ اللهِ لَا يَتَفَرَّقُونَ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (6: 159) نَعَمْ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ سَبَبُ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَلَكِنَّهُمْ مَتَى شَعُرُوا بِأَنَّ التَّنَازُعَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ فَزِعُوا إِلَى تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى حُكْمِهِمَا كَمَا أَمَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (4: 59) أَيْ: مَآلًا وَعَاقِبَةً. فَالْآيَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ كَمَا أُمِرْنَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ حُجَّةٌ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَيَا لَيْتَ أَصْحَابَ هَذَا الْأَصْلِ فَرَضُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاجْتِمَاعَ لِكُلِّ خِلَافٍ يَعْرِضُ لَهُمْ، وَالْبَحْثَ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِيهِ بِلَا تَعَصُّبٍ وَلَا مِرَاءٍ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ لَمْ يَظْهَرْ لِبَعْضِهِمْ ثَابَرَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى تِطْلَابِهِ بِإِخْلَاصٍ لَا يُعَادِي فِيهِ أَحَدًا، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ. طَرِيقُ الْحَقِّ هُوَ الْوَحْدَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَطُرُقُ الشَّيْطَانِ هِيَ مُثَارَاتُ التَّفَرُّقِ وَالْخِصَامِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ طُرُقَهُ وَيُسَوِّلُ لِلنَّاسِ الْمَنَافِعَ وَالْمَصَالِحَ فِي التَّفَرُّقِ

209

وَالْخِلَافِ، فَقَدْ كَانَتْ يَهُودُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً عَلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ هُوَ صِرَاطُ اللهِ، فَسَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَتَفَرَّقُوا وَجَعَلُوا لَهُمْ مَذَاهِبَ وَطُرُقًا، وَأَضَافُوا إِلَى الْكِتَابِ مَا أَضَافُوا، وَحَرَّفُوا مِنْ كَلِمِهِ مَا حَرَّفُوا، وَاتَّبَعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَتَّى حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُمْ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا دِينَهُمْ نَاقِصًا فَكَمَّلُوهُ، وَقَلِيلًا فَكَثَّرُوهُ، وَوَاحِدًا فَعَدَّدُوهُ، وَسَهْلًا فَصَعَّبُوهُ، فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَوَضَعُوهُ، فَذَهَبَ اللهُ بِوَحْدَتِهِمْ حَتَّى لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ، وَأَنْزَلَ بِهِمُ الْبَلَاءَ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (40: 85) . هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَمِنْ خُطُوَاتِهِ طُرُقُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (24: 21) وَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَذَاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَدْعُوا إِلَيْهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، بَيِّنُ الضَّرَرِ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَعَقَلَ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخُطُوَاتِ أَدْرَكَهُ فِي غَايَتِهَا عِنْدَمَا يَذُوقُ مَرَارَةَ مَغَبَّتِهَا، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَذْكِيرِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةُ إِذَا بَقِيَ عَلَى ضَلَالَتِهِ وَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى; وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أَيْ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ وَحِدْتُمْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ - وَهُوَ السُّلَّمُ - إِلَى خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ - وَهِيَ طُرُقُ الْخِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - مِنْ بَعْدِ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ أَنَّ سَبِيلَهُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ السِّلْمُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وَتَجْتَنِبُوا طُرُقَهُ وَخُطُوَاتِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ شَرِّ تِلْكَ الطُّرُقِ وَأَشْأَمِهَا وَهِيَ طُرُقُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَمَامَكُمْ أَمْرًا جَلِيلًا، وَأَخْذًا وَبِيلًا; ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لِعِزَّتِهِ لَا يَنْسَى مَنْ يَنْسَى سُنَنَهُ وَيَزِلَّ عَنْ شَرِيعَتِهِ; بَلْ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِحِكْمَتِهِ قَدْ وَضَعَ تِلْكَ السُّنَنَ فِي الْخَلِيقَةِ، وَهَدَى إِلَيْهَا النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذُنُوبِ الْأُمَمِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا لَازِمًا لَهَا حَتْمًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّهُ يُحِلُّ بِكُمُ الْعِقَابَ; لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرٌ لِلْبُرْهَانِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ اكْتِفَاءً بِهِ عَنْ ذِكْرِ النَّتِيجَةِ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي كَلَامِ إِنْسَانٍ.

210

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَا هُوَ دَلِيلُ الْعِقَابِ وَهُوَ مَا لَا مَطْمَعَ فِي زَوَالِهِ، وَلَا هُزْءَ فِي الدِّينِ أَكْبَرُ مِنْ ظَنِّ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يَنَالُ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بِغَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا آيَاتُ اللهِ تَعَالَى، مُبَيِّنَةً أَنَّ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَرْكِهَا مِنْ آثَارِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا تَغْيِيرٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ بِتَبْدِيلٍ وَلَا تَحْوِيلٍ اهـ. وَنَقُولُ نَحْنُ عَلَى طَرِيقَتِهِ: إِنَّ ظَنَّ الْمَغْرُورِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمُ السُّلُطَاتُ وَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَلَوْ مَعَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي النَّاسِ وَالْعِمَارَةِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ - هُوَ مِنَ الْهُزْءِ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللهِ الصَّالِحُونَ لِعِمَارَتِهَا وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِيهَا (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى) أَيِ: الْأُمَمَ (بِظُلْمٍ) مِنْهُمْ أَيْ: شِرْكٍ وَكُفْرٍ، أَوْ مِنْهُ لَهُمْ (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (11: 117) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهَا إِذَا ظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فِيهَا. وَالْآيَتَانِ الْمُفَسَّرَتَانِ آنِفًا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3: 103 - 105) وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (6: 159) كُلُّهَا هَادِمَةٌ لِلتَّقَالِيدِ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا، حَتَّى صَارَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَسَفَكَتْ دِمَاءَهَا بِأَيْدِيهَا، وَمَزَّقَتْ دُنْيَاهَا بِتَمْزِيقِ دِينِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا نَرَى سُوءَ عَاقِبَتِهِ فِي كُلِّ شَعْبٍ وَكُلِّ قُطْرٍ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ الْوَعِيدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ فَقَالَ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالْحِكْمَةُ فِي الِالْتِفَاتِ تَنَاوُلُ هَذَا الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ مَنْ زَلَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالْمَنْهِيِّينَ عَنْ ضِدِّهِ وَمَنْ زَلَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ الزَّالِّينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَرَفَ الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ. الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَيَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا سِيَّمَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) (47: 18) وَ (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) (36: 49) وَإِتْيَانُ اللهِ تَعَالَى فَسَّرَهُ (الْجَلَالُ) وَآخَرُونَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ; أَيْ: عَذَابِهِ، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (16: 33) أَيْ: فَهُوَ بِمَعْنَى مَا جَاءَ مِنَ التَّخْوِيفِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُوَافِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي أُسْلُوبِهَا. وَأَقَرَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (الْجَلَالَ) عَلَى ذَلِكَ،

وَبَيَّنَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَأَوْضَحَهُ أَتَمَّ الْإِيضَاحِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (12: 82) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِسْنَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ السَّابِقِ; أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ السَّاعَةِ وَالْعَذَابِ، وَعَدَّهُ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْتِي بِذَاتِهِ وَلَكِنْ لَا كَإِتْيَانِ الْبَشَرِ، بَلْ إِتْيَانُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْإِتْيَانِ بِمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا نَذْكُرُهُ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَعْنَى بُعْدًا عَنِ الْفَهْمِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ بِحَالٍ، وَلَا تُفَسَّرُ وَلَوْ بِإِجْمَالٍ، فَحَسْبُنَا أَنَّ نَقُولَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ إِتْيَانَ اللهِ هُنَا بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ إِتْيَانِهِ بِمَا وَعَدَ بِهِ: إِنَّنَا نُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ نَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُنْذِرُ الَّذِينَ زَالُوا عَنْ صِرَاطِهِ وَفَرَّقُوا دَيْنَهُ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مُطْلَقٍ، وَمِمَّا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُّ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) (25: 25) مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ وَخَرَابَ الْعَالَمِ يَكُونُ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (84: 1) وَانْتَثَرَتْ كَوَاكِبُهَا إِلَخْ. وَإِنَّمَا يَأْتِي بِذَلِكَ اللهُ تَعَالَى بِتَغْيِيرِ هَذَا النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَهُ لِارْتِبَاطِ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظِ كُلِّ كَوْكَبٍ فِي فَلَكِهِ، وَسَيَأْتِي لِمَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْإِتْيَانِ تَوْجِيهٌ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا ظُلَلُ الْغَمَامِ: فَهِيَ قِطَعُ السَّحَابِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ جَمْعُ ظُلَّةٍ - بِالضَّمِّ - كَغُرَفٍ، جُمَعُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ، وَالثَّانِي جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابٍ وَسَحَابَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُغِمُّ السَّمَاءَ; أَيْ: يَسْتُرُهَا، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْغَمَامَ بِالسَّحَابِ الْأَبْيَضِ، وَزَادَ بَعْضٌ آخَرُ الرَّقِيقَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ الرَّقِيقَ لَا يُمْطِرُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَرَدَ حَبَّ الْغَمَامِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ إِتْيَانَ أَمْرِ اللهِ أَوْ عَذَابِهِ فِي الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ بِالْمَطَرِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ هَوْلِ الْعَذَابِ وَفَظَاعَتِهِ; لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا جَاءَ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمْنِ كَانَ خَطْبُهُ أَعْظَمَ، وَالْعَذَابُ إِذَا فَاجَأَ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ كَانَ وَقْعُهُ آلَمُ، كَمَا وَقَعَ لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (46: 24) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ هُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ لَا يَعْنِي بِهِ تِلْكَ السَّحَائِبَ الْبِيضَ الرِّقَاقَ الْمُرْتَفِعَةَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ السَّحَابَ الْمُسِفَّ لِثِقَلِهِ بِالْمَطَرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبَيَاضِ مِنْهُ إِلَى السَّوَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الْغَمَامِ إِنْزَالُهُ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ

يُنْذِرُ بِهِ، وَلَا تَوْطِئَةٍ تُوَطِّنُ النُّفُوسَ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي هَوْلِهِ (مَا مَنْ دُهِيَ بِالْأَمْرِ كَالْمُعْتَدِّ) وَهُوَ ذَلِكَ الْغَمَامُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ فَجْأَةً، فَيَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ قَبْلَ أَنْ يَتَبَدَّدَ الْغَمَامُ النَّاشِئُ عَنِ الْخَرَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّفِقُ مَعَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي السَّاعَةِ: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) (7: 187) . وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ عِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِ تُرَغِّبُهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ ; لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يُفَاجِئْهُ قِيَامُ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي بِهَا يَهْلِكُ هَذَا الْعَالَمُ كُلُّهُ فَاجَأَهُ قِيَامُ قِيَامَتِهِ بِمَوْتِهِ بَغْتَةً، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَغْتَةً جَاءَهُ مَرَضُ الْمَوْتِ بَغْتَةً حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَدَارُكِ الزَّلَلِ. وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَرْشَدَتْنَا إِلَيْهَا الْآيَةُ السَّابِقَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِهَا فَحَمَلْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَاسْتَخْرَجْنَا الْمَعْنَى مِنْ مَجْمُوعِهَا كَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَقَرَعَتِ الْقَارِعَةُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ شَقًّا، وَرُجَّتِ الْأَرْضَ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ أَوَّلًا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ثُمَّ صَارَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، فَإِنَّ مَادَّةَ هَذَا الْكَوْنِ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّكْوِينِ; أَيْ: مَادَّةً سَدِيمِيَّةً، وَهِيَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ بِالدُّخَانِ وَفِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْخَرَابِ بِالْغَمَامِ. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْغَرْبِيِّينَ لَيَتَوَقَّعُونَ خَرَابَ هَذَا الْعَالَمِ بِقَارِعَةٍ تَحْدُثُ مِنِ اصْطِدَامِ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ تُبْطِلُ الْجَذْبَ الْعَامَّ الَّذِي بِهِ قَامَ هَذَا النِّظَامُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ بِالْغَمَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ هُنَا فَهُوَ بِمَعْنَى نُزُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) (25: 25) أَيْ: وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلَةُ بِكُلِّ مَا قَضَاهُ اللهُ يَوْمَئِذٍ. وَقَوْلُهُ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ قَضَاهُ اللهُ وَأَبْرَمَهُ فَلَا مَفَرَّ مِنْهُ (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فَيَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَمِنْهُ بَدَأَتِ الْأَشْيَاءُ، وَهُوَ الْآخِرُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ وَتَصِيرُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٍ (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (55: 33، 34) . وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا سَنَّهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النِّظَامِ لِخَلْقِهِ حَتْمًا مَقْضِيًّا لَا يَضِلُّ وَاضِعُهُ وَلَا يَنْسَى، فَعَلَى مَنْ زَلَّ عَنْ صِرَاطِهِ وَاتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يَحِيقَ بِهِ زَلَلُهُ، وَيَبْسُلَهُ عَمَلُهُ، وَقَبْلَ أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ، أَوْ قِيَامَةُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فَيُجَازَى عَلَى زَلَلِهِ وَ (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (52: 21) وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ أَبْسَلُوهَا

بِخِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُحَكِّمُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ يُعَدُّ بَيَانًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ السَّلَفِ لَا عَذَابُهُ وَلَا يَوْمُهُ الْمَوْعُودُ، وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَأَسْرَارُ الْمَعَارِفِ الْعُلْيَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ دِينِهِ إِيمَانًا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ فِي إِيمَانِهِ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَالِاطْمِئْنَانِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، وَأَهْلُ هَذَا الْيَقِينِ هُمُ الَّذِينَ يُقَالُ إِنَّ اللهَ حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا; لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ثَبَتَتْ فِي عُقُولِهِمْ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ قَدْ لَابَسَ قُلُوبَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْيَقِينُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُمْ; لِأَنَّ مَا حَضَرَ فِي عَقْلِهِ هُوَ غَيْرُ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ، وَشَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ فِي كِتَابِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا عِنْدَهُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الظُّنُونِ وَأَرْبَابُ الشُّكُوكِ، وَحَمَلَةُ التَّقَالِيدِ الَّذِينَ زَلُّوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابًا وَوُسَطَاءَ، وَشَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّئُونِ، فَهُمْ غَائِبُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ بِحَيْثُ لَا تَطُوفُ مَعْرِفَتُهُ الْحَقِيقَةُ بِعُقُولِهِمْ، وَلَا تُلَابِسُ عَظَمَتُهُ وَكَمَالُهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَكُشِفَ الْحِجَابُ عَرَفُوا اللهَ رَبَّهُمُ الْحَقَّ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَذَلِكَ إِتْيَانُ اللهِ لَهُمْ; أَيْ: يَأْتِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ مَا كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهُ وَمَحْرُومِينَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِتْيَانُ يَكُونُ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ. إِنَّ هَؤُلَاءِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ حَقًّا فَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَرُجُوعَ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ عَلَى سُنَنٍ ثَابِتَةٍ، وَلَا غَيْرَ التَّوْحِيدِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَصِنْفٌ اتَّبَعُوا الظَّنَّ وَهَامُوا فِي أَوْدِيَةِ الْوَهْمِ، فَلَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي سِجْنِ الْأَشْبَاحِ زَالَ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ، وَانْكَشَفَ ظَنُّ الظَّانِّينَ، وَبَطَلَ وَهْمُ الْوَاهِمِينَ، وَعَرَفَ الْجَمِيعُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، فَذَلِكَ مَجِيءُ اللهِ تَعَالَى وَإِتْيَانُهُ فِي يَوْمِ الدِّينِ، هَذَا مَا تَجَلَّى بِهِ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ. وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي قُلْنَا مِرَارًا إِنَّنَا لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، فَكَوْنُ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْيَقِينِ بِهِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْجَاهِلِينَ وَالْغَافِلِينَ بِحُصُولِ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ نُفَوِّضُ سِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَحُجَجًا بَاهِرَاتٍ، وَإِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ; لِأَنَّ الْمَقَامَ

مَقَامُ تَمْثِيلِ ظُهُورِ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَاسْتِغْرَاقِ الْقُلُوبِ فِي الْخُضُوعِ لِجَلَالِهِ عِنْدَمَا يَغْشَاهَا نُورُ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَ الْمَلِكِ فِي جُنْدِهِ الْأَكْبَرِ، هُوَ أَبْيَنُ لِكَمَالِ الْعَظَمَةِ وَأَظْهَرُ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (89: 22) وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (78: 38) . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَقْرِيبُ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الْأَفْهَامِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِتْيَانِ فِي الْغَمَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ أَوِ الرِّدَاءِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ((وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ)) وَبَيَانُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ)) . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْحُجُبَ; أَيِ: الْمَوَانِعَ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ كَثِيرَةٌ أَكْثَفَهَا نَفْسَهُ، وَهَذِهِ الْحُجُبُ تُزَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا حِجَابًا وَاحِدًا، فَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ مَعْرِفَةً كَامِلَةً تَسْتَغْرِقُ الرُّوحَ. وَذَلِكَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ وَبِمَجِيءِ اللهِ وَإِتْيَانِهِ. فَالْغَمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّمْثِيلِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْمَعْرِفَةِ الْمُمْكِنَةِ بِدُونِهِ، وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ الْآيَاتُ مَعَ الْأَحَادِيثِ (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (16: 60) وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (42: 11) . وَلَنَا أَنْ نَقُولَ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَعَ تَفْسِيرِنَا الْغَمَامَ بِمَادَّةِ التَّكْوِينِ الْأُولَى كَمَا مَرَّ -: إِنَّ الْحُجُبَ - الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَنْ رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا؛ حُظُوظَ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَشَوَاغِلَ الْحِسِّ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْفِكْرِ بِالْمُدْرَكَاتِ كُلَّهَا - تَرْتَفِعُ فَلَا تَعُودُ حَائِلَةً دُونَ كَمَالِ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى، مَا خَلَا سِرَّ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ الْأَوَّلِ؛ مِمَّ كَانَ؟ وَبِمَ كَانَ؟ وَكَيْفَ كَانَ؟ فَهَذَا لَا يَرْتَفِعُ فِي الدُّنْيَا لِلْمُوقِنِينَ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِلْمُقَرَّبِينَ. هَذَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْمُنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي نُذُرِ الْقِيَامَةِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا عِبْرَةٌ وَهِدَايَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْمُرْتَابُونَ الْمُمَارُونَ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْكَلَامُ عَنِ الْآخِرَةِ إِلَّا ظُلْمَةً وَرِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ; لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ فِي حِسِّهِمْ حَتَّى عَنْ نَفْسِهِمْ وَ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (23: 53) .

211

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَأَنَّ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ لَا تُرْجِعُهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ، فَإِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْخِصَامِ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي السَّلَامِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا مِنْهُمْ، وَلَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ بَيِّنٍ لَهُمْ، فَكَمْ جَاءَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَكَمْ بَلَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَا صَدَّهُمْ عَنْ خِلَافِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، بَلْ بَدَّلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْوَحْدَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الشُّكْرِ (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) بِالْبَيَانِ، وَأُبْرِهَتْ بِالْبُرْهَانِ، بِجَعْلِهَا مُثَارًا لِلتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَجَعْلِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ شِيَعًا وَأَحْزَابًا وَمَذَاهِبَ وَفِرَقًا بِسُوءِ التَّأْوِيلِ وَعَصَبِيَّاتِ الرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ تَنَكَّبَ سُنَّتَهُ وَخَالَفَ شِرْعَتَهُ - وَهَؤُلَاءِ الْمُبَدِّلُونَ مِنْهُمْ - فَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ نَازِلٌ لَا مَحَالَةَ بِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ اللهَ يُعَاقِبُهُمْ; لِيُشْعِرَنَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ سُنَنِهِ الْعَامَّةِ فَحَذَّرَنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْمُخَالِفِينِ الْمُبَدِّلِينِ، تَوَهُّمًا أَنَّ الْعِقَابَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْغَابِرِينَ، كَمَا يَلْغُو كَثِيرٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وَالتَّقْيِيدُ بِمَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّلِيلِ لَا يُخَاطَبُ بِهَذَا الْوَعِيدِ، فَحَسُبُهُ حِرْمَانُهُ مِنْ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يُطَالَبُ مَعَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَيُجْعَلُ مَعَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِهِ لَهُ فِي قَرْنٍ؟ ! وَفِي هَذِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَيْضًا بَيَانُ أَمْرٍ عَظِيمٍ يَغْفُلُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَذْكِيَاءُ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ إِنَّمَا تُفِيدُ النُّفُوسَ الْخَيِّرَةَ الْمُسْتَعِدَّةَ لِقَبُولِ الْحَقِّ الْمُتَوَجِّهَةَ إِلَى طَلَبِهِ، وَأَمَّا النُّفُوسُ

212

الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَفْضَحُهَا الْحَقُّ وَيُظْهِرُ بَاطِلَهَا الَّذِي تُحِبُّ سَتْرَهُ، وَالِاسْتِرْسَالَ فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْجَاهِ الْبَاطِلِ; فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا مُمَارَاةً وَجَدَلًا فِي الْقَوْلِ وَجُحُودًا وَعِنَادًا بِالْفِعْلِ. هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ عَامَّةً، لَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، كَذَلِكَ كَانَ وَكَذَلِكَ يَكُونُ وَسَيَكُونُ وَسَوْفَ يَكُونُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، فَهُوَ أَنَّهَا هَادِيَةٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْإِسْلَامِ فِي جُمْلَتِهِ، لَا تُفَرِّقُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَتَكُونُوا شِيَعًا، كَيْلَا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَحَالُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْكُمْ، فَسَلُوهُمْ حَالَهُمْ، وَاسْتَنْطِقُوا آثَارَهُمْ وَاقْرَءُوا تَارِيخَهُمْ تَرَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا نَحْوًا مِمَّا أُوتِيتُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَأُمِرُوا كَمَا أُمِرْتُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَذَاهِبَ وَشِيَعٍ، وَزَلُّوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِعِزَّتِهِ وَنَفَّذَ فِيهِمْ حُكْمَ سُنَّتِهِ، وَزَالَ سُلْطَانُهُمْ، وَلَفِظَتْهُمْ أَوْطَانُهُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ. وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ عِبْرَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لَا حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنْ هَلْ يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ؟ وَهَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّ مُلْكَهُمُ الَّذِي يَتَقَلَّصُ ظِلُّهُ عَنْ رُءُوسِهِمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَعِزَّهُمُ الَّذِي تَتَخَطَّفُهُ مِنْهُمْ حَوَادِثُ الْأَيَّامِ مَا بَدَّلَهُمَا اللهُ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ مَا بَدَّلُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (3: 103) وَ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (8: 53) كَلَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا وَلَوْ تَغَنَّوْا وَتَرَنَّمُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَأْتَمٍ وَكُلِّ مَوْسِمٍ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِهِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ عَامَّتِهِمْ تَبَعٌ لِهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ كَمَا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ السَّاكِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمُدَافِعِينَ عَنِ الْفَاسِقِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ عَلَى إِيذَاءِ الْوَاعِظِينَ النَّاصِحِينَ، بِاسْمِ الْمُدَافِعَةِ عَنِ الدِّينِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَمْ يُفْرِطْ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُبِينُ بَلْ هُوَ مَا هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) هَذَا بَيَانٌ مُعَلِّلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ لِمَنْ يُبَدِّلُ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، وَلَا سِيَّمَا نِعْمَةُ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي هِدَايَةِ الْمِلَّةِ إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، فَالْكُفْرُ فِيهَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَا الشَّرَكُ بِهِ كَمَا زَعَمَ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَسَبَبُهُ الِافْتِتَانُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، وَإِيثَارُهَا عَلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْأَمْرِ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ

وَالْأَخْذِ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهَا، وَالْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْوَعِيدِ عَلَى التَّفَرُّقِ وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ عَلَى رَأْيِهِ وَتَفْسِيرِهِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ - فَبَعْدَ أَنْ أَمَرَنَا تَعَالَى وَنَهَانَا وَتَوَعَّدَ مَنْ يَزِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ مِنَّا بَعْدَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ذَكَّرَنَا بِحَالِ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ مُنْتَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَعِنْدَهُمْ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْكِتَابِ لِاخْتِلَافِ أَئِمَّتِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّأْلِيفِ، وَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ عَنْ تَرْكِهِ الْعَمَلَ بِالتَّوْرَاةِ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِبَعْضِ الْأَحْبَارِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ بِهَا. بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَسْأَلُ سَائِلٌ: كَيْفَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ وَيَتَفَرَّقُونَ شِيَعًا بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ؟ فَهَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ لِهَذَا السُّؤَالِ، وَحَلٌّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، مُلَخَّصُهُ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا وَالْغُرُورِ بِزِينَتِهَا يَصْرِفَانِ جَمِيعَ قُوَى النَّفْسِ إِلَى التَّفَانِي فِي طَلَبِهَا، وَبِذَلِكَ تَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي آيَاتِ الْحَقِّ وَبَيِّنَاتِهِ، أَمَّا الرُّؤَسَاءُ فَإِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ إِلَى حُبِّ الِامْتِيَازِ وَالشُّهْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْخِلَافِ وَانْتِصَارِ كُلِّ رَئِيسٍ لِمَذْهَبٍ، وَالذَّبِّ عَنْهُ بِالْجَدَلِ وَالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمَرْءُوسُونَ فَإِنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَنْتَمِي إِلَى رَئِيسٍ يَعْتَزُّ بِهِ وَيُقَلِّدُهُ دِينَهُ، وَلَا يَسْتَمِعُ قَوْلًا لِمُخَالِفِهِ، وَيَرْبِطُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآخَرِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَحُبُّ الدُّنْيَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَلِ وَرَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ارْتِبَاطِ الرُّؤَسَاءِ بِالْمَرْءُوسِينَ فِي تَفْسِيرِ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا) (2: 165) الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا قَاضٍ بِأَنْ يَخْتَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْ أُوتُوا كِتَابًا وَجَاءَتْهُمْ بَيِّنَاتٌ تَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ وَتُحَقِّقُ وَحْدَتَهُمْ، فَفَصَمُوا بِالْخِلَافِ عُرْوَتَهَا، وَمَزَّقُوا بِالتَّفَرُّقِ نَسِيجَ وَحْدَتِهَا، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَبْدِيلٌ لَهَا بِالنِّقْمَةِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ فِي الدِّينِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ لِهَذِهِ، فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَصْلِ الْخِلَافِ فِي الدِّينِ مُنْذُ بَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ. جُمْلَةُ (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إِلَخْ. فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلَنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (18: 7) ابْتَلَاهُمْ فَغَرَّتْ أَقْوَامًا زِينَتُهَا، وَفَتَنَتْهُمْ بَهْجَتُهَا، فَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُمْ إِلَى الِاسْتِمَاعِ بِلَذَّاتِهَا، وَانْحَصَرَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الْوَسَائِلِ لِشَهَوَاتِهَا، وَمُسَابَقَةِ طُلَّابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ عِنْدَ أَرْبَابِهَا، وَمُزَاحَمَةِ الطَّارِقِينَ لِأَبْوَابِهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا سِعَةٌ لِطَلَبِ شَيْءٍ آخَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا لَهُمْ فِيهَا يَرْغَبُونَ، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، فَمَا بَالُكَ بِطَلَبِ الْحَقِّ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْحَقُّ يَنْعَى عَلَيْهِمْ إِسْرَافَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، وَيُطَالِبُهُمْ بِحُقُوقٍ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمْ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى يُزَعْزِعُ مِنْ سُكُونِهِمْ إِلَى لَهْوِهِمْ، وَيَغُضُّ شَيْئًا مِنْ تَعَالِيهِمْ فِي زَهْوِهِمْ، بَلْ يُكَدِّرُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ صَفْوِهِمْ، وَيَقِفُ بِهِمْ دُونَ شَأْوِهِمْ. وَمَنْ

لَمْ يَطْلُبِ الْحَقَّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِخْلَاصٍ وَإِنْصَافٍ لَا يَجِدُهُ وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ أَهْلِهِ، وَأَنَّى لِلْمَفْتُونِينَ بِالزِّينَةِ الْإِخْلَاصُ وَالْإِنْصَافُ؟ ! أَقُولُ: وَثَمَّ أَقْوَامٌ آخَرُونَ نَظَرُوا إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا كَمَا أَمَرَ اللهُ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ. وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهَا نِعْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَنْتَفِعُ بِهَا، وَيَشْكُرُ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَيَتَّبِعُ شَرْعَهُ فِيهَا بِالْقَصْدِ وَاجْتِنَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَذَكُّرِ الدُّعَاءِ بِحَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ، وَلَا تَنْسَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ إِيمَانًا إِذْعَانًا وَانْقِيَادًا، بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، لَا الْمُشْرِكُونَ أَوِ الْكَافِرُونَ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ كَالَّذِينِ لَا يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَعْنِي بِالْمُؤْمِنِينَ النَّاجِينَ طَائِفَةً يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَصِفُونَهَا بِالْإِيمَانِ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ أُولَئِكَ الْمُوقِنِينَ بِمَا عِنْدَ اللهِ، الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَقَّ عَلَى كُلِّ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَإِذَا عَثَرَ أَحَدُهُمْ فَعَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ يَتُوبُ مِنْ قَرِيبٍ. وَانْظُرْ سَائِرَ مَا عَرَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ يَظْهَرُ لَكَ هَذَا. وَأَظْهَرُ أَوْصَافِ الْكَافِرِ أَنْ تَكُونَ زِينَةُ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، يُؤْثِرُهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِنَّ أَمْرَ الدِّينِ لَا يُزَحْزِحُهُ عَنْ شَيْءٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ وَمَتَاعِهَا بِلَا مَعَارِضٍ مِنَ الدُّنْيَا، كَحَاكِمٍ يَزِعُ أَوْ إِهَانَةٍ تُتَوَقَّعُ; لِأَنَّهُ لَا يَقِينَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى دِينٍ فَمَا دِينُهُ إِلَّا تَقَالِيدٌ وَعَادَاتٌ، وَخَوَاطِرُ تَتَنَازَعُهَا الشُّبُهَاتُ، وَتَتَجَاذَبُهَا الشُّكُوكُ وَالتَّأْوِيلَاتُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ تَقْلِيدًا بِأَنَّ هُنَالِكَ آخِرَةً فِيهَا نَعِيمٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ مِلَّتِهِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا وَصَفَ اللهُ الْكَافِرِينَ، وَضِدَّ مَا نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَرِيبًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحِمَتِهِ) (57: 28) إِلَخْ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْكُفْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ لِلْإِيمَانِ - كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ - إِطْلَاقَيْنِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ الْمُذْعِنِ لِلْعَمَلِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُصَدِّقُ تَقْلِيدًا بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا أَرْسَلَ رُسُلًا وَيَنْتَسِبُ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ فِي إِيمَانِهِ، وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ، وَحُسْنِ اتِّبَاعٍ لِنَبِيِّهِ، بَلْ هُوَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُونَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ كَافِرِينَ، وَذَكَرَ مِنْ عَلَامَتِهِمُ الِافْتِتَانَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهُمْ

يَعُدُّونَ الْكِيَاسَةَ الِانْغِمَاسَ فِي نَعِيمِهَا، وَيَرَوْنَ الْفَضْلَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ فُضُولِهَا (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إِيمَانًا حَقِيقِيًّا يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ - يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَائِهِمْ; لِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ زِينَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ مِنَ اللهِ مَغْبُوطِينَ بِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ بِالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَغْنِيَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَوَّقُونَ فِي النَّعِيمِ، بَلْ يَرَوْنَ الْكِيَاسَةَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِتَرْقِيَةِ النَّفْسِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَأَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَعُدُّونَ الْفَضْلَ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَخِدْمَةِ الْأُمَّةِ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ عَلَى الْعَاجِزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَكُلَّمَا أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ دِرْهَمًا عَدَّهُ أُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئُونَ مَغْرَمًا. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى هَؤُلَاءِ السَّاخِرِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ فِي زِينَتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ فِي نَزَاهَتِهِمْ وَتُقَاتِهِمْ: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَإِذَا اسْتَعْلَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الْفَانِيَةِ بِمَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَالْمَالِ والسُّلْطَانِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْهُمْ مَقَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الْعَلِيَّةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَلَمْ يَقُلْ: وَالَّذِينَ آمَنُوا فَوْقَهُمْ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا وَنُشِّئُوا بَيْنَ قَوْمٍ يُدْعَوْنَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَاللهُ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِدَادَ بِالْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا إِذَا صَحِبَتْهُ التَّقْوَى، وَكَانَتْ أَثَرًا لَهُ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) (19: 63) وَ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (3: 133) وَ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) (5: 93) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِيهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اللَّقَبِ وَالْجِنْسِيَّةِ، أَوْ بَعْضِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي النَّفْسِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مِثْلِهَا، وَإِذَا قِيلَ لِعُظَمَائِهِمْ فِيهَا وَاحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِهَا طَفِقُوا يُحَرِّفُونَ وَيُؤَوِّلُونَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ. أَوْ يَقُولُونَ: هَكَذَا شُيُوخُنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ مُقَلِّدُونَ، وَهَؤُلَاءِ الدَّاعُونَ إِلَى الْكِتَابِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ; لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ فِي الدِّينِ، وَقَدْ أَقْفَلَ عُلَمَاؤُنَا بَابَهُ مُنْذُ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ. ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَمْتَازُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي عَلَى الْكَافِرِ الْقَائِمِ بِتَبْدِيلِ النِّعْمَةِ وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ - وَهُوَ الْعُلُوُّ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا أَنَّ رِزْقَ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا لَيْسَ خَاصًّا فِيهَا بِتَقِيٍّ وَلَا شَقِيٍّ، بَلْ هُوَ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ الْمَرْءُ وَلَا يَحْتَسِبُ فَقَالَ: (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الْحِسَابُ: التَّقْدِيرُ; أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ لَهُ عَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ السَّعَةِ وَعَدَمِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، كَقَوْلِهِمْ: يُنْفِقُ فُلَانٌ بِغَيْرِ حِسَابٍ; أَيْ: يُنْفِقُ كَثِيرًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَذَلَ الْعَطَاءَ فِي الدُّنْيَا لِكُلِّ أَحَدٍ بِخَلْقِ الْأَرْزَاقِ وَإِقْدَارِ النَّاسِ عَلَى الْكَسْبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ، فَهُوَ الَّذِي

خَلَقَ وَرَزَقَ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةِ أَحَدٍ وَلَا مُرَاجَعَتِهِ، وَقَدْ بَسَطَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (17: 18 - 21) فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ السَّعْيَ لِرِزْقِ الدُّنْيَا; لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِلَا سَعْيٍ كَإِرْثٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَكَنْزٍ، أَوِ ارْتِفَاعٍ لِأَثْمَانِ مَا يَمْلِكُ مِنْ عَقَارٍ وَعُرُوضٍ بِأَسْبَابٍ عَامَّةٍ، وَاشْتَرَطَ لِلْآخِرَةِ السَّعْيَ مَعَ الْإِيمَانِ، كَمَا خَصَّهَا هُنَا بِالَّذِينِ اتَّقَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَطَاءَهُ وَاسِعٌ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ فِيهِ حَظْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَلِلْمُشَمِّرِ تَشْمِيرُهُ، وَعَلَى الْمُقَصِّرِ تَقْصِيرُهُ، وَفِي الْحِسَابِ هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ الِاحْتِسَابُ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (65: 2، 3) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرِّزْقَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَعْيٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ ; فَإِنَّكَ تَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَبْرَارِ وَكَثِيرًا مِنَ الْفُجَّارِ أَغْنِيَاءَ مُوسِرِينَ مُتَمَتِّعِينَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ، وَكَثِيرًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فُقَرَاءَ مُعْسِرِينَ، وَالْمُتَّقِي يَكُونُ دَائِمًا أَحْسَنَ حَالًا وَأَكْثَرَ احْتِمَالًا وَمَحَلًّا لِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، فَلَا يُؤْلِمُهُ الْفَقْرُ كَمَا يُؤْلِمُ الْفَاجِرَ، فَهُوَ يَجِدُ بِالتَّقْوَى مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ ضَيِّقٍ، وَيَجِدُ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ رِزْقًا غَيْرَ مُحْتَسَبٍ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَأَمْرُهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَرَوْنَهَا فَقِيرَةً ذَلِيلَةً مُعْدَمَةً مَهِينَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُتَّقِيَةً لِأَسْبَابِ نِقَمِ اللهِ وَسَخَطِهِ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ وَشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَ الْأُمَّةَ الْعِزَّةَ وَالثَّرْوَةَ، وَالْقُوَّةَ وَالسُّلْطَةَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ وَلَا تُقَدِّرُ، وَلَا تَعْمَلُ وَلَا تُدَبِّرُ، بَلْ يُعْطِيهَا بِعَمَلِهَا، وَيَسْلُبُهَا بِزَلَلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرَّةٍ وَتَقَدَّمَ التَّفْسِيرُ، وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) فَجَعَلَ وُقُوعَ الظُّلْمِ سَبَبًا فِي وُقُوعِ الْبَلَاءِ عَلَى الْأُمَّةِ مَنْ ظَلَمَ مِنْهَا وَمَنْ لَمْ يَظْلِمْ، وَمِنَ الظُّلْمِ تَرْكُ مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ حَتَّى يَفْشُوَ وَيَكُونَ لَهُ السُّلْطَانُ الَّذِي يَذْهَبُ بِكُلِّ سُلْطَانٍ، وَكَقَوْلِهِ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (8: 46) وَلَأَجْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (8: 60) وَلَا قُوَّةَ مَعَ الْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ; وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا تَعَالَى بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَمَنْحَنَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَاتِ الْكَافِيَةَ، وَضَرَبَ لَنَا الْأَمْثَالَ، وَتَوَعَّدَنَا بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْوَعِيدِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ فِي الْبَشَرِ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَقَالَ:

213

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يَقُولُ الْمُؤَلِّفُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا: كَتَبَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِاقْتِرَاحٍ مِنِّي، وَأَنَا الَّذِي وَضَعْتُ الْأَرْقَامَ لِلسُّورِ وَالْآيَاتِ فِي شَوَاهِدِ مَا كَتَبَهُ وَهَذَا نَصُّهُ: - تُطْلَقُ الْأُمَّةُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، أَيِ الْعَقَائِدُ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةٍ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (21: 92) بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ جَمَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (23: 51، 52) رَجَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمِلَّةُ; أَيِ: الْعَقَائِدُ وَأُصُولُ الشَّرَائِعِ; أَيْ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَرُسُلَ اللهِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَدِينٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ) (3: 19) وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْأُمَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِمَّنْ خَلَقَنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (7: 181) أَيْ: جَمَاعَةٌ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3: 104) وَلَا تَكُونُ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَرْبِطُهُمْ رَابِطَةُ اجْتِمَاعٍ يُعْتَبَرُونَ بِهَا وَاحِدًا، وَتُسَوِّغُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمٌ وَاحِدٌ كَاسْمِ الْأُمَّةِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى السِّنِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) (11: 8) وَفِي قَوْلِهِ: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (12: 45) وَبِمَعْنَى الْإِمَامِ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) (16: 120) وَبِمَعْنَى إِحْدَى الْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (3: 110) وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا خَصَّصَهُ الْعُرْفُ تَخْصِيصًا.

وَقَدْ حَمَلَ جُمْهُورٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَفْظَ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمِلَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَ كَانَتِ الْمِلَّةُ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّهَا مِلَّةُ الْهُدَى وَالدِّينِ الْقَوِيمِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي رَأْيِهِمْ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً) أَيْ: مِلَّةً (وَاحِدَةً) قَيِّمَةَ الدِّينِ صَحِيحَةَ الْعَقَائِدِ، جَارِيَةً فِي أَعْمَالِهَا عَلَى أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وَلَمَّا وَجَدُوا أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَكُونُ قَوِيمًا; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ الصَّالِحَةِ الْمُهْتَدِيَةِ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، إِذْ لَا يَتَأَتَّى الِاخْتِلَافُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي رَفْعِهِ إِلَى رِسَالَةِ الرُّسُلِ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْعَمَلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي الْعِبَارَةِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَقُولَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَا كَانَ نَسِيَهُ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، أَوْ كَانَ عَامِلًا فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ مَنْ يَعِظُهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى مَا تَرَكَ مِنْ عَمَلِهِ، وَتَقُولُ: إِنَّ كَلَامِي عَلَى تَقْدِيرِ كَانَ عَالِمًا فَنَسِيَ أَوْ كَانَ عَامِلًا فَتَرَكَ الْعَمَلَ فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ أَوْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ إِلَخْ. وَهُوَ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ ذَوْقٌ عَرَبِيٌّ، فَإِذَا كُنْتَ لَا تَرَاهُ لَائِقًا بِكَلَامِكَ فَكَيْفَ تَجِدُهُ لَائِقًا بِكَلَامِ اللهِ أَبْلَغِ الْكَلَامِ، وَأَوْلَى قَوْلٍ يَمْلِكُ الْعُقُولَ وَالْأَفْهَامَ؟ ! وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَبِيًّا وَكَانَ أَوْلَادُهُ عَلَى مِلَّتِهِ هَادِينَ إِلَى أَنْ وَقْعَ التَّحَاسُدَ بَيْنَ وَلَدَيْهِ، وَكَانَ مِنْ قَتْلِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ مَا يَنْحَرِفُ بِهِ عَنِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَحَكُّمِ الْأَهْوَاءِ، وَإِغْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَرَيْنِ الشُّبُهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا رَيْبَ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ طَوْرٌ أَوَّلُ، كَانَ فِيهِ خَيْرًا عَادِلًا وَاقِفًا عِنْدَ الْحَقِّ فِيمَا يَعْتَقِدُ وَمَا يَعْمَلُ، ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَا يُعْرَضُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الشَّرِّ وَالْقَبِيحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مُخْتَصًّا بِتَأْلِيفِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَى أَوْلَادِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ أَطْوَارٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَ بِهِمُ الْجَهْلُ فِي بَعْضِهَا أَنْ كَانُوا مِلَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ لِعَهْدِ نُوحٍ وَعَهْدِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْآيَةُ لَمْ تُحَدِّدْ زَمَنَ ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) ، وَغَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّونَ الْمَبْعُوثُونَ مَخْصُوصِينَ بِغَيْرِ آدَمَ أَوْ نُوحٍ مَثَلًا إِذَا حَمَلْتَ الْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ عَلَى أُمَّةِ الضَّلَالِ، وَمِلَّةِ الْفَسَادِ وَالِاعْتِلَالِ. وَلِذَلِكَ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ إِلَى أَنَّ الْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ أُمَّةُ الضَّلَالِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي بِحَقٍّ وَلَا تَقِفُ فِي أَعْمَالِهَا عِنْدَ حَدِّ شَرِيعَةٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِهَذَا التَّعَقُّبِ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ تَابِعَةً لِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ تِلْكَ الْوَحْدَةُ قَاضِيَةً بِالْحَاجَةِ إِلَى إِرْسَالِهِمْ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِي الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِمْ بِسَبَبِ الْفَسَادِ فِي الْعَقَائِدِ وَالذَّهَابِ مَعَ الْأَهْوَاءِ الضَّالَّةِ فِي الْأَعْمَالِ، وَاعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِذَلِكَ،

وَانْتِهَاكِهِمْ حُرْمَةَ مَا أَمَرَ اللهُ بِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَحْدَةُ الْأُمَّةِ وَحْدَةً فِي الْبَاطِلِ حَتَّى يَرِدَ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَيُزْهِقَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتِ الْأُمَّةُ وَاحِدَةً فِي الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ فَلَا مَعْنَى لَجَعْلِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ مُتَرَتِّبَةً عَلَيْهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَدَفَعُوا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ مَنْ بَقِيَ عَلَى شَرِيعَتِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْبَاطِلِ؟ (دَفَعُوهُ) بِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَالِبِ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ لِعَهْدِ نُوحٍ كُفَّارًا إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ يُقَالُ دَارُ كُفْرٍ لِمَنْ كَانَ أَغْلَبُ سُكَّانِهَا كُفَّارًا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ، وَقَدْ يُجَابُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَخْصِيصِ النَّبِيِّينَ بِمَا بَعْدَ آدَمَ وَنُوحٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى كَمَا تَرَاهُ لَيْسَ مِمَّا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى آدَمَ وَرِسَالَتِهِ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِهِ عَلَى مِلَّتِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ كَانَتْ فِيمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْأَخْذِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، فَكَانَ النَّاسُ يَهْتَدُونَ بِعُقُولِهِمْ وَالنَّظَرِ الْمَحْضِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ شُكْرِهِ، ثُمَّ كَانُوا يُمَيِّزُونَ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْبَاطِلَ مِنَ الصَّحِيحِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، أَوِ الِاتِّفَاقِ مَعَ مَا يَلِيقُ بِاللهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ أَوْ مَا لَا يَلِيقُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اسْتِسْلَامَ النَّاسِ إِلَى عُقُولِهِمْ بِدُونِ هِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ مِمَّا يَدْعُو إِلَى الِاخْتِلَافِ، بَلْ كَثِيرًا مَا حَالَتِ الْأَوْهَامُ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ مَفْهُومًا مِنْ مَعْنَى الْوَحْدَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَا سَبَقَهُ; وَلِهَذَا رَتَّبَ عَلَيْهَا بَعْثَةَ الْأَنْبِيَاءِ لِيَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ مَسْأَلَةَ آدَمَ وَرِسَالَتِهِ، وَأَجَابَ عَنْهَا بِأَنَّهُ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَأَوْلَادُهُ قَدْ بَدَأَ أَمْرُهُمْ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ كَثُرَ أَوْلَادُهُ، وَظَهَرَ أَنَّ هِدَايَةَ الْعَقْلِ وَحْدَهُ لَا تَكْفِي فِي حِفْظِ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ، وَلِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ بَلْ يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّهُ طَرَأَ عَلَى نَسْلِ آدَمَ مَا أَنْسَاهُمْ شَرْعُهُ فَعَادُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَحْدَهَا فَعَادَتْ إِلَيْهِمُ الْوَحْدَةُ فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَافِ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ إِلَخْ. وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةَ هِدَايَةٍ أَوْ أُمَّةَ ضَلَالٍ أَوْ أُمَّةَ عَقْلٍ، وَهُوَ قَوْلٌ غَايَةٌ فِي الْغَرَابَةِ; لِأَنَّهُ ذَهَابٌ إِلَى تَرْكِ فَهْمِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَعْنَى تَرْتِيبِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، اللهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ قَدْ أَرَادَ مَا سَيَأْتِي لَنَا ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ النَّاسَ هُمْ آدَمُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ كَانَ أُمَّةً يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا نَدْرِي مَاذَا يَقُولُ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَةِ! نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.

وَيَزْعُمُ آخَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ: أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَأُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِكُتُبٍ تُهَذِّبُهُمْ، كَمَا أُرْسِلَ دَاوُدُ بِزَبُورِهِ وَعِيسَى بِإِنْجِيلِهِ لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلنَّاسِ وَلِلنَّبِيِّينَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ ابْنُ الْعَادِلِ نَقْلًا عَنِ الْقُرْطُبِيِّ: وَلَفْظَةُ (كَانَ) عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمُضِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلثُّبُوتِ، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمُ الْجِنْسُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ وَجَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ، لَوْلَا أَنَّ اللهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ تَفَضُّلًا مِنْهُ فَلَا تَخْتَصُّ بِالْمُضِيِّ فَقَطْ، بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (4: 152) اهـ. وَقَدْ قَارَبَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ الذِّهْنُ إِلَيْهِ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ لَوْلَا مَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الضُّرُوبِ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَتَفَرَّقَ بِهِ السُّبُلُ وَيَكَادُ يَضِلُّ السَّبِيلَ، وَنَحْنُ ذَاكِرُونَ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ مَا يُجْلِي الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مُقْتَفِينَ أَثَرَ ابْنِ الْعَادِلِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِيمَا قَالَاهُ فِي مَعْنَى (كَانَ) وَأَنَّهَا لِلثُّبُوتِ لَا لِلْمُضِيِّ، غَيْرَ أَنَّا نُقَدِّمُ لَكَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ وَصْفِ الْأُمَّةِ بِالْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي مَوَاضِعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ; لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَوْضِيحٌ لِمَا نَقْصِدُ، وَسَنَدٌ لَنَا فِيمَا إِلَيْهِ نَعْمِدُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ. وَرَدَ وَصْفُ الْأُمَّةِ بِالْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (21: 92، 93) جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) إِلَخْ، بَعْدَ ذِكْرِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَا كَانَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ مَعَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقَوْنِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (23: 51 - 53) وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ (أُمَّةً) بِالنَّصْبِ فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَالْخَبَرُ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) أَيْ: هَذَا الْجَمْعَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أُمَّتُكُمْ، أَيْ: جَمَاعَتُكُمْ حَالَ أَنَّهَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ: لَيْسَ جَمْعًا تَرْبِطُهُ الرَّوَابِطُ الْبَعِيدَةُ، كَمَا يُقَالُ أُمَّةُ الْهِنْدِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهَا وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهَا، بَلْ هِيَ أُمَّةٌ تَرْبِطُهَا رَابِطَةٌ قَرِيبَةٌ هِيَ رَابِطَةُ الِاهْتِدَاءِ بِنُورِ اللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَالْقِيَامِ عَلَى شَرْعِهِ وَحِمْلِ النَّاسِ عَلَى اتِّبَاعِ أَحْكَامِهِ، فَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ هُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ; فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْأُمَّةَ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ، يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُخْبِرُ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي سَبَقَ فِي الْكَلَامِ مِنَ السَّيْرِ فِي النَّاسِ بِهِدَايَةِ اللهِ وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبٍ أَوْ تَثْرِيبٍ أَوْ تَعْذِيبٍ، هَذِهِ هِيَ مِلَّتُكُمْ

وَدِينُكُمْ وَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، يَأْتِي بِهِ السَّابِقُ وَيَتِّبِعُهُ عَلَيْهِ اللَّاحِقُ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ نَبِيٌّ عَنْ نَبِيٍّ وَلَا يُنَاكِرُ فِيهِ مُرْسَلٌ مُرْسَلًا. هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْوَحْدَةِ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (11: 118، 119) وَفِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (42: 8) أَيْ: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَخَلَقَ النَّاسَ عَلَى غَرِيزَةٍ تَمِيلُ إِلَى الْحَقِّ، وَفِطْرَةٍ يَسْطَعُ فِيهَا نُورُ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ بِدُونِ حِجَابٍ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ أَوْ ظُلْمَةِ الْفِكْرِ وَسِتْرِ الْغِوَايَةِ، فَكَانُوا جَمِيعًا عَلَى مِثَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَسُكَّانِ دَارِ النَّعِيمِ، وَلَكِنْ قَضَى رَبُّكَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا يَكِلُهُ إِلَى فِكْرِهِ، وَيَدَعُهُ إِلَى سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ، فَلَا يَزَالُ يَتَخَبَّطُ فِي الِاخْتِلَافِ، وَسَيَجُرُّهُمُ الِاخْتِلَافُ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ بَعْدَ الْخِزْيِ فِي دَارِ الْفَنَاءِ، إِلَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ رَحِمَهُمْ رَبُّكَ مِنْ هُدَاةِ الْعَالَمِينَ، وَقَادَةِ النَّاسِ إِلَى خَيْرِ الدَّارَيْنَ، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِسُنَّتِهِمْ، فَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ بَعْدَ مَا شَمِلَ الظَّالِمِينَ بِسَخَطِهِ وَنِقْمَتِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطُّ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الْخَيْرِ وَالْهُدَى; لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى غَرِيزَةٍ تَبْعُدُ بِهِ عَنِ الِاتِّحَادِ عَلَى الْحَقِّ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَدْلِ، وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الضَّلَالِ كَمَا تَرَاهُ مِنْ صَرِيحِ النَّسَقِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ النَّاسُ - وَلَا يَزَالُونَ - مِنْهُمُ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، وَالْمُهْتَدِي وَالضَّالُّ، سُنَّةُ اللهِ فِي هَذَا الْخَلْقِ. لَكِنَّكَ تَجِدُ فِي سُورَةِ يُونُسَ نَصًّا صَرِيحًا فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَاءَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (10: 19) وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْمِلَ (كَانَ) عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الْمُضِيِّ; لِأَنَّ الْحَصْرَ يُبْعِدُ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَنَشَأَ عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ نَفْسِهَا اخْتِلَافُهُمْ، وَكَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ يَقْضِي فِي الْخِلَافِ بِإِهْلَاكِ مَنْ يَنْحَرِفُ مِنْهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ فَلَا يَبْقَى مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ وَثَبَتَ فِي عِلْمِهِ وَتَمَّ فِي مَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِمْ كَاسِبِينَ لِسَعْيِهِمْ، مُكَلَّفِينَ بِالنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي وَالْعَادِلُ وَالْمُعْتَدِي حَتَّى يُوَفِّيَ كُلًّا جَزَاءَهُ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى; وَلِهَذَا بَعَثَ فِيهِمُ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَكُونُوا لَهُمْ أَئِمَّةً فِي الْإِيمَانِ وَأُسْوَةً فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فَهَلْ يُمْكِنُكَ مَعَ هَذَا أَنْ تَحْمِلَ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ عَلَى وَحْدَةِ الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ، كَمَا حَمَلْتَهَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْأُخَرِ؟ لَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْكِنٍ; لِأَنَّ النَّاسَ لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بِذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ ذَلِكَ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ أُمَّةً وَاحِدَةً; أَيْ: مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمَعَاشِ لَا يَسْهُلُ عَلَى أَفْرَادِهِ أَنْ يَعِيشُوا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمْ إِلَّا مُجْتَمِعِينِ يُعَاوِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعِيشُ وَيَحْيَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، لَكِنَّ قُوَاهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ تَوْفِيَتِهِ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ قُوَى الْآخَرِينَ إِلَى قُوَّتِهِ فَيَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، كَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي بَعْضِ شَأْنِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: (الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ) يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُوهَبْ مِنَ الْقُوَى مَا يَكْفِي لِلْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِ حَاجَاتِهِ، بَلْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَةُ أَفْرَادِهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ مَنْزِلَةَ الْعُضْوِ مِنَ الْبَدَنِ، لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إِلَّا بَعَمَلِ الْأَعْضَاءِ، كَمَا لَا تُؤَدِّي الْأَعْضَاءُ وَظَائِفَهَا إِلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَنِ. فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا بِمُقْتَضَى فِطَرِهِمْ إِلَّا كَذَلِكَ، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى آرَائِهِمْ، وَيَنْحَوْنَ فِي أَعْمَالِهِمْ نَحْوَ الْمَنَافِعِ الَّتِي يُرَوْنَهَا لَازِمَةً لِقِوَامِ مَعِيشَتِهِمْ، وَلَنْ يُمْنَحُوا مِنْ قُوَّةِ الْإِلْهَامِ مَا يُعَرِّفُ كُلًّا مِنْهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي حِفْظِ حَقِّ غَيْرِهِ، لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ، لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَتَرْتِيبُ بَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعِيشُوا تَحْتَ نِظَامٍ وَاحِدٍ يَكْفُلُ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَضْمَنُ لَهُمْ مَا بِهِ يَسْعَدُونَ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْكِنُهُمْ فِي هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَمَعَ تِلْكَ الْوَصْلَةِ اللَّازِمَةِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ النِّظَامِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِطَرِ وَتَفَاوُتِ الْعُقُولِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْإِلْهَامِ الْهَادِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، يُبَشِّرُونَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا لَزِمَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حُدِّدَ لَهُ وَاكْتَفَى بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَعْتَدِ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ بِخَيْبَةِ الْأَمَلِ وَحُبُوطِ الْعَمَلِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذَا اتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمُ الْحَاضِرَةَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْعَاقِبَةِ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَتْ بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيمَا سَبَقَهَا مِنَ الْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ السَّمَاوِيَّةِ. أَمَرَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ السَّلَامُ، وَعَلَى أَحَدِهَا الْإِسْلَامُ، وَالسَّلَامُ: هُوَ الْوِفَاقُ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِزَاعٌ، وَلَا يَلِيقُ بِمَنْ جَاءَتْهُ الْهِدَايَةُ مِنْ رَبِّهِ، تُبَيِّنَ لَهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَسْلُكُهُ فِي مُعَامَلَةِ إِخْوَانِهِ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُ بِرَابِطَةٍ بَعِيدَةٍ

أَوْ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَنْ يَنْحُوَ فِي عَمَلِهِ نَحْوَ مَا يَدْعُو إِلَى الْخِلَافِ وَيُثِيرُ النِّزَاعَ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَمَا حَدَّدَتْهُ هِدَايَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَالسَّنَنِ النَّبَوِيِّ، وَالْإِسْلَامُ كَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى السَّلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ مَا يَقَعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْرِمُهُمْ حِيطَةَ النِّظَامِ فَقَالَ: (زُيِّنَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ: إِنَّ جَاحِدَ الْحَقِّ وَالْمُعْرِضَ عَنْ هِدَايَةِ اللهِ لَهُ الَّتِي يَسُوقُهَا إِلَيْهِ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِي عَمَلِهِ إِلَى مَا يُوَفِّرُ عَلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهُوَ لَا يَسْعَى إِلَّا إِلَى لَذَّةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى عَاقِبَةٍ آجِلَةٍ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ كَانَ أَمْرُهُ اخْتِلَافًا وَشِقَاقًا وَرِيَاءً وَنِفَاقًا. ثُمَّ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ ضَرُورِيٌّ لِلْبَشَرِ، وَأَنَّهُ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ مَهْمَا بَلَغُوا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَضَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَرْتَبِطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا سَبِيلَ لِعُقُولِهِمْ وَحْدَهَا إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يَلْزَمُ لَهُمْ فِي تَوْفِيرِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَيَّدَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى إِثَابَتِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ، الْعَالِمِ بِمَا يَخْطِرُ فِي ضَمَائِرِهِمُ، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ سَرَائِرِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ بَعْدَ وَصْفِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبْشِيرَ وَالْإِنْذَارَ عَمَلٌ يَسْبِقُ إِنْزَالَ الْكُتُبِ وَهُوَ حَقٌّ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَوَّلَ مَا يُبْعَثُونَ يُنَبِّهُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ عَاقِبَةَ مَا يَكُونُونَ فِيهِ مِنْ عَادَةٍ سَيِّئَةٍ أَوْ خَلْقٍ قَبِيحٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ، فَإِذَا تَهَيَّأَتِ الْأَذْهَانُ لِقَبُولِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ، أَنْزَلَ اللهُ الْكُتُبَ لِبَيَانِ مَا يُرِيدُ حَمْلَ النَّاسِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ صَالِحٌ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) وَعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ كِتَابًا - مُعْجِزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعْجِزٍ طَوِيلًا كَانَ أَوْ قَصِيرًا - دُوِّنَ وَحُفِظَ لِيُؤَدَّى مِنْ سَلَفٍ إِلَى خَلَفٍ، وَقَوْلُهُ: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) قَرَأَ يَزِيدُ - بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ يَزِيدَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ مَعَ النَّبِيِّينَ بِالْحَقِّ; أَيْ: مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ بِهِ مِمَّا هُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْوَاقِعِ، وَبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا هُوَ صَالِحٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ; لِيَقَعَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْحَاكِمُ: هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَالْمُرْشِدُ إِلَى صَحِيحِ الْعَقَائِدِ عَلَى مُقْتَضَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ النَّازِلِ بِالْحَقِّ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا يَنْطَبِقُ عَلَى نُصُوصِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا الْحَاكِمُونَ. أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَالْحُكْمُ مُسْنَدٌ إِلَى الْكِتَابِ نَفْسِهِ، فَالْكِتَابُ ذَاتُهُ هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ

بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَى الْحَاكِمِينَ بِالْكِتَابِ أَنْ يَلْزَمُوا حُكْمَهُ وَأَلَّا يَعْدِلُوا عَنْهُ إِلَى مَا تُسَوِّلُهُ الْأَنْفُسُ وَتُزَيِّنُهُ الْأَهْوَاءُ; فَإِنَّ الْكِتَابَ نَفْسَهُ هُوَ الْحَاكِمُ وَلَيْسَ الْحَاكِمُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَلَوْ سَاغَ لِلنَّاسِ أَنْ يُؤَوِّلُوا نَصًّا مِنْ نُصُوصِ الْكُتُبِ عَلَى حَسَبِ مَا تَنْزِعُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِدُونِ رُجُوعٍ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ، وَبِنَاءِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِهَا جُمْلَةً لَمَا كَانَ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ فَائِدَةٌ، وَلَمَا كَانَتِ الْكُتُبُ فِي الْحَقِيقَةِ حَاكِمَةً بَلْ تَتَحَكَّمُ الْأَهْوَاءُ، وَتُذْهِبُ النُّفُوسَ مَنَازِعُ شَتَّى، فَيَنْضَمُّ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنَافِعِ اخْتِلَافٌ آخَرُ جَدِيدٌ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي ضُرُوبِ التَّأْوِيلِ، وَبِنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا عَلَى مَا نَزَعَ، فَتَعُودُ الْمَصْلَحَةُ مَفْسَدَةً، وَيَنْقَلِبُ الدَّوَاءُ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ تَعَالَى الْحُكْمَ إِلَى الْكِتَابِ نَفْسِهِ لَا إِلَى هَوَى الْحَاكِمِ بِهِ وَقَالَ: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ تَابِعًا لِتِلْكَ الْوَحْدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فَكَانَ كَأَنَّهُ لَازِمٌ لَهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا يُبَيِّنُهُ تَارِيخُ الْبَشَرِ وَمَا تَوَارَثُوهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَكَمَا يَقْضِي فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يَقْضِي فِيمَا يَخْتَلِفُونَ بِهِ مِنْ بَعْدُ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ هِيَ كَنِسْبَةِ النُّطْقِ وَالْهُدَى وَالتَّبْشِيرِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) (45: 29) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) (17: 9) وَكَنِسْبَةِ الْقَضَاءِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَالسِّرُّ فِي التَّجَوُّزِ هُوَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللهِ; أَيْ: أَنْزَلَ اللهُ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ يُشْعِرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللهُ دُونَ آرَاءِ الْبَشَرِ وَظُنُونِهِمُ الَّتِي لَا تَرِدُ إِلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ النَّاسَ بِحُكْمِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَضَرُورَةِ اشْتِبَاكِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ عُرْضَةٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ; لِأَنَّ عُقُولَهُمْ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ جَامِعَتَهُمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي الْمَآبِ، فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي (فِيهِ) إِلَى الْحَقِّ فَلَا يُقَالُ وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْحَقِّ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ قَبْلَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ الْأُولَى، وَلَا أَعْجَبَ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ النَّقْصَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَمَّا فَيِمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ، فَكَأَنَّ رَذِيلَةَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ لَمْ تَقَعْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَّا بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَوْلُ بِمِثْلِهِ مِنْ أَغْرَبِ مَا يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ دِينٍ مَا، فَمَا بَالُكَ بِهِ إِذَا صَدَرَ عَنْ مُسْلِمٍ! ! وَالْحُقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) يَعُودُ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عَسَاهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي جَامِعَتِهِمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّخَالُفِ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ إِذَا تُرِكَتْ وَحْدَهَا،

وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْ هِدَايَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ؛ لِيَكُونُوا قُوَّادًا لِلْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَا بَالُ النَّاسِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَرْتَفِعُ مِنْ بَيْنِهِمْ ذَلِكَ الْخِلَافُ الَّذِي كَانَ يُخْشَى مِنْهُ إِفْسَادُ جَمَاعَتِهِمْ وَهَلَاكُ خَاصَّتِهِمْ؟ فَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالتَّوَسُّعِ فِي مَطَالِبِ الشَّهَوَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ لَدَيْهِمْ فِي ذَلِكَ آلَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَيْلِ مَطْلَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ سِوَى الْقُوَّةِ أَوِ الْحِيلَةِ، وَبَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ قَدِ انْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْآلَاتِ آلَةٌ أُخْرَى رُبَّمَا كَانَتْ أَقْوَى مِنْ سِوَاهَا وَهِيَ آلَةُ الْإِقْنَاعِ بِالْكِتَابِ، فَيَتَّخِذُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً مِنَ الْكِتَابِ أَوْ أَثَرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ وَسِيلَةً إِلَى تَسْخِيرِ غَيْرِهِ لِمَا يُرِيدُ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْأَثَرِ عَنْ بَقِيَّةِ مَا جَاءَ بِالْكِتَابِ وَالْآثَارِ الْأُخْرَى، وَلَيِّ اللِّسَانِ بِهِ وَتَأْوِيلِهِ بِغَيْرِ مَا قُصِدَ مِنْهُ، وَمَا هَمُّ الْمُؤَوِّلِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا يَقْصِدُ هُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَطْلَبٍ لِشَهْوَتِهِ، أَوْ عَضُدٍ لِسَطْوَتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْهِ هُدِمَتْ أَحْكَامُ اللهِ أَوْ قَامَتْ، وَاعْوَجَّتِ السَّبِيلُ أَوِ اسْتَقَامَتْ، ثُمَّ يَأْتِي ضَالٌّ آخَرُ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ هَذَا مَا نَالَ هَذَا مِنْ غَيْرِهِ، فَيُحَرِّفُ وَيُؤَوِّلُ حَتَّى يَجِدَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ وَيَتَّخِذَهُمْ عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ الْخَادِعِ الْأَوَّلِ، فَيَقَعُ الْخِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَآلَةُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْكِتَابُ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْغَابِرَةِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَبَيْنَ مَنْ سَبَقَهُمْ، وَبَيْنَ النَّصَارَى، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَمْ حُرُوبٌ وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَصَمَتْ ظُهُورَهُمْ، وَدَمَّرَتْ مَا كَانَ مِنْ قُوَاهُمْ، وَمَا كَانَ آلَةُ الْمُبْطِلِينَ فِي تِلْكَ الْمَشَاغِبِ إِلَّا دَعْوَى الدِّينِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَإِنَّهُمْ لَخَاطِئُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَلِمَةُ الدِّينِ وَدَعْوَى تَأْيِيدِ الْكِتَابِ إِلَّا وَسَائِلُ لِإِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ وَتَمْكِينِ الظَّالِمِ مِنَ السَّطْوَةِ. ثُمَّ هُنَاكَ دَاعٍ آخَرُ لِلْخِلَافِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْقَوْمِ فِي فَهْمِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ، فَكَلٌّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُعْتَقَدَ كَذَا، وَرُبَّمَا كَانَ حَسَنَ النِّيَّةِ فِيمَا يَقُولُ، وَيُعِدُّ الْمُخَالِفَ مُخْطِئًا فِيمَا يَزْعُمُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْهُمُ التَّعَصُّبُ لِرَأْيهِ، فَيَذْهَبُ حُسْنُ النِّيَّةِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى تَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ، وَتَقْرِيرِ الْمَشْرَبِ، بِدُونِ رِعَايَةٍ لِلدَّلِيلِ وَلَا نَظَرَ إِلَى الْبُرْهَانِ، فَلَمْ يَسْتَفِدِ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنُزُولِ الْكُتُبِ إِلَّا حُدُوثَ سَبَبٍ جَدِيدٍ لِلْخِلَافِ لَمْ يَكُنْ، وَإِلَّا مَوْضُوعًا لِلشِّقَاقِ كَانَ الْعَالَمُ فِي سَلَامَةٍ مِنْهُ، فَمَا فَائِدَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكَيْفَ يَمُنُّ اللهُ عَلَى النَّاسِ بِأَمْرٍ لَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا شَقَاءً، وَلَمْ يُكْسِبْ بَصَائِرَهُمْ إِلَّا عَمَاءً؟ ! أَرَادَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ فِيهِ فَقَالَ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) إِلَخْ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ غَرَائِزَ الْبَشَرِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَوْجِيهِ أَعْمَالِهِمْ

إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ هِدَايَةٍ أُخْرَى تَعْلِيمِيَّةٍ تَتَّفِقُ مَعَ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ لِنَوْعِهِمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، تِلْكَ الْهِدَايَةُ التَّعْلِيمِيَّةُ هِيَ هِدَايَةُ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَالْكُتُبِ الَّتِي يُنَزِّلُهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى عِصْمَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْكَذِبِ، وَعِصْمَةِ الْكُتُبِ مِنَ الْخَطَأِ، فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ وَالْعِصْمَةِ أَوَّلًا، وَسُطُوعُ الْأَدِلَّةِ يَحْمِلُ الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ حَتْمًا، فَإِذَا عَقَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَعْدِلُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَنْهُ، ذَلِكَ كَمَا وَهَبَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لِيَهْتَدُوا بِهِمَا إِلَى مَا يُوَفِّرُ لَهُمُ الْفَوَائِدَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْغَوَائِلَ، وَيَتَّقُوا بِهِمَا الْوُقُوعَ فِي الْمَكَارِهِ، وَكَمَا وَهَبَ لَهُمُ الْعَقْلَ لِيَهْتَدُوا بِهِ فِيمَا يَتْبَعُ الْأَعْمَالَ مِنَ الْعَوَاقِبِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى جُمْلَتِهَا وَمَجْمُوعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْهَا، لَا يُقْصِرُونَ نَظَرَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَغُضُّونَ بَصَرَهُمْ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ، ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حِكْمَةِ اللهِ فِي تَشْرِيعِ شَرِيعَتِهِ، وَوَضْعِ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَحِيدُونَ عَنْ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا كُتُبُهُ، بَلْ صَرَّحَتْ بِهَا نُصُوصُهَا لَا يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، حَتَّى يَتِمَّ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ بِهَا، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَمَلِ غَفْلَةٌ عَنْ فَائِدَتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ فَائِدَتِهِ انْصِرَافٌ عَنْ رُوحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا، غَيْرَ أَنَّ عَامَّةَ الْخَاطِئِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَصِلُوا إِلَى كُلِّ ذَلِكَ بِأَفْهَامِهِمْ عَلَى قِصَرِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْخَاصَّةِ الَّذِينَ قَدَّمَهُمُ الرُّسُلُ لِلنِّيَابَةِ عَنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوهُ، وَأَعْطَاهُمُ اللهُ الْكِتَابَ عَلَى أَنْ يُقَرِّرُوا مَا فِيهِ، وَيُرَاقِبُوا انْطِبَاقَ سَيْرِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِصْمَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَصْمَةِ إِثَارَةِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا لِإِسْعَادِ النَّاسِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ، لَا لِإِشْقَائِهِمْ وَتَمْزِيقِ شَمْلِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَهْمُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مُرْتَبِطًا بِفَهْمِ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، وَعَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِنَّمَا كَانَتْ إِلَى جُمْلَتِهِ، لَا إِلَى الْأَنْقَاضِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَتَعَدِّيًا لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَقَامَهَا حَوَاجِزَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْخِلَافُ دَاعِيَةُ الْبَغْيِ. إِنَّ الْحَبْرَ أَوِ الْكَاهِنَ أَوِ الْعَالِمَ أَوِ الرَّئِيسَ أَوْ أَيَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تُسَمِّيهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الدِّينِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهِ، الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الرُّسُلِ فِي حِفْظِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى صِيَانَتِهِ، الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَرَى الرَّأْيَ وَيَفْهَمُ الْفَهْمَ وَيَأْخُذُ الْحُكْمَ مَنْ نَصٍّ يَقِفُ عِنْدَهُ ذِهْنُهُ، أَوْ أَثَرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَآخَرُ يَرَى غَيْرَ مَا يَرَى، وَيَزْعُمُ وُصُولَ أَثَرٍ غَيْرِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّمْحِيصِ، وَتَخْلِيصِ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ هَوًى سِوَى الْمَيْلِ إِلَى تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَتَطْبِيقِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمَا ذَلِكَ

وَجَبَ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يَسْتَمِرَّ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْخَاصَّةِ وَيَسُودَ بِهِمْ بَيْنَ الْعَامَّةِ. لَكِنْ قَدْ يَشُوبُ طَلَبُ الْحَقِّ شَيْءٌ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي عِزَّةِ الرِّيَاسَةِ أَوْ مَيْلٍ مَعَ أَرْبَابِهَا أَوْ خَوْفٍ مِنْهُمْ أَوْ شَهْوَةٍ خَفِيَّةٍ فِي مَنْفَعَةٍ أُخْرَى فَيَلِجُ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الرَّأْيِ حَتَّى يَكُونَ شِقَاقٌ، وَيَحْدُثَ افْتِرَاقٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الشَّوْبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَلْحُوظٍ لِصَاحِبِهِ، بَلْ دَخَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فَهُوَ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى حَقِّ اللهِ فِي عِبَادِهِ أَوَّلًا، وَالْبَغْيِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّذِينَ جَاءَ الْكِتَابُ لِتَعْزِيزِ الْوِفَاقِ بَيْنَهُمْ ثَانِيًا، وَأَمَّا الْعَامَّةُ مِنَ النَّاسِ فَلَا جَرِيمَةَ لَهُمْ فِي هَذَا; وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) فَإِذَا كَانَ الرُّؤَسَاءُ قَدْ جَنَوْا هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ وَعَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ الْبَغْيِ الْخَاصِّ بِهِمْ، فَهَلْ هَذَا يَقْدَحُ فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ إِلَى مَا يَتَّفِقُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَيَرْتَفِعُ بِهِ النِّزَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؟ كَلَّا؛ فَقَدْ رَأَيْنَا كُلَّ دِينٍ فِي بَدْءِ نَشْأَتِهِ يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ وَيَجْمَعُ الْمُتَشَتَّتَ وَيَلِمُّ الشَّعَثَ وَيَمْحَقُ أَسْبَابَ الْخِلَافِ مِنَ النُّفُوسِ وَيُقَرِّرُ بَيْنَ الْآخِذِينَ بِهِ أُخُوَّةً لَا تُدَانِيهَا أُخُوَّةُ النَّسَبِ فِي شَيْءٍ، وَهَلْ يُؤْثِرُ الْأَخُ فِي النَّسَبِ أَخَاهُ بِمَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ؟ وَهَلْ يَبْذُلُ الْأَخُ النَّسَبِيُّ رُوحَهُ دُونَ أَخِيهِ وَيُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا آثَرَهُ بِالْمَالِ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَبْطَالِ؟ هَذَا شَأْنُ الدِّينِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ، مَعْرُوفٌ بِحَقِيقَتِهِ لِأَهْلِهِ، تُبَيِّنُهُ لِلنَّاسِ رُؤَسَاؤُهُ، وَيَمْشِي بِنُورِهِ فِيهِمْ عُلَمَاؤُهُ، لَا خِلَافَ وَلَا اعْتِسَافَ، وَلَا طُرُقَ وَلَا مَشَارِبَ، وَلَا مُنَازَعَاتٍ فِي الدِّينِ وَلَا مَشَاغِبَ. هَذَا هُوَ الدِّينُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي قَدَّرَ اللهُ أَنْ يَكُونَ هِدَايَةً لِلْبَشَرِ فَوْقَ الْهِدَايَاتِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُمْ مِنَ الْحَوَاسِّ وَالْعُقُولِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدِ بِهَا الَّذِينَ أُوتُوهَا وَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ، وَبَغَوْا بِالتَّأْوِيلِ، وَكَثْرَةِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، فَهَلْ يَمَسُّ ذَلِكَ جَانِبَهَا بِعَيْبٍ؟ مَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْتِيهِمُ اللهُ الْعَقْلَ ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا أُوتِيَ لِأَجْلِهِ؟ هَلْ تَنْقُصُ حَالُهُمْ هَذِهِ مِنْ مَنْزِلَةِ الْعَقْلِ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ؟ مَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ أَبْصَارٌ وَأَسْمَاعٌ وَلَكِنْ يَخْبِطُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي سَيْرِهِ فَلَا يَسْتَعْمِلُ بَصَرَهُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَسِيرُ فِيهَا، أَوْ فِي وِقَايَةِ رِجْلَيْهِ مِنَ الشَّوْكِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، أَوِ التَّبَاعُدِ عَنْ حُفْرَةٍ يَتَرَدَّى فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ نَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ تَقِيهِ مِنَ التَّهْلُكَةِ لَوْ وَجَّهَهَا نَحْوَهَا، وَقَدْ يَسْمَعُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُ بِالْخَطَرِ الْقَرِيبِ مِنْهُ ثُمَّ لَا يُبَالِي بِمَا يَسْمَعُ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا لَيْسَ لَهُ مَدْفَعٌ، فَهَلْ تُحَطُّ حَالُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ مِنْ قِيمَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ؟ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ وَتَعْلُو بِهِ إِلَى أَرْفَعِ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْهِدَايَاتِ

الْإِلَهِيَّةِ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَطَاعِنَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ تَغْشَى أَعْيُنَهُمْ حُجُبُ الظَّوَاهِرِ، فَتَقِفُ بِهِمْ دُونَ مَعْرِفَةِ السَّرَائِرِ، يُنَادِيهِمُ الْحَقُّ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا صَدَى صَوْتِ الْبَاطِلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ النَّصَّ الْكَرِيمَ مَقَامَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيُحِلُّهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ أَعْلَى عِلِّيِّينَ، إِذْ يَقُولُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ جِنَايَةَ أَهْلِ الْخِلَافِ: (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الْإِذْنُ هُنَا التَّيْسِيرُ وَالتَّوْفِيقُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ فِي كُلِّ دِينٍ، أَوْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى كُلٍّ فَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ يُخْبِرُنَا - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ - بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ لِمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ; أَيْ: يَصِلُونَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَخْتَلِفُ مَزَاعِمُ النَّاسِ فِيهِ، فَيَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِمَّا بَعِيدٌ عَنْهُ بَعْدَ الْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَإِمَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى زَعْمِهِ إِنَّمَا هُوَ الْهَوَى وَالْمَيْلُ إِلَى الشِّقَاقِ، وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْبَاطِلِ; لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ لَا تُعَدُّ هِدَايَةً إِلَيْهِ. الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ لَهُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي الْعُقُولِ فَيَهْدِيهَا فِي ظُلُمَاتِ الشَّبَهِ وَيُضِيءُ لَهَا السَّبِيلَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ، فَيُسَهِّلُ عَلَيْهَا أَنْ تُمِيطَ كُلَّ أَذًى يَتَعَثَّرُ فِيهِ السَّالِكُ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِهِ فِي مُهَاوٍ مِنَ الْمَهَالِكِ، الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ لَا يَسْمَحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِيهِ، وَيُمَحِّصَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ نَافِعٌ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، وَلَا يَدَعْ أَمْرًا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ الْبُرْهَانُ أَوِ الْعِيَانُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ بِحُكْمِ إِيمَانِهِ، الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ يَجْعَلُ مِنْ نَفْسِ صَاحِبِهِ رَقِيبًا عَلَيْهَا فِي كُلِّ خَطَرَةٍ تَمُرُّ بِبَالِهِ، وَكُلِّ نَظْرَةٍ تَقَعُ مِنْهُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، لَا يَطِيرُ الْخَيَالُ بِصَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ إِلَّا إِلَى صُوَرٍ مِنَ الْحَقِّ تَنْزِلُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْعِبَارَةِ مِنْ مَعْنَاهَا، فَهُوَ إِذَا اعْتَقَدَ فَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ مَا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِذَا تَخَيَّلَ فَإِنَّمَا يَتَخَيَّلُ صُوَرًا تُمَثِّلُ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَتُجْلِيهِ فِي أَقْوَى مَظَاهِرِهِ، بِهَذَا يَكُونُ تَيْسِيرُ اللهِ لَهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ، فَهُوَ مُطَمْئِنٌ سَاكِنُ الْقَلْبِ، وَهُمْ فِي اضْطِرَابٍ وَحَرْبٍ، تَوَلَّوْا عَنْ هِدَايَةِ اللهِ فَحُرِمُوا تَوْفِيقَهُ، وَكَفَرُوا بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِفُشُوِّ الشَّرِّ وَفَسَادِ الْأَمْرِ، وَاللهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (6: 159) وَ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (42: 13) (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحَسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (2: 137، 138) هَذِهِ آيَاتُ اللهِ لَا يُعْرِضُ عَنْهَا إِلَّا بَعِيدٌ عَنِ اللهِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

هَذَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُنَاكَ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُمَا سَابِقًا، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَمَا يَعْمَلُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفَاءَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا بُدَّ لِبَيَانِ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَيَانٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْجِنَانُ. مَا جَاءَنَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ وَمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ آثَارِهِمْ وَمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ حَالِ بَعْضِهِمُ الْيَوْمَ يَشْهَدُ شَهَادَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ أُدِّيَتْ إِلَيْهُ أَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَارَتْ بِالْإِنْسَانِ فِي جَمَاعَتِهِ كَمَا سَارَتْ بِهِ فِي أَفْرَادِهِ، يَخْلُقُ اللهُ الْفَرْدَ مِنَ الْبَشَرِ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ فَاقِدَ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (16: 78) ثُمَّ أَبَوَاهُ أَوْ مَنْ يَكْفُلُهُ سِوَاهُمَا يَقُومُ عَلَيْهِ يُقَوِّي بِنْيَتَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا عَسَاهُ يَهْدِمُهَا، وَيُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَسْمَعُ وَكَيْفَ يَنْظُرُ وَكَيْفَ يَتَّقِي بِبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ مَا تُخْشَى عَاقِبَةُ وَقْعِهِ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ حَدًّا مَعْلُومًا يَكُونُ فِيهِ الْحِسُّ قَدْ أَعَدَّهُ لِاسْتِعْمَالِ قُوَّةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَا تَزَالُ قَاصِرَةً فِيهِ وَهِيَ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ فِيمَا مَضَى وَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَ; لِيَعْرِفَ مِنْهَا كَيْفَ يَسْلُكُ فِي عَمَلِهِ لِمَا يَسْتَقْبِلُ، فَكَمَالُ اسْتِعْدَادِ الْعَقْلِ لِلنَّظَرِ فِي شُئُونِ الشَّخْصِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ، كَمَا أَنَّ وُصُولَ الْبِنْيَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمَعْرُوفِ فِي السِّنِّ الْمَعْلُومَةِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْبَدَنِ، تِلْكَ السِّنُّ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِسِنِّ الرُّشْدِ. لَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَنَاوَلِ قُوَّةِ الصَّبِيِّ فِي زَمَنِ الصِّبَا الْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ الْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا وَضَعَ اللهُ فِيهَا مِنَ الرَّوَابِطِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا بِنْيَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَوْقِ مَدَارِكِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ هَذَا الْكَوْنَ الْمَحْسُوسَ لِتَصِلَ إِلَى مَعْرِفَةِ مُكَوِّنِهِ، وَيُشْرِقُ عَلَيْهَا نُورُ وُجُودِهِ الْبَاهِرُ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلُّ هَمِّ الصَّبِيِّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَغْذِيَةِ جِسْمِهِ وَرِيَاضَةِ قُوَاهُ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ لَمْ يَتَمَثَّلْهَا ذِهْنُهُ إِلَّا فِي صُوَرٍ مِنَ الْخَيَالِ هِيَ إِلَى الْبَاطِلِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الْحَقِّ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ طِفْلًا ثُمَّ صَارَ صَبِيًّا ثُمَّ بَلَغَ سِنًّا عَرَفَ نَفْسَهُ فِيهَا رَجُلًا عَاقِلًا، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْإِطَالَةِ فِيهِ. عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ قَادَتِ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ جَمَاعَةَ الْبَشَرِ; لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ قَضَتْ بِأَنْ يَحْيَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَجَلِهِ الْمَحْدُودِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ نَوْعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا لَا مَنَاصَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، هَذِهِ الْجَمَاعَةُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى أُمَّةً كَمَا عَرَفْتَ، وَيُمْكِنُكَ أَنْ تُسَمِّيَهَا بِنْيَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَتُسَمِّيَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ تِلْكَ الْبِنْيَةِ، فَكَمَا يَنْشَأُ الْفَرْدُ قَاصِرًا فِي جَمِيعِ قُوَاهُ ضَعِيفًا فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، كَذَلِكَ

نَشَأَتِ الْجَمْعِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ السَّذَاجَةِ لَا تَبْلُغُ بِهَا إِلَى تَنَاوُلِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْمَعَارِفِ السَّامِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يُرَبِّي الْفَرْدَ وَيَسُوسُ قُوَاهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رُشْدَهُ هُوَ الْأَبَوَانِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَالَّذِي يَكْفُلُ الْجَمْعِيَّةَ وَيُرَبِّي قُوَاهَا وَيَشُدُّ بِنَاهَا، إِنَّمَا هُوَ الْكَوْنُ وَمَا يَمَسُّهَا مِنْ حَوَادِثِهِ، وَالْحَاجَاتُ وَوَقْعُهَا، وَالضَّرُورَاتُ وَلَذْعُهَا، وَكَمَا يُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ أَبَوَاهُ يُؤَدِّبُ الْجَمَاعَةَ شِدَّةُ وَقْعِ الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا هَمَّ لَهَا إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى بِنْيَتِهَا الْجِسْمِيَّةِ، وَحَاجَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنَ الزَّمَنِ مَا تَتَفَرَّغُ فِيهِ لِأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطِّفْلِ فِي صِبَاهُ. وَالْآثَارُ الَّتِي عَثَرَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُونَ فِي مَبَادِئِ ظُهُورِ الصِّنَاعَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهَا مِنْ أَدْنَى الْأَعْمَالِ إِلَى مَا يَظُنُّهُ النَّاظِرُ أَعْلَاهَا الْيَوْمَ، تَشْهَدُ شَهَادَةً كَافِيَةً بِأَنَّ الْبَشَرَ كَانُوا فِي بَدْءِ أَمْرِهِمْ مِنْ قُصُورِ الْقُوَى عَلَى حَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْأَفْرَادِ، فَقَدْ كَانُوا فِي بَعْضِ أَطْوَارِهِمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى اصْطِنَاعِ الْمَعَادِنِ الْقَابِلَةِ لِلطَّرْقِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، وَأَنَّ آلَاتِهِمْ لِلدِّفَاعِ وَنَحْوِهِ كَانَتْ مِنَ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا إِلَى اسْتِعْمَالِ النُّحَاسِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كَانَ رُقِيُّ مَعَارِفِهِمْ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الصَّنْعَةِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَنْظُرَ كَيْفِ ابْتَدَءُوا وَضْعَ حُرُوفِ الْكِتَابَةِ مِنَ الْخَطِّ الْمِسْمَارِيِّ ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَرْتَقُونَ فِيهِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى مَا تَعْرِفُ الْيَوْمَ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْجَمَاعَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا سُنَّتُهُ فِي الْفَرْدِ مِنْهَا مِنَ التَّدَرُّجِ بِهِ مِنْ ضَعْفٍ إِلَى قُوَّةٍ وَمِنْ قُصُورٍ إِلَى كَمَالٍ. كَانُوا فِي طَوْرِ الْقُصُورِ مُنْغَمِسِينَ فِي الْحِسِّ وَالْمَحْسُوسِ، فَإِذَا تَخَلَّصُوا مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تَخَلَّصُوا إِلَى وَهْمٍ يُثِيرُهُ الْحِسُّ، وَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ يَظُنُّ شَيْئًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذَا عَجِبُوا كَيْفَ يَمُوتُ الْمَيِّتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى فَهْمِ مَعْنَى الْمَوْتِ ظَنُّوا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهُمْ غَيْبَةً وَلَكِنْ لَا يَزَالُ يَتَعَهَّدُهُمْ بِمَا يُؤْذِيهِمْ، كَأَنَّ الْمَوْتَ يُحْدِثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةً، فَظَنُّوا أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادِيَاتِ الضَّارَّاتِ، الْمُعَيَّنَاتِ النَّافِعَاتِ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يُعِدُّونَ لَهَا مَا يُرْضِيهَا، وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَهَا، وَإِذَا سَمِعُوا رَعْدًا أَوْ رَأَوْا بَرْقًا أَوْ أَمْطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَوْ ذَعَرَتْهُمُ الْأَعَاصِيرُ، تَخَيَّلُوا أَشْبَاحًا مِثْلَهُمْ تُرْسِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْهَبُ بِهِمُ الْخَيَالُ فِيهَا إِلَى مَا شَاءَ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ. وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالنُّجُومِ، إِذَا اسْتَعْظَمُوا مِنْهَا

شَيْئًا لِعِظَمِ مَضَرَّتِهِ أَوْ لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِ، تَوَهَّمُوا فِيهَا مَا شَاءُوا مِنْ قُدْرَةٍ تَفُوقُ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَةٍ تَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ. وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، وَالتَّجَارُبُ تَكْشِفُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيمَا يَتَوَهَّمُونَ; وَالْحَوَادِثُ تَأْتِيهِمْ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ، حَتَّى عَقَلُوا كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ اجْتِمَاعِهِمْ وَكَشَفُوا شَيْئًا مِنْ عَنَاصِرِ بِنْيَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَوَصَلُوا إِلَى مَنْزِلَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَنْ يَفْهَمُوا بَاطِنَ مَا عَقَلُوا وَسِرَّ مَا عَرَفُوا، وَلِأَنْ يَخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ إِلَى عَالَمٍ رُوحَانِيٍّ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي طَلَبِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. هُنَالِكَ تَهَيَّأَ لَهُمْ أَنْ يَنْتَقِلُوا مَنْ طَوْرِ قُصُورِ الصِّبَا إِلَى أَوَّلِ سِنِّ الرُّشْدِ، فَجَاءَتْهُمُ النُّبُوَّةُ تَهْدِيهِمْ إِلَى مَا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ الْجَدِيدِ، طَوْرٍ يَكُونُ وَاضِعُ النِّظَامِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ هُوَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ، وَيَكُونُ الْمُحَدِّدُ لِصِلَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ تَعَالَتْ أَسْمَاؤُهُ هُوَ الرَّحِيمُ بِهِمُ الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحَدِّدُهُ عُقُولُهُمْ، وَلَا تَسْمُوا إِلَى اكْتِنَاهِ ذَاتِهِ مَعَارِفُهُمْ، هَذِهِ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوهَا وَهُمْ فِي قُصُورِ الطَّوْرِ الْأَوَّلِ، قَدِ انْتَهَوْا إِلَيْهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي الطَّوْرِ الثَّانِي. فَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ: إِنَّ الْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ هِيَ الْأُمَّةُ الْآخِذَةُ فِي اعْتِقَادِهَا وَعَمَلِهَا بِالْعَقْلِ وَمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّاتِ جَمِيعِهَا; لِأَنَّ ظُهُورَ النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِقَبُولِهَا طَوْرٌ مِنَ الْأَطْوَارِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ إِلَّا بَعْدَ التَّدَرُّجِ فِي طَرِيقٍ طَوِيلَةٍ تَنْتَهِي غَايَتُهَا إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ. الِاسْتِعْدَادُ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ وَقَبُولِ دَعْوَتِهَا مَرْحَلَةٌ مِنَ الْمَرَاحِلِ الَّتِي تَسِيرُ فِيهَا الْجَمْعِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ عِنْدَمَا تَبْلُغُ الْعُقُولُ مَنْزِلَةً مِنَ الْقُوَّةِ وَمَقَامًا مِنَ السُّلْطَةِ، وَتَبْلُغُ النُّفُوسُ مِنْ قُوَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ مَا يُخْشَى مَعَهُ مِنْ ضَلَالِهَا أَنْ يُوقِعَهَا فِي خَبَالِهَا، عِنْدَمَا تُعَظِّمُ مَطَامِعَ الْعُقُولِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَتَّسِعُ مَجَالَاتُهَا وَتَبْعُدُ مَطَامِحُهَا، هُنَالِكَ يُخْشَى عَلَى الْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهَا أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا، كَمَا يُخْشَى مَنْ قُوَى الشَّابِّ أَنْ تُهْلِكَهُ عِنْدَمَا تَبْلُغُ الْبِنْيَةُ حَدَّ النُّمُوِّ وَتَبْدُو لَهُ الشَّهَوَاتُ فِي أَجْلَى صُوَرِهَا، فَكَمَا كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ أَنْ يَهَبَ الشَّابَّ قُوَّةَ الْعَقْلِ عِنْدَ بُلُوغِ السِّنِّ الَّتِي تَعْظُمُ فِيهَا الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِيهَا الْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَوْفِيرِ الرَّغَائِبِ، حَتَّى يَقُودَهُ فِي تِلْكَ الْغِمَارِ، كَذَلِكَ فَعَلَ اللهُ بِالْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَمَا بَلَغَتْ بِمَعَارِفِ أَفْرَادِهَا ذَلِكَ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَهَبَهَا تِلْكَ الْهِدَايَةَ الْجَدِيدَةَ، وَأَيَّدَهَا بِالدَّلَائِلِ الَّتِي بَلَغَ مِنْ قُوَّةِ الْعُقُولِ

أَنْ تُدْرِكَهَا، وَأَنْ تَصِلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا إِلَى نَتَائِجِهَا، تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَى اخْتِلَافِ أَزْمَانِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، جَاءَتْ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا يُلَائِمُ حَالَتَهَا النَّفْسِيَّةَ وَمَكَانَتَهَا الْعَقْلِيَّةَ، فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْأُمَمِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْبَدَنِ. جَاءُوهُمْ يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَيُبَشِّرُونَهُمْ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ لِكَاسِبِهِ، وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ مَسَالِكَ السُّوءِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ لِصَاحِبِهِ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ يَتَفَاوَتُ فِي الْأُمَمِ، كَانَتْ أُمَّةٌ أَوْلَى مِنْ أُمَّةٍ بِتَقَدُّمِ عَهْدِ النُّبُوَّاتِ فِيهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ إِمَامًا لِلْأُمَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ. هَذَا الطَّوْرُ النُّورَانِيُّ الْجَدِيدُ - طَوْرُ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ - هُوَ طَوْرُ خَيْرٍ وَسَعَادَةٍ، طَوْرُ هِدَايَةٍ وَرَشَادٍ وَأُخُوَّةٍ بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ فِيهِ، وَسَدَادٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَنُزُوعٍ إِلَى تَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا كَمُلَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَإِضَاءَةِ مَا أَظْلَمَ مِنْ جَوِّ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا ضَاءَ بِهِ جَوُّهُمْ، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ مَا قَامُوا عَلَى فَهْمِ مَا جَاءَ إِلَيْهِمْ، وَمَا قَيَّدُوا عُقُولَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ بِالْحُدُودِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ، وَمَا وَقَفُوا عَلَى سِرِّ مَا حُمِلُوا عَلَيْهِ، وَلَزِمُوا رُوحَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، وَمَا حَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ لِيَرُدَّهُ إِذَا زَاغَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعَبَّدَةِ، وَيُقِيمَهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فَقَدْ قَطَعَ الْإِنْسَانُ فِي سَيْرِهِ إِلَى الْكَمَالِ مَرْحَلَةً أُولَى انْتَهَتْ إِلَى ظُهُورِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ هُوَ يَسِيرُ فِي هَذِهِ مَرْحَلَةً أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَا لَلْأَسَفِ لَيْسَ بِالْمَنْزِلِ الْمُرْتَضَى. ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَبَعُدَ النَّاسُ عَنْ مَبْعَثِ نُورِهَا، وَيَنْبُوعِ نَمِيرِهَا، قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَنْفُسُ، وَغَلَبَتِ الشَّهَوَاتُ، فَضَعُفَ الْعِلْمُ بِسِرِّ الدَّعْوَةِ، وَأَهْمَلَتِ الْجَمْعِيَّةُ تَقْوِيمَ الطَّرِيقَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالدِّينِ نُصُوصَ الدِّينِ فِيمَا يُضَيِّعُ حِكْمَةَ الدِّينِ، وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ فِي النَّاسِ، فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَيَنْقَلِبُ سَبَبُ السَّعَادَةِ الْأُولَى عَامِلًا لِلشَّقَاءِ فِي الْأُخْرَى، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ شَيْطَانِ الرِّئَاسَةِ، وَالِانْقِيَادِ لِغِوَايَاتِ السِّيَاسَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) . هَذَا طَوْرٌ ثَالِثٌ لِلْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَرْحَلَةٌ تَسِيرُ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَسِيرَ حَتَّى تَذَوُّقَ وَبَالَ أَمْرِهَا، وَحَتَّى تُبْصِرَ عَوَاقِبَ الْخِلَافِ بِمَا كَانَ مِنْ فَوَائِدِ الْأُلْفَةِ، وَحَتَّى تَرُدَّهَا الضَّرُورَاتُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا أَغْمَضَتْ عَنْهُ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا خَرَجَتْ مِنْهُ، فَتَعُودَ إِلَى مَحْوِ مَا عَرَضَ مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ مَنْ رَدِيءِ الْمَلَكَاتِ، فَتُشْرِقَ لَهَا شَمْسُ الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَتَقُومَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَمْثَلِ، وَتَعُودَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى النُّفُوسِ، وَيَتَسَاوَى فِي الْحَقِّ الرَّئِيسُ وَالْمَرْءُوسُ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَيَتَّحِدُونَ عَلَى صَحِيحِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) .

تِلْكَ الْأَطْوَارُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَمُرَّ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ كَمَالَهَا، وَتَنَالَ تَفْصِيلَهَا وَإِجْمَالَهَا، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُضَايِقُ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَلَا يَبْعُدُ عَمَّا قَرَّرْنَاهُ، وَمَكَانَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرِّسَالَةِ لَا تُزْعِجُ صَاحِبَ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَا تُلْصِقُ بِهِ شُذُوذًا أَبْعَدَ مِنْ شُذُوذِ مَنْ قَالَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى الْحَقِّ مُتَّفِقِينَ، ثُمَّ كَانَ الْخِلَافُ إِثْرَ بِعْثَةِ النَّبِيِّينَ، وَلَا شُذُوذِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ هُمْ آدَمُ كَمَا عَلِمْتَ; فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ رِسَالَةَ آدَمَ لَمْ تُعْلَمْ بِمَ كَانَتْ؟ وَإِلَى مَنْ كَانَتْ؟ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِأُمُورٍ تَتَّفِقُ مَعَ تِلْكَ السَّذَاجَةِ الْأُولَى إِلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَبْنَائِهِ، ثُمَّ نُسِيَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ بَلَغَهُ، وَجُهِلَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (2: 30) مِنْ رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُنَاسٍ مَعَهُ مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَ فِيهَا عُمَّارٌ يَعْمَلُونَ فِيهَا مَا يَعْمَلُ بَنُو آدَمَ، يُسْمَحُ لِصَاحِبِ التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَنِيهِ كَانُوا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ كَوَلَدِ نُوحٍ، وَإِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلِهِ بِأَقْوَامٍ فِيهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ ثُمَّ انْقَرَضُوا وَخَلَفَهُمْ آدَمُ، كَمَا تَنْقَرِضُ أُمَّةٌ وَتَخْلُفُهَا أُمَّةٌ، يُهْلِكُ اللهُ صِنْفًا وَيُنْشِئُ آخَرَ، وَالنَّوْعُ وَاحِدٌ، وَلَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَتْرُكُ أَثَرًا لِلْبَاقِي يُحْدِثُ فِيهِ فِكْرَةً، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِهِ عِبْرَةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ سُلَّمًا لَهُ إِلَى رُقِيٍّ كَانَ مِنْ قَبْلُ دُونَهُ، وَأَنَّ مِثَالَ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ ضُرُوبًا مِنْ إِنْكَارِ الْمَشْهُودِ لِقَوْلِ قَائِلٍ إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لَا تَقِفُ دُونَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ خُصُوصًا عُلَمَاءُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، الَّذِي لَمْ يُحَدِّدْ تَارِيخًا خَاصًّا يَبْتَدِئُ مِنْهُ الْوُجُودُ الْإِنْسَانِيُّ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، فَهُمْ أَحْرَارٌ فِيمَا يَنْظُرُونَ مَا دَامُوا لَمْ يُخَالِفُوا نَصًّا قَاطِعًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ، وَلَا سُنَّةً خَلَا نَقْلُهَا مِنَ الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا أَوْدَعَ كِتَابَهُ مِنْ أَسْرَارٍ وَحِكْمَةٍ، نَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا هَذِهِ النِّعْمَةَ، فَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ (انْتَهَى مَا كَتَبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) . وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْآيَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا عَنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ وَأَطْوَارِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا عَلَيْهِ وَيَتَّفِقُ مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جُمْلَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً; أَيْ: لِوَحْدَةِ مَدَارِكِهِمْ وَحَاجَاتِ مَعِيشَتِهِمْ وَقِلَّةِ رَغَائِبِهِمْ وَسُهُولَةِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَى مَطَالِبِهِمْ، وَلَكِنْ عَرَضَ لَهُمُ الِاخْتِلَافُ بِالتَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ إِلَى عَشَائِرَ فَقَبَائِلَ فَشُعُوبٍ تَخْتَلِفُ حَاجَاتُهَا وَتَتَعَدَّدُ رَغَائِبُهَا، وَيُلْجِئُهَا ذَلِكَ إِلَى تَعَاوُنِ كُلِّ عَشِيرَةٍ فَقَبِيلَةٍ فَشَعْبٍ فِيمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَفْرَادُهَا أَوْ تَخْتَلِفُ هِيَ وَغَيْرُهَا. فَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى تَشْرِيعٍ رَبَّانِيٍّ وَهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ يُذْعِنُ لَهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ فِيهِمْ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالسَّعَادَةِ وَالثَّوَابِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الْمُفَصِّلَ لِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ بِالْحَقِّ، لِيَحْكُمَ تَعَالَى فِيهِ - أَوْ لِيَحْكُمَ

الْكِتَابُ نَفْسُهُ، بِمَعْنَى يُبَيِّنُ الْحُكْمَ - بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ - أَيِ: الْكِتَابِ - بَعْدَ الْإِنْعَامِ بِهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، وَفِي تَنْفِيذِ نَبِيِّهِمْ لَهُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ مُصْلِحُونَ يَهْدِيهِمُ اللهُ بِإِيمَانِهِمْ لِلْمَخْرَجِ مِمَّا اخْتَلَفُوا مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ حَذَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (57: 16) وَهُمُ الْآنَ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا الْإِصْلَاحِ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ مَضَى. هَذَا الْمَعْنَى الْمُجْمَلُ لَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ فِي شَيْءٍ، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ نَصَّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ حُقِّقَتْ مَسْأَلَةُ نُبُوَّةِ آدَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوِفَاقِ وَالسَّلَامِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، وَأَرْشَدَ إِلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى التَّعَاوُنِ مَعَ بَعْضٍ عِنْدَمَا كَثُرُوا وَاجْتَمَعُوا وَكَثُرَتْ مَطَالِبُهُمْ وَتَعَدَّدَتْ رَغَائِبُهُمْ، وَمِنْ إِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّعَادِي، وَمِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى نِظَامٍ جَامِعٍ وَشَرْعٍ يُحَدِّدُ الْحُقُوقَ وَيَهْدِي الْقُلُوبَ، لَا مَجَالَ فِيهِ لِلنِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ; لِوُجُوبِ أَخْذِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا مَعَهُ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَذَكَرَ إِحْسَانَ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِذْ بَعَثَ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ لِيُحَكَّمَ فِي الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي الْكِتَابِ نَفْسِهِ وَتَحْوِيلَهُمُ الدَّوَاءَ دَاءً، وَاتِّخَاذَهُمُ الرَّابِطَةَ الْجَامِعَةَ آلَةً مُفَرِّقَةً، ثُمَّ هِدَايَةَ اللهِ تَعَالَى أَهْلَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ لِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَتَحْكِيمِهِ فِي كُلِّ خِلَافٍ، وَقَبُولِ حُكْمِهِ فِي كُلِّ نِزَاعٍ، وَالِاعْتِمَادِ فِي فَهْمِهِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَمَا عَلَّمَ عِلْمًا صَحِيحًا مِنْ سُنَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَمَنْ صَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ قَبْلَ الْخِلَافِ.

214

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَطْوَارَ فِي الْبَشَرِ، فَأَنَارَ لَنَا الطَّرِيقَ الَّتِي اهْتَدَتْ فِيهَا الْأُمَمُ بَعْدَ ضَلَالٍ، ثُمَّ ضَلَّتْ بَعْدَ هِدَايَةٍ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا نَعْمَلُهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ يَكُونُ عُرْضَةً لِبَغْيِ الْمُخْتَلِفِينَ وَإِيذَائِهِمْ، وَهَكَذَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ يَبْغُونَ عَلَى أَهْلِ الْهِدَايَةِ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ خَيْرَهُمْ، سَوَاءً كَانَ مَا يُحَاوِلُونَ هِدَايَتَهُمْ فِيهِ هُوَ الضَّلَالُ فِي طَرِيقِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، أَوِ الضَّلَالُ فِي تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الشَّرْعِ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ الْبَيَانِ كُلِّهِ بِتَمْثِيلِ حَالِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَ الْهِدَايَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَتَصَدَّوْا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى السِّلْمِ وَالْوِفَاقِ فَقَالَ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) إِلَخْ. الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى السِّلْمِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ إِلَى نُورِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ لِإِزَالَتِهِ فِي زَمَنِ النُّزُولِ وَفِي كُلِّ زَمَنٍ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَتَوْجِيهُهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَكْبَرُ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ يَكُونُونَ أَهْلًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، جَاهِلِينَ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْهُدَى مُنْذُ خَلَقَهُمْ، وَهِيَ تَحْمِلُ الشَّدَائِدَ وَالْمَصَائِبَ وَالضَّرَرَ وَالْإِيذَاءَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَعَجِيبٌ مِنْ أُمَّةٍ يَنْطِقُ كِتَابُهَا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ لَا تَحْوِيلَ لَهَا وَلَا تَبْدِيلَ، وَيَحُثُّهَا دَائِمًا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِمَعْرِفَةِ آثَارِهَا فِي الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، ثُمَّ هُمْ يُحَوِّلُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَنْهُمْ، وَيَفْشُو فِيهِمُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَعِظُهُمْ بِمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ تِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا بِالسِّلْمِ وَالْهِدَايَةِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يَقِيسُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ! ! (أَمْ) هَاهُنَا هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِنَا وَمَا نَالُوا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أُمَمٌ أُوتُوا الْكِتَابَ وَدُعُوا إِلَى الْحَقِّ فَآذَاهُمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَصَبَرُوا وَثَبَتُوا. أَفَتَصْبِرُونَ مِثْلَهُمْ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَتَثْبُتُونَ ثَبَاتَهُمْ عَلَى الشَّدَائِدِ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلْوا الْجَنَّةَ وَتَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفْتَنُوا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ فَتَصْبِرُوا عَلَى أَلَمِ الْفِتْنَةِ وَتُؤْذَوْا فِي اللهِ فَتَصْبِرُوا عَلَى الْإِيذَاءِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي أَنْصَارِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ قَرَّرَ الْأُسْتَاذُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ مِنَ الْآيَةِ يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِ كُلِّ قَارِئٍ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ كُلُّ أَحَدٍ التَّعْبِيرَ عَنْهُ، وَإِذَا جَعَلْتَ (أَمْ) بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ مَعًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) بَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَمْلِكُ النَّفْسَ وَيُؤَثِّرُ فِي الْوِجْدَانِ. قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حِينَ غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَشَجُّوا رَأْسَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذِ اجْتَمَعَ

الْمُشْرِكُونَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحَالَفُوا عَلَى الْإِيقَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ وَقُطِعَ دَابِرُهُمْ، وَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ وَالْجُوعِ وَالْحَاجَةِ وَضُرُوبِ الْأَذَى، وَإِذِ انْتَقَضَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَقَالُوا كَمَا قَالَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: (مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (33: 12) وَإِذْ جَاءَهُمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَظَنُّوا بِاللهِ الظُّنُونَ، وَإِذِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَإِذْ رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْأَحْزَابَ مُتَحَزِّبَةً عَلَيْهِمْ فَقَالُوا عَلَى قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَجُوعِهِمْ وَعُرْيِهِمْ: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (33: 22) . أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُخَاطِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أَيْ: وَإِلَى الْآنَ لَمْ يُصِبْكُمْ مَا أَصَابَ الَّذِينَ سَبَقُوكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ: الْوَصْفُ الْعَظِيمُ وَالْحَالَةُ الَّتِي لَهَا شَأْنٌ بِحَيْثُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ. أَيْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ هَذِهِ الْحَالُ الشَّدِيدَةُ إِلَى الْآنَ. وَهَذَا النَّفْيُ الْمُسْتَغْرِقُ مِمَّا يُوَجِّهُ الْأَذْهَانَ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِمَا أَصَابَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ; وَلِذَلِكَ وَصَلَهُ بِالْبَيَانِ فَقَالَ: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ) الْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي غَيْرِ نَفْسِهِ وَبَدَنِهِ كَأَخْذِ الْمَالِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَتَهْدِيدِ الْأَمْنِ وَمُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ، وَفَسَّرَهُ (الْجَلَالُ) بِالْفَقْرِ وَهُوَ مِنْ أَثَرِهِ. وَالضَّرَّاءُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ كَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ، وَفَسَّرَهُ الْجَلَالُ بِالْمَرَضِ وَهُوَ بَعْضُهُ، وَأَمَّا الزِّلْزَالُ: فَهُوَ الِاضْطِرَابُ فِي الْأَمْرِ يَتَكَرَّرُ حَتَّى يَكَادَ يَزِلُّ صَاحِبُهُ عَنْهُ، وَهَذَا الْحَرْفُ فِيهِ لَفْظُ زَلَّ مُكَرَّرًا وَمَعْنَاهُ زَلِقَ وَانْحَرَفَ، فَزَلْزَلَهُ بِمَعْنَى هَزَّهُ وَدَعَّهُ، لِيُزِلَّهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ; أَيْ: إِنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَةِ حُدُوثِ الِاضْطِرَابِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الزَّلَلِ فِي مَجْمُوعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (23: 11) وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّ بَعْضَ السَّابِقِينَ كَانُوا أَشَدَّ زِلْزَالًا مِنْ هَذَا الَّذِي وَقَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَلَعَلَّ الْغَايَةَ الَّتِي وَصَلُوا إِلَيْهَا وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا سَلَفُنَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ) أَيْ: حَتَّى وَصَلُوا إِلَى غَايَةٍ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ لَمْ يَرَوْا فِيهَا مَنْفَذًا لِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ; لِأَنَّ قُوَّةَ أَعْدَاءِ الْحَقِّ أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَدَنَتْ حَتَّى أَخَذَتْ بِأَكْظَامِهِمْ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ وَقْتَ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّصْرِ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ مَنْ يَنْصُرُ الْحَقَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ أَوْ أَبْطَأَ فَاسْتَعْجَلُوهُ بِقَوْلِهِمْ: (مَتَى نَصْرُ اللهِ) ؟ فَأَجَابَهُمْ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) بِأَنْ نَصَرَهُمْ، وَكَفَّ عَنْهُمْ شَرَّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُمْ وَجَعَلَ كَلِمَتَهُمُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وَمِثْلُ هَذِهِ - بَلْ أَشَدُّ - قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)

(12: 110) الْآيَةَ. فَالرَّسُولُ هُنَا لِلْجِنْسِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ فِي الشِّدَّةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ تَصْوِيرًا لَهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ; لِيَتَمَثَّلَ الْمُخَاطَبُ هَوْلَهَا وَشِدَّتَهَا فَيَخِفُّ عِنْدَهُ مَا يَجِدُهُ مِمَّا هُوَ دُونَهَا. وَمَا مِنْ شِدَّةٍ تُصِيبُ الْأُمَمَ إِلَّا وَهِيَ دُونَ الشِّدَّةِ الَّتِي يَسْتَعْجِلُ بِهَا رُسُلُ اللهِ تَعَالَى نَصْرَ اللهِ اسْتِبْطَاءً لَهُ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ تَعَالَى وَأَشَدُّهُمُ اتِّكَالًا عَلَيْهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ. وَلَعَمْرِي إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِلُوا فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ الَّتِي حُمِلَتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا أُولَئِكَ الرُّسُلُ مَا قَالُوا، وَلَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ ضُرُوبًا مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى وَرَدَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ حَيًّا، وَنَاهِيكَ بِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ بِالنَّارِ (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (85: 8) . وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ لَوْمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ الْحُسْبَانِ، وَبَيَانُ أَنَّ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَلَمِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ أَوْ وَقْعَةِ أُحُدٍ إِنْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، إِذْ كَانُوا يَأْلَمُونَ مِنْ مُنَازَعَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُقَاسُونَ مِنْ جُحُودِهِمْ وَكَيْدِهِمْ مَا يُقَاسُونَ، كُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي جَنْبِ مَا قَاسَى غَيْرُهُمْ مِمَّنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى; إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادُ الْبَشَرِ أَضْعَفَ وَقَسْوَتُهُمْ أَشَدَّ وَعِنَادُهُمْ أَقْوَى. جَاءَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أَقْرَبُهَا مِنْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (3: 142) وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مَنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (9: 16) فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ. وَمِنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَّنَ الْكَاذِبِينَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ) (29: 1 - 10) فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا تُؤَيِّدُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي ابْتِلَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الدَّاعِينَ إِلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ دَائِمًا فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، فَمَنْ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِهِ يَغْفُلُ عَنِ انْطِبَاقِهِ عَلَى الْوَاقِعِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ مَنْ يُؤْذَى فِي سَبِيلِ الْحَقِّ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ كَانَ وُقُوعُ الْأَذَى عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مُبْطِلٌ لَا يَطْلُبُ الْحَقَّ! ! فَمَا أَجْهَلَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ! وَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ! وَمَا أَغْفَلَهُمْ عَنْ تَأْوِيلِهِمَا فِي خَلْقِ اللهِ! اتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا إِلَّا مَا يَتَغَنَّوْنَ بِهِ مِنْ بَعْضِ سُوَرِهِ فِي الْمَحَافِلِ الْجَامِعَةِ، فَفَقَدُوا رُوحَ الدِّينِ، وَتَبِعَ الرُّوحَ الْجُسْمَانُ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الرُّسُومِ الْمَاثِلَةِ فِي جَانِبِ بُرُوجِ

الْبِدَعِ الْمَشَيَّدَةِ، وَإِنَّمَا أَبْقَى عَلَى تِلْكَ الرُّسُومِ تَمَسُّكُ الْعَوَامِّ بِهَا، فَلَوْلَاهُمْ لَمَا بَالَى بِهَا الْأُمَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ الَّذِينَ لَا قِوَامَ لِعَظْمِهِمْ إِلَّا خُضُوعُ الْعَامَّةِ لَهُمْ; لِذَلِكَ جَعَلُوا الدِّينَ رَابِطَةً سِيَاسِيَّةً وَآلَةً لِإِخْضَاعِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ يُحَارِبُونَ مَنْ يَدْعُو الْأُمَّةَ إِلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهِ بِعُلَمَاءِ الرُّسُومِ الَّذِينَ يَسْتَمِدُّونَ سُلْطَتَهُمْ وَرِزْقَهُمْ وَجَاهَهُمْ مِنْهُمْ; لِئَلَّا تَتَوَجَّهَ نُفُوسُ الْجُمْهُورِ إِلَى الْكِتَابِ; فَيَعْرُو رِيَاسَتَهُمُ الزِّلْزَالُ وَالِاضْطِرَابُ. هَذَا هُوَ الْحِجَابُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ الِاعْتِبَارِ بِالْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِ. الْمُسْلِمُ الْعَارِفُ بِتَارِيخِ دِينِهِ يَعْرِفُ قِيمَةَ أَصْحَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُ الْعَامِّيُّ الْمُقَلِّدُ يُعَظِّمُهُمْ فِي خَيَالِهِ وَشُعُورِهِ أَشَدُّ مِمَّا يُعَظِّمُهُمُ الْعَارِفُ فِي فِكْرِهِ وَقَلْبِهِ، حَتَّى إِنَّ الْكَثِيرِينَ أَوِ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَكَادُونَ يَرْفَعُونَهُمْ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ، وَيَكَادُ تَعْظِيمُهُمْ إِيَّاهُمْ يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ، وَلَكِنْ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِمَا خَاطَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَتَأَلَّمُونَ كَيْفَ عَاتَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْعِتَابَ الشَّدِيدَ عَلَى ظَنِّهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَمْ يُقَاسُوا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِهِ مَا قَاسَى الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالْإِيمَانِ، حَتَّى اسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ؟ يَقُولُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ عِتَابٌ لَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِهِ. فَكَيْفَ لَا يُنْكِرُ مُسْلِمٌ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ هَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ دُونَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَدَعْوَةً إِلَى الْحَقِّ وَصَبْرًا عَلَى الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِهِ؟ لِمَاذَا لَا يُنْكِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ أَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ، فَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ، وَآثَرَ مَا عِنْدَ النَّاسِ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ؟ بَلْ لِمَاذَا لَا يُنْكِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَرَاهُمْ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا زِينَةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْمَالِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَالِانْبِسَاطَ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ بِالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ الْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ؟ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَغُشُّونَ النَّاسَ بِدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَغُرُورِهِمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَانُوا بِدْعًا مِنَ النَّاسِ بِجَهْلِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ حَالَ كُلِّ أُمَّةٍ طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ بَعْدَ زَمَنِ الْبَعْثَةِ، فَقَسَتْ مِنْ أَفْرَادِهَا الْقُلُوبُ، وَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَلَمْ يَزِنُوا إِيمَانَهُمْ وَلَا إِسْلَامَهُمْ بِالْمِيزَانِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ لِيَمِيزَ بِهِ الرَّاجِحَ وَالطَّائِشَ، وَبِهِ حَكَمَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ بِمَا قَرَأْتَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا. وَإِنَّمَا الْبِدْعُ الْغَرِيبُ، وَالْأَمْرُ الْعَجِيبُ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، هُوَ مَا نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ تَصَدِّي أُنَاسٍ لِدَعْوَى نَصْرِ الدِّينِ وَالزَّعَامَةِ فِيهِ وَحِفْظِهِ

عَلَى أَهْلِهِ، وَهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَلَوْ قَرَءُوهُ لَمَا فَهِمُوهُ، وَلَمْ يَتَلَقَّوْا سُنَّتَهُ وَلَوْ سَمِعُوهَا لَمَا وَعَوْهَا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي عَقَائِدِهِ وَلَوْ نَظَرُوا فِيهَا لَمَا عَقَلُوهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْظَمَ أَحْكَامِهِ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْهَا لَا يَعْمَلُونَ بِهِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا وَأَغْرَبُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الْوَقَاحَةِ وَالتَّهَجُّمِ أَنْ صَارُوا يُعَارِضُونَ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، وَأَنْصَارَ السُّنَّةِ، وَعُرَفَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَحُجَجَ الْعَقَائِدِ، وَحُكَمَاءَ الْأَحْكَامِ، وَيُجَادِلُونَهُمْ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، وَقَدْ حَلُّوا رَابِطَةَ الدِّينِ وَدَعَوْا إِلَى رَابِطَةٍ أُخْرَى يُسَمُّونَهَا الْوَطَنِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا جَهْلُ الْعَامَّةِ وَقِلَّةُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْأَدْعِيَاءِ الْجَاهِلِينَ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ لَاسْتَحْيَوْا مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعُوا هَذِهِ الدَّعَاوَى الَّتِي يُكَذِّبُهُمْ بِهَا كِتَابُهُ كَمَا تُكَذِّبُهُمْ سِيرَةُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لَكِنَّهُمْ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا الْعَامَّةُ الَّتِي يَبْتَغُونَ عِنْدَهَا الرِّزْقَ وَالِاسْتِعْلَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ فَهْمِهَا مَعْنَى الْإِيمَانِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ; لِأَنَّهُمْ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَنْ يُوَجِّهُ وَجْهَهَا إِلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى الْهَادِي إِلَى ذَلِكَ. جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ آيَاتٍ، وَوَصَفَهُمْ فِي كِتَابِهِ بِصِفَاتٍ غَيَّرَهَا الْمُحَرِّفُونَ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا آيَاتِ الْغِشِّ وَصِفَاتِ الْمُخَادَعَةِ الَّتِي يَفْتِنُونَ بِهَا الْعَامَّةَ. أَكْبَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَأَظْهَرُهَا الِاهْتِدَاءُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَإِيثَارُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُخَالِفُهُ، وَاحْتِمَالُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ وَالْخَيْرِ الَّذِي يَحُضُّ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَمَنْ بَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ مَالٍ وَقُوَّةٍ عَلَى تَأْيِيدِ كَلِمَةِ اللهِ فَلَا وَزْنَ لِإِيمَانِهِ فِي كِتَابِ اللهِ. فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُقَلِّدُ لِوَالِدَيْهِ وَمُعَاشِرِيهِ وَأَقْرَانِهِ، الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ; لِأَنَّهُ وُلِدَ وَرُبِّيَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَضِيَ بِبَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ رُسُومِ الدِّينِ، أَوِ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَةِ الْأَوَّلِينَ، اقْرَأْ أَوِ اسْمَعْ وَتَأَمَّلْ مَا عَاتَبَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَفْضَلَ سَلَفِكَ الصَّالِحِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ سَبَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّينَ. وَيَا أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ بِالرُّسُومِ، وَالْعَاكِفُونَ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ الْعُلُومِ، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ الْكَاتِبِينَ، فَقَدْ وَضَعَ كِتَابُ اللهِ الْمِيزَانَ لِلصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَذَكَّرُوا وَتُذَكِّرُوا بِهِ إِخْوَانَكُمُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَصُدَّنَّكُمْ عَنْ آيَاتِ اللهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ أَنَّكُمْ فَضَّلْتُمُ النَّاسَ بِقِرَاءَةِ مُطَوَّلَاتِ الْكُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصَرْفِ السِّنِينَ الطِّوَالِ فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالِاكْتِفَاءِ مِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ بِمِثْلِ السَّنُوسِيَّةِ والنَّسَفِيَّةِ; فَإِنَّ يَنْبُوعَ الْإِيمَانِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى فَاحْصُوا مَا فِيهِ مِنَ الشُّعَبِ وَالْآيَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (55: 9) . وَيَا أَيُّهَا الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ الَّذِينَ انْتَحَلْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الرِّيَاسَةَ فِي هَذَا الدِّينِ، وَإِفَاضَةَ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْحَاكِمِينَ، اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُخَاطَبُونَ كَغَيْرِكُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، بَلْ هِيَ

مُوَجَّهَةٌ إِلَى غَيْرِكُمْ بِالتَّبَعِ وَإِلَيْكُمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ; لِأَنَّكُمْ سَلَبْتُمُ الْأُمَّةَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الْعَمَلِ لِلْمِلَّةِ، وَمِنْكُمْ مِنْ سَلَبَهَا أَيْضًا حُرِّيَّةَ الْقَوْلِ وَالدَّعْوَةِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُخَفِّضُوا مِنْ هَذِهِ الْكِبْرِيَاءِ، وَأَنْ تَتَحَمَّلُوا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ، وَأَنْ تَبْذُلُوا فِي تَأْيِيدِ كَلِمَةِ اللهِ قَنَاطِيرَ الذَّهَبِ الَّتِي تُخَزِّنُونَ، وَهَذِهِ الْمَزَارِعَ وَالدَّسَاكِرَ الَّتِي تَتَأَثَّلُونَ، فَإِنَّ مَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَصْلِ سُلْطَتِكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ آيَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعْلَمَ اللهُ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ الصَّادِقِينَ، بَلْ عَلَيْكُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَنْ تُقِيمُوهَا فِي أَنْفُسِ رَعِيَّتِكُمْ، وَتَكُونُوا قُدْوَةً لِعَالِمِهِمْ وَعَامِلِهِمْ، وَغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ; لِتَكُونُوا أَئِمَّةَ هُدًى وَنُورٍ لَا أَئِمَّةَ ضَلَالَةٍ وَفُجُورٍ، وَإِلَّا كَانَ عَلَيْكُمْ إِثْمُكُمْ وَإِثْمُ جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي مُنِيَتْ بِكُمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِصِفَاتِ الْإِيمَانِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ لِلْإِيمَانِ عَلَيْهِ حُقُوقًا عَامَّةً وَوَاجِبَاتٍ خَاصَّةً هُنَّ آيَاتُ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتُهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِهِنَّ يُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَلَمْ يَسْلُبِ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى سَلَفِهَا بِقِيَامِهِمْ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّفْرِيطِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُمَنُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْجَنَّةِ بَدَلًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْعِزَّةِ غَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَفْرِضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا تَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا مَا يَكْفِي لِاسْتِئْصَالِ جَرَاثِيمِ الْغُرُورِ وَالْأَمَانِيِّ، فَمَا بَالُكَ بِمَجْمُوعِهَا! فَعَلَى الْمُسْلِمِ الْمُذْعِنِ أَنْ يَشْغَلَهُ تَطْبِيقُهَا عَلَى نَفْسِهِ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِعُيُوبِ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَتَعَاوَنَ مَعَ أَهْلِهَا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَيَهْجُرَ الرَّاغِبِينَ عَنْهَا غُرُورًا بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ (الْجَلَالَ) فَسَّرَ ((أَمْ)) هُنَا بِبَلْ وَالْهَمْزَةَ؛ فَجَعَلَهَا لِلْإِضْرَابِ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ، تَبَعًا لِلْبَصْرِيِّينَ وَوِفَاقًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ ((أَمْ)) تَقَعُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ; إِذْ لَا مَعْنَى لِلْإِضْرَابِ فِي أَوَّلِ الْقَوْلِ، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الشِّعْرِ لَا يَشْهَدُ لِقَوْلِهِمْ، بَلْ يَصِحُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ (أَمْ) فِي الْآيَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ ((أَمْ)) لِلْمُعَادَلَةِ وَحَذْفِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ هُوَ الَّذِي أَجَازَ هَذَا وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَجَوَّزَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا وَعَزَا مَجِيئَهَا لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ عَنْ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا أَبَدًا بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ جَمِيعًا، وَأَنَّ الْكُوفِيِّينَ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي قَوْلُهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى فِي نَحْوِ (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) (13: 16) لَيْسَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ((أَمِ)) الْمُتَّصِلَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ بِالتَّسْوِيَةِ وَأَنَّ ((أَمِ))

215

الْمُنْفَصِلَةَ تَجِيءُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَجِيءُ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَبَعْدَ أَنْ مَثَّلَ لَهُمَا قَالَ: وَبِمَنْزِلَةِ (أَمْ) هُنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (32: 1 - 3) فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لِيَعْرِفُوا ضَلَالَتَهُمْ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَمِثْلُ ذَلِكَ - قَوْلُهُ: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) (43: 16) فَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ لِيُبْصِرُوا ضَلَالَتَهُمُ اهـ. وَفَسَّرَ (الْجَلَالُ) (لَمَّا) بِـ ((لَمْ)) وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ ((لَمَّا)) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ الْمُؤَكَّدِ، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: إِنَّ فُلَانًا جَاءَ فَنَقُولُ: لَمَّا يَجِئْ، وَهَذَا قَدْ يَصِحُّ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَأْكِيدِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحُسْبَانِهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بَعْدُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ ((لَمَّا)) لِلنَّفْيِ مَعَ تَوَقُّعِ الْحُصُولِ، وَلَمْ لِلنَّفْيِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَفِي الْمُغْنِي: إِنَّ ((لَمَّا)) تُفَارِقُ ((لَمْ)) فِي خَمْسَةِ أُمُورٍ فَتُرَاجَعُ هُنَاكَ. (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (2: 172) إِلَخْ. إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِنَّ تِلْكَ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (2: 243) فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، ثُمَّ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَيَظْهَرُ هَذَا أَتَمَّ الظُّهُورِ إِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الْمَسْرُودَةُ أَجْوِبَةً لِأَسْئِلَةٍ وَرَدَتْ، أَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَرِدَ لِلْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْتِحَامِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالْتِئَامِهَا غَرِيبٌ، حَتَّى فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنْ لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) إِلَخْ، مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ فِي الْمَغْزَى; فَإِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حُبَّ النَّاسِ لِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِالشِّقَاقِ وَالْخِلَافِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَمِنْهَا مَا يُصِيبُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْإِنْسَانَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ

اللهِ، وَبَذْلُ الْمَالِ كَبَذْلِ النَّفْسِ كِلَاهُمَا مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّ السَّامِعَ لِمَا تَقَدَّمَ تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى الْبَذْلِ فَيَسْأَلُ عَنْ طَرِيقِهِ، فَجَاءَ بَعْدَهُ السُّؤَالُ مَقْرُونًا بِالْجَوَابِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ؛ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَاذَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَيْنَ نَضَعُهَا؟ فَنَزَلَتْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْهُ وَهِيَ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: إِنَّهَا أَوْهَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِي دِينَارًا فَقَالَ: ((أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ)) قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ، قَالَ: ((أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ)) قَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً، قَالَ: ((أَنْفِقْهَا عَلَى خَادِمِكَ)) قَالَ إِنَّ لِي أَرْبَعَةً، قَالَ: ((أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ)) قَالَ: إِنَّ لِي خَمْسَةً، قَالَ: ((أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ)) قَالَ: إِنَّ لِي سِتَّةً، قَالَ: ((أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى)) هَكَذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ عِنْدُ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسِيَاقٍ آخَرَ; وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((تَصَدَّقُوا)) فَقَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ)) قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ)) قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ)) قَالَ عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ)) قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: ((أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ)) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ الْوَلَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَدْ زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ لَا لِمَا يُنْفَقْ، وَخَرَّجُوهَا عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي السُّؤَالُ عَمَّنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ لَا عَنْ جِنْسِ مَا يُنْفِقُ أَوْ نَوْعِهِ، وَلَيْسَ مَا قَالُوا بِصَوَابٍ; فَإِنَّ جَعْلَ السُّؤَالِ بِـ ((مَا)) خَاصًّا بِالسُّؤَالِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ مِنِ اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ لَا مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ السُّؤَالَ عَنْ جِنْسِ مَا يُنْفَقُ أَوْ نَوْعِهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ، وَإِنَّمَا السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ وَتَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَحَقِّ بِهِ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَلَيْسَ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ جَارِيًا عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو فِي مَنْطِقِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَسَبَقَ الْقَفَّالُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ وَارِدًا بِلَفْظِ ((مَا)) إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ السُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ إِنْفَاقُ مَالٍ يَخْرُجُ قُرْبَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمْ يَنْصَرِفِ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَإِذَا خَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالسُّؤَالِ مَصْرَفُهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ،

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) (2: 70، 71) إِلَخْ. وَإِنَّمَا كَانَ الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَقَرَةَ هِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي نَشْأَتُهَا وَصِفَتُهَا كَذَا فَقَوْلُهُ: (مَا هِيَ) لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا تَتَمَيَّزُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّ الْجَوَابَ مُطَابِقٌ لِذَلِكَ السُّؤَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا; لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا هُوَ، وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: (مَاذَا يُنْفِقُونَ) لَيْسَ هُوَ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ بَلْ طَلَبُ الْمَصْرَفِ، فَلِهَذَا حَسُنَ هَذَا الْجَوَابُ. اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ - مَا يُنْفَقُ وَأَيْنَ يُنْفَقُ - كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَذَكَرَ فِي إِيرَادِهِ عَنْهُمُ الْأَوَّلَ وَحَذَفَ الثَّانِيَ لِلْعِلْمِ بِهِ وَدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) وَهَذَا هُوَ الْمُنْفَقُ. وَالْخَيْرُ هُوَ الْمَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) (2: 180) أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَيَّدُوهُ بِالْكَثِيرِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هُنَا (مِنْ خَيْرٍ) يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ لِدُخُولِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ وَتَنْكِيرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمَالِ بِالْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ حَلَالًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ وَالتَّصَدُّقَ يَكُونُ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ الْكَثِيرِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمَصْرَفِ فَهُوَ قَوْلُهُ: (فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ لِمَكَانَتِهِمَا، وَفَسَّرُوا الْأَقْرَبِينَ بِالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْمَرْءِ أَوْلَادُهُ إِنْ وُجِدُوا، وَإِلَّا كَانَ أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ وَالِدَيْهِ إِخْوَتَهُ، وَمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْأَقْرَبِينَ هُنَا إِلَّا لِبَيَانِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي التَّقْدِيمِ الْقَرَابَةُ، فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا لَفْظَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى الْأَوْلَادِ خَاصَّةً أَرَادُوا جَعْلَ الْآيَةِ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْفِقْهِ، وَهِيَ تَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّفَقَةُ فِي الْآيَةِ أَعَمُّ، وَهَؤُلَاءِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ لَا يَجِبُ عَلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ الْإِنْفَاقُ عَلَى يَتِيمٍ أَوْ مِسْكِينٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتِيمٌ أَوْ مِسْكِينٌ، وَلَكِنَّهُمْ أَحَقُّ بِالصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ بَعْدَ الْأَقْرَبِينَ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي النَّفَقَةِ وَأَحَقِّ النَّاسِ بِهَا. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِيهَا زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، كَأَنَّهَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ بِآيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ هُنَاكَ لَمْ تَسْلَمْ لَهُمْ، فَكَيْفَ بِهَا هُنَا وَقَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِمُ الْجَمَاهِيرُ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) كَالْإِنْفَاقِ فِي مَوْضِعِهِ بِتَقْدِيمِ الْأَحَقِّ فَالْأَحَقِّ بِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمِمَّنْ لَمْ يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذُكِرَ فِي غَيْرِهَا، كَالرَّجُلِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ فَتَدْفَعُهُ إِلَى السُّؤَالِ - لَا مَنْ يَتَّخِذُ السُّؤَالَ حِرْفَةً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى

الْكَسْبِ - وَكَالْمُكَاتَبِ يُسَاعَدُ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ، وَكَغَيْرِ الْإِنْفَاقِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) لَا يَغِيبُ عَنْهُ فَيَنْسَى الْجَزَاءَ وَالْمَثُوبَةَ عَلَيْهِ، بَلْ يَجْزِي بِهِ مُضَاعَفًا. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ - وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ - فِي ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي رَجَبٍ مَقْفَلِهِ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا يُعْلِمُهُ فِيهِ أَيْنَ يَسِيرُ، فَقَالَ: ((اخْرُجْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَتَّى إِذَا سِرْتَ يَوْمَيْنِ فَافْتَحْ كِتَابَكَ فَانْظُرْ فِيهِ فَمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَامْضِ لَهُ، وَلَا تَسْتَكْرِهْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى الذَّهَابِ مَعَكَ)) فَلَمَّا سَارَ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: أَنِ امْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ فَآتِنَا مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ بِمَا اتَّصَلَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقِتَالٍ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ - وَكَانُوا ثَمَانِيَةً - حِينَ قَرَأَ الْكِتَابَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الشَّهَادَةِ فَلْيَنْطَلِقْ مَعِي فَأَنَا مَاضٍ

217

لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ مِنْكُمْ أَحَدًا، فَمَضَى الْقَوْمُ مَعَهُ حَتَّى كَانُوا بِنَجْرَانَ أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَتَعَقَّبَانِهِ فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ يَطْلُبَانِهِ، وَمَضَى الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا نَخْلَةَ، فَمَرَّ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ - وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ - فَلَمَّا رَأَوْهُ حَلِيقًا قَالُوا: عُمَّارٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأْتَمَرَ بِهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى، فَقَالُوا: لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَتَقْتُلُونَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ لَيَدْخُلُنَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْحَرَمَ فَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ، فَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ السَّهْمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ وَأَعْجَزَهُمْ، وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ فَقَدِمُوا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: ((وَاللهِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ)) فَأَوْقَفَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسِيرَيْنِ وَالْعِيرَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ: سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ (أَيْ نَدِمُوا) وَظَنُّوا أَنْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهُمْ أَمْرُ هَؤُلَاءِ: قَدْ سَفَكَ مُحَمَّدٌ الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَسَرَ الرِّجَالَ، وَاسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) الْآيَةَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيرَ وَفَدَى الْأَسِيرَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ: ((أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ تِلْكَ الْفِعْلَةُ رَكِبَ وَفْدٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: أَيَحِلُّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ)) ؟ فَنَزَلَتْ. هَكَذَا أَوْرَدَ الْقِصَّةَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ فِي صَدْرِهَا: ((فِي رَجَبٍ إِلَخْ)) يَخْتَلِفُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ: ((وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى)) وَذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَهَا السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عَمَّنْ ذَكَرَ مَا عَدَا ابْنَ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَالَ: إِنَّهُمْ قَتَلُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) الْآيَةَ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَلَامَهُ يُفِيدُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) إِلَخْ. قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ فُرِضَ فِيهَا الْقِتَالُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ مَمْنُوعًا فَأُذِنَ فِيهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ

الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (22: 39) الْآيَاتِ. ثُمَّ كُتِبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ. وَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (4: 95) وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْقَاعِدِينَ هُنَا هُمْ أُولُو الضَّرَرِ الْعَاجِزُونَ عَنِ الْقِتَالِ لِمَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْقَاعِدُونَ كَرَاهَةً فِي الْقِتَالِ فَحُكْمُهُمْ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) وَقِيلَ: إِنَّ الْقِتَالَ يَجِبُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ فَاتِحًا فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ إِذْ كَيْفَ يَكْرَهُ الْمُؤْمِنُونَ مَا يُكَلِّفُهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ وَفِيهِ سَعَادَتُهُمْ؟ ! وَحَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْكُرْهِ الطَّبِيعِيِّ وَالْمَشَقَّةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّضَى بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَجَعَلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِحِفْظِ دِينِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَاتِ الْإِذْنِ بِهِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ) (22: 40) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَكْرُوهَةِ طَبْعًا مَا تَأْتُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ وَخَيْرَهُ كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْبَشِعِ الْمُرِّ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ طَبْعًا مَا يَتَوَقَّعُ فَاعِلُهَا الضُّرَّ وَالْأَذَى فِي نَفْسِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ مُنَازَعَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ. هَذَا تَقْرِيرُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَى هَذَا مَعْنًى وَجِيهٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ لَا مِمَّا هَدَاهُمُ الْكِتَابُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (عَسَى) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُفِيدُ أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، لَا أَنَّهُ مَرْجُوٌّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَمُتَوَقَّعٌ، وَأَنَّ الْكُرْهَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ مَا حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَالْعَرَبُ فِي قِتَالٍ مُسْتَحِرٍّ، وَنِزَاعٍ مُسْتَمِرٍّ، وَكَانَ الْغَزْوُ لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْكَسْبِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ أَلِفُوا الْقِتَالَ وَاعْتَادُوهُ وَمُرِّنُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهًا بِالطَّبْعِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فِئَةً قَلِيلَةً حَمَلَتْ هَذَا الدِّينَ وَاهْتَدَتْ بِهِ، وَيَخْشَوْنَ أَنْ يُقَاوِمُوا الْمُشْرِكِينَ بِالْقُوَّةِ فَيَهْلِكُوا، وَيَضِيعُ الْحَقُّ الَّذِي هُدُوا إِلَيْهِ وَكُلِّفُوا إِقَامَتَهُ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ كُرْهَهُمْ لِلْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَبِيدُوا، وَلَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي حَمَلُوهُ أَنْ يَضِيعَ، وَإِنَّمَا هُوَ حُبُّ السَّلَامِ وَالرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْقُرْآنُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَثَبَّتَهَا الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاخْتِيَارُ مُصَابَرَةِ الْكُفَّارِ وَمُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ مُجَالَدَتِهِمْ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، رَجَاءَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَيَتْرُكُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ

يَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) مَا لَا يَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ وَيُفِيدُ قَوْلُهُ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أَنَّ قِيَاسَكُمْ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتَوَقُّعَكُمْ أَنْ يُزَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَا زُيِّنَ لَكُمْ، هُوَ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِعْدَادَ فِي النَّاسِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا، فَمِنْهُمْ مَنْ سَاءَتْ خَلِيقَتُهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِرُوحِ الْحَقِّ مَنْفَذٌ إِلَى عَقْلِهِ، وَلَا لِحُبِّ الْخَيْرِ طَرِيقٌ إِلَى قَلْبِهِ، فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الدَّعْوَةُ، وَلَا تُرْجَى لَهُ الْهِدَايَةُ وَمِثْلُ هَذَا الْفَرِيقِ فِي الْأُمَّةِ كَمَثَلِ الدَّمِ الْفَاسِدِ فِي الْجِسْمِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِقِتَالِهِمْ إِلَّا رَحْمَةً بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَنْ تَفْسُدَ بِهِمْ، فَلَا يُقَاسُونَ عَلَى مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ وَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُمْ حَتَّى كَانَ وُقُوعُهُمْ فِي الْبَاطِلِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِصَابَتِهِمْ بَعْضَ الشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْرِ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ وَلَا مَا يَكُونُ مِنْ أَثَرِهِ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ، وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ فَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِمَّا أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَهُوَ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَنْصُرَ الْحَقَّ وَحِزْبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَحْزَابِهِ مَا اسْتَمْسَكَ حِزْبُ اللهِ بِحَقِّهِمْ فَأَقَامُوهُ وَدَعَوْا إِلَيْهِ وَدَافَعُوا عَنْهُ، وَأَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْمُدَافَعَةِ ضَعْفٌ فِي الْحَقِّ يُغْرِي بِهِ أَعْدَاءَهُ وَيُطْمِعُهُمْ بِالتَّنْكِيلِ بِحِزْبِهِ، حَتَّى يَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَيُوقِعُوا بِهِمْ، وَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ وَيَنْصُرَ أَهْلَهُ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَيَخْذُلَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (2: 249) وَقَدْ عَلِمَ اللهُ كُلَّ هَذَا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا خَبَّأَ لَكُمْ فِي غَيْبِهِ، وَسَتَجِدُونَهُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْشِدُكُمْ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ نَقْلُ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا) جَمِيعُ مَا نُهُوا عَنْهُ. وَلَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَكْرَهُ طَبْعُهُ وَتَسْتَثْقِلُ نَفْسُهُ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَتُحِبُّ جَمِيعَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ يُذْهِلُ الْمَرْءَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِبُّ وَتَكْرَهُ، وَعَمَّا يَرَاهُ وَيَعْرِفُهُ فِي النَّاسِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ; فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يُعْرَفُ بُطْلَانُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، يَعْرِفْ قِيمَةَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالتَّقْلِيدِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ. بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ كُتِبَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا مَفَرَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ الْمُؤْمِنُونَ خَشْيَةَ أَنْ يَضِيعَ الْحَقُّ بِهَلَاكِ أَهْلِهِ، أَوْ لِمَا أَوْدَعَ الْقُرْآنُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّجَاءِ بِجَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ بِجَاذِبِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ - وَهُوَ الْأَرْجَحُ - بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَسْأَلَةً لَا بُدَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ بَيَانِهَا لِلْحَاجَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٍ،

وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ الْقَبِيحِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْقِتَالِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ حَسَنٌ; لِأَنَّهُ تَقْلِيلٌ لِلشَّرِّ; لِذَلِكَ كَانَ لِمَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ وَقْعٌ سَيِّئٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ عِنْدَ أَخْذِ الْعِيرِ وَقَتْلِ مَنْ قَتَلُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ غُرَّةُ رَجَبٍ. قِيلَ: إِنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) أَيْ: عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، وَقُرِئَ ((عَنْ قِتَالٍ فِيهِ)) بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَقَدَّمَ ذِكْرَهُ لِلْعِنَايَةِ بِهِ، وَنَكَّرَ الْقِتَالَ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِتَنْوِيعِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَصِحُّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ قِتَالٌ مَا؟ (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أَيْ: إِنَّ أَيَّ قِتَالٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَنْكَرٌ وُقُوعُهُ فِيهِ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ ذَنْبٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِحُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ الْغَزْوُ فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ، وَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا; لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ - وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ: وَالْأَولَى مَنْعُ دَلَالَةِ الْآيَةِ - عَلَى حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي كُلِّ الشَّهْرِ الْحَرَامِ مُطْلَقًا; لِأَنَّ لَفْظَةَ (قِتَالٍ) فِيهَا نَكِرَةٌ فِي حَيِّزٍ مُثْبَتٍ فَلَا تَعُمُّ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ لَفْظِ الْقِتَالِ فِيهَا عَامًّا، وَرُبَّمَا كَانَتْ دَلَالَةُ النَّكِرَةِ فِيهَا أَدَلَّ عَلَى إِطْلَاقِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ قِتَالٍ فِي جِنْسِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَعْنَى تَنْكِيرِهَا وَكَوْنِهِ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَهُمْ فِي الْآيَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرًا تَمْهِيدٌ لِلْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ وَمَا عَسَاهُ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ لَا يُنْكِرُهَا عَقْلٌ، وَهِيَ وُجُوبُ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِتَالَ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ وَجُرْمٌ عَظِيمٌ، وَإِنَّمَا يُرْتَكَبُ لِإِزَالَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصَدٌّ عَلَى سَبِيلِ اللهِ) أَيْ: وَصَدُّ النَّاسِ وَمَنْعُهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ اضْطِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتْنَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ; إِذْ يَقْتُلُونَ مَنْ يُسْلِمُ أَوْ يُؤْذُونَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَيَمْنَعُونَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَكُفْرٌ بِهِ) أَيْ: بِاللهِ تَعَالَى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ: وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; وَهُوَ مَنْعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرُونَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي آيَاتِ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (22: 40) كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ بِهَا وَقَدِ اجْتَمَعَتْ! ! !

ثُمَّ صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِتَالِ، وَهِيَ فِتْنَةُ النَّاسِ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، كَمَا فَعَلُوا بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَشِيرَتِهِ، وَبِلَالٍ وُصَهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَغَيْرِهِمْ كَانَ عَمَّارٌ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ؛ يُكْوَى بِهَا لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِ فَيَرَى أَثَرَ النَّارِ بِهِ كَالْبَرَصِ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: إِنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَاهُ وَأَخَاهُ عَبْدَ اللهِ وَسُمَيَّةَ أُمَّهُ كَانُوا يُعَذَّبُونَ فِي اللهِ، فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ((صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)) وَفِي رِوَايَةٍ ((صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ، وَقَدْ فَعَلْتُ)) . مَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَأُعْطِيَتْ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ لِأَبِي جَهْلٍ يُعَذِّبُهَا - وَكَانَتْ مَولَاةً لِعَمِّهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ بِتَعْذِيبِهَا - فَعَذَّبَهَا عَذَابًا شَدِيدًا رَجَاءَ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا فَلَمْ تُجِبْهُ لِمَا يَسْأَلُ، ثُمَّ طَعَنَهَا فِي فَرْجِهَا بِحَرْبَةٍ فَمَاتَتْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً، وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ: مَا آمَنْتِ بِمُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّكِ عَشِقْتِهِ لِجَمَالِهِ، يُؤْذِيهَا بِالْقَوْلِ كَمَا يُؤْذِيهَا بِالْفِعْلِ، وَكَانَ يُلْبِسُ عَمَّارًا دِرْعًا مِنَ الْحَدِيدِ فِي الْيَوْمِ الصَّائِفِ يُعَذِّبُهُ بِحَرِّهِ. وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ يُعَذِّبُ بِلَالًا يَفْتِنُهُ، فَكَانَ يُجِيعُهُ وَيُعَطِّشُهُ لَيْلَةً وَيَوْمًا، ثُمَّ يَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي الرَّمْضَاءِ; أَيْ: يَضَعُهُ عَلَى الرَّمْلِ الْمُحْمَى بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ الَّذِي يُنْضِجُ اللَّحْمَ، وَيَضَعُ عَلَى ظَهْرِهِ صَخْرَةً عَظِيمَةً وَيَقُولُ لَهُ: لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَيَأْبَى ذَلِكَ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانُوا يُعْطُونَهُ لِلْوِلْدَانِ فَيَرْبُطُونَهُ بِحَبْلٍ وَيَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَحَدٌ، أَحَدٌ)) . وَحَكَى خَبَّابٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا وَقَدْ أُوقِدَتْ لِي نَارٌ وَضَعُوهَا عَلَى ظَهْرِي فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ (دُهْنُ) ظَهْرِي. فَهَذَا نَمُوذَجٌ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا امْتَنَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَزَّ عَلَيْهِمْ إِبْسَالُهُ فَمَنَعُوهُ حَمِيَّةً وَأَنَفَةً لِلْقَرَابَةِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنَعَةِ قَوْمِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إِيذَائِهِمْ، فَقَدْ وَضَعُوا سَلَا الْجَزُورِ (كَرِشَ الْبَعِيرِ الْمَمْلُوءَةَ فَرْثًا) عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَخَافَ أَصْحَابُهُ تَنْحِيَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ حَتَّى نَحَّتْهُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَتَعَرَّضُوا لَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ كَفَاهُ اللهُ شَرَّهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (15: 95) وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُمْ وَبَيَانُ إِيذَائِهِمْ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. هَذَا مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَامِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ ضَعْفِهِمْ، وَلَمَّا هَاجَرُوا وَكَثُرُوا صَارُوا يَقْصِدُونَهُمْ بِالْقِتَالِ فِي مَهْجَرِهِمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)

عَادَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ لِمَا تَقَدَّمَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا مَنْعَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَرْكُ قِتَالِهِمْ هُوَ الَّذِي يُبِيدُ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَانْتِظَارُ إِيمَانِهِمْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ، طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَالْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَهْوَنُ مِنَ الْفِتْنَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ لَوْ لَمْ يَحْتَفِ بِهَا غَيْرُهَا مِنَ الْآثَامِ، كَيْفَ وَقَدْ قَارَنَهَا الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْكُفْرُ بِهِ، وَالصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَالِاعْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (إِنِ اسْتَطَاعُوا) يُفِيدُ الشَّكَّ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً - وَهُوَ الْحَقُّ الصَّرِيحُ - لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ - وَهُوَ الْبَاطِلُ الْمَفْضُوحُ - وَهَكَذَا كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ، فَلَا يَزَالُ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَنَا لِيَرُدُّونَا عَنْ دِينِنَا إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا. وَلَمَّا ذَكَرَ الرِّدَّةَ الَّتِي يَبْغُونَهَا بِقِتَالِهِمْ بَيَّنَ حُكْمَهَا فَقَالَ: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ: وَمَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ - فَرْضًا - فَأُولَئِكَ الْمُرْتَدُّونَ هُمُ الَّذِينَ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدَّارَيْنِ حَتَّى كَأَنَّ وَاحِدَهُمْ لَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا قَطُّ; لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ يُشْبِهُ الْآفَةَ تُصِيبُ الْمُخَّ وَالْقَلْبَ فَتَذْهَبُ بِالْحَيَاةِ; فَإِنْ لَمْ يَمُتِ الْمُصَابُ بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقَعُ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ هُدِيَ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ تَفْسُدُ رُوحُهُ وَيُظْلِمُ قَلْبُهُ، فَيَذْهَبُ مِنْ نَفْسِهِ أَثَرُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلَا يُعْطَى شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرَةِ، فَيَخْسَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ تَبْطُلُ أَعْمَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَحَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ نَحْوِ الْحَجِّ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتُطَلَّقُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ طَلَاقًا بَائِنًا فَلَا تَعُودُ إِلَيْهِ إِذَا هُوَ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَيَقُولُ غَيْرُهُمْ: إِنَّ حُبُوطَ الْعَمَلِ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ; فَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ مُدَّةً ثُمَّ عَادَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ نَحْوِ الْحَجِّ، وَأَمَّا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً إِلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَانَتْ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَلِلرِّدَّةِ أَحْكَامٌ أُخْرَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تُطْلَبُ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَنْتَفِعُ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الدِّينِ رُجُوعٌ عَنْ أُصُولِهِ الْأَسَاسِيَّةِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: (1) الْإِيمَانُ بِأَنَّ لِهَذَا الْكَوْنِ الْعَظِيمِ الْمُتْقَنِ فِي وَحْدَةِ نِظَامِهِ وَبَدِيعِ إِحْكَامِهِ، رَبًّا إِلَهًا أَبْدَعَهُ وَأَتْقَنَهُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ بِغَيْرِ مُسَاعِدٍ وَلَا وَاسِطَةٍ، فَلَا تَأْثِيرَ لِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا مَا هَدَى هُوَ النَّاسَ إِلَيْهِ بِاطِّرَادِ سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ; فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ

وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، لَا فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي الْعِبَادَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مُنْتَهَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ ارْتِقَاءُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الِاعْتِقَادِ، وَتَطْهِيرِ الْأَنْفُسِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ. (2) الْإِيمَانُ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْعَوَالِمَ الْحَيَّةَ الَّتِي فِي هَذَا الْكَوْنِ لَا تَنْعَدِمُ مِنَ الْوُجُودِ وَلَا تَنْفُذُ مِنْ أَقْطَارِ مُلْكِ اللهِ بِمَا نَرَاهُ مِنْ فَسَادِ تَرْكِيبِهَا وَذَهَابِ صُوَرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالتَّحَوُّلُ فِي الصُّوَرِ مَأْلُوفًا مَنْظُورًا فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ حَيَاةً أُخْرَى فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ. وَهَذَا الْإِيمَانُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ; لِأَنَّهُ يَبْعَثُ الْبَشَرَ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْعَالَمِ الْأَوْسَعِ الْأَكْمَلِ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِأَنَّ وُجُودَهُمْ أَكْمَلُ وَأَبْقَى مِمَّا يَتَوَهَّمُونَ. (3) الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَنْفَعُ النَّاسَ. فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ لَا يَتْرُكُهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا إِلَّا وَيَكُونُ مَنْكُوسًا لَا حَظَّ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا مَقَرَّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا. كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ لَا سِيَّمَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَمِنْ إِيذَائِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَمِنْ مَنْعِ إِخْوَانِكُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَيْكُمْ بَعْدَ طَرْدِكُمْ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَمِنَ الْقَصْدِ إِلَى قِتَالِكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ لِتَخْسَرُوا دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتَكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْجِمُوا عَنْ قِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا أَنْ تَحْفِلُوا بِإِنْكَارِهِمْ عَلَيْكُمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ وَحُكْمَ الْمُرْتَدِّينَ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّ الذِّهْنَ يَتَوَجَّهُ إِلَى طَلَبِهِ فَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ) الْمُهَاجَرَةُ: مُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ وَالْأَهْلِ، وَهِيَ مِنَ الْهَجْرِ، ضِدُّ الْوَصْلِ. وَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ - فِرَارًا بِنَفْسِهِ وَبِقَوْمِهِ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ وَفِتْنَتِهِمْ - إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي عَاهَدَهُ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي هِجْرَتِهِ لِيَعْتَزَّ الْإِسْلَامُ بِأَهْلِهِ، وَيَقْدِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ قَدَرَ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، إِذْ خَذَلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ وَجَعَلَ كَلِمَتَهُمُ السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْهِجْرَةِ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي مِثْلِ عَصْرِنَا هَذَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ عِلَّةِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ التَّشْرِيعِ أَنَّهَا تَجِبُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ

218

زَمَانٍ وَمَكَانٍ; فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُقِيمَ فِي بِلَادٍ يُفْتَنُ بِهَا عَنْ دِينِهِ بِأَنْ يُؤْذَى إِذَا صَرَّحَ بِاعْتِقَادِهِ أَوْ عَمِلَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حُكَّامُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ صِنْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَلَّا يَقْدِرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّصْرِيحِ - قَوْلًا وَكِتَابَةً - بِكُلِّ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَلَا يُمَكَّنُوا مِنَ الْقِيَامِ بِفَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ فَهِيَ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالْقِتَالِ. وَالرَّجَاءُ هُوَ تَوَقُّعُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَسْبَابِهَا. فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ الرَّسُولِ أَوْ هَاجَرُوا إِلَيْهِ لِلْقِيَامِ بِنُصْرَةِ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي مُقَاوَاةِ الْكُفَّارِ وَمُقَاوَمَتِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى وَإِحْسَانَهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا، وَهُمْ أَجْدَرُ بِأَنْ يُعْطُوا مَا يَرْجُونَ، وَأَمَّا طَلَبُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا الْعَادِيَّةِ فِي الْعَادِيَاتِ، وَالشَّرْعِيَّةِ فِي الدِّينِيَّاتِ فَلَا يُسَمَّيَانِ رَجَاءً، بَلْ تَمَنِّيًا وَغُرُورًا. تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ، عَظِيمُ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ، يَغْفِرُ لَهُمْ مَا عَسَاهُ يُفَرَّطُ مِنْهُمْ مِنْ تَقْصِيرٍ وَيَتَغَمَّدُهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَنِعْمَ الْمَصِيرُ. (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الْآيَةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا إِنَّمَا قَالَ: (إِثْمٌ كَبِيرٌ) وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى كَانَ يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمَّ أَصْحَابَهُ فِي الْمَغْرِبِ فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (4: 43) الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) - إِلَى قَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (5: 90 - 91) قَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. وَقَالَ (الْجَلَالُ) فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ شَرِبَهَا قَوْمٌ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنْ كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ لَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: ((اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِالْمَالِ وَالْعَقْلِ)) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: ((اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا)) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقَرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فَكَانَ يُنَادِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ: ((أَنْ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ)) فَدُعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا)) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا بَلَغَ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ عُمَرُ: ((انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا)) . وَلَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَاتِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَيَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهَا كَانَ بَعْدَ تَمْهِيدٍ بِالذَّمِّ وَالنَّهْيِ عَنِ السُّكْرِ فِي حَالِ قُرْبِ الصَّلَاةِ، وَأَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ مُتَقَارِبَةٌ فَمَنْ يُنْهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَجَنَّبَ السُّكْرَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا تَحْضُرَهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ (وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الَّتِي قَيَّدَ بِهَا النَّهْيَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْحِكْمَةِ فِي التَّدَرُّجِ بِالتَّكْلِيفِ مَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ انْتِفَاعُهُمْ بِهَا كَثِيرًا، فَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنِ اسْتَعْمَلَ فِي التَّحْرِيمِ هَذَا التَّدْرِيجَ وَهَذَا الرِّفْقَ. وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ - لَوْلَا الرِّوَايَاتُ - أَنَّ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ أَوَّلًا، فَكَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الشُّرْبِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا تَفُوتَهُمُ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا آيَةُ الْمَائِدَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ; لِأَنَّهَا أَكَّدَتِ النَّهْيَ، وَبَيَّنَتْ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ بِالتَّعْيِينِ، عَلَى أَنَّ السُّورَةَ بِرُمَّتِهَا مِنْ آخِرِ السُّورِ نُزُولًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بَعْدَهَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ; لِأَنَّ لَفْظَ الْإِثْمِ يُفِيدُ الْمُحَرَّمَ. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (7: 33) وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ تَدْرِيجِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجَّهَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْهُودُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْإِثْمَ هُوَ الضَّرَرُ، فَتَحْرِيمُ كُلِّ ضَارٍّ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَمُنَفِّعَةٌ مِنْ جِهَةٍ

أُخْرَى; لِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعًا لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فَتَرَكَ لَهَا الْخَمْرَ بَعْضُهُمْ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِهَا آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا مَعَ اجْتِنَابِ ضَرَرِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَوْ فُوجِئُوا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ وَلُوعِ الْكَثِيرِينَ بِهَا وَاعْتِقَادِهِمْ مَنْفَعَتَهَا لَخَشِيَ أَنْ يُخَالِفُوا أَوْ يَسْتَثْقِلُوا التَّكْلِيفَ، فَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ أَنْ رَبَّاهُمْ عَلَى الِاقْتِنَاعِ بِأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ وَفَوَائِدِهِ لِيَأْخُذَهُ بِقُوَّةٍ وَعَقْلٍ. لَفْظُ الْخَمْرِ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ خَمَّرَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى سَتَرَهُ وَغَطَّاهُ، يُقَالُ: خَمَّرَتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَخَمَّرْتُ الْجَارِيَةَ أَلْبَسْتُهَا الْخِمَارَ، وَهُوَ النَّصِيفُ الَّذِي تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا، وَتَخَمَّرَتْ هِيَ وَاخْتَمَرَتْ. وَالْوَجْهُ فِي النَّقْلِ أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ يَسْتُرُ الْعَقْلَ وَيُغَطِّيهِ، أَوْ هُوَ مِنْ خَامَرَهُ بِمَعْنَى خَالَطَهُ، يُقَالُ: خَامَرَهُ الدَّاءُ; أَيْ: خَالَطَهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ عُمَرُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ بِمَعْنَى التَّغَيُّرِ، يُقَالُ: خَمِرَ الشَّيْءُ - كَعَلِمَ - إِذَا تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَالْعَصِيرُ يَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ خَمْرًا، أَوْ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، مِنْ خَمَّرَ الْعَجِينَ وَنَحْوَهُ فَاخْتَمَرَ; أَيْ: بَلَغَ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ يُقَالُ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا; لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى اخْتَمَرَتْ، وَاخْتِمَارُهَا تُغَيُّرُ رَائِحَتِهَا، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ لُغَةً عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْهَرُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ كَالْجَوْهَرِيِّ وَأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيِّ وَالْمَجْدِ صَاحِبِ الْقَامُوسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ حَقِيقِيٌّ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا لَا تُطْلِقُ اللَّفْظَ عَلَى مُسْكِرٍ سِوَاهُ، وَهُوَ مَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، زَادَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ سَكَنَ، وَقِيلَ إِذَا اشْتَدَّ فَقَطْ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - وَهُمْ صَمِيمُ الْعَرَبِ - فَهِمُوا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الْعِنَبِ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ; بَلْ قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ: إِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا نَبِيذُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، فَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ نَصُّ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: ((نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهُوَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ)) وَكَأَنَّ هَذَا كُلُّ مَا يُعْرَفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)) وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ: ((وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)) وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ يَجْلِدُونَ كُلَّ مَنْ سَكِرَ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحَدِّ الْخَمْرِ أَوْ عُقُوبَتِهِ، يَقُولُ الْمُخَصِّصُونَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَنَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ عَلَيْهِمْ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، فَلَا فَرْقَ فِي حُكْمِهَا بَيْنَ

مُسْكِرٍ وَآخَرَ، وَهَذَا الْبَيَانُ قَطْعِيٌّ مُتَوَاتِرٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ ((مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)) . وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ الْقِمَارُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ يَسَرَ إِذَا وَجَبَ، أَوْ مِنَ الْيُسْرِ بِمَعْنَى السُّهُولَةِ; لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كَدٍّ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ وَهُوَ الْغِنَى; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ لِلرَّابِحِ. أَوْ مِنَ الْيَسَرِ بِمَعْنَى التَّجْزِئَةِ وَالِاقْتِسَامِ، يُقَالُ: يَسَرُوا الشَّيْءَ إِذَا اقْتَسَمُوهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ الْجَزُورُ - الْجَمَلُ - كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا; لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَزَّأْتَهُ فَقَدْ يَسَرْتَهُ، وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ أَيْ: لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ، ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لِلْمُتَقَامِرِينِ جَازِرُونَ; لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْجَزْرِ وَالتَّجْزِئَةِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ عَشَرَةُ قِدَاحٍ (جَمْعُ قِدْحٍ بِالْكَسْرِ) وَتُسَمَّى الْأَزْلَامَ وَالْأَقْلَامَ، وَهِيَ الْفَذُّ، وَالتَّوْءَمُ، وَالرَّقِيبُ، وَالْحَلِسُ (كَكَتِفٍ) وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالنَّافِسُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ الْأُولَى نَصِيبٌ مَعْلُومٌ مِنْ جَزُورٍ يَنْحَرُونَهَا وَيُجَزِّئُونَهَا عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ أَوْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَلَيْسَ لِلثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ شَيْءٌ، فَلِلْفَذِّ سَهْمٌ، وَلِلتَّوْءَمِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّقِيبِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْحَلِسِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلنَّافِسِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُسْبِلِ سِتَّةٌ، وَلِلْمُعَلَّى سَبْعَةٌ وَهُوَ أَعْلَاهَا; وَلِذَلِكَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ لِمَنْ كَانَ أَكْبَرَ حَظًّا أَوْ نَجَاحًا مَنْ غَيْرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُفِيدٍ لَهُ، فَيُقَالُ: صَاحِبُ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْأَزْلَامَ فِي الرَّبَابَةِ، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ يُجَلْجِلُهَا وَيُدْخِلُ يَدَهُ فَيُخْرِجُ مِنْهَا وَاحِدًا بِاسْمِ رَجُلٍ، ثُمَّ وَاحِدًا بِاسْمِ رَجُلٍ إِلَخْ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ أَخَذَ النَّصِيبَ الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ لَا نَصِيبَ لَهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ ثَمَنَ الْجَزُورِ كُلَّهُ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَمَرُ الْعِضَاهِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَقَالَ: كُلُّ سِهَامِ الْيَاسِرِينَ عَشَرَةٌ فَأَوْدَعُوهَا صُحُفًا مُنَشَّرَةً لَهَا فُرُوضٌ وَلَهَا نَصِيبُ الْفَذُّ وَالتَّوْءَمُ وَالرَّقِيبُ وَالْحَلِسُ يَتْلُوهُنَّ ثُمَّ النَّافِسُ وَبَعْدَهُ مُسْبِلُهُنَّ السَّادِسُ ثُمَّ الْمُعَلَّى كَاسْمِهِ الْمُعَلَّى صَاحِبُهُ فِي الْيَاسِرِينَ الَأَعْلَى وَالْوَغْدُ وَالسَّفِيحُ وَالْمَنِيحُ غَفْلٌ فَمَا فِيهَا يُرَى رَبِيحُ

219

وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْمَيْسِرُ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الْقِمَارِ بِعَيْنِهِ، أَمْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُقَامَرَةٍ؟ وَلَكِنْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ قِمَارٍ مُحَرَّمٌ إِلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ مِنَ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ وَالرِّمَايَةِ تَرْغِيبًا فِيهِمَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ، وَلَيْسَ مِنْهَا سِبَاقُ الْخَيْلِ الْمَعْرُوفُ فِي عَصْرِنَا; فَإِنَّهُ مِنْ شَرِّ الْقِمَارِ الَّذِي تَرْجِعُ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ إِلَى كَوْنِهَا مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ((كَثِيرٌ)) بِالْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ ((كَبِيرٌ)) مِنَ الْكِبَرِ، وَالْإِثْمُ: كُلُّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَتَبِعَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ; أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ فِي تَعَاطِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمًا كَثِيرَ الْمَفَاسِدِ وَذَنْبًا كَبِيرَ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِثْمُ الْخَمْرِ كَبِيرًا; لِأَنَّ مَضَرَّاتِهَا وَالتَّبِعَاتِ الَّتِي تَعْقُبُهَا كَبِيرَةٌ، وَالضَّرَرُ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَيَكُونُ فِي التَّعَامُلِ وَارْتِبَاطِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يُوجَدُ إِثْمٌ مِنَ الْآثَامِ كَالْخَمْرِ يَدْخُلُ ضَرَرُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَنْوَاعُ هَذَا الضَّرَرِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ الصِّحِّيَّةِ إِفْسَادُ الْمَعِدَةِ وَالْإِقْهَاءِ - فَقْدُ شَهْوَةِ الطَّعَامِ - وَتَغْيِيرُ الْخَلْقِ، فَالسُّكَارَى يُسْرِعُ إِلَيْهِمُ التَّشَوُّهُ، فَتَجْحَظُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَمْتَقِعُ سَحْنَتُهُمْ، وَتَعْظُمُ بُطُونُهُمْ; بَلْ قَالَ أَحَدُ أَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِ: إِنَّ السَّكُورَ - كَثِيرُ السُّكْرِ - ابْنَ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ نَسِيجُ جِسْمِهِ كَنَسِيجِ جِسْمِ ابْنِ السِّتِّينَ، وَيَكُونُ كَالْهَرِمِ جِسْمًا وَعَقْلًا، وَمِنْهَا مَرَضُ الْكَبِدِ وَالْكُلَى، وَدَاءُ السُّلِّ الَّذِي يَفْتِكُ فِي الْبِلَادِ الْأُورُبِّيَّةِ فَتْكًا ذَرِيعًا عَلَى عِنَايَةِ أَهْلِهَا بِقَوَانِينِ الصِّحَّةِ، وَلَكِنْ لَا وِقَايَةَ مِنْ شُرُورِ السُّكْرِ إِلَّا بِتَرْكِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَحْوَ نِصْفِ الْوَفِيَّاتِ فِي بَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّا بِدَاءِ السُّلِّ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّاءُ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْتَشِرًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ - مِصْرَ - قَبْلَ شُيُوعِ السُّكْرِ فِيهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَدْوَاءِ الَّتِي حَمَلَهَا إِلَيْهَا الْأُورُبِّيُّونَ، وَقَدْ كَثُرَ كَثْرَةً فَاحِشَةً فِي مِصْرَ عَلَى أَنَّ جَوَّهَا لَا يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِهِ. وَأَمَّا ضَرَرُ الْخَمْرِ فِي الْعَقْلِ فَهُوَ مُسْلَّمٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَيْسَ ضَرَرُهُ فِيهِ خَاصًّا بِمَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّصَوُّرِ وَالْإِدْرَاكِ عِنْدَ السُّكْرِ; بَلِ السُّكْرُ يُضْعِفُ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ، وَكَثِيرًا مَا يَنْتَهِي بِالْجُنُونِ، وَلِأَحَدِ أَطِبَّاءِ أَلْمَانْيَا كَلِمَةٌ اشْتُهِرَتْ كَالْأَمْثَالِ وَهِيَ ((اقْفِلُوا لِي نِصْفَ الْحَانَاتِ أَضْمَنْ لَكُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ نِصْفِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْبِيمَارِسْتَانَاتِ وَالْمَلَاجِئِ - التَّكَايَا - وَالسُّجُونِ)) . وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: إِنَّ الْمُسْكِرَ لَا يَتَحَوَّلُ إِلَى دَمٍ كَمَا تَتَحَوَّلُ سَائِرُ الْأَغْذِيَةِ بَعْدَ الْهَضْمِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، فَيُزَاحِمُ الدَّمَ فِي مَجَارِيهِ فَتُسْرِعُ حَرَكَةُ الدَّمِ، وَتَخْتَلُّ مُوَازَنَةُ الْجِسْمِ، وَتَتَعَطَّلُ وَظَائِفُ الْأَعْضَاءِ أَوْ تَضْعُفُ، وَتَخْرُجُ عَنْ وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الْمُعْتَدِلِ. فَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي اللِّسَانِ إِضْعَافُ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَفِي الْحَلْقِ الِالْتِهَابُ، وَفِي الْمَعِدَةِ تَرْشِيحُ الْعُصَارَةِ الْفَاعِلَةِ فِي الْهَضْمِ حَتَّى يَغْلُظَ نَسِيجُهَا وَتَضْعُفَ حَرَكَتُهَا، وَقَدْ يُحْدِثُ فِيهَا احْتِقَانًا

وَالْتِهَابًا، وَفِي الْأَمْعَاءِ التَّقَرُّحُ، وَفِي الْكَبِدِ تَمْدِيدُهُ وَتَوْلِيدُ الشَّحْمِ الَّذِي يُضْعِفُ عَمَلَهُ، وَكُلُّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْجِهَازَ الْهَضْمِيَّ. وَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الدَّمِ أَنَّهُ بِمُمَازَجَتِهِ لَهُ يَعُوقُ دَوْرَتَهُ وَقَدْ يُوقِفُهَا أَحْيَانًا فَيَمُوتُ السَّكُورُ فَجْأَةً، وَيُضْعِفُ مُرُونَةَ الشَّرَايِينِ فَتَتَمَدَّدُ وَتَغْلُظُ حَتَّى تَنْسَدَّ أَحْيَانًا فَيَفْسَدُ الدَّمُ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَتَكُونُ الْغَنْغَرِينَا الَّتِي تَقْضِي بِقَطْعِ الْعُضْوِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ لِئَلَّا يَسْرِيَ الْفَسَادُ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ فَيَكُونُ هَالِكًا، وَتَصَلُّبُ الشَّرَايِينِ يُسْرِعُ الشَّيْخُوخَةَ وَالْهَرَمَ. وَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي جِهَازِ التَّنَفُّسِ إِضْعَافُ مُرُونَةِ الْحَنْجَرَةِ، وَتَهْيِيجُ شُعَبِ التَّنَفُّسِ، وَأَهْوَنُ ضَرَرِ ذَلِكَ بُحَّةُ الصَّوْتِ وَالسُّعَالُ، وَأَعْظَمُهَا تَدَرُّنُ الرِّئَةِ; أَيِ: السُّلُّ الْفَاتِكُ بِالشُّبَّانِ وَالْقَاطِعُ لِجَمِيعِ لَذَّاتِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا تَأْثِيرُهُ فِي الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَهُوَ الَّذِي يُولِدُ الْجُنُونَ وَيُهْلِكُ النَّسْلَ، فَوَلَدُ السَّكُورِ لَا يَكُونُ نَجِيبًا، وَوَلَدُ وَلَدِهِ يَكُونُ شَرًّا مِنْ وَلَدِهِ وَأَضْعَفَ بَدَنًا وَعَقْلًا، وَقَدْ يُؤَدِّي تَسَلْسُلُ هَذَا الضَّعْفِ إِلَى انْقِطَاعِ النَّسْلِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَرَى الْأَبْنَاءُ عَلَى طَرِيقِ الْآبَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ. وَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ فِي التَّعَامُلِ وُقُوعُ النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ بَيْنَ السُّكَارَى بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ يُعَاشِرُهُمْ وَيُعَامِلُهُمْ، تُثِيرُ ذَلِكَ أَدْنَى بَادِرَةٍ مِنْ أَحَدِهِمْ، فَيُوغِلُونَ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ عَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ فِي نَظَرِ الدِّينِ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ بِهَا النَّصُّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (5: 91) . وَمِنْهَا إِفْشَاءُ السِّرِّ، وَهُوَ ضَرَرٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَضَرَّاتٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ السِّرُّ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَةِ وَسِيَاسَةِ الدَّوْلَةِ وَمَصَالِحِهَا الْعَسْكَرِيَّةِ، وَعَلَيْهَا يَعْتَمِدُ الْجَوَاسِيسُ. وَمِنْهَا الْخِسَّةُ وَالْمَهَانَةُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ; فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَكُونُ فِي هَيْئَتِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ بِحَيْثُ يَضْحَكُ مِنْهُ وَيَسْتَخِفُّ بِهِ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ، حَتَّى الصِّبْيَانُ; لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُمْ عَقْلًا، وَأَبْعَدَ عَنِ التَّوَازُنِ فِي حَرَكَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَالضَّبْطِ فِي أَفْكَارِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنِ السُّكَارَى مِنَ النَّوَادِرِ الْغَرِيبَةِ مَا يَكْفِي فِي رَدْعِ مَنْ لَهُ شَرَفٌ وَعَقْلٌ عَنِ الْخَمْرِ، فَيُرَاجَعُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ وَالْمُحَاضَرَةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ: أَنَّ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا مَرَّ بِسَكْرَانَ وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ، وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا، وَعَرَضَ بَعْضُهُمْ شُرْبَ الْخَمْرِ عَلَى أَحَدِ فُصَحَاءِ الْمَجَانِينِ فَقَالَ لَهُ الْمَجْنُونُ: أَنْتَ تَشْرَبُ لِتَكُونَ مِثْلِي، فَأَنَا أَشْرَبُ لِأَكُونَ مِثْلَ مَنْ؟

وَمِنْهَا أَنَّ جَرِيمَةَ السُّكْرِ تُغْرِي بِجَمِيعِ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّكْرَانِ وَتُجَرِّئُ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا الزِّنَا وَالْقَتْلُ، وَبَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى مَوَاخِيرِ الزِّنَا لَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهَا إِلَّا وَهُمْ سُكَارَى; لِأَنَّ غَيْرَ السَّكْرَانِ تَنْفِرُ نَفْسُهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الْمُبْتَذَلَةِ مَهْمَا تَكُنْ خَسِيسَةً; وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَضَرَّاتِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ. وَمِنْ مَضَرَّاتِهَا الْمَالِيَّةِ أَنَّهَا تَسْتَهْلِكُ الْمَالَ وَتُفْنِي الثَّرْوَةَ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ ... مَالِي وَعِرْضِي وَافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ مُذْهِبَةً لِلثَّرْوَةِ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ كَزَمَانِنَا هَذَا، وَلَا فِي مَكَانٍ كَهَذِهِ الْبِلَادِ; فَإِنَّ أَنْوَاعَ الْخَمْرِ كَثُرَتْ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَالِي الثَّمَنِ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَّجِرِينَ بِهَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ إِلَى الزِّنَا، وَفِي مِصْرَ الْقَاهِرَةِ بُيُوتٌ لِلْفِسْقِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنِّسَاءِ وَالرَّاقِصَاتِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ زَرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَيَتَبَارَوْنَ ثَمَّ فِي النَّفَقَةِ حَتَّى لَيَخْسَرَ الرَّجُلُ فِي لَيْلَتِهِ الْمِئِينَ وَالْأُلُوفَ. وَإِنَّ الْخَمَّارَ الرُّومِيَّ الْفَقِيرَ لَيَفْتَحُ فِي إِحْدَى الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ حَانَةً صَغِيرَةً فَلَا تَزَالُ تَتَّسِعُ بِمَا تَبْتَلَعُ مِنْ ثَرْوَةِ الْأَهَالِي وَغَلَّاتِ أَرْضِهِمْ حَتَّى تَبْتَلِعَ الْقَرْيَةَ كُلَّهَا، فَتَكُونُ أَمْوَالُهَا وَغَلَّاتُهَا وَقُطْنُهَا وَتِجَارَتُهَا فِي يَدِ (الْخَوَاجَةِ) صَاحِبِ الْحَانَةِ. وَقَدْ عَمَّ الْبَلَاءُ بِالْخَمْرِ هَذَا الْقُطْرَ بِمَا لِأَهْلِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ مَا يُصْرَفُ فِي مِصْرَ عَلَى الْخَمْرِ يَعْدِلُ مَا يُصْرَفُ فِي فَرَنْسَا كُلِّهَا. وَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ رُوحِهِ وَوِجْهَةِ الْعَبْدِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّ السَّكْرَانَ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَلَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ الْبَيَانِ لِكَوْنِ إِثْمِ الْخَمْرِ كَبِيرًا بِمَعْنَى أَنَّ كِبَرَهُ بِكِبَرِ ضَرَرِهِ، أَوْ كَوْنِهِ كَثِيرًا لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِهِ، وَقَدْ يَشْتَبِهُ بَعْضُ الْمُبْتَلَيْنَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَضَرَّاتِ الصِّحِّيَّةِ، أَوْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ التَّوَقِّي مِنْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَتَوَهَّمُونَ; فَإِنَّ الْمِزَاجَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ سُمَّ الْخَمْرِ - الَّذِي يُسَمَّى الْكُحُولَّ أَوِ الْغُولَ - زَمَنًا طَوِيلًا بِحَيْثُ يَغْتَرُّ النَّاسُ بِحُسْنِ صِحَّةِ صَاحِبِهِ قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَلَيْنَ يَقِيسُونَ عَلَى النَّادِرِ وَيَجْهَلُونَ الْأَصْلَ الْغَالِبَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مُدْمِنُ السُّكْرِ مِنْ ضَرَرِهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ وَمَدَارِكِهِ أَوْ وَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، بَلْ تَجْتَمِعُ كُلُّهَا فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا الْمَضَرَّاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَيَقِلُّ فِي مُعْتَادِي السُّكْرِ مَنْ يَحْفِلُ بِهَا، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَجَنُّبُهَا. وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ الْمَيْسِرِ كَبِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي الْخَمْرِ مِنْ كَوْنِهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَيْسِرِ الْعَرَبِ، وَفِي

جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي عَصْرِنَا إِلَّا مَا يُسَمُّونَهُ (الْيَانَصِيبَ) فَإِنَّهُ عَلَى كَوْنِهِ مَيْسِرًا لَا شَكَّ فِيهِ لَا يَظْهَرُ جَمِيعُ مَفَاسِدِهِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَهَذَا بَيَانُهُ: مَيْسِرُ الْيَانَصِيبِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ تَجْمَعُهُ بَعْضُ الْحُكُومَاتِ أَوِ الْجَمْعِيَّاتِ أَوِ الشَّرِكَاتِ مِنْ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ كَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ - جُنَيْهٍ - مَثَلًا تَجْعَلُ جُزْءًا كَبِيرًا كَعَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ مِنْ دَافِعِي الْمَالِ كَمِائَةٍ مَثَلًا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِطَرِيقَةِ الْمَيْسِرِ وَتَأْخُذُ هِيَ الْبَاقِيَ; ذَلِكَ بِأَنْ تَطْبَعَ أَوْرَاقًا صَغِيرَةً كَأَنْوَاطِ الْمَصَارِفِ الْمَالِيَّةِ (بَنْكِ نُوتْ) تُسَمَّى أَوْرَاقَ (الْيَانَصِيبِ) تَجْعَلُ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا مَثَلًا يُطْبَعُ عَلَيْهَا، وَتَجْعَلُ الْعَشَرَةَ آلَآلَافِ الَّتِي تُعْطِي رِبْحًا لِمُشْتَرِي هَذِهِ الْأَوْرَاقِ مِائَةَ سَهْمٍ أَوْ نَصِيبٍ تُعَرَّفُ بِالْأَرْقَامِ الْعَدَدِيَّةِ وَتُسَمَّى النِّمَرَ - جَمْعُ نِمْرَةٍ - وَيُطْبَعُ عَلَى الْوَرَقَةِ الْمُشْتَرَاةِ عَدَدُهَا وَمَا تَرْبَحُهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَائِلِ مِنْهَا، وَتَجْعَلُ بَاقِيَهَا لِلتِّسْعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمِائَةِ بِالتَّسَاوِي بِتَرْتِيبٍ كَتَرْتِيبِ أَزْلَامِ الْمَيْسِرِ يُسَمُّونَهُ السَّحْبَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ قِطَعًا صَغِيرَةً مِنَ الْمَعْدِنِ يُنْقَشُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَدَدٌ مِنْ أَرْقَامِ الْحِسَابِ يُسَمُّونَهُ نِمْرَةً مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الْأَوْرَاقِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَيَضَعُونَهَا فِي وِعَاءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ كُرَوِيِّ الشَّكْلِ كَخَرِيطَةِ الْأَزْلَامِ (الْقِدَاحِ) الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا، فِيهَا ثُقْبَةٌ كُلَّمَا أُدِيرَتْ مَرَّةً خَرَجَ مِنْهَا نِمْرَةٌ مِنْ تِلْكَ النِّمَرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّحْبِ أُدِيرَتْ بِعَدَدِ الْأَرْقَامِ الرَّابِحَةِ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا أَوَّلًا سُمِّي النِّمْرَةَ الْأُولَى مَهْمَا يَكُنْ عَدَدُهَا، وَهِيَ الَّتِي يُعْطَى حَامِلُهَا النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ مِنَ الرِّبْحِ كَالْقَدَحِ الْمُعَلَّى عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمَا خَرَجَ مِنْهَا ثَانِيًا سُمِّيَ النِّمْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَيُعْطَى حَامِلُهَا النَّصِيبَ الَّذِي يَلِي الْأَوَّلَ، حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَى عَدَدُ النِّمَرِ الرَّابِحَةِ وَقَفَ السَّحْبُ عِنْدَهُ وَكَانَ الْبَاقِي خَاسِرًا. وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ مَا فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ مِنْ ضَرَرِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ؛ فَلِأَنَّ دَافِعِي الْمَالِ فِيهِ لَا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ السَّحْبِ وَقَدْ يَكُونُونَ فِي بِلَادٍ أَوْ أَقْطَارٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا آخَرَ فَيَشْغَلُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى كَقِمَارِ الْمَوَائِدِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا يَعْرِفُ الْخَاسِرُ مِنْهُمْ فَرْدًا أَوْ أَفْرَادًا أَكَلُوا مَالَهُ فَيَبْغَضُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ كَمَيْسِرِ الْعَرَبِ وَقِمَارِ الْمَوَائِدِ وَنَحْوِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُجْعَلُ (الْيَانَصِيبُ) لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَدَارِسِ الْخَيْرِيَّةِ وَإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مَصْلَحَةٍ دَوْلِيَّةٍ وَلَا سِيَّمَا الْإِعَانَاتُ الْحَرْبِيَّةُ، وَالْحُكُومَاتُ الَّتِي تُحَرِّمُ الْقِمَارَ تُبِيحُ (الْيَانَصِيبَ) الْخَاصَّ بِالْأَعْمَالِ الْخَيْرِيَّةِ الْعَامَّةِ أَوِ الدَّوْلِيَّةِ. وَلَكِنَّ فِيهِ مَضَارَّ الْقِمَارِ الْأُخْرَى، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ طَرِيقٌ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ; أَيْ: بِغَيْرِ عِوَضٍ حَقِيقِيٍّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، هَذَا مُحْرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَالَ الَّذِي يُبْنَى بِهِ مُسْتَشْفَى لِمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى أَوْ مَدْرَسَةٌ لِتَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ أَوْ مَلْجَأٌ

لِتَرْبِيَةِ اللُّقَطَاءِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا فِي آخِذِي رِبْحِ النِّمَرِ الرَّابِحَةِ دُونَ آخِذِي بَقِيَّةِ الْمَالِ مِنْ جَمْعِيَّةٍ أَوْ حُكُومَةٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَيْسَ فِيهِ عَدَاوَةٌ وَلَا بَغْضَاءُ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ كَالَّذِي كَانَ يَغْرَمُ ثَمَنَ الْجَزُورِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَمِنْ مَضَرَّاتِ الْمَيْسِرِ مَا نَبَّهَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَلَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - وَهُوَ إِفْسَادُ التَّرْبِيَةِ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ الْكَسَلَ وَانْتِظَارَ الرِّزْقِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ، وَإِضْعَافِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْمُفِيدَةِ فِي طُرُقِ الْكَسْبِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِهْمَالِ الْيَاسِرِينَ (الْمُقَامِرِينَ) لِلزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَانِ. وَمِنْهَا - وَهُوَ أَشْهَرُهَا - تَخْرِيبُ الْبُيُوتِ فَجْأَةً بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَمْ مِنْ عَشِيرَةٍ كَبِيرَةٍ نَشَأَتْ فِي الْغِنَى وَالْعِزِّ، وَانْحَصَرَتْ ثَرْوَتُهَا فِي رَجُلٍ أَضَاعَهَا عَلَيْهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَصْبَحَتْ غَنِيَّةً وَأَمْسَتْ فَقِيرَةً لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى أَنْ تَعِيشَ عَلَى مَا تَعَوَّدَتْ مِنَ السَّعَةِ وَلَا مَا دُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فِي الْخَمْرِ فَأَهَمُّهَا التِّجَارَةُ، فَقَدْ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ مَوْرِدًا كَبِيرًا لِلثَّرْوَةِ وَمَادَّةً عَظِيمَةً لِلتِّجَارَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَغَلَبَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ عَلَى جُهَّالِهِمْ وَأَبْطَلُوا عَمَلَ الْخُمُورِ وَبَيْعَهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا مَا يُعْمَلُ سِرًّا كَمَا هُوَ شَأْنُ النَّاسِ فِي اللَّذَّاتِ الْمَمْنُوعَةِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْخُو فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ مَا لَا تَسْخُو فِي غَيْرِهَا، وَكَانُوا يَعُدُّونَ تَرْكَ الْمُمَاكَسَةِ فِيهَا مَكْرُمَةً وَفَضِيلَةً، فَيَكْثُرُ رِبْحُ مُجْتَلِبِهَا وَبَائِعِهَا. وَمِنْهَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عِلَاجًا لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ كَكَثِيرٍ مِنَ السُّمُومِ وَالنَّبَاتِ الضَّارِّ بِالْمِزَاجِ الْمُعْتَدِلِ، وَلَكِنَّ الدَّوَاءَ يُؤْخَذُ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ قَدْ يُعَيِّنُهُ الطَّبِيبُ بِالنُّقَطِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ شَدِيدَ الضَّرَرِ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ وَلَا سِيَّمَا السَّامَّةُ مِنْهَا، فَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ لَا يَتَّفِقُ مَعَ شُرْبِهَا لِلنَّشْوَةِ وَاللَّذَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَلِّي الْحَزِينَ عَلَى أَنَّ مَا يَكُونُ بَعْدَهَا مِنْ رَدِّ الْفِعْلِ يَزِيدُ فِي الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السَّخَاءَ قَدْ صَارَ ضَرَرًا كُلُّهُ; لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِثَرْوَةِ الْبِلَادِ فَيَضَعُهَا فِي أَيْدِي شِرَارِ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَافِعًا; لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي قَوْمِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا تُثِيرُ النَّخْوَةَ وَتُشَجِّعُ الْجَبَانَ وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَنَافِعِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مَضَرَّاتِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ السُّكَارَى مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ وَالِاعْتِدَاءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَرْبِ

الْآنَ بَلْ هِيَ ضَارَّةٌ فِيهَا; لِأَنَّ الْحَرْبَ صَارَتْ صِنَاعَةً دَقِيقَةً وَفَنًّا مِنَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ حُضُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ; فَرُبَّ غَلْطَةٍ مِنْ قَائِدٍ تُذْهِبُ بِجَيْشِهِ وَتُظْفِرُ بِهِ عَدُوَّهُ، فَالضُّبَّاطُ مُدَبِّرُونَ وَالْجُنُودُ آلَاتٌ عَاقِلَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ لَا نَجَاحَ لَهَا إِلَّا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَعَ الْفَهْمِ، وَالسُّكْرُ قَدْ يَحُولُ دُونَ حُسْنِ التَّدْبِيرِ مِنَ الضُّبَّاطِ وَسُرْعَةِ الِامْتِثَالِ مِنَ الْجُنُودِ، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْحُكُومَاتُ الَّتِي تُبِيحُ الْخَمْرَ عَلَى مَنْعِهَا عَنِ الْجُيُوشِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ. وَيُعِدُّونَ مِنْ مَنَافِعِ بَعْضِ الْخُمُورِ الْقَلِيلَةِ التَّأْثِيرِ كَالْجِعَةِ (الْبِيرَةِ) التَّغْذِيَةَ وَالتَّحْلِيلَ، وَيُعْجِبُنِي جَوَابُ سُؤَالٍ فِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَجَلَّةٍ عَرَبِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ لُقْمَةً مِنَ الْخُبْزِ أَكْثَرُ تَغْذِيَةٍ مِنْ كُوبٍ مِنَ الْبِيرَةِ، وَأَنَّ كُوبًا مِنَ الْمَاءِ أَشَدُّ تَحْلِيلًا مِنْ كُوبٍ مِنْهَا، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ضَرَرٌ مَا، وَمِنَ الْجِعَةِ مَا لَا يُسْكِرُ كَمَا يُقَالُ. وَمِنْ مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا الْآنَ، وَإِلَّا فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (يَانَصِيبَ) لِبِنَاءِ الْمَلَاجِئِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَدَارِسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَخُصُّونَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا سُرُورُ الرَّابِحِ وَأَرْيَحِيَّتُهُ، وَيُقَابِلُهُ كَدَرُ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ; لِأَنَّ أَكْثَرَ رِبْحِ الْقِمَارِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَغْتَالُهُ الَّذِينَ يُدِيرُونَ أَعْمَالَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَصِيرَ الْفَقِيرُ غَنِيًّا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ أَشَدِّ ضَرَرِهِ فِي الْأُمَّةِ، أَوْ أَشَدِّهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قَدْ سَلَبَهَا اللهُ تَعَالَى مِنْهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الْحِسُّ يَنْبِذُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الْجَرِيمَتَيْنِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْأَصْلَ فِي التَّنْفِيرِ بِقَوْلِهِ: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) وَهَذَا الْقَوْلُ إِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا مِنْهُ إِلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَقَرَّرَتَا بَعْدُ فِي الْإِسْلَامِ: قَاعِدَةُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةُ تَرْجِيحِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَكِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى ذَلِكَ جَمِيعُهُمْ، إِذْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَرَكَ الْخَمْرَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَتْرُكْ كَمَا تَقَدَّمَ. هَذَا مَا كُنْتُ كَتَبْتُهُ وَنَشَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ فَطِنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ بَيَّنْتُهَا فِي الْمَنَارِ وَفِي التَّفْسِيرِ وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنَ النُّصُوصِ ظَنِّيَّةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ لَا يُجْعَلُ تَشْرِيعًا عَامًّا تُطَالَبُ بِهِ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بِاجْتِهَادِهِ، فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ جَرَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى

تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ظَنِّيَّةٌ، وَلِذَلِكَ عَمِلَ فِيهَا الصَّحَابَةُ بِاجْتِهَادِهِمْ - عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ - وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَبَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُو اللهَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَتَرَكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ; لِأَنَّ دَلَالَتَهَا قَطْعِيَّةٌ لَا مِرَاءَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ، وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ هَاتَيْنِ الْفِعْلَتَيْنِ; أَيْ: ضَرَرُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا مَعَ إِثْبَاتِ الْمَنَافِعِ لَهُمَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ. وَمَضَرَّةُ الْخَمْرِ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَلَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي حَرَارَتِكَ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ الْقَوْمِ وَأُمْسِي سَفِيهَهُمْ. وَأَطِبَّاءُ الْإِفْرِنْجِ وَعُلَمَاؤُهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ - بِالْأَوْلَى - أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وَقَدْ أُلِّفَتْ جَمْعِيَّاتٌ فِي أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا لِلسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ الْمُسْكِرَاتِ، فَهُمْ يَتَعَاهَدُونَ عَلَى عَدَمِ الشُّرْبِ، وَعَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى ذَلِكَ وَالسَّعْيِ لَدَى الْحُكُومَاتِ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى بَائِعِي الْخُمُورِ. فَالْأَيَّامُ وَالْأَجْيَالُ كُلَّمَا تَقَدَّمَتْ وَارْتَقَتْ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فَإِنَّ أَطِبَّاءَ هَذَا الْعَصْرِ يَصِفُونَ مِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مَا أَطْلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِيَبْحَثُوا فِيهِ وَيَتَبَيَّنُوا صِدْقَهُ بِأَنْفُسِهِمْ; لِتَكُونَ عُقُولُهُمْ مُؤَيِّدَةً لِكِتَابِهِ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ. وَلَكِنْ لَدَيْنَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَأَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ مَنِ اسْتَعْبَدَهُمْ سُلْطَانُ اللَّذَّةِ فَصَرْفَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ، كَمَا صَرَفَهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَصَرَفَ آبَاءَهُمْ عَنْ تَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَسْرَفُوا فِي مُعَاقَرَةِ الْخَمْرِ حَتَّى غِيضَ مَعِينُ حَيَاةِ بَعْضِ الشُّبَّانِ، وَانْكَسَفَتْ شُمُوسُ عُقُولِ آخَرِينَ قَبْلَ الِاكْتِهَالِ فَحُرِمُوا مِنْ سَعَادَةِ الْحَيَاةِ، وَحُرِمَتْ بُيُوتُهُمْ وَأُمَّتُهُمْ مِمَّا كَانَتْ تَرْجُوهُ مِنْ ذَكَائِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ. بَدَتْ فِتْنَةُ السُّكْرِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْكُبَرَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَصَارَتْ تُعَدُّ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمُتَمَدْيِنِينَ، وَسَرَتْ عَدْوَاهَا إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى قَلَّدَ فِيهَا شُيُوخُ الْقُرَى وَعُمَدُ الْبِلَادِ فَكَانُوا شَرَّ قُدْوَةٍ لِلْفَلَّاحِينَ وَالْعُمَّالِ وَالْأُجَرَاءِ، وَعَمَّ خَطَرُ هَذِهِ الْآفَةِ الَّتِي تَتْبَعُهَا آفَةُ الزِّنَا حَيْثُ سَارَتْ، وَيَتْبَعُ الزِّنَا دَاءُ الزُّهْرِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ انْقِطَاعِ النَّسْلِ، فَأَيَّةُ مَنْفَعَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْآفَاتِ الْقَاتِلَةَ وَالْجَوَائِحَ الْمُصْطَلِمَةَ؟ !

نَوَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ بِهَذِهِ الْعِبْرَةِ وَقَالَ: إِنَّنِي كُنْتُ أَقُولُ إِنَّ الْمِصْرِيِّينَ لايَفْنُونَ فِي جِنْسٍ آخَرَ، وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ قُرُونًا طَوِيلَةً، وَلَكِنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَفْنَى فِيهِمْ; لِأَنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِكُلِّ سُلْطَةٍ، وَيَدِينُونَ لِكُلِّ قُوَّةٍ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ الذُّلُّ وَالْفَقْرُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِمْ، بَلْ يَظَلُّونَ - مَا وَجَدُوا قُوتًا - يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَالْعَامِلُ لَا يَعْدِمُ فِي أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ كَمِصْرَ قُوتًا; وَلِذَلِكَ تَقَلَّبَتِ الْأُمَمُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ ثُمَّ زَالَتْ أَوْ زَالَ سُلْطَانُهَا عَنْهُمْ، وَبَقِيَ الْمِصْرِيُّونَ مِصْرِيِّينَ، لَهُمْ سَحْنَتُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَعَادَاتُهُمْ، وَلَكِنَّنِي رَجَعْتُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ مِنِ انْتِشَارِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فِي الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْخُمُورُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ الَّتِي تُبَاعُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْفَلَّاحِينَ وَمَا هِيَ بِخَمْرٍ جُعِلَتْ لِلشُّرْبِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَادَّةُ الْمُحْرِقَةُ السَّامَّةُ الَّتِي تُسَمَّى (السِّبِرْتُو) يُضَافُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ وَالسُّكَّرِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُمَكِّنُ مِنْ تَنَاوُلِهَا، فَإِذَا اسْتَمَرَّ السُّكْرُ وَالْفُحْشُ عَلَى سَرَيَانِهِمَا هَذَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَنْقَرِضَ الْأُمَّةُ الْمِصْرِيَّةُ بَعْدَ جِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ كَمَا انْقَرَضَ هُنُودُ أَمْرِيكَا فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا بَقِيَّةٌ مِنَ الْخَدَمِ وَالْأُجَرَاءِ عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُهُمْ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ السُّكْرَ وَالزِّنَا كَالْمِقْرَاضَيْنِ يَقْرِضَانِ الْأُمَمَ قَرْضًا. وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ الْمَيْسِرِ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْخَمْرِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ وَعَمَّ ضَرَرُهَا، حَتَّى إِنَّ الْحُكُومَاتِ الْحُرَّةَ الَّتِي تُبِيحُ تِجَارَةَ الْخَمْرِ تَمْنَعُ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ وَتَعَاقِبُ عَلَيْهَا، عَلَى احْتِرَامِهَا لِلْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ التَّصَرُّفِ الَّتِي لَا تَضُرُّ بِغَيْرِ الْعَامِلِ، فَمَنْفَعَةُ الْقِمَارِ وَهْمِيَّةٌ وَمَضَرَّاتُهُ حَقِيقِيَّةٌ; فَإِنَّ الْمُقَامِرَ يَبْذُلُ مَالَهُ الْمَمْلُوكَ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ لِأَجْلِ رِبْحٍ مَوْهُومٍ لَيْسَ عِنْدَهُ وَزْنُ ذَرَّةٍ لِتَرْجِيحِهِ عَلَى خَطَرِ الْخُسْرَانِ وَالضَّيَاعِ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِي إِضَاعَةِ الْمُحَقَّقِ طَلَبًا لِلْمُتَوَهَّمِ يُفْسِدُ فِكْرَهُ وَيُضْعِفُ عَقْلَهُ; وَلِذَلِكَ يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُقَامِرِينَ إِلَى بَخْعِ أَنْفُسِهِمْ - قَتْلِهَا غَمًّا - أَوِ الرِّضَى بِعِيشَةِ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَعْرِفُ رَجُلًا كَانَتْ ثَرْوَتُهُ لَا تَقِلُّ عَنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ جُنَيْهٍ (3 مَلَايِينَ) فَمَا زَالَ شَيْطَانُ الْقِمَارِ يُغْرِيهِ بِاللَّعِبِ فِيهِ حَتَّى فَقَدَ ثَرْوَتَهُ كُلَّهَا وَعَاشَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ فَقِيرًا مُعْدَمًا حَتَّى مَاتَ جَائِعًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَبِحَ فِي لَيْلَةٍ تِسْعَمِائَةِ أَلْفِ فِرَنْكَ، فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أُتِمَّهَا مِلْيُونًا، فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى خَسِرَهَا إِلَى مِلْيُونٍ آخَرَ، وَهَكَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُقَامِرِينَ يَغْتَرُّونَ بِالرِّبْحِ الَّذِي يَكُونُ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ أَحْيَانًا فَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْمُقَامَرَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ شَيْءٌ. وَلِبُيُوتِ الْقِمَارِ فِي مِصْرَ طُرُقٌ فِي اسْتِدْرَاجِ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَعْقِلُهَا الْمِصْرِيُّونَ عَلَى مَا يَرَوْنَ

مِنْ آثَارِهَا فِي تَخْرِيبِ بُيُوتِ مَنِ اصْطِيدُوا بِأَحَابِيلِهَا مِنْ إِخْوَانِهِمْ. وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا عَاقِلًا رَأَى مِنْ وَلَدِهِ مَيْلًا إِلَى الْمُقَامَرَةِ لِمُعَاشَرَتِهِ بَعْضَ أَهْلِهَا، فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ وَخَافَ أَنْ يُضَيِّعَ وَلَدُهُ مَا يَرِثُهُ عَنْهُ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِغْرَاءً، قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ إِذَا شِئْتَ أَنْ تُقَامِرَ بِأَنْ تَبْحَثَ عَنْ أَقْدَمِ مُقَامِرٍ فِي الْبَلَدِ وَتَلْعَبُ مَعَهُ، فَطَفِقَ الْوَلَدُ بَعْدَهُ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ، وَكُلَّمَا دُلَّ عَلَى وَاحِدٍ عِلْمِ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْبَحْثُ إِلَى شَيْخٍ رَثِّ الثِّيَابِ، ظَاهِرِ الِاكْتِئَابِ، فَعَلِمَ مِنْ حَالِهِ وَمَقَالِهِ أَنَّ مَآلَ الْمُقَامِرِ إِلَى أَسْوَأِ مَآبٍ، وَأَنَّ وَالِدَهُ قَدِ اجْتَهَدَ بِنَصِيحَتِهِ فَأَصَابَ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى رُشْدِهِ وَأَنَابَ، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمُقَامِرَةِ مِنْ طَاقٍ وَلَا بَابٍ. وَيَشْتَرِكُ الْمَيْسِرُ مَعَ الْخَمْرِ فِي أَنَّ مُتَعَاطِيَهُمَا قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِمَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ بَلَائِهِمَا; لِأَنَّ لِلْخَمْرِ تَأْثِيرًا فِي الْعَصَبِ يَدْعُو إِلَى الْعَوْدِ إِلَى شُرْبِهَا وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، فَإِنَّ مَا تُحْدِثُهُ مِنَ التَّنْبِيهِ يَعْقُبُهُ خُمُودٌ وَفُتُورٌ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ، فَيَشْعُرُ السَّكْرَانُ بَعْدَ الصَّحْوِ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى مُعَاوَدَةِ السُّكْرِ، لِيَزُولَ عَنْهُ مَا حَلَّ بِهِ، فَإِذَا هُوَ عَادَ قَوِيَتِ الدَّاعِيَةُ، وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ كُلَّمَا رَبِحَ طَمِعَ فِي الزِّيَادَةِ، وَكُلَّمَا خَسِرَ طَمِعَ فِي تَعْوِيضِ الْخَسَارَةِ، وَيَضْعُفُ الْإِدْرَاكُ حَتَّى تَعِزَّ مُقَاوَمَةُ هَذَا الطَّمَعِ الْوَهْمِيِّ، وَهَذَا شَرُّ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجَرِيمَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ هَدَانَا لِأَنْ نَعْلَمَ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِبَحْثِنَا لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَحْرِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَأَنَّنَا نَرَى الْأُمَمَ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ تُخَاطَبْ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَدِ اهْتَدَتْ إِلَى مَا لَمْ نَهْتَدِ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَضَارِّ، وَأَنْشَأَتْ تُؤَلِّفُ الْجَمْعِيَّاتِ لِلسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ هَاتَيْنِ الْجَرِيمَتَيْنِ، وَنَحْنُ الَّذِينَ مُنِحْنَا تِلْكَ الْهِدَايَةَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ أَنْشَأْنَا نَأْخُذُ عَنْ تِلْكَ الْأُمَمِ مَا أَنْشَأَتْ هِيَ تُقَاوِمُهُ وَتَذُمُّهُ، حَتَّى إِنَّ السُّكْرَ قَدْ غَلَبَ فِي رُؤَسَاءِ دُنْيَانَا، وَالْمَيْسِرَ قَدِ انْتَشَرَ فِي أُمَرَائِنَا وَكُبَرَائِنَا، ثُمَّ فَشَا فِيمَنْ دُونَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ. نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِهَذِهِ الْعِبْرَةِ وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ كَيْفَ صَارُوا يَكْفُرُونَهَا، وَكَيْفَ حَلَّ بِهِمْ غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَسُلِبُوا مُعْظَمَ مَا وُهِبُوا، وَيُخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ ذَلِكَ حَتَّى يَعِزَّ تَدَارَكُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ أُمِرُوا بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي أُمِرْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَمَا نُنْفِقُ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لَنَا أَرِقَّاءَ وَأَهْلِينَ فَمَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى

أَنَّ السُّؤَالَ الْأَوَّلَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ نَزَلَ وَحْدَهُ ثُمَّ نَزَلَ هَذَا السُّؤَالُ بَعْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ كَانَتْ مِمَّا يَقَعُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَإِجَابَةً لِلسَّائِلِينَ عِنْدَمَا اسْتَعَدُّوا لِلْأَخْذِ بِهَا، وَمَا وَرَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيَّ جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفِقُونَ، وَأَيَّ جُزْءٍ مِنْهَا يُمْسِكُونَ، لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِقَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (2: 195) وَمُتَحَقِّقِينَ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْطِقُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الَّذِي يُشْعِرُ أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُنْفِقَ كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَدْ قَضَتِ الْحِكْمَةُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبِمَدْحِ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِئَةً قَلِيلَةً فِي أُمَمٍ وَشُعُوبٍ وَقَبَائِلَ تُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَتَبْذُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْوَالَ وَالْأَرْوَاحَ، فَإِذَا لَمْ يَتَّحِدُوا حَتَّى يَكُونُوا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَبْذُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا بِيَدِهِ لِمَصْلَحَتِهِمُ الْعَامَّةِ، لَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ حَالٌ وَلَا تَقُومُ لَهُمْ قَائِمَةٌ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ دِينٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ ظُهُورِهِ وَأَوَّلِ نَشْأَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَعْتَزَّ الْمِلَّةُ وَتَكْثُرَ الْأُمَّةُ، وَيَصِيرَ يَكْفِي لِحِفْظِ مَصْلَحَتِهَا مَا يَبْذُلُهُ كُلُّ ذِي غِنًى مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، وَيَفْرُغَ الْجُمْهُورُ لِلْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ ذُو الْعَمَلِ أَنْ يُفِيضَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي السَّعْيِ لِتَعْزِيزِ دِينِهِ وَوِقَايَتِهِ مِنَ الْمَحْوِ وَالزَّوَالِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فَلَا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُؤْثِرَ كُلَّ مُحْتَاجٍ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ; وَلِذَلِكَ تَوَجَّهَتِ النُّفُوسُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى تَقْيِيدِ تِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَسَأَلُوا مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنْ يُنْفِقُوا الْعَفْوَ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَفْوَ نَقِيضُ الْجَهْدِ; أَيْ: يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ وَتَيَسَّرَ لَهُمْ مِمَّا يَكُونُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ وَحَاجَةِ مَنْ يَعُولُونَ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (الْعَفْوُ) بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ، وَالزِّيَادَةُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، فَهَلِ الْمُرَادُ حَاجَةُ الْيَوْمِ أَوِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ؟ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَخِيرَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَطْلَقَ الْعَفْوَ لِيُقَدِّرَهُ كُلُّ قَوْمٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ; لِأَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِأَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَا بِحَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ مَا وَرَاءَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَحْدُودَةِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَعَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعَفْوِ يُصَدَّقُ عَلَى الزَّكَاةِ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الزَّائِدِ عَلَى الْحَاجَةِ الَّذِي لَا جَهْدَ وَلَا مَشَقَّةَ فِيهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ

عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)) وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ مَمْلُوكُكَ: أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي، وَيَقُولُ وَلَدُكَ: إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟)) . وَقَدْ نَوَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْإِنْفَاقِ فِي حِفْظِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَأَعْمَالِهَا الْخَيْرِيَّةِ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْأُمَّةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ مِلْيُونٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَتْ تَبْذُلُ مِنْ فَضْلِ مَالِهَا فِي مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ، كَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَتَرْبِيَةِ النَّابِتَةِ عَلَى مَا يُؤَهِّلُهَا لِاسْتِعْمَالِهَا وَيُقَرِّرُ الْفَضِيلَةَ فِي أَنْفُسِهَا تَكُونُ أَعَزَّ وَأَقْوَى مِنْ أُمَّةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ مِائَةِ مِلْيُونٍ لَا يَبْذُلُونَ شَيْئًا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْأُمَّةِ الْأُولَى يُعَدُّ بِأُمَّةٍ; لِأَنَّ أُمَّتَهُ عَوْنٌ لَهُ، تُعِدُّهُ جُزْءًا مِنْهَا وَيُعِدُّهَا كُلًّا لَهُ; وَالْأُمَّةُ الثَّانِيَةُ كُلُّهَا لَا تُعَدُّ بِوَاحِدٍ; لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا (أَيْ أَفْرَادِهَا) يَخْذُلُ الْآخَرَ وَيَرَى أَنَّ حَيَاتَهُ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ لَا يُسَمَّى أُمَّةً; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ يَعِيشُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَهُوَ لَا يَتَّصِلُ بِمَنْ مَعَهُ لِيَمُدَّهُمْ وَيَسْتَمِدَّ مِنْهُمْ، وَيَتَعَاوَنَ الْجَمِيعُ عَلَى حِفْظِ الْوَحْدَةِ الْجَامِعَةِ لَهُمُ الَّتِي تُحَقِّقُ مَعْنَى الْأُمَّةِ فِيهِمْ. وَإِنَّهُ لَمْ تَنْهَضْ أُمَّةٌ وَلَا مِلَّةٌ إِلَّا بِمَثَلِ هَذَا التَّعَاوُنِ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ، وَإِعَانَةُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَبَذْلُ الْمَالِ، وَالْعِنَايَةُ فِي حِفْظِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ; بِهَذَا ظَهَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَكَانَتْ لَهُمُ السِّيَادَةُ، وَبِتَرْكِ هَذَا انْحَلَّتِ الْأُمَمُ الْكَبِيرَةُ، وَفَقَدَتِ الْمُلْكَ وَالسَّعَادَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النُّكْتَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ حَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ: فَرِيقٌ يُنْفِقُ الْمَالَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فِي سَبِيلِ الْإِثْمِ، إِمَّا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي فِيمَا لَا فَخْرَ فِيهِ وَلَا شَرَفَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ اللَّذَّةِ وَإِنْ سَاءَتْ عَوَاقِبُهَا، وَفَرِيقٌ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُزِيلُ بِهِ ضَرُورَةَ إِخْوَانِهِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ، وَيَرْفَعُ بِهِ مِنْ شَأْنِ أُمَّتِهِ بِمَا يَجْعَلُهُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَأَعْظَمُ الْمَصَالِحِ وَالْأَعْمَالِ فِي هَذَا الْعَصْرِ هُوَ التَّعْلِيمُ وَالتَّرْبِيَةُ. وَلَوْ بَذَلَ الْمِصْرِيُّونَ عُشْرَ مَا يُنْفِقُونَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - وَلَا سِيَّمَا مَا يُسَمُّونَهُ الْمُضَارَبَةَ - عَلَى التَّعْلِيمِ، لَتَيَسَّرَ لَهُمْ تَعْمِيمُ الْمَدَارِسِ فِي بِلَادِهِمْ، وَتَوْجِيهُ التَّعْلِيمِ فِيهَا إِلَى مَا يُجَدِّدُ مِلَّتَهُمْ وَيُعِيدُ إِلَيْهِمْ مَا فَقَدُوا مِنْ كَرَامَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) مَعْنَاهُ: مِثْلُ هَذَا النَّحْوِ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْبَيَانِ قَدْ قَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ آيَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَجِّهَ عُقُولَكُمْ إِلَى مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فَيَظْهَرُ لَكُمْ

الضَّارُّ مِنْهَا أَوِ الرَّاجِحُ ضَرَرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّرْكِ فَتَتْرُكُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَاقْتِنَاعٍ بِأَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فِيهِ الْمُصْلَحَةُ، كَمَا يَظْهَرُ لَكُمُ النَّافِعُ فَتَطْلُبُوهُ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْنِتَكُمْ وَيُكَلِّفَكُمْ مَا لَا تَعْقِلُونَ لَهُ فَائِدَةً إِرْغَامًا لِإِرَادَتِكُمْ وَعَقْلِكُمْ، بَلْ أَرَادَ بِكُمُ الْيُسْرَ فَعَلَّمَكُمْ حُكْمَ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارَهَا، وَهَدَاكُمْ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِكُمْ فِيهَا، لِتَرْتَقُوا بِهِدَايَتِهِ عُقُولًا وَأَرْوَاحًا، لَا لِتَنْفَعُوهُ سُبْحَانَهُ أَوْ تَدْفَعُوا عَنْهُ الضُّرَّ; فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ بِنَفْسِهِ، حَمِيدٌ بِذَاتِهِ، عَزِيزٌ بِقُدْرَتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ الْمُعَدَّ لِلتَّفَكُّرِ لَيْسَ خَاصًّا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا، وَلَا بِطَلَبِ الْآخِرَةِ عَلَى انْفِرَادِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَالَ: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أُمُورِهِمَا مَعًا، فَتَجْتَمِعُ لَكُمْ مَصَالِحُ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ فَتَكُونُونَ أُمَّةً وَسَطًا، وَأَنَاسِيَّ كَامِلِينَ، لَا كَالَّذِينِ حَسِبُوا أَنَّ الْآخِرَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَإِهْمَالِ مَنَافِعِهَا وَمَصَالِحِهَا بِالْمَرَّةِ فَخَسِرُوهَا وَخَسِرُوا الْآخِرَةَ مَعَهَا; لِأَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَلَا كَالَّذِينِ انْصَرَفُوا إِلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ كَالْبَهَائِمِ فَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَأَظْلَمَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَكَانُوا بَلَاءً عَلَى النَّاسِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ فَخَسِرُوا الْآخِرَةَ وَالدُّنْيَا مَعَهَا. وَهَذَا الْإِرْشَادُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا هُوَ فِي مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (2: 201) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، فَاللهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى تَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْفِكْرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَقَدَّمَ الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ وَهَدَانَا إِلَيْهِ فَهُوَ مِنْ دِينِنَا; وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ جَمِيعَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ مِنَ الْفُرُوضِ الدِّينِيَّةِ، إِذَا أَهْمَلَتِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مِنْهَا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ مِنْ أَفْرَادِهَا مَنْ يَكْفِيهَا أَمْرَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَانَتْ كُلُّهَا عَاصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةً لِدِينِهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ وَعَنِ الْأَمْرِ بِهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمَعْذُورُونَ بِالتَّقْصِيرِ. عَلَى هَذَا قَامَ صَرْحُ مُجْدِ الْإِسْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ، كَانَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ بِسَبَبِ التَّوَسُّعِ فِي الْعُمْرَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَتَعْمِيمُ دَعْوَتِهِ النَّافِعَةِ قَامُوا بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، وَعَدُّوا الْقِيَامَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَمَلًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَضَوْا عَلَى ذَلِكَ قُرُونًا كَانُوا فِيهَا أَبْسَطَ الْأُمَمِ وَأَعْلَاهَا حَضَارَةً وَعُمْرَانَا، وَبِرًّا وَإِحْسَانًا، إِلَى أَنْ غَلَا أَقْوَامٌ فِي الدِّينِ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي إِهْمَالِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، زَعْمًا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الزُّهْدِ الْمَطْلُوبِ، أَوِ التَّوَكُّلِ الْمَحْبُوبِ، وَمَا هُوَ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ، وَكَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ أَنْ أُهْمِلَتِ الشَّرِيعَةُ فَلَا تُوجَدُ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تُقِيمُهَا; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ يَصْلُحُ لِحُكْمِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ الَّتِي اتَّسَعَتْ فِيهَا مَصَالِحُ الْأُمَمِ وَالْحُكُومَاتِ بِالتَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ وَارْتِبَاطِ الْعَالَمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، ثُمَّ صَارَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسُهُمْ يَعُدُّونَ الِاشْتِغَالَ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي

220

تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا مَصَالِحُ الدُّنْيَا صَادَّةً عَنِ الدِّينِ مُبْعِدَةً عَنْهُ، بَلْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقَائِدِهِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ دُخُولُ جُحْرِ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلَهُ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ كَمَا تَرَى خُرُوجٌ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْمُنْقَطِعُ لِعُلُومِ الدِّينِ لَا يَأْمَنُ عَلَى عَقِيدَتِهِ أَنْ تَذْهَبَ وَدِينِهِ أَنْ يَفْسُدَ إِذَا هُوَ تَفَكَّرَ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَعَرَفَ الْعُلُومَ الَّتِي لَا تَقُومُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَدْرُسُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الدُّنْيَوِيَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ آفَةُ الْعُمْرَانِ، وَعَدُوُّ الْعِلْمِ وَالنِّظَامِ، وَهُوَ قَضَاءٌ جَائِرٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ، وَتَنْقُضُهُ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَّبِعُهُمَا الْآنَ؟ ! وَقَدْ قَامَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَرَّةً نَظْرَةَ مُعْتَبِرٍ، وَلَمْ يَتْلُوا مِنْهُ آيَةً تِلَاوَةَ مُفَكِّرٍ مُتَدَبِّرٍ، يَقْسِمُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا تَجِبُ الْمُبَالَاةُ بِدِينِهِ، وَلَا يُهْتَمُّ بِهِ فِي شَكِّهِ أَوْ يَقِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَشَاءُ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ أَوْ فَسَدَتْ، صَلَحَتْ أَعْمَالُهُ أَوْ خَسِرَتْ. وَقِسْمٌ آخَرُ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ فِكْرٍ، وَيُحَاطَ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا يَعْرِضُ فِي الْكَوْنِ مَنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، كَيْلَا يُفْسِدَ النَّظَرُ عَقِيدَتَهُ، وَيُضِلَّ الْفِكْرُ السَّلِيمُ بَصِيرَتَهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ، وَيُعْهَدُ إِلَيْهِ بِقِيَادَةِ الْأُمَّةِ فِي صَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَانْتِظَامِ الْأَحْوَالِ، وَأَعْظَمُ قِسْمٍ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، بَلْ هُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا بِالتَّقْرِيبِ، وَقَدْ صَارَ بِيَدِهِ زِمَامُ جَمِيعِ أُمُورِهَا وَقُوَّةُ الْحُكْمِ فِيهَا; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَيَسَّرَ لِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ خَلْوٌّ مِنَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا، وَدُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْعَقْلِ، وَفَوْقَهُ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ، أَنْ يَقُودَ وَاحِدًا مِنْهَا، بَلْهَ قِيَادَتَهَا كُلَّهَا؟ فَهَلْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا لِلْخَلَفِ، مَعَ شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ السَّلَفِ؟ أَلَا عَاقِلٌ يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشَعْوِذِينَ: كَيْفَ سَاغَ فِي عُقُولِكُمْ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَى الْجَاهِلِ قِيَادَةُ الْعَاقِلِ؟ وَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ حِفْظُ الدِّينِ بِالْعُدُولِ عَنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَمُخَالَفَةِ سَيْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) إِلَخْ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (17: 34) وَ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) (4: 10) الْآيَةَ. انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ لَهُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) الْآيَةَ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. نَعَمْ إِنَّ آيَاتِ الْوَصِيَّةِ فِي الْيَتَامَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا نَزَلْ فِي مَكَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (17: 34)

فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (93: 9) فِي سُورَةِ الضُّحَى، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (107: 2) فِي سُورَةِ الْمَاعُونِ، جَعَلَ دَعَّ الْيَتِيمِ - وَهُوَ دَفْعُهُ وَجَرُّهُ بِعُنْفٍ - أَوَّلَ آيَاتِ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ. وَأَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَآكَدُهُ آيَاتُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (4: 10) وَلَكِنَّ سُورَتَهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى، وَيَأْخُذُونَ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ; لِأَنَّهُمْ لِبَلَاغَتِهِمْ يَفْهَمُونَ الْوَعِيدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَتُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَالْعِظَةِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَنْ لَمْ يُؤْتَ بَلَاغَتَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِبَلَاغَتِهِمْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ فَحَفِظُوا فِي أَذْهَانِهِمْ عِلَلًا كَثِيرَةً لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَاصِدُ الْكَلَامِ وَمَغَازِيهِ تَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ كَمَا يَغُوصُ الْمَاءُ فِي الْإِسْفَنْجِ، فَلَا تَدَّعِ فِيهَا مَكَانًا يَتَعَاصَى عَلَى تَأْثِيرِهَا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. هَذَا الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ بِوَصَايَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي الْيَتَامَى قَدْ مَلَكَ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَحَرَجٍ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْلَالِ أَمْوَالِهِمْ; خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الظُّلْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نَقَصَ مِنَ الْحَقِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (18: 33) فَإِذَا اخْتَلَطَ اثْنَانِ فِي النَّفَقَةِ وَأَكَلَ أَحَدُهُمَا مِمَّا اشْتَرَى بِمَالِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ رَاشِدًا فَرِضَاهُ وَلَوْ بِالْعُرْفِ أَوِ الْقَرِينَةِ إِذَنْ يُبِيحُ هَذَا التَّنَاوُلَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلِيطُ يَتِيمًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ مَظِنَّةَ الظُّلْمِ أَوْ هِيَ مِنْهُ حَتْمًا; وَلِذَلِكَ تَأَثَّمَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِتَسَامُحِ النَّاسِ فِي مُؤَاكَلَةِ الْخُلَطَاءِ وَالشُّرَكَاءِ مِنْ غَيْرِ تَدْقِيقٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَأْبَى الْقِيَامَ عَلَى الْيَتِيمِ، وَبَعْضُهُمْ يَعْزِلُ الْيَتِيمَ عَنْ عِيَالِهِ فَلَا يُخَالِطُونَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْبُخُونَ لَهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَطِنُوا إِلَى أَنَّ هَذَا - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ عَلَيْهِمْ - لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْيَتِيمِ بَلْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ وَمَضْيَعَةٌ لِمَالِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْقَهْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَا يَخْفَى; فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ، أَوِ الدَّاجِنِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ. وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْحَيْرَةُ وَاحْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، بِأَنْ يَعِيشَ الْيَتِيمُ فِي بَيْتِ كَافِلِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا كَأَحَدِ عِيَالِهِ، وَيَسْلَمَ الْكَافِلُ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: (قُلْ) لِهَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ عَنِ الْقِيَامِ عَلَى الْيَتَامَى وَكَفَالَتِهِمْ، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي عَزْلِهِمْ أَوْ مُخَالَطَتِهِمْ (إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) يَعْنِي أَيَّ إِصْلَاحٍ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ فَلَا تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا تَعْلَمُونَ أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مِنْ تَرْبِيَةٍ وَتَهْذِيبٍ، هَذَا مَا أَفَادَهُ تَنْكِيرُ (إِصْلَاحٌ) وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ لِرُؤْيَتِكُمُ الْخَيْرَ لَهُمْ فِي الْمُخَالَطَةِ فِي الْمَعِيشَةِ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا شَأْنُ الْإِخْوَانِ الْمُخَالَطَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ.

وَقَدْ أَزَالَتِ الْكَلِمَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْوَجِيزِ شُبْهَةَ الْمُتَأَثِّمِينَ مِنْ كَفَالَتِهِمْ، وَكَشَفَتِ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ شُبْهَةَ الْقُوَّامِ الْمُتَحَرِّجِينَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَرَفْنَا حَقِيقَةَ السُّؤَالِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ. أَمَّا مَعْنَى كَوْنِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ خَيْرًا فَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ بِالتَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَإِصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ بِالتَّثْمِيرِ وَالتَّنْمِيَةِ، هُوَ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِ شَأْنِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ أَخْلَاقُهُمْ وَتَضِيعُ حُقُوقُهُمْ، خَيْرٌ لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَخَيْرٌ لِلْقُوَّامِ وَالْكَافِلِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ دَرْءِ مَفْسَدَةِ إِهْمَالِهِمْ، وَمِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي صَلَاحِ حَالِهِمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقُدْوَةِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنِ الْمَثُوبَةِ فِي الْأُخْرَى. قَالَ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ النَّظَرَ فِي صَلَاحِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِهَا لِكَيْ يَنْشَأَ عَلَى عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَفَضْلٍ; لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ أَعْظَمُ تَأْثِيرٍ فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ حَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا إِصْلَاحُ مَالِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) (4: 2) . وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّأَثُّمِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَكْسِبِ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِخْوَةِ أَنْ يَكُونُوا خُلَطَاءَ وَشُرَكَاءَ فِي الْمِلْكِ وَالْمَعَاشِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ الْجَمِيعِ، وَالْمُخَالَطَةُ مَبْنِيَّةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمُسَامَحَةِ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الطَّمَعِ وَتَحَقُّقِ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْيَتِيمُ فِي الْبَيْتِ كَالْأَخِ الصَّغِيرِ تُرَاعَى مَصْلَحَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيُتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ فِي كِفَّتِهِ الرُّجْحَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ الْمُصَاهَرَةُ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ عِلَّةٌ لِحِلِّهَا، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي تَرْجِيحِ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ كَالْإِخْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَوْدَعَ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِخْلَاصِ لِلْأَقْرَبِينَ، وَقَدْ طَرَأَ الْفَسَادُ عَلَى هَذِهِ الرَّابِطَةِ النِّسْبِيَّةِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِمَا أَفْسَدَتِ السِّيَاسَةُ فِي الْأُمَّةِ، فَصَارَ الْأَخُ يَطْمَعُ فِي مَالِ أَخِيهِ، وَيَحْفِرُ لَهُ مِنَ الْمَهَاوِي مَا لَعَلَّهُ هُوَ يَقَعُ فِيهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ وَاعْتَلَّتْ خَلَائِقُهُمْ لَا يُوكَلُ إِلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى الْفِطْرَةِ وَتَحْكِيمِهَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى كَالْإِخْوَةِ; لِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَتَّى وَضَعَ لِلضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ قَاعِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَقَالَ: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أَيْ: إِنَّهُ لَمْ يَكِلْ أَمْرَ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى إِلَى حُكْمِ نَزْعَةِ الْقَرَابَةِ وَعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُضْمِرُ هَذِهِ الْقُلُوبُ مِنْ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ أَوِ الْإِفْسَادِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ فِي أَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ، وَتَعْلَمُوا أَنْ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مِثْقَالِ

الذَّرَّةِ مِمَّا تَعْمَلُونَ لَهُمْ. وَالْمُصْلِحُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ عَمَلًا، وَالْمُفْسِدُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِفْسَادِ فِعْلًا، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَإِنَّمَا أَيْقَظَ اللهُ تَعَالَى الْقُلُوبَ إِلَى ذِكْرِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لِتُلَاحِظَ اطِّلَاعَهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَتَذَكَّرَ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ فَتُرَاقِبَهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْهُ، لَعَلَّهَا تَأْمَنُ مِنْ مَزَالِقِ الشَّهْوَةِ، وَتَسْلَمُ مِنْ مَزَالِّ الشُّبْهَةِ; فَإِنَّ شَهْوَةَ الطَّامِعِ تُولِدُ لِصَاحِبِهَا شُبْهَةَ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا يَأْكُلُ صَاحِبُهَا مَالَ أَخِيهِ الضَّعِيفِ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ. وَإِلَّا فَإِنَّنَا نَرَى أَكْثَرَ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى الْأَيْتَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُظْهِرُونَ لِلْمَلَأِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرَ أَمْوَالِهِمْ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالزَّهَادَةِ فِيهَا، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ يَأْكُلُونَهَا أَكْلًا لَمًّا، حَتَّى إِنَّ وَاحِدَهُمْ يُصْبِحُ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرٍ وَلَا عَمَلَ لَهُ إِلَّا الْقِيَامُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَالْأُجْرَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَهُ عَلَى الْوِصَايَةِ لَا غَنَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ غَنِيًّا بِهَا. وَكُلُّ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ وَيَسْعَى لِذَلِكَ سَعْيَهُ فَهُوَ مَوْضِعٌ لِلظِّنَّةِ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَرْضَى بِمَا يُفْرَضُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَسَيَأْتِي مَا يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَحْرُمُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَّتَهُ عَلَيْنَا وَرَحْمَتَهُ بِنَا بِمَا أَذِنَ لَنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فَقَالَ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أَيْ: أَوْقَعَكُمْ فِي الْعَنَتِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمَا يَصْعُبُ احْتِمَالُهُ، بِأَنْ يُكَلِّفَكُمُ الْقِيَامَ بِشُئُونِ الْيَتَامَى وَتَرْبِيَتِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَأْذَنُ لَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَلَا بِأَكْلِ لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (22: 78) وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى عَلَى أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَقَدْ عَفَا عَمَّا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى التَّسَامُحِ فِيهِ لِعَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الْخُلَطَاءِ عَنْهُ، وَوَكَلَ ذَلِكَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِمُرَاقَبَتِهِ فِيهِ، وَهُوَ الرَّقِيبُ الْمُهَيْمِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِكُمْ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ وَنِيَّتِكُمْ. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَلَوْ شَاءَ إِعْنَاتَكُمْ لَعَزَّ عَلَى غَيْرِهِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ; إِذْ لَا عِزَّةَ تَعْلُو عِزَّتَهُ، وَلَكِنْ مَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ جَامِعَةً لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، جَارِيَةً عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا. هَكَذَا جَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ (الْعَزِيزِ) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَقْرِيرِ إِمْكَانِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالْإِعْنَاتِ، وَذِكْرَ (الْحَكِيمِ) لِتَقْرِيرِ التَّفَضُّلِ بِعَدَمِ تَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَقْرِيرًا لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فِي الْآيَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَسْأَلَةُ الْإِنْفَاقِ، وَمَسْأَلَةُ الْيَتَامَى، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْآيَاتِ مَعْطُوفًا آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ بِمَنْعِ النَّاسِ بَعْضَ الشَّهَوَاتِ، وَبِتَكْلِيفِهِمُ الْإِنْفَاقَ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَبِتَكْلِيفِهِمْ تَحَرِّي الْإِصْلَاحِ لِلْأَيْتَامِ مَعَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَلَّفَهُمْ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ، وَأَنْ هَدَاهُمْ إِلَى وَجْهِ مَنْفَعَةِ النَّافِعِ وَمَضَرَّةِ الضَّارِّ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النُّكْتَةُ فِي وَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ الْيَتَامَى بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالسُّؤَالِ

عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَانِكَ السُّؤَالَانِ مَبْنِيَّيْنِ لِحَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ فِي الْإِنْفَاقِ وَبَذْلِ الْمَالِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُمَا السُّؤَالَ عَنْ صِنْفٍ هُوَ مِنْ أَحَقِّ أَصْنَافِ النَّاسِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَهُوَ صِنْفُ الْيَتَامَى، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِبَعِيدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذَكِّرُنَا عِنْدَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَةِ الْيَتَامَى وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِصْلَاحِ لَهُمْ بِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَا نُنْفِقُهُ مِنَ الْعَفْوِ الزَّائِدِ عَنْ حَاجَاتِنَا; فَلَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَعْكِسَ الْقَضِيَّةَ وَنَطْمَعَ فِي فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ; لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ قَاصِرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعًا عَنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا ذَوْدًا عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَجَمَعَ الْأَسْئِلَةَ الثَّلَاثَةَ فِي الْآيَتَيْنِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالِالْتِئَامِ. وَتَرَوْنَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ كَيْفَ كَانَتْ عِنَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِفْظِ أَحْكَامِ اللهِ وَاتِّقَاءِ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، وَكَيْفَ شَدَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى، فَلَمْ يَأْذَنْ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَلَا بِمُخَالَطَتِهِمْ إِلَّا مُخَالَطَةِ أُخُوَّةٍ، وَكَيْفَ وَجَّهَ الْقُلُوبَ مَعَ هَذَا إِلَى مُرَاقَبَتِهِ، وَالتَّذَكُّرِ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، ثُمَّ تَرَوْنَ كَيْفَ اتَّخَذَ النَّاسُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسِيلَةً لِلتَّلَذُّذِ بِنَغَمَاتِ قَارِئِيهَا، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ بِأَلْفَاظِهَا دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِمَعَانِيهَا، وَمَنْ أَخَذَتْهُ هِزَّةٌ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فَإِنَّهَا لَا تَلْبَثُ أَنْ تَزُولَ، ثُمَّ هُوَ لَا يَزُولُ عَنْ إِفْسَادِهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى رَشَادِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَيَّا بِزِيِّ الْمُتَّقِينَ، وَيَظْهَرُ فِي صُورَةِ الصَّالِحِينَ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتِّلَاوَةِ، وَحُضُورِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى إِذَا مَا جُعِلَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ لَا تَرَى لِذَلِكَ التَّحَنُّثِ أَثَرًا فِي عَمَلِهِ، وَلَا ذَلِكَ السَّمْتِ حَائِلًا دُونَ زَلَلِهِ، فَهُوَ إِنْ أَصْلَحَ شَيْئًا يُفْسِدُ أَشْيَاءَ، وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ وَلَكِنْ يُرَاقِبُ الْحِسْبَةَ وَالْقَضَاءَ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ صَارَ تَقَالِيدَ صُورِيَّةً، وَحَرَكَاتٍ بَدَنِيَّةً، لَيْسَ لَهُ مَنْبَعٌ فِي الْقُلُوبِ، وَلَا أَثَرٌ صَالِحٌ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْحَرَكَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ صَلَاحِهَا مِنْ خَيْرٍ وَإِصْلَاحٍ. (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .

221

الْآيَاتُ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا حَاجَةَ لِرَبْطِ كُلِّ آيَةٍ بِمَا قَبْلَهَا، وَالرَّبْطُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ نِكَاحُ الْيَتَامَى. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ((عَنَاقٍ)) أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَكَانَتْ ذَاتَ حَظٍّ مِنْ جَمَالٍ فَنَزَلَتْ. يَعْنِي (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ذَكَرَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، ثُمَّ قَالَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) الْآيَةَ. أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: لَأَعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا. فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ وَقَالُوا: يَنْكِحُ أَمَةً! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مُنْقَطِعًا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) إِلَى (أَعْجَبَتْكُمْ) آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ نَزَلَتْ فِي حَادِثَةٍ غَيْرِ الْحَادِثَةِ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِهِ خَفِيٌّ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ وَاحِدَةٌ، نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ حُدُوثِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ غِنَى يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ إِلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا أَسْرَى، فَلَمَّا قَدِمَهَا سَمِعَتْ بِهِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ خَلِيلَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَعْرَضَ عَنْهَا فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا مَرْثَدُ أَلَا تَخْلُو؟ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتِ تَزَوَّجْتُكِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِذَا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجْتُكِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَبِي تَتَبَرَّمُ؟ ثُمَّ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا وَجِيعًا ثُمَّ خَلُّوا سَبِيلَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ بِمَكَّةَ انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا وَأَعْلَمَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ عَنَاقَ وَمَا لَقِيَ بِسَبَبِهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟ وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا تُعْجِبُنِي فَنَزَلَتْ)) وَتَعْقَّبَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ فِي نُزُولِ آيَةِ النُّورِ (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (24: 3) وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ ((نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللهِ؟ قَالَ: هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ

تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ هِيَ مُؤْمِنَةٌ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً)) وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَنْكِحُوهُمْ رَغْبَةً فِي أَنْسَابِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَنْكِحُوا) الْآيَةَ. انْتَهَى سِيَاقُ الْأَلُوسِيِّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ سِيَاقِ السُّيُوطِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ; لِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَذَاكَ مُخْتَصَرٌ اخْتِصَارًا أَوْهَمَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَمَةٌ) إِلَخْ. عَلَى أَنَّ السُّيُوطِيَّ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّ الصَّحَابَةَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَذَا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ إِلَّا تَفْسِيرَهَا; أَيْ: إِنَّ مَعْنَاهَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَإِذَا ذَكَرُوا أَسْبَابًا فَقَدْ يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَهَا. وَالْأَلُوسِيُّ يَقُولُ: إِنَّ السُّيُوطِيَّ تَعَقَّبَ الْوَاحِدِيَّ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِهِ هَذَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا التَّعَقُّبِ، عَلَى أَنَّهُ حَوَى كِتَابَ الْوَاحِدِيِّ وَزِيَادَاتٍ، وَأَمَّا آيَةُ (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (24: 3) فَقَدْ ذَكَرَ لَهَا السُّيُوطِيُّ سَبَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: ((أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمَّ مَهْزُولٍ كَانَتْ تُسَافِحُ)) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَالثَّانِي: ((أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مَزِيدٌ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَكَّةَ صَدِيقَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - وَفِي حَدِيثِهِ عَنْهُمَا مَقَالٌ - وَقَدْ رَوَى الْأَوَّلَ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ هُنَا ((مَزِيدٌ)) مُصَحَّفٌ وَالصَّوَابُ مَرْثَدٌ. وَنِكَاحُ الْبَغَايَا كَانَ فَاشِيًا، وَالْمَشْهُورَاتُ مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَثِيرَاتٌ، وَقَدْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الْآنَ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ فِيهَا غَيْرُ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ; لِأَنَّ بَعْضَ مَا هُمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ عَقَائِدِهِمْ: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (9: 31) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (4: 48) وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ لَجَازَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ اللَّاتِي لَا كِتَابَ لَهُنَّ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ عُرْفُ الْقُرْآنِ فِي لَقَبِ الْمُشْرِكِ، قَالَ تَعَالَى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) (2: 105) الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (98: 1) وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ مَنْ يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحَصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (5: 5) وَهِيَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ; وَلِذَلِكَ ذَهَبَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ شَامِلٌ لِلْكِتَابِيَّاتِ إِلَّا أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ آيَةَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ

وَمِنْهُمُ (الْجَلَالُ) : إِنَّهَا خَصَّصَتْهَا بِغَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ هِيَ النَّاسِخَةُ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى التَّأْوِيلِ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا أَسْلَمْنَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْقَيْدِ الْمَحْذُوفِ; وَلِأَنَّ الْمُشْرِكَاتِ إِذَا أَسْلَمْنَ يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ فَقِيلَ: يَدْخُلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (22: 17) فَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ وَلَا حَاجَةَ لِلْبَحْثِ فِي ذَلِكَ هُنَا. أَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ عَلَى شِرْكِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (9: 31) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (4: 48) الْآيَةَ فَقَدْ أَجَابُوهُمْ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: (يُشْرِكُونَ) لَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَشْتَقُّ لَهُمْ مِنْهُ وَصْفًا يَكُونُ عُنْوَانًا لَهُمْ فَيَدْخُلُوا فِي صِنْفِ مَنْ يُسَمِّيهِمُ الْقُرْآنُ بِالْمُشْرِكِينَ " وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا " ; فَإِنَّ الْأَوْصَافَ كَثِيرًا مَا يُرَادُ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ التَّخَاطُبِ صِنْفٌ مَخْصُوصٌ لَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَتَلَبَّسُ بِالْفِعْلِ الَّذِي اشْتُقَّ مِنْهُ الْوَصْفُ. مِثَالُ ذَلِكَ لَفْظُ (الْعُلَمَاءِ) يُطْلَقُ الْآنَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمًا أَوْ عُلُومًا، وَلَوْ تَعَلَّمَ مَا يَتَعَلَّمُونَ وَفَاقَهُمْ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى زِيِّهِمْ وَمُشَارِكًا لَهُمْ فِي مَجْمُوعِ الْمَزَايَا الَّتِي كَانُوا بِهَا صِنْفًا مُسْتَقِلًّا، وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ عَلَى صِنْفٍ آخَرَ، وَأَجَابُوا عَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ فَظَاعَةِ الشِّرْكِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ وَكَوْنِهِ غَايَةَ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ قَضَى بِأَلَّا تَتَعَلَّقَ مَشِيئَتُهُ بِغُفْرَانِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ كُلَّ ذَنْبٍ سِوَاهُ لَفَعَلَ; إِذْ لَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ، فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ; إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مُشْرِكًا يَغْفِرُ اللهُ لَهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ نَفْيَ الشِّرْكِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْتَلْزِمُ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَبْلُغُهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فَيَجْحَدُهَا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا. (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) هَذَا مَعْطُوفُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ، وَمَعْنَاهُ لَا تَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ الْمُشْرِكَاتِ مَا دُمْنَ عَلَى شِرْكِهِنَّ (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أَيْ: وَاللهِ إِنَّ أَمَةً - أَيْ: مَمْلُوكَةً - مُؤْمِنَةً بِاللهِ

وَرَسُولِهِ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ حُرَّةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمُ الْمُشْرِكَةُ بِجَمَالِهَا وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْلُ الْأَمَةِ أَمَوَةُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ أَمَتِ الْجَارِيَةُ: صَارَتْ أَمَةً، وَأَمَّيْتُهَا - بِالتَّشْدِيدِ - جَعَلْتُهَا أَمَةً، وَتَأَمَّتْ صَارَتْ أَمَةً (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (حَتَّى يُؤْمِنُوا) فَيَصِيرُوا أَكْفَاءَ لَهُنَّ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أَيْ: وَلَمَمْلُوكٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ حُرٍّ (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) الْمُشْرِكُ بِنَسَبِهِ أَوْ قُوَّتِهِ أَوْ مَالِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُمُ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ غَايَةُ الْخِلَافِ وَالتَّبَايُنِ فِي الِاعْتِقَادِ لَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَّصِلُوا بِهِمْ بِرَابِطَةِ الصِّهْرِ لَا بِتَزْوِيجِهِمْ وَلَا بِالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْكِتَابِيَّاتُ فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُنَّ حِلٌّ لَنَا، وَسَكَتَ هُنَاكَ عَنْ تَزْوِيجِ الْكِتَابِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ وَقَالُوا - وَرَضِيَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ -: إِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ وَأَيَّدَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ فِي الْجَمِيعِ فَجَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الشِّرْكِ وَيُحِلُّ الْكِتَابِيَّاتِ تَأَلُّفَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ; لِيَرَوْا حُسْنَ مُعَامَلَتِنَا وَسُهُولَةَ شَرِيعَتِنَا، وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ بِالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ; لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ صَاحِبُ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا هُوَ أَحْسَنَ مُعَامَلَتَهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسِعَةِ الصَّدْرِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ، وَأَمَّا تَزْوِيجُهُمْ بِالْمُؤْمِنَاتِ فَلَا تَظْهَرُ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَسِيرَةُ الرَّجُلِ وَلَا سِيَّمَا فِي مِلَلٍ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ مَا أَعْطَاهُنَّ الْإِسْلَامُ - وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمِلَلِ كَذَلِكَ - فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّصَّيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ، وَإِذَا قَامَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوْ مِنَ التَّعْلِيلِ الْآتِي لِمَنْعِ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى تَحْرِيمِ تَزْوِيجِ الْكِتَابِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ فَلَهَا حُكْمُهَا لَا عَمَلًا بِالْأَصْلِ أَوْ نَصِّ الْكِتَابِ، بَلْ عَمَلًا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِتَنْكِحُوا وَتُنْكِحُوا - بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا - يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُنَّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِالِاسْتِقْلَالِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْوَلِيِّ; إِذِ الزَّوَاجُ تَجْدِيدُ قَرَابَةٍ وَمَوَدَّةٍ رَحِمِيَّةٍ بَيْنَ أُسْرَتَيْنِ، وَعَشِيرَتَيْنِ لَا يَتِمُّ وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِتَوَلِّي أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ لَهُ مَعَ اشْتِرَاطِ رِضَاهَا وَإِذْنِهَا بِهِ صَرَاحَةً فِي الثَّيِّبِ وَسُكُوتًا إِقْرَارِيًّا فِي الْبِكْرِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْحَيَاءُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ فِي الْآيَةِ بِالرَّقِيقِ; أَيْ: إِنَّ الْأَمَةَ الْمَمْلُوكَةَ الْمُؤْمِنَةَ خَيْرٌ مِنَ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ جِمَالُهَا، وَكَذَلِكَ الْقِنُّ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنَ الْحُرِّ الْمُشْرِكِ وَإِنْ كَانَ مُعْجِبًا، وَتَعَلَّمْ مِنْهُ خَيْرِيَّةَ الْحُرِّ الْمُؤْمِنِ وَالْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ بِالْأَوْلَى، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَمَةُ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ; أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنَةَ وَالْمُؤْمِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَبْدُ اللهِ يُطِيعُهُ وَيَخْشَاهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ يُشْرِكُ بِهِ، فَكَانَ فِي التَّعْبِيرِ بِالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْخَيْرِيَّةِ، بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالزَّوْجِيَّةِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ الْحِسِّيَّةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا تَعَاقُدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ وَالِاتِّحَادِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ مَحَلَّ ثِقَةِ الرَّجُلِ يَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهِ

وَوَلَدِهِ وَمَتَاعِهِ، عَالِمًا أَنَّ حِرْصَهَا عَلَى ذَلِكَ كَحِرْصِهِ; لِأَنَّ حَظَّهَا مِنْهُ كَحَظِّهِ، وَمَا كَانَ الْجَمَالُ الَّذِي يَرُوقُ الطَّرْفَ لِيُحَقِّقَ فِي الْمَرْأَةِ هَذَا الْوَصْفَ، وَلَكِنْ قَدْ يَمْنَعُهُ التَّبَايُنُ فِي الِاعْتِقَادِ، الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الرُّكُونُ وَالِاتِّحَادُ، وَالْمُشْرِكَةُ لَيْسَ لَهَا دِينٌ يُحَرِّمُ الْخِيَانَةَ، وَيُوجِبُ عَلَيْهَا الْأَمَانَةَ، وَيَأْمُرُهَا بِالْخَيْرِ، وَيَنْهَاهَا عَنِ الشَّرِّ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى طَبِيعَتِهَا، وَمَا تَرَبَّتْ عَلَيْهِ فِي عَشِيرَتِهَا، وَهُوَ خُرَافَاتُ الْوَثَنِيَّةِ وَأَوْهَامُهَا، وَأَمَانِيُّ الشَّيَاطِينِ وَأَحْلَامُهَا، فَقَدْ تَخُونُ زَوْجَهَا، وَتُفْسِدُ عَقِيدَةَ وَلَدِهَا، فَإِنْ ظَلَّ الرَّجُلُ عَلَى إِعْجَابِهِ بِجَمَالِهَا، كَانَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهَا عَلَى التَّوَغُّلِ فِي ضَلَالِهَا وَإِضْلَالِهَا، وَإِنْ نَبَا طَرْفُهُ عَنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَغَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ اسْتِقْبَاحُ تِلْكَ السَّرِيرَةِ فَقَدْ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ التَّمَتُّعَ بِالْجَمَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ كَبِيرُ مُبَايَنَةٍ; فَإِنَّهَا تُؤْمِنُ بِاللهِ وَتَعْبُدُهُ، وَتُؤْمِنُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَبِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَتَدِينُ بِوُجُوبِ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَحْرِيمِ الشَّرِّ، وَالْفَرْقُ الْجَوْهَرِيُّ الْعَظِيمُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَزَايَاهَا فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّهْذِيبِ، وَالَّذِي يُؤْمِنُ بِالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَّا الْجَهْلُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَكَوْنُهُ قَدْ جَاءَ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّونَ وَزِيَادَةٍ اقْتَضَتْهَا حَالُ الزَّمَانِ فِي تَرَقِّيهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ لِأَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِيهِ، أَوِ الْمُعَانَدَةِ وَالْجُحُودِ فِي الظَّاهِرِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا قَلِيلٌ وَالْكَثِيرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الرَّجُلِ حَقِّيَّةُ دِينِهِ وَحُسْنُ شَرِيعَتِهِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى سِيرَةِ مَنْ جَاءَ بِهَا وَمَا أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَيَكْمُلُ إِيمَانُهَا، وَيَصِحُّ إِسْلَامُهَا، وَتُؤْتَى أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُحْسِنَاتِ فِي الْحَالَيْنِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَا تَظْهَرُ فِي تَزْوِيجِ الْكِتَابِيِّ بِالْمُؤْمِنَةِ، فَإِنَّهُ بِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا، وَبِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّعْفِ فِي بَيَانِ مَا تَعْلَمُ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهَا أَنْ تُقْنِعَهُ بِحَقِّيَّةِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، بَلْ يُخْشَى أَنْ يُزِيغَهَا عَنْ عَقِيدَتِهَا وَيُفْسِدَ مِنْهَا دُونَ أَنْ تُصْلِحَ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ مُنَاكَحَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أَشَارَ بِأُولَئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ; أَيْ: مِنْ شَأْنِهِمُ الدَّعْوَةُ إِلَى أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَصِلَةُ الزَّوَاجِ أَقْوَى مُسَاعِدٍ عَلَى تَأْثِيرِ الدَّعْوَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَسَامَحَ مَعَهَا فِي شُئُونٍ كَثِيرَةٍ، وَكُلُّ تَسَاهُلٍ وَتَسَامُحٍ مَعَ الْمُشْرِكِ أَوِ الْمُشْرِكَةِ مَحْظُورٌ مَحْذُورُ الشَّرِّ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَسْرِيَ شَيْءٌ مِنْ عَقَائِدِ الشِّرْكِ لِلْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ بِضُرُوبِ الشُّبَهِ وَالتَّضْلِيلِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ، كَقَوْلِهِمْ فِيمَنْ يَتَّخِذُونَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَالِقِ: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَقَوْلِهِمْ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) فَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الَّتِي فُتِنَ بِهَا أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا أَهْلُ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ خَالَطُوا الْمُشْرِكِينَ وَعَاشَرُوهُمْ، فَقَدْ دَخَلُوا فِي الشِّرْكِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ; لِأَنَّهُمْ

لَمْ يَتَّخِذُوا مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسَهَا شُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ، بَلِ اتَّخَذُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لَهُمْ لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَجُعِلَ أَصْلَ دِينِهِمْ، وَأَسَاسَ ارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَقَدِ اغْتَرُّوا بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ، وَجَعَلُوا تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اسْمِهِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُمْ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا عَمَلَهُمْ عِبَادَةً، بَلْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظًا آخَرَ كَالِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ، وَاتَّخَذُوا غَيْرَ اللهِ إِلَهًا وَرَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ بِذَلِكَ، بَلْ سَمَّوْهُ شَفِيعًا وَوَسِيلَةً، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ اتِّخَاذَهُ إِلَهًا أَوْ رَبًّا هُوَ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ، أَوِ اعْتِقَادًا أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ اسْتِقْلَالًا، وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى عَقَائِدِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَوَجَدُوهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) مَعَ قَوْلِهِ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (43: 87) فَإِذَا كَانَتْ مُسَاكَنَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَاشَرَتُهُمْ - مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالنُّفُورِ - قَدْ أَفْسَدَتْ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ الْأُولَى، فَمَا بَالُكَ بِتَأْثِيرِ اتِّخَاذِهِمْ أَزْوَاجًا، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى كَمَالِ السُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَالْمَوَدَّةِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ؟ أَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَعْوَةً إِلَى النَّارِ، وَسَبَبًا لِلشَّقَاءِ وَالْبَوَارِ؟ هَذِهِ دَعْوَةُ الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ بِطَبِيعَةِ دِينِهِ (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ دِينُهُ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُنْقِذُ الْعُقُولَ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ وَمِنْهَا إِعْطَاءُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ شُعْبًا مِنْ خَصَائِصِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَبِإِفْرَادِ اللهِ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ إِذَا أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ كَسَبَ خَطِيئَةً; لِأَنَّ خَطِيئَتَهُ لَا تُحِيطُ بِرُوحِهِ وَلَا تَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ فَتَجْعَلُهُ شِرِّيرًا; لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) فَحَاصِلُ مَعْنَى (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) هُوَ أَنَّ دَعْوَةَ اللهِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهِيَ مُنَاقِضَةٌ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الْمُوَصِّلِ إِلَى النَّارِ بِسُوءِ اخْتِيَارِ أَصْحَابِهِ لَهُ، فَفِيهِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنَّهُمَا عَلَى غَايَةِ التَّبَايُنِ، وَفِيهِ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ هُوَ مِنْ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ وَقُبْحِ تَصَرُّفِهِمْ فِي كَسْبِهِمْ، وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَكُنْ بِوَضْعِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ الَّذِي هُوَ وَضْعُ اللهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رُسُلُهُ بِإِذْنِهِ، وَهَدَى إِلَيْهِ خَلْقَهُ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَجْهًا آخَرَ فِي هَذَا؛ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ ((اللهُ)) هُوَ مَا يَعْتَقِدُهُ فِيهِ - سُبْحَانَهُ - الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا لَا كُفْءَ لَهُ وَلَا مُسَاعِدَ وَلَا وَزِيرَ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ يَحْمِلُهُ عَلَى نَفْعِهِمْ أَوْ ضُرِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْقَدِيمِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْحَوَادِثِ فِيهِمَا وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى; فَهَذَا الِاعْتِقَادُ

بِاللهِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ; لِأَنَّهُ يَنْبُوعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ النَّافِعَةِ، وَمَصْدَرُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْجَنَّةَ عَلَى مَا يُحْسِنُ فِيهِ، وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى مَا أَسَاءَ فِيهِ وَمَنَعَهُ إِيمَانُهُ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلًا فِي ذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَتَى صَحَّ إِيمَانُهُ صَحَّتْ عَزِيمَتُهُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ مَأْنُوسٌ بِهِ فِي اللُّغَةِ، يُعَبِّرُ بِالشَّيْءِ عَنِ الْمُصَرِّفِ لَهُ وَالْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ، عَلَى حَدِّ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) إِلَخْ، وَذَلِكَ أَنَّ اعْتِقَادَهُ يَمْلِكُ شُعُورَهُ وَمَشَاعِرَهُ فَيَكُونُ أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ نَفْسِيٍّ وَبَدَنِيٍّ فِيهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ مُنَاكَحَةِ الْمُشْرِكِينَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، فَالْكِتَابِيَّةُ تَدْعُو بِسِيرَتِهَا وَعَمَلِهَا وَقَوْلِهَا إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْلِ دِينِهَا الصَّحِيحِ الْمُتَّفِقِ مَعَ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ إِنْ وَافَقَتْ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ فِيمَا هُوَ إِيمَانٌ صَحِيحٌ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَهِيَ تُخَالِفُهُ بِمَا تَصِفُ بِهِ اللهَ أَوْ تَتَّخِذُ لَهُ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَذَلِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّارِ، وَقَدْ تَغَلِبُ الْمَرْأَةُ عَلَى أَمْرِ زَوْجِهَا أَوْ وَلَدِهَا فَتَقُودُهُ إِلَى دَعْوَتِهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشِّيعَةِ إِلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ. وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: لَوِ اتَّحَدَتِ الْعِلَّةُ لَمَا صَرَّحَ الْكِتَابُ بِجَوَازِ الزَّوَاجِ بِالْكِتَابِيَّةِ الْمُحَصَنَةِ، وَلَمَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا عَلَى ذَلِكَ مَا عَدَا هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ مِنَ الشِّيعَةِ، وَكَيْفَ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ - أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ - وَقَدْ فَرَّقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَزَايَا وَالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي حُكْمٍ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2: 62) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (3: 64) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ وَمِثْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلُ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (2: 136) وَقَوْلِهِ فِيهَا: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (2: 139) وَقَوْلِهِ فِي: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (29: 46) وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَهِيَ تُصَرِّحُ بِأَنَّ إِلَهَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ، وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ; أَيْ: فِي جَوْهَرِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالْعَمَلِ

الصَّالِحِ، وَلَكِنَّهَا فِي أَوَاخِرِهَا تُبَيِّنُ مَحَلَّ الدَّعْوَةِ وَالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّنَا مُسْلِمُونَ مُخِلِصُونَ وَأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الِانْحِرَافُ فَاتَّخَذُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُشَرِّعُونَ لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخْلِصِينَ وَلَا مُسْلِمِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ; وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّارِيخِ مِنْهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ: لَوْلَا الِانْحِرَافُ وَالشَّرَائِعُ الَّتِي زَادُوهَا وَسَمَّوْهَا بِالطُّقُوسِ وَبِأَسْمَاءَ أُخْرَى لَمَا ضَعُفَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَمَرِضَتْ قُلُوبُهُمْ وَانْحَلَّتْ جَامِعَتُهُمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ مَا كَانَ. وَقَدْ طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنِ اتَّبَعُوا سَنَنَهُمْ مِنَّا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، مَعَ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ عِنْدَنَا قَدْ حُفِظَ بِعِنَايَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهَا، وَصِرْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَدْعُونَا إِلَى إِقَامَةِ الْأَصْلِ كَمَا دَعَاهُمْ دَاعِي الْإِسْلَامِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ الْجَمِيعُ مَوْجُودٌ مَحْفُوظٌ كَمَا هُوَ لَا يَنْقُصُ الْجَمِيعَ إِلَّا إِقَامَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي اتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي عَصْرِنَا آلَةَ لَهْوٍ وَسِلْعَةَ تِجَارَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى إِقَامَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِتَحْرِيمِ الْعَمَلِ بِهِ وَيُسَمِّي ذَلِكَ اجْتِهَادًا، وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَهُمْ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ مَنَعُوا الْقُرْآنَ بِشُبْهَةٍ سَخِيفَةٍ وَهِيَ مَنْعُ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ، وَمَنْعُهُ مَنْعٌ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَانْصِرَافٌ عَنْ يَنْبُوعِهِ، وَتَفْضِيلُ أَخْذِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ، وَتَفْضِيلُ أَخْذِ أَحْكَامِهِ حَتَّى التَّعَبُّدِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ وَمِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَبْقَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالسِّيَاسَةِ الْعُلْيَا وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمُثْلَى مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدِ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِالتَّبَعِ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ غَيْرِهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ أَدْنَى حَاجَةٍ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ! فَإِذَا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ يُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ انْحَرَفُوا عَنْ هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا، وَأَخْبَرَنَا أَنَّنَا لَا نَضِلُّ مَا تَمَسَّكْنَا بِهِمَا - كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ - فَكَيْفَ يَكُونُ أَهْلُ الْكِتَابِ كَالْمُشْرِكِينَ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى؟ وَالْجُمْلَةُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْكِتَابِيَّةُ مِنَ الْبَاطِلِ هُوَ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ دِينِهَا، وَقَدْ عَرَضَ لَهَا وَلِقَوْمِهَا بِشُبْهَةٍ ضَعِيفَةٍ يَسْهُلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَالِمِ بِالْحَقِّ أَنْ يَكْشِفَ لَهَا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِي شُبْهَتِهَا وَيُرْجِعَهَا إِلَى الصَّوَابِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهَا هِيَ أَنْ تَنْتَصِرَ بِالشُّبْهَةِ عَلَى الْحُجَّةِ وَتُزِيلَ السُّنَّةَ الْأُولَى بِمَا عَرَضَ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا مَا نَرَاهُ مِنَ التَّبَايُنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْآنَ فَسَبَبُهُ سِيَاسَةُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَلَوْ أَقَمْنَا الْكِتَابَ وَأَقَامُوهُ لَتَقَارَبْنَا وَرَجَعْنَا جَمِيعًا إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَرُبَّ مُسْلِمٍ مُقَلِّدٍ يَتَزَوَّجُ بِكِتَابِيَّةٍ عَالِمَةٍ، فَتُفْسِدُ عَلَيْهِ تَقَالِيدَهُ وَلَا عِوَضَ لَهُ عَنْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا.

هَذَا مَا كَتَبْتُهُ عِنْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّبَّانِ الْمِصْرِيِّينَ بِنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَتَزَوَّجُوا بِهِنَّ فَأَفْسَدْنَ عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالْوَطَنِيَّةَ، وَاضْطُرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى الطَّلَاقِ، وَغَرِمَ كَثِيرًا مِنَ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ غَنِيٌّ قَتَلَتْهُ امْرَأَتُهُ الْفَرَنْسِيَّةُ وَجَاءَتْ تُطَالِبُ بِمِيرَاثِهَا مِنْهُ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَتْ بِهِ زَوْجَتُهُ وَأَسْلَمَتْ، وَقَدْ سَرَتِ الْعَدْوَى إِلَى الْمُسْلِمَاتِ، فَمِنَ الْغَنِيَّاتِ مِنْهُنَّ مَنْ تَزَوَّجْنَ بِمَنْ عَشِقْنَ مِنْ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ بِدُونِ مُبَالَاةٍ بِالدِّينِ الَّذِي لَا تَعْرِفُ مِنْهُ غَيْرَ اللَّقَبِ الْوِرَاثِيِّ، وَقَدْ عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ، وَقَى اللهُ الْبِلَادَ شَرَّهَا، وَلَنْ يَكُونَ إِلَّا بِتَجْدِيدِ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَإِصْلَاحِ الْحُكُومَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) أَيْ: يُوَضِّحُ الدَّلَائِلَ عَلَى أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ لِلنَّاسِ، فَلَا يَذْكُرُ لَهُمْ حُكْمًا إِلَّا وَيُبَيِّنُ لَهُمْ حِكْمَتَهُ وَفَائِدَتَهُ بِمَا يُظْهِرُ لَهُمْ بِهِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَالسَّعَادَةَ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يَتَّعِظُونَ فَيَسْتَقِيمُونَ; فَإِنَّ الْحُكْمَ إِذَا لَمْ تُعْرَفْ فَائِدَتُهُ لِلْعَامِلِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَمَلَّ الْعَمَلَ بِهِ فَيَتْرُكَهُ وَيَنْسَاهُ، وَإِذَا عَرَفَ عِلَّتَهُ وَدَلِيلَهُ وَانْطِبَاقَهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ، لَا يُكْتَفَى بِالْعَمَلِ بِصُورَتِهِ وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ إِلَى الْمُرَادِ مِنْهُ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَإِنَّ مَا يُشَارِكُ الْمَنْصُوصَ فِي الْعِلَّةِ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَيْتَنَا عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَلَمْ نَرْجِعْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ، وَيَا لَيْتَهَا ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إِنْ هِيَ إِلَّا ظَوَاهِرُ أَقْوَالِ أَقْوَامٍ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، مِنْهُمُ الْمَعْرُوفُ تَارِيخُهُ وَمِنْهُمُ الْمَجْهُولُ أَمْرُهُ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، فَاللهُمَّ ذَكِّرْنَا مَا نُسِّينَا، وَاهْدِنَا إِلَى الِاعْتِبَارِ بِكِتَابِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ; لِنَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

222

هَذَا هُوَ السُّؤَالُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ، وَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَأَمَّا الْأَسْئِلَةُ الَّتِي وَرَدَتْ قَبْلَهَا مَفْصُولَةً فَلَمْ تَكُنْ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، فَيُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَجَاءَتْ عَلَى الْأَصْلِ فِي سَرْدِ التَّعَدُّدِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ فِي الْمَدِينَةِ حَيْثُ الِاخْتِلَاطُ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ، وَهَؤُلَاءِ يُشَدِّدُونَ فِي مَسَائِلِ الْحَيْضِ وَالدَّمِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَ جُمْلَتَهَا التَّوْرَاةَ، وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَنْ مَسَّ الْحَائِضَ فِي أَيَّامِ طَمْثِهَا يَكُونُ نَجِسًا، وَكُلَّ مَنْ مَسَّ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ، وَكُلَّ مَنْ مَسَّ مَتَاعًا تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ، وَإِنِ اضْطَجَعَ مَعَهَا رَجُلٌ فَكَانَ طَمْثُهَا عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَكُلُّ فِرَاشٍ يَضْطَجِعُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا إِلَخْ. وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ دَمٌ نَحْوُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ الْمَحِيضِ وَكَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْعَرَبِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُسَاكِنُونَ الْحُيَّضَ وَلَا يُؤَاكِلُونَهُنَّ كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ، وَمِنْ شَأْنِ النَّاسِ التَّسَاهُلُ فِي أُمُورِ الدِّينِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ فَلَا يَقِفُونَ عِنْدَ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا لِمَنْفَعَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، فَكَانَ اخْتِلَافُ مَا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يُحَرِّكُ النَّفْسَ لِلسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ الْمَحِيضِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُصْلِحَةِ، فَسَأَلُوا كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي قَرِيبًا فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أَيْ: عَنْ حُكْمِهِ، وَالْمَحِيضُ هُوَ الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ: وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ عَلَى وَصْفٍ مَخْصُوصٍ فِي زَمَنٍ مَعْلُومٍ لِوَظِيفَةٍ حَيَوِيَّةٍ صِحِّيَّةٍ تُعِدُّ الرَّحِمَ لِلْحَمْلِ بَعْدَهُ إِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ الْمَقْصُودُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ لِبَقَاءِ النَّوْعِ; فَالْمَحِيضُ كَالْحَيْضِ مَصْدَرٌ، كَالْمَجِيءِ وَالْمَبِيتِ، وَيُطْلَقُ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ وَمَكَانِهِ، وَالْمَرْأَةُ حَائِضٌ بِدُونِ تَاءٍ; لِأَنَّهُ وَصْفٌ خَاصٌّ، وَجَمْعُهُ حُيَّضٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ) وَوَرَدَ: حَائِضَةٌ وَجَمْعُهُ حَائِضَاتٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْرِيرِ مَحَلِّ الْمَحِيضِ فَإِنَّمَا يُسْأَلُ الشَّارِعُ عَنِ الْأَحْكَامِ (قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) قَدَّمَ الْعِلَّةَ عَلَى الْحُكْمِ وَرَتَّبَهُ عَلَيْهَا لِيُؤْخَذَ بِالْقَبُولِ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمْ تَحَكُّمًا، وَيُعْلَمَ أَنَّهُ حُكْمٌ لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّعَبُّدِ كَمَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبِ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِهِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ وَهُوَ الْوِقَاعُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ تَرْكُ غِشْيَانِ نِسَائِهِمْ زَمَنَ الْمَحِيضِ; لِأَنَّ غِشْيَانَهُنَّ سَبَبٌ لِلْأَذَى وَالضَّرَرِ، وَإِذَا سَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا الْأَذَى فَلَا تَكَادُ تَسْلَمُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ; لِأَنَّ الْغِشْيَانَ يُزْعِجُ أَعْضَاءَ النَّسْلِ فِيهَا إِلَى مَا لَيْسَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهُ وَلَا قَادِرَةً عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهَا بِوَظِيفَةٍ طَبِيعِيَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ إِفْرَازُ الدَّمِ الْمَعْرُوفِ.

وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الْأَذَى: بِالْقَذَرِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ أَخْذَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الضَّرَرُ مُقَرَّرٌ فِي الطِّبِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحُكْمُ وَسَطًا بَيْنَ إِفْرَاطِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ وَكُلَّ مَنْ يَمَسُّهَا أَوْ يَمَسُّ ثِيَابَهَا أَوْ فِرَاشَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَتَفْرِيطِ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ مُلَابَسَتَهَا فِي الْحَيْضِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَالدَّنَسِ. وَقَدْ أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ إِذْ أَمَرَتْ بِاعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي زَمَنِ الْمَحِيضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ غِشْيَانِهِنَّ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ مُدَّةَ هَذَا الِاعْتِزَالِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّأْكِيدِ هِيَ مُقَاوَمَةُ الرَّغْبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي مُلَابَسَةِ النِّسَاءِ وَإِيقَافِهَا دُونَ حَدِّ الْإِيذَاءِ، وَكَانَ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الِاعْتِزَالَ وَتَرْكَ الْقُرْبِ حَقِيقَةً لَا كِنَايَةً، وَأَنَّهُ يَجِبُ الِابْتِعَادُ عَنِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ وَعَدَمُ الْقُرْبِ مِنْهُنَّ بِالْمَرَّةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ الْوِقَاعُ. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَفِي حَدِيثِ حِزَامِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: ((لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ)) أَيْ: مَا فَوْقَ السُّرَّةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوِقَاعَ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَلِمَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ إِلَّا بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِالْمَفْهُومِ وَالْخِلَافُ فِيهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَعْلُومٌ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ (يَطَّهَّرْنَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَأَصْلُهُ يَتَطَهَّرْنَ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأُتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الطُّهْرُ فِي قَوْلِهِ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ بِفِعْلِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا التَّطَهُّرُ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِنَّ وَهُوَ يَكُونُ عَقِبَ الطُّهْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ غَسْلُ أَثَرِ الدَّمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ إِنْ وُجِدَ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ وَإِلَّا فَالتَّيَمُّمُ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَهُرَتْ لِأَقَلِّ مِنْ عَشْرٍ فَلَا تَحِلُّ إِلَّا إِذَا اغْتَسَلَتْ وَإِنْ لِعَشْرٍ حَلَّتْ وَلَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ. وَالْأَمْرُ بِإِتْيَانِهِنَّ لِرَفْعِ الْحَظْرِ فِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبِهِنَّ وَبَيَانِ شَرْطِهِ وَقَيْدِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الْأَمْرُ التَّكْوِينِيُّ; أَيْ: فَأْتُوهُنَّ مِنَ الْمَأْتَى الَّذِي بَرَأَ اللهُ تَعَالَى الْفِطْرَةَ عَلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ وَمَضَتْ سُنَّتُهُ بِحِفْظِ النَّوْعِ بِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّسْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مَا قَضَتْ بِهِ شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ طَلَبِ التَّزَوُّجِ وَتَحْرِيمِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ الزَّوَاجَ عَلَى نِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ خَلَقَ

لَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا أَزْوَاجًا لِنَسْكُنَ إِلَيْهَا وَأَرْشَدَنَا إِلَى أَنْ نَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (25: 74) وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا شَرَعَهُ وَامْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَإِتْيَانُ النِّسَاءِ بِالزَّوَاجِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا النَّسْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلِيقَتِهِ، وَسُنَّتِهِ فِي شَرِيعَتِهِ. وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ)) ؟ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ السَّائِلِينَ كَانُوا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَكُونُ كَالْأَدْيَانِ الْأُخْرَى يَجْعَلُ الْعِبَادَةَ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَمُخَالَفَةِ الْفِطْرَةِ; كَلَّا، إِنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى إِقَامَتِهَا مَعَ الْقَصْدِ وَعَدَمِ الْبَغْيِ فِيهَا. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الَّذِينَ إِذَا خَالَفُوا سُنَّةَ الْفِطْرَةِ بِغَلَبَةِ سُلْطَانِ الشَّهْوَةِ فَأَتَوْا نِسَاءَهُمْ فِي زَمَنِ الْمَحِيضِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ تَائِبِينَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى فِعْلِهِمُ السَّيِّئِ (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَقْذَارِ، وَمِنْ إِتْيَانِ الْمُنْكَرِ، بَلْ هَؤُلَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الَّذِينَ يَقَعُونَ فِي الدَّنَسِ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حُكْمَ الْمَحِيضِ، وَأَحَلَّ غِشْيَانَ النِّسَاءِ بَعْدَهُ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكْمَةَ هَذَا الْغِشْيَانِ الَّتِي شَرَعَ الزَّوَاجَ لِأَجْلِهَا، وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ الِاسْتِنْتَاجُ وَالِاسْتِيلَادُ; لِأَنَّ الْحَرْثَ هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي تَسْتَنْبِتُ، وَالِاسْتِيلَادُ كَالِاسْتِنْبَاتِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ عَلَى لُطْفِهِ وَنَزَاهَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَحَسُنِ اسْتِعَارَتِهْ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أَوْ بَيَانٌ لَهُ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِتْيَانِ النِّسَاءِ الْأَمْرَ التَّكْوِينِيَّ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْأَمْرُ التَّشْرِيعِيُّ بِمَا جَعَلَ الزَّوَاجَ مِنْ أَمْرِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَةِ وَالْقُرْبَةِ إِلَّا لِأَجْلِ حِفْظِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ بِالِاسْتِيلَادِ، كَمَا يُحْفَظُ النَّبَاتُ بِالْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، فَلَا تَجْعَلُوا اسْتِلْذَاذَ الْمُبَاشَرَةِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ فَتَأْتُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ حَيْثُ لَا اسْتِعْدَادَ لِقَبُولِ زِرَاعَةِ الْوَلَدِ وَعَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ إِتْيَانِهِنَّ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الْحَرْثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنَّى شِئْتُمْ) مَعْنَاهُ كَيْفَ شِئْتُمْ وَ (أَنَّى) تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا بِمَعْنَى ((كَيْفَ)) وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى ((أَيْنَ)) قَلِيلًا، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا; لِأَنَّ الْحَرْثَ لَهُ مَكَانٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْأَمْرُ مُقَيَّدٌ بِهِ; وَلِذَلِكَ أَعَادَ ذِكْرَ الْحَرْثِ مُظْهَرًا وَلَمْ يَقُلْ ((فَأْتُوهُنَّ أَنَّى شِئْتُمْ)) فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتُمْ مَا دُمْتُمْ تَقْصِدُونَ بِهَا الْحَرْثَ فِي مَوْضِعِهِ الطَّبِيعِيِّ; لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ إِلَى إِعْنَاتِكُمْ وَمَنْعِكُمْ مِنْ لَذَّاتِكُمْ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُوقِفَكُمْ عِنْدَ حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ; كَيْلَا تَضَعُوا الْأَشْيَاءَ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فَتَفُوتَ الْمَنْفَعَةُ وَتَحُلَّ مَحَلَّهَا الْمَفْسَدَةُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْآيَةَ مُتَمِّمَةٌ لِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا يُغْنِينَا فِي فَهْمِهَا عَمَّا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.

223

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ (أَنَّى) فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَا بِمَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ وَالصِّفَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمُزْدَرِعِ وَالْحَرْثِ فَمَعْنَاهَا فِي أَيِّ النَّافِذَتَيْنِ شِئْتُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ جُنُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّوَايَةِ، هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَتَبَرَّأُ مِنْهُ عِبَارَتُهَا الْعَالِيَةُ، وَنَزَاهَتُهَا السَّامِيَةُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى ذَوْقِ التَّعْبِيرِ وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا رَأَوْا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَدْ فَاتَهُمْ فَهْمُ حُكْمِهَا، كَمَا فَاتَهُمْ حِكْمَتُهَا وَنَزَاهَتُهَا وَأَدَبُهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (أَنَّى شِئْتُمْ) هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتُ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا حَظْرُ الْيَهُودِ إِتْيَانَ الْحَرْثِ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَجِيءُ أَحْوَلَ إِذَا كَانَ الْعَلُوقُ بِالْوِقَاعِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَتُكَذِّبُهُمُ التَّجَارُبُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي إِبَاحَةِ الْخُرُوجِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَئِنْ صَحَّ سَنَدًا فَهُوَ لَنْ يَصِحَّ مَتْنًا، وَلَا نَخْرُجُ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ وَمَحَجَّتِهِ الْبَيْضَاءِ لِرِوَايَةِ أَفْرَادٍ قِيلَ إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ مَا يَجْرَحُ رِوَايَتَهُمْ. وَيُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْمُخْتَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) إِلَخْ. فَهَذِهِ أَوَامِرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا شَيْئًا يُرَغَّبُ فِيهِ وَشَيْئًا يُرَغَّبُ عَنْهُ وَيُحَذَّرُ مِنْهُ، أَمَّا مَا يُرَغَّبُ فِيهِ فَهُوَ مَا يُقَدَّمُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ مَا يَنْفَعُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا أَنْفَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَهُوَ يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي دِينِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَالِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَصَلَاحِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْوَلَدَ الصَّالِحَ مِنْ عَمَلِ الْمَرْءِ الَّذِي يَنْفَعُهُ دُعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ صَالِحًا إِلَّا إِذَا أَحْسَنَ وَالِدَاهُ تَرْبِيَتَهُ، فَالْأَمْرُ بِالتَّقْدِيمِ لِلنَّفْسِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الْوَدُودِ الْوَلُودِ الَّتِي تُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ بِحُسْنِ خُلُقِهَا وَعَمَلِهَا، كَمَا يَخْتَارُ الزِّرَاعَةَ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُرْجَى نَمَاءُ النَّبَاتِ فِيهَا وَإِيتَاؤُهُ الْغَلَّةَ الْجَيِّدَةَ، وَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِحُسْنِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَتَهْذِيبِهِ، وَأَمَّا مَا يُحَذَّرُ مِنْهُ وَيُتَّقَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ إِخْرَاجُ النِّسَاءِ عَنْ كَوْنِهِنَّ حَرْثًا بِإِضَاعَةِ مَادَّةِ النَّسْلِ فِي الْمَحِيضِ أَوْ بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ الْفَاسِدَةِ التَّرْبِيَةِ، وَإِهْمَالُ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ; فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَرَدَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ وَالْأَمْرُ بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ وَالْأَمْرِ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنْفُسِنَا، فَوَجَبَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى بِتَجَنُّبِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْهَدْيِ الْإِلَهِيِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ) إِنْذَارٌ لِلَّذِينِ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ بِأَنَّهُمْ يُلَاقُونَ جَزَاءَ مُخَالَفَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا يُلَاقُونَهَا فِي الدُّنْيَا بِفَقْدِ مَنَافِعِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ، وَتَجَرُّعِ مَرَارَةِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، ثُمَّ قَرَنَ إِنْذَارَ الْعَاصِينَ بِتَبْشِيرِ الْمُطِيعِينَ فَقَالَ: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

224

الَّذِينَ يَقِفُونَ عِنْدَ الْحُدُودِ وَيَتَّبِعُونَ هُدَى اللهِ تَعَالَى فِي أَمْرِ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ حَذَفَ مَا بِهِ الْبِشَارَةُ; لِيُفِيدَ أَنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَنَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ فِكْرِ الْعَاقِلِ أَنَّ مَنْ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ وَلَا يَخْرُجُ فِي شَأْنِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ فِي ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحْسِنُ تَرْبِيَةَ مَا يَرْزُقُهُ اللهُ مِنْ وَلَدٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَرِيرَ الْعَيْنِ بِحُسْنِ حَالِهِ وَحَالِ أَهْلِهِ وَسَعَادَةِ بَيْتِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَطْغَى بِهِمْ شَهَوَاتُهُمْ فَتُخْرِجُهُمْ عَنِ الْحُدُودِ وَالسُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَالشَّقَاءِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَشْقَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَإِنَّمَا سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ فِي تَكْمِيلِ النَّفْسِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ، وَالْأَخْلَاقِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُؤْمِنِينَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَمَلَ وَالِامْتِثَالَ وَالْإِذْعَانَ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّ فَائِدَةَ الْإِيمَانِ بِثَمَرَاتِهِ هَذِهِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِتَمَامِ أَرْكَانِهِ وَهِيَ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْفِعْلُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الدَّامِغَةِ لِلَّذِينِ يَفْصِلُونَ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ وَالْأَعْمَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ. وَإِنَّنَا نُعِيدُ التَّنْبِيهَ لِلِاقْتِدَاءِ بِنَزَاهَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يُسْتَحْيَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِهَا بِالْكِنَايَاتِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْمُرَادُ وَلَا تَسْتَحِي مِنْ تِلَاوَتِهَا الْعَذْرَاءُ فِي خِدْرِهَا، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِمَعْنَى الْمَجِيءِ فَهُوَ كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْرُبُوهُنَّ) وَتَشْبِيهُ النِّسَاءِ بِالْحَرْثِ لَا يَخْفَى حُسْنُهُ، فَأَيْنَ هَذِهِ النَّزَاهَةُ مِمَّا تَرَاهُ لِبَعْضِهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ بِنَزَاهَتِهَا كَإِعْجَازِهَا بِبَلَاغَتِهَا، وَمِمَّا تَرَاهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الدِّينِ الْأُخْرَى مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الَّتِي قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا؟ ! (وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هَذِهِ الْآيَاتُ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ، وَهِيَ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَالثَّانِي هُوَ حَلِفُ الرَّجُلِ أَلَّا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ وَخُصَّ بِاسْمِ الْإِيلَاءِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا سَيَأْتِي، فَبَيْنَ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَنَاسُبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

(وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) الْعُرْضَةُ - بِالضَّمِّ كَالْغُرْفَةِ - لَهَا مَعَانٍ أَظْهَرُهَا هُنَا اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَانِعِ الْمُعْتَرِضِ دُونَ الشَّيْءِ; أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللهَ تَعَالَى مَانِعًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَمَلٍ؛ بِأَنْ تَحْلِفُوا بِهِ عَلَى تَرْكِهِ فَتَتْرُكُوهُ تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَى (مِسْطَحٍ) بَعْدَ أَنْ خَاضَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَفِيهِ نَزَلَ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) (24: 22) الْآيَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)) وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَاللهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي)) وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ جَرِيرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَبِرُّهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا وَيَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ)) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسْرِعُ إِلَى لِسَانِهِ الْحَلِفُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَقَدْ يَكُونُ خَيْرًا، وَلَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَقَدْ يَكُونُ شَرًّا، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى بِأَنْ يَكُونَ اسْمُهُ حِجَابًا دُونَ الْخَيْرِ، أَوْ مِحْضَاءً لِلشَّرِّ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُجُوبِ تَحَرِّي الْخَيْرِ وَالْأَحْسَنِ وَإِنْ حَلِفَ عَلَى غَيْرِهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي لِلْعُرْضَةِ مَا يَعْرِضُ لِلشَّيْءِ أَنَّ مَا يُنْصَبُ لِيَعْرِضَ لَهُ الشَّيْءُ كَالْهَدَفِ لِلسِّهَامِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ إِذَا كَانُوا يَقَعُونَ فِيهِ وَيَعْرِضُونَ لَهُ بِالْمَكْرُوهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ تَتْرُكُوا رَهْطَ الْفَدَوْكَسِ عُصْبَةً ... يَتَامَى أَيَامَى عُرْضَةً لِلْقَبَائِلِ وَيُقَالُ: جَعَلْتُهُ عُرْضَةً لِكَذَا; أَيْ: نَصَبْتُهُ لَهُ فَكَانَ مَعْرُوضًا وَمُعَرَّضًا لَهُ، يَكْثُرُ وُرُودُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: طَلَّقْتُهُنَّ وَمَا الطَّلَاقُ بِسُبَّةٍ ... إِنَّ النِّسَاءَ لَعُرْضَةُ التَّطْلِيقِ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تُكْثِرُوا الْحَلِفَ بِاللهِ تَعَالَى، فَالَّذِي يَجْعَلُ اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ هُوَ كَالْحَلَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (68: 10) فَكَثِيرُ الْحَلِفِ حَلِيفُ الْمَهَانَةِ وَقَرِينُهَا، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ صِفَاتٍ أُخْرَى ذَمِيمَةً نَهَى عَنْ أَهْلِهَا وَبَدَأَهَا بِالْخِلَافِ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (68: 11 - 13) فَالْحَلَّافُ يُعَدُّ فِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ، وَمَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ قَلَّتْ مَهَابَتُهُ وَكَثُرَ حِنْثُهُ وَاتُّهِمَ بِالْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ الْحَلَّافُ إِلَّا كَذَّابًا، فَهُوَ عَلَى إِهَانَتِهِ لِاسْمِ اللهِ تَعَالَى يَفُوتُهُ مَا يُرِيدُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ وَتَصْدِيقِهِ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى تَرْكِ الْحَلِفِ بِاللهِ

تَعَالَى إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ مِنَ الَّذِي سَبَقَهُ، وَالْعُرْضَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِقِلَّةِ الْحَلِفِ وَحِفْظِ الْأَيْمَانِ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتِ الْأَلَايَا: جَمْعُ أَلِيَّةٍ وَهِيَ الْيَمِينُ كَقَضِيَّةِ وَقَضَايَا، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لَا يَحْفَظُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ مَا كَانَ يَحْفَظُ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ: مَا حَلَفْتُ بِاللهِ صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا؟ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مِنْ مَذَامِّ كَثْرَةِ الْحَلِفِ أَنَّهُ يُقَلِّلُ ثِقَةَ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ، وَثِقَةَ النَّاسِ بِهِ، فَهُوَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فَيَحْلِفُ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْمَهِينِ، وَكَثِيرًا مَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْخَطَأِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلَ الْخَشْيَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَهُمُّهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى النَّاسُ وَيَكُونُ مَوْثُوقًا بِهِ عِنْدَهُمْ، فَتَعْرِيضُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى لِلْحَلِفِ بِدُونِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ يَنْشَأُ عَنْ فَقْدِ هَيْبَةِ اللهِ وَإِجْلَالِهِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَعَلَّمُونَ كَثْرَةَ الْحَلِفِ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ مَعَهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ. فَيَتَعَوَّدُونَ عَدَمَ احْتِرَامِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى: وَقَدْ نَجِدُ هَذَا الْحَلِفَ فَاشِيًا حَتَّى فِي الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ، ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الدِّينِ أَصْبَحَ صَنَاعَةً لَفْظِيَّةً لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَلَا فِي الْأَعْمَالِ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُهُمْ حَدِيثًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَكْذِبُ فِيهِ بِمَا يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِلْأَيْمَانِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ; أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ مَانِعًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، بَلْ إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ أَوِ التَّقْوَى أَوِ الْإِصْلَاحِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مَانِعًا مِنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهُوَ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ; أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ تَعَالَى مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ لِأَجْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَإِنَّ كَثِيرَ الْحَلِفِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِذَلِكَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ يَكُونُ مَهِينًا، غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَعُرْضَةً لِلْكَذِبِ وَالْحِنْثِ، وَغَيْرَ مَوْثُوقٍ بِقَوْلِهِ، فَأَنَّى يَرْضَاهُ النَّاسُ مُصْلِحًا بَيْنَهُمْ؟ وَالْمُصْلِحُ مُرَبٍّ وَمُؤَدِّبٌ وَحَاكِمٌ مُطَاعٌ بِالِاخْتِيَارِ. ثُمَّ قَالَ: (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أَيْ: سَمِيعٌ لِمَا تَلْفِظُونَ بِهِ مِنَ الْحَلِفِ وَغَيْرِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَثْرَةِ الْحَلِفِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ وَتَتَذَكَّرُوا عِنْدَ دَاعِيَةِ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ هِدَايَتِهِ لَكُمْ فَتَكُونُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ. هَذَا الْخَتْمُ لِلْآيَةِ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى كَثْرَةِ الْحَلِفِ، فَإِذَا دَخَلَ فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْكَلَامِ

225

مِنْ قَصْدٍ وَرَوِيَّةٍ كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ: أَيْ وَاللهِ، لَا وَاللهِ: وَعُدَّ هَذَا مِمَّا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ وَيَجْرِي فِيهِ الْحُكْمُ السَّابِقُ كَانَ الْحَرَجُ عَظِيمًا، وَقَدْ رَفَعَ اللهُ هَذَا الْحَرَجَ بِقَوْلِهِ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) فَاللَّغْوُ: أَنْ يَقَعَ الْكَلَامُ حَشْوًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَسْبِقُ إِلَى اللِّسَانِ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ بِهَا عَقْدُ الْيَمِينِ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا تُعَدُّ أَيْمَانًا حَقِيقِيَّةً، فَلَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا بِفَرْضِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا وَلَا بِالْعِقَابِ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) بِأَنْ تَقْصِدُوا جَعْلَ اسْمِهِ الْكَرِيمِ عُرْضَةً لِلِابْتِذَالِ، أَوْ مَانِعًا لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، فَالْقَوْلُ الْحَشْوُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْقَلْبِ، وَلَا شَأْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ، مِمَّا يَعْفُو عَنْهُ، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا يُلِمُّ بِهِ مِمَّا لَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُ وَأَعْمَالَهُ، وَلَا يَتَعَجَّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى هَذَا اللَّمَمِ الَّذِي يَضْعُفُ الْعَبْدُ عَنِ التَّوَقِّي مِنْهُ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَلِّفْ عِبَادَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَمْ تَقْصِدْهُ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تَتَعَمَّدْهُ نُفُوسُهُمْ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ سُلْطَةِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلَغْوِ الْيَمِينِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ وَوَضَعُوا لِذَلِكَ أَحْكَامًا ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ. بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْأَيْمَانِ الْعَامَّةِ انْتَقَلَ إِلَى حُكْمِ الْيَمِينِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: (لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) إِلَخْ، فَالْإِيلَاء مِنَ الْمَرْأَةِ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا يَقْرَبَهَا، وَهُوَ مِمَّا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ عِنْدَ الْمُغَاضَبَةِ وَالْغَيْظِ، وَفِيهِ امْتِهَانٌ لِلْمَرْأَةِ وَهَضْمٌ لِحَقِّهَا وَإِظْهَارٌ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، فَتَرْكُ الْمُقَارَبَةِ الْخَاصَّةِ الْمَعْلُومَةِ ضِرَارًا مَعْصِيَةٌ، وَالْحَلِفُ عَلَيْهِ حَلِفٌ عَلَى مَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّوَادِّ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَفِي عِيَالِهِمَا وَأَقَارِبِهِمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْإِيلَاءِ ((الْحَلِفِ)) يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدْنَاهُمَا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْلِي أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي نَفْسِهِ فَقَطْ، فَيُقَالُ: حَسْبُهُ مَا يَلْقَى مِنْ جَزَاءِ إِثْمِهِ، بَلْ يَكُونُ بِإِثْمِهِ هَاضِمًا لِحَقِّ امْرَأَتِهِ، وَلَا يُبِيحُ لَهُ الْعَدْلُ هَذَا الْهَضْمَ وَالظُّلْمَ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ التَّرَبُّصُ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي لَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبُعْدُ فِيهَا عَنِ الرَّجُلِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ لِتَرَوِّي الرَّجُلِ فِي أَمْرِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَى رُشْدِهِ (فَإِنْ فَاءُوا) أَيْ: رَجَعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ بِأَنْ حَنِثُوا فِي الْيَمِينِ وَقَارَبُوهُنَّ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ آخِرِهَا (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ؛ لِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَوْبَةٌ فِي حَقِّهِمْ (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ) أَيْ: صَمَّمُوا قَصْدَهُ وَعَزَمُوا عَلَى أَلَّا يَعُودُوا إِلَى مُلَامَسَةِ نِسَائِهِمْ (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أَيْ: فَلْيُرَاقِبُوا اللهَ تَعَالَى عَالِمَيْنِ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِمْ وَطَلَاقِهِمْ عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِهِ إِيذَاءَ

228

النِّسَاءِ وَمُضَارَّتَهُنَّ فَهُوَ يَتَوَلَّى عِقَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ بِأَنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِيلَاءِ تَرْبِيَةَ النِّسَاءِ لِأَجْلِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ، وَعَلَى الطَّلَاقِ الْيَأْسَ مِنْ إِمْكَانِ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، فَهُوَ يَغْفِرُ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ غِشْيَانِ امْرَأَتِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَبَّصَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ; فَإِنْ تَابَ وَعَادَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَإِنْ أَتَمَّهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: الْفَيْئَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوِ الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاقِبَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ هُوَ بِالْقَوْلِ كَانَ مُطَلِّقًا بِالْفِعْلِ; أَيْ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ مِنْهُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ رَغْمَ أَنْفِهِ مَنْعًا لِلضِّرَارِ، وَقِيلَ تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فِي هَذَا، وَلَكِنْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَقَائِهَا عَلَى عِصْمَتِهِ وَعَدَمِ إِبَاحَةِ مُضَارَّتِهَا، وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى الْفَيْئَةَ عَلَى الطَّلَاقِ إِذْ جَعَلَ جَزَاءَ الْفَيْئَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَهَدَى إِلَى مُرَاقَبَتِهِ فِي الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَذَكَرَ الْمُؤْلِيَ بِسَمْعِهِ تَعَالَى لِمَا يَقُولُ وَعِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّهُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْصِدُهُ مِنْ عَمَلِهِ. هَذَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا أَطْلَقَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يَذْكُرْ زَمَنًا، أَوْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ مُدَّةَ كَذَا وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا أَتَمَّهَا وَفِي الْأَرْبَعَةِ خِلَافٌ، وَقَدْ عَدَّى الْإِيلَاءَ هُنَا بِـ (مِنْ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُفَارَقَةِ وَالِانْفِصَالِ، وَهُوَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ بِمَكَانٍ، وَيُقَالُ فِي غَيْرِهِ أَلَى وَآلَى وَائْتَلَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا; أَيْ: حَلَفَ، وَصَارَ الْإِيلَاءُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْحَلِفِ الْمَذْكُورِ. (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ لِلْمُؤْلِينَ مِنْ نِسَائِهِمْ حَالَيْنِ: الْفَيْئَةُ بِالرُّجُوعِ إِلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَعَزْمُ الطَّلَاقِ وَإِمْضَاؤُهُ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُتَمِّمًا لَهُ فَقَالَ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إِلَخْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ - الْمُرَادُ بِالْمُطَلَّقَاتِ الْأَزْوَاجُ اللَّوَاتِي تَحَقَّقَ فِيهِنَّ

مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَعُهِدْنَ أَنْ يَكُنَّ مُطَلَّقَاتٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحَيْضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، فَلَا يَأْتِي هُنَا مَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَلِمَةِ: الْمُطَلَّقَاتُ هَلِ اللَّامُ فِيهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَمْ لِلْجِنْسِ؟ وَهَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ وَصْلَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَمْنَعُ كُلَّ ذَلِكَ، كَمَا يَمْنَعُهُ التَّرَبُّصُ بِالزَّوَاجِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْبَحْثُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا حُكْمُ مَنْ لَسْنَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ كَالْيَائِسَةِ وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ فَمَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَهُنَّ كَأَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي مَفْهُومِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَإِنَّ الْيَائِسَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَلَّا تُطَلَّقَ لِأَنَّ مَنْ أَمْضَى زَمَنَ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ امْرَأَةٍ حَتَّى يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالْفِطْرَةِ وَمِنْ أَدَبِ الشَّرْعِ وَالدِّينِ أَنْ يَحْفَظَ عَهْدَهَا وَيَرْعَى وُدَّهَا بِإِبْقَائِهَا عَلَى عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ لَا يَحْتَرِمُونَ تِلْكَ الْعِشْرَةَ الطَّوِيلَةَ، وَلَا يُرَاعُونَ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ الْغَلِيظَ فَيُقْدِمُوا عَلَى طَلَاقِ الْيَائِسَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْيَائِسَةَ إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا تَكَادُ تَتَزَوَّجُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّبْعِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْمَحِيضِ قَلَّمَا تَكُونُ زَوْجًا، وَمَنْ عَقَدَ عَلَى مِثْلِهَا كَانَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا عَظِيمَةً فَيَنْدُرُ أَنْ يَتَحَوَّلَ فَيُطَلِّقَ، وَحَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَتَبَادَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ لَفْظِ الْمُطَلَّقَاتِ يُفِيدُ أَنَّهُنَّ الزَّوْجَاتُ الْمَعْهُودَاتُ الْمُسْتَعِدَّاتُ لِلْحَمْلِ وَالنَّسْلِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصِدُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ فَيُنْتَظَرُ أَنْ يَرْغَبَ النَّاسُ فِي التَّزَوُّجِ بِهِنَّ. وَمَعْنَى التَّرَبُّصِ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ هُوَ أَلَّا تَتَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةُ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَهِيَ جُمَعُ قُرْءٍ - بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا - وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى حَيْضِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى طُهْرِهَا مِنْهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلطَّاهِرِ الَّتِي لَمْ تَرَ الدَّمَ ذَاتُ قُرْءٍ أَوْ قُرُوءٍ، وَلَا لِلْحَائِضِ الَّتِي اسْتَمَرَّ لَهَا الدَّمُ، فَلَمَّا كَانَ الْقُرْءُ وَسَطًا بَيْنَ الدَّمِ وَالطُّهْرِ أَوْ عِبَارَةً عَنِ الصِّلَةِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَبَّرَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَحَدِهِمَا وَقَوْمٌ عَنِ الْآخَرِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ شَوَاهِدُ فِي اللُّغَةِ، أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي إِيرَادِهَا وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَآلُ الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ، وَأَدِلَّةُ الْأَوَّلِينَ أَقْوَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْخَطْبُ فِي الْخِلَافِ سَهْلٌ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّرَبُّصِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الزَّوْجِ السَّابِقِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَيْضُ إِلَى آخِرِ الْحَمْلِ، فَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأُورِدَ الْحُكْمُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْشَاءِ - كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ كَذَا - لِتَأْكِيدِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّرَبُّصَ وَاقِعٌ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ، فَعِنْدَمَا يُقَالُ الْمُطَلَّقَاتُ يَلْتَفِتُ ذِهْنُ السَّامِعِ وَيَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِسَمَاعِ مَا يُقَالُ عَنْهُنَّ، فَإِذَا قِيلَ:

(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إِلَخْ - وَفِيهِ الْإِسْنَادُ وَالْحُكْمُ - يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنَا أَمَرْنَاهُنَّ بِذَلِكَ وَفَرَضْنَاهُ عَلَيْهِنَّ فَامْتَثَلْنَ الْأَمْرَ وَجَرَيْنَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِمْرَارِ حَتَّى صَارَ شَأْنًا مِنْ شُئُونِهِنَّ اللَّازِمَةِ لَهُنَّ لَا يَنْصَرِفْنَ عَنْهُ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مُخَالَفَتُهُنَّ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِصِيغَتِهِ مَا يُفِيدُ هَذَا التَّأْكِيدَ وَالِاهْتِمَامَ; لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَمْتَثِلُ وَقَدْ يُخَالِفُ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ التَّعْبِيرِ مَعْهُودٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ مَوَاقِعَهُ لَا يَعْدُوهَا، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ طَعِمَ الْبَلَاغَةَ وَذَاقَهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) مِنَ الْإِبْدَاعِ فِي الْإِشَارَةِ، وَالنَّزَاهَةِ فِي الْعِبَارَةِ، مَا عُهِدَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَبْلُغْ مُرَاعَاةَ مِثْلِهِ إِنْسَانٌ، فَالْكَلَامُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَهُنَّ مُعَرَّضَاتٌ لِلزَّوَاجِ، وَخُلُوٍّ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَالْأَنْسَبُ فِيهِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِمَا يَتَشَوَّقْنَ إِلَيْهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْكِنَايَةِ عَمَّا يَرْغَبْنَ فِيهِ، عَلَى إِقْرَارِهِنَّ عَلَيْهِ وَعَدَمِ إِيئَاسِهِنَّ مِنْهُ، مَعَ اجْتِنَابِ إِخْجَالِهِنَّ، وَتَوَقِّي تَنْفِيرِهِنَّ أَوِ التَّنْفِيرِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ، الَّذِي هُوَ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِعْجَازِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَمْلِكْنَ رَغْبَتَهُنَّ، وَيَكْفُفْنَ جِمَاحَ أَنْفُسِهِنَّ، إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ الْمَمْدُودَةِ، وَالْعِدَّةِ الْمَعْدُودَةِ، وَلَكِنْ بِطْرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّلْوِيحِ لَا بِطْرِيقِ الْإِبَانَةِ وَالتَّصْرِيحِ، فَإِنَّ التَّرَبُّصَ فِي حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِ مَعْنَاهُ التَّرَيُّثُ وَالِانْتِظَارُ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ يُتَرَيَّثُ عَنْهُ، وَيُنْتَظَرُ زَوَالُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَهُ، وَلَوْلَا كَلِمَةُ (بِأَنْفُسِهِنَّ) لَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ، وَالْكِنَايَاتِ الرَّشِيقَةَ، وَمَا كَانَ لِيَخْطِرَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ يُرِيدُ إِفَادَةَ حُكْمِ الْعِدَّةِ أَنْ يَزِيدَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى قَوْلِهِ: " يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ " وَلَوْ لَمْ تُزَدْ لَكَانَ الْحُكْمُ عَارِيًا عَنْ تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَالْحُكْمِ عَلَى شُعُورِهَا وَوِجْدَانِهَا، وَلَعَلَّ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُ النِّسَاءِ مِنْ تِلْكَ النَّزْعَةِ فِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُنَّ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِنَّ امْتِلَاكَهَا وَالتَّرَبُّصَ بِهَا اخْتِيَارًا، هُوَ أَشَدُّ فِعْلًا فِي أَنْفُسِهِنَّ وَأَقْوَى إِلْزَامًا لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ كَذَلِكَ طَائِعَاتٍ مُخْتَارَاتٍ، كَمَا أَنَّ فِيهِ إِكْرَامًا لَهُنَّ وَلُطْفًا بِهِنَّ، إِذْ لَمْ يُؤْمَرْنَ أَمْرًا صَرِيحًا وَهَذَا مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ هَدَانَا إِلَى فَهْمِهَا، فَأَنَّى لِأَمْثَالِنَا مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى التَّرَبُّصِ بِالْأَنْفُسِ هُنَا ضَبْطُهَا وَمَنْعُهَا أَنْ تَقَعَ فِي غَمْرَةِ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ النِّسَاءَ أَشَدُّ شَهْوَةً مِنَ الرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ هَذِهِ الشِّدَّةَ وَالزِّيَادَةَ بِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ حَدَّهَا وَعَدَّهَا عَدًّا، وَهَذَا مِنْ نَبْذِ الْأَقْوَالِ وَطَرْحِهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الرِّجَالَ كَانُوا وَمَا زَالُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ النِّسَاءَ وَيَرْغَبُونَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يَظْلِمُونَهُنَّ حَتَّى بِالتَّحَكُّمِ فِي طَبَائِعِهِنَّ وَالْحُكْمِ عَلَى شُعُورِهِنَّ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي

أَقْوَالِ الرِّجَالِ فِي النِّسَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلَا سِيَّمَا أَقْوَالُ كُتَّابِ الصُّحُفِ فِي زَمَانِنَا، وَوَزَنَّاهَا بِمَوَازِينِهَا، رَأَى فِيهَا مِنَ الْأَغْلَاطِ وَالْأَوْهَامِ مَا يُبْطِلُهُ النَّظَرُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَظْهَرُ أَوْهَامِهِمْ مَا يَكْتُبُونَهُ فِي حُبِّ الْمَرْأَةِ وَفِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمُخْطِئِ فِي ذَلِكَ أَضْعَافُ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمُصِيبِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ هَذَا التَّرَبُّصِ بِالزَّوَاجِ فِي سِيَاقِ حُكْمٍ آخَرَ فَقَالَ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) كَمَا كُنَّ يَفْعَلْنَ أَحْيَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ فِرَاقِ رَجُلٍ بِآخَرَ وَيَظْهَرُ لَهَا أَنَّهَا حُبْلَى مِنَ الْأَوَّلِ فَتُلْحِقُ الْوَلَدَ بِالثَّانِي، فَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ شَرُّ ضُرُوبِ الْغِشِّ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، يَنْفِي عَنْ قَوْمٍ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ، وَيُلْحِقُ بِآخَرِينَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَارِّ مَا لَا يُجْهَلُ وَقَدْ حَرَّمَهُ اللهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تَعْتَدَّ الْمَرْأَةُ بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجِهَا لِيُظْهِرَ أَنَّهَا بَرِيئَةً مِنَ الْحَمْلِ، وَنَهَى أَنْ تَكْتُمَ الْحَمْلَ إِذَا عَلِمَتْ بِهِ: وَاخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ يَشْمَلُ الْوَلَدَ وَالْحَيْضَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ تَكْتُمُ الْمَرْأَةُ حَيْضَتَهَا لِتُطِيلَ أَجَلَ عِدَّتِهَا، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا، وَقَدْ فَشَا فِي مُطَلَّقَاتِ هَذَا الزَّمَانِ اللَّوَاتِي لَا يَطْمَعْنَ فِي الزَّوَاجِ; لِأَنَّ الْحُكَّامَ يَفْرِضُونَ لَهُنَّ نَفَقَةً مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ فَيَرْغَبْنَ فِي اسْتِدَامَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ بِكِتْمَانِ الْحَيْضِ وَادِّعَاءِ عَدَمِ مُرُورِ الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِنَّ، وَمَا يَأْخُذْنَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَرَامٌ، وَمَا هُنَّ مِمَّنْ يَتَفَكَّرْنَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُنَّ بِأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يُبَالِينَ مَا عَسَاهُنَّ يَعْرِفْنَهُ مِنْهَا، لِأَنَّهُنَّ لِمَ يَتَرَبَّيْنَ عَلَى آدَابِ الدِّينِ وَأَعْمَالِهِ، بَلْ لَمْ يُلَقَّنَّ عَقَائِدَهُ وَلَمْ يُذَكَّرْنَ بِآيَاتِهِ، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُهُنَّ أَقْرَبَ إِلَى أَهْلِ الْإِبَاحَةِ مِنْهُنَّ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَجْتَنِبُ الْحَرَامَ وَيَتَحَرَّى الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الْحَلَالِ أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَقِبَ النَّهْيِ: (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كُنَّ يَعْرِفْنَ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِالْقِسْطَاسِ، فَلَا يَكْتُمْنُ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَإِلَّا كُنَّ غَيْرَ مُؤْمِنَاتٍ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَلِأَزْوَاجِهِنَّ، وَحَافِظَةٌ لِحُقُوقِهِمْ وَحُقُوقِهِنَّ، إِذِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْحُكْمَ وَجَعَلَ فِي اتِّبَاعِهِ الْمَثُوبَةَ وَالرِّضْوَانَ، وَفِي تَرْكِهِ الشَّقَاءَ وَالْخُسْرَانَ، يَكُونُ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِامْتِثَالِهِ مَعَ إِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) إِلَخْ، فَمَنْ لَنَا بِمَنْ يُبْلِغُ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ هَذَا التَّشْدِيدَ؟ وَمَنْ لَنَا بِمَنْ يَهْتَمُّ بِتَلْقِينِ الْبَنَاتِ عَقَائِدَ الْإِيمَانِ وَتَرْبِيَتِهِنَّ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تُمَكِّنُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ فِي الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ؟ وَأَيُّ رَجُلٍ يَفْعَلُ هَذَا وَالرِّجَالُ أَنْفُسُهُمْ لَمْ يَعُدْ

لَهُمْ هَمٌّ فِي الدِّينِ إِلَّا قَلِيلٍ مِنْهُمْ! وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ النِّسَاءَ مَتَاعًا لَا أَنَاسِيَّ مِثْلَهُمْ، فَيَدَعُونَهُنَّ وَشَأْنَهُنَّ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عَوَاقِبِ إِهْمَالِهِنَّ، وَرَزَايَا جَهْلِهِنَّ. (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ -: هَذَا لُطْفٌ كَبِيرٌ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحِرْصٌ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى بَقَاءِ الْعِصْمَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ لِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ سَوَاءً كَانَ بِالْإِيلَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِيهَا الرِّجَالُ، وَأَمَّا بَعْلُهَا الْمُطَلِّقُ فَقَدْ يَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا، وَيَرَى أَنَّ مَا طَلَّقَهَا لِأَجْلِهِ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَتَهَا دَائِمًا، فَيَرْغَبُ فِي مُرَاجَعَتِهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْعِشْرَةُ السَّابِقَةُ بَيْنَهُمَا جَرَتْ عَلَى طَرِيقَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ، فَأَفْضَى كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِسِرِّهِ حَتَّى عَرَفَ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ، وَتَمَكَّنَتِ الْأُلْفَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى عِلَّاتِهِمَا، وَإِذَا كَانَا قَدْ رُزِقَا الْوَلَدَ فَإِنَّ النَّدَمَ عَلَى الطَّلَاقِ يُسْرِعُ إِلَيْهِمَا; لِأَنَّ الْحِرْصَ الطَّبِيعِيَّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَكَفَالَتِهِ بِالِاشْتِرَاكِ تَغْلِبُ بَعْدَ زَوَالِ أُصُرِ الْمُغَاضَبَةِ الْعَارِضَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَقَدْ يَكُونُ أَقُوَى إِذَا كَانَ الْأَوْلَادُ إِنَاثًا; لِهَذَا حَكَمَ اللهُ تَعَالَى لُطْفًا مِنْهُ بِعِبَادِهِ بِأَنَّ بَعْلَ الْمُطَلَّقَةِ، أَيْ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِرَدِّهَا فِي ذَلِكَ، أَيْ فِي زَمَنِ التَّرَبُّصِ وَهِيَ الْعِدَّةُ. وَفِي هَذَا بَيَانُ حِكْمَةٍ أُخْرَى لِلْعِدَّةِ غَيْرُ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ أَوْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهِيَ إِمْكَانُ الْمُرَاجَعَةِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَرَبُّصَ الْمُطَلَّقَاتِ بِأَنْفُسِهِنَّ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُنَّ وَفَائِدَةٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْلُ الْمَرْأَةِ أَحَقَّ بِهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ إِذَا قَصَدَ إِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَحُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَأَمَّا قَصْدُ مُضَارَّتِهَا وَمَنْعِهَا مِنَ التَّزَوُّجِ بَعْدَ الْعِدَّةِ حَتَّى تَكُونَ كَالْمُعَلَّقَةِ لَا يُعَاشِرُهَا مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ بِالْحُسْنَى وَلَا يُمَكِّنُهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، فَهُوَ آثِمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ، فَلَا يُبَاحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرُدَّ مُطَلَّقَتَهُ إِلَى عِصْمَتِهِ إِلَّا بِإِرَادَةِ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنِيَّةِ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِمَامُ: إِنَّهُ آثِمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى; لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرِّمٌ لِأَمْرٍ خَفِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الظَّاهِرِ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَمَا كَلُّ مَا صَحَّ فِي نَظَرِ الْقَاضِي يَكُونُ جَائِزًا تَدَيُّنًا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَرَبِّهِ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَالطَّلَاقُ الَّذِي تَحِلُّ فِيهِ الرَّجْعَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يُسَمَّى طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَهُنَاكَ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا تَحِلُّ مُرَاجَعَةُ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ كَلِمَةَ (أَحَقُّ) هُنَا بِمَعْنَى حَقِيقِينَ كَمَا قَالُوا. وَلَمَّا كَانَتْ إِرَادَةُ الْإِصْلَاحِ بِرَدِّ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ إِلَى عِصْمَتِهِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهَا كَمَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَقُومَ بِحُقُوقِهِ ذَكَرَ جَلَّ شَأْنُهُ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِعِبَارَةٍ مُجْمَلَةٍ تُعَدُّ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ فِي الْبَشَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) . هَذِهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ جِدًّا جَمَعَتْ عَلَى إِيجَازِهَا مَا لَا يُؤَدَّى بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ إِلَّا أَمْرًا وَاحِدًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَدْ أَحَالَ فِي مَعْرِفَةِ مَالَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ عَلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَاشَرَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِي أَهْلِيهِمْ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَهُوَ تَابِعٌ

لِشَرَائِعِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُعْطِي الرَّجُلَ مِيزَانًا يَزِنُ بِهِ مُعَامَلَتَهُ لِزَوْجِهِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا هُمْ بِمُطَالَبَتِهَا بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بِإِزَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّنِي لَأَتَزَيَّنُ لِامْرَأَتِي كَمَا تَتَزَيَّنُ لِي لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمِثْلَ بِأَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْخَاصِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْحُقُوقَ بَيْنَهُمَا مُتَبَادَلَةٌ وَأَنَّهُمَا أَكْفَاءٌ، فَمَا مِنْ عَمَلٍ تَعْمَلُهُ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ إِلَّا وَلِلرَّجُلِ عَمَلٌ يُقَابِلُهُ لَهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فِي شَخْصِهِ، فَهُوَ مِثْلُهُ فِي جِنْسِهِ، فَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الذَّاتِ وَالْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْعَقْلِ; أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَشَرٌ تَامٌّ لَهُ عَقْلٌ يَتَفَكَّرُ فِي مَصَالِحِهِ، وَقَلْبٌ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيُسَرُّ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا لَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفِرُ مِنْهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَحَكَّمَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ بِالْآخَرِ وَيَتَّخِذَهُ عَبْدًا يَسْتَذِلُّهُ وَيَسْتَخْدِمُهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ وَالدُّخُولِ فِي الْحَيَاةِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ سَعِيدَةً إِلَّا بِاحْتِرَامِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ -: هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي رُفِعَ النِّسَاءُ إِلَيْهَا لَمْ يَرْفَعْهُنَّ إِلَيْهَا دِينٌ سَابِقٌ وَلَا شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، بَلْ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهَا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَا بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الْأُمَمُ الْأُورُبِّيَّةُ الَّتِي كَانَ مِنْ آثَارِ تَقَدُّمِهَا فِي الْحَضَارَةِ وَالْمَدَنِيَّةِ أَنْ بَالَغَتْ فِي تَكْرِيمِ النِّسَاءِ وَاحْتِرَامِهِنَّ، وَعَنِيَتْ بِتَرْبِيَتِهِنَّ وَتَعْلِيمِهِنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ، لَا تَزَالُ دُونَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي رَفَعَ الْإِسْلَامُ النِّسَاءَ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَوَانِينُ بَعْضِهَا تَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي مَنَحَتْهَا إِيَّاهَا الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ نَحْوِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفٍ، وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي أُورُبَّا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا كُنَّ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَوْ أَسْوَأَ حَالًا، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ الْمَسِيحِيَّ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ تَعْلِيمَ الْمَسِيحِ لَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِمْ كَامِلًا سَالِمًا مِنَ الْإِضَافَاتِ وَالْبِدَعِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ لَمْ يُرَقِّ الْمَرْأَةَ وَإِنَّمَا كَانَ ارْتِقَاؤُهَا مِنْ أَثَرِ الْمَدَنِيَّةِ الْجَدِيدَةِ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي. وَقَدْ صَارَ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ قَصُرَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ عَنْ شَرِيعَتِنَا فِي إِعْلَاءِ شَأْنِ النِّسَاءِ يَفْخَرُونَ عَلَيْنَا، بَلْ يَرْمُونَنَا بِالْهَمَجِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَيَزْعُمُ الْجَاهِلُونَ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ هُوَ أَثَرُ دِينِنَا، ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أَحَدَ السَّائِحِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ

زَارَهُ فِي الْأَزْهَرِ وَبَيْنَا هُمَا مَارَّانِ فِي الْمَسْجِدِ رَأَى الْإِفْرِنْجِيُّ بِنْتًا مَارَّةً فِيهِ فَبُهِتَ وَقَالَ: مَا هَذَا؟ أُنْثَى تَدْخُلُ الْجَامِعَ! ! ! فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: وَمَا وَجْهُ الْغَرَابَةِ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَرَّرَ أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ أَرْوَاحٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ عِبَادَةٌ: فَبَيَّنَ لَهُ غَلَطَهُ وَفَسَّرَ لَهُ بَعْضَ الْآيَاتِ فِيهِنَّ. قَالَ: فَانْظُرُوا كَيْفَ صِرْنَا حُجَّةً عَلَى دِينِنَا؟ وَإِلَى جَهْلِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ رَئِيسٌ لِجَمْعِيَّةٍ كَبِيرَةٍ فَمَا بَالُكُمْ بِعَامَّتِهِمْ؟ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ جَعَلَ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ مِثْلَ مَا لَهُمْ عَلَيْهِنَّ إِلَّا مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ الرِّيَاسَةِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الرِّجَالِ بِمُقْتَضَى كَفَالَةِ الرِّيَاسَةِ أَنْ يُعَلِّمُوهُنَّ مَا يُمَكِّنُهُنَّ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ وَيَجْعَلُ لَهُنَّ فِي النُّفُوسِ احْتِرَامًا يُعِينُ عَلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ وَيُسَهِّلُ طَرِيقَهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ يَحْتَرِمُ مَنْ يَرَاهُ مُؤَدَّبًا عَالِمًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَامِلًا بِهِ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَهِنَهُ أَوْ يُهِينَهُ، وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ بَادِرَةٌ فِي حَقِّهِ رَجَعَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُ عَنْ مِثْلِهَا. خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى النِّسَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ كَمَا خَاطَبَ الرِّجَالَ، وَجَعَلَ لَهُنَّ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا جَعَلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَقَرَنَ أَسْمَاءَهُنَّ بِأَسْمَائِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَبَايَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا بَايَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُنَّ بِتَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ كَمَا أَمَرَهُمْ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَا مَضَى بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُنَّ مَجْزِيَّاتٌ عَلَى أَعْمَالِهِنَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَفَيَجُوزُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُحْرَمْنَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ لِرَبِّهِنَّ وَلِبُعُولَتِهِنَّ وَلِأَوْلَادِهِنَّ وَلِذِي الْقُرْبَى وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ؟ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ بِمَا يُطْلَبُ فِعْلُهُ شَرْطٌ فِي تَوَجُّهِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ وَالْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِهِ الْمُبَيِّنِ لِفَائِدَةِ فِعْلِهِ وَمَضَرَّةِ تَرْكِهِ يُعَدُّ سَبَبًا لِلْعِنَايَةِ بِفِعْلِهِ وَالتَّوَقِّي مِنْ إِهْمَالِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُؤَدِّينَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقَ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؟ وَكَيْفَ تَسْعَدُ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ أُمَّةٌ نَصِفُهَا كَالْبَهَائِمِ لَا يُؤَدِّي مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ وَلَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِأَهْلِهِ وَلَا لِلنَّاسِ؟ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَتْرُكُ الْبَاقِي، وَمِنْهُ إِعَانَةُ ذَلِكَ النِّصْفِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، أَوْ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالرِّيَاسَةِ. إِنَّ مَا يَجِبُ أَنْ تَعْلَمَهُ الْمَرْأَةُ مِنْ عَقَائِدِ دِينِهَا وَآدَابِهِ وَعِبَادَاتِهِ مَحْدُودٌ، وَلَكِنْ مَا يُطْلَبُ مِنْهَا لِنِظَامِ بَيْتِهَا وَتَرْبِيَةِ أَوْلَادِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ - إِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ غَنِيٍّ وَنِعْمَةٍ - يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ، كَمَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَى الرِّجَالِ، أَلَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يُوجِبُونَ عَلَى الرَّجُلِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةَ اللَّائِقَةَ بِحَالِ الْمَرْأَةِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ قَدِ اتَّسَعَتْ دَائِرَتُهَا؟ فَبَعْدَ أَنْ كَانَ اتِّخَاذُ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْقِسِيِّ كَافِيًا فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَوْزَةِ صَارَ هَذَا الدِّفَاعُ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْمَدَافِعِ وَالْبَنَادِقِ

وَالْبَوَارِجِ، وَعَلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ صَارَتْ وَاجِبَةً الْيَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا مَوْجُودَةً بِالْأَمْسِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ تَمْرِيضَ الْمَرْضَى وَمُدَاوَاةَ الْجَرْحَى كَانَ يَسِيرًا عَلَى النِّسَاءِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَصْرِ الْخُلَفَاءِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَقَدْ صَارَ الْآنَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَعَلُّمِ فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَرْبِيَةٍ خَاصَّةٍ، أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ فِي نَظَرِ الْإِسْلَامِ؟ أَتَمْرِيضُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إِذَا هُوَ مَرِضَ أَمِ اتِّخَاذُ مُمَرِّضَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَتِهِ وَتَكْتَشِفُ مُخَبَّآتِ بَيْتِهِ؟ وَهَلْ يَتَيَسَّرُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُمَرِّضَ زَوْجَهَا أَوْ وَلَدَهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِقَانُونِ الصِّحَّةِ وَبِأَسْمَاءِ الْأَدْوِيَةِ؟ نَعَمْ; قَدْ تَيَسَّرَ لِكَثِيرَاتٍ مِنَ الْجَاهِلَاتِ قَتْلُ مَرْضَاهُنَّ بِزِيَادَةِ مَقَادِيرِ الْأَدْوِيَةِ السَّامَّةِ أَوْ بِجَعْلِ دَوَاءٍ مَكَانَ آخَرَ. رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ - وَصَحَّحَهُ - وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (66: 6) عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ وَأَدِّبُوهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ، وَهُوَ مِنْ: أَهَلَ الْمَكَانَ أُهُولًا: عَمَّرَ، وَأَهَلَ الرَّجُلُ وَتَأَهَّلَ تَزَوَّجَ، وَأَهْلُ الرَّجُلِ: زَوْجُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ فِيهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْقَرَابَةُ. وَجَمْعُ الْأَهْلِ أَهْلُونَ، وَرُبَّمَا قِيلَ الْأَهَالِي (الْمِصْبَاحُ) وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَقِي نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ نَارَ الْآخِرَةِ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، فَهُوَ كَذَلِكَ يَقِيهِمْ بِذَلِكَ نَارَ الدُّنْيَا وَهِيَ الْمَعِيشَةُ الْمُنَغَّصَةُ بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ النِّظَامِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مَا لَمْ يُحِلَّ الْعُرْفُ حَرَامًا أَوْ يُحَرِّمْ حَلَالًا مِمَّا عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالْعُرْفُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ حَقَّ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَلَّا تَمْنَعَهُ مِنْ نَفْسِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَحَقَّهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إِلَخْ. وَقَالُوا: لَا يَلْزَمُهَا عَجْنٌ وَلَا خَبْزٌ وَلَا طَبْخٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ بَيْتِهِ أَوْ مَالِهِ وَمِلْكِهِ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى هِدَايَةِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْحَنَابِلَةِ. قَالَ فِي حَاشِيَةِ الْمُقْنِعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا مَا ذُكِرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْجَوْزَجَانِيُّ: عَلَيْهَا ذَلِكَ وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَعَلَى عَلِيٍّ مَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الْبَيْتِ مِنْ عَمَلٍ. وَرَوَاهُ الْجَوْزَجَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ، قَالَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ أَوْ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ لَكَانَ نَوْلُهَا (أَيْ: حَقُّهَا) أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ)) رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ. قَالَ: فَهَذَا طَاعَةٌ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يَجِبُ عَلَيْهَا الْمَعْرُوفُ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَالصَّوَابُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُرْفِ الْبَلَدِ)) اهـ.

وَمَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ بِنْتِهِ وَرَبِيبِهِ وَصِهْرِهِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) هُوَ مَا تَقْضِي بِهِ فِطْرَةُ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَوْزِيعُ الْأَعْمَالِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، عَلَى الْمَرْأَةِ تَدْبِيرُ الْمَنْزِلِ وَالْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ فِيهِ، وَعَلَى الرَّجُلِ السَّعْيُ وَالْكَسْبُ خَارِجَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اسْتِعَانَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْخَدَمِ وَالْأُجَرَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلَا مُسَاعَدَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي عَمَلِهِ أَحْيَانًا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّقْسِيمُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ وَهُمْ لَا يَسْتَغْنُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَنِ التَّعَاوُنِ (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (2: 286) (وَتُعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ) (5: 2) . وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَمَا بَيَّنَهُ بِهِ فِي الْإِنْصَافِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْعُرْفِ لَا يَعْدُو مَا فِي الْآيَةِ قَيْدَ شَعْرَةٍ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَسَافَةَ الْبُعْدِ بَيْنَ مَا يَعْمَلُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِنِسَائِهِمْ تَجِدُهُمْ يَظْلِمُونَهُنَّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يَصُدُّ أَحَدُهُمْ عَنْ ظُلْمِ امْرَأَتِهِ إِلَّا الْعَجْزُ، وَيُحَمِّلُونَهُنَّ مَا لَا يُحَمَّلْنَهُ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ، وَيُكْثِرُونَ الشَّكْوَى مِنْ تَقْصِيرِهِنَّ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ لَيَقُولُنَّ كَمَا يَقُولُ أَكْثَرُ فُقَهَائِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ لَنَا عَلَيْهِنَّ خِدْمَةٌ، وَلَا طَبْخٌ، وَلَا غَسْلٌ، وَلَا كَنْسٌ وَلَا فَرْشٌ، وَلَا إِرْضَاعُ طِفْلٍ، وَلَا تَرْبِيَةُ وَلَدٍ، وَلَا إِشْرَافٌ عَلَى الْخَدَمِ الَّذِينَ نَسْتَأْجِرُهُمْ لِذَلِكَ، إِنْ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ إِلَّا الْمُكْثُ فِي الْبَيْتِ وَالتَّمْكِينُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا الْأَمْرَانِ عَدَمِيَّانِ; أَيْ: عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ لِلرِّجَالِ عَمَلٌ قَطُّ، وَلَا لِلْأَوْلَادِ مَعَ وُجُودِ آبَائِهِمْ أَيْضًا. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِعْفَائِهِنَّ مِنَ التَّكَالِيفِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِنَّ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، يُقَابِلُهَا الْمُبَالَغَةُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِنَّ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ بِالْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ يَتَّهِمُونَ رِجَالَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ، وَمَا هُوَ إِلَّا غَلَبَةُ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ مَعَ عُمُومِ الْجَهْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئًا وَعَلَى الرِّجَالِ أَشْيَاءَ; ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ هِيَ دَرَجَةُ الرِّيَاسَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُفَسَّرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (4: 34) فَالْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ حَيَاةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ رَئِيسٍ; لِأَنَّ الْمُجْتَمِعِينَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاؤُهُمْ وَرَغَبَاتُهُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ يُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ فِي الْخِلَافِ; لِئَلَّا يَعْمَلَ كُلٌّ عَلَى ضِدِّ الْآخَرِ فَتَنْفَصِمَ عُرْوَةُ الْوَحْدَةِ الْجَامِعَةِ، وَيَخْتَلَّ النِّظَامُ، وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّنْفِيذِ بِقُوَّتِهِ وَمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ شَرْعًا بِحِمَايَةِ الْمَرْأَةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ هِيَ مُطَالَبَةً بِطَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ

فَإِنْ نَشَزَتْ عَنْ طَاعَتِهِ كَانَ لَهُ تَأْدِيبُهَا بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ - إِنْ تَعَيَّنَ - تَأْدِيبًا، يَجُوزُ ذَلِكَ لِرَئِيسِ الْبَيْتِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَشِيرَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، كَمَا يَجُوزُ مِثْلُهُ لِقَائِدِ الْجَيْشِ وَلِرَئِيسِ الْأُمَّةِ (الْخَلِيفَةِ أَوِ السُّلْطَانِ) لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى النِّسَاءِ لِأَجْلِ التَّحَكُّمِ أَوِ التَّشَفِّي أَوْ شِفَاءِ الْغَيْظِ فَهُوَ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا - إِلَى أَنْ قَالَ - فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لِهَذِهِ السُّلْطَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ لِذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ هَاهُنَا وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى الرَّجُلِ مِثْلَ مَا لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَهْضُومَةَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ. (وَالثَّانِي) جَعْلُ الرَّجُلِ رَئِيسًا عَلَيْهَا، فَكَأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْحَكِيمَةِ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي عِزَّةِ سُلْطَانِهِ، وَمُنْكِرًا لِحِكْمَتِهِ فِي أَحْكَامِهِ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ كَمَا عَهِدَنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ. (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقٌ وَمُرَاجَعَةٌ فِي الْعِدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ حَدٌّ وَلَا عِدَّةٌ فَإِنْ كَانَ لِمُغَاضَبَةٍ عَارِضَةٍ عَادَ الزَّوْجُ فَرَاجَعَ وَاسْتَقَامَتْ عِشْرَتُهُ، وَإِنْ كَانَ لِمُضَارَّةِ الْمَرْأَةِ رَاجَعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَاسْتَأْنَفَ طَلَاقًا. ثُمَّ يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَوْ يَفِيءَ وَيَسْكُنَ غَضَبُهُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ أُلْعُوبَةً بِيَدِ الرَّجُلِ يُضَارُّهَا بِالطَّلَاقِ مَا شَاءَ أَنْ يُضَارَّهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ أُمُورِ الِاجْتِمَاعِ. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ وَأَوْرَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ قَالَتْ: ((كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَكْثَرَ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: وَاللهِ لَا أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ

229

فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكُ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ فَأَخْبَرَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) مَا مِثَالُهُ بِإِيضَاحٍ: قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الطَّلَاقَ عَلَى الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْعِدَّةَ، وَالطَّلَاقُ هُنَا هُوَ الطَّلَاقُ هُنَاكَ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ الْمَرْأَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، بِحَلِّ الرَّجُلِ عُقْدَةَ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تَرْبُطُهُمَا مَعًا، وَاللَّفْظُ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; فَهَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي الطَّلَاقِ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ لِتَقْرِيرِهِ وَتَوْكِيدِهِ كَقَوْلِهِ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) أَيْ: إِنَّ حَدَّ اللهِ الَّذِي حَدَّهُ لِلطَّلَاقِ وَلَمْ يُخْرِجْ بِهِ الْعِصْمَةَ مِنْ أَيْدِي الرِّجَالِ هُوَ مَرَّتَانِ; أَيْ: طَلْقَتَانِ، وَعَبَّرَ بِالْمَرَّتَيْنِ لِيُفِيدَ أَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ تَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَرَّةً تَحِلُّ بِهَا الْعِصْمَةُ ثُمَّ تُبْرَمُ، لَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَعَلَ كَلِمَةَ (طَلَّقْتُ ثَلَاثًا) بِمَثَابَةِ قَرَأْتُ الْفَاتِحَةَ ثَلَاثًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَالطَّلَاقُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَهُوَ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَوْلُ: إِنَّ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا بِالْقَوْلِ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الرَّجُلِ إِيقَاعُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً; ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقَوْلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا، بَلْ وَلَا الْقَوْلِيَّةَ أَيْضًا. فَمَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ مَرَّةً وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ وَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ. وَمَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَجَاءَ بِهَذَا فَقَدْ خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ وَاسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ. فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟)) حَتَّى قَالَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَقْتُلُهُ! قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ مَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ جَمْعَ الثِّنْتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ، وَهُوَ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. (قَالَ) : هَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذَا الْعَدَدِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَاتُّ الْبَائِنُ فَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ أَوْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ; وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الخِلَافُ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَبِينُ مِنْهُ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَالطَّلَاقُ

فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ الرَّجْعِيُّ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَمْ يُذْكَرْ، وَقَدْ أَخَذُوهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ، وَالْآخَرُونَ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَقْتَضِي التَّفْرِيقَ فَالطَّلَاقُ بَعْدَهَا لَغْوٌ. (أَقُولُ) : حَدِيثُ الْمُلَاعَنَةِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا فَأْتِ بِهَا)) فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنِينَ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَكَانَ فِرَاقُهُ إِيَّاهَا سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنِينَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ بِنَفْسِهِ بِأَنَّ تَفْرِيقَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ لَا إِنْشَاءُ تَفْرِيقٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لَا يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ فِي وُقُوعِ التَّطْلِيقِ الثَّلَاثِ بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فَعَلَ عُوَيْمِرٌ إِذْ قَالَ: ((كَمَا فِي رِوَايَةٍ)) فَهِيَ الطَّلَاقُ فَهِيَ الطَّلَاقُ فَهِيَ الطَّلَاقُ. فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ بِاللَّفْظِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا طَلَاقًا مُكَرَّرًا صَادَفَ مَحَلًّا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيقَاعَهُ بِدْعِيًّا كَمَا أَنْكَرَ عَلَى الرَّجُلِ الْآخَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِي حَدِيثِ النَّسَائِيِّ. وَلِلْجُمْهُورِ أَحَادِيثُ أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ لِضَعْفِهَا وَاضْطِرَابِهَا، أَشْهَرُهَا حَدِيثُ رُكَانَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ((أَلْبَتَّةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً فَأَعَادَ الْيَمِينَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعَادَهَا هُوَ فَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَأَلْتُ عَنْهُ مُحَمَّدًا; يَعْنِي الْبُخَارِيَّ، فَقَالَ: فِيهِ اضْطِرَابٌ، فَقِيلَ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. وَقِيلَ: وَاحِدَةً. وَقِيلَ: أَلْبَتَّةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَاشِمِيُّ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُضْطَرِبٌ كَمَا أَنَّهُ مَعَارَضٌ بِمَا يَأْتِي، وَرِوَايَةُ ثَلَاثًا فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِلرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَهِيَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ لَا يَقَعُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ إِلَّا وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، وَجَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً، فَهُوَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ (التَّتَايُعُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ: الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ تَمَاسُكٍ وَلَا تَوَقُّفٍ) فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ التَّقْيِيدُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْجُمْهُورِ إِلَّا الْأَخْذُ بِعَمَلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِذَا وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، هَلْ يَقَعُ جَمِيعُهَا وَيَتْبَعُ الطَّلَاقُ الطَّلَاقَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالنَّاصِرُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى، حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، بَلْ يَقَعُ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالْبَاقِرِ وَالنَّاصِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ مَغِيبٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ، وَنَقَلَ الْفَتْوَى بِذَلِكَ عَنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ، كَمُحَمَّدِ بْنِ بَقِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ مَغِيبٍ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْإِمَامِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالطَّلَاقِ الْمُتَتَابِعِ شَيْءٌ، لَا وَاحِدَةٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِر، وَسَائِرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الطَّلَاقَ الْبِدْعِيَّ لَا يَقَعُ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ أَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ مِنْهُ إِلَخْ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ الْأَدِلَّةَ وَعَرَضَهَا عَلَى مِيزَانِ التَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ، وَرَجَّحَ وُقُوعَ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ أَيْ لِلشَّوْكَانِيِّ رِسَالَةٌ خَاصَّةٌ فِي تَفْنِيدِ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ وَأَجْوِبَتِهِمْ عَنِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مُؤَلَّفٌ خَاصٌّ فِيهَا. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا وَالدَّلَائِلَ

وَأَوْضَحَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: ((وَمَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكِ الْمُكَلَّفُ إِيقَاعَ مَرَّاتِهِ كُلِّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَاللِّعَانِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَرْبَعَ شَهَادَتٍ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَقَالَ: أُقْسِمُ بِاللهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ هَذَا قَاتِلُهُ: كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا: أَنَا أُقِرُّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنِّي زَنَيْتُ: كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَنْ يَعْتَبِرُ الْأَرْبَعَ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِقْرَارًا وَاحِدًا)) ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخْرَى كَالْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً إِلَّا وَاحِدَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ إِجْمَاعٌ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ تَابِعِيهِمْ، وَأَنَّ الْفَتْوَى بِذَلِكَ تَتَابَعَتْ فِي كُلِّ عَصْرٍ حَتَّى كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ عِنْدَمَا ذَكَرَ أَتْبَاعَ تَابِعِي التَّابِعِينَ قَالَ: ((فَأَفْتَى بِهِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْمُغَلِّسِ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْحَلَّابِ قَوْلًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ قَالَ: وَكَانَ الْجَدُّ يُفْتِي بِهِ أَحْيَانًا)) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَثْرَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَيِّ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ؟ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ مِنْ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ - رُوِيَ عَنْهُ فِي الْفَتْوَى رِوَايَتَانِ - ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ الْعَمَلُ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ دُونَ رَأْيِهِ إِذَا اخْتَلَفَا، وَذَكَرَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِجَازَةَ عُمَرَ الثَّلَاثَ - لَمَّا تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ - تَأْدِيبٌ لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللهُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ كَوْنِهِ يُوقِعُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِيَرْجِعُوا إِلَى السُّنَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي تَأْيِيدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْآنَ تَقْضِي بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ فِرَارًا مِنْ مَفَاسِدِ التَّحْلِيلِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِدِينِهِمْ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَحَامِينَا فِي التَّفْسِيرِ ذِكْرَ الْخِلَافِ مَا وَجَدْنَا مَنْدُوحَةً عَنْهُ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِجْمَاعِيَّةٌ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَمَا تَمَّ مِنْ إِجْمَاعٍ إِلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَادَلَةَ الْمُقَلِّدِينَ أَوْ إِرْجَاعَ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُبَالِي

بِهَا; لِأَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَقْوَالِ كُتُبِهِمْ دُونَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَعْنَاهُ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ إِمَّا إِمْسَاكٌ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِمَّا تَسْرِيحُهَا بِإِمْضَاءِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَالتَّمْتِيعِ بِمَالٍ لَائِقٍ بِهِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَيَسْتَلْزِمُ اتِّقَاءَ الْإِهَانَةِ وَالْإِسَاءَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ إِلَّا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحُ; أَيِ: الطَّلَاقُ بِالْإِحْسَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْأَسَدِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ ((أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِمَعْنَى هَذَا، فَإِنِ اخْتَارَ الْأَمْرَ الثَّانِيَ وَهُوَ التَّسْرِيحُ فَطَلَّقَهَا بَانَتْ مِنْهُ وَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَى آخِرَ مَا سَيَأْتِي مَعَ حِكْمَتِهِ لَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى طَلْقَةٍ رَابِعَةٍ. بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللهُ سُبْحَانَهُ الْإِحْسَانَ عَلَى مَنِ اخْتَارَ التَّسْرِيحَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَخْذَ شَيْءٍ مِنَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُعْطِيهِ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُمَتِّعَهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ) (33: 49) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : إِنَّ أَخْذَ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ مَالِ مُطَلَّقَتِهِ مُنَافٍ لِلْإِحْسَانِ فَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ يَسْتَلْزِمُهُ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِهِ لِمَزِيدِ رَأْفَتِهِ سُبْحَانَهُ بِالنِّسَاءِ، وَتَأْكِيدِهِ تَحْذِيرَ الرِّجَالِ الْأَقْوِيَاءِ مِنْ ظُلْمِهِنَّ حُقُوقَهُنَّ، وَقَدْ كَرَّرَ هَذَا النَّهْيَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مَهْ شَيْئًا) (4: 20) إِلَخْ، الْآيَتَيْنِ، وَمَحَلُّ هَذَا الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَ فِرَاقَ الْمَرْأَةِ وَرَغِبَ عَنْهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هِيَ الرَّاغِبَةَ عَنْهُ الطَّالِبَةَ لِفِرَاقِهِ، وَخِيفَ أَنْ تَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِالنُّشُوزِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ لِكَرَاهَتِهَا إِيَّاهُ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهَا، لَا لِمُضَارَّتِهِ لَهَا; فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا حِينَئِذٍ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا لِإِطْلَاقِ سَرَاحِهَا، إِذْ لَا يُكَلَّفُ خَسَارَةَ امْرَأَتِهِ وَمَالِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهُ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) الَّتِي حَدَّهَا لِلزَّوْجَيْنِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُقُوقِ مَعَ وِلَايَةِ الرَّجُلِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَنْزِلِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِ الْمُضَارَّةِ لِقَوْلِهِ: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (65: 6) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَخَافَ الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْصِيَ

اللهَ فِي أَمْرِ زَوْجِهَا فَتَكْفُرَهُ أَوْ تَخُونَهُ، وَيَخَافَ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي مُؤَاخَذَةِ النَّاشِزِ، وَيَخَافَا مَعًا سُوءَ الْعِشْرَةِ (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِيمَا تُعْطِيهِ إِيَّاهُ لِيَخْلَعَهَا; لِأَنَّ طَلَبَهَا الطَّلَاقَ إِنَّمَا يُحْظَرُ لِغَيْرِ هَذَا الْعُذْرِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُ لِأَجْلِ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ بِرِضَاهَا وَاخْتِيَارِهَا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ مِنْهُ وَلَا مُضَارَّةٍ، وَالْخَوْفُ هُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالظَّنِّ وَبَعْضُهُمْ بِالْعِلْمِ، وَتَوَقُّعُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا فَهُوَ مِنَ الْعِلْمِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الظَّنِّ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ لِلْأَزْوَاجِ وَالثَّانِيَ لِلْحُكَّامِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْخِطَابَ لِلْحُكَّامِ أَوَّلًا وَآخِرًا لِتَنَاسُقِ النَّظْمِ بِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ. وَيَقُولُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْأُمَّةِ; لِأَنَّهَا مُتَكَافِلَةً فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَالْحُكَّامُ مِنْهُمْ وَسَائِرُ النَّاسِ رُقَبَاءُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ (يُخَافَا) بِضَمِّ الْيَاءِ; أَيْ: يَتَوَقَّعُ النَّاسُ مِنْهُمَا ذَلِكَ لِظُهُورِ أَمَارَاتِهِ وَآيَاتِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُثَارُهُ الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ إِقَامَتِهَا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، إِذْ جَعَلَ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ تَحْرِيمِ أَخْذِ الرَّجُلِ الْمُطَلِّقِ شَيْئًا مَا مِمَّا أَعْطَاهُ امْرَأَتَهُ. وَيَنْجَلِي هَذَا بِعَرْضِ حَالَاتِ الزَّوْجَيْنِ الثَّلَاثِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ: فَهُمَا إِنْ أَقَامَا حُدُودَ اللهِ تَعَالَى بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَأَدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَقَّ الْآخَرِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شُذُوذٍ يُتَسَامَحُ فِيهِ عَادَةً فَلَا خَوْفَ وَلَا فِرَاقَ، وَإِنْ عَرَضَ لَهَا مَا يَمْنَعُ إِقَامَتَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَارِضُ الْمَانِعُ مِنْ قِبَلِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ بِأَنْ أَبْغَضَ الْمَرْأَةَ أَوْ فُتِنَ بِغَيْرِهَا وَأَحَبَّ فِرَاقَهَا لِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهَا أَوْجَبَ ذَلِكَ وَخَافَ أَلَّا يُعَامِلَهَا بِمَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُقَابِلَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ; لِأَنَّ عُقْدَةَ الزَّوْجِيَّةِ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّا كَانَ أَعْطَاهَا شَيْئًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ) الْآيَةَ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي أَرَادَ الطَّلَاقَ. وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ قِبَلِهَا كَأَنْ أَبْغَضَتْهُ بُغْضًا لَا تَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ وَالْقِيَامَ مَعَهُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَخَافَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النُّشُوزِ، وَيُسْرِفَ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ، فَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ تُعْطِيَهُ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ بِاسْمِ الزَّوْجِيَّةِ لِيَحِلَّ عُقْدَتَهَا، فَلَا يَخْسَرُ مَالَهُ وَزَوْجَتَهُ مَعًا. عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ فِي الْآيَةِ، إِذْ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا، وَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرٌ فِي الرَّجُلِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْمُفْرِدِ لِخَفَائِهِ عَلَيْهِمْ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَمَا هُوَ بِخَفِيٍّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ يُذَمُّ مِنْهَا شَرْعًا

وَعُرْفًا أَنْ تَطْلُبَ الطَّلَاقَ، وَقَدْ رُفِعَ عَنْهَا الْجُنَاحُ فِيهِ بِهَذَا الْعُذْرِ، وَهُوَ عِلْمُهَا بِتَعَذُّرِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنْ هُنَاكَ حَالَةً ثَانِيَةً وَهِيَ أَنْ يَكْرَهَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَيَوَدَّ فِرَاقَهُ. وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ الصَّبْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (4: 19) فَإِنْ صَبَرَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ جَاءَ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْفِرَاقِ خَوْفًا مِنَ الشِّقَاقِ، وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِأَنْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا صُدِّقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا هِيَ الطَّالِبَةُ لِلْفَسْخِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا بِرِضَاهَا وَاخْتِيَارِهَا مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ مِنْهُ وَلَا مُضَارَّةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ ابْنِ سَلُولَ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ (أَيْ: كُفْرَ نِعْمَةِ الْعَشِيرِ وَخِيَانَتَهُ) قَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَقْبَلُ الْحَدِيقَةَ، وَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً)) وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ ((فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ)) وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) إِلَخْ، نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ النِّسَاءِ الَّتِي لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. وَهَذَا الْفِرَاقُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الِافْتِدَاءِ يُسَمَّى الْخُلْعُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ: هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ فَسْخٌ؟ وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ أَدِلَّةٌ لَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَحَلٍّ لَهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي عَدِّهِ مِنَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا، وَفِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ ((أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ)) مِثْلُهُ حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِوَعِيدِ مَنْ يُخَالِفُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فَقَالَ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) أَيْ: هَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي هِيَ حُدُودُ اللهِ لِلْمُعَامَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا تَتَجَاوَزُوهَا بِالْمُخَالَفَةِ (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الَّذِينَ صَارَ الظُّلْمُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ مُتَمَكِّنًا مِنَ أَنُفُسِهِمْ دُونَ الْمُلْتَزِمِينَ لَهَا، وَالظُّلْمُ آفَةُ الْعُمْرَانِ وَمُهْلِكُ الْأُمَمِ، وَإِنَّ ظُلْمَ الْأَزْوَاجِ لِلْأَزْوَاجِ أَعْرَقُ فِي الْإِفْسَادِ، وَأَعْجَلُ فِي الْإِهْلَاكِ مِنْ ظُلْمِ الْأَمِيرِ لِلرَّعِيَّةِ ; لِأَنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَمْتَنُ الرَّوَابِطِ وَأَحْكَمُهَا فَتُلَافِي الْفِطْرَةَ، فَإِذَا فَسَدَتِ الْفِطْرَةُ فَسَادًا انْتَكَثَ بِهِ هَذَا الْقَتْلُ، وَانْقَطَعَ هَذَا

230

الْحَبْلُ، فَأَيُّ رَجَاءٍ فِي الْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ يَمْنَعُ عَنْهَا غَضَبَ اللهِ وَسَخَطَهُ؟ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الظُّلْمَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ يُؤَدِّي إِلَى الشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ مُشِقٌ بِطَبِيعَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَلَغَ التَّرَاخِي وَالِانْفِصَامُ فِي رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِعَهْدِنَا هَذَا مَبْلَغًا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَأَسْرَفَ الرِّجَالُ فِي الطَّلَاقِ، وَكَثُرَ نُشُوزُ النِّسَاءِ وَافْتِدَاؤُهُنَّ مِنَ الرِّجَالِ بِالْخُلْعِ، لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ فِي الزَّوْجَيْنِ، وَاعْتِدَاءِ حُدُودِ اللهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَرَاهَةِ الطَّلَاقِ فِي الشَّرْعِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ وَوَرَدَ مِثْلُهُ أَيْضًا فِي طَلَبِ الْمَرْأَةِ لَهُ كَحَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمِ والْبَيْهَقِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ)) فَطَلَبُ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ مَحْظُورٌ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقَعُ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْجُمْهُورُ اسْتَكْرَهُوهُ وَلَكِنْ نَفَّذُوهُ. (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَرَّتَانِ وَأَنَّهُ يَكُونُ بِلَا عِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعِوَضٍ قَالَ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أَيْ: فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ طَلْقَةً ثَالِثَةً - وَهِيَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ - فَلَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ زَوَاجًا صَحِيحًا مَقْصُودًا حَصَلَ بِهِ مَا يُرَادُ بِالزَّوَاجِ مِنَ الْغِشْيَانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بِـ (إِنْ) دُونَ إِذَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ مُطْلَقًا، كَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى أَنْ يَتَجَاوَزَ الطَّلَاقُ الْمَرَّتَيْنِ، وَالنِّكَاحُ لَهُ طَلَاقَانِ: الْعَقْدُ وَمَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الَّذِي يُكْنَى عَنْهُ بِالدُّخُولِ. وَقَدْ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّ الْحَلَّ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إِذْ قَالُوا: لَا بُدَّ مِنَ الْمُخَالَطَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَخْذًا مِنْ إِسْنَادِ النِّكَاحِ إِلَى الْمَرْأَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَوَلَّى الْعَقْدَ، وَمِنْ تَسْمِيَةِ مَنْ

تَنْكِحُ زَوْجًا. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ الصَّحِيحِ وَالْمُنْطَبِقِ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي مَنْعِ الْمُرَاجَعَةِ. رَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) وَالْعُسَيْلَةُ كِنَايَةٌ عَنْ أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ تَغَشِّي الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ رِفَاعَةَ هَذِهِ وَاسْمُهَا عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ وَهَبِ بْنِ عَتِيكٍ ابْنُ عَمِّهَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَفِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ: ((إِنَّهُ طَلَّقَنِي - أَيْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ زَوْجَهَا الثَّانِيَ - قَبْلَ أَنْ يَمَسَّنِي أَفَأَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَمَسَّ)) . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ: إِنَّهُ إِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَرْتَدِعُ ; لِأَنَّهُ مِمَّا تَأْبَاهُ غَيْرَةُ الرِّجَالِ وَشَهَامَتُهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ الْآخَرُ عَدُوًّا أَوْ مُنَاظِرًا لِلْأَوَّلِ، وَلَنَا أَنْ نَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَيَرْتَجِعُهَا نَادِمًا عَلَى طَلَاقِهَا، ثُمَّ يَمْقُتُ عِشْرَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ عَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَيَرْتَجِعُهَا ثَانِيَةً، فَإِنَّهُ يَتِمُّ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِبَارُهَا; لِأَنَّ الطَّلَاقَ رُبَّمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ تَامَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْهُ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ كَانَ خَطَأً، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الِاخْتِبَارَ يَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا هُوَ رَاجَعَهَا بَعْدَهُ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِإِمْسَاكِهَا عَلَى تَسْرِيحِهَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَرْجِيحِ التَّسْرِيحِ بَعْدَ أَنْ رَآهُ بِالِاخْتِبَارِ التَّامِّ مَرْجُوحًا، فَإِنْ هُوَ عَادَ وَطَلَّقَ ثَالِثَةً كَانَ نَاقِصَ الْعَقْلِ وَالتَّأْدِيبِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُجْعَلَ الْمَرْأَةُ كُرَةً بِيَدِهِ يَقْذِفُهَا مَتَى شَاءَ تَقَلُّبُهُ وَيَرْتَجِعُهَا مَتَى شَاءَ هَوَاهُ، بَلْ يَكُونُ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ وَيَخْرُجَ أَمْرُهَا مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَا ثِقَةَ بِالْتِئَامِهَا وَإِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنِ اتَّفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ عَنْ رَغْبَةٍ وَاتَّفَقَ أَنْ طَلَّقَهَا الْآخَرُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا الْأَوَّلُ وَأَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ - وَرَضِيَتْ هِيَ بِالْعُودِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّجَاءَ فِي الْتِئَامِهِمَا وَإِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ حِينَئِذٍ قَوِيًّا جِدًّا، وَلِذَلِكَ أَحَلَّتْ لَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَقَدْ شَرَحْنَا الْحِكْمَةَ بِنَاءً عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ كَوْنَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ، وَكَوْنَ النِّكَاحِ لِزَوْجٍ آخَرَ هُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَهُوَ الْحَقُّ. (فَإِنْ طَلَّقَهَا) الزَّوْجُ الثَّانِي (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أَيِ: الزَّوْجِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ (أَنْ يَتَرَاجَعَا) هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ خِلَافًا (لِلْجَلَالِ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ

وَالْمَرْأَةُ، قَالَ وَحِكْمَتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) هِيَ إِزَالَةُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا وَلَا تَظْهَرُ لَنَا حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ فِي التَّرَاجُعِ مِنْ مُرَاعَاةِ شَرْطِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) أَيْ: تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحَقِّ الْآخَرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَضَعَ هَذِهِ الْحُدُودَ لِلزَّوْجَيْنِ إِلَّا لِيَصْلُحَ حَالُهُمَا وَيَسْتَقِيمَ عَمَلُهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةُ سُوءٍ فَإِنَّ هَذَا التَّرَاجُعَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ صَحَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الظَّنَّ هُنَا بِالْعِلْمِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ لُغَةً وَلَا فِعْلًا إِذْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بِالْيَقِينِ كَيْفَ يُعَامَلُ الْآخَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَنْفِيذِ مَا نَوَاهُ، قَالَ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى الْأَحْكَامِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ يُبَيِّنُهَا فِي كِتَابِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِفَائِدَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي شَيْءٍ كَانَ مُنْدَفِعًا بِطَبْعِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَإِقَامَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْفَائِدَةُ مِنْهُ، يُبَيِّنُهَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَائِقَ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَهَا، لَا مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِظَاهِرِ قَوْلِ الْمُفْتِي أَوِ الْقَاضِي وَلَا يَجْعَلُ لِحُسْنِ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصِ الْقَلْبِ مُدْخَلًا فِي عَمَلِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَيُضْمِرُ لَهَا السُّوءَ وَيَبْغِيهَا الِانْتِقَامَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْحُدُودِ فِي تَفْسِيرِ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ. أَلَا فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هُوَ مَا كَانَ زَوَاجًا صَحِيحًا عَنْ رَغْبَةٍ، وَقَدْ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ لِذَاتِهِ، فَمَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا بِقَصْدِ إِحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ كَانَ زَوَاجُهُ صُورِيًّا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَا تَحِلُّ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهَا، وَهُوَ لَا يَلْعَنُ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مَشْرُوعًا وَلَا مَكْرُوهًا فَقَطْ، بَلِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ كَانَتْ حَرَامًا، وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ مَنْ طَهَّرَ الدَّمَ بِالْبَوْلِ; وَهُوَ رِجْسٌ عَلَى رِجْسٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَخَلَائِقُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَأَشَدُّ فَسَادًا وَعَارًا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْمَقَاصِدِ وَالضَّمَائِرِ، نَقُولُ: نَعَمْ; وَلَكِنَّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ عُنْوَانَ الْبَاطِنِ وَإِلَّا كَانَ نِفَاقًا، عَلَى أَنَّ بَاغِيَ التَّحْلِيلِ لَيْسَ بِمُتَزَوِّجٍ حَقِيقَةَ الزَّوَاجِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ وَبَيَّنَهُ لَا عِنْدَ نَفْسِهِ وَلَا عِنْدَ مَنْ أَرَادَهُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَتَوَاطَأَ مَعَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عُذِرَ الْقَاضِي الْمُنَفِّذُ لَهُ بِجَهْلِهِ لِلْوَاقِعِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، فَلَا يُعْذَرُ بِهِ الْعَالِمُ بِهِ وَالْمُقْتَرِفُ لَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْحَافِظُ

الْفَقِيهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) أَتَمَّ الْإِيضَاحِ وَمِنْ غَرَائِبِ الِانْتِصَارِ لِلتَّقْلِيدِ أَنِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ (كَالْأَلُوسِيِّ) عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ بِتَسْمِيَتِهِ مُحَلِّلًا فِي الْحَدِيثِ النَّاطِقِ بِتَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ مَنْ أَرَادُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ التَّسْمِيَةِ سُئِلَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَمْ يُجِزْ عَمَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةُ لَفْظِ الِاسْمِ مُبْطِلَةً لِمَضْمُونِ الْحُكْمِ، فَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ سَمَّوْا، وَالشَّارِعُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ، كَمَا تَرَى فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي، وَإِنَّنَا نُثْبِتُ هُنَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ فِي الزَّوَاجِرِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ قَالَ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ)) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ: لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لَا دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ)) . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا أُوتَي بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إِلَّا رَجَمْتُهُمَا)) فَسُئِلَ ابْنُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كِلَاهُمَا زَانٍ، وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: ((مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجْتُهَا لِأُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ إِنْ أَعْجَبَتْكَ أَمْسَكْتَهَا، وَإِنْ كَرِهْتَهَا فَارَقْتَهَا، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدَّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ: ذَلِكَ هُوَ السِّفَاحُ)) وَعَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ ابْنَةَ عَمِّهِ ثُمَّ نَدِمَ وَرَغِبَ فِيهَا فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لَهُ فَقَالَ: ((كِلَاهُمَا زَانٍ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا)) وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ: ((هُوَ رَجُلٌ عَصَى اللهَ فَأَنْدَمَهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا لَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعْهُ)) اهـ. وَأَنْتَ تَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ رَذِيلَةَ التَّحْلِيلِ قَدْ فَشَتْ فِي الْأَشْرَارِ الَّذِينَ جَعَلُوا رُخْصَةَ الطَّلَاقِ عَادَةً وَمَثَابَةً، وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِلَفْظِ الثَّلَاثِ يَقَعُ ثَلَاثًا، اتَّخَذَ غَوْغَاءُ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا، فَصَارَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ يُعَابُ بِهِمْ وَمَا عَيْبُهُ سِوَاهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي لُبْنَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا وَلِعَ بِشِرَاءِ الْكُتُبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَكْثَرَ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا، فَاهْتَدَى إِلَى حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَيْلِ إِلَى التَّصَوُّفِ، فَأَسْلَمَ، وَقَالَ لِي: لَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ

231

غَيْرَ ثَلَاثَةِ عُيُوبٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللهِ. أَقْبَحُهَا مَسْأَلَةُ (التَّجْحِيشِ) أَيِ: التَّحْلِيلُ فَبَيَّنْتُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا فَاقْتَنَعَ. (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . هَذَا حُكْمٌ جَدِيدٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلْوَاجِبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُطَلَّقَاتِ وَنَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَوَعِيدٌ عَلَى هَذَا الضِّدِّ وَإِرْشَادٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْحِكْمَةِ فِي الِائْتِمَارِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ هَذَا النَّهْيِ. وَتِلْكَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الطَّلَاقِ الْمَشْرُوعِ وَعَدَدِهِ وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَوْنِ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ فِي الطَّلَاقِ، فَجَمِيعُ الْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ تَقَعُ عَلَى الْعَادَاتِ كَانَتْ تُعَدُّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ هُنَاكَ قَالَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُضَارُّهَا وَيَعْضُلُهَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ)) وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ((نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى ثَابِتَ بْنَ يَسَارٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا مُضَارَّةً فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) اهـ. وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ) نَزَلَ وَحْدَهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ، نَزَلَتْ كُلُّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهَا، وَلَكِنْ بَعْدَ وُقُوعِ حَوَادِثَ جَعَلَتْ مِنْ أَسْبَابِهَا. الْأَجَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) هُوَ زَمَنُ الْعِدَّةِ وَمَعْنَى (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)

قَارَبْنَ إِتْمَامَ الْعِدَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إِجْمَاعٌ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْآيَةِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ تَجَوُّزًا قَرِينَتُهُ الْعُرْفُ، يَقُولُ الْمُسَافِرُ: بَلَغْنَا الْبَلَدَ أَوْ وَصَلْنَا إِلَيْهِ إِذَا دَنَا مِنْهُ وَشَارَفَهُ. وَقَوْلُهُ: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) مَعْنَاهُ: فَاعْزِمُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ - إِمْسَاكَ الْمَرْأَةِ بِالْمُرَاجَعَةِ أَوْ إِطْلَاقَ سَبِيلِهَا - وَلْيَكُنْ مَا تَخْتَارُونَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي شَرَعَ لَكُمْ فِي آيَةِ ((الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)) (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) أَيْ: وَلَا تُرَاجِعُوهُنَّ إِرَادَةَ مُضَارَّتِهِنَّ وَإِيذَائِهِنَّ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِنَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، فَالضِّرَارُ بِمَعْنَى الضَّرَرِ، وَذُكِرَ بِالصِّيغَةِ الَّتِي تَأْتِي لِلْمُشَارَكَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ضُرَّهُ إِيَّاهَا يَسْتَلْزِمُ ضُرَّهَا إِيَّاهُ، فَالرِّجَالُ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِإِيذَاءِ النِّسَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فِي الدُّنْيَا بِسُلُوكِ طُرُقِ الشَّرِّ وَالِاعْتِدَاءِ الَّتِي لَا رَاحَةَ لِضَمِيرِ صَاحِبِهَا، وَيَجْعَلُ الْمَرْأَةَ وَعُصْبَتَهَا أَعْدَاءً لَهُ يُنَاصِبُونَهُ وَيُنَاوِئُونَهُ، وَالْعَدُوُّ الْقَرِيبُ أَقْدَرُ عَلَى الْإِيذَاءِ مِنَ الْعَدُوِّ الْبَعِيدِ. وَبِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْهُ حَتَّى يُوشِكَ أَلَّا يُصَاهِرَهُ أَحَدٌ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ فِي الْأُخْرَى أَيْضًا بِمَا خَالَفَ أَمْرَ اللهِ وَتَعَرَّضَ لِسَخَطِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) وَهَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللهِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَيَّ تَهْدِيدٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ حَمْلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى احْتِرَامِ صِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَوَقِّي مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ النِّسَاءَ لَعِبًا، وَيَعْبَثُونَ بِطَلَاقِهِنَّ وَإِمْسَاكِهِنَّ عَبَثًا، وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مَسْنَدِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ، وَيَعْتِقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ)) ، فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) أَيْ: أَنْزَلَهُ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ آيَاتِ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، لَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى حِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي نَظِيرِهِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَهَاوَنُوا بِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي شَرَعَهَا لَكُمْ فِي آيَاتِهِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ; فَإِنَّ هَذَا التَّهَاوُنَ وَالِاعْتِدَاءَ لِلْحُدُودِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ اللهِ تَعَالَى يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ وَيَنْقُضُ هَذِهِ الْعُهُودَ بَعْدَ تَوْثِيقِهَا طَلَبًا لِشَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ، أَوِ اسْتِمْسَاكًا بِعَادَةٍ مِنْ عَادَاتِهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَدَّ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللهِ غَيْرَ مُذْعِنٍ لَهَا. بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِحُقُوقِ النِّسَاءِ وَجَعْلِ الْعَابِثِ بِأَحْكَامِ اللهِ فِيهَا مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِهِ - وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّرْهِيبِ مَا فِيهِ - أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُقَرِّرَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي النُّفُوسِ بِبَاعِثِ التَّرْغِيبِ فِيهَا بِالتَّذْكِيرِ بِفَوَائِدِهَا وَمَزَايَاهَا، وَبَيَانِ الْمِنَّةِ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ الَّتِي هِيَ مِنْهَا فَقَالَ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أَيِ: امْتَثِلُوا مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَتَذَكَّرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ فِي الرَّابِطَةِ

الزَّوْجِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (30: 21) وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمُكَمِّلَةِ لِلْفِطْرَةِ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِيهَا حَالَ كَوْنِهِ يَعِظُكُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا - أَيِ: الْأَحْكَامِ وَحِكْمَتِهَا - فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ مَعَ حِكْمَتِهِ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعِظَةَ وَالْعِبْرَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ النَّفْسِيَّةُ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) . وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ تِلْكَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ، وَحَجَبَهُمْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَأَضْعَفَ فِي نُفُوسِ الْأَزْوَاجِ ذَلِكَ السُّكُونَ وَالِارْتِيَاحَ، غُرُورُ الرِّجَالِ بِالْقُوَّةِ وَطُغْيَانُهُمْ بِالْغِنَى، وَكُفْرَانُ النِّسَاءِ لِنِعْمَةِ الرِّجَالِ وَحِفْظُ سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَمَادِيهِنَّ فِي الذَّمِّ لَهَا وَالتَّبَرُّمِ بِهَا، وَمَا مَضَتْ بِهِ عَادَاتُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَادَاتُ التَّفَرْنُجِ فِي الْمُعَاصِرَاتِ وَالْمُعَاصِرِينَ، وَقَلَّدَ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَّرَنَا أَوَّلًا بِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي أَنْفُسِنَا لِنُزِيحَ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مَا غَشِيَهَا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَنَشْكُرَهَا لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِتَمْكِينِ صِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَاحْتِرَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا، وَثَانِيًا بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي هَدَانَا إِلَى ذَلِكَ، وَحَدَّ لَنَا كِتَابُهُ الْحُدُودَ وَوَضَعَ الْأَحْكَامَ مُبَيِّنًا حُكْمَهَا وَأَسْرَارَهَا، مُؤَيِّدًا لَهَا بِالْوَعْظِ السَّائِقِ إِلَى اتِّبَاعِهَا. وَمَا ذَكَرْنَا بِالْكِتَابِ هُنَا إِلَّا لِنَجْعَلَهُ إِمَامًا لَنَا فِي تَقْوِيمِ الْفِطْرَةِ عَلَى مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَعَزَّزَتْهُ الْحِكْمَةُ، وَلَكِنَّنَا قَدْ أَعْرَضْنَا عَنْهُ، فَمَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِيمَا كَتَبَهُ بَعْضُ الْبَشَرِ مِمَّا هُوَ خُلُوٌّ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، غَيْرُ مَقْرُونٍ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَهُوَ لَا يُحْدِثُ لِلنُّفُوسِ عِظَةً وَلَا ذِكْرَى، وَلَا يَبْعَثُ فِي الْقُلُوبِ هِدَايَةً وَلَا تَقْوَى، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَنْظُرُ فِيهَا، وَلَا يَسْأَلُ الْعَارِفِينَ بِهَا عَنْهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى حُقُوقٍ يَهْضِمُهَا، أَوْ صِلَاتٍ يَقْطَعُهَا وَعُرًى يَفْصِمُهَا، فَهُوَ يَسْتَفْتِي غَالِبًا لِيَأْمَنَ مُؤَاخَذَةَ الْحُكَّامِ لَا لِيُقِيمَ حُدُودَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا قَامَ فِيهِمْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى اللهِ، وَيُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ رَمَاهُ الرُّؤَسَاءُ بِسِهَامِ الْمَلَامِ، وَأَغْرَوْا بِهِ السَّاسَةَ وَأَهَاجُوا عَلَيْهِ الْعَوَامَّ، خَائِفِينَ أَنْ يُحْيِيَ مَا أَمَاتُوهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُبْطِلُ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى أَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي عِلْمَ الْمُجْتَهِدِينَ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُذَكِّرِينَ بِهِ وَمُبَيِّنِينَ، لَا صَادِّينِ عَنْهُ وَلَا نَاسِخِينَ، وَمَا كُلُّ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّبْيِينِ يَلْحَقُهُمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّدْوِينِ. فَيَا أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ أَحْيُوا كِتَابَ اللهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ لَا حَيَاةَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِسِوَاهُ; وَلِذَلِكَ عَادَتْ بِتَرْكِ هَدْيِهِ إِلَى عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا مِنْ إِبَاحِيَّةِ الْإِفْرِنْجِ الْعَصْرِيَّةِ، اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَنَزَغَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ. هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا نِعْمَةَ اللهِ هُنَا بِالدِّينِ وَالرِّسَالَةِ، وَجَعَلُوا مَا أُنْزِلَ

مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ تَفْصِيلًا لِلنِّعْمَةِ الْمُجْمَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بِإِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ، وَبَيَانِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَحْفَظُ لَكُمُ الْهَنَاءَةَ فِي الدُّنْيَا، وَتَضْمَنُ لَكُمُ السَّعَادَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا بَعْدَ هَذَا تَفْصِيلٌ لَهُ، وَفَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِسِرِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي النِّعْمَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهِيَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: (وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (30: 21) وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النِّعْمَةَ هُنَا عَامَّةٌ تَشْمَلُ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ. (وَاتَّقُوا اللهَ) أَمَرَ بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِتَقْوَاهُ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ زِيَادَةً فِي الْعِنَايَةِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ وَصِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ - وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - مُقَاوَمَةً لِمَا مَلَكَ النُّفُوسَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَهُ كَعَقْدِ الرِّقِّ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ ذَلِكَ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ يَشْتَرِي مَتَاعًا ثُمَّ يَرْمِي بِهِ فِي الطَّرِيقِ زُهْدًا فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ قِنَّهُ لِيُعَذِّبَهُ وَيَنْتَقِمَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ لِأَدْنَى سَبَبٍ - كَالْمَلَلِ وَالْغَضَبِ - ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهَا، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَكَانُوا يُمْسِكُونَهَا لِلضِّرَارِ وَالْإِهَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ يَسْتَبْدِلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ امْرَأَةَ الْآخَرِ بِامْرَأَتِهِ، فَاعْتِيَادُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ السُّوءَى وَالْأُنْسُ بِهَا لَا تَكُونُ مُقَاوَمَتُهُ إِلَّا بِتَعْظِيمِ شَأْنِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; إِذْ لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْمَرْأَةَ مِثْلَ الْأَمَةِ أَوْ دُونَهَا أَنْ يُسَاوِيَهَا بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَيَرَى لَهَا عَلَيْهِ مِثْلَ مَا لَهُ عَلَيْهَا، وَيَحْظُرُ عَلَى نَفْسِهِ مُضَارَّتَهَا وَإِيذَاءَهَا وَيَلْتَزِمُ مُعَامَلَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ فِي حَالِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَهُ، وَفِي حَالِ تَسْرِيحِهَا إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعِظَاتِ وَالتَّشْدِيدَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْإِقْنَاعِ وَبَيَانِ الْمَصْلَحَةِ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ، وَتُؤَثِّرُ بِتَكْرَارِهَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالْحِجَارَةُ فِي الْقَسْوَةِ: أَمَّا تَرَى الْحَبْلَ بِتَكْرَارِهِ ... فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا نَعَمْ إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَحْسَنُ التَّأْثِيرِ فِي أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ، وَفِيمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَجَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى صَارُوا شَرًّا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَسَائِرُ الْأُمَمِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ، فَلَمْ يَتَّقُوا اللهَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَهُوَ أَبْلَغُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرَاعِي الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ فَيُطَبِّقُ الْعَمَلَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ وَرَائِهِ ضَرَرًا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُذَكِّرُهُ بِأَنَّ اللهَ

232

تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ أَوْ يُعْلِنُهُ، فَلَا يُرْضِيهِ إِلَّا الْتِزَامُ حُدُودِهِ وَالْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ، وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فِيهِ، لَا يُبَيِّتُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَا يَنْوِي خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَلَا يَطُوفُ فِي ذِهْنِهِ خَاطِرٌ، وَلَا تَخْتَلِجُ فِي قَلْبِهِ خَلْجَةٌ إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانُهُ عَالَمٌ بِذَلِكَ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ إِلَّا بِتَطْهِيرِ قَلْبِهِ، وَإِخْلَاصِ نِيَّتِهِ فِي مُعَامَلَةِ زَوْجِهِ وَفِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ غَالِبًا بَلْ كَانَ مُوَفَّقًا دَائِمًا. أَقُولُ: وَمِنَ التَّوْفِيقِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ خَطَئِهِ الَّذِي لَمْ يُرِدْ بِهِ سُوءًا، فَيَعْرِفَ كَيْفَ يَتَوَقَّى مِثْلَ هَذَا الْخَطَأِ، وَيَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي الْخَيْرِ، فَلْيَزْنِ الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمِيزَانِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا وَهِيَ الْمَوَازِينُ الْقِسْطُ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْشَأَ فَسَادِ الْبُيُوتِ وَشَقَاءِ الْمَعِيشَةِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَدْيِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَفَّقَنَا اللهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الْأَجَلُ: آخِرُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ لَا قُرْبُهَا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ وَالتَّسْرِيحَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا إِمْضَاءٌ لِلتَّسْرِيحِ، لَا مَحَلَّ مَعَهُ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ يَسْتَمِرُّ إِلَى قُرْبِ انْقِضَائِهَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ انْقِضَاؤُهَا إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْعَضَلِ قَبْلَهُ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) حُكْمٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ هُوَ تَحْرِيمُ الْعَضَلِ; أَيْ: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَتَحَكَّمَ الرِّجَالُ فِي تَزْوِيجِ النِّسَاءِ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ إِلَّا وَلِيُّهَا، فَقَدْ يُزَوِّجُهَا بِمَنْ تَكْرَهُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّنْ تُحِبُّ لِمَحْضِ الْهَوَى، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرِّجَالَ الْمُطَلِّقِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ،

يَتَحَكَّمُ الرَّجُلُ بِمُطَلَّقَتِهِ فَيَمْنَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أَنَفَةً وَكِبَرًا أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَحْتَ غَيْرِهِ، فَكَانَ يَصُدُّ عَنْهَا الْأَزْوَاجَ بِضُرُوبٍ مِنَ الصَّدِّ وَالْمَنْعِ، كَمَا كَانَ يُرَاجِعُهَا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ لِأَجْلِ الْعَضَلِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْإِسْلَامُ الْوِلَايَةَ لِلْأَقْرَبِينَ وَحَرَّمَ الْعَضَلَ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الزَّوَاجِ، وَأَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ بِدُونِ إِذْنِهَا، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْخِطَابِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ لِلْأَزْوَاجِ، أَيْ لَا تَعْضُلُوا مُطَلَّقَاتِكُمْ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَاضْطُرَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَعْلِ الْأَزْوَاجِ بِمَعْنَى الرِّجَالِ الَّذِينَ سَيَكُونُونَ أَزْوَاجًا، وَقِيلَ: هُوَ لِلْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى التَّوْزِيعِ، وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّفْكِيكِ فِي الضَّمَائِرِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ، وَقِيلَ: لِلْأَوْلِيَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الصَّحِيحِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ شَتَّى مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: ((كَانَ لِي أُخْتٌ فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَلَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟ وَاللهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ اللهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ)) وَفِي لَفْظٍ: ((فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعًا لِرَبِّي وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ; وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ)) وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ خَطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِسْنَادَ النِّكَاحِ إِلَى النِّسَاءِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّهُنَّ هُنَّ اللَّوَاتِي يَعْقِدْنَ النِّكَاحَ، فَإِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ يُطْلَقُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَنْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا، كَانُوا يَقُولُونَ: نَكَحَتْ فُلَانَةُ فُلَانًا، كَمَا يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: تَزَوَّجَتْ فُلَانَةُ بِفُلَانٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَاقِدُ وَلِيَّهَا. وَلَمْ تَكُنْ أُخْتُ مَعْقِلٍ حَاوَلَتْ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا، وَإِنَّمَا طَلَبَهَا الزَّوْجُ مِنْهُ فَامْتَنَعَ أَنْ يُنْكِحَهُ إِيَّاهَا فَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنَعَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجَهَا، وَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَفَهِمَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي الْخِطَابِ وَجْهٌ ثَالِثٌ رَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا، وَسَبَقَ لَهُ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَكَافِلَةٌ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ عَلَى حَسَبِ الشَّرِيعَةِ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا وَقَعَ مِنْكُمْ تَطْلِيقٌ لِلنِّسَاءِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَأَرَادَ أَزْوَاجُهُنَّ أَوْ غَيْرُهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ وَأَرَدْنَ هُنَّ ذَلِكَ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ; أَيْ: لَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ حَظَّهُ مِنَ الْخِطَابِ لِلْمَجْمُوعِ، وَتَقَدَّمَ لِهَذَا الْخِطَابِ نَظَائِرُ، وَمِنْهَا خِطَابُ

بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَمَا بَعْدَهُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْعَامِّ هُنَا أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا سَكَتُوا عَلَى الْمُنْكَرِ وَرَضُوا بِهِ يَأْثَمُونَ، وَالسِّرُّ فِي تَكَافُلِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْرَادَ إِذَا وُكِلُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَالْمُنْكَرُ فِي الْأُمَّةِ فَتَهْلِكُ، فَفِي التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ دِفَاعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَلِكُلِّ مُكَلَّفٍ حَقٌّ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ الْبَلَاءَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّهُ يُصِيبُهُ سَهْمٌ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (5: 78، 79) . ثُمَّ قَالَ: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: إِذَا تَرَاضَى مُرِيدُو التَّزَوُّجِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، بِأَنْ رَضِيَ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْآخَرِ زَوْجًا. وَقَوْلُهُ: (بَيْنَهُمْ) يُشْعِرُ بِأَنْ لَا نُكْرَ فِي أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إِلَى نَفْسِهَا وَيَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِهَا وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ عَضَلُهَا، أَيِ امْتِنَاعُ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ التَّرَاضِي فِي الْخِطْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ شَرَعًا وَعَادَةً بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا شَيْءٌ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَيُلْحِقُ الْعَارَ بِالْمَرْأَةِ وَأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْعَضَلَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَأَنْ تُرِيدَ الشَّرِيفَةُ فِي قَوْمِهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِرَجُلٍ خَسِيسٍ يَلْحَقُهَا مِنْهُ الْغَضَاضَةُ، وَيَمَسُّ مَا لِقَوْمِهَا مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ عَنْهُ بِالْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ، وَيُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَضْلَ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الْمُسْقِطِ لِلْكَرَامَةِ، أَوِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَإِرْضَاءَ الشَّهْوَةِ، بَلْ كَانَ مَيْلًا إِلَى رَجُلٍ مُسْتَقِيمٍ يُرْجَى مِنْهُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَصَلَاحُ الْمَعِيشَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِ دَفَعُ مَهْرٍ كَثِيرٍ مَعَ نَفَقَاتِ الزَّوَاجِ الْأُخْرَى، فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْعَضَلُ بَلْ يَجِبُ تَزْوِيجُهُ. (وَأَقُولُ) : إِنَّ مَسْأَلَةَ مُرَاعَاةِ الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عُرْفٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَلَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَحْمِلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهِ كَالْعِشْقِ، فَكَمْ مِنْ مَلِكٍ أَوْ أَمِيرٍ تَزَوَّجَ رَاقِصَةً أَوْ مُغَنِّيَةً أَوْ مُمَثِّلَةً لِلْقِصَصِ لِعِشْقِهِ لَهَا وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْمُلْكِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ مَا هُوَ مُسْقِطٌ لِلْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ يَعْذُرُ جُمْهُورُ النَّاسِ مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ دُونَ الثَّانِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفٌ، وَالْمَدَارُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَاءَةِ عَلَى الْعُرْفِ الْقَوْمِيِّ وَالْوَطَنِيِّ لَا عَلَى تَقَالِيدِ بُيُوتِ شُرَفَاءِ النَّسَبِ وَالْجَاهِ وَكِبْرِيَائِهِمْ، فَمَا يَعُدُّهُ الْجُمْهُورُ إِهَانَةً لِلْمَرْأَةِ تَكُونُ بِهِ مُضْغَةً فِي الْأَفْوَاهِ وَعَارًا عَلَى بَيْتِهَا فَهُوَ الَّذِي يُبِيحُ لِأَوْلِيَائِهَا الْمَنْعَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَضَلُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ شَرٍّ مِنْهُ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أَحْكَامِ

الْمَصَالِحِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَا تَعَبُّدِيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ إِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوَاجِ بِمَنْ تَكْرَهُ مُطْلَقًا. (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الْوَعْظُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ; أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحُكْمِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يُوعَظُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَتَقَبَّلُونَهُ وَيَتَّعِظُونَ بِهِ فَتَخْشَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَيَتَحَرَّوْنَ الْعَمَلَ بِهِ قَبُولًا لِتَأْدِيبِ رَبِّهِمْ، وَطَلَبًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَرَجَاءً فِي مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي الْأُخْرَى، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا ذَكَرَ حَقَّ الْإِيمَانِ كَالْمُعَطِّلِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْمَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَلَقَّوْا أُصُولَ الْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي يَمْلِكُ مِنَ الْقَلْبِ مَوَاقِعَ التَّأْثِيرِ وَمَسَالِكَ الْوِجْدَانِ، فَإِنَّ وَعْظَهُمْ بِهِ عَبَثٌ لَا يَنْفَعُ، وَقَوْلٌ لَا يُسْمَعُ; لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُقَلِّدُونَ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ وَعُشَرَاءَهُمْ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي الْعَمَلَ وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْأَكْثَرُونَ، وَقَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْمُحَقِّقِ الشَّاطِبِيِّ وَالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُنَا هُنَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَّعِظُ بِهَذَا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ وَيَعْمَلْ بِهَا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدِّينِ حَتَّى الْمُعَامَلَاتِ مِنْهَا يَنْبَغِي أَنْ تُسَاقَ إِلَى النَّاسِ مَسَاقَ الْوَعْظِ الْمُحَرِّكِ لِلْقُلُوبِ لَا أَنْ تُسْرَدَ سَرْدًا جَافًّا كَمَا تَرَى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) الزَّكَاءُ: النَّمَاءُ وَالْبَرَكَةُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي (ذَلِكُمْ) هُوَ النَّهْيُ عَنْ عَضَلِ النِّسَاءِ بِقَيْدِهِ وَشَرْطِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَزِيدٌ فِي نَمَاءِ مُتَّبِعِيهِ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ مَا بَعْدَهُ مَزِيدٌ يُفَضِّلُهُ، وَأَنَّهُ أَطْهَرُ لِأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ، وَأَحْفَظُ لِشَرَفِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ; لِأَنَّ عَضَلَ النِّسَاءِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَيْهِنَّ مَدْعَاةٌ لِفُسُوقِهِنَّ وَمَفْسَدَةٌ لِأَخْلَاقِهِنَّ، وَسَبَبٌ لِفَسَادِ نِظَامِ الْبُيُوتِ وَشَقَاءِ الذَّرَارِي، مَثِّلْ فِي نَفْسِكَ حَالَ امْرَأَةٍ كَأُخْتِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ عَرَفَهَا وَعَرَفَتْهُ، فَأَحَبَّهَا وَأَحَبَّتْهُ، ثُمَّ غَضِبَ مَرَّةً وَطَلَّقَهَا، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ إِلَى امْرَأَتِهِ الَّتِي تُحِبُّهُ، وَاعْتَادَتِ الْأُنْسَ بِهِ وَالسُّكُونَ إِلَيْهِ، فَعَضَلَهَا وَلَيُّهَا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، وَاعْتِزَازًا بِسُلْطَتِهِ، أَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَضْيَعَةً لِوَلَدِهِمَا وَمَغْوَاةً لَهُمَا؟ وَمَثِّلْ أَيْضًا وَلِيًّا يَمْنَعُ مُوَلِّيَتَهُ مِنَ الزَّوَاجِ بِمَنْ تُحِبُّ وَيُزَوِّجُهَا بِمَنْ تَكْرَهُ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ أَوْ عَادَةِ قَوْمِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ، وَانْظُرْ أَتَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ حَالُهُمَا وَيُقِيمَا حُدُودَ اللهِ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُخْشَى أَنْ يُغْوِيَهَا الشَّيْطَانُ بِالْآخَرِ وَيُغْوِيَهُ بِهَا وَيَسْتَدْرِجَهُمَا فِي الْغِوَايَةِ فَلَا يَقِفَانِ إِلَّا عِنْدَ نِهَايَةِ حُدُودِهَا؟ وَهَكَذَا مَثِّلْ كُلَّ مُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَجِدُهَا مَفْسَدَةً.

وَقَدْ كَانَ النَّاسُ لِجَهْلِهِمْ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى كَمَالِهَا لَا يَرَوْنَ لِلنِّسَاءِ شَأْنًا فِي صَلَاحِ حَيَاتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَفَسَادِهَا حَتَّى عَلَّمَهُمُ الْوَحْيُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْوَحْيِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَّا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَحْكَامِ لِإِصْلَاحِ حَالِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ الْأُمَّةُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، بَلْ نَسِيَتْ مُعْظَمَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَعَادَتْ إِلَى جَهَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ; وَلِهَذَا الْجَهْلِ السَّابِقِ وَلِتَوَهُّمِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ مُعَامَلَةَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ وَمُحَافَظَةٌ عَلَى شَرَفِهِمْ خَتَمَ هَذِهِ الْمَوَاعِظَ وَالْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أَيْ: يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا لَكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الزَّكَاءِ وَالطُّهْرِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِلْمًا صَحِيحًا خَالِيًا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْأَوْهَامِ وَاعْتِزَازِ الرِّجَالِ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي النِّسَاءِ; وَلِذَلِكَ ذَكَّرَكُمْ فِي أَثَرِ النَّهْيِ عَنْ عَضَلِ النِّسَاءِ عَنِ الزَّوَاجِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ، الْأُولَى: إِنَّهَا مَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُ بِهَا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِأَعْرَاضِكُمُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ كُلَّ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَهَذِهِ آيَاتُ عِلْمِهِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَا مِنَ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ النَّافِعَةِ بِاخْتِبَارِهِمُ الطَّوِيلِ، بَلْ عَزَبَتْ حِكْمَتُهَا عَنْ نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الذَّكِيِّ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى وَجْهِهَا مُلَاحِظًا فَوَائِدَهَا، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرِ الذَّكِيِّ أَنْ يُسَلِّمَ أَمْرَ رَبِّهِ بِهَا تَسْلِيمًا وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَتُهَا فِي الدُّنْيَا اكْتِفَاءً بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُ هُوَ. وَهَا هُنَا أُنَبِّهُ وَأُذَكِّرُ الْقَارِئَ لِهَذَا التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مِنْ أَظْهَرِ مَا تُفَضَّلُ بِهِ هِدَايَةُ الْوَحْيِ مَا هُوَ صَحِيحٌ وَحَسَنٌ مِنْ حِكْمَةِ الْبَشَرِ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْوَحْيِ يَتَّبَعُ هِدَايَتَهُ سَوَاءٌ أَعَلِمَ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا أَمْ لَا، فَيَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْبَشَرِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ فَهِمَهَا وَاقْتَنَعَ بِصِحَّتِهَا وَبِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ. وَالَّذِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لِهِدَايَةِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يُفَضِّلُونَ هِدَايَةَ الْحِكْمَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهَا بِأَنَّ مُتَّبِعَهَا يَتْرُكُ الشَّرَّ; لِأَنَّهُ شَرٌّ ضَارٌّ، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَافِعٌ، وَأَنَّ مُتَّبِعَ الدِّينِ يَفْعَلُ مَا لَا يُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ. وَهَذَا غَلَطٌ أَوْ مُغَالَطَةٌ; فَإِنَّ الدِّينَ قَدْ جَاءَ بِالْحِكْمَةِ مُؤَيِّدَةً لِلْكِتَابِ كَمَا قَالَ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (2: 129) فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ فَهْمِ حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ فِيهِ مِنْ عَامِّيٍّ وَبَلِيدٍ أَوْ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَفُتْهُ وَقَدْ هُدِيَ إِلَى الْإِيمَانِ أَنْ يَتْرُكَ الشَّرَّ وَيَفْعَلَ الْخَيْرَ لِأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْأَوَّلِ وَأَمَرَهُ بِالثَّانِي هُوَ اللهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ حُكَمَاءِ خَلْقِهِ. وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ اخْتِلَافُ الْخِطَابِ بِالْإِشَارَةِ; فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْوَعْظَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ خَاصًّا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَّهَ الْخِطَابَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ) إِلَخْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَزْكَى وَأَطْهَرُ فَقَدْ جَعَلَهُ عَامًّا وَخَاطَبَ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً بُقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ) إِلَخْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَكُونُ زَكَاءً لَهُ وَبَرَكَةً فِي بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَطُهْرًا لِعِرْضِهِ وَشَرَفِهِ، سَوَاءٌ أَوَعَظَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ فَاتَّعَظَ لِإِيمَانِهِ، أَمْ عَمِلَ بِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ؛ بِأَنْ بَلَغَتْهُ غَفِلًا مِنَ الْمَوْعِظَةِ غَيْرَ مُسْنَدَةٍ إِلَى الْوَحْيِ أَوْ قَلَّدَ بِهَا بَعْضَ الْعَامِلِينَ، وَكَوْنُ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِيهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ) (65: 1) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَمْرٌ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ أَحَدٍ. اهـ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلِ، وَقِيلَ: لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقِيلَ: لِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْمُنْقَضِي دُونَ تَعْيِينِ الْمُخَاطَبِينَ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْبَيْضَاوِيُّ. وَسَأَلَ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ: لِمَ وَحَّدَ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ) مَعَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَالتَّثْنِيَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (12: 37) وَقَالَ: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (12: 32) إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَ، وَهُوَ جَوَابٌ مُبْهَمٌ مُوهِمٌ; فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ هُنَا وَارِدَةٌ فِي خِطَابِ الِاثْنَيْنِ، وَالْجَمْعَ الْمُؤَنَّثَ وَارِدٌ فِي خِطَابِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ - وَلَعَلَّهُ مُرَادُهُ - أَنَّ الْكَافَ الْمُفْرَدَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خِطَابٍ سَوَاءً كَانَ الْمُخَاطَبُ مُفْرَدًا أَوْ مُثَنًّى أَوْ جَمْعًا وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَإِذَا تَحَوَّلَ الْمُتَكَلِّمُ عَنْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عَلَى حَسَبِ الْمُخَاطَبِينَ. تَقُولُ لِلرَّجُلِ (ذَلِكَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِكَسْرِهِ لِلْمَرْأَةِ، وَذَلِكُمَا لِلِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا، وَذَلِكُمْ لِلذُّكُورِ، وَذَلِكُنَّ لِلْإِنَاثِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

233

هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ إِلَى أَحْكَامِ الرَّضَاعَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) الْهَادِيَةِ إِلَى كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَمِنْ ثَمَّ عَطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَاتِ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ فِي أَحْكَامِهِنَّ وَهَذَا مِنْ تَتِمَّتِهِ. (ثَانِيهَا) إِيجَابُ رِزْقِهِنَّ وَكِسَوْتِهِنَّ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَوْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَمَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا الْإِيجَابِ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجِيَّةِ لَا لِلرَّضَاعِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ عُرْضَةٌ لِإِهْمَالِ الْعِنَايَةِ بِالْوَلَدِ وَتَرْكِ إِرْضَاعِهِ; لِأَنَّهُ يَحُولُ دُونَ زَوَاجِهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ النِّكَايَةِ بِالرَّجُلِ وَلَا سِيَّمَا الَّذِي لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ اسْتِئْجَارُ ظِئْرٍ تَقُومُ مَقَامَ الْوَالِدَةِ، وَهُنَا وَجْهٌ (رَابِعٌ) لِتَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ ظَهَرَ لِيَ الْآنَ؛ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُضَارَّةِ بِالْوَلَدِ، وَإِنَّمَا تُضَارُّ بِذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ دُونَ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْحَقَّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا كَسَائِرِ الْوَالِدَاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُطَلِّقِ مَنْعُهَا مِنْهُ وَهُوَ عُرْضَةٌ لِهَذَا الْمَنْعِ. (الْقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْوَالِدَاتِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ الْأَوْلَى; لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ مَرْجُوحٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ أَوْلَى عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ; فَهُوَ عَامٌّ لَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَيَكُونُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ - أَيِ النَّفَقَةُ - خَاصًّا بِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِ وَهُنَّ الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأُمِّ لِلْإِرْضَاعِ صَحِيحٌ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُجْرَةِ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْآيَةِ، وَنَحْنُ لَا نَسْتَفِيدُ مِنْ جَعْلِ الْآيَةِ عَامَّةً زِيَادَةً عَمَّا نَسْتَفِيدُ بِجَعْلِهَا خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا أَيْضًا، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ لَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْوُجُوبِ مُطْلَقًا كَمَا يَأْتِي، وَلَا أَذْكُرُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ تَرْجِيحًا أَوِ اخْتِيَارًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) أَمْرٌ جَاءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيرِهِ

عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (2: 228) وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ; أَيْ: إِنَّ شَأْنَ الْوَالِدَاتِ ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ لِلنَّاسِ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ أَنْ يُقَوِّيَ بِهِ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَتْ مُرْضِعًا بِأَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ ثَدْيِهَا كَمَا يُعْهَدُ مِنْ بَعْضِ الْأَطْفَالِ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ عَاجِزًا عَنِ اسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ تُرْضِعُهُ، أَوْ قَدَرَ وَلَمْ يَجِدِ الظِّئْرَ، عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَرَوْا جَعْلَ الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِمْ هَذَا، فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، قَالُوا: لِأَنَّ لَبَنَ الْأُمِّ أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ مِنْ لَبَنِ الظِّئْرِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الظِّئْرِ فِي سِنِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا; فَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ; يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبُ جَوَازَ اسْتِنَابَةِ الظِّئْرِ عَنْهَا مَعَ أَمْنِ الضَّرَرِ; لِأَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّعَبُّدِ، فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ بِشَرْطِهَا، فَإِذَا اتَّفَقَ الْوَالِدَانِ عَلَى اسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ، وَرَأَيَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْوَالِدَةِ فَلَا بَأْسَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفِصَالِ الْآتِيَةِ. وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَالِدِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَلَأَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مُطَلَّقَتَهُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ إِنْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ تَمْتَنِعَ هِيَ عَنْ إِرْضَاعِهِ، وَكَانَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُوَ أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدَاتِ أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، وَمَا الْمُطَلَّقَاتُ إِلَّا وَالِدَاتٌ فَيَجِبُ تَمْكِينُهُنَّ مِنْ إِرْضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ الْمُدَّةَ التَّامَّةَ لِلرِّضَاعِ، وَهِيَ كَمَا حَدَّدَهَا فَيُرْضِعْنَهُمْ (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) وَالْحَوْلُ: الْعَامُ وَالسَّنَةُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَالَ يَحُولُ إِذَا مَضَى وَإِذَا تَغَيَّرَ وَتَحَوَّلَ، فَالْعَامُ وَالْحَوْلُ يُطْلَقَانِ عَلَى صَيْفَةٍ وَشِتْوَةٍ كَامِلَتَيْنِ، وَأَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ تَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ عَدَدْتَهُ مِنَ الْعَامِ إِلَى مِثْلِهِ - اهـ مُلَخَّصًا مِنَ الْمِصْبَاحِ. وَقَدْ حُدِّدَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعَةِ التَّامَّةِ بِسَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ مُرَاعَاةً لِلْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضَعْفِ الْأَطْفَالِ فِي أَقَلِّ الْبُيُوتِ أَوِ الْبِيئَاتِ اسْتِعْدَادًا لِلْعِنَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَاللَّبَنُ هَذَا الْغِذَاءُ الْمُوَافِقُ لِكُلِّ طِفْلٍ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ الرَّضَاعَةِ فِي النِّكَاحِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ تَرَى الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ تَحْدِيدِ اللهِ سُبْحَانَهُ لَهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ثَلَاثُ سِنِينَ، وَلَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهَا التَّامَّةَ لَا تَزِيدُ عَلَى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَقَدْ تَنْقُصُ إِذَا رَأَى الْوَالِدَانِ ذَلِكَ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يُحَدِّدْ أَقَلَّ الْمُدَّةِ، بَلْ وَكَلَهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِدَيْنِ الَّذِي تُرَاعَى فِيهِ صِحَّةُ الطِّفْلِ، فَمِنَ الْأَطْفَالِ السَّرِيعُ النُّمُوِّ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ اللَّطِيفِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ بِعِدَّةِ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُمُ الْقَمِيءُ الْبَطِيءُ النُّمُوِّ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَنْبَطُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ:

(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (46: 15) أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ أَكْثَرُ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ طَرْحِ شُهُورِ الْحَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَقَالُوا: لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّتَيْنِ - أَكْثَرُ الرَّضَاعَةِ وَأَقَلُّ الْحَمْلِ - هِيَ انْضِبَاطُهُمَا دُونَ مَا يُقَابِلُهُمَا. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَطْرَحُ مُدَّةَ الْحَمْلِ الْغَالِبَةَ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ مَجْمُوعِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، فَالْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَهَا; وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِدَيْنِ، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (يُرْضِعْنَ) أَيْ: أَنَّهُنَّ يُرْضِعْنَ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَهَا مِنَ الْمَوْلُودِ لَهُمْ وَهُمُ الْآبَاءُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا) . (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ، وُوَجْهُ اخْتِيَارِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى لَفْظِ الْوَالِدِ وَالْأَبِ هُوَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ لِآبَائِهِمْ، لَهُمْ يُدْعَوْنَ وَإِلَيْهِمْ يُنْسَبُونَ، وَأَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْمَأْمُونُ: وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمَأْمُونُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْعُرْفِ الْجَاهِلِيِّ، وَهِدَايَةُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَلَدَ لِوَالِدَيْهِ يَتَقَاسَمَانِ تَرْبِيَتَهُ بِحَسَبِ فِطْرَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُ حَظِّ كَلٍّ مِنْهُمَا فِيهَا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْلُودِ لَهُ مُقَابِلُ التَّعْبِيرِ بِالْوَالِدَاتِ، وَاخْتِيرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْوَالِدَاتِ قَدْ حَمَلْنَ وَوَلَدْنَ لَكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَهَذَا الْوَلَدُ الَّذِي يُرْضِعْنَهُ يُنْسَبُ إِلَيْكَ، وَيَحْفَظُ سِلْسِلَةَ نَسَبِكَ مِنْ دُونِهِنَّ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِنَّ مَا يَكْفِيهِنَّ حَاجَاتِ الْمَعَاشِ مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ لِيَقُمْنَ بِذَلِكَ حَقَّ الْقِيَامِ، فَاخْتِيَارُ لَفْظِ (الْمَوْلُودِ لَهُ) هُنَا عَلَى لَفْظِ الْأَبِ وَالْوَالِدِ هُوَ الَّذِي تَقْضِي بِهِ الْبَلَاغَةُ قَضَاءً مُبْرَمًا، وَبِهِ يُسْتَفَادُ مَا لَا يُسْتَفَادُ بِهِمَا، وَأَيْنَ نَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ؟ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذِهِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لَائِقَةً بِحَالِ الْمَرْأَةِ فِي قَوْمِهَا وَصِنْفِهَا، لَا تَلْحَقُهَا غَضَاضَةٌ فِي نَوْعِهَا وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ النَّفَقَةِ هُنَا بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ الْوَاجِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ بِمُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ دُونَ الْأُجْرَةِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كُلَّ وَالِدَةٍ تَجِبُ لَهَا الْأُجْرَةُ عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ بُدِئَ بِلَفْظِ ((الْوَالِدَاتِ)) وَأَمَّا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ فَقَدْ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْأُجْرَةِ إِذْ قَالَ: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (65: 6) لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَا إِبْهَامَ فِي اخْتِيَارِ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ الذِّهْنُ إِلَى فَهْمِ الْآيَةِ غَيْرَ مُثْقَلٍ

بِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ لَمَا فَهِمَ غَيْرَ هَذَا مِنْهَا، وَمَنْ فَهِمَهَا مُجَرَّدَةً غَيْرَ مَحْمُولَةٍ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكَلَامِ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأُمِّ لِلرَّضَاعِ مُطْلَقًا وَعَدَمِهِ وَهِيَ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْعِدَّةِ; إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْأُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إِرْضَاعُ وَلَدِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، وَيَجِبُ لَهَا ذَلِكَ أَيْضًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - وَأَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا كُنَّ وَالِدَاتٍ يَجِبُ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ الْإِرْضَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِمَّا بَائِنَاتٌ - وَلَعَلَّهُ الْأَكْثَرُ لِنُدْرَةِ طَلَاقِ أُمِّ الطِّفْلِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِهِنَّ حِينَئِذٍ - وَإِمَّا مُعْتَدَّاتٌ تَجِبُ لَهُنَّ النَّفَقَةُ لِعَدَمِ خُرُوجِهِنَّ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا اسْتِحْقَاقَ هَؤُلَاءِ الْأُجْرَةَ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي وُجُوبِ الشَّيْءِ بِسَبَبَيْنِ، وَلَا تَكْرَارَ فِي نَصَّيِ الْوُجُوبِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَاءَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَهُ صُورَةٌ يَنْفَرِدُ بِهَا، إِذِ الْمُعْتَدَّةُ قَدْ تَكُونُ وَالِدَةً وَغَيْرَ وَالِدَةٍ، وَالْمُرْضِعُ تَكُونُ بَائِنَةً وَمُعْتَدَّةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ الْمُطَلِّقِ شَغْلًا يَمْنَعُهَا مِنْ زَوَاجٍ يُغْنِيهَا عَنْ نَفَقَتِهِ; لِأَنَّ الْمُرْضِعَ قَلَّمَا يُرْغَبُ فِيهَا وَقَلَّمَا تَرْغَبُ هِيَ فِي الزَّوَاجِ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ وَلَدَهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ. وَلَمَّا كَانَ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِعْسَارِ وَالْإِيسَارِ بِالنَّفَقَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى اللَّائِقِ بِالْمَرْأَةِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، عَقَّبَ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوُسْعَ بِالطَّاقَةِ وَهُوَ غَلَطٌ; لِأَنَّ الْوُسْعَ ضِدُّ الضِّيقِ وَهُوَ مَا تَتَّسِعُ لَهُ الْقُدْرَةُ وَلَا يَبْلُغُ اسْتِغْرَاقَهَا، وَأَمَّا الطَّاقَةُ فَهِيَ آخِرُ دَرَجَاتِ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَ بَعْدَهَا إِلَّا الْعَجْزُ الْمُطْلَقُ كَأَنَّهَا آخِرُ طَاقَةٍ; أَيْ فَتْلَةٌ مِنَ الطَّاقَاتِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْحَبْلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّوَسُّعُ فِي النَّفَقَةِ مِنَ السَّعَةِ; أَيْ: بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي إِلَى الضِّيقِ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْإِيجَازُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (65: 7) (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ ((لَا تُضَارُّ)) بِالضَّمِّ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارَّةِ صَرِيحٌ، وَالْأَوَّلُ نَهْيٌ فِي الْمَعْنَى خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلَامَ تَفْصِيلٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ سَابِقِهِ وَتَقْرِيبٌ لَهُ إِلَى الْفَهْمِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُفِيدُ - مَعَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ - حُكْمًا جَدِيدًا عَامًّا، فَمَنْعُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا - وَهِيَ لَهُ أَرْأَمُ، وَبِهِ أَرْأَفُ، وَعَلَيْهِ أَحَنَى وَأَعْطَفُ - إِضْرَارٌ بِهَا بِسَبَبِ وَلَدِهَا، وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ مَعَ الْإِرْضَاعِ إِضْرَارٌ بِهَا بِسَبَبِ وَلَدِهَا، وَامْتِنَاعِهَا هِيَ مِنْ إِرْضَاعِهِ - تَعْجِيزًا لِلْوَالِدِ بِالْتِمَاسِ الظِّئْرِ أَوْ تَكْلِيفِهِ مِنَ النَّفَقَةِ فَوْقَ وُسْعِهِ - إِضْرَارٌ بِهِ بِسَبَبِ وَلَدِهِ; فَالْعِلَّةُ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ مَنْعُ الضِّرَارِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لِلْإِضْرَارِ

بِالْآخَرِ; كَأَنْ تُقَصِّرَ هِيَ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ لِتَغِيظَ الرَّجُلَ، وَكَأَنْ يَمْنَعَهُ هُوَ مِنْ أُمِّهِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ أَوِ الْحَضَانَةِ، فَالْعِبَارَةُ نَهْيٌ عَامٌّ عَنِ الْمُضَارَّةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَا يُقَيَّدُ وَلَا يُخَصَّصُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ حَالٍ دُونَ حَالٍ أَوْ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ. وَكَلِمَةُ (تُضَارَّ) تَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَالْبِنَاءَ لِلْمَفْعُولِ وَهِيَ لِلْمُشَارَكَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَالِدَيْنِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ إِضْرَارَهُ بِالْآخَرِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ضُرَّ الْوَلَدِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَكَيْفَ تَحْسُنُ تَرْبِيَةُ وَلَدٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ هَمُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِيذَاءُ الْآخَرِ وَضَرَرُهُ بِهِ؟ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُضَارَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) فَمَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ التَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ أَفَادَ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَارِثِ هَلْ هُوَ وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ; أَيِ: الْأَبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، أَوْ وَارِثُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ؟ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِعُصْبَتِهِ، أَوْ بِالْوَلَدِ نَفْسِهِ؟ أَيْ إِنَّ نَفَقَةَ إِرْضَاعِهِ تَكُونُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا فَهِيَ عَلَى عُصْبَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ وَارِثُ الصَّبِيِّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، أَيْ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إِرْضَاعِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَكُلٌّ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصِحُّ تَنَاوُلُهُ إِيَّاهُ. (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) الْفِصَالُ: الْفِطَامُ; لِأَنَّهُ يَفْصِلُ الْوَلَدَ عَنْ أُمِّهِ وَيَفْصِلُهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا فِي غِذَائِهِ دُونَهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ وَكَوْنِ الْحَقِّ فِيهَا لِلْوَالِدَةِ، وَكَوْنِهَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً، كُلُّ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضِّرَارِ وَتَقْرِيرِ الْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّعَبُّدِ، كَانَ لِلْوَالِدَيْنِ صَاحِبَيِ الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ فِي الْوَلَدِ وَالْغَيْرَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْطِمَاهُ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا إِذَا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ التَّشَاوُرِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَكُونَانِ رَاضِيَيْنِ غَيْرَ مُضَارَّيْنِ بِهِ. وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُنَا إِلَى الْمُشَاوَرَةِ فِي أَدْنَى أَعْمَالِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَلَا يُبِيحُ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ الِاسْتِبْدَادَ بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ فَهَلْ يُبِيحُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَمْرِ تَرْبِيَتِهَا وَإِقَامَةُ الْعَدْلِ فِيهَا أَعْسَرُ وَرَحْمَةُ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْمُلُوكِ دُونَ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْوَلَدِ وَأَنْقَصُ؟ ! وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَحْتَمِلُ الْفِصَالُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ إِيقَاعُ الْمُفَاصَلَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ; أَيْ بِأَنْ تَرْضَى هِيَ بِضَمِّهِ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَأْجِرُ لَهُ ظِئْرًا تُرْضِعُهُ وَيَرْضَى هُوَ بِذَلِكَ لَا يُضَارُّ بِهِ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ مُنَاسِبَةِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَلَدِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ وَالِدَيْهِ، وَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي تَقْرِيرِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّرَاضِي مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ، أَوْ مُنَاسَبَةِ جَوَازِ فَصْلِ الطِّفْلِ عَنْ أُمِّهِ بِرِضَاهَا، ذَكَرَ حُكْمَ الْمُسْتَرْضِعَاتِ وَهُنَّ الْأَظْآرُ اللَّوَاتِي يُرْضِعْنَ بِالْأُجْرَةِ فَقَالَ:

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) يُقَالُ: اسْتَرْضَعْتُ الْمَرْأَةَ الطِّفْلَ إِذَا اتَّخَذْتَهَا مُرْضِعًا لَهُ، وَيَحْذِفُونَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِ فَيَقُولُونَ: اسْتَرْضَعْتُ الطِّفْلَ كَمَا يَقُولُونَ: اسْتَنْجَحْتُ الْحَاجَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَنِ اسْتُنْجِحَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمُ الْمَرَاضِعَ الْأَجْنَبِيَّاتِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا وَقَصْدِ خَيْرٍ، وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ، فَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْوَالِدَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَيَانِ. أَوْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ الْمَرَاضِعَ مِنَ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِالْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا وَعَادَةً. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهِ إِعْطَاءُ الْأُجْرَةِ الْمُتَعَارَفَةِ وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَصْلَحَةُ الْمُرْضِعِ وَمَصْلَحَةُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ; لِأَنَّ الْمُرْضِعَ إِذَا لَمْ تُعَامَلِ الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ الْمُرْضِيَّةَ بِأَخْذِ أَجْرِهَا تَامًّا لَا تَهْتَمُّ بِمُرَاعَاةِ الطِّفْلِ وَلَا تُعْنَى بِإِرْضَاعِهِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْمَطْلُوبَةِ وَبِنَظَافَتِهِ وَسَائِرِ شَأْنِهِ، وَإِذَا أُوذِيَتْ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا فَيَكُونُ ضَارًّا بِالطِّفْلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُؤَيِّدٌ وَمُوَافِقٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ كَوْنِ الْأُمِّ أَحَقَّ بِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي لَا يُعَارِضُهُ; لِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ جَمِيعًا، وَالسُّكُوتُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ مَنَعَ الْأُمَّ مِنَ الْإِرْضَاعِ كَمَرَضٍ أَوْ حَبَلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ ((أَتَيْتُمْ)) مَقْصُورَةَ الْأَلْفِ مِنْ أَتَى إِلَيْهِ إِحْسَانًا إِذَا فَعَلَهُ، وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ ((أُوتِيتُمْ)) أَيْ: آتَاكُمُ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ الْأُجْرَةُ، كَذَا قَالُوا; وَالْأَقْرَبُ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا سَلَّمْتُمُ الْمَرَاضِعَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْوَلَدِ بِالْمَعْرُوفِ، بِأَنْ يَتَّفِقَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا إِنِ اسْتَقَلَّ بِالْوَلَدِ مَعَ الْمُرْضِعِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ الْوَلَدَ لِإِرْضَاعِهِ بِطَرِيقَةٍ مَعْرُوفَةٍ شَرْعًا وَعَادَةٍ مُرْضِيَّةٍ لَهُمَا وَلَهَا. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِمَا يَبْعَثُ عَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أَيِ: الْتَزِمُوا مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَعَ تَوَخِّي حِكْمَةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَاتَّقُوا اللهَ فِي ذَلِكَ فَلَا تُفَرِّطُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَاعْلَمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ يُحْصِي لَكُمْ عَمَلَكُمْ وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا قُمْتُمْ بِحُقُوقِ الْأَطْفَالِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ وَاجْتِنَابِ الْمُضَارَّةِ جَعَلَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبًا لِلْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنِ اتَّبَعْتُمْ أَهْوَاءَكُمْ وَعَمَدَ الْوَالِدُ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَةِ بِهِ وَعَمَدَتْ هِيَ إِلَى ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ بَلَاءً وَفِتْنَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَكَانَا بِعَمَلِهِمَا السَّيِّئِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَوَلَدِهِمَا مُسْتَحِقَّيْنِ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ بِإِرْضَاعِ الْأُمَّهَاتِ أَوْلَادَهُنَّ عَلَى مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، فَأَفْضَلُ اللَّبَنِ لِلْوَلَدِ لَبَنُ أُمِّهِ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَوَّنَ مِنْ دَمِهَا فِي أَحْشَائِهَا، فَلَمَّا بَرَزَ إِلَى الْوُجُودِ تَحَوَّلَ اللَّبَنُ الَّذِي كَانَ يَتَغَذَّى مِنْهُ الرَّحِمُ إِلَى لَبَنٍ يَتَغَذَّى مِنْهُ فِي خَارِجِهِ، فَهُوَ اللَّبَنُ

الَّذِي يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ، وَقَدْ قَضَتِ الْحِكْمَةُ بِأَنْ تَكُونَ حَالَةُ لَبَنِ الْأُمِّ فِي التَّغْذِيَةِ مُلَائِمَةً لِحَالِ الطِّفْلِ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ سِنِّهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي الظِّئْرِ أَنْ تَكُونَ سِنُّ وَلَدِهَا كَسِنِّ الطِّفْلِ الَّتِي تُتَّخَذُ مُرْضِعًا لَهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ لَبَنَ الْمُرْضِعِ يُؤَثِّرُ فِي جِسْمِ الطِّفْلِ وَفِي أَخْلَاقِهِ وَسَجَايَاهُ، وَلِذَلِكَ يُحْتَاطُ فِي انْتِقَاءِ الْمَرَاضِعِ، وَيُجْتَنَبُ اسْتِرْضَاعُ الْمَرِيضَةِ وَالْفَاسِدَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَلَكِنْ لَا يُخْشَى مِنْ لَبَنِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فِي بَدَنِهَا أَوْ فِي أَخْلَاقِهَا لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ طَبِيعَتِهَا فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ وَهُوَ فِي الرَّحِمِ، فَاللَّبَنُ لَا يَزِيدُهُ شَيْئًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ تُمْنَعَ الْأُمَّهَاتُ مِنَ الْإِرْضَاعِ أَحْيَانًا لِسَبَبٍ عَارِضٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ وَهَذَا نَادِرٌ، وَأَمَّا التَّدْقِيقُ فِي صِحَّةِ الْمُرْضِعِ وَفِي أَخْلَاقِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَّرِدًا إِذَا كَانَتْ ظِئْرًا لَا أُمًّا. قَالَ: اللَّبَنُ يَخْرُجُ مِنْ دَمِ الْمُرْضِعِ وَيَمْتَصُّهُ الْوَلَدُ فَيَكُونُ دَمًا لَهُ يَنْمُو بِهِ اللَّحْمُ، وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ، فَهُوَ يَشْرَبُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَقَدْ لُوحِظَ أَنَّ مَنْ يَرْضَعُ مِنْ لَبَنِ الْأَتَانِ يَغْلُظُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ يُؤَثِّرُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ نَفْسِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَكْثَرُ مِمَّا هِيَ بَدَنِيَّةٌ، فَجِسْمُهُ مُسَخَّرٌ لِشُعُورِهِ وَعَقْلِهِ; لِذَلِكَ كَانَ تَأْثِيرُ الِانْفِعَالَاتِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنَ الْمُرْضِعِ فِي الرَّضِيعِ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ الصِّفَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَقَدْ لَاحَظْنَا أَنَّ صَوْتَ الْمُرْضِعِ قَدْ ظَهَرَ فِي الْوَلَدِ الَّذِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَكَيْفَ بِآثَارِ عَقْلِهَا وَشُعُورِهَا وَمَلَكَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ؟ ! وَقَدْ نَبَّهَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَحِكَايَةُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ مَعْرُوفَةٌ. أَقُولُ: ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيَّ وَالِدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الشَّهِيرِ (وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ) كَانَ يَنْسَخُ بِالْأُجْرَةِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ شَيْءٌ اشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً مَوْصُوفَةً بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَكَانَ يُطْعِمُهَا مِنْهُ إِلَى أَنْ حَمَلَتْ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى تَرْبِيَتِهَا الْحَسَنَةِ وَتَغْذِيَتِهَا بِالْحَلَالِ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَوْصَاهَا أَلَّا تُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ إِرْضَاعِهِ، فَاتَّفَقَ أَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهِيَ مُتَأَلِّمَةٌ وَالصَّغِيرُ يَبْكِي وَقَدْ أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَشَاغَلَتْهُ بِثَدْيِهَا فَرَضَعَ مِنْهَا قَلِيلًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ إِلَيْهِ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَمَسَحَ عَلَى بَطْنِهِ وَأَدْخَلَ أَصْبُعَهُ فِي فِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَاءَ جَمِيعَ مَا شَرِبَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَسْهُلُ عَلَيَّ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَفْسُدُ طَبْعُهُ بِشُرْبِ لِبَنِ غَيْرِ أُمِّهِ، وَيُحْكَى عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْأَحْيَانِ فَتْرَةٌ فِي مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الرَّضْعَةِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَقَابِلْهُ بِتَهَاوُنِ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَمْرِ الْوِلْدَانِ فِي رَضَاعَتِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي فَطَرَهُنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى التَّلَذُّذِ بِإِرْضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ وَالْغِبْطَةِ بِهِ، قَدْ صَارَ نِسَاءُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُنَّ يَرْغَبْنَ عَنْهُ تَرَفُّعًا وَطَمَعًا فِي السِّمَنِ وَبَقَاءِ الْجَمَالِ، أَوِ ابْتِغَاءَ سُرْعَةِ الْحَمْلِ، وَكُلُّ هَذَا مُقَاوَمَةٌ لِلْفِطْرَةِ وَمَفْسَدَةٌ لِلنَّسْلِ، وَقَدْ فَطِنَ لَهُ مَنْ عَرَفَ سُنَنَ الْفِطْرَةِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُرْتَقِيَةِ بِالْعِلْمِ وَالتَّرْبِيَةِ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ قَيْصَرَةَ الرُّوسِيَّةِ تُرْضِعُ أَوْلَادَهَا وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَرَاضِعَ.

234

أَلَسْنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْآدَابِ فِي الرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ مِنْ غَيْرِنَا؟ إِنْ كَانَتِ الْفِطْرَةُ تَقْضِي بِهِ فَدِينُنَا دِينُ الْفِطْرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَلَمْ نَعْرِفْ أَنَّ دِينًا أَرْشَدَ إِلَى مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ دِينُنَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْوَةُ هِيَ الَّتِي يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فَقَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ، فَاللهُمَّ وَفِّقِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الْقُرْآنِ لِيَتَحَقَّقُوا بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) . لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ هُنَّ أَزْوَاجٌ يُمْسَكْنَ وَيُسَرَّحْنَ، فَيُرَاجَعْنَ أَوْ يُبْتَتْنَ، وَفِي حُقُوقِهِنَّ حِينَئِذٍ فِي أَوْلَادِهِنَّ، وَكُلُّ هَذَا قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَحْكَامَ مَنْ يَمُوتُ بُعُولَتُهُنَّ، مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحِدَادِ وَالِاعْتِدَادِ، وَمَتَى تَجُوزُ خِطْبَتُهُنَّ وَمَتَى يَتَزَوَّجْنَ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أَيْ: يَتَوَفَّاهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَيْ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ وَيُمِيتُهُمْ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (39: 42) فَإِذَا حَذَفَ الْفَاعِلَ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْفَصِيحُ. (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) أَيْ: يَتْرُكُونَ زَوْجَاتٍ، وَالْفَصِيحُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الزَّوْجِ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَجْمَعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى أَزْوَاجٍ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (33: 6) وَالزَّوْجُ فِي الْأَصْلِ الْعَدَدُ الْمُكَوَّنُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ فِي تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ((زَوْجًا))

أَنَّ حَقِيقَتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ زَوْجٌ مُكَوَّنَةٌ مِنْ شَيْئَيْنِ اتَّحَدَا فَصَارَا شَيْئًا وَاحِدًا، فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَا شَيْئَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ وَضَعَ لَهُمَا لَفْظًا وَاحِدًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الصُّورَةِ لَا يُنَافِي وَحْدَةَ الْمَعْنَى، أُرِيدَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَّحِدَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةُ بِبَعْلِهَا بِتَمَازُجِ النُّفُوسِ وَوَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ، حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَيْنُ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهُ; أَيْ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) (2: 228) فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَسِيتَ مَا فِي التَّعْبِيرِ مِنْ آيَاتِ الْبَلَاغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عِدَّةَ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَمُوتُ أَزْوَاجُهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، لَا يَتَعَرَّضْنَ فِيهَا لِلزَّوَاجِ بِزِينَةٍ وَلَا خُرُوجٍ مِنَ الْمَنْزِلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يُوَاعِدْنَ الرِّجَالَ بِالزَّوَاجِ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (65: 4) فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ مَا هُنَا خَاصٌّ بِغَيْرِ الْحَوَامِلِ أَمْ مَا هُنَالِكَ خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَاتِ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي; لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَالسُّورَةُ سُورَتُهُ فَهُوَ خَاصٌّ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُتَوَفَّى زَوْجُهَا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّتَهَا طَوِيلَةً، وَفَرَضَ عَلَيْهَا الْحِدَادَ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ، مَعَ تَحْرِيمِ السُّنَّةِ الْحِدَادَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، اهْتِمَامًا بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي يَمُوتُ زَوْجُهَا إِذَا وَضَعَتْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَاهَا بِأَنَّهَا حَلَّتْ حِينَ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَكَانَتْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا، فَأَيُّ آيَةٍ كَانَتْ عِنْدَ اللهِ هِيَ الْمُخَصِّصَةَ لِلْأُخْرَى كَانَتْ عَامِلَةً بِهَا، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ جَزْمًا بِقَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَلَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْحَبْرَانِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ. وَقَدْ سُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي كَوْنِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَأَجَابَ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَبْحَثُ عَمَّا يُشِيرُ الْكِتَابُ إِلَى حِكْمَتِهِ إِشَارَةً مَا، وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ فِرَاقِ الزَّوْجِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ عَظِيمٌ يَمْتَدُّ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ أَوْ سِتِّينَ يَوْمًا، فَبَرَاءَةُ الرَّحِمِ إِنْ كَانَتْ تُعْرَفُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِعْرَافُ بَرَاءَتِهِ مِنَ الْحَمْلِ مَانِعًا مِنَ الزَّوَاجِ، فَبَرَاءَةُ النَّفْسِ مِنْ كَآبَةِ الْحُزْنِ تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَالتَّعَجُّلُ بِالزَّوَاجِ مِمَّا يُسِيءُ أَهْلَ الزَّوْجِ وَيُفْضِي إِلَى الْخَوْضِ فِي الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ التَّهَافُتِ عَلَى الزَّوَاجِ، وَمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْوَفَاءِ لِلزَّوْجِ وَالْحُزْنِ عَلَيْهِ.

هَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ جَلَّيْنَاهُ وَزِدْنَاهُ تَوْضِيحًا فَكَانَ بَيَانًا لِحِكْمَةِ الزِّيَادَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ لَا لِكَوْنِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَقَدْ سُئِلْنَا عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ فَأَجَبْنَا بِجَوَابٍ ذُكِرَ فِي الْمَنَارِ (ص 539 م 7) وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. قُلْنَا بَعْدَ بَيَانِ حِكْمَةِ الْعِدَّةِ وَمَا يَجِبُ مِنْ حِدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا نَصُّهُ: ((وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْدِيدِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِهَذَا الْقَدْرِ أَنَّهُ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَتِمُّ فِيهِ تَكْوِينُ الْجَنِينِ وَنَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاجَعَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ. وَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ لِأَجْلِ الْإِحْدَادِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ قَوِيٌّ فِي تَحْدِيدِهِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ احْتِمَالَاتٍ، مِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مِنْ عُرْفِ الْعَرَبِ أَلَّا يُنْتَقَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا تَعَرَّضَتْ لِلزَّوَاجِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مِنْ مَوْتِ زَوْجِهَا فَأَقَرَّهُمُ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْعُرْفِ وَالْآدَابِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْبِرُ عَنِ الزَّوْجِ بِلَا تَكَلُّفِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَتَتُوقُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَلَّا يَغِيبَ الْمُجَاهِدُونَ عَنْ أَزْوَاجِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ أَنْ سَأَلَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا أَصْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، تَكُونُ الزِّيَادَةُ الِاحْتِيَاطِيَّةُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ)) اهـ. وَسَيَمُرُّ بِكَ قَرِيبًا مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْحِدَادِ عَلَى الزَّوْجِ وَشِدَّتِهِ، وَمَا أَصْلَحَ الْإِسْلَامُ فِيهِ مَا يُبْطِلُ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَالْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ، وَذَاتَ الْحَيْضِ وَالْيَائِسَةَ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَفْرَادٍ مِنْ هَذَا الشُّمُولِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْحَامِلِ؛ فَذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ ((شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ)) وَلَمْ يَنْقُلُوا فِي هَذَا خِلَافًا إِلَّا عَنِ الْأَصَمِّ وَابْنِ سِيرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْقِيَاسُ عَلَى الْحَدِّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّزَوُّجِ بِالْإِمَاءِ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (4: 25) وَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ والْبَيْهَقِيِّ ((طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ)) وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، فِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ والْبَيْهَقِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ يَمُوتُ سَيِّدُهَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ أَوْ شَهْرٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أَيْ: أَتْمَمْنَ عِدَّتَهُنَّ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)

مِمَّا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِنَّ فِي الْعِدَّةِ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: شَرْعًا وَأَدَبًا عُرْفِيًّا; لِأَنَّهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِالْمُنْكَرِ وَجَبَ مَنْعُهُنَّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ هُنَا فَقِيلَ: هُوَ لِلْأَوْلِيَاءِ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزَّوَاجِ الَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ، وَقِيلَ: لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً يَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ لَهُ مِنَ النَّظَائِرِ. لَا تَقُلْ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَنْطِقْ بِمَا يُحْظَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ، فَنَقُولُ: إِنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِنَّ مَا عُلِمَ مِنَ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَّبَعَةِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي أَمْرٍ نَزَلَ فِيهِ قُرْآنٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ قَالَتْ: ((دَخَلَتْ عَلَيَّ أُمُّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سُفْيَانَ (وَالِدُهَا) فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ وَغَيْرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)) قَالَتْ زَيْنَبُ: ((وَسَمِعْتُ أُمِّي (أُمَّ سَلَمَةَ) تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ)) قَالَ حُمَيْدٌ: ((فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: مَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَقْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَقْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ)) وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: ((أَنَّ امْرَأَةً تُوَفِّي زَوْجُهَا فَخَشَوْا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ: لَا تَكْتَحِلْ، كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي أَحْلَاسِهَا أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ - فَلَا، حَتْي تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ)) فِي رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ ((تَرْمِي بِبَعْرَةٍ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ أَوِ الْإِبِلِ فَتَرْمِي بِهَا أَمَامَهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ إِحْلَالًا لَهَا)) . فَأَنْتَ تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْعَرَبَ عَلَى غُلُوِّهَا فِي الْحِدَادِ، وَكَثْرَةِ مُنْكَرَاتِهَا فِي النَّوْحِ وَالنَّدْبِ، كَانَتْ تَعْتَادُ أُمُورًا خُرَافِيَّةً فِيهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا شَرَّ حِدَادٍ وَأَقْبَحَهُ، فَتَلْزَمُ شَرَّ أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ جَانِبٍ مِنْ بَيْتِهَا، وَهُوَ الْحِفْشُ، سَنَةً كَامِلَةً لَا تَمَسُّ طِيبًا وَلَا زِينَةً وَلَا تَبْدُو لِلنَّاسِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَتْ، أَمَّا الْأَحْلَاسُ فَهِيَ

جمعُ حِلْسٍ - بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَبِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يَكُونُ عَلَى الظَّهْرِ تَحْتَ الْقَتَبِ أَوِ السَّرْجِ أَوِ الْبَرْذَعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِسَاءِ الرَّقِيقِ، وَعَلَى مَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مَسْحٍ وَنَحْوِهِ، وَالْحِفْشُ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ - الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْمُظْلِمُ دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَيُسَمُّونَ مِثْلَهُ فِي الْحُجُرَاتِ الْآنَ ((خَزْنَةً)) وَالِاقْتِضَاضُ بِالدَّابَّةِ - بِالْقَافِ - هُوَ التَّمَسُّحُ بِهَا، قِيلَ: كَانَتْ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا، وَقِيلَ: مَا هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سَأَلْتُ الْحِجَازِيِّينَ عَنِ الِاقْتِضَاضِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ كَانَتْ لَا تَمَسُّ مَاءً وَلَا تُقَلِّمُ ظُفْرًا وَلَا تُزِيلُ شَعْرًا، ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِأَقْبَحِ مَنْظَرٍ ثُمَّ تَقْتَضُّ; أَيْ: تَكْسِرُ مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَقْتَضُّ بِهِ. اهـ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ نَتَنِهَا، وَأَمَّا عَادَةُ مُرُورِ الْكَلْبِ وَرَمْيِ الْبَعْرَةِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ كَانَتْ فِي آخِرِ الْعِدَّةِ تَنْتَظِرُ مُرُورَ الْكَلْبِ لِتَرْمِيَهِ بِالْبَعْرَةِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ تَرْمِي بِهَا مَا عَرَضَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا فَعَلَتْهُ مِنَ التَّرَبُّصِ فِي تِلْكَ الْمَشَقَّةِ وَالْجُهْدِ هُوَ عِنْدَهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرَةِ الَّتِي رَمَتْهَا احْتِقَارًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِحَقِّ زَوْجِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى رَمْيِ الْعِدَّةِ وَالتَّفَلُّتِ مِنْهَا. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ تَفَاؤُلٌ بِعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهَا وَتَمَنِّي أَنْ تَمُوتَ فِي كَنَفِ مَنْ عَسَاهَا تَتَزَوَّجُ بِهِ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنَ الْعَادَاتِ السَّخِيفَةِ وَالْخُرَافَاتِ الشَّائِنَةِ الْمُهِينَةِ لِلْمَرْأَةِ، يَظْهَرُ لَكَ شَأْنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي ذَلِكَ إِذْ جَعَلَ الْعِدَّةَ عَلَى نَحْوِ الثُّلُثِ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ فِيهَا إِلَّا الزِّينَةَ وَالطِّيبَ وَالتَّعَرُّضَ لِأَنْظَارِ الْخَاطِبِينَ مِنْ مُرِيدِي التَّزَوُّجِ، دُونَ النَّظَافَةِ وَالْجُلُوسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ مَعَ النِّسَاءِ وَالْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَالِ. وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْإِسْلَامُ يَلِيقُ وَيَحْسُنُ فِي كُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَعَصْرٍ، لَا يَشُقُّ عَلَى بَدْوٍ وَلَا حَضَرٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ سَعَةَ الدِّينِ وَتَكْرِيمَهُ لِلنِّسَاءِ قَدْ كَادَتْ تُنْسِي الْمُسْلِمَاتِ مَا لَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ مَنْ عَادَتِهِنَّ وَتَخْرُجُ بِهِنَّ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ، حَتَّى اسْتَأْذَنَ مَنِ اسْتَأْذَنَ مِنْهُنَّ بِالْكُحْلِ بِحُجَّةِ الْخِيفَةِ عَلَى الْعَيْنِ مِنَ الْمَرَهِ أَوِ الرَّمَدِ حَتَّى ذَكَّرَهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. وَاسْتَشْكَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَنْعُ مِنَ الْكُحْلِ لِلتَّدَاوِي كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهَا: ((فَخَشَوْا عَلَى عَيْنِهَا)) مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا مِنِ انْتِفَاءِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، وَمِنْ كَوْنِ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَكَوْنِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ مَمْنُوعَيْنِ، وَمِنَ التَّرْخِيصِ فِي الْكُحْلِ لِلتَّدَاوِي بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ ; لِأَنَّ اللَّيْلَ أَبْعَدُ مِنْ مَظِنَّةِ الزِّينَةِ. فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ)) وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ ((فَتَكْتَحِلِينَ بِاللَّيْلِ وَتَغْسِلِينَهُ بِالنَّهَارِ)) وَأُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا

حَمْلُهُ عَلَى كُحْلِ الزِّينَةِ كَأَنَّهُ عَلِمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْهُ أَوْ لِأَجْلِهِ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ لِاسْتِيفَائِهِ هُنَا، وَيَنْبَغِي أَنْ نَتَذَكَّرَ أَنَّ اللَّيْلَ صَارَ كَالنَّهَارِ فِي أَمْصَارِنَا أَوْ أَشَدَّ إِظْهَارًا لِلزِّينَةِ. هَذَا مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِبَارَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى حَظِّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنْ هَدْيِهِ فِيهَا. الْمُسْلِمُونَ لَا يَسِيرُونَ الْيَوْمَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا هُمْ طَرَائِقُ قِدَدٌ، فَمِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ يَغْلُونَ فِي الْحِدَادِ، وَيُغْرِقْنَ فِي النَّوْحِ وَالنَّدْبِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْعَادَاتِ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَعِيشَةِ بِالْبُيُوتِ، حَتَّى يَزِدْنَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ حَدٌّ وَلَا أَجَلٌ يَتَسَاوَيْنَ فِيهِمَا، وَلَا يَخْصُصْنَ الزَّوْجَ بِمَا خَصَّهُ بِهِ الشَّرْعُ، بَلْ رُبَّمَا حَدَدْنَ عَلَى الْوَلَدِ سَنَةً أَوْ سِنِينَ، وَرُبَّمَا تَرَكْنَ الْحِدَادَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِيهِنَّ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالطَّبَقَاتِ وَالْبُيُوتِ، فَإِيَّاكُمْ نَسْأَلُ أَبْنَاءَ الْعَصْرِ الْجَدِيدِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ أَنْفُسَهُمُ ارْتَقَتْ فِي الْمَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ إِلَى أُفُقٍ يَسْتَغْنُونَ فِيهِ عَنْ هَدْيِ الدِّينِ، هَلْ تَجِدُونَ لَنَا سَبِيلًا إِلَى إِصْلَاحِ هَذِهِ الْعَادَاتِ الرَّدِيئَةِ فِي الْحِدَادِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَلَا نِظَامَ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، بَلْ كُلُّهُ غَوَائِلُ بِمَا يُفْنِي مِنَ الْمَالِ فِي تَغْيِيرِ اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ وَالْمَاعُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يُفْسِدُ مِنْ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ وَيَسْلُبُ مِنْ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ، وَمَا يَفْعَلُ فِي صِحَّةِ الْكَثِيرِينَ، وَلَا سِيَّمَا ضِعَافُ الْمِزَاجِ وَأَهْلُ الْأَمْرَاضِ؟ أَصْلِحُوا لَنَا بِعُلُومِكُمْ وَفَلْسَفَتِكُمْ هَذِهِ الْعَادَاتِ الرَّدِيئَةِ بِإِرْجَاعِهَا إِلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْحِدَادِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى الْقَرِيبِ، وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى الزَّوْجِ، وَيَجْعَلُ هَذَا الْحِدَادَ مَقْصُورًا عَلَى تَرْكِ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ، أَوْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنْ لَا صَلَاحَ لَنَا إِلَّا بِالِاعْتِصَامِ بِهَدْيِ الدِّينِ الَّذِي تُحَارِبُونَهُ كُلَّ سَاعَةٍ بِأَعْمَالِكُمْ وَخِلَالِكُمْ، وَعَادَاتِكُمْ وَلَذَّاتِكُمْ، وَمَا تُحَارِبُونَ إِلَّا أَنْفُسَكُمْ وَمَا تَشْعُرُونَ. (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مُحِيطٌ بِدَقَائِقِ عَمَلِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا أَلْزَمْتُمُ النِّسَاءَ الْوُقُوفَ مَعَكُمْ عِنْدَ حُدُودِهِ أَصْلَحَ أَحْوَالَكُمْ، وَرَفَّهَ مَعِيشَتَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَحْسَنَ جَزَاءَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَخَذَكُمْ فِي الدَّارَيْنِ أَخْذًا وَبِيلًا. (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (17: 72) . وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْفَصِيحَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَوْتِ بِالتَّوَفِّي أَنْ يُقَالَ: تُوفِّيَ فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي الْآيَةِ: (يُتَوَفَّوْنَ) وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ عَنْ عَلِيٍّ (يَتَوَفَّوْنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَفُسِّرَ بِيَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، فَإِنَّ مَعْنَى التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَقَبْضُهُ وَافِيًا تَامًّا، وَكَانُوا يَعُدُّونَ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمَيِّتِ بِالْمُتَوَفِّي بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لَحْنًا; لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَا قَابِضٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ أَنَّهُ كَانَ خَلْفَ جَنَازَةٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:

مَنِ الْمُتَوَفِّي؟ فَقَالَ: ((اللهُ تَعَالَى)) وَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ أَمْرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ إِيَّاهُ بِوَضْعِ بَعْضِ أَحْكَامِ النَّحْوِ. وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) وَالْخَبَرِ هُوَ جُمْلَةُ (يَتَرَبَّصْنَ) فَإِنَّهَا غَيْرُ جَلِيَّةٍ عَلَى قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا وَالتَّأْلِيفُ عَرَبِيًّا، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ (زَوْجَاتٍ) مُضَافًا مَحْذُوفًا; أَيْ: وَزَوْجَاتُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ إِلَخْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا لُزُومَ لَهُ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ فَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَيَرْوُونَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ. وَرَجَّحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَمِثْلُهُ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ أَنَّ الرَّابِطَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ هُوَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ إِلَى الْأَزْوَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْمُبْتَدَأِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قَالَ: وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ اللُّغَةَ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ صِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَعَلِّي إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... إِلَى ابْنِ أَبِي ذُبْيَانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا فَمُرَادُ الشَّاعِرِ الْإِخْبَارُ عَنْ تَنَدُّمِ ابْنِ أَبِي ذُبْيَانَ، وَالْأَخْبَارُ فِي اللُّغَةِ لَا يُرَاعَى بِهَا إِلَّا صِحَّةُ الْمَعْنَى، وَكَوْنُهُ مَفْهُومًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنِ اتَّقَى) (2: 189) . وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الرَّاغِبِينَ فِي التَّزَوُّجِ بِمَنْ يُتَوَفَّى زَوْجُهَا الْمُسَارَعَةُ إِلَى خِطْبَتِهَا بَيَّنَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ وَبِكَرَامَةِ النِّسَاءِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَالَ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ لِوَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ، قَالُوا: وَمِثْلُهُنَّ الْمُطَلَّقَاتُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَأَمَّا الرَّجْعِيَّاتُ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لَهُنَّ; لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَخْرُجْنَ عَنْ عِصْمَةِ بُعُولَتِهِنَّ بِالْمَرَّةِ، وَالتَّعْرِيضُ فِي الْأَصْلِ إِمَالَةُ الْكَلَامِ عَنْ مَنْهَجِهِ إِلَى عَرْضٍ مِنْهُ وَهُوَ الْجَانِبُ، وَيُقَابِلُهُ التَّصْرِيحُ، فَهُوَ أَنْ تُفْهِمَ الْمُخَاطَبَ مَا تُرِيدُ بِضَرْبٍ مِنَ الْإِشَارَةِ وَالتَّلْوِيحِ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ عَلَى بُعْدٍ بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ، وَفِي الْكَشَّافِ هُوَ: أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَا تَذْكُرُهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ. أَقُولُ: وَلِلنَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ كِنَايَاتٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَمِمَّا سَمِعْتُهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ عَامَّةِ زَمَانِنَا فِي هَذَا ذِكْرُ الرَّغْبَةِ فِي الزَّوَاجِ مُسْنَدَةً إِلَى أُنَاسٍ مُبْهَمَيْنِ، نَحْوُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَمَنَّى لَوْ يَكُونُ لَهُ كَذَا أَوْ يُوَفَّقُ إِلَى كَذَا، وَالْخِطْبَةُ - بِالْكَسْرِ مِنَ الْخِطَابِ أَوِ الْخَطْبِ وَهُوَ الشَّأْنُ الْعَظِيمُ، وَهِيَ طَلَبُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لِلزَّوَاجِ بِالْوَسِيلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْخُطْبَةُ - بِالضَّمِّ - فَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْإِكْنَانُ فِي النَّفْسِ هُوَ مَا يُضْمِرُهُ مُرِيدُ الزَّوَاجِ فِي نَفْسِهِ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَبَاحَ اللهُ تَعَالَى أَنْ

235

يُعَرِّضَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْعِدَّةِ بِأَمْرِ الزَّوَاجِ تَعْرِيضًا، وَقَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مِنَ النِّيَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالْعَزْمِ الْمَسْتَكِنِّ فِي الضَّمِيرِ، كَأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ تَعَسُّرِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْطَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ دِينِيٌّ، بَلْ رَاعَى فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ وَجْهَ الرُّخْصَةِ فَقَالَ: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) فِي أَنْفُسِكُمْ، وَخَطِرَاتُ قُلُوبِكُمْ لَيْسَتْ فِي أَيْدِيكُمْ، وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكْتُمُوا رَغْبَتَكُمْ وَتَصْبِرُوا عَنِ النُّطْقِ لَهُنَّ بِمَا فِي أَنْفُسِكُمْ، فَرَخَّصَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ، فَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الرُّخْصَةِ (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) أَيْ فِي السِّرِّ; فَإِنَّ الْمُوَاعَدَةَ السِّرِّيَّةَ مَدْرَجَةُ الْفِتْنَةِ وَمَظِنَّةُ الظِّنَّةِ. وَالتَّعْرِيضُ يَكُونُ فِي الْمَلَأِ لَا عَارَ فِيهِ وَلَا قُبْحَ، وَلَا تَوَسُّلَ إِلَى مَا لَا يُحْمَدُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السِّرَّ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النِّكَاحِ; أَيْ: لَا تَعْقِدُوا مَعَهُنَّ وَعْدًا صَرِيحًا عَلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنِ النِّكَاحِ بِالسِّرِّ; لِأَنَّهُ يَكُونُ سِرًّا فِي الْغَالِبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُوَاعَدَةُ سِرًّا أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنِّي عَاشِقٌ وَعَاهِدِينِي أَلَّا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي وَنَحْوَ هَذَا، وَقِيلَ: هِيَ الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ الصَّرِيحِ مَعَهَا فِي الْخَلْوَةِ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) قِيلَ: هُوَ التَّعْرِيضُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ مَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ النَّاسِ الْمُهَذَّبِينَ بِلَا نَكِيرٍ كَالتَّعْرِيضِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ التَّعْرِيضِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ يَتَحَدَّثُوا مَعَ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ بِالسِّرِّ وَيَتَوَاعَدُوا مَعَهُنَّ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا رَخَّصَ لَهُمْ فِيهِ هُوَ التَّعْرِيضُ الَّذِي لَا يُنْكِرُ النَّاسُ مِثْلَهُ فِي حَضْرَتِهِنَّ، وَلَا يَعُدُّونَهُ خُرُوجًا عَنِ الْأَدَبِ مَعَهُنَّ، وَالْفَائِدَةُ مِنْهُ التَّمْهِيدُ وَتَنْبِيهُ الذِّهْنِ، حَتَّى إِذَا تَمَّتِ الْعِدَّةُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِالرَّاغِبِ أَوِ الرَّاغِبِينَ، فَإِذَا سَبَقَ إِلَى خِطْبَتِهَا الْمَفْضُولُ رَدَّتْهُ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهَا، وَقَدْ أَوْضَحَ الْأَمْرَ وَسَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ; لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِمَا لَهُمْ مِنْ دَافِعِ الْهَوَى إِلَيْهَا; وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بِمَا فَهِمَ مِنْ سَابِقِ الْقَوْلِ مِنْ جَوَازِ الْقَصْدِ إِلَى الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فَقَالَ: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) أَيْ: عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ ((عَلَى)) وَيُقَالُ: عَزَمَ الشَّيْءَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَاعْتَزَمَهُ; أَيْ: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوِ الْمَعْنَى لَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَزْمُ الْمُتَّصِلُ بِالْعَمَلِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أَيْ: حَتَّى يَنْتَهِيَ مَا كُتِبَ وَفُرِضَ مِنَ الْعِدَّةِ، فَالْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ; أَيِ: الْمَفْرُوضِ أَوْ بِمَعْنَى الْفَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (2: 183) وَقَالَ: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (4: 103) وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْفَرْضِيَّةِ الْمُحَتَّمَةِ بِلَفْظِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ يَكُونُ أَثْبَتَ وَآكَدَ وَأَحْفَظَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْكِتَابَ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِدَّةُ أَيْضًا كَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتِمَّ مَا نَطَقَ بِهِ

الْقُرْآنُ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَرْأَةِ فِي الْعِدَّةِ مَحْرَمٌ قَطْعًا، وَلِأَجْلِهِ حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا فِيهَا، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) أَيْ: يَعْلَمُ مَا تُضْمِرُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْعَزْمِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَعْزِمُوا مَا حَظَرَهُ عَلَيْكُمْ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا التَّحْذِيرُ رَاجِعٌ لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنَ التَّعْرِيضِ وَغَيْرِهِ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِهِ فِي قَرْنِ الْأَحْكَامِ بِالْمَوْعِظَةِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، تَأْكِيدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِمَا فِي النَّفْسِ أَعَمُّ مِنَ الْخَبَرِ بِالْعَمَلِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ; لِأَنَّ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَثَرًا مَخْصُوصًا فِي النَّفْسِ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَمَا دَامَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى شَيْءٍ فَلَا يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ تَكْرَارًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَتَعَدَّدَ وَلَوْ بَلَغَ الْأُلُوفَ بِلَفْظِهِ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا تَنَوَّعَ بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَقَوْلُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) بَعْدَ مَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ مَخْرَجًا بِالتَّوْبَةِ إِذَا هُوَ تَعَدَّى شَيْئًا مِنَ الْحُدُودِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لَهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِعُقُوبَتِهِ، بَلْ يُمْهِلُهُ; لِيُصْلِحَ بِحُسْنِ الْعَمَلِ مَا أَفْسَدَ بِمَا سَبَقَ مِنَ الزَّلَلِ. (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) . قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْجُنَاحِ الْمَنْفِيِّ هُنَا هُوَ التَّبِعَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ، لَا الْإِثْمُ وَالْوِزْرُ، وَأَوْرَدُوا هَذَا وَجْهًا ضَعِيفًا وَجَّهُوهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَثِيرًا مَا يَنْهَى عَنِ الطَّلَاقِ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ فِيهِ جُنَاحًا فَنَفَتْهُ الْآيَةُ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَتَبَرَّأُ مِنْهُ السِّيَاقُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ نَفْيُ الْمَنْعِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ: عَدَمُ الْمَسِيسِ، وَعَدَمُ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ. وَالْمَسِيسُ اسْمُ

236

مَصْدَرٍ لِمَسَّهُ مَسًّا - مِنْ بَابِ تَعِبَ وَنَصَرَ - إِذَا لَمَسَهُ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، هَكَذَا قَيَّدُوهُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ. وَيُعَبَّرُ عَنْ إِصَابَةِ كُلِّ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَيُكْنَى بِهِ وَبِالْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَامَسَةِ كَالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْغِشْيَانِ الْمَعْلُومِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) بِالْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تَمَاسُّوهُنَّ) بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ (33) ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَتِلْكَ بَيَانٌ لِفِعْلِ الرَّجُلِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَتَانِ هِيَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكَمَ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (33: 49) وَأَجْمَعُوا عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ حِكَايَةً عَنْهَا: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) (19: 20) لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِسَبَبِ الْوَلَدِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ لَا مَعْنَى لِلْمُشَارِكَةِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْفَرِيضَةِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَصِحُّ بِغَيْرِ مَهْرٍ، قَالُوا: وَيَجِبُ حِينَئِذٍ مَهْرُ الْمِثْلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْفَرْضُ هُنَا يَصْدُقُ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُولَ: أَمْهَرْتُكِ أَلْفًا مَثَلًا. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) أَيْ: لَا يَلْزَمُكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ تَأْثَمُونَ بِتَرْكِهِ فِي حَالِ طَلَاقِكُمْ لِلنِّسَاءِ (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أَيْ: مُدَّةَ عَدَمِ مَسِّكُمْ إِيَّاهُنَّ وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَهُنَّ، فَـ (أَوْ) هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوِ الْمَعْنَى: إِلَى أَنْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ، أَوْ إِلَّا أَنْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ، أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ وَهُوَ مَا يُذْكَرُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ. وَالْمَعْنَى إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطَانِ أَوِ الْقَيْدَانِ فَلَا تَدْفَعُوا لَهُنَّ مَهْرًا (وَمَتِّعُوهُنَّ) أَيْ: أَعْطُوهُنَّ شَيْئًا يَتَمَتَّعْنَ بِهِ، وَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُتْعَةُ عَلَى حَسَبِ حَالِكُمْ فِي الثَّرْوَةِ (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الْمُوسِعُ وَصْفٌ؛ مِنْ أُوسِعَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا سَعَةٍ؛ وَهِيَ الْبَسْطَةُ وَالْغِنَى، وَالْمُقْتِرُ مِنْ أَقْتَرَ الرَّجُلُ إِذَا قَلَّ مَالُهُ وَافْتَقَرَ، وَقَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ (مِنْ بَابِ قَعَدَ وَضَرَبَ) وَأَقْتَرَ: ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ، وَلَعَلَّهُ مِنَ الْقُتَارِ - بِالضَّمِّ - وَهُوَ دُخَانُ الشِّوَاءِ وَالطَّبِيخِ وَبُخَارُهُ وَرَائِحَتُهُ، وَالْقَتْرُ مِنَ النَّفَقَةِ: الرُّمْقَةُ مِنَ الْعَيْشِ، وَيُقَالُ: أَقْتَرَ أَيْضًا إِذَا قَتَّرَ عَمْدًا فَعَاشَ عِيشَةَ الْفَقِيرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ (قَدَرُهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْقُدْرَةُ بِالتَّسْكِينِ الطَّاقَةُ، وَبِالتَّحْرِيكِ الْمِقْدَارُ، وَالْمُرَادُ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتْعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ثَرْوَةِ الرَّجُلِ وَبَسْطَتِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُحَدَّدْ، بَلْ تُرِكَتْ لِاجْتِهَادِ الْمُكَلَّفِ; لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِثَرْوَةِ نَفْسِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ: (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَهُوَ مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَيَلِيقُ بِهِمْ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ وَأَحْوَالِ مَعَايِشِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ حَاقَّةٌ، عَلَى أَنَّهَا إِحْسَانٌ فِي التَّعَامُلِ لَا عُقُوبَةٌ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهَا كَمَا قَالُوا: جَبْرُ إِيحَاشِ الطَّلَاقِ; كَأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ مُحْسِنِينَ فِي طَاعَتِهِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا هَذَا الْمَتَاعَ لَائِقًا مُؤَدِّيًا إِلَى الْغَرَضِ مِنْهُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُبَيِّنًا الْحِكْمَةَ فِي شَرْعِ هَذِهِ الْمُتْعَةَ: إِنَّ فِي هَذَا الطَّلَاقِ غَضَاضَةً وَإِيهَامًا لِلنَّاسِ أَنَّ الزَّوْجَ مَا طَلَّقَهَا إِلَّا وَقَدْ رَابَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ مَتَّعَهَا مَتَاعًا حَسَنًا تَزُولُ هَذِهِ الْغَضَاضَةُ وَيَكُونُ هَذَا الْمَتَاعُ الْحَسَنُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِنَزَاهَتِهَا، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ; أَيْ: لِعُذْرٍ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا مِنْ قِبَلِهَا; أَيْ: لَا لِعِلَّةٍ فِيهَا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، فَجَعَلَ هَذَا التَّمْتِيعَ كَالْمَرْهَمِ لِجُرْحِ الْقَلْبِ لِكَيْ يَتَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ، فَيُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا أَعْطَى فُلَانَةً كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَمْ يُطَلِّقْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَهُوَ آسِفٌ عَلَيْهَا مُعْتَرِفٌ بِفَضْلِهَا; لِأَنَّهُ رَأَى عَيْبًا فِيهَا أَوْ رَابَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ السِّبْطَ مَتَّعَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: ((مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ)) لِهَذَا وَكَلَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يُحَدِّدْهُ، بَلْ وَصَفَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَكَرَ الْمُطَلِّقَ عِنْدَ إِيجَابِهِ بِالْإِحْسَانِ هُنَا وَبِالتَّقْوَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ الْحِكْمَةِ: مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ يَتَقَدَّمُهُ تَعَارُفٌ وَتَوَادٌّ بَيْنَ بَيْتِ الرَّجُلِ وَبَيْتِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ تَكُونُ الْخِطْبَةُ فَالْعَقْدُ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ بِالْمَرْأَةِ مِنَ الظُّنُونِ مَا لَا يَظُنُّونَ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ; لِأَنَّ الْمُعَاشَرَةَ هِيَ الَّتِي تَكْشِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنْ طِبَاعِ الْآخَرِ، فَيُحْمَلُ الطَّلَاقُ عَلَى تَنَافُرِ الطِّبَاعِ، وَعَدَمِ الْمُشَاكَلَةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَهَذَا وَجْهٌ لِجَعْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مُتْعَةَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَاجِبَةً وَمُتْعَةَ غَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِذَا كَانَتِ الْغَضَاضَةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ التَّوَادَّ الَّذِي ظَهَرَتْ بَوَادِرُهُ قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَتَمَكَّنَ بِالْعَقْدِ يَتَحَوَّلُ إِلَى عَدَاءٍ وَتَبَاغُضٍ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الْمُطَلِّقُ ذَلِكَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهِيَ الْمُتْعَةُ اللَّائِقَةُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِلَّا بِجَعْلِ مِقْدَارِ الْمُتْعَةِ مَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِ الرَّجُلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي السَّعَةِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كَذَا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِتَحَرِّي إِصَابَتِهِ، وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَّعَ (بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ) ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتْعَةَ تُسْتَحَبُّ وَلَا تَجِبُ; لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، كَأَنَّ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ لَا يُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وَقَوْلُهُ: (حَقًّا عَلَى) وَإِنَّمَا حَسُنَ ذُكِرُ الْإِحْسَانِ هُنَا; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَالشَّارِعُ يُحِبُّ بَسْطَ الْكَفِّ فِيهِ، فَذَكَرَ بِالْإِحْسَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْغَرَامَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ غَرَامَةً لَا اخْتِيَارَ فِي قَدْرِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ فِي أَصْلِهَا لَمَا تَحَقَّقَتْ بِهَا الْحِكْمَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الْمُتَقَدِّمَةُ آمِرَةٌ بِالتَّمْتِيعِ أَمْرًا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ لَفْظُ الْمُحْسِنِينَ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِحْسَانَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي مَقَامِ

241

الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (9: 91) وَالنُّصْحُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ حَتْمٌ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (9: 120) وَذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرًا بَعْدَ ذِكْرِ الصَّبْرِ فِي مَوَاضِعِ الْيَأْسِ وَهُوَ وَاجِبٌ. وَبَعْدَ ذِكْرِ مُحَاوَلَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ - وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - لَوْلَا مَا افْتَدَاهُ اللهُ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ عِنْدَ ذِكْرِ الْجَزَاءِ: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (39: 58) وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ النَّفْسَ تُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ فَتَتَمَنَّى الرَّجْعَةَ لِتُؤَدِّيَهَا؟ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْإِحْسَانَ يَرَى أَنَّ مِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الْمَفْرُوضَةُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ مَا زَادَ عَنِ الْفَرْضِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مِقْدَارِهَا وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تُشْرَعُ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَمْ لَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) (2: 241) . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الْآيَةُ الْمَاضِيَةُ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَهَذِهِ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرَ الْمَفْرُوضَ. قَالَ (الْجَلَالُ) : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَجِبُ لَهُنَّ وَيَرْجِعُ لَكُمُ النِّصْفُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ سَوْقُ الْمَهْرِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، خِلَافًا لِمَا اسْتَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدُ مِنْ تَأْخِيرِ ثُلُثِ الْمَهْرِ أَيْ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُؤَخِّرُونَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الدِّينِ، وَمَا هُوَ إِلَّا عَادَةٌ مِنَ الْعَادَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَهَا حُبُّ الظُّهُورِ بِكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَالْفَخْرِ بِهِ، مَعَ اجْتِنَابِ الْإِرْهَاقِ بِدَفْعِهِ كُلِّهِ. وَقَدَّرَ غَيْرُ الْجَلَالِ: فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ - أَوْ - فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أَيِ: النِّسَاءُ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَخْذِ النِّصْفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُوَ حَقُّ الْبَالِغَةِ الرَّشِيدَةِ (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) قِيلَ: هُوَ الْوَلِيُّ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَوِ الْوَلِيُّ الْمُجْبَرُ وَهُوَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ فَيَعْفُو لَهُ عَنِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالشِّيعَةُ لَا تُبِيحُ لَهُ الْعَفْوَ عَنْ كُلِّهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ الَّذِي بِيَدِهِ حَلُّهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي رَبَطَ الْمَرْأَةَ وَأَمْسَكَ الْعُقْدَةَ بِيَدِهِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُحِلَّهَا وَيَدَعَهَا بِدُونِ شَيْءٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْعَفْوُ وَالسَّمَاحُ بِكُلِّ مَا كَانَ قَدْ أَعْطَى وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُحَتَّمُ نِصْفَهُ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)

وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، أَيْ مَنْ عَفَا فَهُوَ الْمُتَّقِي، وَيُرْوَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتًا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَعْطَاهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ، فَسُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَمَّا التَّزَوُّجُ فَلِأَنَّهُ عَرَضَهَا عَلَيَّ فَمَا رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَأَنَا أَحَقُّ بِالْفَضْلِ. هَكَذَا قَالَ مَنْ رَوَى الْقِصَّةَ بِالْمَعْنَى، وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ أَنَّ جُبَيْرًا قَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا لَفظُهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَيُرَجِّحُهُ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، فَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي عَفْوِ الرَّجُلِ عَنِ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَفِي بَعْضِهَا تَكُونُ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ عَنِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ لَهَا; ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِهِ بِلَا عِلَّةٍ مِنْهَا وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَالَّذِي تَرَاهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْوَى هُنَا تَقْوَى اللهِ تَعَالَى الْمَطْلُوبَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ; وَذَلِكَ أَنَّ الْعَفْوَ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَجْرًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ التَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ اتِّقَاءُ الرِّيبَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَاقِ مِنَ التَّبَاغُضِ وَآثَارِ التَّبَاغُضِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي السَّمَاحِ بِالْمَالِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَغْيِيرِ الْحَالِ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فَسَّرُوا الْفَضْلَ بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، وَجَعَلُوهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَوَدَّةُ وَالصِّلَةُ، أَيْ يَنْبَغِي لِمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ بَيْتٍ ثُمَّ طَلَّقَ أَلَّا يَنْسَى مَوَدَّةَ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَصِلَتَهُمْ، قَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مِنَ التَّبَاغُضِ وَالضِّرَارِ؟ ! عَلَى هَذَا السِّيَاقِ جَرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَقِفُ الذِّهْنُ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى وُجُوهِ الْخِلَافِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، يَقُولُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ الْوَلِيُّ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْعَفْوَ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ مُوَلِّيَتِهِ إِذَا هِيَ طَلَّقَتْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَلَا حَدِيثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ وَلَا مُعَامَلَةَ، وَإِنْ تَبَرَّعَ الزَّوْجُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنَ الْمَهْرِ لَا يُسَمَّى عَفْوًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى هِبَةً، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ - لَوْ أُرِيدَ الزَّوْجُ -: ((إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ تَعْفُوا أَنْتُمْ)) ، وَإِنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ لَمْ تَبْقَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيَقُولُ الذَّاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ: إِنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ لَا عُقْدَتُهُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْعَقْدِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْمَحَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ مُوَلِّيَتِهِ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَالِكَةُ الْمُتَصَرِّفَةُ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْتَ تَرَى الْجَوَابَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْآخَرُ سَهْلًا، وَالْخَطْبُ أَسْهَلُ، فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الْمَهْرِ إِلَّا أَنْ يَسْمَحَ الرَّجُلُ بِهِ كُلِّهِ، وَسَمَّى سَمَاحَهُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ عَفْوًا; لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُوقُونَ جَمِيعَ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ تَعْفُو الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَاسِطَةِ وَلِيِّهَا عَمَّا يَجِبُ لَهَا فَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ عَفَا فَعَفْوُهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ أَكْثَرُ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ الْعِبَارَةُ السَّابِقَةُ، وَيُرْوَى فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ والْبَيْهَقِيِّ.

وَقَدْ خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) جَرْيًا عَلَى السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّحْذِيرِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ; لِتَكُونَ مَقْرُونَةً بِالْمَوْعِظَةِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَبْعَثُ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَفِي التَّذْكِيرِ بِاطِّلَاعِ اللهِ تَعَالَى وَإِحَاطَةِ بَصَرِهِ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْأَزْوَاجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَرْغِيبٌ فِي الْمُحَاسَنَةِ وَالْفَضْلِ، وَتَرْهِيبٌ لِأَهْلِ الْمُخَاشَنَةِ وَالْجَهْلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا مَعْنَاهُ: مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ يَتَجَلَّى لَهُ نِسْبَةُ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَبْلَغُ حَظِّهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَأَخُصُّ الْمِصْرِيِّينَ بِالذِّكْرِ; فَإِنَّ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ فِي النِّكَاحِ وَالصَّهْرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ صَارَتْ فِي مِصْرَ أَرَثَّ وَأَضْعَفَ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ وَتَبَيَّنَ مَا يُرْجَى بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَالْمُضَارَّاتِ، وَمَا يَكِيدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، بَلْ يَجِدُهُمْ كَأَنَّهُمْ لَا شَرِيعَةَ لَهُمْ وَلَا دِينَ بَلْ آلِهَتُهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَشَرِيعَتُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ، وَأَنَّ حَالَ الْمُمَاكَسَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي السِّلَعِ هِيَ أَحْفَظُ وَأَضْبُطُ مِنْ حَالِ الزَّوَاجِ، وَأَقْوَى فِي الصِّلَةِ مِنْ رَوَابِطِ الْأَزْوَاجِ. وَسَرَدَ فِي الدَّرْسِ وَقَائِعَ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ (مِنْهَا) أَنَّ رَجُلًا هَجَرَ زَوْجَتَهُ - وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ - بِغَيْرِ ذَنْبٍ غَيْرِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ، فَكَانَ كُلَّمَا كَلَّمُوهُ فِي شَأْنِهَا قَالَ: لِتَشْتَرِ عِصْمَتَهَا مِنِّي. (وَمِنْهَا) مَا هُوَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرُّ كَالَّذِينِ يَتْرُكُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ نَفَقَاتٍ حَتَّى قَدْ يَضْطَرُّوهُنَّ إِلَى بَيْعِ أَعْرَاضِهِنَّ، وَكَالْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ بِالْقُرُوءِ يَزْعُمْنَ أَنَّ حَيْضَهُنَّ حَبْسٌ، فَتَمُرُّ السُّنُونَ وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهُنَّ بِزَعْمِهِنَّ، وَمَا الْغَرَضُ إِلَّا إِلْزَامُ الْمُطَلِّقِ النَّفَقَةَ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ انْتِقَامًا مِنْهُ، وَكَالَّذِينِ يَذَرُونَ أَزْوَاجَهُمْ كَالْمُعَلَّقَاتِ لَا يُمْسِكُونَهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يُسَرِّحُونَهُنَّ بِإِحْسَانٍ، أَوْ يَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، فَأَيْنَ اللهُ وَأَيْنَ كِتَابُ اللهِ وَشَرْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْهُ؟ إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْرِفِينَ أَهْوَاءَهُمْ يَتَّبِعُونَ.

(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) . كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَحْكَامًا بَعْضُهَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَبَعْضُهَا فِي الْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، آخِرُهَا مُعَامَلَةُ الْأَزْوَاجِ، وَرَأَيْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ كُلَّ حُكْمٍ أَوْ عِدَّةِ أَحْكَامٍ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ، وَالتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ بِحَالِ الْعَبْدِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ مِنْ نَفْخِ رُوحِ الدِّينِ فِي الْأَعْمَالِ وَإِشْرَابِهَا حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ الْقَوْلِيَّ بِمَا يَبْعَثُ عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَغْفُلُ الْمَرْءُ عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَيَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ تَذَكُّرُهُ، بِانْهِمَاكِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَا يُكَافِحُونَ مِنْ شَدَائِدِ الدُّنْيَا، أَوْ مَا يَلَذُّ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلِهَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الْمُكَافَحَاتِ، وَالْفُنُونِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ عَلَى النَّفْسِ، وَحَاكِمٌ مُسَخِّرٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، يَنْتَكِبُ بِالْمَرْءِ سَبِيلَ الْهُدَى، حَتَّى تَتَفَرَّقَ بِهِ سُبُلُ الْهَوَى، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَاجًا فِي تَأْدِيبِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِلَى مُذَكِّرٍ يُذَكِّرُهُ بِمَكَانَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ حَقِيقَتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا الْمُذَكِّرُ هُوَ الصَّلَاةُ، فَهِيَ الَّتِي تَخْلَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَتُكَثِّرُ لَهُ مُرَاقَبَتَهُ، حَتَّى تَعْلُوَ بِذَلِكَ هِمَّتُهُ، وَتَزْكُوَ نَفْسُهُ، فَتَتَرَفَّعَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَتَنَزَّهَ عَنْ دَنَاءَةِ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُحَبَّبَ إِلَيْهَا الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، بَلْ تَرْتَقِيَ فِي مَعَارِجِ الْفَضْلِ إِلَى مُسْتَوَى الِامْتِنَانِ فَتَكُونُ جَدِيرَةً بِإِقَامَةِ تِلْكَ الْحُدُودِ، وَزِيَادَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى بِإِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللهِ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَأَكْبَرُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، فَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمُصَلِّينَ، إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُحَافِظِينَ. لِهَذَا قَالَ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي وَجْهِ اخْتِيَارِ لَفْظِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحِفْظِ: إِنَّ الصِّيغَةَ عَلَى أَصْلِهَا تُفِيدُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحِفْظِ وَهِيَ هُنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَا، كَقَوْلِهِ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

(2: 152) أَوْ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ نَفْسِهَا; أَيِ: احْفَظُوهَا تَحْفَظْكُمْ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِتَنْزِيهِ نُفُوسِكُمْ عَنْهُمَا، وَمِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِكُمْ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (2: 45) . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) وَلَمْ يَقُلْ: احْفَظُوهَا; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَلَا يَظْهَرُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُفَاعَلَةَ لِلْمُشَارَكَةِ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ كَمَا يَحْفَظُهَا، إِلَّا لَوْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ حَافِظُوا الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (عَلَى الصَّلَوَاتِ) أَيِ: اجْتَهَدُوا فِي حِفْظِهَا وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا اهـ. وَلَا يُرِيدُ الْأُسْتَاذُ بِهَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُحْفَظُ مِمَّا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ (حَافِظُوا) لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّابِتِ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِي أَفْهَمُهُ فِي الْمُفَاعَلَةِ فِي الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمِنْهُ حَافَظَ عَلَيْهِ، وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَدَوَامَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ كَقَاتَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ; أَيْ: لِأَجْلِهِ، فَالْمُقَاتَلَةُ فِيهِ لِلْمُشَارَكَةِ وَلَا يَصِحُّ هُنَا، وَحِفْظُ الصَّلَاةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا كُلَّ مَرَّةٍ كَامِلَةَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ الْعَمَلِيَّةِ، كَامِلَةَ الْآدَابِ وَالْمَعَانِي الْقَلْبِيَّةِ، فَالشَّيْءُ الَّذِي يُتَعَاهَدُ بِالْحِفْظِ دَائِمًا هُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحْفُوظًا دَائِمًا. وَالصَّلَوَاتُ هِيَ الْخَمْسُ الْمَعْرُوفَةُ بِبَيَانِ مَنْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَنُقِلَتْ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ الْعَمَلِيِّ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمِيعِ الْفِرَقِ، فَهُمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَاحِدَ صَلَاةٍ مِنَ الْخَمْسِ لَا يُعَدُّ مُسْلِمًا، عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَنْبَطُوا كَوْنَهَا خَمْسًا مِنْ ذِكْرِ الْوُسْطَى فِي الْجَمْعِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْتِمَاسِ النُّكْتَةِ، وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (30: 17، 18) وَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ، وَيَقُولُونَ: سَبَّحَ الْغَدَاةَ مَثَلًا; أَيْ صَلَّى الْفَجْرَ. وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى هِيَ إِحْدَى الْخَمْسِ، وَالْوُسْطَى مُؤَنَّثُ الْأَوْسَطِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ لَهَا طَرَفَانِ مُتَسَاوِيَانِ، وَبِمَعْنَى الْأَفْضَلِ، وَبِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَالَ قَائِلُونَ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الصَّلَوَاتِ أَفْضَلُ وَأَيَّتُهَا الْمُتَوَسِّطَةُ؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَوْرَدَهَا الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) أَصَحُّهَا رِوَايَةً مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا ((شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ)) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: ((مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ)) وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَصْرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الظُّهْرُ لِأَنَّهُ شُغِلَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْهَا وَعَنِ الْعَصْرِ جَمِيعًا وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ، وَكَانَتْ تَشُقُّ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهَا تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الْحَرِّ وَالْعَمَلِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ

عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ ((كُنَّا نَعُدُّهَا الْفَجْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ)) وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ أَوَّلًا تَوَسُّطُهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدَلْوِكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (17: 78) فَقَدْ أَشَارَ فِي الْآيَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، وَجَعَلَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ مَزِيَّةً خَاصَّةً بِهَا، وَهِيَ كَوْنُ قُرْآنِهَا مَشْهُودًا، وَوَرَدَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَفِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ تَشَارِكُ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلِأَصْحَابِ الْأَقْوَالِ الْأُخْرَى فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَحَادِيثُ لَا تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ مَا وَرَدَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقِيلَ: هِيَ الْفَجْرُ، وَقِيلَ: هِيَ الظُّهْرُ كَمَا مَرَّ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَغْرِبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الصَّلَاةَ الْفُضْلَى الَّتِي ثَوَابُهَا أَكْثَرُ لِنُحَافِظَ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَوْلَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِحْدَى الْخَمْسِ لَكَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي مِنْ قَوْلِهِ: (وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى) أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْفِعْلُ، وَبِالْوُسْطَى الْفُضْلَى; أَيْ: حَافِظُوا عَلَى أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ; وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي يَحْضُرُ فِيهَا الْقَلْبُ وَتَتَوَجَّهُ بِهَا النَّفْسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَخْشَعُ لِذِكْرِهِ وَتَدَبُّرِ كَلَامِهِ، لَا صَلَاةُ الْمُرَائِينَ وَلَا الْغَافِلِينَ. وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهَا: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْفَضْلِ فِي الْفُضْلَى وَتَأْكِيدٌ لَهُ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ فِي الْقُنُوتِ مَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الضَّرَاعَةِ وَالْخُشُوعِ; أَيْ: قُومُوا مُلْتَزِمِينَ لِخَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى وَاسْتِشْعَارِ هَيْبَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَا تَكْمُلُ الصَّلَاةُ وَتَكُونُ حَقِيقِيَّةً يَنْشَأُ عَنْهَا مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مِنْ فَائِدَتِهَا إِلَّا بِهَذَا، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّفَرُّغِ مِنْ كُلِّ فِكْرٍ وَعَمَلٍ يَشْغَلُ عَنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَخُشُوعِهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. أَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحْدَثِينَ: إِنَّ لَفْظَ ((صَلَاةِ الْعَصْرِ)) فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مُدْرَجٌ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي. قَالُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِبَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ((شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ; يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ)) وَمَا قَالَهُ فِي الْقُنُوتِ هُوَ لِبَابِ الْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَوْصَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى عَشَرَةٍ، نَظَمَهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيهِ تَجِدْ مَزِيدًا ... عَلَى عَشْرِ مَعَانِي مُرْضِيَةْ دُعَاءٌ، خُشُوعٌ، وَالْعِبَادَةُ، طَاعَةٌ ... إِقَامَتُهَا إِقْرَارُنَا بِالْعُبُودِيَةْ سُكُوتٌ، صَلَاةٌ، وَالْقِيَامُ، وَطُولُهُ ... كَذَاكَ دَوَامُ الطَّاعَةِ الرَّابِحُ النِّيَةْ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مَا عَدَا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: ((كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ

(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ)) وَذَلِكَ أَنَّ الْقُنُوتَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْصِرَافِ عَنْ شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ لِدُعَائِهِ وَذِكْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّاسِ مُنَافٍ لَهُ، فَيَلْزَمُ مِنَ الْقُنُوتِ تَرْكُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: ((كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ، فَقُلْنَا - أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ - يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا فَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا)) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ هُنَا الْقُنُوتُ الْمَعْرُوفُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ إِنْ صَحَّ يُرَجَّحُ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى. الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْكُبْرَى، وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَدِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (9: 11) وَالْأَحَادِيثُ فِي مَنْطُوقِ الْآيَةِ وَمَفْهُومِهَا كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ لَا أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْمَجُوسِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاوِمُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مَا لَا يُقَاوِمُهَا سِوَاهُمْ، وَكَانَ اسْتِقْرَارُ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دُخُولِ مُشْرِكِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَكَانَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِسْلَامِ لَا فِي الدَّعْوَةِ وَحِمَايَتِهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)) وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)) صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)) وَفِي الْآثَارِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى ذَلِكَ; فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ - وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ)) . أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَزِيزَةَ، وَالْأَحَادِيثَ النَّاطِقَةَ بِالْعَزِيمَةِ، قَدْ نَالَ التَّأْوِيلُ مِنْهَا نَيْلَهُ فِي

الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَعْرَضَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ، حَتَّى كَثُرَ التَّارِكُونَ الْغَافِلُونَ وَالْمَارِقُونَ، وَقَلَّ عَدَدُ الْمُصَلِّينَ السَّاهِينَ وَنَدَرَ الْمُصَلُّونَ الْمُحَافِظُونَ؟ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُتَمَدِّنِينَ قَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عَقِيدَةً دِينِيَّةً، إِلَى كَوْنِهِ جِنْسِيَّةً سِيَاسِيَّةً، آيَةُ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ مَدْحُ كُبَرَاءِ حُكَّامِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِيمُونَ حُدُودَهُ وَلَا يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَهُ، بَلْ رَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَاسْتِبْدَالِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ بِمَا نَزَّلَ اللهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُعَدَّ الَّذِي يَلْغُو بِمَدْحِ دَوْلَتِهِ أَوْ بِذَمِّ عَدُوٍّ لَهَا مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ عَقِيدَتِهِ وَلَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا يُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَلَا يَحْفِلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِي دِفَاعِهِ يَتَحَرَّى بِهِ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ لَا تَتَبُّعِ طُرَقَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ سِيَاسَةً؟ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَتُتْلَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فَيُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنْهَا عَدَمُ إِيمَانِهِ بِهَا وَهُوَ الَّذِي قَدْ يَصِفُ نَفْسَهُ أَوْ يَصِفُهُ أَقْرَانُهُ ((بِالْمُتَمَدِّنِ وَالْمُتَنَوِّرِ)) وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْدِفُ بِهِ عَنْهَا الِاتِّكَالُ عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَالْغُرُورُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَيْهِ كَافِيَةٌ فِي نَيْلِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِي يُسَمِّي نَفْسَهُ ((مَحْسُوبًا عَلَى أَحَدِ الصَّالِحِينَ)) وَهَذَا اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ، وَلَهُمْ مِنْ مَشَايِخِ الطُّرُقِ وَغَيْرِهِمْ مَا يُمِدُّهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، وَمَا أَعْظَمَ غُرُورَ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْعَهْدَ وَيُحَافِظُ عَلَى الْوِرْدِ. نَعَمْ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةً وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ دِينًا لَا جِنْسِيَّةً، وَوَظِيفَةُ دَوْلَتِهِ أَوْ حُكُومَتِهِ إِنَّمَا هِيَ نَشْرُ دَعْوَتِهِ، وَحِفْظُ عَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ، وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، وَتَنْفِيذُ أَحْكَامِهِ فِي دَارِهِ، فَمَنْ يَنْصُرُ حُكُومَةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَنْصُرُهَا بِمُسَاعَدَتِهَا عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَمْلِ غَيْرِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَوِّمُ وَالْمُعَزِّزُ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا الدَّوْلَةُ بِالْأُمَّةِ. وَإِنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ هُمَا أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِصَلَاحِ النُّفُوسِ، وَالزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِصَلَاحِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا هُدِمَا فَلَا إِسْلَامَ فِي الدَّوْلَةِ. مَاذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالدِّينِ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَزَارِعِ؟ كَانَ مِنْ أَثَرِهِ فِي الْمُدُنِ فُشُوُّ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، تَجِدُ حَانَاتِ الْخَمْرِ وَمَوَاخِيرَ الْفُجُورِ وَالرَّقْصِ وَبُيُوتَ الْقِمَارِ غَاصَّةً بِخَاصَّةِ النَّاسِ وَعَامَّتِهِمْ حَتَّى فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، لَيَالِي الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَعَبَدَ النَّاسُ الْمَالَ، لَا يُبَالُونَ أَجَاءَ مِنْ حَرَامٍ أَمْ مِنْ حَلَالٍ، وَانْقَبَضَتِ الْأَيْدِي عَنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَانْبَسَطَتْ فِي أَفْعَالِ الشَّرِّ، وَزَالَ التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَقَلَّتِ الثِّقَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَا يَكَادُ يَثِقُ الْمُسْلِمُ إِلَّا بِالْأَجْنَبِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَقُبْحِ الْفِعَالِ فِي الْأَفْرَادِ، وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ انْحِلَالُ الرَّوَابِطِ الْمِلِّيَّةِ، بَلْ تَقَطُّعُ أَكْثَرِهَا، حَتَّى كَادَتِ الْأُمَّةُ تَخْرُجُ عَنْ

كَوْنِهَا أُمَّةً حَقِيقِيَّةً مُتَكَافِلَةً بِالْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَحْفَظُ وَحْدَتَهَا، وَطَفِقَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ((الْمُتَمَدِّنِينَ)) الَّذِينَ قَطَعُوا رَوَابِطَهَا بِأَيْدِيهمْ، يُفَكِّرُونَ فِي جَعْلِ الرَّابِطَةِ الْوَطَنِيَّةِ لِأَهْلِ كُلِّ قُطْرٍ بَدَلًا مِنَ الرَّابِطَةِ الْمِلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِأَهْلِ الْأَقْطَارِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يُفْلِحُوا، وَلَكِنَّ أَثَرَ كَلَامِهِمْ أَرْدَأَ التَّأْثِيرَ فِي مِصْرَ ; فَالْأُمَّةُ الْآنَ فِي دَوْرِ الِانْسِلَاخِ عَمَّا كَانَتْ بِهِ أُمَّةً بِسِيرَةِ سَلَفِهَا الصَّالِحِينَ، فَتَنَكَّبَهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (19: 59) وَهَذَا الِانْسِلَاخُ هُوَ الْغَيُّ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ فَاسْتِحْلَالُ جَمَاهِيرِ الْفَلَّاحِينَ لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَمَلًا لَا قَوْلًا، وَذَلِكَ بِاعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى زَرْعِ بَعْضٍ بِالْقَلْعِ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَبِالسَّرِقَةِ بَعْدَهَا، وَعَلَى بَهَائِمِهِ بِالْقَتْلِ بِالسُّمِّ أَوِ السِّلَاحِ، بَلْ بِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ، حَتَّى أَعْيَا ذَلِكَ الْحُكُومَةَ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِأَمْرِهِمْ، فَبِلَادُ الْأَرْيَافِ الْمِصْرِيَّةِ لَا أَمْنَ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ بِتَأْمِينِ الْحُكُومَةِ; لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْبَوَادِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حُكَّامٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ وَعُصْبَتِهِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَوْ حَافَظَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى لَانْتَهَوْا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَمَا يَقُولُ مُخْتَارُ بَاشَا الْغَازِيُّ، كَالْبُولِيسِ (الْمُحْتَسِبِ) الْمُلَازِمِ يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، وَأَنَّى يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَمِنْهُمُ الَّذِي كَفَرَ بِاللهِ تَقْلِيدًا، وَمِنْهُمُ الَّذِي آمَنَ تَقْلِيدًا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ عِنْدَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِينَ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّطُونَ لِمَنْ يُحْتَفَلُ بِمَوَالِدِهِمْ، أَوْ يُسَيَّبُ لَهُمُ السَّوَائِبُ مِنَ الْبَقَرِ وَغَيْرِ الْبَقَرِ، وَيُقَدَّمُ لِأَضْرِحَتِهِمُ الْهَدَايَا وَالنُّذُورُ، وَمِنْهُمُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ وَأَعْمَالِهَا الْبَدَنِيَّةِ يُؤَدُّونَهَا وَهُمْ عَنِ اللهِ سَاهُونَ، يُرَاءُونَ النَّاسَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (107: 4) وَإِنَّمَا الْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَاةِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (23: 1، 2) إِلَخْ الْآيَاتِ. الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْفُضْلَى يَنْتَهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بُيُوتِ الْقِمَارِ وَمَعَاهِدِ اللهْوِ وَالْفِسْقِ. الْمُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ الْمَاعُونَ، بَلْ يَبْذُلُ مَعُونَتَهُ وَرِفْدَهُ لِمَنْ يَرَاهُ مُسْتَحِقًّا لَهُمَا. الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يُخْلِفُ وَلَا يَلْوِي فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوِ الْتَزَمَهُ بِرًّا بِغَيْرِهِ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ. الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يُضِيعُ حُقُوقَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا حُقُوقَ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَلَا حُقُوقَ مُعَامِلِيهِ وَإِخْوَانِهِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ يُعَظِّمُ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَيَحْتَقِرُ الْبَاطِلَ وَجُنْدَهُ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِأُمَّتِهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِعُهُ النَّوَائِبُ، وَلَا تَفُلُّ غِرَارَ عَزْمِهِ الْمَصَائِبُ، وَلَا تُبْطِرُهُ النِّعَمُ، وَلَا تَقْطَعُ رَجَاءَهُ النِّقَمُ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ الْخُرَافَاتُ وَالْأَوْهَامُ، وَلَا تَطِيرُ بِهِ رِيَاحُ الْأَمَانِيِّ وَالْأَحْلَامِ، فَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ الَّذِي يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَيُرْجَى فِي النَّاسِ خَيْرُهُ، وَلَوْ أَنَّ فِينَا طَائِفَةً مِنَ الْمُصَلِّينَ الْخَاشِعِينَ لَأَقَمْنَا بِهِمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمَارِقِينَ وَالْمُرْتَابِينَ. وَلَكِنَّ الْمُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَعَ الْقُنُوتِ وَالْخُشُوعِ قَدْ صَارَ أَنْدَرَ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، وَمَنْ عَرَفَهُ لَا يُصَدِّقُ أَنَّ لِلصَّلَاةِ يَدًا فِي آدَابِهِ الْعَالِيَةِ، وَاسْتِقَامَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَأَنِّي بِبَعْضِ الْقَارِئِينَ لِمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ مَلُّوا مِنْهُ، وَرَمَوُا الْكَاتِبَ بِالْغُلُوِّ فِيهِ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) (47: 24، 25) . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ فِيهَا قَانِتِينَ مُجْتَمِعِينَ فَيَفْتِنَكُمُ الْأَعْدَاءُ بِهُجُومِهِمْ عَلَيْكُمْ، أَوْ إِنْ خِفْتُمْ أَيَّ خَطَرٍ أَوْ ضَرَرٍ مِنْ قِيَامِكُمْ قَانِتِينَ فَصَلُّوا كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَكُمْ رَاجِلِينَ أَوْ رَاكِبِينَ، فَالرِّجَالُ جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ الْمَاشِي، وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْمُحَافَظَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ حَالَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْعِرْضِ، أَوِ الْمَالِ هُوَ مَظِنَّةُ الْعُذْرِ فِي التَّرْكِ، كَمَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الصِّيَامِ، وَكَالْأَعْذَارِ الْكَثِيرَةِ لِتَرْكِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِبْدَالِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِهَا، وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ أَنَّهَا عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَإِنَّمَا فُرِضَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مُسَاعِدَةٌ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلْبِيِّ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ تَذَكُّرُ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى الْمُسْتَوْلِي عَلَيْنَا وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا أَرَادَ عَمَلًا قَلْبِيًّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَيَصِحُّ فِيهِ تَوَجُّهُ النَّفْسِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ تَعَالَى لِلصَّلَاةِ هِيَ أَفْضَلُ مُعِينٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ سُلْطَانِهِ، وَتَذَكُّرِ كَرَمِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: ((اللهُ أَكْبَرُ)) فِي فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ فِيهَا مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ يُعْطِيكَ مِنَ الشُّعُورِ بِكَوْنِ اللهِ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَشْغَلُ بِهِ نَفْسَكَ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهِ هَمَّكَ مَا يَغْمُرُ رُوحَكَ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِكَ وَإِرَادَتِكَ. وَفِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَذَكُّرِ رَحْمَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَمُعَاهَدَتِهِ عَلَى اخْتِصَاصِكَ إِيَّاهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمِنْ دُعَائِهِ: لِأَنْ يَهْدِيَكَ صِرَاطَهُ الَّذِي اسْتَقَامَ عَلَيْهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّةُ النِّعْمَةِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا فِيهَا مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَكُلُّ مَا تَقْرَؤُهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَهُ فِي النَّفْسِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْعِبَرِ الْعَظِيمَةِ، وَالْهِدَايَةِ الْقَوِيمَةِ. وَانْحِنَاؤُكَ لِلرُّكُوعِ وَلِلسُّجُودِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَوِّي فِي النَّفْسِ

مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ، وَتَذَكُّرَ، عَظْمَةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَنِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، لِمَا فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ عَلَامَةِ الْخُضُوعِ وَالْخُرُوجِ، عَنِ الْمَأْلُوفِ، وَمَا شُرِعَ فِيهِمَا مِنْ تَسْبِيحِ اللهِ، وَتَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ، وَعُلُوِّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْكَ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ عَنْكَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْقَلْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرَهَا، وَهِيَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِحْضَارُ سُلْطَانِهِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْخَوْفِ الطَّارِئِ مِنْ سَبُعٍ مُفْتَرِسٍ، أَوْ عَدُوٍّ مُغْتَالٍ، أَوْ لِصٍّ مُحْتَالٍ، وَكَيْفَ يَسْقُطُ طَلَبُ الصَّلَاةِ الْقَلْبِيَّةِ فِي حَالِ خَوْفٍ وَهُوَ يُسَاعِدُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، أَوْ تَخْفِيفِ وَقْعِهِ؟ فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَلَّا يُذْهِلَنَا عَنِ اللهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَشْغَلَنَا عَنْهُ شَاغِلٌ، وَلَا خَوْفٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: فَصَلُّوا مُشَاةً أَوْ رَاكِبِينَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَهَذَا فِي حَالَةِ الْمُلَاحَمَةِ فِي الْقِتَالِ، أَوْ مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعِ الصَّائِلِ، أَوِ الْفِرَارِ مِنَ الْأَسَدِ ; أَيْ: مُمَارَسَةِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ الصَّلَاةِ صَلَّى الْمُكَلَّفُ رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ صَلَاتِهِ الْكَرُّ، وَالْفَرُّ، وَلَا الطَّعْنُ، وَالضَّرْبُ، وَيَأْتِي مِنْ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ بِمَا يَأْتِي مَعَ الْحُضُورِ وَالذِّكْرِ، وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يَلْتَزِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَصَلَاةِ الْجُنْدِ الْمُعَسْكِرِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ جَمَاعَةً فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أَيْ: زَالَ خَوْفُكُمْ وَاطْمَأْنَنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ ; لِأَنَّهُ عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَعْبُدُونَهُ وَتُصَلُّونَ لَهُ فِي حَالِ الْخَوْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لَكُمْ عَلَى دَفْعِهِ; أَيْ: تَذَكَّرُوا نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا التَّعْلِيمِ وَاشْكُرُوهُ لَهُ، هَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْكَافَ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنِ الْكَافَ لِلْبَدَلِيَّةِ فَالْمَعْنَى: فَاذْكُرُوهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي عَلَّمَكُمْ إِيَّاهَا مِنْ قَبْلُ; أَيْ: فَصَلُّوا عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأَمْنِ بِإِتْمَامِ الْقِيَامِ، وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ - وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ - لِلْعِنَايَةِ بِهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَانَ جَدِيرًا بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (2: 45) وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ، وَقَدْ خَطَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ فِي مَزْجِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْ عَقَائِدَ، وَحِكَمٍ، وَمَوَاعِظَ، وَأَحْكَامٍ تَعَبُّدِيَّةٍ، وَمَدَنِيَّةٍ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ نَفْيُ السَّآمَةِ عَنِ الْقَارِئِ، وَالسَّامِعِ مِنْ طُولِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا، وَتَجْدِيدُ نَشَاطِهِمَا وَفَهْمِهِمَا، وَاعْتِبَارُهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إِلَخْ. فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ سَنَةً كَامِلَةً مُجَارَاةً لِعَادَاتِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ مَعَ تَخْيِيرِ الْمَرْأَةِ فِي الِاعْتِدَادِ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ، فَإِنِ اعْتَدَّتْ فِيهِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ وَحَرُمَ عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ هِيَ سَقَطَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مِيرَاثِ زَوْجِهَا إِلَّا هَذَا الْمَتَاعُ وَالنَّفَقَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) مَعْنَاهُ فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ؛ إِذْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ (وَصِيَّةً) بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ) مَعْنَاهُ: أَنْ يُمَتِّعُوا مَتَاعًا، أَوْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُوصُوا لَهُنَّ وَصِيَّةً وَلْيُمَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا إِلَى آخِرِ الْحَوْلِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لَهُنَّ مَتَاعًا. وَقَوْلُهُ: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) مَعْنَاهُ غَيْرُ مُخْرَجَاتٍ; أَيْ: يَجِبُ ذَلِكَ لَهُنَّ مُقِيمَاتٍ فِي دَارِ الْمَيِّتِ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، فَلَا يُمْنَعْنَ السُّكْنَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ مَتَاعًا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى تَمْتِيعًا، أَوْ مَعْمُولٌ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ وَصِيَّةٌ، وَمَعْنَى (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) غَيْرُ مُخْرَجَاتٍ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَالنُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ هِيَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُوصِيَ الرَّجُلُ بِعَدَمِ إِخْرَاجِ زَوْجِهِ، وَأَنْ يُنْفِذَ أَوْلِيَاؤُهُ وَصِيَّتَهُ فَلَا يُخْرِجُونَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلَوْ قَالَ: ((غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ)) لَكَانَ تَحْتِيمًا عَلَيْهِنَّ بِالْبَقَاءِ فِي الْبُيُوتِ وَلَأَفَادَ عَدَمَ جَوَازِ إِخْرَاجِهِنَّ لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ وَلِيًّا كَأَبِيهَا، وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَادٍ، فَعِبَارَةُ الْآيَةِ تُفِيدُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَلَا تُوهِمُ سِوَاهُ. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَنَةً كَامِلَةً وَأَنْ يُنْفَقَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا مُقِيمَةً فِي دَارِهِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهَا فَتَسْقُطَ نَفَقَتُهَا. قَالُوا: ثُمَّ نُسِخَتْ بِجَعْلِ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا فِي الذِّكْرِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا فِي النُّزُولِ، وَبِجَعْلِهَا وَارِثَةً لِلزَّوْجِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي الْحَدِيثِ. أَقُولُ: وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْإِصْلَاحُ لِتِلْكَ الْعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الِاعْتِدَادِ لِوَفَاةِ الزَّوْجِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْحِدَادِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ بِالتَّدْرِيجِ، فَأُقِرَّتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ مُنِعَ أَنْ تَكُونَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، ثُمَّ نُسِخَتْ بِمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِي فَرْضِ الْوَصِيَّةِ، وَطُلِبَ مَعَ هَذَا الْفَرْضِ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَلَّا يُخْرِجُوا النِّسَاءَ فِي مُدَّةِ الْحَوْلِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي هِيَ النَّفَقَةُ هُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي بَعْدَ الْعِدَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَعَشْرٌ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا التَّرَبُّصَ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَادُ كَمَا ذَكَرَ فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يَسْتَوْصِيَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُتَوَفَّى أَزْوَاجُهُنَّ خَيْرًا بِأَلَّا يُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ قُوَّةِ عَلَاقَتِهِنَّ بِهَا إِلَى مُدَّةِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ تَمُرُّ فِيهَا عَلَيْهِنَّ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي يَتَذَكَّرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فِيهَا، وَأَنْ يُجْعَلَ لَهُنَّ فِي مُدَّةِ السَّنَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُنْفِقْنَهُ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ، إِلَّا إِذَا خَرَجْنَ وَتَعَرَّضْنَ لِلزَّوَاجِ، أَوْ تَزَوَّجْنَ بَعْدَ الْعِدَّةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِهَذَا; وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَصِيَّةِ كَانَ لِلنَّدْبِ وَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهِ كَمَا تَهَاوَنُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ - أَيْ كَاسْتِئْذَانِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ عِنْدَ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ التَّهَاوُنِ بِالسِّتْرِ، قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ وَضْعِ الثِّيَابِ مِنَ الظَّهِيرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ - قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ. هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَزَيْتُ مُخَالَفَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى كَبِيرَيْنِ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمَا مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مُسْلِمٍ، أَمَّا مُجَاهِدٌ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَقُولُ: نَزَلَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آيَتَانِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (2: 234) الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ. فَيَجِبُ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ فِي دَارِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى وَالنَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ، وَإِلَّا فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَيَكُونُ لِلْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِ أَجَلٌ مُحَتَّمٌ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَجَلٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَقَدْ وَصَّوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ بِنَفَقَةِ الْحَوْلِ وَسُكْنَى الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ قَبْلَ ذَلِكَ وَخَالَفْنَ وَصِيَّةَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ أَنْ يُقِمْنَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ، فَلَا حَرَجَ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ; لِأَنَّ إِقَامَتَهُنَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، قَالَ: وَالسَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُوَصُّونَ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ; فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ زَائِلٌ.

أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَذَا فِي تَفْسِيرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ النَّسْخَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى عَدَمِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ فِي النُّزُولِ (أَيِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ إِلَخْ. وَلَعَلَّ لَفْظَ الْأَصْلِ سَقَطَ مِنَ النَّاسِخِ أَوِ الطَّابِعِ) وَإِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي النُّزُولِ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا; لِأَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ أَحْسَنُ، فَأَمَّا تَقَدُّمُ النَّاسِخِ عَلَى الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ، وَتَنْزِيهُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ تِلْكَ فِي التِّلَاوَةِ كَانَ الْأَوْلَى أَلَّا يُحْكُمَ بِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) هُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّسْخِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ كَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى، وَهَا هُنَا إِنْ خَصَّصْنَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْحَالَتَيْنِ - عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ - انْدَفَعَ النَّسْخُ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَوْلَى مِنَ الْتِزَامِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَالْكَلَامُ أَظْهَرُ; لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، فَأَنْتُمْ تُضِيفُونَ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَبُو مُسْلِمٍ يَقُولُ بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَلَهُمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: وَقَدْ أَوْصَوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، فَهُوَ يُضِيفُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فَلَيْسَ إِضْمَارُكُمْ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِهِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِضْمَارُ مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إِلَى الْآيَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّ إِضْمَارَ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِكُمْ، وَأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا النَّسْخِ الْتِزَامٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَعَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا كَلَامٌ وَاضِحٌ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً شَرْطِيَّةً فَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) فَهَذَا تَقْدِيرُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ)) اهـ. أَوْرَدْنَا كَلَامَ الرَّازِيِّ بِنَصِّهِ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْنِيدِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي يَقْتَنِعُ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُقَلِّدُونَ أَنَّ فِي أَشْهَرِ مُفَسِّرِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى مَنْ ضَعَّفَ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَرَجَّحَ عَلَيْهِ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُخَالِفَيْنِ لَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ النَّاسِخِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ هُوَ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ غَرِيبٌ مَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا تَصْحِيحُ فَهْمِهِمْ لِمِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَوِ اغْتِرَارِهِمْ بِتَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ

لَهُمَا، وَإِذَا سَهُلَ تَسْلِيمُ قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ وُجُودِ آيَتَيْنِ فِي سُورَتَيْنِ تَنْسَخُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ النَّاسِخَةِ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فَلَا يَسْهُلُ الْقَوْلُ بِأَنَّ آيَاتٍ مُتَنَاسِقَةً فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ يُجْعَلُ السَّابِقُ مِنْهَا نَاسِخًا لِمَا بَعْدَهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَنْزِيهِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُجِيزُهُ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّنْزِيهِ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى تَرْكُهُ جَائِزًا؟ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فَهُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالنَّسْخِ. بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنْ فَضَّلَهُ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَيُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ جَعْلُ (الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ تَحْضُرُهُمُ الْوَفَاةُ; كَأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِوُجُوبِهَا إِلَّا عَلَى مَنْ يَشْعُرُ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ. وَثَانِيهِمَا مَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِلْزَامِ الْمَرْأَةِ بِبَيْتِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةً كَامِلَةً، فَلَمَّا جَعَلَ الْإِسْلَامُ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُخْرِجَهَا الْوَرَثَةُ مِنَ الْبَيْتِ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ رَاغِبَةٍ فِي الزَّوَاجِ يَشُقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ الْمُتَوَقَّعِ مِنَ الزَّوْجِ الْوَفِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ الْمُعْتَادِ جَبْرًا لِقَلْبِهَا، وَأَلَّا تُكَلَّفَ النَّفَقَةَ عَلَى نَفْسِهَا مَا دَامَتْ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَوَرَثَتِهِ فِيمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ إِذَا هِيَ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ; لِأَنَّ كَفَالَتَهُمْ إِيَّاهَا تَسْقُطُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي إِكْرَامِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْفِعْلَ بِالْمَعْرُوفِ; لِأَنَّ مَنْعَهَا عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَصَّرُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ عَظِيمٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُمْكِنُ التَّقَصِّي مِنْهُ بِجَعْلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ فَاللهُ يُوصِي وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ أَنْ يُمَتَّعْنَ مَتَاعًا وَلَا يُخْرَجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِنَّ فِيمَا فَعَلْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا وَعَادَةً كَالتَّعَرُّضِ لِلْخِطَابِ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَالتَّزَوُّجِ; إِذْ لَا وِلَايَةَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَهُنَّ حَرَائِرُ لَا يُمْنَعْنَ إِلَّا مِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ، وَجَعْلُ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) (4: 11) وَقَوْلِهِ: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) (4: 12) وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَلَا يُعَارِضُ آيَةَ تَحْدِيدِ الْعِدَّةِ وَلَا آيَةَ الْمَوَارِيثِ وَلَا حَدِيثَ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) فَيَتَأَتَّى فِيهِ النَّسْخُ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لِنَدْبٍ أَوْ لِلْوُجُوبِ، وَمَا قُلْنَا إِنَّهَا لِلنَّدْبِ إِلَّا لِعَدَمِ شُيُوعِ الْعَمَلِ بِهَا كَآيَةِ اسْتِئْذَانِ الْوِلْدَانِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ إِذْ لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى جَمِيعِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ أَيُّهَا الْمُسْتَقِلُّ الْفَهْمِ الْمُعَافَى مِنْ جَهَالَةِ التَّقْلِيدِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ الْمَثَلِ السَّائِرِ: (كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ) .

وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ لِلَّهِ الْعِزَّةَ وَالْغَلَبَةَ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ تَحْوِيلِ الْأُمَمِ عَنْ عَادَاتٍ ضَارَّةٍ إِلَى سُنَنٍ نَافِعَةٍ تَقْتَضِيهَا الْحِكْمَةُ، كَتَحْوِيلِ الْعَرَبِ عَنْ عَادَاتِهِمْ فِي الْعِدَّةِ وَالْحِدَادِ بِجَعْلِ الْمَرْأَةِ أَسِيرَةً ذَلِيلَةً مَقْهُورَةً مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِكْرَامُهَا مَا دَامَتْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا بَيْنَ أَهْلِهِ، وَعَدَمُ الْحَجْرِ عَلَى حُرِّيَّتِهَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ مِنْهُ مَا دَامَتْ فِي حَظِيرَةِ الشَّرْعِ وَآدَابِ الْأُمَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهَذِهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ تُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قَالَ (الْجَلَالُ) : كَرَّرَهُ لِيَعُمَّ الْمَمْسُوسَةَ أَيْضًا إِذِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - كَعَادَتِهِ - الْقَوْلَ بِالتَّكْرَارِ، قَالَ: كَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ خَاصٌّ وَمَا هُنَا عَامٌّ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَرَدَتْ فِي نَوْعٍ مِنْهُنَّ، فَتَقَدَّمَ حُكْمُ مَنْ لَمْ تُمَسَّ وَقَدْ فُرَضَ لَهَا، وَحُكْمُ الْمَدْخُولِ بِهَا الْمَفْرُوضِ لَهَا، وَبَقِيَ حُكْمُ غَيْرِهِمَا (وَفِي الْمُذَكِّرَةِ الْمَأْخُوذَةِ فِي دَرْسِهِ: وَبَقِيَ حُكْمُ الْمَمْسُوسَةِ سَوَاءٌ فُرِضَ لَهَا أَمْ لَا) فَذَكَرَهُ هُنَا، وَلَمْ يُذْكُرْ ذَلِكَ بِالتَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَكُونُ لِكُلِّ مَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِهِ بَابٌ خَاصٌّ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَوَعْظٍ يَنْتَقِلُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ شَأْنٍ مِنْ شِئُونِهِ إِلَى آخَرَ، وَيَعُودُ إِلَى مَبَاحِثِ الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، وَالتَّنْوِيعِ فِي الْبَيَانِ، حَتَّى لَا يَمَلَّ تَالِيهِ وَسَامِعُهُ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، يُوجِزُ أَحْيَانًا بِمَا يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ، وَيُطْنِبُ فِي مَقَامٍ آخَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي الْإِطْنَابُ، وَهُوَ مُعْجِزٌ فِي إِطْنَابِهِ كَإِيجَازِهِ، لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا حَشْوَ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ فِيهِ مَقَالٌ يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَيُعِينُ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ. أَقُولُ: إِنَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعٌ. (1) مُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَهَا كُلُّ الْمَفْرُوضِ، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) (2: 229) الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) (4: 20) . (2) وَمُطَلَّقَةٌ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا وَلَا مَفْرُوضٍ لَهَا، فَيَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ بِحَسَبِ إِيسَارِ الْمُطَلِّقِ وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) (2: 236) الْآيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِآيَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِهَا اسْتِشْهَادًا. (3) وَمُطَلَّقَةٌ مَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ، وَفِيهَا قَوْلُهُ: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) (2: 237) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا أَيْضًا.

(4) وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا، قَالُوا: وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (4: 24) مَعْنَاهُ: فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسَمًّى; أَيْ: وَالْعُمْدَةُ فِي التَّقْدِيرِ مُسَاوَاتُهَا بِأَمْثَالِهَا عَلَى الْأَقَلِّ. وَلَمْ يَأْمُرْنَا تَعَالَى بِالتَّمْتِيعِ عِنْدَ ذِكْرِ نَوْعٍ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ إِلَّا غَيْرَ الْمَمْسُوسَاتِ مُطْلَقًا كَمَا فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ، أَوْ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) (2: 236) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا. ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمَسْرُودَةَ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) إِلَخْ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُطَلَّقَاتُ الْمَعْهُودَاتُ اللَّوَاتِي سَبَقَ الْأَمْرُ بِتَمْتِيعِهِنَّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (2: 236) قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ; فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفَسَّرُوا الْمُتَّقِينَ بِمُتَّقِي الْكُفْرِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُحْسِنِينَ هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فَتَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَلَا تَكْرَارَ عَلَى هَذَا مَعَ الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِتَمْتِيعِ مَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسُوقَةٌ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فِي الْإِيسَارِ، وَتِلْكَ سِيقَتْ لِبَيَانِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ طَلَّقَ مَنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا تَمْتِيعٌ حَسَنٌ بِحَسَبِ وُسْعِ الْمُطَلِّقِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ مَشْرُوعَةً لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبُقُولِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (33: 28) وَقَدْ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ الْمَهْرُ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَاجِبَةٌ لِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَنْدُوبَةٌ لِغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْتِيعَ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا هِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا يَجِبُ لِغَيْرِهَا مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ فُرِضَ لَهَا وَلَمْ تُمَسَّ، أَوِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا كَانَتْ مَمْسُوسَةً، وَحَسْبُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ تَمْتِيعَ الْمُطَلَّقَاتِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ، أَوْ هُوَ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَهْرِ يُسَمَّى مَتَاعًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةً لِسَائِرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ تُمَتَّعُ بِهِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُقَدَّرُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا نِصْفُهُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ لَهَا مَتَاعٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ; لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَأَحْوَطُ الْأَقْوَالِ وَأَوْسَطُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْمُتْعَةَ غَيْرَ الْمَهْرِ وَأَوْجَبَهَا لِمَنْ لَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا وَنَدَبَهَا لِغَيْرِهَا.

242

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ: مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ آيَاتِهِ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ مِثْلَ هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ الْحُكْمُ وَفَائِدَتُهُ وَيَقْرِنُهُ بِذِكْرِ اللهِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، لِيَعُدَّكُمْ بِذَلِكَ لِكَمَالِ الْعَقْلِ فَتَتَحَرَّوُا الِاسْتِفَادَةَ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْقِلُوا مَا تُخَاطَبُونَ بِهِ لِتَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِكُمْ، عَارِفِينَ بِانْطِبَاقِ أَحْكَامِهِ عَلَى مَصَالِحِكُمْ بِمَا فِيهَا مِنْ تَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَتَكُونُوا حَقِيقِينَ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَقْلِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْنَى فِي حَاشِيَةٍ مِنْ حَوَاشِي الدِّمَاغِ، غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فِي الذِّهْنِ، وَلَا مُؤَثِّرٍ فِي النَّفْسِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ الشَّيْءَ وَيَتَأَمَّلَهُ حَتَّى تُذْعِنَ نَفْسُهُ لِمَا أُودِعَتْ فِيهِ إِذْعَانًا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَمَلِ، فَمَنْ لَمْ يَعْقِلِ الْكَلَامَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَيِّتٌ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَيٌّ - مَيِّتٌ مِنْ عَالَمِ الْعُقَلَاءِ حَيٌّ بِالْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ - وَقَدْ فَهِمْنَا هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَلَكِنْ مَا عَقَلْنَاهَا، وَلَوْ عَقَلْنَاهَا لَمَا أَهْمَلْنَاهَا. وَأَقُولُ: أَيْنَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقَةِ الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا بِكُتُبِ الْفِقْهِ، وَهِيَ غُفْلٌ فِي الْغَالِبِ مِنْ بَيَانِ فَائِدَةِ الْأَحْكَامِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَزْجِهَا بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ؟ وَأَيْنَ أَهْلُ التَّقْلِيدِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ؟ هُوَ يَذْكُرُ لَنَا الْأَحْكَامَ بِأُسْلُوبٍ يُعِدُّنَا لِلْعَقْلِ، وَيَجْعَلُنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَهُمْ يَأْمُرُونَنَا بِأَنْ نَخِرَّ عَلَى كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَمَنْ حَاوَلَ مِنَّا الِاهْتِدَاءَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَّبَعَةِ أَقَامُوا عَلَيْهِ النَّكِيرَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ التَّبْدِيعِ وَالتَّكْفِيرِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا يُحَافِظُونَ عَلَى الدِّينِ وَمَا أَضَاعَ الدِّينَ إِلَّا هَذَا، فَإِنْ بَقِينَا عَلَى هَذِهِ التَّقَالِيدِ لَا يَبْقَى عَلَى هَذَا الدِّينِ أَحَدٌ، فَإِنَّنَا نَرَى النَّاسَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْعَقْلِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، رُجِيَ لَنَا أَنْ نُحْيِيَ دِينَنَا فَيَكُونُ دِينُ الْعَقْلِ هُوَ مَرْجِعُ الْأُمَمِ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) . (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

243

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ بَعْضِ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ لِأَجْلِ الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْوَقَائِعُ وَالْآثَارُ، كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ، فِي تَنْوِيعِ التَّذْكِيرِ وَالْبَيَانِ، بَلِ الِانْتِقَالُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَسْرُودَةً مَعَ بَيَانِ حِكْمَتِهَا، وَالتَّنْبِيهِ لِفَائِدَتِهَا، إِلَى حُكْمٍ سَبَقَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْهُ فَائِدَتُهُ، فِي ضِمْنِ وَاقِعَةٍ مَضَتْ زِيَادَةً فِي الْبَصِيرَةِ وَمُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ حُكْمُ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَتْلُوهُ حُكْمُ بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَشْخَاصِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي أَمْرٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَمِ مِنْ حَيْثُ حِفْظِ وُجُودِهَا، وَدَوَامِ اسْتِقْلَالِهَا، بِمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ عَنْهَا، وَبَذْلِ الرُّوحِ وَالْمَالِ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهَا، وَتَوْفِيرِ مَنَافِعِهَا; وَلِذَلِكَ كَانَ الْأُسْلُوبُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا، وَأَعْظَمَ تَذْكِيرًا; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي سِيَاقِ التَّذْكِيرِ بِمَنَافِعِ الشَّخْصِ وَمَصَالِحِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ كَافِيَةً لِلتَّذَكُّرِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُوعَظُ بِهِ لِمُوَافَقَةِ ذَلِكَ لِهَوَاهُ، فَلَهَا مِنَ النَّفْسِ عَوْنٌ لَا يَغِيبُ، وَوَازِعٌ لَا يُعْصَى، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَفْطُنُ لَهَا وَلَا يَرْغَبُ فِيهَا إِلَّا الْأَقَلُّونَ، فَالْعِنَايَةُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِمِقْدَارِ بُعْدِ الْجَمَاهِيرِ عَنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِبَيَانٍ أَجْلَى وَأُسْلُوبٍ أَفْعَلَ وَأَقْوَى، كَمَا سَتَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، لَا عَنِ الْقَصَّاصِينَ وَأَصْحَابِ الْأَوْهَامِ. رَوَوْا فِي قِصَّةِ (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) رِوَايَاتٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي وَلِعَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَكَلِفُوا بِتَطْبِيقِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، أَشْهَرُهَا أَبْعَدُهَا عَنِ السِّيَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَتْ قَرْيَةٌ وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ وَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَالَّذِينَ بَقُوا مَاتَ أَكْثَرُهُمْ، وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي الْمَرَضِ وَالْبَلَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَرَضِ وَالطَّاعُونِ رَجَعَ جَمِيعُ الَّذِينَ هَرَبُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَرْضَى: هَؤُلَاءِ أَحْرَصُ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا مَا صَنَعُوا لَنَجَوْنَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيًا لَنَخْرُجَنَّ كَمَا خَرَجُوا، فَوَقَعَ وَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي نَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا. فَهَلَكُوا وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ: حِزْقِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَتَفَكَّرَ فِيهِمْ; فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ ((أَتُرِيدُ أُرِيكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ)) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ نَادِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَمَّتِ الْعِظَامُ، ثُمَّ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ نَادِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا وَدَمًا، فَصَارَتْ لَحْمًا وَدَمًا، ثُمَّ نَادِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي. فَقَامَتْ، فَلَمَّا صَارُوا أَحْيَاءً قَامُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَرْيَتِهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ وَكَانَتْ أَمَارَاتُ أَنَّهُمْ مَاتُوا فِي وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ بَقُوا إِلَى أَنْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ آجَالِهِمْ.

أَقُولُ: عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ (الْجَلَالُ) مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ السُّدِّيَّ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الْكُوفِيُّ الْمُفَسِّرُ الْكَذَّابُ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ - وَلَيْسَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ التَّابِعِيُّ الَّذِي وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ - وَذَكَرَ فِي عَدَدِهِمْ أَقْوَالًا أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَكْثَرُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّهُمْ عَاشُوا دَهْرًا، عَلَيْهِمْ أَثَرُ الْمَوْتِ، لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَالْكَفَنِ، وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَسْبَاطِهِمْ! وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَنْفَرَ عَسْكَرَهُ لِلْقِتَالِ فَأَبَوْا لِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي دُعُوا إِلَى قِتَالِهَا مَوْبُوءَةٌ، فَأَمَاتَهُمُ اللهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا وَعَجَزَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ دَفْنِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَبَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ النَّتْنِ، وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِمْ وَسَيَبْقَى فِيهِمْ حَتَّى يَنْقَرِضُوا! وَقَلَّمَا نَجِدُ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُنَبِّهُ النَّاسَ لِهَذِهِ الْأَكَاذِيبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنْ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ قَوْمَهُ إِلَى الْقِتَالِ فَكَرِهُوا وَجَبُنُوا، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَكَثُرَ فِيهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ فَأَرْسَلَ اللهُ الْمَوْتَ عَلَى الْخَارِجِينَ، ثُمَّ ضَاقَ صَدْرُهُ فَدَعَا اللهَ فَأَحْيَاهُمْ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي نُبُوَّةِ حِزْقِيلَ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا نَرْوِيهِ لَكَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَتَدَبَّرْ مَا فِيهِ مِنْ حَقَائِقِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْقُرْآنِ; لِتَعْلَمَ أَنَّ حَقَائِقَ هِدَايَةِ كِتَابِ اللهِ يَتَجَلَّى مِنْهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ لِلْعَارِفِينَ بِاللهِ مَا لَمْ يَتَجَلَّ لِسِوَاهُمْ، وَأَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي لَا تَنْتَهِي هِدَايَتُهُ وَلَا تَنْفَدُ مَعَارِفُهُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ كَالْمَطَرِ قَدْ يَكُونُ فِي آخِرِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيبِ وَالْعِبْرَةِ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْعِبَارَةُ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْمَثَلِ، فَهِيَ تُوَجَّهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ (وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) ؟ فَإِنَّ حَالَهُمْ عَجِيبَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَلَّا تُجْهَلَ، فَإِنَّهُمْ فِي كَثْرَتِهِمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يَرْبَأُ بِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِمْ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ.

قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَثَلِ مَا مِثَالُهُ: وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ; أَيْ: لَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ. أَطْلَقَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدَهُمْ وَلَا أُمَّتَهُمْ وَلَا بَلَدَهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ لَنَا خَيْرًا فِي التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ لَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، فَنَأْخُذَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا نُدْخِلَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَهِيَ صَارِفَةٌ عَنِ الْعِبْرَةِ لَا مَزِيدَ كَمَالٍ فِيهَا، وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِسَائِقِ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ مُهَاجِمٍ لَا مِنْ قِلَّتِهِمْ، فَقَدْ كَانُوا أُلُوفًا; أَيْ: كَثِيرِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَذَرُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي يُوَلِّدُهُ الْجُبْنُ فِي أَنْفُسِ الْجُبَنَاءِ فَيُرِيهِمْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقِتَالِ هُوَ الْوَاقِي مِنَ الْمَوْتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا سَبَبُ الْمَوْتِ بِمَا يُمَكِّنُ الْأَعْدَاءَ مِنْ رِقَابِ أَهْلِهِ، قَالَ أَبُو الطِّيبِ: يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ... وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِ (الْجَلَالِ) إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِهَا اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ وَتَشْوِيقٍ; أَيْ: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ مُمْتَنِعٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى; وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ اسْتِفْهَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلتَّقْرِيرِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ مَا يُحْدِثُ الْعَجَبَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُوجِبُ الشَّوْقَ لَهُ إِلَى مَا يَقُصُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَخْ؟ وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بَصْرِيَّةً، وَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَعْلَمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ قَدِ انْتَهَى فِي الْوُضُوحِ وَالتَّحَقُّقِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمَرْئِيِّ. أَقُولُ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ وَاقِعَةً، بَلْ يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي الْقِصَصِ التَّمْثِيلِيَّةِ، إِذْ يُرَادُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مِثْلِهَا فِي وُضُوحِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ بِالْعَيْنَيْنِ. وَمِنْهُ مَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَبِثُمَّ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْعَطْفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا) لِلِاسْتِئْنَافِ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَبْدُوءَةَ بِالْوَاوِ هُنَا جَدِيدَةٌ لَا تُشَارِكُ مَا قَبْلَهَا فِي إِعْرَابِهِ وَلَا فِي حُكْمِهِ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمَبْدُوءَةِ بِوَاوِ الِاسْتِئْنَافِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَنَاسُبٌ وَارْتِبَاطٌ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ ارْتِبَاطِ الْعَطْفِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ هُنَا; فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الْقِتَالِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِيَةَ آمِرَةٌ بِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ حِكْمَتِهِ وَبَيَانِ وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَالِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا شَدِيدُ الْأَوَاخِي، لَا يَعْتَرِيهِ التَّرَاخِي. خَرَجُوا فَارِّينَ (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أَيْ: أَمَاتَهُمْ بِإِمْكَانِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَالْأَمْرُ أَمْرُ التَّكْوِينِ لَا أَمْرُ التَّشْرِيعِ; أَيْ: قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ يَمُوتُوا بِمَا أَتَوْهُ مِنْ سَبَبِ الْمَوْتِ، وَهُوَ تَمْكِينُ الْعَدُوِّ الْمُحَارِبِ مِنْ أَقْفَائِهِمْ بِالْفِرَارِ، فَفَتَكَ بِهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ

مَاتُوا; لِأَنَّ أَمْرَ التَّكْوِينِ عِبَارَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَوْمِ لَا فِي أَفْرَادٍ لَهُمْ خُصُوصِيَّةٌ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَجْبُنَ فَلَا تُدَافِعُ الْعَادِينَ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ مَعْرُوفٌ، فَمَعْنَى مَوْتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ نَكَّلَ بِهِمْ فَأَفْنَى قُوَّتَهُمْ، وَأَزَالَ اسْتِقْلَالَ أُمَّتِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ لَا تُعَدُّ أُمَّةً، بِأَنْ تَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَذَهَبَتْ جَامِعَتُهَا، فَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا خَاضِعِينَ لِلْغَالِبِينَ ضَائِعِينَ فِيهِمْ، مُدْغَمِينَ فِي غِمَارِهِمْ، لَا وُجُودَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ تَابِعٌ لِوُجُودِ غَيْرِهِمْ، وَمَعْنَى حَيَاتِهِمْ هُوَ عَوْدُ الِاسْتِقْلَالِ إِلَيْهِمْ; ذَلِكَ أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَلَاءِ يُصِيبُ النَّاسَ، أَنَّهُ يَكُونُ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَمُطَهِّرًا لِنُفُوسِهِمْ مِمَّا عَرَضَ لَهَا مِنْ دَنَسِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، أَشْعَرَ اللهُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْجُبْنِ وَالْخَوْفِ وَالْفَشَلِ وَالتَّخَاذُلِ بِمَا أَذَاقَهُمْ مِنْ مَرَارَتِهَا، فَجَمَعُوا كَلِمَتَهُمْ، وَوَثَّقُوا رَابِطَتَهُمْ، حَتَّى عَادَتْ لَهُمْ وَحْدَتُهُمْ قَوِيَّةً فَاعْتَزُّوا وَكَثُرُوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ، فَهَذَا مَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، يَمُوتُ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِاحْتِمَالِ الظُّلْمِ، وَيَذِلُّ الْآخَرُونَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، إِذْ لَا تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْأُمَمِ الْحَيَّةِ، مِنْ حِفْظِ سِيَاجِ الْوَحْدَةِ، وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ، بِتَكَافُلِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَمَنَعَتِهِمْ فَيَعْتَبِرُ الْبَاقُونَ فَيَنْهَضُونَ إِلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ فِعْلِ عَدُوِّهِمْ بِهِمْ كَيْفَ يَدْفَعُونَهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: ((إِنَّ بَقِيَّةَ السَّيْفِ هِيَ الْبَاقِيَةُ ; أَيِ: الَّتِي يَحْيَا بِهَا أُولَئِكَ الْمَيِّتُونَ، فَالْمَوْتُ وَالْإِحْيَاءُ وَاقِعَانِ عَلَى الْقَوْمِ فِي مَجْمُوعِهِمْ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، إِذْ خَاطَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (2: 49) وَقَوْلِهِ: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) (2: 56) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْخِطَابِ تَقْرِيرُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا، وَتَأْثِيرُ سِيرَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى كَأَنَّهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهَا كَعُضْوٍ مِنْهُ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْعُضْوُ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ بِمَا عَمِلَهُ قَبْلَ قَطْعِهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْهُودٌ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. يُقَالُ: هَجَمْنَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ حَتَّى أَفْنَيْنَاهُمْ أَوْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَكَرُّوا عَلَيْنَا - مَثَلًا - وَإِنَّمَا كَرَّ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. أَقُولُ: وَإِطْلَاقُ الْحَيَاةِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأُمَمِ، وَالْمَوْتِ عَلَى مُقَابِلِهَا مَعْهُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (8: 24) وَقَوْلِهِ: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (6: 122) الْآيَةَ. وَانْظُرْ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِلَى عَطْفِهِ الْإِخْبَارَ

بِإِحْيَائِهِمْ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي ذَلِكَ وَتَأَخُّرِهِ; وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا شَعَرَتْ بِعِلَّةِ الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِهَا وَذَهَابِهِ بِاسْتِقْلَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَدَارُكُ مَا فَاتَ إِلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَمَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ مَا يُعْطِيهِ النَّظْمُ الْبَلِيغُ وَتُؤَيِّدُهُ السُّنَنُ الْحَكِيمَةُ، وَأَمَّا الْمَوْتُ الطَّبِيعِيُّ فَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ وَمِنْ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) (44: 56) وَقَالَ: (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (40: 11) وَلِذَلِكَ أَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْمَوْتَ هُنَا بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ السَّكْتَةِ وَالْإِغْمَاءِ الشَّدِيدِ لَمْ تُفَارِقْ بِهِ الْأَرْوَاحُ أَبْدَانَهَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا قَرَّرَهُ: هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَلَا نُحَمِّلُ الْقُرْآنَ مَا لَا يَحْمِلُ لِنُطَبِّقَهُ عَلَى بَعْضِ قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَقُلْ إِنَّ أُولَئِكَ الْأُلُوفَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُمْ هَرَبُوا مِنَ الطَّاعُونِ، وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي إِيرَادِ قِصَّتِهِمْ بَيَانُ أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ; لَمَّا كَانَ لَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ إِحْيَائِهِمْ بِأَنَّ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ تَنَاسَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَثُرُوا، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ بِهِمْ حَيَّةً عَزِيزَةً; لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مُرْتَبِطَةً بِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُنَا بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ أَنْ نُقْتَلَ ثُمَّ يُحْيِينَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَبْعَثُ مُنْ قُتِلَ مِنَّا بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كَافَّةً بِمَا جُعِلَ فِي مَوْتِهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ، إِذْ جَعَلَ الْمَصَائِبَ وَالْعَظَائِمَ مُحْيِيَةً لِلْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ كَمَا جَعَلَ الْهَلَعَ وَالْجُبْنَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَفْسَدَهَا التَّرَفُ وَالسَّرَفُ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْأُمَمِ، وَجَعَلَ ضَعْفَ أُمَّةٍ مُغْرِيًا لِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ بِالْوَثَبَانِ عَلَيْهَا، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، وَجَعَلَ الِاعْتِدَاءَ مُنَبِّهًا لِلْقُوَى الْكَامِنَةِ فِي الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَمُلْجِئًا لَهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِ اللهِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ حَتَّى تَحْيَا الْأُمَمُ حَيَاةً عَزِيزَةً، وَيَظْهَرَ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا الْفَضْلُ الْعَامُّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِمَاتَةَ النَّاسِ بِمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُنَكِّلُونَ بِهَا بِمَثَابَةِ هَدْمِ الْبِنَاءِ الْقَدِيمِ الْمُتَدَاعِي وَالضَّرُورَةُ قَاضِيَةٌ بِبِنَائِهِ، فَلَا جَرَمَ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى هَذَا الْبِنَاءِ الْجَدِيدِ فَيَكُونُ حَيَاةً جَدِيدَةً لِلْأُمَّةِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُ الْأُمَمِ فَتَسُوءُ الْأَعْمَالُ، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَى فَاسِدِي الْأَخْلَاقِ النَّكَبَاتِ لِيَتَأَدَّبَ الْبَاقِي مِنْهُمْ فَيَجْتَهِدُوا فِي إِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَإِدَالَةِ الصَّلَاحِ، وَيَكُونُ مَا هَلَكَ مِنَ الْأُمَّةِ بِمَثَابَةِ الْعُضْوِ الْفَاسِدِ الْمُصَابِ ((بِالْغَنْغَرِينَا)) يَبْتُرُهُ الطَّبِيبُ لِيَسْلَمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَنْ لَا يَقْبَلْ هَذَا التَّأْدِيبَ الْإِلَهِيَّ فَإِنَّ عَدْلَ اللهِ فِي الْأَرْضِ يَمْحَقُهُ مِنْهَا (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (2: 270) فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَكَانَ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) أَيْ: لَا يَقُومُونَ بِحُقُوقِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ; أَيْ هَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي غَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِحِكْمَةِ رَبِّهِمْ، فَلَا تَكُونُوا كَذَلِكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَلِ اعْتَبِرُوا بِمَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَتَأَدَّبُوا بِهِ لِتَسْتَفِيدُوا مِنْ كُلِّ حَوَادِثِ الْكَوْنِ، حَتَّى مِمَّا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ إِذَا وَقَعَ مِنْكُمْ تَفْرِيطٌ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ

244

الْجُبْنَ عَنْ مُدَافَعَةِ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْلِيمِ الدِّيَارِ بِالْهَزِيمَةِ وَالْفِرَارِ، هُوَ الْمَوْتُ الْمَحْفُوفُ بِالْخِزْيِ وَالْعَارِ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْعَزِيزَةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْمِلِّيَّةُ الْمَحْفُوظَةُ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا تُقَصِّرُوا فِي حِمَايَةِ جَامِعَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ وَالدِّينِ. (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ: هُوَ الْقِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَتَأْمِينِ دِينِهِ وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَالدِّفَاعِ عَنْ حِزْبِهِ كَيْ لَا يُغْلَبُوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَلَا يُصَدُّوا عَنْ إِظْهَارِ أَمْرِهِمْ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِتَالِ لِأَجْلِ الدِّينِ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَعَ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَحِمَايَةِ دَعَوْتِهِ الدِّفَاعَ عَنِ الْحَوْزَةِ إِذَا هَمَّ الطَّامِعُ الْمُهَاجِمُ بِاغْتِصَابِ بِلَادِنَا وَالتَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِ أَرْضِنَا، أَوْ أَرَادَ الْعَدُوُّ الْبَاغِي إِذْلَالَنَا، وَالْعُدْوَانَ عَلَى اسْتِقْلَالِنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ فِتْنَتِنَا فِي دِينِنَا، فَهَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ نَتَحَلَّى بِحِلْيَةِ الشَّجَاعَةِ، وَنَتَسَرْبَلَ بِسَرَابِيلِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ; لِتَكُونَ حُقُوقُنَا مَحْفُوظَةً، وَحُرْمَتُنَا مَصُونَةً، لَا نُؤْخَذُ مِنْ جَانِبِ دِينِنَا، وَلَا نُغْتَالُ مِنْ جِهَةِ دُنْيَانَا، بَلْ نَبْقَى أَعِزَّاءَ الْجَانِبَيْنِ، جَدِيرِينَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَاقَ اللهُ لَنَا الْعِبْرَةَ بِحَالِهِمْ، وَذَكَّرَنَا بِسُنَّتِهِ فِي مَوْتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ قُوتِلُوا وَقُتِلُوا لِأَجْلِ الدِّينِ! فَالْقِتَالُ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ كَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الْحَقِّ كُلِّهِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَتَفْسِيرُ (الْجَلَالِ) سَبِيلَ اللهِ بِإِعْلَاءِ دِينِهِ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقٍ، وَتَخْصِيصٌ لِقَوْلٍ عَامٍّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، يَكُونُ قِتَالُهُ فَرْضَ عَيْنٍ. ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ; لِيُنَبِّهَنَا عَلَى مُرَاقَبَتِهِ فِيمَا عَسَى أَنْ نَعْتَذِرَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِنَا فِي تَقْصِيرِهَا عَنِ امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ فِي وَقْتِهِ، وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ لَهُ قَبْلَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، أَمَرَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ الْجُبَنَاءِ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: مَاذَا نَعْمَلُ؟ مَا فِي الْيَدِ حِيلَةٌ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ، لَيْسَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قَعَدْنَا هَاهُنَا، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِفْتَاحُ الْجُبْنِ، وَعِلَلُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، فَهِيَ عِنْدَ أَهْلِهَا تَعِلَّاتٌ وَأَعْذَارٌ، وَعِنْدَ اللهِ تَعَالَى ذُنُوبٌ وَأَوْزَارٌ، وَمَا كَانَ مِنْهَا حَقًّا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْبَاطِلُ - وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَأْتِيهِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْحِيَلِ وَالْمُرَاوَغَةِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْمُدَافَعَةِ، فَإِذَا عَلِمْنَا هَذَا وَحَاسَبْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، عَرَفْنَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُعْتَذِرِ بِلِسَانِهِ وَالْمُتَعَلِّلِ بِفِعَالِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ وَلِنَفْسِهِ وَقَوْمِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ نَحْوٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَهْزَأُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي إِذْ يُصَدِّقُ مَا يَعْتَادُهُ مِنَ التَّوَهُّمِ، وَهَذِهِ شِنْشَنَةُ الْمَخْذُولِينَ الَّذِينَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَخَيَّمَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءُ، تَعْمَلُ فِيهِمْ هَذِهِ الْوَسَاوِسُ مَالَا تَعْمَلُ الْحَقَائِقُ، وَقَدْ أَنْذَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ بِتَذْكِيرِنَا بِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لَا يُخَادَعُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ كَانَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوِ التَّسْلِيمِ، فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا صَحِيحًا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ، حَاسَبَ نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا، وَمَنْ حَاسَبَ

245

نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا تَجَلَّى لَهُ كُلَّ آنٍ مِنْ تَقْصِيرِهَا مَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّشْمِيرِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، فَمَنْ تَرَاهُ مُشَمِّرًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَمَنْ تَرَاهُ مُقَصِّرًا فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْرُورٌ آثِمٌ. (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) . الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ الْمُقَاتَلَةِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، لَا فَصْلَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا بَيْنَ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا كَانَتْ مُقَاتَلَةُ الْقَبَائِلِ الْبَدَوِيَّةِ لَا تُكَلِّفُ رَئِيسَهَا أَنْ يَتَوَلَّى تَجْهِيزَهَا بَلْ يُجَهِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِبَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ قَوْمِهِ، وَأَمَّا دُوَلُ الْحَضَارَةِ فَهِيَ تَحْتَاجُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُهَاجَمَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ نَفَقَاتُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ الْيَوْمَ بِارْتِقَاءِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَتَوَقُّفِ الْحَرْبِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَصِنَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا كَانَ عُرْضَةً لِسُقُوطِ دَوْلَتِهِ; لِهَذَا قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ، بِالْحَثِّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، فَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ هُنَا مَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلِي شَأْنَ الدِّينِ، وَيَصُونُ الْأُمَّةَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ عُدْوَانِ الْعَادِينَ، وَيَرْفَعُ مَكَانَتَهَا فِي الْعَالَمِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِعِبَارَةٍ تَسْتَفِزُّ النُّفُوسَ، وَأُسْلُوبٍ يَحْفِزُ الْهِمَمَ، وَيَبْسُطُ الْأَكُفَّ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ، وَالْوَجْهُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُنَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْبَذْلِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ضَعِيفَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ; إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ مَا فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ، فَاحْتِيجَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْثِيرِ. يَدْفَعُ الْغَنِيُّ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ لِأَفْرَادٍ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إِزَالَةُ أَلَمِ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمَعُوزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَمِنْهَا اتِّقَاءُ حَسَدِ الْفُقَرَاءِ وَاكْتِفَاءُ شَرِّ شِرَارِهِمْ، وَالْأَمْنُ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، وَمِنْهَا التَّلَذُّذُ بِرُؤْيَةِ يَدِهِ الْعُلْيَا، وَبِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَكَانَةِ فِي النُّفُوسِ، وَتَعْظِيمِ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ وَشُكْرِهِمْ وَحُبِّهِمْ; فَإِنَّ السَّخِيَّ مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِسَخَائِهِ وَمَنْ لَا يَنْتَفِعُ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْلُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانِ فَحَظُّ النَّفْسِ فِيهِ أَجْلَى، وَشِفَاءُ أَلَمِ النَّفْسِ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ أَلَمَ جَارِكَ وَقَرِيبِكَ أَلَمٌ لَكَ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ نَاعِمًا

بَيْنَ أَهْلِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ، سَعِيدًا بَيْنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَكُلُّ هَذِهِ حُظُوظٌ لِلنَّفْسِ فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ تُسَهِّلُ عَلَيْهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَكَّدًا. وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ مَا يُنَافِي كَوْنَهَا قُرْبَةً وَتَعَبُّدًا. وَأَمَّا الْبَذْلُ الَّذِي يُرَادُ هُنَا - وَهُوَ الْبَذْلُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَحِفْظِ حُقُوقِ أَهْلِهِ - فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُظُوظِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى النَّفْسِ مُفَارَقَةَ مَحْبُوبِهَا (الْمَالِ) إِلَّا إِذَا كَانَ تَبَرُّعًا جَهْرِيًّا يَتَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ أَوْ يُجْمَعُ بِأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُدْرِكُ شَأْوَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَأْثِيرِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَوْقِعُهَا هَذَا بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْتِ الْأُمَمِ وَحَيَاتِهَا. حَسْبُكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْبَذْلَ بِمَثَابَةِ الْإِقْرَاضِ لَهُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقْتَرِضُ الْمُحْتَاجُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَبِهِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِكْبَارِ وَالِاسْتِعْظَامِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ مَنْ ذَا الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا؟ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يُقَالُ مَنْ ذَا يَتَطَاوَلُ إِلَى الْمَلِكِ فُلَانٍ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ وَلَهُ كَذَا؟ إِذَا كَانَ عَظِيمًا أَوْ شَاقًّا يَقِلُّ مَنْ يَتَصَدَّى لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) (33: 17) ؟ الْآيَةَ، وَلَا يُقَالُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْرَبُ هَذِهِ الْكَأْسَ الْمَثْلُوجَةَ؟ - وَهَجِيرُ الصَّيْفِ مُتَّقِدٌ، وَالسَّمُومُ تَلْفَحُ الْوُجُوهَ - وَأَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِتَسْمِيَتِهِ إِقْرَاضًا وَبِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى قَالَ: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ هُوَ أَنْ تُعْطِيَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ مِثْلَهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْإِقْرَاضِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَرْضَ لَا يَضِيعُ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَافٍ فِي التَّرْغِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ هُنَا، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ مِثْلَهُ، بَلْ أَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي مَقَامٍ آخَرَ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (34: 39) وَهُوَ كَافٍ هُنَاكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ النَّاسَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ فِي التَّرْغِيبِ قَلَّمَا يَجُودُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (34: 13) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ لِذَاتِهِ، وَلَا هُوَ عَائِلٌ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ فَيَقْتَرِضُ لَهُمْ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا التَّعْبِيرِ بِالْإِقْرَاضِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ - أَيْ غَيْرِ

مَا يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ مِنَ التَّرْغِيبِ - فَمَا هَذَا الْوَجْهُ؟ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ عِيَالُ اللهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ يَقْضِيهَا الْأَغْنِيَاءُ; وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَيَّالُ اللهِ: أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْعَوْزِ إِنَّمَا كَانَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الْفَقْرِ، وَلِلْفَقْرِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ عَنِ الْكَسْبِ وَمِنْهَا إِخْفَاقُ السَّعْيِ، وَمِنْهَا الْبِطَالَةُ وَالْكَسَلُ، وَمِنْهَا الْجَهْلُ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَمِنْهَا مَا تَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ مِنْ نَحْوِ حَرَكَاتِ الرِّيَاحِ وَاضْطِرَابِ الْبِحَارِ وَاحْتِبَاسِ الْأَمْطَارِ، وَكَسَادِ التِّجَارَةِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ، وَالْأَغْنِيَاءُ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إِزَالَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ تَدَارُكِ ضَرَرِهَا وَإِضْعَافِ أَثَرِهَا، كَإِزَالَةِ الْبِطَالَةِ بِإِحْدَاثِ أَعْمَالٍ وَمَصَالِحٍ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِزَالَةِ الْجَهْلِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ - تَعْلِيمِ طُرُقِ الْكَسْبِ وَالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ - وَإِذَا كَانَ فَقَرُ الْفَقِيرِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ فَإِزَالَةُ سَبَبِ فَقْرِهِ أَوْ مُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى أَيْضًا كَمَا أَنَّ غِنَى الْغَنِيِّ كَذَلِكَ، فَالْإِنْفَاقُ لِإِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ وَمُسَاعَدَةِ مَنْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ عِيَالُهُ - إِذْ لَا غِنَى لَهُمْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ - يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَاضِ لَهُ تَعَالَى، فَالْفُقَرَاءُ عِيَالٌ، وَاللهُ يَعُولُهُمْ بِأَيْدِي الْأَغْنِيَاءِ، وَيَعُولُ الْأَغْنِيَاءَ بِتَوْفِيقِهِمْ لِأَسْبَابِ الْغِنَى. أَقُولُ: هَكَذَا وَجَّهَ الْعِبَارَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لَا مُوَاسَاةُ الْفَقِيرِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ صِحَّةَ التَّعْبِيرِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُمَا وَرَدَ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَقَامٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (64: 17) وَدَخَلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِهَا; فَإِنَّ الْقِتَالَ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَتَأْمِينِ دَعْوَتِهِ وَلِلدِّفَاعِ عَنِ الْأَنْفُسِ وَالْبِلَادِ هُوَ

مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَالْإِنْفَاقُ فِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى إِقْرَاضًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ إِقَامَةِ سُنَّتِهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وَقَدْ كُنْتُ أَزِيدُ مِثْلَ هَذَا الْبَحْثِ فِيمَا أَكْتُبُهُ وَأُسْنِدُهُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى إِجَازَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ. ثُمَّ قَالَ رَوَّحَ اللهُ رُوحَهُ مَا مِثَالُهُ: وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِالْإِقْرَاضِ الَّذِي يُشْعِرُ بِحَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ عَادَةً جَدِيرٌ بِأَنْ يَمْلِكَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَيُحِيطَ بِشُعُورِهِ وَيَسْتَغْرِقَ وِجْدَانَهُ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحَيَاءً مِنْهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَعَدَ بِرَدِّهِ مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَوَعْدُهُ الْحَقُّ؟ هَذَا التَّعْبِيرُ بِمَثَابَةِ الْهَزِّ وَالزِّلْزَالِ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَلْبٌ لَا يَلِينُ لَهُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ إِلَى الْبَذْلِ قَلْبٌ لَمْ يَمَسُّهُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ تُصِبْهُ نَفْحَةٌ مِنْ نَفَحَاتِ الرَّحْمَنِ قَلْبٌ خَاوٍ مِنَ الْخَيْرِ، فَائِضٌ بِالْخَبَثِ وَالشَّرِّ; أَيُّ لُطْفٍ مِنْ عَظِيمٍ يُدَانِي هَذَا اللُّطْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ؟ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، الْغَنِيِّ عَنِ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الْمُقَلِّبِ لِقُلُوبِ الْعَبِيدِ، يُرْشِدُ عِبَادَهُ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلٍ مِنَ الْمَالِ وَاخْتَصَّهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمْ بِمَا فِيهِ سَعَادَةٌ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُ حَالِهِمْ، وَحِفْظُ شَرَفِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ، فَيُبَرِّرُ هَذَا الْهُدَى وَالْإِرْشَادَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ دُونَ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْإِلْزَامِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ مُقْتَرِضًا لِيَشْعُرَ قَلْبُ الْغَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَاجَةِ الَّتِي رُبَّمَا تُصِيبُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ هُوَ يَعِدُهُ بِمُضَاعَفَةِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ، أَيَكُونُ هَذَا اللُّطْفُ كُلُّهُ مِنْهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي غَمَرَهُ بِنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَجْمُدُ قَلْبُ هَذَا الْعَبْدِ وَتَنْقَبِضُ يَدُهُ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ، وَلَا يَثِقُ بِوَعْدِهِ، وَيُقَالُ مَعَ هَذَا: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ وَبِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِهِ؟ كَلَّا. مَثِّلْ فِي نَفْسِكَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ إِعَانَةً لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ خَاطَبَكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فِي التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِعْطَافِ، وَمَثِّلْ فِي خَيَالِكَ مَوْقِعَ قَوْلِهِ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَثَرَ كَلَامِهِ فِي يَدَيْكَ. أَمَّا كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا حَلَّ مَحَلَّهُ وَوَافَقَ الْمَصْلَحَةَ، لَا مَا وُضِعَ مَوْضِعَ الْفَخْفَخَةِ وَقُصِدَ بِهِ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، نَعَمْ إِنَّ مَا أُنْفِقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ حَسَنٌ - وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشُّهْرَةُ - وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى إِيمَانِ الْمُنْفِقِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ وَابْتِغَائِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَا عَلَى حُبِّهِ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ لِارْتِقَاءِ نَفْسِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ بِمَا اسْتَفَادَ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ وَحُسْنِ التَّهْذِيبِ،

فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَفَقَتِهِ يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ زُلْفَى، بَلْ يَكُونُ كُلُّ جَزَائِهِ تِلْكَ السُّمْعَةَ الْحَسَنَةَ ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْفِقُ فِي الْمَصَالِحِ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ تُرِيهِ مَوَاطِنَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفَقَتِهِ، فَيَبْنِي مَسْجِدًا حَيْثُ تَكْثُرُ الْمَسَاجِدُ; فَيَكُونُ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ تَفَرُّقِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَلَا يُحْسِنُ اخْتِيَارَ الْمُعَلِّمِينَ لَهَا، أَوْ يَفْرِضُ لَهَا مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَا يَكْفِي لِدَوَامِهَا، فَيُسْرِعُ إِلَيْهَا الْخَرَابُ، أَوْ يَضَعُ فِيهَا مُعَلِّمِينَ فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ أَوِ الْآدَابِ. فَيُفْسِدُونَ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقَالُ لَهُ قَرْضٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْفَاقُ قَرْضًا حَسَنًا مُسْتَحِقًّا لِلْمُضَاعَفَةِ الْكَثِيرَةِ إِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ مَعَ الْبَصِيرَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ; لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْفَعَةِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ - وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى بُلُوغُهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْمُرَادُ الْكَثْرَةُ - فَهِيَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَلِتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ وَلِلْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَمُعَزِّزًا لَهَا وَحَافِظًا لِحُقُوقِهَا; لِأَنَّ اعْتِدَاءَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَفْرَادِهَا، فَضَعْفُ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالُهَا وَضَيَاعُ حُقُوقِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَقَعُ عَلَى أَفْرَادِهَا وَهُوَ مِنْهُمْ، وَالْبَلَاءُ يَكُونُ عَامًّا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَبْذُلُ أَغْنِيَاؤُهَا الْمَالَ وَتَقُومُ بِفَرِيضَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَيَكْفُلُ غَنِيُّهَا فَقِيرَهَا، وَيَحْمِي قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا، تَتَّسِعُ دَائِرَةُ مَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَكْثُرُ مَرَافِقُهَا وَتَتَوَفَّرُ سَعَادَتُهَا، وَتَدُومُ عَلَى أَفْرَادِهَا النِّعْمَةُ، مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِيهَا. وَأَقُولُ: لَوْ سِرْنَا فِي الْأَرْضِ وَسَبَرْنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ وَعَرَفْنَا تَارِيخَ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ لَرَأْينَا كَيْفَ مَاتَتِ الْأُمَمُ الَّتِي قَصَّرَتْ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ أَوِ اسْتُعْبِدَتْ، وَكَيْفَ عَزَّتِ الْأُمَمُ الَّتِي شَمَّرَتْ فِيهَا وَسَعِدَتْ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَقَامَتْ هَذِهِ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهَا، وَإِعْزَازِ سُلْطَانِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُنْفِقُونَ فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَإِنَّهَا لَمُضَاعَفَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهَا، فَمَا أَجْهَلَ الْأُمَمَ الْغَافِلَةَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِ أَهْلِهَا إِذْ يَرَوْنَ أَهْلَهَا قَدْ وَرِثُوا الْأَرْضَ وَسَادُوا الشُّعُوبَ فَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَلَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ! وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ أَجْهَلَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَلَا تَتَحَرَّكُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا تَنْبَسِطُ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ الْحَاثَّةِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا

مُتَصَدِّعًا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، عَمِلَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَوْمٌ فَسَعِدُوا، وَتَرَكَهَا آخَرُونَ فَشَقُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ الْأَوَّلِينَ قَصَدُ مَرْضَاةِ اللهِ بِإِقَامَةِ سُنَّتِهِ فَحُرِمُوا ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَقَدْ خَسِرَ الْآخِرُونَ بِتَرْكِهَا السَّعَادَتَيْنِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((الْقَرْضُ الْحَسَنُ: الْمُجَاهَدَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُضَاعَفَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (فَيُضَاعِفُهُ) بِالضَّمِّ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (فَيُضَعِّفُهُ) بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَابْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ وَالتَّضْعِيفِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّكْرَارِ. قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (يَبْصُطُ) بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ، كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَفْخِيمُ السِّينِ لِمُجَاوِرَةِ الطَّاءِ، يَقْبِضُ الرِّزْقَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَجْهَلُونَ طُرُقَهُ الَّتِي هِيَ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يَضْعُفُونَ فِي سُلُوكِهَا، وَيَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَيَفْتَحُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُغْنِيَ فَقِيرًا وَيُفْقِرَ غَنِيًّا لَفَعَلَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ وَبِيَدِهِ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَهُوَ وَاضِعُ السُّنَنِ الْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْمُوَفِّقُ لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ حَضُّهُ الْأَغْنِيَاءَ عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ مِنْ حَاجَةٍ بِهِ أَوْ عَجْزٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَلَّا، بَلْ هِيَ هِدَايَتُهُ الْإِنْسَانَ إِلَى طَرِيقِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِمَا يَحْفَظُهَا وَيُفْضِي إِلَى الْمَزِيدِ فِيهَا، حَتَّى يَبْلُغَ كَمَالَهُ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْأَيْدِي عَنِ الْبَذْلِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا بِالْفَضْلِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَظْهَرُ بَعْدَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى عَمَلٍ لَنَا فِيهِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ، لَا عَلَى مَا تُصَرِّفُهُ الْأَقْدَارُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا التَّعْقِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. أَقُولُ يُرِيدُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا عِقَابَ الدُّنْيَا فَهُوَ أَظْهَرُ; لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ، إِذْ لَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ عَزِيزَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ بَذْلَ أَغْنِيَائِهَا الْمَالَ لِنَشْرِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ، وَتَعَاوُنِ أَفْرَادِهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا هِيَ أَسْبَابُ عِزَّتِهَا وَرِفْعَتِهَا، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ ذَلِيلَةٍ مَقْهُورَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ أَغْنِيَاءَهَا مُمْسِكِينَ وَأَفْرَادَهَا غَيْرَ مُتَعَاوِنِينَ، فَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) إِلَخْ. بَيَانٌ لِطَرِيقِ الْمُضَاعَفَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَذْكِيرٌ بِاللهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ وَبِمَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ; أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَدْ عَهِدْنَا فِي الْقُرْآنِ خَتْمَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَاتِهِ.

246

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى رُجُوعَانِ: - رُجُوعٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَى سُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ وَنِظَامِ خَلِيقَتِهِ الثَّابِتِ كَكَوْنِ تَحْصِيلِ الْغَنِيِّ يَكُونُ بِكَذَا مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ وَكَذَا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، وَكَوْنِ الْفَقْرِ يَكُونُ بِكَذَا وَكَذَا مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَكَوْنِ الْبَذْلِ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ يَأْتِي بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْخَاصَّةِ بِالْبَاذِلِ وَالْعَامَّةِ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ يَعْتَزُّ بِعِزَّتِهِمْ وَيَسْعَدُ بِسَعَادَتِهِمْ، وَكَوْنِ تَرْكِ الْبَذْلِ يَأْتِي بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَلَا يَسْتَقِلُّ الْإِنْسَانُ بِعَمَلٍ مِنْ ذَلِكَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْحَاجَةِ إِلَى مَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ لَهُ. أَقُولُ: وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِهِ يَتِمُّ بِكَسْبِهِ وَسَعْيِهِ وَجِدِّهُ لَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِ; لِأَنَّهُ مَا عَمِلَ وَلَا وَصَلَ إِلَّا بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ اللهِ تَعَالَى إِنْ قَدَّرَ أَنْ يُغَيِّرَ سُنَنَهُ وَنِظَامَ خَلْقِهِ وَيَنْفُذَ بِعَمَلِهِ مِنْ مُحِيطِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (55: 33، 34) . قَالَ: وَأَمَّا الرُّجُوعُ الْآخِرُ فَهُوَ الرُّجُوعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حَيْثُ تَظْهَرُ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ وَآثَارُهَا (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (83: 19) . (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .

تَمْهِيدٌ فِي نِسْبَةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّارِيخِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَبَيَانُ حَالِ الْأُمَمِ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ. بَدَأَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمُقَدَّمَةٍ فِي قِصَصِ الْقُرْآنِ جَعَلَهَا كَالتَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ إِيضَاحٍ: تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (2: 243) الْآيَةَ. أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْ أُولَئِكَ الْقَوْمَ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ كَانُوا فِيهِمَا (يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ لَا ضَرْبُ مَثَلٍ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ) ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا قِصَّةً أُخْرَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَيَّنَ الْقَوْمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ حَدَثَتْ فِيهِمَا الْقِصَّةُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ وَدَاوُدَ. يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْآنَ - كَمَا ظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ - أَنَّ الْقِصَصَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّصَارَى بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَوْ كُتُبِ التَّارِيخِ الْقَدِيمَةِ، وَلَيْسَ الْقُرْآنُ تَارِيخًا وَلَا قَصَصًا وَإِنَّمَا هُوَ هِدَايَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، فَلَا يَذْكُرُ قِصَّةً لِبَيَانِ تَارِيخِ حُدُوثِهَا، وَلَا لِأَجْلِ التَّفَكُّهِ بِهَا أَوِ الْإِحَاطَةِ بِتَفْصِيلِهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ كَمَا قَالَ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (12: 111) وَبَيَانُ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (3: 137) وَقَالَ: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (40: 85) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْحَوَادِثُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْهَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَذْكُرُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ مَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، فَيَكْتَفِي مِنَ الْقِصَّةِ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَمَحَلِّ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَأْتِي بِهَا مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَزِيدُ فِي الْعِبْرَةِ بَلْ رُبَّمَا تُشْغَلُ عَنْهَا، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي يَعِظُنَا اللهُ بِهَا وَيُعَلِّمُنَا سُنَنَهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ وَلَمْ يُدَوَّنْ بِالْكِتَابِ. وَقَدِ اهْتَدَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ الرَّاقِينَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَذَا، فَصَارَ أَهْلُ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ مِنْهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ وَقَائِعِ التَّارِيخِ مَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ الْأَحْكَامَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَهُوَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ، وَلَا يَحْفِلُونَ بِالْجُزْئِيَّاتِ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِالثِّقَةِ، وَلِمَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الزَّمَنِ وَالْإِضَاعَةِ لِلْعُمُرِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ تُوَازِيهِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْكِنُ إِيدَاعُ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الْعَالَمِ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ يُوثَقُ بِهِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالطَّعْنِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَسْتَقْصِي الْوَقَائِعَ الْجُزْئِيَّةَ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا. إِنَّ مُحَاوَلَةَ جَعْلِ قَصَصِ الْقُرْآنِ كَكُتُبِ التَّارِيخِ بِإِدْخَالِ مَا يَرْوُونَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لَهَا هِيَ مُخَالَفَةٌ لِسُنَّتِهِ، وَصَرْفٌ لِلْقُلُوبِ عَنْ مَوْعِظَتِهِ، وَإِضَاعَةٌ لِمَقْصِدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَفْهَمَ

مَا فِيهِ، وَنُعْمِلَ أَفْكَارَنَا فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ مِنْهُ، وَنَزْعِ نُفُوسِنَا عَمَّا ذَمَّهُ وَقَبَّحَهُ، وَنَحْمِلَهَا عَلَى التَّحَلِّي بِمَا اسْتَحْسَنَهُ وَمَدَحَهُ، وَإِذَا وَرَدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوِ الْمُؤَرِّخِينَ مَا يُخَالِفُ بَعْضَ هَذِهِ الْقِصَصِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ وَنُقِلَ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ هُوَ الْحَقُّ وَخَبَرُهُ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَنَاقِلُهُ مُخْطِئٌ أَوْ كَاذِبٌ، فَلَا نَعُدُّهُ شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا نُكَلِّفُ أَنْفُسَنَا الْجَوَابَ عَنْهُ، فَإِنَّ حَالَ التَّارِيخِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ مُشْتَبِهَةَ الْأَعْلَامِ حَالِكَةَ الظَّلَامِ، فَلَا رِوَايَةَ يُوثَقُ بِهَا لِلْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِسِيرَةِ رِجَالِ سَنَدِهَا، وَلَا تَوَاتُرَ يُعْتَدُّ بِهِ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ الْعَالَمُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَكَانَ بِدَايَةَ تَارِيخٍ جَدِيدٍ لِلْبَشَرِ، كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ - لَوْ أَنْصَفُوا - أَنْ يُؤَرِّخُوا بِهِ أَجْمَعِينَ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ شُئُونِ الْأُمَمِ وَسِيَرِ الْعَالَمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْطَمِسْ وَلَمْ تَذْهَبِ الثِّقَةُ بِهِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ سَنَدُ رُوَاتِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَالِ: أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ الْبَشَرَ بِهِدَايَةٍ جَدِيدَةٍ كَامِلَةٍ، كَانُوا قَدِ اسْتَعَدُّوا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي هُوَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، فَكَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي حِفْظِ الْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ الْعِنَايَةُ التَّامَّةُ بِالرِّوَايَةِ مَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَمَا لَا يُقْبَلُ; وَلِذَلِكَ أَلَّفُوا الْكُتُبَ فِي تَارِيخِ الرُّوَاةِ لِتُعْرَفَ سِيرَتُهُمْ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ مِنْهُمْ، وَتُعْرَفَ الرِّوَايَةُ الْمُتَّصِلَةُ وَالْمُنْقَطِعَةُ، وَبَحَثُوا فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ مَتَى يُوثَقُ بِنِسْبَتِهَا إِلَى مُؤَلِّفِيهَا، وَبَيَّنُوا حَقِيقَةَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِرُ مِنْ رِوَايَاتِ الْآحَادِ، فَبِهَذِهِ الْعِنَايَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ سَنَدٌ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّ الْعِنَايَةَ بِعُلُومِ الدِّينِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا كَانَتْ أَتَمَّ، ثُمَّ كَانَ شَأْنُ مَنْ قَفَّى عَلَى آثَارِهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بَعْدَ ضَعْفِ حَضَارَتِهِمْ عَلَى نَحْوٍ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي التَّصْنِيفِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي ضَبْطِ الرِّوَايَةِ وَنَقْدِهَا وَالْأَمَانَةِ فِيهَا، فَلَمْ يَضِعْ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَلَا مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الَّتِي جَرَتَ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَمَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ وَالْمُصَنِّفُونَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ يَسْهُلُ تَصْفِيَتُهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَأَخْذُ الْمُصَفَّى مِنْهُ; لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ بِهِ، وَعِرْفَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُ جَرْيًا عَلَى هَدْيِ الْقُرْآنِ فِيهِ. لَقَدْ وَصَلَ الرَّاقُونَ فِي مَدَارِجِ الْعُمْرَانِ الْيَوْمَ إِلَى دَرَجَةٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنْ ضَبْطِ جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْهُلُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، كَاسْتِخْدَامِ الْكَهْرَبَاءِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ لِمَنْ يُدَوِّنُهَا فِي الصُّحُفِ، وَتَصْوِيرِ الْوَقَائِعِ وَالْمَعَاهِدِ بِمَا يُسَمُّونَهُ التَّصْوِيرَ الشَّمْسِيَّ (فُوتُغْرَافِيَا) وَسُهُولَةِ الِانْتِقَالِ - عَلَى الْكَاتِبِينَ - مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَأْمِينِ الْحُكَّامِ لَهُمْ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنْ هَذِهِ الْوَسَائِلِ فِي الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ بَيْنَ دَوْلَتَيِ الْيَابَانِ وَرُوسْيَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِمُدَوِّنِي التَّارِيخِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوبِ وَلَا غَيْرِ الْحُرُوبِ مِنْ حَوَادِثِ الزَّمَانِ. قَدْ كَانَ لِأَشْهَرِ الْجَرَائِدِ الْغَرْبِيَّةِ مُكَاتِبُونَ فِي مَوَاقِعِ الْحَرْبِ يَتَبَارَوْنَ فِي السَّبْقِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْحَوَادِثِ

وَإِيصَالِهَا إِلَى جَرَائِدِهِمْ، كَمَا تَفْعَلُ شَرِكَاتُ الْبَرْقِيَّاتِ (التِّلِغْرَافَاتِ) فِي إِنْبَاءِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيهَا، وَكُنَّا نَرَى وَسَائِلَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْعِلْمُ بِالْحَقِيقَةِ، وَكَمْ مِنْ رِسَالَةٍ لِلشَّرِكَاتِ الْبَرْقِيَّةِ وَلِمُكَاتِبِي الْجَرَائِدِ كَانَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فَتَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ كَذِبُهَا. فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الثِّقَةِ بِجُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي عَصْرِنَا وَيُعْنَى الْمُؤَرِّخُونَ أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِضَبْطِهَا، إِلَّا مَا يَبْلُغُ رُوَاتُهُ الْمُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ وَقَلِيلٌ مَا هُوَ، فَمَا بَالُكَ بِمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ؟ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِ الَّذِينَ خَلَوْا هِيَ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ، وَمَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ فِي تِلْكَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُمِّيَّةِ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا بِفِكْرِهِ وَقَدْ جَهِلَهَا الْحُكَمَاءُ فِي عَصْرِهِ وَقَبْلَ عَصْرِهِ، وَلَكِنَّهَا هِدَايَةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَوْحَاهَا إِلَى صَفْوَتِهِ مِنْهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (7: 43) فَعَلَيْنَا وَقَدْ ظَهَرَتِ الْآيَةُ وَوَضَحَتِ السَّبِيلُ أَلَّا نَلْتَفِتَ إِلَى رِوَايَاتِ الْغَابِرِينَ فِي تِلْكَ الْقِصَصِ، وَلَا نَعُدَّ مُخَالَفَتَهَا لِلْقُرْآنِ شُبْهَةً نُبَالِي بِكَشْفِهَا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَوَّحَ اللهُ رُوحَهُ فِي مَقَامِ الرِّضْوَانِ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ قِصَصَ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ الَّتِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا (الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ) هِيَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ شَهِدَ لَهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ تُعَارِضُ بَعْضَ قِصَصِهِ. (قُلْنَا) أَوَّلًا: إِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ. ثَانِيًا: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أَثْبَتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ قَدْ حَفِظُوا مِنْهَا نَصِيبًا وَنَسُوا نَصِيبًا، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا النَّصِيبَ الَّذِي أُوتُوهُ، وَأَنَّهُ أَعْطَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِنْجِيلَ - وَهُوَ مَوَاعِظُ وَبِشَارَةٌ - وَقَالَ فِي أَتْبَاعِهِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْيَهُودِ: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (5: 14) . وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَعْرَافِ بِالنُّقُولِ مِنْ تَارِيخِ الْفَرِيقَيْنِ. بَعْدَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا نَزَلَتْ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْحَقِّ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، سَبِيلِ اللهِ

لِعِزَّةِ الْأُمَمِ وَمَنَعَتِهَا وَحَيَاتِهَا الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَقَعُ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهَا مِنَ الْأَقْوَامِ فِي الْهَلَاكِ وَالْمَوْتِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَارِّينَ مِنْ عَدُوِّهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ - قِصَّةُ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - تُؤَيِّدُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَاجَةِ الْأُمَمِ إِلَى دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا، فَهِيَ تُمَثِّلُ لَنَا حَالَ قَوْمٍ لَهُمْ نَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُمْ شَرِيعَةٌ تَهْدِيهِمْ إِذَا اسْتَهْدَوْا، وَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ بِالْقَهْرِ - كَمَا خَرَجَ أَصْحَابُ الْقِصَّةِ الْأَوْلَى بِالْجُبْنِ - فَعَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ ضَرُورَةٌ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِهَا مَا دَامَ الْعُدْوَانُ فِي الْبَشَرِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ جَبُنُوا وَضَعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ فَاسْتَحَقُّوا الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْمُفَصِّلَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمُجْمَلَةِ: فَرَّ أُولَئِكَ مِنْ دِيَارِهِمْ فَمَاتُوا بِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى دِيَارِهِمْ. فَالْآيَةُ هُنَاكَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَوْتَهُمْ هَذَا سَبَبٌ عَنْ خُرُوجِهِمْ فَارِّينَ بِجُبْنِهِمْ، وَلَمْ تُصَرِّحْ بِسَبَبِ إِحْيَائِهِمُ الَّذِي تَرَاخَتْ مُدَّتُهُ، وَلَكِنْ مَا جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَبَذْلِ الْمَالِ الَّذِي يُضَاعِفُهُ اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً قَدْ هَدَانَا إِلَى سُنَّتِهِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ تُمَثِّلُ الْعِبْرَةَ فِيهِ، وَتُفَصِّلُ كَيْفِيَّةَ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ; إِذْ بَيَّنَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ احْتَاجُوا إِلَى مُدَافَعَةِ الْعَادِينَ عَلَيْهِمْ وَاسْتِرْجَاعِ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَاشْتَدَّ الشُّعُورُ بِالْحَاجَةِ حَتَّى طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمُ الزَّعِيمِ الَّذِي يَقُودُهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِلَادِ، وَقَامُوا بِمَا قَامُوا بِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَبْلَغًا لَمْ تَنْفَعْ مَعَهُ تِلْكَ الْعُدَّةُ، فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا، وَأُلْهِمُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ رُشْدَهُمْ وَاعْتَبَرُوا فَانْتَصَرُوا. قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ، وَالْمَلَأُ: الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لِلتَّشَاوُرِ، لَا وَاحِدَ لَهُ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ، سُمُّوا مَلَأً لِأَنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رِوَاءَ الْقُلُوبِ هَيْبَةً (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وَهَذَا النَّبِيُّ لَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ، وَقَالَ (الْجَلَالُ) : هُوَ شَمْوِيلُ، وَهَذَا أَقْوَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُعَرَّبُ صَمْوِيلَ، أَوْ صَمْوَئِيل، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُوشَعُ، وَهَذَا مِنَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ; فَإِنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَالْقِصَّةُ حَدَثَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَالزَّمَنُ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ، وَبَعْثُ الْمَلِكِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقَامَتِهِ وَتَوْلِيَتِهِ عَلَيْهِمْ (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ (عَسِيتُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْمَعْنَى هَلْ قَارَبْتُمْ أَنْ تُحْجِمُوا عَنِ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا أَتَوَقَّعُ - أَوْ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمُ الْجُبْنَ عَنِ الْقِتَالِ إِنْ هُوَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ؟ فَعَسَى لِلْمُقَارَبَةِ أَوْ لِلتَّوَقُّعِ (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

أَيْ: أَيُّ دَاعٍ لَنَا يَدْعُونَا إِلَى أَلَّا نُقَاتِلَ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَهُوَ إِخْرَاجُنَا مِنْ دِيَارِنَا بِإِجْلَاءِ الْعَدُوِّ إِيَّانَا عَنْهَا، وَإِفْرَادِنَا عَنْ أَوْلَادِنَا بِسَبْيِهِ إِيَّاهُمْ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهُمْ؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا قَهَرَهَا الْعَدُوُّ وَنَكَّلَ بِهَا يَفْسُدُ بَأْسُهَا، وَيَغْلِبُ عَلَيْهَاالْجُبْنُ وَالْمَهَانَةُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِحْيَاءَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي خِيَارِهَا - وَهُمُ الْأَقَلُّونَ - فَيَعْمَلُونَ مَا لَا يَعْمَلُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَمَا هُوَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اسْتَعَدَّ مِنْهُمْ لِلْحَيَاةِ إِلَّا الْقَلِيلُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا وَتَضْعُفُ، قَدْ تُفَكِّرُ فِي الْمُدَافَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَعْزِمُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا إِذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُهَا الَّتِي يَتَخَيَّلُونَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَّالَا ثُمَّ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ يَضْعُفُونَ وَيَجْبُنُونَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ لِيَعْذُرُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَا هُمْ بِمَعْذُورِينَ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ بِتَرْكِ الْجِهَادِ دِفَاعًا عَنْهَا وَحِفْظًا لِحَقِّهَا، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا أَذِلَّاءَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ أَشْقِيَاءَ مُعَذَّبِينَ. أَقُولُ: وَفِي تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُفِيدُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ صَمْوَئِيل نَبِيًّا مُلْهَمًا قَدِ انْحَرَفُوا عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى وَنَسُوهَا، فَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَضَعُفَتْ رَابِطَتُهُمُ الْمِلِّيَّةُ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ فَحَارَبُوهُمْ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فَانْكَسَرُوا، وَسَقَطَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَأَخَذُوا تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ مِنْهُمْ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَفْتِحُونَ - أَيْ: يَسْتَنْصِرُونَ وَيَطْلُبُونَ الْفَتْحَ - بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَمَّا أَخَذَهُ أَهْلُ فِلَسْطِينَ انْكَسَرَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْهَضْ هِمَّتُهُمْ لِاسْتِرْدَادِهِ، وَكَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا مُلُوكَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ رُؤَسَاؤُهُمُ الْقُضَاةَ بِالشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَمِنْهُمْ صَمْوَئِيل كَانَ قَاضِيًا، فَلَمَّا شَاخَ جَعَلَ بَنِيهِ قُضَاةً وَكَانَ وَلَدُهُ الْبِكْرُ وَوَلَدُهُ الثَّانِي مِنْ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَأَكَلَةِ الرِّشْوَةِ، فَاجْتَمَعَ كُلُّ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَلَأِ - وَطَلَبُوا مِنْ صَمْوَئِيلَ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَلِكًا يَحْكُمُ فِيهِمْ كَسَائِرِ الشُّعُوبِ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ ظُلْمَ الْمُلُوكِ وَاسْتِعْبَادَهُمْ لِلْأُمَمِ، فَأَلَحُّوا فَأَلْهَمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ شَاوِلُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)

247

الظَّاهِرُ أَنَّ طَالُوتَ تَعْرِيبٌ لِشَاوِلَ - وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ فِي اللَّفْظِ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَقَبٌ لَهُ مِنَ الطُّولِ، كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمُلْكِ وَأَمْثَالِهَا; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَوِيلًا مُشَذَّبًا، فَفِي سِفْرِ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ مِنَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ ((مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ كَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ)) وَفِيهِ ((فَوَقَفَ بَيْنَ الشَّعْبِ فَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ)) - وَاعْتَرَضَ بِمَنْعِ صَرْفِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ طَالُوتَ: هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ ((شَاوِلَ)) وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ طَالُوتَ فَهُوَ طَالُوتُ، أَيْ أَنَّنَا لَا نَعْبَأُ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا عَلِمَ الْقَارِئُ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَ سِفْرَيْ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَنْ هُوَ، وَلَا فِي أَيِّ زَمَنٍ كُتِبَا، فَإِنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَلَّا يُعْتَدَّ بِتَسْمِيَتِهِمْ، وَأَمَّا اسْتِنْكَارُهُمْ جَعْلَهُ مَلِكًا فَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَقَرَهُ، وَلَكِنَّ أَخْبَارَهُمْ لَا تَتَّصِلُ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا تُقْرَنُ بِعِلَلِهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي اسْتِنْكَارِهِمْ لِمُلْكِهِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ لَا مِنْ بَيْتِ يَهُوذَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمُلْكِ، وَلَا مِنْ بَيْتِ لَاوِي، وَهُوَ بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَقَالُوا: كَانَ رَاعِيًا أَوْ دَبَّاغًا أَوْ سَقَّاءً، وَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُمْ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ قَبْلَهُ، وَنَفْيُهُمْ سَعَةَ الْمَالِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِلْمُلْكِ فِي رَأْيِ الْقَائِلِينَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَإِنَّمَا الْعَبْرَةُ فِي الْعِبَارَةِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْمُلْكِ، أَوْ ذَا نَسَبٍ عَظِيمٍ يَسْهُلُ عَلَى شُرَفَاءِ النَّاسِ وَعُظَمَائِهِمُ الْخُضُوعُ لَهُ، وَذَا مَالٍ عَظِيمٍ يُدَبِّرُ بِهِ الْمُلْكَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّهُمْ قَدِ اعْتَادُوا الْخُضُوعَ لِلشُّرَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَازُوا عَلَيْهِمْ بِمَعَارِفِهِمْ وَصِفَاتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ نَبِيِّهِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُلْكِ يَكُونُ بِالنَّسَبِ وَسَعَةِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فَسَّرُوا اصْطِفَاءَ اللهِ تَعَالَى هُنَا بِوَحْيهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ أَنْ يَجْعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: اصْطَفَاهُ لَكُمْ كَمَا قَالَ: (اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) (2: 132) وَالْمُتَبَادَرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ فَضَّلَهُ وَاخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْمُلْكِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ اخْتِيَارِهِ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ بَيَانٌ لِأَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (1) الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ (2) السَّعَةُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّدْبِيرُ (3) بَسْطَةُ الْجِسْمِ

الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِحَّتِهِ وَكَمَالِ قُوَاهُ الْمُسْتَلْزِمِ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ عَلَى قَاعِدَةِ ((الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ)) وَلِلشَّجَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَلِلْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ (4) تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالِاسْتِعْدَادُ هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْمَرْتَبَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ، وَالْعِلْمُ بِحَالِ الْأُمَّةِ وَمَوَاضِعِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا، هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ، فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ بِحَالِ زَمَانِهِ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلسُّلْطَةِ اتَّخَذَهُ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهَا سِرَاجًا يَسْتَضِيءُ بِرَأْيهِ فِي تَأْسِيسِ مَمْلَكَةٍ أَوْ سِيَاسَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَضْ بِهِ رَأْيُهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدُ الزَّعِيمُ فِيهَا، وَكَمَالُ الْجِسْمِ فِي قُوَاهُ وَرِوَائِهِ هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَهُوَ فِي النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِيهِ. وَأَمَّا الْمَالُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ تَأْسِيسِ الْمُلْكِ; لِأَنَّ الْمَزَايَا الثَّلَاثَ إِذَا وُجِدَتْ سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهَا الْإِتْيَانُ بِالْمَالِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ فِي النَّاسِ مَنْ أَسَّسَ دَوْلَةً وَهُوَ فَقِيرٌ أُمِّيٌّ، وَلَكِنَّ اسْتِعْدَادَهُ وَمَعْرِفَتَهُ بِحَالِ الْأُمَّةِ الَّتِي سَادَهَا، وَشَجَاعَتَهُ كَانَتْ كَافِيَةً لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْإِدَارَةِ وَالشُّجْعَانِ عَلَى تَمْكِينِ سُلْطَتِهِ فِيهَا، وَقَدْ قَدَّمَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الرَّابِعِ; لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَوَاهِبِ الرَّجُلِ الَّذِي اخْتِيرَ مَلِكًا فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ اخْتِيَارَهُ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ، وَأَمَّا تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا عَمَلَ لَهُ فِيهَا لِسَعْيهِ فَلَيْسَ مِنْ مَوَاهِبِهِ وَمَزَايَاهُ فَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ تَتِمَّةً لِلْفَائِدَةِ وَبَيَانًا لِلْحَقِيقَةِ; وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ قَاعِدَةً عَامَّةً لَا وَصْفًا لَهُ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي صِفَاتِ الْجَدِيرِ بِالِاخْتِيَارِ لِزَعَامَةِ الْأُمَّةِ وَقِيَادَتِهَا: فَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُو رَحْبَ ... الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا لَا مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ ... وَلَا إِذَا عُضَّ مَكْرُوهٌ بِهِ خَشَعَا (وَمِنْهَا) وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ عَنْكُمْ، وَلَا وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرَّفْعَا وَأَقُولُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى إِسْنَادِ الشَّيْءِ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْعَلُهُ بِلَا سَبَبٍ وَلَا جَرَيَانٍ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (13: 8) أَيْ: بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ مُوَافِقٍ لِلْحِكْمَةِ لَيْسَ فِيهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ، فَإِيتَاؤُهُ الْمُلْكَ لِمَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِهِ مُسْتَعِدًّا لِلْمُلْكِ فِي نَفْسِهِ، وَبِتَوْفِيقِ الْأَسْبَابِ لِسَعْيهِ فِي ذَلِكَ; أَيْ: هُوَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ

الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ فِي حَالِ الْأُمَّةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ ((كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ)) قَالَ فِي الدُّرَرِ الْمُنْتَثِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ جُمَيْعٍ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، والْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ. وَفِي كَنْزِ الْعُمَّالِ أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ والْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ مُرْسَلًا. نَعَمْ إِذَا أَرَادَ اللهُ إِسْعَادَ أُمَّةٍ جَعَلَ مَلِكَهَا مُقَوِّيًا لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْخَيْرِ، حَتَّى يَغْلِبَ خَيْرُهَا عَلَى شَرِّهَا، فَتَكُونُ سَعِيدَةً، وَإِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ أُمَّةٍ جَعَلَ مَلِكَهَا مُقَوِّيًا لِدَوَاعِي الشَّرِّ فِيهَا حَتَّى يَتَغَلَّبَ شَرُّهًا عَلَى خَيْرِهَا، فَتَكُونُ شَقِيَّةً ذَلِيلَةً، فَتَعْدُوا عَلَيْهَا أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ، فَلَا تَزَالُ تَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَتَفْتَاتُ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا، أَوْ تُنَاجِزُهَا الْحَرْبَ حَتَّى تُزِيلَ سُلْطَانَهَا مِنَ الْأَرْضِ، يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَهُوَ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ. بِعَدْلٍ وَحِكْمَةٍ، لَا بِظُلْمٍ وَلَا عَبَثٍ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (21: 105) وَقَالَ: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (7: 128) فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ اسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَالسِّيَادَةِ فِي الْمَمَالِكِ - هُمُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَسْبَابَ خَرَابِ الْبِلَادِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَهِيَ الظُّلْمُ فِي الْحُكَّامِ، وَالْجَهْلُ وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ فِي الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَالصَّالِحُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا الِاجْتِمَاعِيِّ. أَطَلْتُ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِتْيَانِ الْمُلْكِ ; لِأَنَّنِي أَرَى عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ يَفْهَمُونَ مِنْ مِثْلِ عِبَارَةِ الْآيَةِ فِي إِيجَازِهَا أَنَّ الْمُلْكَ يَكُونُ لِلْمُلُوكِ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا الْبَشَرُ فِي أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ قَدِيمٌ فِي الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ عِبَارَةٌ فِي كُتُبِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَبِهِ اسْتَعْبَدَ الْمُلُوكُ النَّاسَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ سُلْطَتَهُمْ شُعْبَةٌ مِنَ السُّلْطَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ مُحَاوَلَةَ مُقَاوَمَتِهِمْ هِيَ كَمُحَاوَلَةِ مُقَاوَمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْخُرُوجِ عَنْ مَشِيئَتِهِ. وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَوْجَزَ فِي الدَّرْسِ بِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) إِذْ جَاءَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عَنْهُ ((أَيْ: أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي تَهْيِئَةِ مَنْ يَشَاءُ لِلْمُلْكِ)) وَمِثْلُ هَذَا الْإِجْمَالِ لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ وَفِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَتَكَوُّنِهَا، وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي أَنَّ لَهُ تَعَالى فِي الْبَشَرِ سُنَنًا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (13: 11) فَحَالَةُ الْأُمَمِ فِي صِفَاتِ أَنْفُسِهَا - وَهِيَ عَقَائِدُهَا وَمَعَارِفُهَا وَأَخْلَاقُهَا وَعَادَاتُهَا - هِيَ الْأَصْلُ

فِي تَغَيُّرِ مَا بِهَا مِنْ سِيَادَةٍ أَوْ عُبُودِيَّةٍ وَثَرْوَةٍ أَوْ فَقْرٍ، وَقُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَهِيَ هِيَ الَّتِي تُمَكِّنُ الظَّالِمَ مِنْ إِهْلَاكِهَا. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَنَا الِاعْتِذَارُ بِمَشِيئَةِ اللهِ عَنِ التَّقْصِيرِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِنَا اتِّكَالًا عَلَى مُلُوكِنَا ; فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى لَا تَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ سُنَّتِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الْوُجُودِ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ فِي الْأُمَمِ هُوَ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى وَخَلِيقَتُهُ شَاهِدَتَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) . ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالتَّذْكِيرِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَآثَارِهَا; أَيْ: وَاسْعُ التَّصَرُّفِ وَالْقُدْرَةِ، إِذَا شَاءَ أَمْرًا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ، عَلِيمٌ بِوُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَلَا يَضَعُ سُنَنَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُلْكِ عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ أَمْرَ الْعِبَادِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ سُدًى، بَلْ وَضَعَ لَهُمْ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ مَا هُوَ مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. هَذَا وَقَدْ جَرَى الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوهَ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي جَعْلِ طَالُوتَ مَلِكًا أَرْبَعَةٌ، وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ لَهُمْ عَلَى اخْتِصَارِهَا عِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ قَالَ: لَمَّا اسْتَبْعَدُوا تَمَلُّكَهُ لِفَقْرِهِ وَسُقُوطِ نَسَبِهِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ: (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ اصْطِفَاءُ اللهِ تَعَالَى، وَقَدِ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ مِنْكُمْ. (ثَانِيًا) بِأَنَّ الشُّرُوطَ فِيهِ؛ وُفُورُ الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَجَسَامَةِ الْبَدَنِ لِيَكُونَ أَعْظَمَ خَطَرًا فِي الْقُلُوبِ، وَأَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ، وَقَدْ زَادَهُ اللهُ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ الْقَائِمُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَنَالُ رَأْسَهُ. (ثَالِثًا) بِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مَنْ يَشَاءُ. (رَابِعًا) بِأَنَّهُ (وَاسِعٌ) الْفَضْلَ يُوَسِّعُ الْفَضْلَ عَلَى الْفَقِيرِ وَيُغْنِيهِ (عَلِيمٌ) بِمَنْ يَلِيقُ بِالْمُلْكِ وَغَيْرِهِ اهـ. فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ بِمَعْنَى الثَّالِثِ وَجَعَلُوا مَزِيَّةَ الْعَقْلِ وَمَزِيَّةَ الْبَدَنِ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُمَا شَيْئَانِ، وَأَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِي الْمَشِيئَةِ حَتَّى إِنَّ الْمُتَوَهِّمَ لَيَتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِعِنَايَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَجَعَلُوا كَوْنَهُ تَعَالَى وَاسِعًا عَلِيمًا وَجْهًا خَاصًّا. وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا، وَرَأْيُهُ فِي مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى هُنَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ فَسَّرَ ((الْوَاسِعَ)) بِوَاسِعِ التَّصَرُّفِ وَالْقُدْرَةِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِمْ وَاسْعُ الْفَضْلِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ (عَلِيمٌ) عَلِيمٌ بِوُجُوهِ الِاخْتِيَارِ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ.

248

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَمَا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمَيْنِ تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ الْمُلْكَ بِمَا اخْتَارَهُ اللهُ وَأَعَدَّهُ لَهُ بِاصْطِفَائِهِ، وَإِيتَائِهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَبَسْطَةِ الْجِسْمِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ، حَتَّى جَعَلَ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهِ، وَهِيَ عَوْدُ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّابُوتُ الْمُعَرَّفُ: صُنْدُوقٌ لَهُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، فَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا نَصُّهُ:

((وَكَلَّمَّ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً مِنْ كُلِّ مَنْ بَحَثَهُ قَلْبُهُ تَأْخُذُونَ تَقْدِمَتِي، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَنُحَاسٌ وَأَسْمَانْجُونِي وَأُرْجُونَ وَقِرْمِزٌ وَبُوصٍ وَشَعْرِ مِعْزَى وَجُلُودِ كِبَاشٍ مُحَمَّرَةٍ وَجُلُودِ تَخْسٍ وَخَشَبِ سَنْطٍ وَزَيْتٍ لِلْمَنَارَةِ وَأَطْيَابٍ لِدَهْنِ الْمَسْحَةِ، وَلِلْبَخُورِ الْعِطْرُ، وَحِجَارَةِ جِزْعٍ وَحِجَارَةِ تَرْصِيعٍ لِلرِّدَاءِ وَالصُّدْرَةِ، فَيَصْنَعُونَ لِي مُقَدَّسًا لِأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ، هَكَذَا تَصْنَعُونَ فَيَصْنَعُونَ تَابُوتًا مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ. وَتُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ، مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ تُغَشِّيهِ، وَتَصْنَعُ عَلَيْهِ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ حَوَالَيْهِ، وَتَسْبِكُ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَتَجْعَلُهَا عَلَى قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ، عَلَى جَانِبِهِ الْوَاحِدِ حَلْقَتَانِ وَعَلَى جَانِبِهِ الثَّانِي حَلْقَتَانِ، وَتَصْنَعُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ وَتُغَشِّيهِمَا بِذَهَبٍ، وَتُدْخِلُ الْعَصَوَيْنِ فِي الْحَلَقَاتِ عَلَى جَانِبَيِ التَّابُوتِ لِيُحْمَلَ التَّابُوتُ بِهِمَا، تَبْقَى الْعَصَوَانِ فِي حَلْقَةِ التَّابُوتِ لَا تُنْزَعَانِ مِنْهَا، وَتَضَعُ فِي التَّابُوتِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي أُعْطِيكَ، وَتَصْنَعُ غِطَاءً مَنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ، فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا، وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ، وَيَكُونُ الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ، مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الْآخَرِ نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ، وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكَ)) اهـ. هَذَا مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ ذَلِكَ التَّابُوتِ الدِّينِيِّ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْمَائِدَةِ الدِّينِيَّةِ وَآنِيَتَهَا وَالْمَسْكَنَ وَالْمَذْبَحَ وَخَيْمَةَ الْعَهْدِ وَمَنَارَةِ السِّرَاجِ وَالثِّيَابِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي الْفَصْلِ 27 مِنْهُ كَيْفَ كَانَ صُنْعُ هَذَا التَّابُوتِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَنَارِ وَمَذْبَحِ الْبَخُورِ، وَهِيَ غَرَائِبُ يَعُدُّهَا عُقَلَاءُ هَذِهِ الْعُصُورِ أَلَاعِيبَ، وَالْحِكْمَةُ فِيهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا - وَقَدِ اسْتَعْبَدَهُمْ وَثَنِيُّو الْمِصْرِيِّينَ أَحْقَابًا - قَدْ مَلَكَتْ قُلُوبُهُمْ عَظَمَةُ تِلْكَ الْهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالصَّنْعَةِ الَّتِي تُدْهِشُ النَّاظِرَ، وَتَشْغَلُ الْخَاطِرَ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَشْغَلَ قُلُوبَهُمْ عَنْهَا بِمَحْسُوسَاتٍ مِنْ جِنْسِهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتُذْكَرُ بِهِ، فَالتَّابُوتُ سُمِّيَ أَوَّلًا تَابُوتَ الشَّهَادَةِ; أَيْ: شَهَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ تَابُوتَ الرَّبِّ وَتَابُوتَ اللهِ، كَذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ صُنِعَ لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَةَ لَيْسَتْ دَائِمَةً، فَلَا غَرْوَ إِذَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ كُلَّ هَذَا الزُّخْرُفِ وَالصَّنْعَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ الْمُصَلِّي عَنْ مُنَاجَاةِ اللهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَتْهُ كُتُبُهُ

الْمُقَدَّسَةُ بِأَنَّهُ صُلْبُ الرَّقَبَةِ أَوْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ ((عَرِيضُ الْقَفَا)) عَلَى قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْوَثَنِيَّةِ وَإِحَاطَةِ الشُّعُوبِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْبَشَرِ فِي طَوْرِ ارْتِقَائِهِمْ; إِذْ لَا يُرَبَّى الرَّجُلُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ مَا يُرَبَّى بِهِ الطِّفْلُ أَوِ الْيَافِعُ، وَفِي سَائِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ الثَّلَاثَةِ تَفْصِيلٌ لِمَا قَدَّمَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِصُنْعِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي يُقَدَّسُ فِيهَا اللهُ، وَلِصُنْعِ الْخَيْمَةِ وَالتَّابُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَغَرَضُنَا مِنْهَا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ التَّابُوتِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّكَ لَتَجِدُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ الْقَصَصِ عِنْدَنَا أَقْوَالًا غَرِيبَةً عَنْهُ، مِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَنْشَأُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا كَانَ يَنْبِذُ بِهِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ مِنَ الْقِصَصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُخَادَعَةً لَهُمْ، لِيَكْثُرَ الْكَذِبُ فِي تَفْسِيرِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَيَضِلُّوا بِهِ، وَيَجِدُ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مَجَالًا وَاسِعًا لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ يَصُدُّونَ بِهِ قَوْمَهُمْ عَنْهُ. وَفِي آخِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَضَعَ اللَّوْحَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا شَهَادَةُ اللهِ - أَيْ: وَصَايَاهُ - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ، وَفِي كُتُبِهِمُ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ عِنْدَ فَتَاهُ يَشُوعَ - أَيْ: يُوشَعَ - وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِهَذَا التَّابُوتِ، فَإِذَا ضَعُفُوا فِي الْقِتَالِ وَجِيءَ بِهِ وَقَدَّمُوهُ تَثُوبُ إِلَيْهِمْ شَجَاعَتُهُمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَيْ يَنْصُرُهُمْ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ لَهُمْ بِإِحْضَارِ التَّابُوتِ لَا بِالتَّابُوتِ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ غُلِبُوا عَلَى التَّابُوتِ فَأُخِذَ مِنْهُمْ عِنْدَمَا ضَعُفَ يَقِينُهُمْ وَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمُ التَّابُوتُ شَيْئًا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. أَقُولُ: وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (31: 24 - 30) ((أَنَّ مُوسَى لَمَّا كَمَّلَ كِتَابَةَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ أَمَرَ اللَّاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ قَائِلًا: خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لِيَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) . ثُمَّ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ عَالِيَا أَوْ عَالِيَ الْكَاهِنِ، فَانْتَصَرَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ وَأَخَذُوا التَّابُوتَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ نَكَّلُوا بِهِمْ تَنْكِيلًا فَمَاتَ عَالِي قَهْرًا، وَكَانَ صَمْوَئِيل - الَّذِي يُدْعَى فِي الْكُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ شمويلَ - قَاضِيًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ نَبِيُّهُمُ الَّذِي طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا فَفَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَعَلَ رُجُوعَ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ الَّذِي أَقَامَهُ لَهُمْ، وَقَالُوا فِي سَبَبِ إِتْيَانِ التَّابُوتِ: إِنَّ أَهْلَ فِلَسْطِينَ ابْتُلُوا بَعْدَ أَخْذِ التَّابُوتِ بِالْفِيرَانِ فِي زَرْعِهِمْ وَالْبَوَاسِيرِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَتَشَاءَمُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ فَأَعَادُوهُ عَلَى عَجَلَةٍ تَجُرُّهَا بَقَرَتَانِ، وَوَضَعُوا فِيهِ صُوَرَ فِيرَانٍ وَصُوَرَ بَوَاسِيرَ مِنَ الذَّهَبِ جَعَلُوا كَفَّارَةً لِذَنْبِهِمْ. وَمِنَ الْمُدَوَّنِ فِي التَّارِيخِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمَّا أَحْرَقَ الْبَابِلِيُّونَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مَعًا لِأَنَّهُمَا قَدْ أُحْرِقَا فِيهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّابُوتِ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، عَلَى أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أُمُّ التَّفَاسِيرِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا مَا أَوْرَدْنَا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ عَنِ التَّابُوتِ وَعَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَإِنَّمَا وَحْيُ اللهِ تَعَالَى نَاطِقٌ بِأَنَّ فِيهِ سَكِينَةٌ، وَالسَّكِينَةُ فِي اللُّغَةِ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَفِي إِتْيَانِ الصُّنْدُوقِ سَكِينَةٌ لَا تَخْفَى لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الدِّينِيِّ عِنْدَ الْقَوْمِ، أَوْ فِيهِ مَا يُحْدِثُ لَهُمْ سَكِينَةً وَهِيَ الْفِيرَانُ وَالْبَوَاسِيرُ الذَّهَبُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ، أَوِ الْأَلْوَاحُ أَوْ رَضَاضَتُهَا، وَهِيَ هِيَ الْبَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ فِي مَعْنَى السَّكِينَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنْ أَنَّهَا الشَّيْءُ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ صُوَرُ الْكَرُوبَيْنِ وَقَدْ حَمَلَ التَّابُوتَ; أَيْ: وُضِعَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقُولُ فِي وَصْفِ الْقُصُورِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَصْنُوعَةِ: فِيهَا فُلَانٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحَاسٍ، تُرِيدُ تِمْثَالَ الْمَلِكِ وَتِمْثَالَ الْفَرَسِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ حَمَلَتَا التَّابُوتَ مِنْ بَعْضِ بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتَا تَسِيرَانِ مُسَخَّرَتَيْنِ بِإِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَرَّتَا عَجَلَةَ التَّابُوتِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَمَا يَجْرِي بِإِلْهَامٍ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْبَشَرِ وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ يُسْنَدُ إِلَى إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ. رَوَى نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: وَكَلَ بِالْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَارَتَا بِالتَّابُوتِ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا إِلَخْ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةَ كَلَامِ نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ عَلَامَةٌ أَوْ حُجَّةٌ لَكُمْ تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِكُمْ، وَاصْطِفَائِهِ لَكُمْ هَذَا الْمَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بشُئُونِكِمْ وَيُنَكِّلُ بِأَعْدَائِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَرْضَوْا بِمُلْكِهِ وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِهِ; إِذْ لَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَلَا كَانَ يَعْرِفُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُلُوكِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِلْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ السِّيَاسَةِ وَأَعْمَالِ الرِّيَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ آيَةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً نَافِعَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ; لِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ نَصْبَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَثْأَرَ مِنْ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَكَانَ الْمُتَوَقَّعُ بَعْدَ بَيَانِ نَصْبِ الْمَلِكِ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقِتَالِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى،

249

ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فَصَلَ بِالْجُنُودِ: انْفَصَلَ بِهِمْ مِنْ مَقَامِهِمْ وَقَادَهُمْ لِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَأَصْلُهُ: فَصَلَ نَفْسَهُ عَنْهُ مُصَاحِبًا لَهُمْ، وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْعَسْكَرُ وَأَصْلُهُ الْأَرْضُ الْغَلِيظَةُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مُجْتَمَعٍ قَوِيٍّ جُنْدٌ، وَالشُّرْبُ: تَنَاوُلُ الْمَائِعِ بِالْفَمِ وَابْتِلَاعُهُ، وَطَعِمَ الشَّيْءَ مِنْ غِذَاءٍ وَشَرَابٍ ذَاقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرَدًا وَالْغَرْفَةُ - بِالْفَتْحِ: الْمَرَّةُ، مِنْ غَرَفَ الشَّيْءَ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ مَحَلِّهِ وَتَنَاوَلَهُ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحِجَازِيُّونَ. وَالْغُرْفَةُ - بِالضَّمِّ: مَا يُغْتَرَفُ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ. لَمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلُ كَارِهِينَ لِمُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَذْعَنُوا مِنْ بَعْدُ، وَكَانَ إِذْعَانُ الْجَمِيعِ وَرِضَاهُمْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ إِلَّا بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَ هَذَا الْقَائِدُ جُنْدَهُ لِيَعْلَمَ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ وَالرَّاضِيَ وَالسَّاخِطَ، فَيَخْتَارَ الْمُطِيعَ الَّذِي يُرْجَى بَلَاؤُهُ فِي الْقِتَالِ، وَثَبَاتُهُ فِي مَعَامِعِ النِّزَالِ، وَيَنْفِيَ مَنْ يَظْهَرُ عِصْيَانُهُ، وَيُخْشَى فِي الْوَغَى خِذْلَانُهُ، فَإِنَّ طَاعَةَ الْجَيْشِ لِلْقَائِدِ وَثِقَتَهُ بِهِ مِنْ شُرُوطِ الظَّفْرِ، وَأَحْوَجُ الْقُوَّادِ إِلَى اخْتِبَارِ الْجَيْشِ مَنْ وَلِيَ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُهُ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْجَيْشِ مَنْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَهُ يُخْشَى أَنْ يُوضِعُوا خِلَالَهُ يَبْغُونَهُ الْفِتْنَةَ وَيَسِمُونَهُ بِالْفَشَلِ. أَخْبَرَ طَالُوتُ جُنُودَهُ بِأَنْ سَيَمُرُّونَ عَلَى نَهَرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ بِإِذْنِ اللهِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَشْيَاعِهِ الْمُتَّحِدِينَ مَعَهُ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَشْرَبُهُ قَلِيلًا وَهُوَ غُرْفَةٌ تُؤْخَذُ بِالْيَدِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ وَلَا يَرَاهُ مَانِعًا مِنَ الِاتِّحَادِ بِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أَيْ يَذُقْهُ بِالْمَرَّةِ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْكَنُ إِلَيْهِ وَيُوثَقُ بِهِ تَمَامَ الثِّقَةِ، فَالِابْتِلَاءُ سَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةُ مَنْ يَشْرَبُ فَيُرْوَى لَا يُبَالِي بِالْأَمْرِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يُتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَمَرْتَبَةُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ غُرْفَةً يَبُلُّ بِهَا رِيقَهُ وَهُوَ مَقْبُولٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَرْتَبَةُ مَنْ لَا يَذُوقُهُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ الْوَلِيُّ النَّصِيرُ الَّذِي يُوثَقُ بِاتِّحَادِهِ، وَيُعَوَّلُ عَلَى جِهَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ فَسَدَ بَأْسُهُمْ وَتَزَلْزَلَ إِيمَانُهُمْ، وَاعْتَادُوا الْعِصْيَانَ فَسَهُلَ عَلَيْهِمْ عِصْيَانُهُمْ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَةُ الشَّهْوَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَوَانُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي الْإِيمَانِ وَالْغَيْرَةِ عَلَى الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (34: 13) وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعَزَائِمِ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُ الْكَثِيرُ مِنْ ذَوِي الْمَآثِمِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)

أَيْ فَلَمَّا جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ (قَالُوا) وَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) الطَّاقَةُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْقُوَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الصِّيَامِ. وَجَالُوتُ هُوَ أَشْهَرُ أَبْطَالِ أَعْدَائِهِمُ الْفِلَسْطِينِيِّنَ، وَعَرَّبَهُ النَّصَارَى الَّذِينَ تَرْجَمُوا سِفْرَ صَمْوَئِيلَ الَّذِي فِيهِ الْقِصَّةُ ((جِلْيَاتُ)) وَلَا اعْتِدَادَ بِتَعْرِيبِهِمْ، وَالْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ جُنُودَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ; أَيْ: قَالَ جُمْهُورُ الْجُنُودِ: لَيْسَ لَنَا أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ جِنْسِ الطَّاقَةِ بِلِقَاءِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ. (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَجَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْآخَرِينَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ النَّهَرِ لَمْ يُجَاوِزُوهُ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ، قَالَ ضِعَافُهُمْ: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَقَالَ أَقْوِيَاؤُهُمْ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ إِلَخْ. ثُمَّ اشْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِعَزِيمَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ انْتِصَارِهِمْ مَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَالْعِبَارَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ النَّهَرِ لَمْ يُجَاوِزُوهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ طَالُوتَ لِأَجْلِ الشُّرْبِ، فَهُمُ الَّذِينَ جَاوَزُوهُ مَعَهُ مُقْتَرِنِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَدُّهُمْ مِنْهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْعَاصِينَ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الِابْتِلَاءِ. سِيَاقُ الْكَلَامِ فِيمَنْ فَصَلَ بِهِمْ مِنَ الْجُنُودِ وَابْتُلُوا بِالنَّهَرِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ أَعْلَمَنَا أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَصَفَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، ثُمَّ أَخْبَرَنَا بِقَوْلَيْنِ يَصْلُحُ أَحَدُهُمَا لِمُعَارَضَةِ الْآخَرِ وَرَدِّهِ (الْأَوَّلُ) أَسْنَدَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَمِثْلُهُ يَصْدُرُ مِمَّنْ خَالَفَ الْقَائِدَ وَجَبُنَ عَنِ الْقِتَالِ، وَ (الثَّانِي) أَسْنَدَهُ إِلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَّاقُو اللهِ وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى الَّذِينَ أَطَاعُوا الْقَائِدَ وَاتَّحَدُوا مَعَهُ فَلَمْ يَعْصُوا، وَيَتَّفِقُ مَعَ وَصْفِ الْإِيمَانِ الَّذِي سَبَقَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ جَاوَزُوا النَّهَرَ، وَأَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ كَانَا بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ، وَأَنَّ التَّصْرِيحَ بِمُجَاوَزَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَا يَجْعَلُ الْمُجَاوَزَةَ لِلْحَصْرِ وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْمَعِيَّةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ افْتَرَقُوا عِنْدَ النَّهَرِ فَسَبَقَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ وَالْتَفَّ حَوْلَ الْقَائِدِ وَجَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَهُ، وَتَخَلَّفَ الْآخَرُونَ قَلِيلًا لِلشُّرْبِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ جَاوَزُوا وَلَحِقُوا بِالْآخَرِينَ كَمَا عُلِمَ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ مَعَهُمْ بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَثَرُ مَا فِي نَفْسِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا عَلَى لِسَانِهِ. وَمِنْ بَدِيعِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحْذِفَ الشَّيْءَ وَيَأْتِيَ فِي السِّيَاقِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَذْكُرَ الْقَوْمَ بِوَصْفٍ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ يَجْعَلُهُ فِي مَكَانِ الضَّمِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ فِي الْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِتَقْرِيرِهِ، كَمَا وَصَفَ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا بِالْإِيمَانِ مَرَّةً وَبِاعْتِقَادِ لِقَاءِ

اللهِ تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَالِاعْتِقَادَ هُمَا سَبَبُ طَاعَةِ الْقَائِدِ وَتَرْكِ الشُّرْبِ، وَسَبَبُ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَفُوقُهُمْ عَدَدًا. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) قَالَ: لَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالَ الَّذِينَ شَرِبُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَهُوَ أَنَّهُ جَاوَزَ النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ مِنَ النَّهَرِ إِلَّا الْغَرْفَةَ، وَالْكَافِرُ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ الْكَثِيرَ، ثُمَّ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ جَالُوتَ وَلِقَائِهِ وَانْخَذَلَ عَنْهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ إِلَخْ، وَفِيهِ ذَكَرَ قَوْلَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَوَسَمَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ مَعَ طَالُوتَ النَّهَرَ إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِالْغَفْلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ. وَفِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ بِتَرْكِ شُرْبِ الْمَاءِ كَانَ عَلَى يَدِ جَدْعُونَ قَبْلَ قِصَّةِ طَالُوتَ، وَيُورِدُونَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ حَوَادِثُ تَارِيخِهِمْ مِنْ كَوْنِهَا كُلِّهَا عَجَائِبُ وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ لَا شَيْءَ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَفِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْقُضَاةِ مَا نَصُّهُ: ((وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: إِنَّ الشَّعْبَ الَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ عَلِيَّ لِأَدْفَعَ الْمَدْيَانِيِّينَ بِيَدِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَخِرَ عَلَى إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: يَدِي خَلَّصَتْنِي، وَالْآنَ نَادِ فِي آذَانِ الشَّعْبِ قَائِلًا: مَنْ كَانَ خَائِفًا وَمُرْتَعِدًا فَلْيَرْجِعْ وَيَنْصَرِفْ مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ، فَرَجَعَ مِنَ الشَّعْبِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ عَشْرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ الشَّعْبُ كَثِيرًا، انْزِلْ بِهِمْ إِلَى الْمَاءِ فَأُنَقِّيهِمْ لَكَ هُنَاكَ، وَيَكُونُ أَنَّ الَّذِي أَقُولُ لَكَ عَنْهُ هَذَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَكَ، وَكُلُّ مَنْ أَقُولُ لَكَ عَنْهُ لَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ لَا يَذْهَبُ، فَنَزَلَ بِالشَّعْبِ إِلَى الْمَاءِ، وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ الْمَاءِ كَمَا يَلَغُ الْكَلْبُ فَأَوْقِفْهُ وَحْدَهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِلشُّرْبِ. وَكَانَ عَدَدُ الَّذِينَ وَلَغُوا بِيَدِهِمْ إِلَى فَمِهِمْ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَّا بَاقِي الشَّعْبِ جَمِيعًا فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ لِشُرْبِ الْمَاءِ; فَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: بِالثَّلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ الَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ الْمَدْيَانِيَّيْنِ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ الشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ)) اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَوْمَ خَلَطُوا فِي تَارِيخِهِمْ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ لَا يُعْرَفُ كَاتِبُوهُ، وَمِنْهُ سِفْرُ صَمْوَئِيل الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ طَالُوتَ، وَعِبَارَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُتِبَ بَعْدَ حُدُوثِ وَقَائِعِهِ; فَإِنَّ الْكَاتِبَ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَزَالُ إِلَى الْآنِ كَأَنَّ الزَّمَنَ كَانَ كَافِيًا لِأَنْ تَنْدَرِسَ فِيهِ جَمِيعُ الرُّسُومِ وَالْمَعَالِمِ الَّتِي عُهِدَتْ عِنْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَهُ، وَإِنَّنَا نَرَى الْمُؤَرِّخِينَ فِي زَمَانِنَا يَغْلَطُونَ بِمَا يَقَعُ فِي عَهْدِهِمْ غَلَطًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْغَلَطِ فِي إِسْنَادِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ، وَتَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ عَنْ زَمَنِهِ. وَكَمَا فَاتَ مُؤَرِّخِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيرُ

250

الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ بِالتَّدْقِيقِ فَاتَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ، فَأَيْنَ مَا نَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْهُمْ مِمَّا تَجِدُهُ فِي عِبَارَةِ الْقُرْآنِ مِنْ صُنُوفِ الْعِبْرَةِ؟ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ النَّهَرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا خَالَفَهُ مِنْ أَقْوَالِ سَائِرِ الْكُتُبِ مُعَارِضًا لَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّوْفِيقِ أَوِ الْجَوَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. (وَلَمَّا بَرَزُوا) أَيْ: لَمَّا ظَهَرَ طَالُوتُ وَجُنُودُهُ بِالْبَرَازِ، وَهِيَ بِالْفَتْحِ مَا اسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ (لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ الْفِلَسْطِينِيُّونَ (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ: لَجَأَ قَوْمُ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَدْعُونَهُ بِأَنْ يُفْرِغَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الصَّبْرَ، وَيُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَوَاقِعِ الْقِتَالِ بِثَبَاتِ قُلُوبِهِمْ وَاطْمِئْنَانِهَا بِالْإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِهِ، وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْأَوْهَامِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ بَعْضُهَا مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْغَالِبَةِ، فَالصَّبْرُ سَبَبٌ لِلثَّبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالصَّبْرِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مَا سَأَلُوا بِبَرَكَةِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَتَذَكُّرِهِمْ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قُوَّتِهِ الَّتِي لَا تُغَالَبُ فَهَزَمُوهُمْ، أَيْ كَسَرُوهُمْ كَسْرَةً انْتَهَتْ بِدَفْعِهِمْ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَهَرَبِهِمْ مِنْهَا بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفِذَةِ لِسُنَّتِهِ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الثَّابِتِينَ، عَلَى الْكَافِرِينَ (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ) قَالُوا: إِنَّ جَالُوتَ جَبَّارُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ طَلَبَ الْبَرَازَ فَلَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُبَارَزَتِهِ حَتَّى إِنَّ طَالُوتَ جَعَلَ لِمَنْ يَقْتُلُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُحَكِّمَهُ فِي مُلْكِهِ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ يَسَى، وَكَانَ غُلَامًا يَرْعَى الْغَنَمَ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَلْبَسَ دِرْعًا وَلَا أَنْ يَحْمِلَ سِلَاحًا، بَلْ حَمَلَ مِقْلَاعَهُ وَحِجَارَتَهُ، فَسَخِرَ مِنْهُ جَالُوتُ وَاحْتَمَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا كَلْبٌ فَتَخْرُجُ إِلَيَّ بِالْمِقْلَاعِ؟ فَرَمَاهُ دَاوُدُ بِمِقْلَاعِهِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ رَأْسَهُ فَصَرَعَهُ فَدَنَا مِنْهُ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَى طَالُوتَ فَعُرِفَ دَاوُدُ، وَكَانَ لَهُ الشَّأْنُ الَّذِي وَرِثَ بِهِ مُلْكَ إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) فَسَّرُوا الْحِكْمَةَ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ تُفَسَّرَ بِالزَّبُورِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (4: 163) وَبِهِ كَانَ نَبِيًّا، وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ مِمَّا يَشَاءُ فَهُوَ صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (21: 80) . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ الَّذِي قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ فَقَالَ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قَرَأَ نَافِعٌ ((دِفَاعُ اللهِ)) وَالْبَاقُونَ ((دَفْعُ اللهُ)) أَيْ: لَوْلَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَدْفَعُ أَهْلَ الْبَاطِلِ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَأَهْلَ الْفَسَادِ فِي

252

الْأَرْضِ بِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ فِيهَا لَغَلَبَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَبَغَوْا عَلَى الصَّالِحِينَ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ حَتَّى يَكُونَ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَحْدَهُمْ، فَتَفْسُدَ الْأَرْضُ بِفَسَادِهِمْ، فَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَالَمَيْنِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَنْ أَذِنَ لِأَهْلِ دِينِهِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ بِقِتَالِ الْمُفْسِدِينَ فِيهَا مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ الْمُعْتَدِينَ، فَأَهْلُ الْحَقِّ حَرْبٌ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ نَاصِرُهُمْ مَا نَصَرُوا الْحَقَّ وَأَرَادُوا الْإِصْلَاحَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّى هَذَا دَفْعًا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ كَانَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَسَمَّاهُ دِفَاعًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُفْسِدِينَ يُقَاوِمُ الْآخَرَ وَيُقَاتِلُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِيتَاءَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ) يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي بَعْدَهَا (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُخَالِفٌ لِهَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إِذْ لَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمَا عَرَفْتَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ فِي أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا وَلَا تَعَلَّمْتَ شَيْئًا مِنَ التَّارِيخِ، وَلَوْ تَعَلَّمْتَهُ لَجِئْتَ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَصَّاصِينَ. وَقَدْ قَرَّرَ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ، وَذِكْرِ نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (28: 44، 45) . (السُّنَنُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأُمَمِ وَالِاسْتِقْلَالِ) أَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ لِي مِنَ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُفَصَّلَةً مَعْدُودَةً لَعَلَّهَا تُوعَى وَتُحْفَظُ فَلَا تُنْسَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (السُّنَّةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا وَأَوْقَعَ الْأَعْدَاءُ بِهَا فَهَضَمُوا حُقُوقَهَا تَتَنَبَّهُ مَشَاعِرُهَا لِدَفْعِ الضَّيْمِ وَتُفَكِّرُ فِي سَبِيلِهِ، فَتَعْلَمُ أَنَّهَا الْوَحْدَةُ الَّتِي يُمَثِّلُهَا الزَّعِيمُ الْعَادِلُ وَالْقَائِدُ الْبَاسِلُ، فَتَتَوَجَّهُ إِلَى طَلَبِهِ حَتَّى تَجِدَهُ كَمَا وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَنْكِيلِ أَهْلِ فِلَسْطِينَ بِهِمْ. (الثَّانِيَةُ) أَنَّ شُعُورَ الْأُمَّةِ بِوُجُوبِ حِفْظِ حُقُوقِهَا وَصِيَانَةِ اسْتِقْلَالِهَا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَمَالِهِ فِي خَوَاصِّهَا، فَمَتَى كَثُرَ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصُّ فِي أُمَّةٍ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الرَّئِيسَ الَّذِي يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِسْنَادِ طَلَبِ الْمُلْكِ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ شُيُوخُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ فِيهِمْ.

(الثَّالِثَةُ) مَتَى عَظُمَ الشُّعُورُ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ بِوُجُوبِ حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا وَدَفْعِ ضَيْمِ الْأَعْدَاءِ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى عَامَّتِهَا، فَيَظُنُّ النَّاقِصُ أَنَّ عِنْدَهُ مِنَ النَّعْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ لِلْأُمَّةِ مَا عِنْدَ الْكَامِلِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَتْ مِنْ طَوْرِ الْفِكْرِ وَالشُّعُورِ إِلَى طَوْرِ الْعَمَلِ وَالظُّهُورِ انْكَشَفَ عَجْزُ الْأَدْعِيَاءِ الْمُدَّعِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْ إِلَّا صِدْقُ الصَّادِقِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (2: 246) . (الرَّابِعَةُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَمِ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْهَا، وَالِاخْتِلَافُ مَدْعَاةُ التَّفَرُّقِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ يَقْبَلُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأُمَّةِ; لِذَلِكَ لَجَأَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى نَبِيِّهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ رَجُلًا يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمُرَجِّحَ لِاخْتِيَارِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مُبَايَعَةَ أُولِي الْأَمْرِ لِمَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمْ عَوْنُ السُّلْطَانِ وَقُوَّتُهُ بِاحْتِرَامِ الْأُمَّةِ لَهُمْ وَثِقَتِهَا بِهِمْ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَصِّبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الزَّعَامَةِ وَالْحُكْمِ، وَلَكِنِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُظَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الدُّنْيَوِيَّةِ بِإِنَابَتِهِ عَنْهُ فِي الْإِمَامَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ، إِذْ أَمَرَ عِنْدَ مَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ مَكَانَهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عُمَرُ: إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. أَيْ إِنَّ الشُّورَى فِي انْتِخَابِهِ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الَّذِي عَجَّلَ بِالْبَيْعَةِ خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ طُولِ أَمَدِ الْخِلَافِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ نَصْبِ الْخَلِيفَةِ لَهُ، وَلَكِنَّ خِلَافَتَهُ وَإِمَامَتَهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ تَثْبُتْ بِالْفِعْلِ إِلَّا بِمُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ لَهُ. (الْخَامِسَةُ) أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى التَّقْلِيدِ أَوِ الِاتِّبَاعِ فِيمَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِمَصْلَحَتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ فِي جَعْلِ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا يَنْهَضُ حُجَّةً إِلَّا فِي ظَنِّ الْمُنْكِرِينَ. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ النَّاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَعْرِفُ الصَّوَابَ فِي السِّيَاسَةِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَلَا تَعْرِضُ مَسْأَلَةً عَلَى عَامِّيٍّ إِلَّا وَيُبْدِي فِيهَا رَأَيًا يُقِيمُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ أَعْلَى مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي يَعْتَرِفُ الْجَاهِلُونَ بِهَا بِجَهْلِهِمْ، فَلَا يَحْكُمُونَ فِيهَا كَمَا يَحْكُمُونَ فِي عِلْمِ السِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ وَمَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْأَفْرَادُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ لِهَذَا الْعَهْدِ يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى جَعْلِ الْخِلَافَةِ مُوَافِقَةً لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا مُخَالِفَةً لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَعُدُّ الدَّاعِيَ إِلَى ذَلِكَ عَدُوًّا لَهُمْ بَلْ لِلْإِسْلَامِ نَفْسِهِ.

(السَّادِسَةُ) أَنَّ الْأُمَمَ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ تَرَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْمُلْكِ وَالزَّعَامَةِ أَصْحَابُ الثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى مُلْكِ طَالُوتَ فِي تَأْيِيدِ إِنْكَارِهِمْ (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) وَأَصْحَابُ الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُمْ لَهُ: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) فَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ خَاصَّةً، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَخْضَعُ لِأَصْحَابِ الْعَظَمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ صِفَةً لِنَفْسِ صَاحِبِهَا كَالْمَالِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى بَعْضِ الْعُظَمَاءِ فِي عُرْفِهِمْ، سَوَاءً كَانَتْ عَظَمَتُهُمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. هَذَا مَوْضِعُ الْخَطَأِ فِي تَعْظِيمِ ذِي النَّسَبِ، وَيَشْتَدُّ خَطَرُهُ إِذَا صَارَ الْأَنْسَابُ يَسْتَعْلُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ دُونَ عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ لَا مَحَلَّ هُنَا لِبَسْطِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ بِالْإِجْمَالِ: إِنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى أَهْلِ الشَّرَفِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَعَارِفِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالنُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ الْعَزِيزَةِ، لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ عَظِيمٌ; فَإِنَّ سَلِيلَ الشُّرَفَاءِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُدَنِّسُهَا بِالْخِيَانَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِمُ النَّفْسِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ لِلْخَيْرِ أَعْظَمَ فِي الْغَالِبِ. وَإِنَّكَ لِتَجِدُ الْأُمَمَ الرَّاقِيَةَ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِمَاعِ تَخْتَارُ مُلُوكَهَا مِنْ سُلَالَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَتُحَافِظُ عَلَى قَوَانِينِ الْوِرَاثَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَا ارْتَقَى عَنْ هَذَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَطًا فَلَمْ يُغْفِلْ أَمْرَ النَّسَبِ بِالْمَرَّةِ لِئَلَّا تَتَّسِعَ دَائِرَةُ الْخِلَافِ بِطَمَعِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَوَائِلِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ لَا تَخْلُو مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ - وَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ فِي نَفْسِهَا - كَانَتْ مُحْتَرَمَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَيُرْجَى أَنْ يَدُومَ احْتِرَامُهَا مَا دَامَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِجَعْلِ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْهَا أَلَا وَهِيَ قُرَيْشٌ. فَمِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَظَلَّ الرِّيَاسَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ مُرْتَبِطَةً بِتَارِيخِ مَاضِيهَا وَقَوْمِ مُؤَسِّسِهَا كَارْتِبَاطِ دِينِهَا بِوَطَنِهِ فِي عِبَادَتِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ. (السَّابِعَةُ) أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي اخْتِيَارِ الرَّجُلِ فِي الْمُلْكِ هِيَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ. (الثَّامِنَةُ) هِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) كَمَا بَيَّنَاهُ مُعَزَّزًا بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، عَلَى أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْفُذُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ الْعَامَّةِ فِي تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ

بِتَغْيِيرِهِمْ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي سَلْبِ مُلْكِ الظَّالِمِينَ وَإِيرَاثِ الْأَرْضِ لِلصَّالِحِينَ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مُشَاهَدٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَيْنَ الْمُبْصِرُونَ؟ ! (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (21: 44) أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (26: 150 - 152) أَيَظُنُّ الْمُسْلِمُ الْغَافِلُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) (3: 26) هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ؟ بَلْ أَقُولُ وَلَا أَخْشَى فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لَائِمٍ: أَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ تَنَازُعَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ عَلَى مَمَالِكِهِمْ وَسَلْبِهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ مُخَالِفٌ لِعَدْلِ اللهِ الْعَامِّ وَسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؟ كَلَّا إِنَّهُ تَعَالَى مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَرَّطُوا فَذَاقُوا جَزَاءَ تَفْرِيطِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَأَصْلَحُوا تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَدَ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. (التَّاسِعَةُ) أَنَّ طَاعَةَ الْجُنُودِ لِلْقَائِدِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ شَرْطٌ فِي الظَّفْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَمْرِ، وَقَوَانِينُ الْجُنْدِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَاعَةِ الْجَيْشِ لِقُوَّادِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْمَعْقُولِ وَغَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا أَمَرَ الْقَائِدُ بِتَسْلِيمِ الدِّيَارِ أَوِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْأَنْفُسِ لِلْأَعْدَاءِ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا فِي قَانُونِ كُلِّ دَوْلَةٍ، نَعَمْ; إِنَّهُمْ قَرَنُوا بِهَذَا الْحَقِّ لِلْقَائِدِ إِيجَابَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِمَ الْأُمُورَ بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَرْكَانَ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ وَرَئِيسَهُمُ مُقَيَّدُونَ بِدُسْتُورِ الدَّوْلَةِ الْعَامِّ، وَبِمُوَافَقَةِ مَجْلِسِ نُوَّابِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا نَصَّ الدُّسْتُورُ عَلَى وُجُوبِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ يُحَاكَمُ وَيُعَاقَبُ. (الْعَاشِرَةُ) أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ قَدْ تَغْلِبُ - بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَطَاعَةِ الْقُوَّادِ - الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي أَعْوَزَهَا الصَّبْرُ وَالِاتِّحَادُ، مَعَ طَاعَةِ الْقُوَّادِ; لِأَنَّ نَصْرَ اللهِ مَعَ الصَّابِرِينَ; أَيْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ أَثَرًا لِلثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَزَعِ وَالْجُبْنِ هُمْ أَعْوَانٌ لِعَدُوِّهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ لَا مُطَّرِدٌ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقَ بِلِقَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ فِي مَوَاقِفِ الْجِلَادِ; فَإِنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ إِلَهًا غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ يَمُدُّهُ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَمَدَّهُ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَإِذَا ظَفَرَ بِإِذْنِهِ كَانَ مُصْلِحًا فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمِرًا فِيهَا، وَإِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِانْتِهَاءِ أَجَلِهِ الْمُسَمَّى كَانَ فِي رَحْمَتِهِ نَاعِمًا فِيهَا، لَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْأَهْوَالِ، وَيَثْبُتَ فِي الْقِتَالِ ثَبَاتَ الْأَجْبَالِ، وَقَدْ وَافَقْنَا كِتَابَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ثَبَاتِ الْبُوَيْرِ وَبَلَائِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ لِلْإِنْجِلِيزِ كَوْنَهُمْ أَقْوَى إِيمَانًا وَأَرْسُخَ عَقِيدَةً، وَجَمِيعُ

الْأُمَمِ تَشْهَدُ بِأَنَّ الْجَيْشَ الْعُثْمَانِيَّ أَثْبَتُ جُيُوشِ الْعَالَمِ وَأَصْبَرَهُ وَأَشْجَعَهُ. وَقَدْ تَمَنَّى قَائِدٌ أَلْمَانِيٌّ يُعَدُّ مِنْ أَشْهَرِ قُوَّادِ الْأَرْضِ لَوْ أَنَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ هَذَا الْجَيْشِ لِيَمْلِكَ بِهَا الْعَالَمَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ جَيْشٌ يُؤْمِنُ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا قَوِيًّا يَقِلُّ فِي قُوَّادِهِ مَنْ يُسَاوِيهِ فِيهِ. (الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ مُفِيدٌ فِي الْقِتَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) إِذْ عَطَفَهَا بِالْفَاءِ عَلَى آيَةِ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى; فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ آيَةُ ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي بَيَّنَّا فَائِدَتَهُ آنِفًا; وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (8: 45) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ. (الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ مِنَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِتَنَازُعِ الْبَقَاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْحَرْبَ طَبِيعِيَّةٌ فِي الْبَشَرِ; لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ سُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ الْعَامَّةِ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لَيْسَ نَصًّا فِيمَا يَكُونُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ خَاصَّةً، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّنَازُعِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُدَافَعَةَ وَالْمُغَالَبَةَ. وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُتَطَفِّلِينَ عَلَى عِلْمِ السُّنَنِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنَّ تَنَازُعَ الْبَقَاءِ الَّذِي يَقُولُونَ إِنَّهُ سُنَّةٌ عَامَّةٌ هُوَ مِنْ أَثَرَةِ الْمَادِّيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُ جَوْرٌ وَظُلْمٌ، هُمُ الْوَاضِعُونَ لَهُ وَالْحَاكِمُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ الدِّينِ، وَلَوْ عَرَفَ مَنْ يَقُولُونَ هَذَا مَعْنَى الْإِنْسَانِ أَوْ لَوْ عَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ لَوْ فَهِمُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ لَمَا قَالُوا مَا قَالُوا. (الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) يُؤَيِّدُ السُّنَّةَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ بِالِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ أَوْ بَقَاءِ الْأَمْثَلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ جَعْلُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَا قَبْلَهُ; فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ مُدَافَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنِ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ فَسَادِ الْأَرْضِ، أَيْ: هُوَ سَبَبُ بَقَاءِ الْحَقِّ وَبَقَاءِ الصَّلَاحِ. وَيُعَزِّزُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)

(22: 39 - 41) فَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى تَنَازُعِ الْبَقَاءِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَحِفْظِ الْأَفْضَلِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ) (13: 17) فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ سُيُولَ الْحَوَادِثِ وَنِيرَانَ التَّنَازُعِ تَقْذِفُ زَبَدَ الْبَاطِلِ الضَّارَّ فِي الِاجْتِمَاعِ وَتَدْفَعُهُ، وَتُبْقِي إِبْلِيزَ الْحَقِّ النَّافِعَ الَّذِي يَنْمُو فِيهِ الْعُمْرَانُ، وَإِبْرِيزَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْإِنْسَانُ، وَهُنَاكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي أَنَّ الْحَقَّ يُزْهِقُ الْبَاطِلَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَدَفْعُ الشُّبَهِ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنْ أَمْهَلَنَا الزَّمَانُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. اهـ.

253

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ مُفَصَّلًا: كَانَ الْكَلَامُ إِلَى هُنَا فِي طَلَبِ بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ ضُرِبَ لَهُ مَثَلُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ فَمَاتُوا بِجُبْنِهِمْ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - ; أَيْ أَحْيَا أُمَّتَهُمْ بِنَفَرٍ مِنْهُمْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَمَثَلُ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ غَلَبَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ أَمَّتَهُمْ عَلَى أَمْرِهَا وَأَخْرَجُوهَا مِنْ دِيَارِهَا وَأَبْنَائِهَا، ثُمَّ نَصَرَهَا اللهُ - تَعَالَى - بِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ مُؤْمِنَةٍ بِلِقَائِهِ، صَابِرَةٍ فِي بَلَائِهِ، بَعْدَ هَذَا أَرَادَ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يُقَوِّيَ النُّفُوسَ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْطَابَ الْهِدَايَةِ، وَمَحَلَّ التَّوْفِيقِ مِنْهُ وَالْعِنَايَةِ، الَّذِينَ بَيَّنَ الدَّلِيلُ فِي آخِرِ السِّيَاقِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ سِيرَتُهُمْ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ دَاوُدَ وَمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، ذَكَرَهُمْ مُبَيِّنًا تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَوِ الْوَصْفِ مَنْ بَقِيَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ، وَذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي الِاخْتِلَافِ وَالِاقْتِتَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَوْضُوعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ وَبَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَكِنْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى:

تِلْكَ الرُّسُلُ أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ دَاوُدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْمُرَادُ بِالرُّسُلِ مَنْ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ مَنْ قَصَّ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ جَمَاعَةُ الرُّسُلِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي اخْتِيَارِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ وَهِدَايَةِ خَلْقِهِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ وَذِكْرُ بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاكًا مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ إِيتَائِهِ - تَعَالَى - دَاوُدَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ مِمَّا يَشَاءُ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ رُسُلُ اللهِ، فَهُمْ حَقِيقُونَ بِأَنْ يُتَّبَعُوا وَيُقْتَدَى بِهُدَاهُمْ وَإِنِ امْتَازَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي شَرَائِعِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ بِصِيغَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِلْفَاتُ الْأَذْهَانِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ تَفْخِيمًا لَهَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِسَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4: 164] وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [7: 143] وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [7: 144] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى قَدْ خُصَّ بِتَكْلِيمٍ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَإِنْ كَانَ وَحْيُ اللهِ - تَعَالَى - عَامًّا لِكُلِّ الرُّسُلِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [42: 51] فَجَعَلَ كَلَامَهُ لِرُسُلِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تُسَمَّى وَحْيَ اللهِ وَكَلَامَ اللهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّكْلِيمِ كَانَ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَجَلِّي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَلَّمَ اللهُ هُنَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ " مَنْ " يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. أَقُولُ: وَقَدْ خَاضَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّكْلِيمِ وَتَبِعَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ التَّكْلِيمَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ - تَعَالَى - كَالتَّعْلِيمِ وَالْكَلَامُ مَا يَكُونُ بِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي عِلْمِهِ، وَتَكْلِيمُهُ الرُّسُلَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ، وَمَا بِهِ الْإِعْلَامُ هُوَ كَلَامُ اللهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْكَلَامِ، أَيْ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيمُ مَتَى شَاءَ، كَمَا أَنَّهُ مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ مَتَى شَاءَ، هَذَا أَوْضَحُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - النَّفْسِيِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ صِفَةً ذَاتِيَّةً، بِهَا يُعَلِّمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ

مَتَى شَاءَ، وَهَذَا الْإِعْلَامُ هُوَ التَّكْلِيمُ وَالْوَحْيُ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ كَلَامِهِ الْقَدِيمِ، وَلَا عَنْ كَيْفِيَّةِ تَكْلِيمِهِ رُسُلَهُ وَإِيحَائِهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ إِلَّا النَّبِيُّ الْمُكَلَّمُ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْحَثَ فِيهِ وَنُحَاوِلَ الْوُقُوفَ عَلَى كُنْهِهِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ الْمُكَلَّمَ نَفْسَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُفْهِمَهُ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ لِلرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مِنْ تَكْلِيمِ اللهِ وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْوِجْدَانِ وَالشُّعُورِ النَّفْسِيِّ، كَالشُّعُورِ بِالسُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْخَوَاطِرِ، وَلَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ وَالْأَقْلَامِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِنَا مَا يُوهِمُ خِلَافَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَثَرَاتِ الْقَلَمِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيَانِ، لَا مِنْ شُذُوذٍ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الْإِيمَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَيَّدَهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْأُسْلُوبَ يُؤَيِّدُهُ وَيَقْتَضِيهِ ; أَيْ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَتَّبِعُ الرُّسُلَ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ مَعَ أَنَّ دِينَهُمْ وَاحِدٌ فِي جَوْهَرِهِ، وَالْمَوْجُودُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ، فَالْمُنَاسِبُ تَخْصِيصُ رُسُلِهِمْ بِالذِّكْرِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ آخِرِهِمْ فِي الْوَسَطِ لِلْإِشْعَارِ بِكَوْنِ شَرِيعَتِهِ وَكَذَا أُمَّتِهِ وَسَطًا. أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ مَا هُوَ خُصُوصِيَّةٌ فِي نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي كِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي أُمَّتِهِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ تُنْبِئُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68: 4] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَى أَشْهَرِهِمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21: 107] وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [34: 28] وَقَالَ - تَعَالَى - فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17: 9] الْآيَاتِ. وَقَالَ فِيهَا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [17: 88] وَقَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ [39: 23] الْآيَةَ. وَقَالَ فِيهَا: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [39: 55] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [16: 89] وَقَالَ:

مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6: 38] وَوَصَفَهُ بِالْحَكِيمِ وَبِالْمَجِيدِ وَبِالْعَظِيمِ وَبِالْمُبِينِ وَبِالْفُرْقَانِ، وَحَفِظَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَوَصَفَ الشَّرِيعَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [87: 8] وَقَالَ فِي أُمَّتِهِ، أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حَقَّ الِاتِّبَاعِ دُونَ الَّذِينَ لَقَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [2: 143] وَقَالَ فِيهَا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [3: 110] وَلَوْ أَرَدْتُ اسْتِقْصَاءَ الْآيَاتِ فِي وُجُوهِ دَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَأَتَيْتُ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا الْقَلِيلُ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلٌ، وَفِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ خَصَائِصِهِ مَا أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ وَهِيَ مِمَّا يَصِحُّ أَنَّ تُعَدَّ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْعُلَمَاءَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، بَلْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [19: 57] عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ بِمَعْنَى الدَّرَجَاتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى رَفْعِ اللهِ دَرَجَاتِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَمْلَ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، وَبَالَغَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مِنْهُ وَالْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَيَّدَهُ السِّيَاقُ وَرَضِيَ بِهِ الْأُسْلُوبُ، إِنَّمَا التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ هُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبًا يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ، ثُمَّ يُحَاوِلُونَ حَمْلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْأَخْذِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَرْكِ بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْبَيِّنَاتُ: هِيَ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [2: 92] وَرُوحِ الْقُدُسِ: هُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّنَا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42: 52] الْآيَةَ. وَقَالَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [16: 102] وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي آيَةِ (87) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا نُطِيلُ فِي إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ اسْمِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَنَّ مَا آتَاهُ لَمَّا كَانَ مُشْتَرَكًا كَانَ ذِكْرُهُ بِالْإِبْهَامِ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي كَوْنِهِ مِمَّنْ فُضِّلَ بِهِ، أَوِ الرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهٌ

لَا رَسُولٌ مُؤَيَّدٌ بِآيَاتِ اللهِ، ظَهَرَ لِي هَذَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ رَاجَعْتُ تَفْسِيرَ أَبِي السُّعُودِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَإِفْرَادُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَا ذُكِرَ لِرَدِّ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي شَأْنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: إِذْ جَرَيْنَا فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى تَفْسِيرِ مُفَسِّرِنَا " الْجَلَالِ " وَأَضْرَابِهِ نَكُونُ جَبْرِيَّةً لَا نَقْبَلُ دِينًا وَلَا شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ لَنَا فِي الْكَلَامِ عِبْرَةٌ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا قُصَارَاهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي غَرَسَ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ الْأَنْبِيَاءِ بُذُورَ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمَهُمُ الْعُدْوَانَ وَالِاقْتِتَالَ، فَإِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَكُونُوا هَكَذَا، فَكَانُوا مُضْطَرِّينَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ لَهُمُ اخْتِيَارٌ مَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَلْنَدَعْ هَذَا وَلْنَنْظُرْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْقَلِيلَةُ مِنِ اتِّفَاقِ حِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ مَشِيئَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَسُنَنِهِ فِي شُئُونِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، لَمْ يَخْلُقِ اللهُ النَّاسَ بِقُوًى مَحْدُودَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي أَفْرَادِهِمْ لَا تَتَجَاوَزُ طَلَبَ مَا بِهِ قِوَامُ الْحَسْمِ بِالْإِلْهَامِ الْفِطْرِيِّ وَالْإِدْرَاكِ الْجُزْئِيِّ، كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالطُّيُورِ الْحَائِمَةِ، بَلْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ كَمَا نَعْرِفُهُ الْآنَ، جَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَتَصَرَّفُ فِي أَنْوَاعِ شُعُورِهِ، وَفِكْرًا يَجُولُ فِي طُرُقِ حَاجَاتِهِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَجَعَلَ ارْتِقَاءَهُ فِي إِدْرَاكِهِ وَأَفْكَارِهِ كَسْبِيًّا، يَنْشَأُ ضَعِيفًا فَيَقْوَى بِالتَّدْرِيجِ حَسَبَ التَّرْبِيَةِ الَّتِي يُحَاطُ بِهَا، وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ، وَتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْأُسْوَةِ وَالتَّجَارِبِ فِيهِ، وَجَعَلَ هِدَايَةَ الدِّينِ لَهُ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا لَا وَصْفًا اضْطِرَارِيًّا، فَهِيَ مَعْرُوضَةٌ أَمَامَهُ يَأْخُذُ مِنْهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ وَفِكْرِهِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْأَخْذِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ مَنَافِعِ الْكَوْنِ. هَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ سُنَّتَهُ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ وَعَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ هَكَذَا - بِأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ إِلْهَامَاتِهِمُ الْعَامَّةِ وَشُعُورِهِمُ الْفِطْرِيِّ، كَشُعُورِ الْحَيَوَانِ وَإِلْهَامِهِ مَا فِيهِ مَنْفَعَتُهُ - لَكَانُوا فِي هِدَايَةِ الدِّينِ سَوَاءٌ ; يَسْعَدُونَ بِهِ أَجْمَعِينَ فَتَمْنَعُهُمْ بَيِّنَاتُهُ أَنْ يَخْتَلِفُوا فَيَقْتَتِلُوا، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى غَيْرِ مَا خَلَقَ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا فَأَخَذَ الدِّينَ عَلَى وَجْهِهِ ; إِذْ فَهِمَهُ حَقَّ فَهْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَبِسَهُ مَقْلُوبًا وَحَكَّمَ هَوَاهُ فِي تَأْوِيلِهِ فَكَانَ كَافِرًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ - وَإِنْ كَانَ غَالِيًا فِيمَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ - وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ التَّخَاصُمِ وَسَبَبَ التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ. اخْتَلَفَ الْيَهُودُ فِي دِينِهِمْ فَاقْتَتَلُوا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ تَخْتَلِفْ أُمَّةٌ اخْتِلَافَهُمْ، وَلَمْ يَقْتَتِلْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ اقْتِتَالَهُمْ، بَلْ كَانَ الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ يَتَشَعَّبُ إِلَى شُعَبٍ يُقَاتِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَحْذَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَشَدَّ الْحَذَرِ لِكَثْرَةِ مَا نَهَاهُمُ اللهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَأَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَهُ - تَعَالَى -

بِالِاتِّحَادِ وَالِاعْتِصَامِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي عَصْرِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَهُ، فَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ ذَهَبُوا فِي الدِّينِ مَذَاهِبَ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا فِي شَرِيعَتِهِ مَشَارِبَ، فَاقْتَتَلُوا فِي الدِّينِ قَلِيلًا وَفِي السِّيَاسَةِ الَّتِي صَبَغُوهَا بِصِبْغَةِ الدِّينِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَمَادَوْا فِي هَذَا الشِّقَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَانْتَهَوْا إِلَى زَمَنٍ صَارُوا فِيهِ أَبْعَدَ الْأُمَمِ عَنِ الِاتِّفَاقِ وَالِائْتِلَافِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، وَالْأَوْلَى أَنْ تُفَسَّرَ بِوَجْهٍ آخَرَ أَخَصَّ، كَأَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى ـ أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهُ فِي الْإِنْسَانِ - عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ - أَنْ يَعْذُرَ الْمُخْتَلِفُونَ مِنْ أَفْرَادِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُوَطِّنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِرَأْيِهِ بِالْحُجَّةِ، وَيَسْعَى إِلَى مَصْلَحَتِهِ بِالْفِطْنَةِ لَمَا اقْتَتَلُوا عَلَى مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُمْ دَرَجَاتٍ فِي الْفَهْمِ وَالْحَزْمِ، وَأَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمُ الْمُدَافَعَةَ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ وَالنِّضَالَ دُونَ مَصْلَحَتِهِمْ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، فَالْقَوِيُّ بِالرَّأْيِ يُحَارِبُ بِالرَّأْيِ وَالْقَوِيُّ بِالسَّيْفِ يُقَاوِمُ بِالسَّيْفِ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ وَالْمَصَالِحِ مَعًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مُؤَدِّيًا إِلَى الِاقْتِتَالِ لَا مَحَالَةَ. قَالَ: هَكَذَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ، فَلَا يُقَالُ: لِمَ خَلَقَهُ هَكَذَا؟ لِأَنَّ هَذَا بَحْثٌ عَنْ أَسْرَارِ الْخِلْقَةِ كَكِبَرِ أُذُنَيِ الْحِمَارِ وَصِغَرِ أُذُنَيِ الْجَمَلِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أَيْ إِنَّ اخْتِصَاصَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَزَايَا هُوَ أَثَرُ إِرَادَتِهِ وَتَخْصِيصِهَا فَلَا مَرَدَّ لَهُ. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنْ لَا تَكْرَارَ فِي الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اخْتِلَافِ الْبَشَرِ وَأَسْبَابِهِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا فِيمَا كَتَبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [2: 213] وَقَدْ عَنَّ لِي الْآنَ أَنْ أَخْتِمَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِسَرْدِ بَعْضِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، النَّاعِيَةِ عَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ وَالْمُخْتَلِفِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [3: 103] إِلَى أَنْ قَالَ: - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [3: 105] . إِنِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [6: 159] الْآيَةَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [30: 31: 32] . قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [6: 65] .

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [42: 13 - 15] إِلَخْ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ يُنَافِي الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، وَأَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَقَدْ أَرْشَدَنَا إِلَى الْمَخْرَجِ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفَهْمِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأَمْرِ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4: 59] . فَإِطَاعَةُ اللهِ هِيَ الْأَخْذُ بِكِتَابِهِ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَا رَأَيْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ. وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هِيَ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ، وَإِطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ هِيَ الْعَمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُولُو الشَّأْنِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَرُؤَسَائِنَا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرٍ اجْتِهَادِيٍّ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلَحُ لَنَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُنَا، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَادَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَالٍ. هَذَا حُكْمُ اللهِ الَّذِي أَبْطَلَهُ التَّقْلِيدُ بِمَا جَعَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَاجْتِمَاعِ رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ مِنَ الْحُجُبِ حَتَّى صَارَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، هَذَا خَارِجِيٌّ وَهَذَا شِيعِيٌّ، وَهَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا، وَشِيَعًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، هَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانَهُ وَيُحَارِبُ لِأَجْلِ هَوَاهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانًا يَعْصِي فِي طَاعَتِهِ نُصُوصَ الدِّينِ، وَقَدْ أَفْضَى الْخِلَافُ إِلَى غَايَةٍ هِيَ شَرُّ الْغَايَاتِ، وَخَاتِمَةٍ هِيَ سُوأَى الْخَوَاتِمِ ; وَهِيَ السُّكُوتُ لِكُلِّ مُبْتَدِعٍ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَالرِّضَا مَنْ كُلِّ مُقَلِّدٍ بِجَهَالَتِهِ، وَاتِّفَاقُ سَوَادِ الشِّيَعِ كُلِّهَا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ إِنَّكَ لَتَجِدُ فِي حَمَلَةِ الْعَمَائِمِ، وَسَكَنَةِ الْأَثْوَابِ الْعَبَاعِبِ مَنْ لَا يُنْكِرُ عَلَى التِّلْمِيذِ الْمُبْتَدِئِ أَنْ يَقْرَأَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ الَّتِي تَطْعَنُ كَبِدَ الدِّينِ، وَتُحَاوِلُ هَدْمَ بِنَائِهِ الْمَتِينِ، وَيُنْكِرُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ كِتَابٍ أَوْ صَحِيفَةٍ تَدْعُوهُ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَعُدُّ هَذَا الْإِنْكَارَ غَيْرَةً عَلَى الدِّينِ وَخِدْمَةً لَهُ! ! فَأَيُّ بُعْدٍ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ، وَأَيُّ أَثَرٍ لِلتَّقْلِيدِ شَرٌّ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ؟ أَمَّا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ: فَأَوَّلُهُ مَا كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ فِئَةُ الثَّانِي هِيَ الْبَاغِيَةُ، وَاللهُ يَقُولُ فِيمَنْ سَبَقَهُمْ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [42: 14]

ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ الشِّيعَةِ، وَآخِرُهَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمَصْرِيِّينَ وَالْوَهَّابِيِّينَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَمَنْ أَرَادَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ التَّارِيخِ لَا سِيِّمَا تَارِيخِ بَغْدَادَ وَحَادِثَةِ خُرُوجِ التَّتَرِ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ حَادِثَةٍ زَلْزَلَتْ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَرْضِ، وَدَمَّرَتْ بِلَادَهُمْ تَدْمِيرًا، فَقَدْ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَابْنُ الْعَلْقَمِيِّ الشِّيعِيُّ الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ 656هـ فَخَرَّبُوهَا وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا الشُّرَفَاءَ شِيعَةً وَغَيْرَ شِيعَةٍ، وَوَبَّخَهُ هُولَاكُو عَلَى خِيَانَتِهِ فَمَاتَ غَمًّا، وَالْفِتَنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَتْلُ الْأَوَّلِينَ لِلْآخِرِينَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ أَوَّلَ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّقُونَهُمْ بِالنَّارِ وَيَنْهَبُونَ دُورَهُمْ، وَتَارِيخُ بَغْدَادَ مَمْلُوءٌ بِالْفِتَنِ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَانَ أَشَدُّ الْخِلَافِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ لِذَلِكَ، وَلَا يَنْسَيَنَّ الرَّاجِعُ إِلَى التَّارِيخِ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، إِذْ تَقَلَّدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ خَرَابِ مَرْوَ عَاصِمَةِ خُرَاسَانَ. أَقُولُ: إِنَّ الْوُجُودَ قَدْ كَانَ وَمَا زَالَ مُصَدِّقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ إِهْلَاكِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لِلْأُمَمِ وَإِفْسَادِهِ لِلدِّينِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كِتَابُ اللهِ هَذَا الْمَرَضَ الِاجْتِمَاعِيَّ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ عِلَاجَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَحْكِيمُ اللهِ - تَعَالَى - فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَرَدُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُمُورِ الْحَرْبِيَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [4: 83] وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلَاجَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ ذَهَبَ بِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ رَأْيٌ وَلَا مَشُورَةٌ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمِيرٌ وَلَا سُلْطَانٌ، مَا كَانَ هُنَاكَ إِلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ وُجُوهَ الْمَصْلَحَةِ مَعَ فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ رِجَالٌ أَهْلُ بَصِيرَةٍ وَرَأْيٍ فِي سِيَاسَتِهَا وَمَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَقُدْرَةٍ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَمْرُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ أَهْلُ الشُّورَى، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ بَيْعَةَ الْخِلَافَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْخَلِيفَةَ وَيُبَايِعُونَهُ بِرِضَاهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ عِنْدَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى بِنُوَّابِ الْأُمَّةِ.

لَوْ وُجِدَ هَؤُلَاءِ فِي بِلَادٍ إِسْلَامِيَّةٍ لَتَيَسَّرَ لَهُ إِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَإِنْجَائِهِمْ مِنْ شُرُورِهِ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَبِإِقَامَتِهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حِفْظِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ حَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ فَبِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاعْتِبَارُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَيُحْمَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ. وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ صَاحِبُ الدَّلِيلِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَادِيَ أَوْ يُمَارِيَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلُهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَافِقِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُذْكَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ اسْتَفْتَى فِيهِ مَنْ يَثِقُ بِوَرَعِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، وَذَلِكَ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ لَهُ حُكْمَ اللهِ فِيهِ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا عِنْدَهُ فِيهِ مِنْ آيَةٍ كَرِيمَةٍ أَوْ سُنَّةٍ قَوِيمَةٍ، وَيُبَيِّنُ لَهُ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَارِ. هَكَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّتُهُمْ، وَأَنَّى لِلْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُمْ فَاقِدُو أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تُفَوِّضُ الْأُمَّةُ إِلَيْهِمْ أُمُورَهَا الْعَامَّةَ وَتَجْعَلُهُمْ مُسَيْطِرِينَ عَلَى حُكَّامِهَا وَأَحْكَامِهَا؟ قَدِ اهْتَدَى الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى مَضَارِّ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَى أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا قُلْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ " مُنَاظَرَةً دَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُطَاعُ طَاعَةً عَمْيَاءَ، وَإِنَّنَا نُورِدُ بَعْضَ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - بَعْدَ كَلَامٍ فِي الِاخْتِلَافِ: فَقَالَ - أَيْ مُنَاظِرُهُ الْبَاطِنِيُّ -: كَيْفَ نَجَاةُ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ؟ قُلْتُ: إِنْ أَصْغَوْا إِلَيَّ رَفَعْتُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنْ لَا حِيلَةَ فِي إِصْغَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصْغُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا إِلَى إِمَامِكَ فَكَيْفَ يُصْغُونَ إِلَيَّ؟ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِصْغَاءِ وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَكَوْنُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ضَرُورِيًّا تَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ: " جَوَابُ مُفَصَّلِ الْخِلَافِ وَهُوَ الْفُصُولُ الِاثْنَا عَشَرَ ". " فَقَالَ: فَلَوْ أَصْغَوْا إِلَيْكَ كَيْفَ كُنْتَ تَفْعَلُ؟ قُلْتُ: كُنْتُ أُعَامِلُهُمْ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنْزَلَنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [57: 25]

الْآيَةَ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَ لِأَنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: عَوَامٌّ: وَهُمْ أَهْلُ السَّلَامَةِ الْبُلْهُ: وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَخَوَاصٌّ: وَهُمْ أَهْلُ الذَّكَاءِ وَالْبَصِيرَةِ. وَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمْ طَائِفَةٌ هُمْ أَهْلُ الْجَدَلِ وَالشَّغَبِ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ. " أَمَّا الْخَوَاصُّ فَإِنِّي أُعَالِجُهُمْ بِأَنْ أُعَلِّمَهُمُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَكَيْفِيَّةَ الْوَزْنِ بِهَا فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ عَلَى قُرْبٍ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ اجْتَمَعَ فِيهِمْ ثَلَاثُ خِصَالٍ: " أَحَدُهَا " الْقَرِيحَةُ النَّافِذَةُ وَالْفَطِنَةُ الْقَوِيَّةُ، وَهَذِهِ فِطْرِيَّةٌ وَغَرِيزَةٌ جِبِلِّيَّةٌ لَا يُمْكِنُ كَسْبُهَا " الثَّانِيَةُ " خُلُوُّ بَاطِنِهِمْ مِنْ تَقْلِيدٍ وَتَعَصُّبٍ لِمَذْهَبٍ مَوْرُوثٍ مَسْمُوعٍ، فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُصْغِي وَالْبَلِيدَ وَإِنْ أَصْغَى لَا يَفْهَمُ " الثَّالِثَةُ " أَنْ يَعْتَقِدَ أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ بِالْمِيزَانِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّكَ تَعْرِفُ الْحِسَابَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْكَ ". " وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الْبُلْهُ. وَهُمْ جَمِيعُ الْعَوَامِّ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِطْنَةٌ لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِطْنَةٌ فِطْرِيَّةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ دَاعِيَةُ الطَّلَبِ، بَلْ شَغَلَتْهُمُ الصِّنَاعَاتُ وَالْحِرَفُ. وَلَيْسَ فِيهِمْ أَيْضًا دَاعِيَةُ الْجَدَلِ بِخِلَافِ الْمُتَكَايِسِينَ فِي الْعِلْمِ مَعَ قُصُورِ الْفَهْمِ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ. فَأَدْعُو هَؤُلَاءِ إِلَى اللهِ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا أَدْعُو أَهْلَ الْبَصِيرَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَأَدْعُو أَهْلَ الشَّغَبِ بِالْمُجَادَلَةِ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ أَوَّلًا، فَأَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ: عَلِّمْنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ. فَعَلِمَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: وَمَاذَا عَمِلْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ؟ أَيِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ اذْهَبْ فَأَحْكِمْ رَأْسَ الْعِلْمِ ثُمَّ ارْجِعْ لِأُعَلِّمَكَ مِنْ غَرَائِبِهِ فَأَقُولُ لِلْعَامِّيِّ لَيْسَ الْخَوْضُ فِي الِاخْتِلَافَاتِ مِنْ عُشِّكَ فَادْرُجْ فَإِيَّاكَ أَنْ تَخُوضَ فِيهِ أَوْ تُصْغِيَ إِلَيْهِ فَتَهْلَكَ، فَإِنَّكَ إِذَا صَرَفْتَ عُمُرَكَ فِي صِنَاعَةِ الصِّيَاغَةِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِيَاكَةِ، وَقَدْ صَرَفْتَ عُمُرَكَ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْ أَهْلِ الْخَوْضِ فِيهِ؟ فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُهْلِكَ نَفْسَكَ، فَكُلُّ كَبِيرَةٍ تَجْرِي عَلَى الْعَامِّيِّ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْعِلْمِ، فَيَكْفُرُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي ". " فَإِنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ دِينٍ أَعْتَقِدُهُ وَأَعْمَلُ بِهِ لِأَصِلَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْأَدْيَانِ، فَبِأَيِّ دِينٍ تَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ أَوْ أُعَوِّلَ عَلَيْهِ؟ فَأَقُولُ لَهُ: لِلدِّينِ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ، وَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِمَا، أَمَّا الْأُصُولُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَعْتَقِدَ فِيهَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْتُرْ عَنْ عِبَادِهِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ فَعَلَيْكَ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ اللهَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ قُدُّوسٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ

254

الْأَئِمَّةُ، فَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَإِنْ تَشَابَهَ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَقُلْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3: 7] وَاعْتَقِدْ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِهَا عَلَى غَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقْدِيسِ، مَعَ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ وَاعْتِقَادِ أَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَبَعْدَ هَذَا لَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْقِيلِ وَالْقَالِ، فَإِنَّكَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَلَا هُوَ عَلَى حَدِّ طَاقَتِكَ، فَإِنْ أَخَذَ يَتَحَذْلَقُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ عَالِمٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالذَّاتِ أَوْ بِعِلْمٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، فَقَدْ خَرَجَ بِهَذَا عَنْ حَدِّ الْعَوَامِّ; إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَلْتَفِتُ قَلْبُهُ إِلَى هَذَا مَا لَمْ يُحَرِّكْهُ شَيْطَانُ الْجَدَلِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا إِلَّا يُؤْتِهِمُ الْجَدَلَ، كَذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ وَإِذَا الْتَحَقَ بِأَهْلِ الْجَدَلِ فَأَذْكُرُ عِلَاجَهُمْ: " هَذَا مَا أَعِظُ بِهِ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ الْحَوَالَةُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهَمُّ الْحَوَالَةِ عَلَى الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَأَقُولُ: لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ مَا لَمْ تَفْرُغْ عَنْ جَمِيعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ زَادَ الْآخِرَةِ هُوَ التَّقْوَى وَالْوَرَعُ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الْحَرَامَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَالنَّمِيمَةَ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالْخِيَانَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ حَرَامٌ، وَالْفَرَائِضُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنْ فَرَغْتَ مِنْ جَمِيعِهَا عَلَّمْتُكَ طَرِيقَ الْخَلَاصِ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنْ هُوَ طَالَبَنِي بِهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذَا فَهُوَ جَدَلِيٌّ وَلَيْسَ بِعَامِّيٍّ، أَفَرَأَيْتَ رُفَقَاءَكَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ جَمِيعِ هَذَا ثُمَّ أَخَذَ إِشْكَالُ الْخِلَافُ بِمَخْنَقِهِمْ؟ هَيْهَاتَ مَا أَشْبَهَ ضَعْفَ عُقُولِهِمْ فِي خِلَافِهِمْ إِلَّا بِعَقْلٍ مَرِيضٍ بِهِ مَرَضٌ أَشْرَفَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ وَلَهُ عِلَاجٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَطِبَّاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْأَطِبَّاءُ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ أَنَّهَا حَارَّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ وَرُبَّمَا افْتَقَرْتُ إِلَيْهِ يَوْمًا، فَأَنَا لَا أُعَالِجُ نَفْسِي حَتَّى أَجِدَ مَنْ يُعَلِّمُنِي رَفْعَ الْخِلَافِ فِيهِ " إِلَى آخَرِ مَا أَطَالَ بِهِ، وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا رَأْيُهُ فِي الْخَوَاصِّ وَكَيْفَ يُعَالِجُهُمْ بِمَوَازِينِ الْبَرَاهِينِ، وَفِي أَهْلِ الْجَدَلِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ جِدَالَهُمْ يَكُونُ بِمِثْلِ مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ الَّذِي يَبْغِي بِجَدَلِهِ فِتْنَةَ الْعَوَامِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْحَدِيدُ ; أَيْ قُوَّةُ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ فِتْنَةِ بَعْضٍ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِالرُّسُلِ وَمَا كَانَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ بَعْدَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِاقْتِتَالِ، عَادَ إِلَى أَمْرِنَا بِالْإِنْفَاقِ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. هُنَالِكَ يَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ [2: 245] وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى مَا فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ اللُّطْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَزِيدُ هُنَا أَنَّ هَذَا اللُّطْفَ إِنَّمَا يَفْعَلُ فِعْلَهُ وَيَبْلُغُ نِهَايَةَ تَأْثِيرِهِ فِيمَنْ بَلَغَ فِي الْإِيمَانِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَعَرَّجَ فِي الْكَمَالِ إِلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ، وَلَطُفَ وِجْدَانُهُ وَشُعُورُهُ، وَتَأَلَّقَ ضِيَاؤُهُ وَنُورُهُ، وَمَا كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ يُدْرِجُونَ فِي هَذِهِ الْمَدَارِجِ، أَوْ يَرْتَقُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِجِ؛، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ يَفْعَلُ فِي نُفُوسِهِمُ التَّرْهِيبُ مَا لَا يَفْعَلُ التَّرْغِيبُ، فَهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ أَوْ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرُورُ بِشَفَاعَةٍ تُغْنِي هُنَالِكَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ فِدْيَةٍ تَقِي صَاحِبَهَا عَاقِبَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّلَلِ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَالَجُونَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ: " لَا بَيْعَ " وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَشْتَمِلُ الْمَنْدُوبَ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا وَقَعَ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ وَتَوَقَّفَتْ إِزَالَتُهُ عَلَى الْمَالِ أَنْ يَبْذُلُوهُ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْفَاشِيَةِ وَالْغَوَائِلِ الْغَاشِيَةِ، وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْضَ مَا جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ مَنْ رِزْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الطَّلَبِ بِصِيغَةِ الْإِقْرَاضِ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّنَا مَا رَزَقْنَاكُمُ الرِّزْقَ الْحَسَنَ وَاسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِيهِ إِلَّا وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ أَيْدِي قَوْمٍ أَسَاءُوا التَّصَرُّفَ فَحَبَسُوا الْمَالَ وَأَمْسَكُوهُ عَنِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا شَأْنُ الْبَشَرِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ بِبُخْلِهِمْ، فَكَانُوا كَافِرِينَ بِنِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، إِذْ لَمْ يَضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا ; وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. أَمَّا الْبَيْعُ وَالْخُلَّةُ وَالشَّفَاعَةُ فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِنَفْيِهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ الْكَسْبُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُعَارَضَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْخُلَّةِ - وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِلْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا - لَازِمُهَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ وَرَاءَهَا مِنَ الْكَسْبِ كَالصِّلَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ. وَبِالشَّفَاعَةِ - وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ - لَازِمُهَا فِي الْكَسْبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ إِقْطَاعَاتِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا بِالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِمْ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، فَهَذِهِ الثَّلَاثُ مِنْ طَرَائِقِ جَمْعِ الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَقُولُ - مَا مَعْنَاهُ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بَادِرُوا إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ

يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا تَجِدُونَ فِيهِ مَا تَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ مِمَّا يُكْسَبُ بِبَيْعٍ وَتِجَارَةٍ، وَلَا مِمَّا يُنَالُ بِخُلَّةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ فَقْرُ الْعِبَادِ وَكَوْنُ الْمُلْكِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي: فَقَدْ فَسَّرُوا فِيهِ الْبَيْعَ بِالِافْتِدَاءِ وَجَعَلُوا فِيهِ الْخُلَّةَ وَالشَّفَاعَةَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، أَيْ أَنْفِقُوا فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ - وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ - هُوَ الَّذِي يُنْجِيكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يُنْجِي الْأَشِحَّةَ الْبَاخِلِينَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ - تَعَالَى - فِدَاءٌ فَيَفْتَدُوا مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا خُلَّةٌ يَحْمِلُ فِيهَا خَلِيلٌ شَيْئًا مِنْ أَوْزَارِ خَلِيلِهِ، أَوْ يَهَبُهُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَا شَفَاعَةٌ يُؤْثِرُ بِهَا الشَّفِيعُ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَيُحَوِّلُهَا عَنْ مُجَازَاةِ الْكَافِرِ بِالنِّعْمَةِ الْبَاخِلِ بِالصَّدَقَةِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْمَقْتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَدْنِيسِ نَفْسِهِ وَتَدْسِيَتِهَا فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَالْآيَةُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [2: 48] فَقَوْلُهُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا بِمَعْنَى نَفْيِ الْخُلَّةِ هُنَا، وَالْعَدْلُ: هُوَ الْفِدَاءُ بِالْعِوَضِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ الْمَنْفِيِّ هُنَا، وَمِثْلُهَا آيَةُ (123) ، وَالْخِطَابُ فِي تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ يَقِيسُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَثَنِيِّينَ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ فِي الْآخِرَةِ بِفِدَاءٍ يَفْتَدِي بِهِ أَوْ شَفَاعَةٍ تَنَالُهُ مِنْ سَلَفِهِ النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ، كَدَأْبِ الْأُمَرَاءِ، وَالسَّلَاطِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فَاسِقًا ظَالِمًا فَاسِدَ الْأَخْلَاقِ مَنَّاعًا لِلْخَيْرِ مُعْتَدِيًا أَثِيمًا. وَقُصَارَى هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ هِيَ كَالْمَعْرُوفِ لِلْعَامَّةِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ جَزَاءً لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، أَيْ لَيْسَتْ أَثَرًا لِشَيْءٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، إِنَّمَا الْغَالِبُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بِإِسْعَادِ غَيْرِهِ لَهُ، وَخَيْرُ ضُرُوبِ هَذَا الْإِسْعَادِ وَأَعْلَاهَا مَا يَكُونُ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَرْءَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْبَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ بِكَلِمَةٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا الشَّافِعُ، فَمَنْ كَانَ يَطْلُبُ فِي الْآخِرَةِ مُنْتَهَى السَّعَادَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللهِ لِيَشْفَعَ لَهُ هُنَاكَ وَلَا يُكَلِّفَنَّ نَفْسَهُ عَنَاءَ التَّهْذِيبِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَطَأَهُمْ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ بِمَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَأَنْذَرَهُمْ مَا أَنْذَرَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ بِأَصْلِ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْعٌ وَلَا خَلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ; أَيْ هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَنْفَعَةِ الْفِدَاءِ، وَالْخُلَّةُ وَالشَّفَاعَةُ خَاصٌّ بِمَنْ لَا يُسَمِّي نَفْسَهُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا مَنْ قَبِلَ هَذَا الِاسْمَ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَتَنَاوَلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلَّذِينِ آمَنُوا، وَسَتَعْلَمُ أَنَّ لَفْظَ الْكَافِرِينَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُنْكِرُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ أَوْ رَافِضُو لَقَبِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْقُرْآنُ.

سَبَقَ الْقَوْلُ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْجَزَاءِ وَالْفِدَاءِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا [2: 48] الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا فَلَا نُعِيدُهُ، وَلَكِنْ بَدَا لِي أَنْ أَكْتُبَ جُمْلَةً وَجِيزَةً فِي مَسْأَلَةِ قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ فِي الْتِمَاسِ السَّعَادَةِ بِالْإِسْعَادِ وَالشَّفَاعَةِ، فَأَقُولُ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ بَاطِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقِ ظَنِّهِمْ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ - وَهِيَ أَكْبَرُ الشَّهَادَاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ - مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّ الشَّفِيعَ هُنَا يُحْدِثُ فِي ذِهْنِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِالْمَصْلَحَةِ وَفِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَيْلِ وَالْأَثَرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا، فَيَعْفُو وَيَصْفَحُ أَوْ يَهَبُ وَيَمْنَحُ، إِمَّا بِهَذِهِ الْعَاطِفَةِ وَإِمَّا بِتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ ; لِأَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَصْدَرَيْنِ فِي النَّفْسِ أَوْ عَنْ كِلَيْهِمَا، وَأَمَّا أَفْعَالُ اللهِ - تَعَالَى - فَهِيَ تَابِعَةٌ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهَا تَغْيِيرٌ مَا، وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا السُّفَهَاءُ الْمَغْرُورُونَ وَقَدْ نَفَاهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِيهَا وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ جِدًّا أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْوِجْدَانِ، الْمُصَرِّفِ لِلْإِرَادَةِ فِي الْأَعْمَالِ. وَإِنَّمَا الَّذِي أُرِيدَ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: هُوَ أَنَّ السَّعَادَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي يَعْرِفُهَا الشَّرْعُ وَيُؤَيِّدُهُ الِاخْتِبَارُ وَالْعَقْلُ، هِيَ فِي الْأَنْفُسِ لَا فِي الْآفَاقِ ; أَعْنِي أَنَّهَا لَا تُنَالُ بِإِسْعَادِ الْأَخِلَّاءِ، وَلَا بِشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ، إِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِيهَا عَلَى اعْتِدَالِ النَّفْسِ فِي أَخْلَاقِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَصِحَّةِ عَقَائِدِهَا وَمَعَارِفِهَا، وَيَتْبَعُ هَذَا فِي الْغَالِبِ صِحَّةُ الْجِسْمِ، وَسُهُولَةُ طُرُقِ الرِّزْقِ، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَفْتِكُ بِالْعُقُولِ وَالْأَجْسَامِ، وَيَظْهَرُ صِدْقُ هَذَا الْقَوْلِ ظُهُورًا بَيِّنًا تَقِلُّ فِيهِ الشُّبَهَاتُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تُسَاسُ بِالْعَدْلِ وَيَكُونُ الْحُكَّامُ فِيهَا مُقَيَّدِينَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تُكَلِّفُهَا الْأُمَّةُ، وَإِنَّمَا تُعْرَضُ الشُّبَهَاتُ عَلَى صِدْقِهِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا السَّلَاطِينُ بِإِرَادَتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَيُعْطُونَ مِنْ مَالِ الْأُمَّةِ مَا أَرَادُوا لِمَنْ أَرَادُوا، وَيَسْلُبُونَ مِنْ أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ مَا أَحَبُّوا فَيُنْفِقُونَهُ عَلَى مَنْ أَحَبُّوا، وَيُحَكِّمُونَ مَنْ شَايَعَهُمْ - عَلَى ظُلْمِهِمْ - فِي أَنْفُسِ الْخَاضِعِينَ لِحُكْمِهِمْ، وَلَا يُشَايِعُهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ فَاسِدَ الْأَخْلَاقِ سَيِّئَ الْأَعْمَالِ يُؤْثِرُ هَوَاهُمْ عَلَى رِضْوَانِ اللهِ - إِنْ كَانَ يَكْفُرُ فِي رِضْوَانِ اللهِ أَوْ يُؤْمِنُ بِهِ - وَعَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، فَمَا يَتَمَتَّعُ بِهِ أَعْوَانُ الظَّالِمِينَ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ وَمَا يَنَالُهُ أَشْيَاعُهُمْ مِنْ مَنَافِعِ شَفَاعَتِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ مِنَ الشَّقَاءِ لَا مِنَ السَّعَادَةِ، أَفَعَلَى حُكْمِ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ نَقِيسُ حُكْمَ رَبِّ الْعِزَّةِ فِي يَوْمِ الدِّينِ، أَيْنَ نَحْنُ إِذًا مِنْ قَوْلِهِ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21: 47] إِذَا خَفِيَ شَقَاءُ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ وَأَشْيَاعِهِمْ عَلَى الْجَاهِلِ فِي طَوْرِ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِدْرَاجِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَيَعْرِفُ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَوْمَ يَأْخُذُهُمُ اللهُ بِظُلْمِهِمْ، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْلُبُ مُلْكَهُمْ، وَتَشْقَى

بِهِمُ الْأُمَّةُ الَّتِي رَضِيَتْ بِأَحْكَامِهِمْ. فَهَلْ يُشَبَّهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْلُحُونَ! سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [37: 180 أَقُولُ: لا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ نَفْيِ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ تَعْرِيضٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَمْنَحُونَ بِالشَّفَاعَةِ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ وَيَمْنَعُونَ الْمُسْتَحِقَّ وَيُعَاقِبُونَ بِهَا الْبَرِيءَ وَيَعْفُونَ عَنِ الْمُجْرِمِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ بِالنِّعَمِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُنْفِقُونَ فِي سُبُلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَقَدْ صَارَ الظُّلْمُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ تَشْنِيعًا لِحَالِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ ظُلْمٍ غَيْرَ ظُلْمِهِمْ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَدَنَّسُوهَا بِرَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ، وَظَلَمُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ فُرِضَتْ لَهُمُ الصَّدَقَةُ بِمَنْعِهِمْ مِمَّا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ، وَظَلَمُوا الْأُمَّةَ بِإِهْمَالِ مَصَالِحِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِسَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ أُمَّةً يُؤَدِّي أَغْنِيَاؤُهَا مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ لِفُقَرَائِهَا وَلِمَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ لَا تَهْلَكُ وَلَا تَخْزَى، وَلَا شَيْءَ أَسْرَعُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَّةِ مِنْ فُشُوِّ الْبُخْلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ فِي أَفْرَادِهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ مِمَّا يَتَهَاوَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَفِي أَزْمِنَةٍ قَبْلَهَا ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُونَ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْجَاحِدُونَ لِلْأُلُوهِيَّةِ أَوْ لِلنُّبُوَّةِ أَوْ لِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ إِجْمَاعًا، وَهَذِهِ الْآيَةٌ نَفْسُهَا تُبْطِلُ ظَنَّهُمْ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ " يَعْنِي أَنْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ امْرُؤٌ مِنْ ظُلْمٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِرًا لَهَلَكَ النَّاسُ، وَقَدْ فَاتَ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْكُفْرَ فِي الْقُرْآنِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَيُطْلَقَانِ تَارَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَمِنْهُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُقَابِلُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [6: 33] وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31: 13] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [6: 82] فُسِّرَ الظُّلْمُ هُنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ وَتَلَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ السَّابِقَةَ شَاهِدًا، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْكُفْرِ بِمَعْنَى كُفْرِ النِّعَمِ بِعَمَلِ السُّوءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لِشَدِيدٌ [14: 7] بَلِ اسْتُعْمِلَ الْكُفْرُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنًى لُغَوِيٍّ غَيْرِ مَذْمُومٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [57: 20] الْكُفَّارُ هُنَا بِمَعْنَى الزُّرَّاعِ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ، أَيْ يُغَطُّونَهُ وَيَسْتُرُونَهُ. وَالسِّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلِ الظُّلْمُ فِي مَعْنًى مَحْمُودٍ قَطُّ، فَالظُّلْمُ فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهِ شَرٌّ مِنَ الْكُفْرِ فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهِ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَوَعَّدَ عَلَى الظُّلْمِ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ سَوَاءٌ كَانَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي. قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [14: 28 - 30] الْوَعِيدُ الْأَوَّلُ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَتَرْكِ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الصَّالِحَةِ، وَالْوَعِيدُ الثَّانِي عَلَى الشِّرْكِ وَكِلَاهُمَا مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [16:112 - 114] فَالْوَعِيدُ الْأَوَّلُ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَالثَّانِي مِثْلُهُ وَهُوَ عَلَى الظُّلْمِ فِي الِاعْتِقَادِ. وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ وَالتَّوْحِيدَ الْخَالِصَ يَقْتَضِي شُكْرَ النِّعَمِ وَحُسْنَ الْعَمَلِ. وَمِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الظُّلْمِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [19: 72] أَيْ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [42: 45] وَأَمَّا وَعِيدُ الظَّالِمِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَهَلَاكِ الْأُمَّةِ فَكَثِيرٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11: 102] إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ لَا وَجْهَ لَهُ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِتَابِهِ - تَعَالَى - وَفِي حُكْمِهِ سَوَاءٌ ; وَأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي الْعَمَلِ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَّا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ اللَّمَمِ، فَقَدْ يُلِمُّ بِالْمُؤْمِنِ الذَّنْبُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ غَلَبَةِ انْفِعَالٍ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِنَّ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لَيْسَ مِنَ اللَّمَمِ، فَالْمَنْعُ لَهُ لَا يَتَّفِقُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَيُعْجِبُنِي مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَالَ: " يُرِيدُ: وَالتَّارِكُونَ لِلزَّكَاةِ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ وَضَعُوا الْمَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَصَرَفُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. فَوُضِعَ " الْكَافِرُونَ " مَوْضِعَهُ تَغْلِيظًا وَتَهْدِيدًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ [3: 97] مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [41: 6، 7] اهـ ". وَقَدْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، أَيْ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ صِفَةً لَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: لَوْ فَتَّشْتُمْ عَنْ خَفَايَا النَّفْسِ لَوَجَدْتُمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ هِيَ أَنَّ حُبَّ الْمَالِ أَعْلَى فِي قَلْبِ الْمَانِعِ مِنْ حُبِّ اللهِ - تَعَالَى -، وَشَأْنُ الْمَالِ أَعْظَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حُقُوقِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّ النَّفْسَ تُذْعِنُ دَائِمًا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ فِي شُعُورِهَا نَفْعًا، وَأَعْظَمُ فِي وِجْدَانِهَا وَقْعًا، مَهْمَا تَعَارَضَتْ وُجُوهُ الْمَنَافِعِ، وَلَوْ وَزَنْتُمْ جَمِيعَ

أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ لَوَجَدْتُمْ أَرْجَحَهَا ظُلْمَ الْبَاخِلِ بِفَضْلِ مَا لَهُ عَلَى مَلْهُوفٍ يُغِيثُهُ وَمُضْطَرٍّ يَكْشِفُ ضَرُورَتَهُ، أَوْ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقِي أُمَّتَهُ مُصَارِعَ الْهَلَكَاتِ أَوْ تَرْفَعُهَا عَلَى غَيْرِهَا دَرَجَاتٍ، أَوْ تَسُدُّ الْخُرُوقَ الَّتِي حَدَثَتْ فِي بِنَاءِ الدِّينِ، أَوْ تُزِيلُ السُّدُودَ وَالْعَقَبَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الظُّلْمِ هُوَ الَّذِي لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعُذْرِ الَّتِي يَتَعَلَّلُ بِهَا سِوَاهُ مِنْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، أَوِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ أَعْذَارًا طَبِيعِيَّةً فِيمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِأَدَبِ الدِّينِ، كَسَوْرَةِ الْغَضَبِ وَثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ الْعَارِضَةِ. (قَالَ) : تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَارِفِينَ بِمَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ مِنَ الْجَهْلِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَتَقَطُّعِ الرَّوَابِطِ وَتَرَاخِي الْأَوَاخِي وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَضْمِ حُقُوقِهَا وَانْتِزَاعِ مَنَافِعِهَا مِنْ أَيْدِي أَبْنَائِهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ إِصْلَاحَهُمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفَقُ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ هُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى بَذْلِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرِ مَا خَزَنُوهُ فِي صَنَادِيقِ الْحَدِيدِ وَمَا يُنْفِقُونَهُ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَتَأْيِيدِ أَهْوَائِهِمْ وَحُظُوظِهِمْ فَيَبْخَلُونَ بِذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مَغْرَمًا ثَقِيلًا، وَلَا يَحْلِفُونَ بِوَعْدِ اللهِ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ وَلَا وَعِيدِهِ لِلْبَاخِلِينَ بِفَضْلِهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي نَفْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عِرْقٌ يَنْبِضُ فِي التَّأَلُّمِ لِمَصَائِبِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ كَانَ يَرَى أَنَّ مَالَهُ أَفْضَلُ مِنْ دِينِهِ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعَمَلِ، وَهَوَاهُ أَرْجَحُ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ حَقِيقَةً وَإِنْ سَمَّى نَفْسَهُ مُؤْمِنًا فَمَا إِيمَانُهُ إِلَّا كَإِيمَانِ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [2: 8] فَهُنَاكَ يُحْكَى عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِهِ ; لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَشْهَدُ لِإِيمَانِهِمْ وَهَاهُنَا يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْكَافِرِينَ، وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يُطْلِقَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى مَنْ كَانَ لِلْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ بَقِيَّةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ إِيثَارًا لِرِضْوَانِهِ وَخَشْيَتِهِ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظِ الْبَاطِلَةِ وَتَرْجِيحًا عَلَى حُبِّ الْمَالِ. وَأَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَوْهَرِ الدِّينِ وَمَا بِهِ النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ. وَأَقُولُ: مَاذَا يَبْلُغُ وَزْنُ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ إِذَا وُضِعَ فِي مِيزَانِ الْقُرْآنِ وَقُوبِلَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمْ إِنْفَاقَ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ مُنْذِرًا إِيَّاهُمْ بِأَنَّ الْبُخْلَ قَاضٍ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِبْدَالِ قَوْمٍ آخَرِينَ بِهِمْ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلُ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47: 38

255

اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَنَا - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَالٌ فِيهِ وَلَا كَسْبٌ، وَلَا يُنْجِي مِنْ عِقَابِهِ فِيهِ شَفَاعَةٌ وَلَا فِدَاءٌ انْتَقَلَ كَدَأْبِ الْقُرْآنِ إِلَى تَقْدِيرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ الَّتِي تُشْعِرُ مُتَدَبِّرَهَا بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ - تَعَالَى -، وَوُجُوبِ الشُّكْرِ لَهُ، وَالْإِذْعَانِ لِأَمْرِهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرُورِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ الَّتِي جَرَّأَتِ النَّاسَ عَلَى نَبْذِ كِتَابِ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَقَالَ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَسَّرَ الْجَلَالُ الْإِلَهَ بِالْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَالْحَيَّ بِالدَّائِمِ الْبَقَاءَ، وَالْقَيُّومَ بِالْمُبَالِغِ بِالْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ، وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَقَالَ: إِنَّ تَفْسِيرَهُ لِكَلِمَةِ " إِلَهٍ " هُوَ الشَّائِعُ وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا حَمَلْنَا الْعِبَادَةَ عَلَى مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ اسْتِعْبَادُ الرُّوحِ وَإِخْضَاعُهَا لِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ لَا تُحِيطُ بِهِ عِلْمًا، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ كُنْهًا، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأْلِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا أَلَّهَهُ الْبَشَرُ مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ فَقَدِ اعْتَقَدُوا فِيهِ هَذَا السُّلْطَانَ الْغَيْبِيَّ بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالتَّبَعِ لِإِلَهٍ آخَرَ أَقْوَى مِنْهُ سُلْطَانًا، وَمِنْ ثَمَّ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ الْمُنْتَحَلَةُ، وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَاحْتِرَامٍ وَدُعَاءٍ وَنِدَاءٍ يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ فَهُوَ عِبَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْبُودُ غَيْرَ إِلَهٍ حَقِيقَةً، أَيْ لَيْسَ لَهُ هَذَا السُّلْطَانُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ الْعَابِدُ لَهُ، لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالتَّوَسُّطِ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَالْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ بِحُقٍّ وَهُوَ وَاحِدٌ ; وَالْآلِهَةُ الَّتِي تُعْبَدُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ غَيْرُ آلِهَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ فِي الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي يُثِيرُهَا الْوَهْمُ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّ شَيْئًا غَرِيبًا صَدَرَ عَنْ مَوْجُودٍ بِغَيْرِ عِلَّةٍ مَعْرُوفَةٍ وَلَا سَبَبٍ مَأْلُوفٍ، يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تِلْكَ السُّلْطَةُ الْعُلْيَا وَالْقُوَّةُ الْغَيْبِيَّةُ لِمَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ النَّفْعَ بِبَعْضِ الشَّجَرِ وَالْجَمَادِ كَشَجَرَةِ الْحَنَفِيِّ وَنَعْلِ الْكَلَشْنِيِّ يُعَدُّونَ عَابِدِينَ

لَهَا حَقِيقَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ صَاحِبُ سُلْطَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَلَى النُّفُوسِ يَبْعَثُهَا عَلَى تَعْظِيمِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ قَهْرًا مِنْهَا مُعْتَقِدَةً أَنَّ بِيَدِهِ مَنْحَ الْخَيْرِ وَرَفْعَ الضُّرِّ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ أَوْ بِإِبْطَالِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ إِلَّا اللهَ - تَعَالَى - وَحْدَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَمَّا " الْحَيُّ " فَهُوَ ذُو الْحَيَاةِ وَهِيَ مَبْدَأُ الشُّعُورِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ وَالنُّمُوِّ، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَيٌّ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْحَيَاةُ فِيهِمَا فَكَانَتْ فِي الْحَيَوَانِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي النَّبَاتِ. قَالَ: وَالْحَيَاةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا " الْحَيَّ " بِالدَّائِمِ الْبَقَاءَ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَيَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - مَبْدَأُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ; أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي يُعْقَلُ مَعَهُ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ: وَهَذَا الْوَصْفُ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَبْدَأَ الْكَوْنِ عِلَّةٌ تَتَحَرَّكُ بِطَبْعِهَا وَلَا شُعُورَ لَهَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِحَرَكَتِهَا وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْآثَارِ ; أَيْ إِنَّ هَذَا النِّظَامَ وَالْإِحْكَامَ فِي الْخَلْقِ مِنْ آثَارِ الْمَادَّةِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي لَا شُعُورَ لَهَا وَلَا عِلْمَ. اخْتَصَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - شَيْئًا، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حَيَاةِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَقْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ - تَعَالَى - عَلِيمٌ مُرِيدٌ قَدِيرٌ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُعْقَلُ إِلَّا لِلْحَيِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ كَمَا يَقُولُونَ، أَوْ مِنْ قِيَاسِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُمْكِنِ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْحَيَاةَ كَمَالٌ وُجُودِيٌّ وَكُلُّ كَمَالٍ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْوَاجِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ. وَهَذَا مَا قَدَّمَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ "، وَقَدْ قَدَّمَ لَهُ بِمُقَدِّمَةٍ نَفِيسَةٍ فِي صِفَاتِ الْوَاجِبِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: " مَعْنَى الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ بَدِيهِيًّا عِنْدَ الْعَقْلِ وَلَكِنَّهُ يُتَمَثَّلُ لَهُ بِالظُّهُورِ ثُمَّ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَكَمَالُ الْوُجُودِ وَقُوَّتُهُ بِكَمَالِ هَذَا الْمَعْنَى وَقُوَّتِهِ بِالْبَدَاهَةِ. وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ تَسْتَتْبِعُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَا هُوَ كَمَالٌ لِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الْمَعْنَى السَّابِقِ ذِكْرُهُ. وَإِلَّا كَانَ الْوُجُودُ لِمَرْتَبَةٍ سِوَاهَا، وَقَدْ فُرِضَ لَهَا مَا يَتَجَلَّى لِلنَّفْسِ مِنْ مِثْلِ الْوُجُودِ مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَأَكْمَلُ مِثَالٍ فِي أَيَّةِ مَرْتَبَةٍ مَا كَانَ مَقْرُونًا بِالنِّظَامِ وَالْكَوْنِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا تَشْوِيشٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّظَامُ بِحَيْثُ يَسْتَتْبِعُ وُجُودًا مُسْتَمِرًّا وَإِنْ كَانَ فِي النَّوْعِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى كَمَالِ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ فِي صَاحِبِ الْمِثَالِ. فَإِنْ تَجَلَّتْ لِلنَّفْسِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِكُلِّ نِظَامٍ كَانَ ذَلِكَ عُنْوَانًا عَلَى أَنَّهَا أَكْمَلُ الْمَرَاتِبِ وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا وَأَقْوَاهَا.

وُجُودُ الْوَاجِبِ هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ وُجُودٍ مُمْكِنٍ - كَمَا قُلْنَا وَظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ - فَهُوَ بِحُكْمِ ذَلِكَ أَقْوَى الْوُجُودَاتِ وَأَعْلَاهَا، فَهُوَ يَسْتَتْبِعُ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَا يُلَائِمُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ الْعَلِيَّةَ، وَكُلُّ مَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ كَمَالًا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالظُّهُورِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ، وَكَوْنُهُ مَصْدَرًا لِلنِّظَامِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ - يُعَدُّ مِنْ كَمَالِ الْوُجُودِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ ; فَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ يَسْتَتْبِعُ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ. فَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةُ الْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تَسْتَتْبِعُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَاةَ مِمَّا يُعْتَبَرُ كَمَالًا لِلْوُجُودِ بَدَاهَةً ; فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مَصْدَرُ النِّظَامِ وَنَامُوسُ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ فِي أَيِّ مَرَاتِبِهَا مَبْدَأُ الظُّهُورِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فَهِيَ كَمَالٌ وَجُودِيٌّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا الْوَاجِبُ، وَكُلُّ كَمَالٍ وَجُودِيٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ حَيٌّ وَإِنْ بَايَنَتْ حَيَاتُهُ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِنَّ مَا هُوَ كَمَالٌ لِلْوُجُودِ إِنَّمَا هُوَ مَبْدَأُ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ لَكَانَ فِي الْمُمْكِنَاتِ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وُجُودًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعْلَى الْوُجُودَاتِ وَأَكْمَلُهَا فِيهِ. وَالْوَاجِبُ: هُوَ وَاهِبُ الْوُجُودِ وَمَا يَتْبَعُهُ، فَكَيْفَ لَوْ كَانَ فَاقِدًا لِلْحَيَاةِ يُعْطِيهَا؟ فَالْحَيَاةُ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ مَصْدَرُهَا " اهـ. أَقُولُ: وَهَذَا تَحْقِيقٌ دَقِيقٌ لَا نَجِدُ مِثْلَهُ لِغَيْرِ هَذَا الْإِمَامِ الْعَارِفِ وَالْحَكِيمِ الْمُحَقِّقِ وَلَا يَعْقِلُهُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي كِتَابِ الْعَقَائِدِ - الَّذِي أَلَّفْتُهُ بِاقْتِرَاحِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِمَعَارِفِ هَذَا الْعَصْرِ وَيُفِيدُ طُلَّابَ عُلُومِهِ - كَلَامًا فِي حَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - قَرِيبًا مِنَ الْأَفْهَامِ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ. وَإِنَّنِي أُحِبُّ إِيرَادَهُ هُنَا ; لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ كَلَامًا مُمْتِعًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ وَارِدٌ بِأُسْلُوبِ السُّؤَالِ مِنْ تِلْمِيذٍ مُبْتَدِئٍ فِي الْمَدَارِسِ وَالْجَوَابِ مِنْ أَخِيهِ وَهُوَ عَالِمٌ عَصْرِيٌّ طَبِيبٌ نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالشَّابِّ، وَمِنْ أَبِيهِ وَهُوَ عَالِمٌ صُوفِيٌّ، نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالشَّيْخِ. وَهَذَا نَصُّهُ بِاخْتِصَارٍ مَا: قَالَ التِّلْمِيذُ: تَنْبُتُ الشَّجَرَةُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَنْمُو حَتَّى تَكُونَ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ، فَمِنْ أَيْنَ تَجِيءُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ؟ وَكَيْفَ تَدْخُلُ فِي بِنْيَتِهَا وَتَتَفَرَّقُ فَتَأْخُذُ السَّاقُ مِنْهَا حَظًّا وَالْفُرُوعُ حَظًّا وَكَذَلِكَ الْوَرَقُ وَالثَّمَرُ؟ الشَّابُّ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي بِنْيَةِ النَّبَاتِ، بَعْضُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْهَوَاءِ، وَالنَّبَاتُ جِسْمٌ حَيٌّ، فَهُوَ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ يَأْخُذُ مِنْ عَنَاصِرِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ مَا يَصْلُحُ لِغِذَائِهِ فَيَتَغَذَّى بِهِ، كَمَا يَتَغَذَّى الْحَيَوَانُ بِمَا يَأْكُلُهُ وَيَشْرَبُهُ، وَيَنْمُو بِذَلِكَ كَمَا يَنْمُو الْحَيَوَانُ.

التِّلْمِيذُ: إِنَّنَا لَا نَرَى فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي الْهَوَاءِ شَيْئًا مِنْ مَادَّةِ النَّبَاتِ وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ كَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ. الشَّابُّ: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا الْعَنَاصِرَ الْبَسِيطَةَ فَيَأْخُذُ مِنَ الْهَوَاءِ الْأُكْسُجِينَ وَالنِّيتْرُوجِينَ " الْأَزُوتَّ " وَكَذَلِكَ الْكَرْبُونَ وَبَعْضَ الْأَمْلَاحِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْهَوَاءِ عَادَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جُزْءًا مِنْهُ، وَيَأْخُذُ مِنَ الْأَرْضِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ عَنَاصِرِهَا الْكَثِيرَةِ كَالْبُوتَاسَا وَالْفُسْفُورِ وَالْحَدِيدِ وَالْجِيرِ وَالْأَمْلَاحِ، وَيُكَوِّنُ مِمَّا يَأْخُذُهُ مِنْ ذَلِكَ غِذَاءَهُ بِعَمَلٍ كِيمَاوِيٍّ مُنْتَظِمٍ، يَعْجَزُ عَنْ مِثْلِهِ أَعْلَمُ عُلَمَاءِ الْكِمْيَاءِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالصِّفَاتِ إِنَّمَا اخْتَلَفَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ الْكِيمَاوِيِّ وَعَمَلِ الطَّبِيعَةِ، حَتَّى إِنَّ مَادَّةَ السُّكَّرِ هِيَ عَيْنُ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْحَنْظَلُ، وَالْمَاسُ وَالْفَحْمُ الْحَجَرِيُّ مِنْ عُنْصُرٍ وَاحِدٍ. الشَّيْخُ: إِنَّ النَّبَاتَ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ الَّذِي ذَكَرْتَ فِي مَعْنَى النُّمُوِّ وَكَيْفِيَّتِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي أَثْبَتَّهَا لَهُ، لَكَانَ عَالِمًا بِعَمَلِهِ وَمُخْتَارًا فِيهِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَذَا نَقْلٌ، وَلَا أَثْبَتَهُ عَقْلٌ، فَنُمُوُّ النَّبَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -. الشَّابُّ: لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ لِلنَّبَاتِ عِلْمًا وَلَا عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ، فَهُوَ فِي عَمَلِهِ كَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَعْمَلُ أَعْمَالًا مُنْتَظِمَةً لَا شُعُورَ لِلْإِنْسَانِ بِهَا وَلَا هِيَ صَادِرَةٌ عَنْ عِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ ; كَأَعْمَالِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ فِي هَضْمِ الطَّعَامِ، فَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَعِدَةِ عِلْمًا خَاصًّا وَلَا عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا، وَلَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا عُضْوٌ حَيٌّ بِحَيَاةِ صَاحِبِهِ فَإِذَا أُبِينَ مِنْهُ ثُمَّ وُضِعَ فِيهِ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَةِ اللهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبٌ ; فَاللهُ - تَعَالَى - حَكِيمٌ لَا يَعْمَلُ شَيْئًا إِلَّا بِنِظَامٍ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67:3] . التِّلْمِيذُ: مِنْ أَيْنَ تَكُونُ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ لِلنَّبَاتِ، وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ لِلْحَيَوَانِ، فَهَلِ الْمَادَّةُ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا النَّبَاتُ حَيَّةٌ فَيَأْخُذُ مِنْهَا حَيَاتَهُ؟ الشَّابُّ: كَلَّا، إِنَّ مَوَادَّ التَّغْذِيَةِ لَيْسَتْ حَيَّةً بِنَفْسِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا بَعْدَ إِمَاتَتِهِ بِنَحْوِ الذَّبْحِ وَالطَّبْخِ، وَلَا يَأْكُلُ نَبَاتًا إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ حَيَاتِهِ النَّبَاتِيَّةِ وَلَوْ بِالْقَطْعِ وَالْمَضْغِ فَقَطْ؟ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ، وَلَكِنْ فِي النَّوَاةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الشَّجَرَةُ وَالْبَيْضَةِ الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْحَيَوَانُ حَيَاةٌ كَامِنَةٌ مُسْتَعِدَّةٌ لِلنُّمُوِّ بِالتَّغْذِيَةِ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الْكَوْنِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ مَجْهُولَةُ الْكُنْهِ وَالْمَبْدَأِ حَتَّى الْيَوْمِ، وَأَمْرُهَا أَخْفَى مِنْ أَمْرِ الْمَادَّةِ فِي كُنْهِهَا وَمَبْدَئِهَا. الشَّيْخُ: إِذَا كُنْتُمْ فِي عِلْمِكُمْ هَذَا أَرْجَعْتُمْ جَمِيعَ الْعَنَاصِرِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا مَادَّةُ الْكَوْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ عُرِفَ أَثَرُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ - كَمَا قُلْتُ فِي مَبْحَثِ الْوَحْدَانِيَّةِ - فَمَا بَالُكُمْ تَقِفُونَ فِي حَيَاةِ بَعْضِ الْمَوَادِّ كَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَتَقُولُونَ: لَا نَعْرِفُ مَبْدَأَ حَيَاتِهِ وَحَقِيقَتَهَا وَتَقِفُونَ

آل عمران

عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، وَلَا تَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْ ذَاتِهِ جَمِيعُ الذَّوَاتِ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْ حَيَاتِهِ كُلُّ حَيَاةٍ؟ الشَّابُّ: لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْقَدِيمَ هُوَ حَيٌّ كَمَا أَنَّهُ قَيُّومٌ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَيُّومِيَّتِهِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ حَيٌّ بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَهُوَ حَيٌّ بِهِ ; أَيْ إِنَّهُ يَسْتَمِدُّ حَيَاتَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْيَاءَ كُلَّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ هِيَ حَادِثَةٌ، وَالْحَادِثُ: هُوَ مَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ ذَاتِهِ. فَالْحَيَاةُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، بَلْ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْوُجُودِ. فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْأَزَلِيَّةَ قَدْ صَدَرَتْ عَنْهَا أَشْيَاءُ كُلُّهَا بِلَا حَيَاةٍ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهَا أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ حَيَاةً؟ هَذِهِ سَخَافَةٌ لَا تَخْطُرُ فِي بَالِ عَاقِلٍ، فَالْإِنْسَانُ أَرْقَى الْأَحْيَاءِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِنْ أَثَرِ حَيَاتِهِ الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْإِرَادَةَ وَالتَّدْبِيرَ وَالنِّظَامَ، وَمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ هِبَةِ الْحَيَاةِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَحَقُّ بِالْعَجْزِ. التِّلْمِيذُ: إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ الَّتِي أَثَرُهَا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّظَامُ هِيَ أَرْقَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، أَلَا يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ مُشَابَهَةُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ لِحَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّ هَذِهِ الْخَصَائِصَ هِيَ لِحَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - أَيْضًا؟ الشَّيْخُ: اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ ذَاتَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتَ، وَصِفَاتَهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ، فَإِذْ طَرَأَتْ عَلَيْكَ الشُّبْهَةُ فِي أَثَرِ الْحَيَاةِ فَقَطْ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا مَجْهُولَةٌ فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ، - وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - أَزَلِيَّةٌ وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ حَادِثَةٌ، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تُفَارِقُهُ وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ تُفَارِقُهُ حِينَ يَمُوتُ، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ الَّتِي تُفِيضُ الْحَيَاةَ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ خَاصَّةٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْإِرَادَةُ وَالنِّظَامُ، كُلُّ ذَلِكَ نَاقِصٌ فِي الْإِنْسَانِ وَاللهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. انْتَهَى الْمُرَادُ نَقْلُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ يُجَلِّي لِمَنْ وَعَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ هَذَا اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ أَوْ قَالَ: " أَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2: 163] وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [3: 1: 2] فَالْآيَةُ الْأُولَى: تُثْبِتُ لَهُ - تَعَالَى - وَحْدَانِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ مَعَ الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تُثْبِتُ لَهُ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ الْحَيَاةَ الَّتِي تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْوُجُودِ وَكَمَالِ الْإِيجَادِ بِإِضَافَةِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَحْيَاءِ، وَالْقَيُّومِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ ; أَيْ ثَابِتًا بِذَاتِهِ وَكَوْنُ غَيْرِهِ قَائِمًا بِهِ ; أَيْ ثَابِتًا وَمَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ إِيَّاهُ وَحِفْظِهِ لِوُجُودِهِ بِإِمْدَادِهِ بِمَا يَحْفَظُ بِهِ الْوُجُودَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْقَيُّومِيَّةِ: الْقِيَامُ

بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [3: 18] وَالْقِسْطُ هُنَا: هُوَ الْعَدْلُ الْعَامُّ فِي سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَشَرَائِعِهِ، وَمِنْهَا الْقِيَامُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [13: 33] وَقَدْ قَصَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ مَعْنَى " الْحَيِّ " وَقَارَبُوا فِي مَعْنَى " الْقَيُّومِ ". قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هُوَ قَيِّمُ كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَرْزُقُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِآجَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: - مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ - مَعْنَاهُ الْمُدَبِّرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ نَحْوَ قَوْلِ قَتَادَةَ. قَالَ فِي شَرْحِ الْقَامُوسِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ قَتَادَةَ: وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ. قُلْتُ: وَلِذَا قَالُوا فِيهِ: إِنَّهُ اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ اهـ. وَالْمَادَّةُ تُعْطِي هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا. وَالْغَزَّالِيُّ يُبْدِئُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِحْيَاءِ وَيُعِيدُهُ لَا سِيَّمَا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ وَكِتَابِ التَّوَكُّلِ، وَمِمَّا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى أَقْسَامٍ فِي شُهُودِهِمْ نِعَمَ اللهِ وَشُكْرِهِ قَالَ: " النَّظَرُ الثَّانِي: نَظَرُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَمْ يُثْبِتُوا إِلَّا وُجُودَ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعُمْيَانُ الْمَنْكُوسُونَ وَعَمَاهُمْ فِي كِلْتَا الْعَيْنَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ نَفَوْا مَا هُوَ الثَّابِتُ تَحْقِيقًا وَهُوَ الْقَيُّومُ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَكُلُّ قَائِمٍ فَهُوَ قَائِمٌ بِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا حَتَّى أَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَوْ عَرَفُوا لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ هُمْ، لَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا وُجُودَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ مِنْ حَيْثُ أُوجِدُوا لَا مِنْ حَيْثُ وُجِدُوا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَبَيْنَ الْمُوجَدِ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَوْجُودٌ وَاحِدٌ وَمُوجِدٌ، فَالْمَوْجُودُ حَقٌّ وَالْمُوجَدُ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَالْمَوْجُودُ قَائِمٌ وَقَيُّومٌ وَالْمُوجَدُ هَالِكٌ فَانٍ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا وَجْهُ رَبِّكِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " اهـ. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ السِّنَةُ: النُّعَاسُ ; وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ: وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ تَعْرِيفُهُ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ سَبَبِهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " وَالنَّوْمُ حَالٌ يَعْرِضُ لِلْحَيَوَانِ مِنِ اسْتِرْخَاءِ أَعْصَابِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ بِحَيْثُ تَقِفُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْإِحْسَاسِ رَأْسًا " وَهُوَ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةٌ سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا. قِيلَ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَنْفِيَ النَّوْمَ أَوَّلًا وَالسِّنَةَ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَا فِي النَّظْمِ جَاءَ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْوُجُودِ، فَنَفَى مَا يَعْرِضُ أَوَّلًا ثُمَّ مَا يَتْبَعُهُ. وَقَدْ قَالَ: لَا تَأْخُذُهُ دُونَ " لَا تَعْرِضُ لَهُ أَوْ لَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ " مُرَاعَاةً لِلْوَاقِعِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ يَأْخُذَانِ الْحَيَوَانَ عَنْ نَفْسِهِ أَخْذًا، وَيَسْتَوْلِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِيلَاءً.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ تَرَقٍّ فِي نَفْيِ هَذَا النَّقْصِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ التَّرَقِّي فَقَدْ غَفَلَ عَنْ مَعْنَى الْأَخْذِ وَهُوَ الْغَلَبُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَمَنْ لَا تَغْلِبُهُ السِّنَةُ قَدْ يَغْلِبُهُ النَّوْمُ لِأَنَّهُ أَقْوَى، فَذِكْرُ النَّوْمِ بَعْدَ السِّنَةِ تَرَقٍّ مِنْ نَفْيِ الْأَضْعَفِ إِلَى نَفْيِ الْأَقْوَى. وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ; فَإِنَّ مَنْ تَأْخُذُهُ السِّنَةُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ ضَعِيفَ الْحَيَاةِ وَضَعِيفَ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. أَقُولُ: وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى رَأْيِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سَبَبِ النَّوْمِ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَإِنْ كَانَ بَدِيهِيًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ بُطْلَانِ عَمَلِ الْمُخِّ بِسَبَبِ مَا تُوَلِّدُهُ الْحَرَكَةُ مِنَ السُّمُومِ الْغَازِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَصَبِ، وَقِيلَ: بِسَبَبِ مَا تُفْرِزُهُ الْحُوَيْصِلَاتُ الْعَصَبِيَّةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالْفِعْلِ الْكِيمَاوِيِّ وَقْتَ الْعَمَلِ، فَكَثْرَةُ هَذَا الْمَاءِ تُضْعِفُ قَابِلِيَّةَ التَّأَثُّرِ فِيهَا فَتُحْدِثُ فِيهَا الْفُتُورَ فَيَكُونُ النَّوْمُ، وَيَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يَتَبَخَّرَ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَبَّهُ الْأَعْصَابُ وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا تَأَثُّرُهَا وَإِدْرَاكُهَا، فَسَبَبُ النَّوْمِ أَمْرٌ جُسْمَانِيٌّ مَحْضٌ، وَاللهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَعَوَارِضِهَا. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُمْ مُلْكُهُ وَعَبِيدُهُ مَقْهُورُونَ لِسُنَّتِهِ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُصَرِّفُ لِشُئُونِهِمْ وَالْحَافِظُ لِوُجُودِهِمْ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فَيَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ، وَقَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ، وَأَوْعَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُ، مِنْ تَعْذِيبِ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ بِالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَدَنَّسَهَا بِالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْرَضَ عَنِ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى هَذَا مِنْ عَبِيدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ صُورَةٌ وَحَقِيقَةٌ؟ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَصًّا فِي أَنَّ الْإِذْنَ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [11: 105] فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [82: 19] وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: " بَيَانٌ لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُسَاوِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ وَيَسْتَقِلُّ بِأَنْ يَدْفَعَ مَا يُرِيدُهُ شَفَاعَةً وَاسْتِكَانَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاوِقَهُ عِنَادًا أَوْ مُنَاصَبَةً ". وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا لِأَمَلِ الشَّافِعِينَ وَالْمُتَّكِلِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَامَّةً بِبَيَانِ انْفِرَادِهِ - تَعَالَى - بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ وَعَدَمِ جُرْأَةِ أَحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ عَلَى الشَّفَاعَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مَا قَبْلَهُمْ وَمَا بَعْدَهُمْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أُمُورَ الدُّنْيَا الَّتِي خَلَّفُوهَا وَأُمُورَ الْآخِرَةِ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا أَوْ مَا يُدْرِكُونَ وَمَا يَجْهَلُونَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْعِبَادُ فِي الْمَاضِي

وَمَا هُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ وَكَانَ مَا يُجَازِيهِمْ بِهِ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ الْمَعْهُودَةُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِعْلَامِ الشَّفِيعِ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْمَشْفُوعِ لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنْ يَنْفِيَ رَجُلًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ - وَهُوَ عَادِلٌ - إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُفْسِدًا ضَارًّا بِالنَّاسِ، فَإِذَا شَفَعَ لَهُ شَافِعٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِعُمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي بَقَائِهِ دُونَ نَفْيِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ ; هَذَا إِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ سُلْطَانٍ عَادِلٍ كَعُمَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ وَيُتْرَكَ نَفْيُ الْمُفْسِدِ الضَّارِّ بِالنَّاسِ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ الشَّفِيعِ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَبِطَانَتِهِ الَّذِينَ يُؤْثِرُ مَرْضَاتِهِمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ هَوَاهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَظُنُّ الْغَافِلُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَيْسَ فِيهَا إِعْلَامُ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَلَوْ رَجَعَ نَظَرَ الْبَصِيرَةِ لَرَأَى أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ أَعْلَمَ السُّلْطَانَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْجَانِيَ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُهِمُّهُ شَأْنُهُ وَيُرْضِيهِ بَقَاؤُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَالشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يَغْتَرُّ بِهَا الْكَافِرُونَ وَالْفَاسِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَرْجِعُ عَنْ تَعْذِيبِ مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَشْخَاصٍ يَنْتَظِرُونَ شَفَاعَتَهُمْ هِيَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا - وَهِيَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ - تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَهُوَ ذُو الْعِلْمِ الْمُحِيطِ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى التَّصَدِّي لِإِعْلَامِكَ بِهِ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْهَدُهُ النَّاسُ وَيَغْتَرُّ بِهِ الْحَمْقَى الَّذِينَ يَرْجُونَ النَّجَاةَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِدُونِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ - تَعَالَى -، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ تَرَقٍّ فِي نَفْيِهَا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى آخَرَ، أَيْ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ شَفَاعَةٌ بِمَعْنَى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - كَالدُّعَاءِ الْمَحْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرُؤُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذْنُهُ - تَعَالَى - مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ إِلَّا إِذَا شَاءَ إِعْلَامَهُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِذْنُهُ - تَعَالَى - بِمَا حَدَّدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِهِ، أَيْ فَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِعِقَابِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لَا يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِرِضْوَانِهِ عَلَى هَفَوَاتٍ أَلَمَّ بِهَا لَمْ تُحَوِّلْ وَجْهَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ الَّذِي يَطْبَعُ عَلَى الرُّوحِ فَتَسْتَرْسِلُ فِي الْخَطَايَا حَتَّى تُحِيطَ بِهَا وَتَمْلِكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، مُنْتَهٍ إِلَيْهِ بِوَعْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ - كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاقِعٌ. وَهُوَ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَشْفَعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُفْتَحُ بَابُ الشَّفَاعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ،

وَاللهُ - تَعَالَى - يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُطْلِعُ عَلَى عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَاعَةِ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلٌّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِحَاطَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى الْمَعْهُودِ - كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ - وَقُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَبِذَلِكَ نَجْمَعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي الشَّفَاعَةَ بِدُونِ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ هَذِهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، فَنُفَوِّضُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يَفْعَلُ اللهُ - تَعَالَى - عَقِبَهُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ أَنْ سَيَفْعَلُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّافِعَ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ وَلَمْ يُحْدِثْ تَأْثِيرًا مَا فِي إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - ; وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ كَرَامَةُ اللهِ لِعَبْدِهِ بِمَا أَوْقَعَ الْفِعْلَ عَقِبَ دُعَائِهِ. أَقُولُ: وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّفَاعَةَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا [2: 48] إِلَخْ. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: كَرَّسَ الرَّجُلُ كَفَرَّحَ، أَيْ كَثُرَ عِلْمُهُ وَازْدَحَمَ عَلَى قَلْبِهِ ; أَيْ إِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِمَا يَعْلَمُونَ مِمَّا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَبِمَا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ. فَبِمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الشُّفَعَاءُ؟ وَقِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ، وَاخْتَارَهُ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَهُوَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْمَعْصُومِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِمُلْكِ اللهِ - تَعَالَى -، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ يَضْبِطُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ بِهَا عَلَى تَعْيِينِهِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِلْمٌ أَوْ مُلْكٌ أَوْ جِسْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ خَلْقًا آخَرَ فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا نَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ. كَمَا قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الْمُكَوْكَبُ مِنَ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدُوهُمْ فَذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِدُونِ عِلْمٍ وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ. وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فَيَتَعَالَى بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ شَأْنُهُ كَشَأْنِ الْبَشَرِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَتَنَزَّهُ بِعَظَمَتِهِ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَنْ يُعْلِمُهُ بِحَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، أَوْ يَسْتَنْزِلُهُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ مِنْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْآيَةِ تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْغُرُورِ بِالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمَغْرُورُونَ تَعْظِيمًا خَيَالِيًّا غَيْرَ مَعْقُولٍ حَتَّى يَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَبِيدٌ مَرْبُوبُونَ، أَوْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [21: 27، 28] فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِمَّا وَرَدَ فِي عِلْمِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ

وَانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ، فَإِنَّ عَظَمَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَدَعُ فِي نَفْسِهِ غُرُورًا، بَلْ يُوقِنُ بِأَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِمَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُرْضِيًا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُ كَمَا تَلَوْتُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ آنِفًا. وَاتْلُ أَيْضًا قَوْلَهُ - تَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20: 108 - 113] وَإِنَّكَ لَتَجِدُ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَنَّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَقَلَّمَا تُحْدِثُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ ذِكْرًا يَصْرِفُهُ عَنْ حَمْلِ الظُّلْمِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاعْتِمَادِ فِي النَّجَاةِ عَلَى وَعْدِ اللهِ لِمَنْ يَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، بَلْ تَرَى الْجَمَاهِيرَ يُعْرِضُونَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَيَرْجُونَ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَاتِ فَقَطْ. تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: جُمْلَةُ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِنْذَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ فِي نَجَاتِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ سَلَفِهِمْ فَأَوْقَعَهُمْ ذَلِكَ فِي تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَسَبَقُوهُمْ فِي الِاتِّكَالِ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِالدِّينِ، كَمَا نَرَى هَذِهِ الْقُلُوبَ الَّتِي خَوِيَتْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَخَلَتْ مِنْ خَشْيَتِهِ لِلْجَهْلِ بِمَا يَجِبُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ عَلَى خَطَرِ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، وَهَذِهِ النُّفُوسُ الْمُنْغَمِسَةُ فِي أَقْذَارِ الشَّهَوَاتِ، الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ، وَهِيَ تَشْعُرُ بِأَنَّهَا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ تُرِيدُ أَنْ تَتَلَهَّى بِمَا يَصُمُّهَا عَنْ سَمَاعِ نَذِيرِ الشَّرِيعَةِ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا الْجَهَالَاتُ وَالْأَهْوَاءُ ; لِكَيْلَا تَتَأَلَّمَ بِمَا يُنَغِّصُ عَلَيْهَا لَذَّاتِهَا، أَوْ يُحَتِّمُ عَلَيْهَا طَاعَةَ رَبِّهَا، فَلَا تَرَى أُلُوهِيَّةً تُضِيفُهَا إِلَى الدِّينِ، وَيَرْتَضِيهَا رُؤَسَاؤُهُ الرَّسْمِيُّونَ إِلَّا كَلِمَةَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّهَا تُعَظِّمُ بِهَا النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَإِنْ جَعَلَتْهَا بِمَعْنًى وَثَنِيٍّ يُخِلُّ بِعَظَمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَنِ اغْتَرَّ بِذَلِكَ فَشَيْطَانُهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُ وَيَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ، وَإِنَّهَا لَنُفُوسٌ مَا عَرَفَتْ عَظَمَةَ اللهِ وَلَا شَعَرَتْ بِالْحَيَاءِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهَا وَلَا ظَهَرَ فِي أَعْمَالِهَا أَثَرُ مَحَبَّتِهِ، وَلَا احْتِرَامُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمَا أَثَّرَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالْحُبُّ لَهُ وَالرَّجَاءُ بِفَضْلِهِ إِلَّا أُخِذَ دِينُهُ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ. وَآيَتُهُ بَذْلُ الْمَالِ وَالرُّوحِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَتَأْيِيدِ شَرِيعَتِهِ، لَا الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِقَبُولِ لَقَبِ الْإِسْلَامِ، وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَوْلِ وَالْخَيَالِ، دُونَ الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ عَدْلٌ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [86: 13: 14] .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (الْمُفْرَدَاتُ) الرُّشْدُ - بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ - إِصَابَةُ وَجْهِ الْأَمْرِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ، وَالْهُدَى: إِصَابَةُ الثَّانِي، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ، وِمِثْلُهُ الرَّشَادُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ، وَالطَّاغُوتُ: مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ وَمَبْعَثُهُ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ كَالْمَلَكُوتِ مِنَ الْمُلْكِ، أَوْ مَصْدَرٌ. وَيَصِحُّ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَالْعُرْوَةُ مِنَ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ: الْمَقْبَضُ، وَمِنَ الثَّوْبِ: مَدْخَلُ الزِّرِّ، وَمِنَ الشَّجَرِ: الْمُلْتَفُّ الَّذِي تَشْتُو فِيهِ الْإِبِلُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ حَيْثُ لَا كَلَأَ وَلَا نَبَاتَ، أَوْ هُوَ مَا لَا يَسْقُطُ وَرَقُهُ كَالْأَرَاكِ وَالسِّدْرِ، أَوْ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ فِي الْأَرْضِ. أَقْوَالٌ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ الْعُرْوَةَ هِيَ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ فِي كُلِّ فَصْلٍ لِثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ. وَقَالُوا: إِذَا أَمْحَلَ النَّاسُ عَصَمَتِ الْعُرْوَةُ الْمَاشِيَةَ ; يَعْنُونَ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ كَالنَّصِيِّ وَالْعَرْفَجِ وَأَجْنَاسِ الْخَلَّةِ وَالْحَمْضِ. وَالْوُثْقَى: مُؤَنَّثُ الْأَوْثَقِ، وَهُوَ الْأَشَدُّ الْأَحْكَمُ، وَالْمُوَثَّقُ مِنَ الشَّجَرِ: مَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ النَّاسُ إِذَا انْقَطَعَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَأَرْضٌ وَثِيقَةٌ: كَثِيرَةُ الْعُشْبِ يُوثَقُ بِهَا. وَالِانْفِصَامُ: الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ، مُطَاوِعُ فَصَمَهُ، أَيْ كَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَلَمْ يَبْنِهِ. (سَبَبُ النُّزُولِ) رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاةً (أَيْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ

كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ حَاوَلَ إِكْرَاهَهُمَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَدْخُلُ بَعْضِي النَّارَ وَأَنَا أَنْظُرُ؟ وَلِابْنِ جَرِيرٍ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ فِي نَذْرِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَهْوِيدَ أَوْلَادِهِنَّ لِيَعِيشُوا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَرَادُوا إِكْرَاهَ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَانَتْ فَصْلَ مَا بَيْنَهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عِنْدَمَا أُنْزِلَتْ: قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ. (التَّفْسِيرُ) أَقُولُ: هَذَا هُوَ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي يَزْعُمُ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ - وَفِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ - أَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّاسِ وَالْقُوَّةُ عَنْ يَمِينِهِ فَمَنْ قَبِلَهُ نَجَا، وَمَنْ رَفَضَهُ حَكَمَ السَّيْفُ فِيهِ حُكْمَهُ، فَهَلْ كَانَ السَّيْفُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي إِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ أَيَّامَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مُسْتَخْفِيًا، وَأَيَّامَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَلَا يَجِدُونَ رَادِعًا حَتَّى اضْطُرَّ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْهِجْرَةِ؟ أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَّ الْإِسْلَامُ! ! وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي غِرَّةٍ هَذَا الِاعْتِزَازِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ لَا يَزَالُونَ يَقْصِدُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ. نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ عَهْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَادُوا لَهُ وَهَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ بِجِوَارِهِ فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ، فَخَرَجُوا مَغْلُوبِينَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِإِكْرَاهِ أَوْلَادِهِمُ الْمُتَهَوِّدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ الْيَهُودِ. فَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ خَطَرَ فِيهِ عَلَى بَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَلَلِ - لَا سِيَّمَا النَّصَارَى - حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَلْصَقُ بِالسِّيَاسَةِ مِنْهَا بِالدِّينِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ - عِبَارَةٌ عَنْ إِذْعَانِ النَّفْسِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِذْعَانُ بِالْإِلْزَامِ وَالْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ نَفْيِ الْإِكْرَاهِ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ فِي هَذَا الدِّينِ الرُّشْدَ وَالْهُدَى وَالْفَلَاحَ وَالسَّيْرَ فِي الْجَادَّةِ عَلَى نُورٍ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ عَلَى غَيٍّ وَضَلَالٍ. فَمَنْ يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَيُؤْمِنُ بِاللهِ فَلَا يَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَرْجُو غَيْرَهُ وَلَا يَخْشَى

سِوَاهُ، يَرْجُوهُ وَيَخْشَاهُ لِذَاتِهِ، وَبِمُنَاسَبَةٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ فِي عِبَادِهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا أَقُولُ: أَيْ فَقَدْ طَلَبَ أَوْ تَحَرَّى بِاعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكًا بِأَوْثَقِ عُرَى النَّجَاةِ، وَأَثْبَتِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ، أَوْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِأَوْثَقِ الْعُرَى، وَبَالَغَ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْقَوِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِعُرْوَةٍ هِيَ أَوْثَقُ الْعُرَى وَأَحْكَمُهَا فَمَثَلًا لَا يَقَعُ وَلَا يَتَفَلَّتُ، وَقَدْ حُذِفَ لَفْظُ الَّتِي وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَقُولُ: أَفَادَ كَلَامُهُ أَنَّ الْعُرْوَةَ فِي الْآيَةِ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ عُرْوَةِ الثَّوْبِ وَيُنَاسِبُهُ الِانْفِصَامُ، وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا عُرْوَةُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَهِيَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهَا بِالْقَحْطِ وَالْجَدَبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمُبَالِغَ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الْحَقِّ وَالرُّشْدِ كَمَنْ يَأْوِي بِنِعَمِهِ إِلَى ذَلِكَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهُ، وَلَا يَفْنَى عَلَفُهُ، فَإِذَا نَزَلَ الْجَدَبُ وَالْقَحْطُ بِمَنْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، كَانَ هُوَ مُعْتَصِمًا بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْعُرْوَةِ يَجِدُ فِيهَا السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَمِمَّا خَطَرَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ: أَنَّ عُرْوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِالْمُسْتَمْسِكِ بِهَا فَهُوَ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَكَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآثَارِ فِي صِفَاتِ صَاحِبِهِ وَأَعْمَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوُجُودِ - لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْخَيْرُ الْمُوَافِقُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ التَّمَسُّكِ بِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالسَّبَبُ الْأَقْوَى لِلثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَالسَّعَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِمْسَاكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِجَمِيعِ مَنَاشِئِ الطُّغْيَانِ، وَيَعْتَصِمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ مِنْ أَصُولِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ لَا يُعَدُّ مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِنِ انْتَمَى فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَهْلِهَا، أَوْ إِلَى مَا بِهَا إِلْمَامُ الْمُمْسِكِ بِهَا، فَالْعِبْرَةُ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاسْتِمْسَاكِ الْحَقِيقِيِّ، لَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ الضَّعِيفِ الصُّورِيِّ، وَالِانْتِمَاءِ الْقَوْلِيِّ وَالتَّقْلِيدِيِّ، وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُدَّعِي الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانِ بِاللهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمَا تُكِنُّهُ قُلُوبُهُمْ مِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ. فَمَنْ شَهِدَ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنَ الْكَوْنِيَّةَ مُسَخَّرَةً بِحِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - مُسَيَّرَةً بِقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِسِوَاهَا إِلَّا لِوَاضِعِهَا وَالْفَاعِلِ بِهَا - فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، وَلَهُ جَزَاءُ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، نَاحِلًا مَا جَهِلَ سِرَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الْخَلْقِ قُوَّةً غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَصِمٍ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَهُ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تُذْكَرُ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّهْدِيدِ، أَيْ فَهِيَ تُفَسَّرُ بِحَسَبِ الْمَقَامِ كَمَا قُلْنَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ هُنَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [10:99] وَيُؤَيِّدُهُمَا الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الدِّينَ هِدَايَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلنَّاسِ تَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مُؤَيِّدَةً بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا جَبَّارِينَ وَلَا مُسَيْطِرِينَ، وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بُنِيَ النَّضِيرِ إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِجْبَارَ أَوْلَادَهُمِ الْمُتَهَوِّدِينَ أَنْ يُسْلِمُوا وَلَا يَكُونُوا مَعَ بَنِي النَّضِيرِ فِي جَلَّائِهِمْ كَمَا مَرَّ، فَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي دَعْوَةِ الدِّينِ بَيَانُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَأَنَّ النَّاسَ مُخَيَّرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ وَتَرْكِهِ. شُرِعَ الْقِتَالُ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ وَلِكَفِّ شَرِّ الْكَافِرِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِكَيْلَا يُزَعْزِعُوا ضَعِيفَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ الْهِدَايَةُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَقْهَرُوا قَوِيَّهُمْ بِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي مَكَّةَ جَهْرًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2:193] أَيْ حَتَّى يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ آمِنًا مِنْ زَلْزَلَةِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ بِإِيذَاءِ صَاحِبِهِ فَيَكُونَ دِينُهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مُزَعْزَعٍ وَلَا مُضْطَرِبٍ، فَالدِّينُ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ إِلَّا إِذَا كُفَّتِ الْفِتَنُ عَنْهُ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ حَتَّى لَا يَجْرُؤَ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَإِنَّمَا تُكَفُّ الْفِتَنُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: (الْأَوَّلُ) إِظْهَارُ الْمُعَانِدِينَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ خُصُومِنَا وَلَا يُبَارِزُنَا بِالْعَدَاءِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ كَلِمَتُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَكُونُ الدِّينُ لِلَّهِ وَلَا يُفْتَنُ صَاحِبُهُ فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. (وَالثَّانِي) - وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِكْرَاهِ - قَبُولُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُعْطُونَنَا إِيَّاهُ جَزَاءَ حِمَايَتِنَا لَهُمْ بَعْدَ خُضُوعِهِمْ لَنَا، بِهَذَا الْخُضُوعِ نَكْتَفِي شَرَّهُمْ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَاعِدَةٌ كُبْرَى مِنْ قَوَاعِدِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ سِيَاسَتِهِ فَهُوَ لَا يُجِيزُ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَسْمَحُ لِأَحَدٍ أَنَّ يُكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَكُونُ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ وَحِفْظِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِذَا كُنَّا أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ نَحْمِي بِهَا دِينَنَا وَأَنْفُسَنَا مِمَّنْ يُحَاوِلُ فِتْنَتَنَا فِي دِينِنَا اعْتِدَاءً عَلَيْنَا بِمَا هُوَ آمِنٌ أَنْ نَعْتَدِيَ بِمِثْلِهِ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّنَا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنْ نُجَادِلَ الْمُخَالِفِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُعْتَمِدِينَ عَلَى تَبَيُّنِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ بِالْبُرْهَانِ: هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِلَى الْإِيمَانِ، مَعَ حُرِّيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأَمْنِ الْفِتْنَةِ، فَالْجِهَادُ مِنَ الدِّينِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جَوْهَرِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سِيَاجٌ لَهُ وَجُنَّةٌ، فَهُوَ أَمْرٌ سِيَاسِيٌّ

لَازِمٌ لَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا يَهْذِي بِهِ الْعَوَامُّ، وَمُعَلِّمُوهُمُ الطُّغَامُ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الدِّينَ قَامَ بِالسَّيْفِ وَأَنَّ الْجِهَادَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ، فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَتَأَمَّلْ مَعَ مَا ذَكَّرْنَاكَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فَهَذَا الْقَوْلُ يَهْدِي إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ يَكُونُ بِتَوْفِيقِ اللهِ - تَعَالَى - مَنْ شَاءَ، وَإِعْدَادِهِ لِلنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الشُّبَهَاتِ بِمَا يَنْقَدِحُ لِنَظَرِهِ مِنْ نُورِ الدَّلِيلِ لَا بِالْإِجْبَارِ وَالْإِكْرَاهِ. فَالْآيَةُ بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَنْعِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّنْبِيهِ لِأُولَئِكَ الْآبَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا إِكْرَاهَ أَوْلَادِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْيَهُودِيَّةِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَإِذَا أَعَدَّتْهَا سُنَنُهُ وَعِنَايَتُهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْمُبَيِّنَةُ كَافِيَةً لِجَذْبِهَا إِلَى نُورِ الْهِدَايَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تُودَعُ مِنْهَا لِإِحَاطَةِ الظُّلُمَاتِ بِهَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ مُتَوَلِّي أُمُورَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَفِّقُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيَمُدُّهُمْ فِي الْهِدَايَةِ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ، كَمَا أَنَّ الطَّاغُوتَ يَمُدُّونَ الْكَافِرِينَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيُخْرِجُونَهُمْ بِالْإِغْوَاءِ مِنْ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ أَسَالِيبَ اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ، أَوْ تَفْسِيرُ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْفَهْمِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ مَعْنَى سَابِقَتِهَا ظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَهْتَدِي إِلَى اسْتِعْمَالِ الْهِدَايَاتِ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ الْحَوَاسُّ وَالْعَقْلُ وَالدِّينُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّمَا عَرَضَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ لَاحَ لَهُمْ بِسُلْطَانِ الْوِلَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ شُعَاعٌ مِنْ نُورِ الْحَقِّ يَطْرُدُ ظُلْمَتَهَا فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا بِسُهُولَةٍ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [7: 201] جَوَلَانُ الْحَوَاسِّ فِي رِيَاضِ الْأَكْوَانِ، وَإِدْرَاكُهَا مَا فِيهَا مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْإِتْقَانِ يُعْطِيهِمْ نُورًا، وَنَظَرُ الْعَقْلِ فِي فُنُونِ الْمَعْقُولَاتِ يُعْطِيهِمْ نُورًا، وَمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ يُتِمُّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أَيْ لَا سُلْطَانَ عَلَى نُفُوسِهِمْ إِلَّا لِتِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ السَّائِقَةِ إِلَى الطُّغْيَانِ، فَإِذَا كَانَ الطَّاغُوتُ مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّاطِقَةِ وَرَأَى أَنَّ عَابِدِيهِ قَدْ لَاحَ لَهُمْ شُعَاعٌ مِنْ نُورِ الْحَقِّ الَّذِي يُنَبِّهُهُمْ إِلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ بَادَرَ إِلَى إِطْفَائِهِ، بَلْ إِلَى صَرْفِهِمْ عَنْهُ بِمَا يُلْقِيهِ دُونَهُ مِنْ حَجْبِ الشُّبَهَاتِ وَأَسْتَارِ زَخَارِفِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِقَادِ أَوْ بِنَفْسِ الِاعْتِقَادِ، وَإِذَا كَانَ الطَّاغُوتُ مِنْ غَيْرِ الْأَحْيَاءِ فَإِنَّ سَدَنَةَ هَيْكَلِهِ وَزُعَمَاءَ حِزْبِهِ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي تَنْمِيقِ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ، وَتَزْيِينِ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، أَقُولُ: بَلْ هَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءُ يُعَدُّونَ مِنَ الطَّاغُوتِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ دُعَاةُ الطُّغْيَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تُعْتَقَدُ فِيهِمُ السُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ وَتُوَلَّهُ الْعُقُولُ

فِي مَزَايَاهُمُ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُمْ مِمَّنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ فِي الِاعْتِقَادِ بِتِلْكَ السُّلْطَةِ وَالْمَزَايَا وَمَا يَنْبَغِي لِمَظَاهِرِهَا أَوْ لِأَرْبَابِهَا مِنَ التَّعْظِيمِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ وَإِنْ سُمِّيَ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ: الظُّلُمَاتُ هِيَ الضَّلَالَاتُ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ كَالْكُفْرِ وَالشُّبَهَاتِ الَّتِي تُعْرَضُ دُونَ الدِّينِ، فَتَصُدُّ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ أَوْ تَحُولُ دُونَ فَهْمِهِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ، وَكَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ وَجْهِهِ، وَكَالشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْهُ وَتَسْتَحْوِذُ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى تَقْذِفَهَا فِي الْكُفْرِ. أَقُولُ: وَلِهَذِهِ الظُّلْمَةِ شُعْبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَا يُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِهِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالسُّلْطَةِ وَالْجَاهِ. وَالثَّانِيَةُ: مَا يَسْتَرْسِلُ صَاحِبُهَا فِي الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ أَوِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِنُورِ الدِّينِ مَكَانٌ مِنْ قِبَلِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [83: 14، 15] الْآيَاتِ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: لَا تُوجَدُ مِرْآةٌ يَرَى فِيهَا عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ أَنْفُسَهُمْ كَمَا هِيَ أَجْلَى مِنَ الْقُرْآنِ: أَيْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى وَأَلِفُوهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ أَمَلٍ فِي شِفَاءِ بَصَائِرِهِمْ وَإِمَّا لِأَنَّ طَاغُوتَهُمْ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِأَنَّ النَّارَ هِيَ الدَّارُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَهْلِ الظُّلُمَاتِ الَّذِينَ لَمْ يَبْقَ لِنُورِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ مَكَانٌ فِي أَنْفُسِهِمْ يَصِلُهَا بِدَارِ النُّورِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ عَاقِبَةُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَوْضَ فِي حَقِيقَةِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِالنَّارِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَدُ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ أَنَّهَا دَارُ شَقَاءٍ يُعَذَّبُ الْمَرْءُ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ بِالْبَرْدِ إِذْ وَرَدَ أَنَّ فِيهَا الزَّمْهَرِيرَ. وَأَزِيدُ الْآنَ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ شَبِيهَةً بِالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ شَدِيدَةَ الْحَرِّ كَالْأَمَاكِنِ الَّتِي فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَمَوَاضِعَ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ كَالْقُطْبَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الِاعْتِدَالِ، فَحَرُّهَا وَبَرْدُهَا أَشَدُّ، وَمَصَادِرُهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لَنَا. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا وَمِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ. هَذَا، وَإِنَّ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ هَدْمِ التَّقْلِيدِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي الْبَصِيرَةِ، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الدَّرْسِ بِالنَّصِّ، بَلْ قَالَ كَلَامًا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُفْهَمُ مِنْهُ ; ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ تَبَيُّنَ الرُّشْدِ وَظُهُورَهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الدِّينِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيَانُ الْكِتَابِ كَافِيًا فِي أَنْ يَتَبَيَّنَ لِلْمُكَلَّفِ مَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَلَا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بَعْدَ الْبَيَانِ إِلَى النَّاظِرِ، وَلَمَا عُدَّ الْبَيَانُ إِعْذَارًا لَهُ وَإِنْظَارًا، وَلَمَا الْتَأَمَ مَعَ هَذَا قَوْلُهُ:

اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ فَإِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ هُمُ الَّذِينَ وُكِلُوا إِلَى وِلَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَشَرِ سُلْطَانٌ عَلَى عَقَائِدِهِمْ وَلَا تَصَرُّفٌ فِي هِدَايَتِهِمْ، أَيْ إِنَّهُمْ ظَلُّوا عَلَى فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَنَظَرُوا فِي الدِّينِ بِمَا غَرَزَ فِي فِطْرَتِهِمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، فَتَبَيَّنَ لَهُمُ الرُّشْدُ فَاتَّبَعُوهُ وَالْغَيُّ فَاجْتَنَبُوهُ، وَالْمُقَلِّدُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِاعْتِقَادِ غَيْرِهِ فَلَا تَسْلَمُ لَهُ وِلَايَةُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي تُؤَيِّدُهَا الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَظِيمَةُ وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ فَلَهُمْ أَوْلِيَاءُ مِنَ الطَّاغُوتِ يَتَصَرَّفُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَهُمْ يَقْبَلُونَ تَصَرُّفَهُمْ ثِقَةً بِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا بَيَّنَ الرُّشْدَ مِنَ الْغَيِّ، فَتَبَيَّنَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ لِلْأَهْوَاءِ، وَلَا لِتَقَالِيدِ الْآبَاءِ، وَيُؤَكِّدُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا انْفِصَامَ لَهَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ هَذَا الرُّشْدُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَالْمُقَلِّدُ عُرْضَةٌ لِلتَّرْكِ وَالِانْفِكَاكِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَا هُوَ فِيهِ لِذَاتِهِ. أَقُولُ: وَمِمَّا يَجِبُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَ وِلَايَةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَوِلَايَتِهِمْ لَهُ وَوِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْجَاهِلِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ، فَيَجْعَلُونَ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْوِلَايَةِ مَا هُوَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَذَلِكَ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ خَفِيٌّ عِنْدَ الْجَاهِلِ، جَلِيٌّ عِنْدَ الْعَارِفِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ فِيهِ. هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ وِلَايَةَ اللهِ وَحْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ [42: 9] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [42:28] وَثَمَّةَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَنْفِي وِلَايَةَ غَيْرِهِ - تَعَالَى - كَالْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ أَمْرِ النَّبِيِّ وَمَنْ مَعَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكَمَ مَنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [11: 113] وَقَوْلِهِ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6: 14] وَقَوْلِهِ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [7: 196] وَكَذَلِكَ أَمَرَ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَلَّا يَتَّخِذُوا وَلِيًّا لَهُمْ غَيْرَ اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ وَأَنْ يُعْلِمُوا أُمَمَهُمْ ذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [12: 101] الْآيَةَ وَقَالَ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا [4: 45] فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَلَى وِلَايَةِ اللهِ وَحْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَهْيِهِمْ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِهِ " وَوَرَدَ فِي وِلَايَتِهِمْ لَهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [10: 62، 63] وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ

الْأَنْفَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [8: 34] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [8: 72] وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ [9: 71] . يُقَابِلُ وِلَايَةَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ وَالطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ وَوِلَايَتُهُمْ لَهُمَا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [3: 175] وَقَالَ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [4: 76] وَقَالَ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [7: 30] وَيُقَابِلُ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [8: 73] وَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [5: 51] . وَمِنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ رَأَى مَعَانِيَهَا ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، أَمَّا كَوْنُهُ - تَعَالَى - هُوَ الْوَلِيُّ وَحْدَهُ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْعِبَادِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَلِكَ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى الَّتِي تُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، بِمَا بَيَّنَ لَهُمْ مِنَ السُّنَنِ وَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذِهِ هِيَ الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَأَمَّا وِلَايَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عِنَايَتِهِ بِهِمْ وَإِلْهَامِهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ الرُّوحَانِيُّ وَالْجُسْمَانِيُّ، بِمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَأَمَّا وِلَايَتُهُمْ لَهُ - تَعَالَى - فَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِوِلَايَتِهِ لَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ، أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِهِمْ وَحْدَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُمْ فِي اسْتِفَادَتِهِمْ بِقُوَاهُمْ مِنْ نَافِعِ الْكَوْنِ وَاتِّقَائِهِمْ لِمَضَارِّهِ يُلَاحِظُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَتَوَلِّيهِ لِأُمُورِهِمْ، إِذْ مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ لَهُمْ، وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوَاهُمْ دُونَ مَطْلَبٍ مِنْ مَطَالِبِهِمْ أَوْ جَهِلُوا طَرِيقَهُ وَسَبَبَهُ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ مَعَ تَعَاوُنِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي اسْتِمْدَادِ الْعِنَايَةِ وَطَلَبِ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْإِيمَانِ يَتَّقُونَهُ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْإِثْمِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، فَهَذَا مَعْنَى تَفْسِيرِ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاوُنِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ اسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ; لِأَنَّ الْفَسَادَ الشَّخْصِيَّ لَا يَتَّفِقُ مَعَ الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (9: 71) بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ.

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ إِلَخْ، وَمِنْ وَصْفِهِمْ بِالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (8: 72) فَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ وَلِيًّا لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا هَذَا، أَيْ إِنَّهُ عَوْنٌ لَهُ وَنَصِيرٌ فِي الْحَقِّ الَّذِي يَعْلُو بِهِ شَأْنُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُهُ، فَمَنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَاتَّخَذَ لَهُ وَلِيًّا أَوْ أَوْلِيَاءَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِ فِيمَا وَرَاءَ هَذَا التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ أَشْرَكُ ; إِذِ اعْتَدَى عَلَى وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ بِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا بِالتَّوَسُّطِ عِنْدَهُ وَلَا الِاسْتِقْلَالِ دُونَهُ. هَذَا الْمَعْنَى هُوَ عَيْنُ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلطَّاغُوتِ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [39: 3] وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُسَمَّى بِالطَّاغُوتِ بَعْضُ مَنِ اتَّخَذَ وَلِيًّا بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا هَذِهِ الْوِلَايَةَ لِعِيسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا وَحْيَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَوَسَاوِسِهِمْ، فَهُمْ طَاغُوتُهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [6: 121] الْآيَةَ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [6: 112] وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَتَبَرَّأُ مِنْ بَعْضٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَمِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْنَدَ وِلَايَةَ اللهِ الْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَوْغَلَ بَعْضُ مُتَّخِذِي الْأَوْلِيَاءِ فِي دُعَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - حَتَّى صَارَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَيَكْتُبُ أَنَّ فُلَانًا الْوَلِيَّ يُمِيتُ وَيُحْيِي وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ وَلَا يَغُرَّنَّكَ تَأْوِيلُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَعَزَاهُ إِلَى الْمُحَقِّقِينَ - الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَشَاهَدٌ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ كَيْفَ كَانَ يَهْتَدِي بِوِلَايَةِ اللهِ لَهُ إِلَى الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَيَظَلُّ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وَإِلَى الَّذِي حَاجَّهُ كَيْفَ كَانَ بِوَلَايَةِ الطَّاغُوتِ لَهُ يَعْمَى عَنْ نُورِ الْحُجَّةِ وَيَنْتَقِلُ مِنْ ظُلْمَةٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ إِلَى أُخْرَى، قَالُوا: الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ وَغُرُورِ صَاحِبِهَا وَغَبَاوَتِهِ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَوْلُهُ: أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ إِيتَاءُ اللهِ - تَعَالَى - الْمُلْكَ لَهُ، فَكَانَ مَنْشَأَ إِسْرَافِهِ فِي غُرُورِهِ وَسَبَبَ كِبْرِيَائِهِ وَإِعْجَابِهِ بِقُدْرَتِهِ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَكَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَأَلَهُ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ - وَقَدْ كَسَّرَ الْأَصْنَامَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ وَسَفَّهَ أَحْلَامَ عَابِدِيهَا لِأَجْلِهِ - فَأَجَابَ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَأَنْكَرَهُ الْمَلِكُ الطَّاغِيَةُ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ ادِّعَاءُ الْأُلُوهِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَقَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أُحْيِي مَنْ أُحْكِمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَأُمِيتُ مَنْ شِئْتُ إِمَاتَتَهُ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِهِ، فَدَلَّ جَوَابُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَقِلْ " فَقَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ " لِأَنَّ جَوَابَهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يَتَّصِلُ بِهِ بِالْمَرَّةِ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالتَّكْوِينِ، لَا فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَسُّلِ فِي الشَّيْءِ الْمُكَوَّنِ. فَالْمُرَادُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ الَّذِي يُنْشِئُ الْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَغَيْرِهَا وَيُزِيلُ الْحَيَاةَ بِالْمَوْتِ، وَعَبَّرَ بِالَّذِي الدَّالِّ عَلَى الْمَعُهُودِ الْمَعْرُوفَةِ صِلَتُهُ دُونَ " مَنْ " الَّتِي فِيهَا الْإِبْهَامُ، وَبِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا شَأْنُهُ دَائِمًا كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي الْأَكْوَانِ نَظَرَ الْمُفَكِّرِ الْمُسْتَدِلِّ. وَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ مُرَادَهُ بِالَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ - مَصْدَرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَحْيَا كُلُّ حَيٍّ بِإِحْيَائِهِ وَيَمُوتُ بِقَطْعِ إِمْدَادِهِ لَهُ بِالْحَيَاةِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَائْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَهَذَا إِيضَاحٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَإِزَالَةٌ لِشُبْهَةِ الْخَصْمِ، لَا أَنَّهُ جَوَابٌ آخَرُ كَمَا فَهِمَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبِّي الَّذِي يُعْطِي الْحَيَاةَ وَيَسْلُبُهَا بِقُدْرَتِهِ وَحَكَمْتِهِ هُوَ الَّذِي يُطْلِعُ الشَّمْسَ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَيْ هُوَ الْمُكَوِّنُ لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ بِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا عَلَيْهَا. فَإِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ فَغَيِّرْ لَنَا نِظَامَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَائْتِ بِهَا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْجِهَةِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِظُهُورٍ مِنْهَا. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْحَيْرَةُ وَأَخَذَهُ الْحَصْرُ مِنْ نُصُوعِ الْحُجَّةِ وَسُطُوعِهَا فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا. وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَرْشِيحٌ لِلْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ نُورُ الْعَقْلِ الَّذِي يَسِيرُ بِهِ الْمَرْءُ فِي طَرِيقِ الدِّينِ، فَمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِإِطْفَاءِ هَذَا الْمِصْبَاحِ

فَصَارَ يَتَخَبَّطُ فِي الظُّلُمَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَهْتَدِي فِي سَيْرِهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى السَّعَادَةِ، بَلْ يَضِلُّ عَنْهُ حَتَّى يَهْلَكَ دُونَ الْغَايَةِ. أَقُولُ: يُرِيدُ بِمُطْفِئِ الْمِصْبَاحِ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْحُكْمَ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِنَظَرِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ الْبَرِيءِ مِنَ الْهَوَى وَنَزَغَاتِ التَّقْلِيدِ، بَلْ يُحَكِّمُ الطَّاغُوتَ الَّذِي اسْتَسْلَمَ لَهُ، كَتَقْلِيدِهِ لِلَّذِينَ وَثِقَ بِهِمْ تَارِكًا مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْفَهْمِ اكْتِفَاءً بِرَأْيِهِمْ، أَوِ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَتُوهِمُهُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الدَّلِيلِ قَدْ يُقْنِعُهُ بِتَرْكِ مَا هُوَ مُتَمَتِّعٌ بِهِ فَيَفُوتُهُ، فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَرْسِلَ فِيمَا هُوَ فِيهِ. مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَحَلَّ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ لِنَمْرُوذَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا طَالَبْتَنِي بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَلْيَأْتِ بِهَا يَوْمًا مَا. قَالَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ خَرَابَ الْعَالَمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ نَمْرُوذُ ذَلِكَ لَأَلْزَمَهُ، وَقَدْ فَهِمَ نَمْرُوذُ عَلَى طُغْيَانِهِ وَغُرُورِهِ مِنَ الْحُجَّةِ مَا لَا يَفْهَمُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ، فَهِمَ أَنَّ مُرَادَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ فِي سَيْرِ الشَّمْسِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ حَكِيمٍ، إِذْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّ رَبِّي الَّذِي أَعْبُدُهُ هُوَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ الْحَكِيمُ الَّذِي قَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ عَلَى مَا نَرَى، وَمَنْ فَهِمَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: اطْلُبْ مِنْ هَذَا الْحَكِيمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حِكْمَتِهِ وَيُبْطِلَ سُنَّتَهُ، كَذَلِكَ لَا مَحَلَّ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لِمَ سَكَتَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ كَشْفِ شُبْهَتِهِ الْأُولَى إِذْ زَعَمَ أَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ إِحْيَاءٌ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّمْسِ قَدْ كَشَفَتْ ذَلِكَ انْكِشَافًا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ الشَّمْسُ. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

(الْمُفْرَدَاتُ) الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي بِمَعْنَى مِثْلِ، فَهِيَ اسْمٌ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ: بَيْضٌ ثَلَاثٌ كَنِعَاجٍ جُمِّ ... يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ الْمُنْهَمِّ أَيْ عَنْ ثَنَايَا مِثْلِ حَبِّ الْبَرَدِ الذَّائِبِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهِي ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتَلُ وَزَعَمَ الْجَلَالُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ انْتِصَارًا لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا مَجِيءَ الْكَافِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ كَمَا يَلِيقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَحْكِيمَ مَذَاهِبِهِمُ النَّحْوِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَمُحَاوَلَةَ تَطْبِيقِهِ عَلَيْهَا - وَإِنْ أَخَلَّ ذَلِكَ بِبَلَاغَتِهِ - جَرَاءَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذَا كَانَ النَّحْوُ وُجِدَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ، وَالْقَرْيَةُ - بِالْفَتْحِ -: الضَّيْعَةُ وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ، وَأَصْلُ مَعْنَى الْمَادَّةِ: الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَرْيَةُ النَّمْلِ الْمُجْتَمِعُ تُرَابُهَا، وَيُعَبَّرُ بِالْقَرْيَةِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، يُقَالُ: خَوَى الْمَنْزِلُ خَوَاءً، وَخَوَى بَطْنُ الْحَامِلِ، وَقِيلَ: يَعْنِي سَاقِطَةً؛ مِنْ خَوَى النَّجْمُ إِذَا سَقَطَ، وَالْعُرُوشُ: السُّقُوفُ، وَيَتَسَنَّهُ: يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ السِّنِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّنَهِ، فَهَاؤُهُ أَصْلِيَّةٌ يُقَالُ سَنِهَ " كَتَعِبَ " أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ، وَتَسَهَّنَتِ النَّخْلَةُ: أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَتَسَنَّهَ الطَّعَامُ: تَكَرَّجَ وَتَعَفَّنَ لِطُولِ الزَّمَنِ، أَوْ أَصْلُهُ تَسَنَّى أَوْ تَسَنَّنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ وَنُنْشِزُهَا بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، مِنْ أَنْشَزَهُ إِذَا رَفَعَهُ، وَ " نَنْشُرُهَا " - بِالرَّاءِ - نُقَوِّيهَا، وَمِنْهُمَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ " لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ ". (التَّفْسِيرُ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُلَخَّصُهُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤَيَّدُ بِآيَاتِ اللهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، مَثَلٌ لِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ذَلِكَ الْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قِصَّةِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مِثْلِهِ أَلَّا يَقَعَ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ عَجِيبًا - لَا يَصِحُّ إِنْكَارُ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فَيَطْلُبُ الْمَخْرَجَ بِالْبُرْهَانِ، فَيَهْدِيهِ اللهُ إِلَيْهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ إِلَى نُورِ الْبُرْهَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَقَدْ قَدَّرُوا هُنَا " أَرَأَيْتَ " لِإِثْبَاتِ التَّعْجِيبِ دُونَ الْإِنْكَارِ، أَيْ أَوْ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ مِثْلَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فِي إِلْمَامِ ظُلْمَةِ الشُّبْهَةِ بِهِ. وَإِخْرَاجِ اللهِ إِيَّاهُ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْمَارَّ وَهَذِهِ الْقَرْيَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَهَا وَأَصْحَابَهَا، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ

تُقَرِّرُ الْحُجَّةُ حَتَّى لَا يَشْغَلَ الْقَارِئَ أَوِ السَّامِعَ عَنْهَا شَاغِلٌ، فَهُوَ مِنَ الِاخْتِصَارِ الْبَلِيغِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَبْحَثُوا عَنْهَا وَعَمَّنْ مَرَّ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا قَرْيَةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي مَرَّ أَرْمِيَاءُ، وَقِيلَ: الْعُزَيْرُ؛ رَجْمًا بِالْغَيْبِ أَوْ تَسْلِيمًا لِلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا مَعْنَاهُ: وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ السُّكَّانِ وَاقِعَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَوْلُهُ: عَلَى عُرُوشِهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَاوِيَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهِيَ الْخَاوِيَةُ مِنَ السُّكَّانِ وَقَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: إِذَا نُزِعَتِ الْقَوَائِمُ سَقَطَتِ الْعُرُوشُ، وَالْحَالُ تَأْتِي مِنَ النَّكِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَأَوْقَعَ الْمُفَسِّرِينَ فِي التَّعَسُّفِ فِي التَّأْوِيلِ وَاخْتِيَارِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ عَلَى الْحَالِ الْمُفْرَدِ لِتَمْثِيلِ حَالِ الْقَرْيَةِ فِي النَّفْسِ بِذِكْرِ ضَمِيرِهَا، وَإِسْنَادِ خَاوِيَةٍ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى قَرْيَةٍ خَاوِيَةٍ لَمَا أَفَادَ هَذَا التَّمْثِيلُ. قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُدُّهُ غَرِيبًا لَا يَكَادُ يَقَعُ فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَلْبَثَهُ مِائَةَ عَامٍ مَيِّتًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يَمْتَدُّ زَمَنًا طَوِيلًا، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ فَقْدِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ - تَعَالَى - بِالضَّرْبِ عَلَى الْآذَانِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السَّمْعَ آخَرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ إِدْرَاكِ مَنْ أَخَذَهُ النَّوْمُ أَوِ الْمَوْتُ، وَهَذَا الْمَوْتُ أَوِ الضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ هُوَ الْمُرَادُ بِالشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [39: 42] وَالْبَعْثُ هُوَ الْإِرْسَالُ ; فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ، أَيْ قَبْضِهَا فَزَوَالُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرْسَالِهَا وَبَعْثِهَا. وَأَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تُحْفَظُ حَيَاتُهُ زَمَنًا طَوِيلًا يَكُونُ فِيهِ فَاقِدَ الْحِسِّ وَالشُّعُورِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّبَاتِ وَهُوَ النَّوْمُ الْمُسْتَغْرِقُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ وَفَاةً، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى مَجَلَّةِ الْمُقْتَطَفِ سَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ التَّقَاوِيمِ أَنَّ امْرَأَةً نَامَتْ 5500 يَوْمًا أَيْ بِلَيَالِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنَّ تَسْتَيْقِظَ سَاعَةً مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَسَأَلَ هَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ فَأَجَابَهُ أَصْحَابُ الْمَجَلَّةِ بِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَابًّا نَامَ نَحْوَ شَهْرٍ مِنَ الزَّمَانِ ثُمَّ أُصِيبَ بِدَخَلٍ فِي عَقْلِهِ، وَقَرَءُوا عَنْ أُنَاسٍ نَامُوا نَوْمًا طَوِيلًا أَكْثَرُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَنَامَ إِنْسَانٌ مُدَّةَ 5500 يَوْمًا أَيْ أَكْثَرَ مِنْ 15 سَنَةً نَوْمًا مُتَوَالِيًا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يُصَدِّقُونَ ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَلَكِنَّ الْقَادِرَ عَلَى حِفْظِ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، و15 سَنَةً قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ نَهْتَدِ إِلَى سُنَّتِهِ فِي ذَلِكَ، فَلُبْثُ الرَّجُلِ الَّذِي ضُرِبَ عَلَى سَمْعِهِ - هُنَا مَثَلًا - مِائَةً غَيْرُ مُحَالٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا

فِي التَّسْلِيمِ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّصُّ مِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَخْذِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّبَاتِ الطَّوِيلِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدْهُ أَكْثَرُهُمْ لِأَجْلِ تَقْرِيبِ إِمْكَانِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَذْهَانِ الَّذِينَ يَعْسُرُ عَلَيْهِمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يُسْتَبْعَدُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَمَا هُوَ مُحَالٌ لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ لِذَاتِهِ. قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَفْسُدْ بِمُرُورِ السِّنِينَ. أَقُولُ: لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا - تَعَالَى - نَوْعَ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ الشَّرَابِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعَدُّ بَقَاؤُهُ مِائَةَ عَامٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُدِلُّ رَائِيَهَا عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَا يَفْسُدُ بِطُولِ السِّنِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَوْ تَفَتَّتَتْ عِظَامُهُ، فَلَوْلَا طُولُ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ بَقِيَ حَيًّا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَعْتَنِي بِشَأْنِهِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ وَلَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، فَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مَحْذُوفًا أَيْ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِنُزِيلَ تَعَجُّبَكَ وَنُرِيَكَ آيَاتِنَا فِي نَفْسِكَ وَطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ وَحِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، فَالْعَطْفُ دَلَّنَا عَلَى الْمَحْذُوفِ الْمَطْوِيِّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً وَهَذَا مِنْ لَطَائِفَ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُ مَا رَأَى آيَةً لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ آيَةً لِلنَّاسِ فَهُوَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِمَوْتِهِ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا يَزَالُ شَابًّا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ قَدْ شَابُوا وَهَرَمُوا، وَقَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ بَدَنَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُضْنِيهِ وَتُذْهِبُ بِمَاءِ الشَّبَابِ مِنْهُ فَتُهْرِمُهُ، بَلْ حُفِظَتْ لَهُ حَالَتَهُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " نُنْشِرُهَا " - بِالرَّاءِ - مِنَ الْإِنْشَارِ - وَالْبَاقُونَ - بِالزَّايِ - مِنَ الْإِنْشَازِ. قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحِمَارَ مَاتَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ هُنَا عِظَامُهُ، وَمَعْنَى نُنْشِزُهَا نَرْفَعُهَا وَنُرَكِّبُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَمَعْنَى " نُنْشِرُهَا ": نُحْيِيهَا، وَلَا مَنْدُوحَةَ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحِمَارَ كَانَ لَا يَزَالُ حَيًّا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ جِنْسُهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ الْآيَةَ الَّتِي تَكُونُ حُجَّةً خَاصَّةً لِمَنْ رَآهَا نَبَّهَهُ إِلَى الْحُجَّةِ الْعَامَّةِ، وَالدَّلِيلِ الثَّابِتِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ وَإِنْشَاءِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَالْإِنْشَاءُ مَعْنَاهُ: التَّقْوِيَةُ، وَالِانْتِشَارُ مَعْنَاهُ: التَّنْمِيَةُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَنْمُو يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَطْلَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَدُلُّكَ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ نَهْدِيكَ إِلَى الْآيَةِ الْكُبْرَى الْعَامَّةِ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ التَّكْوِينِ، وَإِنَّمَا

كَانَتْ هِيَ الْآيَةُ الْعَامَّةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [7: 29] وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [21: 104] وَقَوْلِهِ فِي آيَاتٍ تُبَيِّنُ تَفْصِيلَ كَيْفِيَّةِ الْبَدْءِ: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [23: 14] أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِيهَا " مِنَ الْإِنْشَاءِ، وَعِظَامُ الْحِمَارِ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إِنْشَاءٌ جَدِيدٌ، بَلِ الْحِمَارُ نَفْسُهُ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ثُمَّ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ انْظُرْ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ إِنْشَازِ الْعِظَامِ وَإِنْشَاءِ الْحَيَوَانِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِذِكْرٍ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ آيَةً. فَهَذَا الْفَصْلُ دَلِيلٌ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْآيَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الْعِظَامُ تُوجَدُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ عَارِيَةً مِنْ لِبَاسِ الْحَيَاةِ، بَلْ قَالَ فَقِيرَةٌ مِنْ مَادَّتِهَا، فَالْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَكْسُوَهَا لَحْمًا يَمُدُّهَا بِالْحَيَاةِ وَيَجْعَلُهَا أَصْلًا لِجِسْمٍ حَيٍّ - قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخِصْبَ وَالْعُمْرَانَ لِلْقَرْيَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ مِائَةِ سَنَةٍ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ الْمَوْتَى أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، هَكَذَا يُشْبِهُ بَعْضُ أَفْعَالِهِ بَعْضًا. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ ظَهَرَ وَاتَّضَحَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عِلْمًا يَقِينًا مُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ فِي نَفْسِي وَفِي الْآفَاقِ. وَسَأَلَ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ سَائِلٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّكَلُّمِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ سَامِعٍ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ بَيَانِهِ، أَقُولُ: إِنَّمَا سَأَلَ السَّائِلُ لِأَنَّ الْأُسْتَاذَ جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ صِدِّيقٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْقِصَّةِ لِنَبِيٍّ قُرِّرَتْ بِهِ الْحُجَّةُ هَكَذَا، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ يَقَعُ فِي نُفُوسِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَفْكَارِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يَقَعُ فِي نُفُوسِ غَيْرِهِمْ، فَيُعَدُّ مِنْ إِلْهَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، كَإِلْهَامِ أُمِّ مُوسَى مَا أُلْهِمَتْ بِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، وَيُحْكَى عَنْهُ بِمِثْلِ مَا يُحْكَى عَنِ التَّكْلِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَاللهُ أَعْلَمُ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

(الْمُفْرَدَاتُ) فَصُرْهُنَّ - بِضَمِّ الصَّادِ -: أَمِلْهُنَّ، مِنَ الْإِمَالَةِ، وَكَذَلِكَ فَصُرْهُنَّ - بِكَسْرِ الصَّادِ - يُقَالُ: صَارَهُ إِلَيْهِ يَصُورُهُ وَيَصِيرُهُ بِمَعْنَى أَمَالَهُ، وَيُقَالُ: صَارَ الرَّجُلُ إِذَا صَوَّتَ، وَمِنْهُ عُصْفُورٌ صَوَّارٌ، وَصَارَهُ يَصِيرُهُ: قَطَّعَهُ وَفَصَّلَهُ صُوَرًا صُوَرًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَعَ كَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَمَعْنَاهُ التَّصْوِيتُ، أَيْ صَوَّتَ وَصَاحَ بِهِنَّ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ. (التَّفْسِيرُ) هَذَا مِثَالٌ ثَالِثٌ لِوِلَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْبَعْثِ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ مُحَاجَّةُ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ لِإِبْرَاهِيمَ - فَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ اللهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ مِثَالٍ وَاحِدٍ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِثَالَيْنِ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ أَنَّ مُنْكِرِي الْبَعْثِ أَكْثَرُ مِنْ مُنْكِرِي الْأُلُوهِيَّةِ! ! قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ [7: 74] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَرَأَيْتَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَخْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمِثَالِ الَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ ; لِأَنَّ فِي سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي سُؤَالِ ذَاكَ، فَصُورَةُ ذَلِكَ صُورَةُ الْإِنْكَارِ وَصُورَةُ هَذَا صُورَةُ الْإِقْرَارِ مَعَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِلْمِ. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى بَدَأَ السُّؤَالَ بِكَلِمَةِ رَبِّ الَّتِي تُفِيدُ عِنَايَتَهُ - تَعَالَى - بِعَبِيدِهِ وَتَرْبِيَتَهُ لِعُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ لِتَكُونَ ثَنَاءً وَاسْتِعْطَافًا أَمَامَ الدُّعَاءِ، أَيْ أَرِنِي بِعَيْنِي كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِكَ لِلْمَوْتَى، وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي فَهْمِ الْكَلَامِ قَالَ - تَعَالَى - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ حُذِفَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا لَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُقَدَّرَ: أَلَمْ يُوحَ إِلَيْكَ وَلَمْ تُؤْمِنْ بِذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى أَيْ قَدْ أَوْحَيْتَ إِلَيَّ فَآمَنْتُ وَصَدَّقْتُ بِالْخَبَرِ، وَلَكِنْ تَاقَتْ نَفْسِي لِلْخَبَرِ. وَالْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا السِّرِّ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْعِيَانِ بَعْدَ خَبَرِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ - إِرْشَادًا إِلَى مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَقِفَ عِنْدَهُ وَيَكْتَفِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِهَذَا السِّرِّ الْإِلَهِيِّ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ لِخَبَرِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِهِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ مُنْتَهَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَوْ كَانَ وَرَاءَ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ مَطْلَعٌ لِنَاظِرٍ لَبَيَّنَهُ اللهُ لَكَ، وَفِي هَذَا الْإِرْشَادِ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَمَنْعٌ لَهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَإِشْغَالِ نُفُوسِهِمْ بِمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ - تَعَالَى ـ بِهِ فَلَا يَلِيقُ بِهِمُ الْبَحْثُ عَنْهُ.

وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كَانَ قَلِقًا مُضْطَرِبًا فِي اعْتِقَادِهِ بِالْبَعْثِ وَذَلِكَ شَكٌّ فِيهِ، وَمَا أَبْلَدَ أَذْهَانَهُمْ وَأَبْعَدَ أَفْهَامَهُمْ عَنْ إِصَابَةِ الْمَرْمَى، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَنَّنَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّهِ كَمَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّنَا أَوْ أَشَدَّ قَطْعًا، نَعَمْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ، بِالشَّكِّ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ إِيمَانًا يَقِينِيًّا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهَا وَيَوَدُّ لَوْ يَعْرِفُهَا، فَهَذَا التِّلِغْرَافُ الَّذِي يَنْقُلُ الْخَبَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْغَرْبِ فِي دَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يُوقِنُ بِهِ كُلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُوجَدُ فِيهِ، وَيَقِلُّ فِيهِمُ الْعَارِفُ بِكَيْفِيَّةِ نَقْلِهِ لِلْخَبَرِ بِهَذَا السُّرْعَةِ، أَفَيُقَالُ فِيمَنْ طَلَبَ بَيَانَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ إِنَّهُ شَاكٌّ بِوُجُودِ التِّلِغْرَافِ؟ طَلَبَ الْمَزِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالرَّغْبَةِ فِي اسْتِكْنَاهِ الْحَقَائِقِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ، وَأَكْمَلُ النَّاسِ عِلْمًا وَفَهْمًا أَشَدُّهُمْ لِلْعِلْمِ طَلَبًا وَلِلْوُقُوفِ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ تَشَوُّفًا، وَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَتْلِ كُلِّ مَوْجُودٍ فِقْهًا وَفَهْمًا، وَقَدْ كَانَ طَلَبُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِعَيْنَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُوَ طَلَبٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ فِيمَا تَنْزِعُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْقُدْسِيَّةُ مِنْ مَعْرِفَةِ خَفَايَا أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ. لَا طَلَبٌ فِي أَصْلِ عَقْدِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الَّذِي عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قَرَأَ حَمْزَةُ " فَصِرْهُنَّ " - بِكَسْرِ الصَّادِ - وَالْبَاقُونَ - بِضَمِّهَا - مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَمَعْنَاهُ: أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَيْكَ. وَقِيلَ مَعْنَى قِرَاءَةِ - الْكَسْرِ - فَقَطِّعْهُنَّ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى بِـ " إِلَى " كَمَا تَقَدَّمَ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّهُ قَطَّعَهُنَّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِيَارِ الطَّيْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَقَالَ الرَّازِّيُّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الطَّيْرَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَجْمَعُ لِخَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَلِسُهُولَةٍ تَأَتِّي مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ التَّقْطِيعِ وَالتَّجْزِئَةِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّيْرَ أَكْثَرُ نُفُورًا مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْغَالِبِ، فَإِتْيَانُهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ أَبْلَغُ فِي الْمَثَلِ، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَتَكَلَّمُوا فِي أَرْبَعَةٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ الْمُوَافِقُ لِعَدَدِ الطَّبَائِعِ، أَوْ لِعَدَدِ الرِّيَاحِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ أَرْبَعَةً لِيَضَعَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْضَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ، وَمَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْوِيضِ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَاصِمٍ " جُزُؤًا " - بِضَمِّ الزَّايِ - حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ - بِسُكُونِهَا - وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى جَزِّئْهُنَّ، وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَرَوَوْا أَنَّهُ ذَبَحَ الطُّيُورَ وَنَتَفَهَا وَقَطَّعَهَا أَجْزَاءً وَخَلَّطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَا يَدُلُّ

الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا أَيِ ادْعُ الطُّيُورَ يَأْتِينَكَ مُسْرِعَاتٍ طَيَرَانًا وَمَشْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَهُوَ بِعِزَّتِهِ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَبِحِكْمَتِهِ قَدْ جَعَلَ أَمْرَ الْإِعَادَةِ مُوَافِقًا لِحِكْمَةِ التَّكْوِينِ. مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَأَمَرَهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَيُقَطِّعَهُنَّ أَجْزَاءً يُفَرِّقُهَا عَلَى عِدَّةِ جِبَالٍ هُنَاكَ، ثُمَّ يَدْعُوهَا إِلَيْهِ فَتَجِيئُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُفَسِّرُ الشَّهِيرُ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا كَلُّ أَمْرٍ يُقْصَدُ بِهِ الِامْتِثَالُ، فَإِنَّ مِنَ الْخَبَرِ مَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ زِيَادَةُ الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا سَأَلَكَ سَائِلٌ كَيْفَ يُصْنَعُ الْحِبْرُ مَثَلًا؟ فَتَقُولُ خُذْ كَذَا وَكَذَا وَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا يَكُنْ حِبْرًا. وَتُرِيدُ هَذِهِ كَيْفِيَّتُهُ وَلَا تَعْنِي تَكْلِيفَهُ صُنْعَ الْحِبْرِ بِالْفِعْلِ. قَالَ: وَفِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا مَثَلٌ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَمَعْنَاهُ خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَضُمَّهَا إِلَيْكَ وَآنِسْهَا بِكَ حَتَّى تَأْنَسَ وَتَصِيرَ بِحَيْثُ تُجِيبُ دَعْوَتَكَ، فَإِنَّ الطُّيُورَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانِ اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اجْعَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ ادْعُهَا فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إِلَيْكَ لَا يَمْنَعُهَا تَفَرُّقُ أَمْكِنَتِهَا وَبُعْدُهَا مِنْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ أَمْرُ رَبِّكَ إِذَا أَرَادَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَدْعُوهُمْ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ " كُونُوا أَحْيَاءً " فَيَكُونُوا أَحْيَاءً كَمَا كَانَ شَأْنُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، إِذْ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. هَذَا مَا نُجْلِي بِهِ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِّيُّ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ: " وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَأَنْكَرَ - يَعْنِي أَبَا مُسْلِمٍ - الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَقَطِّعْهُنَّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) : أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَصُرْهُنَّ أَمِلْهُنَّ، وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَانَ إِدْرَاجُهُ فِي الْآيَةِ إِلْحَاقًا لِزِيَادَةٍ بِالْآيَةِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. (وَالثَّانِي) أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِـ " صُرْهُنَّ " قَطِّعْهُنَّ لَمْ يَقُلْ إِلَيْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِهَذَا الْحَرْفِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ؟ قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ - يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِينَكَ سَعْيًا عَائِدٌ إِلَيْهَا إِلَى أَجْزَائِهَا. وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ. (وَالرَّابِعُ) أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطُّيُورَ جُعِلَتْ جُزْءًا جُزْءًا. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَظْهَرُ. وَالتَّقْدِيرُ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا ". انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِّيِّ. آيَةٌ فَهْمِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ فِيهَا خِلَافَ مَا فَهِمَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ فَهْمَ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ حُجَّةٌ عَلَى فَهْمِ الْآخَرِينَ، عَلَى أَنَّ مَا فَهِمَهُ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا قَالُوهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِوَايَاتٍ حَكَّمُوهَا فِي الْآيَةِ، وَلِآيَاتِ اللهِ الْحُكْمُ الْأَعْلَى، وَعَلَى مَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَدُلُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَزِيَّةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ هَذَا الْمِثَالَ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى أَوْ لِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ: فِيهِ تَوْشِيحٌ لَهَا وَتَحْدِيدٌ لِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ كَانَ عَامًا فِي النَّاسِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ فِيهِ لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَى أَنَّهُ يَرِدُ مِثْلُ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الَّذِي آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ، وَحُجَّتِهِ عَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَجِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَلْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِدَايَةً مِنَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ الَّتِي كَانَتْ مُحِيطَةً بِأَهْلِ زَمَنِهِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ [6: 83] الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِجَابَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَا سَأَلَ لَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فَالْأَمْرُ بِعَكْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِتْيَانَ الطُّيُورِ بَعْدَ تَقْطِيعِهَا وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهَا فِي الْجِبَالِ لَا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا رُؤْيَةُ الطُّيُورِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّقْطِيعِ ; لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ فِي الْجِبَالِ الْبَعِيدَةِ. وَافْرِضْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا قُتِلَ وَقُطِّعَ إِرْبًا إِرْبًا ثُمَّ رَأَيْتَهُ حَيًّا أَفَتَقُولُ حِينَئِذٍ: إِنَّكَ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ؟ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ فَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ

مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ الْبَشَرُ مِنْ سِرِّ التَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَهُوَ تَوْضِيحُ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ - بِمَا حَكَاهُ عَنْ خَلِيلِهِ - لَجَازَ أَنَّ يَطْمَعَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى سِرِّ التَّكْوِينِ الطَّامِعُونَ، وَلَوْ فَهِمَ الرَّازِّيُّ هَذَا لَمَا قَالَ: إِنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى الْغَيْرِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَوَابِ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مُوسَى إِذْ طَلَبَ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَأَوْضَحُ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا وَنَهَى عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظْمُ، وَهُوَ الَّذِي يُجَلِّي الْحَقِيقَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ الْإِحْيَاءِ هِيَ عَيْنُ كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِالشَّيْءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ " كُنْ " فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ الْبَشَرُ إِلَى كَيْفِيَّةٍ لَهُ إِلَّا إِذَا أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَشْيَاءِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ - أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ; فَصِفَاتُ اللهِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا هُوَ الْإِدْرَاكُ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ فِي النَّظْمِ الْمُحْكَمِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اجْعَلْ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِمَالَةُ الطُّيُورِ وَتَأْنِيسُهَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ صُرْهُنَّ يَدُلُّ عَلَى التَّأْنِيسِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْإِمَالَةِ إِلَيْهِ وَيَعْطِفْ جَعْلَهَا عَلَى الْجِبَالِ بِـ " ثُمَّ ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا خَتْمُ الْآيَةِ بِاسْمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ دُونَ اسْمِ الْقَدِيرِ. وَالْعَزِيزُ: هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَالُ. وَمَا صَرَفَ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وُضُوحِهِ إِلَّا الرِّوَايَةُ بِأَنَّهُ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ طُيُورٍ مِنْ جِنْسِ كَذَا وَكَذَا وَقَطَّعَهَا وَفَرَّقَهَا عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا، ثُمَّ دَعَاهَا فَطَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُنَاسِبِهِ حَتَّى كَانَتْ طُيُورٌ تُسْرِعُ إِلَيْهِ ; فَأَرَادُوا تَطْبِيقَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا وَلَوْ بِالتَّكَلُّفِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَهَمُّهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ خَصَائِصُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَنٍ غَرَامٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَتَحَكَّمُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ فَهْمَ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي مُسْلِمٍ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ وَأَشَدَّ اسْتِقْلَالَهُ فِيهِ.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أَعَادَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ التَّذْكِيرَ هُنَا بِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ مَزْجَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِآيَاتِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ وَالتَّوْحِيدِ ; لِيُقَرِّرَ أَمْرَ الْحُكْمِ وَيَنْصُرَ النُّفُوسَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ (ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ بِتَصَرُّفٍ) : قَدْ قُلْنَا مِرَارًا إِنَّ أَمْرَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَشَقُّ الْأُمُورِ عَلَى النُّفُوسِ، لَا سِيَّمَا إِذَا اتَّسَعَتْ دَائِرَةُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا يُنْفَقُ فِيهِ، وَبَعُدَتْ نِسْبَةُ مَنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ عَنِ الْمُنْفِقِ ; فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ أَهْلِ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِنْفَاقِ لَا يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِالسَّخَاءِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ السَّخَاءِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ بِقَدْرِ هَذَا النَّصِيبِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَدْنَى نَصِيبٍ فَإِنَّهُ يَرْتَاحُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ. فَإِنْ زَادَ أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِ فَأُمَّتِهِ فَالنَّاسِ كُلِّهِمْ وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْجُودِ وَالسَّخَاءِ. وَإِنَّمَا يَصْعُبُ عَلَى الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنْفَعَةِ مَنْ يَبْعُدُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فُطِرَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا لَا يَتَصَوَّرُ لِنَفْسِهِ فَائِدَةً مِنْهُ، وَأَكْثَرُ النُّفُوسِ جَاهِلَةٌ بِاتِّصَالِ مَنَافِعِهَا وَمَصَالِحِهَا بِالْبُعْدِ عَنْهَا فَلَا تَشْعُرُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الْهَامَّةِ كَإِزَالَةِ الْجَهْلِ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَمُسَاعَدَةِ الْعَجَزَةِ وَالضُّعَفَاءِ وَتَرْقِيَةِ الصِّنَاعَاتِ وَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَلَاجِئِ وَخِدْمَةِ الدِّينِ الْمُهَذِّبِ لِلنُّفُوسِ هُوَ الَّذِي بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا سَعِيدَةً عَزِيزَةً فَعَلَّمَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي الْمَصَالِحِ يُضَاعَفُ لَهُمْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً فَهُوَ مُفِيدٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِهِ

وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ لِيَكُونَ مُفِيدًا لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ أَيْضًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَاضِهِ - تَعَالَى - وَوَعَدَ بِمُضَاعَفَتِهِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، ثُمَّ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَذَكَرَ قَصَصَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَانْتِهَاءَهُمْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي يُوَفُّونَ فِيهَا أُجُورَهُمْ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ فِدْيَةٌ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي أَهَمُّهَا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِلْمُضَاعَفَةِ ; أَيْ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَمْرَ الْبَعْثِ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ. قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ مَا يُوصِلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ نَفْعُهُ أَعَمَّ وَأَثَرُهُ أَبْقَى كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ أَيْ كَمَثَلِ أَبْرَكِ بَذْرٍ فِي أَخْصَبِ أَرْضٍ نَمَا أَحْسَنَ نُمُوٍّ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ مُضَاعَفَةً سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْخِصْبِ وَالنَّمَاءِ ; أَيْ أَنَّ هَذَا الْمُنْفِقَ يَلْقَى جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ. فَالتَّمْثِيلُ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْحَصْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً لَا تُقَدَّرُ وَلَا تُحْصَرُ، فَذَلِكَ الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَا يُحَدُّ عَطَاؤُهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُضَاعَفَةَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَهْدِيهِمْ إِخْلَاصُهُمْ إِلَى وَضْعِ النَّفَقَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي يَكْثُرُ نَفْعُهَا وَتَبْقَى فَائِدَتُهَا زَمَنًا طَوِيلًا، كَالْمُنْفِقِينَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ عَلَى آدَابِ الدِّينِ وَفَضَائِلِهِ الَّتِي تَسُوقُهُمْ إِلَى سَعَادَةِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَتْ آثَارُ نَفَقَاتِهِمُ النَّافِعَةِ فِي قُوَّةِ مُلْكِهِمْ وَسَعَةِ انْتِشَارِ دِينِهِمْ وَسَعَادَةِ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ عَادَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِ ذَلِكَ وَفَوَائِدِهِمْ مَا هُوَ مَا أَنْفَقُوا بِدَرَجَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي الدَّرْسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ فِي خِدْمَةِ الدِّينِ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إِنَّ كَلِمَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَشْتَمِلُ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا. أَقُولُ: وَمَنْ أَرَادَ كَمَالَ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ فَلِيَعْتَبِرْ بِمَا يَرَاهُ فِي الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ الَّتِي يُنْفِقُ أَفْرَادُهَا مَا يُنْفِقُونَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهَا بِنَشْرِ الْعُلُومِ وَتَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، إِذْ يُرَى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أَدْنَى طَبَقَاتِهَا عَزِيزًا بِهَا مُحْتَرَمًا بِاحْتِرَامِهَا مَكْفُولًا بِعِنَايَتِهَا كَأَنَّ أُمَّتَهُ وَدَوْلَتَهُ مُتَمَثِّلَتَانِ فِي شَخْصِهِ، وَلِيُقَابِلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ كُبَرَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي ضَعُفَتْ وَذَلَّتْ بِإِهْمَالِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ كَيْفَ يَرَاهُمْ أَحْقَرَ فِي الْوُجُودِ مِنْ صَعَالِيكِ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لِيَرْجِعْ إِلَى نَفْسِهِ وَلِيَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يَصِحُّ أَنْ تُعْتَبَرَ هِيَ الْمُسْعِدَةُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَجْمُوعَ النَّفَقَاتِ الَّتِي بِهَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ تَتَكَوَّنُ مِمَّا يَبْذُلُهُ الْأَفْرَادُ، فَلَوْلَا الْجُزْئِيَّاتُ لَمْ تُوجَدِ الْكُلِّيَّاتُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ وَالْفِطْرَةِ ; فَكُلُّ مَنْ بَذَلَ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ إِمَامًا وَقُدْوَةً

لِمَنْ يَبْذُلُ بَعْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَأَثَّرُ بَعْضُهُمْ بِفِعْلِ بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْفَضْلُ الْأَكْبَرُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَنْ يَبْدَأُ بِالْإِنْفَاقِ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ. أُولَئِكَ وَاضِعُو سُنَنِ الْخَيْرِ وَالْفَائِزُونَ بِأَكْبَرِ الْمُضَاعَفَةِ لِأَنَّ لَهُمْ أُجُورَهُمْ وَمِثْلَ أُجُورِ مَنِ اقْتَدَى بِسُنَّتِهِمْ. فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى الْآيَةَ: قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِمَنْفَعَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ شُرِطَ لِهَذَا الثَّوَابِ تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى ; فَأَمَّا الْمَنُّ فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُحْسِنُ إِحْسَانَهُ لِمَنْ أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْهِ يُظْهِرُ بِهِ تَفَضُّلَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَذَى فَهُوَ أَعَمُّ، وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُحْسِنُ إِحْسَانَهُ لِغَيْرِ مَنْ أَحْسَنَ عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ ذَكَرَهُ لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَنُّ أَنْ يَعْتَدَّ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقًّا. وَالْأَذَى أَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَنَّ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ وَتَوْسِيطُ كَلِمَةِ " لَا " لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ بِإِفَادَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى كَافٍ وَحْدَهُ لِإِحْبَاطِ الْعَمَلِ. وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ لِإِظْهَارِ عُلُوِّ رُتْبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ التَّعْبِيرُ بِثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ التَّرَاخِيَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَنَّ أَوِ الْأَذَى الْعَاجِلَ أَضَرُّ وَأَجْدَرُ بِأَنْ يُجْعَلَ تَرْكُهُ شَرْطًا لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَنْ يَقْرِنُ النَّفَقَةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَوْ يُتْبِعُهَا أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا عَاجِلًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَدْخُلَ فِي الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ يُوصَفُ بِالسَّخَاءِ الْمَحْمُودِ عِنْدَ اللهِ. وَإِذَا كَانَ مَنْ يَمُنُّ أَوْ يُؤْذِي بَعْدَ الْإِنْفَاقِ بِزَمَنٍ بَعِيدٍ لَا يَعْتَدُّ اللهُ بِإِنْفَاقِهِ وَلَا يَأْجُرُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقِيهِ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ، أَفَلَا يَكُونُ الْمُتَعَجِّلُ بِهِ أَجْدَرَ بِذَلِكَ؟ بَلَى، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي السَّخِيِّ الَّذِي يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مُخْلِصًا مُتَحَرِّيًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لَا بَاغِيًا جَزَاءً مِمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَلَا مُكَافَأَةً، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنِّ وَالْأَذَى الْمُحْبِطَيْنِ لِلْأَجْرِ، كَأَنْ يَرَى مِمَّنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ غَمْطًا لِحِقِّهِ أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهُ وَتَرْكًا لِمَا كَانَ مِنِ احْتِرَامِهِ إِيَّاهُ، فَيُثِيرُ بِذَلِكَ غَضَبَهُ حَتَّى يَمُنَّ أَوْ يُؤْذِيَ، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فَحَذَّرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْهُ. وَأَنْتَ تَرَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ بِمَا يُصْنَعُ مِثْلُهُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْإِنْفَاقَ فِيهَا عَلَى إِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ، وَصَوَّرَ الْمَنَّ وَالْأَذَى بِالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي جِهَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ لَمْ يَقُومُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: " وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَوْجَبَ الْأَجْرَ لِمَنْ كَانَ غَيْرَ مَانٍّ وَلَا مُؤْذٍ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا ابْتُغِيَ

بِهِ وَجْهُ اللهِ وَطُلِبَ بِهِ مَا عِنْدَهُ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ وَصْفُنَا فَلَا وَجْهَ لِمَنِّ الْمُنْفِقِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ قِبَلَهُ وَلَا صَنِيعَةَ يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَيْهِ - إِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ عَلَيْهِ - الْمَنَّ وَالْأَذَى إِذَا كَانَتْ نَفَقَةُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ احْتِسَابًا وَابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ وَعَلَى اللهِ مَثُوبَتُهُ دُونَ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ " اهـ. وَهُوَ يَلْتَقِي مَعَ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي أَنَّ الْمَنَّ فِي الْآيَةِ قَدْ يَقَعُ مُتَرَاخِيًا عَنْ وَقْتِ الْإِنْفَاقِ وَلَكِنَّ تَخْصِيصَهُ ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَظِيمٌ. مِنْ رَبٍّ قَادِرٍ كَرِيمٍ، فَقَدَ أَضَافَهُمْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِعْلَاءً لِشَأْنِهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ يَخَافُ النَّاسُ وَتُفْزِعُهُمُ الْأَهْوَالُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَوْمَ يَحْزَنُ الْبُخَلَاءُ الْمُمْسِكُونَ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُبْطِلُونَ لِصَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّرُورِ الدَّائِمِ وَالسَّكِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى قَالُوا: أَيُّ كَلَامٍ جَمِيلٍ تَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ وَلَا تُنْكِرُهُ يُرَدُّ بِهِ السَّائِلُ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، وَسَتْرٍ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى النُّفُوسِ، أَوْ سَتْرِ حَالِ الْفَقِيرِ بِعَدَمِ التَّشْهِيرِ بِهِ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ الْمَغْفِرَةُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِمَنْ يَرُدُّ السَّائِلَ رَدًّا جَمِيلًا، وَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى فَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ مِنْ حَيْثُ يَرْجُو الثَّوَابَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْقَوْلُ بِالْمَعْرُوفِ يَتَوَجَّهُ تَارَةً إِلَى السَّائِلِ إِنْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَمَا إِذَا هَاجَمَ الْبَلَدَ عَدُوٌّ وَأَرَادُوا جَمْعَ الْمَالِ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى دَفْعِهِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَاعِدَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَحُثُّ عَلَى الْعَمَلِ وَيُنَشِّطُ الْعَامِلَ، وَيَبْعَثُ عَزِيمَةَ الْبَاذِلِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَنْ تُغْضِيَ عَنْ نِسْبَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْإِنْفَاقِ إِلَيْكَ، وَأَنْ تَظْهَرَ فِي هَيْئَةٍ لَا يَنْفِرُ مِنْهَا الْمُحْتَاجُ وَلَا يَتَأَلَّمُ مَنْ فَقْرِهِ أَمَامَكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُقَابَلَةَ الْمُحْتَاجِ بِكَلَامٍ يَسُرُّ وَهَيْئَةٍ تُرْضِي خَيْرٌ مِنَ الصَّدَقَةِ مَعَ الْإِيذَاءِ بِسُوءِ الْقَوْلِ أَوْ سُوءِ الْمُقَابَلَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمُحْتَاجِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَوْ جَمَاعَةً، فَإِنَّ مُسَاعَدَةَ الْأُمَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ مَعَ سُوءِ الْقَوْلِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي سَاعَدَهَا عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ اسْتِهْجَانِهِ وَبَيَانِ التَّقْصِيرِ فِيهِ أَوْ تَشْكِيكِ النَّاسِ فِي فَائِدَةٍ لَا تُوَازِي هَذِهِ الْمُسَاعَدَةَ. إِحْسَانُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي تُطْلَبُ لَهُ الْمُسَاعَدَةُ وَالْإِغْضَاءُ عَنِ التَّقْصِيرِ الَّذِي رُبَّمَا يَكُونُ مِنَ الْعَامِلِينَ فِيهِ، فَكَوْنُكَ مَعَ الْأُمَّةِ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ خَيْرٌ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ تَرْضَخُ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَفِعْلِ الْأَذَى، وَمَعْنَى هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ أَنَّهُ أَنْفَعُ وَأَكْثَرُ فَائِدَةٍ لَا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْبَذْلِ وَيُغْنِي عَنْهُ، فَمَنْ آذَى فَقَدْ بَغَّضَ نَفْسَهُ إِلَى النَّاسِ بِظُهُورِهِ فِي مَظْهَرِ الْبَغْضَاءِ لَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّلْمَ وَالْوَلَاءَ، خَيْرٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ،

وَأَنَّ أَضْمَنَ شَيْءٍ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْوَى مُعَزِّزٍ لَهَا هُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي عَيْنِ الْآخَرِ وَقَلْبِهِ فِي مَقَامِ الْمُعِينِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعِنْهُ بِالْفِعْلِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُقَرِّرَةٌ لِقَاعِدَةِ: " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَكُونُ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إِلَى الشَّرِّ، وَمُرْشِدَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْعِنَايَةِ بِجَعْلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَالِيًا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تُفْسِدُهُ وَتَذْهَبُ بِفَائِدَتِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ عَجَزَ عَنْ إِحْسَانِ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَجَعْلِهِ خَالِصًا نَقِيًّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِحْسَانِ عَمَلٍ آخَرَ يُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهِ حَتَّى لَا يُحْرَمَ مِنْ فَائِدَتِهِ بِالْمَرَّةِ، كَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَا يَمُنَّ وَلَا يُؤْذِي فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ أَوْ جَبَرَ الْفَقِيرَ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ لَا يُغْنِي بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يُغْنِي تَرْكُ الشِّرْكِ وَاتِّقَاءُ الْمَفَاسِدِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ. وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ وَبِمَا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ صَدَقَةِ عِبَادِهِ فَلَا يَأْمُرُ الْأَغْنِيَاءَ بِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِهِ لِحَاجَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَهُمْ وَيُزَكِّيَهُمْ وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَيُصْلِحَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِيَكُونُوا أَعِزَّاءَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ، وَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُنَافِيَانِ ذَلِكَ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ قَبُولِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَاتِ. حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُطْلَقُ الْحِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّازِمُ مِنْ لَوَازِمِهِ ; أَيِ الْإِمْهَالُ وَعَدَمُ الْمُعَاجَلَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ لَازِمٌ آخَرُ هَذَا الْإِغْضَاءُ وَالْعَفْوُ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ لَكَانَ تَحْرِيضًا عَلَى الْأَذَى وَلِكُلِّ مَقَالٍ مَقَامٌ يُعَيِّنُهُ، فَالْأَوَّلُ يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ الْعَجُولِ الطَّائِشِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِ الْغَضُوبِ الْمُنْتَقِمِ. وَفِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَنْفِيسٌ لِكُرَبِ الْفُقَرَاءِ وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ وَتَعْلِيقٌ لِقُلُوبِهِمْ بِحَبَلِ الرَّجَاءِ بِاللهِ الْغَنِيِّ الْمُغْنِي، وَتَهْدِيدٌ لِلْأَغْنِيَاءِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِحِلْمِ اللهِ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَمِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَسْلُبَهَا مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مُولَعَةٌ بِذِكْرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْإِحْسَانِ لِلتَّمَدُّحِ وَالْفَخْرِ وَكَانَ ذَلِكَ مَطِيَّةَ الرِّيَاءِ، وَطَرِيقَ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، لَا سِيَّمَا إِذَا آنَسَ الْمُصَّدِّقُ تَقْصِيرًا فِي شُكْرِهِ عَلَى صَدَقَتِهِ أَوِ احْتِقَارًا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ وَيَكُفُّهَا عَنِ الْمَنِّ أَوِ الْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كَانَ مِنَ الْهُدَى الْقَوِيمِ وَمُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ أَنْ يُؤْتَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَقُولُ: بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَنَّ تَرْكَ الْمَنِّ وَالْأَذَى شَرْطٌ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا إِلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ آخَرَ يُكْرِمُ بِهِ الْفَقِيرَ، أَوْ تُؤَيَّدُ بِهِ

الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا. ثُمَّ أَقْبَلَ - تَعَالَى - عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَهَاهُمْ نَهْيًا صَرِيحًا أَنْ يُبْطِلُوا صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ هَاتَيْنِ الرَّذِيلَتَيْنِ مَا يَقْتَضِيهِ وَلُوعُ النَّاسِ بِهِمَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْآيَةِ عَلَى إِحْبَاطِ الْكَبَائِرِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُعْمَلْ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تُبْطِلُوا ثَوَابَ صَدَقَاتِكُمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِحْبَاطِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ تَخْفِيفُ بُؤْسِ الْمُحْتَاجِينَ وَكَشْفُ أَذَى الْفَقْرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَتَنْشِيطُ الْقَائِمِينَ بِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، فَإِذَا أُتْبِعَتِ الصَّدَقَةُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَانَ ذَلِكَ هَدْمًا لِمَا بَنَتْهُ وَإِبْطَالًا لِمَا عَمِلَتْهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَقَدْ حَبِطَ وَبَطُلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَكَيْفَ إِذَا أُتْبِعَ بِضِدِّ الْغَايَةِ وَنَقِيضِهَا؟ كَذَلِكَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمُرَائِي بَاطِلَةً ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلْ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارُ سُلْطَانِهِ وَالْإِذْعَانُ لِعَظَمَتِهِ وَالشُّكْرُ لِإِحْسَانِهِ، وَقَلْبُ الْمُرَائِي إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يُرَائِيهِ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلصَّدَقَةِ، وَالَّذِي يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنَّ ارْتِكَابَ أَيِّ كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ السَّابِقَةِ وَيُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هُدَى اللهِ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا فِطْرَةَ الْبَشَرِ الَّتِي جَاءَ الدِّينُ لِتَأْدِيبِهَا، وَقَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ مَنْ أَيَّدَ مَذْهَبَهُ بِهَدْمِ مَذْهَبِهِمْ، هَكَذَا يَتَجَاذَبُ الْقُرْآنَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ كَلٌّ يَجْذِبُهُ إِلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَتَرَاهُمْ عِنْدَمَا يُشَاغِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَتَعَلَّقُونَ بِالْكَلِمَةِ الْمُفْرَدَةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَا قَالُوا وَيَجْعَلُونَهَا حُجَّةً لِلْمَذْهَبِ وَيُؤَوِّلُونَ مَا عَدَاهَا وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ، وَأَهْلُ الْخِلَافِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي بَيَانِ مَعَانِيهِ. ثُمَّ شَبَّهَ - تَعَالَى - أَصْحَابَ الْمَنِّ وَالْأَذَى بِالْمُرَائِي أَوْ إِبْطَالَ عَمَلِهِمْ لِلصَّدَقَةِ بِإِبْطَالِ رِيَائِهِ لَهَا فَقَالَ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ أَيْ لِأَجْلِ رِيَائِهِمْ أَوْ مُرَائِيًا لَهُمْ ; أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَرَوْهُ فَيَحْمَدُوهُ لَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - بِتَحَرِّي مَا حَثَّ عَلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ عِبَادِهِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَعُوزِينَ، وَتَرْقِيَةِ شَأْنِ الْمِلَّةِ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُحَاوِلُ إِرْضَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ عِقَابِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا أَيْ إِنَّ صِفَتَهُ وَحَالَهُ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُنْفِقُ كَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَطَرٌ غَزِيرٌ عَظِيمُ الْقَطْرِ أَزَالَ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ حَتَّى عَادَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ وَبَيْنَ الْمُرَائِي بِنَفَقَتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَشَّ نَفْسَهُ فَأَلْبَسَهَا ثَوْبَ زُورٍ يُوهِمُ رَائِيهِ

مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَنْ يَلْبَسُ لُبُوسَ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْجُنْدِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ وَيَفْتَضِحَ سِرُّهُ، فَيَكُونَ مَا تَلَبَّسَ بِهِ كَالتُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ يَذْهَبُ بِهِ الْوَابِلُ، كَذَلِكَ تَكْشِفُ الْحَوَادِثُ وَمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَتَفْضَحُ سَرَائِرَهُمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ وَلَا يَجْنُونَ ثَمَرَاتِهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مِمَّا يُنَافِي غَايَةَ الصَّدَقَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَمَنْ فَعَلَهُمَا كَانَ أَبْغَضَ إِلَى النَّاسِ مِنَ الْبَخِيلِ الْمُمْسِكِ، وَالرِّيَاءُ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشُفُّ عَمَّا تَحْتَهُ ... فَإِذَا اكْتَسَيْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارٍ فَلَا تَكَادُ تَجِدُ مَنَّانًا وَلَا مُرَائِيًا غَيْرَ مَذْمُومٍ مَمْقُوتٍ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَأَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى كَالرِّيَاءِ فِي مُنَافَاةِ الْإِخْلَاصِ، وَلَا ثَوَابَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِلْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمِ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَا سُنَنَ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِ النَّاسِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي قَلْبَ صَاحِبِهِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَوَضْعِ النَّفَقَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَا يَذْهَبُ بِفَائِدَتِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، فَكَانَ الْكَافِرُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ مَحْرُومًا مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لِصَاحِبِهَا بَيْنَ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ وَسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. بَعْدَ هَذَا ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ لِلْمُخْلِصِينَ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْمُرَائِينَ وَالْمُؤْذِينَ، وَعَقَّبَهُ بِمَثَلٍ آخَرَ يَتَبَيَّنُ بِهِ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

يَقُولُ: ذَاكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ مَثَلُ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَأَصْحَابِ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللهِ وَلِتَثْبِيتِ أَنْفُسِهِمْ وَتَمْكِينِهَا فِي مَنَازِلِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ حَتَّى تَكُونَ مُطَمْئِنَةً فِي بَذْلِهَا لَا يُنَازِعُهَا فِيهِ زِلْزَالُ الْبُخْلِ وَلَا اضْطِرَابُ الْحِرْصِ; لِإِيثَارِهَا حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ أَمْرِ اللهِ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّثْبِيتُ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ عَلَى الْبَذْلِ حَيْثُ يُفِيدُ الْبَذْلُ، حَتَّى يَصِيرَ الْجُودُ لَهَا طَبْعًا وَخُلُقًا، وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ يُفِيدُ بَعْضَ التَّثْبِيتِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَإِنَّمَا كَمَالُ ذَلِكَ بِبَذْلِ الرُّوحِ وَالْمَالِ جَمِيعًا فِي سَبِيلِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [49: 15] وَقَدْ هَدَانَا تَعْلِيلُ الْإِنْفَاقِ بِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ إِلَى أَنْ نَقْصِدَ بِأَعْمَالِنَا أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: ابْتِغَاءُ رِضْوَانِهِ لِذَاتِهِ تَعَبُّدًا لَهُ. وَثَانِيهِمَا: تَزْكِيَةُ أَنْفُسِنَا وَتَطْهِيرُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهَا عَنِ الْكَمَالِ، كَالْبُخْلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي حُبِّ الْمَالِ، عَلَى أَنَّ هَذَا وَسِيلَةٌ لِذَاكَ وَفَائِدَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَائِدَةٌ عَلَيْنَا وَاللهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. فَإِذَا صَدَقْنَا فِي الْقَصْدَيْنِ صَدَقَ عَلَيْنَا هَذَا الْمَثَلُ وَكُنَّا فِي نَفْعِ إِنْفَاقِنَا كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَيْ بُسْتَانٍ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ - قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ بِفَتْحِ رَاءِ " رَبْوَةٍ " وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا - قَالُوا: وَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الْجَنَّاتِ كَانَ عَمَلُ الشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ فِيهِ أَكْمَلَ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا وَأَزْكَى ثَمَرًا، أَمَّا الْأَمَاكِنُ الْمُنْخَفِضَةُ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا قَلِيلًا فَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبْوَةِ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْجَيِّدَةُ التُّرْبَةُ بِحَيْثُ تَرْبُو بِنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا وَتَنْمُو كَمَا قَالَ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ الْآيَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الْمَثَلِ مُقَابِلًا لِمَثَلِ الصَّفْوَانِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ أَيْ فَكَانَ ثَمَرُهَا مِثْلَيْ مَا كَانَتْ تُثْمِرُ فِي الْعَادَةِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَالْأُكُلُ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ وَهُوَ - بِضَمَّتَيْنِ، وَتُسَكَّنُ الْكَافُ تَخْفِيفًا - وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ أَيْ فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ أَوْ فَطَلٌّ يَكْفِيهَا لِجَوْدَةِ تُرْبَتِهَا وَكَرَمِ مَنْبَتِهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَالطَّلُّ:الْمَطَرُ الْخَفِيفُ الْمُسْتَدَقُّ الْقَطْرُ. أَقُولُ: وَقَدْ عُرِفَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ الْأَرْضَ الْجَيِّدَةَ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْفِيهَا الْقَلِيلُ مِنَ الرَّيِّ لِرُطُوبَةِ ثَرَاهَا وَجَوْدَةِ هَوَائِهَا ; فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَغَذَّى مِنَ الْهَوَاءِ كَمَا يَتَغَذَّى مِنَ الْأَرْضِ،

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا، كَثُرَ مَا يُصِيبُهَا مِنَ الْمَطَرِ أَوْ قَلَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَرُهَا مُضَاعَفًا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا فَإِذًا لَا يَكُونُ طَالِبُهُ قَطُّ مَحْرُومًا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُنْفِقَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالتَّثْبِيتِ مِنْ نَفْسِهِ هُوَ فِي إِخْلَاصِهِ وَسَخَاءِ نَفْسِهِ وَإِخْلَاصِ قَلْبِهِ كَالْجَنَّةِ الْجَيِّدَةِ التُّرْبَةِ الْمُلْتَفَّةِ الشَّجَرِ الْعَظِيمَةِ الْخِصْبِ فِي كَثْرَةِ بِرِّهِ وَحُسْنِهِ، فَهُوَ يَجُودُ بِقَدْرِ سَعَتِهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ أَغْدَقَ وَوَسُعَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَلِيلٌ أَنْفَقَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ وَبِرُّهُ لَا يَنْقَطِعُ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ ذَاتِيٌّ لَا عَرَضِيٌّ كَأَهْلِ الرِّيَاءِ وَأَصْحَابِ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ. هَذَا مَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ، فَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَمَا دُونُ السَّعَةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ فِي الْإِنْفَاقِ كَالْوَابِلِ لِلْجَنَّةِ فِيهَا تَكُونُ النَّفَقَةُ نَافِعَةً لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَتَحَرَّوْنَ فَيَضَعُونَ نَفَقَتَهُمْ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لَا يُبَذِّرُونَ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ. ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلِّ: أَيْ أَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ لَا يَخِيبُ قَاصِدُهُمْ ; لِأَنَّ رَحْمَةَ قُلُوبِهِمْ لَا يَغُورُ مَعِينُهَا فَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ بِوَابِلٍ مِنْ عَطَائِهَا لَمْ يَفُتْهُ طَلُّهُ، فَهُمْ كَالْجَنَّةِ الَّتِي لَا يُخْشَى عَلَيْهَا الْيُبْسُ وَالزَّوَالُ، وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرَائِي تَحْذِيرًا لَنَا مِنَ الرِّيَاءِ الَّذِي يَتَوَهَّمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَغُشُّ النَّاسَ بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرِيرَتُكَ أَيُّهَا الْمُنْفِقُ فَعَلَيْكَ أَنْ تُخْلِصَ لَهُ. وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَقَوْلُهُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ. (الْمُفْرَدَاتُ) وَدَّ الشَّيْءَ: أَحَبَّهُ مَعَ تَمَنِّيهِ. وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ ثَمَرُ الْكَرْمِ الطَّرِيُّ، وَاحِدَتُهُ عِنَبَةٌ، وَالنَّخِيلُ: جَمْعُ نَخْلٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ، وَهُوَ شَجَرُ التَّمْرِ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَوَاحِدَتُهُ نَخْلَةٌ، وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْكَرْمَ بِثَمَرِهِ وَالنَّخْلَ بِشَجَرِهِ وَلَا بِثَمَرِهِ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي النَّخِيلِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ فِي ارْتِفَاقِهِمْ: وَرَقَهُ وَجُذُوعَهُ وَأَلْيَافَهُ وَعَثَاكِيلَهُ، فَمِنْهُ يَتَّخِذُونَ الْقُفَفَ وَالزَّنَابِيلَ وَالْحِبَالَ وَالْعُرُوشَ وَالسُّقُوفَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْإِعْصَارُ: رِيحٌ عَاصِفَةٌ تَسْتَدِيرُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْعَكِسُ عَنْهَا إِلَى السَّمَاءِ حَامِلَةً لِلْغُبَارِ، فَتَكُونُ كَهَيْئَةِ الْعَمُودِ، جَمْعُهُ أَعَاصِرُ وَأَعَاصِيرُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ: السَّمُومُ الشَّدِيدُ، أَوِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ رِوَايَتَانِ عَنِ السَّلَفِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ بِأَسَانِيدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَحْرِقُ الشَّيْءَ وَلَوْ بِتَجْفِيفِ رُطُوبَتِهِ، وَالصَّرُّ: أَيِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ كَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ، كِلَاهُمَا يَحْرِقُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ.

(التَّفْسِيرُ) الِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ وُقُوعِ أَنَّ يُودَّ الْإِنْسَانُ لَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ مُعْظَمُ شَجَرِهَا الْكَرْمُ وَالنَّخْلُ اللَّذَانِ هُمَا أَجْمَلُ الشَّجَرِ وَأَنْفَعُهُ، كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ حَاوِيَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْكَثِيرَةِ قَدْ نِيطَتْ بِهَا آمَالُهُ، وَرَجَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا عِيَالُهُ، وَيُصِيبُهُ الْكِبَرُ الَّذِي يُقْعِدُهُ عَنِ الْكَسْبِ فِي حَالِ كَثْرَةِ ذُرِّيَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ عَنْ أَنْ يَقُومُوا بِشَأْنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ وَلَا لَهُمْ مَوْرِدٌ لِلرِّزْقِ غَيْرَ هَذِهِ الْجَنَّةِ، وَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا بِالْجَنَّةِ قَدْ أَصَابَهَا الْإِعْصَارُ، فَأَحْرَقَهَا بِمَا فِيهِ مِنْ سَمُومِ النَّارِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مَعَ كَوْنِ الْجَنَّةِ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرَاتِ هُنَا الْمَنَافِعُ، أَيْ هُوَ مُتَمَتِّعٌ بِجَمِيعِ فَوَائِدِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَهُ فِيهَا رِزْقٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ عَلَى حَدِّ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [37: 164] أَيْ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ. . . إِلَخْ. وَقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " بِمَعْنَى بَعْضٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا الْتَفَتْنَا عَنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ الْوَضْعِيَّةِ، وَلَمْ نَلْتَزِمْ تَعْلِيلَاتِهَا وَتَدْقِيقَاتِهَا الْفَلْسَفِيَّةَ، وَكَسَرْنَا قُيُودَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، أَمْكَنَنَا أَنْ نَفْهَمَ الْعِبَارَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الصَّرِيحَ، الَّذِي طُبِعَ عَلَى الْقَوْلِ الْفَصِيحِ، لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِكَ " عِنْدِي مَنْ كُلِّ ثَمَرٍ أَوْ لِي بُسْتَانِي مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ " إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ لَكَ حَظًّا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَسَهْمًا مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَنَظْمٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَطَبِّقْ عَلَيْهِ وَلَا تُطَبِّقْهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ. أَمَّا وَجْهُ التَّمْثِيلِ فَقَدْ خَصُّوهُ بِالْمُرَائِي، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ثَوَابِ نَفَقَتِهِ الَّتِي رَاءَى بِهَا، كَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي احْتَرَقَتْ جَنَّتُهُ الَّتِي لَا مَعَاشَ لَهُ سِوَاهَا عِنْدَمَا كَثُرَ عِيَالُهُ الضُّعَفَاءُ، وَعَجَزَ هُوَ عَنِ الْعَمَلِ فَلَا يَمْلِكُ مِنْ ثَوَابِهَا شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَكْسِبَ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُ. أَقُولُ: إِنَّ الْمَثَلَ يَنْطِقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ أَبْطَلَ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ ; فَإِنَّ بَاذِلَ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ مَا يُشْبِهُ تِلْكَ الْجَنَّةَ الَّتِي وَصَفَهَا الْمَثَلُ فِي رَوْنَقِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَيُوشِكُ أَنَّ يَذْهَبَ مَالُ هَذَا الْمُنْفِقِ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ وَتَقْصُرُ يَدُهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُرْتَزَقٌ إِلَّا مَا غَرَسَتْهُ يَدُهُ مِنْ جَنَّتِهِ تِلْكَ فَيُحَاوِلُ أَنْ يَجْنِيَ مِنْهَا فَيَحُولُ دُونَ ذَلِكَ إِعْصَارٌ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، أَوْ مِنْ ظُهُورِ الرِّيَاءِ فَيَحْرِقُهَا حَتَّى تَكُونَ كَالصَّرِيمِ لَا تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا، وَلَا تَسُرُّ رُؤْيَتُهَا، كَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَذَوِى الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، يَنْبِذُهُمُ النَّاسُ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى النَّاسِ ; لِذَلِكَ أَرْشَدَنَا - تَعَالَى - بَعْدَ الْمَثَلِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَةِ هَذَا الْعَمَلِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - يُبَيِّنُ لَكُمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا وَفَوَائِدِهَا وَغَوَائِلِهَا، مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَارِزِ فِي أَبْهَى مَعَارِضِ التَّمْثِيلِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ فَتَضَعُونَ نَفَقَاتِكُمْ فِي

الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَرْضَاهَا مَعَ الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ تَثْبِيتِ النَّفْسِ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّهَا الطَّيْشُ وَالْإِعْجَابُ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمَنِّ وَالْأَذَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَقُولُ: حَثَّتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَبْلَغَ حَثٍّ وَآكِدَهُ، وَأَرْشَدَتْ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُنْفِقُ عِنْدَ الْبَذْلِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ تَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَتَّقِيَهُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِرْشَادًا يَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَالْبَاذِلِ، ثُمَّ أَرَادَ - تَعَالَى - أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا مَا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ فِي الْمَبْذُولِ لِيُكْمِلَ الْإِرْشَادَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَبَيَّنَ نَوْعَ مَا يُبْذَلُ وَمَا يُنْفَقُ وَوَصَفَهُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُسْتَطَابُ وَضِدُّهُ الْخَبِيثُ الْمُسْتَكْرَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مُقَابِلِ هَذَا الْأَمْرِ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أَصْلُ تَيَمَّمُوا: تَتَيَمَّمُوا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الطَّيِّبِ، هَلْ يُرَادُ بِهِ مَا ذُكِرَ أَمْ هُوَ بِمَعْنَى الْحَلَالِ؟ وَأَنْ يُرَجِّحَ بَعْضُ الْمَعْرُوفِينَ بِالتَّدْقِيقِ مِنْهُمُ الثَّانِيَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَرَدَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ عَزَا الْأَوَّلَ إِلَى الْجُمْهُورِ. نَعَمْ إِنَّ كُلَّ جَيِّدٍ وَحَسَنٍ يُوصَفُ بِالطَّيِّبِ وَإِنْ كَانَ حُسْنُهُ مَعْنَوِيًّا، فَيُقَالُ: الْبَلَدُ الطَّيِّبُ. الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، لَكِنَّ أُسْلُوبَ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ هُنَا أَنْوَاعُ الْحَلَالِ، وَبِالْخَبِيثِ: الْمُحَرَّمُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ لَا تَرْضَاهُ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُ أُسْلُوبَهَا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْتُونَ بِصَدَقَتِهِمْ مِنْ حَشَفِ التَّمْرِ وَهُوَ رَدِيئُهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ " كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْ رَذَالَةِ مَالِهِمْ " وَفِي أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ " وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ. وَالْمَعْنَى: أَنْفَقُوا مِنْ جِيَادِ أَمْوَالِكُمْ وَلَا تَيَمَّمُوا - أَيْ تَقْصِدُوا - الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوا صَدَقَتَكُمْ مِنْهُ خَاصَّةً دُونَ الْجَيِّدِ ; فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ تَعَمُّدِ حَصْرِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَبِيثِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ التَّصَدُّقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَلَا حَصْرٍ، وَلَوْ أُرِيدَ بِالْخَبِيثِ الْحَرَامُ لَنَهَى عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ لَا عَنْ قَصْدِ التَّخْصِيصِ فَقَطْ، أَمَا وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ

مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ لِلنَّفَقَةِ فِيهَا، وَبِالنَّهْيِ عَنْ تَحَرِّي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ خَاصَّةً دُونَ الطَّيِّبِ لَا عَنْ مُطْلَقِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالُ، وَبِالْخَبِيثِ الْمُحَرَّمُ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ فَلَوْ أُرِيدَ بِالطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ مَا ذُكِرَ لَكَانَ الْخِطَابُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَكَانَ مَنْطُوقُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنَ الْحَلَالِ وَلَا تَتَحَرَّوْا جَعْلَ صَدَقَاتِكُمْ مِنَ الْحَرَامِ وَحْدَهُ، وَمَفْهُومُهَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْحَرَامِ أَيْضًا، وَهَذَا مَا يَأْبَاهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ وَالشَّرْعُ الْقَوِيمُ، ثُمَّ إِنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [3: 92] وَيُوصَفُ الرِّزْقُ بِالْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ مَعًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [5: 5] وَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [7: 157] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى يُحِلُّ لَهُمُ الْحَلَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْحَرَامَ وَهُوَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبِيثَ الَّذِي حُرِّمَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبِيثِ الَّذِي يُنْهَى عَنْ تَحَرِّي النَّفَقَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ مَا كَانَتْ رَدَاءَتُهُ ضَارَّةً كَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ الْخَبِيثَ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُشْعِرُ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ ; أَيْ كَيْفَ تَقْصِدُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُ تَتَصَدَّقُونَ وَلَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بِمِثْلِهِ لِأَنْفُسِكُمْ إِلَّا أَنْ تَتَسَاهَلُوا فِيهِ تَسَاهُلَ مَنْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنْهُ فَلَمْ يَرَ الْعَيْبَ فِيهِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مَغْبُونٌ مَغْمُوطٌ الْحَقُّ، وَقَدْ صَوَّرُوهُ فِيمَنْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ امْرِئٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنْهُ مِمَّا هُوَ دُونَهُ جَوْدَةً وَهُوَ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْحُقُوقِ أَيْضًا، فَالرَّدِيءُ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إِلَّا بِإِغْمَاضٍ فِيهِ وَتَسَاهُلٍ مَعَ الْمُهْدِي ; لِأَنَّ إِهْدَاءَ الرَّدِيءِ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ احْتِرَامِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَمَا يُبْذَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ هُوَ كَالْمُعْطَى لَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أَجْوَدِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْسَنِهِ لِيَكُونَ جَدِيرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقْبَلُ الرَّدِيءَ مُغْمَضٌ فِيهِ إِنَّمَا يَقْبَلُهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى قَبُولِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يَحْتَاجُ فَيُغْمِضُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ لِرَدَاءَتِهِ إِلَّا فَقِيرُ الْيَدِ أَوْ فَقِيرُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُبَالِي يَرْضَى بِمَا يُنَافِي الْحَمْدَ كَقَبُولِ الرَّدِيءِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا نَوْعُ مَا يُنْفِقُ فَهُوَ بَعْضُ مَا يَجْنِيهِ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ كَكَسْبِ الْفَعَلَةِ وَالتُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ، وَبَعْضُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَلَّاتِ الْحُبُوبِ وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَا كَانَ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ كَسْبًا ; لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ فَضْلُ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُجَرَّدَ حَرْثِ الْإِنْسَانِ وَبَزْرِهِ، عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ عَمَلٌ مَا، أَوْ مَا لَهُمْ فِيهِ إِلَّا عَمَلٌ قَلِيلٌ لَا يَكَادُ يُذْكَرُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَقْدِيمَ الْكَسْبِ عَلَى مَا يُخْرِجُ اللهُ مِنَ الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِنْفَاقِ

هُنَا ; فَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالتَّطَوُّعِ ; وَقِيلَ: يَعُمُّهُمَا وَهُوَ الصَّوَابُ. إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَا يُخْرِجُهُ اللهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَمْ يُخَصُّ بِبَعْضِ ذَلِكَ؟ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِمَا يُقْتَاتُ بِهِ دُونَ نَحْوِ الْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ ; وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْآيَةُ فِي نَفْسِهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةٌ لَا مَثَارَ لِلْخِلَافِ فِيهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ الْخِلَافُ فِي مَنْ حَمَلَهَا عَلَى زَكَاةِ الْفَرِيضَةِ مَعَ إِضَافَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِي زَكَاةِ مَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ إِلَيْهَا. وَمَنْ جَرَّدَهَا عَنِ الْآرَاءِ وَالرِّوَايَاتِ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُنْفِقَ مِنْ كُلِّ مَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الرِّزْقِ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ كَسْبَ أَيْدِينَا أَوْ مَا يُخْرِجُهُ لَنَا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا، كُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ يَجِبُ شُكْرُهُ لَهُ بِنَفَقَةِ بَعْضِ الْجَيِّدِ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ. وَالْآيَةُ لَمْ تُخَصِّصْ وَلَمْ تُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا يُنْفَقُ، بَلْ وَكَلَتْهُ إِلَى رَغْبَةِ الْمُؤْمِنِ فِي شُكْرِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ آخَرُ يُعَيِّنُ بَعْضَ النَّفَقَاتِ فَلَهُ حُكْمُهُ. أَقُولُ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّعْلِيمِ الْكَامِلِ وَالتَّأْدِيبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا الْهُدَى أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِحَسَبِ سَعَتِهِ وَحَالِهِ وَأَنْ يَكُونَ فِي بَذْلِهِ مُخْلِصًا مُتَحَرِّيًا مَوَاقِعَ الْفَائِدَةِ، مُبْتَعِدًا بَعْدَ الْبَذْلِ عَمَّا يَذْهَبُ بِثَمَرَتِهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِيمَانِ يَتَقَلَّبُونَ فِي النِّعَمِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ لَهَا كُفْرًا ; إِذْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ إِمْسَاكًا وَبُخْلًا، وَقَدْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ مُوَاطِنِ الْعَجَبِ، وَلَكِنَّ الْكِتَابَ الْحَكِيمَ قَدْ جَاءَنَا بِمَا لَهُ مِنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، وَأَرْشَدَنَا إِلَى طَرِيقِ التَّفَصِّي مِنْهُ وَالْهَرَبِ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَيِّلُ إِلَيْكُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَذْهَبُ بِالْمَالِ وَيُفْضِي إِلَى سُوءِ الْحَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِمْسَاكِهِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ اسْتِعْدَادًا لِمَا يُوَلِّدُهُ الزَّمَنُ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْأَمْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَمَّا تُوَلِّدُهُ الْوَسْوَسَةُ مِنَ الْإِغْرَاءِ، وَالْفَحْشَاءُ الْبُخْلُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا فَحُشَ ; أَيِ اشْتَدَّ قُبْحُهُ، وَكَانَ الْبُخْلُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَفْحَشِ الْفُحْشِ، قَالَ طَرَفَةُ:

أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَبِمَا أَوْدَعَهُ فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ مِنَ الْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ، وَالْعَقْلِ الرَّجِيحِ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْبِرِّ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فَإِنَّهُ جَعَلَ الْإِنْفَاقَ كَفَّارَةً لِكَثِيرٍ مِنَ الْخَطَايَا وَسَبَبًا يَفْضُلُ بِهِ الْمَرْءُ قَوْمَهُ وَيَسُودُهُمْ أَوْ يَسُودُ فِيهِمْ بِمَا يَجْذِبُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبِ مَنْ يَكُونُ سَبَبًا فِي رِزْقِهِمْ، وَهَذَا الْفَضْلُ مِنَ الْجَاهِ بِالْحَقِّ - هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَالْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْفَضْلَ هُوَ مَا يُخْلِفُهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمُنْفِقِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [34: 39] وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ فِيهِ الْعِبَادُ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا أَيْ تَلَفًا لِمَالِهِ، بِأَنْ يَذْهَبَ حَيْثُ لَا يُفِيدُهُ. وَمَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدِي: أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يُخْلِفَ عَلَى الْمُنْفِقِ بِمَا يُسَهِّلُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقُلُوبِ، وَأَنْ يُحْرَمَ الْبَخِيلُ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَعْدُ اللهِ - تَعَالَى - بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِخَيْرِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ، وَالثَّانِي لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْخُلْفُ الَّذِي يُعْطِيهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ هَذَا الْخُلْفِ الرِّزْقَ الْمَعْنَوِيَّ وَهُوَ الْجَاهُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ الْقُلُوبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ إِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ لِسَعَةِ فَضْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْلَمُ أَيْنَ يَضَعُ مَغْفِرَتَهُ وَفَضْلَهُ، بِمِثْلِ هَذَا يُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ اسْمَ عَلِيمٌ يُفِيدُ هُنَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ غَيْبَ الْعَبْدِ وَمُسْتَقْبَلَهُ وَالشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَوَعْدُهُ تَغْرِيرٌ لَا يَعْبَأُ بِهِ الْعَاقِلُ النِّحْرِيرُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: اسْتِعْمَالُ الْوَعْدِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ شَائِعٌ لُغَةً، ثُمَّ جَرَى عُرْفُ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوا الْوَعْدَ بِالْخَيْرِ وَالْإِيعَادَ بِالشَّرِّ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْوَعْدَ مَعَ الشَّرِّ أَرَادُوا بِهِ التَّهَكُّمَ، عَلَى أَنَّ مَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ، وَيَلْزَمُهُ الْوَعْدُ بِالْغِنَى مَعَ الْبُخْلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ فَيُبَيِّنُ لَنَا بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعِدُ هُوَ - جَلَّ شَأْنُهُ - بِهِ وَمَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مَا نَحْنُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مَعَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَتِلْكَ هِيَ الْحِكْمَةُ. فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْحِكْمَةَ هُنَا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ يَكُونُ صِفَةً مُحْكَمَةً فِي النَّفْسِ حَاكِمَةً

عَلَى الْإِرَادَةِ تُوَجِّهُهَا إِلَى الْعَمَلِ، وَمَتَى كَانَ الْعَمَلُ صَادِرًا عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ كَانَ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ النَّافِعُ الْمُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ. وَكَمْ مِنْ مُحَصِّلٍ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ خَازِنٍ لَهَا فِي دِمَاغِهِ لِيَعْرِضَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي تُسَمَّى عِلْمًا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْأَوْهَامِ، وَلَا فِي التَّزْيِيلِ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتَمَكَّنْ فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا يَجْعَلُ لَهَا سُلْطَانًا عَلَى الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَصَوُّرَاتٌ وَخَيَالَاتٌ تَغِيبُ عِنْدَ الْعَمَلِ، وَتَحْضُرُ عِنْدَ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَالْمُرَادُ بِإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ - إِعْطَاؤُهُ آلَتُهَا الْعَقْلُ كَامِلَةً مَعَ تَوْفِيقِهِ لِحُسْنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ ; فَالْعَقْلُ هُوَ الْمِيزَانُ الْقِسْطُ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْمُدْرَكَاتُ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ، فَمَتَى رَجَحَتْ فِيهِ كِفَّةُ الْحَقَائِقِ طَاشَتْ كِفَّةُ الْأَوْهَامِ، وَسَهُلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ. أَقُولُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ " أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ " أَيْ مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَالْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا; لِأَنَّ هَذَا الْفِقْهَ هُوَ أَجَلُّ الْحَقَائِقِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النَّفْسِ الْمَاحِيَةِ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْوَسَاوِسِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَقِهَ مَا وَرَدَ فِي الْإِنْفَاقِ وَفَوَائِدِهِ وَآدَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَا يَكُونُ وَعْدُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِالْفَقْرِ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالْبُخْلِ مَانِعًا لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْفِقْهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْفَهْمِ وَالْبَحْثِ عَنْ فَوَائِدِ الْأَحْكَامِ وَعِلَلِهَا وَدَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَبَرَاهِينِهَا، فَالْخَبَرُ: فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِالْأَخَصِّ، رِعَايَةً لِلْمَقَامِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَسَّرَهَا بِالْأَعَمِّ بَيَانًا لِشُمُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَالْآيَةُ بِإِطْلَاقِهَا رَافِعَةٌ لِشَأْنِ الْحِكْمَةِ بِأَوْسَعِ مَعَانِيهَا هَادِيَةً إِلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي أَشْرَفِ مَا خُلِقَ لَهُ. وَمَنْ رُزِئَ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ مَحْرُومًا مِنْ ثَمْرَةِ الْعَقْلِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ لِصَاحِبِ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا فَيَكُونُ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهُ وَسْوَسَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَجَهَالَةُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِعُقُولِ النَّاسِ عَنْ عَقْلِهِ، وَبِفِقْهِ النَّاسِ عَنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ جَمَعَ كَلَّ مَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْبَيَانِ، وَقَدْ يَجِدُ فِي فِقْهِ النَّاسِ أَنَّ اللهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ غَيْرَ الزَّكَاةِ الَّتِي لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ، وَأَنَّهُ إِذَا هُوَ وَهَبَ امْرَأَتَهُ مَالَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا إِيَّاهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ الْجَدِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَيُمْكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْلِكَ أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ السُّنُونَ وَالْأَحْوَالُ لَا يُنْفِقُ مِنْهَا شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ وَيَكُونُ مُؤْمِنًا عَامِلًا بِفِقْهِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ وَفَقِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا غُرُورٍ بِعَظَمَةِ شُهْرَةِ الْمُحْتَالِينَ الْمُحَرِّفِينَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَنْعِ عَدُوًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِكِتَابِهِ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَتَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِأَهْلِهِ.

قَرَأْنَا وَاطَّلَعْنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ الْمُقَلِّدِينَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَمْ نَرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عُشْرَ مِعْشَارِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَيَانِ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَالتَّنْفِيرِ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ وَبَيَانِ كَوْنِهِ مِنْ آيَاتِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهَا تُطِيلُ فِيمَا لَمْ يُعْنَ بِهِ كِتَابُ اللهِ مِنْ بَيَانِ النِّصَابِ فِي كُلِّ مَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ وَالْحَوْلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَسْتَقْصِي كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَا يَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ فَيَجْذِبُهُ إِلَى الرَّبِّ بَعْدَ أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، وَيَزُجُّ بِهِ فِي وِجْدَانِ الدِّينِ، وَهَذَا مَا عَابَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي سَمَّوْهُ فِقْهًا. وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، فَهَلْ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ حُكْمِهِ وَأَسْرَارِهِ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَوْسَعَ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِهِ هُمْ فِي الْغَالِبِ أَشَدُّهُمْ بُخْلًا وَحِرْصًا، حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ مُشْتَرِكًا فِي جَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ أَوْ مُنْفِقًا فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، بَلْ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْحِيَلَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ بِالْبِدْعَةِ وَيَلْمِزُ أَهْلَهَا فِي عَمَلِهِمْ، يَعْتَذِرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ مُسَاعَدَتِهِمْ إِلَّا تَمَسُّكًا بِالشَّرْعِ وَمُحَافَظَةً عَلَى أَحْكَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: إِنْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ فَلِمَ لَا تُنْشِئُونَ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةً لِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ؟ شَكَوْا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا لَأَسْرَعَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى تَلْبِيَتِهِمْ ; لَأَنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُ يَعْتَقِدُ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى الدِّينِ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ لَا يَعْمَلُ الْخَيْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، بَلْ يَصُدُّ عَنْهُ يَكُونُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيمَنْ أُوتِيهَا إِنَّهُ: أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا أَوْ يَكُونُ قَدْ أَوُتِيَ فِقْهَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْحِكْمَةُ؟ لَا نَعْنِي بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَ بِالْفِقْهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِالْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ. ثُمَّ أَقُولُ إِيضَاحًا لِلْمَقَامِ: إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَرْنٍ، فَهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ كَمَا لَا يَفْتَرِقُ الْمَعْلُولُ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، فَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الْمُحَرِّكُ لِلْإِرَادَةِ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ الْخَيْرُ. وَآلَةُ الْحِكْمَةِ هِيَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، فَمَتَّى حَكَمَ جَزَمَ فَأَمْضَى وَأَبْرَمَ، فَكُلُّ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عَامِلٍ مَصْدَرٌ لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ أَيْ وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَتَّعِظُ بِالْعِلْمِ وَيَتَأَثَّرُ بِهِ تَأَثُّرًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْخَالِصَةِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَهُوَ تَذْيِيلٌ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ، فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ أَرْشَدَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُجَازِي عَلَى كُلِّ صَدَقَةٍ وَكُلِّ الْتِزَامٍ لِصَدَقَةٍ وَبِرٍّ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ قَصْدٍ، لِنَتَذَكَّرَ ذَلِكَ فَتَخْتَارَ لِأَنْفُسِنَا أَفْضَلَ مَا نُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَهُ عَنَّا فَقَوْلُهُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يَشْتَمِلُ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي حَقٍّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي شَرٍّ، وَمَا كَانَ عَنْ إِخْلَاصٍ وَمَا كَانَ رِئَاءَ النَّاسِ مَا أُتْبِعَ مِنْهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَمَا لَمْ يُتْبَعْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَقَوْلُهُ: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يَأْتِي فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَيَشْمَلُ مَا كَانَ نَذْرَ قُرْبَةٍ وَتَبَرُّرٍ وَنَذْرَ لَجَاجٍ وَغَضَبٍ، فَالْأَوَّلُ مَا قُصِدَ بِهِ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ قُرْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ فِيهَا كَأَنْ يَنْذُرَ نَفَقَةً مُعَيَّنَةً أَوْ صَلَاةَ نَافِلَةٍ أَوْ بِشَرْطِ حُصُولِ نِعْمَةٍ أَوْ رَفْعٍ نِقْمَةٍ. كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللهُ فُلَانًا فَعَلَيَّ - أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ - أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ أَقِفَ عَلَى الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ كَذَا، وَالثَّانِي مَا يُقْصَدُ بِهِ حَثُّ النَّفْسِ عَلَى شَيْءٍ أَوْ مَنْعُهَا عَنْهُ. كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَذَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي أَقُولُ: مِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِشَرْطِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيمَا وَرَدَ وَمَا قِيلَ فِي النَّذْرِ. وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّهُ الْتِزَامُ فِعْلِ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ النَّاذِرِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا - أَوْ عَلَيَّ لِلَّهِ كَذَا، أَوْ نَذَرْتُ لِلَّهِ كَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَإِنْ نَذَرَ فِعْلَ مَعْصِيَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَإِنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَعَلَهُ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَزَائِمِ مِنَ النَّقْصِ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَذَرَتْ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّيَ يَوْمَ قُدُومِهِ بِالْوَفَاءِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ لَا مُبَاحٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ; أَيْ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ مَا ذُكِرَ مِنَ النَّفَقَةِ أَوِ النَّذْرِ، وَيُجَازِي عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَالْجُمْلَةُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يَنْصُرُونَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَيَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِجَاهِهِمْ أَوْ يَفْتَدُونَهُمْ مِنْهُ بِمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [40: 18] أَقُولُ: وَالظَّالِمُونَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ; إِذَ لَمْ يُزَكُّوهَا وَيُطَهِّرُوهَا مِنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ الْبُخْلِ، أَوْ مِنْ رَذَائِلِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى وَظَلَمُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ بِمَنْعِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ لَهُمْ، وَظَلَمُوا الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَبِمَا كَانُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً لِغَيْرِهِمْ، فَظُلْمُهُمْ عَامٌّ شَامِلٌ. فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا أَغْنِيَاءُ الْمُسْلِمِينَ

وَهُمْ يَرَوْنَ أُمَّتَهُمْ قَدْ صَارَتْ بِبُخْلِهِمْ أَبْعَدَ الْأُمَمِ عَنِ الْخَيْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَصَالِحِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَانْتَشَلُوا هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ وَهْدَتِهَا، وَعَادُوا بِهَا إِلَى عِزَّتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ ظَالِمُونَ، قُسَاةٌ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَتَذَكَّرُونَ. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ الصَّدَقَاتِ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ يَتَحَامَوْنَ الرِّيَاءَ وَالْفَخْرَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَمَا كُلُّ مُظْهِرٍ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ مُرَائِيًا بِهِ وَلَكِنْ كُلُّ مُخْفٍ لَهُ بَعِيدٌ عَنِ الرِّيَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا إِبْدَاؤُهَا، وَأَصْلُهَا نِعْمَ مَا هِيَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ وَحَفْصٌ نِعِمَّا بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ (اخْتِلَاسِهَا) فِي رِوَايَةٍ وَإِسْكَانِهَا فِي أُخْرَى، وَالْأُولَى أَقِيسُ، وَحُكِيَتِ الثَّانِيَةُ لُغَةً. قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنَّ إِعْطَاءَهَا لِلْفُقَرَاءِ فِي الْخُفْيَةِ وَالسِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الْإِبْدَاءِ لِمَا فِي الْإِخْفَاءِ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ شُبْهَةِ الرِّيَاءِ وَمَثَارِهِ، وَمِنْ إِكْرَامِ الْفَقِيرِ وَتَحَامِي إِظْهَارِ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْخُيُورِ وَلَيْسَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ زِيَادَةُ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ وَيَمْحُو عَنْكُمْ بَعْضَ سَيِّئَاتِكُمْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَيُكَفِّرْ بِالْيَاءِ: أَيِ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ وَيَعْقُوبَ (وَنُكَفِّرُ) بِالنُّونِ مَرْفُوعًا: أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَنُكَفِّرْ) بِالنُّونِ مَجْزُومًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الْفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُكُمْ فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ - فَإِنَّ الْخَبِيرَ هُوَ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبْحَثَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَالتَّطَوُّعَ، فَإِخْفَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالتَّطَوُّعِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَهِيَ شَعَائِرُ لَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهَا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: إِنَّ إِبْدَاءَ الْفَرِيضَةِ إِشْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ لَوْ أُخْفِيَتْ لَتُوُهِّمَ مَنْعُهَا،

وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْمُتَوَهِّمِ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ لِمَا لِلْقُدْرَةِ وَحَالِ الْبِيئَةِ مِنَ التَّأْثِيرِ، وَلَا مَحَلَّ لِلرِّيَاءِ فِي الْفَرَائِضِ وَالشَّعَائِرِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَلِأَنَّ الْمُرَائِيَ بِهَا لَا يَكُونُ مُصَدِّقًا بِفَرْضِيَّتِهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. أَقُولُ: فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْحَالُ فَصَارَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرِيضَةِ نَادِرًا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ فَإِذَا عُرِفَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ فَهَلْ يَصِيرُ الْأَفْضَلَ لَهُ إِخْفَاؤُهَا؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِظْهَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ آكَدًا ; لِأَنَّ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتَهُ بِإِظْهَارِ شَعَائِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَلِمَكَانِ الْقُدْوَةِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْإِظْهَارَ أَفْضَلُ لِمَنْ يَرْجُو اقْتِدَاءَ النَّاسِ بِهِ فِي صَدَقَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا ; لِأَنَّ نَفْعَهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْعِ الْقَاصِرِ بِلَا نِزَاعٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْآيَةِ خَاصَّةً بِصَدَقَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْفَائِدَةِ: إِحْدَاهُمَا خَفِيَّةٌ وَالْأُخْرَى جَلِيَّةٌ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَفِيَّةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْخَيْرِيَّةَ فِيهَا عَامَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الْحَيْثِيَّةِ - كَمَا يَقُولُونَ - أَيْ إِنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ خَفِيَّةٍ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ جَلِيَّةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ سَتْرٌ لِحَالِ الْفَقِيرِ وَتَكْرِيمٌ لَهُ وَمَجْنَبَةٌ لِنَزَعَاتِ الرِّيَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْجَلِيَّةِ فَائِدَةٌ لَيْسَتْ فِي الْخَفِيَّةِ كَالِاقْتِدَاءِ تَكُونُ خَيْرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَوِ الْحَيْثِيَّةِ، وَلَكَ أَنْ تُوَازِنَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيِ الْجِهَةِ أَيَّتُهُمَا أَرْجَحُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى وَالْقُدْوَةِ. فَرُبَّ مُعْطٍ لَا يَقْتَدِي بِهِ أَحَدٌ وَمُعْطٍ يَقْتَدِي بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَمُعْطٍ يَتْبَعُهُ الْجَمَاهِيرُ، وَرُبَّ مُعْطَى يَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَيُفَضِّلَ أَنْ يُعْطِيَهُ زَيْدٌ وَحْدَهُ فِي السِّرِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي السِّرِّ، وَإِنَّ مِنَ الْمُنْفِقِينَ مَنْ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ إِذَا هُوَ تَصَدَّقَ فِي الْمَلَأِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا الرِّيَاءَ وَلَوْ أَنْفَقَ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ضَبْطِ نَفْسِهِ لِتُوَاظِبَ عَلَى الْكِتْمَانِ، عَلَى أَنَّ الْمُخْلِصَ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ الَّذِي يَسْلَمُ بِهِ مِنْ مُنَازَعَةِ الرِّيَاءِ وَبَيْنَ إِبْدَائِهَا الَّذِي يَكُونُ مَدْعَاةً لِلْأُسْوَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، وَيَسْهُلُ هَذَا الْجَمْعُ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَأَنْ يُرْسِلَ الْمُتَصَدِّقُ وَرَقَةً مَالِيَّةً لِجَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ، وَلَا يَذْكُرُ لَهَا اسْمَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ لِمَنْ يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ كَرَئِيسِهَا أَوْ أَمِينِهَا فَقَطْ، وَمِنْ دَأْبِ الْجَمْعِيَّاتِ أَنْ تُشِيدَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بِأَلْسِنَةِ أَعْضَائِهَا وَبِأَلْسِنَةِ الْجَرَائِدِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ طَرْقِ الشُّهْرَةِ فِي عَصْرِنَا وَأَبْعَدُهَا مَدًى. وَلَا يَبْعُدُ عَنْ هَدْيِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ لِلتَّرْبِيَةِ الْمِلِّيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ النَّافِعِ، وَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْبِهُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَلَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهُ وَإِنْ أَخْفَى الْمُنْفِقُ اسْمَهُ، وَإِنَّ تَفْضِيلَ الْإِخْفَاءِ خَاصٌّ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ إِلَخْ. وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتَجْعَلُوهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْفَقِيرِ سَدٌّ لِخَلَّتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمُبَارَاةِ فِي الِاسْتِكْثَارِ كَمَا يُحْتَاجُ فِي إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهَا مِنْ سَتْرِ حَالِهِ وَحِفْظِ كَرَامَتِهِ مَا لَا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمَصَالِحِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ: " مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِخْفَاءَ كُلِّ أَعْمَالِ الْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَأَنَّهُ خَيْرٌ لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَكُونَ مَخْمُولًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ مُقْتَدًى بِهِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا الظَّنِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [28: 5] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [32: 24] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ دُعَاءِ عِبَادِهِ: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [25: 74] فَهَلْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ مَخْمُولًا مَجْهُولًا؟ . (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) : إِنْ أَطْلَقَ فِي الْآيَةِ لَفْظَ الْفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ فُقَرَاءَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَحَبُّ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - فَكَمَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ الْكَافِرَ فَلَمْ يَحْرِمْهُ لِكُفْرِهِ مِنَ الرِّزْقِ بِسَعْيِهِ، كَذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَكْفِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. أَوْرَدَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَالْفُقَهَاءُ لَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، بَلْ قَالُوا: إِذَا اضْطُرَّ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُعَاهِدُ إِلَى الْقُوتِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَدُّ رَمَقِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ سَدُّ رَمَقِ الْمُسْلِمِ الْمُضْطَرِّ إِلَّا مَنْ أَهْدَرَ الشَّرْعُ دَمَهُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ كَتَبَ الرَّحْمَةَ وَالْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا: فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ يَعْنِي فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَصَّدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُنَا أَلَّا نَتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ أَنْسِبَاءُ وَقَرَابَةٌ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ أَنَّ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ وَيُرِيدُونَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا فَنَزَلَتْ " وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْوَقَائِعَ تَقَدَّمَتْ نُزُولَهَا، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَتْ فَصْلًا فِيهَا وَإِلَّا فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَا قَبْلَهَا نَزَلَ فِي الْفُقَرَاءِ عَامَّةً. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ قَدْ أَطْلَقَتْ إِيتَاءَ الْفُقَرَاءِ وَجَعَلَتْهُ عَلَى عُمُومِهِ الشَّامِلِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى عَدَمِ التَّحَرُّجِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَهْدِيِّينَ ; فَإِنَّ الرَّحْمَةَ بِالْفَقِيرِ وَسَدِّ خَلَّتِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى إِيمَانِهِ، بَلْ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ عَامًّا، وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِسَائِرِ النَّاسِ بِالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ. أَقُولُ: وَالْخِطَابُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَهْيِهِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّوْجِيهُ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَإِنْ جَاءَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمُفْرِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ فِي سَائِرِ الْآيَةِ بِضَمَائِرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُكَلَّفْ هِدَايَةَ الْكَافِرِينَ بِالْفِعْلِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْبَلَاغَ فَقَطْ، وَأُعْلِمَ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ فِي الِاهْتِدَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَبِّهِمْ، وَمَا وَضَعَهُ لِسَيْرِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنَ السُّنَنِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِأَلَا يُكَلَّفَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِذًا أَنْ نَمْنَعَ الْخَيْرَ عَنِ الْكَافِرِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ جَذْبًا لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَاضْطِرَارًا لَهُ إِلَى الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ عَلَيْنَا وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِتَوْفِيقِهِ إِلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الَّذِي يُثْمِرُ الْعَمَلَ. وَأَمَّا الْبَاعِثُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - فِي قَوْلِهِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ إِلَخْ. قَالُوا: مَعْنَى هَذَا أَنَّ نَفْعَ الْإِنْفَاقِ فِي الْآخِرَةِ خَاصٌّ بِكُمْ، هَكَذَا صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَقْيِيدِ النَّفْعِ بِالْآخِرَةِ: وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: أَيْ لِأَنَّ نَفْعَهُ عَائِدٌ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَاصًّا بِالدُّنْيَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ يَكُفُّ شَرَّ الْفُقَرَاءِ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ أَذَاهُمْ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ إِذَا ضَاقَ بِهِمُ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّتْ بِهِمُ الْحَاجَةُ يَنْدَفِعُونَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَهْلِ الثَّرْوَةِ بِالسَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ وَالْإِيذَاءِ بِحَسْبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ يَسْرِي شَرُّهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَرُبَّمَا صَارَ فَسَادًا عَامًّا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، فَيَذْهَبُ بِالْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْكَلَامِ نَظِيرٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (قَالَ) وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ لَا تُنْفِقُونَ لِأَجْلِ جَاهٍ أَوْ مَكَانَةٍ عِنْدَ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُنْفِقُونَ لِوَجْهِ اللهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْطٍ وَمُعْطَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْفَقِيرُ مُسْتَحِقًّا يَتَقَرَّبُ بِإِزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إِلَى الرَّزَّاقِ

الرَّحِيمِ الَّذِي لَمْ يَحْرِمْ أَحَدًا مِنْ رِزْقِهِ لِاعْتِقَادِهِ. أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكِ مَحْظُورًا [17: 20] قَالَ: وَفِي كَوْنِ الْإِنْفَاقِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِوَجْهِ اللهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَ إِعَانَةً لَهُمْ عَلَى إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ جَائِزًا ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَرْضِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَهُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا لِوَجْهِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ لَا يُنْقِصُكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَدَ أَوَّلًا بِأَنَّ خَيْرَ الْإِنْفَاقِ عَائِدٌ عَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: فَلِأَنْفُسِكُمْ ثُمَّ وَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مُوَفًّى تَامًّا، وَقَالَ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ نَقِيرًا أَوْ فَتِيلًا. أَقُولُ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّهُ جَعَلَ هُنَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِلِأَنْفُسِكُمْ خَاصًّا بِالدُّنْيَا، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ قَدْ قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، فَهَلْ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ أَمْ رَجَعَ عَنْهُ عِنْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَكَيْفَ فَاتَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا وَجَدْتُهُ فِي مُذَكِّرَتِي لَا أَذْكُرُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ. أَقُولُ: وَالَّذِي كَانَ تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [2: 265] أَيْ إِنَّ أَيَّ نَفَقَةٍ مِنَ الْخَيْرِ أَنْفَقْتُمْ فَهِيَ تُفِيدُكُمْ فِي تَثْبِيتِ أَنْفُسِكُمْ فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مَا تُنْفِقُونَ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَإِرَادَةَ رِضْوَانِهِ، وَمَتَى كَانَ الْإِنْفَاقُ كَذَلِكَ كَانَ مُزَكِّيًا وَمُثَبِّتًا لِلنَّفْسِ مُعِدًّا لَهَا، وَمُؤَهِّلًا لِرِضْوَانِ اللهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا ; إِذِ الْإِنْفَاقُ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ الْأَجْرِ مِنْهُ، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَائِدَةَ الذَّاتِيَّةَ لِلْإِنْفَاقِ فِي نَفْسِ الْمُنْفِقِ ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ إِلَخْ. أَيْ وَإِنَّكُمْ عَلَى اسْتِفَادَتِكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَرْقِيَتِهَا وَجَعْلِهَا مُسْتَحِقَّةً لِقُرْبِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، لَا يُضِيعُ عَلَيْكُمْ مَا تُنْفِقُونَهُ، بَلْ تُوَفَّوْنَهُ لَا تُظْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَشَدُّ الْتِئَامًا وَأَحْسَنُ نِظَامًا، فَالْجُمْلَتَانِ الشَّرْطِيَّتَانِ فِيهِ مُتَعَاطِفَتَانِ، وَقَوْلُهُ: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ قَيْدٌ فِي الشُّرْطِيَّةِ الْأُولَى ; وَلِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا فَائِدَتَانِ: أُولَاهُمَا: وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ: تَثْبِيتُ نَفْسِ الْمُنْفِقِ وَتَرْقِيَتُهَا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ. وَالْأُخْرَى: الثَّوَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ دُونَ الْأُولَى عِنْدَ الْعَارِفِينَ. وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ دُونَ سِوَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَإِرْضَاءً لَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّشَوُّفِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَرْضُهُ عَلَيْهِ وَمُقَابَلَتُهُ بِهِ فَقَطْ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا حَقَّ فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَرَاتِبَ النَّاسِ وَمَقَاصِدَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْمُلُوكِ، ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِلْمَلِكِ

خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ قَانُونُهُ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِأَجْلِ اقْتِضَاءِ الْأَجْرِ الَّذِي فُرِضَ لِلْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ فَيُجِيدُ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الِارْتِقَاءِ مِنْ جَزَاءٍ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ - وَهُوَ أَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً - مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْحَسَنَ الْمُرْضِي لِلْمَلِكِ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِ مُحْسِنًا عَارِفًا قِيمَةَ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي كَانَتْ عِلَّةَ الْأَمْرِ فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ مُبْتَغٍ وَجْهَ الْمَلِكِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَرَاهُ فِيهَا مُحْسِنًا، فَإِنَّ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِأَنَّ يُرَى فَإِنَّمَا يَأْتِي مِنْ تِلْقَاءِ الْوَجْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لَا يَبْتَغِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُوَاجِهَ النَّاسَ - لَا الْمُلُوكَ خَاصَّةً - بِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَمَالٌ لَا يَبْتَغِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَأَرْشَدَ اللهُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - كَذَلِكَ، أَيْ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ وَيَبْتَغِيَ أَنْ يَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى - كَامِلًا يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ حَسَنٌ، تَتَحَقَّقُ بِهِ حِكْمَتُهُ - تَعَالَى -، وَتَقُومُ بِهِ سُنَنُهُ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ مَعْنَى ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ طَلَبُ إِقْبَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلْعَامِلِ، قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [12: 9] فَمَعْنَى خُلُوِّ وَجْهِهِ لَهُمْ أَلَّا يُشَارِكَهُمْ فِي إِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَهُمْ مُشَارِكٌ، وَلِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ مَنْزَعٌ دَقِيقٌ فِي مَعْنَى وَجْهِ اللهِ، وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهَيْنِ: وَجْهًا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ الْحَادِثِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ. وَوَجْهًا إِلَى الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ وَهُوَ وَجْهُ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَعْنَى وَجْهُ اللهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ، أَنْ يَقْصِدَ بِهِ ثَمَرَتَهُ الدَّائِمَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ بِارْتِقَاءِ النَّفْسِ فِي الْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهَا لِلْبَقَاءِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. إِذَا فَهِمَتْ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى إِيرَادِ طَرِيقَتَيِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ، كَأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَوْ إِنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الذَّاتِ، حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ صِفَةِ اللهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَجْهًا، وَآمِنًا بِهَا مَعَ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَعَلَى الثَّانِي وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ ذَاتِ اللهِ - تَعَالَى -. هَذَا مَا لَا يَظْهَرُ مَعَهُ لِلْآيَةِ مَعْنًى، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَجْلَى، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْأُسْتَاذَ اكْتَفَى - كَالْمُفَسِّرِينَ - بِجَعْلِهِ مَعْنَى مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَبِإِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ عَامَّةً نَبَّهَ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ التَّحَرُّجِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَثَانِيهُمَا: بَيَانُ أَحَقِّ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ ذُكِرَتْ صِفَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَمْسُ صِفَاتٍ مَنْ أَفْضَلِ الصِّفَاتِ

وَأَعْلَاهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ أَرْصَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ مَعَ السَّرَايَا، وَلَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ كَغَيْرِهِ هُوَ أَكْثَرُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُهُمْ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُتَوَسِّطَ عَدَدِهِمْ كَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَالَّذِينَ عُرِفَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنْهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِائَةً وَهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، لَمْ يَكُنْ لِأَكْثَرِهِمْ مَأْوًى ; لِذَلِكَ كَانُوا يُقِيمُونَ فِي صُفَّةِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ مِنْهُ، فَالصُّفَّةِ - بِالضَّمِّ - كَالظُّلَّةِ لَفْظًا وَمَعْنًى (قَالَ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمِ الْآيَةُ كَانُوا مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا بِدِينِهِمْ وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، فَهُمْ مُحْصَرُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِهَذِهِ الْهِجْرَةِ، وَمُحْصَرُونَ بِحَبْسِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ حِفْظُهُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهُ حِفْظٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَحْفَظُونَهُ لِأَجْلِ تِلَاوَتِهِ أَمَامَ الْجَنَائِزِ، وَلَا فِي الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ، وَلَا لِاسْتِجْدَاءِ النَّاسِ بِهِ، وَلَا لِمُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ بِتِلَاوَةِ أَلْفَاظِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَهُ لِلْفَهْمِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِحِفْظِ أَصْلِ الدِّينِ بِحِفْظِهِ، وَكَانُوا أَيْضًا يَحْفَظُونَ مَا يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُنَّتِهِ. (قَالَ) وَيَحْتَجُّ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ التَّكَايَا الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا تَارِكِينَ لِلْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، فَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِدِينِهِمْ، يَأْكُلُونَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَاصَّةً، فَهِيَ لَهُمْ كَالْأَدْيَارِ لِلنَّصَارَى وَهُمْ فِيهَا كَالرُّهْبَانِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَزَوَّجُ - وَقَدْ يَخْرُجُ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِنَ التَّكِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْمُقِيمِ فِيهَا أَلَّا يَتَزَوَّجَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَزِمُ الْإِقَامَةَ فِي التَّكِيَّةِ وَإِنَّمَا يَجْمَعُهُ بِأَصْحَابِهَا اسْمُ الطَّرِيقَةِ، كَأَصْحَابِ السَّيَّارَاتِ الَّذِينَ يَنْزِلُ شَيْخُ الطَّرِيقَةِ مِنْهُمْ بِزِعْنِفَةٍ مِنْ جَمَاعَتِهِ بَلَدًا بَعْدَ آخَرَ، فَيُكَلِّفُونَ مَنْ يَسْتَضِيفُونَهُ الذَّبَائِحَ وَالطَّعَامَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا مُثْقَلِينَ، يُسْأَلُونَ فَيُلْحِفُونَ، بَلْ يَسْلُبُونَ وَيَنْهَبُونَ، فَإِذَا مُنِعُوا مَا أَرَادُوا انْتَقَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِقَامِ، أَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَحْفَظُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيذَاءِ، وَمِنْهُ مَا يُبْرِزُونَهُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ، حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِنْ قَصَّرَ فِي إِجَابَةِ مَطَالِبِ بَعْضِ الشُّيُوخِ عِنْدَمَا نَزَلَ وَزِعْنِفَتُهُ بِهِ فَأَحْرَقُوا لَهُ جُرْنَ (بَيْدَرَ) الْحِنْطَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ أَحْرَقَهُ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَرَامَةً لِشَيْخِهِمْ، وَحُدِّثْتُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اتَّخَذَ فِي رَأْسِ الْعَلَمِ الَّذِي يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ عَدَسَةً مِنَ الزُّجَاجِ كَانَ يُوَجِّهُهَا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ إِلَى الْجُرْنِ الَّذِي يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْفَلَّاحُونَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَيَقَعُ الْحَرِيقُ فِيهِ وَلَمْ يَدْنُ أَحَدٌ مِنْهُ، فَلَا يَشُكُّ الْفَلَّاحُونَ الْجَاهِلُونَ فِي أَنَّ الْحَرِيقَ كَانَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ الَّذِي لَا حِرْفَةَ لَهُ إِلَّا أَكَلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ الضَّالُّونَ

هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحَاشَ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ. مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحَاتُ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - فَصَارُوا زَمْنَى، فَجَعَلَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ كَانَ لَهُ حُكْمُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْجَزُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَبْسُطَ الْقَوْلَ فِيهَا فَأَقُولُ: (الصِّفَةُ الْأُولَى) الْإِحْصَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ الْمَانِعُ مِنَ الْكَسْبِ فِيهِ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَبْسَ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ كَالْجِهَادِ وَالْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانَ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ لِلْقِيَامِ بِأَوَدِهِ بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ مَعِيشَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْكَسْبَ مُخْتَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ، أَمَّا السَّبَبُ الِاضْطِرَارِيُّ لِلْإِحْصَارِ عَنِ الْكَسْبِ فَمِنْهُ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ كَالْعَجْزِ وَمَا هُوَ شَرْعِيٌّ كَالْعِلْمِ بِتَعْطِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا إِذَا هُوَ تَرَكَهَا لِأَجْلِ الْكَسْبِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ النَّاسُ لِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْجَزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ وَكَانَ جَمْعُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ مُتَعَذِّرًا وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْكَسْبِ وَحَبْسُ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مُحْصَرِينَ بِالِاضْطِرَارِ الشَّرْعِيِّ، وَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَعَلَى أَغْنِيَاءِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ أُنَاسٌ مَخْصُوصُونَ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ الْإِحْصَارُ لِتَعَلُّمِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ. (الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ أَيْ إِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ، وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ لِنَحْوِ التِّجَارَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، وَهُنَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا مِنِ اشْتِرَاطِ الِاضْطِرَارِ فِيمَا يُحْصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا يُحْصَرُ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا ; وَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الصَّدَقَةَ. (الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أَيْ إِذَا رَآهُمُ الْجَاهِلُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ يَظُنُّهُمْ أَغْنِيَاءَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنَزُّهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ كَالْقَبِيحِ وَالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ التَّعَفُّفَ: بِالْعِفَّةِ وَبِالصَّبْرِ وَالنَّزَاهَةِ عَنِ الشَّيْءِ، وَجَعَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِلتَّكَلُّفِ، وَلَكِنْ صِيغَةُ " تَفَعَّلٍ " تَأْتِي لِتَكَلُّفِ الشَّيْءِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ هُنَا، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّفُ الْعِفَّةَ قَلَّمَا يَخْفَى حَالُهُ عَلَى رَائِيهِ،

وَأَمَّا الْمُبَالِغُ فِي الْعِفَّةِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَكَادُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْحَاجَةِ، فَهُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْمَدْحِ وَالْمُبَالِغُ فِي الْفَضِيلَةِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ مُتَكَلِّفِهَا. (الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ أَيْ بِعَلَامَاتِهِمِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، قِيلَ: هِيَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقِيلَ: هِيَ الرَّثَاثَةُ فِي الثِّيَابِ أَوِ الْحَالِ، وَلَيْسَا بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: بِآثَارِ الْجُوعِ وَالْحَاجَةِ فِي الْوَجْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ السِّيمَا لَا تَتَعَيَّنُ بِهَيْأَةٍ خَاصَّةٍ لِاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُتْرَكُ إِلَى فِرَاسَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَحَرَّى بِالْإِنْفَاقِ أَهْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَصَاحِبُ الْحَاجَةِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَفَرِّسِ مَهْمَا تَسَتَّرَ وَتَعَفَّفَ، فَكَمْ مِنْ سَائِلٍ يَأْتِيكَ رَثَّ الثِّيَابِ خَاشِعَ الطَّرَفِ وَالصَّوْتِ تَعْرِفُ مِنْ سِيمَاهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا وَهُوَ غَنِيٌّ، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَابِلُكَ بِطَلَاقَةِ وَجْهٍ وَحُسْنِ بِزَّةٍ فَتَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي لَحْنِ قَوْلِهِ، وَمَعَارِفِ وَجْهِهِ أَنَّهُ مِسْكِينٌ عَزِيزُ النَّفْسِ. (الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ سُؤَالَ إِلْحَاحٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّحَّاذِينَ، وَأَهْلِ الْكُدْيَةِ الْمَعْرُوفِينَ، فَالْإِلْحَافُ: هُوَ الْإِلْحَاحُ فِي السُّؤَالِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ نَفْيُ سُؤَالِ الْإِلْحَافِ لَا مُطْلَقُ السُّؤَالِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ أَنَّ الْقَيْدَ لِبَيَانِ حَالِ السَّائِلِينَ فِي الْعَادَةِ، وَأَنَّ النَّفْيَ لِلسُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا شَيْئًا لَا سُؤَالَ إِلْحَافٍ وَلَا سُؤَالَ رِفْقٍ وَاسْتِعْطَافٍ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ مَا تُؤَيِّدُهُ الْأَخْبَارُ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ. وَالسُّؤَالُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ فَالْفَقْرُ الْمُدْقِعُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَالْغُرْمُ - بِالضَّمِّ - مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ تَكَلُّفًا لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَمِنْهُ مَا يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّفَقَةِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، كَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ وَحِفْظِ مَصْلَحَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مُسَاعَدَتَهُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ مِنَ الْمَغَارِمِ. وَقَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ الَّذِي تَسْأَلُ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ مُفْظِعًا أَيْ شَدِيدًا فَظِيعًا، فَإِذَا تَحَمَّلَ غُرْمًا خَفِيفًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِأَجْلِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَحَمِّلِينَ، وَأَمَّا ذُو الدَّمِ الْمُوجِعِ فَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ عَنِ الْجَانِي مِنْ قَرِيبٍ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ نَسِيبٍ لِئَلَّا يُقْتَلَ فَيَتَوَجَّعَ لِقَتْلِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ

حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلِبَعْضِهِمْ مَقَالٌ فِي بَعْضِ رِجَالِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ " أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " قَالَ أَحْمَدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ أَجْوَدُهَا إِسْنَادًا، قَالَهُ فِي الْمُنْتَقَى. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ. وَالْمِرَّةُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - الْقُوَّةُ وَالسَّوِيُّ الْخَلْقِ: السَّلِيمُ الْأَعْضَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ وَقَدِ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لِأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنِ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُودُ: لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُ كُلُّهَا مَرَاسِيلُ، وَفِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ لِيَعْلَى بْنِ أَبِي يَحْيَى، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مَجْهُولٌ، وَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا لِحَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ السُّؤَالَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: فِيهِ، أَيِ الْحَدِيثِ الْآمِرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِذُلِّ السُّؤَالِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِسُوءِ الظَّنِّ وَاحْتِقَارِهِ، بَلْ يُكْرِمُهُ بِإِظْهَارِ السُّرُورِ لَهُ، وَيُقَدِّرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي تَحْتَهُ عَارِيَةٌ، أَوْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَخَذُ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرما لإصلاح البين، وما قالوه في الحديث يقال في تفسير السائلين في الآية 177 من هذه السورة، وتفسير (51: 19 وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) وآية (70: 24 والذين في أموالهم حق معلوم 25 للسائل والمحروم) أي إن السائل المؤمن يحمل على الصدق في أنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال الْمُحَرَّمِ، كَتَحَمُّلٍ غُرْمٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ عَارِضَةٍ فَمَا كَلُّ سَائِلٍ لِفَقْرِهِ هُوَ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كَانَ يَسْأَلُ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ الْمُوسِرِينَ، أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمَالَ لِلْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ وَلِغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا وَيَجْعَلُ السُّؤَالُ حِرْفَةً، وَالْأَصْلُ فِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ عَزِيزَ النَّفْسِ مُتَنَزِّهًا عَنِ الْحَرَامِ فَلَا يَسْأَلُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تُبِيحُ لَهُ السُّؤَالَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْغَنِيُّ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنْ مَالِهِ الَّذِي يُعِدُّهُ لِلصَّدَقَاتِ لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ أَوِ الضَّرُورَاتِ، وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْأَلُ لِنَفْسِهِ تَكَثُّرًا كَالشَّحَّاذِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً

وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا يُعْطَوْنَ إِذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِ كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ رَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَائِلًا يَحْمِلُ جِرَابًا فَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ مَا فِيهِ فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُلْقَى إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حُسْنُ النِّيَّةِ فِيهِ وَتَحَرِّي النَّفْعِ بِهِ وَوَضْعِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَإِيتَائِهِ أَحَقَّ النَّاسِ فَأَحَقَّهُمْ بِهِ، فَهُوَ يُجَازِي عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُرَغِّبٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سِيقَتِ الْهِدَايَةُ إِلَيْهِ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْإِنْفَاقِ كَانَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَبَيَانِ فَوَائِدِهَا فِي أَنْفُسِ الْمُنْفِقِينَ وَفِي الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْأُمَّةِ الَّتِي يَكْفُلُ أَقْوِيَاؤُهَا ضُعَفَاءَهَا، وَأَغْنِيَاؤُهَا فُقَرَاءَهَا، وَيَقُومُ فِيهَا الْقَادِرُونَ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَفِي آدَابِ النَّفَقَةِ، وَفِي الْمُسْتَحِقِّ لَهَا وَأَحَقِّ النَّاسِ بِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ. فَقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَفِيهِ بَيَانُ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مَعَ عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ، وَفِي تَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ إِيذَانٌ بِتَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ، وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْضِعًا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتُفَضِّلُهُ الْمَصْلَحَةُ لَا يَحِلُّ غَيْرُهُ مَحَلَّهُ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ كُلٍّ فِي تَفْسِيرِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ [2:271] وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حَالٍ لَا يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ مَهْمَا لَاحَ لَهُمْ طَرِيقٌ لِلْإِنْفَاقِ هُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا نِهَايَةَ الْكَمَالِ فِي الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَطَلَبِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ - إِذْ أَنْفَقَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قِيلَ: اتَّفَقَ أَنْ كَانَ عَشَرَةٌ مِنْهَا بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ بِالسِّرِّ، وَعَشَرَةٌ بِالْعَلَانِيَةِ، وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ السُّيُوطِيِّ أَنَّ خَبَرَ تَصَدُّقِهِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّازِقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ دِرْهَمًا، وَبِالنَّهَارِ دِرْهَمًا، وَسِرًّا دِرْهَمًا، وَعَلَانِيَةً دِرْهَمًا. وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حَمَلَنِي أَنْ أَسْتَوْجِبَ عَلَى اللهِ الَّذِي وَعَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا إِنَّ ذَلِكَ لَكَ وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي

عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِذْ أَنْفَقَا فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبَى حَاتِمٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ، وَفِي إِسْنَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَجْهُولَانِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا شَيْءٌ. وَمَعْنَاهَا عَامٌّ: أَيِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حَالٍ، لَا يَحْصُرُونَ الصَّدَقَةَ فِي الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ رُءُوسِ الْأَعْوَامِ وَلَا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ إِذَا اقْتَضَتِ الْحَالُ الْعَلَانِيَةَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ وَقْتٍ حِكْمَةً وَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمَهَا ; إِذِ الْأَوْقَاتُ وَالْأَحْوَالُ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا، وَقَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُشْعِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَظِيمٌ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى الرَّبِّ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْرِيمِ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ يَخَافُ الْبُخَلَاءُ الْمُمْسِكُونَ مِنْ تَبِعَةِ بُخْلِهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَأْتِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ مِنْ آخَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا سَيَأْتِي. وَذُكِرَتْ فِي النَّظْمِ بَعْدَ آيَاتِ الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَ آخِرُهَا آيَةَ الْكَامِلِينَ فِي السَّخَاءِ وَالْجُودِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاسُبِ بِالتَّضَادِّ، فَالْمُتَصَدِّقُ يُعْطِي الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ، وَالْمُرَابِي يَأْخُذُ الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَإِنَّنَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ ثُمَّ نُفِيضُ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَحِكْمَةِ تَحْرِيمِهِ ; لِأَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَأْنًا كَبِيرًا فِي حَيَاةِ الْأُمَّةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا هُوَ الْعَقَبَةُ الْكَئُودُ فِي طَرِيقِ مُجَارَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْأُمَمِ الْغَرْبِيَّةِ فِي الثَّرْوَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ تَنْفِيرٌ مِنَ الرِّبَا وَتَبْشِيعٌ لِحَالِ آكِلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ: الْأَخْذُ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ، وَأَكْثَرُ مَكَاسِبِ النَّاسِ تُنْفَقُ فِي الْأَكْلِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ يُقَالُ أَكَلَهُ وَهَضَمَهُ، أَيْ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ تَمَامَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رَدِّهِ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، وَالرَّبْوَةُ لِمَا عَلَا مِنَ الْأَرْضِ فَزَادَ عَلَى مَا حَوْلَهُ. وَتَعْرِيفُ الرِّبَا لِلْعَهْدِ، أَيْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا الَّذِي عَهِدْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَتَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ قَالَ: وَكَانَ أَكْلُهُمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ: أَخِّرْ عَنِّي دِينَكَ وَأَزِيدُكُ عَلَى مَالِكَ فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَنَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي إِسْلَامِهِمْ عَنْهُ، اهـ. وَذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَلِكَ سَنَنْقُلُهَا عَنْهُ فِي مَوْضِعِهَا. وَأَمَّا قِيَامُ آكِلِي الرِّبَا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ: تَشْبِيهُ الْمُرَابِي فِي الدُّنْيَا بِالْمُتَخَبِّطِ الْمَصْرُوعِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُصْرَعُ بِحَرَكَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ جُنَّ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ: الْقِيَامُ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُرَابِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ كَالْمَصْرُوعِينَ. وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: " إِيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ " أَقُولُ: وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى جَمِيعِ الْأَفْهَامِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْقِيَامَ انْصَرَفَ إِلَى النُّهُوضِ الْمَعْهُودِ

فِي الْأَعْمَالِ، وَلَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَعْثُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ قَوْلٍ فِي سَنَدِهِ وَهِيَ لَمْ تَنْزِلْ مَعَ الْقُرْآنِ وَلَا جَاءَ الْمَرْفُوعُ مِنْهَا مُفَسِّرًا لِلْآيَةِ، وَلَوْلَاهَا لَمَا قَالَ أَحَدٌ بِغَيْرِ الْمُتَبَادَرِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ صِحَّتُهُ فِي الْوَاقِعِ. وَكَانَ الْوَضَّاعُونَ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ الرِّوَايَاتِ يَتَحَرَّوْنَ فِي بَعْضِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَضَعُونَ لَهُ رِوَايَةً يُفَسِّرُونَهُ بِهَا وَقَلَّمَا يَصِحُّ فِي التَّفْسِيرِ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. أَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمَالُ وَاسْتَعْبَدَهُمْ حَتَّى ضَرِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِجَمْعِهِ وَجَعَلُوهُ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ وَتَرَكُوا لِأَجْلِ الْكَسْبِ بِهِ، جَمِيعَ مَوَارِدِ الْكَسْبِ الطَّبِيعِيِّ، تَخْرُجُ نُفُوسُهُمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي حَرَكَاتِ الْمُولَعِينَ بِأَعْمَالِ الْبُورْصَةِ وَالْمُغْرَمِينَ بِالْقِمَارِ يَزِيدُ فِيهِمُ النَّشَاطُ وَالِانْهِمَاكُ فِي أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ خِفَّةً تَعْقُبُهَا حَرَكَاتٌ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ حَرَكَاتِهِمْ وَبَيْنَ تَخَبُّطِ الْمَمْسُوسِ، فَإِنَّ التَّخَبُّطَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ ضَرْبٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَكَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا شَنَّعَ بِهِ عَلَى الْمُرَابِينَ مِنْ خُرُوجِ حَرَكَاتِهِمْ عَنِ النِّظَامِ الْمَأْلُوفِ هُوَ أَثَرُ اضْطِرَابِ نُفُوسِهِمْ وَتَغَيُّرِ أَخْلَاقِهِمْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يُبْعَثُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَظْهَرُ النَّفْسُ الْخَسِيسَةُ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا، كَمَا تَتَجَلَّى صِفَاتُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ فِي أَبْهَى مَجَالِيهَا. ثُمَّ إِنَّ التَّشْبِيهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَصْرُوعَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَمْسُوسِ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، أَيْ أَنَّهُ يُصْرَعُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ لَهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَجَارِيًا فِي كَلَامِهِمْ مَجْرَى الْمَثَلِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي التَّشْبِيهِ: " وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيُصْرَعُ، وَالْخَبْطُ: ضَرْبٌ عَلَى غَيْرِ اتِّسَاقٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ ". اهـ. وَتَبِعَهُ أَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِ، فَذَكَرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا لَا تُثْبِتُ أَنَّ الصَّرْعَ الْمَعْرُوفَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، أَنْكَرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ فِي الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ سَبَبَ الصَّرْعِ مَسُّ الشَّيْطَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِيهِ - وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ الصَّرْعَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي تُعَالَجُ كَأَمْثَالِهَا بِالْعَقَاقِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ الْعِلَاجِ الْحَدِيثَةِ، وَقَدْ يُعَالَجُ بَعْضُهَا بِالْأَوْهَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْخَفِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْجِنِّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَوْعُ اتِّصَالٍ بِالنَّاسِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلصَّرْعِ، فَتَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجِنَّ أَجْسَامٌ حَيَّةٌ خَفِيَّةٌ لَا تُرَى، وَقَدْ قُلْنَا فِي (الْمَنَارِ) غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَجْسَامَ الْحَيَّةَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي عُرِفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِوَاسِطَةِ

النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ، وَتُسَمَّى بِالْمَيِكْرُوبَاتِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَوْعًا مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا عِلَلٌ لِأَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ. قُلْنَا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، عَلَى أَنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى النِّزَاعِ فِيمَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ وَقَرَّرَهُ الْأَطِبَّاءُ أَوْ إِضَافَةِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا لَا دَلِيلَ فِي الْعِلْمِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَصْحِيحِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُحَادِيَّةِ، فَنَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُعَارِضَهُ الْعِلْمُ. قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلُ لِلرِّبَا مُسَبَّبٌ عَنِ اسْتِحْلَالِهِمْ لَهُ وَجَعْلِهِ كَالْبَيْعِ وَمَا هُوَ كَالْبَيْعِ ; فَإِنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَنْ دِينِهِمْ يَزِيدُونَهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ ; لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَكُلُّ مَا فِيهِ مُعَاوَضَةٌ صَحِيحَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَهِيَ بَيْعٌ حَلَالٌ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا صَاحِبُ الْمَالِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فِي الْأَجَلِ، وَهِيَ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهَا وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فَهِيَ ظُلْمٌ، وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا. هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَتَرَى مُفَسِّرِينَا قَدْ بَنَوْا كَلَامَهُمْ فِيهَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الْبَيْعِ مِثْلَ الرِّبَا إِذْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا، فَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ. وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ: " هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبْحِ حَالِهِمْ، وَوَحْشَةِ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَسُوءِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِثْلُ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الْغَرِيمُ الْحَقُّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالَا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْمَالِ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قِيلِهِمْ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ - ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا مَا نَصَّهُ - يَعْنِي - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -: وَأَحَلَّ اللهُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَحَرَّمَ الرِّبَا، يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يُزَادُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبِ زِيَادَتِهِ غَرِيمَهُ فِي الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ دِينَهُ عَلَيْهِ. يَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَيْسَتِ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ سَوَاءٌ ; وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْتُ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، وَأَحْلَلْتُ الْأُخْرَى مِنْهُمَا وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ الَّتِي يَبِيعُهَا فَيَسْتَفْضِلُ فَضْلَهَا، فَقَالَ اللهُ -

عَزَّ وَجَلَّ -: لَيْسَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ نَظِيرَ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهِ الرِّبَا ; لِأَنِّي أَحْلَلْتُ الْبَيْعَ وَحَرَّمْتُ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ أَمْرِي، وَالْخَلْقُ خَلْقِي، أَقْضِي فِيهِمْ مَا أَشَاءُ، وَأَسْتَعْبِدُهُمْ بِمَا أُرِيدُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَرِضَ فِي حُكْمِي ". اهـ. أَقُولُ: أَمَّا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الرِّبَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ رِبَا النَّسِيئَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا رِبًا مُحَرَّمٌ، وَكَانُوا يُجِيبُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ، إِذِ الْحِكَايَةُ عَنِ الْأَحْوَالِ بِالْأَقْوَالِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيَتَوَقَّفُ جَعْلُ الْقَوْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى إِثْبَاتِ اعْتِقَادِ الْعَرَبِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ عَلَى جَعْلِ الْآيَةِ خَاصَّةً بِالْيَهُودِ ; فَإِنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ مُرَابَاةً وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْعَرَبِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [3: 75] وَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا أَكْلُ أَمْوَالِ إِخْوَتِنَا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بَلِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ لِغَيْرِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي - ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ كَوْنَ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَ هُوَ، وَلَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَمَا سَنُبَيِّنُ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَمَا حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا إِلَّا لِأَنَّهُ ضَارٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ نَافِعٌ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَعْظِ، وَكَوْنِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَقْرُونَةً بِالْمَوَاعِظِ فِي تَفْسِيرِ (آيَةِ 232) أَيْ فَمَنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ اللهِ - تَعَالَى - لِلرِّبَا وَنَهْيُهُ عَنْهُ فَتَرَكَ الرِّبَا فَوْرًا بِلَا تَرَاخٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، انْتِهَاءً عَمَّا نَهَى الله عَنْهُ فَلَهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الرِّبَا لَا يُكَلَّفُ رَدَّهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، بَلْ يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَلَّا يُضَاعِفَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبَلَاغِ شَيْئًا وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ يَحْكُمُ فِيهِ بِعَدْلِهِ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَلَّا يُؤَاخَذَ بِمَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبُلُوغِهِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا سَلَفَ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَتَوْمِئُ إِلَى أَنَّ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ قَبْلِ النَّهْيِ إِلَى أَرْبَابِهِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ أَفْضَلِ الْعَزَائِمِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ إِبَاحَةِ مَا سَلَفَ بِاللَّامِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَفَّارَةِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ [5: 95] وَأَنَّهُ عَقَّبَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِإِبْهَامِ الْجَزَاءِ وَجَعَلَهُ إِلَى اللهِ، وَالْمَعْهُودُ فِي أُسْلُوبِهِ أَنْ يَصِلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّسَاءِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [4: 23] أَبَاحَ أَكْلَ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَبْهَمَ جَزَاءَ آكِلِهِ، لَعَلَّهُ يَغَصُّ بِأَكْلِ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَيْئًا بَعْدَ النَّهْيِ فَقَالَ: وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ يَأْكُلُ مِنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ بَعْدَ

تَحْرِيمِهِ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِمَوْعِظَةِ رَبِّهِمُ الَّذِي لَا يَنْهَاهُمْ إِلَّا عَمَّا يَضُرُّ بِهِمْ فِي أَفْرَادِهِمْ أَوْ جَمِيعِهِمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ يُلَازِمُونَهَا كَمَا يُلَازِمُ الصَّاحِبُ صَاحِبَهُ فَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ أَوَّلَ الْخُلُودَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَتَّفِقَ الْآيَةُ مَعَ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ مَنْ كَوْنِ الْمَعَاصِي لَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ وَمَنْ عَادَ إِلَى تَحْلِيلِ الرِّبَا وَاسْتِبَاحَتِهِ اعْتِقَادًا، وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الرِّبَا وَمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ جَعْلِهِ كَالْبَيْعِ هُوَ بَيَانٌ لِرَأْيِهِمْ فِيهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ لَيْسَ بِمَعْنَى اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ قَاصِرًا عَلَى الِاعْتِقَادِ بِحِلِّهِ لَا يَكُونُ هُنَاكَ وَعِيدٌ عَلَى أَكْلِهِ بِالْفِعْلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ مَا كَتَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفُقَهَاءُ يَجِبُ إِرْجَاعُ كُلِّ قَوْلٍ فِي الدِّينِ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ شَيْءٍ مِنْهُ لِيُوَافِقَ كَلَامَ النَّاسِ، وَمَا الْوَعِيدُ بِالْخُلُودِ هُنَا إِلَّا كَالْوَعِيدِ بِالْخُلُودِ فِي آيَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شُبْهَةً فِي اللَّفْظِ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِحْلَالِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّازِّيُّ الْآيَةَ هُنَا حُجَّةً عَلَى الْقَائِلِينَ بِخُلُودِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ فِي النَّارِ انْتِصَارًا لِأَصْحَابِهِ الْأَشَاعِرَةِ، وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ تَأْوِيلُ بَعْضِهِمْ لِلْخُلُودِ بِطُولِ الْمُكْثِ، أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: مَا كُلُّ مَا يُسَمَّى إِيمَانًا يَعْصِمُ صَاحِبَهُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ ; الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ: إِيمَانٌ لَا يَعْدُو التَّسْلِيمَ الْإِجْمَالِيَّ بِالدِّينِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ الْمَرْءُ أَوْ نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمُجَارَاةَ أَهْلِهِ وَلَوْ بِعَدَمِ مُعَارَضَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِيمَانٌ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ بِالدِّينِ عَنْ يَقِينٍ بِالْإِيمَانِ، مُتَمَكِّنَةٍ فِي الْعَقْلِ بِالْبُرْهَانِ، مُؤَثِّرَةٍ فِي النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِذْعَانِ، حَاكِمَةٍ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُصَرِّفَةِ لِلْجَوَارِحِ فِي الْأَعْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ صَاحِبُهَا خَاضِعًا لِسُلْطَانِهَا فِي كُلِّ حَالٍ، إِلَّا مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ غَلَبَةِ جَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَلَيْسَ الرِّبَا مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُنْسَى أَوْ تَغْلِبُ النَّفْسَ عَلَيْهَا خِفَّةُ الْجَهَالَةِ وَالطَّيْشِ، كَالْحِدَّةِ وَثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ يَقَعُ صَاحِبُهَا مِنْهَا فِي غَمْرَةِ النِّسْيَانِ كَالْغَيْبَةِ وَالنَّظْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْصِمُ صَاحِبَهُ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي سُخْطِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ عَمْدًا ; إِيثَارًا لِحُبِّ الْمَالِ وَاللَّذَّةِ عَلَى دِينِ اللهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ صُورِيٌّ فَقَطْ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَقْوَالِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَإِنْ جَهِلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ حَتَّى جَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَدْمِ الدِّينِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَتَبَجَّحُونَ بِارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ مَا حُرِّمَ كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ كُبَرَائِنَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أُنْكِرُ أَنَّنِي آكُلُ الرِّبَا وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ، أَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقَدْ فَاتَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَعِيدِ وَبِأَنَّهُ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَهَلْ يَعْتَرِفُ بِالْمَلْزُومِ أَمْ يُنْكِرُ الْوَعِيدَ الْمَنْصُوصَ فَيُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ؟ نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ - تَعَالَى - الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا وَالصَّدَقَةِ، إِذْ جَاءَ الْكَلَامُ عَنْهُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَنْهَا بِبَيَانِ أَثَرِهِمَا فَقَالَ: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ فَسَّرُوا مَحْقَ اللهِ الرِّبَا بِإِذْهَابِ بَرَكَتِهِ وَإِهْلَاكِهِ أَوْ إِهْلَاكِ الْمَالِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا حَتَّى عَرَفَهُ الْعَامَّةُ فَهُمْ يَذْكُرُونَ دَائِمًا مَا يَحْفَظُونَ مِنْ أَخْبَارِ آكِلِي الرِّبَا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَخَرِبَتْ بُيُوتُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ " إِنِ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَعَاقِبَتُهُ تَصِيرُ إِلَى قَلٍّ " وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ هَذَا الْمَحْقَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُبْطِلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ نَفْعُهُ، فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَحْقِ مَحْقَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ ; فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا يُلَاقِي الْمُرَابِي مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ وَمَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا عَدَاوَةُ النَّاسِ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ عَدُوُّ الْمُحْتَاجِينَ وَبَغِيضُ الْمَعُوزِينَ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إِلَى مَفَاسِدَ وَمَضَرَّاتٍ، وَاعْتِدَاءٍ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الرِّبَا إِذْ قَامَ الْفُقَرَاءُ فِيهَا يُعَادُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيَتَأَلَّبُ الْعُمَّالُ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَعْقَدَ الْمَسَائِلِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ فَهُوَ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ رَاقَبَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ وَتَلَا أَخْبَارَهُمْ. وَلَا أَذْكُرُ عَنْهُ مِثَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا الْأَمْثَالُ فِيهِ بِقَلِيلَةٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْغَلُهُ الْمَالُ عَنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ فِي حُقِّ نَفْسِهِ وَحُقُوقِهِمْ تَقْصِيرًا يُفْضِي إِلَى الْخُسْرِ أَوِ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ لِذَلِكَ الصَّعْبِ وَيَقْتَحِمُ الْخَطَرَ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَأَقُولُ: الْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ: مَحْوُ الشَّيْءِ وَالذَّهَابُ بِهِ، كَمُحَاقِ الْقَمَرِ، وَكُلُّ مَا لَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ عَمَلَهُ فَقَدْ مَحَقَهُ - كَمَا فِي الْأَسَاسِ - فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَحْقِ الرِّبَا مَحْوُ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ مِنَ اللَّذَّةِ وَبَسْطَةِ الْعَيْشِ وَالْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ، وَزِيَادَةُ الرِّبَا تَذْهَبُ بِذَلِكَ لِاشْتِغَالِ الْمُرَابِي غَالِبًا عَنِ اللَّذَّةِ وَخَفْضِ الْمَعِيشَةِ بِوَلَهِهِ فِي مَالِهِ وَلِمَقْتِ النَّاسِ إِيَّاهُ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَهُوَ لَمْ يُحْسِنِ التَّصَرُّفَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى ثَمْرَةِ الْمَالِ، وَأَمَّا إِرْبَاءُ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةُ فَائِدَتِهَا وَثَمَرَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَأَجْرِهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصَّدَقَةِ وَمُضَاعَفَةِ اللهِ إِيَّاهَا، فَمَعْنَى يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ أَنَّ سُنَّتَهُ قَضَتْ فِي عَابِدِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَرْحَمُ مَعُوزًا وَلَا يُنْظِرُ مُعْسِرًا إِلَّا بِمَالٍ يَأْخُذُهُ رِبًا بِدُونِ مُقَابِلٍ أَنْ يَكُونَ مَحْرُومًا مِنَ الثَّمَرَةِ الشَّرِيفَةِ لِلثَّرْوَةِ، وَهِيَ كَوْنُ صَاحِبِهَا نَاعِمًا عَزِيزًا شَرِيفًا عِنْدَ النَّاسِ. لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لِخَيْرِهِمْ وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى زَمَنِهِمْ، كَمَا يَكُونُ مَحْرُومًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِ الْمَالِ، فَهُوَ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهِ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الِانْتِفَاعِ كَمَنْ مُحِقَ مَالُهُ وَهَلَكَ، وَقَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْبَرَ مِنْ مَالِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ

أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ ثَمَرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا - فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ تَعَالَى: وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ قَالُوا: لَا يُحِبُّ لَا يَرْضَى، وَالْكُفَّارُ: الْمُسْتَحِلُّ لِلرِّبَا، وَالْأَثِيمُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْإِثْمِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُبَّ اللهِ لِلْعَبْدِ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ يُعْرَفُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ إِتْمَامَ حُكْمِ اللهِ فِي صَلَاحِ عِبَادِهِ، وَنَفْيُ هَذَا الْحُبِّ يُعْرَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَالْكُفَّارُ هُنَا: هُوَ الْمُتَمَادِي عَلَى كُفْرِ إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ إِذْ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَلَا يُوَاسِي بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَالَ آلَةً لِجَذْبِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلَى يَدِهِ فَافْتَرَصَ إِعْسَارَهُمْ لِاسْتِغْلَالِ اضْطِرَارِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ صَدَّقُوا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَغَيْرِهَا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَشَأْنُ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَالرَّحْمَةُ بِالْبَائِسِينَ، وَإِنْظَارُ الْمُعْسِرِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْإِذْعَانِ يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ حَتْمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي تُذَكِّرُ الْمُؤْمِنَ بِاللهِ - تَعَالَى - فَتَزِيدُ فِي إِيمَانِهِ وَحُبِّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ تَرْكُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالرِّبَا أَسْهَلُ. وَذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِهِمَا كَامِلَتَيْنِ سَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْجَزَاءِ قَرِيبًا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِآكِلِ الرِّبَا - كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ؛ لَكَفَّ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ كَفَّارٌ أَثِيمٌ - وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَّرَهُمْ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لِمَنْ كَانُوا يُرَابُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ غُرَمَائِهِمْ، ثُمَّ وَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ تَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ فَذَرُوا بَقَايَا الرِّبَا، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُتَّصِفًا بِهَذَا الشَّيْءِ فَافْعَلْ كَذَا، وَيَذْكُرُ أَمْرًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا بَعْدَ نَهْيِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْهُ وَتَوَعُّدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْإِيمَانِ التَّامِّ الشَّامِلِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى

عَلَى إِرَادَةِ الْعَامِلِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ خُلُودِ مَنْ عَادَ إِلَى الرِّبَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فِي النَّارِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ إِيمَانًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ فَلَا يُذْعِنُ لَهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَهُوَ يَجْحَدُهُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَعْتَدُّ اللهُ بِإِيمَانِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ لِسَانَهُ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا كَمَا أُمِرْتُمْ فَاعْلَمُوا وَاسْتَيْقِنُوا بِأَنَّكُمْ عَلَى حَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِذْ نَبَذْتُمْ مَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا كَقَوْلِهِ: " فَاعْلَمُوا " وَزْنًا وَمَعْنًى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ (فَآذِنُوا) بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، أَيْ فَأَعْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ - أَيْ لِيُعْلِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا - أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِلْحُكْمِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ عَدَمَ الْخُضُوعِ لِلْأَمْرِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ خَارِجُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُحَارِبُونَ لَهُمَا. فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَرْبَ اللهِ لَهُمْ بِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ. قَالَ: وَنَحْنُ إِنْ لَمْ نَرَ أَثَرَ هَذَا فِي الْمَاضِينَ فَإِنَّنَا نَرَاهُ فِي الْحَاضِرِينَ مِمَّنْ أَصْبَحُوا بَعْدَ الْغِنَى يَتَكَفَّفُونَ، وَمَنْ بَاتُوا وَالْمَسْأَلَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ (مُنَاصَبَةُ الْعُمَّالِ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ) تُهَدِّدُهُمْ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَمَّا الْحَرْبُ مِنْ رَسُولِهِ لَهُمْ فَهِيَ مُقَاوَمَتُهُمْ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَعْدَاءً لَهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ أَحَدٌ يُقِيمُ شَرْعَهُ وَإِنْ تُبْتُمْ وَرَجَعْتُمْ عَنِ الرِّبَا امْتِثَالًا وَخُضُوعًا فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصِ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، بَلْ تَأْخُذُونَهُ كَامِلًا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجُلٍ مَنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَفَا فِي الرِّبَا إِلَى أُنَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ مَنْ بَنِي عَمْرٍو، وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَجَاءُ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ فَضْلٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ اسْتَعْمَلَ عِتَابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبِي بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عِتَابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عِتَابُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْآيَتَانِ فَكَتَبَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِتَابٍ، وَقَالَ:

إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ ". وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي الْآيَةِ أَنَّ الرِّبَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَلَكِنْ بَعْضُ مَا يَعُدُّهُ الْفُقَهَاءُ مِنْهُ لَا ظُلْمَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْآخِذِ وَالْمُعْطِي. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ أَيْ وَإِنْ وُجِدَ غَرِيمٌ مُعْسِرٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ فَأَنْظِرُوهُ وَأَمْهِلُوهُ إِلَى وَقْتٍ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَنَافِعٌ (مُيْسَرَةٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - وَهِيَ لُغَةٌ كَالْفَتْحِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ الْبَاقُونَ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَالُوا لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ: نَحْنُ الْيَوْمَ أَهْلُ عُسْرَةٍ فَأَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الثَّمْرَةُ فَأَبَوْا ; فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قِصَّتِهِمْ كَالْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَصْلُ تَصَدَّقُوا تَتَصَدَّقُوا قَرَأَ عَاصِمٌ - بِتَخْفِيفِ الصَّادِ - بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا لِلْإِدْغَامِ ; أَيْ: وَتَصَدُّقُكُمْ عَلَى الْمُعْسِرِ بِوَضْعِ الدَّيْنِ عَنْهُ وَإِبْرَائِهِ مِنْهُ - خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْظَارِهِ، فَهُوَ نَدْبٌ إِلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّمَاحِ لِلْمَدِينِ الْمُعْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ النَّاسِ وَبِرِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْأُمَّةِ ; وَلِذَلِكَ نَبَّهَ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ فِي شَيْءٍ؛ لَا يَعْمَلُهُ، وَمَنْ عَلِمَ حَتْمًا ; أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ عَمِلْتُمْ بِهِ وَعَامَلْتُمْ إِخْوَانَكُمْ بِالْمُسَامَحَةِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَهْدِيكُمْ إِلَى خَيْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَجْعَلُكُمْ مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي دَيْنِ الرِّبَا خَاصَّةً. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْوَاجِبَ يَفْضُلُهُ شَيْءٌ مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اتِّفَاقًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ هُنَا الْإِنْظَارُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَهَذَا الْإِنْظَارُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ. ثُمَّ خَتَمَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - آيَاتِ الرِّبَا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذَا وَعَاهَا السَّمَاحَ بِالْمَالِ، بَلْ وَبِالنَّفْسِ رَجَاءَ أَنْ يَلْقَى اللهَ - تَعَالَى - عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: (تَرْجِعُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَنْ رَجَعَ. وَالْبَاقُونَ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مِنْ أَرْجَعَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ; أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ مِنْ غَفَلَاتِكُمْ وَشَوَاغِلِ الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُكُمْ عَنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ فَتَصِيرُونَ إِلَى اللهِ، أَيْ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ لَا سُلْطَانَ إِلَّا سُلْطَانُهُ وَلَا مُلْكَ إِلَّا لَهُ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا: أَمَّا حَقِيقَةُ الرُّجُوعِ

فَلَا تَصِحُّ هُنَا لِأَنَّنَا مَا غِبْنَا عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَغِيبَ عَنْهُ فَنَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فِي غَفْلَتِهِ وَشُغُلِهِ بِشُئُونِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ اسْتِقْلَالًا تَامًّا بِنَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ رُؤَسَاءَ وَأُمَرَاءَ يَخَافُهُمْ وَيَرْجُوهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُ تَعْرِضُ لَهُ حَاجَاتٌ وَضَرُورَاتٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِدَّ لَهَا بِتَكْثِيرِ الْمَالِ وَجَمْعِهِ مِنْ حَرَامٍ وَحَلَالٍ. فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ تَكُونُ لَهُ شُغُلًا شَاغِلًا رُبَّمَا يَسْتَغْرِقُ وَقْتَهُ فَيَصْرِفُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي مَنَافِعِ التَّسَامُحِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْهُمْ، فَكَانَ أَنْفَعَ دَوَاءٍ لِمَرَضِ انْصِرَافِ النَّفْسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سُلْطَانِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ تَمَامُ حِكْمَتِهِ - التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَبْطُلُ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاغِلُ، وَتَتَلَاشَى هَذِهِ الصَّوَارِفُ ; حَتَّى لَا يَشْغَلَ الْإِنْسَانَ فِيهِ شَيْءٌ مَا عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْعِبَادِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُجَازَى عَلَى مَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً وَافِيًا وَهَمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَدْ يُزَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنْهُمْ فَيُعْطَوْنَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. قَالَ فِي الْإِتْقَانِ: وَالْمُرَادُ بِهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ: " مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا " وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: " إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنَ نُزُولًا آيَةُ الرِّبَا " وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ الْآيَةَ. وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا. ثُمَّ ذُكِرَ فِي الْإِتْقَانِ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الرِّبَا وَآيَةُ الدَّيْنِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَقَطْ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا مُنَافَاةَ عِنْدِي بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا وَآيَةِ الدَّيْنِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَتَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ بَعْضِ مَا نَزَلَ بِأَنَّهُ آخِرُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. اهـ. أَيْ إِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقٍ يَقْتَضِيهِ. وَقِيلَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَفِي مُدَّةِ بَقَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ

نُزُولِ وَاتَّقُوا يَوْمًا الْآيَةَ. وَوَرَدَ أَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلُوهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ. (فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا مِثَالُهُ: يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً عَصْرِيَّةً وَأَخَذُوا الشَّهَادَاتِ مِنَ الْمَدَارِسِ، بَلْ وَمَنْ هُمْ أَكْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُنُوا بِالْفَقْرِ، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ إِلَى أَيْدِي الْأَجَانِبِ وَفَقَدُوا الثَّرْوَةَ وَالْقُوَّةَ بِسَبَبِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ لِاحْتِيَاجِهِمْ لِلْأَمْوَالِ يَأْخُذُونَهَا بِالرِّبَا مِنَ الْأَجَانِبِ، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا مِنْهُمْ لَا يُعْطِي بِالرِّبَا. فَمَالُ الْفَقِيرِ يَذْهَبُ وَمَالُ الْغَنِيِّ لَا يَنْمُو، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَهَمَّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ مَا جَنَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا دِينُهُمْ. (قَالَ) وَهَذِهِ أَوْهَامٌ لَمْ تُقَلْ عَنِ اخْتِبَارٍ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحَكِّمُونَ الدِّينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وَلَوْ حَكَّمُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا اسْتَدَانُوا بِالرِّبَا وَجَعَلُوا أَمْوَالَهُمْ غَنَائِمَ لِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْلَ الرِّبَا لِأَجْلِ الدِّينِ فَهَلْ يَقُولُ الْمُشْتَبِهُونَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا الصِّنَاعَةَ وَالتِّجَارَةَ وَالزِّرَاعَةَ لِأَجْلِ الدِّينِ؟ أَلَمْ تَسْبِقْنَا جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى إِتْقَانِ ذَلِكَ؟ فَلِمَاذَا لَمْ نُتْقِنْ سَائِرَ أَعْمَالِ الْكَسْبِ لِنُعَوِّضَ مِنْهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا فَاتَنَا مِنْ كَسْبِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا؟ وَدِينُنَا يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَسْبِقَ الْأُمَمَ فِي إِتْقَانِ كُلِّ شَيْءٍ. الْحُقُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَغْلَبِ قَدْ نَبَذُوا الدِّينَ ظِهْرِيًّا، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا تَقَالِيدُ وَعَادَاتٌ أَخَذُوهَا بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ الدِّينَ عَائِقٌ لَهُمْ عَنِ التَّرَقِّي فَقَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَضَافَ إِلَى جَهَالَاتِهِمْ جَهَالَةً شَرًّا مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا مِنْ عَدَمِ الْبَصِيرَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حَالَةِ الْأُمَّةِ مِنْ بِدَايَتِهَا إِلَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَرَفَتِ الْأُمَّةُ نَفْسَهَا لَعَرَفَتْ مَاضِيَهَا كَمَا تَعْرِفُ حَاضِرَهَا، وَلَكِنَّ جَهْلَهَا بِنَفْسِهَا وَعَدَمَ قِرَاءَةِ مَاضِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهَا فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ. فَهِيَ لَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُخِذَتْ وَلَا كَيْفَ سَقَطَتْ بَعْدَ مَا ارْتَفَعَتْ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ بِالدِّينِ وَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِالسَّبَبِ، وَأَفْضَى بِهَا الْجَهْلُ إِلَى أَنْ صَارَتْ تَجْعَلُ عِلَّةَ الرُّقِيِّ وَالِارْتِفَاعِ، هِيَ عَيْنُ الْعِلَّةِ لِلسُّقُوطِ وَالِانْحِطَاطِ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدَانَةُ أَفْرَادِنَا وَحُكُومَاتِنَا مِنَ الْأَجَانِبِ بِالرِّبَا ; فَإِنَّهَا أَضَاعَتْ ثَرْوَتَنَا وَمُلْكَنَا، وَكَانَ الدِّينُ - لَوِ اتَّبَعْنَاهُ - عَاصِمًا مِنْهَا، فَنَحْنُ نَنْسَى مِثْلَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ الْكُبْرَى لِلدِّينِ فِي الْمَوْضُوعِ نَفْسَهُ، وَنَذْكُرُ مِنْ سَيِّئَاتِ الدِّينِ أَنَّهُ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْهُ لَجَازَ أَنْ يَكْسَبَ بَعْضُ أَغْنِيَائِنَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكْسِبُونَ الْآنَ. وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنَّ أَثَرَ الرِّبَا فِينَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُزِيلَهُ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ أَنَّنَا حَافَظْنَا عَلَى أَمْرِ الدِّينِ فِيهِ لَكُنَّا بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: (بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا) .

وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا إِلَخْ مَا مِثَالُهُ: مَسْأَلَةُ الرِّبَا مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ اتَّفَقَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَمُ: فَالْيَهُودُ كَانُوا يُرَابُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ. وَالنَّصَارَى يُرَابِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُرَابُونَ سَائِرَ النَّاسِ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حَفِظُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ زَمَنًا طَوِيلًا. ثُمَّ قَلَّدُوا غَيْرَهُمْ. وَمُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ فَشَتِ الْمُرَابَاةُ بَيْنَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَقْطَارِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا بِالْحِيلَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا شَرْعِيَّةً، وَقَدْ أَبَاحَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِثْمَارِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَطَالِبِ الْعِلْمِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ السُّبْحَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ أَنْ يَتَّفِقَ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِائَةً إِلَى سَنَةٍ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ مَثَلًا فَيُعْطِيهِ الْمِائَةَ نَقْدًا وَيَبِيعُهُ سُبْحَةً بِعَشَرَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيَشْتَرِيهَا ثُمَّ يَهْدِيهَا إِلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ قَلِيلِينَ جِدًّا، وَلَكِنِ الَّذِينَ يُؤَكِّلُونَهُ غَيْرَهُمْ كَثِيرُونَ جِدًّا، حَتَّى لَا تَكَادَ تَجِدُ مُتَمَوِّلًا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ سَالِمًا مِنَ الِاسْتِدَانَةِ بِالرِّبَا إِلَّا قَلِيلًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ تَقْلِيدُ حُكَّامِهِمْ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ. بَلْ كَثِيرًا مَا كَانَ حُكَّامُ هَذِهِ الْبِلَادِ يُلْزِمُونَ الرَّعِيَّةَ بِهَا إِلْزَامًا لِأَدَاءِ مَا يَفْرِضُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّرَائِبِ وَالْمُصَادَرَاتِ، وَمِنْ هُنَا نَرَى أَنَّ الْأَدْيَانَ لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَاوِمَ مَيْلَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا. حَتَّى كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ يَضْطَرُّونَ إِلَيْهَا، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ السِّلْعَةَ الَّتِي ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ نَقْدًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا نَسِيئَةً يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْتَاجَ الْعَشَرَةَ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ بَعْدَ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ; لِأَنَّ السَّبَبَ فِي كُلٍّ مِنَ الزِّيَادَتَيْنِ الْأَجَلُ. هَكَذَا يَحْتَجُّ النَّاسُ فِي أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَحْتَجُّ الْحُكُومَاتُ بِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَأْخُذِ الْمَالَ بِالرِّبَا لَاضْطَرَّتْ إِلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهَا أَوْ خَرَابِ أَرْضِهَا. وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَجَابَ عَنْ دَعْوَى مُمَاثَلَةِ الْبَيْعِ لِلرِّبَا بِجَوَابٍ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ أَجْوِبَةِ الْخُطَبَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ، وَلَا عَلَى طَرِيقَةِ أَقْيِسَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى سُنَّةِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَدْ جَعَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ قَبِيلِ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، أَيْ إِنَّكُمْ تَقِيسُونَ فِي الدِّينِ وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يُجِيزُ هَذَا الْقِيَاسَ، وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْقُرْآنِ مُقَارَعَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي رَدِّ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ مَا هُوَ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ لَا يَفْهَمُونَ الْآيَاتِ إِلَّا بِهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا لِتَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى آرَائِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ أَنَّ زَعْمَهُمْ مُسَاوَاةَ الرِّبَا لِلْبَيْعِ فِي مَصْلَحَةِ التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُبِيحَ لِلنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا فِي تَعَامُلِهِمْ كَالذِّئَابِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنِ افْتِرَاسِ الْآخَرِ وَأَكْلِهِ، وَلَكِنْ هَاهُنَا إِلَهٌ رَحِيمٌ يَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُرَبِّيهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرِّبَا الَّذِي هُوَ اسْتِغْلَالُ ضَرُورَةِ إِخْوَانِهِمْ، وَأَحَلَّ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ الرِّبْحُ فِيهِ بِأَكْلِ

الْغَنِيِّ الْوَاجِدِ الْفَقِيرَ الْفَاقِدَ. فَهَذَا وَجْهٌ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْقِيَاسِ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ طَرِيقَ تَعَامُلِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ أَنْ يَكُونَ اسْتِفَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ بِعَمَلٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقًّا عَلَى آخَرَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا مُقَابِلَ لَهُ، وَبِهَذِهِ السُّنَّةِ أَحَلَّ الْبَيْعَ لِأَنَّ فِيهِ عِوَضًا يُقَابِلُ عِوَضًا، وَحَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا مُقَابِلَ لَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قِيَاسَكُمْ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ، وَفِي الرِّبَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ يُلَاحَظُ فِيهِ دَائِمًا انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ مَنْ يَشْتَرِي قَمْحًا مَثَلًا فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِيَأْكُلَهُ أَوْ لِيَبْذُرَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا (وَأَقُولُ: وَالثَّمَنُ فِي هَذَا مُقَابِلٌ لِلْمَبِيعِ مُقَابَلَةً مُرْضِيَةً لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِمَا) وَأَمَّا الرِّبَا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأَخْذِهَا مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ زِيَادَةُ رَأْسِ الْمَالِ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلَا عَمَلٍ (أَقُولُ: وَهِيَ لَا تُعْطَى بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ بِالْكُرْهِ وَالِاضْطِرَارِ) . وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ دُونِ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَيْنِ إِنَّمَا وُضِعَا لِيَكُونَا مِيزَانًا لِتَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ. فَإِذَا تَحَوَّلَ هَذَا وَصَارَ النَّقْدُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِغْلَالِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِزَاعِ الثَّرْوَةِ مِنْ أَيْدِي أَكْثَرِ النَّاسِ وَحَصْرِهَا فِي أَيْدِي الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ قَاصِرَةً عَلَى اسْتِغْلَالِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَيَنْمُو الْمَالُ وَيَرْبُو عِنْدَهُمْ وَيُخَزَّنُ فِي الصَّنَادِيقِ وَالْبُيُوتِ الْمَالِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبُنُوكِ، وَيُبْخَسُ الْعَامِلُونَ قِيَمَ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ مُعْظَمُهُ مِنَ الْمَالِ نَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَهْلَكُ الْفُقَرَاءُ. وَلَوْ وَقَفَ النَّاسُ فِي اسْتِغْلَالِ الْمَالِ عِنْدَ حَدِّ الضَّرُورَةِ لَمَا كَانَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِنْدَهُ بِنَفْسِهَا (أَيْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْوَازِعِ الَّذِي يُوقِفُهَا بِالْإِقْنَاعِ أَوِ الْإِلْزَامِ) لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا، وَهُوَ لَا يُشَرِّعُ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ كَأَصْحَابِ الْقَوَانِينِ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ، وَأَمَّا وَاضِعُو الْقَوَانِينِ فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ حَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِمَا يُسَمُّونَهُ الرَّأْيَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَوَاقِبِهَا، وَلَا فِي أَثَرِهَا فِي تَرْبِيَةِ الْفَضَائِلِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَإِنَّنَا نَرَى الْبِلَادَ الَّتِي أَحَلَّتْ قَوَانِينُهَا الرِّبَا قَدْ عَفَتْ فِيهَا رُسُومُ الدِّينِ، وَقَلَّ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَحَلَّتِ الْقَسْوَةُ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ حَتَّى إِنِ الْفَقِيرَ فِيهَا يَمُوتُ جُوعًا وَلَا يَجِدُ مَنْ يَجُودُ عَلَيْهِ بِمَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، فَمُنِيَتْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِمَصَائِبَ أَعْظَمُهَا مَا يُسَمُّونَهُ الْمَسْأَلَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُأَلِّبُ الْفَعَلَةَ وَالْعُمَّالَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ وَاعْتِصَابِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْكِ الْعَمَلِ وَتَعْطِيلِ الْمَعَامِلِ وَالْمَصَانِعِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يُقَدِّرُونَ عَمَلَهُمْ قَدْرَهُ، بَلْ يُعْطُونَهُمْ أَقَلَّ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ انْقِلَابًا كَبِيرًا فِي الْعَالَمِ ; وَلِذَلِكَ

قَامَ كَثِيرٌ مِنْ فَلَاسِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ يَكْتُبُونَ الرَّسَائِلَ وَالْأَسْفَارَ فِي تَلَافِي شَرِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِهَذَا الدَّاءِ إِلَّا رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الدِّينُ، وَقَدْ أَلَّفَ تُولِسْتُويِ الْفَيْلَسُوفُ الرُّوسِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ (مَا الْعَمَلُ؟) وَفِيهِ أُمُورٌ يَضْطَرِبُ لِفَظَاعَتِهَا الْقَارِئُ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهِ: إِنَّ أُورُبَّا نَجَحَتْ فِي تَحْرِيرِ النَّاسِ مِنَ الرِّقِّ وَلَكِنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ رَفْعِ نَيْرِ الدِّينَارِ (الْجُنَيْهِ) عَنْ أَعْنَاقِ النَّاسِ الَّذِينَ رُبَّمَا اسْتَعْبَدَهُمُ الْمَالُ يَوْمًا مَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى -: وَهَذِهِ بِلَادُنَا قَدْ ضَعُفَ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ وَقَلَّ الْإِسْعَادُ وَالتَّعَاوُنُ مُذْ فَشَا فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّنِي لَأَعِي وَأُدْرِكُ مَا مَرَّ بِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كُنْتُ أَرَى رَجُلًا يَطْلُبُ مِنَ الْآخَرِ قَرْضًا فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِلَى بَيْتِهِ وَيُوصِدُ الْبَابَ عَلَيْهِ مَعَهُ، وَيُعْطِيهِ مَا طَلَبَ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِمْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ (قَالَ) : رَأَيْتُ هَذَا مِنْ كَثِيرِينَ فِي بِلَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَأَيْتُ مِنْ وَفَاءِ مَنْ يَقْتَرِضُ أَنَّهُ يُغْنِي الْمُقْرِضَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، بَلِ الْمُحَاكَمَةِ. ثُمَّ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً رَأَيْتُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ لَا يُعْطِي وَلَدَهُ قَرْضًا طَلَبَهُ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ. فَسَأَلَتْهُ: أَمَا أَنْتَ الَّذِي كُنْتَ تُعْطِي الْغُرَبَاءَ مَا يَطْلُبُونَ وَالْبَابُ مُقْفَلٌ، وَتُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَوْ تُحَلِّفُهُمْ أَلَّا يَذْكُرُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا بَالُكَ تَسْتَوْثِقُ مِنْ وَلَدِكَ وَلَا تَأْمَنُهُ عَلَى مَالِكَ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ وَمَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُ سَبَبَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّنِي لَا أَجِدُ الثِّقَةَ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُهَا فِي نَفْسِي. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلَ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ وَالِدُهُ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَمَا قَالَهُ فِي مَضَرَّةِ اسْتِغْلَالِ النَّقْدِ - مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَمُطَبَّقٌ عَلَى حَالِ الْعَصْرِ. وَإِنَّنِي أُورِدُ عِبَارَةَ الْغَزَالِيِّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) لِمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَوَائِدِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: " مِنْ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا، وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا. وَلَكِنْ يَضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ، وَقَدْ يَعْجَزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، كَمَنْ يَمْلِكُ الزَّعْفَرَانَ مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى جَمَلٍ يَرْكَبُهُ وَمَنْ يَمْلِكُ الْجَمَلَ رُبَّمَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى الزَّعْفَرَانِ، فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ مِنْ تَقْدِيرٍ، إِذْ لَا يَبْذُلُ صَاحِبُ الْجَمَلِ جَمَلَهُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَالْجَمَلِ حَتَّى يُقَالَ: يُعْطَى مِنْهُ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ أَوِ الصُّورَةِ، وَكَذَا مَنْ يَشْتَرِي دَارًا بِثِيَابٍ أَوْ عَبْدًا بِخُفٍّ أَوْ دَقِيقًا بِحِمَارٍ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَنَاسُبَ فِيهَا، فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْجَمَلَ كَمْ يُسَاوِي بِالزَّعْفَرَانِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُعَامَلَاتُ جِدًّا. فَافْتَقَرَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَافِرَةُ إِلَى مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمٍ عَدْلٍ فَيَعْرِفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُتْبَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ حَتَّى إِذَا تَقَرَّرَتِ الْمَنَازِلُ وَتَرَتَّبَتِ الرُّتَبُ،

عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُسَاوِي مِنْ غَيْرِ الْمُسَاوِي، فَخَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ حَاكِمَيْنِ وَمُتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ حَتَّى تُقَدَّرَ الْأَمْوَالُ بِهِمَا، فَيُقَالُ: هَذَا الْجَمَلُ يُسَاوِي مِائَةَ دِينَارٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ يُسَاوِي مِائَةً، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ إِذًا مُتَسَاوِيَانِ، وَإِنَّمَا أَمْكَنَ التَّعْدِيلُ بِالنَّقْدَيْنِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَلَوْ كَانَ فِي أَعْيَانِهِمَا غَرَضٌ رُبَّمَا اقْتَضَى خُصُوصَ ذَلِكَ الْغَرَضِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْغَرَضِ تَرْجِيحًا وَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا غَرَضَ لَهُ فَلَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ، فَإِذًا خَلَقَهُمَا اللهُ - تَعَالَى - لِتَتَدَاوَلَهُمَا الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمَا عَزِيزَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَلَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَنِسْبَتُهُمَا إِلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ مَلَكَهُمَا فَكَأَنَّهُ مَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ لَا كَمَنْ مَلَكَ ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا الثَّوْبَ، فَلَوِ احْتَاجَ إِلَى طَعَامٍ رُبَّمَا لَمْ يَرْغَبْ صَاحِبُ الطَّعَامِ فِي الثَّوْبِ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي دَابَّةٍ مَثَلًا، فَاحْتِيجَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فِي صُورَتِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، كَأَنَّهُ كُلُّ الْأَشْيَاءِ، وَالشَّيْءُ إِنَّمَا تَسْتَوِي نِسْبَتُهُ إِلَى الْمُخْتَلِفَاتِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ يُفِيدُهَا بِخُصُوصِهَا كَالْمِرْآةِ لَا لَوْنَ لَهَا وَتَحْكِي كُلَّ لَوْنٍ. فَكَذَلِكَ النَّقْدُ لَا غَرَضَ فِيهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى غَرَضٍ، وَكَالْحَرْفِ لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسِهِ وَتَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي فِي غَيْرِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ. وَفِيهِمَا أَيْضًا حِكَمٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ فِيهِمَا عَمَلًا لَا يَلِيقُ بِالْحُكْمِ بَلْ يُخَالِفُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِالْحُكْمِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا، فَإِذَا كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الْحِكْمَةَ فِيهِمَا، وَكَانَ كَمَنْ حَبَسَ حَاكِمَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَجْنٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِسَبَبِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَنَزَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْحُكْمَ وَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَمَا خُلِقَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِزَيْدٍ خَاصَّةً وَلَا لِعَمْرٍو خَاصَّةً، إِذْ لَا غَرَضَ لِلْآحَادِ فِي أَعْيَانِهِمَا فَإِنَّهُمَا حَجَرَانِ، وَإِنَّمَا خُلِقَا لِتَتَدَاوَلَهُمَا الْأَيْدِي فَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ وَعَلَامَةَ مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ مُقَوِّمَةً لِلْمَرَاتِبِ، فَأَخْبَرَ اللهُ - تَعَالَى - الَّذِينَ يَعْجَزُونَ عَنْ قِرَاءَةِ الْأَسْطُرِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَوْجُودَاتِ بِخَطٍّ إِلَهِيٍّ لَا حَرْفَ فِيهِ وَلَا صَوْتَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِعَيْنِ الْبَصَرَ بَلْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، أَخْبَرَ هَؤُلَاءِ الْعَاجِزِينَ بِكَلَامٍ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ - الْمَعْنَى الَّذِي عَجَزُوا عَنْ إِدْرَاكِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [9:34] وَكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ آنِيَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةً فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ كَنَزَ ; لِأَنَّ مِثَالَ هَذَا مِثَالُ مَنِ اسْتَسْخَرَ حَاكِمَ الْبَلَدِ فِي الْحِيَاكَةِ وَالْمُكْسِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا أَخِسَّاءُ النَّاسِ وَالْحَبْسُ أَهْوَنُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنِ الْخَزَفَ وَالْحَدِيدَ وَالرَّصَاصَ وَالنُّحَاسَ تَنُوبُ مَنَابَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حِفْظِ الْمَائِعَاتِ عَنْ أَنْ تَتَبَدَّدَ وَإِنَّمَا الْأَوَانِي لِحِفْظِ الْمَائِعَاتِ، وَلَا يَكْفِي الْخَزَفُ وَالْحَدِيدُ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ النُّقُودُ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ

لَهُ هَذَا انْكَشَفَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ لَهُ: مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَكَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. وَكُلُّ مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الرِّبَا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَظَلَمَ ; لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِغَيْرِهِمَا لَا لِنَفْسِهِمَا، إِذْ لَا غَرَضَ فِي عَيْنِهِمَا فَإِذَا اتَّجَرَ فِي عَيْنِهِمَا فَقَدِ اتَّخَذَهُمَا مَقْصُودًا عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ ; إِذْ طَلَبُ النَّقْدِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ظُلْمٌ، وَمَنْ مَعَهُ ثَوْبٌ وَلَا نَقْدَ مَعَهُ فَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ طَعَامًا وَدَابَّةً، إِذْ لَا يُبَاعُ الطَّعَامُ وَالدَّابَّةُ بِالثَّوْبِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي بَيْعِهِ بِنَقْدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ النَّقْدُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُمَا وَسِيلَتَانِ إِلَى الْغَيْرِ لَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَمَوْقِعُهُمَا فِي الْأَمْوَالِ كَمَوْقِعِ الْحَرْفِ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى فِي غَيْرِهِ، وَكَمَوْقِعِ الْمِرْآةِ مِنَ الْأَلْوَانِ، فَأَمَّا مَنْ مَعَهُ نَقْدٌ فَلَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ فَيَتَّخِذَ التَّعَامُلَ عَلَى النَّقْدِ غَايَةَ عَمَلِهِ لَبَقِيَ النَّقْدُ مُتَقَيِّدًا عِنْدَهُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ الْمَكْنُوزُ. وَتَقْيِيدُ الْحَاكِمِ وَالْبَرِيدِ الْمُوصِلِ إِلَى الْغَيْرِ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ حَبْسَهُ ظُلْمٌ، فَلَا مَعْنَى لِبَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ إِلَّا اتِّخَاذُ النَّقْدِ مَقْصُودًا لِلِادِّخَارِ وَهُوَ ظُلْمٌ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَيَلِيهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ أَنْوَاعِ الرِّبَا كُلِّهَا. مَنْ تَدَبَّرَ مَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ عَلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُوَافِقُ لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ الْمُنْطَبِقُ عَلَى قَوَاعِدِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ لِلْأَخْلَاقِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، زَادَتْ فِي أَطْمَاعِ النَّاسِ وَجَعَلَتْهُمْ مَادِّيِّينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمَالِ وَكَادَتْ تُحْصَرُ ثَرْوَةُ الْبَشَرِ فِي أَفْرَادٍ مِنْهُمْ وَتَجْعَلُ بَقِيَّةَ النَّاسِ عَالَةً عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ يُنْكِرُونَ مِنْ دِينِهِمْ تَحْرِيمَ الرِّبَا بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ فَسَيَجِيءُ يَوْمٌ يُقِرُّ فِيهِ الْمَفْتُونُونَ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ هُوَ النِّظَامُ الَّذِي لَا تَتِمُّ سَعَادَةُ الْبَشَرِ فِي دُنْيَاهُمْ - فَضْلًا عَنْ آخِرَتِهِمْ - إِلَّا بِهِ، يَوْمَ يَفُوزُ الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي الْمَمَالِكِ الْأُورُبِّيَّةِ وَيَهْدِمُونَ أَكْثَرَ دَعَائِمِ هَذِهِ الْأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيُرْغِمُونَ أُنُوفَ الْمُحْتَكِرِينَ لِلْأَمْوَالِ وَيُلْزِمُونَهُمْ بِرِعَايَةِ حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ وَالْعُمَّالِ. (الرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا ثَبَتَ بِرِوَايَاتِ الْآحَادِ وَأَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ ضَرُورِيَّةٌ، فَإِنَّ مَنْ يَجْحَدْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَمَنْ يَجْحَدْ غَيْرَهُ يُنْظَرْ فِي عُذْرِهِ، فَمَا مِنْ إِمَامٍ مُجْتَهِدٍ إِلَّا وَقَدْ قَالَ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، لِأَسْبَابٍ يُعْذَرُ بِهَا وَتَبِعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُعِدُّ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، حَتَّى مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّقْلِيدِ، فَمَا بَالُكَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْأَقْوَالِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْيِسَتُهُمْ.

وَقَدْ فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْلُ الرِّبَا مَعَ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَأَكْثَرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا فِيهِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا قَالَ فُقَهَاءُ مَذَاهِبِهِمْ أَنَّهُ مِنْهُ حَتَّى بَيْعَ الْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ بِجُنَيْهَاتٍ يَزِيدُ وَزْنُهَا عَلَى وَزْنِهِ لِمَكَانِ الصَّنْعَةِ فِي الْحُلِيِّ. وَبَعْضُ الْعُقُودِ الَّتِي يَعُدُّهَا الْفُقَهَاءُ فَاسِدَةً أَوْ بَاطِلَةً، وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يَتَحَامَى كُلَّ مَا عَدَّهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّبَا، وَلَعَلَّهُ يَنْدُرُ فِي الْفُقَهَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَنْ يُطَبِّقُ شِرَاءَ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، كَأَنْ يَشْتَرِي مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ بِفَضَّةٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ يَدًا بِيَدٍ فِيهِمَا، أَوْ يَتَّخِذُ لِذَلِكَ حِيلَةً فِقْهِيَّةً فَالنَّاسُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ أَوْ كَانَ وَعِيدُهُ دُونَ وَعِيدِهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِهِ وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ كَانَتْ لِلْمُرَابِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، أَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَالِ لِأَجْلِ الْإِنْسَاءِ، أَيِ التَّأْخِيرِ فِي أَجَلِ الدِّينِ. فَكَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يَخْتَلِفُ سَبَبُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَوْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينِ مَالٌ يَفِي بِهِ؛ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يُنْسِئَ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَيَزِيدَ فِي الْمَالِ، وَكَانَ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَهَذَا مَا وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يُحَرَّمْ فِيهِ سِوَاهُ، وَقَدْ وَصَفَهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي جَاءَتْ دُونَ غَيْرِهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [3:130] وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَهُوَ تَحْرِيمٌ لِرِبًا مَخْصُوصٍ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا الْآيَاتِ، يُحْمَلُ الرِّبَا فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي النَّهْيِ الْأَوَّلِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَوِفَاقًا لِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدْعَمُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِالصَّدَقَةِ حَيْثُ ذُكِرَ وَتَسْمِيَتُهُ ظُلْمًا، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ - وَهُوَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَعْلَمُهُمْ بِالرِّوَايَةِ - رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا هُوَ أَشَدُّهُمْ ضَرَرًا وَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ فِي قَوَانِينِ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دِينَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ. وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدَمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ،

تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافَعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ عَلَيْهِ لِأَخِيهِ. فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَآذَنَ مَنْ لَمْ يَدَعْهُ بِحَرْبِ اللهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ. وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي كَبِيرَةٍ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ، وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولَ لَهُ: أَتَقْتَضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرِّبَا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَالْمُرَابِي ضِدُّ الْمُتَصَدِّقِ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَقَالَ: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [30:39] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [3:130، 131] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [3:134] وَهَؤُلَاءِ ضِدُّ الْمُرَابِينَ. فَنَهَى - سُبْحَانَهُ - عَنِ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَمِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ، وَأَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا هُوَ النَّسِيئَةُ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [8:2] إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [8:4] وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللهَ " انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي الرِّبَا الْجَلِيِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَأَوْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصْلًا فِي رِبَا الْفَضْلِ - الَّذِي حُرِّمَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ - وَهُوَ: أَنْ يَبِيعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَذَكَرَ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ. أَقُولُ: فَهَذَا الرِّبَا الَّذِي سَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقِيَمِ بِالرِّبَا الْجَلِيِّ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِنَّهُ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، الْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: هُوَ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي كَانُوا يُضَاعِفُونَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ وَفَاءً بِتَوَالِي الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ، هُوَ هُوَ مُخَرِّبُ الْبُيُوتِ، وَمُزِيلُ الرَّحْمَةِ مِنَ الْقُلُوبِ، وَمُوَلِّدُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَمَا مَعْنَى حَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا فِيهِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الرِّبَا الَّذِي تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهَلْ يَسْمَحُ لِعَاقِلٍ عَقْلُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ تَحْرِيمَ هَذَا الرِّبَا ضَارٌّ بِالنَّاسِ أَوْ عَائِقٌ لَهُمْ عَنْ إِنْمَاءِ ثَرْوَتِهِمْ؟ إِذَا كَانَتِ الثَّرْوَةُ لَا تَنْمُو إِلَّا بِتَخْرِيبِ بُيُوتِ الْمَعُوزِينَ لِإِرْضَاءِ نُهْمَةِ الطَّامِعِينَ فَلَا كَانَ بَشَرٌ يَسْتَحْسِنُ إِنْمَاءَ هَذِهِ الثَّرْوَةِ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ - كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - شِرَاءُ أَسْوِرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ بِجُنَيْهَاتٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا وَزْنًا، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُقَابَلَةِ صَنْعَةِ الصَّانِعِ وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ أَعْظَمَ مِنْ قِيمَةِ مَادَّةِ الْمَصْنُوعِ. فَإِنَّهُ لَا نَسِيئَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، بَلْ وَلَا رِبًا لَا مُقَابِلَ لَهُ لِيَكُونَ بَاطِلًا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا ظُلْمَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَنْ يُعْطِي آخَرَ مَالًا يَسْتَغِلُّهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ كَسْبِهِ حَظًّا مُعَيَّنًا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِ الْحَظِّ مُعَيَّنًا - قَلَّ الرِّبْحُ أَوْ كَثُرَ - لَا يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا الْجَلِيِّ الْمُرَكَّبِ الْمُخَرِّبِ لِلْبُيُوتِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَافِعَةٌ لِلْعَامِلِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ مَعًا، وَذَلِكَ الرِّبَا ضَارٌّ بِوَاحِدٍ بِلَا ذَنْبٍ غَيْرَ الِاضْطِرَارِ، وَنَافِعٌ لِآخَرَ بِلَا عَمَلٍ سِوَى الْقَسْوَةِ وَالطَّمَعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي عَدْلِ اللهِ وَاحِدًا، بَلْ لَا يَقُولُ عَادِلٌ وَلَا عَاقِلٌ مِنَ الْبَشَرِ: إِنَّ النَّافِعَ يُقَاسُ عَلَى الضَّارِّ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا. إِنْ كَانَ شِرَاءُ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَهَذَا التَّعَامُلُ مِنَ الرِّبَا الْخَفِيِّ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي عُمُومِ رِوَايَاتِ الْآحَادِ فِي بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ لَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ مِنَ الرِّبَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُكَفِّرَ مُنْكِرَ حُرْمَتِهِ وَنَحْكُمَ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ وَنُحَرِّمَ دَفْنَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَتَأَمَّلِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِقْدَارَ الْحَرَجِ إِذَا حَكَمُوا بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَرَى حِلْيَةً مِنَ الذَّهَبِ بِنَقْدٍ مِنْهُ وَحِلْيَةً مِنَ الْفِضَّةِ بِنَقْدٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّقْدُ غَيْرَ مُسَاوٍ لِلْحُلِيِّ فِي الْوَزْنِ أَوْ أَجْمَلَ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، وَمُرْتَكِبٌ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ. وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْصُوصِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا. وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ فَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْحُجَّةَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ. وَمِمَّا قَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا حَرَّمَهُ اللهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لَا لِذَاتِهِ وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ (رَاجِعْ ص 203 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) . وَمِمَّنْ جَوَّزُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ رِبَا الْفَضْلِ مُطْلَقًا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَوْ كَانَ رِبَا الْفَضْلِ كَرِبَا النَّسِيئَةِ لَمْ يَقَعْ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَالْغَرَضُ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنْ نَفْهَمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَا حَرَّمَ الْقُرْآنُ مِنَ الرِّبَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ وَأَنْ نَفْهَمَ حِكْمَتَهُ وَانْطِبَاقَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَمُوَافَقَتَهُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ،

وَكَوْنَهُ لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي رِوَايَاتِ الْآحَادِ وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فَلَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَوْضِعٍ لِبَيَانِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ وَكَلَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَلَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقِيَمِ نُتَفٌ تُشْعِرُ بِحِكْمَةِ بَعْضِهِ وَلْيُطْلَبْ تَعْلِيلُ بَاقِيهِ مِنْ كَلَامِ الْأَخِيرَيْنِ مَنْ شَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي وُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَا قَبْلَهُمَا صَفْوَةَ مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مُوَضِّحًا وَنَذْكُرُ صَفْوَةَ مَا قَالَهُ كَذَلِكَ: الْكَلَامُ فِي الْأَمْوَالِ بَدَأَ بِالتَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَذَلِكَ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَثَنَّى بِالنَّهْيِ عَنِ الرِّبَا الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْقَسَاوَةِ ثُمَّ جَاءَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالتِّجَارَةِ وَالرَّهْنِ أَقُولُ: وَهِيَ مَحْضُ الْعَدَالَةِ فَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ بِبَذْلِ الْمَالِ حَيْثُ يَنْبَغِي الْبَذْلُ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ، وَبِتَرْكِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي التَّرْكُ وَهُوَ الرِّبَا، وَبِتَأْخِيرِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي التَّأْخِيرُ وَهُوَ إِنْظَارُ الْمُعْسِرِ، وَبِحِفْظِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي الْحِفْظُ وَهُوَ كِتَابَةُ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرِ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ يَضِيعُ مَالُهُ بِإِهْمَالِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَا مَأْجُورًا عِنْدَ اللهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ الرِّضْوَانَ فِي الْمَغْبُونِ بِالْبَيْعِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمَّا كَانَتْ سُلْطَةُ صَاحِبِ الرِّبَا قَدْ زَالَتْ بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا رَأْسُ الْمَالِ وَقَدْ أُمِرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ فِيهِ، وَكَانَ لَا بُدَّ لِحِفْظِهِ مِنْ كِتَابَتِهِ إِذْ رُبَّمَا يَخْشَى ضَيَاعَهُ بِالْإِنْظَارِ إِلَى الْأَجَلِ، جَاءَ بَعْدَ أَحْكَامِ الرِّبَا بِأَحْكَامِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَلَهُ الْحَقُّ -: إِنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ طَلَبُ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ ثُمَّ حُكْمُ الرِّبَا الَّذِي يُنَاقِضُ الصَّدَقَةَ ثُمَّ جَاءَ هُنَا بِمَا يَحْفَظُ الْمَالَ الْحَلَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَسْبٍ يُنَمِّي مَالَهُ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الضَّيَاعِ لِيَتَسَنَّى لَهُ الْقِيَامُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يُضْطَرُّ بِالْفَاقَةِ إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ فِي دِينِ اللهِ، وَلَا مُبْغَضًا عِنْدَهُ - تَعَالَى - عَلَى الْإِطْلَاقِ ; كَيْفَ وَقَدْ شَرَعَ لَنَا الْكَسْبَ الْحَلَالَ، وَهَدَانَا إِلَى حِفْظِ الْمَالِ وَعَدَمِ تَضْيِيعِهِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الطُّرُقِ النَّافِعَةِ فِي إِنْفَاقِهِ بِأَنْ نَسْتَعْمِلَ عُقُولَنَا فِي تَعَرُّفِهَا، وَنُوَجِّهَ إِرَادَتَنَا إِلَى الْعَمَلِ بِخَيْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْهَا، فَفِي آيَةِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ - احْتِرَاسٌ أَوِ اسْتِدْرَاكٌ مُزِيلٌ مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ وَحِفْظَهُ مَذْمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ بَعْضِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَأْمُرُكُمْ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَإِهْمَالِهِ، وَلَا بِتَرْكِ اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، إِنَّمَا نَأْمُرُكُمْ بِأَنْ تَكْسِبُوهُ مِنْ طُرُقِ الْحِلِّ، وَتُنْفِقُوا مِنْهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا [8:4] ، أَيْ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُكُمْ وَمَصَالِحُكُمْ. وَحَدِيثُ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلْمَالِ، يَبْخَلُ بِهِ وَيَجْمَعُهُ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا أَنَّ إِزَالَةَ هَذَا الْوَهْمِ مَقْصُودَةٌ لَمَا جَاءَتْ آيَةُ الدَّيْنِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ

وَالتَّأْكِيدِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُعْهَدُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيجَازِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ عَدَّ الْقَفَّالُ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ فِي الْآيَةِ فَبَلَغَتْ تِسْعَةً. أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَمْرًا وَنَهْيًا. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا آخَرَ لِلِاتِّصَالِ فِي النَّظْمِ عَزَاهُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ " قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِتَحْصِيلِ مِثْلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا ". اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً كَرِبَا النَّسِيئَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مَعَ إِبَاحَةِ السَّلَمِ فَائِدَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِي أُمُورِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَعَايِشِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِذْ قَدْ فَهِمْتَ وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا فَهَاكَ تَفْسِيرَهُمَا وَفِيهِمَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ: [1] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ تَدَايَنْتُمْ: دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَى تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ وَبِمَعْنَى تَجَازَيْتُمْ، وَلَمَّا قَالَ بِدَيْنٍ؛ تَعَيَّنَ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ: الْمَالُ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، لَا الْمَصْدَرُ. وَقَدْ حَمَلَ الْمُدَايَنَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّلَفِ (السَّلَمِ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّهُ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَرْضِ وَضَعَّفَهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَمَا فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الضَّعِيفُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الدَّيْنَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْقَرْضَ وَالسَّلَمَ وَبَيْعَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِإِنْهَاءِ شَيْءٍ وَالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ مَثَلًا. بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِجْمَالًا بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا وَمَنْ يَتَوَلَّاهَا فَقَالَ: [2] وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ أَيْ لِيَكُنْ فِيكُمْ كَاتِبٌ لِلدُّيُونِ عَادِلٌ فِي كِتَابَتِهِ يُسَاوِي بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِهِمَا فَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يَمِيلُ عَنِ الْآخَرِ فَيَبْخَسُهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَاكْتُبُوهُ أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُتَعَامِلِينَ، وَفِيهِمُ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ; وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْكَاتِبِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ الْحُقُوقَ ; لِأَنَّ الْكَاتِبَ الْجَاهِلَ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الشُّرُوطِ أَوْ يَزِيدُ فِيهَا أَوْ يُبْهِمُ فِي الْكِتَابَةِ بِجَهْلِهِ فَيَلْتَبِسُ بِذَلِكَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَضِيعُ حَقُّ أَحَدِ الْمُتَعَامِلِينَ، كَمَا يَضِيعُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْإِبْهَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَادِلًا، وَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ. أَقُولُ: وَقَدْ يُغْنِي عَنْ أَخْذِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ - قَوْلُهُ:

-[3] وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللهِ إِيَّاهُ لَيْسَ خَاصًّا بِصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، بَلْ هُوَ يَعُمُّ مَا وَفَّقَهُ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْفِقَهِ فِيهَا فَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ ضَمَانًا تَامًّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَالِمًا بِمَا يَجِبُ عِلْمُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالشُّرُوطِ الْمَرْعِيَّةِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَكَانَ عَادِلًا مُسْتَقِيمًا لَا غَرَضَ لَهُ إِلَّا بَيَانُ الْحَقِّ، كَمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ صِفَةَ الْعَدَالَةِ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَنْبَغِي لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تَهْدِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ عَالِمًا غَيْرَ عَدْلٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ لَا يَهْدِيهِ إِلَى الْعَدَالَةِ. قَلَّمَا يَقَعُ فَسَادٌ مِنْ عَدْلٍ نَاقِصِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ الْفَسَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَاقِدِينَ لِمَلِكَةِ الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَاتِبَ الْعُقُودِ وَالْوَثَائِقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْكَمَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَخُطُّ بِالْقَلَمِ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاضِيَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَقَالَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكَاتِبِ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِتِلْكَ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ إِلَى نِظَامٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَاتِبُ الدُّيُونِ عَادِلًا عَارِفًا بِالْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ فِيهَا حَتَّى لَا يَقَعَ التَّنَازُعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْتُبُهُ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ فِيهِمْ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُتَّابِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِإِيجَادِ الْمُقْتَدِرِينَ عَلَى كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ: الْعُقُودَ الرَّسْمِيَّةَ، وَيَتَحَتَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْكَاتِبَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - وَإِنْ كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ - لِئَلَّا يُغَالِطَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يَغُشَّهُ وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ، فَإِنَّ لِلْعُقُودِ الرَّسْمِيَّةِ كُتَّابًا يَخْتَصُّونَ بِهَا. أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِبَاءِ عَنِ الْكِتَابَةِ، بَلْ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا صَرِيحًا فَقَالَ: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ أَهْلِ الْأُصُولُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ غَرِيبٌ فِي نَظَرِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا. [4] وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَيْ وَلْيُلْقِ عَلَى الْكَاتِبِ مَا يَكْتُبُهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ، لِيَكُونَ إِمْلَالُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ تُبَيِّنُهَا الْكِتَابَةُ وَتَحْفَظُهَا. وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: أَمَلَّ عَلَى الْكَاتِبِ وَأَمْلَى عَلَيْهِ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ اللَّامُ. وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَالِهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ كَامِلًا وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا مَا، وَإِنْ قَلَّ. أَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَقْوَى اللهِ فِي إِمْلَالِهِ عَلَى الْكَاتِبِ وَذَكَّرَهُ بِأَنَّ اللهَ رَبَّهُ الَّذِي غَذَّاهُ بِنِعَمِهِ وَسَخَّرَ لَهُ قَلْبَ الدَّائِنِ فَبَذَلَ لَهُ مَالَهُ لِيَحْمِلَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْهِيبِ، وَبِجَمَالِ نِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْغِيبِ عَلَى شُكْرِ اللهِ

بِالِاسْتِقَامَةِ، وَشُكْرِ الدَّائِنِ بِالِاعْتِرَافِ بِحَقِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ يَبْخَسَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَهٌ لِلطَّمَعِ فَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّهُ طَمَعُهُ إِلَى نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوِ الْإِبْهَامِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يُمْلِي عَلَى الْكَاتِبِ تَمْهِيدًا لِلْمُحَاوَلَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالنَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ لِمُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ. [5] فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ذِكْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُظْهَرًا فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ كَمَا قَالُوا، وَفَسَّرَ السَّفِيهَ بِضَعِيفِ الرَّأْيِ، أَيْ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَاجِزُ الْأَحْمَقُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ بِالْإِمْلَالِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدِينِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالضَّعِيفُ: الصَّبِيُّ وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ. وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ وَالْأَلْكَنُ وَالْأَخْرَسُ. وَوَلِيُّ الْإِنْسَانِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ وَيَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَقَدِ اكْتَفَى فِي أَمْرِ الْوَلِيِّ بِالْعَدْلِ كَالْكَاتِبِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ وَلَيُّهُ بِمِثْلِ مَا أُمِرَ وَنُهِيَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا نَفْسِهِ. [6] وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ مِمَّنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَوْ أَشْهِدُوهَا عَلَى ذَلِكَ، فَالشَّهِيدُ مَنْ شَهِدَ الشَّيْءَ وَحَضَرَهُ بِإِمْعَانٍ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَشْهَدَهُ سَأَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ ; أَيْ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْأَمِينِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلَعَلَّ الْوَصْفَ مُنْتَزَعٌ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى الشَّهِيدِ اسْمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ مَعَ الصِّيغَةِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، كَمَا اعْتُبِرَ مِثْلُهُ فِي الْكَاتِبِ وَالْوَلِيِّ، وَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَعْنَى الشَّهِيدِ يَرُدُّ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهِيدَيْنِ مَنْ سَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجَالِكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَشْهِدُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَوْنُ اسْتِشْهَادِ غَيْرِهِمْ لَيْسَ مَشْرُوعًا لَهُمْ أَوْ لَيْسَ جَائِزًا عَمَلًا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ لَا يُعَدُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ إِذَا هُوَ شَهِدَ لَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى شُرُوطٍ فِي الشَّهَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ ; لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65:2] وَجَعَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [5:106] خَاصًّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْئًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَكُلُّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ بَيَّنَهُ، كَالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَيِّنَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللُّغَةِ إِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ بِهَا الْحَقُّ.

[7، 8] فَإِنْ لَمْ يَكُونَا أَيْ مَنْ تَسْتَشْهِدُونَهُمَا رَجُلَيْنِ وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ الضَّمِيرَ لِلشَّاهِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَسْتَشْهِدَانِ أَوْ فَلْيَسْتَشْهِدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَتَقْدِيرُنَا أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ الْجُمْهُورِ الْإِشْهَادَ، وَإِنَّمَا وَافَقُوا اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ وَاتَّبَعْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ قَالُوا: أَيْ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُمْ وَعَدَالَتَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ لِضَعْفِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ ثِقَةِ النَّاسِ بِهَا ; وَلِذَلِكَ وَكَّلَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى رِضَا الْمُسْتَشْهِدِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ جَعْلِ الْمَرْأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أَيْ حَذَّرَ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا أَيْ تُخْطِئُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا وَقِلَّةِ عِنَايَتِهَا فَتُذَكِّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأُخْرَى بِمَا كَانَ، فَتَكُونُ شَهَادَتُهَا مُتَمِّمَةً لِشَهَادَتِهَا ; أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، أَيِ الضَّيَاعِ وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا كَانَ وَقَعَ بِالضَّبْطِ فَاحْتِيجَ إِلَى إِقَامَةِ الثِّنَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُمَا بِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْأُخْرَى تَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا أَعَادَ لَفْظَ (إِحْدَاهُمَا) مُظْهَرًا وَلَيْسَ الْمَعْنَى لِئَلَّا تَنْسَى وَاحِدَةً فَتُذِكِّرَهَا الثَّانِيَةُ، كَمَا فَهِمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ (وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَغْرِبِيُّ) مَعْنَاهُ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ فَتُذَكِّرَهَا بِهَا الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى، فَجَعَلَ إِحْدَى الْأُولَى لِلشَّهَادَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلْمَرْأَةِ، وَأَيَّدَهُ الطَّبَرْسِيُّ بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّهَادَةِ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا؛ لِأَنَّ الضَّلَالَ مَعْنَاهُ الضَّيَاعُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَضِيعُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ضَلُّوا عَنَّا [40: 74] وَمِثْلُهُ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20: 52] وَكَأَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ أَقَرَّهُ عِنْدَ مَا ذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا فِي مَنِ التَّفْكِيكِ، وَبِأَنَّ تَفْسِيرَ الضَّلَالِ بِالنِّسْيَانِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ لُغَةً. أَقُولُ: وَمَا ذَكَرْتُهُ يُغْنِي عَنْ هَذَا. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ فِي وَجْهِ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: (فَتُذَكِّرَهَا) إِلَى قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أَنَّهُ رَأَى فِي طِرَازِ الْمَجَالِسِ أَنَّ الْخَفَاجِيَّ سَأَلَ قَاضِيَ للْقُضَاةِ شِهَابَ الدِّينِ الْغَزْنَوِيَّ عَنْ سِرِّ تَكْرَارِ (إِحْدَى) مُعَرِّضًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمَغْرِبِيُّ فَقَالَ: يَا رَأْسَ أَهْلِ الْعُلُومِ السَّادَةِ الْبَرَرَهْ ... وَمَنْ نَدَاهُ عَلَى كُلِّ الْوَرَى نَشَرَهْ مَا سِرُّ تَكْرَارِ (إِحْدَى) دُونَ (تُذَكِّرَهَا) ... فِي آيَةٍ لَذَوِي الْإِشْهَادِ فِي الْبَقَرَهْ وَظَاهِرُ الْحَالِ إِيجَازُ الضَّمِيرِ عَلَى ... تَكْرَارِ (إِحْدَاهُمَا) لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهْ وَحَمْلُ الِاحْدَى عَلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فِي ... أُولَاهُمَا لَيْسَ مَرْضِيًّا لَدَى الْمَهَرَهْ فَغُصْ بِفِكْرِكَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ ... مِنْ بَحْرِ عِلْمِكَ ثُمَّ ابْعَثْ لَنَا دُرَرَهْ فَأَجَابَ الْقَاضِي يَا مَنْ فَوَائِدُهُ بِالْعِلْمِ مُنْتَشِرَهْ ... وَمَنْ فَضَائِلُهُ بِالْكَوْنِ مُشْتَهِرَهْ يَا مَنْ تَفَرَّدَ فِي كَشْفِ الْعُلُومِ ... لَقَدْ وَافَى سُؤَالُكَ وَالْأَسْرَارُ مُسْتَتِرَهْ "

تَضِلُّ إِحْدَاهُمَا " فَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ ... كِلَيْهِمَا فَهْيَ لِلْإِظْهَارِ مُفْتَقِرَهْ وَلَوْ أَتَى بِضَمِيرٍ كَانَ مُقْتَضِيًا ... تَعْيِينَ وَاحِدَةٍ لِلْحُكْمِ مُعْتَبَرَهْ وَمَنْ رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الْحَلَّ فَهْوَ كَمَا أَشَرْتُمُ ... لَيْسَ مَرْضِيًّا لِمَنْ سَبَرَهْ هَذَا الَّذِي سَمَحَ الذِّهْنُ الْكَلِيلُ بِهِ ... وَاللهُ أَعْلَمُ فِي الْفَحْوَى بِمَا ذَكَرَهْ وَقَدْ عَلَّلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ النِّسَاءِ عُرْضَةً لِلضَّلَالِ أَوِ النِّسْيَانِ بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ الرُّطُوبَةِ فِي أَمْزِجَتِهِنَّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا وَجَعَلُوا سَبَبَهُ الْمِزَاجَ، فَقَالُوا: إِنَّ مِزَاجَ الْمَرْأَةِ يَعْتَرِيهِ الْبَرْدُ فَيَتْبَعُهُ النِّسْيَانُ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٌ، وَالسَّبَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الِاشْتِغَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلِذَلِكَ تَكُونُ ذَاكِرَتُهَا فِيهَا ضَعِيفَةً وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي هِيَ شُغْلُهَا، فَإِنَّهَا فِيهَا أَقْوَى ذَاكِرَةً مِنَ الرَّجُلِ، يَعْنِي أَنَّ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أَنْ يَقْوَى تَذْكُّرُهُمْ لِلْأُمُورِ الَّتِي تَهُمُّهُمْ وَيَكْثُرُ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اشْتِغَالُ بَعْضِ نِسَاءِ الْأَجَانِبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا تُنَاطُ بِالْأَكْثَرِ فِي الْأَشْيَاءِ وَبِالْأَصْلِ فِيهَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَرَكَتْ إِحْدَاهُمَا شَيْئًا مِنَ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ نَسِيَتْهُ أَوْ ضَلَّ عَنْهَا تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى وَتُتِمُّ شَهَادَتَهَا، وَلِلْقَاضِي بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ إِحْدَاهُمَا بِحُضُورِ الْأُخْرَى وَيَعْتَدَّ بِجُزْءِ الشَّهَادَةِ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَبِبَاقِيهَا مِنَ الْأُخْرَى، قَالَ: هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَإِنْ كَانَ الْقُضَاةُ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قَصَّرَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ نَسِيَ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُذَكِّرَهُ، وَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً، يَعْنِي إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ غَيْرَ كَافِيَةٍ لِبَيَانِهِ فَإِنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ وَحْدَهَا وَإِنْ بَيَّنَتْ. [9] وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْبَيْعِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْقَوْمِ الْكَثِيرِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَالشُّهَدَاءُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ مَا يَأْتِي مِنَ النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْإِطْلَاقِ الشَّامِلِ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا وَأَدَاءً مُحَرَّمٌ، وَأَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ بِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ يَقُومُ بِهِ. [10] وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ أَيْ لَا تَمَلُّوا أَوْ تَضْجَرُوا أَوْ لَا تَكْسَلُوا مِنْ كِتَابَةِ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مُبَيَّنًا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِهِ الْمُسَمَّى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ يُعْمَلُ بِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي

تُعْتَبَرُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شَرْطِهَا، أَقُولُ: وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ ذِكْرُ الصَّغِيرِ الَّذِي يَتَهَاوَنُ فِيهِ النَّاسُ لِعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِضَيَاعِهِ، وَمَنْ لَا يَحْرِصُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْقَلِيلِ أَنْ يَضِيعَ فَقَلَّمَا يُتْقِنُ حِفْظَ الْكَبِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى عَدَمِ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُقُوقِ أَنْ يَذْهَبَ سُدًى، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الِاقْتِصَادِ، وَالْعَمَلُ بِهَا آيَةُ الْكِيَاسَةِ وَالْعَقْلِ، وَكَمْ مِنْ حَرِيصٍ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدَّانَقِ يَجُودُ بِالدَّنَانِيرِ وَالْبَدْرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا الْوَاحِدِ مِنْهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ، وَعِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِشْهَادِ وَقِيلَ: لِلْكِتَابِ ; أَيِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْسَطَ عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ أَعْدَلُ فِي حُكْمِهِ، أَيْ أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْعَامِلِينَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ أَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَطْلُبَ وَثِيقَةَ الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ لِيَتَذَكَّرَ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَقُومَ لِلشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابَةِ حَتْمًا وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمْلَاءِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا مَعْنَاهُ وَأَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ ارْتِيَابِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِيَاطَ فِي كِتَابَةِ الْحُقُوقِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَتَقْوَى اللهِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْمُتَعَامِلِينَ وَالْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ يَمْنَعُ كُلَّ رِيبَةٍ وَكُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِارْتِيَابِ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَدَاوَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الرَّيْبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَأَجَلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِنَا، وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَالِثَةٌ لِلْكِتَابَةِ تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِالْأَخْذِ بِهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَجَعْلِهَا مُذَكِّرَةً لِلشُّهُودِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا إِذَا اسْتَوْفَيَتْ شُرُوطَهَا. [11] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا قَرَأَ عَاصِمٌ تِجَارَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ: الْإِشْهَادُ، وَقِيلَ هُمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، أَوْ إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدَارُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بِالتَّعَاطِي بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ كِتَابَتِهَا وَلَا إِثْمَ ; إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الِارْتِيَابِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ

أَقُولُ: وَفِي نَفْيِ الْجُنَاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهُوَ إِرْشَادٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ ضَبْطِ الْإِنْسَانِ لِمَالِهِ وَإِحْصَائِهِ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَمَالِ الْمَدَنِيِّ وَمِنْ أَسْبَابِ ارْتِقَاءِ أُمُورِ الْكَسْبِ وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَقِينَ فِي الْمَدَنِيَّةِ، وَالتَّرْخِيصُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ كِتَابَةِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. [12] وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا التَّبَايُعُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْكَالِئِ يَسْتَلْزِمُ الدَّيْنَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ لَازِمٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُجَاحِدِينَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْمُجَاحَدَةِ أَنْ تَحْصُلَ عَنْ قَرِيبٍ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ لِتَلَافِي مَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنْهَا، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ فَرُبَّمَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَطُولُ زَمَنُهَا لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بَعِيدًا؛ فَلِهَذَا وَجَبَتْ كِتَابَتُهَا وَشُرِعَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِالْكِتَابَةِ. [13] وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ لَفْظُ " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَدْ قَرَءُوا بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. فَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الثَّانِي. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرًا لَا قِرَاءَةً، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ نَهْيُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ أَنْ يَضُرَّا أَحَدَ الْمُتَعَامِلِينَ بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ أَوْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الثَّانِي نَهْيُ الْمُتَعَامِلِينَ عَنْ ضَرِّ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّهِيدِ بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا فَيُكَلَّفَانِ تَرْكَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجِيءُ الْكَاتِبَ فَيَقُولُ: " اكْتُبْ لِي " فَيَعْتَذِرُ بِعُذْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَكْتُبَ فَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُضَارُّ فَنَزَلَتْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا إِلَّا إِذَا كَانَ نُزُولُ هَذَا النَّهْيِ مُتَرَاخِيًا عَنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَقْوَى مِنْهَا فِي تَأْيِيدِهِ: مَا قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْكَاتِبِ وَالشُّهَدَاءِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَضَارَّةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَعَامِلُونَ بِعَدَمِ مَضَارَّةِ الْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ بِإِلْزَامِهِمْ بِتَرْكِ مَنَافِعِهِمْ لِأَجْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ بِتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّهْيِ أَنَّهُ عَنْ مَضَارَّةِ الْمُتَعَامِلِينَ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى إِعْطَائِهِمَا أُجْرَةً مَا يَحْمِلَانِ مِنَ الْكُلْفَةِ لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِـ " يُضَارَّ " الْبِنَاءُ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَاسْتُعْمِلَ " يُضَارَّ " الدَّالُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ضُرَّ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ ضُرٌّ لِنَفْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ خُرُوجٌ بِكُمْ عَنْ حُدُودِ طَاعَةِ اللهِ -

تَعَالَى - إِلَى مَعْصِيَتِهِ وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ) إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِسْقُ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُعِينُ النَّفْسَ عَلَى الِامْتِثَالِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيِ اتَّقَوُا اللهَ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ مَا فِيهِ قِيَامُ مَصَالِحِكُمْ وَحِفْظُ أَمْوَالِكُمْ وَتَقْوِيَةُ رَابِطَتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا شَرَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَشْرَعُهُ عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ بِأَسْبَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لِمَنِ اتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَكُرِّرَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ لِكَمَالِ التَّذْكِيرِ وَقُوَّةِ التَّأْثِيرِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ اللهِ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ لِاسْتِقْلَالِهَا، فَإِنَّ الْأُولَى حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ وَعْدٌ بِإِنْعَامِهِ، وَالثَّالِثَةُ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا مَبْنَيٌّ عَلَى أَنِ الثَّانِيَةَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ أَنَّ التَّقْوَى تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ وَتِلَاوَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ تُثْمِرُ لَهُمُ الْعُلُومَ الْآلِهِيَّةَ وَعِلْمَ النَّفْسِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ بِدُونِ تَعَلُّمٍ. وَهَذَا الزَّعْمُ فَتَحَ لِلْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ الصَّلَاحِ دَعْوَى الْعِلْمِ بِاللهِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْعَامَّةُ تُسَلِّمُ لَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَتُصَدِّقُ قَوْلَهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَعْلِيمَهُمْ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ هَذَا بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ. وَيُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ سِيبَوَيْهِ وَلَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَطْفَ يُعَلِّمُكُمْ عَلَى اتَّقُوا اللهَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لَهُ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَلَوْ قَالَ " يُعَلِّمْكُمْ " بِالْجَزْمِ لَكَانَ مُفِيدًا لَمَا قَالُوهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْمُسَبَّبِ سَبَبًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا وَالنَّتِيجَةِ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَعْقُولَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ التَّقْوَى، فَلَا تَقْوَى بِلَا عِلْمٍ فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمِعْوَلُ. وَبَعْدَ أَنْ أَطَالَ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الْعِلْمِ فِي الْإِرَادَةِ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصَرْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ - وَتِلْكَ هِيَ التَّقْوَى - قَالَ: إِنَّنَا لَا نُنْكِرُ الْعِلْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَدُنِّيًّا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِذَلِكَ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهْلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْعِلْمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَمَلَ بِهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ قَدْ يَصْرِفُ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُخْلِصَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - حَتَّى يَكُونَ كَالْمُنْفَصِلِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ عَنِ الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ إِشْرَافٌ عَلَى مَا لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ يَعْنِي مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّحَقُّقِ بِبَعْضِ الْمَعَارِفِ الْغَيْبِيَّةِ، فَيَعْلَمُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ الْآخِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ نَاظِرٍ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ فِي الْكِتَابِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يَدَّعِيهِ أَعْوَانُ الْجَهْلِ وَأَعْدَاءُ الْعِلْمِ!

وَأَقُولُ: إِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا بِمَعْنَى مَا قَالُوهُ هُنَا وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [8: 29] الْآيَةَ وَهُوَ غَلَطٌ. فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَثَرِ الْفُرْقَانَ هُنَا بِالْمَخْرَجِ، فَالشَّرْطِيَّةُ عِنْدَهُ كَالشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [65: 2] وَبَعْضُهُمْ بِالنَّجَاةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالنَّصْرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وَاقِعَةِ بَدْرٍ، وَكَانُوا فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ كَانَ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَا نُصِرُوا عَلَى قِلَّتِهِمْ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ الَّتِي جَمَعَتْ كَلِمَتَهُمْ وَقَوَّتْ عَزِيمَتَهُمْ. وَالتَّقْوَى تَكُونُ سَبَبَ الْفُرْقَانِ وَالْمَخْرَجِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ وَالْخُذْلَانِ فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ ; وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ الْمَخْرَجُ فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ - وَهِيَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ - بِمَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ فِي مَقَامِ الْمُدَافِعَةِ وَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَأَهْلِهَا. هَذَا وَإِنَّ الْفُرْقَانِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصُّبْحُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْحِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تُعْطِي صَاحِبَهَا نُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ دَقَائِقِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ تُفِيدُهُ عِلْمًا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهِ لَوْلَاهَا. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّلْقِينِ كَالشَّرْعِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ مَا لَا تَتَحَقَّقُ التَّقْوَى بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ - فِعْلًا وَتَرْكًا - بِعِلْمٍ، فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى وَسَبَبُهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ". وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهَا وَثَمَرَتُهَا هُوَ مَا تَفْطَنُ لَهُ النَّفْسُ بَعْدُ فَيُفِيدُهَا الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا مُبْهَمًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِذَا عُمِلَ بِهِ صَارَ مُفَصَّلًا جَلِيًّا رَاسِخًا تَتَبَيَّنُ بِهِ الدَّقَائِقُ وَالْخَفَايَا. وَبِذَلِكَ تَفْطَنُ نَفْسُ الْعَامِلِ إِلَى مَسَائِلَ أُخْرَى تَطْلُبُهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهَا كَمَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: " وَمَنْ تَعَلَّمَ فَعَمِلَ عَلَّمَهُ اللهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْوَى عَمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ

لَا بُدَّ أَنْ يُؤْخَذَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلَقِّي، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَزِيدِ فِيهِ وَخُرُوجِهِ مِنْ مَضِيقِ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ إِلَى فَضَاءِ الْجَلَاءِ وَالتَّفْصِيلِ، فَهِمْتَ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَدْعِيَاءَ التَّصَوُّفِ الْجَاهِلِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَثَرُهُ وَلَا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى جَمِيعًا، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مَرْحَلَتَانِ بَعِيدَتَانِ: الْعِلْمُ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالتَّلَقِّي وَالتَّقْوَى بِالْعَمَلِ بِهِ. [14] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " فَرُهُنٌ " كَسُقُفٍ - بِضَمَّتَيْنِ - وَالْبَاقُونَ " فَرِهَانٌ " كَحِبَالٍ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى مَرْهُونٍ. وَلَيْسَ تَعْلِيقُ مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِالسَّفَرِ وَعَدَمِ وُجُودِ كَاتِبٍ يَكْتُبُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِاشْتِرَاطِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ لِعُذْرٍ، وَكَوْنِ الرَّهْنِ يَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابَةِ فِي الِاسْتِيثَاقِ عِنْدَ تَيَسُّرِهَا كَمَا يَكُونُ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَإِلَّا فَقَدَ رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعَهُ فِي الْمَدِينَةِ لِيَهُودِيٍّ. وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي جَعْلِ عَدَمِ وُجْدَانِ الْكَاتِبِ مُقَيَّدًا بِحَالِ السَّفَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ خُلُوًّا مِنَ الْكُتَّابِ، وَالْكِتَابَةُ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِيمَانُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ، وَنَاهِيكَ بِالْفَرِيضَةِ إِذَا أُكِّدَتْ كَالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُوهَا، بَلْ لَا يُفْرَضُ أَنْ يُخَالِفُوهَا وَأَلَّا يُوجَدَ الْكُتَّابُ عِنْدَهُمْ إِلَّا حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنَ الْعِبَارَةِ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ. [15] فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ قَيَّدَ الضَّحَّاكُ جَوَازَ الِائْتِمَانِ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَهُ فِي الْإِقَامَةِ حَيْثُ يَجِبُ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكُتَّابِ وَالْإِشْهَادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فَلَا يُعْقَلُ نَسْخُ حُكْمٍ فِيهِمَا قَدْ أُكِّدَ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ بِحُكْمٍ آخَرَ ذُكِرَ مُعَلَّقًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْوُقُوعَ وَهِيَ " إِنَّ " وَعِنْدِي أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْوَدِيعَةَ وَغَيْرَهَا. فَالْمَعْنَى: إِنِ اتَّفَقَ أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمُ ائْتَمَنَ آخَرَ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَى الْمُؤْتَمَنِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ، وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فَلَا يَتَخَوَّنُ مِنَ الْأَمَانَةِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ بِهَا وَلَا شَهِيدَ ; فَإِنَّ اللهَ رَبَّهُ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُتَّقَى وَيُطَاعَ. [16] وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ إِبَاءِ تَحَمُّلِهَا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا تَأْكِيدٌ كَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْكَاتِبِ بِأَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الْإِبَاءِ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ الْكُتَّابَ وَالشُّهُودَ بِأَنْ يُعِينُوا النَّاسَ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ

أَنْ يُضَارُّوهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْجَمِيعِ، وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُدْرِكُ الْوَقَائِعَ الَّتِي شَهِدَ بِهَا وَيَعِيهَا هُوَ الْقَلْبَ وَهُوَ لُبُّ الْإِنْسَانِ وَآلَةُ عَقْلِهِ وَشُعُورِهِ كَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ ذَلِكَ فِيهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ هُوَ الْآثِمَ أَيْ هُوَ مَوْضِعُ الْإِثْمِ فِي هَذَا الْكِتْمَانِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَصْدَرُ كُلِّ إِثْمٍ، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا يَزْعُمُهُ الْجَاهِلُونَ مِنْ أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَحَرَكَاتِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ. وَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [17: 36] إِلَّا؛ لِأَنَّ لِلْفُؤَادِ أَيِ الْقَلْبُ، أَوِ النَّفْسُ أَعْمَالًا خَاصَّةً بِهِ وَأَعْمَالًا يَزْعَجُ الْجَوَارِحُ إِلَيْهَا، فَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ وَأُسْنِدَ الْبَاقِي إِلَى مَظْهَرِهِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى. وَمِنْ آثَامِ الْقَلْبِ سُوءُ الْقَصْدِ وَفَسَادُ النِّيَّةِ وَهِيَ شَرُّ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْرُوفِ كَمَا يُؤَاخَذُ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ لِلنَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَتْمِ وَالْكِتْمَانِ فِي مِثْلِ الشَّهَادَةِ، وَبِالْكَفِّ فِي غَيْرِهَا، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ فَكُلُّ ذَلِكَ يُعَدُّ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلًا وَعَمَلًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَفِي هَذَا مِنَ الْوَعِيدِ مَا مَرَّ بَيَانُ مِثْلِهِ. هَذَا وَإِنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآيَتَيْنِ - عَلَى كَوْنِهَا أَظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ مَعْنًى وَعِلَّةً وَحِكْمَةً - قَدْ وَقَعَ فِيهِمَا خِلَافٌ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ، وَقَدْ بَسَطَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ كِتَابَةِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَكَدْ يَزِيدُ عَلَى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ شَيْئًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا اخْتُلِفَ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَيَانِ رَأْيِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ لِلنَّدْبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فَإِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ. وَالثَّانِي: كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْكِتَابَةَ وَالِاسْتِشْهَادَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، بَلْ كَانُوا يَأْتُونَهُ تَارَةً وَيَتْرُكُونَهُ تَارَةً، وَلَوْ فَهِمُوا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَالْتَزَمُوهُ. أَقُولُ: وَجَعَلَ الرَّازِيُّ هَذَا التَّرْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ إِجْمَاعًا وَمَا هُوَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ حَرَجًا وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ. وَذَهَبَ أَقْوَامٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَتَابَعَتِ الْأَوَامِرُ فِي الْآيَةِ وَتَأَكَّدَتْ حَتَّى فِي حَالِ السَّفَهِ وَالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَقَدْ أُمِرَ وَلِيُّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُمْلِيَ عَنْهُ لِلْكَاتِبِ وَلَمْ يُعْفِهِمْ مِنَ الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ بِكَوْنِ ذَلِكَ أَقْسَطَ

عِنْدَ اللهِ إِلَخْ. قَالُوا أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِلَخْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ كَالْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِيهَا كَاتِبٌ وَلَا شُهُودٌ. فَإِذَا احْتَاجَ امْرُؤٌ إِلَى الِاقْتِرَاضِ مِنْ أَخِيهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ قَضَاءَ حَاجَتِهِ وَسَدَّ خَلَّتِهِ إِذَا هُوَ ائْتَمَنَهُ. أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَمَانَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي عُمُومِهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الِائْتِمَانِ عَلَى الثَّمَنِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ فَلَا يُجْعَلُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ - وَهُوَ الْكِتَابَةُ - فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الرُّخْصَةَ فِي إِقَامَةِ الرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ: لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ إِلَخْ نَاسِخًا قَوْلَهُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَخْ. لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [4: 43] نَاسِخًا لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ: إِلَخْ قَالُوا: وَأَمَّا دَعْوَى تَعَامُلِ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ فَهِيَ عَلَى إِطْلَاقِهَا بَاطِلَةٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِمُعَامَلَاتِهِمْ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ شَيْءٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ بِمُعَامَلَاتِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَامًّا وَلَمْ يَرْوُوا عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْئًا صَحِيحًا وَاقِعًا بِالْفِعْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي ذَلِكَ ضِيقًا وَحَرَجًا فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ عَيْنُ السُّهُولَةِ وَالسَّعَةِ وَالْيُسْرِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ التَّعَامُلَ الَّذِي لَا يُكْتَبُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَدَايِنَيْنِ ضَعِيفُ الْأَمَانَةِ فَيَدَّعِي بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ خِلَافَ الْوَاقِعِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ خَطَأٍ وَنِسْيَانٍ، فَإِذَا ارْتَابَ الْمُتَعَامِلَانِ وَاخْتَلَفَا وَلَا شَيْءَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي إِزَالَةِ الرِّيبَةِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ شُهُودٍ أَسَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا الظَّنَّ بِالْآخَرِ، وَلَمْ يَسْهُلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنِ اعْتِقَادِهِ إِلَى قَوْلِ خَصْمِهِ فَلَجَّ فِي خِصَامِهِ وَعَدَائِهِ، وَكَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شُرُورِ الْمُنَازَعَاتِ مَا يُرْهِقُهُمَا عُسْرًا وَيَرْمِيهِمَا بِأَشَدِّ الْحَرَجِ، وَرُبَّمَا ارْتَكَبَا فِي ذَلِكَ مَحَارِمَ كَثِيرَةً. هَكَذَا أَوْضَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَأَيَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ. وَمِمَّا قَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَكُونُ الْوُضُوءُ حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ كُلَّ يَوْمٍ يُصَلِّي فِيهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا كَلُّ مَا يَتَكَرَّرُ يَكُونُ حَرَجًا ; يَعْنِي أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ كَمَا سَيَأْتِي عَنْهُ. وَأَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ وَلَا كُلْفَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا لِلْإِعْنَاتِ وَتَجْشِيمِ الْمَشَاقِّ وَالْإِيقَاعِ فِي الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ تَرْفَعُ الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَيَصْلُحُ بِهَا أَمْرُ

النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَرَفَ النَّاسُ فَوَائِدَهَا بِالضَّرُورَةِ أَوِ الِاخْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَشَقَّةٌ مَا طَلَبًا لِفَوَائِدِهَا الَّتِي هِيَ أَرْجَحُ وَأَجْدَرُ بِالْإِيثَارِ، ثُمَّ إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ جَعْلُ الْمُسْلِمِينَ أُمَّةَ كِتَابٍ وَنِظَامٍ، وَالْإِسْلَامُ بَدَأَ بِالْعَرَبِ وَهِيَ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهَا بِالرَّسُولِ الَّذِي عَلَّمَهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، فَفَرْضُ كِتَابَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمْ هُوَ مِنْ وَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَبُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ الْمُؤَكِّدَةَ لِلنَّدْبِ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ جُمْلَةَ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ كِتَابُ اللهِ بِحُجَّةِ أَنَّ فِيهِ حَرَجًا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ، حَتَّى صَارَ مَنْ تَرَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْنَى بِكِتَابَةِ دُيُونِهِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِضَعْفِ ثِقَتِهِ بِمَدِينِهِ، لَا عَمَلًا بِهِدَايَةِ دِينِهِ، أَلَا إِنَّ الْحَرَجَ فِي هَذَا كَالْحَرَجِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُشْرِكًا بِنَوْعٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَرِّطَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ يَكْفِيهِ كَاتِبٌ وَاحِدٌ لِلدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَقَدْ رَخَّصَ اللهُ لَنَا فِي تَرْكِ كِتَابَةِ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَأُسْلُوبَهَا وَطَرِيقَةَ تَأْدِيَتِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. (قَالَ) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ هَذَا بِالْعَمَلِ بِالْخَطِّ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ الْعَمَلَ بِالْخَطِّ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ لَكَانَ الْمَصَابُ عَظِيمًا، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْخَطِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ، وَزَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْكِتَابَةِ التَّذْكَارُ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ لِأَجْلِ التَّذْكَارِ، وَمَنْشَأُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَرْأَتَيْنِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَالصَّوَابُ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ قَدْ شُرِعَ لِلِاسْتِيثَاقِ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ لَا لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَالْكِتَابَةُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ عَوْنٌ لِلشَّهَادَةِ فَهِيَ آلَةُ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُتَعَامِلِينَ، فَالدَّائِنُ يَسْتَوْثِقُ بِمَالِهِ فَيَأْمَنُ مِنْ إِنْكَارِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْمَدِينُ يَسْتَوْثِقُ بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَخَافُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، وَالشَّاهِدُ يَسْتَوْثِقُ بِشَهَادَتِهِ فَإِذَا شَكَّ أَوْ نَسِيَ رَجِعَ إِلَى الْكِتَابِ فَتَذَكَّرَ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا وَنَفْعُ الْكِتَابَةِ الْأَكْبَرُ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الشَّهِيدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَضِيعَ الْحُقُوقُ وَلَا حَافِظَ لَهَا حِينَئِذٍ إِلَّا الْكِتَابَةُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَيُعْمَلُ بِهَا. قَالَ: وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ، وَأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مُذَكِّرَةً بِهَا بِأَنَّ الْخَطَّ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ مَنْقُوضٌ بِأَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ التَّزْوِيرِ فِي الشَّهَادَةِ أَشَدُّ، بَلْ حُصُولُهُ فِيهَا بِالْفِعْلِ أَكْثَرُ، حَتَّى إِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا تَكَادُ تَكُونُ كَنِسْبَةِ الْخَمْسَةِ إِلَى

الْأَلْفِ، ثُمَّ إِنَّ فِي الشَّهَادَةِ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى تُسْقِطُهَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْكِتَابَةِ كَالنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ. وَمِنْ مَحَاسِنَ الْأَجْوِبَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا وَقَعَ لِأَحَدِ الْقُضَاةِ فِي الْوَجْهِ الْقِبْلِيِّ (الصَّعِيدِ) إِذْ جَاءَهُ مُدَّعٍ يُطَالِبُ آخَرَ بِدَيْنٍ لَهُ كُتِبَ فِي صَكٍّ وَخُتِمَ بَخَاتَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي: إِنَّ هَذَا الصَّكَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا بُدَّ مِنَ الشُّهُودِ. قَالَ الْمُدَّعِي: مَنْ قَالَ بِهَذَا؟ قَالَ الْقَاضِي: الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ الْمُدَّعِي: هَلْ عِنْدَكَ شُهُودٌ سَمِعَتْ مِنْهُمْ ذَلِكَ؟ فَبُهِتَ الْقَاضِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ فَالْأَشْيَاءُ الْبَدِيهِيَّةُ يُلْهَمُ حُكْمَهَا كُلُّ النَّاسِ: أَقُولُ يَعْنِي بِالنَّاسِ أَصْحَابَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَلَا يُفْسِدُ الْفِطْرَةَ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ. أَقُولُ: وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْآيَةِ شَهَادَةُ الْأَرِقَّاءِ، فَالظَّاهِرُ دُخُولُهُمْ فِي عُمُومِ رِجَالِكُمْ وَبِذَلِكَ قَالَ شُرَيْحٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُتَعَامِلِينَ بِالْأَمْوَالِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - اشْتَرَطَ فِي الشَّاهِدَيْنِ الْعَدَالَةَ لَا الْحُرِّيَّةَ، وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، يَقُولُ: مَنْ يَتَدَايَنُ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِمْ كَذَا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَالْكُتَّابُ وَالشُّهَدَاءُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْكَاتِبِ لِوَثِيقَةِ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: تَصِحُّ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ مَنْدُوبٌ؟ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعُمَرَ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا أُجِّلَ فِيهِ الثَّمَنُ. لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً لَهَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ وَهُوَ خَالِقُهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [67: 14] وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَتَقَرَّرُ النَّهْيُ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ وَكَوْنُهُ إِثْمًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ لِدُخُولِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ فِي عُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ (قَالَ) وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِآيَةِ الدَّيْنِ مِنْ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَّعَ لَنَا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ كَالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ تَسَاهَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَضَعْتُمُ الْحُقُوقَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالْأَمَانَةِ مَعَ انْطِوَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْخِيَانَةِ وَغَالَطْتُمُ النَّاسَ وَأَكَلْتُمْ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ أَوْ أَضَعْتُمُوهَا بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُحَاسِبُكُمْ وَيُعَاقِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْتُمْ وَأَعْمَالُكُمُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الْبَدَنِيَّةُ أَقُولُ: وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْكَامِ السُّورَةِ كُلِّهَا. (قَالَ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْأَشْيَاءُ الثَّابِتَةُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُكُمْ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَأُلْفَةِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ النَّهْيِ أَمْرٌ كَبِيرٌ يَحِلُّ اللهُ عُقُوبَتَهُ فِي الْأُمَّةِ بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ السُّكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أُلْفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْأُنْسُ بِهِ وَلِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ عَلَيْهِ. نَعَمْ إِنَّ الْخَوَاطِرَ وَالْهَوَاجِسَ قَدْ تَأْتِي بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا تَعَمُّدٌ وَلَكِنَّهُ إِذَا مَضَى مَعَهَا وَاسْتَرْسَلَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ عَمَلًا يُجَازَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَايَرَهَا مُخْتَارًا وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُطَارَدَتِهَا وَجِهَادِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْهَوَاجِسُ صَادِرَةً عَنْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تُثِيرُهَا أَوْ عَنْ شَيْءٍ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَلَكَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ الْحَسُودُ تَبْعَثُ مَلَكَةُ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمَحْسُودِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ نِعْمَتِهِ لِتَمَكُّنِهَا فِي نَفْسِهِ وَامْتِلَاكِهَا لِمَنَازِعِ فِكْرِهِ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَهَا وَيُدَافِعَهَا فَذَلِكَ مَا يُكَلَّفُهُ. وَمِثَالُ الثَّانِي الْمَظْلُومُ يَذْكُرُ ظَالِمَهُ فَيَشْتَغِلُ فِكْرُهُ فِي دَفْعِ ظُلْمِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ أَذَاهُ وَرُبَّمَا اسْتَرْسَلَ مَعَ خَوَاطِرِهِ إِلَى أَنْ تَجُرَّهُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَمُقَابَلَةِ ظُلْمِهِ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَيْهَا، أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [5: 78 و79] وَذَلِكَ أَنَّ فَظَاعَةَ الْمُنْكَرِ زَالَتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِالْأُنْسِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الَّتِي أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَمُرُّ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ كَمَا قِيلَ، بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ وَشَكَوْا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَسْوَسَةَ ; فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدْفَعُ هَذَا؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهَا كَالْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ وَالْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِأَثَرِهَا فِيهَا إِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ وَتُرِكَتِ الْمُجَاهَدَةُ. وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مَا كَانَ

عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ وَيَتَأَدَّبُونَ بِهِ وَيُقِيمُونَهُ كَمَا يَجِبُ، وَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفَصَّلًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، لَا شَكَّ أَنَّ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ مِمَّا فِي النَّفْسِ يَعُمُّ الْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرِيفَةَ، وَإِنَّمَا مُثِّلَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا السِّيَاقِ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَرَدَّ ذَلِكَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ أَيْضًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ فِي أَثَرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [2: 285] الْآيَةَ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ - تَعَالَى - فَأَنْزَلَ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2: 286] إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ. قَالَ نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا، وَاحْتَجُّوا لِلنَّسْخِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ. وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا قُصَارَاهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْقَوْلُ بِالنُّسَخِ مَمْنُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا إِبْطَالٌ لِلشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، أَوْ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِهِ دِينًا جُثْمَانِيًّا مَادِّيًّا لَا حَظَّ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [2: 225] وَقَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [17: 36]

وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [24: 19] وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الثَّابِتَةِ فِي النَّفْسِ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَفْرُ وَالْأَخْلَاقُ الرَّاسِخَةُ وَالصِّفَاتُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي الْجَوْرِ وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَقَصْدِ السُّوءِ أَوْ سُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ وَالصِّفَاتُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الشَّقَاوَةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ آثَارًا فِي النَّفْسِ تُزَكِّيهَا أَوْ تُدَسِّيهَا، لَمَا آخَذَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ أَحَدًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُعَاقِبُ النَّاسَ حُبًّا فِي الِانْتِقَامِ وَلَا يَظْلِمُ نَفْسًا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْتَقِيَ أَوْ يَتَسَفَّلَ نَفْسًا وَعَقْلًا بِالْعَمَلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ مَجْزِيًّا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَثَرَهُ فِي النَّفْسِ هُوَ مُتَعَلَّقُ الْجَزَاءِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْخَوَاطِرَ السَّانِحَةَ وَالْوَسَاوِسَ الْعَارِضَةَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْقَصْدِ الثَّابِتِ وَالْعَزْمِ الرَّاسِخِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُسْتَقِرٌّ وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِكُمْ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَجْهًا لِإِبْطَالِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا نَاسِخًا لَهُ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ التَّجَاوُزِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ لَا يُنَافِي الْآيَةَ وَلَا يَصِحُّ دِعَامَةً لِلْقَوْلِ بِنَسْخِهَا. (رَابِعُهَا) أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ يُنَافِي الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالرَّحْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ السَّابِغَةَ، فَهُوَ لَمْ يَقَعْ فَيُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْهُ، وَنُسِخَتْ بِمَا بَعْدَهُ. (خَامِسُهَا) الْمَعْقُولُ فِي النَّسْخِ أَنْ يُشْرَعَ حُكْمٌ يُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَنٌ أَوْ تَطْرَأُ حَالٌ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ وَكَوْنُ مَا فِي النَّفْسِ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرْتَ، فَلِمَاذَا قَالَ الصَّحَابَةُ فِيهَا مَا قَالُوا؟ أَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالٌ قَدْ تَرَبَّوْا فِي حِجْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْطَبَعَتْ فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَهُ أَخْلَاقُهَا، وَأَثَّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ عَادَتُهَا فَكَانُوا يَتَزَكُّونَ مِنْهَا، وَيَتَطَهَّرُونَ مَنْ لَوَثِهَا تَدْرِيجًا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فِيمَا يَفْعَلُ وَيَقُولُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا عَلَى مَا كَانَ لَا يَزَالُ بَاقِيًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَثَرِ التَّرْبِيَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَاعْتِقَادِ النَّقْصِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى بَعْدَ كَمَالِ التَّزْكِيَةِ وَتَمَامِ الطَّهَارَةِ حَتَّى كَانَ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: " هَلْ يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ ".

فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يُؤَاخِذُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالطَّاقَةِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ عَمَّا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَافَ أَنْ تَدْخُلَ الْوَسْوَسَةُ وَالشُّبْهَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ دَفْعِهَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِغَلَطِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ نَسْخًا فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالنَّسْخِ عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ تَجَوُّزًا. وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْإِزَالَةُ وَالتَّحْوِيلُ لَا الِاصْطِلَاحِيُّ ; أَيْ إِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ مُزِيلَةً لِمَا أَخَافَهُمْ مِنَ الْأُولَى أَوْ مُحَوِّلَةً لَهُ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي مِنَ الْقِصَّةِ فَذَكَرَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ بِالْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّصِّ الْمَرْفُوعِ، وَرَأْيُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ الْكِتَابَ، وَإِنَّنِي لَا أَعْتَقِدُ صِحَّةَ سَنَدِ حَدِيثٍ وَلَا قَوْلِ عَالَمٍ صَحَابِيٍّ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ وَثَّقُوا رِجَالَهُ فَرُبَّ رَاوٍ يُوَثَّقُ لِلِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ سَيِّئُ الْبَاطِنِ وَلَوِ انْتُقِدَتِ الرِّوَايَاتُ مِنْ جِهَةِ فَحْوَى مَتْنِهَا كَمَا تُنْتَقَدُ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهَا لَقَضَتِ الْمُتُونُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَسَانِيدِ بِالنَّقْضِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ مُخَالَفَتُهُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَوْ لِلْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَسَائِرِ الْيَقِينِيَّاتِ. أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ إِظْهَارُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِخْفَاؤُهُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَالْإِبْدَاءُ وَالْإِخْفَاءُ سِيَّانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [40: 19] فَالْمَدَارُ فِي مَرْضَاتِهِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَطَهَارَةِ السَّرِيرَةِ لَا عَلَى لَوْكِ اللِّسَانِ وَحَرَكَاتِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا الْمُحَاسَبَةُ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضٌ بِالْعِلْمِ، وَبَعْضٌ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ غِبُّهَا وَلَازِمُهَا، ذَلِكَ أَنَّ لِلنُّفُوسِ فِي اعْتِقَادَاتِهَا وَمَلَكَاتِهَا وَعَزَائِمِهَا وَإِرَادَتِهَا مَوَازِينَ يُعْرَفُ بِهَا يَوْمَ الدِّينِ رُجْحَانُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ هِيَ أَدَقُّ مِمَّا وَضَعَ الْبَشَرُ مِنْ مَوَازِينِ الْأَعْيَانِ وَمَوَازِينِ الْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21: 47] وَسَيَأْتِي قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أَيْ فَهُوَ بِمَا لَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ عَذَابَهُ. وَقَرَأَ غَيْرُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِجَزْمِ: (يَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ) . بِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَإِنَّمَا يَشَاءُ مَا فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ السَّيِّئُ عَلَى قَدْرِ الْإِسَاءَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي تَدْسِيَةِ نُفُوسِ الْمُسِيئِينَ، وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ عَلَى قَدْرِ الْإِحْسَانِ وَتَأْثِيرِهِ فِي أَرْوَاحِ الْمُحْسِنِينَ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ وَيَزِيدُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُضَاعِفُ السَّيِّئَةَ، وَالْآيَاتُ الْمُفَصَّلَةُ فِي هَذَا

الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَبِهَا يُفَسَّرُ الْمُجْمَلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ بِإِيضَاحٍ، وَحَسْبُكَ هُنَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الذَّنْبَ الْمَغْفُورَ: هُوَ الَّذِي يُوَفِّقِ اللهُ صَاحِبَهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَغْلِبُ أَثَرُهُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَاهِلُ بِهَدْيِ الْكِتَابِ يَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ فَوْضَى، وَالْكَيْلَ جُزَافٌ وَيُمَنِّي نَفْسَهُ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى إِصْرَارِهِ وَإِقَامَتِهِ عَلَى أَوْزَارِهِ، أَلَمْ يَقْرَأْ فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [40: 7 - 9] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: شَأْنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْمُحَاسَبَةِ أَنْ يُذَكِّرَ الْإِنْسَانَ أَوْ يَسْأَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فَبَعْدَ أَنْ يَرَى الْعَبْدُ أَعْمَالَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ يَغْفِرُ أَوْ يُعَذِّبُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ تَصِلْ أَعْمَالُهُ الْمُنْكَرَةُ إِلَى أَنْ تَكُونَ مَلَكَاتٍ لَهُ فَاللهُ - سُبْحَانَهُ - يَغْفِرُهَا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ مَلَكَاتٍ لَهُ فَهُوَ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ أَنَّ فِي هَذَا سَبِيلًا لِلْمُرُوقِ مِنَ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَغْفِرَةِ وَالتَّعْذِيبِ مَوْكُولٌ لِلْمَشِيئَةِ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ أَكْبَرُ وَهَذَا ضَلَالٌ عَنْ فَهْمِ الْكِتَابِ بِالْمَرَّةِ، فَالْآيَةُ إِنْذَارٌ وَتَخْوِيفٌ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ لِلْقَطْعِ بِمَغْفِرَةِ ذَنْبٍ مَا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَقُولُ: وَقَدْ ذَكَّرَنِي قَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ لِأَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ. قَالَ: " وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا نَرْجُو وَنَخَافُ فَآمِنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا " وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ، وَقَدْ قَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ فَهُوَ بِقُدْرَتِهِ يُنَفِّذُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، فَنَسْأَلُهُ الْعِنَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ لِأَقْوَمِ طَرِيقٍ. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

قِيلَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِمَا قَبْلَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ كَمَالِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْعِلْمِ بِالْخَفَايَا الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِبَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَذِكْرِ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا وَخَبَرِ سَائِرِ النَّاسِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُرْتَابِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَمُحَاجَّةِ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَمِ، نَاسَبَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ خَتْمُ السُّورَةِ بِالشَّهَادَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِيمَانِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ تَمَامَ الِاهْتِدَاءِ، وَلَقَّنَهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا سَتَعْلَمُ حِكْمَتَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمِ الزَّكِيَّةِ وَهِمَمِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ وَاللهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَقَدِ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلُومِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِ أُمَمِ الشَّرْقِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ وَمُوحًى إِلَيْهِ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى الْوَحْيَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ لِنَشْرِ حِكْمَتِهِ وَالْإِقْنَاعِ بِفَلْسَفَتِهِ أَوْ لِنَيْلِ السُّلْطَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَكِتَابِهِ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ الْإِيمَانَ بِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْإِيمَانَ بِسِفَارَتِهِمْ فِي الْوَحْيِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِحَقِّيَّةِ كُتُبِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، لَكِنْ مَا يُفِيدُهُ التَّرْتِيبُ وَالنَّظْمُ مِنْ إِرَادَةِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ حَمَلَةُ الْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَأَمَّا الْبَحْثُ عَنْ ذَوَاتِهِمْ مَا هِيَ وَعَنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كَيْفَ هِيَ؟ فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ فِي دِينِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ جِنْسُهَا ; أَيْ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا فِيمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ وَتَفْصِيلِيًّا فِيمَا فَصَّلَهُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَيَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (لَا يُفَرِّقُ) وَهُوَ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ " كَلٌّ " وَذِكْرُ الْمَقُولِ مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَهُ مَوَاضِعُ فِي الْكِتَابِ لَا يَقِفُ الْفَهْمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ سَوَاءٌ، كَثُرَ قَوْمُ الرَّسُولِ مِنْهُمْ أَمْ قَلُّوا، وَكَثُرَتِ الْأَحْكَامُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ أَمْ قَلَّتْ،

وَتَقَدَّمَتِ الْبَعْثَةُ أَمْ تَأَخَّرَتْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [2: 253] فَإِنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ فِي أَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا مَزِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَعْنَى الرِّسَالَةِ فِي نَفْسِهَا إِذْ لَوْ عَقَلُوهَا لَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَنْ أُوتُوهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّصَارَى يُدْرِكُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ. آمَنُوا بِمَا ذُكِرَ قَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفْرِيقِ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ بُلِّغْنَا فَسَمِعْنَا الْقَوْلَ سَمَاعَ وَعْيٍ وَفَهْمٍ، وَأَطَعْنَا مَا أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ، إِطَاعَةَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِرَارًا أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ إِيمَانِ الْإِذْعَانِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْإِنْسَانُ إِيمَانًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ نَاقِضًا، فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا، وَقَلَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، بَقَاؤُهُ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ نَاقِضِهِ، وَالْإِذْعَانُ يُنَبِّهُ النَّفْسَ دَائِمًا إِلَى مَا تُذْعِنُ لَهُ، وَيَبْعَثُهَا دَائِمًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ إِلَّا إِذَا عَرَضَ مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْمَرْءُ مِنَ الْمَوَانِعِ ; وَلِهَذَا عَطْفَ أَطَعْنَا عَلَى سَمِعْنَا. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِلُ الْمُذْعِنُ الْمُخْلِصُ يُرَاقِبُ قَلْبَهُ وَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى التَّقْصِيرِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ وَيَلُومُهَا عَلَى مَا دُونَ الْكَمَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مَعَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أَيْ يَسْأَلُونَهُ - تَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعُوقُهَا عَنِ الرُّقِيِّ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ الَّذِي دَعَاهَا إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا، وَالْغُفْرَانُ كَالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ يَكُونُ بِعَدَمِ الْفَضِيحَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ مَعَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ يُمْحَى أَثَرُ الذُّنُوبِ مِنَ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا فَيُرْجَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ نَقِيَّةً زَكِيَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَصِيرَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ النُّفُوسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ. لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يُحَاسِبُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، وَالتَّكْلِيفُ: هُوَ الْإِلْزَامُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: مَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا عُسْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا دُونُ مَدَى طَاقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُ - تَعَالَى - وَسُنَّتَهُ فِي شَرْعِ الدِّينِ أَلَّا يُكَلِّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْلِيفِ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ قَرِيبًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لَمْ يَقَعْ كَمَا قَالُوا، امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [3: 102] كَمَا قِيلَ. وَفِي الْجُمْلَةِ وَجْهَانِ قِيلَ: هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَأَنَّهُ بِشَارَةٌ بِغُفْرَانِ مَا طَلَبُوا غُفْرَانَهُ

مِنَ التَّقْصِيرِ وَتَيْسِيرِ مَا قَدْ يُشَمُّ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّعْسِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِ الْغُفْرَانِ قَدْ أُذِنُوا بِأَنْ يُصْغُوا لِلَّهِ - تَعَالَى - بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الرَّأْفَةِ بِعِبَادِهِ، وَالْحِكْمَةِ فِي سِيَاسَتِهِمْ. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ قِيلَ: إِنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ نُقِلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَمِلَ وَاعْتَمَلَ، فَكُلُّ مَنِ اكْتَسَبَ وَاعْتَمَلَ يُفِيدُ الِاخْتِرَاعَ وَالتَّكَلُّفَ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَةَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ الشَّرَّ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّأَسِّي. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَعَلَيْهَا عِقَابُ مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ خَيْرٌ بِالطَّبْعِ أَوْ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ؟ وَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَمْيَلُ بِفِطْرَتِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تَرْبِيَّتِهِ، الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخَيْرِ مِمَّا أُودِعَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا فِيهِ نَفْعُ نَفْسِكَ وَنَفْعُ النَّاسِ. وَجُمَّاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِنْسَانُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ بِطَبْعِهِ، وَتَكُونُ فِيهِ لَذَّتُهُ، وَيَمِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ مَغْرُوسٌ فِي الطَّبْعِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَقَلُّهُ الْبَشَاشَةُ وَالِارْتِيَاحُ لِلْمُنْعِمِ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ بِأَسْبَابٍ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِهَا وَلَا مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا، وَمَهْمَا كَانَ الْإِنْسَانُ شِرِّيرًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَّ مَمْقُوتٌ فِي نَظَرِ النَّاسِ وَصَاحِبَهُ مَهِينٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ يَنْشَأُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنَ النَّاسِ فَيَتَعَلَّمُهُ، وَإِذَا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِكَلَامِ مَنْ يَصِفُ شَيْئًا يَزِيدُ فِيهِ وَيُبَالِغُ كَاذِبًا اسْتَحَبَّ الْكَذِبَ وَافْتَرَاهُ لِيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ النَّاسِ، وَيَحْظَى بِإِعْجَابِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَشْعُرُ بِقُبْحِهِ حَتَّى إِذَا نُبِزَ أَمَامَهُ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْكَاذِبِ أَوِ الْكَذَّابِ أَحَسَّ بِمَهَانَةِ نَفْسِهِ وَخِزْيِهَا، وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اقْتِرَافِ كُلِّ شَرٍّ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِقُبْحِهِ وَيَجِدُ مِنْ أَعْمَاقِ سَرِيرَتِهِ هَاتِفًا يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ وَيُوَبِّخُهُ إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ شَرًّا مَحْضًا - يُرِيدُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَأْلَفُ أَحَدٌ الشَّرَّ وَيَنْطَبِعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ طَبْعًا لَهُ لَا تَشْعُرُ نَفْسُهُ بِقُبْحِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمِلْيُونِ مِنَ النَّاسِ شِرِّيرٌ وَاحِدٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ شَرٌّ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ أَرَادُوا مِنَ الطَّبْعِ مَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ غَالِبَ النَّاسِ وَلَمْ يُلَاحِظُوا فِيهِ مَعْنَى الْغَرِيزَةِ وَمَنَاشِئَ الْعَمَلِ مِنَ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ بَيْنَ مُنَازَعَاتِ الْكَوْنِ وَفَوَاعِلِ الطَّبِيعَةِ وَأَحْيَائِهَا

وَمُغَالَبَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ هَذَا الْجِهَادُ إِلَى الْأَثَرَةِ وَتَوْفِيرِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَيُلْجِئُهُ الظُّلْمُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَأْتِيهِ مُتَعَلِّمًا إِيَّاهُ تَعَلُّمًا مُتَكَلِّفًا لَهُ تَكَلُّفًا، وَفِي نَفْسِهِ ذَلِكَ الْهَاتِفُ الْفِطْرِيُّ يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، وَهُوَ النِّبْرَاسُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَصْلِ فِطْرَتِهِ لَا يَرَى إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ فِي الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّوَارِئِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَنْ يَنْشَأُ بَيْنَ قَوْمٍ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَشَدُّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ نَنْظُرَ فِي شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَنَا وَهَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِالْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ إِلَى مَنْ دُونَهُ يَجْعَلُهُ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيهِ مِنَ النِّعَمِ بَعِيدًا عَنِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ الشُّرُورِ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ فِي حَالِ مَنْ فَوْقِنَا مِنْهَا لِأَجْلِ مُبَارَاتِهَا وَمُسَامَاتِهَا. هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِيضَاحٍ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَيْرِ: كَسَبَتْ وَفِي الشَّرِّ اكْتَسَبَتْ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَرَى أَنَّ أَحَقَّ مَا يُتَعَجَّبُ لَهُ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ كَثْرَةُ عَمَلِ الشَّرِّ وَقِلَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ سَهْلٌ وَعَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ، وَعَمَلَ الشَّرِّ عَسِرٌ وَمَغَبَّتُهُ ذَمِيمَةٌ، وَلَا عَجَبَ فِي تَعَجُّبِهِ، فَقَدْ كَانَ مَجْبُولًا مِنْ طِينَةِ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْفِطْرَةِ مِنْ عَوَارِضِ الشَّرِّ، حَتَّى لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الشُّرُورُ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْبَسْطِ لِكَثْرَةِ اشْتِبَاهِ النَّاسِ فِيهَا، وَلِشِّدَّةِ مَا عَارَضَنَا فِي تَقْرِيرِهَا الطُّلَّابُ فِي الدَّرْسِ، وَالْبَاحِثُونَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَا هُوَ الشَّرُّ الْفِطْرِيُّ فِي الْبَشَرِ؟ لَيَقُولُنَّ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَالْغَضَبُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الْغَرِيزَتَانِ لَمَا جَلَبَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا، وَلَمَا دَفَعَ ضَرًّا، وَلَمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ مَا نَرَى مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَمَحَاسِنِ الْخَلِيقَةِ، بَلْ لَوْلَاهُمَا لَبَادَتِ الْأَفْرَادُ وَانْقَرَضَ النَّوْعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ وَالْمُرْشِدِ إِلَى كَمَالِهَا مَا يَكْفِي لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِيهِمَا غَالِبًا، حَتَّى لَا يَغْلِبَ فِي الْأُمَّةِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ أَصْلًا عَامًّا، وَالشَّرُّ عَرَضًا مُفَارِقًا، وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ جُبِلَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَافِعٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، وَأَنَّ هِدَايَاتِهِ الْأَرْبَعَ: الْحِسَّ وَالْوِجْدَانَ وَالْعَقْلَ وَالدِّينَ كَافِيَةٌ لِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَافِعٌ، وَكُلَّ شَرٍّ ضَارٌّ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ فَوَقَعَ فِي الشَّرِّ كَانَ وُقُوعُهُ فِيهِ أَثَرًا لِتَنَكُّبِ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ لَا لِلسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهَا، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ النَّاسِ نَافِعَةٌ لَهُمْ غَيْرُ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَذِبِ الْأَطْفَالِ، وَمِنْهُ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَمَجَالِسِ الْبَحْثِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الزِّنَا مَثَلًا، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمِيلُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَمِيلُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَأَصُولِ الْكَمَالِ فِي الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا الزِّنَا وُضِعَ لَهُ فِي غَيْرِ

مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ الَّتِي تَكْثُرُ بِتَرْكِ مُقَوِّمَاتِ الْفِطْرَةِ وَحَوَافِظِهَا مِنْ نُذُرِ الدِّينِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ وَآدَابِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ - لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ مِصْرَ - أَظُنُّ أَنَّ الزِّنَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجَاهِلِينَ، وَهَذَا مَا يَعْتَقِدُهُ كُلُّ مَنْ يَنْشَأُ فِي بِيئَةٍ تَغْلُبُ فِيهَا الْعِفَّةُ، وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ غَيْرِهَا وَلَا أَخْبَارَ الشَّاذِّينَ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ فِطْرِيًّا لَشَعَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى زَوْجٍ يَتَّحِدُ بِهِ، وَلَعَلَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ كَافٍ لِلْمُتَدَبِّرِ، وَلَا يَتَّسِعُ التَّفْسِيرُ لِأَكْثَرَ مِنْهُ. بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِ فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا يُلِمُّ بِهِ أَوْ يَتَّهِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَفَضْلَهُ وَمِنَّتَهُ فِي عَدَمِ تَكْلِيفِ النَّفْسِ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا، ثُمَّ عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِنَدْعُوَهُ بِهِ وَهُوَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَتَرَكْنَا مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ أَوْ فَعَلْنَا مَا يَجِبُ تَرْكُهُ، أَوْ جِئْنَا بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ أَنْ يُؤَاخَذَ عَلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْوَجْهِ فِيهِ. وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْمُعَاقَبَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرَادُ عِقَابُهُ يُؤْخَذُ بِيَدِ الْقَهْرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ لَا إِرَادَةَ لَهُمَا فِيمَا فَعَلَاهُ نِسْيَانًا أَوْ خَطَأً، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْمُنَاقَشَاتِ مَا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ حُدُودِ الْأَفْهَامِ، وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَاتِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّاسِيَ يَصِحُّ أَنْ يُؤَاخَذَ فَيُقَالَ لَهُ لِمَ نَسِيتَ؟ فَإِنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَتَرْكِ إِجَالَةِ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرْدِيدِهِ فِي النَّفْسِ لِيَسْتَقِرَّ فِي الذَّاكِرَةِ، فَتُبْرِزَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ يَنْسَى الْإِنْسَانُ مَا لَا يُهِمُّهُ وَيَحْفَظُ مَا يُهِمُّهُ، فَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ غَيْرَ اخْتِيَارِيٍّ فَسَبَبُهُ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا اخْتِيَارِيٌّ، وَلِذَلِكَ يُؤَاخِذُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالنِّسْيَانِ لَا سِيَّمَا نِسْيَانُ الْأَدْنَى لِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْأَعْلَى، فَإِذَا عَهِدْتَ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ أَوْ فَضْلٌ بِأَنْ يَفْعَلَ كَذَا أَوْ يَجِيئَكَ فِي يَوْمِ كَذَا فَنَسِيَ وَلَمْ يَمْتَثِلْ فَإِنَّكَ تَسْأَلُهُ وَتُؤَاخِذُهُ بِمَا تَرْمِيهِ بِهِ مِنَ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِأَمْرِكَ، وَقَدْ آخَذَ اللهُ آدَمَ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [20: 115] وَقَالَ فِي جَوَابِ مَنْ يَسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّهُ لِمَ حَشَرَهُ أَعْمَى؟ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [20: 126] وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5: 13] وَفِي الْآيَةِ: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5: 14] وَهُنَاكَ آيَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ فُسِّرَ النِّسْيَانُ فِيهَا بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ لَازِمُهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ هُنَا أَيْضًا لَازِمُهُ، وَهُوَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ. وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْشَأُ مِنَ التَّسَاهُلِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّرَوِّي، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّمَانَ فِي إِتْلَافِ الْخَطَأِ وَالدِّيَةَ فِي جِنَايَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ امْرُؤٌ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا فَأَصَابَ إِنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَكَذَا فِي الْقَوَانِينِ

الْوَضْعِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَجَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَقَوَانِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ مُقَصِّرًا لَمَا كَانَ هَذَا، وَكَمَا جَازَ ذَلِكَ وَحَسُنَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخِذَ اللهُ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ نَاسِينَ تَحْرِيمَهُ أَوْ وَاقِعِينَ فِيهِ خَطَأً، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - عَلَّمَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَلَّا يُؤَاخِذَنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْنَا وَإِحْسَانِهِ فِي هِدَايَتِنَا، فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يُذَكِّرُنَا بِمَا يَنْبَغِي مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ لَعَلَّنَا نَسْلَمُ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ أَوْ يَقِلُّ وُقُوعُهُمَا مِنَّا فَيَكُونُ ذَنْبًا جَدِيرًا بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَهَذَا الدُّعَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللهِ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ أَلَّا يُؤَاخِذَ عَلَيْهِمَا، بَلْ قُصَارَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمَا مِمَّا يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُمَا إِذَا وَقَعَ الْعَبْدُ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرِّي وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَأَخْذِ الدِّينِ بِقُوَّةٍ وَشَعَرَ بِتَقْصِيرِهِ فَلَجَأَ إِلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يُقَوِّي فِي النَّفْسِ خَشْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالرَّجَاءَ بِفَضْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - نُورًا تَنْقَشِعُ بِهِ ظُلْمَةُ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ، وَلَعَلَّ إِيرَادَ الشَّرْطِ بِأَنَّ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذَا خِلَافَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا زِدْتُهُ عَلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَدْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ وَهُوَ: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَسْلَمُ لَهُ إِسْنَادٌ، وَلَكِنَّهُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُعَدُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ (قَالَهُ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ) وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُخَالَفَتَهُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى وَضْعِهِ لَا ضَعْفِهِ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنْفُسَهَا مِمَّا يُتَجَاوَزُ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ صَلَاةً أُعِيدَتْ وَإِنْ كَانَ ذَنْبًا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَإِلَّا أُوخِذَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ دُونَهُمَا، وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ بِمَا كَتَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأً نَدْعُو اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُ. رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا الْإِصْرُ: الْعِبْءُ الثَّقِيلُ، يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا الرُّسُلُ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ جِدًّا، وَفِي تَعْلِيمِنَا هَذَا الدُّعَاءَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُكَلِّفُنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا. كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [5: 6] وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَانَ عَلَيْنَا وَإِعْلَامَنَا بِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْنَا الْإِصْرَ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا شُكْرُهُ لِذَلِكَ، وَحِكْمَةُ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ الْآنَ اسْتِشْعَارُ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الِامْتِثَالِ وَعَدَمِ حَمْلِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا،

فَطَلَبَ مِنَّا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَلَّا تَكُونَ عُقُوبَتُنَا عَلَى ذَلِكَ كَعُقُوبَةِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِهِمْ أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ وَدَمَّرَتْهُمْ تَدْمِيرًا حَتَّى هَلَكُوا هَلَاكًا حِسِّيًّا. فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَوْ هَلَاكًا مَعْنَوِيًّا بِأَنْ ضَاعَتْ أَوْ تَضَعْضَعَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَنَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ حَتَّى عَادُوا إِلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ. رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَوْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ وَالْمِحَنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ وَالْخِلَافُ فِيهَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَجُوزُ عَلَى اللهِ عَقْلًا أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لَا يُطِيقُونَ أَمْ لَا؟ وَالْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَمَا لَا يُطَاقُ هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي مَكِنَةِ الْإِنْسَانِ وَطَوْقِهِ، وَمَا يُطَاقُ: هُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوا مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى الْمُتَعَذِّرِ الَّذِي يَعْلُو الْقُدْرَةَ كَالَّذِي يَسْتَحِيلُ فِعْلُهُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا، لَا بِعُرْفِ أَفْلَاطُونَ وَفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو، وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَرَبَ تُعَبِّرُ مِمَّا يُطَاقُ عَمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَيْسَ يَبِينُ فَضْلُ الْمَرْءِ إِلَّا ... إِذَا كَلَّفْتَهُ مَا لَا يُطِيقُ أَقُولُ: يُرِيدُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَنَّنَا إِذَا فَسَّرْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ بِالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْإِصْرَ بِالْعُقُوبَةِ تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ الْإِصْرُ: بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَمَا لَا طَاقَةَ بِهِ: بِالْعُقُوبَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِنَفْيِ سَبَبِ الْعُقُوبَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: رَبَّنَا لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ، بَلْ حَمِّلْنَا الْيَسِيرَ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْنَا حَمْلُهُ، رَبَّنَا وَوَفِّقْنَا لِحَمْلِ مَا حَمَّلْتَنَا وَالنُّهُوضِ بِهِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، لِكَيْلَا نَسْتَحِقَّ بِمُقْتَضَى سُنَّتِكَ أَنْ تُحَمِّلَنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُفَرِّطِينَ فِي دَيْنِهِمْ، الْمُسْرِفِينَ فِي أَهْوَائِهِمْ. وَاعْفُ عَنَّا بِمَحْوِ أَثَرِ مَا عَسَانَا نُلِمُّ بِهِ مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَنَا، أَيْ لَا تَفْضَحْنَا بِإِظْهَارِهِ بِذَاتِهِ وَلَا بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ وَارْحَمْنَا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا تُوَفِّقُنَا لَهُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِكَ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِكَ الَّتِي جَعَلْتَهَا بِحِكْمَتِكَ طُرُقًا لِلسَّعَادَةِ. أَنْتَ مَوْلَانَا الَّذِي مَنَحْتَنَا أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ، وَأَيَّدْتَنَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِنَايَةِ، فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ، وَجَهِلُوا سُنَنَكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَأَعْرَضُوا عَمَّا مَدَدْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَرْبَابِ، وَالَّذِينَ حَجَبَتْهُمْ سُنَنُكَ الْكَوْنِيَّةُ، عَنِ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ

وَالرُّبُوبِيَّةِ، انْصُرْنَا عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَعَلَى الْمُعْتَدِينَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ حِمَايَةِ الْحَقِّ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ. اسْتَحْسَنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْجَلَالِ " النَّصْرَ " بِالْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ وَبِالسَّيْفِ وَقَالَ: إِنَّ النَّصْرَ بِالْحُجَّةِ هُوَ أَعْلَى النَّصْرِ وَأَفْضَلُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصْرٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّصْرُ بِالسَّيْفِ إِنَّمَا هُوَ نَصْرٌ عَلَى الْجَسَدِ وَلَا نُؤْثِرُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْآيَةِ شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ هَذَا الدُّعَاءِ كُلِّهِ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِأَجْلِ أَنْ نَلُوكَهُ بِأَلْسِنَتِنَا وَنُحَرِّكَ بِهِ شِفَاهَنَا فَقَطْ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، بَلْ عَلَّمَنَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ أَنْ نَدْعُوَهُ بِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ لَاجِئِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْزَلَهُ بِقُوَّةٍ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ دَعَاهُ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَلِسَانِ حَالِهِ مَعًا فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ بِلَا شَكٍّ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا حَرَكَةَ اللِّسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَحْكَامِ وَتَنَكُّبِ السُّنَنِ فَهُوَ بِدُعَائِهِ كَالسَّاخِرِ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا مَقْتَهُ وَخُذْلَانَهُ، فَإِذَا كَانَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ بَيَّنَ لَنَا سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ، وَهَدَانَا إِلَى طُرُقِ الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ، فَأَعْرَضْنَا عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكَّبْنَا سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ، ثُمَّ طَلَبْنَا مِنْهُ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا دُونَ قُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا، أَفَلَا نَكُونُ نَحْنُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا؟ وَتَوَقُّفُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَلْزِمُ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ الدَّاعِي دَاعِيًا حَقِيقَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَاتَّبَعْهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ. فَإِذَا اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ الْوَسَائِلَ الَّتِي أُمِرَتْ بِهَا وَدَعَتِ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُثَبِّتَهَا وَيُتِمَّ لَهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَجِيبُ لَهَا حَتْمًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ. فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - التَّوْفِيقَ وَهِدَايَةَ أَقْوَمِ طَرِيقٍ.

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ (وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ) نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، مِنْهَا (الم) أَوَّلُ السُّورَةِ عُدَّتْ فِي الْكُوفِيِّ آيَةً (وَالْإِنْجِيلَ) الْأُولَى لَمْ تَعُدَّ فِي الشَّامِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ. الِاتِّصَالُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ: فَمِنْهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بُدِئَ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشَأْنِ النَّاسِ فِي الِاهْتِدَاءِ، فَفِي السُّورَةِ الْأُولَى ذَكَرَ أَصْنَافَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ وَالْمُنَاسِبُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي أَصْلِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ الزَّائِغِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَيَقُولُونَ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا وَقَعَ بَعْدَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَفَاضَتْ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَاخْتَصَرَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى، وَالثَّانِيَةَ بِالْعَكْسِ، وَالنَّصَارَى مُتَأَخِّرُونَ عَنِ الْيَهُودِ فِي الْوُجُودِ وَفِي الْخِطَابِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِفَاضَةُ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ. (وَمِنْهَا) مَا فِي الْأُولَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ آدَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ عِيسَى، وَتَشْبِيهِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ جَاءَ بَدِيعًا عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ سَابِقَةٍ فِي الْخَلْقِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا. (وَمِنْهَا) أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامًا مُشْتَرَكَةً كَأَحْكَامِ الْقِتَالِ. وَمَنْ قَابَلَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ رَأَى أَنَّ مَا فِي الْأُولَى أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ وَمَا فِي الثَّانِيَةِ أَجْدَرُ بِالتَّأْخِيرِ. (وَمِنْهَا) الدُّعَاءُ فِي آخِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالدُّعَاءُ فِي الْأُولَى يُنَاسِبُ بَدْءَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ وَطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى جَاحِدِي الدَّعْوَةِ وَمُحَارِبِي أَهْلِهَا. وَفِي الثَّانِيَةِ يُنَاسِبُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ فِي قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَطَلَبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. (وَمِنْهَا) مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَتْمِ الثَّانِيَةِ بِمَا يُنَاسِبُ بَدْءَ الْأُولَى كَأَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لَهَا ; ذَلِكَ أَنَّهُ بَدَأَ الْأُولَى بِإِثْبَاتِ الْفَلَاحِ لِلْمُتَّقِينَ. وَخَتَمَ الثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

[3: 130 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (الم) هُوَ اسْمُ السُّورَةِ عَلَى الْمُخْتَارِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَيُقَالُ: قَرَأْتُ (الم) الْبَقَرَةِ و (الم) آلِ عِمْرَانَ وَ (الم) السَّجْدَةِ. وَيُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا، وَتُذْكَرُ سَاكِنَةً كَمَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ الْعَدَدِ. فَتَقُولُ: أَلِفْ لَامْ مِيمْ، كَمَا تَقَدَّمَ: وَاحِدْ اثْنَانْ ثَلَاثَةْ، وَتُمَدُّ اللَّامُ وَالْمِيمُ، وَإِذَا وَصَلْتَ بِهِ لَفْظَ الْجَلَالَةِ جَازَ لَكَ فِي الْمِيمِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ بِاتِّفَاقِ

2

الْقُرَّاءِ، وَالْجُمْهُورِ يَصِلُونَ فَيَفْتَحُونَ الْمِيمَ وَيَطْرَحُونَ الْهَمْزَةَ مَنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَالْبَرْجَمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَطْعِ الْهَمْزَةِ. اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَقْرِيرٌ لِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالْإِسْهَابِ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أَيْ أَوْحَى إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَكْتُوبَ بِالتَّدْرِيجِ مُتَّصِفًا بِالْحَقِّ مُتَلَبِّسًا بِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْوَحْيِ بِالتَّنْزِيلِ وَبِالْإِنْزَالِ كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى لِلْإِشْعَارِ بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْمُوحِي عَلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ كُلِّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [57: 25] وَأَمَّا التَّدْرِيجُ فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ صِيغَةِ التَّنْزِيلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْوَقَائِعِ. وَمَعْنَى تَنْزِيلِهِ بِالْحَقِّ أَنَّ فِيهِ مَا يُحَقِّقُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّيَّتِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُكْمِ حَقٌّ، وَقَدْ يُوصَفُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْفَائِدَةُ تَتَحَقَّقُ بِهِ، وَفِي أَشْهَرِ التَّفَاسِيرِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْعَدْلُ أَوِ الصِّدْقُ فِي الْأَخْبَارِ، أَوِ الْحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَعَمُّ وَأَوْضَحُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مُبَيِّنًا صِدْقَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ كَوْنُهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَذَلِكَ أَنْ أَثْبَتَ الْوَحْيَ وَذَكَرَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَرْسَلَ رُسُلًا أَوْحَى إِلَيْهِمْ، فَهَذَا تَصْدِيقٌ إِجْمَالِيٌّ لِأَصِلِ الْوَحْيِ لَا يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْتَمِي إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُتُبِ بِأَعْيَانِهَا وَمَسَائِلِهَا. وَمِثَالُهُ تَصْدِيقُنَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَ كُلِّ مَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ، بَلْ مَا ثَبَتَ مِنْهَا عِنْدَنَا فَقَطْ. وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ التَّوْرَاةُ: كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا الْمُرَادُ الشَّرِيعَةُ أَوِ النَّامُوسُ، وَهِيَ تُطْلَقُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْفَارٍ يَقُولُونَ إِنَّ مُوسَى كَتَبَهَا، وَهِيَ سِفْرُ التَّكْوِينِ وَفِيهِ الْكَلَامُ عَنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ وَأَخْبَارِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسِفْرُ الْخُرُوجِ، وَسِفْرُ اللَّاوِيِّينَ أَوِ الْأَخْبَارِ، وَسِفْرُ الْعَدَدِ، وَسِفْرُ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَيُقَالُ التَّثْنِيَةُ فَقَطْ. وَيُطْلِقُ النَّصَارَى لَفْظَ التَّوْرَاةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَهْدَ الْعَتِيقَ، وَهِيَ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَتَارِيخُ قُضَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكِهِمْ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَمِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَهُ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ مَعًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْجِيلِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ. أَمَّا التَّوْرَاةُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5: 13] كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا حَفِظُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ. وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْخَمْسَةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تَنْطِقُ بِمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ

التَّوْرَاةَ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَفِي الْفَصْلِ (الْإِصْحَاحِ) الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ مَا نَصُّهُ: " [24] فَعِنْدَمَا كَمَّلَ مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلَى تَمَامِهَا [25] أَمَرَ مُوسَى اللَّاوِيِينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ قَائِلًا [26] خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [27] لِأَنِّي أَنَا عَارِفٌ تَمَرُّدَكُمْ وَرِقَابَكُمُ الصُّلْبَةَ. هُوَ ذَا وَأَنَا بَعْدُ حَيٌّ مَعَكُمُ الْيَوْمَ قَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ الرَّبَّ فَكَمْ بِالْحَرَى بَعْدَ مَوْتِي [28] اجْمَعُوا إِلَيَّ كُلَّ شُيُوخِ أَسْبَاطِكُمْ وَعَرْفَاءَكُمْ لِأَنْطِقَ فِي مَسَامِعِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَأُشْهِدُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ [29] لِأَنِّي عَارِفٌ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي تَفْسُدُونَ وَتَزِيغُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ الشَّرَّ أَمَامَ الرَّبِّ حَتَّى تَغِيظُوهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ [30] فَنَطَقَ مُوسَى فِي مَسَامِعِ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ بِكَلِمَاتِ هَذَا النَّشِيدِ إِلَى تَمَامِهِ " - وَهَاهُنَا ذَكَرَ النَّشِيدَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ أَيِ الْكَاتِبُ لِسِفْرِ التَّثْنِيَةِ - " [44] فَأَتَى مُوسَى وَنَطَقَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّشِيدِ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ هُوَ وَيَشُوعُ بْنُ نُونٍ [45] وَلَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنْ مُخَاطَبَةِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ بِكُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ [46] قَالَ لَهُمْ وَجِّهُوا قُلُوبَكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِهَا الْيَوْمَ لِكَيْ تُوصُوا بِهَا أَوْلَادَكُمْ لِيَحْرِصُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ [47] ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا بَاطِلًا عَلَيْكُمْ بَلْ هِيَ حَيَاتُكُمْ. وَبِهَذَا الْأَمْرِ تُطِيلُونَ الْأَيَّامَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الْأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا " وَمِنْهُ خَبَرُ مَوْتِ مُوسَى وَكَوْنُهُ لَمْ يَقُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ مِثْلُهُ بَعْدُ، أَيْ إِلَى وَقْتِ الْكِتَابَةِ. فَهَذَانَ الْخَبَرَانِ عَنْ كِتَابَةِ مُوسَى لِلتَّوْرَاةِ وَعَنْ مَوْتِهِ مَعْدُودَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَمَا هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى الَّتِي كَتَبَهَا وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ التَّابُوتِ، بَلْ كُتِبَا كَغَيْرِهِمَا بَعْدَهُ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْوِيلُ عِلْمِ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ فَسَدُوا وَزَاغُوا بَعْدَهُ كَمَا قَالَ. وَأَضَاعُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا ثُمَّ كَتَبُوا غَيْرَهَا، وَلَا نَدْرِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخَذُوا مَا كَتَبُوهُ عَلَى أَنَّهُ فُقِدَ أَيْضًا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَيَّامِ الثَّانِي " أَنَّ حَلْقِيَا الْكَاهِنَ وَجَدَ سِفْرَ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَسَلَّمَهُ إِلَى شَافَانَ الْكَاتِبِ فَجَاءَ بِهِ شَافَانُ إِلَى الْمَلِكِ " قَالَ صَاحِبُ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا السِّفْرَ الَّذِي وَجَدَهُ حَلْقِيَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ مُوسَى وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَضَاعُوهُ أَيْضًا ثُمَّ إِنَّ عِزْرَا الْكَاهِنَ الَّذِي " هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَالْعَمَلِ بِهَا وَلِيُعَلِّمَ إِسْرَائِيلَ فَرِيضَةً وَقَضَاءً " قَدْ كَتَبَ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ بِأَمْرِ أَرْتَحْشِسْتَا مَلَكِ فَارِسٍ الَّذِي أَذِنَ لَهُمْ (أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ. وَقَدْ أَمَرَ هَذَا الْمَلِكُ بِأَنْ تُقَاوَمَ شَرِيعَتُهُمْ وَشَرِيعَتُهُ كَمَا فِي سِفْرِ عِزْرَا (رَاجِعِ الْفَصْلَ السَّابِعَ مِنْهُ) فَجَمِيعُ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ كَمَا كُتِبَ غَيْرُهَا مِنْ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ الْبَابِلِيَّةِ فِيهَا، وَقَدِ اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللَّاهُوتِ

مِنَ النَّصَارَى بِفَقْدِ تَوْرَاةِ مُوسَى الَّتِي هِيَ أَصْلُ دِينِهِمْ وَأَسَاسُهُ. قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (خُلَاصَةِ الْأَدِلَّةِ السَّنِيَّةِ عَلَى صِدْقِ أُصُولِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ) : " وَالْأَمْرُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تَبْقَى نُسْخَةُ مُوسَى الْأَصْلِيَّةُ فِي الْوُجُودِ إِلَى الْآنِ وَلَا نَعْلَمُ مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهَا فُقِدَتْ مَعَ التَّابُوتِ لَمَّا خَرَّبَ بُخْتُنَصَّرُ الْهَيْكَلَ. وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَدِيثٍ كَانَ جَارِيًا بَيْنَ الْيَهُودِ عَلَى أَنَّ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ فُقِدَتْ وَأَنَّ عِزْرَا الْكَاتِبَ الَّذِي كَانَ نَبِيًّا جَمَعَ النُّسَخَ الْمُتَفَرِّقَةَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَصْلَحَ غَلَطَهَا وَبِذَلِكَ عَادَتْ إِلَى مَنْزِلَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ " انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ مَنْ يَسْأَلُ: مَنْ أَيْنَ جَمَعَ عِزْرَا تِلْكَ الْكُتُبَ بَعْدَ فَقْدِهَا وَإِنَّمَا يُجْمَعُ الْمَوْجُودُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ اعْتَمَدَ فِي إِصْلَاحِ غَلَطِهَا؟ قَائِلِينَ: إِنَّهُ كَتَبَ مَا كَتَبَ بِالْإِلْهَامِ فَكَانَ صَوَابًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْهَامَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى جَمْعِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ الَّذِينَ لَا ثِقَةَ بِنَقْلِهِمْ. وَلَوْ كَتَبَ عِزْرَا بِالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ لَكَتَبَ شَرِيعَةَ مُوسَى مُجَرَّدَةً مِنَ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ، وَمِنْهَا ذِكْرُ كِتَابَتِهِ لَهَا وَوَضْعُهَا فِي جَانِبِ التَّابُوتِ وَذِكْرُ مَوْتِهِ وَعَدَمُ مَجِيءِ مِثْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا أَنَّ أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ كُتِبَتْ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا أَنْ نُطِيلَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي يَشْهَدُ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى مُوسَى لِيُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ بِالْقَوْلِ وَالْكِتَابِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ الَّتِي عِنْدَ الْقَوْمِ فَهِيَ كُتُبٌ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ فِي الْيَهُودِ: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تُنْسَى تِلْكَ الْأُمَّةُ بَعْدَ فَقْدِ كِتَابِ شَرِيعَتِهَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا. فَمَا كَتَبَهُ عِزْرَا وَغَيْرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا حُفِظَ مِنْهَا إِلَى عَهْدِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَهَذَا كَافٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَلِلشَّهَادَةِ بِأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ; وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَبَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَعْرُوفِ فِي تَارِيخِ الْقَوْمِ. أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْجِيلِ " فَهُوَ يُونَانِيُّ الْأَصْلِ، وَمَعْنَاهُ الْبِشَارَةُ، قِيلَ: وَالتَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ وَهُوَ يُطْلَقُ عِنْدَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَةِ كُتُبٍ تُعْرَفُ بِالْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَهُوَ هَذِهِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (أَيِ الْحَوَارِيِّينَ) وَرَسَائِلُ بُولِسَ وَبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَرُؤْيَا يُوحَنَّا، أَيْ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا عَدَا الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ بِالِانْفِرَادِ، وَالْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُتُبٍ وَجِيزَةٍ فِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ أَنَاجِيلَ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكُتُبِ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي السَّنَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْإِنْجِيلُ الْأَوَّلُ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ وَفِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا ; عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا كُتِبَتْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمَسِيحِ، لَكِنَّ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي الْإِنْجِيلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ 37 وَمِنْهَا أَنَّهُ كُتِبَ

4

سَنَةَ 64 وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي الرَّابِعِ أَنَّهُ كُتِبَ فِي 98 لِلْمِيلَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا وَأَنَّ خِلَافَهُمْ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَأَقْوَى وَأَشَدُّ، وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى رَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يُتَمِّمُ الشَّرِيعَةَ وَالْحُكْمَ وَالْأَحْكَامَ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى فِي (5: 14) أَنَّ النَّصَارَى نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَالْيَهُودِ، وَهُمْ أَجْدَرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ كُتِبَتْ فِي زَمَنِ نُزُولِهَا، وَكَانَ الْأُلُوفُ مِنَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ بِهَا، ثُمَّ فُقِدَتْ، وَالْكَثِيرُ مِنْ أَحْكَامِهَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ، وَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا كُتُبُ النَّصَارَى فَلَمْ تُعْرَفْ وَتُشْهَرْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ لِلْمَسِيحِ؛ لِأَنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ، فَلَمَّا أَمِنُوا بِاعْتِنَاقِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ النَّصْرَانِيَّةَ سِيَاسَةً ظَهَرَتْ كُتُبُهُمْ وَمِنْهَا تَوَارِيخُ الْمَسِيحِ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى بَعْضِ كَلَامِهِ الَّذِي هُوَ إِنْجِيلُهُ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً فَتَحَكَّمَ فِيهَا الرُّؤَسَاءُ حَتَّى اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَمَنْ فَهِمَ مَا قُلْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ عُرْفِ الْقُرْآنِ وَعُرْفِ الْقَوْمِ فِي مَفْهُومِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمُمَحِّصُ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي أَضَاعَهَا الْقَوْمُ، وَهِيَ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَصِحُّ أَنَّ يُعَدَّ هَذَا التَّمْحِيصُ مِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَالْأَنَاجِيلَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَا تَوَارِيخَ أَهْلِهَا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ وَأُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ فَقَطْ، بَلْ كَانَ يُجَارِيهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: الْأَنَاجِيلُ لَا الْإِنْجِيلُ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا لَا تَرُوجُ عِنْدَهُ شُبَهَاتُ الْقِسِّيسِينَ الَّذِينَ يُوهِمُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ هِيَ الَّتِي شَهِدَ بِصِدْقِهَا الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلِمَةِ " أَنْزَلَ " أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا مَعَ تَرْتِيبِهَا مُكَرَّرَةٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهَا لَمَا أَفْرَدَ الْإِنْجِيلَ دَائِمًا، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً عِنْدَ النَّصَارَى حِينَئِذٍ، وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَيَانَ اشْتِقَاقِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَصْلٍ عَرَبِيٍّ وَمَا هُمَا بِعَرَبِيَّيْنِ، وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ - وَهِيَ عِبْرِيَّةٌ - الشَّرِيعَةُ، وَمَعْنَى الْإِنْجِيلِ - وَهِيَ يُونَانِيَّةٌ - الْبِشَارَةُ، وَإِنَّمَا الْمَسِيحُ مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُكْمِلُ الشَّرِيعَةَ لِلْبَشَرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمَا هُدًى لِلنَّاسِ فَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ أَقُولُ: الْفُرْقَانُ: مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَهُوَ هُنَا مَا يُفَرَّقُ وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ كَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ

وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِبَيَانِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ تَكُونُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِنْزَالُهُ مِنْ قَبِيلِ إِنْزَالِ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عَنِ الْحَضْرَةِ الْعَلِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ يُسَمَّى إِعْطَاؤُهُ إِنْزَالًا، وَمَا قَالَهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ ; فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ آلَةُ التَّفْرِقَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى: اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ [42: 17] وَقَدْ فَسَّرُوا الْمِيزَانَ بِالْعَدْلِ، فَاللهُ - تَعَالَى - قَرَنَ بِالْكِتَابِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْفُرْقَانَ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ فِي الْعَقَائِدِ فَنُفَرِّقُهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَثَانِيهِمَا الْمِيزَانُ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحُقُوقَ فِي الْأَحْكَامِ فَنَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، فَكُلُّ مَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ فِي الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَا قَامَ بِهِ الْعَدْلُ فَهُوَ حُكْمٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْعَقْلِ وَالْعَدْلِ أَوِ الْفُرْقَانِ وَالْمِيزَانِ كَمَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْكِتَابِ، وَلَسْنَا نَسْتَغْنِي بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَنْ آخَرِ. وَمَا زَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأَهْلُ التَّوْحِيدِ يَعُدُّونَ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ هِيَ الْأَصْلَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى عُلَمَاءِ الْأَحْكَامِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ أَنْ يَحْذُوا حَذْوَهُمْ فِي الْعَدْلِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يُمْكِنَ أَنْ يُعْرَفَ وَيُطْلَبَ لِذَاتِهِ وَأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَهَادِيَةٌ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسُهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ. وَالْغَزَالِيُّ يُفَسِّرُ الْمِيزَانَ بِالْعَقْلِ الَّذِي يُؤَلِّفُ الْحُجَجَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ قَوَامُ الْمَرْءِ الْعَقْلُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَابْنِ النَّجَّارِ دِينُ الْمَرْءِ عَقْلُهُ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طُرُقِ السَّعَادَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا يُلْقِي الْكَفْرُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ الَّتِي تُطْفِئُ نُورَهَا، وَمَا يَجُرُّهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي تُدَسِّي نُفُوسَهُمْ وَتُدَنِّسُهَا حَتَّى تَكُونَ ظُلْمَةُ عُقُولِهِمْ وَفَسَادُ نُفُوسِهِمْ مَنْشَأَ عَذَابِهِمُ الشَّدِيدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْحَيَاةُ الرُّوحِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْحَيَاةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَاغِلٌ وَلَا مُسَلٍّ مِنَ الْمَادَّةِ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَحِيمِ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ فَهُوَ بِعِزَّتِهِ يُنْفِذُ سُنَنَهُ فَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ خَالَفَهَا بِسُلْطَانِهِ الَّذِي لَا يُعَارَضُ، وَالِانْتِقَامُ مِنَ النِّقْمَةِ وَهِيَ السَّطْوَةُ وَالسُّلْطَةُ، وَيَسْتَعْمِلُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ الِانْتِقَامَ بِمَعْنَى التَّشَفِّي بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -.

5

إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَهُوَ يُنَزِّلُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْكُتُبِ وَيُعْطِيهِمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَهُمْ إِذَا أَقَامُوهُ. وَيَعْلَمُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَأَمْرُ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَلَا حَالُ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَاسْتَبْطَنَ النِّفَاقَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالْإِيمَانِ، وَكَأَنَّ هَذَا الِاسْتِئْنَافَ الْبَيَانِيَّ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِاسْتِئْنَافٍ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ الْأَرْحَامُ: هُوَ جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مُسْتَوْدَعُ الْجَنِينِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَنْ عَرَفَ مَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْحِكَمِ وَالنِّظَامِ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ. وَأَذْعَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ عَالَمٍ خَبِيرٍ بِالدَّقَائِقِ، حَكِيمٍ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ عَزِيزٍ لَا يُغْلَبُ عَلَى مَا قَضَى بِهِ عِلْمُهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَإِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نَفْسِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا - كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ - إِنَّهَا نَزَلَتْ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى نَحْوِ ثَمَانِينَ آيَةً فِي نَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فَذَكَرُوا عَقَائِدَهُمْ وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ بِكَوْنِهِ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الَّتِي عُرِفَتْ فِي تَوَالُدِ الْبَشَرِ، وَبِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَبِالْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - غَيْرَ جَازِمٍ بِهِ - وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَمَّا مَا قَالَهُ فِي تَوْجِيهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بَدَأَ بِذِكْرِ تَوْحِيدِ اللهِ لِيَنْفِيَ عَقِيدَتَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ هَذَا النَّفْيَ كَقَوْلِهِ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَيِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ قَدْ وُجِدَتْ قَبْلَ عِيسَى فَكَيْفَ تَقُومُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنْ قَالَ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ وَشَرَّعَ الشَّرِيعَةَ قَبْلَ وُجُودِ عِيسَى كَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُنَزِّلَ لِلْكُتُبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ نَبِيًّا مِثْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الْعَقْلَ لِلْبَشَرِ لِيُفَرِّقُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ وَاهِبًا لِلْعُقُولِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ السَّائِلِينَ تَجَاوَزُوا حُدُودَ الْعَقْلِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْكُتُبِ وَالْفُرْقَانِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ بِأَحَدٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ. قَالَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى بِإِخْبَارِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَهُوَ يُثْبِتُ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ إِلَخْ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ فِي وِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، أَيِ الْوِلَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ لَيْسَتْ

7

دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّةٍ، فَالْمَخْلُوقُ عَبْدٌ كَيْفَمَا خُلِقَ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعِيسَى لَمْ يُصَوِّرْ أَحَدًا فِي رَحِمِ أُمِّهِ ; وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بَعْدَ هَذَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَبِوَصْفِهِ - تَعَالَى - بِالْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذِكْرِ الْأَرْحَامِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ عِيسَى تَكَوَّنَ وَصُوِّرَ فِي الرَّحِمِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى تَمْيِيزِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ ; إِذْ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهَا حَتَّى حَاوَلْتُمْ جَعْلَهَا نَاقِضَةً لِلْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ. (بَحْثُ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ) أَقُولُ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: وَثَّقَهُ وَأَتْقَنَهُ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْكَمٍ يَمْنَعُ بِإِحْكَامِهِ تَطَرُّقَ الْخَلَلِ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَحِكْمَةُ الْفَرَسِ، قِيلَ وَهِيَ أَصْلُ الْمَادَّةِ. وَ " الْمُتَشَابِهُ " يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا لَهُ أَفْرَادٌ أَوْ أَجْزَاءٌ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَلَى مَا يَشْتَبِهُ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ يَلْتَبِسُ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: " وَتَشَابَهَ الشَّيْئَانِ وَاشْتَبَهَا، وَشَبَّهْتُهُ بِهِ وَشَبَّهْتُهُ إِيَّاهُ وَاشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتْ: الْتَبَسَتْ لِإِشْبَاهِ بَعْضِهَا بَعْضًا. وَفِي الْقُرْآنِ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَشَبِهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ: لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَالْمُشْتَبِهَاتِ: الْأُمُورَ الْمُشْكِلَاتِ " وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ بِقَوْلِهِ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [11: 1] وَهُوَ مِنْ إِحْكَامِ النَّظْمِ وَإِتْقَانِهِ أَوَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ آيَاتُهُ عَلَيْهَا، وَوُصِفَ كُلُّهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [39: 23] أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي هِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4: 82] أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [2: 25] فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا جِيئُوا بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ أَخِيرًا يُشْبِهُ مَا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُمُ اشْتَبَهُوا بِهِ لِهَذَا التَّشَابُهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي وُرُودِ التَّشَابُهِ بِمَعْنَى الْمُشْكِلِ الْمُلْتَبِسِ أَنْ يَكُونَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ بِسَبَبِ شَبَهِهِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مُلْتَبِسٍ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَسَاسِ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَتَانِ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ كُلُّهُ بِالْمُحْكَمِ وَبِالْمُتَشَابِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتْقَنٌ وَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِيمَا ذُكِرَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فِي مَعْنًى خَاصٍّ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [6: 151] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا. وَالْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي تَشَابَهَتْ عَلَى الْيَهُودِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ ; وَذَلِكَ

أَنَّهُمْ أَوَّلُوهَا عَلَى حِسَابِ الْجُمَلِ، فَطَلَبُوا أَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهَا مُدَّةَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَاشْتَبَهَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْوَصَايَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُسَمَّى بِالْمُجْمَلِ، أَوْ هُوَ مَا تَكُونُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَهَذَا رَأَيٌّ مُسْتَقِلٌّ يَجْعَلُ الْمَعْنَى الْخَاصَّ عَامًّا وَهُوَ لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا كَانَ دَلِيلُهُ وَاضِحًا لَائِحًا، كَدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ. عَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى الْأَصَمِّ وَبَحَثَ فِيهِ. (رَابِعُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ كُلُّ مَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ، وَالْمُتَشَابِهَ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَمَقَادِيرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهَا الرَّازِيُّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى غَيْرِهَا، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ فَنُورِدُهَا فِي سِيَاقِ الْعَدَدِ. (خَامِسُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ: مَا أَحْكَمَ اللهُ فِيهَا بَيَانَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ مِنْهَا: مَا أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَ أَلْفَاظُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِبَارَتُهُ عِنْدَهُ: مُحْكَمَاتٌ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ يَصْرِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2: 26] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [6: 125] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [47: 17] وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا يَعْنِي بِالْمُتَشَابِهِ: مَا فِيهِ إِبْهَامٌ أَوْ عُمُومٌ أَوْ إِطْلَاقٌ، أَوْ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا عَمَلِيًّا، فَهُوَ عِنْدُهُ خَاصٌّ بِالْإِنْشَاءِ دُونَ الْخَبَرِ. (سَادِسُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ مِنْ آيِ الْكِتَابِ: مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهَ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِبَارَتُهُ عِنْدَهُ هَكَذَا: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَةٌ فِي الصِّدْقِ، لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ ابْتَلَى اللهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، لَا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرَّفْنَ عَنِ الْحَقِّ اهـ. وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُ تَجْعَلُ الْمُحْكَمَ بِمَعْنَى النَّصِّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُقَابِلُهُ. (سَابِعُهَا) أَنَّ التَّقْسِيمَ خَاصٌّ بِالْقِصَصِ، فَالْمُحْكَمُ مِنْهَا مَا أُحْكِمَ وَفُصِّلَ فِيهِ خَبَرُ الْأَنْبِيَاءِ

مَعَ أُمَمِهِمْ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اشْتَبَهَتِ الْأَلْفَاظُ بِهِ مِنْ قِصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ فِي السُّورِ، وَأَطَالَ فِي التَّمْثِيلِ لَهُ. (ثَامِنُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْمُحْكَمُ: مَا يُقَابِلُهُ. (تَاسِعُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ، فَالْمُحْكَمُ: هُوَ قِسْمُ الْإِنْشَاءِ. (عَاشِرُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: آيَاتُ الصِّفَاتِ (أَيْ صِفَاتُ اللهِ) خَاصَّةً وَمِثْلُهَا أَحَادِيثُهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مَعْنَى الْمُتَشَابِهَاتِ: التَّشَابُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ عَدَمَ فَهْمِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَوَصْفُ التَّشَابُهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ لِلْآيَاتِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا، أَيْ إِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَجِدُ مَعَانِيَ مُتَشَابِهَةً فِي فَهْمِهَا مِنَ اللَّفْظِ لَا يَجِدُ الذِّهْنُ مُرَجِّحًا لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا كَانَ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى فِيهِ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَنَفْيُهُ عَنْهُ مُتَسَاوِيَانِ، فَقَدْ تَشَابَهَ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ أَوْ مَا دَلَّ فِيهِ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ وَالْعَقْلُ عَلَى خِلَافِهِ فَتَشَابَهَتِ الدَّلَالَةُ وَلَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ، كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَكَوْنِ عِيسَى رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَنْفِي الْعَقْلُ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ، أَمَّا كَوْنُ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ أَصْلُهُ وَعِمَادُهُ أَوْ مُعْظَمُهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَكِنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ الَّذِي دُعِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَفْهَمُوهَا وَيَهْتَدُوا بِهَا، وَعَنْهَا يَتَفَرَّعُ غَيْرُهَا وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ، فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْنَا شَيْءٌ نَرُدُّهُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّدِّ أَنْ نُئَوِّلَهُ بَلْ أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَسَاسُ الدِّينِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إِلَّا احْتِمَالًا مَرْجُوحًا. مِثَالُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20: 5] وَقَوْلُهُ: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [48: 10] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [4: 171] هَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبَ جُمْهُورٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا مُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَخْبَارُ الْغَيْبِ، كَصِفَةِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَى اتِّبَاعِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّنْفِيرِ اسْتِعَانَةً بِمَا فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مِنْ إِنْكَارِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ وَلَا يَنَالُهُ حِسُّهُمْ كَالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَشُئُونِ تِلْكَ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. وَابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: هُوَ أَنْ يَتَّبِعَ أَهْلُ

الزَّيْغِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُجَسِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَرُوحٌ مِنْهُ فَيَأْخُذُونَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْأَصْلِ الْمُحْكَمِ لِيَفْتِنُوا النَّاسَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى أَهْوَائِهِمْ وَيَخْتَلِبُوهُمْ بِشُبْهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رُوحٌ وَالْمَسِيحَ رُوحٌ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَجِنْسُهُ لَا يَتَبَعَّضُ فَهُوَ هُوَ. فَالتَّأْوِيلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْجَاعِ. أَيْ أَنَّهُمْ يُرْجِعُونَهُ إِلَى أَهْوَائِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ لَا إِلَى الْأَصْلِ الْمُحْكَمِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ، وَأَمَّا ابْتِغَاءُ تَأْوِيلِهِ فَهُوَ أَنَّهُمْ يُطَبِّقُونَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيُحَوِّلُونَ خَبَرَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَخْبَارَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَنْ مَعَانِيهَا وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى مَعَانٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا لِيُخْرِجُوا النَّاسَ عَنِ الدِّينِ بِالْمَرَّةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36: 79] وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ، وَبَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اسْتَدَلَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ عِنْدَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَبِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافًا بِأَدِلَّةٍ (مِنْهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَمَّ الدِّينِ يَتَّبِعُونَ تَأْوِيلَهُ وَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْءَ وَفَهِمَهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ وَهَذَا رَأْيُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ". وَقَالُوا فِي اسْتِدْلَالِ أُولَئِكَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - إِنَّمَا ذَمَّ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ التَّأْوِيلَ بِذَهَابِهِمْ فِيهِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْمُحْكَمَاتِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَيْسُوا كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، فَهَؤُلَاءِ يُفِيضُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فَهْمَ الْمُتَشَابِهِ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمُحْكَمِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَلَّمُوا بِالْمُتَشَابِهِ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِاتِّفَاقِهِ مَعَ الْمُحْكَمِ فَهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ لَا يَضْطَرِبُونَ وَلَا يَتَزَعْزَعُونَ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَبِذَاكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّنَا، وَلَا غَرْوَ فَالْجَاهِلُ فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ وَالرَّاسِخُ فِي ثَبَاتٍ لَازِمٍ. وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى يَنْبُوعِ الْحَقِيقَةِ لَا تُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْمَجَارِي فَهُوَ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِذَاتِهِ وَيُرْجِعُ كُلَّ قَوْلٍ إِلَيْهِ قَائِلًا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَوْ مَا خَالَفَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمُرَادَ مِنْهُ وَوُرُودُ الْمُتَشَابِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْقُرْآنِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِ الْوَحْيِ الْإِخْبَارُ بِأَحْوَالِ

الْآخِرَةِ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ كَمَا نُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَيْ حَقِيقَةَ مَا تَئُولُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ مَا يَقَعُ تَحْتَ حُكْمِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّهِمْ وَلَا يَتَطَاوَلُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِحِسِّهِمْ وَلَا لِعَقْلِهِمْ فِيهِ وَإِنَّمَا سَبِيلُهُ التَّسْلِيمُ فَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ لَازِمًا، وَإِنَّمَا خَصَّ الرَّاسِخِينَ بِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مَا يَجُولُ فِيهِ عِلْمُهُمْ وَمَا لَا يَجُولُ فِيهِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَخْلُوَ الْكِتَابُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَيَكُونَ كُلُّهُ مُحْكَمًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يُقَابِلُ الْمُتَشَابِهَ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ هُنَا بِمَعْنَى مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَا بِمَعْنَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ، قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [7: 53] فَتَبَيَّنَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنْ لَا يُقَالَ عَلَى هَذَا: لِمَاذَا كَانَ الْقُرْآنُ مِنْهُ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ؟ لِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ فَلَا يُلْتَمَسُ لَهُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى أَصْلِهِ. (قَالَ) : وَأَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ بَلْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا مِنْ صِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَخْذُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَصِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [4: 171] فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ السَّمْعِيُّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْتِي الْخِلَافُ فِي عِلْمِ الرَّاسِخِينَ بِتَأْوِيلِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَالَّذِينَ قَالُوا بِالنَّفْيِ جَعَلُوا حِكْمَةَ تَخْصِيصِ الرَّاسِخِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ هِيَ تَمْيِيزُهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَإِعْطَاءُ كُلٍّ حُكْمَهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَرُدُّونَ مَا تَشَابَهَ ظَاهِرُهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ أَوْ أَنْبِيَائِهِ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْمُحْكَمُ وَيَأْخُذُونَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُحْكَمِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَا خَصَّ الرَّاسِخِينَ بِهَذَا الْعِلْمِ إِلَّا لِبَيَانِ مَنْعِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَوْضِ فِيهِ، قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِالرَّاسِخِينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمِ التَّهَجُّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْغَيْبِ. قَالَ وَهَاهُنَا يَأْتِي السُّؤَالُ: لِمَ كَانَ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟ وَلِمَ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مُحْكَمًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ قَدْ نَزَلَ هَادِيًا وَالْمُتَشَابِهُ يَحُولُ دُونَ الْهِدَايَةِ بِمَا يُوقِعُ اللَّبْسَ فِي الْعَقَائِدِ. وَيَفْتَحُ بَابَ الْفِتْنَةِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ؟ أَقُولُ: وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ هَذَا السُّؤَالَ مُفَصَّلًا، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ خَمْسَةَ أَجْوِبَةٍ عَنْهُ، قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ: إِنَّ بَعْضَ الْمُلْحِدَةِ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنِ احْتِجَاجِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ،

وَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَ كُلِّ مَذْهَبٍ يُعِدُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحْكَمِ وَمَا يُخَالِفُهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَيَلْجَأُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. (قَالَ) : أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ جَلِيًّا نَقِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الْغَرَضِ فِي دِينِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي فَوَائِدِ الْمُتَشَابِهَاتِ وُجُوهًا وَنَحْنُ نَنْقُلُهَا كَمَا أَوْرَدَهَا بِاخْتِصَارٍ قَلِيلٍ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْنَى وَهِيَ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ مَتَّى كَانَتِ الْمُتَشَابِهَاتُ مَوْجُودَةً كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَصْعَبَ وَأَشَقَّ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3: 142] . (الثَّانِي) لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ تَصْرِيحُهُ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، فَالِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا حَصَلَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَعَلَى الْمُتَشَابِهِ فَحِينَئِذٍ يَطْمَعُ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُقَوِّي مَذْهَبَهُ وَيُؤْثِرُ مَقَالَهُ فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ وَيَصِلُ إِلَى الْحَقِّ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، وَيَصِلُ إِلَى ضِيَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْبَيِّنَةِ. (الرَّابِعُ) لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرُوا إِلَى تَعَلُّمِ طُرُقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. (الْخَامِسُ) وَهُوَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ اشْتَمَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْبُو فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ فِي التَّعْطِيلِ، فَكَانَ الْأَصَحُّ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَيَتَخَيَّلُونَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَكْشِفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُحْكَمَاتُ، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. أَقُولُ: إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ نَيِّرٍ، وَلَمْ يُحْسِنْ بَيَانَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ، وَأَسْخَفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَأَشَدُّهَا تَشَوُّهًا الثَّانِي وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَجَازَ لَهُ عَقْلُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ لِيَسْتَمِيلَ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ إِلَى النَّظَرِ فِيهِ وَأَنَّ هَذَا طَرِيقٌ إِلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ عِنْدَ نُزُولِهِ؟ وَمَنِ اهْتَدَى مِنْ أَهْلِهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؟ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ

السَّبَبِ الْأَقْوَى مِنْ دَعْوَةِ الْعَوَامِّ إِلَى الْمُتَشَابِهِ أَوَّلًا! ! ! وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ أَجْوِبَةِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ عِنْدُهُ ثَلَاثَةٌ: (1) إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْمُتَشَابِهَ لِيَمْتَحِنَ قُلُوبَنَا فِي التَّصْدِيقِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مَعْقُولًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ وَلَا مِنَ الْبُلَدَاءِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّسْلِيمِ لِرُسُلِهِ. (2) جَعَلَ اللهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ حَافِزًا لِعَقْلِ الْمُؤْمِنِ إِلَى النَّظَرِ كَيْلَا يَضْعُفَ فَيَمُوتَ فَإِنَّ السَّهْلَ الْجَلِيَّ جِدًّا لَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَالدِّينُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَجَالًا لِلْبَحْثِ يَمُوتُ فِيهِ، وَإِذَا مَاتَ فِيهِ لَا يَكُونُ حَيًّا بِغَيْرِهِ، فَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ إِذَا قَوِيَ فِي شَيْءٍ قَوِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا ضَعُفَ ضَعُفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - أَنْ جَعَلَ فِي الدِّينِ مَجَالًا لِبَحْثِ الْعَقْلِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، فَهُوَ يَبْحَثُ أَوَّلًا فِي تَمْيِيزِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ فِي الْأَدِلَّةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَطُرُقِ الْخِطَابِ وَوُجُوهِ الدَّلَالَةِ لِيَصِلَ إِلَى فَهْمِهِ وَيَهْتَدِيَ إِلَى تَأْوِيلِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَطَفَ وَالرَّاسِخُونَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ. (3) إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا إِلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ بَعْثَتُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ كَنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالذَّكِيِّ وَالْبَلِيدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ، وَكَانَ مِنَ الْمَعَانِي مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَتَشْرَحُ كُنْهَهُ بِحَيْثُ يَفْهَمُهُ كُلُّ مُخَاطِبٍ عَامِّيًّا كَانَ أَوْ خَاصِّيًّا، أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ مَا يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ وَيُؤْمَرُ الْعَامَّةُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ، فَيَكُونُ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحٍ مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى، فَالْخَاصَّةُ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ الْعَامَّةُ ; وَلِذَلِكَ فُتِنَ النَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَاسْتِحَالَةُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جِنْسٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ وَلَدٌ، وَالْمُحْكَمُ عِنْدَنَا فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ [3: 59] وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَقُولُ: وَعِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْمَسِيحِ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا " [ (17: 3) ] وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ ". (قَالَ) : وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً وَيَنْطَبِقُ عَلَى حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَوْ أُخِذَ مِنْهَا أَيُّ مَعْنًى وَحُمِلَ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ لَصَحَّ، وَيُوجَدُ هَذَا النَّوْعُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عَلَى

حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [34: 24] وَمِنْهُ إِبْهَامُ الْقُرْآنِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُعْتَدِلَةِ بِالْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا بِلَادًا لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فِيهَا، كَالْبِلَادِ الَّتِي تُشْرِقُ فِيهَا الشَّمْسُ نَحْوَ سَاعَتَيْنِ لَا يَزِيدُ نَهَارُ أَهْلِهَا عَلَى ذَلِكَ، أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [30: 17، 18] وَسَبَبُ هَذَا الْإِبْهَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ دِينٌ عَامٌّ لَا خَاصٌّ بِبِلَادِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَسْهُلَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ حَيْثُمَا بَلَغَ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِجْمَالِ وَالْإِبْهَامِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ يَجْعَلُ لِعُقُولِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَسِيلَةً لِلْمُرَاوَحَةِ فِيهِ وَاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِحَسْبِهِ. فَأَيْنَمَا ظَهَرَتِ الْحَقِيقَةُ وَجَدْتَ لَهَا حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى اشْتِمَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ وَمَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَيَفْقَهُ حِكْمَتَهُ إِلَّا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ وَالْعُقُولِ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الرَّاسِخُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَاسِخِينَ إِلَّا بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّدَبُّرِ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي هِيَ الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ، حَتَّى إِذَا عَرَضَ الْمُتَشَابِهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَسَنَّى لَهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا تِلْكَ الْقَوَاعِدَ الْمُحْكَمَةَ، وَيَنْظُرُوا مَا يُنَاسِبُ الْمُتَشَابِهَ مِنْهَا فَيَرُدُّونَهُ إِلَيْهِ. أَقُولُ: وَهَذَا التَّخْرِيجُ يَصْدُقُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا كَانَ نَبَأً عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ قِيَاسَ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ قِيَاسٌ بِالْفَارِقِ اهـ. (فَصْلٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ مَا يَرْوِي الْغَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا صَفْوَةُ مَا قَالُوهُ، وَخَيْرُهُ كَلَامُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى كَلَامٍ فِي الْمُتَشَابِهِ وَالتَّأْوِيلِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ كُنَّا قَرَأْنَا بَعْضَهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَفْسِيرِهِ لِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ وَقَرَأْنَاهُ بِإِمْعَانٍ، فَإِذَا هُوَ مُنْتَهَى التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْبَيَانِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ بَيَانٌ، أَثْبَتَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمُتَشَابِهَ إِضَافِيٌّ إِذَا اشْتَبَهَ فِيهِ الضَّعِيفُ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ الرَّاسِخُ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - هُوَ مَا تَئُولُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ فِي الْوَاقِعِ كَكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَكَيْفِيَّةِ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ غَيْرُهُ - تَعَالَى - قُدْرَتَهُ وَتَعَلُّقَهَا بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَكَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَقَائِمٌ بِقُدْرَتِهِ، وَلَا كَيْفِيَّةَ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ وَلَا نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَؤُلَاءِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [32: 17]

فَلَيْسَتْ نَارُ الْآخِرَةِ كَنَارِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَلَيْسَتْ ثَمَرَاتُ الْجَنَّةِ وَلَبَنُهَا وَعَسَلُهَا مِنْ جِنْسِ الْمَعْهُودِ لَنَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ آخَرُ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ وَيُنَاسِبُهُ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالْإِطْنَابِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مُسْتَمَدِّينَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الْحَبْرِ الْعَظِيمِ نَاقِلِينَ بَعْضَ مَا كَتَبَهُ فَنَقُولُ: إِنَّمَا غَلِطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَإِنَّ تَفْسِيرَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالْمُوَاضَعَاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ قَدْ كَانَ مَنْشَأَ غَلَطٍ يَصْعُبُ حَصْرُهُ. ذُكِرَ التَّأْوِيلُ فِي سَبْعِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ - هَذِهِ السُّورَةُ أُولَاهَا، وَالثَّانِيَةُ: (سُورَةُ النِّسَاءِ) وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4: 59] فَسَّرَ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ بِالْعَاقِبَةِ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْمَآلِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ، فَهُوَ يَشْمَلُ حُسْنَ الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ يَكُونُ التَّنَازُعُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَكْثَرَ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَسُنَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ يَكُونُ مَآلُهُ الْوِفَاقُ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَلَا يُحْتَمَلُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُنَا التَّفْسِيرَ أَوْ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّنَازُعِ وَحُسْنِ عَاقِبَةِ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. وَالثَّالِثَةُ: (سُورَةُ الْأَعْرَافِ) وَفِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [7: 52، 53] فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَأْوِيلَهُ هُنَا بِتَصْدِيقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ; أَيْ يَوْمَ يَظْهَرُ صِدْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَأْوِيلُهُ ثَوَابُهُ، وَمُجَاهِدٌ: جَزَاؤُهُ، وَالسَّدِّيُّ: عَاقِبَتُهُ، وَابْنُ زَيْدٍ: حَقِيقَتُهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْسِيرُهُ. الرَّابِعَةُ: (سُورَةُ يُونُسَ) قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ تَصْدِيقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُنَزَّهًا عَنِ الِافْتِرَاءِ وَالرَّيْبِ، وَدَعْوَاهُمُ الْبَاطِلَةُ فِيهِ وَبَعْدَ تَعْجِيزِهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ -: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [10: 39] فَسَّرَ أَهْلُ الْأَثَرِ تَأْوِيلَهُ هُنَا بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ; أَيْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِهِ وَوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمُ الْهَلَاكُ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ كَعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ.

الْخَامِسَةُ: (سُورَةُ يُوسُفَ) جَاءَ فِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12: 6] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا مَعَ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [12: 36] أَيْ مَا رَأَيَاهُ فِي الْمَنَامِ. وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [12: 37] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ مَلَأِ فِرْعَوْنَ: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ [12: 44] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الَّذِي نَجَا مِنْ ذَيْنَكِ الْفَتَيَيْنِ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [12: 45] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِخِطَابِ يُوسُفَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [12: 100] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12: 101] فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ وَالْأَحْلَامِ هُوَ الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا قَوْلٌ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [12: 37] فَإِخْبَارُهُ بِالتَّأْوِيلِ هُوَ إِخْبَارُهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي سَيَقَعُ فِي الْمَآلِ، وَفِي قَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ أَيْ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ سُجُودِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ لَهُ هُوَ الْأَمْرُ الْوَاقِعِيُّ الَّذِي آلَتْ إِلَيْهِ رُؤْيَاهُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [12: 4] . السَّادِسَةُ: (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ) وَفِيهَا قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [17: 35] أَيْ مَآلًا. السَّابِعَةُ: (سُورَةُ الْكَهْفِ 18) وَفِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْعَبْدِ الَّذِي أَتَاهُ اللهُ رَحْمَةً وَعِلْمًا مِنْ لَدُنْهُ فِي خِطَابِ مُوسَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [18: 78] وَقَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ نَبَّأَهُ بِمَا تَئُولُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُوسَى: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [18: 82] فَالْإِنْبَاءُ بِالتَّأْوِيلِ إِنْبَاءٌ بِأُمُورٍ عَمَلِيَّةٍ سَتَقَعُ فِي الْمَآلِ لَا بِالْأَقْوَالِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْمَآلِ تَصْدِيقًا لِخَبَرٍ أَوْ رُؤْيَا أَوْ لِعَمَلٍ غَامِضٍ يُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَجِبُ أَنْ تُفَسَّرَ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ التَّأْوِيلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ جَعْلُهُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا، وَلَا عَلَى مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ مِنْ جَعْلِ التَّأْوِيلِ عِبَارَةً عَنْ نَقْلِ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إِلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَهْلِ الْأُصُولِ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ. بِحَمْلِ التَّأْوِيلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، تَمَسَّكَتِ الْبَاطِنِيَّةُ فِي دَعْوَاهُمْ إِذْ قَالُوا:

إِنَّ أَحَدًا لَمْ يَفْهَمِ الْقُرْآنَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّ اللهَ وَعَدَ بِتَأْوِيلِهِ فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِظَارِ مَنْ يَبْعَثُهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْبَابِيَّةُ - وَهُمْ آخِرُ فِرْقَةٍ ظَهَرَتْ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ - تَدَّعِي أَنَّ الْبَابَ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَالْبَهَائِيَّةُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ الْبَهَاءُ، وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ دُعَاتِهِمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [7: 53] الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا، فَقُلْتُ لَهُ تَأْوِيلُهُ مَا وَعَدَ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [47: 18] وَقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [36: 49] فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ تَأْوِيلُهُ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَفْهُومٌ إِنِ اشْتَبَهَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ عَلِمَهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ مَا نَصَّهُ: " وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، أَوْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ مَعْنَيَانِ يَعْلَمُونَ أَحَدَهُمَا وَلَا يَعْلَمُونَ الْآخَرَ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ - وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَعْنَاهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَهُ تَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَذْمُومَ تَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَشَابِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ التَّفْسِيرُ فِي لُغَةِ السَّلَفِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ مَعْنَاهَا بَلْ يَتْلُونَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا، لَهُ زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ

يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَكَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ: مَنِ اسْتَجَازَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ قُتَيْبَةَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَيَقُولُونَ. كُلُّ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَصْنِيفِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ. قُلْتُ: وَيُقَالُ هُوَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِثْلُ الْجَاحِظِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ خَطِيبُ السُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْجَاحِظَ خَطِيبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا الْقَوْلُ الْآخَرُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَارَتْ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ، فَتُرَدُّ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ. وَأُولَئِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَرَنَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَمَّ مُبْتَغِيَ الْمُتَشَابِهِ وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ عَطْفٍ مُفْرَدٍ لَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ الَّتِي تَعْطِفُ جُمْلَةً لَقَالَ: وَيَقُولُونَ. فَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللهَ قَالَ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا [59: 8] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ [59: 9] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [59: 10] قَالُوا: فَهَذَا عَطْفٌ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَالْفِعْلُ حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَخُصَّ الرَّاسِخِينَ، بَلْ قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، فَلَمَّا خَصَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ عُلِمَ أَنَّهُمُ امْتَازُوا بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَعَلِمُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَآمَنُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَكْمَلَ فِي الْوَصْفِ، وَقَدْ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا تَذَكُّرًا يَخْتَصُّ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَإِنْ كَانَ مَا ثَمَّ إِلَّا إِيمَانٌ بِالْأَلْفَاظِ فَلَا يَذَّكَّرُ لِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى مَا أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فَلَمَّا وَصَفُوهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ قَرَنَ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ أُرِيدَ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ لَقَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ مُجَرَّدَ الِاخْتِبَارِ بِالْإِيمَانِ جَمَعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. "

قَالُوا: وَأَمَّا الذَّمُّ فَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقَدْحَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْمُتَشَابِهَ لِإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَهِيَ فِتْنَتُهَا بِهِ وَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَيْسَ طَلَبُهُمْ لِتَأْوِيلِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ بَلْ لِإِجْلِ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ صَبِيغُ بْنُ عِسْلٍ ضَرَبَهُ عُمَرُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْمُتَشَابِهِ كَانَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ. وَهَذَا كَمَنْ يُورِدُ أَسْئِلَةَ إِشْكَالَاتٍ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ وَيَقُولُ: مَاذَا أُرِيدَ بِكَذَا؟ وَغَرَضُهُ التَّشْكِيكُ وَالطَّعْنُ فِيهِ، لَيْسَ غَرَضُهُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ وَلِهَذَا يَتَّبِعُونَ أَيْ يَطْلُبُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَقْصِدُونَهُ دُونَ الْمُحْكَمِ مِثْلُ الْمُسْتَتْبِعِ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ وَهَذَا فِعْلُ مَنْ قَصْدُهُ الْفِتْنَةُ، وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَنْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لِيَعْرِفَهُ وَيُزِيلَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمُحْكَمِ مُتَّبِعٌ لَهُ مُؤْمِنٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا يَقْصِدُ فِتْنَةً، فَهَذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللهُ. وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَقُولُونَ مِثْلَ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ ثَنَا بَقِيَّةُ ثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ثَنِي عِمَارَةُ بْنُ رَاشِدٍ الْكِنَائِيُّ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: " يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ لَهُ فِيهِ هَوًى وَنِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ يَلْتَمِسُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ أَمْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِهِمْ، أُولَئِكَ يُعْمِي اللهُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الْهُدَى، وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ هَوًى وَلَا نِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ، فَمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ عَمِلَ بِهِ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَكَلَهُ إِلَى اللهِ، لَيَتَفَقَّهَنَّ أُولَئِكَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَيَبْعَثَنَّ اللهُ لَهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ الْآيَةَ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ يُفْهِمَهُ إِيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ " قَالَ بَقِيَّةُ: اسْتَهْدَى ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ عُتْبَةَ هَذَا، فَهَذَا مُعَاذٌ يَذُمُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ لِقَصْدِ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الْفِقْهُ فَقَدْ أُخْبِرَ أَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ الْمُتَشَابِهَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ. " قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا عَرَضَ لِأَحَدِهِمْ شُبْهَةٌ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَ عُمَرُ فَقَالَ: " أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ " وَسَأَلَهُ أَيْضًا عُمَرُ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَمِنَّا؟ " وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [6: 82] شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ [2: 284] شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: " أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ " قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا جَمِيعَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عِنْدَهَا " وَتَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَكَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَقِفُ فِيهِ لَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ. لَكِنْ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُتَدَبَّرُ، وَلَا قَالَ: لَا تَدَبَّرُوا الْمُتَشَابِهَ. وَالتَّدَبُّرُ بِدُونِ الْفَهْمِ مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَا يُتَدَبَّرُ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْمُتَشَابِهَ بِحَدٍّ ظَاهِرٍ حَتَّى يُجْتَنَبَ تَدَبُّرُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: الْمُتَشَابِهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِدُونِ فَهْمِ الْمَعْنَى. " قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنَ الْعَظِيمِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا هُوَ وَلَا جِبْرِيلُ، بَلْ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ. وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَقَلِّ النَّاسِ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِفْهَامُ، فَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَاطِلَ وَالْعَبَثَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ نَزَّلَهُ عَلَى خَلْقِهِ لَا يُرِيدُ بِهِ إِفْهَامَهُمْ؟ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْمُلْحِدِينَ، وَأَيْضًا فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنُوا ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ: فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يَكُونُ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يَكُونُ فِي آيَاتِ الْخَيْرِ، وَتِلْكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ لِمَعْنَاهَا فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ النُّفَاةِ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنًى لِلْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللهُ لَا مَلَكٌ وَلَا رَسُولٌ وَلَا عَالِمٌ، وَهَذَا خِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُتَشَابِهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. " وَأَيْضًا فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ يَكُونُ لِلْمُحْكَمِ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَنْفَرِدَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَالْمُحْكَمُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِعِبَادِهِ، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ؟ وَمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ لَمْ يَنْزِلْ خِطَابًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ السَّاعَةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ اسْتَأْثَرَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَلَامٍ أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ؟ وَلِهَذَا صَارَ كُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتٍ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَاهَا يَجْعَلُهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ،

ثُمَّ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ أَهْلِ نَجْرَانَ وَقَدِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: (إِنَّا) وَ (نَحْنُ) وَبِقَوْلِهِ (كَلِمَةٍ مِنْهُ) ، (وَرُوحٍ مِنْهُ) وَهَذَا قَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَدَبَّرَهُ وَنَعْقِلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَعَانِيَهُ، وَلَوْلَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزِ التَّكَلُّمُ بِلَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ: " مَا أَنْزَلَ اللهُ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا ". " وَمَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ الْيَهُودِ عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي (الم) بِحِسَابِ الْجُمَلِ فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَهَذَا قَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا نَزَلَ صَدْرُهَا مُتَأَخِّرًا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَدَلَالَةَ الْحَرْفِ عَلَى بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللهُ بِكَلَامِهِ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ، بَلْ دَعْوَى دَلَالَةِ الْحُرُوفِ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدَ عَلِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ، أَمَّا دَعْوَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ لَا يَعْرِفُهَا الرَّسُولُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ قَدْحِ الْمَلَاحِدَةِ فِيهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعِلْمِيَّةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ لَا يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ وَلَا غَيْرُهُ. " وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا يَعْرِفُهُ هَذَا. وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ، وَتَارَةً لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى بِغَيْرِهِ، وَتَارَةً لِشُبْهَةٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَتَارَةً لِعَدَمِ التَّدَبُّرِ التَّامِّ، وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا وَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِعَطْفٍ مُفْرَدٍ أَوْ يَكُونُ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقًّا وَهِيَ قِرَاءَتَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ غَيْرُ التَّأْوِيلِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاوَ اسْتِئْنَافٍ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهُ عَنْ غَيْرِ اللهِ هُوَ الْكَيْفِيَّاتُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّ

الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ " وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْسِيرِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ. " فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الصَّوَابَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللهُ وَجَعَلَ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا التَّابِعِينَ بَلْ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بَلْ وَلَا عَلِمْتُ أَحَدًا فِيهِمْ خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ تَخْصِيصُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا شَائِعًا فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَطِنُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْآيَةِ هَذَا مَعْنَاهُ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مَعَانِيَ تُخَالِفُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا شِيَعًا، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَذْكُورُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، وَإِنَّمَا الْخَطَأُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُجَرَّدَ هَذَا الْخِطَابِ لَا يُبَيِّنُ كَمَالَ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ ; فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَنْفِيُّ، بَلْ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَاطِلِ أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ لِظَاهِرِ الْآيَةِ مَعْنًى، إِمَّا مَعْنًى يَعْتَقِدُهُ وَإِمَّا مَعْنًى بَاطِلًا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَيَكُونُ مَا قَالَهُ بَاطِلًا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُحْدَثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إِلَى خِلَافِ مَدْلُولِهِ. " وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ وَقَالَ: اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ فَقَدْ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: " عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَأَيْضًا فَالنُّقُولُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ ; فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَمِنَ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ " وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ يُعْلَمُ تَأْوِيلُهَا وَهِيَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ خَبَرٌ عَنِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ

وَالنَّارِ أَوْ عَنِ الْقَصَصِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، فَجُمْهُورُ الْقُرْآنِ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَصْعَبُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الرُّؤْيَا عَلَى تَأْوِيلِهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا يَهْتَدِي لَهَا جُمْهُورُ النَّاسِ، بِخِلَافِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ عَلَّمَ عِبَادَهُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِي الْمَنَامِ فَلَأَنْ يُعَلِّمَهُمْ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12: 6] وَقَالَ يُوسُفُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12: 101] وَقَالَ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [12: 37] " وَأَيْضًا فَقَدْ ذَمَّ اللهُ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [10: 38، 39] وَقَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [27: 83، 84] وَهَذَا ذَامٌّ لِمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَمَا قَالَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَنَاقِضَةَ بَعْضُهَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ كَالْمُكَذِّبِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ كَالْمُكَذِّبِ بِالْبَاطِلِ ; وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ. " وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِنْ بُنِيَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ إِلَّا اللهُ لَزِمَهُ أَنْ يُكَذِّبَ كُلَّ مَنِ احْتَجَّ بِآيَةٍ خَبَرِيَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ قَالَ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ بَعْضُ الْخَبَرِيَّاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ فَصْلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ ذِكْرُ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ أَحَدٌ، وَلَوْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ انْتَقَضَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. "

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَأَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَعَ التَّكْذِيبِ، وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَمِّهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ الذَّمُّ عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ؟ وَمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعُذْرِ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ بِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، فَلَوْ لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا الرَّاسِخُونَ كَانَ تَرْكُ هَذَا الْوَصْفِ أَقْرَبَ فِي ذَمِّهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ. " وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِوَجْهٍ آخَرَ هُوَ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ أَنَّ اللهَ ذَمَّ الزَّائِغِينَ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِتْنَةَ لَا يَقْصِدُونَ الْعِلْمَ وَالْحَقَّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [8: 23] فَإِنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَسْمَعَهُمْ أَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ، يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ حُسْنَ قَصْدٍ وَقَبُولٍ لِلْحَقِّ لَأَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ، لَكِنْ لَوْ أَفْهَمَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنِ الْإِيمَانِ وَقَبُولِ الْحَقِّ لِسُوءِ قَصْدِهِمْ، فَهُمْ جَاهِلُونَ ظَالِمُونَ، كَذَلِكَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ مَذْمُومُونَ بِسُوءِ الْقَصْدِ مَعَ طَلَبِ عِلْمِ مَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ إِذَا عِيبَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعِلْمِ وَمُنِعُوهُ يُعَابُ مَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَجَعَلَهُ اللهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. " فَإِنْ قِيلَ: فَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ: إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. قَالَ: وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ [7: 187] وَقَوْلِهِ: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [25: 38] فَأَنْزَلَ الْمُحْكَمَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيَسْعَدَ، وَيَكْفُرَ بِهِ الْكَافِرُ فَيَشْقَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالَّذِي يَرْوِي الْقَوْلَ الْآخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ إِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، بَلِ الثَّابِتُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَيْسَ لَهَا إِسْنَادٌ يُعْرَفُ حَتَّى يُحْتَجَّ بِهَا. وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " مَا فِي كِتَابِ اللهِ آيَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ " وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا: " أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ " وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ النَّاسُ عَامَّةً: أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ، وَلَهُ إِسْنَادٌ مَعْرُوفٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ، فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ التَّأْوِيلَ؟ مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللهِ " إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ " لَا تُنَاقِضُ هَذَا الْقَوْلَ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّأْوِيلِ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا اللهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [7: 53] وَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [10: 39] وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ أَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ مَجِيءُ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ: إِنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللهِ. كَمَا قَالَ فِي السَّاعَةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [7: 187، 188] وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20: 51، 52] فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنِ الرَّاسِخِينَ لَكَانَتْ: إِنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللهِ، لَمْ يَقْرَأْ (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ) . فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ بِلَا نِزَاعٍ. " وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُنَاقِضُهَا، وَأَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِالتَّفْسِيرِ مُجَاهِدٌ وَعَلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ يَعْتَمِدُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ أَكْثَرُ الَّذِي يَنْقُلُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَصِحُّ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَوَابُهُ أَنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ، بَلْ لَيْسَ بِأَيْدِي أَهْلِ التَّفْسِيرِ كِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ أَصَحُّ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ مَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا، وَأَيْضًا فَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ يُفَسِّرُ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [19: 17] وَفَسَّرَ قَوْلَهُ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [24: 35] وَقَوْلَهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [7: 172] وَنَقْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا إِسْنَادٌ، وَقَدْ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَيُجِيبُ عَنْهُ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ. وَسُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (كَذَا) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْمُجْمَلَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيُقَالَ: هَذَا حَقٌّ، لَكِنْ هَلْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ أَحَدِ السَّلَفِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالصَّحَابَةَ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُجْمَلَ، أَمِ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُجْمَلَ فِي الْقُرْآنِ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُعْرَفُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ كَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ وَقْتِ السَّاعَةِ؟ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنِ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللهَ انْفَرَدَ بِعِلْمِ وَقْتِهَا فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ أَعْرَابِيٌّ لَا يُعْرَفُ قَالَ لَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَزَلَ فِي ذِكْرِهَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ، بَلْ هَذَا خِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَالْعُقَلَاءِ. فَإِنَّ إِخْبَارَ اللهِ عَنِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا كَلَامٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [25: 38] قَدْ عُلِمَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَأَنَّ اللهَ خَلَقَ قُرُونًا كَثِيرَةً لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ كَمَا قَالَ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [74: 31] فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ أَحَدٌ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ؟ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ، فَعُرْوَةُ قَدْ عُرِفَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَسِّرُ عَامَّةَ آيِ الْقُرْآنِ إِلَّا آيَاتٍ قَلِيلَةً رَوَاهَا عَنْ عَائِشَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ عُرْوَةُ التَّفْسِيرَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ. " وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَهِيَ خَطَأٌ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِي مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَاتِ يَذْكُرُ فِيهَا مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَيَحْتَجُّ لِمَا يَقُولُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشَّاذِّ مِنَ اللُّغَةِ، وَهُوَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَا أَفْقَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِلُّغَةِ، لَكِنَّ بَابَ فِقْهِ النُّصُوصِ غَيْرُ بَابِ حِفْظِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ، وَقَدْ نَقَمَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ كَوْنَهُ رَدَّ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَشْيَاءَ مِنْ تَفْسِيرِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَابْنُ قُتَيْبَةٍ قَدِ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ وَسَلَكَ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَهُمْ كُلُّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى اللهِ يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا بَيَّنُوهُ مِنْ مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ قَدْ أَصَابُوا فِيهِ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ظَهَرَ خَطَؤُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَلْيَخْتَرْ مَنْ يَنْصُرُ

قَوْلَهُمْ هَذَا أَوْ ذَاكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَصَابُوا فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ مِمَّا يُفَسِّرُونَ بِهِ الْمُتَشَابِهَ وَأَخْطَئُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ ; فَيَكُونُ تَفْسِيرُهُمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخْطَئُوا فِيهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فَإِنَّهُمْ أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ، وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، فَكِتَابُهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ أَشْهَرِ الْكُتُبِ، وَنَقَلَهُ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْهُ ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ عَامَّتُهُمْ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُ لِصِحَّةِ النَّقْلِ. وَمَعَ هَذَا يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ. " وَالَّذِي اقْتَضَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ظُهُورُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَ أُولَئِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِمُ الْفَاسِدِ وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمُ الْعَقْلِيِّ وَتَأْوِيلِهِمُ اللُّغَوِيِّ، فَتَفَاسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ مَمْلُوءَةٌ بِتَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. " فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَجَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ انْتَسَبُوا إِلَى السُّنَّةِ بِغَيْرِ خِبْرَةٍ تَامَّةٍ وَبِمَا يُخَالِفُهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ فَصَارُوا فِي مَوْضِعٍ يَقُولُونَ وَيَنْصُرُونَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ ثُمَّ يَتَنَاقَصُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ (أَحَدُهَا) : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: النُّصُوصُ تُجْرَى عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى الْمَعْنَى الظَّاهِرِ مِنْهَا، وَلِهَذَا يُبْطِلُونَ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَيُقَرِّرُونَ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا: إِنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَا يُنَاقِضُ الظَّاهِرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ؟ وَقَدْ قَرَّرَ مَعْنَاهُ الظَّاهِرُ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُنَاظِرُوهُمْ حَتَّى أَنْكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. (وَمِنْهَا) أَنَّا وَجَدْنَا هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ لَا فِي مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَلَا فَرْعِيَّةٍ إِلَّا تَأَوَّلُوا ذَلِكَ النَّصَّ بِتَأْوِيلَاتٍ مُتَكَلَّفَةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْمُتَشَابِهَةِ إِلَّا اللهُ؟ وَاعْتَبِرْ هَذَا بِمَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُنَاقِضُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [2: 205] ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [39: 7] ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51: 56] ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [6: 103] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36: 82] ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ [2: 30] وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ

تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتٍ غَالِبُهَا فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا حَقٌّ؟ فَإِنْ كَانَ مَا تَأَوَّلُوهُ حَقًّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ. " وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ الصَّابِرُ فِي الْمِحْنَةِ الَّذِي قَدْ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِعْيَارًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، تَكَلَّمَ فِي مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الزَّائِغُونَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آيَةً آيَةً، وَبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَفَسَّرَهَا لِيُبَيِّنَ فَسَادَ تَأْوِيلِ الزَّائِغِينَ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَرَى، وَأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَرَدَّ مَا احْتَجَّ بِهِ النُّفَاةُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَبَيَّنَ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الَّتِي سَمَّاهَا هُوَ مُتَشَابِهَةً، وَفَسَّرَهَا آيَةً آيَةً. وَكَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالنُّصُوصِ جَعَلَ يُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً وَحَدِيثًا حَدِيثًا، وَيُبَيِّنُ فَسَادَ مَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ الزَّائِغُونَ، وَيُبَيِّنُ هُوَ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا إِلَّا اللهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ لَهُ ذَلِكَ، بَلِ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ عَلَى إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُرَادِ كَمَا يَتَنَازَعُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الزَّائِغُونَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرِ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَيُبْطِلُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَقَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ تَحْتَجُّ بِنُصُوصِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ هُوَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ مُنَازِعُهُ: هَذِهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْكِرُ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمُ الصَّحَابَةُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوهُمْ أَلْفَاظَهُ وَنَقَلُوا هَذَا كَمَا نَقَلُوا ذَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ يَتَأَوَّلُونَ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتٍ تُخَالِفُ مُرَادَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، وَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا تَأْوِيلَاتُ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَذَا وَأَنْ يُرَادَ كَذَا، وَلَوْ تَأَوَّلَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89: 22] " وَيَنْزِلُ رَبُّنَا "

وَالرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20: 2] ، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4: 164] ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ [48: 6] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36: 82] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَذَا وَيَجُوزُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا بِالتَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ذَكَرَ فِي نَصٍّ أَقْوَالًا وَاحْتِمَالَاتٍ وَلَمْ يَعْرِفِ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَتَأْوِيلَهُ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْمُرَادَ. " وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَمَضْمُونُ مَدْلُولَاتِهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَفْسِيرَ الْمُحْكَمِ وَلَا تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ وَلَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَضْلًا عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فِيهِ مِنَ السَّفْسَطَةِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَكُونُ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا مَعْرِفَةٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَا بِالْعَقْلِيَّاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [67: 10] وَمَدَحَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِهِ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ. وَذَمَّ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ وَالتَّحْقِيقَ، وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ أَلْفَاظًا لَهُمْ مُجْمَلَةً مُتَشَابِهَةً تَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا يَجْعَلُونَهَا هِيَ الْأُصُولَ الْمَحْكَمَةَ، وَيَجْعَلُونَ مَا عَارَضَهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا اللهُ وَمَا يَتَأَوَّلُونَهُ بِالِاحْتِمَالَاتِ لَا يُفِيدُ، فَيَجْعَلُونَ الْبَرَاهِينَ شُبْهَاتٍ، وَالشُّبْهَاتِ بَرَاهِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ". وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: " الْمُحْكَمُ: مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانٍ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ وُجُوهًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي تَعْتَوِرُهُ التَّأْوِيلَاتُ ". فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ هُمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ. وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَيُرَجِّحُونَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْأَدِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ لَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ نَصٍّ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا ادَّعَى فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نَصَّهُ مُحْكَمٌ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ النَّصَّ الْآخَرَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ قُوبِلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى. "

وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا مَعْنَاهُ جَلِيٌّ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَاشْتِبَاهٌ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا مُسْتَقِيمٌ صَحِيحٌ، وَحِينَئِذٍ فَالْخُلْفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ حُجَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. " فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ هُمُ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ، فَكَانَ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ النَّقْلَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إِنْ كَانَ هَذَا صِدْقًا وَإِلَّا تَعَارَضَ النَّقْلَانِ عَنْهُمْ. وَالْمُتَوَاتِرُ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ. " الْقَوْلُ الثَّانِي مَأْثُورٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ ; فَإِذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ إِلَّا اللهُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَعْنَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ حَقَائِقُ مَا يُوجَدُ، وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ. فَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللهُ فَهَذَا خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، يَقُولُ ذَلِكَ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ الَّذِينَ قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَةَ مَا أَطْلَقُوهُ، وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ، وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا نَرُدَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلْقُرْآنِ بِأَنْ يُقَالَ: الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَفْسِيرَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَفِي هَذَا مِنَ الظَّنِّ فِي الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ خَطَأِ طَائِفَةٍ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا. " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ لَيْسَتْ كَلَامًا تَامًّا مِنَ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ مَوْقُوفَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْرَبْ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِنَّمَا

نُطِقَ بِهَا مَوْقُوفَةً. كَمَا يُقَالُ: أب ت وَلِهَذَا تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْحَرْفِ لَا بِصُورَةِ الِاسْمِ الَّذِي يُنْطَقُ بِهِ ; فَإِنَّهَا فِي النُّطْقِ أَسْمَاءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنِ النُّطْقِ بِالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ قَالُوا: زَا، قَالَ: نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ زَهْ، فَهِيَ فِي اللَّفْظِ أَسْمَاءٌ وَفِي الْخَطِّ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ (الم) لَا تُكْتَبُ أَلِفْ لَامْ مِيمْ كَمَا يُكْتَبُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ وَالْحَرْفُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ يَتَنَاوَلُهُ الَّذِي يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا ; لِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ: اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا بِفِعْلِ ; فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ حَرْفٌ وَالْفِعْلَ حَرْفٌ خُصَّ هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يُطْلِقُ النُّحَاةُ عَلَيْهِ الْحَرْفَ أَنَّهُ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَهَذِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْكَلَامُ، وَأَمَّا حُرُوفُ الْهِجَاءِ فَتِلْكَ إِنَّمَا تُكْتَبُ فِي صُورَةِ الْحَرْفِ الْمُجَرَّدِ وَيُنْطَقُ بِهَا غَيْرَ مُعْرَبَةٍ وَلَا يُقَالُ فِيهَا مُعْرَبٌ وَلَا مَبْنِيٌّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمُؤَلَّفِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا سِوَى هَذِهِ مُحْكَمًا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا مَعْرِفَةَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ. ثُمَّ يُقَالُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا - وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ - كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومُ الْمَعْنَى وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَعُدُّهَا آيَاتٍ الْكُوفِيُّونَ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا أَيْضًا مُتَشَابِهٌ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ طَلَبِ عِلْمِ الْمَدَدِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَكُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: " الْمُحْكَمُ: مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَفَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فِي قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ: احْمِلْ فِيهَا [11: 40] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَاسْلُكْ فِيهَا [23: 27] وَقَالَ فِي عَصَا مُوسَى: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [20: 20] وَفِي مَوْضِعٍ: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [7: 107] " وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَمَا يُشْتَبَهُ عَلَى حَافِظِ الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظُ بِذَاكَ اللَّفْظِ، وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمُتَشَابِهِ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَشَابَهُ مَعْنَاهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الْقَارِئِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْمُتَشَابِهُ لَا يَنْفِي مَعْرِفَةَ الْمَعَانِي بِلَا رَيْبٍ، وَلَا يُقَالُ

فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَخْتَصُّونَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ. فَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ حُجَّةً لَنَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَضُرَّنَا. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ. وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكَ لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا " وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ، فَالنَّظَائِرُ: اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَالْوُجُوهُ: الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَالُ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ - لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ - وَقَدْ قِيلَ هِيَ نَظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَتَكُونُ كَالْمُشْتَرِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِ الْأُمَّةَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَةِ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ، وَهَذَا أَيْضًا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَالْعَاشِرُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ إِنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ " وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَحِينَئِذٍ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ، فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرُهُ تَأْوِيلًا كَمَا يُجْعَلُ مَعْرِفَةُ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا، وَقِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20: 5] وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38: 75] وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ [48: 6] بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [39: 67] وَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [6: 103] وَقَوْلُهُ: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [4: 134] وَقَوْلُهُ:

رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [98: 8] وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [47: 28] وَقَوْلُهُ: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [2: 195] . وَقَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [9: 105] وَقَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [43: 3] وَقَوْلُهُ: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ [9: 6] وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [27: 8] وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [2: 210] وَقَوْلُهُ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89: 22] . هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [6: 158] ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [41: 11] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36: 82] إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا - وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، بَلِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى ; كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ. وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ، بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي ذَاكَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -. قِيلَ: لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ وَتَصَوُّرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُرَادَةِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، فَالْكَلَامُ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ وَيُكْتَبُ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ، فَإِذَا عَرَفَ الْكَلَامَ وَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا غَيْرُ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ الْأَوَّلَ عَرَفَ عَيْنَ الثَّانِي. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ

مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرِهِ وَنَعْتِهِ، وَهَذَا مَعْرِفَةُ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ، فَالْمَعْرِفَةُ بِعَيْنِهِ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَجَّ وَالْمَشَاعِرَ كَالْبَيْتِ وَالْمَسَاجِدِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ الْأَمْكِنَةَ حَتَّى يُشَاهِدَهَا فَيَعْرِفَ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [3: 97] وَكَذَلِكَ أَرْضُ عَرَفَاتٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ [2: 198] وَكَذَلِكَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ الَّتِي بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ يُعْرَفُ أَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [2: 198] وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا يَرَاهَا الرَّجُلُ وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَابِرُ تَأْوِيلَهَا فَيَفْهَمُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، لَيْسَ تَأْوِيلُهَا نَفْسَ عِلْمِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَكَلَامِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [12: 100] وَقَالَ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [12: 37] فَقَدْ أَنْبَأَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [7: 53] " الْآيَةَ ". (أَقُولُ) ثُمَّ إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ - أَطَالَ فِي الْبَيَانِ وَالشَّوَاهِدِ وَاحْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْفِقْهِ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَنْفِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةَ بِذَلِكَ. وَمِنْهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَالْغَيْبِ فَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ. (آيَاتُ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ) اعْلَمْ أَنَّ مَا تَلَقَّيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي تُقْرَأُ لِلْمُبْتَدِئِينَ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ الصُّغْرَى وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمَا مِنْ شُرُوحٍ وَحَوَاشٍ هُوَ أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِظَاهِرِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَمَّا يُوهِمُهُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِتَابَةِ لِيَتَّفِقَ النَّقْلُ مَعَ الْعَقْلِ. وَقَالُوا: إِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَسْلَمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَشَابِهُ غَيْرَ مُرَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ النُّصُوصَ جَمِيعَهَا وَيَحْمِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مُضْطَرِبًا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْوِيضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ

أَمِ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ إِلَخْ هَذَا مُلَخَّصُ مَا يُلَقَّنُ الطُّلَّابُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كَتَبْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاجِعَةٍ لِهَذِهِ الْكُتُبِ الْقَاصِرَةِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا بَعْضُ الدَّارِسِينَ فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ شَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَوْهَرَةِ لِلْبَاجُورِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ: وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا وَكُنَّا نَظُنُّ فِي أَوَائِلِ الطَّلَبِ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ ضَعِيفٌ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُأَوِّلُوا كَمَا أَوَّلَ الْخَلَفُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ لَا سِيَّمَا الْحَنَابِلَةُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَلَمَّا تَغَلْغَلْنَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَظَفِرْنَا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَةِ الْأَشَاعِرَةِ فِي الْكَلَامِ بِالْكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنُ مَذْهَبَ السَّلَفِ حَقَّ الْبَيَانِ لَا سِيَّمَا كُتُبُ ابْنِ تَيْمِيَةَ عَلِمْنَا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ وَلَا مَطْلَبٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ فَهُوَ ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ لَا تُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَذْهَبٍ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّصِّ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي إِذَا صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنَ الْمَجَازِ وَبَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى، فَأَوْجَبَ تَأْوِيلَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: مُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ وَنَافُونَ لَهَا، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلُ الْأَثَرِ مُثْبِتُونَ مُفَوِّضُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ نُفَاةٌ مُؤَوِّلُونَ. قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي مَبْحَثِ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَمِنْهَا مَا وَرَدَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَامْتَنَعَ حَمْلُهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20: 5] وَالْيَدِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [48: 10] ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38: 75] وَالْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [55: 27] وَالْعَيْنُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [20: 39] ، وَتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [54: 14] فَعَنِ الشَّيْخِ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ، وَعَنِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّيْخِ أَنَّهَا مَجَازَاتٌ، فَالِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ أَوْ تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْيَدُ مَجَازٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَالْوَجْهُ عَنِ الْوُجُودِ، وَالْعَيْنُ عَنِ الْبَصَرِ. فَإِنْ قِيلَ: جُمْلَةُ الْمُكَوِّنَاتِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ خَلْقِ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيَّمَا بِلَفْظِ الْمُثَنَّى؟ وَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: بِأَعْيُنِنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ أُرِيدَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَتَخْصِيصُ آدَمَ تَشْرِيفٌ لَهُ وَتَكْرِيمٌ. وَمَعْنَى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أَنَّهَا تَجْرِي بِالْمَكَانِ الْمُحِيطِ بِالْكِلَاءَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ بِمَرْأًى مِنَ الْمَلِكِ وَمَسْمَعٍ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ تَحُوطُهُ عِنَايَتُهُ وَتَكْتَنِفُهُ رِعَايَتُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَعْيُنُ الَّتِي انْفَجَرَتْ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَفِي كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْبَيَانِ أَنَّ قَوْلَنَا الِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ، وَالْيَدُ وَالْيَمِينُ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَيْنُ عَنِ الْبَصَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ وَهْمِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ بِسُرْعَةٍ وَإِلَّا فَهِيَ تَمْثِيلَاتٌ وَتَصْوِيرَاتٌ لِلْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ بِإِبْرَازِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " اهـ. كَلَامُ السَّعْدِ وَنَحْوُهُ فِي الْمَوَاقِفِ وَشَرْحُهُ.

وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَادِثِ أَعْضَاءٌ وَحَرَكَاتُ أَعْضَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَادِثِ انْفِعَالَاتٌ نَفْسِيَّةٌ كَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، فَالسَّلَفُ يُجْرُونَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنِ انْفِعَالَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِشَأْنِهِ لَيْسَتِ انْفِعَالًا نَفْسِيًّا كَمَحَبَّةِ النَّاسِ. وَالْخَلَفُ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ فَيُرْجِعُونَهُ إِلَى الْقُدْرَةِ أَوْ إِلَى الْإِرَادَةِ فَيَقُولُونَ: الرَّحْمَةُ هِيَ الْإِحْسَانُ بِالْفِعْلِ أَوْ إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّي هَذَا تَأْوِيلًا بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ تَدُلُّ عَلَى الِانْفِعَالِ الَّذِي هُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ الْمَخْصُوصَةُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الِانْفِعَالُ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَارِئِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهَا غَايَتُهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ مَبَادِيهَا الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ. وَإِنَّمَا يَرُدُّونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَكَذَا الْعِلْمُ عَلَى صِفَاتِ اللهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ لَا مَجَازِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَنْقُولٌ مِمَّا أُطْلِقَ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْبَشَرِ تَعَيَّنَ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ النُّصُوصِ فَنَقُولَ: إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - قُدْرَةٌ حَقِيقَةٌ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَقُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّ لَهُ رَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَةِ الْبَشَرِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَا نَدَّعِي أَنَّ إِطْلَاقَ بَعْضِهَا حَقِيقِيٌّ وَإِطْلَاقَ الْبَعْضِ الْآخَرِ مَجَازِيٌّ، فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يُجْهَلُ أَثَرُهُ كَذَلِكَ الرَّحْمَةُ شَأْنٌ مَنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يَخْفَى أَثَرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يُفْهَمُ لَهَا مَعْنًى بِالْمَرَّةِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ كَرَحْمَةِ الْإِنْسَانِ وَيَدَهُ كَيَدِهِ، وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَنَابِلَةِ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ، وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهَا مُحْكَمًا إِطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ حَقِيقِيٌّ، وَبَعْضَهَا مُتَشَابِهًا إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيٌّ، بَلْ كُلُّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَجَازٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ كَلَامٍ: " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَجَازٍ ; إِذًا الْمَحَبَّةُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُوَافِقِ، وَالْعِشْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ الْغَالِبِ الْمُفْرِطِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُوَافِقٌ لِلنَّفْسِ، وَالْجِمَالَ مُوَافِقٌ أَيْضًا، وَأَنَّ الْجَمَالَ وَالْإِحْسَانَ تَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَتَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَالْحُبُّ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُخَصُّ بِالْبَصَرِ، فَأَمَّا حُبُّ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا، حَتَّى إِنَّ اسْمَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ اشْتِرَاكًا لَا يَشْمَلُ الْخَالِقَ وَالْخَلْقَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللهِ - تَعَالَى - فَوُجُودُهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ وُجُودِ اللهِ -

تَعَالَى -، فَالْوُجُودُ التَّابِعُ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْوُجُودِ الْمَتْبُوعِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِوَاءُ فِي إِطْلَاقِ الِاسْمِ نَظِيرَ اشْتِرَاكِ الْفَرَسِ وَالشَّجَرِ فِي اسْمِ الْجِسْمِ إِذْ مَعْنَى الْجِسْمِيَّةِ وَحَقِيقَتِهَا مُتَشَابِهٌ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ أَحَدِهِمَا لِأَنْ يَكُونَ فِيهِ أَصْلًا. فَلَيْسَتِ الْجِسْمِيَّةُ لِأَحَدِهِمَا مُسْتَفَادَةً مِنَ الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْمُ الْوُجُودِ لَهُ وَلِخَلْقِهِ، وَهَذَا التَّبَاعُدُ فِي سَائِرِ الْأَسَامِي أَظْهَرُ كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُشْبِهُ فِيهِ الْخَالِقُ الْخَلْقُ، وَوَاضِعُ اللُّغَةِ إِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْأَسَامِي أَوَّلًا لِلْخَلْقِ فَإِنَّ الْخَلْقَ أَسْبَقُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ مِنَ الْخَالِقِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّجَوُّزِ وَالنَّقْلِ " اهـ. مَا نُرِيدُهُ. ثُمَّ فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللهِ لِلْعَبْدِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ مَجَالٌ لِلْبَحْثِ وَالنَّظَرِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ: " إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ فَهْمُهُمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا، فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطُرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تُفْهَمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ فَقُلْنَا لِلَّهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ هِيَ الْقُدْرَةُ عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ. " ثُمَّ الْخَلْقُ يَنْقَسِمُ فِي الْوُجُودِ إِلَى أَقْسَامٍ وَخُصُوصِ صِفَاتٍ، وَمَصْدَرُ انْقِسَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاخْتِصَاصِهَا بِخُصُوصِ صِفَاتِهَا صِفَةٌ أُخْرَى اسْتُعِيرَ لَهَا بِمِثْلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي سَبَقَتْ عِبَارَةَ " الْمَشِيئَةِ " فَهِيَ تُوهِمُ مِنْهَا أَمْرًا مُجْمَلًا عِنْدَ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ الَّتِي هِيَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لِلْمُتَفَاهِمِينَ بِهَا، وَقُصُورُ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى كُنْهِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَحَقِيقَتِهَا كَقُصُورِ لَفْظِ الْقُدْرَةِ. " ثُمَّ انْقَسَمَتِ الْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْقُدْرَةِ إِلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الْمُنْتَهَى الَّذِي هُوَ غَايَةُ حِكْمَتِهَا وَإِلَى مَا يَقِفُ دُونَ الْغَايَةِ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِسْبَةٌ إِلَى صِفَةِ الْمَشِيئَةِ لِرُجُوعِهَا إِلَى الِاخْتِصَاصَاتِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ وَالِاخْتِلَافَاتُ، فَاسْتُعِيرَ لِنِسْبَةِ الْبَالِغِ غَايَتَهُ عِبَارَةُ " الْمَحَبَّةِ " وَاسْتُعِيرَ لِنِسْبَةِ الْوَاقِفِ دُونَ غَايَتِهِ عِبَارَةُ " الْكَرَاهَةِ ". وَقِيلَ: إِنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي وَصْفِ الْمَشِيئَةِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَاصِّيَّةُ أُخْرَى فِي النِّسْبَةِ يُوهِمُ لَفْظُ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ مِنْهُمَا أَمْرًا مُجْمَلًا عِنْدَ طَالِبِي الْفَهْمِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَاللُّغَاتِ " اهـ. الْمُرَادُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْكُفْرِ وَالشُّكْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْضِيَّ عَنْهُ مَنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ مُتَمِّمًا لِحِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي عِبَادِهِ ; أَيْ بِالْقِيَامِ بِسُنَّتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. وَهُوَ الشَّاكِرُ

لِلَّهِ أَوِ الشَّكُورُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ ضِدُّهُ وَهُوَ الْكَافِرُ أَوِ الْكَفُورُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَيَانِ الْعَجِيبِ مِنْ مَنَازِعِ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا جَعْلَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّضَا وَالْكَرَاهَةِ دَاخِلَةً فِي وَصْفِ الْمَشِيئَةِ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا شُئُونٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي خَلْقِهِ بِمَا ذَكَرَ. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى: " وَكَأَنَّا إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ فَلَمْ نَعْرِفْ أَوَّلًا إِلَّا أَنْفُسَنَا. وَلَمْ نَعْرِفْهُ إِلَّا بِأَنْفُسِنَا إِذِ الْأَصَمُّ لَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ وَالْأَكْمَهُ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّهُ بَصِيرٌ، وَكَذَلِكَ إِذْ قَالَ الْقَائِلُ: كَيْفَ يَكُونُ اللهُ - تَعَالَى - عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ؟ فَنَقُولُ لَهُ: كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَشْيَاءَ. فَإِذَا قَالَ كَيْفَ يَكُونُ قَادِرًا؟ فَنَقُولُ: كَمَا تَقْدِرُ أَنْتَ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ، فَيَعْلَمُ أَوَّلًا مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ غَيْرَهُ بِالْمُنَاسَبَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ وَصْفٌ وَخَاصِّيَّةٌ لَيْسَ فِينَا مَا يُنَاسِبُهُ وَيُشَارِكُهُ وَلَوْ فِي الِاسْمِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فَهْمُهُ أَلْبَتَّةَ فَمَا عَرَفَ أَحَدٌ إِلَّا نَفْسَهُ. ثُمَّ قَايَسَ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَبَيْنَ صِفَاتِ نَفْسِهِ وَتَتَعَالَى صِفَاتُ اللهِ - تَعَالَى - وَتَتَقَدَّسُ عَنْ أَنْ تُشْبِهَ صِفَاتَنَا " اهـ. فَحَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ مِمَّا أُطْلِقَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ ; إِذْ لَوْ وُضِعَ لِصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ وَخُوطِبَ بِهَا النَّاسُ لَمَا فَهِمُوا مِنْهَا شَيْئًا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [14: 4] وَقَدْ جَاءَ الرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ مِنْ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَوْنِهِ لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ. فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَطْلَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعَلَى الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَاتِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَعَلَى الْإِضَافَةِ كَكَوْنِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ لَا يُنَافِي أَصْلَ التَّنْزِيهِ، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَبِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ التَّنْزِيهِ فَنَقُولُ: إِنَّ لَهُ قُدْرَةً لَيْسَتْ كَقُدْرَتِنَا وَرَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَتِنَا وَخَلْقًا لَيْسَ كَخَلْقِنَا. فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّاسِ لِلْأَشْيَاءِ وَهُوَ - تَعَالَى - أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، لَا يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالَ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13: 16] . وَلَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ كَاسْتِوَاءِ الْمُلُوكِ عَلَى عُرُوشِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَرْشَهُ لَيْسَ كَعُرُوشِهِمْ، وَلَا عُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ كَعُلُوِّ بَعْضِ الْأَجْسَامِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُ - تَعَالَى - لَيْسَ جِسْمًا مُمَاثِلًا لَهُمْ. وَالسَّلَفُ وَالْخَلَفُ أَوِ الْأَثَرِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ وَعَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فِي وَصْفِهِ - تَعَالَى - وَالْحِكَايَةِ عَنْهُ خَلْقٌ إِلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ خَالِقًا عَالِمًا مُرِيدًا قَادِرًا، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ ثَابِتَةٌ لَهُ عَقْلًا، وَعَلَيْهَا مَدَارُ إِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْبُرْهَانِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا. فَمَا يَرِدُ مِنَ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ يَجِبُ إِرْجَاعُهُ إِلَيْهَا وَلَا نَعُدُّهُ

صِفَةً زَائِدَةً. وَالسَّلَفُ الْأَثَرِيُّونَ يَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَإِنَّمَا هَذَا خِلَافٌ فِي التَّنْزِيهِ وَفِي كَوْنِ كُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْقَسَمُوا إِلَى مَذَاهِبَ عَنَى أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا بِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ وَتَأْيِيدِهِ وَإِبْطَالِ مُخَالِفِهِ وَتَفْنِيدِهِ لَزَالَ هَذَا الْخِلَافُ وَعَرَفَ الْأَكْثَرُونَ الْحَقَّ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى لَا يُشَنِّعَ أَشْعَرِيٌّ عَلَى حَنْبَلِيٍّ وَلَا أَثَرِيٌّ عَلَى نَظَرِيٍّ ; وَلِذَلِكَ تَرَى مُحَقِّقِي الْمُتَكَلِّمِينَ رَجَعُوا فِي آخِرِ عَهْدِهِمْ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي (الْإِبَانَةِ) وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ. هَذَا وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ الْأَثَرِيِّينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَدْ وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا فِي التَّجْسِيمِ، أَوْ جَعَلَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ صِفَاتٍ لَا تُفْهَمُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا كَتَبَهُ عُلَمَاؤُهُمُ الْمُحَقِّقُونَ كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ أَكْثَرُ وَخَطَأَ الْأَثَرِيِّينَ فِي الْإِثْبَاتِ أَكْثَرُ. أَقُولُ: وَمِنْ عَجِيبِ صُنْعِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَعَدُّوهَا مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ سَمْعِيَّةً، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحِكْمَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَحَبَّةَ مَعَ أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِهَا وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَيْهَا أَظْهَرُ، إِذِ الْعَقْلُ يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مُحِيطَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ، وَبِذَلِكَ يُسَمَّى سَمِيعًا بَصِيرًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي إِدْرَاجِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِهَا فِي صِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَإِنَّنِي أَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَتَابِعِي السَّلَفِ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - لِيَعْلَمَ الْجَامِدُونَ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْأَشَاعِرَةُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا بِعَقْلٍ، وَهُمْ أَجْوَدُ النَّاسِ فَهْمًا لِلنَّقْلِ، جَاءَ فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ السَّفَارِينِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مَا نَصُّهُ: " قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي التَّدْمُرِيَّةِ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُقِرُّ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَيٌّ بِحَيَاةٍ عَلِيمٌ بِعِلْمٍ قَدِيرٌ بِقُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِسَمْعٍ بَصِيرٌ بِبَصَرٍ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ فِي مَحَبَّتِهِ - تَعَالَى - وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إِمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ، قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَّهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ إِرَادَتَهُ مِثْلُ إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ، وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ. وَإِنْ قُلْتَ: لَهُ

إِرَادَةٌ تَلِيقُ بِهِ كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةً تَلِيقُ بِهِ. قِيلَ ذَلِكَ: وَكَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ، وَلَهُ - تَعَالَى - رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقَانِ بِهِ كَمَا لِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقَانِ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ، قِيلَ لَهُ: وَالْإِرَادَةُ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذِهِ إِرَادَةُ الْمَخْلُوقِ. قِيلَ لَكَ: وَهَذَا غَضَبُ الْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ فِي عِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضِ مَا يُقَالُ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ. فَإِنْ قَالَ: تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتُّهَا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَكَ جَوَابَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ، فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَنْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ، وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ. فَيَجِبُ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنِ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ. (الثَّانِي) أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ، فَيُقَالُ: نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَمَا يُوجَدُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَكَشْفِ الضُّرِّ عَنِ الْمَضْرُورِينَ، وَأَنْوَاعُ الرِّزْقِ وَالْهُدَى وَالْمَسَرَّاتِ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ الْخَالِقِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالْقُرْآنُ يُثْبِتُ دَلَائِلَ الرُّبُوبِيَّةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ، تَارَةً يَدُلُّهُمْ بِالْآيَاتِ الْمَخْلُوقَةِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَيُثْبِتُ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ، وَتَارَةً يَدُلُّهُمْ بِالنِّعَمِ وَالْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ الْمُسْتَلْزِمِ رَحْمَتَهُ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَعِقَابُ الْكُفَّارِ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْخَبَرِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ، وَالْغَايَاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ ; وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ. " قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - طَيَّبَ اللهُ مِضْجَعَهُ -: وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ كُلِّ مُسْلِمٍ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا أَخْبَرَنَا بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَجَبَ عَلَيْنَا التَّصْدِيقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ ثُبُوتَهُ بِعُقُولِنَا، وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَتَّى يَعْلَمَهُ بِعَقْلِهِ فَقَدْ أَشْبَهَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6: 124] وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَلَيْسَ فِي

الْحَقِيقَةِ مُؤْمِنًا بِالرَّسُولِ وَلَا مُتَلَقِّيًا عَنْهُ الْأَخْبَارَ بِشَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ، فَإِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَقْلِهِ لَا يُصَدِّقُ بِهِ بَلْ يَتَأَوَّلُهُ أَوْ يُفَوِّضُهُ، وَمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ إِنْ عَلِمَهُ بِعَقْلِهِ آمَنَ بِهِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ بَيْنَ وُجُودِ الرَّسُولِ وَإِخْبَارِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ الرَّسُولِ وَإِخْبَارِهِ، وَكَانَ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ عَدِيمَ الْأَثَرِ عِنْدَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيَّةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا أَئِمَّةُ هَذَا الطَّرِيقِ، قَالَ: ثُمَّ أَهْلُ الطَّرِيقِ الثُّبُوتِيَّةِ فِيهِمْ مَنْ يُحِيلُ عَلَى الْكَشْفِ، وَكُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ فِيهَا مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ مَا لَا يَنْضَبِطُ، وَلَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِدُونِ الطَّرِيقِ النَّبَوِيَّةِ، وَالطَّرِيقُ النَّبَوِيَّةُ بِهَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ النَّافِعُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ أَوْ كَشْفٌ يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَسَنًا مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَبَّهَ عَلَى الطَّرِيقِ الِاعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُسْتَدَلُّ عَلَى مِثْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [41: 53] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِي عِبَادَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السَّمْعَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالسَّمْعِيَّاتِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنَ الصِّفَاتِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مَعَ إِثْبَاتِهِمْ بَعْضَ صِفَاتِهِ بِالْعَقْلِ وَبَعْضَهَا بِالسَّمْعِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ أَقْوَالِ النَّاسِ بِطُرُقِهِمُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ فَعَلِمَ الْحَقَّ وَرَحِمَ الْخَلْقَ، وَكَانَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَهَذِهِ خَاصَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ بِاجْتِهَادِهِ حَيْثُ عَذَرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَيَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بَاطِلَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا. انْتَهَى وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. أَقُولُ: وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى رَمَاهُمْ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْقَوْلِ بِالتَّجْسِيمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِالْجِهَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحَدَّ وَالْجِسْمِيَّةَ فَآخَذُوهُمْ بِلَازِمِ الْمَذْهَبِ وَهُمْ يَجْهَلُونَ مَذْهَبَهُمْ وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوَافِقِ لِلْعَقْلِ، وَهَاكَ كَلَامٌ وَاحِدٌ مِنْهُ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ عَقِيدَةِ السَّفَارِينِيِّ وَهُوَ: " ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ الْوَاسِطِيُّ الصُّوفِيُّ الْمُحَقِّقُ الْعَارِفُ تِلْمِيذُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُمَا - الَّذِي قَالَ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِنَّهُ جُنَيْدُ زَمَانِهِ فِي رِسَالَتِهِ (نَصِيحَةُ الْإِخْوَانِ) مَا حَاصِلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالِاسْتِوَاءِ: هُوَ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - كَانَ وَلَا مَكَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَاءَ وَلَا فَضَاءَ وَلَا هَوَاءَ وَلَا خَلَاءَ وَلَا مِلَاءَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ مُتَوَحِّدًا فِي فَرْدَانِيَّتِهِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَوْقَ كَذَا إِذْ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ هُوَ - تَعَالَى -

سَابِقُ التَّحْتِ وَالْفَوْقِ اللَّذَيْنِ هُمَا جِهَتَا الْعَالَمِ، وَهُوَ لَا زَمَانَ لَهُ - تَعَالَى -، وَهُوَ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ الْفَرْدَانِيَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ لَوَازِمِ الْحَدَثِ وَصِفَاتِهِ، فَلَمَّا اقْتَضَتِ الْإِرَادَةُ أَنْ يَكُونَ الْكَوْنُ لَهُ جِهَاتٌ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ، فَكَوَّنَ الْأَكْوَانَ وَجَعَلَ جِهَتَيِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْكَوْنُ فِي جِهَةِ التَّحْتِ لِكَوْنِهِ مَرْبُوبًا مَخْلُوقًا، وَاقْتَضَتِ الْعَظَمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْكَوْنِ لَا بِاعْتِبَارِ فَرْدَانِيَّتِهِ إِذْ لَا فَوْقَ فِيهَا وَلَا تَحْتَ، وَالرَّبُّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَمَا كَانَ فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ وَفَرْدَانِيَّتِهِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ فَهُوَ الْآنُ كَمَا كَانَ. لَمَّا أَحْدَثَ الْمَرْبُوبُ الْمَخْلُوقُ ذَا الْجِهَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْمَلَأِ ذَا الْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ كَانَ مُقْتَضَى حُكْمِ الْعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ مُلْكِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَمْلَكَةُ تَحْتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحُدُوثِ مِنَ الْكَوْنِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِدَمِ الْمُكَوِّنِ، فَإِذَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّحْتِيَّةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيُمْنَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيُسْرَةِ بَلْ لَا يَلِيقُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ هِيَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْفَلِهِ، فَالْإِشَارَةُ تَقَعُ عَلَى أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ حَقِيقَةً وَتَقَعُ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا يَلِيقُ بِهِ، لَا كَمَا يَقَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَحْسُوسَةِ عِنْدَنَا فِي أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى جِسْمٍ وَتِلْكَ إِلَى إِثْبَاتٍ. إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالِاسْتِوَاءُ صِفَةٌ كَانَتْ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي قِدَمِهِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهَا إِلَّا فِي خَلْقِ الْعَرْشِ كَمَا أَنَّ الْحِسَابَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ التَّجَلِّي فِي الْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي مَحَلِّهِ، قَالَ: فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ الَّذِي تَهْرُبُ الْمُتَأَوِّلَةُ مِنْهُ حَيْثُ أَوَّلُوا الْفَوْقِيَّةَ بِفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ وَالِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ هَرَبًا مِنْ ذَلِكَ وَتَنْزِيهًا لِلْبَارِي - تَعَالَى - عَنِ الْحَدِّ الَّذِي لَا يَحْصُرُهُ، فَلَا يُحَدُّ بِحَدٍّ يَحْصُرُهُ، بَلْ بِحَدٍّ تَتَمَيَّزُ بِهِ عَظَمَةُ ذَاتِهِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجِهَةِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَسُفْلِهِ إِذْ لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا هَكَذَا وَهُوَ فِي قُدْسِهِ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ، وَلَيْسَ فِي الْقِدَمِ فَوْقِيَّةٌ وَلَا تَحْتِيَّةٌ، وَإِنَّمَا مَنْ هُوَ مَحْصُورٌ فِي التَّحْتِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةَ بَارِئِهِ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِ، فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةَ إِشَارَةٍ مَعْقُولَةٍ، وَتَنْتَهِي الْجِهَاتُ عِنْدَ الْعَرْشِ وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَكْفِيهِ الْوَهْمُ فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ مُجْمَلًا مُثْبَتًا مُكَيَّفًا لَا مُمَثَّلًا، (قَالَ) : فَإِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَاعْتَقَدْنَاهُ تَخَلُّصًا مِنْ شُبْهَةِ التَّأْوِيلِ وَعَمَاوَةِ التَّعْطِيلِ وَحَمَاقَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَأَثْبَتْنَا عُلُوَّ رَبِّنَا وَفَوْقِيَّتَهُ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالْحَقُّ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَالصَّدْرُ يَنْشَرِحُ لَهُ، فَإِنَّ التَّحْرِيفَ تَأْبَاهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ مِثْلَ تَحْرِيفِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَغَيٌّ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِنَعْرِفَهُ بِهَا، فَوُقُوفُنَا عَنْ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا عُدُولٌ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِنَا إِيَّاهَا، فَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِهَا إِلَّا لِنُثْبِتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا نَقِفَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ،

فَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَحْرِيفَ وَلَا تَكْيِيفَ وَلَا وُقُوفَ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَقُولُ: وَلِأُسْتَاذِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، ذَاتُهُ فِي السَّمَاءِ فَلَا يَعْنُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ أَنَّ ذَاتَ اللهِ الْقَدِيمِ مَحْصُورَةٌ فِي السَّمَاءِ أَوِ الْعَرْشِ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَ رُءُوسِنَا، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ جِهَةَ الرَّأْسِ كَسَائِرِ الْجِهَاتِ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَغَيْرِهِمَا هِيَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِمَا عَلِمْتَ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ آنِفًا يُشْبِهُ تَأْوِيلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُلُوَّ عُلُوُّ الْمَرْتَبَةِ أَوْ هُوَ هُوَ أَقُلْ: إِنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَهُ فِي تَنْزِيهِ الْبَارِي - تَعَالَى - عَنْ مُمَاثَلَةِ الْأَجْسَامِ الْمَحْدُودَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ الْمَقْهُورَةِ الْخَاضِعَةِ لِإِرَادَةِ الْقَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ يُفَارِقُهُ بِعَدَمِ حَظْرِ اسْتِعْمَالِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ لَا مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ، فَأَهْلُ التَّأْوِيلِ يَحْظُرُونَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ مِثْلَ إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ لِئَلَّا يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ ذَاتَ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي فَوْقَ رُءُوسِنَا فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْزِيهِ، وَالْأَثَرِيُّونَ يُجِيزُونَ اسْتِعْمَالَ كُلِّ مَا وَرَدَ مُحْتَجِّينَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَحْرَصُ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يُبَالِغُ هَؤُلَاءِ فَيَسْتَعْمِلُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، أَوِ النَّصُّ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ تَوَسُّعًا وَعَمَلًا بِالْقِيَاسِ. وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا مَمْنُوعُ الْمَقَامِ، وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَحْقِيقٌ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَالَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ، فَنَنْقُلُهُ هُنَا مِنْ كِتَابِهِ (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) وَهُوَ: الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي شَرْحِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، أَعْنِي مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَا أَنَا أُورِدُ بَيَانَهُ وَبَيَانَ بُرْهَانِهِ (فَأَقُولُ) : حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا - أَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عَوَامِّ الْخَلْقِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ: التَّقْدِيسُ. ثُمَّ التَّصْدِيقُ، ثُمَّ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ. ثُمَّ السُّكُوتُ. ثُمَّ الْإِمْسَاكُ. ثُمَّ الْكَفُّ؟ ثُمَّ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، (أَمَّا التَّقْدِيسُ) فَأَعْنِي بِهِ تَنْزِيهَ الرَّبِّ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَتَوَابِعِهَا. (وَأَمَّا التَّصْدِيقُ) فَهُوَ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَقٌّ، وَهُوَ فِيمَا قَالَهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَأَرَادَهُ. (وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ) فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِ لَيْسَتْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَحِرْفَتِهِ.

(وَأَمَّا السُّكُوتُ) فَأَلَّا يَسْأَلَ عَنْ مَعْنَاهُ وَلَا يَخُوضَ فِيهِ وَيَعْلَمَ أَنَّ سُؤَالَهُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ فِي خَوْضِهِ فِيهِ مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ. وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْفُرَ لَوْ خَاضَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. (وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ) فَأَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ بِالتَّصْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ بِلُغَةٍ أُخْرَى. وَالزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ، بَلْ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنَ الْإِيرَادِ وَالْإِعْرَابِ وَالتَّصْرِيفِ وَالصِّيغَةِ. (وَأَمَّا الْكَفُّ) فَأَنْ يَكُفَّ بَاطِنَهُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ. (وَأَمَّا التَّسْلِيمُ لِأَهْلِهِ) فَأَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ فَقَدْ خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ عَلَى الصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَهَذِهِ سَبْعُ وَظَائِفَ اعْتَقَدَ كَافَّةُ السَّلَفِ وَجُوبَهَا عَلَى كُلِّ الْعَوَامِّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِالسَّلَفِ الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَلْنَشْرَحْهَا وَظِيفَةً وَظِيفَةً إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. (الْوَظِيفَةُ الْأُولَى التَّقْدِيسُ) وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْيَدَ وَالْإِصْبَعَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِهِ وَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ الْوَضْعُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَعَصَبٍ، وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ وَالْعَصَبُ جِسْمٌ مَخْصُوصٌ وَصِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، أَعْنِي بِالْجِسْمِ عِبَارَةً عَنْ مِقْدَارٍ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِحَيْثُ هُوَ إِلَّا بِأَنْ يَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ هَذَا اللَّفْظُ أَعْنِي الْيَدَ لِمَعْنًى آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجِسْمٍ أَصْلًا، كَمَا يُقَالُ: الْبَلْدَةُ فِي يَدِ الْأَمِيرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ مَقْطُوعَ الْيَدِ مَثَلًا، فَعَلَى الْعَامِّيِّ وَغَيْرِ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَحَقَّقَ قَطْعًا وَيَقِينًا أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ جِسْمًا هُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَعَظْمٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ وَهُوَ عَنْهُ مُقَدَّسٌ، فَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ اللهَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاءٍ فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ. فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةُ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ، فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلْفِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلَابِ، أَوْ لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُظْلِمًا كَالْأَرْضِ أَوْ مُشْرِقًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ مُشِفًّا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْهَوَاءِ، أَوْ عَظِيمًا كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَاءِ، أَوْ صَغِيرًا كَالذَّرَّةِ وَالْهَبَاءِ أَوْ جَمَادًا كَالْحِجَارَةِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالْإِنْسَانِ. فَالْجِسْمُ صَنَمٌ، فَبِأَنْ يُقَدَّرَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ أَوْ عِظَمُهُ أَوْ صِغَرُهُ أَوْ صَلَابَتُهُ وَبَقَاؤُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ صَنَمًا، وَمَنْ نَفَى الْجِسْمِيَّةَ عَنْهُ وَعَنْ يَدِهِ وَأُصْبُعِهِ فَقَدْ نَفَى الْعُضْوِيَّةَ وَاللَّحْمَ وَالْعَصَبَ، وَقَدَّسَ الرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - عَمَّا يُوجِبُ الْحُدُوثَ لِيَعْتَقِدَ بَعْدَهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ يَلِيقُ

ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاللهِ - تَعَالَى -، فَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَفْهَمُ كُنْهَ حَقِيقَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ تَكْلِيفٌ أَصْلًا، فَمَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَلَّا يَخُوضَ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا سَمِعَ الصُّورَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنِّي رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الصُّورَةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ فِي أَجْسَامٍ مُؤَلَّفَةٍ مُوَلَّدَةٍ مُرَتَّبَةٍ تَرْتِيبًا مَخْصُوصًا مِثْلَ الْأَنْفِ وَالْعَيْنِ وَالْفَمِ وَالْخَدِّ الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ وَهِيَ لُحُومٌ وَعِظَامٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هَيْئَةٍ فِي جِسْمٍ، وَلَا هُوَ تَرْتِيبٌ فِي أَجْسَامٍ، كَقَوْلِكَ عَرَفَ صُورَتَهُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَلْيَتَحَقَّقْ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ الصُّورَةَ فِي حَقِّ اللهِ لَمْ تُطْلَقْ لِإِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ جِسْمٌ لَحْمِيٌّ وَعَظْمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَنْفٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ أَجْسَامٌ وَهَيْئَاتٌ فِي أَجْسَامٍ، وَخَالِقُ الْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا يَقِينًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بَلْ أُمِرَ بِأَلَّا يَخُوضَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ مِمَّا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ. مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ النُّزُولُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النُّزُولَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، قَدْ يُطْلَقُ إِطْلَاقًا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْسَامٍ: جِسْمٌ عَالٍ هُوَ مَكَانٌ لِسَاكِنِهِ، وَجِسْمٌ سَافِلٌ كَذَلِكَ، وَجِسْمٌ مُنْتَقِلٌ مِنَ السَّافِلِ إِلَى الْعَالِي وَمِنَ الْعَالِي إِلَى السَّافِلِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى عُلُوٍّ سُمِّيَ صُعُودًا وَعُرُوجًا وَرُقِيًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ سُمِّيَ نُزُولًا وَهُبُوطًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ انْتِقَالٍ وَحَرَكَةٍ فِي جِسْمٍ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39: 6] وَمَا رُؤِيَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ بِالِانْتِقَالِ، بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ فِي الْأَرْحَامِ، وَلِإِنْزَالِهَا مَعْنًى لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " دَخَلْتُ مِصْرَ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامِي، فَنَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ ". فَلَمْ يُرِدْ بِهِ انْتِقَالَ جَسَدِهِ إِلَى أَسْفَلَ، فَتَحَقَّقَ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ النُّزُولَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ انْتِقَالُ شَخْصٍ وَجَسَدٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَإِنَّ الشَّخْصَ وَالْجَسَدَ أَجْسَامٌ، وَالرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - لَيْسَ بِجِسْمٍ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا فَمَا الَّذِي أَرَادَ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ إِذَا عَجَزْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ الْبَعِيرِ مِنَ السَّمَاءِ فَأَنْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ اللهِ - تَعَالَى - أَعْجَزُ، فَلَيْسَ هَذَا بِوُسْعِكَ فَاتْرُكْهُ، وَاشْتَغِلْ بِعِبَادَتِكَ أَوْ حِرْفَتِكَ وَاسْكُتْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي

يَجُوزُ أَنْ تُرَادَ بِالنُّزُولِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَيَلِيقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَظَمَتِهِ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ. مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا سَمِعَ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6: 18] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [16: 5] فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْفَوْقَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: نِسْبَةُ جِسْمٍ إِلَى جِسْمٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى وَالْآخَرُ أَسْفَلَ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ رَأْسِ الْأَسْفَلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ لِفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: الْخَلِيفَةُ فَوْقَ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، وَكَمَا يُقَالُ الْعِلْمُ فَوْقَ الْعِلْمِ، وَالْأَوَّلُ: يَسْتَدْعِي جِسْمًا يُنْسَبُ إِلَى جِسْمٍ. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَدْعِيهِ، فَلْيَعْتَقِدِ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرَ مُرَادٍ، وَأَنَّهُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ، فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَجْسَامِ أَوْ لَوَازِمِ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ، وَإِذَا عَرَفَ نَفْيَ هَذَا الْمُحَالِ فَلَا عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ لِمَاذَا أُطْلِقَ وَمَاذَا أُرِيدَ؟ فَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ. (الْوَظِيفَةُ الثَّانِيَةُ - الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ) وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أُرِيدَ بِهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ فِي وَصْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ، فَلْيُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَلْيُوقِنْ بِأَنَّ مَا قَالَهُ صِدْقٌ وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلْيَقُلْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا، وَأَنَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَهُوَ كَمَا وَصَفَهُ، وَحَقٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: التَّصْدِيقُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّصَوُّرِ، وَالْإِيمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا لَمْ يَفْهَمِ الْعَبْدُ مَعَانِيَهَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ قَائِلِهَا فِيهَا؟ فَجَوَابُكَ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْأُمُورِ الْجُمْلِيَّةِ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانٍ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ فَلَهُ مُسَمًّى إِذَا نَطَقَ بِهِ مَنْ أَرَادَ مُخَاطَبَةَ قَوْمٍ قَصَدَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ صَادِقًا مُخْبِرًا عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَعْقُولٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ غَيْرُ مُفَصَّلَةٍ وَيُمْكِنُ التَّصْدِيقُ، كَمَا إِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ حَيَوَانٌ أَمْكَنَ أَنْ يُصَدَّقَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ غَيْرُهُ، بَلْ لَوْ قَالَ فِيهِ شَيْءٌ أَمْكَنَ تَصْدِيقَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فَهِمَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ إِلَى الْعَرْشِ فَيُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تِلْكَ النِّسْبَةَ هِيَ نِسْبَةُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِقْبَالِ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي النِّسْبَةِ فَأَمْكَنَ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ؟ فَجَوَابُكَ: أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الْخِطَابِ تَفْهِيمَ مَنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ فَهِمُوا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ خَاطَبَ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ

بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَارِفِينَ كَالصِّبْيَانِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبَالِغِينَ، وَلَكِنْ عَلَى الصِّبْيَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْبَالِغِينَ عَمَّا لَا يَفْهَمُونَهُ، وَعَلَى الْبَالِغِينَ أَنْ يُجِيبُوا الصِّبْيَانَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَلَسْتُمْ مَنْ أَهْلِهِ فَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فَقَدْ قِيلَ لِلْجَاهِلِينَ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [21: 7] فَإِنْ كَانُوا يُطِيقُونَ فَهْمَهُ فَهِمُوهُمْ وَإِلَّا قَالُوا لَهُمْ: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [17: 85] فَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، مَا لَكُمْ وَلِهَذَا السُّؤَالِ؟ هَذِهِ مَعَانٍ الْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ أَيْ مَجْهُولَةٌ لَكُمْ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ ". فَإِذَنِ الْإِيمَانُ بِالْجُمْلِيَّاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُفَصَّلَةً فِي الذِّهْنِ مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ تَقْدِيسُهُ الَّذِي هُوَ نَفْيٌ لِلْمُحَالِ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ هِيَ الْجِسْمِيَّةُ وَلَوَازِمُهَا وَنَعْنِي بِالْجِسْمِ هَاهُنَا الشَّخْصَ الْمُقَدَّرَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ الَّذِي يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِحَيْثُ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ مَا يَطْلُبُ مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا، وَيَنْدَفِعُ وَيَتَنَحَّى عَنْ مَكَانِهِ بِقُوَّةٍ دَافِعَةٍ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَإِنَّمَا شَرَحْنَا هَذَا اللَّفْظَ مَعَ ظُهُورِهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ بِهِ. (الْوَظِيفَةُ الثَّالِثَةُ - الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ) وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَحَقِيقَتِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ تَأْوِيلَهَا وَالْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يُقِرَّ بِالْعَجْزِ، فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَاجِبٌ وَهُوَ عَنْ دَرْكِهِ عَاجِزٌ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: الْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ ; يَعْنِي: تَفْصِيلُ الْمُرَادِ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِنْ جَاوَزُوا فِي الْمَعْرِفَةِ حُدُودَ الْعَوَامِّ وَجَالُوا فِي مَيْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَقَطَعُوا مِنْ بَوَادِيهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ مِمَّا لَمْ يَبْلُغُوهُ - وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - أَكْثَرُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا طُوِيَ عَنْهُمْ إِلَى مَا كُشِفَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطْوِيِّ وَقِلَّةِ الْمَكْشُوفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَطْوِيِّ الْمَسْتُورِ. قَالَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَكْشُوفِ قَالَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -: أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ أَخْوَفُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ضَرُورِيًّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُنْتَهَى الْحَالِ، قَالَ سَيِّدُ الصِّدِّيقِينَ: " الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ " فَأَوَائِلُ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ كَأَوَاخِرِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَوَاصِّ الْخَلْقِ فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ؟ (الْوَظِيفَةُ الرَّابِعَةُ - السُّكُوتُ عَنِ السُّؤَالِ) وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَوَامِّ لِأَنَّهُ بِالسُّؤَالِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا لَا يُطِيقُهُ وَخَائِضٌ فِيمَا لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، فَإِنْ سَأَلَ جَاهِلًا زَادَهُ جَوَابُهُ جَهْلًا، وَرُبَّمَا وَرَّطَهُ فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَإِنْ سَأَلَ عَارِفًا عَجَزَ الْعَارِفُ عَنْ تَفْهِيمِهِ، بَلْ عَجَزَ عَنْ تَفْهِيمِ وَلَدِهِ مَصْلَحَتَهُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْمَكْتَبِ، بَلْ عَجَزَ الصَّائِغُ عَنْ تَفْهِيمِ النَّجَّارِ صِنَاعَتَهُ، فَإِنَّ النَّجَّارَ - وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِصِنَاعَتِهِ -

فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَقَائِقِ الصِّيَاغَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْلَمُ دَقَائِقَ النَّجْرِ لِاسْتِغْرَاقِهِ الْعُمْرَ فِي تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَفْهَمُ الصَّائِغُ أَيْضًا لِصَرْفِ الْعُمْرِ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يَفْهَمُهُ، فَالْمَشْغُولُونَ بِالدُّنْيَا وَبِالْعُلُومِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ مَعْرِفَةِ اللهِ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَجْزَ كَافَّةِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الصِّنَاعَاتِ عَنْ فَهْمِهَا، بَلْ عَجْزُ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ عَنْ الِاغْتِذَاءِ بِالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لِقُصُورٍ فِي فِطْرَتِهِ لَا لِعَدَمِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَلَا لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى تَغْذِيَةِ الْأَقْوِيَاءِ، لَكِنَّ طَبْعَ الضُّعَفَاءِ قَاصِرٌ عَنِ التَّغَذِّي بِهِ، فَمَنْ أَطْعَمَ الصَّبِيَّ الضَّعِيفَ اللَّحْمَ وَالْخُبْزَ أَوْ مَكَّنَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ فَقَدْ أَهْلَكَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَامَّةُ إِذَا طَلَبُوا بِالسُّؤَالِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَمَنْعُهُمْ وَضَرْبُهُمْ بِالدِّرَّةِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِكُلِّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَكَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمٍ رَآهُمْ خَاضُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَسَأَلُوا عَنْهُ: فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَفَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ وَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ كَمَا اشْتُهِرَ فِي الْخَبَرِ. وَلِهَذَا أَقُولُ: يَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ الْجَوَابُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْخَوْضِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ السَّلَفُ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْدِيسِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا، وَلَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي هَذَا بِمَا أَرَادَ حَتَّى يَقُولَ: كُلُّ مَا خَطَرَ بِبَالِكُمْ وَهَجَسَ فِي ضَمِيرِكُمْ وَتُصُوِّرَ فِي خَاطِرِكُمْ، فَاللهُ - تَعَالَى - خَالِقُهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا وَعَنْ مُشَابَهَتِهَا، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِخْبَارِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمُرَادِ فَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَاشْتَغِلُوا بِالتَّقْوَى، فَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَهَذَا قَدْ نُهِيتُمْ عَنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَمَهْمَا سَمِعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاسْكُتُوا، وَقُولُوا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوتِينَا. (الْوَظِيفَةُ الْخَامِسَةُ - الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَلْفَاظٍ وَارِدَةٍ) وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْخَلْقِ الْجُمُودُ عَلَى أَلْفَاظِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَالتَّصْرِيفُ وَالتَّفْرِيعُ. . . إِلَخْ. (الْأَوَّلُ التَّفْسِيرُ) وَأَعْنِي بِهِ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ بِلُغَةٍ أُخْرَى يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوِ التُّرْكِيَّةِ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا، وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفَرَسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَكُونُ

فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَمِثَالُهُ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ لَفْظٌ مُطَابِقٌ يُؤَدِّي بَيْنَ الْفُرْسِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُؤَدِّيهِ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَزِيدِ إِبْهَامٍ إِذْ فَارِسِيَّتُهُ أَنْ يُقَالَ: راست بايستاد، وَهَذَانَ لَفْظَانِ: (الْأَوَّلُ) يُنْبِئُ عَنِ انْتِصَابٍ وَاسْتِقَامَةٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْحَنِيَ وَيَعْوَجَّ (وَالثَّانِي) يُنْبِئُ عَنْ سُكُونٍ وَثَبَاتٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَضْطَرِبَ، وَإِشْعَارُهُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِشَارَتُهُ إِلَيْهَا فِي الْعَجَمِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ إِشْعَارِ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهَا، فَإِذَا تَفَاوَتَ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِشْعَارِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ الْمُرَادِفِ لَهُ الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِمَا لَا يُبَايِنُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَأَدَقِّهِ وَأَخْفَاهُ (مِثَالُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِصْبَعَ يُسْتَعَارُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلنِّعْمَةِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي إِصْبَعٌ: أَيْ نِعْمَةٌ، وَمَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ انكشت، وَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَجَمِ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَوَسُّعُ الْعَرَبِ فِي التَّجَوُّزِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَوَسُّعِ الْعَجَمِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ إِلَى جُمُودِ الْعَجَمِ، فَإِذَا حَسُنَ إِيرَادُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْعَرَبِ وَسَمِجَ ذَلِكَ فِي الْعَجَمِ نَفَرَ الْقَلْبُ عَمَّا سَمَجَ وَمَجَّهُ السَّمْعُ وَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَفَاوَتَا لَمْ يَكُنِ التَّفْسِيرُ تَبْدِيلًا بِالْمِثْلِ بَلْ بِالْخِلَافِ، وَلَا يَجُوزُ التَّبْدِيلُ إِلَّا بِالْمِثْلِ (مِثَالُ الثَّالِثِ) الْعَيْنُ، فَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ فَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ بِأَظْهَرِ مَعَانِيهِ فَيَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَيْنَ الْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَبَيْنَ الْمَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلَفْظِ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - هَذَا الِاشْتِرَاكُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَنْبِ وَالْوَجْهِ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا نَرَى الْمَنْعَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّفَاوُتُ إِنِ ادَّعَيْتُمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ خُبْزٌ وَنَانٌ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ لَحْمٌ وَكوشت، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَامْنَعْ مِنَ التَّبْدِيلِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ لَا عِنْدَ التَّمَاثُلِ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ، فَلَعَلَّ لَفْظَ الْيَدِ وَلَفْظَ دست يَتَسَاوَيَانِ فِي اللُّغَتَيْنِ وَفِي الِاشْتِرَاكِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَسَمَ إِلَى مَا يَجُوزُ وَإِلَى مَا لَا يَجُوزُ - وَلَيْسَ إِدْرَاكُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا وَالْوُقُوفُ عَلَى دَقَائِقِ التَّفَاوُتِ جَلِيًّا سَهْلًا يَسِيرًا عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِ الْإِشْكَالُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مَحَلُّ التَّفَاوُتِ عَنْ مَحَلِّ التَّعَادُلِ - فَنَحْنُ بَيْنَ أَنْ نَحْسِمَ الْبَابَ احْتِيَاطًا إِذْ لَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ أَنْ نَفْتَحَ الْبَابَ وَنُقْحِمَ عُمُومَ الْخَلْقَ وَرْطَةَ الْخَطَرِ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحْزَمُ وَأَحْوَطُ، وَالْمَنْظُورُ فِيهِ ذَاتُ الْإِلَهِ وَصِفَاتُهُ؟ وَمَا عِنْدِي أَنَّ عَاقِلًا مُتَدَيِّنًا لَا يُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُخْطِرٌ، فَإِنَّ الْخَطَرَ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْعِدَّةَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلِلْحَذَرِ مِنْ خَلْطِ الْأَنْسَابِ احْتِيَاطًا لِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّسَبِ، فَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْعَقِيمِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ ; لِأَنَّ بَاطِنَ الْأَرْحَامِ إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ النَّظَرِ إِلَى التَّفْصِيلِ كُنَّا

رَاكِبِينَ مَتْنَ الْخَطَرِ، فَإِيجَابُ الْعِدَّةِ حَيْثُ لَا عُلُوقَ أَهْوَنُ مِنْ رُكُوبِ هَذَا الْخَطَرِ، فَكَمَا أَنَّ إِيجَابَ الْعِدَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَحْرِيمُ تَبْدِيلِ الْعَرَبِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَتَرْجِيحِ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُعْلَمُ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ وَعَمَّا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِدَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا احْتَاطَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. (أَمَّا التَّصَرُّفُ الثَّانِي بِالتَّأْوِيلِ) وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَاهُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَامِّيِّ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ الْعَامِّيِّ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ (الْأَوْلُ) تَأْوِيلُ الْعَامِّيِّ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ يُشْبِهُ خَوْضَ الْبَحْرِ الْمُغْرِقِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ السِّبَاحَةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَبَحْرُ مَعْرِفَةِ اللهِ أَبْعَدُ غَوْرًا وَأَكْثَرُ مَعَاطِبَ وَمَهَالِكَ مِنْ بَحْرِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْبَحْرِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ، وَهَلَاكُ بَحْرِ الدُّنْيَا لَا يُزِيلُ إِلَّا الْحَيَاةَ الْفَانِيَةَ وَذَلِكَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ فَشَتَّانَ بَيْنَ الْخَطَرَيْنِ. (الْمَوْضِعُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَجُرَّ السَّبَّاحُ الْغَوَّاصُ فِي الْبَحْرِ مَعَ نَفْسِهِ آخَرَ عَاجِزًا عَنِ السِّبَاحَةِ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ. وَذَلِكَ حَرَامٌ " لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ ; فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى حِفْظِهِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ السَّاحِلِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْوُقُوفِ بِقُرْبِ السَّاحِلِ لَا يُطِيعُهُ، وَإِنْ أَمْرَهُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ الْتِطَامِ الْأَمْوَاجِ وَإِقْبَالِ التَّمَاسِيحِ وَقَدْ فَغَرَتْ فَاهًا لِلِانْتِقَامِ، اضْطَرَبَ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ وَلَمْ يَسْكُنْ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ لِقُصُورِ طَاقَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الْحَقُّ لِلْعَالِمِ إِذَا فَتَحَ لِلْعَامِّيِّ بَابَ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خِلَافِ الظَّوَاهِرِ. وَفِي مَعْنَى الْعَوَامِّ الْأَدِيبُ وَالنَّحْوِيُّ وَالْمُحَدِّثُ وَالْمُفَسِّرُ وَالْفَقِيهُ وَالْمُتَكَلِّمُ، بَلْ كُلُّ عَالِمٍ سِوَى الْمُتَجَرِّدِينَ لِتَعَلُّمِ السِّبَاحَةِ فِي بِحَارِ الْمَعْرِفَةِ، الْقَاصِرِينَ أَعْمَارَهُمْ عَلَيْهِ، الصَّارِفِينَ وُجُوهَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْخَلْقِ وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ، وَالْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ بِجَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْرِغِينَ قُلُوبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ عَنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لِلَّهِ، الْمُسْتَحْقِرِينَ لِلدُّنْيَا بَلِ الْآخِرَةِ وَالْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنْبِ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَوْصِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، يَهْلَكُ مِنَ الْعَشْرَةِ تِسْعَةٌ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ وَاحِدٌ بِالدُّرِّ الْمَكْنُونِ وَالسِّرِّ الْمَخْزُونِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى فَهُمُ الْفَائِزُونَ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ) تَأْوِيلُ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ فِي سِرِّ قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجَهٍ، فَإِنَّ الَّذِي انْقَدَحَ فِي سِرِّهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ مَثَلًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مَظْنُونًا ظَنًّا غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلْيَعْتَقِدْهُ وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فَلْيَجْتَنِبْهُ، وَلَا يَحْكُمَنْ عَلَى مُرَادِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَادِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِهِ بِاحْتِمَالٍ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الشَّاكِّ التَّوَقُّفُ. وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَاعْلَمْ أَنَّ لِلظَّنِّ مُتَعَلَّقَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي انْقَدَحَ عِنْدَهُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ هُوَ مُحَالٌ؟ .

(وَالثَّانِي) أَنْ يَعْلَمَ قَطْعًا جَوَازَهُ لَكِنْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرَادٌ أَمْ لَا (مِثَالُ الْأَوَّلِ) تَأْوِيلُ لَفْظِ الْفَوْقِ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا السُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَإِنَّا لَا نَشُكُّ فِي ثُبُوتِ مَعْنَاهُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، لَكِنَّا رُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [16: 50] هَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ أَمْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ صِفَةٌ فِي جِسْمٍ (وَمِثَالُ الثَّانِي) تَأْوِيلُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النِّسْبَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لِلْعَرْشِ، وَنِسْبَتُهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَتَصَرَّفُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ صُورَةً مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الْعَرْشِ، كَمَا لَا يُحْدِثُ النَّقَّاشُ وَالْكَاتِبُ صُورَةً وَكَلِمَةً عَلَى الْبَيَاضِ مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الدِّمَاغِ، بَلْ لَا يُحْدِثُ الْبَنَّاءُ صُورَةَ الْأَبْنِيَةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ صُورَتَهَا فِي الدِّمَاغِ ; فَبِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ يُدَبِّرُ الْقَلْبُ أَمْرَ عَالَمِهِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ فَرُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - هَلْ هُوَ جَائِزٌ إِمَّا لِوُجُوبِهِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مُحَالًا كَمَا أَجْرَى عَادَتَهُ فِي حَقِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ بِأَلَّا يُمْكِنُهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ، وَإِنْ كَانَ فِي قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - تَمْكِينُهُ مِنْهُ دُونَ الدِّمَاغِ لَوْ سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ، وَحَقَّتْ بِهِ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ، فَصَارَ خِلَافُهُ مُمْتَنِعًا لَا الْقُصُورُ فِي ذَاتِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ مَا يُخَالِفُ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَالْعِلْمَ السَّابِقَ الْأَزَلِيَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [33: 62] وَإِنَّمَا لَا تَتَبَدَّلُ لِوُجُوبِهَا وَإِنَّمَا وُجُوبُهَا لِصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَنَتِيجَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ وَنَقِيضُهَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا، وَيَمْتَنِعَ نُفُوذُ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَإِذَنْ إِثْبَاتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَعَ الْعَرْشِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ إِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ وُجُودًا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّاظِرُ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ وُجُودُ هَذَا مِثَالُ الظَّنِّ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مِثَالُ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْمَعْنَى مُرَادًا بِاللَّفْظِ، مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا جَائِزًا وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّنَّيْنِ إِذَا انْقَدَحَ فِي النَّفْسِ وَحَاكَ فِي الصَّدْرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ دَفْعُهُ عَنِ النَّفْسِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَلَّا يَظُنَّ ; فَإِنَّ لِلظَّنِّ أَسْبَابًا ضَرُورِيَّةً لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَكِنْ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ: (إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَعَ نَفْسَهُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِإِمْكَانِ الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ مَعَ نَفْسِهِ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ حُكْمًا جَازِمًا. (وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ كَذَا أَوِ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ كَذَا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17: 36] لَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ كَذَا فَيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ ضَمِيرِهِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى صِفَةِ اللهِ وَلَا عَلَى مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ، بَلْ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَبَأً عَنْ ضَمِيرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ هَذَا الظَّنِّ مَعَ كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَاطِعًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ؟ قُلْنَا: تَحَدُّثُهُ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ نَفْسِهِ أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ، أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلِاسْتِبْصَارِ بِذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَتَجَرُّدِهِ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مَعَ الْعَامِّيِّ، فَإِنْ كَانَ قَاطِعًا فَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِهِ وَيُحَدِّثَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ أَوْ مَنْ هُوَ مُتَجَرِّدٌ لِطَلَبِ الْمَعْرِفَةِ مُسْتَعِدٌّ لَهُ خَالٍ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالتَّعَصُّبَاتِ لِلْمَذَاهِبِ وَطَلَبِ الْمُبَاهَاةِ بِالْمَعَارِفِ وَالتَّظَاهُرِ بِذِكْرِهَا مَعَ الْعَوَامِّ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ مَعَهُ ; لِأَنَّ الْفَطِنَ الْمُتَعَطِّشَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ يَحِيكُ فِي صَدْرِهِ إِشْكَالُ الظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُلْقِيهِ فِي تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ لِشِدَّةِ شَرَهِهِ عَلَى الْفِرَارِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ، وَمَنْعُ الْعِلْمِ أَهْلَهُ ظُلْمٌ كَبَثِّهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَفِي مَعْنَى الْعَامِّيِّ كُلُّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِطْعَامِ الرَّضِيعِ الْأَطْعِمَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا، وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَتَحَدُّثُهُ مَعَ نَفْسِهِ اضْطِرَارٌ، فَإِنَّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ ظَنٍّ وَشَكٍّ وَقَطْعٍ لَا تَزَالُ النَّفْسُ تَتَحَدَّثُ بِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ مَعَ الْعَوَامِّ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَقْطُوعِ، أَمَّا تَحَدُّثُهُ مَعَ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ دَرَجَتِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ أَوْ مَعَ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: أَظُنُّ كَذَا، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ بِذِكْرِهِ مُتَصَرِّفٌ بِالظَّنِّ فِي صِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ فِي مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِيهِ خَطَرٌ، وَإِبَاحَتُهُ تُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17: 36] فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (الْأَوَّلُ) الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ صَادِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُ إِلَّا عَنْ ظَنِّهِ وَهُوَ ظَانٌّ (وَالثَّانِي) أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ، إِذْ كَلُّ مَا قَالُوهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ بِالِاجْتِهَادِ ; وَلِذَلِكَ كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ وَتَعَارَضَتْ (وَالثَّالِثُ) إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِ الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي نَقَلَهَا آحَادُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَتَوَاتَرْ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ الَّذِي نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا رِوَايَتَهُ وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْعَدْلِ إِلَّا الظَّنُّ. (وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ) أَنَّ الْمُبَاحَ صِدْقٌ لَا يُخْشَى مِنْهُ ضَرَرٌ، وَبَثُّ هَذِهِ الظُّنُونِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ، فَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُهُ جَزْمًا فَيَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ خَطَرٌ، وَالنُّفُوسُ نَافِرَةٌ عَنْ إِشْكَالِ الظَّوَاهِرِ، فَإِذَا وُجِدَ مُسْتَرْوَحًا مِنَ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ مَظْنُونًا سَكَنَ إِلَيْهِ وَاعْتَقَدَهُ جَزْمًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ غَلَطًا، فَيَكُونُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ الْبَاطِلُ أَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ بِالظَّنِّ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - كَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ وَغَيْرِهِ، بَلْ لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ أَوْ فِي حِكَايَاتِ أَحْوَالِ

الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَمَا لَا يَعْظُمُ خَطَرُ الْخَطَأِ فِيهِ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ تَوَاتَرَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمَظْنُونِ وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْعُدُولِ وَرَوَوْهَا وَصَحَّحُوهَا. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَجُوزَ اتِّهَامُ الْعَدْلِ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا رَوَى الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَبَرًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، فَرَدُّ رِوَايَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَنِسْبَةٌ لَهُ إِلَى الْوَضْعِ أَوْ إِلَى السَّهْوِ، فَقَبِلُوهُ وَقَالُوا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَا فِي التَّابِعِينَ، فَالْآنَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّهَامِ الْعَدْلِ الْتَّقِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَلَّا يَتَّهِمَ ظُنُونَ الْآحَادِ، وَأَنْ يُنْزِلَ الظَّنَّ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَدْلُ فَصَدِّقُوهُ وَاقْبَلُوهُ وَانْقُلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: مَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ ظُنُونِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَارْوُوا عَنْ ظُنُونِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ مَا قَالَتْهُ، فَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ; وَلِهَذَا نَقُولُ: مَا رَوَاهُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ وَلَا يُرْوَى، وَيُحْتَاطَ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. (وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ رَوَتْهَا الصَّحَابَةُ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا يَقِينًا، فَمَا نَقَلُوا إِلَّا مَا تَيَقَّنُوهُ، وَالتَّابِعُونَ قَبِلُوهُ وَرَوَوْهُ، وَمَا قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، بَلْ قَالُوا: قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولَ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَكَانُوا صَادِقِينَ، وَمَا أَهْمَلُوا رِوَايَتَهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى فَوَائِدَ سِوَى اللَّفْظِ الْمُوهِمِ عِنْدَ الْعَارِفِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا يَفْهَمُهُ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي حَقِّهِ: مِثَالُهُ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ: يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحَدِيثُ سِيقَ لِنِهَايَةِ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي لِلتَّهَجُّدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْهَامُ لَفْظِ النُّزُولِ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَامِّيِّ الْجَارِي مَجْرَى الصَّبِيِّ، وَمَا أَهْوَنَ عَلَى الْبَصِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِي قَلْبِ الْعَامِّيِّ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْ صُورَةِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيُسْمِعَنَا نِدَاءَهُ وَقَوْلَهُ فَمَا أَسْمَعَنَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُزُولِهِ؟ وَلَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَادِيَنَا كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَعْرِفُ

الْعَامِّيُّ أَنَّ ظَاهِرَ النُّزُولِ بَاطِلٌ، بَلْ مِثَالُهُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ فِي الْمَشْرِقِ إِسْمَاعَ شَخْصٍ فِي الْمَغْرِبِ وَمُنَادَاتَهُ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَغْرِبِ بِأَقْدَامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَخَذَ يُنَادِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا يَسْمَعَ فَيَكُونُ نَقْلُهُ الْأَقْدَامَ عَمَلًا بَاطِلًا وَفِعْلًا كَفِعْلِ الْمَجَانِينِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِرُّ مِثْلُ هَذَا فِي قَلْبِ عَاقِلٍ؟ بَلْ يَضْطَرُّ بِهَذَا الْقَدْرِ كُلُّ عَامِّيٍّ إِلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ نَفْيَ صُورَةِ النُّزُولِ، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ اسْتِحَالَةَ الْجِسْمِيَّةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحَالَةُ الِانْتِقَالِ عَلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ كَاسْتِحَالَةِ النُّزُولِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ، فَإِذَنِ الْفَائِدَةُ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَظِيمَةٌ، وَالضَّرَرُ يَسِيرٌ، فَأَنَّى يُسَاوِي هَذَا حِكَايَةَ الظُّنُونِ الْمُنْقَدِحَةِ فِي الْأَنْفُسِ؟ فَهَذِهِ سُبُلُ تَجَاذُبِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ فِي إِبَاحَةِ ذِكْرِ التَّأْوِيلِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَنْعِ، وَلَا يَبْعُدُ ذِكْرُ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَرَائِنِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرَ تَرَكَهُ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ ظَنُّهُ كَالْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الذِّكْرِ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَا تَتَحَرَّكُ دَاعِيَتُهُ بَاطِنًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَا يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالٌ مِنْ ظَوَاهِرِهَا، فَذِكْرُ التَّأْوِيلِ مَعَهُ مُشَوِّشٌ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالُ الظَّاهِرِ حَتَّى يَكَادَ أَنْ يَسُوءَ اعْتِقَادُهُ فِي الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُنْكِرَ قَوْلَهُ الْمُوهِمَ، فَمِثْلُ هَذَا لَوْ ذُكِرَ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ الْمَظْنُونُ، بَلْ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ الَّذِي يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ انْتَفَعَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهِ مَعَهُ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ لِدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ دَاءً فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ السَّاكِنَةَ مِنْ أَكْثَرِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَقَدْ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ وَعَنْ إِشْكَالِهِ مُنْفَكِّينَ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ السَّلَفِ الْأَوَّلِ زَمَانَ سُكُونِ الْقَلْبِ بَالَغُوا فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ خِيفَةً مِنْ تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي وَتَشْوِيشِ الْقُلُوبِ، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْفِتْنَةَ، وَأَلْقَى هَذِهِ الشُّكُوكَ فِي الْقُلُوبِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَبَاءَ بِالْإِثْمِ، أَمَّا الْآنَ وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، فَالْعُذْرُ فِي إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَاءً لِإِمَاطَةِ الْأَوْهَامِ الْبَاطِلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ أَظْهَرُ، وَاللَّوْمُ عَنْ قَائِلِهِ أَقَلُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الْمَقْطُوعِ وَالْمَظْنُونِ، فَبِمَاذَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ التَّأْوِيلِ؟ قُلْنَا بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَقْطُوعًا ثُبُوتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ اللَّفْظُ إِلَّا مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّنَ الثَّانِي، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6: 18] فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ أَنَّ الْفَوْقَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ أَوْ فَوْقِيَّةَ الرُّتْبَةِ، وَلَمَّا بَطَلَ فَوْقِيَّةُ الْمَكَانِ لِمَعْرِفَةِ التَّقْدِيسِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةُ، كَمَا يُقَالُ: السَّيِّدُ فَوْقَ الْعَبْدِ وَالزَّوْجُ فَوْقَ الزَّوْجَةِ، وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَاللهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا كَالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي لَفْظِ الْفَوْقِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. أَمَّا لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ رُبَّمَا لَا يَنْحَصِرُ مَفْهُومُهُ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِانْحِصَارَ، وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: مَعْنَيَانِ جَائِزَانِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْبَاطِلُ، فَتَنْزِيلُهُ عَلَى

أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْجَائِزَيْنِ أَنْ يَكُونَ بِالظَّنِّ وَبِالِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا تَمَامُ النَّظَرِ فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ. (التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: التَّصْرِيفُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [13: 2] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُسْتَوٍ وَيَسْتَوِي ; لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْآيَةَ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [2: 29] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ قَدِ انْقَضَى مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ، فَفِي تَغْيِيرِ التَّصَارِيفِ مَا يُوثِقُ فِي تَغْيِيرِ الدَّلَالَاتِ وَالِاحْتِمَالَاتِ، فَلْيَجْتَنِبِ التَّصْرِيفَ كَمَا يَجْتَنِبُ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّ تَحْتَ التَّصْرِيفِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. (التَّصْرِيفُ الرَّابِعُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: الْقِيَاسُ وَالتَّفْرِيعُ) مِثْلَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْكَفِّ مُصَيِّرًا إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْيَدِ، وَإِذَا وَرَدَ الْأُصْبُعُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْمَشْهُورَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ الرِّجْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْيَدِ، وَإِثْبَاتُ الْفَمِ عِنْدَ وُرُودِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ وُرُودِ الضَّحِكِ، وَإِثْبَاتُ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَكَذِبٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَمْقَى مِنَ الْمُشَبِّهَةِ الْحَشْوِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ. (التَّصَرُّفُ الْخَامِسُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) وَلَقَدْ بَعُدَ عَنِ التَّوْفِيقِ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَرَسَمَ فِي كُلِّ عُضْوٍ بَابًا، فَقَالَ: بَابٌ فِي إِثْبَاتِ الرَّأْسِ وَبَابٌ فِي الْيَدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ كِتَابَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ صَدَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى قَرَائِنَ مُخْتَلِفَةٍ تُفْهِمُ السَّامِعِينَ مَعَانِيَ صَحِيحَةً، فَإِذَا ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً عَلَى مِثَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ صَارَ جَمْعُ تِلْكَ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي السَّمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَرِينَةً عَظِيمَةً فِي تَأْكِيدِ الظَّاهِرِ وَإِيهَامِ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَطَقَ بِمَا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَوْقَعُ، بَلِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ صَارَ مُتَوَالِيًا بِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ ; وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الظَّنِّ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِينَ الثَّلَاثَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، بَلْ يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ، وَيَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِمَاعِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ. وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةَ الِاجْتِمَاعِ إِذْ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إِلَى قَوْلِ كُلِّ عَدْلٍ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ أَوْ ضَعُفَ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ.

(التَّصَرُّفُ السَّادِسُ: الِتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَاتِ) فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ لَاحِقَةٍ لَهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَفْهِيمِ مَعْنَاهُ مُطْلَقًا وَمُرَجِّحَةٌ الِاحْتِمَالَ الضَّعِيفَ فِيهِ، فَإِذَا فُرِّقَتْ سَقَطَتْ دَلَالَتُهَا، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6: 18] لَا تُسَلَّطُ عَلَى أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: هُوَ فَوْقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الْقَاهِرُ قَبْلَهُ ظَهَرَتْ دَلَالَةُ الْفَوْقِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي لِقَاهِرٍ مَعَ الْمَقْهُورِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةِ، وَلَفْظُ (الْقَاهِرِ) يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ غَيْرِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَوْقَ عِبَادِهِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ فِي وَصْفِهِ فِي اللهِ فَوْقَهُ يُؤَكِّدُ احْتِمَالَ فَوْقِيَّةِ السِّيَادَةِ، إِذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ تَفَاوُتُهُمَا فِي مَعْنَى السِّيَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ غَلَبَةِ الْقَهْرِ أَوْ نُفُوذِ الْأَمْرِ بِالسُّلْطَةِ أَوْ بِالْأُبُوَّةِ أَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَغْفُلُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ، فَكَيْفَ يُسَلَّطُ الْعَوَامُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّغْيِيرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ بَالَغَ السَّلَفُ فِي الْجُمُودِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَارِدِ التَّوْقِيفِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ، وَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابُ مَا رَأَوْهُ، فَأَهَمُّ الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِيَاطِ مَا هُوَ تَصَرُّفُهُ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحَقُّ الْمَوَاضِعِ بِإِلْجَامِ اللِّسَانِ وَتَقْيِيدِهِ عَنِ الْجَرَيَانِ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، وَأَيُّ خَطَرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ؟ (الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ فِي الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ) وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ؟ قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ. وَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4: 48] فَإِنْ قُلْتَ: الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ

الدَّلِيلَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَلَّا يُزَادَ مَعَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ (وَالْآخَرُ) أَلَّا يُمَارِيَ فِيهِ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا يَتَفَكَّرَ فِيهِ إِلَّا تَفْكِيرًا سَهْلًا جَلِيًّا وَلَا يُمْعِنَ فِي التَّفَكُّرِ، وَلَا يُوغِلَ غَايَةَ الْإِيغَالِ فِي الْبَحْثِ. وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [10: 31] وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [50: 6 - 10] وَكَقَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [80: 24 - 31] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78: 6 - 16] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَلْقُ جَلَالَ اللهِ الْخَالِقِ وَعَظَمَتَهُ لَا بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْأَغْرَاضَ حَادِثَةٌ، وَإِنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَخْلُو عَنِ الْأَغْرَاضِ الْحَادِثَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّقْسِيمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَإِثْبَاتَهَا بِأَدِلَّتِهَا الرَّسْمِيَّةِ يُشَوِّشُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ، وَالدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَفْهَامِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ تَنْفَعُهُمْ وَتُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَتَغْرِسُ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتِ الْجَازِمَةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُقْنَعُ فِيهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا [21: 22] فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْمُدَبِّرِينَ سَبَبُ إِفْسَادِ التَّدْبِيرِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17: 42] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [23: 91] وَأَمَّا صِدْقُ الرَّسُولِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [17: 88] وَبِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [2: 23] وَقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [11: 13] وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36: 78، 79] وَبِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75: 36 - 40] وَبِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [22: 5] وَقَوْلِهِ:

فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41: 39] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَقَرَّرُوا وَجْهَ دَلَالَتِهَا فَمَا بَالُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَمْنَعُونَ عَنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَتَأَمُّلِهِ؟ فَإِنْ فُتِحَ لِلْعَامِّيِّ بَابُ النَّظَرِ فَلْيُفْتَحْ مُطْلَقًا أَوْ لِيُسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ النَّظَرِ رَأْسًا وَلْيُكَلَّفِ التَّقْلِيدَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. (الْجَوَابُ) أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَتَدْقِيقٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَةِ الْعَامِّيِّ وَقُدْرَتِهِ، وَإِلَى مَا هُوَ جَلِيٌّ سَابِقٌ إِلَى الْأَفْهَامِ بِبَادِي الرَّأْيِ مِنْ أَوَّلِ النَّظَرِ مِمَّا يُدْرِكُهُ كَافَّةُ النَّاسِ بِسُهُولَةٍ، فَهَذَا لَا خَطَرَ فِيهِ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّدْقِيقِ فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ وُسْعِهِ ; فَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْغِذَاءِ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، وَأَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الدَّوَاءِ يَنْتَفِعْ بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ، وَسَائِرُ الْأَدِلَّةِ كَالْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْأَقْوِيَاءُ مَرَّةً وَيَمْرَضُونَ بِهَا أُخْرَى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الصِّبْيَانُ أَصْلًا ; وَلِهَذَا قُلْنَا: أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهَا إِصْغَاءَهُ إِلَى كَلَامٍ جَلِيٍّ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ إِلَا مِرَاءً ظَاهِرًا، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ تَدْقِيقَ الْفِكْرِ وَتَحْقِيقَ النَّظَرِ، فَمِنَ الْجَلِيِّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30: 27] وَأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَنْتَظِمُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِمُدَبِّرَيْنِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ؟ وَأَنَّ مَنْ خَلَقَ عَلِمَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [67: 14] فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَجْرِي لِلْعَوَامِّ مَجْرَى الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ تَنْقِيرٍ وَسُؤَالٍ وَتَوْجِيهِ إِشْكَالٍ ثُمَّ اشْتِغَالٍ بِحَلِّهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَرَرُهُ فِي حَقِّ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ظَاهِرٌ، فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّى، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَضَرُّرِ الْخَلْقِ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعَيَانُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَمَا ثَارَ مِنَ الشَّرِّ مُنْذُ نَبَغَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَفَشَتْ صِنَاعَةُ الْكَلَامِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ بِأَجْمَعِهِمْ مَا سَلَكُوا فِي الْمُحَاجَّةِ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْسِيمَاتِهِمْ وَتَدْقِيقَاتِهِمْ لَا لِعَجْزٍ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَأَطْنَبُوا فِيهِ، وَلَخَاضُوا فِي تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ خَوْضًا يَزِيدُ عَلَى خَوْضِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمْسَكُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْبِدَعَ إِنَّمَا نَبَعَتْ بَعْدَهُمْ فَعَظُمَ حَاجَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِلْمُ الْكَلَامِ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِالْبِدَعِ، فَلَمَّا قَلَّتْ فِي زَمَانِهِمْ أَمْرَاضُ الْبِدَعِ قَلَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْمُعَالَجَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْوَقَائِعِ، بَلْ وَضَعُوا الْمَسَائِلَ وَفَوَّضُوا فِيهَا مَا تَنْقَضِي الدُّهُورُ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ وُقُوعُهُ فَصَنَّفُوا عِلْمَهُ وَرَتَّبُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْخَوْضِ فِيهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَالْعِنَايَةُ بِإِزَالَةِ الْبِدَعِ وَنَزْعِهَا عَنِ النُّفُوسِ أَهَمُّ، فَلَمْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ صِنَاعَةً لِأَنَّهُمْ

عَرَفُوا أَنَّ الِاسْتِضْرَارَ بِالْخَوْضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ حَذَّرُوا مِنْ ذَلِكَ وَفَهِمُوا تَحْرِيمَ الْخَوْضِ لَخَاضُوا فِيهِ. (وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ مُنْكِرِيهِ، ثُمَّ مَا زَادُوا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعَقَائِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ أَقْنَعَهُ ذَلِكَ قَبِلُوهُ وَمَنْ لَمْ يُقْنَعْ قَتَلُوهُ، وَعَدَلُوا إِلَى السَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ إِفْشَاءِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمَا رَكِبُوا ظَهْرَ اللَّجَاجِ فِي وَضْعِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْرِيرِ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ، وَتَذْلِيلِ طُرُقِهَا وَمِنْهَاجِهَا، كُلُّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَثَارُ الْفِتَنِ وَمَنْبَعُ التَّشْوِيشِ، وَمَنْ لَا يُقْنِعْهُ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، فَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ بَيَانٌ، عَلَى أَنَّنَا نُنْصِفُ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَاجَةَ الْمُعَالَجَةِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ، وَأَنَّ لِطُولِ الزَّمَانِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ الْإِشْكَالَاتِ، وَأَنَّ لِلْعِلَاجِ طَرِيقَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : الْخَوْضُ فِي الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ وَاحِدٌ يَفْسُدُ بِهِ اثْنَانِ، فَإِنَّ صَلَاحَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْيَاسِ وَفَسَادَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبُلْهِ، وَمَا أَقَلَّ الْأَكْيَاسَ وَمَا أَكْثَرَ الْبُلْهَ وَالْعِنَايَةُ بِالْأَكْثَرِينَ أَوْلَى. (وَالطَّرِيقُ الثَّانِي) : طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ وَالسُّكُوتِ وَالْعُدُولِ إِلَى الدِّرَّةِ وَالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقْنِعُ الْأَكْثَرِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْنِعُ الْأَقَلِّينَ، وَآيَةُ إِقْنَاعِهِ أَنَّ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ طَوْعًا مَا كَانَ فِي الْبِدَايَةِ كُرْهًا، وَيَصِيرَ اعْتِقَادُهُ جَزْمًا مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مِرَاءً وَشَكًّا، وَذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ وَرُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ وَخَبَرِهِمْ وَقَرَائِنَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُنَاسِبُ طِبَاعَهُمْ مُنَاسَبَةً أَشَدَّ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْجَدَلِ وَالدَّلِيلِ ; فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَاجَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْأَنْفَعِ فِي الْأَكْثَرِ، فَالْمُعَاصِرُونَ لِلطَّبِيبِ الْأَوَّلِ الْمُؤَيَّدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُكَاشَفِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَبَوَاطِنِهِمْ أَعْرَفُ بِالْأَصْوَبِ وَالْأَصْلَحِ قَطْعًا، فَسُلُوكُ سَبِيلِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى. (الْوَظِيفَةُ السَّابِعَةُ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ) : وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا انْطَوَى عَنْهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَأَسْرَارِهَا لَيْسَ مُنْطَوِيًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ الصِّدِّيقِ وَعَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْطَوَى عَنْهُ لِعَجْزِهِ وَقُصُورِ مَعْرِفَتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ

بِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَا تُقَاسُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحَدَّادِينَ، وَلَيْسَ مَا تَخْلُو عَنْهُ مَخَادِعُ الْعَجَائِزِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَخْلُوَ عَنْهُ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ، فَقَدْ خُلِقَ النَّاسُ أَشْتَاتًا وَمُتَفَاوِتِينَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِهَا وَتُبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَوْنًا وَخَاصِّيَّةً وَنَفَاسَةً، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ مَعَادِنُ لِسَائِرِ جَوَاهِرِ الْمَعَارِفِ فَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِيَّةِ، بَلْ تَرَى النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ، فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَاحِدُ بِخِفَّةِ يَدِهِ، وَحَذَاقَةِ صِنَاعَتِهِ عَلَى أُمُورٍ لَا يَطْمَعُ الْآخَرُ فِي بُلُوغِ أَوَائِلِهَا فَضْلًا عَنْ غَايَتِهَا، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِتَعَلُّمِهَا جَمِيعَ عُمْرِهِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللهِ - تَعَالَى -، بَلْ كَمَا يَنْقَسِمُ النَّاسُ إِلَى جَبَانٍ عَاجِزٍ لَا يُطِيقُ النَّظَرَ إِلَى الْتِطَامِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِهِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخَوْضُ فِي أَطْرَافِهِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي الْمَاءِ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ رَفْعَ الرِّجْلِ عَنِ الْأَرْضِ اعْتِمَادًا عَلَى السِّبَاحَةِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ السِّبَاحَةَ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنَ الشَّطِّ لَكِنْ لَا يُطِيقُ خَوْضَ الْبَحْرِ إِلَى لُجَّتِهِ وَالْمَوَاضِعِ الْمُغْرِقَةِ الْمُخْطِرَةِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ الْغَوْصَ فِي عُمْقِ الْبَحْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ الَّذِي فِيهِ نَفَائِسُهُ وَجَوَاهِرُهُ، فَهَكَذَا مِثَالُ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِيهِ مِثْلُهُ (حَذْوَ الْقُّذَّةِ بِالْقُذَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ) (فَإِنْ قِيلَ) فَالْعَارِفُونَ مُحِيطُونَ بِكَمَالِ مَعْرِفَةِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - حَتَّى لَا يَنْطَوِي عَنْهُمْ شَيْءٌ قُلْنَا: هَيْهَاتَ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى) أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللهَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ الْخَلَائِقَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُمْ وَغَزُرَ عِلْمُهُمْ - فَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - فَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ مُحِيطَةٌ بِكُلِّ مَا فِي الْوُجُودِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهُ وَأَفْعَالُهُ، فَالْكُلُّ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ فِي الْمُعَسْكَرِ حَتَّى الْحُرَّاسُ هُمْ مِنَ الْمُعَسْكَرِ، فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَفْهَمُ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا بِالتَّمْثِيلِ إِلَى الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ دَاخِلٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَتِهِ قَصْرٌ خَاصٌّ وَفِي فِنَاءِ قَصْرِهِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ، وَلِذَلِكَ الْمَيْدَانِ عَتَبَةٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا جَمِيعُ الرَّعَايَا وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْمَيْدَانِ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِخَوَاصِّ الْمَمْلَكَةِ فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ، وَدُخُولِ الْمَيْدَانِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسْبِ مَنَاصِبِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطْرُقْ إِلَى الْقَصْرِ الْخَاصِّ إِلَّا الْوَزِيرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ يُطْلِعُ الْوَزِيرَ مِنْ أَسْرَارِ مُلْكِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَيَسْتَأْثِرُ عَنْهُ بِأُمُورٍ لَا يُطْلِعُهُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ فَافْهَمْ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَفَاوُتَ الْخَلْقِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَالْعَتَبَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَيْدَانِ مَوْقِفُ جَمِيعِ الْعَوَامِّ وَمَرَدُّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مُجَاوَزَتِهَا، فَإِنْ جَاوَزُوا حَدَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الزَّجْرَ وَالتَّنْكِيلَ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ جَاوَزُوا الْعَتَبَةَ وَانْسَرَحُوا فِي الْمَيْدَانِ، وَلَهُمْ فِيهِ جَوَلَانٌ عَلَى حُدُودٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمْ

8

كَثِيرٌ، وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَتَقَدَّمُوا عَلَى الْعَوَامِّ الْمُفْتَرِشِينَ، وَأَمَّا حَظِيرَةُ الْقُدْسِ فِي صَدْرِ الْمَيْدَانِ فَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تَطَأَهَا أَقْدَامُ الْعَارِفِينَ، وَأَرْفَعُ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، بَلْ لَا يَلْمَحُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الرَّفِيعَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ إِلَّا غَضَّ مِنَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ طَرْفَهُ فَانْقَلَبَ إِلَيْهِ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ; فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ تَفْصِيلًا، فَهَذِهِ هِيَ الْوَظَائِفُ السَّبْعُ الْوَاجِبَةُ عَلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا. وَهِيَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَأَمَّا الْآنُ فَنَشْتَغِلُ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ. اهـ. أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا فَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ عَلِمْتَ صَفْوَةَ الْمَذْهَبِ مِمَّا سَلَفَ. وَنَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ بَاقِي الْآيَاتِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. لَمَّا كَانَ الْمُتَشَابِهُ مَزَلَّةَ الْأَقْدَامِ وَمَدْرَجَةَ الزَّائِغِينَ إِلَى الْفِتْنَةِ وَصَلَ الرَّاسِخُونَ الْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ بِهِ بِالدُّعَاءِ بِالْحِفْظِ مِنَ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ يَعْرِفُونَ ضَعْفَ الْبَشَرِ وَكَوْنَهُمْ عُرْضَةً لِلتَّقَلُّبِ وَالنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَعِلْمَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَخَافُونَ أَنْ يُسْتَزَلُّوا فَيَقَعُوا فِي الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَرِينُ الْخَطَرِ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِحْكَامِ الْعِلْمِ فِي مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَإِحْكَامِ الْعَمَلِ بِحُسْنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَّا اللُّجْأُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الزَّيْغِ الْعَارِضِ، وَيَهَبَهُ الثَّبَاتَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَالرَّحْمَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. أَقُولُ: وَلَا تَلْتَفِتْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إِسْنَادِ الْإِزَاغَةِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يُسْنَدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَقَامِ تَقْرِيرِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ فِي زَيْغِهِ. فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الصَّفِّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [61: 5] وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنْ لَدُنْكَ مَعْنَاهُ: مِنْ عِنْدِكَ فَإِنَّ (لَدُنْ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرَادِفَةً لَهَا - بَلْ هِيَ أَخَصُّ وَأَقْرَبُ مَكَانًا - وَلَا لِـ (لَدَى) . فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أُمُورٍ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ " لَدُنْ " إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّوْفِيقُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ بِكَسْبِهِ. وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِسَعْيِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْهِبَةِ وَوَصْفُهُ - تَعَالَى - بِالْوَهَّابِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ عَطَاءٌ بِلَا مُقَابِلٍ. رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ جَمْعُ النَّاسِ وَحَشْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُمْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْجَزَاءِ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنُهُ

10

(لَا رَيْبَ فِيهِ) مَعْنَاهُ: أَنَّنَا مُوقِنُونَ بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ ; لِأَنَّكَ أَخْبَرْتَ بِهِ وَوَعَدْتَ وَأَوْعَدْتَ بِالْجَزَاءِ فِيهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [2: 2] أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَنِ الْكِتَابِ فِي نَفْسِهِ، وَالْكَلَامَ هُنَا حِكَايَةٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ; وَلِذَلِكَ عَلَّلَ نَفْيَ الرَّيْبِ بِنَفْيِ إِخْلَافِ الْمِيعَادِ، وَجِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِلْإِشْعَارِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْجُمْلَةَ كَالدُّعَاءِ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ - تَعَالَى - لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مُنَاسَبَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِلْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْآخِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَضْمُونِهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ يَوْمَ الْجَمْعِ ; لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمُ الْخَوْفَ مِنْ تَسَرُّبِ الزَّيْغِ الَّذِي يُبْسِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَهَذَا الْخَوْفُ هُوَ مَبْعَثُ الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الزَّيْغِ. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا مَا مِثَالُهُ: يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَدًّا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا ; فَإِنَّ التَّوْحِيدَ لَمَّا كَانَ أَهَمَّ رُكْنٍ لِلْإِسْلَامِ كَانَ مِمَّا تُعْرَفُ الْبَلَاغَةُ

أَنْ يُبْدَأَ بِتَقْرِيرِ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِبَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْمُنَاكَرَةِ وَالْجُحُودِ وَمَنَاشِئِ اغْتِرَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَسْبَابِ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ أَوِ اشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ. وَأَهَمُّهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ فَهِيَ تُنْبِئُهُمْ هُنَا بِأَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ ; إِذْ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ النَّاسَ وَيُحَاسِبُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، بَلْ وَلَا فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحْوَجَ الْكَافِرِينَ إِلَى هَذَا التَّذْكِيرِ، إِنَّ الْجُحُودَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ لِلْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَوَهُّمِهِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْحَقِّ ; فَإِنَّ صَاحِبَ الْقُوَّةِ وَالْجَاهِ إِذَا وُعِظَ بِالدِّينِ عِنْدَ هَضْمِ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى أَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَاحْتَاجَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِالدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ وَاعِظًا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَاحِدًا، فَهُمْ لِظُلْمَةِ بَصِيرَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَجَاهٍ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى فِي الدِّينِ فِي كُلِّ حَالٍ. قَالَ: فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) (تُغْنِي) بِـ " تَدْفَعُ "، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا (تُغْنِي) هُنَا كَـ " يُغْنِي " فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [53: 28] وَلَا أَرَاكَ تَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهَا لَنْ يَدْفَعَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَإِنَّمَا مَعْنَى (مِنْ) هُنَا الْبَدَلِيَّةُ، أَيْ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَنْ تَكُونَ بَدَلًا لَهُمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - تُغْنِيهِمْ عَنْهُ ; فَإِنَّهُمْ إِذَا تَمَادَوْا عَلَى بَاطِلِهِمْ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ - بَلْ تَوَعَّدَهُمْ فِي هَذِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ - بِالْفَتْحِ - كَصَبُورٍ: مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ مِنْ حَطَبٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: أَيْ إِنَّهُمْ سَبَبُ وُجُودِ نَارِ الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْوَقُودَ سَبَبُ وُجُودِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَنَّهُمْ مِمَّا تُوقَدُ بِهِ، وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [2: 24] فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ. ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اسْتَغْنَوْا بِمَا أُوتُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَقِّ فَعَارَضُوهُ وَنَاهَضُوهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ فَقَالَ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ وَنَصَرَ مُوسَى عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمُ الْمُكَذِّبِينَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِكُفْرِهِمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمَا أُخِذُوا إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا نُصِرَ الرُّسُلُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ إِلَّا بِصَلَاحِهِمْ ; فَاللهُ - تَعَالَى - لَا يُحَابِي وَلَا يَظْلِمُ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ ; إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَشَدُّهَا الْكُفْرُ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمَخْذُولُونَ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْبَاقُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُعْتَزِّينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ

12

فِي الدُّنْيَا وَتُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَافِرُونَ يَعْتَزُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فَتَوَعَّدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ بِالْكَثْرَةِ وَالثَّرْوَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أَقُولُ: يُشِيرُ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34: 35] وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ تَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ - إِنْ كَانَ هُنَاكَ آخِرَةٌ - كَمَا تَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا. كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19: 77، 78] إِلَخْ. وَكَقَوْلِهِ فِي صَاحِبِ الْجَنَّةِ، أَيِ الْبُسْتَانِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18: 35، 36] وَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنُ شُبْهَتَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، أَمَّا غُرُورُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِهَا غَالِبِينَ أَعِزَّاءَ دَائِمًا، فَذَلِكَ مَعْهُودٌ وَشُبْهَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ مُنْتَهَى الطُّغْيَانِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96: 6، 7] وَقَدْ أَنْفَذَ اللهُ وَعِيدَهُ الْأَوَّلَ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فَغُلِبُوا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْيَهُودِ وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا بَنِي قُرَيْظَةَ الْخَائِنِينَ، وَأَجْلَوْا بَنِي النَّضِيرِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَتَحُوا خَيْبَرَ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ بِغَلَبِهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، وَسَيَنْفُذُ وَعِيدُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمِهَادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، يُقَالُ: مَهَّدَ الرَّجُلُ الْمِهَادَ إِذَا بَسَطَهُ، وَيُقَالُ: مَهَّدَ الْأَمْرَ، إِذَا هَيَّأَهُ وَأَعَدَّهُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ، أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ: بِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: (تَرَوْنَهُمْ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. يَقُولُ - تَعَالَى -: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبِأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَلَا بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمَالُ مِنَ الْعَدَدِ، وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى النَّصْرِ وَالْغَلَبِ، فَإِنَّ فِي الِاعْتِبَارِ بِبَعْضِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ أَوْضَحَ آيَةٍ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحُسْبَانِ، فَذَكَرَ الْفِئَتَيْنِ، أَيِ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ الْتَقَتَا فِي الْقِتَالِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ هِيَ مَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَقْعَةِ بِدْرٍ - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) - وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقَائِعَ أُخْرَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَيُرَجَّحُ هَذَا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ ; فَإِنَّ فِي كُتُبِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبْرَةِ كَقِصَّةِ طَالُوتَ وَجَالُوتَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَقُولُ: (أَوْ قِصَّةُ جَدْعُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ) وَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ إِذَا كَانَ

13

الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَثَبَتَ أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْفِئَةُ الْكَافِرَةُ فِي بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ الْمُسْلِمَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْهِمْ فَقَطْ ; لِأَنَّ اللهَ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. أَقُولُ: وَهَذَا التَّصْحِيحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْفِئَةُ الَّتِي تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ، وَأَنَّ الْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْفِئَةُ الْكَافِرَةُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّائِينَ وَالْمَرْئِيِّينِ هُمُ الْمُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ عَدَدًا. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَالْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ أَنَّ الْكَافِرِينَ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ - عَلَى قِلَّتِهِمْ - مِثْلَيْهِمْ فِي الْعَدَدِ لِمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، وَقَدْ حَاوَلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا تَطْبِيقَهُ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ أَهْلِ بَدْرٍ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [8: 44] ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا فَتَجَرَّءُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا كَثَّرَهُمُ اللهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، كُلُّ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، فَالْمَعْنَى: تَرَوْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلَيْهِمْ، وَهِيَ لَا تُنَافِي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْكَافِرِينَ مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ فَهُوَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذَلِكَ وَعَلِمَ بِهِ الْآخَرُونَ، وَإِذَا كَانَ لِلْيَهُودِ فَالْيَهُودُ كَانُوا مُشْرِفِينَ أَيْضًا بِكُلِّ عِنَايَةٍ عَلَى مَا جَرَى بِبَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ مِنَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ; عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ نَصًّا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَالْيَهُودُ قَدْ شَهِدُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُسْنِدُ إِلَى الْحَاضِرِينَ مِنَ الْأُمَّةِ عَمَلَ الْغَابِرِينَ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْوَحْدَةِ وَالتَّكَافُلِ، وَظُهُورِ أَثَرِ الْأَوَائِلِ فِي الْأَوَاخِرِ، وَرَأَوْا مِثْلَهُ فِي زَمَنِ الْخِطَابِ فِي حَرْبِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِيَرَوْنَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِلْمِيَّةً اعْتِقَادِيَّةً - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ - فَالْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِثْلَهُمْ عِلْمًا مِثْلَ الْعِلْمِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْفِئَتَيْنِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ تُرْشِدُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمِثْلِ الْوَاقِعَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا الَّتِي غَلَبَتْ فِيهَا فِئَةٌ قَلِيلَةٌ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ أَيْ لِأَصْحَابِ الْأَبْصَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي الْأُمُورِ بِقَصْدِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا لَا لِمَنْ وُصِفُوا بِقَوْلِهِ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [7: 179] وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْأَبْصَارَ هُنَا بِمَعْنَى الْبَصَائِرِ وَالْعُقُولِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي بِأُولِي الْأَبْصَارِ مَنْ أَبْصَرُوا بِأَعْيُنِهِمْ قِتَالَ الْفِئَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَظْهَرُ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عَنِ الْعِبْرَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا مَزِيدًا فِيهِ: وَجْهُ الْعِبْرَةِ

أَنَّ هُنَاكَ قُوَّةً فَوْقَ جَمِيعِ الْقُوَى قَدْ تُؤَيِّدُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ فَتَغْلِبُ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ بِهِ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْيِيدِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَجِبُ أَخْذُهُ بِجُمْلَتِهِ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْسُهَا تَهْدِي إِلَى السِّرِّ فِي هَذَا النَّصْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - أَيْ سَبِيلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ - فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ قُوَّةٍ وَشُعُورٍ وَوِجْدَانٍ، وَمَا يُمْكِنُهَا مِنْ تَدْبِيرٍ وَاسْتِعْدَادٍ مَعَ الثِّقَةِ بِأَنَّ وَرَاءَ قُوَّتِهَا مَعُونَةَ اللهِ وَتَأْيِيدَهُ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [8: 45 - 47] أَقُولُ وَهَذَا مِمَّا نَزَلَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ الَّتِي قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حُكْمِهِ مُطْلَقًا فِي عِبَارَتِهِ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ الَّذِي يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ وَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَبِالطَّاعَةِ لَهُ - تَعَالَى - وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ هُوَ الْقَائِدُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ - وَطَاعَةُ الْقَائِدِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الظَّفَرِ - وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ وَأَنْذَرَهُمْ عَاقِبَتَهُ وَهِيَ الْفَشَلُ وَذَهَابُ الْقُوَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ; إِذْ خَرَجُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِعِلَّةِ الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَمُرَاءَاةِ النَّاسِ بِقُوَّتِهِمْ وَعِزِّهِمْ، وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَبِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي تُعْرَفُ سُنَّةُ اللهِ فِي نَصْرِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [8: 60] . أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا وَهَذِهِ الْآيَةَ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللهِ - تَعَالَى - فِي كُلِّ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ الِاسْتِعْدَادُ وَالِاعْتِقَادُ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُ يُقَاتِلُ ثَابِتًا وَاثِقًا وَالْكَافِرُ مُتَزَلْزِلًا مَائِقًا وَنَصَرُوا اللهَ فَنَصَرَهُمْ وَفَاءً بِوَعْدِهِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [47: 7] وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30: 47] فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِإِيمَانِهِ الْقُرْآنُ وَإِيتَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَأَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ وَحِرْمَانُهُ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ تُكَذِّبُ دَعْوَاهُ. وَغَزَوَاتُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابُهُ شَارِحَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ، وَهَذَا أَكْبَرُ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ عَادُوا إِلَيْهِ وَاتَّحَدُوا فِيهِ وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ لَفَازُوا بِالْعِزِّ الدَّائِمِ وَالسَّعَادَةِ الْكُبْرَى وَالسِّيَادَةِ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

14

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ لِاتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بِضْعًا وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ. وَرَوَى أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّ هَذَا الْوَفْدَ كَانَ سِتِّينَ رَاكِبًا، وَأَنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ وَأَرْدِيَةُ الْحَرِيرِ، وَفِي أَصَابِعِهِمْ خَوَاتِمُ الذَّهَبِ، وَطَفِقُوا يُصَلُّونَ صَلَاتَهُمْ، فَأَرَادَ النَّاسُ مَنْعَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُمْ ثُمَّ عَرَضُوا هَدِيَّتَهُمْ عَلَيْهِ وَهِيَ بَسُطٌ فِيهَا تَصَاوِيرُ وَمُسُوحٌ فَقَبِلَ الْمُسُوحَ دُونَ الْبُسُطِ. وَلَمَّا رَأَى فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الزِّينَةِ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ رَئِيسَ وَفْدِ نَجْرَانَ ذَكَرَ فِي حَدِيثِهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ وَبِصِدْقِهِ أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَمَتَّعَهُ وَأَنَّهُ يَسْلُبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ إِذَا هُوَ آمَنَ. فَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ مَا زُيِّنَ لِلنَّاسِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: إِنَّا رُوِّينَا أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ النَّصْرَانِيَّ اعْتَرَفَ لِأَخِيهِ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مُلُوكُ الرُّومِ الْمَالَ وَالْجَاهَ. (قَالَ) وَرَوَيْنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا دَعَا الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. اهـ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَالِاتِّصَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ ; فَإِنَّهُ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمُ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ لِأَجْلِهَا بَيَّنَ وَجْهَ غُرُورِهِمْ بِهَا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ جَعْلِهَا آلَةً لِلْغُرُورِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَ الْإِنْسَانَ عَنِ الْآخِرَةِ.

وَمِنْهَا - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ يَتَضَمَّنُ وَعِيدَ الْكَافِرِينَ جَاءَ بَعْدَهُ بِوَعْدِ الْمُتَّقِينَ، وَجَعَلَ لَهُ مُقَدِّمَةً بَيَّنَ فِيهَا جَمِيعَ أُصُولِ اللَّذَّاتِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا النَّاسُ بِحَسَبِ غَرَائِزِهِمْ تَمْهِيدًا لِتَعْظِيمِ شَأْنِ مَا بَعْدَهَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَمَّهَا وَالتَّنْفِيرَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ غَايَةَ الْحَيَاةِ. وَالنَّاسُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ هُمُ الْمُكَلَّفُونَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِرْشَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْبَحْثِ فِي الْأَطْفَالِ هُنَا. وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ انْفِعَالُ النَّفْسِ بِالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا تَسْتَلِذُّهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ شَائِعَةُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: هَذَا الطَّعَامُ شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ. وَمَعْنَى تَزْيِينِ حُبِّهَا لَهُمْ: أَنَّ حُبَّهَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ شَيْنًا (قَبْحًا) وَلَا غَضَاضَةً، وَقَدْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَرَاهُ مِنَ الشَّيْنِ لَا مِنَ الزَّيْنِ وَمِنَ الضَّارِّ لَا مِنَ النَّافِعِ، وَيَوَدُّ لِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِحُبِّ الْمُسْلِمِ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِحُبِّ بَعْضِ النَّاسِ لِلدُّخَانِ عَلَى تَأَذِّيهِ مِنْهُ، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمُحِبَّيْنِ يَوَدُّ لَوِ انْقَلَبَ حُبُّهُ كُرْهًا وَبُغْضًا، وَمَنْ أَحْبَّ شَيْئًا وَلَمْ يُزَيَّنْ لَهُ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُبِّهِ يَوْمًا، وَأَمَّا مَنْ زُيِّنَ لَهُ حُبُّهُ الشَّيْءَ فَلَا يَكَادُ يَرْجِعُ عَنْهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْحُبِّ، وَصَاحِبُهُ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ إِنْ كَانَ قَبِيحًا أَوْ ضَارًّا، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ تَأَذَّى بِهِ. قَالَ الْمَجْنُونُ: وَقَالُوا لَوْ تَشَاءُ سَلَوْتَ عَنْهَا ... فَقُلْتُ لَهُمْ: وَإِنِّي لَا أَشَاءُ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [47: 14] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي إِسْنَادِ التَّزْيِينِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ حُبَّ الشَّهَوَاتِ مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا فَدَخَلَ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتُ فِي رَأْيِهِمْ ; وَلِأَنَّ حُبَّ كَثْرَةِ الْمَالِ مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ بِحَسَبِ فَهْمِهِمْ لَهُ ; وَلِأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عِنْدَهُمْ ; وَلِأَنَّهُ فَضَّلَ عَلَيْهِ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْإِسْنَادُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَبَاحَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7: 32] فَجَعَلَ إِبَاحَتَهَا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِنَيْلِهَا فِي الْآخِرَةِ ; وَلِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَسَائِلَ لِلْآخِرَةِ بِتَكْثِيرِ النَّسْلِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ وَالْجِهَادِ، وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَسَّمَ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَحْمُودَةٍ وَمَذْمُومَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ. وَقَالَ: إِنَّ اللهَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، وَالشَّيْطَانَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّانِي. أَقُولُ: وَغَفَلَ الْجَمِيعُ عَنْ كَوْنِ الْكَلَامِ فِي طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِهِ وَأَفْرَادِ وَقَائِعِهِ. فَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْشَأَ النَّاسَ عَلَى هَذَا وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،

وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا قَدْ يُعَدُّ هُوَ مِنْ أَسْبَابِهِ كَالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا قَبِيحًا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْنِدْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِلَّا تَزْيِينَ الْأَعْمَالِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [8: 48] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [6: 43] وَأَمَّا الْحَقَائِقُ وَطَبَائِعُ الْأَشْيَاءِ فَلَا تُسْنَدُ إِلَّا إِلَى الْخَالِقِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18: 7] وَقَالَ: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [6: 108] فَالْكَلَامُ فِي الْأُمَمِ كَلَامٌ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخْرَى. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُشْتَهَيَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا النَّاسُ وَحُبُّهَا مُزَيَّنٌ لَهُمْ وَلَهُ مَكَانَةٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: (أَوَّلُهَا) النِّسَاءُ وَحُبُّهُنَّ لَا يَعْلُوهُ حُبٌّ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَهُنَّ مَطْمَحُ النَّظَرِ وَمَوْضِعُ الرَّغْبَةِ وَسَكَنُ النَّفْسِ وَمُنْتَهَى الْأُنْسِ، وَعَلَيْهِنَّ يُنْفَقُ أَكْثَرُ مَا يَكْسِبُ الرِّجَالُ فِي كَدِّهِمْ وَكَدْحِهِمْ، فَكَمِ افْتَقَرَ فِي حُبِّهِنَّ غَنِيٌّ! وَكَمِ اسْتَغْنَى بِالسَّعْيِ لِلْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ فَقِيرٌ! وَكَمْ ذَلَّ بِعِشْقِهِنَّ عَزِيزٌ! وَكَمُ ارْتَفَعَ فِي طَلَبِ قُرْبِهِنَّ وَضِيعٌ! ! وَلَعَلَّ فِي الْقَارِئِينَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يَغْنَى الْفَقِيرُ وَيَرْتَفِعُ الْوَضِيعُ بِسَبَبِ حُبِّ النِّسَاءِ - إِذَا كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفَ يَذِلُّ الْعَاشِقُ وَيَفْتَقِرُ - فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُحِبُّ ذَاتَ شَرَفٍ وَرِفْعَةٍ وَيَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِهَا إِلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَتَسَنُّمِ غَارِبِ الْمَعَالِي يُوَجِّهُ جَمِيعَ قُوَاهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَنَالَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُبَّ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ حُبَّهُنَّ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِمْ لَهُنَّ، وَلَكِنَّ الْحُبَّ لَا يُبَرِّحُ بِالنِّسَاءِ تَبْرِيحَهُ بِالرِّجَالِ ; فَالْمَرْأَةُ أَقْدَرُ عَلَى ضَبْطِ حُبِّهَا وَكِتْمَانِهِ وَضَبْطِ نَفْسِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا وَإِنَّكَ لَتَسْمَعُ بِأَخْبَارِ الْمِئِينَ وَالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ افْتَقَرُوا أَوِ احْتُقِرُوا أَوْ جُنُّوا فِي حُبِّ النِّسَاءِ، وَلَا تَجِدُ فِي مُقَابَلَتِهِمْ عَشْرُ نِسْوَةٍ قَدْ مُنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي حُبِّ الرِّجَالِ. ثُمَّ إِنَّ الرِّجَالَ هُمُ الْقَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ لِقُوَّتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحِمَايَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِسْرَافُهُمْ فِي الْحُبِّ وَاسْتِهْتَارُهُمْ فِي الْعِشْقِ لَهُ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفِي إِضَاعَةِ الْحَقِّ أَوْ حِفْظِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ الْمَرْأَةِ فَلِمَاذَا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّسَاءِ؟ أَقُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ - وَإِنْ كَانَ لَا يَزُولُ وَحُبُّ الْمَرْأَةِ قَدْ يَزُولُ - لَا يَعْظُمُ فِيهِ الْغُلُوُّ وَالْإِسْرَافُ كَحُبِّهَا، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ جَنَى عِشْقُهُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ حَتَّى إِنْ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَزَوَّجُوا بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَعَشِقُوا وَاحِدَةً وَمَلُّوا أُخْرَى قَدْ أَهْمَلُوا تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الْمَمْلُولَةِ، وَحَرَمُوهُمُ الرِّزْقَ مِنْ حَيْثُ أَفَاضُوا نَصِيبَهُمْ عَلَى أَوْلَادِ الْمَحْبُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِأَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ عَلَى مَنْ يَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُوقِنُ بِذَلِكَ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ؟ وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ عَزِيزٍ يَعِيشُ أَوْلَادُهُ عِيشَةَ الْفُقَرَاءِ الْأَذِلَّاءِ لِعِشْقِ وَالِدِهِمْ لِغَيْرِ أُمِّهِمْ

مِنْ نِسَائِهِ وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَعْشُوقَةِ وَلَدٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا مَحْضُ التَّقَرُّبِ وَابْتِغَاءُ الزُّلْفَى إِلَى الْمَرْأَةِ. أَمَّا السَّبَبُ فِي كَوْنِ حُبِّ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ أَقْوَى مِنْ حُبِّهَا لَهُ فَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ الطَّبِيعِيَّ لِهَذَا الْحُبِّ هُوَ دَاعِيَةُ النَّسْلِ لَا قَصْدُهُ، وَالدَّاعِيَةُ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَشَدُّ ; وَلِذَلِكَ تَرَاهُ يُشْغَلُ بِهَا إِذَا بَلَغَ سِنًّا أَكْثَرَ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى كَثْرَةِ شَوَاغِلِهِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَطْلُبُ الْمَرْأَةَ وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ وَمَالَهُ فِي سَبِيلِهَا مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُمَوِّنَهَا وَيَصُونَهَا وَيَتَحَمَّلَ أَثْقَالَهَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا عَلَيْهَا هِيَ إِلَّا الْقَبُولُ، فَإِنْ طَلَبَتْ أَجْمَلَتْ فِي الطَّلَبِ، وَإِنْ شِئْتَ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِيهِ أَقْوَى، فَتَأَمَّلْ تَجِدْهُ مُسْتَعِدًّا لَهَا فِي كُلِّ حَالٍ طُولَ عُمْرِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَفْقِدُ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَبَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيْضِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا مِنْ سِنِّ الْخَمْسِينَ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالْخَمْسِينَ. فَإِذَا قَبِلَتِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ بَعْدَ هَذَا كَانَ قَبُولُهَا إِيَّاهُ مِنْ بَابِ التَّوَدُّدِ وَالْعُتْبَى أَوْ إِثَارَةِ الذِّكْرَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي السَّبَبِ مَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الرِّجَالِ مِنْ كَوْنِ النِّسَاءِ أَوْفَرَ نَصِيبًا مِنَ الْحُسْنِ وَقِسْمًا مِنَ الْقَسَامَةِ وَالْجَمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْمُسَلَّمَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الرِّجَالَ أَكْمَلُ وَأَجْمَلُ خَلْقًا كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ، إِذْ نَرَى أَنَّ خِلْقَةَ الذَّكَرِ مِنْهَا أَجْمَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ خِلْقَةِ الْأُنْثَى، كَمَا نَرَاهُ فِي الشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ نَرَى الْأَبْيَضَ الْقُوقَاسِيَّ يُفَضِّلُ خِلْقَةَ رِجَالِ الزُّنُوجِ عَلَى نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَشْتَهِي الزِّنْجِيَّاتِ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ، فَمُعْظَمُ حُسْنِ الْمَرْأَةِ وَجَمَالِهَا إِنَّمَا جَاءَ مِنْ زِيَادَةِ حُبِّ الرَّجُلِ إِيَّاهَا. فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْفُرُوقَ فِي حُبِّ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ يَسْهُلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِحُبِّ النِّسَاءِ حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فَذَكَرَ أَقْوَى طَرَفَيْهِ لِأَنَّ قَصْدَ التَّمَتُّعِ فِيهِ أَظْهَرُ، وَأَثَرَهُ فِي الصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ الِاشْتِغَالِ عَنِ الْآخِرَةِ أَقْوَى، وَطَوَى الطَّرَفَ الثَّانِي، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْحُبِّ الْمُزَيَّنِ لِلنَّاسِ وَهُوَ حُبُّ الْوَلَدِ، فَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكًا، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ وَلَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا مَا سَيَأْتِي فِي حُبِّ الْوَلَدِ. (النَّوْعُ الثَّانِي حُبُّ الْبَنِينَ) أَيِ الْأَوْلَادِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ مَا كَانَ حُبُّهُ أَقْوَى وَالْفِتْنَةُ بِهِ أَعْظَمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ أَوْ لِدَلَالَةِ مَا حُذِفَ فِيمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَدَلَالَتِهِ هُوَ عَلَى مَا حُذِفَ مِمَّا قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِبَاكِ أَوْ شِبْهِ الِاحْتِبَاكِ، وَأَخَّرَ فِي الذِّكْرِ عَنْ حُبِّ النِّسَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِتَأَخُّرِهِ فِي الْوُجُودِ إِذِ الْأَوْلَادُ مِنَ النِّسَاءِ. قُلْنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ لِحُبِّ النِّسَاءِ أَوِ الْأَزْوَاجِ هِيَ دَاعِيَةُ النَّسْلِ، فَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ تُحْدِثُ فِي النَّفْسِ انْفِعَالًا يُحَفِّزُ صَاحِبَهُ إِلَى الزَّوَاجِ. وَأَمَّا حُبُّ الْأَوْلَادِ فَيَكَادُ يَكُونُ كَحُبِّ النَّفْسِ لَا عِلَّةَ لَهُ غَيْرَ ذَاتِهِ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عَاطِفَةَ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْوَلَدِ - مُنْذُ يُولَدُ - هِيَ غَيْرُ عَاطِفَةِ حُبِّهِمَا لَهُ وَهِيَ عِلَّتُهُ، وَلَكِنَّ حِكْمَةَ الْخَالِقِ فِي حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَحُبِّ الْوَلَدِ وَاحِدَةٌ،

وَهِيَ تَسَلْسُلُ النَّسْلِ وَبَقَاءُ النَّوْعِ وَهِيَ حِكْمَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي غَيْرِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْيَاءِ. هَذَا هُوَ حُبُّ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَدٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَحَبَّاتٌ أُخْرَى فِي قُلُوبِ الْوَالِدَيْنِ كَحُبِّ الْأَمَلِ فِي نُصْرَتِهِ وَمَعُونَتِهِ وَحُبِّ الِاعْتِزَازِ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُشَارِكُ الْأَوْلَادَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ فِيهِمْ أَقْوَى ; لِأَنَّ وُجُوهَ الْمَحَبَّةِ إِذَا تَعَدَّدَتْ يُغَذِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَحُبُّ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَدٌ يَظْهَرُ فِي وَقْتِ ذَهَابِ الْأَمَلِ فِي فَائِدَتِهِ بِأَشَدَّ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَ الْأَمَلِ فِيهَا كَحَالِ الصِّغَرِ وَالْمَرَضِ، وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ: أَيُّ وَلَدِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: صَغِيرُهُمْ حَتَّى يَكْبُرَ، وَغَائِبُهُمْ حَتَّى يَحْضُرَ، وَمَرِيضُهُمْ حَتَّى يَبْرَأَ. أَمَّا كَوْنُ حُبِّ الْبَنِينَ أَقْوَى وَالتَّمَتُّعِ بِهِ أَعْظَمَ فَلَهُ أَسْبَابٌ: (مِنْهَا) : الْأَمَلُ فِي نُصْرَةِ الذَّكَرِ وَكَفَالَتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَقَدْ قُلْنَا آنِفًا: إِنَّ الْحُبَّ أَنْوَاعٌ يُغَذِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. (وَمِنْهَا) : كَوْنُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَمُودُ النَّسَبِ الَّذِي تَتَّصِلُ بِهِ سِلْسِلَةُ النَّسْلِ، وَيَبْقَى بِهِ مَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ يُرْجَى بِهِ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَا يُرْجَى مِنَ الْأُنْثَى، كَقِيَادَةِ الْجَيْشِ وَزَعَامَةِ الْقَوْمِ وَالنُّبُوغِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ. (وَمِنْهَا) : مَا مَضَى بِهِ الْعُرْفُ مِنَ اعْتِبَارِ نَقْصِ الْأُنْثَى وَخُرُوجِهَا عَنِ الصِّيَانَةِ مُجْلِبَةً لِأَكْبَرِ الْعَارِ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ أَوْ تَصَوُّرُ احْتِمَالِهِ يُذْهِبُ بِشَيْءٍ مِنْ غَضَاضَةِ الْحُبِّ فَيَلْحَقُهُ الذُّبُولُ أَوِ الذُّوِيُّ. (وَمِنْهَا) : الشُّعُورُ بِأَنَّ الْأُنْثَى إِنَّمَا تُرَبَّى لِتَنْفَصِلَ مِنْ بَيْتِهَا وَعَشِيرَتِهَا وَتَتَّصِلَ بِبَيْتٍ آخَرَ تَكُونُ عُضْوًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَمَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا وَمَا تُعْطَاهُ يُشْبِهُ الْغُرْمَ وَخِدْمَةَ الْغُرَبَاءِ، فَمَنْ تَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ الْوُجُودِيَّةَ - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا طَبِيعِيَّةً - ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ، وَوَجْهُ كَمَالِ التَّمَتُّعِ بِهِمْ وَكَوْنُهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَدْ يَغْتَرُّ بِهِمُ الْوَالِدُ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ بِهِمْ أَوْ يَشْتَغِلَ بِهِمْ وَبِالْجَمْعِ لَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَيَنْسَى الْآخِرَةَ ; عَلَى أَنَّ حُبَّ الْوَالِدِيَّةِ الْخَالِصِ لِلْبَنَاتِ قَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا أَوْ أَقْوَى مِنْ حُبِّ الْبَنِينَ، وَلَكِنْ مَا يُغَذِّيهِ وَيُقَوِّيهِ أَقَلُّ فَهُوَ مَثَارٌ لِلْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [64: 15] ، فَذَكَرَ الْأَوْلَادَ عَامَّةً وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ لَيْسَ لِلْحَصْرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ طَوْرَانِ: طَوْرُ الصِّغَرِ وَهُوَ حُبٌّ ذَاتِيٌّ لَهُمْ لَا عِلَّةَ لَهُ وَلَا فِكْرَ فِيهِ وَلَا عَقْلَ وَلَا رَأْيَ، بَلْ هُوَ جُنُونٌ فِطْرِيٌّ وَرَحْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْهِرَّةِ، وَالطَّوْرُ الثَّانِي حُبٌّ مَعْلُولٌ مَعَهُ فِكْرٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَهُوَ حُبُّ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ بِالْوَلَدِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِالْبَنِينَ، وَإِنَّمَا الْحُبُّ عَلَى قَدْرِ الْأَمَلِ، فَإِذَا خَابَ يَضْعُفُ الْحُبُّ وَيَرِثُّ، وَرُبَّمَا انْقَلَبَ إِلَى عَدَاوَةٍ تَسْتَتْبِعُ التَّقَاضِيَ وَطَلَبَ الْعِقَابِ أَوِ الْغَرَامَةِ

كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا. فَرَأْيُهُ أَنَّ لَفْظَ " الْبَنِينَ " لَا تَغْلِيبَ فِيهِ وَلَا احْتِبَاكَ فِي مُقَابَلَةِ مَا قَبْلُ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ فِي هَذَا تَكَلُّفًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْعِبْرَةِ. (النَّوْعُ الثَّالِثُ - الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : أَيْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَهُوَ مِمَّا أُودِعَ فِي الْغَرَائِزِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْمَالَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرَّغَائِبِ وَمُوَصِّلٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَائِذِ، وَرَغَائِبُ الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَأَفْرَادُ لَذَائِذِهِ غَيْرُ مَعْدُودَةٍ، فَهُوَ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي لَا مُنْتَهَى لَهُ يَطْلُبُ الْوَسَائِلَ إِلَى رَغَائِبَ لَا مُنْتَهَى لَهَا، وَهَذِهِ الرَّغَائِبُ يَتَوَلَّدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ الْمَالَ مَهْمَا كَثُرَ، بَلْ إِنَّ كَثْرَتَهُ هِيَ الَّتِي تَزِيدُ فِيهِ نَهْمَتَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَنْسَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى غَيْرِهِ فَيَجْعَلُ جَمْعَهُ مَقْصِدًا يَتَفَنَّنُ فِي طُرُقِهِ كُلَّمَا سَلَكَ طَرِيقًا عَنَّ لَهُ مِنَ السُّلُوكِ فِيهِ طُرُقٌ أُخْرَى. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْكَثْرَةَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَظِنَّةَ الِافْتِتَانِ لِأَنَّهَا تُشْغِلُ بِالتَّمَتُّعِ بِهَا الْقَلْبَ، وَتَسْتَغْرِقُ فِي تَدْبِيرِهَا الْوَقْتَ، حَتَّى لَا يَكَادُ يَبْقَى فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَنْفَذٌ لِلشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْأُخْرَى، وَمَا بَعَثَ اللهُ رَسُولًا فِي أُمَّةٍ وَلَا مُصْلِحًا فِي قَوْمٍ إِلَّا وَكَانَ الْأَغْنِيَاءُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ وَعَانَدَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَإِنَّ مُؤْمِنِي الْأَغْنِيَاءِ أَقَلُّهُمْ عَمَلًا وَأَكْثَرُهُمْ زَلَلًا. قَالَ - تَعَالَى -: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [48:11] . وَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [8:28] . فَقَدَّمَ الْفِتْنَةَ بِالْأَمْوَالِ عَلَى الْفِتْنَةِ بِالْأَهْلِينَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَمْوَالِ هُنَا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي طَبِيعَةِ الْحُبِّ لَا فِي الِاشْتِغَالِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ خَاصٌّ، وَحُبُّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ مَقْصِدٌ، وَحُبُّ الْمَالِ وَسِيلَةٌ لَا يَجْعَلُهُ مَقْصِدًا إِلَّا مَنْ أَعْمَتْهُ الْفِتْنَةُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَخُوضَ فِي شَرْحِ فِتْنَةِ النَّاسِ بِالْمَالِ وَكَيْفَ تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ وَحُقُوقِ مَنْ يُعَامِلُهُمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ بُيُوتِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُثْلِمُونَ شَرَفَهُمْ أَوْ يُقَصِّرُونَ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ لَأَطَلْنَا وَخَرَجْنَا عَنْ حَدِّ الْوُقُوفِ عِنْدَ بَيَانِ كَوْنِ الْمَالِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمِقْدَارِ مَا نَفْهَمُ الْعِبْرَةَ مِنَ الْآيِ، وَنَكُونُ قَدْ جَعَلْنَا الْكَلَامَ فِي الْمَالِ مَقْصِدًا كَمَا جَعَلَهُ الْأَشِحَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَقْصِدًا، أَمَّا لَفْظُ " الْقِنْطَارِ " فَمَعْنَاهُ الْعُقْدَةُ الْمُحْكَمَةُ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ التُّجَّارُ الْآنَ بِالصَّرِّ أَوِ الصُّرَّةِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ عِنْدِي وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَمِنْهَا أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ وَزْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا

عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَوْ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ مَرْفُوعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَذَا فِي الْمُخَصَّصِ، وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ مِائَةُ رِطْلٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الْوَرِقِ. وَكَأَنَّ كُلَّ هَذَا مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقِنْطَارِ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُخَصَّصِ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِيهِ إِذْ عَزَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلَى الْبَرْبَرِ، قَالَ: وَهُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ (أَيْ جِلْدِهِ) ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَنَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: الْقِنْطَارُ عَرَبِيٌّ وَهُوَ رُبَاعِيٌّ، وَقِنْطَارٌ مُقَنْطَرٌ مُكَمَّلٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. اهـ. وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمُحْكَمَةُ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: الْمَضْرُوبَةُ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: الْمُنَضَّدَةُ فِي وَضْعِهَا، وَقِيلَ: الْمَكْنُوزَةُ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي الْقِنْطَارِ فَهُوَ فِي الشَّامِ مِائَةُ رِطْلٍ بِرِطْلِهِمْ، وَرَطْلُهُمْ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَفِي مِصْرَ مِائَةُ رِطْلٍ بِرِطْلِهِمْ وَرِطْلُهُمْ 144 دِرْهَمًا. (النَّوْعُ الرَّابِعُ الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ) : ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ الْمُسَوَّمَةَ هِيَ الرَّاعِيَةُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ أَوِ الْمُعَلَّمَةُ بِالْأَلْوَانِ وَالشِّيَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرْسَلَةُ عَلَى الْقَوْمِ. فَالْأَوَّلُ مِنْ مَادَّةِ السَّوْمِ، يُقَالُ: سَامَ الدَّابَّةَ: رَعَاهَا، وَأَسَامَهَا: أَرْعَاهَا وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْمَرَاعِي. وَمِثْلُهَا سَوَّمَهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [16:10] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ سَوَّمَ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَرَجَّحَ أَنَّ الْمُسَوَّمَةَ بِمَعْنَى الْمُعَلَّمَةِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ: بِسُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْمُطَهَّمَةِ وَالْمُعَلَّمَةِ وَالرَّائِعَةِ وَاحِدٌ، أَقُولُ: وَكُلٌّ مِنَ الْخَيْلِ الرَّاعِيَةِ الَّتِي تُقْتَنَى لِلتِّجَارَةِ وَالْمُطَهَّمَةِ الَّتِي يَقْتَنِيهَا الْكُبَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ لِلْمُفَاخَرَةِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي يُتَنَافَسُ فِيهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْلُو فِي حُبِّ الْخَيْلِ حَتَّى يَفُوقَ عِنْدَهُ كُلَّ حُبٍّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُسَوَّمَةَ هُنَا هِيَ الَّتِي تُرْصَدُ لِلْجِهَادِ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ وَلَا يَرْضَاهُ السِّيَاقُ. (النَّوْعُ الْخَامِسُ الْأَنْعَامُ) : وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرَةُ، عِرَابُهَا وَجَوَامِيسُهَا وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَعْزُهَا وَالْأَنْعَامُ مَالُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِهَا ثَرْوَتُهُمْ، وَفِيهَا تَكَاثُرُهُمْ وَتَفَاخُرُهُمْ، وَمِنْهَا مَعَايِشُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَعَلَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يَكُونُ أَوْغَلَ فِي التَّمَتُّعِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَتَاعِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ وَمَا كُلُّ ذِي أَنْعَامٍ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَيُضَاهِيهِ فِي التَّمَتُّعِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَنْعَامَ أَكْثَرُ نَفْعًا، قَالَ - تَعَالَى - فِي السُّورَةِ الَّتِي يُعَدِّدُ بِهَا النِّعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [16: 5 - 8] .

(النَّوْعُ السَّادِسُ الْحَرْثُ) : أَيِ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْوَاعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُهَا فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهِ أَعَمَّ كَانَتْ زِينَتُهُ فِي الْقُلُوبِ أَقَلَّ، فَهُوَ قَلَّمَا يَكُونُ مَانِعًا لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ، أَوْ صَادًّا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ. وَإِنَّ مِنَ النِّعَمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْحَرْثِ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَحْيَاءُ لَحْظَةً وَاحِدَةً سَوَاءٌ مِنْهَا النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ ; وَهُوَ لِذَلِكَ لَا فِتْنَةَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَقَلَّمَا يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ بِغِبْطَتِهِ بِهِ أَوْ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ السِّتَّةِ هُوَ مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا - أَيِ الْأُولَى - وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي هَذَا الْمَتَاعِ الْقَرِيبِ الْعَاجِلِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْآجِلِ، كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا شَرَحْتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ بَيَانٌ لِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ مِنْ حُبِّهَا وَزَيَّنَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا لَا لِبَيَانِ قُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَى شَيْءٍ قَبِيحٍ بَلْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلَا جَعَلَ دِينَهُ مُخَالِفًا لِفِطْرَتِهِ بَلْ مُوَافِقًا لَهَا كَمَا قَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [30: 30] وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَذْمُومًا، وَهُوَ وَسِيلَةُ إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ - تَعَالَى - فِي بَقَاءِ النَّوْعِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [30: 21] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُنَّ، وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ الْمَالِ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ جَعَلَ بَذْلَ الْمَالِ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ - تَعَالَى - يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي إِنْفَاقِهِ كَمَا يَنْهَى عَنِ الْبُخْلِ بِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَى نَبِيِّهِ بِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَائِلًا أَيْ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ، وَجَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأُمَمِ وَمُعَزِّزًا لِلدِّينِ وَوَسِيلَةً لِإِقَامَةِ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا أَرَانِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الْكَلَامِ فِي حُبِّ الْبَنِينَ وَالْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ; فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا لِلْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ أَضْعَفُ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي أَلَّا يُفْتَنَ بِهَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَيَجْعَلَهَا

15

أَكْبَرَ هَمِّهِ وَالشَّاغِلَ لَهُ عَنْ آخِرَتِهِ، فَإِذَا اتَّقَى ذَلِكَ وَاسْتَمْتَعَ بِهَا بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ السَّعِيدُ فِي الدَّارَيْنِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [2: 201] . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (الْقِرَاءَاتُ) لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَمْزَتَيْ (أَؤُنَبِّئُكُمْ) أَيْ مَا كَانَتْ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةً وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةً أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قُرِئَ بِهَا الْقُرْآنُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَأُنْزِلَ) فِي سُورَةِ " ص " وَقَوْلِهِ: (أَأُلْقِيَ) فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهَا. (إِحْدَاهَا) : تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ الْقُرَّاءُ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَهِشَامٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ. (الثَّانِيَةُ) : تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ هِشَامٍ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ. (الثَّالِثَةُ) : تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا، وَالتَّسْهِيلُ قِرَاءَةُ الْهَمْزَةِ بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ حَرْفِ حَرَكَتِهَا، وَهُوَ أَنْ تُجْعَلَ هُنَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَيُعَبِّرُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمَدِّ بِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ قَالُونَ. (الرَّابِعَةُ) : تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ وَرْشٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَهُنَاكَ قِرَاءَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لُغَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَدُّ وَعَدَمُهُ مَعَ التَّسْهِيلِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَعَنْ هِشَامٍ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي " الْقَمَرِ " وَ " ص " وَهُوَ أَنَّهُ الْمَدُّ هُنَا مَعَ التَّحْقِيقِ، وَالْقَصْرُ هُنَاكَ مَعَهُ. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَرِضْوَانٌ) لُغَتَانِ ضَمُّ الرَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فِيمَا عَدَا قَوْلَهُ -

تَعَالَى -: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [5: 16] وَكَسْرُهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ الْآيَةَ. بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ وَبَدَأَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَجْلِ تَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الْجَوَابِ وَتَشْوِيقِهَا إِلَيْهِ، وَالتَّنْبِئَةُ بِالشَّيْءِ: التَّخْبِيرُ بِهِ كَالْإِنْبَاءِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، وَقَالَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: " النَّبَأُ وَالْإِنْبَاءُ لَمْ يَرِدَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِمَا لَهُ وَقْعٌ وَشَأْنٌ عَظِيمٌ " وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِمَادَّةِ النَّبَأِ تَشْوِيقًا آخَرَ. وَقَوْلُهُ: (لَكُمْ) إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكَوْنُ مَا سَيَأْتِي فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ يُشْعِرُ بِأَنَّ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِشَرٍّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا خَيْرٌ وَمِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ الشَّرُّ فِيهَا كَمَا يَعْرِضُ فِي سَائِرِ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَحَوَاسِّهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَفِي غَيْرِهَا حَتَّى فِي الشَّرِيعَةِ. فَالَّذِي يُسْرِفُ فِي حُبِّ النِّسَاءِ حَتَّى يُعْطِيَ امْرَأَةً أَوْ وَلَدَهَا حَقَّ غَيْرِهِمَا أَوْ يُهْمِلَ لِأَجْلِهَا تَرْبِيَةَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ يَتْرُكَ حَقَّ اللهِ وَطَاعَتَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا أَوْ يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُحِبَّ امْرَأَةَ غَيْرِهِ، هُوَ كَمَنْ يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لِهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ وَإِيذَائِهِمْ، أَوْ يَحْتَالُ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَيُئَوِّلُهَا حَتَّى يُفَوِّتَ الْغَرَضَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتُتْرَكَ الْفَرَائِضُ وَتُهْدَمَ الْأَرْكَانُ، فَسُوءُ سُلُوكِ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالنِّعَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّعَمَ شَرٌّ فِي ذَاتِهَا وَلَا كَوْنِ حُبِّهَا شَرًّا مَعَ الْقَصْدِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ جَعَلَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى التَّقْوَى نَوْعَيْنِ: نَوْعًا جُسْمَانِيًّا نَفْسِيًّا وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مِمَّا يُعْهَدُ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَنَوْعًا رُوحَانِيًّا عَقْلِيًّا وَهُوَ رِضْوَانُ اللهِ - تَعَالَى - وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى وَالْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَلَا يَخْفَى مَا فِي إِضَافَةِ لَفْظِ " رَبِّ " إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْإِشْعَارِ بِفَضْلِهِمْ وَعِنَايَةِ مَنْ رَبَّاهُمْ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ بِشَأْنِهِمْ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّضَا مَعَ مَا فِي زِيَادَةِ الْمَبْنَى مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَرِضْوَانٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لَا يَشُوبُهُ وَلَا يَعْقُبُهُ سُخْطٌ، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9: 72] وَفِي هَذَا مِنْ تَفْضِيلِ الرِّضْوَانِ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [57: 20] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْجَزُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ بَيَانُ جَزَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَالْمُعْتَدِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِ خَلْقِهِ، وَجَزَاءِ الْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ فِي تَمَتُّعِهِمْ وَلَا يَنْسَوْنَ اللهَ وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَعَلَّنَا إِذَا أَمْهَلَ الزَّمَانُ وَبَلَغْنَا سُورَةَ الْحَدِيدِ نُبَيِّنُ مَا فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الرِّضْوَانِ فِي الْآيَةِ: وَأَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا رِضْوَانُ اللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ طَبَقَاتٌ وَمَرَاتِبُ كَمَا نَرَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى رِضْوَانِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى تَرْكِ الشَّرِّ وَلَا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَكَانَتْ أَحْسَنَ الْأَشْيَاءِ مَوْقِعًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَهُمْ فِيهَا يَرْغَبُونَ وَلِأَجْلِهَا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَّقِينَ يَعْرِفُونَ فِي الْآخِرَةِ هَذِهِ اللَّذَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ لَهَا مَعْنًى فِي الدُّنْيَا. وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ -: خَتَمَ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى التَّقْوَى فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ يَكُونُ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا الْمُتَّقِي عِنْدَ اللهِ هُوَ مَنْ يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ التَّقْوَى، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَإِيقَاظٌ لِمُحَاسَبَةِ نُفُوسِهِمْ عَلَى التَّقْوَى لِئَلَّا يَغُشَّهُمُ الْعُجْبُ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَحْسَبُوهَا مُتَّقِيَةً وَمَا هِيَ بِمُتَّقِيَةٍ. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ أَهْلَ التَّقْوَى بِشَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِتَأَثُّرِ قُلُوبِهِمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ تَفِيضُ أَلْسِنَتُهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِهَذَا الْإِيمَانِ فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ وَالدُّعَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَلَامَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَلَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ الِالْتِبَاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْوَصْفَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْكَلَامَ مَدْحٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحُسْنُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ. . . إِلَخْ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ إِنَّهُمْ رَتَّبُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَقُولُ: قَدْ يَصِحُّ هَذَا إِذَا أُرِيدَ مَغْفِرَةُ الشِّرْكِ السَّابِقِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ كَمَا وَرَدَ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا بَلْ

17

يَكُونُ مُنْغَمِسًا فِي الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يُحِيلَانِ هَذَا الْفَرْضَ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ أَنَّ عَقَائِدَهُ الرَّاسِخَةَ الْيَقِينِيَّةَ لَهَا السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمَا الْإِيمَانُ إِلَّا الِاعْتِقَادُ الْيَقِينِيُّ الرَّاسِخُ فِي الْعَقْلِ الْمُهَيْمِنُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا عَمَلَ إِلَّا عَنْ فِكْرٍ مِنَ الْعَقْلِ أَوْ وِجْدَانٍ مِنَ الْقَلْبِ، فَأَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِإِيمَانِهِ، لَا تَسْتَبِدُّ دُونَهُ وَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ جَهَالَةٍ، كَغَلَبَةِ انْفِعَالِهِ يَعْرِضُ وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ وَتُقَفَّى التَّوْبَةُ عَلَى أَثَرِهِ فَتَمْحُوهُ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [4:17] فَهَذَا دَلِيلُ الْعَقْلِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَالْآيَاتُ الَّتِي يَعْسُرُ إِحْصَاؤُهَا وَمِنْهَا فِي الْمَغْفِرَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [20:82] وَقَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [40:7 - 9] وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَبَيْنَ حِكَايَتِهِ أَنَّ دُعَاءَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا لَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا بَلْ تُؤَيِّدُهَا ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ كُلَّ مُتَّقٍ يَنْطِقُ بِهِ نُطْقًا بِلِسَانِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَأْنِ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مِنْ أَكْمَلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَلَوْ لَمْ يُوصَفُوا بَعْدَ الدُّعَاءِ بِمَا يَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ بِأَنْ قِيلَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ. . . إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ فَقَطْ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لِتَتَّفِقَ الْآيَةُ مَعَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِطَبِيعَةِ الْبَشَرِ، وَالْإِجْمَاعُ وَالسَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَحُجِبُوا عَنْهُ بِالْتِمَاسِ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَذَاهِبَهُمْ وَيُفَنِّدُونَ بِهِ مَا خَالَفَهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مِنْ قَبْلُ، وَلَا نَزَالُ نُبْدِئُ الْقَوْلَ فِيهَا وَنُعِيدُهُ لَعَلَّ التَّكْرَارَ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يُؤَثِّرُ فِي صَخْرَةِ التَّقْلِيدِ الصَّمَّاءِ فَيُفَتِّتُهَا أَوْ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فَيَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى إِيمَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَصَفْوَةُ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَشْرِقِ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي الْوَسَطِ، وَالْعَلَّامَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْمُوَافَقَاتِ فِي الْمَغْرِبِ - كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَحَسْبُكَ بِالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْوَصْفُ بِالْمَعْنَى (وَالصَّابِرِينَ) مَنْصُوبٌ

عَلَى الْمَدْحِ، وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ الِاخْتِصَاصِ لَيْسَ كَلَامًا مَقْطُوعًا مَفْصُولًا مِمَّا قَبِلَهُ كَمَا يُوهِمُهُ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أُسْلُوبٌ بَلِيغٌ فِي إِيرَادِ الصِّفَةِ مُعْرَبَةً بِغَيْرِ إِعْرَابِ الْمَوْصُوفِ. وَوَجْهُ الْبَلَاغَةِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا لَفْظِيٌّ، وَالْآخَرَانِ مَعْنَوِيَّانِ، أَمَّا اللَّفْظِيُّ: فَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْإِعْرَابِ يُحْدِثُ فِي الذِّهْنِ حَرَكَةً جَدِيدَةً فَيَنْتَبِهُ فَضْلَ انْتِبَاهٍ إِلَى الْكَلَامِ الْجَدِيدِ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّانِ: فَأَحَدُهُمَا بَيَانُ مَزِيَّةٍ خَاصَّةً فِي الْمَقَامِ لِمَا بِهِ الْمَدْحُ، كَأَنْ يُقَالُ هُنَا فِي التَّقْدِيرِ: وَأَمْدَحُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا. . . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ. . . إِلَخْ ; كَأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ امْتَازُوا عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَارُوا أَحَقَّ بِذَلِكَ الْوَعْدِ. وَثَانِيهِمَا: تَقْرِيرُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَمْدُوحَةٌ فِي ذَاتِهَا. تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الصَّبْرِ وَكَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّبْرِ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَيَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ احْتِمَالُهُ، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِهِ الصَّبْرُ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. فَعِنْدَمَا تَهُبُّ زَوَابِعُ الشَّهَوَاتِ فَتُزَلْزِلُ الِاعْتِقَادَ بِقُبْحِ الْمَعَاصِي وَسُوءِ عَاقِبَتِهَا يَكُونُ الصَّبْرُ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الْإِيمَانَ وَيَقِفُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ ; لِذَلِكَ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالصَّبْرِ. وَكَمَا يَحْفَظُ النَّفْسَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ يَحْفَظُ شَرَفَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَيَحْفَظُ حُقُوقَ النَّاسِ أَنْ تَغْتَالَهَا أَيْدِي الْمَطَامِعِ. وَكُتِبَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَصْرِ: " الصَّبْرُ مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ يَتَيَسَّرُ مَعَهَا احْتِمَالُ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ وَالرِّضَا بِمَا يُكْرَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَهُوَ خُلُقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ كُلِّ خُلُقٍ، وَمَا أُتِيَ النَّاسُ مِنْ شَيْءٍ مِثْلَ مَا أُتُوا مِنْ فَقْدِ الصَّبْرِ أَوْ ضَعْفِهِ، كُلُّ أُمَّةٍ ضَعُفَ الصَّبْرُ فِي نُفُوسِ أَفْرَادِهَا ضَعُفَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ وَذَهَبَتْ مِنْهَا كُلُّ قُوَّةٍ ": وَأَتَى بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَيُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ إِذْ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ الصِّدْقُ وَالْقُنُوتُ وَالْإِنْفَاقُ وَالِاسْتِغْفَارُ فِي الْأَسْحَارِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَطِيبُ فِيهِ النَّوْمُ وَيَشُقُّ الْقِيَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالصِّدْقُ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْوَصْفِ، يُقَالُ: فُلَانٌ صَادِقٌ فِي عَمَلِهِ، صَادِقٌ فِي جِهَادِهِ، صَادِقٌ فِي حُبِّهِ، كَمَا يُقَالُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ. أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالنِّيَّةُ. وَالصِّدْقُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَحَسْبُكَ فِي بَيَانِ فَضْلِ الصِّدْقِ وَجَزَائِهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [39: 33 - 35] فَقَدْ جَعَلَ الصِّدْقَ مِلَاكَ الدِّينِ كُلِّهِ وَجَاءَ مَعَ حَقِيقَتِهِ، وَجَعَلَ أَسْوَأَ الذُّنُوبِ مَعَهُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُكَفَّرَ وَيُغْفَرَ، وَأَيُّ ذَنْبٍ يُدَنِّسُ

نَفْسَ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فَيَمْنَعُهَا اسْتِحْقَاقُ الْمَغْفِرَةِ؟ أَلَيْسَ أَسْوَأُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُلِمَّ بِهِ الصَّادِقُ مِنَ الذَّنْبِ بَادِرَةُ غَضَبٍ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفِيءَ، أَوْ نَزْوَةُ شَهْوَةٍ لَا تَمْكُثُ أَنْ تَسْكُنَ فَيَكُونُ مَسُّ طَائِفِ الشَّيْطَانِ ضَعِيفًا قَصِيرَ الْأَمَدِ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ فَضِيلَةِ تِلْكَ النَّفْسِ الْقَوِيَّةِ بِالصِّدْقِ وَلَا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهَا؟ وَقَدْ فَسَّرُوا الْقَانِتِينَ بِالْمُطِيعِينَ وَبِالْمُدَاوِمِينَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْقُنُوتَ: هُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْخُشُوعِ وَالضَّرَاعَةِ، أَيْ عَلَى رُوحِ الْعِبَادَةِ وَلُبَابِهَا [لَا] عَلَى صُوَرِهَا وَرُسُومِهَا فَقَطْ: وَالْمُنْفِقُونَ مَعْرُوفُونَ، وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّفَقَةَ وَلَا الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُنْفِقُونَ لِلْمَالِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ، وَلَا يَمْنَعُونَ حَقًّا وَلَا يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْمُسْتَغْفِرِينَ هُنَا بِالْمُصَلِّينَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّهَجُّدِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَطْلُبُونَ بِتَهَجُّدِهِمْ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ حَرَكَةِ اللِّسَانِ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ الطَّلَبُ بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مِنْ شُرُوطِهِ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ أَنَّ اسْتِغْفَارَ اللِّسَانِ وَحْدَهُ نَافِعٌ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي يَغَتَرَّ بِهِ الْجَهَلَةُ الْأَغْرَارُ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ السَّحَرِ وَبِصَلَاةِ الصُّبْحِ ; أَيْ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَيَّدَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِ وَقْتِ السَّحَرِ: أَنَّ الْعِبَادَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَشَقَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَايَةِ ; لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَطِيبُ فِيهِ النَّوْمُ وَيَعْزُبُ الرِّيَاءُ، وَأَرْوَحُ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَكُونُ أَصْفَى وَالْقَلْبَ أَفْرَغُ مِنَ الشَّوَاغِلِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ النُّكْتَةُ فِي نَسَقِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ بِالْعَطْفِ مَعَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَعْدُودَةَ تُسْرَدُ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ. ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ كَمَالَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّنَا لَا نَعْهَدُ مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ الْكَمَالَ فِي مَعْطُوفَاتِهَا، وَمَنْ عِنْدَهُ ذَوْقٌ فِي اللِّسَانِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ ... وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثُ وَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ رِمَاحٍ، أَوْ رُمْحِ اثْنَانِ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَ: إِنَّ بَيَانَ الْفَرْقِ رُبَّمَا لَا تَفِي بِهِ الْعِبَارَةُ إِلَّا مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّلِيقَةِ، وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَوْصَافَ الْمَسْرُودَةَ بِغَيْرِ عَطْفٍ كَالْوَصْفِ الْوَاحِدِ وَأَمَّا عَطْفُهَا فَيُفِيدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ. أَقُولُ: وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ " وَتَوْسِيطُ الْوَاوِ بَيْنَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَكَمَالِهِمْ فِيهَا، أَوْ لِتَغَايُرِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا " وَهِيَ مُبْهَمَةٌ، وَإِيضَاحُ الِاسْتِقْلَالِ مَا قَرَأْتَ آنِفًا. وَأَمَّا تَغَايُرُ الْمَوْصُوفِينَ

18

بِهَا فَمَعْنَاهُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَصْنَافٌ فَمِنْهُمُ الصَّابِرُونَ وَمِنْهُمُ الصَّادِقُونَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ: الْمُمْتَازُونَ بِالْكَمَالِ فِي الصَّبْرِ وَالصِّدْقِ إِلَخْ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ صِنْفٍ عَارِيًا مِنْ صِفَاتِ الْآخَرِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ إِذْ قَالَ: " وَأَظُنُّ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ - أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ دَخَلَ تَحْتَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَاسْتَوْجَبَ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ " وَعِبَارَتُهُ لَا تُفِيدُ اعْتِبَارَ كَمَالِ كُلِّ صِنْفٍ فِي وَصْفِهِ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُفْرَدَةَ يَمْتَنِعُ عَطْفُهَا فِي مَقَامِ سَرْدِهَا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهَا عِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الْأَعْدَادِ الَّتِي تُسْرَدُ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ إِلَخْ. وَلَكِنَّهَا إِذَا لَمْ يَرِدْ سَرْدُهَا كَأَنْ ذُكِرَتْ لِلْحُكْمِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ أَنْ تَجْمَعَ بِالْعَطْفِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ [9: 112] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ [66: 5] إِلَخْ. فَإِنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ سُرِدَتْ لِلتَّعْرِيفِ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْمَوْصُوفِينَ ابْتِدَاءً، وَيَتَعَيَّنُ إِذَنْ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَمِثْلُهَا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [9: 60] إِلَخْ. فَإِنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ عَلَى مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ابْتِدَاءً. وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ نُعُوتًا (نَحْوِيَّةً) لِلَّذِينَ اتَّقَوْا. شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

قَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَصْرِيُّ (اتَّبَعَنِي) بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَفْقًا. بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ وَبَيَّنَ حَالَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ وَمَدَحَ أَصْنَافَهُمُ الْكَامِلِينَ فِي أَوْصَافِهِمْ بَيَّنَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَأَسَاسَهُ فَقَالَ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ هُنَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّ مَا نَصَبَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ فِي ذَلِكَ يُشْبِهُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ بِالشَّيْءِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ. زَادَ أَبُو السُّعُودِ: وَإِيمَانُهُمْ بِهِ، وَجَعْلُهَا مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَاحْتِيَاجِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ كُلٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا إِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْبَارِ الْمَقْرُونِ بِالْعِلْمِ وَإِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ، فَاللهُ - تَعَالَى - أَخْبَرَ بِتَوْحِيدِهِ مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ عَنْ عِلْمٍ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ أَتَمَّ الْبَيَانِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَخْبَرُوا الرُّسُلَ وَبَيَّنُوا لَهُمْ، وَأُولُو الْعِلْمِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَبَيَّنُوهُ عَالِمِينَ بِهِ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ ضَعِيفٌ وَأَقْرَبُ التَّفْسِيرَيْنِ لِلشَّهَادَةِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ أَوَّلُهُمَا، يُقَالُ: شَهِدَ الشَّيْءَ إِذَا حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [2: 185] وَقَوْلِهِ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [27: 49] وَيُقَالُ شَهِدَ بِهِ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَصْلُ، أَوْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصِيرَةِ وَهِيَ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [12:81] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ ابْنَهُ (شَقِيقَ يُوسُفَ) سَرَقَ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ، وَإِنَّمَا سَمُّوا اعْتِقَادَهُمْ عِلْمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِهِمْ مَا يُعَارِضُ مَا رَأَوْهُ مِنْ إِخْرَاجِ صُوَاعِ الْمَلِكِ مِنْ رَحْلِ شَقِيقِ يُوسُفَ بَعْدَ مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِأَنَّ الصُّوَاعَ قَدْ سُرِقَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالشَّيْءِ هِيَ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ بِالْمُشَاهَدَةِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ هُنَا. وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ بِالنَّقْلِ وَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ تَوْحِيدُ اللهِ لَا يَثْبُتِ الْوَحْيُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ فِي كِتَابِهِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْبَرَاهِينِ الَّتِي قَرَنَهَا بِهَا وَبِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مَقْرُونَةٌ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ هُوَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَبِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا عَلَى النَّاسِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ تُقْرَنُ عَادَةً بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ ; لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا تَعُوزُهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْمُشْرِكُ بِهَا لَا يَكُونُ مُعَطَّلًا حَتَّى يُقَالَ لَا بُدَّ مِنْ إِقْنَاعِهِ بِوُجُودِ اللهِ إِقْنَاعُهُ بِشَهَادَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ اللهِ، وَإِنَّمَا شِرْكُهُ بِاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ يَكُونُونَ بِزَعْمِهِ وَسَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَبِالشُّفَعَاءِ يَكُونُونَ فِي وَهْمِهِ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَاجَاتِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا كَانَتْ تَدِينُ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُولِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: هُمُ الصَّحَابَةُ وَقِيلَ: عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ. وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أُولِي الْعِلْمِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَعْرِيفٍ وَلَا تَفْسِيرٍ، فَهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبُرْهَانِيِّ الْقَادِرُونَ عَلَى الْإِقْنَاعِ، وَهُمْ مَعْرُوفُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَائِمًا بِالْقِسْطِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ - تَعَالَى - شَهِدَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَفِي الْكَوْنِ وَالطَّبِيعَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: تَقْرِيرُ الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادِ، كَالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ، وَمِنَ الثَّانِي: جَعْلُ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْإِنْسَانِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَةِ الِاعْتِقَادِ قَائِمَةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ السُّنَنِ وَنِظَامِهَا الدَّقِيقِ يَتَجَلَّى لَهُ عَدْلُ اللهِ الْعَامِّ، فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ إِلَى الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ شَهَادَتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِأَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي هَذَا الْعَدْلِ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ وَاضِعِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُفَنِّدُ تَفْسِيرَ بَعْضِهِمْ لِلشَّهَادَةِ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، كَذَلِكَ كَانَتْ أَحْكَامُهُ - تَعَالَى - فِي الْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ مَبْيِنَّةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَبَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ لِتَرْقِيَةِ الرُّوحِ وَتَزْكِيَتِهِ، وَأَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةَ لِحِفْظِ الْبَدَنِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَنَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ عَيْنُ الْعَدْلِ، فَهَذَا هُوَ الْقِسْطُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْطُ فِي الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقُرْآنِ كَصَرَاحَةِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ. قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [16: 90] وَقَالَ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [4: 58] . وَإِذْ قَدْ تَجَلَّى لَكَ صِدْقُ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ بِهَا قَائِلًا: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَفَرَّدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَكَمَالِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ عَلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ سُنَنِ الْقِسْطِ وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ (إِنَّ) بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَقَرَأَهَا الْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، أَيْ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى (أَنَّهُ) أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. أَقُولُ: الدِّينُ فِي اللُّغَةِ: الْجَزَاءُ وَالطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ، أَيْ سَبَبُ الْجَزَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا الْعِبَادُ لِلَّهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالشَّرْعِ. وَقَالُوا: إِنَّ مَا يُكَلِّفُ اللهُ بِهِ الْعِبَادَ يُسَمَّى شَرْعًا بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ وَبَيَانِهِ، وَيُسَمَّى دِينًا بِاعْتِبَارِ الْخُضُوعِ وَطَاعَةِ الشَّارِعِ بِهِ، وَيُسَمَّى مِلَّةً بِاعْتِبَارِ جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ، وَالْإِسْلَامُ مَصْدَرُ أَسْلَمَ وَهُوَ بَيَانٌ يَأْتِي بِمَعْنَى خَضَعَ وَاسْتَسْلَمَ، وَبِمَعْنَى أَدَّى، يُقَالُ أَسْلَمْتُ الشَّيْءَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَدَّيْتُهُ إِلَيْهِ، وَبِمَعْنَى دَخَلَ

19

فِي السِّلْمِ وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الصُّلْحِ وَالسَّلَامَةِ، وَبِالتَّحْرِيكِ [بِمَعْنَى] الْخَالِصِ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [39: 29] أَيْ خَالِصًا لَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ يُشَاكِسُهُ، وَتَسْمِيَةُ دِينِ الْحَقِّ إِسْلَامًا يُنَاسِبُ كُلَّ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ، وَأَظْهَرُهَا آخِرُهَا فِي الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْآيَةُ الْآتِيَةُ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [4: 125] وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْإِسْلَامِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ بِذَلِكَ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمِلَلِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ; لِأَنَّهُ هُوَ رُوحُهَا الْكُلِّيُّ الَّذِي اتَّفَقَتْ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ بَعْضِ التَّكَالِيفِ وَصُوَرِ الْأَعْمَالِ فِيهَا ; وَبِهِ كَانُوا يُوصُونَ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (2: 128 و131 - 133) وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَقُلْ هُنَا إِلَّا بَعْضَ مَا قَالَهُ هُنَاكَ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقِيقِيَّ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ مَنْ كَانَ خَالِصًا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِالرَّحْمَنِ، مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِهِ مَعَ الْإِيمَانِ، مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانَ، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدَ وَمَكَانٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [3: 85] الْآيَةَ وَسَتَأْتِي، ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - شَرَعَ الدِّينَ لِأَمْرَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : تَصْفِيَةُ الْأَرْوَاحِ وَتَخْلِيصُ الْعُقُولِ مِنْ شَوَائِبَ الِاعْتِقَادِ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ ; لِتَسْلَمَ مِنَ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَمْثَالِهَا، أَوْ لِمَا دُونَهَا فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمَالِهَا. (وَثَانِيهِمَا) : إِصْلَاحُ الْقُلُوبِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ، فَمَتَى حَصَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ انْطَلَقَتِ الْفِطْرَةُ مِنْ قُيُودِهَا الْعَائِقَةِ لَهَا عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهَا فِي أَفْرَادِهَا وَجَمْعِيَّاتِهَا، وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ هُمَا رُوحُ الْمُرَادِ مِنْ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِتَرْبِيَةِ هَذَا الرُّوحِ الْأَمْرِيِّ فِي الرُّوحِ الْخَلْقِيِّ ; وَلِذَلِكَ شَرَطَ فِيهَا النِّيَّةَ وَالْإِخْلَاصَ وَمَتَى تَرَبَّى سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهِ الْقِيَامُ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَتَحْقِيقُ أُمْنِيَةِ الْحُكَمَاءِ. آهٍ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ النَّاسِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ؟ ! أَيُّ سَعَادَةٍ لِلنَّاسِ تَعْلُو عِرْفَانَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ مَا أُوتِيَهُ مَنْ يُوصَفُونَ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ وَيُدْلُونَ بِالزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُ بِهَا النَّاسَ اسْتِعْبَادًا رُوحَانِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُهُمْ بِهَا اسْتِعْبَادًا سِيَاسِيًّا، وَإِخْلَاصُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ فِي عَمَلِهِ الدِّينِيِّ وَعَمَلِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلنَّاسِ، هَذِهِ السَّعَادَةُ هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَحَقِيقَتُهُ حَجَبَتْهَا عَنْ بَعْضِهِمُ الرُّسُومُ الْعِلْمِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْمَذْهَبِيَّةُ، وَعَنْ آخَرِينَ النَّزَعَاتُ النَّظَرِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْوَضْعِيَّةُ، فَالْأَوَّلُونَ يَرْمُونَ بِالْكَفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَذَاهِبَهُمْ، وَالْآخَرُونَ يَنْبِذُونَ بِالْغَبَاوَةِ وَالتَّعَصُّبِ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْذِبْ مَشْرَبَهُمْ، فَمَتَى يَكْثُرُ الْمُسْلِمُونَ

الْخَالِصُونَ الْمُخْلِصُونَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَيَكُونُوا حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَآيَةَ الْوَحْدَةِ الْفَاضِحَةِ لِلْمُخْتَلِفِينَ؟ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ النَّصَارَى خَاصَّةً، وَيُدَعِّمُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ لَا تَخُصُّ فَرِيقًا دُونَ آخَرَ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِسَبَبِ خُرُوجِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارُوا مَذَاهِبَ وَشِيَعًا يَقْتَتِلُونَ فِي الدِّينِ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ وَلَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَلْهَ الِاقْتِتَالُ، وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْبَغْيُ وَتَجَاوُزُ الْحُدُودِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَمَا فَصَّلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا فِي تَفْسِيرِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [2: 213] فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالتَّارِيخِ وَخَاصَّةً نَشْأَةَ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا بَغْيُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَنَصْرُ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ لَمَا تَعَصَّبَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ يُشْتَقُّ مِنَ الدِّينِ شِيعَةٌ تَنْصُرُهُ وَتُؤَيِّدُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَتُقَاوِمُ كُلَّ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَتُضِلُّهُمْ مُتَوَكِّئَةً عَلَى عِلْمِ الدِّينِ، وَمُسْتَنِدَةً إِلَى نُصُوصِهِ بِتَفْسِيرِ بَعْضِهَا بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَتَأْوِيلِ بَعْضِهَا وَتَحْرِيفِهِ، أَوْ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ الْمُنْتَحَلَ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَلَّا يَنْظِمَ الْآيَةَ فِي سِمْطِ أَخْبَارِ التَّارِيخِ، وَلَا فِي سِلْكِ عِلْمِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، أَوْ عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجَدَلِ، بَلْ يَتْلُوهَا مُتَذَكِّرًا أَنَّهَا مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا هِدَايَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ ; لِيَتَّقُوا الْخِلَافَ فِي الدِّينِ وَالتَّفَرُّقَ فِيهِ إِلَى شِيَعٍ وَمَذَاهِبَ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ. نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ نَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا، وَأَنَّ أَسَاسَهُ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ، وَأَنَّ الرُّؤَسَاءَ الرُّوحِيِّينَ وَغَيْرَ الرُّوحِيِّينَ لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأَحْبَارُ الرُّومَانِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ بِتَفَرُّقِهِمْ جَعَلُوا ذَلِكَ الدِّينَ الْإِلَهِيَّ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلَهُ شِيَعًا يَفْتِكُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَوْلَا بَغْيُهُمْ لَمَا تَمَزَّقَ شَمْلَ آرْيُوسَ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ بَعْدَ فُشُوِّ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، إِذْ حَكَمَ الْمَجْمَعُ الَّذِي أَلَّفَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ سَنَةَ 325 م بِمُقَاوَمَةِ آرْيُوسَ وَإِحْرَاقِ كُتُبِهِ وَتَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا، وَلَمَّا انْتَشَرَ تَعْلِيمُهُ مِنْ بَعْدِهِ قَضَى تُيُو دُو سْيُوسَ الثَّانِي بِاسْتِئْصَالِ مَذْهَبِهِ وَإِبَادَةِ الْآرْيُوسِيَّةِ بِقَانُونٍ رُومَانِيٍّ صَدَرَ فِي سَنَةِ 628م، وَبَقِيَتْ مَذَاهِبُ التَّثْلِيثِ يُكَافِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، [نَحْنُ] نَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَلَّا نَنْسَى أَنْفُسَنَا وَلَا يَغِيبُ عَنَّا مَا أَصَبْنَا بِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ عَسَى أَنْ يَسْعَى أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْغَيْرَةِ فِي نَبْذِ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَالْعَوْدِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا كُنَّا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ.

وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَةِ الدِّينِ وَوُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَحُرْمَةِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِيهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحَاسِبُ مَنْ كَفَرَ فَيُجَازِيهِ بِمَا يَسْتَحِقُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 202) فَلْيُرَاجَعْ. أَمَّا هَذَا الْكُفْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْإِذْعَانِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالِامْتِثَالِ لَهَا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ تَأْوِيلُهَا بِمَا يَصْرِفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا لِتُوَافِقَ مَذَاهِبَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو الْيَهُودَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَى تَرْكِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي دِينِهِمْ وَمَا اعْتَادُوهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ كَمَا نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ مَجِيءِ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَإِنْ حَاجُّوكَ) يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ عَامًّا، أَيْ فَإِنْ جَادَلُوكَ بَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ، وَأَقَمْتَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتِ وَالْبَرَاهِينَ، وَدَمَغْتَ الْبَاطِلَ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أَيْ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِعِبَادَتِي مُخْلِصًا لَهُ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَقْصِدُ إِلَى الْحِجَاجِ بَعْدَ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَتَفْنِيدِ الْبَاطِلِ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَالْمُشَاغَبَةِ لِمَحْضِ الْعِنَادِ وَالْمُشَاكَسَةِ وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِينَ، وَأَمَّا طَالِبُ الْحَقِّ فَإِنَّهُ يَبْخَلُ بِالْوَقْتِ أَنْ يَضِيعَ سُدًى وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَيْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَى الْأُمِّ لِجَهْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ - وَالْبِعْثَةُ عَامَّةٌ - لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ الرَّسُولُ بِالدَّعْوَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَأَسْلَمْتُمْ كَمَا أَسْلَمْتُ لَمَّا وَضَحَتْ لَكُمُ الْحُجَّةُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5: 91] وَفِيهِ تَعْبِيرٌ لَهُمْ بِالْبَلَادَةِ أَوِ الْمُعَانَدَةِ اهـ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ رُوحُ الدِّينِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْكِتَابُ وَمَقْصِدُهُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الرُّسُومُ مِنْهُ فَإِنْ أَسْلَمُوا هَذَا الْإِسْلَامَ فَقَدِ اهْتَدَوْا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِأَنَّ هَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ، فَمَنْ أَصَابَهُ فَهُوَ عَلَى هِدَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ غَشِيَهُ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ الصُّورِيِّ فَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ مَتَى ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ إِسْلَامُهُمْ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَتْبِعَ اتِّبَاعَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَيِّرُ الْقَلْبِ مُتَوَجِّهٌ دَائِمًا إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ، فَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى

20

قَبُولِهِ مَتَى جَاءَهُ وَظَهَرَ لَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِمَا سَأَلْتَ عَنْهُ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ طُمِسَ قَلْبُهُ فَارْتَكَسَ فِي شَقَائِهِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ اهْتِدَائِهِ، وَمَنْ يُرْجَى لَهُ بِتَوْفِيقِ اللهِ مِنْ بَعْدُ مَا لَا يُرْجَى لَهُ الْيَوْمَ، أَقُولُ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي حَصْرِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ بِالْبَلَاغِ عَنِ اللهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُسَيْطِرًا عَلَى النَّاسِ وَلَا جَبَّارًا وَلَا مُكْرِهًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ صَرَّحَتْ آيَاتٌ أُخْرَى بِمَفْهُومِ الْحَصْرِ فِي التَّبْلِيغِ يَعْرِفُ مَوَاقِعَهَا حُفَّاظُ الْقُرْآنِ وَالْمُكْثِرُونَ مِنْ تِلَاوَتِهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ قَتْلُ النَّبِيِّينَ الَّذِي كَانَ مِنْ سَابِقِهِمْ لِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ فِي تَكَافُلِهَا وَجَرْيِ لَاحِقِهَا عَلَى أَثَرِ سَابِقِهَا، كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ - عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ - عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ هَمَّتْ بِقَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ - كَمَا عَلِمْتَ - وَهُمْ بِذَلِكَ قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ مِنْ قَبْلُ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَرْبًا لَهُ وَهُمُ الْمُعْتَدُونَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ، فَكُلٌّ قَاتَلَهُ وَقَاتَلَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ حَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ (وَيُقَاتِلُونَ الَّذِينَ) لِأَنَّ مُحَاوَلَةَ قَتْلِ نَبِيٍّ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ " يَقْتُلُونَ " النَّبِيِّينَ، وَالْقِتَالُ غَيْرُ الْقَتْلِ وَلِمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمُ النَّبِيِّينَ وَبَعْضُهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، فَالْيَهُودُ هُمُ الَّذِينَ جَرَوْا عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَعَلَى قَتْلِ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ وَجَّهَ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَجَعَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ حَاوَلُوا قَتْلَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ عَلَى حَدِّ كَوْنِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِغَيْرِ حَقٍّ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ بِمَا يُقَرِّرُ بَشَاعَتَهُ وَانْقِطَاعَ

21

عِرْقِ الْعُذْرِ دُونَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ يُقَرِّرُ لَنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي ذَمِّ الشَّيْءِ وَمَدْحِهِ تَدُورُ مَعَ الْحَقِّ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا مَعَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَصْنَافِ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ كَلِمَةَ (حَقٍّ) هُنَا الْمَنْفِيَّةَ تَشْمَلُ الْحَقَّ الْعُرْفِيَّ بِقَاعِدَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَتْلِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْمِصْرِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ الْمِصْرِيَّةُ تَقْضِي بِقَتْلِ مِثْلِهِ وَقَتَلُوهُ فِي عُرْفِهِمْ لَا يُذَمُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُذَمُّ شَرِيعَتُهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَادِلَةً، وَالْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ مَا فِي قَتْلِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ النَّبِيِّينَ لَا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا. وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيِ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الْعَدَالَةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجْعَلُونَهَا رُوحَ الْفَضَائِلِ وَقِوَامَهَا، وَمَرْتَبَتُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ يَلِي أَثَرَهُمْ ; ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ طَبَقَاتِ النَّاسِ تَنْتَفِعُ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ صِنْفٍ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمْ إِلَّا بَعْضُ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَعِدِّينَ لِتَلَقِّي الْفَلْسَفَةِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اصْطَلَمَ التَّوْحِيدُ وَثَنِيَّةَ الْعَرَبِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ عَجَزَتْ دَعْوَةُ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانَ إِلَى التَّوْحِيدِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ فِيهَا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ طُلَّابِ الْفَلْسَفَةِ؟ ذَلِكَ بِأَنَّ دَعْوَةَ النَّبِيِّ عَلَى مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ وَتَأْثِيرِ رُوحِ الْوَحْيِ لَهَا ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16: 125] فَالْحِكْمَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعُقَلَاءُ وَأَهْلُ النَّظَرِ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، وَالْمَوْعِظَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعَوَامُّ السُّذَّجُ، وَالْجَدَلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَقُوا إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِسُهُولَةٍ، بَلْ يَبْحَثُونَ بَحْثًا نَاقِصًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُسْنَى فِي مُجَادَلَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّ لَهُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَالْفَضِيلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَلَبِ الْعَدْلِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَدْعُو إِلَى ذَلِكَ مُتَدَيِّنًا وَيَجْرِي فِي الْإِقْنَاعِ بِالدِّينِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَدَيِّنٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْعَقْلِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ دَلِيلٌ عَلَى غَمْطِ الْعَقْلِ وَمَقْتِ الْعَدْلِ، وَأَقْبِحْ بِذَلِكَ جُرْمًا وَكَفَى بِهِ إِثْمًا. وَلَمْ يُفَسِّرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ بِالْحُكَمَاءِ، بَلْ قَالَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ هَؤُلَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنَ النَّاسِ يُشْعِرُ بِقِلَّتِهِمْ. وَأَقُولُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِيَارِ: إِنَّهُ يُشْعِرُ بِشُمُولِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا فَآمَنَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَذَا تَعْظِيمُ شَأْنِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَإِرْشَادِ

أَهْلِهِ إِلَى أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي تَلِي مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [2: 269] . وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَحْمِلُونَ مِثْلَهُ عَلَى التَّهَكُّمِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ ; لِأَنَّ التَّبْشِيرَ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالْبُشْرَى وَهِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ تَنْبَسِطُ لَهُ بَشَرَةُ الْوَجْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْبَشَرَةِ بِانْبِسَاطٍ أَوِ انْقِبَاضٍ وَكَآبَةٍ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْعَذَابُ يُصِيبُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُشَارِكُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ بِمِثْلِ ذُنُوبِهِمْ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقُسَاةِ الطُّغَاةِ الْمُسْرِفِينَ فِي الشَّرِّ إِسْرَافًا جَعَلَهُمْ عَلَى مُنْتَهَى الْبُعْدِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْآمِرِينَ بِالْقِسْطِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ نُفُوسُهُمْ كَنُفُوسِ مَنْ قَتَلُوا وَمَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفِعْلِ إِلَّا الْعَجْزُ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [8: 30] فَهَذِهِ النُّفُوسُ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا خَطَايَاهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَذٌ لِنُورِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي بِهَا يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى إِقَامَةِ الْقِسْطِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِحُسْنِ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَنُفُوسُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْغَلَ فِيهَا الْفَسَادُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَفَقَدَتْ الِاسْتِعْدَادَ وَالْقَبُولَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 217) وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنَ اللهِ وَقَدْ أَبْسَلَتْهُمْ ذُنُوبُهُمْ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ نُفُوسِهِمْ، فَأَيُّ نَاصِرٍ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَهُوَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ طَبِيعَتُهُمْ؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

23

كَانَ سَابِقُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْحَشْرِ وَبَيَانِ ثَوَابِ الْعَامِلِينَ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُعَانِدِينَ ; لِأَنَّ الْبَلَاغَ قَدْ أَوْضَحَ الْمَحَجَّةَ لِلنَّاسِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - ثُمَّ ذَكَرَ أَشَدَّ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنِ الدَّعْوَةِ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْآمِرِينَ بِالْقِسْطِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يُحْزِنُهُ إِعْرَاضُهُمْ ; وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ إِلَى خَطَابِهِ بِأَعْجَبِ شَأْنِهِمْ فِي الدِّينِ لِذَلِكَ الْعَهْدِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودٍ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، قَالَا: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْتَرُونَ ذَكَرَ هَذَا التَّخْرِيجَ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. فَكِتَابُ اللهِ الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ هُوَ التَّوْرَاةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ بَلْ ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا دُعِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فَأَبَتْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ، وَمَعْنَاهُ: أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعْجَبُ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِكَ عَلَى وُضُوحِ مَا جِئْتَ بِهِ كَيْفَ يُعْرِضُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ أَهْوَاءَهُمْ؟ وَوَقَائِعُ الْأَحْوَالِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ تَتَّفِقُ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَدْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ إِذَا خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ كُلِّ دِينٍ فِي طَوْرِ انْحِلَالِ الدِّينِ وَضَعْفِهِ، وَكَانُوا رُبَّمَا تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَازِمِينَ عَلَى قَبُولِ حُكْمِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا أَحَبُّوا خَالَفُوهُ، كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ زَنَا بَعْضُ أَشْرَافِهِمْ وَحَكَّمُوهُ فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمِثْلِ حُكْمِ كِتَابِهِمْ فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ حُكْمِهِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَزِعُوا إِلَيْهِ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ: أُوتُوا نَصِيبًا فَقَدْ عُلِمَ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أُوتُوا الْكِتَابَ وَهُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [2: 78] فَالنَّصِيبُ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْأَلْفَاظِ بِتَعْظِيمِهَا وَتَعْظِيمِ مَا تُكْتَبُ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْمَعَانِي بِفِقْهِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا. قَالَ: وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ مَا يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِمْ (أَوْ قَالَ الْكُتُبَ) وَقَدْ فَقَدُوا سَائِرَهُ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقِيمُونَهُ بِحُسْنِ الْفَهْمِ لَهُ وَالْتِزَامِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا غَرَابَةَ فِي فَقْدِ بَعْضِ الْكِتَابِ ; فَالْكُتُبُ الْخَمْسَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّتِي

يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَلَا هِيَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهُ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَهُ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ (أَرَاهُ قَالَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ) وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَجْمُوعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ) أَقُولُ: وَلَا تُعْرَفُ اللُّغَةُ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعِبْرَانِيَّةَ وَإِنَّمَا كَانَتْ لُغَتُهُ مِصْرِيَّةً، فَأَيْنَ هِيَ التَّوْرَاةُ الَّتِي كَتَبَهَا بِتِلْكَ اللُّغَةِ وَمَنْ تَرْجَمَهَا عَنْهَا؟ أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَلِلتَّرَاخِي فِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) اسْتِبْعَادُ تَوَلِّيهِمْ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْفَرِيقُ بَعْدَ تَرَدُّدٍ وَتَرَوٍّ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ أَلَّا يَتَرَدَّدَ الْمُؤْمِنُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِ، أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِالتَّرَدُّدِ حَتَّى تَوَلَّوْا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّوَلِّي عَرَضًا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى الْكِتَابِ خَاضِعِينَ لِحُكْمِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُمْ لَازِمٌ، بَلِ اللَّازِمُ لَهُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كِتَابِ اللهِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ، فَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ لَيْسَتْ مُؤَكِّدَةً لِلتَّوَلِّي - كَمَا قِيلَ - بَلْ هِيَ مُؤَسِّسَةٌ لِوَصْفِ الْإِعْرَاضِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَيْسَ عَامًّا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَقُولُ: وَهَذَا مِمَّا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ وَالِاحْتِرَاسِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، فَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي مَقَامِ بَيَانِ شُئُونِهِمْ وَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَإِذَا أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ: تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [2: 246] . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ رَوَى جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي عَدَدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَعْدٌ بِالْآخِرَةِ وَلَا وَعِيدٌ، فَكُلُّ مَا وَعَدَتْ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخَيْرُ وَالْخِصْبُ وَالسُّلْطَةُ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَوْعَدَتْ بِهِ هُوَ سَلْبُ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ سَوَاءٌ أُوجِدَ فِي كُتُبِهِمْ أَمْ لَمْ يُوجَدْ، يَعْنِي أَنَّنَا نَعُدُّ هَذَا مِمَّا أَضَاعُوهُ وَنَسَوْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ وَالْجُمْلَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِسْهَالِ الْعُقُوبَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا اتِّكَالًا عَلَى اتِّصَالِ نَسَبِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِوَعِيدِ الدِّينِ زَاعِمًا أَنَّهُ خَفِيفٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ حَتْمًا تَزُولُ حُرْمَةُ الْأَوَامِرِ

24

وَالنَّوَاهِي مِنْ نَفْسِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ بِلَا مُبَالَاةٍ وَيَتَهَاوَنَ فِي الطَّاعَاتِ الْمُحَتَّمَةِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ عِنْدَمَا تَفْسُقُ عَنْ دِينِهَا وَتَنْتَهِكُ حُرُمَاتِهِ، ظَهَرَ فِي الْيَهُودِ ثُمَّ فِي النَّصَارَى ثُمَّ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِعِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ إِذَا عُوقِبَ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَلِيلَةً كَمَا هُوَ اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُرْتَكِبَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَهُ الشَّفَاعَاتُ، وَإِمَّا تُنْجِيهِ الْكَفَّارَاتُ، وَإِمَّا أَنْ يُمْنَحَ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنْ فَاتَهُ كُلُّ ذَلِكَ عُذِّبَ عَلَى قَدْرِ خَطِيئَتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ فَهُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ وَمَهْمَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَالْقُرْآنُ لَا يُقِيمُ لِلِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ مَا وَزْنًا، وَإِنَّمَا يَنُوطُ أَمْرَ النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي دَارِ الْقَرَارِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي وَصَفَهُ وَذَكَرَ عَلَامَاتِ أَهْلِهِ وَصِفَاتِهِمْ، وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَعَ التَّقْوَى وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَهِيَ خَاصَّةٌ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْ لَمْ تُحِطْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَغْرَقَتْ شُعُورَهُ وَرَانَتْ عَلَى قَلْبِهِ فَصَارَ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي إِرْضَاءِ شَهْوَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ; لِهَذَا يَحْكُمُ هَذَا الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَيَنُوطُ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ أَوْ الِاتِّكَالِ عَلَى مَنْ أَقَامَهُ مِنَ السَّلَفِ فَهُوَ مُغْتَرٌّ بِالْوَهْمِ مُفْتَرٍ يَقُولُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ بِمَا زَعَمُوا مِنْ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِلْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا، وَهَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ الَّذِي كَانَ مَنْشَأَ غُرُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالْفِكْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَلَيْسَ فِي الْوَحْيِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلَا يُوثَقُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا عَهْدَ بِهَذَا وَإِنَّمَا عَهْدُ اللهِ هُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2: 80 - 82] . ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الِافْتِرَاءِ بِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِي مَجِيئِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ بِأَنْ رَأَتْ مَا عَمِلَتْهُ مُحْضَرًا مُوَفًّى لَا نَقْصَ فِيهِ، فَكَانَ مَنْشَأَ الْجَزَاءِ وَمَنَاطَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاءِ، دُونَ الِانْتِمَاءِ إِلَى دِينِ كَذَا وَمَذْهَبِ كَذَا أَوْ الِانْتِسَابِ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ، أَلَا إِنَّهُمْ يَرَوْنَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ دَاخِلِ نُفُوسِهِمْ

26

لَا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهَا، يَكُونُ بِمَا أَحْدَثَتْهُ أَعْمَالُهُمْ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ أَوِ الْقَبِيحَةِ وَمُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَ أَنَّ النَّاسَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْجَزَاءِ لَا امْتِيَازَ فِيهِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَإِنْ سُمِّيَ بَعْضُهَا بِشَعْبِ اللهِ، وَلَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَإِنْ لَقَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَبْنَاءِ اللهِ، بَلْ يَرَوْنَ هُنَالِكَ الْعَدْلَ الْأَكْمَلَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيِ النَّاسُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِلَفْظِ كُلُّ نَفْسٍ أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْ جَزَاءِ أَحَدٍ بِمَا كَسَبَ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلِمَةً أُحِبُّ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِيهَا، قَالُوا: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُحْبَطُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ; لِأَنَّ تَوْفِيَةَ جَزَاءِ إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ لَا تَكُونُ فِي النَّارِ وَلَا قَبْلَ دُخُولِهَا، فَإِذَنْ هِيَ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَالْعِبَارَةُ لِلْبَيْضَاوِيِّ وَنَقَلَهَا أَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْكَسْبَ هُنَا لَيْسَ خَاصًّا بِالْعِبَادَةِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا عَمِلَهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَسْبِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ - لَزِمَهُمْ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَحْسَنَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ - وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحْسِنُ عَمَلًا قَطُّ - وَجَبَ أَنْ يُجَازَى عَلَيْهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ خَصَّصُوا وَأَخْرَجُوا الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا، وَإِذَا نَحْنُ جَمَعْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي وَرَدَتْ رَدًّا لِقَوْلِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى كَسْبِ الْإِنْسَانِ بِحَسْبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِتَأْثِيرِ الْعَمَلِ فِي النَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ أَثَرُهُ السَّيِّئُ قَدْ أَحَاطَ بِعِلْمِهَا وَشُعُورِهَا وَاسْتَغْرَقَ وِجْدَانَهَا كَانَتْ خَالِدَةً فِي النَّارِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئَ لَمْ يَدَعْ لِلْإِيمَانِ أَثَرًا صَالِحًا فِيهَا يُعِدُّهَا لِدَارِ الْكَرَامَةِ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْهَوَانِ بِطَبْعِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا تَأْثِيرُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَكَانَتْ بَيْنَ بَيْنَ جُوزِيَتْ عَلَى كُلٍّ بِحَسَبِ دَرَجَتِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا. وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنْ مَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِمَا قَرَّرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ - صَحَّ مَا قِيلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ - وَالْكَلَامُ فِي حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَنْ خُوطِبُوا بِالدَّعْوَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ لِرَجُلٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، كَمَا أَنْكَرَ أَمْثَالُهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ آلِ إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ عُهِدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَقَامِ بَيَانِ عِنَادِ الْمُنْكِرِينَ وَمُكَابَرَةِ الْجَاحِدِينَ وَتَذْكِيرُهُ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - عَلَى نَصْرِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ دِينِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِذَا تَوَلَّى هَؤُلَاءِ الْجَاحِدُونَ عَنْ بَيَانِكَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي بُرْهَانِكَ وَظَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ فَعَلَيْكَ أَنْ تَلْجَأَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَتَرْجِعَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَتَتَذَكَّرَ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهَذَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ أَمْرِهِ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ أَوْ لَازِمِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُلْكٌ كَبِيرٌ لِأَنَّ سُلْطَانَهَا عَلَى الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، قَالَ - تَعَالَى -: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [4: 54] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُلْكُ عَيْنَ النُّبُوَّةِ فَهُوَ لَازِمُهَا، وَنَزْعُ الْمُلْكِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ نَزْعِهِ مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَ يُبْعَثُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ كَأُمَّةِ إِسْرَائِيلَ فَقَدْ نُزِعَتْ مِنْهَا النُّبُوَّةُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ النَّزْعُ هُنَا بِالْحِرْمَانِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّزْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ، صَحَّ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لِسَانِ الرُّسُلِ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا [7: 89] فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي مِلَّتِهِمْ، إِذْ يَسْتَحِيلُ الْكُفْرُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - هَذَا سِيَاقُهُ - وَقَدْ تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ كَلِمَةَ " أَوْ لَازِمِهَا " وَالتَّمْثِيلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، وَالْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [7: 88] فَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ وَمِمَّنْ آمَنَ مَعَهُ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَفِي جَوَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَغْلِيبٌ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ. وَمَثَّلَ الرَّازِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2: 257] وَفِيهِ مَا فِيهِ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ السُّلْطَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْأُمُورِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى - صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي الْكَائِنَاتِ، فَهُوَ يُؤْتِي الْمُلْكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، إِمَّا بِالتَّبَعِ لِمَا يَخْتَصُّهُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ كَمَا وَقَعَ لِآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَتَكْوِينِ الْعَصَبِيَّاتِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَمِنَ الْأُسَرِ وَالْعَشَائِرِ وَالْفَصَائِلِ وَالشُّعُوبِ بِتَنَكُّبِهِمْ سُنَنَهُ الْحَافِظَةَ لِلْمُلْكِ، كَالْعَدْلِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا نَزَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، ذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ مَا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا مِنَ الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ نَظَرْنَا فِيمَا وَقَعَ لِلْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ وَمَحَّصْنَا أَسْبَابَهُ فَأَلْفَيْنَاهَا تَرْجِعُ إِلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [3: 137] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ بَعْضَ هَذِهِ السُّنَنِ فِي نَزْعِ الْمُلْكِ مِمَّنْ يَشَاءُ وَإِيتَائِهِ مَنْ يَشَاءُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14: 13، 14] وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفْضَلَ تَفْصِيلٍ فَلْيُرَاجِعِ الْآيَةَ (247) مَنْ شَاءَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَكَوْنُهَا بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَلْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ يَوْمَ رَأَى جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ زَاحِفًا إِلَى مَكَّةَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: كَلَّا إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ تَأْسِيسُ مُلْكٍ وَمَا كَانَ الْمُلْكُ مَقْصُودًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَابِعًا لَا أَصْلًا، وَالْفَرْقُ عَظِيمٌ، وَالْغَرَضُ مِنَ النُّبُوَّةِ غَيْرُ الْغَرَضِ مِنَ الْمُلْكِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابَةُ مَنْ جَعَلُوهُ رَئِيسَ مُلْكِهِمْ وَمَرْجِعَ سِيَاسَتِهِمْ مَلِكًا، بَلْ سَمَّوْهُ خَلِيفَةً. وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ الْعِزُّ وَالذُّلُّ مَعْرُوفَانِ، وَمِنْ آثَارِ الْأَوَّلِ: حِمَايَةُ الْحَقِيقَةِ وَنَفَاذُ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ الْأَعْوَانِ وَمِلْكُ الْقُلُوبِ بِالْجَاهِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لِلنَّاسِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مَعَ التَّوْفِيقِ لِلْإِحْسَانِ، وَمِنْ آثَارِ الثَّانِي: الضَّعْفُ عَنِ الْحِمَايَةِ، وَالرِّضَى بِالضَّيْمِ وَالْمَهَانَةِ - كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَقَدْ يَكُونُ الضَّعْفُ سَبَبًا وَعِلَّةً لِلذُّلِّ لَا أَثَرًا مَعْلُولًا وَهُوَ غَالِبٌ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَلِكُ ذَلِيلًا إِذَا ضَعُفَ اسْتِقْلَالُهُ بِسُوءِ السِّيَاسَةِ وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ، حَتَّى صَارَتِ الدُّوَلُ الْأُخْرَى تَفْتَاتُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ فِي مَظْهَرِ عَزِيزٍ، وَكَمْ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَلِكٍ يَغُرُّ الْأَغْرَارَ مَا يَرَوْنَهُ فِيهِ مِنَ الْأُبَّهَةِ وَالْفَخْفَخَةِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَزِيزٌ كَرِيمٌ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ذَلِيلٌ مَهِينٌ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ مُلُوكِ مَلَاهِي التَّمْثِيلِ (التَّيَاتْرَاتِ) وَالتَّشْبِيهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.

هَذَا وَلَا عِزَّ أَعْلَى مِنْ عِزِّ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَمُقَاوَمَةِ الْبَاطِلِ إِذَا اتَّبَعَ الْمُجْتَمِعُونَ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فَأَعَدُّوا لِكُلِّ أَمْرٍ عُدَّتَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ وَالْيَهُودُ وَمُنَافِقُو الْعَرَبِ فِي الْمَدِينَةِ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [63: 8] فَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذَا وَيَفْقَهُوا مَعْنَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُنْصِفُوا مِنْهَا لِيَعْلَمُوا مَكَانَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي حَكَمَ اللهُ لِصَاحِبِهِ بِالْعِزَّةِ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47: 24] . بِيَدِكَ الْخَيْرُ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدَّرَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) هُنَا كَلِمَةَ " وَالشَّرُّ " هَرَبًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ نَفْيٌ لِكَوْنِ الشَّرِّ بِيَدِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِثْبَاتٌ لَهُ فَلَا مَعْنًى لِتَصَادُمِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا وَحَسْبُنَا قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَالْبَلَاغَةُ قَاضِيَةٌ بِذِكْرِ الْخَيْرِ فَقَطْ سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ خَاصًّا وَهُوَ مَا كَانَ فِي وَاقِعَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ بِشَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ سَيَبْلُغُ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَامًّا وَهُوَ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُنْكِرِينَ فَإِنَّهُ مَا أَغْرَى أُولَئِكَ الْمُجَاحِدِينَ بِإِنْكَارِ النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا فَقْرُ الدَّاعِي وَضَعْفُ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّتُهُمْ، فَأَمَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يَلْجَأَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى مَالِكِ الْمُلْكِ وَالْمُتَصَرِّفِ التَّصَرُّفَ الْمُطْلَقَ فِي الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، وَذَكَّرَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُؤْتِيَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَنْ يُعِزَّهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الَّذِينَ يَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [28: 5] عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُ - وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ - بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَيَلْجَئُوا إِلَيْهِ بِهَذِهِ الرَّغْبَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرَ الْخَيْرِ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَقَطْ، وَأَنَّهُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُسْنَدُ إِلَى يَدِهِ - تَعَالَى - أَوْ يَدَيْهِ إِلَّا النِّعَمُ الْجَلِيلَةُ وَالْمَخْلُوقَاتُ الشَّرِيفَةُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّرَّ بِيَدِ اللهِ - تَعَالَى -، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَدَبَّرَهُ هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَالشَّرُّ أَمْرٌ عَارِضٌ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ ; فَلَا تُوجَدُ حَقِيقَةٌ هِيَ شَرٌّ فِي ذَاتِهَا وَإِنَّمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الشَّرِّ عَلَى مَا يَأْتِي غَيْرَ مُلَائِمٍ لِلْأَحْيَاءِ ذَاتِ الْإِدْرَاكِ، وَلَا مُنْطَبِقٍ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ سُوءُ عَمَلِهِمْ الِاخْتِيَارِيِّ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ تُقَوِّضَ الرِّيحُ لَهُمْ بِنَاءً أَوْ يَجْرُفَ السَّيْلُ لَهُمْ رِزْقًا، وَكُلٌّ مِنَ الرِّيحِ وَالسَّيْلِ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرَاتِ فِي ذَاتِهِمَا، وَمِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ مَا قَدَّرَتْهُ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ وَأَخْبَرَ بِهِ الْوَحْيُ مِنْ تَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ السَّيِّئِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ مُرَبٍّ لِلنَّاسِ وَعَوْنٌ لَهُمْ عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَقِهَ مَا نَقُولُ. وَلِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا بَأْسَ بِإِيرَادِهِ هُنَا. قَالَ فِي كِتَابِ (شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) وَنَقَلَهُ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ مَا نَصُّهُ: "

إِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ، أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابَهُ الْمُفْضِيَةَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ، مِثَالُهُ أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وَجُودُهَا خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لَا تَسْكُنُ، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةُ خَيْرٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا. فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الْمَوْضُوعَةُ فِي مَحَالِّهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ مُسْتَعِدَّةً لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ ; فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَا يَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ. بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ شَرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ وَفِي خَلْقِهِ مَصَالِحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ أَرْجَحَ مِنَ اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ، بَلِ الْوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا. هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا. " فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ تَنْقَطِعُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ فِي ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ، فَهَذِهِ هِيَ الْخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا، فَإِيجَادُ هَذَا السَّبَبِ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَى اللهِ، وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا وَجَدَهُ؟ قُلْتُ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُوجِدُهُ وَيَمُدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَمُدَّهُ بِحِكْمَتِهِ، فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ. " فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ فَالْجَوَابُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ تَسَاوِيَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تَفَاوُتٍ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ

27

مِنْ تَفَاوُتٍ (قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -) : فَإِنِ اعْتَاصَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ تُدْخِلُ طَائِفَةً مِنَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ فَيَقْصُرَ اللَّيْلُ مِنْ حَيْثُ يَطُولُ النَّهَارُ، وَتُدْخِلُ طَائِفَةً مِنَ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ فَيَطُولَ هَذَا مِنْ حَيْثُ يَقْصُرُ ذَاكَ، أَيْ إِنَّكَ بِحِكْمَتِكَ فِي تَدْبِيرِ الْأَرْضِ وَتَكْوِيرِهَا وَجَعْلِ الشَّمْسِ بِحُسْبَانٍ تَزِيدُ فِي أَحَدِ الْجَدِيدَيْنِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَقْصِ الْآخَرِ، فَلَا يُنْكَرُ عَلَى قُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ أَنْ تُؤْتِيَ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ كَمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، وَتَنْزِعُهُمَا مِمَّنْ تَشَاءُ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّكَ تَتَصَرَّفُ فِي شُئُونِ النَّاسِ كَمَا تَتَصَرَّفُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالصَّالِحِ مِنَ الطَّالِحِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْجَاهِلِ مِنَ الْعَالَمِ، وَالشِّرِّيرِ مِنَ الْخَيِّرِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ لِلْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالْعَكْسِ، وَخُرُوجِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالطَّائِرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَبِالْعَكْسِ. وَالتَّمْثِيلُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَثْبَتَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ أَنَّ فِي النُّطْفَةِ حَيَاةً، وَكَذَا فِي الْبَيْضَةِ وَالنَّوَاةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ اصْطِلَاحِيَّةٌ لِأَهْلِ الْفَنِّ فِي عُرْفِهِمْ دُونَ الْعُرْفِ الْعَامِّ الَّذِي جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْعُرْفَيْنِ خُرُوجُ النَّبَاتِ مِنَ التُّرَابِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَسْمِيَةِ مَا يُقَابِلُ الْحَيَّ مَيِّتًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْحَيَاةُ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَيِّتِ مِمَّا يَعِيشُ وَيَحْيَا مِثْلُهُ أَمْ لَا وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ فَصِيحٌ، وَالْجُمْلَةُ كَسَابِقَتِهَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ لِكَوْنِهِ - تَعَالَى - مَالِكَ الْمُلْكِ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ إِلَى آخِرِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارِ فَقَدْ أَخَرَجَ مِنَ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَمَا أَخْرَجَ مِنْ سَلَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ أُولَئِكَ الْأَشْرَارَ الْمُفْسِدِينَ ; ذَلِكَ أَنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ قَدْ أَعَدَّتِ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ لِأَنْ يَظْهَرَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مِنْهَا - أَعَدَّتْهَا لِذَلِكَ بِارْتِقَاءِ الْفِكْرِ وَاسْتِقْلَالِهِ وَبِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا، حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَقْوَى أُمَمِ الْأَرْضِ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الدِّينِ الَّذِي هَدَمَ بِنَاءَ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِعْبَادِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ بِنَاءَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِقْلَالِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَرْسُفُونَ فِي قُيُودِ التَّقْلِيدِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، مُرْتَكِسِينَ فِي أَغْلَالِ الِاسْتِبْدَادِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، فَمَا أَعْطَى - سُبْحَانَهُ - مَا أَعْطَى وَنَزَعَ مَا نَزَعَ إِلَّا بِإِقَامَةِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ النِّظَامِ وَمَنَاطُ الْإِبْدَاعِ وَالْإِحْكَامِ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ يُطْلَبُ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يُحَاسِبُهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، أَوْ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ هَذَا الْمَرْزُوقِ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَلَكِنَّهُ بِقَدْرٍ وَحِسَابٍ مِمَّنْ وَضَعَ السُّنَنَ وَالْأَسْبَابَ.

28

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ الَّتِي نَبَّهَ اللهُ فِيهَا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ مُعْتَرِفِينَ أَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ وَالْعِزَّ وَمَجَامِعَ الْخَيْرِ وَالسُّلْطَانَ الْمُطْلَقَ فِي تَصْرِيفِ الْكَوْنِ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِزَّةُ وَالْقُوَّةُ لَهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَمِنَ الْجَهْلِ وَالْغُرُورِ أَنْ يُعْتَزَّ بِغَيْرِهِ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْ يُلْتَجَأَ إِلَى غَيْرِ جَنَابِهِ، أَوْ يَذِلَّ الْمُؤْمِنُ فِي غَيْرِ بَابِهِ، وَقَدْ نَطَقَتِ السِّيَرُ بِأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ قَبْلَ الِاطْمِئْنَانِ بِالْإِيمَانِ اغْتِرَارٌ بِعِزَّةِ الْكَافِرِينَ وَقُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، فَيُوَالُونَهُمْ وَيَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ. قَالَ: وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ (زَعِيمِ الْمُنَافِقِينَ) وَقِيلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُوَالُونَ بَعْضَ الْيَهُودِ، وَمَهْمَا كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْتَجِيبِينَ لَهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، عَلَى أَنَّ مَظَاهِرَ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ تَغُرُّ بَعْضَ الصَّادِقِينَ، وَتُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِمْ! وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهَا تَفْسِيرًا تَتَّفِقُ بِهِ مَعَانِيهَا. أَقُولُ: قِصَّةُ حَاطِبٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مُسْنَدَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمُلَخَّصُهَا: " أَنَّ حَاطِبًا كَتَبَ كِتَابًا لِقُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِاسْتِعْدَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزَّحْفِ عَلَى مَكَّةَ

إِذْ كَانَ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِهَا وَكَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ لِيَبْغَتَ قُرَيْشًا عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ مِنْهَا فَتُضْطَرُّ إِلَى قَبُولِ الصُّلْحِ - وَمَا كَانَ يُرِيدُ حَرْبًا - وَأَرْسَلَ حَاطِبٌ كِتَابَهُ مَعَ جَارِيَةٍ وَضَعَتْهُ فِي عِقَاصِ شَعْرِهَا فَأَعْلَمَ اللهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهَا عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ قَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ! إِنِّي كُنْتُ حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، قَالُوا: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ [60: 1] إِلَخْ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ، فَلَعَلَّ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ سَهْوٌ ; سَبَبُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا نَزَلْ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ يَشْتَرِكَانِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ، وَمَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ - وَهُوَ مُعْظَمُ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ - يُفَسِّرُ لَنَا أَوْ يُفَصِّلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ; لِأَنَّ مَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ مُفَصَّلٌ، وَهُوَ مِنْ آخِرِهَا أَوْ آخِرُهَا نُزُولًا، وَمَا عَدَاهُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ الْمُفَصَّلُ. يَزْعُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَوَى فِي الرَّأْيِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ النَّهْيِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [5: 51] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَالِفُوا أَوْ يَتَّفِقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ أَوْ الِاتِّفَاقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُحَالِفًا لِخُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُتَحَمِّسِينَ فِي الدِّينِ - عَلَى جَهْلٍ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُعَاشَرَتَهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَدْ جَاءَتْنَا وَنَحْنُ نَكْتُبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِحْدَى الصُّحُفِ فَرَأَيْنَا فِي أَخْبَارِهَا الْبَرْقِيَّةَ أَنَّ الْأَفْغَانِيِّينَ الْمُتَعَصِّبِينَ سَاخِطُونَ عَلَى أَمِيرِهِمْ أَنْ عَاشَرَ الْإِنْكِلِيزَ فِي الْهِنْدِ وَوَاكَلَهُمْ وَلَبِسَ زِيَّ الْإِفْرِنْجِ، وَأَنَّهُمْ عَقَدُوا اجْتِمَاعًا حَكَمُوا فِيهِ بِكُفْرِهِ وَوُجُوبِ خَلْعِهِ مِنَ الْإِمَارَةِ، فَأُرْسِلَتِ الْجُنُودُ لِتَفْرِيقِ شَمْلِهِمْ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَمِّسِينَ الْجَاهِلِينَ أَضَرُّ الْخَلْقِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أَبْعَدُ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَالَمِينَ، وَمَاذَا فَهِمَ أَمْثَالُ أُولَئِكَ الْأَفْغَانِيِّينَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى عُجْمَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِأَسَالِيبِهِ وَبِعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِهِ! قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: الْأَوْلِيَاءُ: الْأَنْصَارُ، وَالِاتِّخَاذُ يُفِيدُ مَعْنَى

الِاصْطِنَاعِ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُكَاشَفَتِهِمْ بِالْأَسْرَارِ الْخَاصَّةِ بِمَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَيْدٌ فِي الِاتِّخَاذِ، أَيْ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا فِي شَيْءٍ تُقَدَّمُ فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لِأَنَّ فِي هَذَا اخْتِيَارًا لَهُمْ وَتَفْضِيلًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ فِيهِ إِعَانَةٌ لِلْكُفْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، مِنْ شَأْنِ هَذَا أَلَّا يَصْدُرَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ ; لِذَلِكَ هَمَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِقَتْلِ حَاطِبٍ وَسَمَّاهُ مُنَافِقًا لَوْلَا أَنْ نَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَذَكَّرَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. أَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِ حَاطِبٍ فِي مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّهْيِ فَكَيْفَ نُكَفِّرُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَمِيرِ الْأَفْغَانَ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا مَا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ. مِنْ أَكْلٍ وَلِبَاسٍ وَمُجَامَلَةٍ لِحُكُومَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَمُجَامَلَتُهُ لَهَا لَيْسَتْ مُوَالَاةً لَهَا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (أَيْ: ضِدُّهُمْ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْعَصْرِ) وَإِنَّمَا هِيَ مُوَالَاةٌ لِمَصْلَحَتِهِمُ الَّتِي تَتَّفِقُ مَعَ مَصْلَحَتِهَا، وَهُمْ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنْهَا إِلَيْهِمْ. عَوْدٌ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [58: 22] الْآيَةَ، فَالْمُوَادَّةُ مُشَارَكَةٌ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالْكَافِرِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ فَالْمَمْنُوعُ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ خِذْلَانٌ لِدِينِكَ وَإِيذَاءٌ لِأَهْلِهِ أَوْ إِضَاعَةٌ لِمَصَالِحِهِمْ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ ضُرُوبِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا تَدْخُلَ فِي ذَلِكَ النَّفْيِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعَامَلَةً فِي مُحَادَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ فِي مُعَادَاتِهِمَا وَمُقَاوَمَةِ دِينِهِمَا. أَقُولُ: وَإِذَا رَجَعَ الْمُؤْمِنُ إِلَى سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (60) الَّتِي فُصِّلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَا لَمْ تُفَصَّلْ فِي غَيْرِهَا يَجِدُ الْآيَةَ الْأُولَى - وَقَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهَا فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ - تُقَيِّدُ النَّهْيَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا كُفْرًا حَمَلَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللهِ، فَكُلُّ شَعْبٍ حَرْبِيٍّ يُعَامِلُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ تَحْرُمُ مُوَالَاتُهُ قَطْعًا، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَهَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ يَثْقَفُوا الْمُؤْمِنِينَ يُعَادُوهُمْ وَيُؤْذُوهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [60: 7 - 9] فَالْبَصِيرُ يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَجْعَلُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا الرَّسُولَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَأَخْرَجُوهُمْ

مِنْ دِيَارِهِمْ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْجُوَّةً. وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبِرِّ وَالْقِسْطِ إِلَى مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، وَأَبْعَدُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِحَصْرِ النَّهْيِ فِي الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّينِ ; أَيْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَسَاعَدُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ خَصَّ هَذَا النَّهْيَ بِتَوَلِّيهِمْ وَنَصْرِهِمْ لَا بِمُجَامَلَتِهِمْ وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْحِلْمِ وَالسَّمَاحِ بَلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ. وَلَا تَنْسَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عُنْفُوَانِ طُغْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَقَدْ عَمِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ الْفَتْحِ بِهَذِهِ الْوَصَايَا فَعَفَا عَنْ قُدْرَةٍ، وَحَلُمَ عَنْ عِزَّةٍ وَسُلْطَةٍ. وَقَالَ: أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ وَأَحْسَنَ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَمِثْلُهُ أَهْلٌ لِلْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَقَدْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَلَكِنْ بَعُدَ مُتَحَمِّسُو الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ عَنْ سُنَّتِهِ وَعَنْ كِتَابِ اللهِ الَّذِي تَأَدَّبَ هُوَ بِهِ. اللهُمَّ اهْدِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِهِدَايَةِ كِتَابِكَ لِيَكُونُوا بِحُسْنِ عَمَلِهِمْ حُجَّةً لَهُ بَعْدَ مَا صَارَ أَكْثَرُهُمْ بِسُوءِ الْعَمَلِ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَيَتَّخِذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخَالِفُ مَصْلَحَتَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ أَيْ فَلَيْسَ مِنْ وِلَايَةِ اللهِ فِي شَيْءٍ قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَوِلَايَةُ اللهِ مِنَ الْعَبْدِ طَاعَتُهُ وَنَصْرُ دِينِهِ، وَمِنَ اللهِ مَثُوبَتُهُ وَرِضْوَانُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ غَايَةُ الْبُعْدِ ; أَيْ تَنْقَطِعُ صِلَةُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - ; أَيْ فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [5: 51] أَوْ مَعْنَاهُ فَيَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْأُسْتَاذُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ ; أَيْ إِنَّ تَرْكَ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتْمٌ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ مِنْ شَيْءٍ تَتَّقُونَهُ مِنْهُ، فَلَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَالُوهُمْ بِقَدْرِ مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ ; لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ تَكُونُ صُورِيَّةً ; لِأَنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُوَالُوهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا ضَرَرَهُمْ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَإِذَا جَازَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِاتِّقَاءِ الضَّرَرِ فَجَوَازُهَا لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ أَوْلَى ; وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَالِفُوا الدُّوَلَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لِأَجْلِ فَائِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَالُوهُمْ فِي شَيْءٍ يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ الضَّعْفِ، بَلْ هِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ

أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ وَهِيَ مَا يُقَالُ أَوْ يُفْعَلُ مُخَالِفًا لِلْحَقِّ لِأَجَلِ تَوَقِّي الضَّرَرِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَعْرِيفَاتٌ وَشُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ، فَقِيلَ: إِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ. وَقِيلَ: لَا تَجُوزُ التَّقِيَّةُ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِحَالِ الضَّعْفِ. وَقِيلَ: بَلْ عَامَّةٌ، وَيُنْقَلُ عَنِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا التَّقِيَّةَ فِي الدِّينِ مُطْلَقًا - وَإِنْ أُكْرِهَ الْمُؤْمِنُ وَخَافَ الْقَتْلَ - لِأَنَّ الدِّينَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [16: 106، 107] فَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا وِقَايَةً لِنَفْسِهِ مِنَ الْهَلَاكِ لَا شَارِحًا بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَلَا مُسْتَحْسِنًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، بَلْ يُعْذَرُ كَمَا عُذِرَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (16: 106) وَكَمَا عُذِرَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي سَأَلَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: " إِنِّي أَصَمُّ " ثَلَاثًا. وَيُنْقَلُ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّ التَّقِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ جَرَى عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَيُنْقَلُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَنَاقِضَةٌ مُضْطَرِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ نَقْلُ الْمُخَالِفِ مِنَ الظِّنَّةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا مَوْضِعٌ لِلْمُنَاقَشَاتِ وَالْجَدَلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَقُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ مِنْ مَضَرَّةِ الْكَافِرِينَ، وَقُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ (16: 106) مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ الْعَارِضَةِ لَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْمُتَّبَعَةِ دَاالبئِمًا ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَيُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى التَّقِيَّةِ، وَمِنْ عَلَامَةِ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ أَلَّا يَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ - تَعَالَى -: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [5: 44] وَقَالَ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [3: 175] وَكَانَ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَمَّلُونَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ وَيَصْبِرُونَ. وَأَمَّا الْمُدَارَةُ فِيمَا لَا يَهْدِمُ حَقًّا وَلَا يَبْنِي بَاطِلًا فَهِيَ كَيَاسَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، يَقْتَضِيهَا أَدَبُ الْمُجَالَسَةِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَى حَدِّ النِّفَاقِ وَيُسْتَجَزْ فِيهَا الدِّهَانُ وَالِاخْتِلَاقُ، وَتَكُونُ مُؤَكَّدَةً فِي خِطَابِ السُّفَهَاءِ تَصَوُّنًا مِنْ سَفَهِهِمْ، وَاتِّقَاءً لِفُحْشِهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَهُ - فَقَالَ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ أَشَّرِ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُهُ النَّاسُ أَوْ يَدَعُهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " إِنَّا لَنُكْشِرُ فِي وُجُوهِ

قَوْمٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ " وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: " وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتُقْلِيهِمْ " أَيْ تُبْغِضُهُمْ. وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ إِلَانَةَ الْقَوْلِ أَوِ الْكَشْرَ فِي الْوُجُوهِ، أَيِ التَّبَسُّمَ هُمَا مِنْ أَدَبِ الْمَجْلِسِ يَنْبَغِي بَذْلُهُمَا لِكُلِّ جَلِيسٍ، وَلَا يُعَدَّانِ مِنَ النِّفَاقِ وَلَا مِنَ الدِّهَانِ، وَلَا يُنَافِيَانِ أَمْرَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِدَفْعِ إِيذَائِهِمْ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَبَيَانِ حَقِيقَتِهَا، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ أَدَبًا فِي مَجْلِسِهِ وَحَدِيثِهِ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ عِقَابَ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ النَّفْسَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوَعِيدَ صَادِرٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ كَلَامٌ آخَرُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ فَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ. قَالُوا: وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ يُشْعِرُ بِتَنَاهِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ فِي الْقُبْحِ. ثُمَّ قَالَ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمُرَادُ بِمَا فِي الصُّدُورِ: مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالْمَيْلِ لِلْكُفْرِ أَوِ الْكُرْهِ لَهُ وَالنُّفُورِ مِنْهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ آنِفًا: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [16: 106] إِلَخْ، أَيْ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُكُمْ وَمَا تَخْتَلِجُ بِهِ قُلُوبُكُمْ إِذْ تُوَالُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ تُوَادُّونَهُمْ وَإِذْ تَتَّقُونَ مِنْهُمْ مَا تَتَّقُونَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَيْلٍ إِلَى الْكُفْرِ جَازَاكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُطْمَئِنَّةً بِالْإِيمَانِ غَفَرَ لَكُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ عَلَى عَمَلٍ لَا جِنَايَةَ فِيهِ عَلَى دِينِكُمْ وَلَا إِيذَاءَ لِأَهْلِهِ، فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [67: 14] وَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ فِي النِّظَامِ الْعَامِّ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَحَدٌ وَلَا يُعْجِزَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: الْكَلَامُ تَتِمَّةٌ لِوَعِيدِ مَنْ يُوَالِي الْكَافِرِينَ نَاصِرًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا وَاحْذَرُوا أَوْ لِتَحْذَرُوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ عَمَلَهَا مِنَ الْخَيْرِ مَهْمَا قَلَّ مُحْضَرًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كَمَا فَعَلَ (الْجَلَالُ) . وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُحْضَرًا أَنَّ فَائِدَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ تَكُونُ حَاضِرَةً لَدَيْهِ، وَأَمَّا عَمَلُ السُّوءِ فَتَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ اقْتَرَفَتْهُ لَوْ بَعُدَ عَنْهَا وَلَمْ تَرَهُ وَتُؤْخَذْ بِجَزَائِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الشَّرِّ يَكُونُ مُحْضَرًا أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِحْضَارَهُ مُؤْذٍ لِصَاحِبِهِ يَوَدُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ ; أَيْ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ إِحْضَارَ عَمَلِ الْخَيْرِ يَكُونُ غِبْطَةً لِصَاحِبِهِ وَسُرُورًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ كَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ كُتُبِ الْأَعْمَالِ وَأَخْذِهَا بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ

30

التَّعْبِيرِ بِأَخْذِهَا بِالْيَمِينِ أَخْذُهَا بِالْقَبُولِ الْحَسَنِ، وَمِنْ أَخْذِهَا بِالشِّمَالِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الظَّهْرِ أَخْذِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالِامْتِعَاضِ. أَقُولُ: وَكَيْفَ لَا تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا فَتُسَرُّ الْمُحْسِنَةُ وَتَنْعَمُ بِمَا أَحْسَنَتْ، وَتَبْتَئِسُ الْمُسِيئَةُ وَتُغَمُّ بِمَا أَسَاءَتْ، وَتَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ مَرْسُومَةٌ فِي صَحَائِفِ هَذِهِ الْأَنْفُسِ وَهِيَ صِفَاتٌ لَهَا، وَعَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ صَدَرَتْ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ فَزَادَتِ الصِّفَاتُ رُسُوخًا وَالنُّقُوشُ فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا، حَتَّى ارْتَقَتْ بِالْمُحْسِنِ إِلَى عِلِّيِّينَ، حَيْثُ كِتَابُ الْأَبْرَارِ، وَهَبَطَتْ بِالْمُسِيءِ إِلَى سِجِّينَ، حَيْثُ كِتَابُ الْفُجَّارِ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ مِنْ وَرَائِكُمْ مُحِيطٌ، وَسُنَّتُهُ فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ وَجَعْلِ آثَارِ أَعْمَالِهَا مَصْدَرًا لِجَزَائِهَا حَاكِمَةً عَلَيْكُمْ، أَفَلَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ - وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ - أَنْ تَحْذَرُوهُ بِمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ بِتَرْجِيحِهِ عَلَى مَا يَعْرِضُ عَلَى الْفِطْرَةِ مِنْ تَزْيِينِ عَمَلِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - مِمَّا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْفِطْرَةَ سَلِيمَةً مَيَّالَةً بِطَبْعِهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَتَتَأَلَّمُ مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الشَّرِّ، وَأَنْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ أَنْوَاعًا مِنَ الْهِدَايَاتِ يَرْجَحُ بِهَا الْخَيْرُ عَلَى الشَّرِّ كَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ الْخَيْرِ مُضَاعَفًا، وَأَنْ جَعَلَ أَثَرَ الشَّرِّ فِي النَّفْسِ قَابِلًا لِلْمَحْوِ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ أَكْثَرَ التَّحْذِيرَ مِنْ عَاقِبَةِ السُّوءِ لِيَذْكُرَ الْإِنْسَانُ وَلَا يَنْسَى، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: دُخُولُ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَوْ أَنَّ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ الْأَصْلِ فِيهِ الْمَنْعَ وَتَأْوِيلَ مَا سُمِعَ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمَدِ فَقِيلَ: الْغَايَةُ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ، وَقِيلَ: الْمَكَانُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَمَدُ وَالْأَبَدُ يَتَقَارَبَانِ، لَكِنَّ الْأَبَدَ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلَا يَتَقَيَّدُ، لَا يُقَالُ: أَبَدَ كَذَا، وَالْأَمَدُ مُدَّةٌ لَهَا حَدٌّ مَجْهُولٌ إِذَا أُطْلِقَ وَقَدْ يَنْحَصِرُ نَحْوَ أَنْ يُقَالَ: أَمَدُ كَذَا كَمَا يُقَالُ: زَمَانُ كَذَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزَّمَانِ وَالْأَمَدِ أَنَّ الْأَمَدَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ، وَالزَّمَانُ عَامٌّ فِي الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَدَى وَالْأَمَدُ يَتَقَارَبَانِ. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ

31

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ فَإِنَّ مَا جِئْتُ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ مُبَيِّنٌ لِصِفَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَالْمُحِبُّ حَرِيصٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ; لِيَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ مَعَ اجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَيَكُونَ بِذَلِكَ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ - سُبْحَانَهُ - وَمُسْتَحِقًّا لِأَنْ يَغْفِرَ لَهُ ذُنُوبَهُ. قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ كَالْجَوَابِ لِقَوْمٍ ادَّعَوْا أَمَامَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رَبَّهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَلَوْ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ لِغَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ يَدَّعِي حُبَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لِيُخَاطِبَ بِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ الَّذِينَ ادَّعَوْا - كَمَا يَدَّعِي أَهْلُ مِلَّتِهِمْ - أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. نَعَمْ إِنَّ أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ إِذْ كَانَ وَفْدُ نَجْرَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ فِيهَا عَامٌّ وَحُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا قِيمَةُ الدَّعْوَى يُكَذِّبُهَا الْعَمَلُ، وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمَحْبُوبِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؟ تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ السَّابِقَةَ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ; لِأَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُمَا يَمْحُوَانِ مِنَ النَّفْسِ ظُلْمَةَ الْبَاطِلِ، وَيُزِيلَانِ مِنْهَا آثَارَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمَغْفِرَةِ، فَالْمَغْفِرَةُ أَثَرٌ فِطْرِيٌّ لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ تَرْكِ الذُّنُوبِ كَمَا أَنَّ الْعِقَابَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَعَلَ لِلْمَغْفِرَةِ سُنَّةً عَادِلَةً وَبَيَّنَهَا بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِعِبَادِهِ ; وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالِاتِّبَاعِ الَّذِي أَكَّدَ الْأَمْرَ بِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ الْحِرْمَانُ مِنْ حُبِّ اللهِ - تَعَالَى -، فَقَالَ: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالرَّسُولَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا وَلَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَكَ غُرُورًا مِنْهُمْ بِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُحِبُّونَ لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَصْرِفُهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي آيَاتِ اللهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ الَّذِي نَهَيْتُ عَنْهُ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي أَرْشَدْتُ إِلَيْهِ. هَؤُلَاءِ هُمُ الْكَافِرُونَ وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ وَاللهَ يُحِبُّهُمْ. هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا فِي فَهْمِ الْآيَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِيهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْءٌ. وَإِنَّ مِنَ الْبَاحِثِينَ مَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعْنَى حُبِّ اللهِ لِلنَّاسِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ. فَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بَعْضَ الْإِيضَاحِ: حُبُّ النَّاسِ لِلَّهِ يَجْهَلُهُ مَنْ يَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ الدِّيدَانُ وَالْبَهَائِمُ لَا يَشْغَلُهُ إِلَّا هَمُّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ، وَيَعْرِفُهُ الْحُكَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ، وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُهُ مِنْ فَهْمِ الْجَاهِلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْعِلْمِ وَتَشْوِيقُهُ إِلَيْهِ بِإِرْشَادِهِ إِلَى مُرَاجَعَةِ فِطْرَتِهِ، وَالْبَحْثِ فِي أَسْبَابِ حُبِّ النَّاسِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا حَيَوَانٌ آخَرُ. يَجِدُ كُلُّ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ مَيْلًا مِنْ نَفْسِهِ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُ فِطْرَتِهِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا.

فَالْأَنْعَامُ الَّتِي يَنْحَصِرُ اسْتِعْدَادُهَا فِيمَا بِهِ حِفْظُ وَجُودِهَا الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ لَا تَمِيلُ إِلَّا إِلَى الْغِذَاءِ لِحِفْظِ الْأَوَّلِ وَالنَّزَوَانِ لِحِفْظِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَهُ اسْتِعْدَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ وَمَيْلُهُ أَوْ حُبُّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا تَقِفُ الْأَمْرَاضُ الرُّوحِيَّةُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ أَوْ جَمْعِيَّاتِهِ عِنْدَ حُدُودٍ مُعَيَّنَةٍ لِفَسَادٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَمَرَضٍ فِي مِزَاجِ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا الِاسْتِعْدَادُ وَمَا يَتْبَعُهُ أَنْصَعُ الدَّلَائِلِ عِنْدَ الْعَالِمِينَ بِنِظَامِ الْأَكْوَانِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ وَأَنَّ لَهُ حَيَاةً أُخْرَى يَنَالُ بِهَا كُلَّ مَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنَ الْعِرْفَانِ، وَأَعْلَاهُ الْكَمَالُ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ. يُحِبُّ الْإِنْسَانُ جَمَالَ الطَّبِيعَةِ، وَيُطْرِبُهُ خَرِيرُ الْمِيَاهِ وَحَفِيفُ الرِّيَاحِ، وَتَغْرِيدُ الْأَطْيَارِ عَلَى أَفْنَانِ الْأَشْجَارِ، فَيَبْذُلَ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِإِنْشَاءِ الْحَدَائِقِ وَالْجَنَّاتِ وَاجْتِلَابِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ وَالنَّبَاتِ، يَعْشَقُ جَمَالَ الصَّنْعَةِ فَيُنْفِقُ الْقَنَاطِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ الْبَدِيعَةِ وَالنُّقُوشِ الدَّقِيقَةِ، يَهْوَى الْوُقُوفَ عَلَى مَجَاهِلِ الْأَرْضِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِينَ فَيَرْكَبُ الْأَخْطَارَ وَيَقْتَحِمُ الْبِحَارَ، وَيَسْمَحُ بِالْوَقْتِ وَالدِّينَارِ يَهِيمُ بِالرِّيَاسَةِ فَيَسْتَهِينُ لِأَجْلِهَا بِاللَّذَّاتِ وَيَزْدَرِي الشَّهَوَاتِ وَيُنَافِحُ فِي سَبِيلِهَا الْأَقْرَانَ، وَيُكَافِحُ فِي طَلَبِهَا السُّلْطَانَ، يَفْتَتِنُ بِحُبِّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ فَيَبْذُلُ حَيَاتَهُ لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ وَيَتَحَمَّسُ فِي التَّحَزُّبِ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، يُولَعُ بِكِبَارِ الْعُلَمَاءِ فَيَتَّخِذُهُمْ أَئِمَّةً مُتَّبَعِينَ وَإِنْ حُرِمَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يُؤَيِّدُهُ مِنْ دُونِهِمْ - يَهِيمُ بِالْمَعْقُولَاتِ السَّامِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ، فَيَحْتَقِرُ دُونَهَا الْمَالَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّيَاسَةَ وَالْإِمَارَةَ، وَيَنْزَوِي فِي كَسْرِ بَيْتِهِ يُعْمِلُ الْفِكْرَ، وَيُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُصْقِلُ الرُّوحَ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَنْ سَارَ سِيرَتَهُ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَأَنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَغْبُونُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [23: 53] أَلَا إِنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ أَعْلَى مِنْ كُلِّ ذَلِكَ ; فَهُوَ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ اكْتِشَافِ الْمَجْهُولَاتِ، وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمُجَالَدَةِ جَلِيدِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ. وَمُوَاثَبَةِ أُسُودِ أَفْرِيقِيَّةَ وَأَفَاعِي الْهِنْدِ، وَمُنَاصَبَةِ أَمْوَاجِ الْقَامُوسِ الْأَعْظَمِ، وَمُرَاقَبَةِ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي اللَّيَالِي اللَّيْلَاءِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنِ الْمَاضِي لِيَتَعَرَّفَ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَعْلَمَ الْغَايَةَ وَالْمَصِيرَ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَاسْتِعْدَادَهَا وَغَرَضَهَا مِنْ بَحْثِهَا وَاسْتِقْصَائِهَا، تَرَى هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يُحِبُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِمَعْرِفَةٍ لَا تَتَنَاهَى، قَدْ يَهِيمُ حُبًّا فِي بَعْضِهَا حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ سَائِرِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ مَوْضُوعُ حُبِّهِ أَعْلَى كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَرْقَى وَأَسْمَى، وَمُنْتَهَى الرُّقِيِّ وَالسُّمُوِّ أَنْ يُحِبَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَى الْجَمَالِ الْمُودَعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْإِبْدَاعُ الْإِلَهِيُّ وَالنِّظَامُ الرَّبَّانِيُّ فَلَا تَحْجُبُهُ الْمَبَانِي عَنِ الْمَعَانِي، وَلَا تَشْغَلُهُ الْأَشْبَاحُ عَنِ الْأَرْوَاحِ، فَيُلَاحِظُ فِي كُلِّ جَمِيلٍ أَحَبَّهُ مَنْشَأَ جَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ كَامِلٍ أَجَلَّهُ مَصْدَرَ كَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ بَدِيعٍ مَالَ إِلَيْهِ

33

عِلَّةَ إِبْدَاعِهِ، وَفِي كُلِّ مُخْتَرَعٍ أُعْجِبَ بِهِ الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي الْإِقْدَارِ عَلَى اخْتِرَاعِهِ: إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا ... وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ فَهَذَا هُوَ حُبُّ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ; حُبُّهُ فِي كُلِّ مَحْبُوبٍ لِمُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ فِي كُلِّ جَمِيلٍ، وَرُؤْيَةِ إِبْدَاعِهِ فِي كُلِّ بَدِيعٍ، وَمَعْرِفَةِ كَمَالِهِ فِي كُلِّ كَامِلٍ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [32: 7] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [57: 3] وَأَمَّا حُبُّهُ - تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ - لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَتَّبِعُونَ رَسُولَهُ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ حُبِّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَهُوَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ الْإِلَهِيَّةِ فِي عِبَادِهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ، وَعَرَفَ وَصْلَ الْحَبِيبِ وَفِرَاقَهُ، وَصَارَ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَتِهِ، وَمَجْلًى مِنْ مَجَالِي إِبْدَاعِهِ، وَمَصْدَرًا مِنْ مَصَادِرِ الْخَيْرِ فِي عِبَادِهِ، وَرُوحًا مِنْ أَرْوَاحِ النِّظَامِ فِي خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللهِ، وَتَحَقَّقَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ - جَلَّ عُلَاهُ -، حَتَّى صَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْ خُلَفَاءِ اللهِ، كَمَا أَرْشَدَهُ كِتَابُ اللهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْإِفْصَاحُ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ لَا بِالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَذُوقُهُ مَنْ أَحَبَّ اللهَ، وَعَرَفَ كَيْفَ يُعَامِلُ مَنْ أَحَبَّهُ وَاصْطَفَاهُ، فَاعْمَلْ لِذَلِكَ لِتَعْرِفَ مَا هُنَالِكَ. تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ ... وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ مُسْتَوْجِبُ الْقُرْبِ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

أَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ مَنُوطَةٌ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَى حُبِّهِ لِلَّهِ، وَجَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مِنْهُ - جَلَّ عُلَاهُ -، أَتْبَعَ ذَلِكَ ذِكْرَ مَنْ أَحَبَّهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ الَّذِينَ يُبَيِّنُونَ طَرِيقَ مَحَبَّتِهِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِهِ مَعَ طَاعَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيِ اخْتَارَهُمْ وَجَعَلَهُمْ صَفْوَةَ الْعَالَمِينَ وَخِيَارَهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فِيهِمْ، فَآدَمُ أَوَّلُ الْبَشَرِ ارْتِقَاءً إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَمَا تَنَقَّلَ فِي الْأَطْوَارِ إِلَى مَرْتَبَةِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ اصْطَفَاهُ - تَعَالَى - وَاجْتَبَاهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20: 122] فَكَانَ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّتِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مَنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -، وَأَمَّا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ حَدَثَ عَلَى عَهْدِهِ ذَلِكَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ فَانْقَرَضَ مِنَ السَّلَائِلِ الْبَشَرِيَّةِ مَنِ انْقَرَضَ وَنَجَا هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْفُلْكِ، فَكَانَ بِذَلِكَ أَبًا ثَانِيًا لِلْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ هُوَ نَبِيًّا مُرْسَلًا وَجَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَانْتَشَرَتْ وَفَشَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا مُرْسَلًا وَخَلِيلًا مُصْطَفًى، وَتَتَابَعَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ آلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ أَرْفَعُهُمْ قَدْرًا وَأَنْبَهُهُمْ ذِكْرًا آلُ عِمْرَانَ قَبْلَ أَنْ تُخْتَمَ النُّبُوَّةُ بِوَلَدِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قِيلَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ مِنْ مَادَّةِ ذَرَأَ الْمَهْمُوزَةِ ; أَيْ خَلَقَ، كَمَا أَنَّ الْبَرِيَّةَ مِنْ مَادَّةِ بَرَأَ، وَقِيلَ: مِنْ مَادَّةِ ذَرَوَ، فَأَصْلُهَا ذُرْوِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الذَّرِّ وَأَصْلُهَا فُعْلِيَّةٌ كَقُمْرِيَّةٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالذُّرِّيَّةُ أَصْلُهَا الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَأَصْلُهُ الْجَمْعُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ الذُّرِّيَّةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ خِلَافًا لِعُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْمَشْهُورُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ الْأَوْلَادُ فَقَطْ، فَقَوْلُهُ: بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ظَاهِرٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيُخَصُّ عَلَى الثَّانِي بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ اصْطِفَائِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [9: 67] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ. أَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُشْبِهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [6: 84 - 87] وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ سَمِيعًا لِقَوْلِ امْرَأَةِ

36

عِمْرَانَ، عَلِيمًا بِنِيَّتِهَا فِي وَقْتِ مُنَاجَاتِهَا إِيَّاهُ - وَهِيَ حَامِلٌ - بِنَذْرِ مَا فِي بَطْنِهَا لَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُحَرَّرًا، أَيْ مُعْتَقًا مِنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ لِعِبَادَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ، أَوْ مُخْلَصًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَالْخِدْمَةِ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَثَنَائِهَا عَلَيْهِ - تَعَالَى - عِنْدَ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ بِأَنَّهُ السَّمِيعُ لِلدُّعَاءِ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي أَنْفُسِ الدَّاعِينَ وَالدَّاعِيَاتِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَرَدَ ذِكْرُ عِمْرَانَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّتَيْنِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُرُودِهِمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَبُو مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَالثَّانِي أَبُو مَرْيَمَ (عَلَيْهَا الرِّضْوَانُ) وَبَيْنَهُمَا نَحْوُ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَذِكْرُ تَفْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْيَهُودِ. وَقَالَ: وَالْمَسِيحِيُّونَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَبَا مَرْيَمَ يُدْعَى عِمْرَانَ وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ حَقِيقَةٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ سَنَدٌ لِنَسَبِ الْمَسِيحِ يُحْتَجُّ بِهِ، فَهُوَ كَسِلْسِلَةِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِعَلِيٍّ أَوْ بِالصِّدِّيقِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ نَسَبَ الْمَسِيحِ فِي إِنْجِيلَيْ مَتَّى وَلُوقَا مُخْتَلٌّ، وَلَوْ كُتِبَ عَنْ عِلْمٍ لَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى قَالُوا: إِنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ، بَلِ التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ وَالِاعْتِذَارُ. فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهَا نَذَرَتْ تَحْرِيرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللهِ وَالِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ فِيهِ، وَالْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ عَادَةً لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ أَيْ بِمَكَانَةِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّكُورِ ; فَفِيهِ دَفْعٌ لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهَا مِنْ خِسَّةِ الْمَوْلُودَةِ وَانْحِطَاطِهَا عَنْ مَرْتَبَةِ الذُّكُورِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ أَوْ تَمَنَّتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ، بَلْ هَذِهِ الْأُنْثَى خَيْرٌ مِمَّا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الذَّكَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ (وَضَعْتُ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْغَيْرِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ، فَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَعْتَصِمُ بِهِ مِنْهُ، وَأَعَاذَهُ بِهِ مِنْهُ جَعَلَهُ مُعَاذًا لَهُ يَمْنَعُهُ وَيَعْصِمُهُ مِنْهُ، وَالْإِعَاذَةُ بِاللهِ تَكُونُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ، وَالرَّجِيمُ: الْمَطْرُودُ عَنِ الْخَيْرِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّفْظُ هُنَا لْمُسْلِمٍ كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا وَفَسَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَسَّ هُنَا: بِالطَّمَعِ فِي الْإِغْوَاءِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ. وَلَعَلَّ الْبَيْضَاوِيَّ يَرْمِي إِلَى ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَدِيثُ شَقِّ الصَّدْرِ وَغَسْلِ الْقَلْبِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي التَّمْثِيلِ، وَلَعَلَّ

مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ مِنْ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بِالْوَسْوَسَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْطَانِهِ: إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حَدِيثَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَنَحْوَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [15: 42] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفْوَةُ عِبَادِهِ وَخَاتَمُ رُسُلِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَنْفِي سُلْطَةَ الشَّيْطَانِ عَنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ آنٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ تَنْفِي السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَا أَصْلَ الْوَسْوَسَةِ، فَإِذَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ وَلَمْ تُطَعْ وَسْوَسَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ وَلَا إِلَى الْأَمْرِ بِالشَّرِّ قَطُّ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُلْيَا لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ عِبَادِ اللهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِسْلَامُ شَيْطَانِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ مَا، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ وَطَمَعٌ، فَزَالَ وَغَلَبَهُ نُورُ النُّبُوَّةِ حَتَّى يَئِسَ وَزَالَ حَظُّهُ فَلَمْ يَعُدْ يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ أَوْ أَسْلَمَ كَمَا وَرَدَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ حَدِيثَ مَرْيَمَ وَعِيسَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مُمْتَازَيْنِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يَطْمَعُ فِيهِ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيهِمَا، وَهَذَا مَا يُشَاغِبُ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَفْضِيلِ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْبَشَرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ كِتَابَ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا مَا نَصُّهُ: " [1] أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الْأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَكَانَ يَقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ [2] أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ، وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا [3] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ لِهَذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا [4] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ قَائِلًا مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ [5] ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ [6] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لِأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ [7] فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ [8] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ وَقَالَ اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ [9] ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورْشَلِيمَ وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكْ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ [10] لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ [11] وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لَا تُصْدَمَ بِحَجْرٍ رِجْلُكَ [12] فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ قِيلَ لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ [13] وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ ". اهـ. فَهَذَا صَرِيحٌ كَانَ يُوَسْوِسُ لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى يَحْمِلَهُ وَيَأْخُذَهُ

37

مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَقُصَارَى الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَمِنَ امْتِحَانِ الرَّبِّ إِلَهِهِ (أَيْ إِلَهِ الْمَسِيحِ) وَقَوْلُهُ: (لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ) يُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ آخِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ (6: 16) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ) وَقَوْلُهُ: (لِلرَّبِ إِلَهَكَ تَسْجُدُ) إِلَخْ. وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِلتَّوْرَاةِ. هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَيْرُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَرْيَمَ وَعِيسَى مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَمْسَسْهُمَا وَحَدِيثِ إِسْلَامِ شَيْطَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيثِ إِزَالَةِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنَ الْأَخْبَارِ الظَّنِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَالَمَ الْغَيْبِ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ مِنْ قِسْمِ الْعَقَائِدِ، وَهِيَ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا بِالظَّنِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [53: 28] كُنَّا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ الْإِيمَانَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي عَقَائِدِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ فِيهَا بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ لِمَنْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فَلَا نَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ حَظِّهِ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ حَقٌّ وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةٍ لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي وَحْدَهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مِنَ الْمَزَايَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، فَلَيْسَتْ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُمَا بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخِلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ يَعْلُو كَوْنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَمَسَّهُمَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ; عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ - تَعَالَى - تَقَبَّلَ مِنْ أُمِّهَا إِعَاذَتَهَا وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذِهِ الْإِعَاذَةُ قَدْ كَانَتْ بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُنْثَى، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَسَّ يَكُونُ عِنْدَ الْوَضْعِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِمَا. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ تَقَبَّلَ مَرْيَمَ مِنْ أُمِّهَا وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّرَةً لِلِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (قَبْلِهَا) وَزَادَهُ مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا وَصْفُهُ بِالْحُسْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَبِلَهَا رَبُّهَا أَبْلَغَ قَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أَيْ رَبَّاهَا وَنَمَّاهَا فِي خَيْرِهِ وَرِزْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ تَرْبِيَةً حَسَنَةً شَامِلَةً لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَمَا تُرَبَّى الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ حَتَّى تَنْمُوَ وَتُثْمِرَ الثَّمَرَةَ الصَّالِحَةَ لَا يُفْسِدُ طَبِيعَتَهَا شَيْءٌ ; وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ التَّرْبِيَةِ بِالْإِنْبَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا شَائِبَةَ فِيهَا، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْقَبُولَ مَصْدَرُ " قَبِلَ " لَا " تَقَبَّلَ " وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ لِـ " نَبَتَ " لَا لِـ " أَنْبَتَ " وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُخْرِجُ الْمَصْدَرَ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالشَّوَاهِدُ

عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) شَدَّدَ الْكُوفِيُّونَ مِنَ الْقُرَّاءِ الْفَاءَ، وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأُولَى وَجَعَلَ زَكَرِيَّا كَافِلًا لَهَا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ ظَاهِرٌ، وَقَرَءُوا (زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْمُصَلَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مُقَدَّمِ الْمَجْلِسِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى مِحْرَابًا إِلَّا إِذَا كَانَ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالسَّلَالِيمِ. وَأَقُولُ: الْمِحْرَابُ هُنَا هُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْمَذْبَحِ، وَهُوَ مَقْصُورَةٌ فِي مُقَدَّمِ الْمَعْبَدِ لَهَا بَابٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِسُلَّمٍ ذِي دَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ وَيَكُونُ مَنْ فِيهِ مَحْجُوبًا عَمَّنْ فِي الْمَعْبَدِ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالُوا: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَاللهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَا قَالَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا هُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ تَارِيخٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مُتَعَارِضَةٌ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَا فِيهَا، وَمِمَّا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا وَإِنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى حَمْلِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى نَجَّارٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ يَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا فَيُنَمِّيهِ اللهُ وَيُكَثِّرُهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَجِدَ عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ أَيْ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ الْأَيَّامُ أَيَّامُ قَحْطٍ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَازِقِ النَّاسِ بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا تَوَقُّعٍ مِنَ الْمَرْزُوقِ، أَوْ رِزْقًا وَاسِعًا (رَاجِعْ آيَةَ 27) وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِسْنَادُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ إِلَى اللهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مَعْهُودٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ سَائِغًا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى عَنَاءٍ وَلَا ذَهَابٍ فِي الدِّفَاعِ عَنْ شَيْءٍ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَخْرُجَ عَنْ سُنَّتِهِ وَلَا نُضِيفَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ إِسْرَائِيلِيَّةً أَوْ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لِجَعْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ مَا هُوَ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ فُضُولٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَلَا لِمَزِيدِ الْعِبْرَةِ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ فِي بَيَانِهِ خَيْرًا لَنَا لَبَيَّنَهُ. أَمَّا مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَبْحَثَ فِيهِ، وَنَسْتَخْرِجَ الْعِبَرَ مِنْ قَوَادِمِهِ وَخَوَافِيهِ، فَهُوَ تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَحْضُ شُبَهِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ احْتَكَرُوا فَضْلَ اللهِ وَجَعَلُوهُ خَاصًّا بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَشُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ بَشَرٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ هُوَ تَقْرِيرُ عَقِيدَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَهَمُّ مَسَائِلِهَا مَسْأَلَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالْأَنْبِيَاءِ.

وَقَدِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ التَّوْحِيدِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، ثُمَّ كَانَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ قُبَيْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ الْبَعْثِ بِالتَّفْصِيلِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَاتِ وَالْأَوْهَامِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَادِّعَاءَ حُبِّهِ وَرَجَاءَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ فِيهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي تُزِيلُ شُبَهَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِسَالَتِهِ وَتَرُدُّهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ. رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ بِجَعْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَتَمْكِينِهِ هُوَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ تَسْخِيرِهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ نُوحٍ وَجَعْلِهِ أَبَا الْبَشَرِ الثَّانِي وَجَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ هُمُ الْبَاقِينَ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ عَلَى الْبَشَرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُونَ يَفْخَرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يَفْخَرُ الْآخَرُونَ بِاصْطِفَاءِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَفِيدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُرْشِدُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ مَزِيَّةٍ سَبَقَتْ مِنْهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَهُ فِي اصْطِفَاءِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِذَلِكَ اصْطَفَى هَؤُلَاءِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، فَمَا الْمَانِعُ بِهِ مِنَ اصْطِفَاءِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْعَالَمِينَ كَمَا اصْطَفَى أُولَئِكَ؟ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ أَنْ بَعَثَ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ وُجُودِهِمْ. قُلْنَا وَلِمَ اصْطَفَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ؟ بَلَى وَبِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ اصْطَفَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ الْمُثُلُ مَسْبُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَصْطَفِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ شَاءَ اصْطَفَاهُ فَاصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ ; إِذْ جَعَلَهُ هَادِيًا لِلنَّاسِ مُخْرِجًا لَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ وَالْفَسَادِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ الْجَامِعِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ أَثَرُ غَيْرِهِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَظْهَرَ مِنْ أَثَرِهِ، بَلْ أَثَرُهُ أَظْهَرُ وَنُورُهُ أَسْطَعُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ مُصْطَفًى - وَهَذَا بَيَانٌ لِوَجْهِ اتِّصَالِ الْقِصَّةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَمِنْ هَذِهِ الْمُثُلِ قِصَّةُ مَرْيَمَ فَإِنَّ أُمَّهَا إِذَا كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ وَهِيَ عَاقِرٌ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ كَمَا نُقِلَ، أَوْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ قَبُولُ الْأُنْثَى مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَقَبَّلَهُ اللهُ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللهُ مُحَمَّدًا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْآتِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ أَعْمَالَهُ - تَعَالَى - لَا تَأْتِي دَائِمًا عَلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ وَيَأْلَفُونَ.

38

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عِنْدَمَا رَأَى زَكَرِيَّا حُسْنَ حَالِ مَرْيَمَ وَمَعْرِفَتَهَا وَإِضَافَتَهَا الْأَشْيَاءَ إِلَيْهِ دَعَا رَبَّهُ مُتَمَنِّيًا لَوْ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ مِثْلُهَا هِبَةً مِنْ لَدُنْهُ - تَعَالَى - وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ (وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَدُنْ وَلَدَى) وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ (هُنَالِكَ) بِالزَّمَانِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ فِيهَا أَنَّهَا لِلْمَكَانِ ; أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي خَاطَبَتْهُ فِيهِ مَرْيَمُ بِمَا ذَكَرَ، دَعَا رَبَّهُ، وَرُؤْيَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ تُشَوِّقُ نَفْسَ الْقَارِئِ وَتُهَيِّجُ تَمَنِّيهِ لَوْ يَكُونُ لَهُ مِثْلُهُمْ، وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ الَّذِي بَعَثَ زَكَرِيَّا إِلَى الدُّعَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ فَاكِهَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَعَكْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قُبَيْلَ مَجِيءِ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ زَكَرِيَّا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِإِمْكَانِ الْخَوَارِقِ وَلَا يَقُولُ بِهَذَا مُؤْمِنٌ بِنُبُوَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَعَجُّبَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ قَدْ يُشْعِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ امْتِنَاعَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْخَوَارِقِ هِيَ الَّتِي أَثَارَتْ فِي نَفْسِهِ هَذَا الدُّعَاءَ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ وَهَذَا التَّعَجُّبِ مِنَ اسْتِجَابَتِهِ أَحْسَنَ قَوْلٍ. وَهَاكَهُ بِالْمَعْنَى مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ: إِنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأَى مَا رَآهُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى مَرْيَمَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهَا وَحُسْنِ حَالِهَا وَلَا سِيَّمَا اخْتِرَاقُ شُعَاعِ بَصِيرَتِهَا لِحُجُبِ الْأَسْبَابِ، وَرُؤْيَتُهَا أَنَّ الْمُسَخِّرَ لَهَا هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَخَذَ عَنْ نَفْسِهِ، وَغَابَ عَنْ حِسِّهِ، وَانْصَرَفَ عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، وَاسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ. فَنَطَقَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الدُّعَاءُ جَدِيرًا بِأَنْ يُسْتَجَابَ إِذَا جَرَى بِهِ اللِّسَانُ بِتَلْقِينِ الْقَلْبِ فِي حَالِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي الشُّعُورِ بِكَمَالِ الرَّبِّ، وَلَمَّا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ فِي عَالَمِ الْوَحْدَةِ إِلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ

39

وَمَقَامِ التَّفْرِقَةِ، وَقَدْ أُوذِنَ بِسَمَاعِ نِدَائِهِ، وَاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ، سَأَلَ رَبَّهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ - وَهِيَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْكَوْنِيَّةِ - فَأَجَابَهُ بِمَا أَجَابَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ (فَنَادَتْهُ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أَيْ جَمَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْعَرَبُ تُؤَنِّثُ وَتُذَكِّرُ الْمُسْنَدَ إِلَى جَمْعِ الذُّكُورِ الظَّاهِرِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ تَاءٌ كَالطَّلْحَاتِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ يَتَّفِقُ مَعَ الْقِرَاءَتَيْنِ، لِأَنَّهُ رُسِمَ فِيهِ بِالْيَاءِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ هَكَذَا " فَنَادَهُ " وَمِنْ سُنَّتِهِ رَسْمُ الْأَلِفِ الْمُمَالَةِ يَاءً لِأَنَّهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ مَلَكُ الْوَحْيِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تُخْبِرُ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ يُقَالُ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى بِغَالِ الْبَرِيدِ، وَإِنَّمَا رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَرَكِبَ السُّفُنَ وَإِنَّمَا رَكِبَ سَفِينَةً وَاحِدَةً، وَكَمَا يُقَالُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْخَبَرَ؟ فَيُقَالُ: مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [3: 173] وَالْقَائِلُ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ فَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَادَتْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا جَمَاعَةٌ دُونَ الْوَاحِدِ وَجِبْرِيلُ وَاحِدٌ. فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يُحْمَلَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَلْسُنِ الْعَرَبِ دُونَ الْأَقَلِّ مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَلَمْ تَضْطَرُّنَا حَاجَةٌ إِلَى صَرْفِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُحْتَاجُ لَهُ إِلَى طَلَبِ الْمَخْرَجِ بِالْخَفِيِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي، وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ. اهـ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ عِنْدِي أَنَّهُ نُودِيَ وَهُوَ قَائِمٌ يَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِأَطْوَلَ مِمَّا هُنَا، فَالصَّلَاةُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ صَلَاةٌ، وَقَدْ عَطَفَ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ وَحِكَايَةُ مَا قَبْلَهُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الدُّعَاءِ وَقَعَ فِي الْمِحْرَابِ الَّذِي كَانَتْ مَرْيَمُ فِيهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَهُمْ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَيُّ دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ وَلَا دُعَاءَ؟ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى أَيْ بِوَلَدٍ اسْمُهُ يَحْيَى كَمَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى [19: 7] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " إِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ، أَيْ نَادَتْهُ بِأَنَّ اللهَ يُبَشِّرُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْبِشَارَةَ مَحْكِيَّةٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَمَا هُنَا لَا يُنَافِي مَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ مِنَ التَّفْصِيلِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُبْشُرُكَ) كَـ " يَنْصُرُكَ " وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَ " يَحْيَى " تَعْرِيبٌ لِكَلِمَةِ " يُوحَنَّا " فِي لُغَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ، فَالِاسْمُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً بِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِوَالِدِهِ وَمِنْ آلِ يَعْقُوبَ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْفَضْلِ، وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - هَذَا الْمُبَشَّرَ بِهِ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ وَرَدَتْ حَالًا مِنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ:

مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أَمَّا تَصْدِيقُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ فَهُوَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ بِهِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أَوِ الَّذِي يُولَدُ بِكَلِمَةِ اللهِ كُنْ فَيَكُونُ [36: 82] أَيْ بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي تَوَالُدِ الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنْ يُولَدَ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبٍ وَأُمٍّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ هُنَا الْكِتَابُ أَوِ الْوَحْيُ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السَّيِّدُ: فَهُوَ مَنْ يَسُودُ فِي قَوْمِهِ بِالْعِلْمِ أَوِ الْكَرَمِ أَوِ الصَّلَاحِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ. وَالْحَصُورُ وَصْفُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْحَصْرِ، وَمَعْنَاهَا: الْحَبْسُ، فَهُوَ مَنْ يَحْبِسُ نَفْسَهُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّا يُنَافِي الْفَضْلَ وَالْكَمَالَ اللَّائِقَ بِهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَتُومِ لِلْأَسْرَارِ وَعَلَى مَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْعِنَّةِ أَوْ لِلْعِفَّةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا ; وَلِذَلِكَ بَحَثُوا فِي كَوْنِ تَرْكِ التَّزَوُّجِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الرَّازِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ أَفْضَلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرَةً فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّزَوُّجِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ يَحْيَى بِأَفْضَلَ مِنْ أَبِيهِ وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَسُنَّةُ النِّكَاحِ أَفْضَلُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ لِأَنَّهَا قِوَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَسَبَبُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ اللهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَبِيًّا مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّالِحِينَ أَوْ مِنَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالُوا: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّعَجُّبِ، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَلِبَعْضِهِمْ كَلَامٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَلَا يَمْنَعُ مَانِعٌ مَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ تَشَوُّفًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْتَاجُ مَعَ عَدَمِ تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لَهُ بِكِبَرِ سِنِّهِ وَعُقْرِ زَوْجِهِ (قَالَ) - تَعَالَى - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَإِنَّهُ مَتَى شَاءَ أَمْرًا أَوْجَدَ لَهُ سَبَبَهُ، أَوْ خَلَقَهُ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَحُولُ دُونَ مَشِيئَتِهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تَتَقَدَّمُ هَذِهِ الْعِنَايَةَ وَتُؤْذِنُ بِهَا، وَمِنْ سَخَافَاتِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ الَّتِي أَوْمَأْنَا إِلَيْهَا آنِفًا زَعْمُهُمْ أَنَّ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَحَيُّ الْمَلَائِكَةِ وَنِدَاؤُهُمْ بِوَحْيِ الشَّيَاطِينِ ; وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُؤَالَ التَّعَجُّبِ، ثُمَّ طَلَبَ آيَةً لِلتَّثَبُّتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي شَكَّكَهُ فِي نِدَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَوْلَا الْجُنُونُ بِالرِّوَايَاتِ مَهْمَا هَزُلَتْ وَسَمُجَتْ لَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَ هَذَا الْهُزْءِ وَالسُّخْفِ الَّذِي يَنْبِذُهُ الْعَقْلُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَرْوِي مِثْلَ هَذَا إِلَّا هَذَا لَكَفَى فِي جَرْحِهِ، وَأَنْ يُضْرَبَ بِرِوَايَتِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَعَفَا اللهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ إِذْ جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِمَّا يُنْشَرُ. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ تَعْجِزَ

41

عَنْ خِطَابِ النَّاسِ بِحَصْرٍ يَعْتَرِي لِسَانَكَ إِذَا أَرَدْتَهُ، وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَكُونُ بِغَيْرِ الْمُعْتَادِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ مُخْتَارًا لِتَفْرُغَ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ رِوَايَاتٌ سَقِيمَةٌ فِيهِ، مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عُقُوبَةٌ عَاقَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا أَنْ طَلَبَ الْآيَةَ بَعْدَ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِسَانَهُ رَبَا فِي فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، وَمِثْلُ هَذَا السَّخَفِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا لِأَجْلِ رَدِّهِ عَلَى قَائِلِهِ وَضَرْبِ وَجْهِهِ بِهِ. وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِزَكَرِيَّا " ((1: 20)) وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ هَذَا لِأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلَامِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ " وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّوَابُ أَنَّ زَكَرِيَّا أَحَبَّ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَدَيْهِ الزَّمَنُ الَّذِي يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الْمِنْحَةَ الْإِلَهِيَّةَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَيُبَشِّرَ أَهْلَهُ. فَسَأَلَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَلَمَّا أُجِيبَ بِهِ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِعِبَادَةٍ يَتَعَجَّلُ بِهَا شُكْرَهُ وَيَكُونُ إِتْمَامُهُ إِيَّاهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ. فَأُمِرَ بِأَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، بَلْ يَنْقَطِعُ لِلذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ مَسَاءً صَبَاحًا مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامً، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى خِطَابِ النَّاسِ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ بِشَارَتُهُ لِأَهْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ اللَّيَالِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّمْزِ هَلْ كَانَ بِالْقَوْلِ الْخَفِيِّ وَتَحَرِّيكِ الشَّفَتَيْنِ أَمْ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْضَاءِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ؟ لِأَنَّ الرَّمْزَ وَالْإِيمَاءَ يَكُونُ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَقِيلَ: مِنَ الْغُرُوبِ إِلَى ذَهَابِ صَدْرٍ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْإِبْكَارُ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الضُّحَى. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ بِشَرْعٍ خُصَّتْ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْهَامٌ بِمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ رُبَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّكْرِ بِدَوَامِ الْقُنُوتِ وَالصَّلَاةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ اجْتَهَدَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَرَامَتِهِ وَتَبَاعَدَ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا يُنْقِصُ مِنْهَا، فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَدْ زَادَهَا - بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ - تَعَلُّقًا بِالْكَمَالِ كَمَا زَادَهَا رُوحَانِيَّةً بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَمَدَّتْ رُوحَهَا الطَّاهِرَةَ، وَالِاصْطِفَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ قَبُولُهَا مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ اللهِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالرِّجَالِ، وَالتَّطْهِيرُ قَدْ فُسِّرَ بِعَدَمِ الْحَيْضِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ أَهْلًا لِمُلَازَمَةِ الْمِحْرَابِ وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي الْمَعْبَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ مَا كَانَتْ تَحِيضُ وَأَنَّهَا لِذَلِكَ لُقِّبَتْ بِالزَّهْرَاءِ. وَقَالَ الْجَلَالُ: إِنَّهُ التَّطْهِيرُ مِنْ مَسِيسِ

42

الرِّجَالِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَمْلَهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أَيْ طَهَّرَكِ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ كَسَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ وَذَمِيمِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالِاصْطِفَاءُ الثَّانِي مَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَالِ الْهِدَايَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ جَعْلُهَا تَلِدُ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهَا رَجُلٌ، فَهُوَ عَلَى هَذَا اصْطِفَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ. وَبَحَثُوا هُنَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ عَالَمُو زَمَانِهَا - كَمَا يُقَالُ أَرِسْطُو أَعْظَمُ الْفَلَاسِفَةِ وَيُفْهَمُ مِنْهُ فَلَاسِفَةُ زَمَانِهِ أَوْ أُمَّتِهِ - أَمْ جَمِيعُ الْعَالَمِينَ. وَفِي الْأَحَادِيثِ إِنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ -. يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أَيِ الْزَمِي طَاعَتَهُ مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ السُّجُودُ: التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ. وَالرُّكُوعُ: الِانْحِنَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ فِي الْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَرُكُوعُهَا مَعَ الرَّاكِعِينَ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاتِهَا مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَعْبَدِ وَقَدْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمِحْرَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أُطْلِقَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي صَلَاتِنَا عَلَى الْعَمَلِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذِ الدِّينُ يُطَالِبُنَا بِالْخُشُوعِ وَاسْتِشْعَارِ التَّوَاضُعِ فِي هَذَا الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَامُنِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْيَهُودِ كَصَلَاتِنَا فِي أَعْمَالِهَا وَصُورَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ طُولِبُوا فِيهَا بِمِثْلِ مَا طُولِبْنَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلَّهِ - تَعَالَى -. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ لَمْ تَشْهَدْهُ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا نَحْنُ نُوحِيهِ إِلَيْكَ بِإِنْزَالِ الرُّوحِ الْأَمِينِ الَّذِي خَاطَبَ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا بِمَا خَاطَبَهُمَا بِهِ عَلَى قَلْبِكَ، وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِكَ خَبَرَ مَا وَقَعَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَضَمِيرُ نُوحِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْغَيْبِ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيْ قِدَاحَهُمُ الْمَبْرِيَّةَ، فَالسِّهَامُ وَالْأَزْلَامُ الَّتِي يَضْرِبُونَ بِهَا الْقُرْعَةَ وَيُقَامِرُونَ تُسَمَّى أَقْلَامًا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أَيْ يَسْتَهِمُونَ بِهَذِهِ الْأَقْلَامِ وَيَقْتَرِعُونَ عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ، حَتَّى قَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَانَ كَافِلَهَا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى كَفَالَتِهَا إِلَّا بَعْدَ الْقُرْعَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعْقَبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخَّرَ خَبَرَ إِلْقَاءِ الْأَقْلَامِ لِكَفَالَةِ مَرْيَمَ وَذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ نَفْيِ حُضُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مَجْلِسَ الْقَوْمِ وَشُهُودِ مَا جَرَى مِنْهُمْ، وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْعِنَايَةِ مِنْ نُكْتَةٍ، وَقَدْ قَالُوا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ كَوْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْ أَخْبَارَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَرْوِهَا سَمَاعًا عَنْ أَحَدٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ بِهَا إِلَّا مُشَاهَدَتُهَا، فَنَفَاهَا تَهَكُّمًا بِهِمْ، وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ لِمَعْرِفَتِهَا إِلَّا وَحْيُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَيْهِ بِهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ مَنْقُوضٌ وَإِنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16: 103] وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [25: 5] قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي النَّصِّ عَلَى نَفْيِ حُضُورِ النَّبِيِّ الْقَوْمَ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ - أَيْ بَعْدَ النَّصِّ عَلَى كَوْنِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ - هِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَكُونُ لِلْمُنْكِرِينَ شُبْهَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا عَنْهُمْ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آخِرِ قِصَّةِ يُوسُفَ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [12: 102] وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمُجَاحِدِينَ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَهَذِهِ الدَّعْوَى قَدَّرَهَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16: 103] وَرَدَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا إِذْ رَأَوْهُ يَقِفُ عَلَى قَيْنِ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ الْقَيْنُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَأَنَّى لِلْقَيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ فَالْقُرْآنُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ ; إِذِ الْأُمِّيُّ النَّاشِئُ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى أَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ مِنْ حَدَّادٍ وَلَا مِنْ عَالِمٍ كَحَبْرٍ أَوْ رَاهِبٍ بِمُجَرَّدِ وُقُوفِهِ عَلَيْهِ أَوِ اجْتِمَاعِهِ بِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ عَقْلًا لَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ أَنْ يَثِقَ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْقَيْنِ - أَوْ غَيْرِ الْقَيْنِ - وَبِأَمَانَتِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَسُمُوِّ إِدْرَاكِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ إِتْيَانَهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُؤَكِّدُ دَفْعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ، وَيُدَعِّمُ ذَلِكَ الْأَصْلَ الرَّاسِخَ وَهُوَ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ ; كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [11: 49] وَقَدْ سَمِعَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَائِرَ سُورَتِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَلْ كُنَّا نَعْلَمُهَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [28: 44] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. أَمَّا الْمُجَاحِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا سِيَّمَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنُ بِهِ كُتُبَهُمْ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهَا بِدَلِيلِ مُوَافَقَتِهِ لَهَا، وَفِيمَا خَالَفَهَا إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَالَفَهَا، وَفِيمَا لَمْ يُوَافِقْهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا بِهِ إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَنَا، وَهَذَا مُنْتَهَى مَا يُكَابِرُ بِهِ مُنَاظِرٌ مُنَاظِرًا، وَأَبْطَلُ مَا يَرُدُّ بِهِ خَصْمٌ عَلَى خَصْمٍ. وَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا نَحْتَجُّ عَلَى أَنَّ

45

مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ الْحَقُّ بِمَا قَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ حِفْظِ كِتَابِهِ، وَنَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ، وَمِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ مَعْرِفَةُ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا - كَمَا تَقَدَّمَ - فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَفْسِهَا، وَمَا جَاءَ فِيهَا مُخَالِفًا لِمَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ نُعِدُّهُ مُصَحِّحًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ بِانْقِطَاعِ أَسَانِيدِهَا حَتَّى أَنَّ أَعْظَمَهَا وَأَشْهَرَهَا كَالْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُعْرَفُ كَاتِبُهَا وَلَا زَمَنَ كِتَابَتِهَا وَلَا اللُّغَةَ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا أَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ شُرُوعٌ فِي خَبَرِ عِيسَى بَعْدَ قِصَّةِ أُمِّهِ وَقِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ نَاطِقٌ بِحِكْمَةِ نُزُولِ الْآيَاتِ، مُبَيِّنٌ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ حِينَ بَشَّرَتْهَا بِاصْطِفَاءِ اللهِ إِيَّاهَا وَتَطْهِيرِهِ لَهَا وَأَمَرَتْهَا بِمَزِيدِ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُكْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ هُنَا الرُّوحُ جِبْرِيلُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [19: 17] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَفِي لَفْظِ كَلِمَةٍ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ لَا كَلِمَةُ الْوَحْيِ ; ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِهِ عَنِ الْبَارِي - عَزَّ وَجَلَّ - مِمَّا يَعْلُو عُقُولَ الْبَشَرِ عَبَّرَ عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36: 82] فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، وَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ خُلِقَ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ فَلِمَاذَا خَصَّ الْمَسِيحَ بِإِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُنْسَبُ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ فِي الْبَشَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَلَمَّا فُقِدَ فِي تَكْوِينِ الْمَسِيحِ وَعُلُوقِ أُمِّهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِلْعُلُوقِ، وَهُوَ تَلْقِيحُ مَاءِ الرَّجُلِ لِمَا فِي الرَّحِمِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْجَنِينُ أُضِيفَ هَذَا التَّكْوِينُ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ، وَأُطْلِقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْمُكَوَّنِ إِيذَانًا بِذَلِكَ، أَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْكَلِمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْمَسِيحِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى بِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، فَهُوَ قَدْ عُرِفَ بِكَلِمَةِ اللهِ، أَيْ بِوَحْيِهِ لِأَنْبِيَائِهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [37: 171] إِلَخْ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْكَلِمَةِ لِمَزِيدِ إِيضَاحِهِ لِكَلَامِ اللهِ الَّذِي حَرَّفَهُ قَوْمُهُ الْيَهُودُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَجَعَلُوا الدِّينَ مَادِّيًّا مَحْضًا، قَالَهُ الرَّازِيُّ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ وَصْفِ النَّاسِ لِلسُّلْطَانِ الْعَادِلِ بِظِلِّ اللهِ وَنُورِ اللهِ ; لِمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِظُهُورِ ظِلِّ الْعَدْلِ وَنُورِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: فَكَذَلِكَ كَانَ عِيسَى سَبَبًا لِظُهُورِ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِسَبَبِ كَثْرَةِ بَيَانَاتِهِ لَهُ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَاتِ وَالتَّحْرِيفَاتِ عَنْهُ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ الْبِشَارَةِ لِأُمِّهِ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ مَعْنَاهُ بِخَيْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِشَارَةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَلْقَى إِلَيَّ فُلَانٌ كَلِمَةً سَرَّنِي بِهَا، بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي خَبَرًا فَرِحْتُ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [4: 171] يَعْنِي بُشْرَى اللهِ مَرْيَمَ بِعِيسَى أَلْقَاهَا إِلَيْهَا، قَالَ: فَتَأْوِيلُ الْقَوْلِ وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذْ قَالَتْ

الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِبُشْرَى مِنْ عِنْدِهِ هِيَ وَلَدٌ لَكِ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَالَ مُسْتَدِلًّا عَلَى هَذَا مَا نَصُّهُ: وَلِذَلِكَ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: اسْمُهُ الْمَسِيحُ فَذَكَّرَ وَلَمْ يَقُلِ " اسْمُهَا " فَيُؤَنِّثَ وَ " الْكَلِمَةُ " مُؤَنَّثَةٌ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَا قَصْدَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى فُلَانٍ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْبِشَارَةِ. فَذُكِرَتْ كِنَايَتُهَا كَمَا تُذْكَرُ كِنَايَةُ الذُّرِّيَّةِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَلْقَابِ إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ. أَمَّا لَفْظُ " الْمَسِيحِ " فَمُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ الْعِبْرَانِيُّ: " مشيحا " بِالْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ الْمَسِيحُ وَهُوَ لَقَبُ الْمَلِكِ عِنْدَهُمْ ; لِمَا مَضَتْ بِهِ تَقَالِيدُهُمْ مِنْ مَسْحِ الْكَاهِنِ كُلَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْمُلْكَ بِالدُّهْنِ الْمُقَدَّسِ، وَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ تَوْلِيَةِ الْمُلْكِ بِالْمَسْحِ وَعَنِ الْمَلِكِ بِالْمَسِيحِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ بَشَّرُوهُمْ بِمَسِيحٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَلِكٌ يُعِيدُ إِلَيْهِمْ مَا فَقَدُوا مِنَ السُّلْطَانِ فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا ظَهَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسُمِّيَ بِالْمَسِيحِ آمَنَ بِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا يَزَالُ سَائِرُ الْيَهُودِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْبِشَارَةَ لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ مَلِكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَعْنَى صِدْقِ لَفْظِ الْمَسِيحِ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُوَلُّونَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ تَقْرِيرِ الْعَدْلِ فِيهِمْ وَرَفْعِ أَثْقَالِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَقَدْ فَعَلَ الْمَسِيحُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عِنْدَ بِعْثَتِهِ فِيهِمْ مُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَخَاضِعِينَ لِأَفْهَامِ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِيسِيِّينَ وَأَوْهَامِهِمْ حَتَّى أَرْهَقَهُمْ ذَلِكَ عُسْرًا وَتَرَكَهُمْ يَئِنُّونَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَثْقَالِ التَّكَالِيفِ، فَرَفَعَ الْمَسِيحُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْأُخُوَّةِ الرَّافِعَةِ لِلظُّلْمِ. أَقُولُ: وَقَدْ نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ مَمْلَكَتَهُ رُوحَانِيَّةٌ لَا جَسَدِيَّةٌ. وَقَدْ لَاحَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى يُرَادُ بِهِ أَنَّ لَفْظَ الْمَسِيحِ هُنَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ لَا مَجْرَى الْوَصْفِ، وَالْعِلْمُ الْمُشْتَقُّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهُ مُتَّصِفًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعْمِلَ وَصْفًا، فَإِذَا وَضَعْتَ لَفْظَ " عَلِيٍّ " عَلَمًا عَلَى رَجُلٍ يَصِيرُ مَدْلُولُهُ شَخْصَ ذَلِكَ الرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا عِلَّةٍ أَمْ لَا، وَإِذَا سَمَّيْتَ ابْنَتَكَ " مَلِكَةً " لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُلْمَحَ الْمَعْنَى الَّذِي يُنْقَلُ لَفْظُهُ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ أَحْيَانًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِضْعَةَ وُجُوهٍ لِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْمَسِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَسْحِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَمَّا لَفْظُ " عِيسَى " فَهُوَ مُعَرَّبُ " يَشُوعَ " بِقَلْبِ الْحُرُوفِ بَعْدَ جَعْلِ الْمُعْجَمَةِ مُهْمَلَةً وَهَذَا يَكْثُرُ فِي الْمَنْقُولِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَسِينُ الْمَسِيحِ وَمُوسَى شِينٌ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ، وَكَذَلِكَ سِينُ شَمْسٍ فَهِيَ عِنْدُهُمْ بِمُعْجَمَتَيْنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (ابْنُ مُرْيَمَ) مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ لَهَا، إِعْلَامًا لَهَا بِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلِذَلِكَ قَالَتْ بَعْدَ الْبِشَارَةِ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ؟ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي وَصْفِهِ: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَكُونُ ذَا وَجَاهَةٍ وَكَرَامَةٍ

فِي الدَّارَيْنِ، فَالْوَجِيهُ ذُو الْجَاهِ وَالْوَجَاهَةِ. وَالْمَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَجْهِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ لَفَظَ الْجَاهِ أَصْلُهُ وَجْهٌ، فَنُقِلَتِ الْوَاوُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ، فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ. فَقَالُوا: جَاهَ فُلَانٌ يَجُوهُ، كَمَا قَالُوا: وَجَّهَ يُوَجِّهُ، وَذُو الْجَاهِ يُسَمَّى وَجْهًا كَمَا يُسَمَّى وَجِيهًا، وَيُقَالُ: إِنَّ لِفُلَانٍ وَجْهًا عِنْدَ السُّلْطَانِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ لَهُ جَاهًا وَوَجَاهَةً، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَجِيهِ مَنْ يُعَظَّمُ وَيُحْتَرَمُ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي النُّفُوسِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْجَاهُ مِلْكُ الْقُلُوبِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَوْنَ الْمَسِيحِ ذَا جَاهٍ وَمَكَانَةٍ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجَاهَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ قَدْ تَكُونُ مَوْضِعَ إِشْكَالٍ ; لِمَا عُرِفَ مِنَ امْتِهَانِ الْيَهُودِ لَهُ وَمُطَارَدَتِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى فَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ سَهْلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْوَجِيهَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَاحْتِرَامٌ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ كَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدُومَ بَعْدَهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ غَيْرَ طَوِيلٍ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ مَنْزِلَةَ الْمَسِيحِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ هُوَ مِنَ الْحَقِّ الثَّابِتِ، وَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ، فَهَذِهِ الْوَجَاهَةُ أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ وَجَاهَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يُحْتَرَمُونَ فِي الظَّوَاهِرِ لِظُلْمِهِمْ وَاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ أَوْ لِدِّهَانِهِمْ وَالتَّزَلُّفِ إِلَيْهِمْ، رَجَاءَ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ هَذِهِ وَجَاهَةٌ صُورِيَّةٌ لَا أَثَرَ لَهَا فِي النُّفُوسِ إِلَّا الْكَرَاهَةَ وَالْبُغْضَ وَالِانْتِقَاصَ، وَتِلْكَ وَجَاهَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُسْتَحْوِذَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ. وَحَقِيقَةُ الْوَجَاهَةِ فِي الْآخِرَةِ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْوَجِيهُ فِي مَكَانٍ عَلِيٍّ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ يَرَاهُ النَّاسُ فِيهَا فَيُجِلُّونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُحَدِّدَهَا وَنَعْرِفَ بِمَاذَا تَكُونُ. قَالَ قَائِلٌ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ هَذِهِ الْوَجَاهَةَ تَكُونُ بِالشَّفَاعَةِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَعَالِمٍ وَصَالِحٍ، فَمَا هِيَ مَزِيَّةُ الْمَسِيحِ إِذَنْ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْوَجَاهَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالنَّاسِ وَمَا يَعُودُ مِنْ مَطَارِحِ أَنْظَارِهِمْ عَلَى شُعُورِ قُلُوبِهِمْ وَخَطِرَاتِ أَفْكَارِهِمْ قَالَ - تَعَالَى - فِيهِ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَمَا يَنْعَكِسُ عَنْ أَنْظَارِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ هُنَاكَ إِلَى مَرَايَا قُلُوبِهِمْ حَقِيقِيٌّ فِي نَفْسِهِ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَا يَضُرُّ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، وَالْكَهْلُ: الرَّجُلُ التَّامُّ السَّوِيُّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَنٍّ مُعَيَّنَةٍ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَهْدِ يُصَدَّقُ بِمَا يَكُونُ فِي سِنِّ الْكَلَامِ، وَهِيَ سَنَةٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ آيَةٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; لِأَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى النَّاسِ تُفِيدُ أَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ التَّفَاهُمِ، وَكَلَامُ الْأَطْفَالِ فِي الْمَهْدِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ عَادَةً. وَفِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا بِشَارَةً بِأَنَّهُ يَعِيشُ إِلَى أَنْ يَكُونَ

46

رَجُلًا سَوِيًّا كَامِلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَصْلَحَ حَالَهُمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَعْرِفُ مَرْيَمُ سِيرَتَهُمْ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَالْحَالُ أَنَّنِي لَمْ أَتَزَوَّجْ، فَالْمَسُّ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي وَجْهٍ، وَمَعْنَاهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَاجٍ يَطْرَأُ أَمْ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ؟ ؟ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لِلتَّعَجُّبِ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَالِاسْتِعْظَامِ لِشَأْنِهِ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَيْ كَمِثْلِ هَذَا الْخَلْقِ الْبَدِيعِ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الِاخْتِرَاعَ وَالْإِبْدَاعَ. أَقُولُ: وَعَبَّرَ هُنَا بِالْخَلْقِ وَفِي بِشَارَةِ زَكَرِيَّا بِيَحْيَى بِالْفِعْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَلْقٌ وَفِعْلٌ، لَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِيمَا يَجْرِي عَلَى قَانُونِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَفْظَ الْخَلْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِيجَادِ وَلَوْ بِغَيْرِ مَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيُقَالُ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا يُقَالُ: فَعَلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمَّا كَانَ إِيجَادُ يَحْيَى بَيْنَ زَوْجَيْنِ كَإِيجَادِ سَائِرِ النَّاسِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ آيَةٌ لِزَكَرِيَّا أَنَّ هَذَيْنِ الزَّوْجَيْنِ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا عَادَةً، وَأَمَّا إِيجَادُ عِيسَى فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ فِي التَّوَالُدِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أُمٍّ غَيْرِ زَوْجٍ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَأَةِ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ أَشْبَهُ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْخَلْقِ أَلْيَقَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ رُوحَانِيٌّ جَعَلَ أُمَّهُ بِمَعْنَى الزَّوْجِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَلَكِنَّ هَذَا السَّبَبَ غَيْرُ مَعْهُودٍ لِلنَّاسِ وَلَا مَعْرُوفٍ لَهُمْ، فَمَرْيَمُ لَا تَعْرِفُهُ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُوقِنَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ; وَلِذَلِكَ أَحَالَهَا فِي الْبِشَارَةِ عَلَى مَشِيئَتِهِ لِتَكُونَ مُوقِنَةً فَقَالَ: إِذَا قَضَى أَمْرًا أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا، كَمَا عَبَّرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. فَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ، وَالتَّصْوِيرِ لِسُرْعَةِ حُصُولِ مَا يُرِيدُ بِغَيْرِ رَيْثٍ وَلَا تَأَخُّرٍ، بِتَشْبِيهِ حُدُوثِ مَا يُرِيدُهُ عِنْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ حَالًا بِطَاعَةِ الْمَأْمُورِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَمَلِ لِلْآمِرِ الْمُطَاعِ، وَيُسَمُّونَ الْأَمْرَ بِـ (كُنْ) أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [41: 11] أَيْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَا فَكَانَتَا، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُعْرَفُ بِوَحْيِ اللهِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَقَدْ مَرَّ الْإِلْمَاعُ لِهَذَا مِنْ قَبْلُ. وَأَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللهِ يُنْكِرُونَ الْحَمْلَ بِعِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ جُمُودًا عَلَى الْعَادَاتِ، وَذُهُولًا عَنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَرَوْنَ مِنْ شُئُونِ الْكَوْنِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا مِنْ قَبْلُ، فَمِنْهُ مَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالِاكْتِشَافِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْفَلَتَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا سَبَبٌ خَفِيٌّ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ تَهْدِيَ هَؤُلَاءِ الْجَامِدَيْنِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يُنْكِرُوا كُلَّ مَا يُخَالِفُهَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ لَمْ يَقِفُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْزِلُ أَمْرُ

عِيسَى فِي الْحَمْلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَبٍ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ خَارِقَةً لِنِظَامِ الْأَسْبَابِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرَةَ الْمَعْرُوفَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وُجُوبًا عَقْلِيًّا مُطَّرِدًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مَا وَيُعِدَّهُ مُسْتَحِيلًا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ الْعُصُورِ السَّابِقَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يُعْذَرُوا بِإِنْكَارِ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ مَا لَوْ حُدِّثَ بِهِ عُقَلَاءُ الْغَابِرِينَ لَعَدُّوهُ مِنْ خُرَافَاتِ الدَّجَّالِينَ، وَنَحْنُ نَرَى عُلَمَاءَ الْغَرْبِ وَفَلَاسِفَتَهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى إِمْكَانِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ، أَيْ تَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ حَيَوَانٍ أَوْ مِنَ الْجَمَادِ، وَهُمْ يَبْحَثُونَ وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ بِتَجَارِبِهِمْ، وَإِذَا كَانَ تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الْجَمَادِ جَائِزًا فَتَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُصُولِ. نَعَمْ إِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنَّ كَوْنَهُ جَائِزًا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ بِالْفِعْلِ، وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ بِخَبَرِ الْوَحْيِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ. وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي نِظَامِ الْكَائِنَاتِ بِوَجْهَيْنِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْقَوِيَّ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ وَيَسْتَحْوِذُ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ يُحْدِثُ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ مِنَ الْآثَارِ مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ، فَكَمْ مِنْ سَلِيمٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُصَابٌ بِمَرَضِ كَذَا وَلَيْسَ فِي بَدَنِهِ شَيْءٌ مِنْ جَرَاثِيمِ هَذَا الْمَرَضِ، فَوَلَّدَ لَهُ اعْتِقَادُهُ تِلْكَ الْجَرَاثِيمَ الْحَيَّةَ وَصَارَ مَرِيضًا، وَكَمْ مِنَ امْرِئٍ سُقِيَ الْمَاءَ الْقَرَاحَ أَوْ نَحْوَهُ فَشَرِبَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سُمٌّ نَاقِعٌ فَمَاتَ مَسْمُومًا بِهِ، وَالْحَوَادِثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ أَثْبَتَتْهَا التَّجَارِبُ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا بِهَا فِي أَمْرِ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ نَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا بُشِّرَتْ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، وَهِيَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، انْفَعَلَ مِزَاجُهَا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ انْفِعَالًا فَعَلَ فِي الرَّحِمِ فِعْلَ التَّلْقِيحِ، كَمَا يَفْعَلُ الِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ فِي مِزَاجِ السَّلِيمِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ، وَفِي مِزَاجِ الْمَرِيضِ فَيَبْرَأُ، وَكَانَ نَفْخُ الرُّوحِ الَّذِي وَرَدَ فِي سُورَةِ أُخْرَى مُتَمِّمًا لِهَذَا التَّأْثِيرِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ - وَإِنْ كَانَ أَخْفَى وَأَدَقَّ - وَبَيَانُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ فِي تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَشْبَاحِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قِسْمَانِ: أَجْسَامٌ كَثِيفَةٌ وَأَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، وَأَنَّ اللَّطِيفَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْكَثِيفِ الْحَيِّ مَا نَرَاهُ فِيهِ مِنَ النُّمُوِّ وَالْحَرَكَةِ وَالتَّوَالُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ النُّمُوِّ أَوْ يَكُونُ النُّمُوُّ مِنْهُ، فَلَوْلَا الْهَوَاءُ لَمَا عَاشَتْ هَذِهِ الْأَحْيَاءُ، وَالْهَوَاءُ رُوحٌ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ إِذَا تَحَرَّكَ الرِّيحُ، وَأَصْلُهَا " رِوْحُ " بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَلِأَجْلِ الْكَسْرِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَهُ، وَالْمَاءُ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مُرَكَّبٌ مِنْ رُوحَيْنِ لَطِيفَيْنِ، وَهُوَ يَكَادُ يَكُونُ فِي حَالِ التَّرْكِيبِ وَسَطًا بَيْنَ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الثَّانِي، وَالْكَهْرُبَائِيَّةُ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَنَاهِيكَ بِفِعْلِهَا فِي الْأَشْبَاحِ، فَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ اللَّطِيفَةُ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا أَرْوَاحًا هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ مُعْظَمَ التَّغَيُّرِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ فِي الْكَوْنِ، حَتَّى إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطِرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءَ فَلَاسِفَتِنَا، وَيَعْتَقِدُ عُلَمَاؤُنَا الْيَوْمَ أَنَّ

48

مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَرْوَاحِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهَا تُدْرِكُ وَتُرِيدُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ الْعَاقِلَةِ الْمُرِيدَةِ أَعْظَمَ! ! إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ الْمُسَخِّرَ لِلْأَرْوَاحِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْكَائِنَاتِ قَدْ أَرْسَلَ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَرْيَمَ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا وَنَفَخَ فِيهَا، فَأَحْدَثَتْ نَفْخَتُهُ التَّلْقِيحَ فِي رَحِمِهَا، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَلْ حَمَلَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ النَّفْخَةُ مَادَّةً أَمْ لَا؟ اللهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْبَحْثُ فِي تَمَثُّلِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تُسَمَّى بِلِسَانِ الشَّرْعِ الْمَلَائِكَةً فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [19: 17] إِذَا أَنْسَأَ اللهُ لَنَا فِي الْأَجَلِ وَوُفِّقْنَا لِلْمُضِيِّ فِي هَذَا الْعَمَلِ (التَّفْسِيرِ) وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْبَحْثِ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيُعَلِّمُهُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ (وَنُعَلِّمُهُ) بِالنُّونِ. وَالْكِتَابُ هُنَا: الْكِتَابَةُ بِالْخَطِّ، وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ، وَيَقِفُ بِالْعَامِلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ الْمَسَائِلِ. (وَالتَّوْرَاةَ) : كِتَابُ مُوسَى فَقَدْ كَانَ الْمَسِيحُ عَالِمًا بِهِ يُبَيِّنُ أَسْرَارَهُ لِقَوْمِهِ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ بِنُصُوصِهِ، (وَالْإِنْجِيلَ) : هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَفْسِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِيهِمَا - وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ وَآيَةُ قَالَتْ رَبِّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ وَيُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ - بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ - رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَحَذَفَ لَفْظَ يُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَأَيْتُ رُوحَكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُعَلِّمُهُ الرِّسَالَةَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّسُولِ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ شَائِعٌ. قَالَ كُثَيِّرٌ: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ وَفِي رِوَايَةٍ " بِرَسِيلِ " قَالَ: وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ الرَّسُولَ بِمَعْنَى النَّاطِقِ ; أَيْ نَاطِقًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَقُولُ: وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُرْسِلُهُ مُحْتَجًّا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَفَسَّرَهُ الْجَلَالُ هُنَا بِالتَّصْوِيرِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّقْدِيرِ. أَقُولُ: وَذَكَرَ الْجَلَالُ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ مِنَ الطِّينِ صُورَةَ خُفَّاشٍ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَحِلُّهَا الْحَيَاةُ وَتَتَحَرَّكُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَطِيرُ قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ:

49

وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ التَّفْصِيلَاتِ، بَلْ نَقِفُ عِنْدَ لَفْظِ الْآيَةِ، وَغَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ فِيهِ هَذَا السِّرَّ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ خَلَقَ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الْمَعْصُومِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ تُجْرَى الْآيَاتُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ طَلَبِ قَوْمِهِمْ لَهَا وَجَعْلِ الْإِيمَانِ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ بِهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ قُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ أَنَّهُ خُصَّ بِذَلِكَ وَأُمِرَ بِأَنْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِالْفِعْلِ فَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلٍ يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَرْوِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ " أَنَّ عِيسَى - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - جَلَسَ يَوْمًا مَعَ غِلْمَانٍ مِنَ الْكُتَّابِ فَأَخَذَ طِينًا ثُمَّ قَالَ: أَجْعَلُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الطِّينِ طَائِرًا، قَالُوا: وَتَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ بِإِذْنِ رَبِّي، ثُمَّ هَيَّأَهُ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ فِي هَيْئَةِ الطَّائِرِ فَنَفَخَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْ طَائِرًا بِإِذْنِ اللهِ، فَخَرَجَ يَطِيرُ بَيْنَ كَفَّيْهِ " فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَ آيَةَ اللهِ عَلَى رِسَالَتِهِ أُلْعُوبَةً لِلصِّبْيَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ صَحِيحٌ بِوُقُوعِ خَلْقِ الطَّيْرِ بَلْ وَلَا عِنْدَ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَنَاقَلُونَ وُقُوعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِلَّا مَا فِي إِنْجِيلِ الصِّبَا أَوِ الطُّفُولَةِ مِنْ نَحْوِ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ عِنْدَهُمْ وَلَعَلَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَدْنَى إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ: إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [5: 110] فَإِنَّ جَعْلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ يُؤْذِنُ بِوُقُوعِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ وَالْحَاجَةِ إِلَى تَحَدِّيهِ بِهِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْظَمِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ رُوحَانِيَّةَ عِيسَى كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى جُثْمَانِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الرُّوحَانِيِّينَ ; لِأَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَانَ تَجَرُّدُهُ مِنَ الْمَادَّةِ الْكَثِيفَةِ لِلتَّصَرُّفِ بِسُلْطَانِ الرُّوحِ مِنْ قَبِيلِ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ إِذَا نَفَخَ مِنْ رُوحِهِ فِي صُورَةٍ رَطْبَةٍ مِنَ الطِّينِ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ حَتَّى تَهْتَزَّ وَتَتَحَرَّكَ، وَإِذَا تَوَجَّهَ بِرُوحَانِيَّتِهِ إِلَى رُوحٍ فَارَقَتْ جَسَدَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيُعِيدَ اتِّصَالَهَا بِبَدَنِهَا زَمَنًا مَا، وَلَكِنَّ رُوحَانِيَّتَهُ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ إِحْيَاءِ مَنْ مَاتَ فَصَارَ رَمِيمًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ النَّصَارَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَسِيحِ لِلْمَوْتَى ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ أَحْيَا بِنْتًا قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، وَأَحْيَا الْيَعَازِرَ قَبْلَ أَنْ يَبْلَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَحْيَا مَيِّتًا كَانَ رَمِيمًا، وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَهُوَ أَقْرَبُ

إِلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِقَادِ الْمَرِيضِ، وَيَقُولُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْأَكْمَهَ مَنْ لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فَقَدْ أُوتِيَهُ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِمَّنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَحُجَّةٌ لَكُمْ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ مُصَدِّقِينَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَنْفُخُ فِيهِ يَعُودُ إِلَى الطَّيْرِ أَوْ إِلَى مَا ذَكَرَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَاسِخًا لِلتَّوْرَاةِ بَلْ مُصَدِّقًا لَهَا عَامِلًا بِهَا، وَلَكِنَّهُ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَقَدْ كَانَ حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ بِظُلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ فَأَحَلَّهَا عِيسَى وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ ذِكْرَ الْآيَةَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ إِلَى اللهِ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ

52

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى إِلَى ذِكْرِ خَبَرِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَطَوَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَبَرِ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ وَبَعْثَتِهِ مُؤَيَّدًا بِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ، فَقَدِ انْطَوَى تَحْتَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ جَمِيعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَعُلِمَ أَنَّهُ وُلِدَ وَبُعِثَ وَدَعَا وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ كَمَا سَبَقَتِ الْبِشَارَةُ، فَأَحَسَّ وَشَعَرَ مِنْ قَوْمِهِ - وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ - الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ وَالْمُقَاوَمَةَ وَالْقَصْدَ بِالْإِيذَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالتَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِيهِ، وَإِنَّ أَكْبَرَ مَا فِيهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَإِنْ كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً بِالْإِيمَانِ وَلَا مُفْضِيَةً إِلَيْهِ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاسْتِعْدَادِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ وَحُسْنِ بَيَانِ الدَّاعِي ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمَّا أَحَسَّ مِنْ قَوْمِهِ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ أَيْ تَوَجَّهَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ فِي دَعْوَتِهِ تَارِكِينَ لِأَجْلِهَا كُلَّ مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مُنْخَلِعِينَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مُتَحَيِّزِينَ وَمُنْزَوِينَ إِلَى اللهِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى خَاذِلِيهِ وَالْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ أَيْ أَنْصَارُ دِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ الِانْخِلَاعَ وَالِانْفِصَالَ مِنَ التَّقَالِيدِ السَّابِقَةِ وَالْأَخْذَ بِالتَّعْلِيمِ الْجَدِيدِ، وَبَذْلَ مُنْتَهَى الِاسْتِطَاعَةِ فِي تَأْيِيدِهِ ; فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْحَوَارِيُّونَ: أَنْصَارُ الْمَسِيحِ، وَالنَّصْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ، فَالْعَمَلُ بِالدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ نَصْرٌ لَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا تَتَكَلَّمُ فِي عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْهُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ لَفْظَ " الْحَوَارِيِّ " مَأْخُوذٌ مِنَ " الْحُوَّارَى " وَهُوَ لُبَابُ الدَّقِيقِ وَخَالِصُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ وَصَفْوَتِهِمْ، أَوْ مِنَ " الْحَوَرِ " وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ وَمِنْ هُنَا قِيلَ خَاصٌّ بِأَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ لَهُ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ (أَحَسَّ) يُسْتَعْمَلُ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ أَحْسَسْتُ مِنْهُ مَكْرًا، وَأَحْسَسْتُ مِنْهُ بِمَكْرٍ، وَمَا أَحْسَسْنَا مِنْهُ خَبَرًا، وَهَلْ تُحِسُّ مِنْ فُلَانٍ بِخَبَرٍ؟ وَالْمَكْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ: " تَحَقَّقَ كُفْرُهُمْ عِنْدَهُ تَحَقُّقَ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ " وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَحَسَّ الشَّيْءَ أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَجَازٌ شُبِّهَ فِيهِ الْمَعْقُولُ بِالْمَحْسُوسِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يُعْرَفُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمَحْسُوسَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْجَارَّ فِي إِلَى اللهِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَنْصَارِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَادَّةَ نَصَرَ تُعَدَّى بِـ " إِلَى "، ذَلِكَ بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ هُنَا قَدْ أَشْرَبَ الْكَلِمَةَ مَعْنَى اللُّجْأِ وَالِانْضِمَامِ

53

لِأَنَّ النَّصْرَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِوَصْفٍ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ كَمَا قَدَّرْنَا فِي بَيَانِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مُحَافَظَةً عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ إِلَخْ أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا أَنْزَلْتَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَمَلِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَنَاقِصًا لَا يَقِينًا وَإِيمَانًا، وَكَثِيرًا مَا يَظُنُّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا حَاوَلَ الْعَمَلَ بِهِ لَمْ يُحْسِنْهُ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي دَعْوَى الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَظَلُّ مُجْمَلًا مُبْهَمًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ تَفْصِيلِيًّا، فَذِكْرُ الْحَوَارِيِّينَ الْأَتْبَاعِ بَعْدَ الْإِيمَانِ يُفِيدُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ فِي مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ التَّفْصِيلِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى النَّفْسِ الْمُصَرِّفِ لَهَا فِي الْعَمَلِ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِلرَّسُولِ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَعَلَى قَوْمِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، فَحَذَفَ مَعْمُولَ الشَّاهِدِينَ لِيَعُمَّ الْمَشْهُودَ لَهُ وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ. أَوْ يُقَالُ: الشَّاهِدِينَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ حَالَةِ الرَّسُولِ مَعَ قَوْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ ; لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا مِنَ الْعَارِفِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، وَقَدْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ كَذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ. وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ أَيْ وَمَكَرَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بِهِ، فَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَأَبْطَلَ اللهُ مَكْرَهُمْ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَكْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَقَرَّهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِضَافَةَ الْمَكْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ بِمَكْرِ النَّاسِ. قَالَ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [7: 99] وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السُّوءِ لِأَنَّ مَنْ يُدَبِّرُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَسُرُّهُ وَيَنْفَعُهُ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى إِخْفَاءِ تَدْبِيرِهِ، غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَكْرِ فِي التَّدْبِيرِ السَّيِّئِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَكْرِ الْحَسَنِ وَالسَّيِّئِ جَمِيعًا قَالَ - تَعَالَى -: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35: 43] وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَكْرِ الْحَسَنِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا عَلِمَ بِمَا يُدَبَّرُ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَفْسَدَ عَلَى الْفَاعِلِ تَدْبِيرَهُ لِجَهْلِهِ فَيَحْتَاجُ مُرَبِّيهِ أَوْ مُتَوَلِّي شُئُونِهِ إِلَى أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ وَيَمْكُرَ بِهِ لِيُوَصِّلَهُ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْرِفَهُ قَبْلَ الْوُصُولِ ; إِذْ يُوجَدُ فِي الْمَاكِرِينَ الْأَشْرَارِ وَالْأَخْيَارِ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ فَإِنَّ تَدْبِيرَهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى عِبَادِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.

55

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ: خَيْرُ الْمَاكِرِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ فِي نَفْسِهِ شَرٌّ: أَيْ إِنْ كَانَ فِي الْخَيْرِ مَكْرٌ، فَمَكْرُهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَيْرِ وَمَكْرُهُمْ هُوَ الْمُوَجَّهُ إِلَى الشَّرِّ. إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ مَكْرُ اللهِ بِهِمْ ; إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ بِإِنْجَائِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ وَجَعْلِ كَيْدِهِمْ فِي نَحْرِهِمْ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، وَالتَّوَفِّي فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ قَالَ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [39: 42] وَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [32: 11] فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ: إِنِّي مُمِيتُكَ وَجَاعِلُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفِيعٍ عِنْدِي، كَمَا قَالَ فِي إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [19: 57] وَاللهُ - تَعَالَى - يُضِيفُ إِلَيْهِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْأَبْرَارُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ قَبْلَ الْبَعْثِ وَبَعْدَهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [3: 169] وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [54: 54، 55] وَأَمَّا تَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُوَ: إِنْجَاؤُهُ مِمَّا كَانُوا يَرْمُونَهُ بِهِ أَوْ يَرُومُونَهُ مِنْهُ وَيُرِيدُونَهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ. هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ الْخَالِي الذِّهْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ أَيَّدْنَاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ حَوَّلُوا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَنْطَبِقَ عَلَى مَا أَعْطَتْهُمُ الرِّوَايَاتُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ بِجَسَدِهِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنَوِّمُكَ، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ بِرُوحِكَ وَجَسَدِكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ بَيَانٌ لِهَذَا التَّوَفِّي، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي أُنَجِّيكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِكَ، وَأُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ ثُمَّ أَرْفَعُكَ إِلَيَّ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَقَالَ: لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا طَرِيقَتَانِ إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِشَرِيعَتِنَا ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى. وَلَهُمْ فِي حَيَاتِهِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ طَوِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَمَّا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ عَلَى التَّوَفِّي بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. أَقُولُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَلَا نُكْتَةَ هُنَا لِتَقْدِيمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ ; إِذِ الرَّفْعُ هُوَ الْأَهَمُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّجَاةِ وَرِفْعَةِ الْمَكَانَةِ. (قَالَ) : وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ التَّوَفِّيَ عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْعَادِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّفْعَ يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ رَفْعُ الرُّوحِ، وَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ الْخِطَابِ عَلَى شَخْصٍ وَإِرَادَةِ رُوحِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَسَدُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَتَغَيَّرُ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانٌ لِأَنَّ رُوحَهُ هِيَ هِيَ. (قَالَ) : وَلِصَاحِبِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ وَالنُّزُولِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَخْرِيجَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَدِيثُ آحَادٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ اعْتِقَادِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَالْأُمُورُ الِاعْتِقَادِيَّةُ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إِلَّا بِالْقَطْعِيِّ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الْيَقِينُ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ. وَثَانِيهِمَا: تَأْوِيلُ نُزُولِهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ رُوحِهِ وَسِرِّ رِسَالَتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ مَا غَلَبَ فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسِّلْمِ وَالْأَخْذِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عِنْدَ ظَوَاهِرِهَا وَالتَّمَسُّكِ بِقُشُورِهَا دُونَ لُبَابِهَا، وَهُوَ حِكْمَتُهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ ; فَالْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَأْتِ لِلْيَهُودِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيُوقِفُهُمْ عَلَى فِقْهِهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِمُرَاعَاتِهِ وَبِمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ بِتَحَرِّي كَمَالِ الْآدَابِ، أَيْ وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّرِيعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدْ جَمَدُوا عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا بَلْ وَأَلْفَاظِ مَنْ كَتَبَ فِيهَا مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُزْهِقًا لِرُوحِهَا ذَاهِبًا بِحِكْمَتِهَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِصْلَاحٍ عِيسَوِيٍّ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَرُوحَ الدِّينِ وَأَدَبَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَطْوِيٌّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حُجِبُوا عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ آفَةُ الْحَقِّ وَعَدُوُّ الدِّينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ. فَزَمَانُ عِيسَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَأْخُذُ النَّاسُ فِيهِ بِرُوحِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِصْلَاحِ السَّرَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ، وَلَكِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ تَأْبَاهُ، وَلِأَهْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى كَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، وَالنَّاقِلُ لِلْمَعْنَى يَنْقُلُ مَا فَهِمَهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَقَتْلِ عِيسَى لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ رَمْزٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالدَّجَلِ وَالْقَبَائِحَ الَّتِي تَزُولُ بِتَقْرِيرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَخْذِ بِأَسْرَارِهَا وَحِكَمِهَا. وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ هَادٍ إِلَى هَذِهِ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ وَرَاءَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَبْحَثِ مَا جَرَى لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ بِالْأَخْذِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِكَ فَوْقِيَّةً رُوحَانِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ كَوْنُهُمْ أَحْسَنَ أَخْلَاقًا وَأَكْمَلَ آدَابًا وَأَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالِاعْتِدَاءِ، أَوْ فَوْقِيَّةً دُنْيَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَكُونُونَ أَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ لِأَشَدِّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لَهُ، بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ لِلْيَهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمَسِيحِ هُوَ عَيْنُ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَ بِهَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا. وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ فَوْقِيَّةَ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ وَسَتَبْقَى كَذَلِكَ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَقُولُ: فِيهِ الْتِفَاتٌ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَسِيحَ وَالْمُخْتَلِفِينَ مَعَهُ وَيَشْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ وَالْكَافِرِينَ بِهِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْحِسَابِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا يُزِيلُ شُبَهَ الْمُشْتَبِهِينَ وَرِيَاءَ الْجَاحِدِينَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَكَذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ بِتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ وَبِحُكْمِهَا فِيهِمْ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [41: 16] هُنَاكَ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْصَرُوا هُنَا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إِمَّا فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْأُمَمِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَالْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ النُّفُوسَ بِتَقْوِيمِهَا. ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِكَ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الَّذِي يُبَيِّنُ وُجُوهَ الْعِبَرِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحِكَمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى لُبَابِ الدِّينِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِيَتَّعِظَ الْمُتَّعِظُونَ، وَيَصِلَ إِلَى مَقَامِ الْحِكْمَةِ الْعَارِفُونَ. وَلَيْسَ لَدَيْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ

59

أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَلْقَ عِيسَى وَمَجِيئَهُ بِالْآيَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَشَفَ شُبْهَةَ الْمَفْتُونِينَ بِخَلْقِهِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُحَاجِّينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ أَيْ إِنَّ شَبَهَ عِيسَى وَصِفَتَهُ فِي خَلْقِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ كَشَأْنِ آدَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ أَيْ قَدَّرَ أَوْضَاعَهُ وَكَوَّنَ جِسْمَهُ مِنْ تُرَابٍ مَيِّتٍ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَكَانَ طِينًا لَازِبًا ذَا لُزُوجَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ ثُمَّ كَوَّنَهُ تَكْوِينًا آخَرَ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِبَارَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ) . وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُ لِتَصْوِيرِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَعَانِي فِي وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَحْيَانًا. وَخَطَرَ لِيَ الْآنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ مَجْمُوعَ كُنْ فَيَكُونُ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كَلِمَةَ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ بِهَا حَالًا، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [6: 73] وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ لِلتَّكْلِيفِ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَ التَّكْلِيفِ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلَ التَّكْوِينِ مِنْ صِفَةِ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ تَأَمَّلَهُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُنْصَرَفًا. وَالْعَطْفُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ التَّكْوِينِ الْآخَرِ يُفِيدُ تَرَاخِيهِ وَتَأَخُّرَهُ عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَتَقَلَّبُ ذُرِّيَّتُهُ؟ اقْرَأْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71: 14] وَقَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23: 12 - 16] فَالسُّلَالَةُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْمُكَوِّنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ الْآنَ بِـ " الْبُرُوتُوبْلَازْمَا "، وَمِنْهَا تَكَوَّنَ أَصْلُنَا فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ السُّلَالَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ التَّوَلُّدِ بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ فِي الْقَرَارِ الْمَكِينِ وَهُوَ الرَّحِمُ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ تَحَوُّلِ النُّطْفَةِ إِلَى عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةِ إِلَى مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةِ إِلَى هَيْكَلٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَى لَحْمًا، وَقَدْ عَدَّ هَذَا طَوْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ وَهُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ طَوْرًا آخَرَ فِي الْمَوْتِ وَطَوْرًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ آخِرُ أَطْوَارِهِ، فَكُلُّ طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ حَادِثٌ، وَحُدُوثُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِنَظِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَكْوِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ فَهَلْ يَعِزُّ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ كَلَّا، وَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى

60

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ اصْطِفَائِهِ مُحَمَّدًا، وَقَدِ اصْطَفَى قَبْلَهُ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ جَاءَ فِي السِّيَاقِ ذِكْرُ قِصَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ قَوْمِهِ بِهِ وَرَمْيِ أُمِّهِ بِالزِّنَا، وَإِيمَانِ بَعْضٍ، وَهُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يَكْفُرْ بِعِيسَى وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بَلِ افْتُتِنَ بِهِ افْتِتَانًا لِكَوْنِهِ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ وُلِدَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَلَّ فِي أُمِّهِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَجَسَّدَتْ فِيهِ فَصَارَ إِلَهًا وَإِنْسَانًا، فَضَرَبَ لِلْكَافِرِينَ وَلِلْمَفْتُونِينَ مَثَلَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَعْجَبُ مَنْ خَلْقِ عِيسَى ; لِأَنَّ هَذَا خُلِقَ مِنْ حَيَوَانٍ مِنْ نَوْعِهِ وَذَاكَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي الْكَلَامِ إِرْشَادُهُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْخَلِيقَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكُلُّهُ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِذَا تَفَكَّرْنَا فِي حَقِيقَتِهَا وَعِلَلِهَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِغَرِيبٍ عِنْدَ الْمُوجِدِ الْمُبْدِعِ، أَمَّا الْقَوَانِينُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْخَلِيقَةِ فَهِيَ قَدِ اسْتُخْرِجَتْ مِمَّا نَعْهَدُهُ وَنُشَاهِدُهُ، وَلَيْسَتْ قَوَانِينَ عَقْلِيَّةً قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا عَدَاهَا، كَيْفَ وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يُخَالِفُهَا كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْضَاءٌ زَائِدَةٌ وَالَّتِي تُولَدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَتَرَوْنَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي الْجَرَائِدِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا خَالَفَ مَا نَعْرِفُ لَا مَا يَعْلَمُ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ لِكُلِّ هَذِهِ الشَّوَاذِّ وَالْفَلَتَاتِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً مُحْكَمَةً لَمْ تَظْهَرْ لَنَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ خَلْقِ عِيسَى، فَكَوْنُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ لَيْسَ مَزِيَّةً تَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِلَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عِيسَى قَدْ خُلِقَ مِنْ بَعْضِ جِنْسِهِ فَآدَمُ قَدْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَزِيَّةِ لَوْ كَانَتْ، وَبِالْإِنْكَارِ إِنْ صَحَّ، عَلَى أَنَّ مَا نَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، نَصِفُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْهُ، وَمَاذَا نَعْقِلُ مِنَ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الْحِسِّ وَالنُّطْقِ فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا؟ بَلْ مَاذَا نَعْقِلُ مِنْ أَمْرِ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ فِي نَبْتِهَا وَاسْتِوَائِهَا عَلَى سُوقِهَا وَتَنَاسُبِ أَوْرَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عِيسَى وَغَيْرَهُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَمْرِهِ، الْقَائِلِينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ جَاءَكَ عِلْمُ الْيَقِينُ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا يُظْهِرُ عِلْمَكَ الْحَقَّ وَارْتِيَابَهُمُ الْبَاطِلَ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يُقَالُ: ابْتَهَلَ الرَّجُلُ دَعَا وَتَضَرَّعَ، وَالْقَوْمُ تَلَاعَنُوا، وَفُسِّرَ الِابْتِهَالُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْمُبَاهَلَةِ فَأَبَوْا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: " أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نَفْلَحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. فَقَالَ لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ،

61

فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَقُلْ تَعَالَوْا الْآيَةَ. فَقَالُوا: أَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَهَبُوا إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَاسْتَشَارُوهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَالِحُوهُ وَلَا يُلَاعِنُوهُ، وَقَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، فَصَالَحُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَلْفِ حُلَّةٍ فِي صَفَرٍ وَأَلْفٍ فِي رَجَبٍ وَدَرَاهِمَ " وَرُوِيَ فِي الصُّلْحِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ صَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ -، وَخَرَجَ بِهِمْ وَقَالَ: إِنْ أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا أَنْتُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَعْدٍ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْ تَعَالَوْا دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَقَالَ: اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا الْآيَةَ: قَالَ: " فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا وَيَحْمِلُونَ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا عَلَى فَاطِمَةَ وَكَلِمَةَ وَأَنْفُسَنَا عَلَى عَلِيٍّ فَقَطْ، وَمَصَادِرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الشِّيعَةُ وَمَقْصِدُهُمْ مِنْهَا مَعْرُوفٌ، وَقَدِ اجْتَهَدُوا فِي تَرْوِيجِهَا مَا اسْتَطَاعُوا حَتَّى رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ وَاضِعِيهَا لَمْ يُحْسِنُوا تَطْبِيقَهَا عَلَى الْآيَةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا لَا يَقُولُهَا الْعَرَبِيُّ وَيُرِيدُ بِهَا بِنْتَهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَزْوَاجٌ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِأَنْفُسِنَا عَلِيٌّ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ -، ثُمَّ إِنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوا الْمُحَاجِّينَ وَالْمُجَادِلِينَ فِي عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَجْمَعُ هُوَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَلْعَنَ الْكَاذِبَ فِيمَا يَقُولُ عَنْ عِيسَى، وَهَذَا الطَّلَبُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ صَاحِبِهِ وَثِقَتِهِ بِمَا يَقُولُ، كَمَا يَدُلُّ امْتِنَاعُ مَنْ دَعَوْا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانُوا نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ غَيْرَهَمْ عَلَى امْتِرَائِهِمْ فِي حِجَاجِهِمْ وَمُمَارَاتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَزِلْزَالِهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَقِينٍ، وَأَنَّى لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَجْتَمِعَ مِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ مِنَ النَّاسِ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي طَلَبِ لَعْنِهِ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَيُّ جَرَاءَةٍ عَلَى اللهِ وَاسْتِهْزَاءٍ بِقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى يَقِينٍ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى -

عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحَسْبُنَا فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْيَقِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ إِلَخْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو الْآخَرَ، فَأَنْتُمْ تَدْعُونَ أَبْنَاءَنَا وَنَحْنُ نَدْعُو أَبْنَاءَكُمْ، وَهَكَذَا الْبَاقِي. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو أَهْلَهُ، فَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَدْعُو أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَنْفُسَنَا وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي وَجْهٍ مِنْ وَجْهَيِ التَّوْزِيعِ فِي دَعْوَةِ الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الشِّيعَةِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ. أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ مَا تَرَى مِنَ الْحُكْمِ بِمُشَارَكَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلْمُبَارَاةِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمُنَاضَلَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا، كَكَوْنِهَا لَا تُبَاشِرُ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا بَلْ يَكُونُ حَظُّهَا مِنَ الْجِهَادِ خِدْمَةَ الْمُحَارِبِينَ كَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى، وَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ هِيَ إِظْهَارُ الثِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْيَقِينِ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ اللهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى يَقِينٍ فِي اعْتِقَادِهِنَّ كَالْمُؤْمِنِينَ لَمَا أَشْرَكَهُنَّ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ نِسَائِنَا الْيَوْمَ وَمِنَ اعْتِقَادِ جُمْهُورِنَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُنَّ عَلَيْهِ؟ لَا عِلْمَ لَهُنَّ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَلَا بِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَيْرِنَا مِنَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، وَلَا مُشَارَكَةَ لِلرِّجَالِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَلَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهَلْ فَرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى نِسَاءِ الْأَغْنِيَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ - أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَ التَّطَرُّسِ وَالتَّطَرُّزِ وَالتَّوَرُّنِ وَعَلَى نِسَاءِ الْفُقَرَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي - أَنْ يَكُنَّ كَالْأُتُنِ الْحَامِلَةِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ؟ وَهَلْ حَرَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عِلْمَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالِاشْتِرَاكَ فِي شَيْءٍ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِينَ؟ كَلَّا بَلْ فَسَقَ الرِّجَالُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَوَضَعُوا النِّسَاءَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِحُكْمِ قُوَّتِهِمْ، فَصَغُرَتْ نُفُوسُهُنَّ، وَهَزُلَتْ آدَابُهُنَّ، وَضَعُفَتْ دِيَانَتُهُنَّ. وَنَحُفَتْ إِنْسَانِيَّتُهُنَّ، وَصِرْنَ كَالدَّوَاجِنِ فِي الْبُيُوتِ، أَوِ السَّوَائِمِ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ السَّوَانِي عَلَى السَّوَاقِي وَالْآبَارِ، أَوْ ذَوَاتِ الْحَرْثِ فِي الْحُقُولِ وَالْغَيْطَانِ، فَسَاءَتْ تَرْبِيَةُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَسَرَى الْفَسَادُ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فَعَمَّ الْأُسَرَ وَالْعَشَائِرَ وَالشُّعُوبَ وَالْقَبَائِلَ، لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَحْقَابًا، حَتَّى قَامَ فِيهِمُ الْيَوْمَ مَنْ يُعَيِّرُهُمْ بِاحْتِقَارِ النِّسَاءِ وَاسْتِبْعَادِهِنَّ، وَيُطَالِبُونَهُمْ بِتَحْرِيرِهِنَّ وَمُشَارَكَتِهِنَّ فِي الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَشُئُونِ الْحَيَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهَذَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ تَقْلِيدًا لِمَدَنِيَّةِ أُورُبَّا، وَقَدِ اسْتُحْسِنَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ، وَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ الْأُخْرَى بِالْعَمَلِ عَلَى ذَمِّ الْأَكْثَرِينَ لَهَا بِالْقَوْلِ، فَأَنْشَأَ

62

الْمُسْلِمُونَ يُعَلِّمُونَ بَنَاتَهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَبَعْضَ اللُّغَاتِ الْأُورُوبِّيَّةِ وَالْعَزْفَ بِآلَاتِ اللهْوِ وَبَعْضَ أَعْمَالِ الْيَدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالتَّطْرِيزِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ لَا يَصْحَبُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَلَا مِنْ إِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ بَلْ هُوَ مِنْ عَامِلِ الِانْقِلَابِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ لَهُ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا، وَقَوْلُ الْغَالِينَ فِيهِ: إِنَّهُ اللهُ أَوِ ابْنُ اللهِ فَبَاطِلٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَأَيُّ مَعْنًى تَتَصَوَّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي عِزَّتِهِ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يُسَامِيهِ مُسَامٍ فِي حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، أَوْ نِدًّا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَمَا الْوَلَدُ إِلَّا نُسْخَةٌ مِنَ الْوَالِدِ يُسَاوِيهِ فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - فَوْقَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَفَوْقَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْأَوْضَاعِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُجِيبُوا الدَّعْوَةَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَلَمْ يَقْبَلُوا عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ لِعَقَائِدِ النَّاسِ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ تَقْلِيدًا مَحْضًا لَا بُرْهَانَ يُؤَيِّدُهُ وَلَا بَصِيرَةَ تُعَضِّدُهُ، وَإِفْسَادُ الْعَقَائِدِ إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ فَسَادٍ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا بَيَّنَ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي شَأْنِ عِيسَى وَالْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْغَالِبِينَ فِيهِ بِجَعْلِهِ رَبًّا وَإِلَهًا، ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوِجْدَانِ أَوِ الضَّمِيرِ - كَمَا يُقَالُ - بِمَا دَعَاهُمْ

64

إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ اتِّبَاعُهُ فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ انْقِطَاعُ حِجَاجِ الْمُكَابِرِينَ، وَدَلَّ نُكُولُهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَفَاقِدُ الْيَقِينِ يَتَزَلْزَلُ عِنْدَمَا يُدْعَى إِلَى شَيْءٍ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَلَمَّا نَكَلُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرُوحُهُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ سَوَاءٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ عَدْلٌ وَوَسَطٌ لَا يَرْجَحُ فِيهِ طَرَفٌ آخَرَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِهَذَا تَقْرِيرُ وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُوَحِّدًا صِرْفًا، وَقَدْ كَانَ الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ لِشَرِيعَةِ مُوسَى قَوْلُ اللهِ لَهُ: " إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى. أَمَامِي لَا تَصْنَعُ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ، وَمِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ، وَمِمَّا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ " وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلَهُ: ((يَرَ 17: 3)) " وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَغَيْرُ ذَاكَ مِنْ عِبَارَاتِ التَّوْحِيدِ، وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى الْيَهُودِ بِعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ نَامُوسَ مُوسَى (شَرِيعَتَهُ) وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ إِلَّا بَعْضَ الرُّسُومِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّشْدِيدَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ - وَرَأْسُهَا التَّوْحِيدُ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ - فَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّنَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ الْعَالَمَ مِنْ صُنْعِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُنَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ. فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَّفِقُ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَرَفْضِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهَا، حَتَّى إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِيمَا جَاءَكُمْ مِنْ نَبَأِ الْمَسِيحِ شَيْئًا فِيهِ لَفْظُ ابْنِ اللهِ خَرَّجْنَاهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ الْعَامَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، قُلْنَا: هَلْ فَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِلَهٌ يُعْبَدُ؟ وَهَلْ دَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ أَمْ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؟ لَا شَكَّ أَنَّكُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلَامَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَوِ الْمَجَازِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَمَّيَاتِ وَالْأَلْغَازِ، حَتَّى إِنَّ تَلَامِيذَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِهِ، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ يَتَأَخَّرُ أَحْيَانًا إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَلَفْظُ " ابْنِ اللهِ " أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا. أَمَّا هَذِهِ

النَّزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الدِّينِ فَقَدْ دَخَلَتْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ لِوَاضِعِيهَا سَنَدٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا يُرَوِّجُونَهَا بِأَقْيِسَةٍ بَاطِلَةٍ جَرَى عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ كَقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [39: 3] وَقَوْلِهِمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ [10: 18] قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ قَرَّرَتْ وَحْدَانِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ فَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي تُولَهُ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَتَدْعُوهُ وَتَصْمُدُ إِلَيْهِ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمُرَبِّي الَّذِي يُطَاعُ فِيمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [9: 31] فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَيُحَرِّمُونَ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّونَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ الْآيَةِ؟ فَأَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْيَهُودُ مُوَحِّدِينَ وَلَكِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ هُوَ مَنْبَعُ شَقَائِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ وَجَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَجَرَى النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ وَزَادُوا مَسْأَلَةَ غُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حَتَّى ابْتَلَعَتْ بِهَا الْكَنَائِسُ أَكْثَرَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهَا وُلِدَتْ مَسْأَلَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا: هَلُمَّ بِنَا نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَابَ مِنْ دُونِ اللهِ وَنَأْخُذَ الدِّينَ مِنْ كِتَابِهِ لَا نُشْرِكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ. قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ نَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ لَا نَدْعُو سِوَاهُ وَلَا نَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي طَلَبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، وَلَا نُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا نُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمَعْصُومِ. أَقُولُ: يَعْنِي فِي مَسَائِلِ الدِّينِ الْبَحْتَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَمَّا الْمَسَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهِيَ مُفَوَّضَةٌ بِأَمْرِ اللهِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ رِجَالُ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَا يُقَرِّرُونَهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنَفِّذُوهُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوهُ. فَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِآرَاءِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ

هُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرَهُ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ، بَلْ جَعَلَ مُخَالَفَتَهُمْ فِيهِ هِيَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسَاسُ الدِّينِ الْمَتِينِ وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَالْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَاهِلِ الرُّومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ". فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعَمُودُهُ لَمَا جَعَلَهَا آيَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ أَدْخَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَاتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ زَاعِمًا أَنَّهُمْ وَسَائِطُ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ الْبَاطِلِ، وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الْخَبِيرَ الْعَلِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا قِيَاسَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، أَمْ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَرْبَابًا سَمَّاهُمُ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ، أَوِ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَجَعَلَ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَشَرْعًا مُتَّبَعًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [42: 20] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [16: 166] فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّ الْحُدُودَ وَبَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِنَا غَيْرَ نِسْيَانٍ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَنَهَانَا نَبِيُّهُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَأَنْ نَزِيدَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَنَا الِاجْتِهَادَ لِاسْتِنْبَاطِ مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُنَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ هَدْيُ الْآيَةِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ الْمُتَكَرِّرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ. كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَقُولُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِإِجْلَالِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

65

وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ - مَوْضِعَ إِجْلَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُجِلُّهُ وَتَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينِهِ، فَأَرَادَ - تَعَالَى - أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ الَّذِي كَانُوا يُجِلُّونَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَقَالِيدِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -، فَبَدَأَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَإِذَا كَانَ الدِّينُ الْحَقُّ لَا يَعْدُو التَّوْرَاةَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ، أَوْ لَا يَتَجَاوَزُ الْإِنْجِيلَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا النَّصَارَى، فَكَيْفَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبَ ثَنَاءَكُمْ وَثَنَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ! ! فَإِنْ خَطَرَ فِي بَالِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقُرْآنِ فَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعِي إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مَا، وَهُوَ خَبَرُ عِيسَى فَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي الْإِفْرَاطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ إِلَهٌ، وَمِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي التَّفْرِيطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ دَعِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُكُمُ الْقَلِيلُ بِهِ عَاصِمًا لَكُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَهُوَ كَوْنُ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا! أَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَبَّعُوا فِيهِ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مُسْلِمًا وَجْهَهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَالطَّاعَةَ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا مِنَ الِاحْتِرَاسِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَدْعُونَ الْعَرَبَ بِالْحُنَفَاءِ، حَتَّى صَارَ الْحَنِيفُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْوَثَنِيِّ الْمُشْرِكِ، فَلَمَّا وَافَقَهُمُ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَنِيفِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، احْتَرَسَ عَمَّا يُوهِمُهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَهُمْ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْمُتَّفَقَ عَلَى إِجْلَالِهِ وَادِّعَاءِ دِينِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مَائِلًا عَنْ مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّقَالِيدِ مُسْلِمًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مُتَحَقِّقًا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ [3: 19] وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهُ ; فَإِنَّ مَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْدُوهُ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُوهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَدْ نَسِيَ أَكْثَرُ

68

الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الْقُرْآنُ، وَجَمَدُوا عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لَهُ فَجَعَلُوهُ جِنْسِيَّةً غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً رُوحِيَّةً، وَمَا كَانَ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ أَيْ أَجْدَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَأَحْرَاهُمْ بِمُوَافَقَتِهِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي عَصْرِهِ وَأَجَابُوا دَعْوَتَهُ فَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُخْلَصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ اتِّخَاذُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا التَّوَسُّلُ بِالْوُسَطَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِي لَا يُبْطِلُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَمَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الدِّينُ كُلُّهُ لَا تُغْنِي عَنْهُ التَّقَالِيدُ وَالرُّسُومُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْوُسَطَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26: 88، 89] بِأَخْذِهِ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي شُرِعَ لِتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِعْدَادِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْأُخْرَى وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي كَشْفِ ضُرٍّ وَلَا طَلَبِ نَفْعٍ فَهُوَ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيُصْلِحُ شُئُونَهُمْ، وَيَتَوَلَّى إِثَابَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْجُمُودِ عَلَى التَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ الْغَافِلِينَ عَنْ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْمَفْتُونِينَ بِاتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

69

جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْيَهُودَ دَعَوْا مُعَاذًا وَحُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ دَعَوْا بَعْضَ الصَّحَابَةِ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ لَا، وَلَيْسَ الْإِضْلَالُ خَاصًّا بِالدَّعْوَةِ، بَلْ كَانُوا يُلْقُونَ ضُرُوبًا مِنَ الشَّكِّ فِي النُّفُوسِ لِيَصُدُّوهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَغْرَبِهَا مَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (72) وَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَمِرًّا وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ حَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُضِلَّةِ: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْإِضْلَالِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِهِ يَنْصَرِفُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي طُرُقِ الْهِدَايَةِ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا هَادِيًا، فَهُمْ يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى إِضْلَالِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ كَوْنُ عَاقِبَتِهِ شَرًّا عَلَيْهِمْ وَوَبَالًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَاجَّةِ وَبَيَانِ اعْوِجَاجِ طَرِيقَةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضْلَالِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ هُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ لِغَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالنَّذِيرِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَوَجْهًا ثَالِثًا هُوَ: أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ - صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. وَلَكِنْ يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: وَمَا يَشْعُرُونَ وَهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الْإِضْلَالِ، وَلَكِنَّهُمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الشَّيْءِ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِعَوَاقِبِهِ وَآثَارِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - نَادَاهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لَعَلَّهُمْ يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا بِمُحَاوَلَةِ إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا قَبْلَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ، فَآيَاتُ اللهِ عَلَى هَذَا هِيَ الْبِشَارَاتُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ وَمِثْلُهَا بِشَارَاتُ الْإِنْجِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَالْكُفْرُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْآيَاتُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنًى وَحِسًّا، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ مَا يَلِيقُ بِمَنْ يُكَابِرُ الْوُجُودَ وَيَجْحَدُ الْمَشْهُورَ. يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَيْ تَخْلِطُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وَعَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْبِشَارَةِ بِنَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُعَلِّمُ النَّاسَ

71

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، لِمَ تَخْلِطُونَ هَذَا بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ أَحْبَارُكُمْ وَرُهْبَانُكُمْ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ، وَتَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيُحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى تَأْتِي: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ [3: 78] فَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ هُوَ خَاصٌّ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خَاصٌّ بِالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَيَجْعَلُونَ الْكِتَابَ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَأْكُلُونَ بِذَلِكَ السُّحْتَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْحَشْوِيَّةِ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا سَمَاوِيًّا وَشَرْعًا إِلَهِيًّا. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً حَتَّى نُلَبِّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاسِعٌ عَلِيمٌ. أَقُولُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِبَعْضٍ: " أَعْطُوهُمُ الرِّضَا بِدِينِهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ فِيهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ فَمَا بَالُهُمْ "؟ فَأَخْبَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْقَوْلِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " يَهُودٌ صَلَّتْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ الضَّلَالَةُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبِعُوهُ ". وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي تَحْكِيهِ الْآيَةُ مِنْ صَدِّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِّ أَلَّا يَرْجِعَ عَنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَقَدْ فَقِهَ هَذَا

73

هِرَقْلُ صَاحِبُ الرُّومِ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ شُئُونِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ: " هَلْ يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا " وَقَدْ أَرَادَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ تَغُشَّ النَّاسَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِيَقُولُوا: لَوْلَا أَنْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ بُطْلَانُ الْإِسْلَامِ لَمَا رَجَعُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ، وَاطَّلَعُوا عَلَى بَاطِنِهِ وَخَوَافِيهِ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْغَبَ عَنْهُ بَعْدَ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ رَغْبَةً لَا حِيلَةً وَمَكِيدَةً كَمَا كَادَ هَؤُلَاءِ. فَمَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ رَغْبَةً فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ وَخَابَ ظَنُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِلَّا لِتَخْوِيفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْمَكَايِدَ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْكِيكِ فِيهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَكَايِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَصَلُوا فِيهِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَخْدَعُ الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ; وَبِهَذَا يَتَّفِقُ الْحَدِيثُ الْآمِرُ بِذَلِكَ مَعَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْمُنْكِرَةِ لَهُ - فِيمَا أَرَى - وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ كَمَا يَظْهَرُ لِي وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْكَائِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَآمَنَ لَهُ: صَدَّقَهُ وَسَلَّمَ لَهُ مَا يَقُولُ. قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [29: 26] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [12: 17] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِالتَّصْدِيقِ الثِّقَةَ وَالرُّكُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [9: 61] أَيْ فَيَكُونُ تَصْدِيقًا خَاصًّا تَضَمَّنَ مَعْنًى زَائِدًا. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ حَصَرُوا الثِّقَةَ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِمْ، بَلْ غَلَوْا فِي التَّعَصُّبِ وَالْغُرُورِ حَتَّى حَقَّرُوا جَمِيعَ النَّاسِ فَجَعَلُوا كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَسَنًا وَمَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبِيحًا، وَهَذَا مِنَ الِانْتِكَاسِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ، وَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ مَنْ يُحَاوِلُ تَغْرِيرَ قَوْمِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ يُحَقِّرُونَ كُلَّ مَا لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ هَؤُلَاءِ بِمَا رَدَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ لَا هُدَى شَعْبٍ مُعَيَّنٍ هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يُبَيِّنُ هُدَاهُ عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لَا تَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهُ بِأَحَدٍ وَلَا بِشَعْبٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وَقَدْ قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ " أَآنَ " بِهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا حَكَاهُ - تَعَالَى - مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

مَا سَبَقَهُ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تُصَدِّقُوا غَيْرَ مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ بِأَنَّ أَحَدًا يُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَوْ يُقِيمُوا عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ لَا تَعْتَرِفُوا أَمَامَ الْعَرَبِ - مَثَلًا - بِأَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَخْ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ جَوَازَ بِعْثَةِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا اعْتِقَادًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِاعْتِقَادِهِمُ الْمُسْتَكِنِّ فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا لِمَنْ آمَنُوا لَهُ مِنْ قَوْمِهِمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْمُخَادَعَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَهُوَ نَحْوُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ كَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: أَيْ وَلَا تُظْهِرُوا إِيمَانَكُمْ بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَرَادُوا: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا إِلَى أَشْيَاعِكُمْ وَحْدَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَزِيدَهُمْ ثَبَاتًا، وَدُونَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. (قَالَ) : أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عَطْفٌ عَلَى أَنْ يُؤْتَى وَالضَّمِيرُ فِي يُحَاجُّوكُمْ لِأَحَدٍ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، بِمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - بِالْحُجَّةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى الِاعْتِرَاضِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَلْطُفَ بِهِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَزِيدَ ثَبَاتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْ كَيْدُكُمْ وَحِيَلُكُمْ وَزَيْفُكُمْ تَصْدِيقُكُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ يُرِيدُ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَيْ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ يَجِيءُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ. كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [27: 34] بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِدَّ الْقَوْمِ فِي حِفْظِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْظَمَ مِنْ جِدِّهِمْ فِي حِفْظِ غَيْرِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَانِبِ؟ فَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّهْيَ بِإِفْشَاءِ هَذَا التَّصْدِيقِ فِيمَا بَيْنَ أَتْبَاعِهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ مِنْكُمْ تَكَلُّمٌ بِهَذَا فَلَا يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ خُوَيِّصَتِكُمْ وَأَصْحَابِ أَسْرَارِكُمْ، عَلَى أَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا، وَلَكِنَّ الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ عَنْ غَيْرِهِمْ. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ إِظْهَارُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ تَصْدِيقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ ; أَيْ الِاعْتِرَافُ لَهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ لَكُمْ قَائِلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى غَيْرُكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ فَكَذِّبُوهُ وَلَا تُؤْمِنُوا لَهُ، وَالْمَفْهُومُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا لِبَعْضِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِذَا قَالُوا بِهَذَا الْجَوَازِ كَالْمُتَّفِقِينَ مَعَهُمْ عَلَى

الْمُكَابَرَةِ وَالْمُكَايَدَةِ لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْجَحُودِ وَالْكَيْدِ لَا يُكَابِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا هُوَ حُجَّةٌ لِلْمُخَالِفِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يُكَابِرُونَ الْمُخَالِفِينَ. ثُمَّ قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ بَيْنَ جُزْئَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ؟ قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَمَا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ، أَدَّبَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ ; كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ فَيَقُولُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ: آمَنْتُ بِاللهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَوْ تَعَالَى اللهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحِكَايَةِ. اهـ. أَقُولُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمَحْذُوفَةُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ مُخَادَعَةً وَاكْفُرُوا آخِرَهُ مُكَايَدَةً، وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا ثَابِتًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَأَقَرَّكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ إِتْيَانِ أَحَدٍ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا يُخْشَى مِنْ مُحَاجَّتِهِ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالسَّبَبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا يَكُنْ إِتْيَانُ مُحَمَّدٍ بِدِينٍ حَقٍّ وَشَرْعٍ إِلَهِيٍّ كَالَّذِي أُوتِيتُمُوهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى سَبَبًا فِي الْإِيمَانِ لَهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهَامِ: فَأَقْرُبُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ - أَيْ وَجْهِ كَوْنِ الْكَلَامِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ - أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَالْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَإِتْيَانُ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْ دِينَكُمْ؟ أَيْ إِنَّ هَذَا مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا وَلَا مَا قَبْلَهُ لِأَحَدٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ حِكَايَةَ كَلَامِ الْيَهُودِ قَدِ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ: دِينَكُمْ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَظْهَرَ. وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا: أَتَكِيدُونَ هَذَا الْكَيْدَ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ: أَإِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ؟ وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بِمَعْنَى حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ، إِذْ وَرَدَتْ (أَوْ) بِمَعْنَى " حَتَّى " أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قِيلَ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أَلِأَجْلِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَمَّا يَتَّصِلْ بِذَلِكَ مُحَاجَّتُكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كِدْتُمْ ذَلِكَ الْكَيْدَ؟ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ يَجُوزُ حَذْفُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِلَحْنِ الْقَوْلِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. وَيَجُوزُ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى أَظْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللهِ هُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ وَذَلِكَ جَائِزٌ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَةِ اللهِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. وَأَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْهُدَى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ

74

رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتَى اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَتَفْعَلُونَ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ عَنْ غَيْرِ أَبْنَاءِ دِينِكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. . . إِلَخْ. وَعِنْدِي أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا وَهُوَ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا هُوَ سَبَبُ كَيْدِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا وَكَرَاهَتُهُمْ أَنْ يُحَاجَّهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ هُوَ سَبَبُ كِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ عَمَّنْ لَمْ يَتْبَعْ دِينَهُمْ أَوْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِذَا هُمُ ادَّعَوْهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْأَخِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [2: 76] هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَمَا عَدَا هَذَا مِمَّا أَكْثَرُوا فِيهِ فَانْتِزَاعٌ بَعِيدٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ إِلَّا بِاسْتِكْرَاهٍ وَتَكَلُّفٍ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ لِبَيَانِ سِعَةِ فَضْلِهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُسْتَحِقِّ لَهُ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ضَيَّقُوا بِزَعْمِهِمْ حَصْرَ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ - هَذَا الْفَضْلُ الْوَاسِعُ - وَجَهِلُوا كُنْهَ هَذَا الْعِلْمِ الْمُحِيطِ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ فَضْلَهُ الْوَاسِعَ وَرَحْمَتَهُ الْعَامَّةَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا لِوَسَاوِسِ الْمَغْرُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ حَجَرُوهُمَا بِجَهْلِهِمْ فَقَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ نَبِيًّا وَيَبْعَثُهُ رَسُولًا، وَمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا يَخْتَصُّهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ لَا بِعَمَلٍ قَدَّمَهُ، وَلَا لِنَسَبٍ شَرَّفَهُ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُحَابِي الْأَفْرَادَ أَوِ الشُّعُوبَ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

75

هَذَا بَيَانُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تُمَثِّلُهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى تَخُونُ الْأَمَانَةَ وَتَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ غُرُورًا فِي الدِّينِ وَتَأْوِيلًا لِلْكِتَابِ. وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي مُقَابِلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بِبَعْضِ التَّفْصِيلِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ غُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصِّ، وَأَنَّ الدِّينَ وَالْحَقَّ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَابْتِدَاؤُهَا بِالْعَطْفِ يُشْعِرُ بِمَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ حُذِفَ إِيجَازًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [3: 113] إِلَخْ. فَكَأَنَّهُ هَاهُنَا يَعْطِفُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، أَيْ مِنْهُمْ كَذَا وَمِنْهُمْ كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: كَأَنَّهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. . . إِلَخْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ جَعْلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَبْتَدِئِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: " وَمِنْهُمْ " - وَالْكَلَامُ فِيهِمْ - لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاسْمِ الْكِتَابِ الَّذِي حَرَّفُوا نَهْيَهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ إِلَّا عَنْ خِيَانَةِ إِخْوَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ (آيَةُ 14) وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مَعْنَاهُ إِلَّا مُدَّةَ دَوَامِكَ أَيُّهَا الْمُؤْتَمِنُ لَهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ تُلِحُّ بِالْمُطَالَبَةِ، أَوْ تَلْجَأُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْمُحَاكَمَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلْأَدَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَيِ الْعَرَبِ تَبِعَةٌ وَلَا ذَنْبٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اسْتِحْلَالَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ جَاءَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِشَعْبِهِمْ وَالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ احْتِقَارَ الْمُخَالِفِ احْتِقَارًا يُهْضَمُ بِهِ حَقُّهُ الثَّابِتُ فِي الْمُعَامَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَعْبِ اللهِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ نَظَرِ اللهِ وَمَبْغُوضٌ عِنْدَهُ، فَلَا حُقُوقَ لَهُ وَلَا حُرْمَةَ لِمَا لَهُ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَتَى أَمْكَنَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ إِبَاحَةُ خِيَانَةِ الْأُمِّيِّينَ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَجَئُوا إِلَى التَّقْلِيدِ فَعَدُّوا كَلَامَ أَحْبَارِهِمْ دِينًا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللهِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُؤَيِّدُوا بِذَلِكَ أَقْوَالَهُمْ، فَكُلُّ هَذِهِ الدَّوَاهِي جَاءَتْهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، نَاحِيَةِ التَّقْلِيدِ وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ. وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْصَفَهُمُ الْكِتَابُ فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْوَفِيَّ وَالْخَائِنَ، وَلَا يَكُونُ أَفْرَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ خَائِنِينَ، وَنَاهِيكَ بِأُمَّةٍ مِنْهَا السَّمَوْأَلُ.

76

أَقُولُ: وَفِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ مِنَ الْعِبْرَةِ لَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِينَا مَنْ يَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ دَارَ الْحَرْبِ - كَمَا يَشَاءُونَ - حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يُحِلُّونَ لِعُمَّالِ مَرْكَبَاتِ التِّرَامِ بِمِصْرَ أَنْ يَخُونُوا أَصْحَابَهَا بِبَيْعِ تَذْكِرَةِ الرُّكُوبِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَلْزَمَتْ مُسَاعَدَتُهُمُ الْكَذِبَ، فَهُمْ بِهَذَا يُحِلُّونَ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ وَالْكَذِبَ وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دِينٍ، وَيَتَنَاوَلُهُمْ وَعِيدُ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ وَوَعِيدُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16: 116، 117] وَمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا سُوءُ التَّقْلِيدِ لِلْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ أَكْلِ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالرِّبَا وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَا يُحِلُّونَ الْغِشَّ وَلَا الْخِيَانَةَ وَلَا السَّرِقَةَ وَلَا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ يَجُوزُ أَكْلُ مَالِهِ بِرِضَاهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعُقُودِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهَا. فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الْمُسْتَنِيرُ بِالدَّلِيلِ إِلَى سُوءِ مَغَبَّةِ التَّقْلِيدِ وَكَيْفَ أَنَّهُ اسْتَلْزَمَ الِاجْتِهَادَ الْبَاطِلَ إِذْ صَارَ الْجَاهِلُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِيسُونَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مَعَ التَّرَاضِي، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ الْحَقِّ فِي الْمُعَامَلَةِ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الْعَهْدُ: مَا تَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَيْرِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً يُقَالُ: إِنَّهُمَا تَعَاهَدَا، وَيُقَالُ: عَاهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَهْدًا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُقُودُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْأَمَانَاتُ، فَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقْرَضَكَ مَالًا إِلَى أَجَلٍ أَوْ بَاعَكَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَبَ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءُ حَقِّهِ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُلْجِئَهُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، بِذَلِكَ تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ وَتُحَتِّمُهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِثَالُ الْعَهْدِ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَهْدَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَجَبَ الْوَفَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فَلَا عَهْدَ لَهُ وَلَا حَقَّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ الْوَفَاءَ لَهُ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَهِدَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُوفُونَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلَوْ أَوْفَوْا بِهِ لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا أَوْصَاهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَفْظُ (بَلَى) جَاءَ لِإِثْبَاتِ مَا نَفَوْهُ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَهُوَ يَقُولُ: بَلَى عَلَيْكُمْ سَبِيلٌ وَأَيُّ سَبِيلٍ ; إِذْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ أَهْلِ الْوَفَاءِ

77

وَالتَّقْوَى فَقَالَ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهَ أَوِ النَّاسَ وَاتَّقَى الْإِخْلَافَ وَالْغَدْرَ وَالِاعْتِدَاءَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهُ فَيُعَامِلُهُ الْمَحْبُوبُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ وُرُودَ الْجَوَابِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَفَادَنَا قَاعِدَةً عَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهِيَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَاتِّقَاءَ الْإِخْلَافِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ شَعْبِ كَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْلَمُ خَطَأُ الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الرَّأْيِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِكُلِّ دِينٍ قَوِيمٍ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَالْإِخْلَافِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَشْعَثَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: " أَحْلِفُ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنْ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ مَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ فَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَالْأَيْمَانُ فِيهَا جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْيَدِ الَّتِي تُقَابِلُ الشِّمَالَ ثُمَّ سَمَّى الْحَلِفَ وَالسَّقَمَ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَهْدِ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ مَنْ يُعَاهِدُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ، حَتَّى إِنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَضَافَ الْعَهْدَ هَاهُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَهِدَ إِلَى النَّاسِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَتَّقُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَعَهْدُ اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ النَّاكِثُ لِلْعَهْدِ لَا يَنْكُثُ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنْهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، وَسَمَّى الْعِوَضَ ثَمَنًا قَلِيلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَيْهِ أَجْرًا كَبِيرًا وَثَمَنًا كَثِيرًا لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْ

78

عَهْدِ اللهِ فَهُوَ قَلِيلٌ لَا سِيَّمَا إِذَا أُكِّدَ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّ الْعُهُودَ إِذَا خُزِيَتِ اخْتَلَّ أَمْرُ الدِّينِ إِذِ الْوَفَاءُ آيَتُهُ الْبَيِّنَةُ، بَلْ مِحْوَرُهُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ، وَفَسَدَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا إِذْ تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالثِّقَةُ رُوحُ الْمُعَامَلَاتِ وَسِلْكُ النِّظَامِ وَأَسَاسُ الْعُمْرَانِ ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ - وَلَوْ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ - أَشَدَّ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأَغْلَظَهُ، وَأَيُّ عِقَابٍ أَشَدُّ مِنْ عِقَابِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِيهَا، وَلَا يُكَلِّمُهُ اللهُ كَلَامَ إِعْتَابٍ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ عَطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَلَا يُزَكِّيهِ بِالثَّنَاءِ عَلَى عَمَلٍ لَهُ صَالِحٍ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؟ لَمْ يَكْتَفِ - تَعَالَى - بِحِرْمَانِ بَائِعِي الْعَهْدِ بِالثَّمَنِ مِنَ النَّعِيمِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى بَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي دَرَكَةٍ مِنَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ لَا تُرْجَى لَهُمْ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ - تَعَالَى - كَلِمَةَ عَفْوٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ، فَعَدَمُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَمُنْتَهَى الْغَضَبِ الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ وَلَا أَمَلَ. إِنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرَ وَالرِّبَا وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَتَوَعَّدْ مُرْتَكِبِي هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَاكِثِي الْعُهُودِ وَخَائِنِي الْأَمَانَاتِ ; لِأَنَّ مَفَاسِدَ النَّكْثِ وَالْخِيَانَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا تِلْكَ الْجَرَائِمُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ التَّدَيُّنَ وَيَتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِالْعُهُودِ وَلَا يَحْفَظُونَ الْأَيْمَانَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ صَغِيرًا مِنْ حَيْثُ يُكَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا. الْإِيمَانُ بِاللهِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخِيَانَةِ وَالنَّكْثِ فِي نَفْسٍ، وَقَدْ عَدَّ - تَعَالَى - أَخَصَّ وَصْفٍ لِزُعَمَاءِ الْكُفْرِ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ كَوْنَهُمْ لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ إِذْ قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [9: 12] وَقَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا وَقَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَرِيقِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدِ زُعَمَائِهِمُ الْمُلِحِّينَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَائِهِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ، غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ وَجَعَلُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ ; يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ يُنْبِئُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِمْسَاكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَصَارَ الِانْتِصَارُ لَهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِمْ، بَلْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنْ كِتَابِهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ لِمُقَاوَمَةِ الْغَرِيبِ، وَيُعِدُّونَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَعُدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعَقَائِدِهِ وَأُصُولِهِ وَلَا بِفُرُوعِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَا هُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يَعُدُّونَهُ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ عَادَى مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِسَبَبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ يُعِدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوهُ لَا لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ جَاءَ بِهِ. وَقَدْ يُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّأْوِيلِ لِتَأْيِيدِ تَقَالِيدِهِمْ وَبِدَعِهِمْ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ اعْتِذَارًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُطَالَبِينَ بِأَخْذِ دِينِهِمْ مِنْهُ بَلْ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا لَيُّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ فَتْلُهُ لِلْكَلَامِ وَتَحْرِيفُهُ لَهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - بِهِ الْيَهُودَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ [4: 46] فَهَذَا مِثَالٌ مِنْ لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا كَلِمَةَ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ جُمْلَةِ " لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا " الدِّعَائِيَّةِ الَّتِي تُقَالُ عَادَةً عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةَ رَاعِنَا مَكَانَ كَلِمَةِ " انْظُرْنَا " الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ لِمَنْ يَطْلُبُونَ مَعُونَتَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ وَإِنَّمَا قَالُوا: غَيْرَ مُسْمَعٍ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِمَعْنَى " لَا سَمِعْتَ " وَقَالُوا: رَاعِنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ كَانُوا يَتَسَابُّونَ بِهَا - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ - وَمِثْلُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضْغِمُونَ كَلِمَةَ السَّلَامِ فَيُخْفُونَ اللَّامَ قَائِلِينَ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " غَيْرَ مُفْصِحِينَ بِالْكَلِمَةِ، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، فَاللَّيُّ وَالتَّحْرِيفُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا بِتَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ وَأَحْيَانًا بِصَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ

الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقَارِئُ شَيْئًا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا الْكِتَابَ مِنْ جَرْسِ الصَّوْتِ وَطَرِيقَةِ النَّغَمِ وَإِظْهَارِ الْخُشُوعِ لِيَحْسَبَهُ السَّامِعُ مِنَ الْكِتَابِ فَيَقْبَلُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَيْهِ. وَلَفْظُ اللَّيِّ يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُوهَمِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْتِيهِ مَازِحًا بِأَنْ يَقْرَأَ مِنْ كِتَابٍ مَا جَمُلًا بِالتَّجْوِيدِ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ لِيُوهِمَ الْجَاهِلَ أَوْ يَخْتَبِرَهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ مِثْلِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا اللَّيُّ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النَّاطِقُ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ. مِثَالُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَكَلِمَةِ ابْنِ اللهِ وَتَسْمِيَةِ اللهِ أَبًا لَهُ وَأَبًا لِلنَّاسِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا، وَلَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ وَحْدَهُ أَيْ فَهُمْ يُفَسِّرُونَ لَفْظًا بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ فِي الْكِتَابِ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ كَاذِبُونَ. أَكَّدَ الْخَبَرَ بِتَعَمُّدِهِمُ التَّحْرِيفَ وَسَجَّلَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ عَلَيْهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُمْ لَا يُعَرِّضُونَ وَلَا يُوَرُّونَ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُونَ بِالْكَذِبِ تَصْرِيحًا لِفَرْطِ جَرَاءَتِهِمْ وَعَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُمْ رَسْمٌ ظَاهِرٌ وَجِنْسِيَّةٌ هِيَ مَصْدَرُ الْغُرُورِ ; إِذْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ جَمِيعُ مَا يَجْتَرِمُونَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ سُلَالَةِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتْمًا، مَهْمَا كَانَتْ سِيرَتُهُ سَيِّئَةً وَعَمَلُهُ قَبِيحًا. فَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ الشَّفَاعَاتُ أَدْرَكَتْهُ الْمَغْفِرَةُ، وَيَعْنُونَ بِالْمُسْلِمِ مَنِ اتَّخَذَ الْإِسْلَامَ جِنْسًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ صَدَقَ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

79

أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُسْلِمُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللهِ فَأَنْزَلَ اللهُ مَا كَانَ لِبَشَرٍ الْآيَتَيْنِ. ذَكَرَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي (لُبَابِ النُّقُولِ) . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ طَلَبَ أَنْ يَسْجُدُوا لِلرَّسُولِ هُوَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَقِ اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهًا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِبْطَالٌ لِمَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - ابْنًا أَوْ أَبْنَاءً حَقِيقَةً، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَثْبَتَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ. وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِ بِالتَّأْوِيلِ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رَدًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى ابْتِدَاءً مُسْتَأْنَفًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ النَّفْسَ تَتَشَوَّفُ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ فِرَقِ الْيَهُودِ إِلَى بَيَانِ حَالِ النَّصَارَى وَمَا يَدَّعُونَ فِي الْمَسِيحِ فَجَاءَتِ الْآيَتَانِ فِي ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْوُقُوعِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْوُقُوعِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ وَالدَّلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِإِرْشَادِهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ، وَوَافَقَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَائِلًا: إِنَّ عِبَارَاتِ الْكِتَابِ رُبَّمَا تَذْهَبُ النَّفْسُ فِيهَا مَذَاهِبَ التَّأْوِيلِ، فَالْعَمَلُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ الْحَقَّ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ بِفِقْهِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَالنُّبُوَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُقَالُ إِنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي الْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ بِمَعْنَى عَابِدٍ، وَالْعَبِيدُ جَمْعٌ لَهُ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُونِي إِلَهًا أَوْ رَبًّا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ كَائِنِينَ لِي مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ كُونُوا عَابِدِينَ لِي مِنْ دُونِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ اللهَ - تَعَالَى - أَيْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَقَطَعَ أَبُو السُّعُودِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا. وَلَهُ عِنْدِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا خَلُصَتْ لَهُ وَحْدَهُ فَلَمْ تَشُبْهَا شَائِبَةٌ مَا مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [39: 14] وَقَالَ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [98: 5] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَمَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ فَقَدْ دَعَا النَّاسَ إِلَى أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ، بَلْ وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَمَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَاسِطَةً فِي الْعِبَادَةِ

كَالدُّعَاءِ فَقَدْ عَبَدَ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ مِنْ دُونِ اللهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ تُنَافِي الْإِخْلَاصَ لَهُ وَحْدَهُ. وَمَتَى انْتَفَى الْإِخْلَاصُ انْتَفَتِ الْعِبَادَةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [39: 2 - 3] الْآيَةَ فَلَمْ يَمْنَعْ تَوَسُّلُهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَنْ يَقُولَ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ لِلَّذِي عَمِلَ لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَمُقَرِّبٌ مِنْهُ وَشَفِيعٌ عِنْدَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَتَوَجُّهُهُ هَذَا إِلَيْهِ عِبَادَةٌ لَهُ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِهَا فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّ النُّصُوصَ مُؤَيِّدَةٌ لَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ أَجَازُوا لِلْعَامَّةِ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَوَسُّلًا بِهِمْ إِلَى اللهِ إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَتَلَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [40: 60] الْآيَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أَيْ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُمُ النَّبِيُّ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِأَنْ يَكُونُوا مَنْسُوبِينَ إِلَى الرَّبِّ مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِهِ هُوَ وَلَا التَّوَسُّلِ بِشَخْصِهِ وَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْوَسِيلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ تَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَدِرَاسَتُهُ، فَبِعِلْمِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ رَبَّانِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - ; فَالْكِتَابُ هُوَ وَاسِطَةُ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ الْمُبَلِّغَةُ لِلْكِتَابِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [42: 48] فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِشَخْصِ الرَّسُولِ بَلْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ 31) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَالْآيَاتُ الْمُقَرِّرَةُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مُفَصَّلًا: أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ رَبَّانِيًّا بِعِلْمِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ لِلنَّاسِ وَنَشْرِهِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا يَبْعَثُ إِلَى الْعَمَلِ لَا يُعَدُّ عِلْمًا صَحِيحًا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ مَا كَانَ صِفَةً لِلْعَالِمِ وَمَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ آثَارُ الصِّفَاتِ وَالْمَلَكَاتِ، وَالْمُعَلِّمِ يُعَبِّرُ عَمَّا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّلْ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ إِلَّا صُوَرًا وَتَخَيُّلَاتٍ تَلُوحُ فِي الذِّهْنِ وَلَا تَسْتَقِرُّ فِي النَّفْسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لَهُ يُفِيضُ الْعِلْمَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، أَيْ فِي نَحْوِ الْعُلُومِ الْفَنِّيَّةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْهَنْدَسَةِ إِلَّا بَعْضَ

80

الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْمَسَائِلِ النَّاقِصَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُهَنْدِسًا بِالْفِعْلِ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لِلْهَنْدَسَةِ، وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ أَنَّ الْعِلْمَ لَمَّا كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْعَمَلِ كَمَا يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعِلْمِ عِنْدَمَا يُعَلَّقُ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فَتَارَةً يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ وَتَارَةً يُذْكَرُ اللَّازِمُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " يَأْمُرَكُمْ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى (ثُمَّ يَقُولَ) وَ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُجَاءُ بِهَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ السَّابِقِ. وَهُوَ هُنَا قَوْلُهُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَهُ. تُنْقَلُ عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْيَهُودِ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنًا لِلَّهِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمَسِيحِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ بِعِبَادَتِهِ بَعْدَ إِذْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِمُقْتَضَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ مَنْ عَرَفْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَوَابِ مَنْ طَلَبَ السُّجُودَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ نَسُوا هُنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ هُوَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا أَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 19) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ. وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ تَقْرِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

81

قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لِعِنَادِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ آمَنُوا بِهِ وَنَصَرُوهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ. وَحَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ الَّذِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ التَّنْزِيلُ، وَكَوْنُ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ وَاحِدًا، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ النَّبِيِّينَ، وَكَوْنُ اللهِ - تَعَالَى - مُخْتَارًا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنْ مَزِيَّةٍ أَوْ نُبُوَّةٍ وَقَدْ سَبَقَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ لِإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِزَالَةِ شُبْهَاتِ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْثَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّتَهُمْ وَبَيَانَ خَطَئِهِمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُقَرِّرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِمْ لِدَحْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ - وَإِنْ عَظُمَ أَمْرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَنْ يُرْسَلُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْهُ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ. أَيْ فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ. أَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُعَاهِدُ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) يَلْتَزِمُ لِلْآخِذِ وَهُوَ الْمُعَاهَدُ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) أَنْ يَفْعَلَ كَذَا مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْيَمِينِ أَوْ بِلَفْظٍ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ أَوِ الْمُوَاثَقَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: " الْمِيثَاقَ مِنَ النَّبِيِّينَ ". فَالنَّبِيُّونَ هُمُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ سَارِيًا عَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالْأَوْلَى، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ إِضَافَةَ مِيثَاقٍ إِلَى النَّبِيِّينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُهُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُوثِقِ لَا إِلَى الْمُوثَقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُ اللهِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِكُمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: " مِيثَاقَ أُمَمِ النَّبِيِّينَ "، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالثَّانِي مِنْ آلِ الْبَيْتِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ قَالَ: هُوَ عَلَى حَدِّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [65: 1] . فَالْخِطَابُ فِيهِ لِلنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ أَمَتُّهُ عَامَّةً. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الطَّرِيقَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي أُوتِيَتِ الْكِتَابَ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِمِيثَاقِ اللهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ مِيثَاقِهِ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَا آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ لِأَخْذِ الْمِيثَاقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ أَيْ أَنَّ الْمِيثَاقَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، فَأَخْذُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ وَ " مَا " الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ

وَجَعَلُوا لَتُؤْمِنُنَّ سَادًّا مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ الشَّرْطِ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَمَا آتَيْتُكُمُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " لِمَا " بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَ " مَا " عَلَى هَذِهِ مَوْصُولَةٌ حَتْمًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ " آتَيْنَاكُمْ " بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَفْظُ " رَسُولٍ " فِيهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ قَدْ أُخِذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مَا جَاءَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَكَانَ اللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِيثَاقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ إِذَا فُرِضَ أَنْ جَاءَكُمْ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ. أَقُولُ: وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ مَرْتَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ النَّبِيِّينَ إِذَا فُرِضَ أَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ الرَّئِيسَ الْمَتْبُوعَ لَهُمْ ; فَمَا قَوْلُكُ إِذًا فِي أَتْبَاعِهِمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ زَمَنِهِمْ؟ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْهُدَى الْأَخِيرِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ مَعَهُ سِوَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجِيئُونَ بِهَا هِدَايَةً مَوْقُوتَةً خَاصَّةً بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُجَجٍ مِنْهَا حَدِيثُ وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ أُخِذَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ إِرْسَالِهِمْ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُتَكَافِلِينَ مُتَنَاصِرِينَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ آخَرَ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ، كَمَا آمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ إِذْ كَانَ فِي زَمَنِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَيْدِ لَهُ فَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ فَلَا يَلْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ وَالشَّحْنَاءَ. وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي

الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنْ يُؤَدِّي شَخْصَانِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْآخَرُ هَذَا بِالصِّيَامِ وَذَاكَ بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالِ الشَّخْصَيْنِ فَأَدَّى كُلٌّ وَاحِدٍ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ لِلْمَسْأَلَةِ مِثْلَ عَامِلَيْنِ يُرْسِلُهُمَا الْمَلِكُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ إِلَى وِلَايَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْدِيقُ الْآخَرِ وَنَصْرُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِلسَّلْطَنَةِ أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ، وَمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي طِبَاعِ الْأَهَالِي وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَحَالُ الْبِلَادِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ كَأَنْ تَكُونَ الضَّرَائِبُ قَلِيلَةً فِي إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةً فِي الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ يُؤْمِنُ لِلْآخَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْآخَرُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْأُصُولِ دُونَ جَمِيعِ الْفُرُوعِ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَخَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ آخَرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَأَمَّا إِذَا بُعِثَ الرَّسُولَانِ فِي أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمَا يُكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَنْسَ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَمَّا مَجِيءُ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مُعْظَمَ فُرُوعِ شَرْعِهِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَعْنَى تَصْدِيقِ نَبِيِّنَا بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلِمَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ التَّفْصِيلِيُّ مُوَافِقًا لِشَرَائِعِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ أَقْوَامَهُمْ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ. قَالَ - تَعَالَى - لِمَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمِيثَاقَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ أَيْ قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ إِصْرِي أَيْ عَهْدِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ شَاهِدٌ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِي شَيْءٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَلْيَشْهَدْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [7: 172] وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَبَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاعْلَمُوا ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، كَالْعِلْمِ بِالْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ إِنَّ الْعَهْدَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَعَهُمْ شَهِيدٌ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ وَقَعَتْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالَ قِيلَتْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَقْرِيرُ الْمَعْنَى وَتَوْكِيدُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. أَقُولُ: وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ قَرَارُهُ مَكَانَهُ، زِيدَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، فَقِيلَ أَقَرَّ الشَّيْءَ إِذَا أَثْبَتَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ إِذَا نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْأَخْذُ التَّنَاوُلُ، وَفَسَّرْنَاهُ هُنَا بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَايَتُهُ ; لِأَنَّ آخِذَ الشَّيْءِ يَقْبَلُهُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [2: 48]

82

ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [2: 123] فَقَالَ مَرَّةً إِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَمَرَّةً لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَ " الْإِصْرُ " فِي الْأَصْلِ عَقْدُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ بِقَهْرِهِ، وَالْمَأْصِرُ مَحْبِسُ السَّفِينَةِ، وَفُسِّرَ الْإِصْرُ فِي وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [7: 157] بِمَا يَحْبِسُهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَيُقْعِدُهُمْ عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي يُثَبِّطُ نَاقَضَهُ عَنِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي يَحْبِسُ صَاحِبَهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيمَا الْتَزَمَهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي آيَةِ شَهِدَ اللهُ [3: 18] إِلَخْ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ دُعَاتَهُ مُتَّفِقُونَ مُتَّحِدُونَ فَمَنْ تَوَلَّى - بَعْدَ الْمِيثَاقِ عَلَى ذَلِكَ - عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَاتَّخَذَ الدِّينَ آلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ الْمُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤْذُونَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مِيثَاقِ اللهِ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ وَلَيْسُوا مِنْ دِينِهِ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ. أَقُولُ: وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَى الْأُمَمِ. وَلَمَّا بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ دِينَهُ وَاحِدٌ وَأَنَّ رُسُلَهُ مُتَّفِقُونَ فِيهِ قَالَ فِي مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى " غَيْرِ " عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ وَعَيَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ. وَالْمَعْنَى: أَيَتَوَلَّوْنَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَيَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ قَدْ خَضَعُوا لَهُ - تَعَالَى - وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ لَا بِالتَّكْلِيفِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ الْمُنْقَادُونَ لِتَصَرُّفِهِ وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْنَى الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا يَحِلُّ بِالْعُقَلَاءِ مِنْ تَصَارِيفِ الْأَقْدَارِ، مِنْهُ مَا يَصْحَبُهُ اخْتِيَارُهُمْ عَنْ رِضًا وَاغْتِبَاطٍ فَيَكُونُونَ خَاضِعِينَ لَهُ طَوْعًا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَحِلُّ بِهِمْ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [17: 44] . وَيُقَابِلُ هَذَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالدِّينَ فَقَطْ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُفَسِّرُ إِسْلَامَ الْكُرْهِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ الْمُلْجِئَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31: 32]

83

وَقَالَ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29: 65] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ إِسْلَامَ الْكُرْهِ مَا يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ مُوسَى، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِذْ يُشْرِفُ الْكَافِرُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ إِسْلَامٌ لَا يَنْفَعُهُ. وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ أَعَمُّ مِنْ إِسْلَامِ التَّكْلِيفِ وَإِسْلَامِ التَّكْوِينِ فَهُوَ يَشْمَلُ مَا يَكُونُ بِالْفِطْرَةِ وَمَا يَكُونُ بِالِاخْتِيَارِ. وَفِي هَذَا الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ قَالَ الْحَسَنُ: الطَّوْعُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَبَعْضُهُمْ بِالطَّوْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُرْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُنْقَادُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ طَوْعًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [31: 25] وَمُنْقَادُونَ لِتَكَالِيفِهِ وَإِيجَادِهِ لِلْآلَامِ كُرْهًا. وَقِيلَ: الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ طَوْعًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ كُرْهًا فِيمَا يُخَالِفُ طِبَاعَهُمْ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَهُمْ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ كُرْهًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي التَّكْلِيفِ وَالتَّكْوِينِ. وَهَذِهِ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا طَوْعًا لَهُمُ اخْتِيَارٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا كُرْهًا فَهُمُ الَّذِينَ فُطِرُوا عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْكُرْهِ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الِاخْتِيَارَ وَيَقْهَرُهُ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْوِينِ: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [41: 11] فَأَطْلَقَ الْكَرْهَ وَأَرَادَ بِهِ لَازِمَهُ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ. أَقُولُ: وَهَذَا سَهْوٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَكُنْتُ - فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ - أُرَاجِعُهُ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوِ الطَّبْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تَتِمَّةَ الْآيَةِ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ مِنْ قِسْمِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ بِالِاخْتِيَارِ فَمِنْهُ مَا يُفْعَلُ طَوْعًا وَمَا يُفْعَلُ كَرْهًا. وَكَذَا مَا يَقَعُ بِهِمْ مِنْهُ مَا يَكُونُونَ كَارِهِينَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُونَ رَاضِينَ بِهِ. فَإِذَا كَانَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ فَالطَّوْعُ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَا. وَصَفْوَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ هُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصُ فِي الْخُضُوعِ لَهُ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أُمَمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ، فَجَاءَهُمُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ بِذَلِكَ قَدِ ابْتَغَوْا غَيْرَ دِينِهِ الَّذِي زَعَمُوهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَرَأَ حَفْصٌ يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ كَمَا قَرَأَ يَبْغُونَ وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ " تَبْغُونَ " بِالتَّاءِ كَالْجُمْهُورِ فَهُوَ قَدْ جَعَلَ الْخِطَابَ أَوَّلًا لِلْيَهُودِ وَجَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَرْجِعِ عَامًّا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " تَرْجِعُونَ " وِفَاقًا لِقِرَاءَتِهِمْ " تَبْغُونَ ".

84

قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَمَا خَتَمَ - تَعَالَى - آيَةَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [3: 64] جَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَوْلِيَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ آمَنَّا بِاللهِ أَيْ آمَنْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [2: 136] إِلَخْ وَقَدْ عُدِّيَ الْإِنْزَالُ هُنَاكَ بِـ " إِلَى " الدَّالَّةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالِانْتِهَاءِ، وَهُنَا بِـ " عَلَى " الَّتِي لِلِاسْتِعْلَاءِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ رَامِيًا بِالتَّعَسُّفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعَدِّيَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَتَيْنِ إِذْ هُوَ هُنَاكَ الْمُؤْمِنُونُ وَهَاهُنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِـ " إِلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ، وَالتَّعْدِيَةَ بِـ " عَلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْوَحْيُ فَرْعٌ لَهُ، إِذْ هُوَ وَحْيُهُ - تَعَالَى - إِلَى رُسُلِهِ. وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ أَيْ وَآمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالْإِجْمَالِ أَيْ صَدَّقْنَا بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيًا لِهِدَايَةِ أَقْوَامِهِمْ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي أَصْلِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْقَصْدِ مِنْهُ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [87: 14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ [35: 36، 37] إِلَخْ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [4: 163] إِلَخْ. وَأَمَّا عَيْنُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي أَيْدِي الْأُمَمِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ التَّوْرَاةِ لِلْأَوَّلِ وَالْإِنْجِيلِ لِلثَّانِي، (وَ) مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَيْنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ نَبِيًّا ظَهَرَ فِي الْهِنْدِ أَوِ الصِّينِ قَبْلَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ نُؤْمِنُ بِهِ. وَارْجِعْ إِلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي اسْتِبَانَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِنْزَالِ وَالتَّعْبِيرِ بِالْإِتْيَانِ، قَالَ

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ قُدِّمَ الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مَعَ كَوْنِهِ أُنْزِلَ قَبْلَهُ فِي الزَّمَنِ ; لِأَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَالْمُثْبِتُ لَهُ وَلَا طَرِيقَ لِإِثْبَاتِهِ سِوَاهُ ; لِانْقِطَاعِ سَنَدِ تِلْكَ وَفَقْدِ بَعْضِهَا وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَمَا أَثْبَتَهُ كِتَابُنَا مِنْ نُبُوَّةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نُؤْمِنُ بِهِ إِجْمَالًا فِيمَا أُجْمِلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فُصِّلَ، وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ كَذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِأَنَّ أُصُولَ مَا جَاءُوا بِهِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَإِسْلَامُ الْقُلُوبِ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِخْلَاصِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ أَصِلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا كَذَلِكَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا يُفَرِّقُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ فِي الدِّينِ، فَنَقُولُ: بَعْضُهُمْ عَلَى حَقٍّ وَبَعْضُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الْحَقِّ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْمَقَاصِدِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الصَّادِقِينَ يُرْسِلُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مُتَعَاقِبِينَ لِعِمَارَةِ الْوِلَايَةِ وَإِصْلَاحِ أَهْلِهَا، وَمَا يَكُونُ مِنَ التَّغْيِيرِ فِي بَعْضِ قَوَانِينِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسْبِ حَالِ الْوِلَايَةِ وَأَهْلِهَا، وَالْمَقْصِدُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعُمْرَانُ وَالْإِصْلَاحُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ بِالرِّضَا وَالْإِخْلَاصِ مُنْصَرِفُونَ عَنْ أَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا فِي الدِّينِ لَا نَتَّخِذُهُ جِنْسِيَّةً لِأَجْلِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا نَبْتَغِي بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِإِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَإِخْلَاصِ الْقُلُوبِ وَالْعُرُوجِ بِالْأَرْوَاحِ، إِلَى سَمَاءِ الْكَرَامَةِ وَالْفَلَاحِ. افْتَتَحَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَخَتَمَهَا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ فِي كَمَالِهِ ثَمَرَتُهُ وَغَايَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الدِّينِيُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لِأَنَّ الدِّينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا فَمَا هُوَ إِلَّا رُسُومٌ وَتَقَالِيدُ يَتَّخِذُهَا الْقَوْمُ رَابِطَةً لِلْجِنْسِيَّةِ، وَآلَةً لِلْعَصَبِيَّةِ وَوَسِيلَةً لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْقُلُوبَ فَسَادًا، وَالْأَرْوَاحَ إِظْلَامًا. فَلَا يَزِيدُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عُدْوَانًا، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَّا خُسْرَانًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ هُنَالِكَ خَاسِرًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ إِذْ لَمْ يُزَكِّهَا بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ لَهُ جَلَّ عُلَاهُ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [7: 53] فِي الدِّينِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنَاطُ النَّجَاةِ وَوَسِيلَةُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ; إِذْ يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْعَدُوا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُلُوكِ سُبُلِ الشَّقَاءِ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [39: 14 - 15] وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ نَبَّهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خُسْرَانِ الْآخِرَةِ

85

هُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ، وَلَا نَبَّهَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، بَلْ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا لِظُهُورِ مَعْنَاهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَاهُنَا إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَإِذْ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [49: 14] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ اهـ. كَلَامُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُبْهَمٌ وَقَدْ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى الْآيَةَ الَّتِي تُفَسِّرُهَا وَبِالثَّانِيَةِ قَالَتِ الْأَعْرَابُ وَالْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يُسْلِمُوا الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ وَإِنَّمَا انْقَادُوا لِأَهْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَا نَصُّهُ: (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا؟ نَقُولُ: بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ، فَالْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِسْلَامُ أَعَمُّ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ. مِثَالُهُ: الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51: 35 - 36] . وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَاتَيْنِ مَا نَصُّهُ: " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ. فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ غَيْرِ زَيْدٍ " اهـ. أَقُولُ: وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ فِي كَلَامِهِ اضْطِرَابًا وَسَبَبُهُ تَزَاحُمُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْإِطْلَاقَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي ذِهْنِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَفْهُومَيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ مُتَبَايِنَانِ فَالْإِسْلَامُ: الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْحَرْبِ وَعَلَى السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ وَعَلَى الِانْقِيَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ كَأَنْ يَقُولَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَتَعْتَقِدَ صِدْقَهُ. وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ كَأَنَّ نَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَقَدْ أُطْلِقَ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ

فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِيمَانٍ خَاصٍّ جُعِلَ هُوَ الْمُنْجِي عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَإِسْلَامٍ خَاصٍّ هُوَ دِينُهُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ التَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْوِجْدَانِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [49: 15] وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ - تَعَالَى - فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا هَدَى إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى دِينُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ. فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَاوَلُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارٍ ; وَلِذَلِكَ عُدَّا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَنِ إِيمَانِ الْأَعْرَابِ وَإِسْلَامِهِمْ فِي (49: 15) ثُمَّ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [49: 16 - 17] فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ وَالْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ وَهُمَا الْمَطْلُوبَانِ لِأَجْلِ السَّعَادَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمَا ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ نِفَاقٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [2: 62] الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهَذَا الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ وَقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ إِلَخْ هُوَ الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ النَّجَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا أَيْ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ الَّذِي هُوَ مُسَالَمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا حَرْبًا لَهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِخْلَاصَ وَالِانْقِيَادَ مَعَ الْإِذْعَانِ وَإِلَّا لَمَا نَفَى إِيمَانَ الْقَلْبِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. أَمَّا إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَائِدَ وَتَقَالِيدَ وَأَعْمَالٍ فَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ " الدِّينُ مَا عَلَيْهِ الْمُتَدَيِّنُونَ " فَالْبُوذِيَّةُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ الْمَعْرُفُونَ بِالْبُوذِيَّةِ، وَالْيَهُودِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْبُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَهُودِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا نَصَارَى وَهَكَذَا. وَهَذَا هُوَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ سَمَاوِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ حَتَّى يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ أَصْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُهُ لَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ، وَتَحَوُّلُ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى جِنْسِيَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَدَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ بَيَانِ رُوحِ دِينِ اللهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ

86

شَرَائِعِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَالْإِسْلَامُ مَعْنًى بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللهِ الْمَرْضِيِّ، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ بَاغِيًا لِغَيْرِ دِينِ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَحْدُثُ لِأَهْلِهَا مِنَ التَّقَالِيدِ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ مُبَايِنٌ لِلْإِسْلَامِ الْعُرْفِيِّ ; لِذَلِكَ جَرَيْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى إِنْكَارِ جَعْلِ الْإِسْلَامِ جِنْسِيَّةً عُرْفِيَّةً مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً إِلَهِيَّةً. نَعَمْ إِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَى أَصْلِهِ وَاسْتَتْبَعَ مَعَ ذَلِكَ رَابِطَةَ الْجِنْسِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرَّابِطَةُ إِلَّا رَابِطَةَ خَيْرٍ لِأَهْلِهَا غَيْرَ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ لِبِنَائِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الْجِنْسِيَّةِ هُوَ الْأَصْلُ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ أَرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّازِقِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كَفَرَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ وَاللهِ - مَا عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ اهـ. (مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ) . وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَوْا نَعْتَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ وَأَقَرُّوا وَشَهِدُوا أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَسَدُوا الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ حَسَدًا لِلْعَرَبِ حِينَ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

89

مِثْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ: هَلْ لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ: قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى هَذَا وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا. (2) وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا. (3) نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَتَقَدَّمَ خَبَرُهُ. أَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ مِنْ أَحَدٍ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهِ وَجَزَاءَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ وَقَدْ رَآهَا أَصْحَابُ أُولَئِكَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا صَادِقَةً عَلَى مَنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَأَشَدُّهَا الْتِئَامًا مَعَ السِّيَاقِ رِوَايَةُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَعَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِيئَاسٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَفَسَّرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْطَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ: بِخَلْقِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَهُمَا الرَّازِيُّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ، فَأَمَّا الْإِرْشَادُ فَقَدْ أُوتُوهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لِإِيمَانِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مَعْنًى، وَالصَّوَابُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ هِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَإِيئَاسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَعَ عَدَمِ الْمَوَانِعِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَلَبِ الْمَطْلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ ; وَلِذَلِكَ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ كَفَرُوا مُكَابَرَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمُعَانَدَةً لِلرَّسُولِ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ. أَوِ الْمَعْنَى: بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ تَكُونُ هِدَايَةُ مَنْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَلَبَةِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا بِذَلِكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى

وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ طَرِيقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ: هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا جَاءَ فِي زَمَنِهِمْ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ الْعَلَامَاتُ وَظَهَرَتْ فِيهِ الْبِشَارَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَعَانَدُوهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِالْبَيِّنَاتِ لَهُمْ وَظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْجَانِينَ عَلَيْهَا. وَوَضَعَ الْوَصْفَ الظَّالِمِينَ مَكَانَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَجِبُ سُلُوكُهُ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، فَذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ ادِّعَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَنَكُّبِ هَؤُلَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ لِطَرِيقِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُدَى النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ بِالْبَيِّنَاتِ هُوَ نِهَايَةُ الظُّلْمِ. (قَالَ) : وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ الَّتِي أُمِرْنَا بِطَلَبِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ الْإِيصَالُ إِلَى الْحَقِّ ; لِأَنَّ سَائِرَ مَعَانِي الْهِدَايَةِ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - فَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْجِنْسِ - وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حُظُوطِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا فِي الدِّينِ وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: كَيْفَ تَرْجُو يَا مُحَمَّدُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ لَكَ ظَنًّا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ جَعَلَتْهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جِئْتَ بِهِ بَعْدَمَا عَلِمْتَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ. أَقُولُ: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَهِ الطَّرِيقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ كَالشَّخْصِ لِتَكَافُلِهَا كَمَا قَرَّرَهُ مِرَارًا، فَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرُ مَجْمُوعِ الْحَاضِرِينَ وَأَمْثَالِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِ مَجْمُوعِ سَلَفِهِمْ لَا أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعْنَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ سُخْطِهِ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِمَّا سُخْطُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا وَإِمَّا الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّعْنَةِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ " لَعَنَهُ أَهْلُهُ: طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ وَهُوَ لَعِينٌ طَرِيدٌ " وَبِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْكَلِمَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ [2: 88] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا اللَّعْنُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ التَّفْسِيرُ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ ; فَإِنَّ الطَّرِيدَ لَا يُطْرَدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: " اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ. وَذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُولِ رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَمِنَ الْإِنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ:

أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [11: 18] وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ [24: 7] . اهـ. وَقَوْلُهُ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ بِالطَّرْدِ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ فِي الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ لَعْنَ اللهِ لِمَنْ يَلْعَنُهُ بِطَرْدِهِ مِنْ جَنَّتِهِ أَوْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيِ الْخَاصَّةِ - إِذِ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ - وَيُفَسِّرُونَ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ مِنْهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَدُلُّ فِي الْبَشَرِ عَلَى الِانْفِعَالَاتِ تُفَسَّرُ بِآثَارِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَكِنَّ السَّلَفِيِّينَ يُعِدُّونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ كَغَيْرِهَا شُئُونٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يُدْرِكُ الْبَشَرُ كُنْهَهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا آثَارُهَا، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَانَ سَلَفِيَّ الْعَقِيدَةِ فِي سِنِيهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَفْنَاهُ فِيهَا، فَلَا يُبَالِي بِإِمْضَاءِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَفْسِيرَ مِثْلِ " عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ " بِعَلَيْهِ السُّخْطُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِعَلَيْهِ الطَّرْدُ، فَمَا قَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [16: 106] فَعَبَّرَ عَنْ وُقُوعِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ بِعَلَى، وَعَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ بِاللَّامِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَلْعَنُونَهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مَجْلَبَةٌ لِلَّعْنَةِ بِطَبْعِهَا مِنْ كُلِّ مَنْ عَرَفَهَا، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ لَعْنِ الْكَافِرِ وَالْمُبْطِلِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إِنْ كَانَ لَا يَلْعَنُهُ، كَأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّعْنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29: 25] وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ. خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ فِي اللَّعْنَةِ أَيْ يَكُونُونَ مَطْرُودِينَ، أَوْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ، أَوْ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا تَكَيَّفَتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الظَّالِمَةُ، وَهِيَ مَعَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالشَّيْءُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الظُّلْمِ الَّذِي دَنَّسُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَتَرَكُوهُ مُسْتَقْبِحِينَ لَهُ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنْهُ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ بِمَا صَارَ لِلْإِيمَانِ الرَّاسِخِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالتَّصْرِيفِ لِإِرَادَتِهِمْ، أَوْ أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمُدُّ الْإِيمَانَ وَتُغَذِّيهِ وَتَمْحُو مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَتُثْبِتُ فِيهِ أَضْدَادَهَا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنَالُهُمْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ مَا يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ جَنَّتِهِ.

90

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا مِثَالُهُ: عَطَفَ الْإِصْلَاحَ عَلَى التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْعَمَلِ لَا شَأْنَ لَهَا وَلَا قِيمَةَ فِي نَظَرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْقُرْآنُ عَلَى عَطْفِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا أَوْ وَصْفِهَا بِالنَّصُوحِ، وَتَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى مَا كَانُوا تَابُوا عَنْهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْبَةِ أَثَرٌ فِي نُفُوسِهِمْ يُنَبِّهُهُمْ إِذَا غَفَلُوا كَيْ لَا يَعُودُوا إِلَى مَا اقْتَرَفُوا، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى اتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ وَتَقْوِيمِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - مَا هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّائِبِينَ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْكَيْدِ وَالتَّشْكِيكِ وَبِالْحَرْبِ وَالْكِفَاحِ، أَوِ الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَازْدِيَادُ الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الْإِيمَانُ، فَالْكُفْرُ يَزْدَادُ قُوَّةً وَاسْتِقْرَارًا وَتَمَكُّنًا بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يُعِدُّونَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [42: 25] فَقَالَ الْقَاضِي وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ مَنْ كَفَرَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلُ اللَّعْنَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ كَفَرَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى تَصِيرُ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. اهـ. مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ بِتَصَرُّفٍ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ،

أَوْ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا إِذَا أَشْفَوْا عَلَى الْهَلَاكِ، فَكَنَّى عَنْ عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِهَا تَغْلِيظًا فِي شَأْنِهِمْ وَإِبْرَازِ حَالِهِمْ فِي صُورَةِ الْآيِسِينَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَوْ لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا نِفَاقًا لِارْتِدَادِهِمْ وَزِيَادَةِ كُفْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلِ الْفَاءَ فِيهِ. اهـ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ وَقَالَ عَنْ هَذَا الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ اخْتَارَهُ: إِنَّهُ أَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ (قَالَ) : وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِيهِمْ نَزَلَتْ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إِذَا كَانَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ قَابِلُ تَوْبَةِ كُلِّ تَائِبٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَكَانَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَحَدَ تِلْكَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ هُوَ الِازْدِيَادُ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْكُفْرِ لَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَةَ صَاحِبِهِ مَا أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ ; لِأَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا مَا أَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ وَضَلَالِهِ. فَأَمَّا إِنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَكُفْرِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ ضَعْفَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوْبَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَجَزَمَ: (أَيِ ابْنُ جَرِيرٍ) بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَهِيَ أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّنْبِ الَّذِي تِيبَ عَنْهُ، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَجْهٌ يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ التَّوْبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا قَدْ يَحْدُثُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَلَمٌ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَقَدْ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ الْأَلَمُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَالشُّرُورِ. قَالَ: فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُخْلِصُوا لِلَّهِ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ، فَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْمُحِقِّينَ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ - تَعَالَى - ; يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا لَصِقَ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْزَارِ، وَلَيْسَ هَذَا عَيْنُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ هِيَ تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَبِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْيٌّ لِلتَّوْبَةِ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لَهَا، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تُوغِلُ فِي الشَّرِّ وَتَتَمَكَّنُ فِي الْكُفْرِ حَتَّى تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا وَتَصِلَ إِلَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ قَدْ جَحَدَ الْحَقَّ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَضَلَّ عَلَى عِلْمٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ وَأَنْ يُحَاوِلَهَا وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْحَوَائِلِ دُونَ قَبُولِهَا لِلْخَيْرِ

وَالْحَقِّ مَا يَكُونُ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ قَبُولِهَا فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ الْمُسْتَلْزِمَ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِ التَّائِبِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطَاءِ الْجُزَافِ وَالْأَمْرِ الْأُنُفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُوَافَقَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا الْعِلْمُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ أَلَمًا يَحْمِلُهَا عَلَى تَرْكِهِ وَمَحْوِ أَثَرِهِ الْمُدَنِّسِ لَهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يُحْدِثُ فِيهَا أَثَرًا مُضَادًّا لِذَلِكَ الْأَثَرِ. وَبِهَذَا تَكُونُ التَّوْبَةُ مُعِدَّةً صَاحِبَهَا وَمُؤَهِّلَةً لَهُ لِلْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَحْوِ سَبَبِهِ وَهُوَ تَدْنِيسُ النَّفْسِ وَتَدْسِيَتُهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [91: 9، 10] فَإِذَا بَلَغَتِ التَّدْسِيَةُ مِنْ بَعْضِهَا مَبْلَغًا تَتَعَذَّرُ مَعَهُ التَّزْكِيَةُ عَلَى مُرِيدِهَا أَوْ مُحَاوِلِهَا صَحَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ صَاحِبِ هَذِهِ النَّفْسِ. مِثَالُ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّاصِعُ يُصِيبُهُ لَوَثٌ فَيَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فَيَغْسِلُهُ فَيَنْظُفُ، فَإِذَا كَانَ اللَّوَثُ قَلِيلًا وَبَادَرَ إِلَى غَسْلِهِ بُعَيْدَ طُرُوئِهِ يُرْجَى أَنْ يَزُولَ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ. وَلَكِنَّ هَذَا الثَّوْبَ إِذَا دُسَّ فِي الْأَقْذَارِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَخَلَّلَتْ جَمِيعَ خُيُوطِهِ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا فَاصْطَبَغَ بِهَا صِبْغَةً جَدِيدَةً ثَابِتَةً تَعَذَّرَ تَنْظِيفُهُ وَإِعَادَتُهُ إِلَى نَصَاعَتِهِ الْأُولَى. وَبَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الطَّرَفَيْنِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4: 17، 18] تِلْكَ حَالَةُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْهَازِئِينَ بِالدِّينِ الْمُتَقَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ الْعَرِيقِينَ فِي الشَّرِّ ; وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الرُّسُوخَ فِي الضَّلَالِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ أَوِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَحَسْبُكَ بِضَالٍّ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً مَقُبُولَةً مِنَ الْكُفْرِ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَيَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ. وَالثَّانِي مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ إِمَّا لِفَسَادِهَا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ حَتَّى يُدْرِكَهُمُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا إِذَا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25: 23] فَهُوَ لَا يُفِيدُ فِي نَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَرْتَقِ رُوحُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَقِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَاوِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ وَالْجَحِيمَ إِلَى دَرَجَةٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ

91

عَلَى فَرْضِ أَنْ يَمْلِكَهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ جَزَاءَ نَجَاتِهِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ مَعَ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَيْضًا. قَالَ - تَعَالَى - فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [57: 15] بَلْ لَا تُقْبَلُ الْفِدْيَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَامَّةٍ، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ - تَعَالَى - غَنِيًّا عَنِ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُفْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - غَنِيٌّ أَيْضًا عَنْ إِيمَانِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ نَجَاةِ النَّاسِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَلَا أَمْرَ فَوْزِهِمْ بِنَعِيمِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كَمَالٌ يُبْذَلُ وَعَظِيمٌ يَنْفَعُ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ دَاخِلِيٍّ، مُتَعَلِّقًا بِجَوْهَرِ النَّفْسِ، فَمَنْ زَكَّاهَا بِالْإِيمَانِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَفْلَحَ وَمَنْ دَسَّاهَا بِالْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ خَابَ وَخَسِرَ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَاتَّقُوا يَوْمًا [2: 48، 123] إِلَخْ - وَتَفْسِيرَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [2: 254] إِلَخْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مِنَ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الذَّهَبِ وَلَا إِلَى إِنْفَاقِهِ، لِأَنَّ الْأَشْقِيَاءَ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلِيَاءُ فِي غِنًى بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ عَمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلِافْتِدَاءِ لَوْ أُرِيدَ. لَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ غَيْرُ هَذَا. أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَصِيرًا مَا، كَمَا تُفِيدُهُ (مِنْ) الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَيُسَمُّونَهَا زَائِدَةً ; لِأَنَّهَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهَا فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ لَا لِأَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا فِي الْكَلَامِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلَنْ يُقْبَلَ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: لَنْ تُقْبَلَ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ فِيهَا، قَالَ: " قَدْ أُوذِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بُنِيَ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَبُولِ الْفِدْيَةِ هُوَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَبِتَرْكِ الْفَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى التَّسَبُّبِ، كَمَا تَقُولُ: الَّذِي جَاءَنِي لَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ تَجْعَلِ الْمَجِيءَ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: فَلَهُ دِرْهَمٌ " أَيْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الدِّرْهَمَ جَزَاءً لِمَجِيئِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ. فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَةِ أُولَئِكَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ كَوْنِهِمْ كَفَرُوا، وَلَا عَنْ كَوْنِهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ وَمَنِ ازْدَادَ كُفْرًا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمَا إِذَا صَحَّتْ، وَقَدْ عُلِمَ سَبَبُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْقِعِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدَى بِهِ عَلَى ظُهُورِهِ فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَاجِ النَّحْوِيِّ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ وَالتَّقْدِيرُ لَوْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ: وَهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّغْلِيظِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ

الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. أَقُولُ: وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَظْهَرُ وَبِالنَّظْمِ أَلْيَقُ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ رَأْيِ الزَّجَّاجِ: (الثَّانِي) الْوَاوُ دَخَلَتْ لِبَيَانِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ، فَنَصَّ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ بِجِهَةِ الْفِدْيَةِ. أَقُولُ: وَلَوْ قَالَ التَّخْصِيصَ بَعْدَ التَّعْمِيمِ لَكَانَ أَظْهَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَحْتَمِلُهُ الْمُجْمَلُ لَيْسَ تَفْصِيلًا لَهُ. ثُمَّ قَالَ: (الثَّالِثُ) وَهُوَ وَجْهٌ خَطَرَ بِبَالِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ فَإِذَا أَتْحَفَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ، فَحَكَمَ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَبِأَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ بِسَائِرِ الطُّرُقِ أَوْلَى. اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ - وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ وَأَمْثِلَةً ثُمَّ قَالَ - وَأَنْ يُرَادَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ. اهـ. لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ مَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ إِثْرَ بَيَانِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَزَالُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. ذَلِكَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْرِنَ الْكَلَامَ فِي الْإِيمَانِ بِذِكْرِ آثَارِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَدَلُّهَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَمَّا حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي دَعَاوِيهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَكَوْنِهِمْ شَعْبَ اللهِ الْخَاصَّ وَكَوْنِ النُّبُوَّةِ مَحْصُورَةً فِيهِمْ، وَكَوْنِهِمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ وَمِيزَانِهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْجُوحُ وَالرَّجِيحُ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِتِلْكَ الدَّعَاوِي وَالْمُفْتَخِرُونَ بِالْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّصَالِ حَبْلِ النَّسَبِ بِالنَّبِيِّينَ قَدْ أُحْضِرَتْ أَنْفُسُكُمُ الشُّحُّ وَآثَرْتُمْ شَهْوَةَ الْمَالِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَإِذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مَا فَإِنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ أَرْدَأِ مَا يَمْلِكُ وَأَبْغَضِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَهِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ

92

مَحَبَّةَ كَرَائِمِ الْمَالِ فِي قَلْبِهِ تَعْلُو مَحَبَّةَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالرَّغْبَةَ فِي ادِّخَارِهِ تَفُوقُ لَدَيْهِ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ مِنَ الرِّضَى وَالْمَثُوبَةِ، وَلَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ فَتُعَدُّوا مِنَ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فَحَذَفَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِ أَكْبَرِ آيَاتِهِ وَأَوْضَحِ دَلَالَتِهِ، وَهِيَ إِنْفَاقُ الْمَحْبُوبَاتِ وَبَذْلُ الْمُشْتَهَيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْإِنْفَاقِ هُنَا هُوَ الْمَالُ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ عِنْدَ النُّفُوسِ عَظِيمٌ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَسْهِلُّ بَذْلَ رُوحِهِ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَتُؤَيِّدُهُ آيَةُ (2: 177) الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ يَعُمُّ النَّقْدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ، وَشَرْطُ الْبِرِّ بَذْلُ بَعْضِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الطَّعَامِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76: 8] أَيْ عَلَى حُبِّهِمْ إِيَّاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ لِأَجْلِ حُبِّهِ - تَعَالَى - وَالْمَالُ يَجْمَعُ جَمِيعَ الْمَحْبُوبَاتِ وَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرِّ الْمُرَادِ هُنَا الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ - أَيْ يُصِيبُهُ وَيُدْرِكُهُ - إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ فَقِيلَ: هُوَ بِرُّ اللهِ - تَعَالَى - وَإِحْسَانُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَارًّا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2: 177] الْآيَةَ، وَفِيهَا وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَخْ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ، كَمَا جَعَلَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِطْعَامَ الطَّعَامِ عَلَى حُبِّهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْأَبْرَارِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا جَعَلَ الْإِنْفَاقَ مِمَّا يُحِبُّ غَايَةً لَا يَنَالُ الْبِرَّ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا. وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ كَانَ بَرًّا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِسَائِرِ شُعَبِ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالصَّبْرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وَلَيْسَ مَا فُهِمَ بِصَوَابٍ، إِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ بَارًّا بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ - الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ - وَمَا جَعَلَهَا غَايَةً إِلَّا وَهِيَ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْحُصُولِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَوَهَبَهُ الْكَمَالَ. وَهَذَا الْإِنْفَاقُ غَيْرُ الزَّكَاةِ، خِلَافًا لِمَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ عُدَّتْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ وَأَرْكَانِهِ بَعْدَ ذِكْرِ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّ الْمُؤَدِّي، بَلْ وَرَدَ أَمْرُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْنَا أَنِ اكْتَفَى مِنَّا فِي نَيْلِ الْبِرِّ بِأَنْ نُنْفِقَ مِمَّا نُحِبُّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْنَا أَنْ نُنْفِقَ جَمِيعَ مَا نُحِبُّ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ

لَدَيْكُمْ أَوْ مَزْهُودٌ فِيهِ، وَهَلْ أَنْتُمْ مُخْلِصُونَ فِي إِنْفَاقِهِ أَمْ أَنْتُمْ مُرَاءُونَ طَالِبُونَ لِلشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، فَهُوَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تُنْفِقُونَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نِيَّتِكُمْ وَمِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَقَدْرِ مَا تَرْتَقِي بِذَلِكَ أَرْوَاحُكُمْ، فَرُبَّ مُنْفِقٍ مِمَّا يُحِبُّ لَا يَسْلَمُ مِنَ الرِّيَاءِ وَرُبَّ فَقِيرٍ لَا يَجِدُ مَا يُحِبُّ فَيُنْفِقُ مِنْهُ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ يَفِيضُ بِالْبِرِّ حَتَّى لَوْ وَجَدَ مَا أَحَبَّ لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْفِقَهُ كُلَّهُ. وَيَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ جَعْلِ مَا يُحِبُّونَ لِلَّهِ - تَعَالَى -. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بَعْضَ الْوَقَائِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ نَخْلًا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، إِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ بِحَيْثُ أَرَاكَ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَخٍ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ " فَجَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ يُقَالُ لَهَا سُبُلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: وَهِيَ صَدَقَةٌ فَقَبِلَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ أُسَامَةَ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي وَجْهِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَبِلَهَا مِنْكَ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ " فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَمَا إِنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَهَا " وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ سِيَاسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقُلُوبِ. رَأَى أَنَّ زَيْدًا وَأَبَا طَلْحَةَ قَدْ خَرَجَا بِعَاطِفَةِ الْإِيمَانِ عَنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِمَا إِلَيْهِمَا عَلَى تَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِكَرَائِمِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَقْرَبِينَ مِنْهُمَا لِيُثَبِّتَ قُلُوبَهُمَا فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ سَبِيلٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ لَهُمَا بِالنَّدَمِ أَوْ الِامْتِعَاضِ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ فِي أَيْدِي الْغُرَبَاءِ، وَقَدْ يَمْتَعِضُ الْمَرْءُ بَعْدَ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ وَإِنْ فَارَقَهُ مُخْتَارًا مُرْتَاحًا لِعَاطِفَةٍ أَوْ أَرْيَحِيَّةٍ طَارِئَةٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُعَاوِدَهُ مِنَ الْحَنِينِ إِلَيْهِ مَا لَا يُعَاوِدُهُ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَى مِنْهُ ثَمَنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَرَائِمِ الْمَحْبُوبَةِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ عُمَّالَ الصَّدَقَةِ بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ إِلَخْ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللهُ - تَعَالَى - فَلَمْ أَجِدْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ - جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ - فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ - تَعَالَى -، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ

لِلَّهِ - تَعَالَى - لَنَكَحْتُهَا فَأَنْكَحْتُهَا نَافِعًا " فَانْظُرْ كَيْفَ رَاوَدَتْهُ نَفْسُهُ بَعْدَ عِتْقِهَا أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا لِنَفْسِهِ وَلَا يُفَارِقَهَا لَوْلَا أَنْ كَانَ مِمَّا تَرَبَّتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْعَالِيَةُ أَلَّا يَعُودَ فِي شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلَّهِ، وَانْظُرْ كَيْفَ خَصَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ نَافِعًا الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ كَوَلَدِهِ. وَمِمَّا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ ". وَآثَارُ السَّلَفِ فِي الْإِيثَارِ وَبَذْلِ الْمَحْبُوبَاتِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَثِيرَةٌ " نَزَلَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَيْفٌ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَهْلِهِ شَيْئًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - هُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ - فَذَهَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ، فَقَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُهُ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ وَبَقِيَ هُوَ وَعِيَالُهُ مَجْهُودِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ عَجِبَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ صَنِيعِكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَى ضَيْفِكُمْ وَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59: 9] رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَاشْتَهَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ سَمَكَةً، وَكَانَ قَدْ نَقِهَ مِنْ مَرَضٍ فَالْتُمِسَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدْ حَتَّى وُجِدَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَاشْتُرِيَتْ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَشُوِيَتْ وَجِيءَ بِهَا عَلَى رَغِيفٍ فَقَامَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْغُلَامِ لُفَّهَا بِرَغِيفِهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَأَبَى الْغُلَامُ فَرَدَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: كُلْ هَنِيئًا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَعْطَيْتُهُ دِرْهَمًا وَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لُفَّهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ أَوْ غَفَرَ اللهُ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا كَانَ أَحْوَجَ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا أَحْوَجُ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهُ سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ وَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ " نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي الْقُوتِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَنْطَاكِيِّ الصُّوفِيِّ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ نَفْسًا وَنَيِّفٌ وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الرَّيِّ وَلَهُمْ أَرْغِفَةٌ مَعْدُودَةٌ لَا تُشْبِعُ جَمِيعَهُمْ، فَكَسَرُوا الرُّغْفَانَ وَأَطْفَئُوا السِّرَاجَ وَجَلَسُوا لِلطَّعَامِ وَأَوْهَمَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ، فَلَمَّا رُفِعَ إِذَا الطَّعَامُ بِحَالِهِ لَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا.

وَفِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَرَجَ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَلَى نَخِيلِ قَوْمٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ يَعْمَلُ فِيهِ، إِذْ أَتَى الْغُلَامُ بِقُوتِهِ فَدَخَلَ الْحَائِطَ كَلْبٌ وَدَنَا مِنَ الْغُلَامِ، فَرَمَى إِلَيْهِ الْغُلَامُ بِقُرْصٍ فَأَكَلَهُ، ثُمَّ رَمَى إِلَيْهِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ فَأَكَلَهُمَا وَعَبْدُ اللهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ كَمْ قُوتُكَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلِمَ آثَرْتَ هَذَا الْكَلْبَ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ بِأَرْضِ كِلَابٍ، إِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ جَائِعًا فَكَرِهْتُ رَدَّهُ، قَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ الْيَوْمَ؟ قَالَ: أَطْوِي يَوْمِي هَذَا. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أُلَامُ عَلَى السَّخَاءِ؟ إِنَّ هَذَا لَأَسْخَى مِنِّي. فَاشْتَرَى الْحَائِطَ (أَيْ بُسْتَانَ النَّخْلِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ) وَالْغُلَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآلَاتِ فَأَعْتَقَ الْغُلَامَ وَوَهَبَهُ لَهُ. وَفِي هَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَيَنْتَمِي إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

93

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ وَمَا اسْتَحْدَثُوا فِي دِينِهِمْ. أَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَفِي دَفْعِ شُبْهَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَرَّرَهُمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَكَذَا:

قَالُوا: إِذَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - كَمَا تَدَّعِي - فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كَلَحْمِ الْإِبِلِ؟ أَمَا وَقَدِ اسْتَبَحْتَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّكَ مُصَدِّقٌ لَهُمْ وَمُوَافِقٌ فِي الدِّينِ، وَلَا أَنْ تَخُصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ وَتَقُولَ: إِنَّكَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ. هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ فِي نَسْلِ وَلَدِهِ إِسْحَاقَ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، فَلَوْ كُنْتَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَعَظَّمْتَ مَا عَظَّمُوا، وَلَمَا تَحَوَّلْتَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَظَّمْتَ مَكَانًا آخَرَ اتَّخَذْتَهُ مُصَلًّى وَقِبْلَةً - وَهُوَ الْكَعْبَةُ - فَخَالَفْتَ الْجَمِيعَ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ هُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَكِنَّ الْجَلَالَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَرِّرُونَ الشُّبْهَةَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَجْهَ دَفْعِهَا بَيَانًا مُقْنِعًا، إِذْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُوَضِّحُهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حَلَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَأْدِيبًا، كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [4: 160] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِإِسْرَائِيلَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَعْقُوبُ نَفْسُهُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِ الشَّعْبِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الظُّلْمَ وَاجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ التَّحْرِيمِ، كَمَا صَرَّحَتِ الْآيَةُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلَّ، وَكَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرُمَ عَلَى إِسْرَائِيلَ تَأْدِيبًا عَلَى جَرَائِمَ أَصَابُوهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ لَمْ يَجْتَرِحُوا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتُ؟ ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا تَقْرِيرَ الدَّفْعِ وَسَنَدَهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ ; لَا تَخَافُونَ أَنْ تُكَذِّبَكُمْ نُصُوصُهَا. أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جِئْتُمْ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْهَا لَمَا كَانَ إِلَّا مُؤَيِّدًا لِلْقُرْآنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمْتُ. وَعُلِّلَتْ جُمْلَةُ التَّكَالِيفِ بِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ مُتَمَرِّدٌ يُقَاوِمُ الرَّبَّ، كَمَا قَالَ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ (اقْرَأِ الْفَصْلَ 31 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُصُولِ التَّوْرَاةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا قَوْلُ الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَنَذَرَ إِنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْإِبِلِ، فَهُوَ دَسِيسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَا الْعِرْقَ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ الْتَقَى فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِالرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَصَارَعَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَادَ يَعْقُوبُ يَغْلِبُهُ، وَلَكِنِ اعْتَرَاهُ عِرْقُ النَّسَا. إِلَخْ مَا حَرَّفُوهُ. أَقُولُ: وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ - كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - ((32: 25)) وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخِذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ [26] وَقَالَ أَطْلِقْنِي لِأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَقَالَ

لَا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي [27] فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُكَ. فَقَالَ: يَعْقُوبُ [28] فَقَالَ لَا يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلُ. لِأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ [29] وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ. فَقَالَ: لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟ وَبَارَكَهُ هُنَاكَ [30] فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ فنيئيلَ. قَائِلًا لِأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ وَنَجَّيْتُ نَفْسِي [31] وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فُنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخِذِهِ [32] لِذَلِكَ لَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِذِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لِأَنَّهُ ضُرِبَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا " اهـ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ نَذَرَ شَيْئًا وَلَا حَرَّمَ شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنَّ مَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ هُوَ زَائِدَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَرَّمَ لُحُومَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَصِحَّةُ السَّنَدِ فِي بَعْضِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ - كَمَا زَعَمَ الْحَاكِمُ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهَا إِسْرَائِيلِيًّا. وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُطَّلِعِ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَلَوْ أُرِيدَ بِإِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ نَفْسُهُ لَمَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ لِأَنَّ زَمَنَ يَعْقُوبَ سَابِقٌ عَلَى زَمَنِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ سَبْقًا لَا يُشْتَبَهُ فِيهِ فَيُحْتَرَسُ عَنْهُ. وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مَا امْتَنَعُوا عَنْ أَكْلِهِ وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالتَّقْلِيدِ لَا بِحُكْمٍ مِنَ اللهِ، كَمَا يُعْهَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الْعَرَبِ لِلْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي دَفَعَتْهَا الْآيَةُ هِيَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، فَأَلْزَمَهُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ نَفْسَهَا نَسَخَتْ بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْرَائِيلُ، وَهُوَ إِلْزَامٌ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَصِّي مِنْهُ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ أَخْبَرَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا يَسْقُطُ بَحْثُهُمْ فِي كَوْنِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الطَّعَامَ مَا يُطْعَمُ، أَيْ يُتَنَاوَلُ لِأَجْلِ الْغِذَاءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: طَعِمَ الْمَاءَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَكَانَ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْخُبْزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَكَلَ الطَّعَامَ مَأْدُومًا، وَعَلَى الْبُرِّ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ " كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " إِلَخْ. - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ حَتْمًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [5: 96] وَعَلَى الذَّبَائِحِ أَوْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [5: 5] الْآيَةَ. وَالْحِلُّ بِالْكَسْرِ: مَصْدَرُ حَلَّ الشَّيْءُ ضِدَّ حَرُمَ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَإِسْرَائِيلُ: لَقَبُ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَعْنَاهُ " الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللهِ " وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عِنْدَهُمْ فِي سَبَبِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ مِنَ الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى فَمَا دُونَهُمَا.

94

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَإِلْزَامِ الْكَاذِبِينَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْرَاةِ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا وَتِلَاوَتِهَا عَلَى الْمَلَأِ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْهَرَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ التَّوْرَاةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ النَّصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بِتَحْوِيلِهِمُ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ وَجْهِهِ، وَوَضْعِ حُكْمِ اللهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قُلْ صَدَقَ اللهُ فِيمَا أَنْبَأَنِي بِهِ مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ عَلَى إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّنِي مُبَلِّغٌ عَنْهُ، إِذْ مَا كَانَ لِي لَوْلَا وَحْيُهُ أَنْ أَعْرِفَ صِدْقَكُمْ مِنْ كَذِبِكُمْ فِيمَا تُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْ أَنْبِيَائِكُمْ، وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا لَا غُلُوَّ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ الْقَوِيمَةُ وَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَحْدَهُ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى -، أَوْ يَخَافُونَ الضُّرَّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَّتُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ جَوَابُ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ الَّذِي نَسْتَقْبِلُهُ فِي صَلَاتِنَا هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مَعْبَدًا لِلنَّاسِ، بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَهُ بِعِدَّةِ قُرُونٍ، بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَتَوَجَّهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ هَلْ هِيَ أَوَّلِيَّةُ الشَّرَفِ أَمْ أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْأَنْبِيَاءُ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ بَنَاهُ الْأَنْبِيَاءُ أَقْدَمَ مِنْهُ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الشَّرَفِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ زَمَانِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِ الْبُيُوتِ مُطْلَقًا. فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَتْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بُنِيَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا شَيْءَ فِي الْعَقْلِ يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْإِطْلَاقُ قَدْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ 800 سَنَةٍ - كَذَا قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ - وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَمَّ بِنَاؤُهُ سَنَةَ 1005 قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدَيْنِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ الْوَضْعِ لَا الْبِنَاءِ. قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

96

عَنْ أَوَّلِ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً وَأَجَابُوا عَمَّا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ بِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الْوَضْعَ غَيْرُ الْبِنَاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَيْتًا وَلَوْ جُعِلَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا وَلَمْ يُبْنَ فِيهِ لَمَا سُمِّيَ بَيْتًا بَلْ مَسْجِدًا أَوْ قِبْلَةً، وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِلْعِبَادَةِ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَعْقُوبُ وَإِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مُجَدِّدًا لَهُ. هَذَا وَإِنَّ أَخْبَارَ التَّارِيخِ لَيْسَتْ مِمَّا بَلَغَ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ يُتَّبَعُ، وَالْمَوْضُوعَاتُ الْمَرْوِيَّةُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي ذِكْرِهَا وَبَيَانِ وَضْعِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْبَيْتِ: مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالِهِ الْحَسَنَةِ الْحِسِّيَّةِ وَحَالِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَمَّا الْأُولَى: فَهِيَ مَا أُفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَتَرَى الْأَقْوَاتَ وَالثِّمَارَ فِي مَكَّةَ أَكْثَرَ وَأَجْوَدَ وَأَقَلَّ ثَمَنًا مِنْهَا فِي مِثْلِ مِصْرَ وَكَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ هَوَى أَفْئِدَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِتْيَانُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُشَاةً وَرُكْبَانًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وَتَوْلِيَةُ وُجُوهِهِمْ شَطْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ لَا تَمُرُّ سَاعَةٌ وَلَا دَقِيقَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا أُنَاسٌ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يُصَلُّونَ. فَأَيُّ هِدَايَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ؟ تِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [14: 37] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [28: 57] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مُبَارَكًا يَشْمَلُ الْبَرَكَاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ " بَكَّةَ " اسْمٌ لِمَكَّةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ إِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَسَمَدَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ، وَضَرْبَةِ لَازِمٍ وَضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَرَاتِمٍ وَرَاتِبٍ، وَنَمِيطٍ وَنَبِيطٍ وَقِيلَ: بَكَّةُ اسْمُ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، أَوْ حَيْثُ الطَّوَافُ مِنَ التَّبَاكِ، أَيِ الِازْدِحَامِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ بَطْنِ مَكَّةَ حَيْثُ الْحَرَمِ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ فِيهِ دَلَائِلُ أَوْ عَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، أَحَدُهَا أَوْ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَوْضِعُ قِيَامِهِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. فَأَيُّ دَلِيلٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا عَلَى كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وُضِعَ لِيَعْبُدَ النَّاسُ فِيهِ رَبَّهُمْ؟ وَإِبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ أَثَرُهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ فِيهِمْ لَا يُعْرَفُ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ أَثَرٌ وَلَا يُحْفَظُ لَهُ نَسَبٌ.

97

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا آيَةٌ ثَانِيَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ، وَهِيَ اتِّفَاقُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كُلِّهَا عَلَى احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ لِنِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ دَخَلَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ لَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَإِيذَائِهِ فَقَطْ بَلْ يَأْمَنُ أَنْ يَثْأَرَ مِنْهُ مَنْ سَفَكَ هُوَ دِمَاءَهُمْ وَاسْتَبَاحَ حُرُمَاتِهِمْ مَا دَامَ فِيهِ. مَضَى عَلَى هَذَا عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْمَنَازِعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَعْبُودَاتِ، وَكَثْرَةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. وَيُرَدُّ عَلَى إِقْرَارِ الْإِسْلَامِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ فَتْحُ مَكَّةَ بِالسَّيْفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهَا حَلَّتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَخْصِيصِهِ لِمَا وُضِعَ لَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُرْمَةَ مَكَّةَ كُلِّهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ ضَوَاحِيهَا وَحِلَّهَا لِلنَّبِيِّ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ أَمْنُ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً وَلَا بَعْضَ سَاعَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي بِأَمْرِهِ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ وَلَمَّا أَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حَامِلِ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ لَهُ فِي الطَّرِيقِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ (رَاجِعِ السِّيَرَ) . وَأَمَّا فِعْلُ الْحَجَّاجِ - أَخْزَاهُ اللهُ - فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّذُوذِ الَّذِي لَا يُنَافِي الِاتِّفَاقَ عَلَى احْتِرَامِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَأْمِينِ مَنْ دَخَلَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهِ عَجْزًا طَبِيعِيًّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَلْهَمَهُمُ احْتِرَامَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَرَّمَ الْإِلْحَادَ وَالِاعْتِدَاءَ فِيهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ وَجُنْدُهُ يَعْتَقِدُونَ حِلَّ مَا فَعَلُوا مِنْ رَمْيِ الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلَكِنَّهَا السِّيَاسَةُ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ، وَتُوقِعُهُ فِي الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنَّ مَا يُفْعَلُ الْآنَ فِي الْحَرَمِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ الْمُسْتَمِرِّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَلَا ضَرُورَةَ مُلْجِئَةٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ السِّيَاسَةُ السَّوْءَى قَضَتْ بِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْ أُمَرَاءِ مَكَّةَ وَشُرَفَائِهَا وَإِبْعَادِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا قُوَّةٌ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ! ! وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ؟ يُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيْطَانُ السِّيَاسَةِ أَنَّ عُمْرَانَ الْحِجَازِ وَثِقَةَ النَّاسِ بِأُمَرَائِهِ وَشُرَفَائِهِ، وَأَمْنَ الْعُقَلَاءِ وَالسَّرَوَاتِ فِيهِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي إِنْشَاءِ خِلَافَةٍ عَرَبِيَّةٍ فِيهِ. إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَابِغِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دُونَ أَدَائِهِمْ لِفَرِيضَةِ الْحَجِّ عَقَبَاتٍ سِيَاسِيَّةً لَا يَسْهُلُ اقْتِحَامُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي صُحُفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَمِيرَ مِصْرَ اسْتَأْذَنَ السُّلْطَانَ فِي حَجِّ وَالِدَتِهِ وَبَعْضِ أُمَرَاءِ أُسْرَتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ. وَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَجَّ

يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ فِي الْحَرَمِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْجَاهِلِيُّ فِيهِ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ. وَإِنَّ كَاتِبَ هَذِهِ السُّطُورِ يَعْتَقِدُ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُحَقِّقَ لَنَا ثَانِيَةً مَضْمُونَ قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا لِنَمْتَثِلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ - كَمَا يَأْتِي فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ - فَلَا نَلْجَأُ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَمَانِ بِمِثْلِ مَا أَوَّلَهُ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ هَدْمٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ هُنَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، الَّذِينَ أَقَامُوا الدِّينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا دُخُولُ الْبَيْتِ إِلَّا بَعْضُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، إِذَا أَخْلَصَ صَاحِبُهُ فِيهِ. أَقُولُ: وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [6: 82] وَمَا رَوَوْهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ لَا يُنَافِي الْمُتَبَادِرَ الْمُخْتَارَ. وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ كَمَا قِيلَ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَهُوَ بَيَانُ آيَةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْبَيْتِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْفَرْضِيَّةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ مَزَايَاهُ وَدَلَائِلِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْمُعْتَرِضِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى اسْتِقْبَالِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَهُوَ يُفِيدُ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ مَعْنًى خَبَرِيًّا وَبِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ مَعْنًى إِنْشَائِيًّا وَهُوَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ - وَإِنْ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ - هِيَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ. وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَكْبَرُ مِنِ افْتِرَاضِ حَجِّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ وَمَا زَالُوا يَحُجُّونَهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَرَبَ عَنْ ذَلِكَ شِرْكُهَا وَإِنَّمَا كَانُوا يَحُجُّونَ عَمَلًا بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ عَمَلٌ عَامٌّ جَرَوْا عَلَيْهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ آيَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى نِسْبَةِ هَذَا الْبَيْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ نُقُولِ الْمُؤَرِّخِينَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبِهَذَا وَبِمَا سَبَقَهُ بَطَلَ اعْتِرَاضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دُونَهُمْ. أَمَّا الْحِجُّ فَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَصْدُ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ - وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ - وَفَتْحِهَا - وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي بُعْدِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا - مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا، وَمَا زَادَ النَّاسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَّا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَتِهَا الْوَاضِحَةِ مِنَ الْآيَةِ أَتَمَّ الْوُضُوحِ ; إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَمْنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْأَمْنَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ

آمِنَةً قَطْعًا، وَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَأْمَنُ فِيهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِالِاشْتِغَالِ بِالسِّيَاسَةِ. وَكَيْفَ وَقَدْ أُلْقِيَ بَعْضُ عُلَمَائِهَا فِي ظُلْمَةِ السِّجْنِ مُكَبَّلًا بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا أَيَّدَ فِيهِ التَّوْحِيدَ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَا طَرَأَ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَزَعَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ؟ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَ مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الَّذِي كَانَ يُنْكِرُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ حَيًّا، أَكَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي عَصْرِ الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟ وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِي الْأَرْوَاحِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْيَوْمَ مِنْ مَادِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، دَعِ الْفِرَقَ الَّتِي وُسِمَتْ بِالِابْتِدَاعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السُّنَّةِ يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ فِي بَعْضِ الْآرَاءِ أَيَّامَ كَانَ قُرْبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَبُعْدِهِمْ عَنْهُ الْيَوْمَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا إِنَّهُ بَيَانٌ لِمَوْقِعِ الْإِيجَابِ وَمَحَلِّهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ مُوَجَّهَةٌ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ وَوَعِيدٌ عَلَى جُحُودِهِ، وَبَيَانٌ لِتَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِزَالَةِ مَا عَسَاهُ يَسْبِقُ إِلَى أَوْهَامِ الضُّعَفَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ نِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ، وَالْعِلْمِ بِفَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحُجُّوهُ مِنْ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: جُحُودُ كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِلْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِمَا فَرَضَ اللهُ مِنْ حَجِّهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَمِّمَ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا وَإِنْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ بِاخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ إِلَّا مَا قِيلَ فِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفَةٍ، بَلْ عَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ الْمَرْفُوعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - بِلَفْظِ: مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كِتَابِهِ:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ. وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي مِثْلِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعَقِيلِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ ; إِذْ لَا نَدَّعِي أَنَّ هُنَا شَيْئًا صَحِيحًا، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ عُمَرَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ " وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا يُؤَخِّرَ الْمُسْتَطِيعُ الْحَجَّ بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ. أَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَزَايَا وَآيَاتٍ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَالْمَزَايَا كَوْنُهُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُبَارَكًا، وَكَوْنُهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. وَالْآيَاتُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ دَاخِلِهِ، وَالْحَجُّ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَذْكُرُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا خَصَائِصَ وَمَزَايَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ " مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْآيَاتُ وَإِنَّ قَوْلَهُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللهَ فِيهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الدَّافِعَ لَهُمْ إِلَى هَذَا فَهْمُهُمْ أَنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مُحَاوَلَةُ الْآخَرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ عِدَّةِ آيَاتٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ ; لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ ; لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ أُلُوفَ السِّنِينَ آيَةٌ. فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. اهـ. أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [2: 125] أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَقَامَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْقِفِهِ حَيْثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَثَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْأَثَرُ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي لَامِيَّتِهِ: وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: " رَطْبَةٌ " أَنَّ الصَّخْرَةَ كَانَتْ عِنْدَمَا وَطِئَ عَلَيْهَا رَطْبَةً لَمْ تَتَحَجَّرْ ثُمَّ تَحَجَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهَا ; وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهِ آيَةً إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ دُونَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى

98

الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهَا كَانَتْ رَطْبَةً كَرَامَةً لَهُ (وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْقَصِيدَةِ فِي الْمَنَارِ - 465 م 9) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَقَامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ مَقَامَاتُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَا قَامَ بِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْمُتَبَادِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَمِمَّا عَدُّوهُ مِنَ الْآيَاتِ: قَصْمُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ بِسُوءٍ كَأَصْحَابِ الْفِيلِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنَ الْحَجَّاجِ وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَعَدَمُ تَعَرُّضِ ضَوَارِي السِّبَاعِ لِلصَّيُودِ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الضَّعْفِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ آيَةً. وَعَدَمُ نَفْرَةِ الطَّيْرِ مِنَ النَّاسِ هُنَاكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّيْرَ تَأْلَفُ النَّاسَ لِعَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لَهَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُهُ فِي الْأَرْضِ. وَانْحِرَافُ الطَّيْرِ عَنْ مُوَازَاتِهِ وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ. وَكَوْنُ وُقُوعِ الْغَيْثِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْخِصْبِ، فَإِذَا عَمَّهُ كَانَ الْخِصْبُ عَامًّا وَإِذَا وَقَعَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ كَانَ الْخِصْبُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ آيَةٌ وَهْمِيَّةٌ. وَلَعَمْرِي إِنَّ بَيْتَ اللهِ غَنِيٌّ عَنِ اخْتِرَاعِ الْآيَاتِ وَإِلْصَاقِهَا بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ، فَحَسْبُهُ شَرَفًا كَوْنُهُ حَرَمًا آمِنًا وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَمُبَارَكًا هَدًى لِلْعَالَمِينَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ وَإِقْسَامُهُ - تَعَالَى - بِهِ وَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِهِ فِي حُرْمَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَفَضْلِهِ، كَكَوْنِهِ لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ - أَيْ لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهُ - وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُمْلَكُ لُقَطَتُهُ، وَكَوْنُ قَصْدِهِ مُكَفِّرًا لِلذُّنُوبِ مَاحِيًا لِلْخَطَايَا، وَكَوْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهِ لَا تُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ رَمْزًا إِلَى مُبَايَعَةِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهِ، وَكَوْنُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ فِي غَيْرِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ تُطْلَبُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَكُتُبِ السُّنَنِ. قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَقُولُ لَمَّا أَقَامَ - سُبْحَانَهُ - الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِهِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَنْ يُبَكِّتَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِيمَانِ، وَابْتِغَائِهِ عِوَجًا، وَضَلَالِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ. فَقَالَ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي بَيْتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَتِهِ وَعَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ

وَتَعَبُّدِهِ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بِآيَاتِهِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَإِحْيَائِهِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّتِهِ وَفَضْلِهِ - وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ عَنِ الْبَيْتِ - وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِكُمْ هَذَا وَسَائِرَ أَعْمَالِكُمْ مُحِيطٌ بِهِ، أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ بِهِ وَيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ؟ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ تَصْرِفُونَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ سَبِيلُ اللهِ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ بِمَا تُرَقِّي مِنْ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَمِنْ نَفْسِهِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، تَصُدُّونَ عَنْهَا بِالتَّكْذِيبِ كِبْرًا وَحَسَدًا، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ الْبَاطِلَةِ مُكَابَرَةً وَبَغْيًا وَالْكَيْدِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بَغْيًا وَعُدْوَانًا تَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْهَا قَاصِدِينَ بِصَدِّكُمْ أَنْ تَكُونَ مُعْوَجَّةً فِي نَظَرِ مَنْ يُؤْمِنُ لَكُمْ وَيَغْتَرُّ بِكَيْدِكُمْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بِأَنَّهَا سَبِيلُ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةُ، لَا تَرَوْنَ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتَا، عَارِفُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ صَدَّ عَنْهَا ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ فِي قَوْمِكَ، تُوصَفُونَ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ، وَتَسْتَشْهِدُونَ فِي الْقَضَايَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الصَّدِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى بَقَايَا الْكِتَابِ وَمَا يُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّينَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ السَّبِيلِ: سَبِيلِ الْحَقِّ وَالسَّبْقِ إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ هَذَا الصَّدِّ وَغَيْرِهِ فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ. فَالتَّذْيِيلُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ، وَقَدْ جَاءَ بِنَفْيِ الْغَفْلَةِ ; لِأَنَّ صَدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ كَانَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ وَالْحِيَالِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى الْغَافِلِ. كَمَا خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَى عَمَلِهِمْ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهَا هُوَ ظَاهِرٌ مَشْهُودٌ، فَذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمَا شَرٌّ، فَبَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ ذَكَرُوا مَا (كَانَ) بَيْنَهُمْ حَتَّى غَضِبُوا وَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ فَنَزَلَتْ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا ". وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ يَهُودِيًّا - عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ تَآلُفِهِمْ بَعْدَ الْعُدْاوَنِ، فَأَمَرَ شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ فَيُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَفَعَلَ، فَتَنَازَعُوا وَتُفَاخَرُوا حَتَّى وَثَبَ رَجُلَانِ: أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ فَتَقَاوَلَا، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ، وَتَوَاثَبُوا لِلْقِتَالِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ حَتَّى وَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا فَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَوْسٍ وَجَبَّارٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

99

الْآيَةَ. وَفِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ الْآيَةَ. انْتَهَى مَنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسَّيُوطِيِّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ مُفَصَّلًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضَّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ - وَكَانَ مَعَهُ - فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ - أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ - فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَتَحَاوَرَ النَّاسُ، فَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللهَ اللهَ، أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا! ؟ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُّوِهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللهِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَنْزَلَ اللهُ فِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوْسِ بْنِ قُرَظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَأَوْرَدَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةً، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ بِالْآيَاتِ الْآتِيَةِ.

100

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنْ صَحَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ هُوَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ الَّتِي كَانَ الْكُفْرُ سَبَبَهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ عَلَى هَذَا هُوَ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةٌ يَانِعَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَإِذَا لَمْ نَنْظُرْ إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ السَّبَبِ فَالْمَعْنَى: وَضَعُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُمْ وَسَلَكْتُمْ مَسَالِكَهُمْ فَإِنَّكُمْ تَكْفُرُونَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكُفْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: حَقِيقَتُهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ إِذَا أَصْغَيْتُمْ إِلَى مَا يُلْقِيهِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ مِنْ مُثِيرَاتِ الْفِتَنِ وَاسْتَجَبْتُمْ لِمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ فَكُنْتُمْ طَائِعِينَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ مِنْكُمْ بِالْعَوْدِ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، بَلْ يَتَجَاوَزُونَ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [2: 109] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [3: 69] وَلَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ إِتْيَانِ مَا يَوَدُّ إِلَّا عَجْزُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا - وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى

101

الْوَجْهِ الثَّانِي. أَمَّا اتِّصَالُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى هَذَا فَظَاهِرٌ جَلِيٌّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا وَبَّخَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ الْإِسْلَامُ، آثَرَ إِقَامَةَ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةَ شُبُهَاتِهِمْ - نَاسَبَ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَهَذَا شَأْنُ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ فِي ظُهُورِ حَقِيقَتِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعُوا وَلَا أَنْ يُسْمَعَ لَهُمْ قَوْلٌ، فَإِنَّهُمْ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ وَرُوَّادُ الْكُفْرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَهِيَ رُوحُ الْهِدَايَةِ وَحِفَاظُ الْإِيمَانِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَلَكُمْ فِي سُنَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ خَيْرُ أُسْوَةٍ تُغَذِّي إِيمَانَكُمْ وَتُنِيرُ بُرْهَانَكُمْ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ أُوتُوا هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوُجِدَ فِيهِمُ الرَّسُولُ الْحَكِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ أَنْ يَبْتَغُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا، حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ، وَعُرِفُوا بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ يَكُونُ الِاعْتِصَامُ إِذَنْ هُوَ حَبْلُهُ الْمَمْدُودُ. وَرَسُولُهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ وَهُوَ وِرْدُهُ الْمَوْرُودُ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يُضَلُّ فِيهِ السَّالِكُ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَهَالِكِ، فَلَا تَرُوجُ عِنْدَهُ الشُّبَهَاتُ، وَلَا تَرُوقُ فِي عَيْنِهِ التُّرَّهَاتُ، وَقَدْ جَاءَ جَوَابُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمُحَقِّقِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَنْ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - وَيَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ هِدَايَتُهُ وَثَبَتَتِ اسْتِقَامَتُهُ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أَيْ وَاجِبٌ تَقْوَاهُ وَمَا يَحِقُّ مِنْهَا، كَمَا فِي الْكَشَّافِ، قَالَ: مِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64: 16] أَيْ بَالِغُوا فِي التَّقْوَى حَتَّى لَا تَتْرُكُوا مِنَ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهَا شَيْئًا. اهـ. هَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْعِبَارَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ بِحَسْبَ ذَوْقِهِ السَّلِيمِ وَفَهْمِهِ الدَّقِيقِ، ثُمَّ نَقَلَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَمَعْنَى الْعِبَارَتَيْنِ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَهِمَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الثَّانِيَةَ نَسَخَتِ الْأُولَى، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ: أَنَّ مَعْنَى اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ " أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكُرَ فَلَا يُكْفَرُ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ فَقَامُوا " فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ " حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتِ الْآيَةَ الْأُولَى، كَذَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ النَّسْخَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَدَمُ نَسْخِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَهَا بِأَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. أَيْ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تُقَرِّرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ مِمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَسْخِهَا.

102

أَقُولُ: وَإِذَا كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّسْخِ ضَعِيفَةً بِحَسْبَ الصِّنَاعَةِ، فَهِيَ فِي اعْتِقَادِي مَوْضُوعَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَفْهَمِ الْآيَةَ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهَا مَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَكَانَتْ مِنْ تَكْلِيفِ مَالَا يُطَاقُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَبِهِ أَخَذَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مَنْعِ النَّسْخِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَمَعْنَاهُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: اسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَحَافِظُوا عَلَى أَعْمَالِهِ حَتَّى الْمَوْتِ. فَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا الدِّينُ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى حَقِّ التَّقْوَى. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصُ، وَقِيلَ الْإِيمَانُ دُونَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ إِلَى الْمَوْتِ. أَقُولُ: وَهَذَا النَّهْيُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أَنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاشَ عَلَى الْيَقِينِ حَقَّ التَّقْوَى وَالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يُنَافِي الْإِسْلَامَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ الَّذِي كَانَتْ تِلْكَ الْقَاعِدَةُ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - مَا بِهِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَقَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا حَبْلُ اللهِ: هُوَ الْقُرْآنُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: " كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ " عُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْحُسْنِ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: " حَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ " وَقِيلَ: هُوَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعِبَارَةَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شُبِّهَتْ فِيهَا حَالَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي اهْتِدَائِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ وَتَكَاتُفِهِمْ بِحَالَةِ اسْتِمْسَاكِ الْمُتَدَلِّي مِنْ مَكَانٍ عَالٍ بِحَبْلٍ مَتِينٍ يَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ السُّقُوطِ. وَصَوَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ التَّمْثِيلَ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ هَذَا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ: الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ تَمْثِيلًا، كَأَنَّ الدِّينَ فِي سُلْطَانِهِ عَلَى النُّفُوسِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْإِرَادَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى حَسَبِ هَدْيِهِ حَبْلٌ مَتِينٌ يَأْخُذُ بِهِ الْآخِذُ فَيَأْمَنُ السُّقُوطَ، كَأَنَّ الْآخِذِينَ بِهِ قَوْمٌ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ يُخْشَى عَلَيْهِمُ السُّقُوطُ مِنْهُ. فَأَخَذُوا بِحَبَلٍ مَوَثَّقٍ جَمَعُوا بِهِ قُوَّتَهُمْ فَامْتَنَعُوا مِنَ السُّقُوطِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْ تَفْسِيرِ حَبْلِ اللهِ بِكِتَابِهِ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ كَانَ آخِذًا بِالْإِسْلَامِ. وَلَا يَظْهَرُ تَفْسِيرُهُ بِالْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِمَاعُ هُوَ نَفْسُ الِاعْتِصَامِ، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أَنَّ اجْتِمَاعَنَا وَوَحْدَتَنَا بِكِتَابِهِ، عَلَيْهِ نَجْتَمِعُ، وَبِهِ نَتَّحِدُ، لَا بِجِنْسِيَّاتٍ نَتَّبِعُهَا، وَلَا بِمَذَاهِبَ نَبْتَدِعُهَا، وَلَا بِمُوَاضَعَاتٍ نَضَعُهَا، وَلَا بِسِيَاسَاتٍ نَخْتَرِعُهَا، ثُمَّ نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِانْفِصَامِ بَعْدَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَالِاعْتِصَامِ، لِمَا فِي التَّفَرُّقِ مِنْ زَوَالِ الْوَحْدَةِ الَّتِي هِيَ مَعْقِدُ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَبِالْعِزَّةِ يَعْتَزُّ الْحَقُّ فَيَعْلُو فِي

103

الْعَالَمِينَ، وَبِالْقُوَّةِ يُحْفَظُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ هَجَمَاتِ الْمُوَاثِبِينَ وَكَيْدِ الْكَائِدِينَ، فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [6: 153] فَحَبْلُ اللهِ هُوَ صِرَاطُهُ وَسَبِيلُهُ، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَا مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ هُوَ السُّبُلُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ اتِّبَاعِهَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ; لِأَنَّهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ مَدَنِيَّةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَفَرَّقُوا بِاتِّبَاعِ السُّبُلِ غَيْرَ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ كِتَابُهُ. فَمِنْ تِلْكَ السُّبُلِ الْمُفَرِّقَةِ: إِحْدَاثُ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [6: 159] وَمِنْهَا عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا مَعَهَا فِيهَا، لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيُهْرِيقَ دَمَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. وَقَدِ اعْتَصَمَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَهْلُ أُورُبَّا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَرَى سُمُّ ذَلِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ مُتَفَرْنِجَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْمُسْلِمِينَ جِنْسِيَّاتٍ وَطَنِيَّةً لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ، وَيُوجَدُ فِي مِصْرَ مَنْ يَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ مُخَادِعِينَ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَنْهَضُونَ بِالْوَطَنِ وَيُعْلُونَ شَأْنَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ حَيَاةَ الْوَطَنِ وَارْتِقَاءَهُ بِاتِّحَادِ كُلِّ الْمُقِيمِينَ فِيهِ عَلَى إِحْيَائِهِ، لَا فِي تَفَرُّقِهِمْ وَوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَّحِدِينَ مِنْهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، لَا مِنْ وَسَائِلِ التَّقَدُّمِ وَالْعُمْرَانِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِاتِّحَادِ اتِّفَاقِ كُلِّ قَوْمٍ تَضُمُّهُمْ أَرْضٌ وَتَحْكُمُهُمُ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهَا - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ وَأَجْنَاسُهُمْ - وَيَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ أَوْسَعَ، وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ وَالْأَجْنَاسِ، لِتَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ الْأُخُوَّةُ فِي اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا قَاسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ

أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَبِهَا كَانَ يُؤْثِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي خَصَاصَةٍ وَحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَعْدَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَتَسَافُكِ الدِّمَاءِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي جُمْلَتِهِ لِلْجَمَاهِيرِ، وَفِي تَفَاصِيلِهِ الْغَرِيبَةِ لِلْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَخْبَارِهِمُ الْمَرْوِيَّةِ وَالْمُدَوَّنَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحُرُوبَ تَطَاوَلَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى أَطْفَأَهَا الْإِسْلَامُ، وَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا بَعْضُ مَا أَفَادَهُمُ الْإِسْلَامُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَنْقَذَهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا أَيْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ بِوَثَنِيَّتِكُمْ وَشِرْكِكُمْ بِاللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي أَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَهَبَطَتْ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى دَرْكٍ سَافِلٍ حَتَّى كَانَتْ كَأَنَّهَا عَلَى طَرَفِ حُفْرَةٍ يُوشِكُ أَنْ تَنْهَارَ بِهَا فِي النَّارِ، فَشَفَا الْحُفْرَةِ أَوِ الْبِئْرِ: طَرَفُهَا، وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْهُ أَشَفَى عَلَى الْهَلَاكِ، أَيْ حَصَلَ عَلَى شَفَاهُ. وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ فِي النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَلَا سِيَّمَا الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلًا: أَنْ أَخْرَجَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَخَازِيهِ وَشَقَائِهِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ حَتَّى صَارُوا بِهَذِهِ الْأُلْفَةِ أَسْعَدَ النَّاسِ، ثُمَّ صَارُوا سَادَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْقَذَهُمْ بِذَلِكَ مِنَ النَّارِ فَكَانُوا بِهِ سُعَدَاءَ الدَّارَيْنِ وَالْفَائِزِينَ بِالْحُسْنَيَيْنِ. أَفَلَيْسَ أَوَّلُ وَاجِبِ مَنْ شَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي لَا تَفْضُلُهَا نِعْمَةٌ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ وَسَاوِسِ وَدَسَائِسِ أُولَئِكَ الْمَغْرُورِينَ بِسَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هِدَايَتِهِمْ؟ بَلَى، فَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ وَبَطَلَ الْإِفْكُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْظُرْ آيَةَ اللهِ، قَوْمٌ مُتَخَالِفُونَ بَيْنَ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ، يَتَرَبَّصُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ الْهَلَكَةَ عَلَى يَدِهِ، فَيَأْتِي اللهُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَيَجْمَعُهُمْ وَيُزِيلُ كُلَّ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّنَافُرِ وَيَجْعَلُهُمْ إِخْوَانًا تَرْجِعُ أَهْوَاؤُهُمْ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِهَا لِلِاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ فَلَا تَعُودُوا إِلَى عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعُدْوَانِ. ثُمَّ قَالَ: التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ الْبَشَرُ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فِي الْآيَاتِ، وَقِسْمٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْخِلَافُ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11: 118، 119] فَاسْتِوَاءُ النَّاسِ

فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ، إِذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، فَالْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ أَفْهَامُهُمْ فِي الشَّيْءِ كَمَا يَخْتَلِفُ حُبُّهُمْ لَهُ وَمَيْلُهُمْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ مَا جَاءَتِ الْأَدْيَانُ لِمَحْوِهِ - فَهُوَ تَحْكِيمُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا فِي الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ يَطْمِسُ أَعْلَامَ الْهِدَايَةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا فِي إِزَالَةِ الْمَضَارِّ الَّتِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْخِلَافِ. أَمَّا كَوْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ غَيْرُ ضَارٍّ فَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِي الصَّادِقِينَ فِي مَحَبَّتِي وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِي خِلَافًا فِي إِلْقَاءِ هَذَا الدَّرْسِ هُنَا، فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ إِلْقَاءَ دَرْسِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ عَمَلٌ وَاجِبٌ عَلَيَّ وَخَيْرٌ لِي، وَلَا أَشُكُّ فِي هَذَا كَمَا أَنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي هَذَا الضَّوْءِ الَّذِي أَمَامِي، وَيُوجَدُ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَرْكَ هَذَا الدَّرْسِ خَيْرٌ لِي مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَيُحَاجُّونِي فِي ذَلِكَ قَائِلِينَ: إِنَّ تَأَخُّرِي لِأَجْلِ الدَّرْسِ إِلَى اللَّيْلِ ضَارٌّ بِصِحَّتِي وَإِنَّهُ مُثِيرٌ لِحَسَدِ الْحَاسِدِينَ لِي، وَدَافِعٌ لَهُمْ إِلَى الْكَيْدِ وَالْإِيذَاءِ، وَأَنَّ الدَّرْسَ نَفْسَهُ عَقِيمٌ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ لَا يَفْقَهُونَ مَا أَقُولُ وَلَا يَفْهَمُونَ، وَمَنْ فَهِمَ لَا يُرْجَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِغَلَبَةِ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ، هَذِهِ حُجَّةُ بَعْضِ أَصْحَابِي فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِي وَاعْتِقَادِي يُصَرِّحُونَ لِي بِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْقَاهُمْ وَيَلْقَوْنَنِي لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ مِنْ مَوَدَّتِنَا شَيْئًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَنَا، فَأَنَا أَعْذُرُهُمْ فِي رَأْيِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِي بِإِخْلَاصِهِمْ، وَهُمْ يَعْذُرُونَنِي كَذَلِكَ، وَلَنَفْرِضْ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ كَأَنْ أَعْتَقِدُ أَنَا أَنَّ فِعْلَ كَذَا حَرَامٌ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَنَا تَفَرُّقٌ لِأَجْلِهِ؟ كَلَّا لَا رَيْبَ عِنْدِي، إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ وَإِنَّنَا نَبْقَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَصْدِقَاءٌ. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: كَذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَمَالِكٌ قَدْ نَشَأَ فِي الْمَدِينَةِ وَرَأَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ حُسْنِ الْحَالِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ، فَقَالَ: إِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِي ; لِأَنَّهُمْ عَلَى حُسْنِ حَالِهِمْ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى غَيْرِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ عَمَلًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَنَشَأَ فِي الْعِرَاقِ وَأَهْلُهَا - كَمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ - أَهْلُ شِقَاقٍ وَنِفَاقٍ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِذْ لَمْ يَحْتَجَّ بِعَمَلِهِمْ وَلَا بِعَمَلِ غَيْرِهِمْ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ; لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ مَعَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَعْذُرُ الْآخَرِينَ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَنَكَّبَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَوَائِفُ جَاءَتْ بَعْدَهُمْ تُقَلِّدُهُمْ فِيمَا نُقِلَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ لَا فِي سِيرَتِهِمْ، حَتَّى صَارَ الْهَوَى هُوَ الْحَاكِمَ فِي الدِّينِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى رَأْيٍ مِنْ مَسَائِلِ

الْخِلَافِ، وَيُعَادِي الْآخَرَ إِذَا خَالَفَهُ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ مَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي التَّارِيخِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَطْلُوبَ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَإِلَّا فَبِاللهِ كَيْفَ يَصْدُقُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا مُصِيبًا فِي كُلِّ مَا خَالَفَ بِهِ غَيْرَهُ؟ وَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ مَعَ غَيْرِهِ؟ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَمُرَّ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ عَلَى فُقَهَاءِ مَذْهَبِهِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَرْجِعُوا عَنْ قَوْلِهِ إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ؟ وَهَذَا مَا يُقَالُ فِي أَتْبَاعِ كُلِّ مَذْهَبٍ. هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخِلَافِ هُوَ الَّذِي ذَلَّتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَ عِزِّهَا، وَهَوَتْ بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّتِهَا، هُوَ الِافْتِرَاقُ فِي الدِّينِ وَذَهَابُ أَهْلِهِ مَذَاهِبَ تَجْعَلُهُمْ شِيَعًا تَتَحَكَّمُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَا حَصَلَ مِنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ إِلَّا وَيُبَادِرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْلِيفِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَضْلِيلِهِ وَتَفْنِيدِ مَذْهَبِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَا يُحَاوِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُحَادَثَةَ الْآخَرِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى دَلَائِلِهِ وَوَزْنَهَا بِمِيزَانِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَاجِبُ أَوَّلًا: مُحَاوَلَةُ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ فِي الْبَحْثِ وَالْمُذَاكَرَةِ - أَيْ وَلَوْ كِتَابَةً - وَثَانِيًا: أَلَّا يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ. قَالَ: فَمَا دَامَ الْمُسْلِمُ لَا يُخِلُّ بِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ وَلَا بِاحْتِرَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْهَوَى فَلَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَدْ بَاءَ بِهَا مَنْ قَالَهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَرْجِعُونَ فِي النِّزَاعِ إِلَى حُكْمِ اللهِ وَأَهْلِ الذِّكْرِ مِنْهُمْ ; يَعْنِي أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ فَاتَّقَيْنَا الْخِلَافَ الَّذِي لَنَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَحَكَّمْنَا كِتَابَ اللهِ وَمَنْ أَمَرَ اللهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فِيمَا نَتَنَازَعُ فِيهِ أَمِنَّا مِنْ غَائِلَةِ الْخِلَافِ، وَكُنَّا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَيَدْخُلُ فِي كَلِمَةِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهَا كُلِّهَا إِلَى هَدْيِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ وَرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ وَسَّعْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [2: 253] الْآيَةَ.

104

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ وَضَعَ لَنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَاعِدَةً نَرْجِعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ وَاخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهِيَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ ; وَلِذَلِكَ نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ، الَّذِي قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِجَمْعِ أَهْوَائِهِمْ وَضَبْطِ إِرَادَتِهِمْ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُسَلَّمَةِ: أَنَّهُ لَا تَقُومُ لِقَوْمٍ قَائِمَةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ جَامِعَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ تَجْمَعُهُمْ وَتَرْبِطُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أُمَّةً حَيَّةً كَأَنَّهَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. وَحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. فَإِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْمُوَحِّدَةُ لِلْأُمَّةِ هِيَ مَصْدَرُ حَيَاتِهَا - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُؤْمِنَةً أَمْ كَافِرَةً - فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْوَحْدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ إِلَهًا وَاحِدًا يَرْجِعُونَ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمْ إِلَى حُكْمِهِ الَّذِي يَعْلُو جَمِيعُ الْأَهْوَاءِ، وَيَحُولُ دُونَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، بَلْ هَذَا هُوَ يَنْبُوعُ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِمَا دُونَ الْأُمَمِ مِنَ الْجَمْعِيَّاتِ حَتَّى الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) وَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ جَامِعَةٍ وَكُلِّ وَحْدَةٍ حِفَاظٌ يَحْفَظُهَا أَرْشَدَنَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إِلَى مَا نَحْفَظُ بِهِ جَامِعَتَنَا الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وَحْدَتِنَا - وَأَعْنِي بِهَا الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِهِ - فَقَالَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الْجَامِعَةِ وَسِيَاجُ الْوَحْدَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ هَلْ مَعْنَاهُ: بَعْضُكُمْ، أَمْ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ؟ ذَهَبَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالثَّانِي، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَدِّ " لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ " فَالْأَمْرُ عَامٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103: 1 - 3] فَإِنَّ التَّوَاصِيَ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [5: 78، 79] وَمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَفِي النَّاسِ جَاهِلُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ خِطَابُ التَّنْزِيلِ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعِلْمِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ مَا عَرَفَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ وَهُوَ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا قِرَاءَةُ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ، وَلَا فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا الْمُرْشِدُ إِلَيْهِ - مَعَ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ - كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دِينًا. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَهَا مَرَاتِبٌ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ دَعْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَائِرَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَهُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ بِهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ: الْإِسْلَامُ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْإِسْلَامَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالرُّجُوعُ عَنِ الْهَوَى إِلَى حُكْمِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا بِحُكْمِ جَعْلِنَا أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ آيَاتٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِنَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ - وَبِحُكْمِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [22: 41]

فَالْوَاجِبُ دَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلًا، فَإِنْ أَجَابُوا فَالْوَاجِبُ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَمَانِعًا مِنَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ الْعَالِي الشَّرِيفِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا وَمُرَبِّيَةً لَهَا وَمُهَذِّبَةً لِنُفُوسِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ تَتَلَاشَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَإِذَا عَرَضَ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ لِأَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ تَذَكَّرُوا وَظِيفَتَهُمُ الْعَالِيَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَزَالَتِ الذِّكْرَى مَا عَرَضَ، وَشَفَتِ النُّفُوسُ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمَرَضِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: هِيَ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلَى الْخَيْرِ وَتَآمُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهِيهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعُمُومُ فِيهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَهُ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ - قَالَ: كَهَذَا الدَّرْسِ - بِبَيَانِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النُّفُوسِ الَّتِي يَأْخُذُ كُلُّ سَامِعٍ مِنْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ. وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الْعَارِفُونَ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَحِكْمَةِ الدِّينِ وَفِقْهِهِ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9: 122] وَمِنْ مَزَايَا هَؤُلَاءِ: تَطْبِيقُ أَحْكَامِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مِقْدَارِ عِلْمِهِمْ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَعَارِفِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ مِنَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ بِقَدْرِهِ. أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَسِيَاجًا دُونَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ فِي الدِّينِ يُعَمِّمُونَ دَعْوَتَهُمْ وَإِرْشَادَهُمْ فِي الْأُمَّةِ وَيُوَاصِلُونَهَا لَكَانُوا مَوَارِدَ لِحَيَاتِهَا وَمَعَاقِدَ لِرَابِطَةِ وَحْدَتِهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ إِذَا قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيحَةِ الْآخَرِ - دَعْوَةً وَأَمْرًا وَنَهْيًا - امْتَنَعَ فُشُوُّ الشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمْ. فَكَيْفَ تَجِدُ الْفُرْقَةُ مَنْفَذًا إِلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَقِرُّ الْخِلَافُ فِي الدِّينِ بَيْنَهُمْ؟ وَنَاهِيكَ إِذَا قَامَ - كُلٌّ عَلَى طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ - الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ، وَجَمِيعُ الْأَفْرَادِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَمَعَاهِدِهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَرَى التَّصَدِّيَ لِنَصِيحَةِ الْأَفْرَادِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مَجْلَبَةً لِلْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، لَا دَاعِيَةً إِلَى الْوِفَاقِ وَالْوَحْدَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَجَابَ عَنْهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: كَيْفَ يَكُونُ التَّآمُرُ وَالتَّنَاهِي حَافِظًا لِلْوَحْدَةِ وَنَحْنُ نَرَى الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ؟ نَرَى التَّنَاصُحَ سَبَبُ التَّخَاصُمِ وَالتَّدَابُرِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ

أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّكَ فَعَلْتَ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ فَارْجِعْ عَنْهُ، أَوْ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ فَائْتِهِ، وَذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ - رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّهُ صَارَ يَجِدُّ مِنَ الصَّعْبِ جِدًّا - حَتَّى مَعَ مَنْ يَعُدُّهُ صَنِيعَةً لَهُ أَوْ وَلَدًا أَوْ أَخًا - أَنْ يَنْصَحَهُ فِي الْأَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ وَبِحَمْلِهِ ذَلِكَ عَلَى قَطْعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الرَّابِطَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّ النُّصْحَ لَهُمْ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لِهَذَا النُّفُورِ مِنَ النُّصْحِ يَسْلُكُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَالْمُتَّصِلِينَ بِهِ مَسْلَكَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْغَالِبِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ حُجَّةً عَلَى اللهِ وَلَا شُبْهَةً عَلَى دِينِهِ ; لِأَنَّهُ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمَمُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخَيْرِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ. وَتَكَادُ الْأُمَّةُ الَّتِي يَفْشُو هَذَا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأُمَمُ الَّتِي تُوُدِّعَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْعُرُونَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ أَشَفَوْا عَلَيْهَا، وَمَعَ مَنْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي شُعُورِهِمْ ذَاكَ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّتَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ; كَمَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالضِّيَاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ أَثَرُ تَفْرِيطٍ كَبِيرٍ تَمَادَى فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بَعْدَمَا عَظُمَ التَّسَاهُلُ فِي تَرْكِ التَّنَاصُحِ، وَبَطَلَ رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ - أَيْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - وَخَوَتِ الْقُلُوبُ مِنِ احْتِرَامِ الدِّينِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الْإِرَادَةِ، بَلْ صَارَ كُلُّ شَخْصٍ أَسِيرَ هَوَاهُ. وَمَتَى أَمْسَى النَّاسُ هَكَذَا - لَا دِينَ وَلَا مُرُوءَةَ وَلَا أَدَبَ - فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ وَالْقَطِيعِ مِنَ الْمَعْزِ أَوِ الْبَقَرِ؟ عِنْدَ هَذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5: 105] فَأَجَابَ: إِنَّ هَذَا بَعْدَ الْقِيَامِ بِفَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضُرُّهُ ضَلَالُ غَيْرِهِ إِذَا هُوَ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا مَعَ تَرْكِهِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ. ثُمَّ قَالَ: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اشْتَرَطُوا لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ شَرْطًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَمْ يُنْزِلْهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْتَمِرًا وَمَنْهِيًّا، فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَيْنِ يَقُولَانِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْوَاعِظِ الْمُتَصَدِّي لِلْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مُهْتَدِيًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُتَّصِفًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَنْعِ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ مِنْ تَسَلُّقِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي فَرْضِيَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِائْتِمَارُ

وَالِانْتِهَاءُ، بَلْ لِأَنَّ الْمُرْشِدَ الْعَامَّ مَحَلٌّ لِقُدْوَةِ الْعَوَامِّ، فَإِذَا كَانَ ضَالًّا يَكُونُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمُهُ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ، فَهُوَ يُمْنَعُ مِنْهَا لِدَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ. فَحَاصِلُ رَأْيِهِ: أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِرْشَادِ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَفُقَهَاءِ النُّفُوسِ فِيهَا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُهْتَدِيًا بِمَا يَهْدِي إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْعَمَلَ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا، وَقُلْنَا إِنَّهُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْغَزَّالِيِّ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ كُلِّ نَصِيحَةٍ وَأَيِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بَلْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَبِسَهُ الْعَارُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّاعِرِ نَهْيَ الْمُتَخَلِّقِ بِالْخُلُقِ السَّيِّءِ أَنْ يَأْمُرَ بِمِثْلِهِ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالِانْتِهَاءِ. وَمِمَّا قَالَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يَأْمُرَهَا بِسَتْرِ بَدَنِهَا، أَوْ قَالَ وَجْهِهَا، وَإِلَّا كَانَ مُرْتَكِبًا لِمَعْصِيَةٍ زَائِدَةٍ عَنْ مَعْصِيَةِ الزِّنَا وَلَوَازِمِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةُ تَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَى مُدِيرِ الْكَأْسِ أَنْ يَنْهَى الْجُلَّاسَ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَدِيمَةٌ عَرَضَتْ لِلنَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَأَبُو يَعْلَى وَالْكَجِّيُّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: " قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ. . . . ثُمَّ فَسَّرَهَا، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَنَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَيُفْسَدُ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: أَلَّا أَكُونَ سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَبِيبِ صُمَّتَا ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلْوُجُوبِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ الْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا يَنْفِرَ النَّاسُ أَوْ لَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى إِيذَائِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ. وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا، أَيْ فَيَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ النُّصُوصَ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَأَنْ نَقُومَ بِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ أَوِ الطَّاقَةِ وَنَتَّقِيَ مَعَ ذَلِكَ مَا يَحُفُّ بِهَا مِنَ الْمَهَالِكِ. أَقُولُ: وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوفًا بِالْمَكَارِهِ وَالْمَخَاوِفِ، وَكَمْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ فَكَانُوا أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فِي ذَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فَقَتَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ حَفِيدَ الْعَطَّارِ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ أَيْضًا عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَوَضَعَ بِجَانِبِهِ عَلَامَةَ الصَّحِيحِ. أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ تَصَدِّي عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِنَصِيحَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ وَإِيذَاءِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ وَسَفْكِهِمْ دِمَاءَ بَعْضِهِمْ مَا يَرُدُّ شَرْطَ أُولَئِكَ الْمُشْتَرِطِينَ لِلْأَمْنِ عَلَيْهِمْ وَيَضْرِبُ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ التَّوَقِّي مِنَ الْهَلَكَةِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا يَجِبُ فِي حَالِ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ، فَلَا نَتْرُكُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَلَا الْجِهَادَ دُونَهُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِنَا وَحِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا نُفَرِّطُ بِأَنْفُسِنَا فِي أَثْنَاءِ دَعْوَتِنَا وَجِهَادِنَا فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ وَلَا حِمَايَتُهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ مَا يُصِيبُ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَذَى نَاشِئًا عَنْ طَرِيقَةِ الدَّعْوَةِ وَكَيْفِيَّةِ سَوْقِهَا إِلَى الْمَدْعُوِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ مُؤَيَّدَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16: 125] . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا لِذَلِكَ عُدَّتَهُ وَيَعْرِفُوا سُبُلَهُ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي السُّنَّةِ، كَقِصَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُنَادِي فِي الطَّرِيقِ: أُرِيدُ أَنْ أَزْنِيَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبَ عَلَى

كَتِفِهِ وَقَالَ: أَتَفْعَلُ هَذَا بِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَتَفْعَلُهُ بِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَخَجِلَ الرَّجُلُ وَانْصَرَفَ. وَكَقِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَاهَدَ الرَّسُولَ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ. فَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ وَبِهَا تَجِبُ الْقُدْوَةُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [3: 31] وَإِنَّا لَنْ نَكُونَ مُتَّبِعِينَ لَهُ حَتَّى نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى سُنَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، أَيْ فِي اللُّطْفِ وَتَحَرِّي الْإِقْنَاعِ. أَقُولُ: أَمَّا قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ الزِّنَا فَهِيَ كَمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَهَمَّ مَنْ كَانَ قُرْبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَنَاوَلُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ فَبِكَذَا فَبِكَذَا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَاكْرَهْ مَا كَرِهَ اللهُ وَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَذَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ، وَذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي بَابِ آدَابِ الْمُحْتَسِبِ مِنْ كِتَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ " أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا؟ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَرِّبُوهُ، أُدْنُ. فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ. قَالَ: كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ وَزَادَ ابْنُ عَوْفٍ أَنَّهُ ذَكَرَ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ " وَقَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا أَعْنِي ابْنَ عَوْفٍ وَالرَّاوِيَ الْآخَرَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: اللهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْهُ - يَعْنِي مِنَ الزِّنَا - قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. أَقُولُ: أَمَّا سِيَاقُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَلَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَدْ قَصَدَ الْمَعْنَى دُونَ نَصِّ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَاهَدَ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ لَا أَتَذَكَّرُ مَخْرَجَهُ، وَإِنَّمَا أَتَذَكَّرُ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَدَعَ لَهُ النَّبِيُّ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ اعْتَادَهَا: الْكَذِبَ، وَالْخَمْرَ، وَالزِّنَا - فَعَاهَدَهُ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ فَكَانَ وَسِيلَةً إِلَى تَرْكِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ أَمْنِ الْمُتَصَدِّي لِلدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ كَمَا قِيلَ - يَأْتِي بَحْثُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مَرْتَبَةٌ غَيْرُ مَرْتَبَةِ التَّنَاصُحِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُدْرَةٍ خَاصَّةٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْحُكَّامِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا إِذْنُهُمْ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَا يُشْتَرَطُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ

لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِذْنٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ وَتَنْفِيذٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: هُنَا يَخْلِطُونَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ النَّهْيِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ فِعْلِهِ وَإِلَّا كَانَ رَفْعًا لِلْوَاقِعِ أَوْ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، فَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا يَغُشُّ السَّمْنَ - مَثَلًا - وَجَبَ عَلَيْكَ تَغْيِيرُ ذَلِكَ وَمَنْعُهُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَالْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ هُنَا مَشْرُوطَةٌ بِالنَّصِّ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْكَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ غَيْرُ خَاصٍّ بِنَهْيِ الْغَاشِّ وَوَعْظِهِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ رَفْعُ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ بِقُدْرَةٍ فَوْقَ قُدْرَتِكَ. أَمَّا التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَقْتِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِفِعْلِهِ، وَلِلنَّهْيِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَأَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. قَالَ: نَعَمْ إِنَّ دَعْوَةَ الْأُمَّةِ غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ لَا يُطَالَبُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ فَرْدٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ حَتَّى إِذَا عَنَّ لَهُ بِأَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْأُمَمِ دَعَاهُ، لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ لِذَلِكَ وَيُسَافِرُ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَذَا طَائِفَةٌ يُعِدُّونَ لَهُ عُدَّتَهُ، وَسَائِرُ الْأَفْرَادِ يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ يُشْبِهُ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ آكَدُ مِنْ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّهَا مُسْتَطَاعَةٌ دَائِمًا. عِنْدَ هَذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَطْعًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا طَائِفَةَ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ مُلْتَزَمَةً عِنْدَهُمْ صَارُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً عِنْدَمَا يَعِنُّ لَهُمْ مَنْ يَدْعُونَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَيْرُوتَ احْتَاجَ إِلَى ظِئْرٍ لِإِرْضَاعِ بِنْتٍ لَهُ فَجِيءَ بِظِئْرٍ شِيعِيَّةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلَةِ فَكَانَتْ فِي الدَّارِ تَدْعُو النِّسَاءَ إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَالَ: إِنَّ رُعَاةَ الْإِبِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَرَادَتِ الدَّعْوَةَ لَا يَقِفُ فِي سَبِيلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا. ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: جُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ حَتْمٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فِي ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [5: 79] وَكَذَلِكَ عَمَلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَكَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْأُمَّةِ وَحِرْزًا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوا دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ خَرَجُوا عَنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ وَكَانُوا أَفْذَاذًا مُتَفَرِّقِينَ لَا جَامِعَةَ لَهُمْ ; وَلِهَذَا ضَرَبَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَاهِنِ مِثْلَ رَاكِبٍ

فِي سَفِينَةٍ يَطُوفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مَعَهُ بِمَاءٍ وَكُلٌّ يَنْفِرُ مِمَّا مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ وَذَهَبَ يَنْقُرُ فِي السَّفِينَةِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدِهِ نَجَوْا وَنَجَا مَعَهُمْ وَإِلَّا هَلَكَ وَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَفُشُوُّ الْمُنْكَرَاتِ مَهْلَكَةٌ لِلْأُمَّةِ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8: 25] فَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا سِيَّمَا أُمَّهَاتُ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَتَوَاكَلُ فِيهَا النَّاسُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَا مَيِّتًا أَنْ يَنْتَظِرَ غُسْلَهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَلَى رَأْيِهِ. أَقُولُ: وَيَظْهَرُ تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا لَا يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْقَائِمِينَ بِمَا ذُكِرَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ مِنَ السَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ دُونَ سِوَاهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْقَائِمِينَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَسَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَتْرُكُ ذَلِكَ تَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَقُومُ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا جَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، فَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ أَنْ يَنْتَخِبُوا مِنْهُمْ أُمَّةً تَقُومُ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ، فَهَاهُنَا فَرِيضَتَانِ إِحْدَاهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لِلدَّعْوَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى هَذَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى لَفْظِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَةَ - كَمَا قِيلَ - وَإِلَّا لَمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَخَصُّ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَفْرَادٍ لَهُمْ رَابِطَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ يَكُونُونَ بِهَا كَالْأَعْضَاءِ فِي بِنْيَةِ الشَّخْصِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مُخَاطَبِينَ بِتَكْوِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِرَادَةٌ وَعَمَلٌ فِي إِيجَادِهَا وَإِسْعَادِهَا، وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِهَا بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مِنْهَا خَطَأً أَوِ انْحِرَافًا أَرْجَعُوهَا إِلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا سِيَّمَا زَمَنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى هَذَا النَّهْجِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ لِلْقَائِمِينَ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، حَتَّى كَانَ الصُّعْلُوكُ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ يَأْمُرُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - وَيَنْهَاهُ فِيمَا يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَلَا بِدْعَ فَالْخُلَفَاءُ عَلَى نَزَاهَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ لَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ بِخَطَئِهِ وَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَالَ: وَمِنَ الْعِبَرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: تَنْفِيذُ بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ الْعَتِيقِ لِأَمْرِ عُمَرَ بِمُحَاسَبَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيِّدِ بَنِي مَخْزُومٍ بَعْدَ تَبْلِيغِهِ عَزْلَهُ عَنْ قِيَادَةِ الْجَيْشِ بِالشَّامِ. وَذَكَرَ مُجْمَلَ الْقِصَّةِ، وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ عِنْدَمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ فِي جَيْشٍ عَلَى الشَّامِ يُوَلِّيهِ إِمَارَةَ الْجَيْشِ الْعَامَّةَ وَيَعْزِلُ خَالِدًا عَنْهَا، وَكَانَ الْجَيْشُ عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ أَوْ فِي الْيَرْمُوكِ (رِوَايَتَانِ) فَكَتَمَ

أَبُو عُبَيْدَةَ الْأَمْرَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُمُ النَّصْرُ، وَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَى عُمَرَ الْجَوَابَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ثَانِيَةً يَأْمُرُهُ فِيهِ بِأَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ الْإِذْنُ بِأَنْ يُعْتَقَلَ خَالِدٌ بِعِمَامَتِهِ وَيُحَاسَبَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي إِمَارَتِهِ، فَهَابَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِشَرَفِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَبَلَائِهِ فِي الْحَرْبِ وَحُبِّ الْجَيْشِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَامَ بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَوَالِي (الْعُتَقَاءِ) وَحَلَّ عِمَامَةَ خَالِدٍ وَاعْتَقَلَهُ بِهَا وَسَأَلَهُ عَمَّا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ، فَخَضَعَ وَأَجَابَ. فَانْظُرُوا مَا فَعَلَ هَدْيُ الْإِسْلَامِ بِهَؤُلَاءِ الْكِرَامِ، يَقُومُ مَوْلًى مِنَ الْفُقَرَاءِ إِلَى السَّيِّدِ الْقُرَشِيِّ الْعَظِيمِ وَالْقَائِدِ الْكَبِيرِ فَيَعْقِلُهُ بِعِمَامَتِهِ عَلَى أَعْيُنِ الْمَلَأِ الَّذِينَ كَانَ أَمِيرَهُمْ وَقَائِدَهُمْ وَيُحَاسِبُهُ فَيُجِيبُهُ عَنْ كُلِّ مَا سَأَلَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَاعَ وَأَجَابَ دَاعِيَ الْخَلِيفَةِ أَعَادَ إِلَيْهِ بِلَالٌ قَلَنْسُوَتَهُ وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ قَائِلًا: نَسْمَعُ وَنُطِيعُ وَنُفَخِّمُ مَوَالِيَنَا (جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ) ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ اسْتَحْضَرَ خَالِدًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاعْتَذَرَ لَهُ بَعْدَ الْعِتَابِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْزِلْهُ وَيَأْمُرْ فِيهِ بِمَا أَمَرَ لِرِيبَةٍ وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّ النَّاسَ افْتَتَنُوا بِهِ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَتِنَ بِهِمْ، وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَ لَهُ: خِفْتُ أَنْ يَعْبُدَكَ أَهْلُ الشَّامِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ: إِذَا كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ مُكَلَّفًا الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَخْتَارُوا أُمَّةً مِنْهُمْ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ لِأَجْلِ أَنْ تُتْقِنَهُ وَتَقْدِرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِطَبْعِهِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِقَامَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ فَرْضُ عَيْنٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مَعَ الْآخَرِينَ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي هَذَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِهَذَا الْعَمَلِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ: وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالْوَاحِدِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى مَنْ يَخْتَارُ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى وَالْبِلَادِ لِأَجْلِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ بِلَادِهِ، أَوْ لِإِقَامَةِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ وَالشَّعَائِرِ، أَوْ إِزَالَةِ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَخْتَارُوا جَمَاعَةً يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ " الْأُمَّةِ " وَيَعْمَلُوا مَا تَعْمَلُهُ بِالِاتِّحَادِ وَالْقُوَّةِ لِيَتَوَلَّوْا إِقَامَةَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِيهَا، كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ إِسْلَامِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَوَاضِرِ أَوِ الْبَوَادِي، فَإِنَّ مَعْنَى الْأُمَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى الِارْتِبَاطِ وَالْوَحْدَةِ الَّتِي تَجْعَلُ أَفْرَادَهَا عَلَى اخْتِلَافِ وَظَائِفِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ - حَتَّى فِي إِقَامَةِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ تَشَعُّبِ الْأَعْمَالِ فِيهَا - كَأَنَّهُمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَصَرَّحَ بِهِ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْأُمَّةُ يَدْخُلُ فِي عَمَلِهَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْحُكَّامِ وَأُمُورُ الْعِلْمِ وَطُرُقُ إِفَادَتِهِ وَنَشْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ وَأُمُورُ الْعَامَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ أُمَّةً، وَفِي مَعْنَى الْأُمَّةِ الْقُوَّةُ وَالِاتِّحَادُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقُوَّةِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْأُمَّةُ الْمُتَّحِدَةُ لَا تُقْهَرُ وَلَا تُغْلَبُ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَعْتَذِرُ بِالضَّعْفِ يَوْمًا مَا، فَتَتْرُكُ مَا عُهِدَ

إِلَيْهَا وَهُوَ مَا لَوْ تُرِكَ لَتَسَرَّبَ الْفَسَادُ إِلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَتَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَقَدْ كَانَتْ خَاصَّةُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَاشَرُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَلَقَّوْا عَنْهُ مُتَوَاصِلِينَ مُتَكَاتِفِينَ، يَشْعُرُ كُلُّ مِنْهُمْ بِمَا يَشْعُرُ بِهِ الْآخَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَحِفْظِهِ، وَمُقَاوَمَةِ كُلِّ مَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ عَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَصَالِحِ أَهْلِهِ، وَكَانَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُمْ، وَلَا نَتَكَلَّمُ هُنَا فِيمَا طَرَأَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَزَالَ تِلْكَ الْوَحْدَةَ وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْخَيْرِ الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيِ الْقَائِمَةُ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْوَحْدَةِ وَحِفَاظُهَا، فَإِنَّ أَعْمَالَهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ. أَقُولُ: وَذَكَرَ أُمُورًا مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ نُفَصِّلُهَا وَنَزِيدُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: (1) الْعِلْمُ التَّامُّ بِمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ - ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الدُّعَاةِ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ، وَالْعِلْمُ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، وَبِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنَ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، أَهَمُّهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى كَوْنِهِ هُدًى وَعِبْرَةً وَمَوْعِظَةً عَلَى نَحْوِ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَمَا صَحَّ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ وَسِيرَتِهِ وَيُنْظَرُ فِي هَذَا أَيْضًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا تَوَاتَرَ عَمَلًا وَمَا صَحَّ سَنَدًا وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. (2) الْعِلْمُ بِحَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ فِي شُئُونِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَطَبَائِعِ بِلَادِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، أَوْ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ الْعَصْرِ بِحَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ارْتِضَاءِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَوْنَهُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَعْلَمَ بِالْأَنْسَابِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ " بَحْرِ الْأَنْسَابِ " يُرَاجِعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْوَالِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا، وَتَارِيخِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَسَابِقِ أَيَّامِهَا، وَأَخْلَاقِهَا كَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ وَالْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَمَكَانِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَمَا كَانَ إِقْدَامُهُ - مَعَ لِينِهِ وَسُهُولَةِ خُلُقِهِ الَّتِي يَعْرِفُهَا لَهُ كُلُّ أَحَدٍ حَتَّى الْإِفْرِنْجِ - عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ إِلَّا لِهَذَا الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَمْ يَهَبْ وَلَمْ يَخَفْ، وَقَدْ خَافَ عُمَرُ وَأَحْجَمَ عَلَى شِدَّتِهِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ; أَيْ خَافَ أَنْ تَضْعُفَ بِمُحَارَبَتِهِمْ شَوْكَةُ الْإِسْلَامِ. . . حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " فَهَذِهِ قُوَّةُ الْعِلْمِ لَا قُوَّةُ الْجَهْلِ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْخَاصَّ بِحَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِلْعِلْمِ بِهَذِهِ الْعُلُومِ فِي نَفْسِهَا، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ. (3) مَنَاشِئُ عِلْمِ التَّارِيخِ الْعَامِّ لِيَعْرِفُوا الْفَسَادَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَيَبْنُونَ

الدَّعْوَةَ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، وَيَعْرِفُونَ كَيْفَ تَنْهَضُ الْحُجَّةُ وَيَبْلُغُ الْكَلَامُ غَايَتَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ نَقْلُ هَؤُلَاءِ الْمَدْعُوِّينَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; وَلِهَذَا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا بِعِبَرِ التَّارِيخِ. (4) عِلْمُ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ لِيُعِدَّ الدُّعَاةُ لِكُلِّ بِلَادٍ مِنْهَا عُدَّتَهَا إِذَا أَرَادُوا السَّفَرَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِالتَّارِيخِ وَمَا يُسَمَّى الْآنَ بِتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَبِالْجُغْرَافِيَا ; وَلِذَلِكَ أَقْدَمُوا عَلَى الْفُتُوحِ وَمُحَارَبَةِ الْأُمَمِ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ لَا بِالْجَهْلِ، فَلَوْ كَانُوا يَجْهَلُونَ مَسَالِكَ بِلَادِهِمْ وَطُرُقَهَا وَمَوَاقِعَ الْمِيَاهِ وَمَا يَصْلُحُ مَوْقِعًا لِلْقِتَالِ فِيهَا لَهَلَكُوا، وَكَانَ الْجَهْلُ أَوَّلَ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَمَنْ قَرَأَ مَا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَرَاسَلُونَ بِهَا، وَمُحَاوَرَاتِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْفِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهِ، وَمَا أَضَرَّ هَؤُلَاءِ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ! ! فَقَدْ قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ الْإِسْلَامِ وَلَا كَيْفِيَّةَ نَشْأَتِهِ وَلَا كَيْفَ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ، فَالتَّارِيخُ يُعَرِّفُ الْإِنْسَانَ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَدَيِّنٌ إِنَّ كَانَ لَهُ دِينٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِنَّ كَانَ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَمَا أَضَرَّ بِالْفِقْهِ شَيْءٌ كَالْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ ; لِأَنَّنَا لَوْ حَفِظْنَا تَارِيخَ النَّاسِ - وَمِنْهُ عَادَاتُهُمْ وَعُرْفُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ فِي الْبِلَادِ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَا الْفِقْهِ - لَكُنَّا نَعْرِفُ مِنْ أَسْبَابِ خِلَافِهِمْ وَمَدَارِكِ أَقْوَالِهِمْ مَالَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ جُزَافًا وَلَا عَبَثًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ بَعْدَ مَجِيئِهِ إِلَى مِصْرَ مَذْهَبًا جَدِيدًا غَيْرَ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامَ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِغَيْرِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ؟ وَكَذَلِكَ كَانَ مَا خَالَفَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ أُسْتَاذَهُ أَبَا حَنِيفَةَ مِمَّا يَرْجِعُ الْكَثِيرُ مِنْهُ إِلَى مَا اخْتَبَرَهُ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ، فَبِاللهِ كَيْفَ يَنْتَسِبُ امْرُؤٌ إِلَى إِمَامٍ وَيَشْتَغِلُ بِعِلْمِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ وَتَارِيخَ عَصْرِهِ! ! وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّارِيخِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا مِنَ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ الْآمِرَةِ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِيَةِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْجَى قَبُولُهُ. (5) عِلْمُ النَّفْسِ وَهُوَ يُسَاوِي عِلْمَ التَّارِيخِ فِي الْمَكَانَةِ وَالْفَائِدَةِ، أَيِ الْعِلْمَ الْبَاحِثَ عَنْ قُوَى النَّفْسِ وَتَصَرُّفِهَا فِي عُلُومِهَا وَتَأْثِيرِ عُلُومِهَا فِي أَعْمَالِهَا الْإِرَادِيَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ تَابِعًا لِلْعِلْمِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَمَلَ كَذَا ضَارٌّ وَيَأْتُونَهُ، وَعَمَلَ كَذَا نَافِعٌ وَيَتْرُكُونَهُ (وَالْمُحَرَّمُ شَرْعًا كُلُّهُ ضَارٌّ وَالْحَلَالُ كُلُّهُ نَافِعٌ) فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُحْسِنُ دَعْوَةَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَإِقْنَاعَهُمْ بِتَرْكِ الشَّرِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِمَاذَا تَرَكُوا الْخَيْرَ وَاقْتَرَفُوا الشَّرَّ؟ فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ صِفَةً لِلنَّفْسِ حَاكِمَةً عَلَى إِرَادَتِهَا مُصَرِّفَةً لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ صُورَةٌ تَعْرِضُ لِلذِّهْنِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْإِرَادَةِ

فَلَا تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَظْهَرُهُ الْقَوْلَ أَحْيَانًا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - عَلَى حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ وَذَكَاءِ قَرِيحَتِهِمْ وَبِمَا هَدَاهُمُ الْقُرْآنُ بِآيَاتِهِ وَالرَّسُولُ بِبَيَانِهِ وَسِيرَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ - وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَسُوهُ بِطَرِيقَةٍ صِنَاعِيَّةٍ - فَقَدْ كَانَ عِلْمُهُمْ بِهِ كَعِلْمِ الْوَاضِعِينَ لَهُ مِنَ الْحُكَمَاءِ أَوْ أَرْسَخُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا نَجَحُوا بِهِ فِي الدَّعْوَةِ، وَظَهَرُوا فِي مَوَاطِنِ الْحُجَّةِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَدْرُسُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَيَتَلَقَّوْنَهُ عَنِ الْمُعَلِّمِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قَرَأْتُمُ التَّارِيخَ وَعَرَفْتُمْ كَيْفَ كَانُوا يَتَجَالَدُونَ فِي الْحَرْبِ، وَيَتَجَادَلُونَ فِي مَوَاقِعِ الْخُطَبِ، بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ الَّتِي بَعُدْنَا عَنْهَا أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا مَكَانَهُمْ مِنْهُ، نَعَمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ فَي كُلِّ زَمَنٍ يَحْتَاجُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ طُرُقِ التَّعْلِيمِ غَيْرَ مَا كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ تَخْتَلِفُ طُرُقُ الْعِلْمِ بِهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ. (6) عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنِ الْفَضَائِلِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْبِيَةِ الْمَرْءِ عَلَيْهَا، وَعَنِ الرَّذَائِلِ وَطُرُقِ تَوَقِّيهِ مِنْهَا وَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُغْنِي بِشُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْآنَ كَلِمَةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُورِدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي صَرَّحَتْ لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّهُ: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ الرَّجُلَ مِنَّا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ يَتَعَاشَرُونَ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ " فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَلِيلَةُ لَا تَخْرُجُ بِالْبَدَاهَةِ هَكَذَا إِلَّا مِنْ فَمِ حَكِيمٍ قَدِ انْطَوَى فِي نَفْسِهِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمُ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا، وَوَقَفَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتَبَرَهُمْ أَتَمَّ الِاخْتِبَارِ. (7) عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا وَلَا إِجْمَالًا، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَدَمُ وُجُودِ كُتُبٍ فِيهِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَرْغَبُ طُلَّابُ الْأَزْهَرِ فِيهَا إِلَّا مَا فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ خَلْدُونَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي بَدَاوَتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَأَسْبَابِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا وَتَدَلِّيهَا وَتَرَقِّيهَا ; عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ عِلْمِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ فِي بِنَاءِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ وَالسَّدَادِ، وَإِنْ كَانَتْ دِرَاسَتُهُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِيهِ وَفِي فَوَائِدِهِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ وَحَثِّ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ مِنَّا عَلَى التَّصْنِيفِ فِيهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَا صَنَّفَهُ الْغَرْبِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ مُرِيدٍ لَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُطَّلِعٍ عَلَى التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَهْلًا لِاسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْأَقَلِّينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَهُمْ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ مَنْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ قَوَاعِدِ هَذَا الْعِلْمِ فَغَفَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْهُ وَلَمْ

يَهْتَدِ إِلَى فِقْهِ بَعْضِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعِلْمُ مُدَوَّنًا فِي عَهْدِهِمْ فَيُنَبِّهُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا بَيَانُ كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، وَسَنَعْقِدُ لَهُ فَصْلًا حَافِلًا فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ الَّتِي نُبَيِّنُ فِيهَا فِقْهَ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. (8) عِلْمُ السِّيَاسَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا مُجْمَلًا وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهِ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي كَتَبَ فِيهَا ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا وَلَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِحَالِ دُوَلِ الْعَصْرِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ وَالْمُعَاهَدَاتِ وَمَا لَهَا مِنْ طُرُقِ الِاسْتِعْمَارِ. فَالْأُمَّةُ الَّتِي تُؤَلِّفُ لِلدَّعْوَةِ فِي بِلَادٍ غَيْرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَقِلَّةِ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَارِفَةً بِسِيَاسَةِ حُكُومَةِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ حَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَالسِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. (9) الْعِلْمُ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ الَّتِي تُرَادُ دَعْوَتُهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ لِأَجْلِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَعْرَبُوا، فَمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ لُغَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ إِلَّا مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الْفَهْمِ عَنْهُمْ وَمَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ شَأْنِهِمْ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُؤَلِّفُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَنْ تَعَلُّمِ لُغَاتِ الْأُمَمِ بِالْمُتَرْجِمِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا إِنْ ظَفِرَتْ بِالْمُتَرْجِمِ الْأَجْنَبِيِّ الْأَمِينِ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا أَنْ تُفْهِمَهُ مِنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ عِنْدَ التَّرْجَمَةِ مَا يَفْهَمُهُ الْعَالِمُ الْمُسْلِمُ، وَإِنَّمَا يُلْجَأُ إِلَى مَثَلِ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَأْلِيفُ جَمْعِيَّةٍ لِلدَّعْوَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَاتِ مَنْ يَكْفِيهَا الْحَاجَةَ إِلَى تَرْجَمَةِ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا تَفْعَلُ جَمْعِيَّاتُ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّ أَفْرَادًا مِنْهَا يَتَعَلَّمُونَ لُغَاتِ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَلَمْ يُبَيِّنِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا فِي الدَّرْسِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّ إِلَى بَيَانِ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي تَعْمِيمِهِ وَكَمَالِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَوْ شَرَحَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَوَائِدَ تَعَلُّمِ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَتَوَقُّفِ مَا يَجِبُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا لَقَامَ أَعْدَاءُ الْإِصْلَاحِ وَخَاذِلُو الدِّينِ الْقَاعِدُونَ لَهُ كُلَّ مَرْصَدٍ يَصِيحُونَ فِي الْجَرَائِدِ وَالْمَحَافِلِ بِأَنَّ الشَّيْخَ الْمُفْتِي يُرِيدُ أَنْ يَهْدِمَ الدِّينَ فِي الْأَزْهَرِ بِحَثِّ طُلَّابِهِ عَلَى تَعَلُّمِ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ حَثِّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ التَّارِيخِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَبَعْضِ الْفُنُونِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَإِنَّ صِيَاحَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ اللُّغَاتِ يَكُونُ أَوْضَحَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَاهِلِ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَحْثُ بِأَجْنَبِيٍّ عَنِ التَّفْسِيرِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ مَبَاحِثِ الرَّازِيِّ فِي عُلُومِ الْيُونَانِ وَتَوَسُّعِ غَيْرِهِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَوِ اللُّغَوِيَّاتِ ; لِأَنَّ قَصْدَنَا مِنَ التَّفْسِيرِ بَيَانُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَطُرُقِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَنْ نَكُونَ مُهْتَدِينَ بِهِ حَتَّى تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يُرْجَى نَفْعُهَا وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ خَطَأَ مَنْ يَصُدُّ عَنْهُ.

(10) الْعِلْمُ بِالْفُنُونِ وَالْعُلُومِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَوَجَّهُ إِلَيْهَا الدَّعْوَةُ وَلَوْ بِقَدْرِ مَا يَفْهَمُ بِهِ الدُّعَاةُ مَا يُورَدُ عَلَى الدِّينِ مِنْ شُبُهَاتِ تِلْكَ الْعُلُومِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِمَا يَلِيقُ بِمَعَارِفِ الْمُخَاطَبِينَ بِالدَّعْوَةِ. (11) مَعْرِفَةُ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَمَذَاهِبِ الْأُمَمِ فِيهَا لِيَتَيَسَّرَ لِلدُّعَاةِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ بُطْلَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي سَنَةِ الْمَنَارِ الثَّالِثَةِ مَقَالَةً فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا جَعَلْتُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ وَمَا قَبْلَهُ وَاحِدًا، فَقُلْتُ فِيهِ (ص 484 م 3) " ثَالِثُهَا - أَيِ الشُّرُوطُ - الْوُقُوفُ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالدَّعْوَةِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا الْقَدْرِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ، وَحَلِّ عُقَدِ الْمُشْكِلَاتِ، وَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الشَّرْطُ وَمَا قَبْلَهُ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ - لَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ سَادَةِ الدُّعَاةِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَقَدْ عَلِمَ رُؤَسَاءُ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِالْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَمُعَادَاتِهِمْ لَهَا، وَتَحْكِيمِهِمُ الدِّينَ فِيهَا مُؤْذِنٌ بِاضْمِحْلَالِهَا، وَمُفْضٍ إِلَى زَوَالِهَا، فَأَخَذُوا بِزِمَامِهَا، وَقَادُوهَا بِخِطَامِهَا، وَقَرَّبُوا بَيْنَ عَالَمَيِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَقَرَنُوا بَيْنَ عِلْمِيِ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَبِهَذَا أَمْكَنَهُمْ حِفْظُ حُرْمَةِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ بَيْنَ الْعَالَمِينَ. وَدِينُنَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بَيْنَ الْعَالَمِينَ، وَلَكِنَّنَا نَقْطَعُ الرَّوَابِطَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ وَلَكِنَّنَا نَهْدِمُ الْجَوَامِعَ، وَلِهَذَا جَهِلْنَا وَتَعَلَّمُوا، وَسَكَتْنَا وَتَكَلَّمُوا، وَتَأَخَّرْنَا وَتَقَدَّمُوا، وَنَقَصْنَا وَزَادُوا، وَاسْتُعْبِدْنَا وَسَادُوا ". اهـ. كُلُّ هَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلِلدَّعْوَةِ شُرُوطٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِتَرْبِيَةِ الدُّعَاةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ سَنَشْرَحُهَا فِي تَفْسِيرِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [16: 125] إِنْ أَمْهَلَ الزَّمَانُ. وَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ فُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ لِأَجْلِ فَهْمِ الدِّينِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ طُرُقِ الدَّعْوَةِ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِطَرِيقَةٍ صِنَاعِيَّةٍ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَدْ تَيَسَّرَتْ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا كَانَ فَهْمُ الدِّينِ مُتَيَسِّرًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ صِنَاعِيٍّ فَفِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الدِّينِ عَلَى التَّعْلِيمِ الصِّنَاعِيِّ، وَتَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَمَا حَظَرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ عَلَى تَعْلِيمٍ خَاصٍّ وَتَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَلَا يَنْتَشِرُ الدِّينُ وَلَا يُحْفَظُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بِهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ

التَّنْوِيهُ بِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الَّتِي تُقِيمُهَا الْأُمَّةُ لِذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْجَمْعِيَّةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ أَقْبَحُ الْمُنْكَرِ، وَالظَّالِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوِيًّا وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِي النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُخَالَفُ وَلَا تُغْلَبُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ الَّتِي تُقَوِّمُ عِوَجَ الْحُكُومَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الشُّورَى، وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَدَلَالَتُهَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [42: 38] لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ خَبَرِيٌّ لِحَالِ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَكْثَرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَمْدُوحٌ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [3: 159] فَإِنَّ أَمْرَ الرَّئِيسِ بِالْمُشَاوَرَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَامِنٌ يَضْمَنُ امْتِثَالَهُ لِلْأَمْرِ فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا هُوَ تَرَكَهُ؟ وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَفْرِضُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ جَمَاعَةٌ مُتَّحِدُونَ أَقْوِيَاءُ يَتَوَلَّوْنَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحُكَّامِ وَالْمَحْكُومِينَ، وَلَا مَعْرُوفَ أَعْرَفُ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا مُنْكَرَ أَنْكَرُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " لَا بُدَّ أَنْ يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا " هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ الطُّلَّابِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَفَسَّرَهُ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُفْنُوهُمْ أَيِ الظَّالِمِينَ وَيُبِيدُوهُمْ وَهُوَ كَمَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ مَعْزُوٌّ إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُّنَ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ " وَعَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا " وَقَدْ أَوْرَدَ الْفِقْرَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَقَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ: " تَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ " تَعْطِفُوهُ عَلَيْهِ. اهـ. أَقُولُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ تَابِعَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِفَرِيضَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَجَالِسِ النُّوَّابِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَكَأَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَوْنِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى وَمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا كَذَا، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنَ النَّصَّيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ حُكُومَةِ

105

الْمُسْلِمِينَ شُورَى، وَمَجِيءُ النَّصِّ الْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ فَرْضًا حَتْمًا، كَمَا عُهِدَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ وَمَرَّ مَعَنَا كَثِيرٌ مِنْهَا رَاجِعْ تَفْسِيرَ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [2: 228] الْآيَةَ، وَالنَّصُّ الثَّانِي صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ وَالضَّامِنُ لَهُ الْأُمَّةُ الْمُخَاطَبَةُ بِالتَّكَالِيفِ فِي أَكْثَرِ النُّصُوصِ. وَإِنَّمَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ كَمَا يَأْتِي مُبَيَّنًا عَنْهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. قَالَ: وَمِمَّا يُنَاطُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مَعْرُوفٍ - النَّظَرُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ فِي مَكَانٍ مَا طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ بِمَا يَجِبُ اتَّخَذْتَ الْوَسَائِلَ لِتَعْلِيمِهِمْ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدُّوا لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُوهُمْ، وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ مُنْتَظِرًا سُؤَالَ النَّاسِ لِيُفِيدَهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ اهْتِدَاءً بِهَدْيِهِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أُمَّةً يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهَا رِيَاسَةٌ تُدَبِّرُهَا ; لِأَنَّ أَمْرَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ رِيَاسَةٍ يَكُونُ مُخْتَلًّا مُعْتَلًّا، فَكُلُّ كَوْنٍ لَا رِيَاسَةَ فِيهِ فَاسِدٌ، فَالرَّأْسُ هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَعْمَالِهَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ رَئِيسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَصْدَرَ النِّظَامِ وَتَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعَامِلِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَمَقَامُ الرِّيَاسَةِ يَخْتَارُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِكُلِّ عَمَلٍ وَلِكُلِّ بِلَادٍ مَنْ يَكُونُونَ أَكْفَاءَ لِلْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا ; لِتَكُونَ أَعْمَالُهُمْ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَقْصِدِ الْأُمَّةِ الْعَامِّ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ مِنْهُمْ وَحْدَةٌ فِي الْقَصْدِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَسَيْرِهِمْ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ فَسَدَ الْعَمَلُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَنْكِيثِ الْقُوَى ; وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ مُنْتَخَبَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَامَّةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِلْعَامَّةِ رِقَابَةٌ وَسَيْطَرَةٌ عَلَى الْخَاصَّةِ تُحَاسِبُهَا عَلَى تَفْرِيطِهَا وَلَا تُعِيدُ انْتِخَابَ مَنْ يُقَصِّرُ فِي عَمَلِهِ لِمِثْلِهِ. فَالْأُمَّةُ الصُّغْرَى الْمُنْتَخَبَةُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ الْكُبْرَى الْمُنْتَخِبَةِ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَهَذِهِ تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَّةِ الصُّغْرَى، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِي تَكَافُلٍ وَتَضَامُنٍ. بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِأَنْ تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دُونَ سِوَاهُمْ - لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَ سِيَاجَهُ، وَبِهِمْ تَتَحَقَّقُ الْوَحْدَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ - نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ وَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ شِيعَةٍ تَذْهَبُ مَذْهَبًا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْأُخْرَى، وَصَارَ كُلٌّ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ

وَيُخَطِّئُ مَا سِوَاهُ حَتَّى تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا عَلَى ذَلِكَ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [2: 253] فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ كَانُوا أُمَّةً أَوْ كَانَ فِيهِمْ أُمَّةٌ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَقَاصِدِ، وَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ وَتَعَدَّدَتْ فِيهِمُ الْمَذَاهِبُ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَمَا بَعْدَهَا، فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّةَ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ هِيَ الَّتِي تَغْذُو هَذِهِ الْوَحْدَةَ وَتَمُدُّهَا وَتُنَمِّيهَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقُومُ بِهِ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهَا وَيُؤَيِّدُهَا وَيَشُدُّ أَزْرَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وِجْهَةُ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ الْآمِرَةِ النَّاهِيَةِ وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مَا أَفْلَحُوا لِعَدَمِ وَحْدَتِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَكَوَّنَ فِيكُمْ أُمَّةٌ لِلدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ طَبِيعِيٌّ، إِذْ مِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الْمُتَّفِقِينَ فِي الْمَقْصِدِ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا ضَارًّا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْمَقَاصِدِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْأَهْوَاءِ بِذَهَابِ كُلٍّ إِلَى تَأْيِيدِ مَقْصِدِهِ وَإِرْضَاءِ هَوَاهُ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ لِأَجْلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، وَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ. أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا قَوْلَيْنِ أَقْرَبُهُمَا ثَانِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: " فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَالُوا فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ حَذَّرَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الرَّافِعَةِ لِدَلَالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ جُمْلَةِ الْآيَاتِ. وَ (الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَالِينَ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، لَا جَرَمَ حَذَّرَهُمْ - تَعَالَى - مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِكَيْلَا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ " اهـ. وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِهَا وَاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهُ هُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا. وَعُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ التَّفَرُّقِ لَا كُلُّ اخْتِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي وَسَائِلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ الَّذِي لَا يَدُومُ مَعَهُ خِلَافٌ، وَإِذَا دَامَ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ فِي الْعَمَلِ، إِذِ الْمُتَّفِقُونَ الْمُخْلِصُونَ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَوْلِ مَنْ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ الْبُرْهَانُ مِنْهُمْ وَإِلَّا عَمِلُوا بِرَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فِيمَا لَا يَظْهَرُ لِلْأَقَلِّينَ بُرْهَانُهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَخُوضُ فِي أَقْوَالِ الْمُئَوِّلِينَ الْمُتَحَكِّكِينَ بِالْأَلْفَاظِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ كَحَمْلِ بَعْضِهِمُ التَّفَرُّقَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْعَقَائِدِ، وَالِاخْتِلَافَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ، وَادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْآيَةُ ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى. أَقُولُ: وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيُّ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِسَبَبِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ حَاوَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ. وَهَذَا وَاقِعٌ وَلَكِنَّهُ تَفْسِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ وَكُلُّهُ أَثَرٌ لِلتَّفَرُّقِ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ رَئِيسًا فِي بَلَدٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْقَوْلِ: " وَأَقُولُ إِنَّكَ إِذَا أَنْصَفْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَانِ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ " اهـ. أَقُولُ: وَتَبِعَ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي الْعُلَمَاءِ نِظَامُ الدِّينِ الْحَسَنُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (كَعَادَتِهِ) فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَفَرُّقِ الْأَحْبَارِ وَاخْتِلَافِهِمْ: " وَلَعَلَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَنَسْأَلُ اللهَ الْعِصْمَةَ وَالسَّدَادَ " اهـ. وَسَبَقَهُمَا حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيُّ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاخْتِلَافِ مَا عَدَا الْأَفْرَادَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ التَّقْلِيدَ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ - وَهُوَ كِتَابُهُ - وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ صَوْتُ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لَا يُسْمَعُ بَيْنَ جَلَبَةِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ الْمَنَاصِبِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يُدَعِّمُونَ سُلْطَتَهُمْ بِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الْعَامَّةُ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْأَفْرَادَ الَّذِينَ تَنَبَّهُوا فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى إِلَى سُوءِ حَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُلَقِّبُهُمُ الْغَزَّالِيُّ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ لَمْ يُحَاوِلُوا مُعَالَجَةَ هَذَا الدَّاءِ وَاصْطِلَامِ أَرْوِمَتِهِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ الْمَذَاهِبِ وَالتَّعَصُّبُ لَهَا بِالدَّوَاءِ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَى الِاعْتِصَامِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلِ اكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِالشَّكْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارِهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، أَوْ بِاللِّسَانِ لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ كَمَا نَقَلَ الرَّازِيُّ

عَنْ أَكْبَرِ شُيُوخِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [9: 31] فَإِنَّهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ قَالَ مَا نَصَّهُ: قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - فِي بَعْضِ مَسَائِلَ وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ! يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا " اهـ. أَقُولُ: إِنَّ الرَّازِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كَانَ يُقَرِّرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُفَسِّرُ آيَاتِهَا وَيَنْسَاهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَيَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةَ. وَهَذَا هُوَ أَصُولُ الدَّاءِ الَّذِي يَشْكُو مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ سَبَبِهَا. أَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فَقَدْ تَجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فِي نِهَايَتِهِ، وَوَصَفَ الدَّوَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (رَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص 11 مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى تَأْلِيفِ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَقُومُ بِهِ. وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ وَشَيْخُهُ يَقُولَانِ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ السَّابِعِ، وَالْغَزَّالِيُّ يَقُولُ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ مَا قَالُوا فَمَاذَا نَقُولُ فِي أَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَشُقُّونَ لِأُولَئِكَ غُبَارًا؟ أَلَسْنَا الْآنَ أَحْوَجَ إِلَى الْإِصْلَاحِ مِنَّا إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الَّتِي اعْتَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الظُّلُمَاتِ فِيهَا غَشِيَتِ النُّورَ، حَتَّى ضَلَّ بِالِاخْتِلَافِ الْجُمْهُورُ؟ بَلَى، وَهُوَ مَا نُعَانِي فِيهِ مَا نُعَانِي وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ إِلَّا إِذَا بُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، أَوْ صَارَ بِحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ لَوْ نَظَرَ فِيهِ، وَالْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ بَعْدَ الْبَيَانِ، كَمَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. قَالَ - تَعَالَى - فِي الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَهَذَا الْوَعِيدُ يُقَابِلُ الْوَعْدَ الْكَرِيمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْفَلَاحُ فِي ذَلِكَ الْوَعْدِ يَشْمَلُ الْفَوْزَ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ يَشْمَلُ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَحَكَّمُوا فِي دِينِهِمْ آرَاءَهُمْ يَكُونُ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَيَشْقَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يُبْتَلَوْنَ بِالْأُمَمِ الطَّامِعَةِ فِي الضُّعَفَاءِ فَتُذِيقُهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، وَتَسْلُبُهُمْ عَزَّةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا السُّؤَالَ: هَلْ قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وَانْتَهَوْا عَنْ هَذَا النَّهْيِ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا؟ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَجَالًا لِتَفَكُّرِ طُلَّابِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا جَوَابُهُ هُوَ فَكَمَا نَقَلْنَا لَكَ عَنِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَعَنْ شَيْخِهِ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا، وَإِذَا كَانَ لَا يَزَالُ فِي عُلَمَاءِ الرُّسُومِ مِنَّا مَنْ يَقُولُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي فَلَاحٍ وَفَوْزٍ فَقَدْ عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا عِزَّهُمْ وَاسْتِقْلَالَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ بِمَا فَقَدُوا وَبِمَا يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَفْقِدُوا مِمَّا بَقِيَ لَهُمْ، وَأَنَّ أَذْكِيَاءَ شُعُوبِهِمْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى بُعْدِ الدَّارِ وَقُرْبِهِ عَنْ طَرِيقِ عِلَاجِ الدَّاءِ، قَبْلَ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّمَاسِ الشِّفَاءِ قَبْلَ الْإِشْفَاءِ، وَالْعِلَاجُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَمَتَى يُبْصِرُونَ! وَالطَّبِيبُ يُنَادِيهِمْ فَأَنَّى يَسْمَعُونَ؟ عَسَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبًا. ذَلِكَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ يَكُونُ لِلْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قِيلَ: إِنَّ بَيَاضَ الْوُجُوهِ وَسَوَادَهَا هُنَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [39: 60] وَقِيلَ - وَهُوَ الرَّاجِحُ - إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ فِي مَادَّةٍ (بَيَضَ) مِنْ مُفْرَدَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ " وَلَمَّا كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ الْأَلْوَانِ عِنْدَهُمْ كَمَا قِيلَ: الْبَيَاضُ أَفْضَلُ وَالسَّوَادُ أَهْوَلُ، وَالْحُمْرَةُ أَجْمَلُ وَالصُّفْرَةُ أَشْكَلُ: عَبَّرَ عَنِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ بِالْبَيَاضِ حَتَّى قِيلَ لِمَنْ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمُعَابٍ هُوَ أَبْيَضُ الْوَجْهِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ فَابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَرَّةِ وَاسْوِدَادُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْغَمِّ وَعَلَى ذَلِكَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [16: 58] وَعَلَى نَحْوِ الِابْيِضَاضِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [80: 38، 39] اهـ. وَقَالَ فِي مَادَّةِ (سَوَدَ) : " السَّوَادُ: اللَّوْنُ الْمُضَادُّ لِلْبَيَاضِ. يُقَالُ اسْوَدَّ وَاسْوَادَّ. قَالَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَرَّةِ وَاسْوِدَادُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَاءَةِ وَنَحْوُهُ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [16: 58] وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الِابْيِضَاضَ وَالِاسْوِدَادَ عَلَى الْمَحْسُوسِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ سُودًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِيضًا، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَاضِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [75: 22] وَقَوْلُهُ فِي السَّوَادِ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [75: 24] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [80: 40، 41] وَقَالَ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [10: 27] وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا رُوِيَ " أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحْشَرُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ " اهـ.

106

وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي تَأْيِيدِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ شِعْرًا لِبَعْضِهِمْ فِي الشَّيْبِ: يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُونِ فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عِيَانِي وَعَنْ عِيَانِ الْعُيُونِ بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٍ لِوَجْهِكِ الْمَلْعُونِ أَقُولُ: وَلَا يَزَالُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعًا عِنْدَ كُلِّ نَاطِقٍ بِالضَّادِ وَلَا سِيَّمَا وَصْفُ الْكَاذِبِ بِسَوَادِ الْوَجْهِ (فَتَعَجَّبُوا لِسَوَادِ وَجْهِ الْكَاذِبِ) هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وِفَاقًا لِلرَّاغِبِ وَلِأَبِي مُسْلِمٍ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ ; إِذْ حُمِلَ الْعَذَابُ فِي الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا فِي بَحْثِ اسْتِعْمَالِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي الْمَعَانِي ; إِذْ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِهِ مَا مِثَالُهُ: أَمَّا الْمُتَّفِقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا عَزَائِمَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ أُمَّتِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، وَاعْتَصَمُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الَّتِي فِيهَا عِزَّتُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ وَوَلِيًّا لَهُ فَأُولَئِكَ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ - أَيْ تَنْبَسِطُ وَتَتَلَأْلَأُ بَهْجَةً وَسُرُورًا - عِنْدَ ظُهُورِ أَثَرِ الِاتِّفَاقِ وَالِاعْتِصَامِ وَنَتَائِجِهِمَا، وَهِيَ السُّلْطَةُ وَالْعِزَّةُ وَالشَّرَفُ وَارْتِفَاعُ الْمَكَانَةِ وَسِعَةُ السُّلْطَانِ. وَهَذَا الْأَثَرُ ظَاهِرٌ فِي الْأُمَمِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُتَّحِدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ مَجْمُوعُهَا إِذَا أُهِينَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَتُجَيَّشُ جَمِيعُهَا مُطَالِبَةً بِنَصْرِهِ وَالِانْتِقَامِ لَهُ ; لِأَنَّهُ ظُلِمَ وَأُهِينَ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ثُمَّ يُظْلَمُ أَوْ يُهَانُ وَتَكُونُ هِيَ رَاضِيَةً نَاعِمَةَ الْبَالِ، أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ تَرَى عَلَى وُجُوهِهِمْ لَأْلَاءُ الْعِزَّةِ وَتَأَلُّقُ الْبِشْرِ بِالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِبَيَاضِ الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفُونَ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْمَقَاصِدِ، وَتَبَايُنِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، الَّذِينَ لَا يَتَنَاصَرُونَ وَلَا يَتَعَاضَدُونَ وَلَا يَهْتَمُّ أَفْرَادُهُمْ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا شَرَفُ الْمِلَّةِ وَعِزَّةُ الْأُمَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ بِالذِّلَّةِ وَالْكَآبَةِ يَوْمَ تَظْهَرُ عَاقِبَةُ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ بِقَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُمْ وَنَزْعِهِ السُّلْطَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الْمَاضِينَ، وَالْمُشَاهَدَةُ أَصْدَقُ وَأَقْوَى حُجَّةً فِي الْحَاضِرِينَ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِلْأُمَّةِ الَّتِي وَقَعَ لَهَا ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّ عَمَلَهَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُوَبِّخُهُمُ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ. وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الشَّأْنِ لَا الْحِكَايَةَ عَنْ قَوْلٍ لِسَانِيٍّ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ أَوْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عِنْدِي، وَالْكَلَامُ

107

فِي الْأُمَمِ لَا فِي الْأَفْرَادِ، وَالْكَفْرُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ لَيْسَ خَاصًّا بِمَا يَعُدُّهُ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ كُفْرًا كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2: 254] فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ. فَمِنْ عُرْفِهِ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ يُعَدُّونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [30: 31، 32] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [6: 159] فَمَنْ تَذَكَّرَ هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَا يُجِيزُ لِنَفْسِهِ صَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَرْجِعُ مَسَائِلُ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَحْدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ كَذَّبَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَعُدُّ الْخُرُوجَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْعَمَلِ مِنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ (مَثَلًا) فَمَنِ اسْتَرْسَلَ فِي الظُّلْمِ حَتَّى صَارَ صِفَةً لَهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2: 254] فَإِذَا كَانَ الظَّالِمُونَ كَافِرِينَ فِي عُرْفِهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّقُونَ الْمُخْتَلِفُونَ كَافِرِينَ، وَالِاعْتِصَامُ بِالْوَحْدَةِ وَتَرْكُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِهِ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ أَسَاسُهُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَاؤُهُ إِلَّا عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنَّ مَا قَرَّرْتُهُ مِنْ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَاطَةِ الدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ مُتَّحِدَةٍ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا سُلُوكُهَا لِنَمُوتَ مُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الْمُرَادُ بِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا أَثَرُهَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ يَكُونُونَ خَالِدِينَ فِي النِّعْمَةِ بِالدُّنْيَا مَا دَامُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ نِعْمَةٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ فِي الْأَعْمَالِ. وَتَرْتِيبُ الْخُلُودِ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ: ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ابْيِضَاضَ الْوُجُوهِ وَمَا كَانَ سَبَبًا فِيهِ عِلَّةٌ لَهُ، وَالْمَعْلُومُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْخُلُودِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَظْهَرُ. تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

108

تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا لِلِاحْتِمَالَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ، فَلَا عُذْرَ لِأُمَّتِكَ إِذَا اتَّبَعَتْ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا فَتَفَرَّقَتْ فِي الدِّينِ وَذَهَبَ فِيهِ مَذَاهِبَ وَصَارَتْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [30: 32] ، وَبِخِلَافِ الْآخَرِينَ مُسْتَمْسِكُونَ، فَمَا أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الِاعْتِصَامِ وَوُعِدُوا عَلَيْهِ بِالْفَلَاحِ الْعَظِيمِ، وَلَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَأُوعِدُوا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِلَّا لِيَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّحِدَةً فِي الدِّينِ مُتَّفِقَةً فِي الْمَقَاصِدِ، يَعْذُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا فَهِمَ غَيْرَ مَا فَهِمَ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، كَوُجُوبِ الِاتِّحَادِ وَالِاعْتِصَامِ، وَتَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْوَاهُ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ هِدَايَتَهُمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ وَيَتِمُّ بِهِ نِظَامُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَإِذَا هُمْ فَسَقُوا عَنْ أَمْرِهِ وَحَلَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُونَ هُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَكَذَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. فَالْكَلَامُ فِي الْأُمَمِ وَعُقُوبَتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ بِهَا بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ فَشَا فِيهَا فَزَحْزَحَهَا عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11: 102] . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَهُوَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي شُئُونِهِمْ وَإِلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ تَرْجِعُ أُمُورُهُمْ وَلِكُلِّ سُنَّةٍ مِنْهَا غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، فَلَا يَطْمَعُ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ بِالْوُصُولِ إِلَى غَايَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ هُوَ الظُّلْمُ بِالتَّشْرِيعِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي أَحْكَامِ الصِّيَامِ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2: 185] وَقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [5: 6] إِلَخْ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْخِلَافِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ لَوْلَا الْمَذَاهِبُ الَّتِي وُضِعَتْ أُصُولُهَا وَقَوَاعِدُهَا ثُمَّ نَظَرَ أَصْحَابُهَا فِي الْقُرْآنِ يَلْتَمِسُونَ تَأْيِيدَهَا بِهِ وَحَمْلَهُ عَلَيْهَا. فَقَدْ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ عَامُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ مُطْلَقًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ حَتْمًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ ظُلْمٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ مِنْهُمْ لَا مِنْهُ، وَوَجَّهُوا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا. وَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: إِنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ - تَعَالَى - مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ مِلْكٌ فَيَكُونُ ظَالِمًا بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضِ. فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ عَذَّبَ الْأَتْقِيَاءَ الصَّالِحِينَ وَأَثَابَ الْفُجَّارَ الْمُفْسِدِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ ظُلْمًا بَلْ عَدْلًا ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ - أَوَّلًا: إِنَّ الْآيَتَيْنِ فِي وَادٍ وَهَذِهِ الْمَسَائِلَ الْكَلَامِيَّةَ فِي وَادٍ آخَرَ، وَثَانِيًا: إِنَّ الظُّلْمَ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - لَا لِأَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِ الْمُتَصَرِّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ ; لِأَنَّهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ وَالْكَمَالَ فِي النِّظَامِ وَفِي التَّشْرِيعِ، وَمَنْ حَمَّلَ عَبِيدَهُ أَوْ دَوَابَّهُ مَا لَا تُطِيقُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ ظَلَمَهَا، بَلْ قَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ الْأَرْضَ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضِعًا لِلْحَفْرِ: إِنَّهُ ظَلَمَهَا وَسَمَّوْهَا الْأَرْضَ الْمَظْلُومَةَ وَسَمَّوُا التُّرَابَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَظْلُومُ، وَمَنْ نَقَصَ امْرَأً حَقَّهُ فَقَدْ ظَلَمَهُ قَالَ - تَعَالَى -: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [18: 33] وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى الظُّلْمِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الظُّلْمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ " فَالظُّلْمُ الَّذِي يَنْفِيهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ مَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ وَهِدَايَتَهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي الْخَلْقِ مَا يُنَافِي النِّظَامَ وَالْإِحْكَامَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّشْرَ فِي آيَةِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ إِلَخْ. عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ اللَّفِّ إِذْ ذَكَرَ فِي اللَّفِّ الِابْيِضَاضَ قَبْلَ الِاسْوِدَادِ، وَذَكَرَ فِي النَّشْرِ حُكْمَ مَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ قَبْلَ حُكْمِ مَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَلَيْسَ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ يُسَمُّونَهُ الْمُرَتَّبَ أَبْلَغَ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الْمُشَوَّشَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ فَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نُكْتَةَ التَّرْجِيحِ هُنَا جَعْلُ مَطْلَعِ الْكَلَامِ وَمَقْطَعِهِ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَائِهِمْ فَوَافَقَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانَ الْبُلَغَاءِ جَعْلُهُمَا مِمَّا يَسُرُّ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَقِيلَ: إِنَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَلْقِ الرَّحْمَةُ دُونَ الْعَذَابِ ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَخَتَمَ بِذِكْرِ جَزَائِهِمْ وَأَدْمَجَ ذِكْرَ الْآخَرِينَ فِي الْأَثْنَاءِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ تَرْجِيحٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَالثَّانِي تَرْجِيحٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ خَالِدُونَ فِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَهْلَ الْعَذَابِ خَالِدُونَ فِيهِ. نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الرَّازِيُّ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَضَافَ الرَّحْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ الْعَذَابِ وَسَبَبَهُ وَهُوَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ قَالَ: " وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الِاعْتِذَارِ عَنِ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ مُغَلَّبٌ " فَيَا وَيْلَ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الْمُتَعَادِينَ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ الَّذِي يَأْخُذُ بِحُجُزِهِمْ أَنْ يَقْتَحِمُوا فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَتَهَافَتُونَ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.

110

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَذَكَّرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ مَا نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَتَوَعَّدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ - بَيَّنَ فَضْلَ الْمُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، الْمُتَآخِينَ فِي دِينِهِ، الْمُتَحَابِّينَ فِيهِ، وَوَصَفَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأُمَّةِ وَفَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْإِيمَانُ بِاللهِ - تَعَالَى -. فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كُنْتُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهَا تَامَّةٌ فَالْمَعْنَى وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الْوُجُودِ الْآنَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ فَلَا يُعْرَفُ فِيهَا الْمَعْرُوفُ وَلَا يُنْكَرُ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَزَعُ أَهْلَهُ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْرِفُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَمَا فِي كُتُبِهَا الْمُبَشِّرَةِ بِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ شَأْنُكُمْ كَذَا وَكَذَا ; وَبِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحَسَنُ، فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ تَتِمَّةٌ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَكَمَا ذَكَرَ فِيهَا مَا يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ذَكَرَ أَيْضًا مَا يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا - أَيْ كَوْنِهَا نَاقِصَةً - غَيْرُ ذَلِكَ.

(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ " كَانَ " هُنَا بِمَعْنَى صَارَ أَيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. إِذَا فُسِّرَتْ كَلِمَةُ كُنْتُمْ بِغَيْرِ مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ شَهَادَةً مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِهَا بِأَنَّهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا الثَّلَاثِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِيهَا كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الدَّعْوَى وَجَعْلِ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لَهُمْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالْتَزَمَ الْحَلَالَ وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ مَعَ الْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ مَعَ اتِّقَاءِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْوَصْفُ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا، وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ -، فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَهُمُ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ فَيَذْهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ تَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَذْهَبٍ شِيعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ قَوِيًّا، وَلَا يَهَابُ صَغِيرٌ كَبِيرًا، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، وَمَلَكَ أَزِمَّةَ أَهْوَائِهِمْ حَتَّى كَانَ هُوَ الْمُسِيِّرَ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَوَاصَّهُ وَصِفَاتَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ فَوَائِدُهُ وَآثَارُهُ فِي تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَيْدِيهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي قَالَ - تَعَالَى - فِي أَهْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [49: 15] وَقَالَ فِيهِمْ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [8: 2] إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [8: 4] وَقَالَ فِيهِمْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23: 1، 2] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى أَمْثَالِهَا فِي أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ " وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ " هِيَ مِنْ لَفْظِهِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةَ وَالْمَزَايَا الْكَامِلَةَ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ لَمْ تَكُنْ لِكُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يُسْلِمُ وَيَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [48: 29] فَهُمُ الَّذِينَ تَصْدُقَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَالْإِيوَاءُ وَالنَّصْرُ مِنْ أَهْلِهَا ; لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ

[8: 74، 75] وَلَمْ يُهَاجِرْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَافِقٌ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي زَمَنِ الضَّعْفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ النِّفَاقُ فِي زَمَنِ الْقُوَّةِ، وَمُنَافِقُو الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْصُرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانُوا يُخَذِّلُونَ وَيُثَبِّطُونَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُغْرُونَ الْأَعْدَاءَ بِهِمْ، قَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [9: 47، 48] . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهَا فِي خَاصَّةِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي أَثَارَهَا مُعَاوِيَةُ عَلَى عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَلْ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ اعْتِقَادُ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ مَذْهَبٌ جَدِيدٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَالدِّينُ نَفْسُهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ مُعَاوِيَةَ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ; فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْهِجْرَةُ، أَوْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ كَمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُسْلِمًا. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ: وَهَذَا يُعَارِضُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ ": يَعْنِي مُعَاوِيَةَ. وَسَوَاءٌ صَحَّ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ أَوْ لَا فَمُعَاوِيَةُ لَمْ يُهَاجِرْ، وَنَقَلَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَخَافُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أُمِّي كَانَتْ تَقُولُ: إِنْ خَرَجْتَ قَطَعْنَا عَنْكَ الْقُوتَ، وَمَا كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُطَالِبُ بِحَقٍّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَهُ - وَهُوَ الْقِصَاصُ مِنْ قَاتِلِي عُثْمَانَ - ثُمَّ يَدْخُلُ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ. (ثَالِثُهَا) قَدْ عَرَفَ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى التَّارِيخِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَا وُجِدُوا، وَإِنَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَكْثَرِهِمْ، وَهَذَانِ الرُّكْنَانِ هُمَا بَعْدَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ أَرْكَانِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ، فَمَا عَرَضَ مِنَ التَّفَرُّقِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْخِلَافِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ زَالَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ ; لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالْخِلَافَ لَا يَدُومُ فِي أُمَّةٍ تُقِيمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَوْ بِغَيْرِ

نِظَامٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُمَا نِظَامٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَمَا وَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ. أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ كَانَ النَّاسُ يُغْلِظُونَ لِمُعَاوِيَةَ فِي إِنْكَارِ مَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ حَتَّى غَيْرِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ؟ الْحَقَّ أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَا فَتِئَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ خَرَجَتْ لِلنَّاسِ حَتَّى تَرَكَتِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا تَرَكَتْهُمَا رَغْبَةً عَنْهُمَا أَوْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَتِهِمَا، بَلْ مُكْرَهَةً بِاسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ مِنْهُمْ أَظْهَرَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ جَهْرًا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ إِذْ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ " فَقَدْ كَانَتْ شَجَرَةُ بَنِي مَرْوَانَ الْخَبِيثَةِ هِيَ الَّتِي سَنَّتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَّةَ الِاسْتِبْدَادِ، فَمَا زَالَ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ حَتَّى سَلَبَ الْأُمَّةَ أَفْضَلَ مَزَايَاهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ (الْفَخْرُ الرَّازِيُّ) فِي تَفْسِيرِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ وَصْفِ الْأُمَّةِ هُنَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِيمَانِ عِلَّةً لِكَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَقَالَ: " وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ عِلَّةِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَقْرُونًا بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَهَاهُنَا حَكَمَ - تَعَالَى - بِثُبُوتِ وَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذَا الْحُكْمَ وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ ; أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانِ، فَوَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ " ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ فَقَالَ: " مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللهِ كَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ الْأُمَمِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْقِتَالُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي خَطَرِ الْقَتْلِ، وَأَعْرَفُ الْمَعْرُوفَاتِ الدِّينُ الْحَقُّ وَالْإِيمَانُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ الْكُفْرُ بِاللهِ، فَكَانَ الْجِهَادُ فِي الدِّينِ مَحْمَلًا لِأَعْظَمِ الْمَضَارِّ لِغَرَضِ إِيصَالِ الْغَيْرِ إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِهَادِ فِي شَرْعِنَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ لَا جَرَمَ صَارَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِفَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيُقِرُّوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: (فَائِدَةٌ) الْقِتَالُ عَلَى الدِّينِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْصِفٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِسَبَبِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تُورَدُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أُكْرِهَ [الْمَرْءُ]

عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَضْعُفُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الدِّينِ الْبَاطِلِ وَلَا يَزَالُ يَقْوَى فِي قَلْبِهِ حُبُّ الدِّينِ الْحَقِّ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنِ اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الدَّائِمِ " اهـ. مَا أَوْرَدَهُ (الرَّازِيُّ) عَنْ (الْقَفَّالِ) وَأَقَرَّهُ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدَ غَيْرِ ثَابِتَةٍ (مِنْها) تَوَهُّمُ الْقَفَّالِ وَالرَّزِايِّ أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا جِهَادٌ دِينِيٌّ قَوِيٌّ وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ اطِّلَاعِهِمَا عَلَى الْأَدْيَانِ وَالتَّارِيخِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا أَشَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرُوبِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَوَرَدَ عَنْهُمْ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ مَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الدِّينِ مَنْفِيٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يُحَارِبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا حَارَبَ دِفَاعًا، وَكَيْفَ يُحَاوِلُ الْإِكْرَاهَ وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [10: 99] وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ آيَاتِ الْقِتَالِ فِي الْبَقَرَةِ وَآيَةِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [2: 256] . (وَمِنْهَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَجْعَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِلْزَامِ بِهِ، وَالْآيَةُ السَّابِقَةُ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ غَيْرَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ وَغَيْرَ الْإِلْزَامِ بِقَبُولِهِ بِهَا وَهُوَ عَمَلٌ لَا إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ. [وَمِنْهَا] أَنَّ فَرِيضَتَيِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرُ فَرِيضَةِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. [وَمِنْهَا] أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُمْ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [22: 41] فَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ ; وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْجِهَادِ بَلْ بَعْدَهُ. فَيَا لِلْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُونَ الْمَسْأَلَةَ التَّقْلِيدِيَّةَ قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً ثُمَّ يُحَكِّمُونَهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَيَجْعَلُونَهَا قَاعِدَةً لِتَفْسِيرِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِآيَاتِهِ الصَّرِيحَةِ، ثُمَّ هُمْ يَأْتُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْإِسْلَامُ هُوَ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَنَزْعُ قَلَائِدِ التَّقْلِيدِ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَقَلُّدِ هَذِهِ الْقَلَائِدِ. أَلَمْ تَتَأَمَّلْ مَا قَالَهُ (الْقَفَّالُ) فِي فَائِدَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْنِي بِأَكْثَرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِحَسَبِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ إِلَّا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالدَّلَائِلِ فَلَا يَقْبَلُونَ فِي دِينِهِمْ شَيْئًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِهَذَا كَانَ لَهُمُ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِإِكْرَاهِ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مِثْلَهُمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَأَيْنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ الْيَوْمَ وَفِي زَمَنِ (الْقَفَّالِ) أَيْضًا؟ ! ثُمَّ إِنَّ السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ (الرَّازِيُّ) وَارْتَضَى فِي جَوَابِهِ مَا قَالَهُ (الْقَفَّالُ) مَبْنِيٌّ عَلَى

أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مَعْنَاهُ خَيْرَ أُمَّةٍ ظَهَرَتْ لَهُمْ مُنْذُ وُجِدُوا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي مَعْنَى الْعِبَارَةِ قَالَ: وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: لِلنَّاسِ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ لِلنَّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُخْرِجَتْ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ اهـ. وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا السُّؤَالِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ تَعْلِيلَ الْخَيْرِيَّةِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ لِأَنَّهُ كُلُّ السَّبَبِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، بَلْ لِأَنَّ مَا كَانَتْ بِهِ خَيْرَ أُمَّةٍ لَا يُحْفَظُ وَلَا يَدُومُ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ; وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَرَضِهَا فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا وَحِفْظِ وَجُودِهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَا تَكُونُ مُسْتَحِقَّةً لِلْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَظِيرٌ فِي كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَقُمْ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: " إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ " غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ (الرَّازِيُّ) هُنَا سُؤَالًا آخَرَ وَأَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: " لِمَ قُدِّمَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَى حَالًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِذَنِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ فَهُوَ شَرْطٌ لِتَأْثِيرِ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ كَوْنُهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا إِيمَانُهُمْ فَذَاكَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرُ أَلْصَقُ بِالْأَثَرِ مِنْ شَرْطِ التَّأْثِيرِ ; فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللهُ - تَعَالَى - ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ " اهـ. بِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْإِيمَانِ فَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ (الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ) مَحْمُودَةٌ فِي عُرْفِ جَمِيعِ النَّاسِ: مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ لِصَاحِبِهَا بِالْفَضْلِ وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمِ قَدَّمَ الْوَصْفَ الْمُتَّفَقَ عَلَى حُسْنِهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَهُنَاكَ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الْإِيمَانِ وَحِفَاظُهُ (كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ) فَكَانَ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ مُوَافِقًا لِمَعْهُودٍ عِنْدَ النَّاسِ فِي جَعْلِ سِيَاجِ كُلِّ شَيْءٍ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. أَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ

الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ادِّعَاءِ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَجْمُوعِهِمْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَادِّعَاءُ مَا تُكَذِّبُهُ الْمُشَاهَدَةُ يَفْضَحُ صَاحِبَهُ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّهُمْ لَا مَجَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَى مُشَارَكَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ أَنَّهُ إِيمَانٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِثَمَرِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ لَوْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى النُّفُوسِ وَيَمْلِكُ أَزِمَّةَ الْأَهْوَاءِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا لِأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَا يَزَعُ عَنِ الشُّرُورِ، وَلَا يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْدَفِعُ سُؤَالٌ ثَالِثٌ لِلرَّازِيِّ وَهُوَ: لِمَ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ؟ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ وَهُوَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَوِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ كَافَّةً وَأَهْلُ الْكِتَابِ اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ، وَجَوَابُ الرَّازِيِّ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ بَلْ أَطْلَقَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِكُلِّ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا. وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَانَا - سُبْحَانَهُ - عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ كَمَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَمَرَنَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَكَرَ أَنَّنَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِهَذَا أَوْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالِاتِّبَاعِ الْعَمَلِيِّ - نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُخْتَلِفِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَالِصَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ - تَعَالَى - وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ثَمَرَةً مِنْ ثِمَارِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِيمَانِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ دِينٌ وَكِتَابٌ بَلْ هُوَ مَا عَرَّفْنَاهُ آنِفًا وَقَبْلَ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ هَذَا الْإِيمَانَ الْإِذْعَانِيَّ الَّذِي يَصْحَبُهُ الْإِخْلَاصُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرَى مِنْهُ أُمَّةٌ لَهَا دِينٌ سَمَاوِيٌّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ فَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ عَلَى أَكْثَرِ أَفْرَادِهَا فَهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لَا اسْتِطْرَادٌ كَمَا قِيلَ. هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ آمَنَ

أَهْلُ الْكِتَابِ بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ كَمَا آمَنْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنْ آمَنَ بَعْضُهُمْ فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَرَهْطِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّجَاشِيِّ وَرَهْطِهِ مِنَ النَّصَارَى وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ أَيْ خَارِجُونَ مِنْهُ، أَوْ فَاسِقُونَ فِي دِينِهِمْ غَيْرُ عُدُولٍ فِيهِ فَلَا حَصَّلُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ أَكْمَلُ الْأَدْيَانِ وَلَا تَمَسَّكُوا بِمَا عِنْدَهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ مُتَمَرِّدُونَ فِي الْكُفْرِ. هَكَذَا اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ مُتَمَسِّكٌ بِدِينِهِ مُخْلِصًا فِيهِ، عَامِلًا بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مُوَافِقٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ مِنْ مَيْلِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ إِلَى الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَالِ أُنَاسٍ آخَرِينَ وَمَيْلِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَمَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا وَفِيهِمُ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ، وَإِنَّمَا يَكْثُرُ الِاسْتِمْسَاكُ بِالدِّينِ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِهِ، وَيَكْثُرُ الْفِسْقُ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِ. قَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [57: 16] فَمَاعَدَا هَذَا الْكَثِيرُ هُمُ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِدِينِهِمْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى أُمَّةٍ بِالضَّلَالِ وَالْفِسْقِ بِنَصٍّ عَامٍّ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ، بَلْ يُعَبِّرُ تَارَةً بِالْكَثِيرِ وَتَارَةً بِالْأَكْثَرِ، وَإِذَا أَطْلَقَ أَدَاةَ الْعُمُومِ يَسْتَثْنِي بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [2: 83] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [4: 155] أَوْ يَحْكُمُ عَلَى الْبَعْضِ ابْتِدَاءً كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [3: 75] الْآيَةَ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [7: 159] وَقَالَ فِيهِمْ وَفِي النَّصَارَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [5: 66] وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، فَقَدْ أَثْبَتَ لِبَعْضِهِمُ الْإِيمَانَ وَالِاقْتِصَادَ أَيِ الِاعْتِدَالَ فِي الدِّينِ وَالْهِدَايَةَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [4: 162] فَجَعَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الدَّلَائِلَ وَالْبَرَاهِينَ، وَأَهْلَ الْإِيمَانِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ الْحَقَّ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُوَّةِ اسْتِعْدَادِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرَ الْمُتَشَبِّعَ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَخْتَبِرْ غَيْرَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَحَقَائِقِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَالتَّقْوَى تُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَهُوَ يُطَبِّقُ الْآيَاتِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ الْآنَ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَدِينَةِ جِنِيفَ عَاصِمَةِ سِوِيسْرَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً عَالِمَةً تَقِيَّةً رَاقَبَتْ سَيْرَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَصِيفِهِ هُنَاكَ لِغَرَابَةِ زِيِّهِ وَدِينِهِ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِي قَبْلَ مَعْرِفَتِكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيَّةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ حَقَائِقَ مَا عَلَيْهِ الْأُمَمُ فِي عَقَائِدِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَأَعْمَالِهَا، يَزِنُ ذَلِكَ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالدِّقَّةُ الَّتِي نَرَاهَا فِي تَحَرِّيهِ الْحَقِيقَةَ لَمْ نَعْهَدْهَا فِي كِتَابِ عَالِمٍ وَلَا مُؤَرِّخٍ، فَإِذَا نَحْنُ جَمَعْنَا مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَعَرَضْنَاهُ عَلَى عُلَمَائِهِمْ

113

وَفَلَاسِفَتِهِمْ وَمُؤَرِّخِيهِمْ فَإِنَّهُمْ يُذْعِنُونَ بِأَنَّهُ لُبَابُ الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَوْلَا غَلَبَةُ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ عَلَيْهِمْ فِي عَصْرِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَمَا انْتَشَرَ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ. وَلَكِنْ وُجِدَ فِينَا مَنْ طَمَسَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ وَجَعَلُوا كُلَّ مَا يُنْكِرُهُ الْقُرْآنُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ مِنْ قَبِيلِ هَجْوِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلَّ مَا يَحْمَدُهُ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَتَّى كَأَنَّهُ شِعْرٌ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا مَدْحُ أُنَاسٍ وَذَمُّ آخَرِينَ، وَبِهَذَا يُنَفِّرُونَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَحُولُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالِاتِّعَاظِ وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ. وَلِهَذَا الْبَحْثِ بَقِيَّةٌ تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ لَيْسُوا سَوَاءً إِلَخْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأُصُولِ فَحَمَّلَهَا مَالَا تَحْمِلُ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى أَيْ إِنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِكُمْ وَلَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ بِنَحْوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْخَوْضِ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَّا ضَرَرًا خَفِيفًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ تَأْثِيرٍ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ: كِنَايَةٌ عَنِ الِانْهِزَامِ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ مُقَاتِلِهِ وَيَسْتَدْبِرُهُ فِي هَرَبِهِ مِنْهُ، فَيَكُونُ دُبُرُهُ أَيْ قَفَاهُ إِلَى جِهَةِ وَجْهِ مَنِ انْهَزَمَ هُوَ مِنْهُ. ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ قَطُّ مَا دَامُوا عَلَى فِسْقِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَى خَيْرِيَّتِكُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ إِخْبَارِيَّةً مُسْتَقِلَّةً لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ بِنُونِ الرَّفْعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ بِشَارَاتٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ " الرَّازِيُّ " عَلَى الْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ: أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْيَهُودِ دُونَ النَّصَارَى أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُنْصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنِ انْكِسَارِهِمْ فِي الْحِجَازِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ سِجَالًا ثُمَّ صَارُوا هُمُ الْمَنْصُورِينَ، وَأَجَابَ (الرَّازِيُّ) عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْيَهُودِ، نَعَمْ وَمَا قُلْنَاهُ يَصْلُحُ جَوَابًا مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ - تَعَالَى - نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ إِيَّاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [47: 7] وَبِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَمِثْلُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ [9: 112] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرَّةٍ وَسَنُفَصِّلُهُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ تَفْصِيلًا. ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ثُقِفُوا: وُجِدُوا. وَالذِّلَّةُ بِكَسْرِ الذَّالِ: ضَرْبٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الذُّلِّ لِأَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْهَيْئَةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْجِزْيَةُ، وَقِيلَ: مَا يُحْدِثُهُ فِي النَّفْسِ مِنْ فَقْدِ السُّلْطَةِ وَهَذَا هُوَ

الصَّحِيحُ، وَقَدْ فَرَّقَ (الرَّاغِبُ) بَيْنَ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ وَالذِّلِّ بِكَسْرِهَا فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ مَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ، وَفِي الثَّانِي: مَا كَانَ بَعْدَ تَصَعُّبٍ وَشِمَاسٍ، وَمِنْهُ تَذْلِيلُ الدَّوَابِّ. وَضَرْبُ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْيَهُودِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْصَاقِهَا بِهِمْ وَظُهُورِ أَثَرِهَا فِيهِمْ كَمَا يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ السِّكَّةِ بِمَا يُنْقَشُ فِيهَا، أَوْ عَنْ إِحَاطَتِهَا بِهِمْ كَإِحَاطَةِ الْخَيْمَةِ الْمَضْرُوبَةِ بِمَنْ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [2: 61] الْآيَةَ فَلْيُرَاجَعْ ; فَإِنَّ مَا هُنَا لَا يُغْنِي عَنْهُ. وَالْحَبْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَرْتَبِطُونَ بِالْعُهُودِ كَمَا يَقَعُ الِارْتِبَاطُ الْحِسِّيُّ بِالْحِبَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ: " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ " وَيُسَمَّى السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ حَبْلًا وَالْحَبْلُ سَبَبًا. قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى " إِلَّا بِعَهْدٍ " أَوْ سَبَبٍ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: السَّبَبُ مِنَ اللهِ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبَبُ مِنَ النَّاسِ الْعَهْدُ أَوِ التَّأْمِينُ. وَاخْتَارَ (الرَّازِيُّ) أَنَّ الْحَبَلَ مِنَ اللهِ هُوَ الْجِزْيَةُ، أَيِ الذِّمَّةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقَبُولِهِمْ دَفْعَ الْجِزْيَةِ. وَالْحَبْلُ مِنَ النَّاسِ هُوَ مَا فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيَزِيدُ فِيهِ تَارَةً وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ حَالَهُمْ مَعَكُمْ أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مَهْضُومِي الْحُقُوقِ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَا قَرَّرَتْهُ شَرِيعَتُهُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا فِي حُكْمِكُمْ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ وَالْقَضَاءِ وَتَحْرِيمِ إِيذَائِهِمْ وَهَضْمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعِيشَةِ مِنِ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْكُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ; أَيْ فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الذِّلَّةِ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ لَا عِزَّةَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ قَدْ فُقِدَا مِنْهُمْ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْوَاقِعِ، فَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيَقْتَرِضُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَ، وَقَضِيَّةُ عَلِيٍّ مَعَ الْيَهُودِيِّ عِنْدَ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ، وَفِيهَا أَنَّ عَلِيًّا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ مُخَاطَبَتَهُ أَمَامَ خَصْمِهِ الْيَهُودِيِّ بِالْكُنْيَةِ وَفِيهَا تَعْظِيمٌ يُنَافِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا. بَاءُوا بِالْغَضَبِ: كَانُوا أَحِقَّاءَ بِهِ مِنَ الْبَوَاءِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، يُقَالُ بَاءَ فُلَانٌ بِدَمِ فُلَانٍ أَوْ بِفُلَانٍ إِذَا كَانَ حَقِيقًا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، أَوْ أَقَامُوا فِيهِ وَلَبِثُوا مِنَ الْمَبَاءَةِ أَيْ حَلُّوا مُبَوَّأً أَوْ بِيئَةً مِنَ الْغَضَبِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَسْكَنَةَ بِالْفَقْرِ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: إِنَّ الْيَهُودَ فِي الْغَالِبِ أَهْلُ فَقْرٍ وَمَسْكَنَةٍ! وَلَيْسَتِ الْمَسْكَنَةُ هِيَ الْفَقْرُ وَإِنَّمَا هِيَ سُكُونٌ عَنْ ضَعْفٍ أَوْ حَاجَةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: إِنَّ الْمَسْكَنَةَ حَالَةٌ لِلشَّخْصِ مَنْشَؤُهَا اسْتِصْغَارُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَدَّعِيَ لَهُ حَقًّا، وَالذِّلَّةُ حَالَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ مِنْ سَلْبِ غَيْرِهِ لِحَقِّهِ وَهُوَ يَتَمَنَّاهُ، فَمَنْشَؤُهَا وَسَبَبُهَا غَيْرُهُ لَا نَفْسُهُ

كَالْمَسْكَنَةِ، وَكَأَنَّ الْبَيْضَاوِيَّ أَخَذَ عِبَارَتَهُ مِنْ قَوْلِ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: " فَالْيَهُودُ صَاغِرُونَ أَذِلَّاءُ أَهْلُ مَسْكَنَةٍ وَمَدْقَعَةٍ إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِمَّا لِتَصَاغُرِهِمْ وَتَفَاقُرِهِمْ خِيفَةَ أَنْ تُضَاعَفَ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ " وَهَذَا الْوَصْفُ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَيْهِمْ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فَسَّرُوا الْمَسْكَنَةَ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَقِيَتْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ ذِكْرِهَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ أَنَّ الذِّلَّةَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ لَا تَرْتَفِعُ عَنْهُمْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فَاسْتَثْنَى مِنَ الذِّلَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسْكَنَةَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ بَقَاءَهَا عَلَيْهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُمْ تَابِعِينَ لِغَيْرِهِمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ مَا يَضْرِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ وَادِعِينَ سَاكِنِينَ فَهَذَا الْوَصْفُ صَادِقٌ عَلَى الْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الذُّلُّ فَقَدْ كَانَ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِمْ بِالْمُسَاوَاةِ وَاحْتِرَامِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْتِزَامِ حِمَايَتِهِمْ وَالذَّوْدِ عَنْهُمْ بَعْدَ إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ حُكَّامِهِمُ السَّابِقِينَ الظَّالِمِينَ، وَبِحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ فِيمَا عَدَا رُوسْيَا مِنْ بِلَادِ أُورُبَّا بِحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ قَوَانِينُهُمُ الَّتِي تُسَاوِي بَيْنَ رَعَايَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَعْدَاءً فِي أُورُبَّا وَقَدْ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَلْمَانْيَا بِلَقَبِ الْأَلْمَانِيِّ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِلَقَبِ الْيَهُودِيِّ. وَهَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهُمُ الْمَسْكَنَةُ فَيَكُونُ لَهُمْ مُلْكٌ وَسُلْطَانٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَسْطٍ، فَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ مُبَشَّرُونَ بِذَلِكَ بِظُهُورِ مَسِيحِ " مسيا " فِيهِمْ وَمَعْنَاهُ ذُو الْمُلْكِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَادُ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ: الْمُلْكُ الرُّوحَانِيُّ الْمَعْنَوِيُّ. وَفِي إِنْجِيلِ بَرْنَابَا عَنِ الْمَسِيحِ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي اسْتَتْبَعَتِ الْمُلْكَ. وَمَحَلُّ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [17: 8] فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَرْضِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَعَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ فُنُونِ الْحَرْبِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الزِّرَاعِيَّةِ لِعِنَايَتِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَارِدِ وَأَكْثَرِهَا نَمَاءً وَأَقَلِّهَا عَنَاءً كَالرِّبَا. وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِ عَلَاقَتِهِ بِالْمُلْكِ. ثُمَّ عَلَّلَ - تَعَالَى - هَذَا الْجَزَاءَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ، وَخِلَافَتِهِمْ بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ

بِغَيْرِ حَقٍّ تُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ شَرِيعَتُهُمْ. وَفِي التَّنْصِيصِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِمْ وَتَشْنِيعٌ عَلَى تَحَرِّيهِمُ الْبَاطِلَ وَكَوْنِ ذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ لَا عَنِ الْخَطَأِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْعُدْوَانِ الشَّنِيعِ فَقَالَ: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ أَيْ جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ سَبْقُ الْمَعَاصِي وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ فَتَدَرَّجُوا مِنَ الصَّغَائِرِ إِلَى الْكَبَائِرِ إِلَى أَكْبَرِ الْمُوبِقَاتِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْشِدِينَ وَالْهُدَاةِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَصَارَ هَذَا الْعِصْيَانُ وَالِاعْتِدَاءُ خُلُقًا لِلْأُمَّةِ وَطَبْعًا لَهَا يَتَوَارَثُهُ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ بِلَا نَكِيرٍ ; وَلِهَذَا نُسِبَ إِلَى مُتَأَخِّرِيهِمْ عَمَلُ مُتَقَدِّمِيهِمْ، وَالْأُمَمُ مُتَكَافِلَةٌ يُنْسَبُ إِلَى مَجْمُوعِهَا مَا فَشَا فِيهِمْ وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ آثَارِهِ فِي زَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: إِعْرَابُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ " إِلَّا مُعْتَصِمِينَ أَوْ مُتَمَسِّكِينَ أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ " وَالْمَعْنَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ اعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللهِ وَحَبْلِ النَّاسِ. لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَيْسُوا سَوَاءً كَلَامٌ تَامٌّ، أَيْ لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُتَسَاوِينَ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا، بَلْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمُ الْفَاسِقُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ فَهُوَ بَيَانٌ لَهُ بَعْدَ وَصْفِ الْفَاسِقِينَ وَذِكْرِ مَا اسْتَحَقَّتِ الْأُمَّةُ بِسُوءِ عَمَلِهِمْ. وَلَمَّا بَيَّنَ وَصْفَ فَاسِقِيهِمْ كَانَ مِنَ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ وَصْفَ مُؤْمِنِيهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ الْآيَاتِ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ

كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ عُبَيْدٍ - رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: " لَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ هَلَكَ قَدْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ " بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ: " أُمَّةٌ مُهْتَدِيَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ وَتَتْرُكْهُ كَمَا تَرَكَهُ الْآخَرُونَ وَضَيَّعُوهُ " وَحَمَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، أَيْ أَنَّ هَذَا مَقُولٌ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ مَا قَامُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا ضَيَّعَهُ الْآخَرُونَ وَهُوَ مِنْ دِينِهِمْ وَكِتَابِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالتَّمَسُّكِ بِمَا حَفِظُوا مِنْ كِتَابِهِمْ وَالْقِيَامِ بِمَا عَرَفُوا مِنْ دِينِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ نَقَلَ (الرَّازِيُّ) فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ قَالَ: " وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ "! وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى إِدْخَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعُرْفِ الْقُرْآنِ؟ وَالْمُسْلِمُونَ مُسْتَغْنُونَ عَنْ هَذَا الْإِدْخَالِ بِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ وَمَا هِيَ مِنْ هَذِهِ بِبَعِيدٍ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مُفَسِّرِينَا قَدْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ فَلِذَلِكَ اضْطَرَبُوا فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعِ وَإِزَالَةِ الْإِيهَامِ السَّابِقِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخَذَهُ بِإِذْعَانٍ، وَعَمِلَ فِيهِ بِإِخْلَاصٍ فَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَفِي هَذَا الْعَدْلِ قَطْعٌ لِاحْتِجَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعَمَلِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - يَعْنِي الْأُسْتَاذُ: أَنَّهُ لَوْلَا مِثْلُ هَذَا النَّصِّ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا سَاوَانَا بِغَيْرِنَا مِنَ الْفَاسِقِينَ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِهِ مُخْلِصُونَ لَهُ - وَفِيهِ اسْتِمَالَةٌ لَهُمْ وَتَنَاهٍ عَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ فِيهَا أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِفَضِيلَةٍ وَلَا مَزِيَّةٍ لِلْآخَرِ، كَأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ - وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا - تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ خِلَافًا لِمُفَسِّرِنَا (الْجَلَالِ) وَغَيْرِهِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْمَدْحَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُمْدَحُونَ بِوَصْفِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا يُمْدَحُونَ بِعُنْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: قَائِمَةٌ وَرَجَّحَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَوْجُودَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنْحَرِفِينَ عَنِ الْحَقِّ بِأَنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُودِ وَإِنَّمَا حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْعَدَمِ، وَأَطَالَ فِي وَصْفِ مَنْ لَا خَيْرَ فِي وُجُودِهِمُ الَّذِينَ قَالَ فِي مِثْلِهِمُ الشَّاعِرُ:

خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ فِي الْكَشَّافِ: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ عَادِلَةٌ مِنْ قَوْلِكَ: أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ بِمَعْنَى اسْتَقَامَ. وَأَقُولُ: إِنَّ اسْتِقَامَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْحَقِّ مِنْ دِينِهِمْ لَا يُنَافِي مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِ كُتُبِهِمْ وَتَحْرِيفِ بَعْضِهِمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهَا، فَإِنَّ مَنْ يَعْرِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ السُّنَّةِ وَيَحْفَظُ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فَيَعْمَلُ بِمَا عَلِمَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مُخْلِصًا فِيهِ يُقَالُ: إِنَّهُ قَائِمٌ بِالسُّنَّةِ السَّنِيَّةِ عَامِلٌ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ قَدْ نُقِلَ بِالْمَعْنَى وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ وَبَعْضُ النَّاسِ كَالْحَشْوِيَّةِ حَرَّفُوهَا بَلْ حَرَّفُوا بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا لِيُدَعِّمُوا بِهَا مَذَاهِبَهُمْ وَآرَاءَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْمُخْتَارِ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ مُنَاجَاةِ اللهِ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِهِمْ لَا سِيَّمَا زَبُورُ (مَزَامِيرِ) دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَقَوْلِهِ فِي الْمَزْمُورِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ: ( [5] يَا رَبِّ فِي السَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ أَمَانَتُكَ إِلَى الْغَمَامِ [6] عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ اللهِ وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ تُخْلِصُ يَا رَبِّ. [7] مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اللهُ فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ [8] يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتَكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعْمَتِكَ تَسْقِيهِمْ [9] لِأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُورًا [10] أَدِمْ رَحْمَتَكَ لِلَّذِينَ يَعْرِفُونَكَ وَعَدْلَكَ لِلْمُسْتَقِيمِي الْقَلْبِ [11] لَا تَأْتِينِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ وَيَدُ الْأَشْرَارِ لَا تُزَحْزِحُنِي [12] هُنَاكَ سَقَطَ فَاعِلُو الْإِثْمِ دُحِرُوا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْقِيَامَ. " وَقَوْلِهِ فِي الْمَزْمُورِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ: " [1] إِلَيْكَ يَا رَبِّ أَرْفَعُ نَفْسِي [2] يَا إِلَهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. فَلَا تَدَعْنِي أُخْزَى. لَا تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي [3] أَيْضًا كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لَا يُخْزُوا. لِيُخْزَ الْغَادِرُونَ بِلَا سَبَبٍ [4] طُرُقَكَ يَا رَبِّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي [5] دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ خَلَاصِي. إِيَّاكَ انْتَظَرْتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ [6] أَذْكُرُ مَرَاحِمَكَ يَا رَبِّ وَإِحْسَانَاتِكَ لِأَنَّهَا مُنْذُ الْأَزَلِ هِيَ [7] لَا تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلَا مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ اذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبِّ ". وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَالْمُنَاجَاةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَإِذَا رَآهَا الْعَرَبِيُّ الْبَلِيغُ غَرِيبَةَ الْأُسْلُوبِ فَلْيَذْكُرْ أَنَّهَا تَرْجَمَةٌ ضَعِيفَةٌ وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا بِلُغَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ مِنْ قِرَاءَةِ تَرْجَمَتِهَا هَذِهِ. أَمَّا السُّجُودُ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ فَهُوَ إِمَّا عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاتِهِمْ، وَإِمَّا اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ مَرْيَمَ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [3: 43] .

114

ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ: يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِذْعَانِيًّا وَهُوَ مَا يُثْمِرُ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا إِيمَانًا جِنْسِيًّا لَا حَظَّ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ إِلَّا الْغُرُورُ وَالدَّعْوَى كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ صَوْتٌ فِي جُمْهُورِ أُمَّتِهِمْ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي التَّارِيخِ، وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهِمْ، وَلَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى تَرَكَ سَوَادُنَا الْأَعْظَمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ تَرَكَتْهُ إِلَّا أَفْرَادًا قَلِيلِينَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمْ فِي الْمَجْمُوعِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ لَا يَتَبَاطَأُ عَمَّا يَعِنُّ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا يَتَبَاطَأُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا [4: 142] فَلَا غَرْوَ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا: وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلُحَتْ نُفُوسُهُمْ فَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أَيْ فَلَنْ يَضِيعَ ثَوَابُهُ كَمَا يُكْفَرُ الشَّيْءُ أَيْ يُسْتَرُ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى - إِثَابَتَهُ لِلْمُحْسِنِينَ شُكْرًا وَسَمَّى نَفْسَهُ شَكُورًا فَحَسُنَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ عَدَمِ الْإِثَابَةِ بِالْكُفْرِ الَّذِي يُقَابِلُ الشُّكْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ " كَفَرَ " عُدِّيَ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْحِرْمَانِ، فَالْمَعْنَى: لَنْ يُحْرَمُوا جَزَاءَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ، فَمَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاتَّقَى مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ ثَمَرَاتِ إِيمَانِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، فَلَا عِبْرَةَ بِجِنْسِيَّاتِ الْأَدْيَانِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالتَّقْوَى مَعَ الْإِيمَانِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قَالَ (الرَّازِيُّ) فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعِقَابِ، وَأُخْرَى أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوَابِ، جَامِعًا بَيْنَ الزَّجْرِ وَالتَّرْغِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا وَصَفَ مَنْ آمَنَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِمَا تَقَدَّمَ

116

مِنَ الصِّفَةِ الْحَسَنَةِ أَتْبَعَهُ - تَعَالَى - بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأَقُولُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالَّذِينِ كَفَرُوا، فَقِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْآيَاتُ قَبْلَهُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ حَيْثُ حَرَصَ الْيَهُودُ عَلَى الْمَالِ وَالْحَيَاةِ وَأَعَزُّهَا وَآثَرُهَا حَيَاةُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ عَامَّةً، وَقِيلَ: بَلْ هُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَرَهْطُهُ خَاصَّةً، وَوَجَّهُوهُ بِمَا نُقِلَ مِنْ إِنْفَاقِهِ الْمَالَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَذَا مُشْرِكُو مَكَّةَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، قَالُوا: إِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَيُعَيِّرُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتْبَاعَهُ بِالْفَقْرِ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْحَقِّ مَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذَا الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ هِدَايَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ أَدَبٍ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96: 6، 7] وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا [3: 10] الْآيَةَ. وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ (تُغْنِيَ) بِتَدْفَعَ، أَيْ لَا تَدْفَعُ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْغَنَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاخْتَارَ أَنَّ (شَيْئًا) هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ قَالَ: أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَنَاءِ، أَوْ لَا تُغْنِي غَنَاءً مَا، قَالَ: وَذَكَرَ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ إِنَّمَا يَصُدُّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، فَالَّذِي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا بِمِثْلِ ذَلِكَ قَلَّمَا يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ أَوْ يُصْغِي إِلَى الدَّاعِي إِلَيْهِ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يُوَجِّهْ نَظَرَهُ إِلَى الْحَقِّ لَا يُبْصِرُهُ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْهُ تَخَبَّطَ فِي دَيَاجِيرِ الضَّلَالِ عُمْرَهُ حَتَّى يَتَرَدَّى فَيَهْلِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ مَالُهُ فَيَفْتَدِي بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ أَنْفَقَهُ مِنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ أَرْوَاحِهِمُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْهَاوِيَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُسْتَعِرَةِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَهُمْ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَتَنَتْهُمْ فَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَغْرَتْهُمْ بِمُقَاوَمَتِهِ فَقَالَ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ قَالَ (الرَّاغِبُ) : مَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ: مِثْلُهُ وَشِبْهُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَالْمَثَلُ فِي الْكَلَامِ: عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ فِي شَيْءٍ يُشْبِهُ قَوْلًا فِي شَيْءٍ آخَرَ لِيُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ وَيُصَوِّرَهُ: أَيْ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ بَيَانَ الْحَقَائِقِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ

117

الْمَقَاصِدِ. وَالصِّرُّ - بِالْكَسْرِ - وَالصِّرَّةُ: شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَقِيلَ: هُوَ الْبَرْدُ عَامَّةً - حُكِيَتِ الْأَخِيرَةُ عَنْ ثَعْلَبٍ - وَقَالَ (اللَّيْثُ) : الصِّرُّ الْبَرْدُ الَّذِي يَضْرِبُ النَّبَاتَ وَيُحِسُّهُ اهـ. مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَفِي الْكَشَّافِ الصِّرُّ: الرِّيحُ الْبَارِدَةُ نَحْوَ الصَّرْصَرِ قَالَ: لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأَصْحَابِ الْمُحِلَّاتِ كَمَا قَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ: وَلَمْ تَغْلِبِ الْخَصْمَ الْأَلَدَّ وَتَمْلَأِ الْـ ... جِفَانَ سَدِيفًا يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ قُلْتُ: فِيهِ أَوْجُهٌ. (أَحَدُهَا) : أَنَّ الصِّرَّ فِي صِفَةِ الرِّيحِ بِمَعْنَى الْبَارِدَةِ فَوَصَفَ بِهَا الْقُرَّةَ بِمَعْنَى " فِيهَا قُرَّةُ صِرٍّ " كَمَا تَقُولُ " بَرْدٌ بَارِدٍ " عَلَى الْمُبَالَغَةِ. (وَالثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ الصِّرُّ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَرْدِ فَجِيءَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ (وَالثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33: 21] وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنْ ضَيَّعَنِي فُلَانٌ فَفِي اللهِ كَافٍ وَكَافِلٌ. قَالَ: وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي اهـ. وَنَقَلَ اللِّسَانُ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ الْآيَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا فِيهَا صِرٌّ أَيْ بَرْدٌ، وَالثَّانِي فِيهَا تَصْوِيتٌ وَحَرَكَةٌ. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ: فِيهَا صِرٌّ قَالَ: فِيهَا نَارٌ اهـ. يَعْنِي حَرًّا شَدِيدًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنْهُ. وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الْجَلَالُ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ الصِّرِّ: حَرٌّ وَبَرْدٌ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَلِمَةَ الْحَرِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَهْلِكُ الْحَرْثُ بِمُجَرَّدِ إِصَابَتِهِ وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُ الْبَرْدُ فَهُوَ الْمُرَادُ حَتْمًا. أَقُولُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَصْلِ مَادَّةِ الصِّرِّ هَلْ هُوَ الصَّوْتُ أَوِ الشِّدَّةُ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ الشِّدَّةُ تَكُونُ فِي الصَّوْتِ وَمِنْهُ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [51: 29] كَمَا تَكُونُ فِي الْبَرْدِ، فَالصِّرُّ هُنَا هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ حَتْمًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا قَوْلَهُمْ فِيهَا نَارٌ مِنْ إِحْرَاقِ الزَّرْعِ. أَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرِّيحَ الْمُهْلِكَةَ مِثَالٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ فِي لَذَّاتِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَنَشْرِ سُمْعَتِهِمْ وَتَأْيِيدِ كَلِمَتِهِمْ فَيَصُدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ هِيَ مِثَالُ الْحَرْثِ، أَيْ إِنَّ الْمَالَ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ فِيمَا ذُكِرَ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَأَهْلَكَ عُقُولَهُمْ بِمَا صَرَفَهَا عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَلَفَتَهَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي جَعْلِ التَّشْبِيهِ فِي الْمَثَلِ مُرَكَّبًا وَهُوَ أَنَّ حَالَهُمْ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْخَيْرِ كَحَالِ الرِّيحِ ذَاتِ الصِّرِّ الْمُهْلِكَةِ لِلزَّرْعِ، فَهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ نَفَقَتِهِمْ شَيْئًا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ هَذَا فِيمَا يُنْفِقُونَهُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُقَاوَمَةِ دَعْوَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْفِقُونَ هُمُ الْيَهُودُ أَوْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا يُنْفِقُ

الْمُنَافِقُونَ رِيَاءً أَوْ تَقِيَّةً، وَقَدْ خَابَ الْفَرِيقَانِ وَخَسِرُوا بِنَصْرِ اللهِ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِفَضِيحَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةَ) . وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَخُصُّ هَذَا الْإِنْفَاقَ بِمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَهُوَ لَا يُفِيدُهُ فِي الْآخِرَةِ شَيْئًا، إِذِ الْإِيمَانُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ وَنَفْعِهَا فِي تِلْكَ الدَّارِ. أَمَّا وَصْفُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَهْلَكَتِ الرِّيحُ حَرْثَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ مُبَيِّنًا نُكْتَتَهُ مَا نَصُّهُ: " فَأُهْلِكُ عُقُوبَةً لَهُمْ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ عَنْ سُخْطٍ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ " وَفِي هَامِشِهِ كَتَبَ بِإِمْلَائِهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْفِقِينَ لَا يَسْتَفِيدُونَ شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ حَرْثَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا حَرْثُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ صُورَةً إِلَّا أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ أَغْرَاضٍ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَى الذَّهَابِ " اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَوَائِحَ قَدْ تَنْزِلُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ حَرْثٍ وَنَسْلٍ عُقُوبَةً عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ تَعْلِيلِ الْكَشَّافِ آنِفًا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ عَلَى الْبَارِئِ الْحَكِيمِ الَّذِي وَضَعَ سُنَنَ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ فِي عَالَمِ الْحِسِّ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُنَنِهِ الْخَفِيَّةِ فِي إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ فِي الْبَشَرِ لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يَسْتَفِيدُونَهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ، وَيُسَمَّى مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُدُوثُ الشَّيْءِ سَبَبًا لَهُ وَمَا قَارَنَ الْمُسَبِّبَ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَضُرِّ بَعْضِهِمْ بِهِ حِكْمَةً لَهُ، وَكُلٌّ مِنْ سَبَبِ الشَّيْءِ وَحِكْمَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ مَقْصُودٌ لِلْخَالِقِ الْحَكِيمِ. رَأَيْنَا فِي مَذْهَبِ (دَارْوِنَ) الْعَالِمِ الطَّبِيعِيِّ الشَّهِيرِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَلْوَانِ الثِّمَارِ كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَالْبُرْقُوقِ هِيَ إِغْرَاءُ أَكَلَتِهَا مِنَ الطَّيْرِ وَالنَّاسِ بِهَا لِتَأْكُلَهَا فَيَسْقُطُ عَجَمُهَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَنْبُتَ فِيهَا بِسُهُولَةٍ فَيَحْفَظَ نَوْعَهُ بِتَجَدُّدِ النَّسْلِ أَوْ مَا هَذَا حَاصِلُهُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لِتِلْكَ الْأَلْوَانِ أَسْبَابًا طَبِيعِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِاسْتِعْدَادِ نَبَاتِهَا وَتَأْثِيرِ النُّورِ فِيهِ. فَهَلَّا تُسْتَنْكَرُ عَلَى حِكْمَةِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ فِي الثِّمَارِ وَبَيْنَ مَصْلَحَةِ الطَّيْرِ بِهِدَايَتِهِ إِلَيْهَا وَحِفْظِ النِّظَامِ الْعَامِّ بِبَقَاءِ أَنْوَاعِهَا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ إِرْسَالِ الْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْبَشَرِ لِيَكُونَ لَهُمْ زَاجِرَانِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَحَدُهُمَا: حَذَرُ آثَارِهَا الطَّبِيعِيَّةِ الضَّارَّةِ بِهِمْ فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ ضَرَرًا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا، إِذْ لَا يُحَرِّمُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ

شَيْئًا لِإِعَانَتِهِمْ. وَثَانِيهِمَا: مَا يَتَخَوَّفُ الْمُؤْمِنُ مِنْ إِصَابَةِ الْعُقُوبَاتِ الْآفَاقِيَّةِ إِيَّاهُ بِذَهَابِ الْجَوَائِحِ بِمَالِهِ إِذَا هُوَ بَغَى وَظَلَمَ؟ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: مَا سَأَلَنِي عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، وَهُوَ مَا مَعْنَى جَعْلِ الشُّهُبِ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لِمَعْرِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لِلشُّهُبِ أَسْبَابًا طَبِيعِيَّةً؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْحَكِيمَ الْخَبِيرَ - الَّذِي يُوَفِّقُ أَقْدَارًا لِأَقْدَارٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّبَبِ وَمُسَبِّبِهِ وَبَيْنَ أُمُورٍ أُخْرَى تَسُوقُهَا أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ بِهَا لِحِكْمَةٍ وَرَاءَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْوَحْيُ وَنَطَقَ بِهَا الذِّكْرُ، وَمِثْلُهَا فِي عَالِمِ الطَّبِيعَةِ كَثِيرٌ، وَلَعَلَّ لِبَعْضِ الْمَادِّيَّاتِ تَأْثِيرًا فِي الْأَرْوَاحِ الْغَيْبِيَّةِ كَتَأْثِيرِهَا فِي أَرْوَاحِنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [17: 85] أَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَمْ أَرَ فِي كِتَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ لِسَانِ أَحَدٍ قَوْلًا فِيهَا وَإِنَّ لَهَا لِمَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [42: 30] وَسَنَعْقِدُ لَهَا فَصْلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهُنَالِكَ نُجِيبُ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ يَعْنِي أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْلَكَتِ الرِّيحُ ذَاتُ الصِّرِّ حَرْثَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ هَلَاكُ زَرْعِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ لَا إِيذَاءً آنِفًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ تَأْكِيدًا ذَاهِبًا بِكُلِّ شُبْهَةٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ ضُرِبَ الْمَثَلُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ، فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالذَّاتِ. وَالْمَعْنَى مَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِأَنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ بِنَفَقَاتِهِمْ بَلْ هُمْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا بِإِنْفَاقِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ. أَمَّا كَوْنُهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونَ غَيْرِهَا أَوْ دُونَ أَنْ يَظْلِمَهُمْ أَحَدٌ - كَمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا مِنْ تَقْدِيمِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى عَامِلِهِ - فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ يُنْفِقُهُ أَهْلُ مَكَّةَ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوِ الْيَهُودُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُقَاوَمَتِهِ، إِذْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَضُرُّوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ بِهِ، بَلْ كَانُوا سَبَبَ سِيَادَتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، وَظَاهِرٌ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ النَّفَقَاتِ مَا كَانَ يَضَعُهُ الْمُنَافِقُونَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبِرِّ رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْ تَقِيَّةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ فِي طُرُقِ الْبِرِّ حُبًّا فِي الْبِرِّ وَرَغْبَةً فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُرَائِي - لَا تُفِيدُهُ نَفَقَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْإِيمَانُ، وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا ظَهَرَتْ لَهُ، أَوْ بِالْجُحُودِ بَعْدَ النَّظَرِ وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ نَفَقَتَهُ لَا تُفِيدُهُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهَا لَا تَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلَا يُوجَدُ

118

عَاقِلٌ قَطُّ يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ عَمَلًا وَالْمُسِيءِ، وَبَيْنَ فَاعِلِ الْخَيْرِ وَمُقْتَرِفِ الْإِثْمِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَانَتْ فِي الْحِجَاجِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّبَعِ وَالْمُنَاسِبَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِرْشَادِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ، أَيْ إِنَّ أَكْثَرَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ: (1) أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ صِلَاتٌ كَانَتْ مَدْعَاةً إِلَى الثِّقَةِ بِهِمْ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِالسِّرِّ وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ، مِنْهَا الْمُحَالَفَةُ وَالْعَهْدُ، وَمِنْهَا النَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ، وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ. (2) إِنَّ الْغِرَّةَ مِنْ طَبْعِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى الْيُسْرِ وَالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَلَا يَبْحَثُ عَنِ الْعُيُوبِ ; وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ هُوَ وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا. (3) إِنَّ الْمُنَاصِبِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ هَمُّهُمُ الْأَكْبَرُ إِطْفَاءَ نُورِ الدَّعْوَةِ وَإِبْطَالَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْأَكْبَرِ نَشْرَ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدَ الْحَقِّ، فَكَانَ الْهَمَّانِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَالْقَصْدَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ

فَهِيَ لَا شَكَّ مُقْتَضِيَةٌ لِأَنْ يُفْضِي النَّسِيبُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَسِيبِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْمُحَالِفُ مِنْهُمْ لِمُحَالِفِهِ مَنْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّبَايُنِ وَالْخِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ مَصْلَحَةِ الْمِلَّةِ لِلْخَبَالِ، لِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - لِلصِّلَاتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ حَدًّا لَا يَتَعَدُّونَهُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. بِطَانَةُ الرَّجُلِ: وَلِيجَتُهُ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَتَوَلَّوْنَ سِرَّهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْبَاطِنُ مِنْهُ، كَمَا يُسَمَّى الْوَجْهُ الظَّاهِرُ: ظِهَارَةً، وَمِنْ دُونِكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَيَأْلُونَكُمْ مِنَ الْإِلْوِ: وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالضَّعْفُ، وَ " الْخَبَالُ " فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْمُخِّ فَيَخْتَلُّ إِدْرَاكُ الْمُصَابِ بِهَا، أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَنُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِكُمْ، وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ " أَلَا " أَنْ يُقَالَ فِيهِ نَحْوُ: " لَا آلُو فِي نُصْحِكَ " وَسُمِعَ مِثْلُ " لَا آلُوكَ نُصْحًا " عَلَى مَعْنَى لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ التَّضْمِينَ. وَعَنِتُّمْ مِنَ الْعَنَتِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ. أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ - يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ - هَذِهِ الْآيَةَ ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ عَامَّةً. قَالَ: " وَأَمَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ فَهَذَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذَا كَانَ عَامًّا وَآخِرَهَا إِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يَكُنْ خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ مَانِعًا عُمُومَ أَوَّلِهَا " وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنَ الْكَافِرِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ إِلَخْ نُعُوتٌ لِلْبِطَانَةِ هِيَ قُيُودٌ لِلنَّهْيِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِلتَّعْلِيلِ، فَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا وَإِفْسَادًا لِأَمْرِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أَيْ تَمَنَّوْا عَنَتَكُمْ، أَيْ وُقُوعَكُمْ فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أَيْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ بَغْضَائِهِمْ لَكُمْ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَهِيَ لِشِدَّتِهَا مِمَّا يَعُوزُهُمْ كِتْمَانُهَا وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ إِخْفَاؤُهَا، عَلَى أَنَّ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ

مِنْهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ مِمَّا يَلْقَاهُ الْقَائِمُونَ بِكُلِّ دَعْوَةٍ جَدِيدَةٍ فِي الْإِصْلَاحِ مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ يَعْرِفُونَ سُنَّةَ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِمَاعِ وَحَوَادِثِ التَّارِيخِ حَتَّى أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يَعْنِي بِالْآيَاتِ هُنَا: الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةَ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَمَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ لِخِيَانَتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ مُبَاطَنَتِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُدْرِكُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْفُصُولَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْأَعْدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَاعْتَبِرُوا بِهَا وَلَا تَتَّخِذُوا أُولَئِكَ بِطَانَةً. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا مَنْ نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً لَوْ فُرِضَ أَنِ اتَّصَفَ بِهَا مَنْ هُوَ مُوَافِقُ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالْجِنْسِ وَالنَّسَبِ لَمَا جَازَ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ بِطَانَةً لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، فَمَا أَعْدَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ وَمَا أَعْلَى هَدْيَهُ وَأَسْمَى إِرْشَادَهُ! لَقَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتُ وَالْقُيُودُ فَظَنُّوا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ مُطْلَقًا، وَلَوْ جَاءَ هَذَا النَّهْيُ مُطْلَقًا لَمَا كَانَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا إِلْبًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِتِلْكَ الْقُيُودِ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَهُوَ مُنَزِّلُهَا - يَعْلَمُ مَا يَعْتَرِي الْأُمَمَ وَأَهْلَ الْمِلَلِ مِنَ التَّغَيُّرِ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ كَمَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَدِ انْقَلَبُوا فَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ فُتُوحَاتِهِمْ (كَفَتْحِ الْأَنْدَلُسِ) وَكَذَلِكَ كَانَ الْقِبْطُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ فَكَيْفَ يَجْعَلُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْحُكْمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَاحِدًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَبَدَ الْأَبِيدِ؟ أَلَا إِنَّ هَذَا مِمَّا تَنْبِذُهُ الدِّرَايَةُ. وَلَا تَرْوِي غُلَّتَهُ الرِّوَايَةُ، فَإِنَّ أَرْجَحَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) يَرُدُّ عَلَى (قَتَادَةَ) الْقَائِلِ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيُؤَيِّدُ رَأْيَهُ الْمُوَافِقَ لِمَا اخْتَرْنَاهُ مَا نَصُّهُ: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - إِنَّمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِمَّنْ قَدْ عَرَفُوهُ بِالْغِشِّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْبَغْضَاءِ إِمَّا بِأَدِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِظْهَارِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ وَالْمُنَاصَبَةِ لَهُمْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَسُّوهُ - مَعْرِفَةً أَنَّهُ الَّذِي نَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُبَاطَنَتِهِ - وَإِمَّا جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُصَادَقَتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُمْ إِمَّا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، وَإِمَّا بِصِفَاتٍ قَدْ عَرَّفُوهُمْ بِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ إِبْدَاءُ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ بَغْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى إِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ - أَيْ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ - غَيْرَ مُدْرِكٍ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْرِفَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَعَرَفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَعَتَهُمُ اللهُ بِهَا. وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ - اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ - بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا الْمُنَافِقِينَ لَكَانَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ مِمَّنْ نَاصَبَ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبَ لَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ مُتَّخِذِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَافْتِرَاقِ أَمْصَارِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّامَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ كَانَ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ وَعَقْدٌ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ " اهـ. فَهَذَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَشْهَرُهُمْ يَجْعَلُ هَذَا النَّهْيَ فِيمَنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ فَخَانُوا فِيهِ كَبَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثْنَاءَ ائْتِمَانِهِ لَهُمْ لِمَكَانِ الْعُهَدِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، فَهَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُخَالِفِينَ أَيَّامَ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ لَهُ مَسْكَةٌ مِنَ الْإِنْصَافِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْقُيُودِ الَّتِي قُيِّدَ بِهَا يُعَدُّ مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ وَالتَّسَامُحِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ، إِذْ لَمْ يَمْنَعِ اتِّخَاذَ الْبِطَانَةِ إِلَّا مِمَّنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ وَبَغْضَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِهِمْ وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمُ الشَّرَّ فَوْقَ ذَلِكَ. لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ لِلنَّهْيِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُخَالِفِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ لَكَانَ وَجْهُ الْعَدْلِ فِيهَا زَاهِرًا، وَطَرِيقُ الْعُذْرِ فِيهَا ظَاهِرًا، فَكَيْفَ وَهِيَ قُيُودٌ لِاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً يُسْتَوْدَعُونَ الْأَسْرَارَ وَيُسْتَعَانُ بِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ عَلَى شُئُونِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَصَوْنِ حُقُوقِهَا وَمُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهَا؟ مَا أَشْبَهَ هَذَا النَّهْيَ فِي قُيُودِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ، إِذْ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [60: 8، 9] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [3: 28] . هَذَا التَّسَاهُلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى جَعْلِ رِجَالِ دَوَاوِينِهِ مِنَ الرُّومِ، وَجَرَى الْخَلِيفَتَانِ الْآخَرَانِ وَمُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَقَلَ الدَّوَاوِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ الرُّومِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَبِهَذِهِ السِّيرَةِ وَذَلِكَ الْإِرْشَادِ عَمِلَ الْعَبَّاسِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوْطِ أَعْمَالِ الدَّوْلَةِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَكْثَرَ سُفَرَائِهَا وَوُكَلَائِهَا فِي بِلَادِ الْأَجَانِبِ مِنَ النَّصَارَى. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ يَقُولُ مُتَعَصِّبُو أُورُبَّا: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا تَسَاهُلَ فِيهِ! ! " رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ " أَلَا إِنَّ التَّسَاهُلَ قَدْ خَرَجَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ حَدِّهِ، حَتَّى كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَقَالَهُ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى

صَدَّرَهَا بِالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نُورِدُهَا هُنَا بِرُمَّتِهَا لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي بَابِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَهَذَا نَصُّهَا (نَقْلًا مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَارِيخِهِ) : " قَالُوا: تُصَانُ الْبِلَادُ وَيُحْرَسُ الْمُلْكُ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ وَالْقِلَاعِ الْمَنِيعَةِ وَالْجُيُوشِ الْعَامِلَةِ وَالْأُهَبِ الْوَافِرَةِ وَالْأَسْلِحَةِ الْجَيِّدَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ، هِيَ أَحْرَازٌ وَآلَاتٌ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْعَمَلِ فِيمَا يَقِي الْبِلَادَ، وَلَكِنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا وَلَا تَحْرُسُ بِذَاتِهَا فَلَا صِيَانَةَ بِهَا وَلَا حِرَاسَةَ إِلَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ أَعْمَالَهَا رِجَالٌ ذَوُو خِبْرَةٍ وَأُولُو رَأْيٍ وَحِكْمَةٍ يَتَعَهَّدُونَهَا بِالْإِصْلَاحِ زَمَنَ السِّلْمِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا قُصِدَتْ لَهُ زَمَنَ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ بِكَافٍ حَتَّى يَكُونَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِي التَّدْبِيرِ وَالْحَزْمِ وَأَصْحَابِ الْحِذْقِ وَالدِّرَايَةِ يَقُومُونَ عَلَى سَائِرِ شُئُونِ الْمَمْلَكَةِ، يُوَطِّئُونَ طُرُقَ الْأَمْنِ وَيَبْسُطُونَ بِسَاطَ الرَّاحَةِ وَيَرْفَعُونَ بِنَاءَ الْمُلْكِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَيُوقِفُونَ الرَّعِيَّةَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ يُرَاقِبُونَ رَوَابِطَ الْمَمْلَكَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَمَالِكِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِيَحْفَظُوا لَهَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي تَلِيقُ بِهَا بَيْنَهَا، بَلْ يَحْمِلُوهَا عَلَى أَجْنِحَةِ السِّيَاسَةِ الْقَوِيمَةِ إِلَى أَسْمَى مَكَانَةٍ تُمْكِنُ لَهَا، وَلَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْقِيَامِ عَلَى هَذِهِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ حَتَّى تَكُونَ قُلُوبُهُمْ فَائِضَةً بِمَحَبَّةِ الْبِلَادِ طَافِحَةً بِالْمَرْحَمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى سُكَّانِهَا، وَحَتَّى تَكُونَ الْحَمِيَّةُ ضَارِبَةً فِي نُفُوسِهِمْ آخِذَةً بِطِبَاعِهِمْ، يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَبِّهًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَزَاجِرًا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَغَضَاضَةً وَأَلَمًا مُوجِعًا عِنْدَمَا يَمَسُّ مَصْلَحَةَ الْمَمْلَكَةِ ضَرَرٌ وَيُوجَسُ عَلَيْهَا مِنْ خَطَرٍ ; لِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِحْسَاسِ وَتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يُؤَدُّوا أَعْمَالَ وَظَائِفِهِمْ - كَمَا يَنْبَغِي - وَيَصُونُوهَا مِنَ الْخَلَلِ رُبَّمَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْمُلْكِ. فَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ بِهَذِهِ الْخِلَالِ هُمُ الْمَنَعَةُ الْوَاقِيَةُ وَالْقُوَّةُ الْغَالِبَةُ. " يَسْهُلُ عَلَى أَيِّ حَاكِمٍ فِي أَيِّ قَبِيلٍ لِأَنْ يُكَتِّبَ الْكَتَائِبَ وَيَجْمَعَ الْجُنُودَ وَيُوَفِّرُ الْعُدَدَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِنَقْدِ النُّقُودِ وَبَذْلِ النَّفَقَاتِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُصِيبُ بِطَانَةً مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ: عُقَلَاءَ رُحَمَاءَ أُبَاةً أَصْفِيَاءَ تُهِمُّهُمْ حَاجَاتُ الْمُلْكِ كَمَا تُهِمُّهُمْ ضَرُورَاتُ حَيَاتِهِمْ؟ لَا بُدَّ أَنْ يُتَّبَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ قَانُونُ الْفِطْرَةِ، وَيُرَاعَى نَامُوسُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ هَذَا النَّامُوسِ تَحْفَظُ الْفِكْرَ مِنَ الْخَطَأِ وَتَكْشِفُ لَهُ خَفِيَّاتِ الدَّقَائِقِ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي رَأْيِهِ أَوْ يَتَأَوَّدُ فِي عَمَلِهِ مَنْ أَخَذَ بِهِ دَلِيلًا وَجَعَلَ لَهُ مِنْ هَدْيِهِ مُرْشِدًا. وَإِذَا نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَنْوَاعِ الْخَطَأِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَطَلَبَ أَسْبَابَهَا لَا يَجِدُ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ سِوَى الْمَيْلِ عَنْ قَانُونِ الْفِطْرَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ. مِنْ أَحْكَامِ هَذَا النَّامُوسِ الثَّابِتِ أَنَّ الشَّفَقَةَ وَالْمَرْحَمَةَ وَالنَّعْرَةَ عَلَى الْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ، إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ أَصْلٌ رَاسِخٌ وَوَشِيجٌ يَشُدُّ صِلَتَهُ بِهَا. هَذِهِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، إِنَّ الْمُلْتَحِمَ مَعَ الْأُمَّةِ بِعَلَاقَةِ الْجِنْسِ يُرَاعِي نِسْبَتَهُ إِلَيْهَا وَنِسْبَتَهَا إِلَيْهِ، وَيَرَاهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سَائِرِ نِسْبَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ فَيُدَافِعُ الضَّيْمَ عَنِ الدَّاخِلِينَ مَعَهُ فِي تِلْكَ النِّسْبَةِ دِفَاعَهُ عَنْ

حَوْزَتِهِ وَحَرِيمِهِ " رَاجِعْ رَأْيِكَ فِيمَا تَشْهَدُهُ كَثِيرًا حَتَّى بَيْنَ الْعَامَّةِ عِنْدَمَا يَرْمِي أَحَدُهُمْ أَهْلَ الْبَلَدِ الْآخَرِ أَوْ دِينَهُ بِسُوءٍ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ " كَسُورِيٍّ " يَنْتَقِدُ الْمِصْرِيِّينَ أَوْ مِصْرِيٍّ يَنْتَقِدُ السُّورِيِّينَ " هَذَا إِلَى مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّ مَا تَنَالُهُ أُمَّةٌ مِنَ الْفَوَائِدِ يَلْحَقُهُ حَظٌّ مِنْهَا وَمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْأَرْزَاءِ يُصِيبُهُ سَهْمٌ مِنْهُ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ بِيَدِهِ هَامَاتُ أُمُورِهَا وَفِي قَبْضَتِهِ زِمَامُ التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَإِنَّ حَظَّهُ " حِينَئِذٍ " مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْفَرُ وَمُصِيبَتَهُ بِالْمَضَرَّةِ أَعْظَمُ وَسَهْمَهُ مِنَ الْعَارِ الَّذِي يَلْحَقُ الْأُمَّةَ أَكْبَرُ، فَيَكُونُ اهْتِمَامُهُ بِشُئُونِ الْأُمَّةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا وَحِرْصُهُ عَلَى سَلَامَتِهَا بِمِقْدَارِ مَا يُؤَمِّلُهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَخْشَاهُ مِنَ الْمَضَرَّةِ. " فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي مَمْلَكَةٍ أَلَّا يَكِلَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ يَتَّصِلُ بِهِ فِي جِنْسِيَّةٍ سَالِمَةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالتَّمْزِيقِ مُوَقَّرَةٍ فِي نُفُوسِ الْمُنْتَظِمِينَ فِيهَا مُحْتَرَمَةٍ فِي قُلُوبِهِمْ يَحْمِلُهُمْ تَوْقِيرُهَا وَاحْتِرَامُهَا عَلَى التَّغَالِي فِي وِقَايَتِهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ يَدْنُو مِنْهَا، وَلَمْ تُوهِنْ رَوَابِطهَا اخْتِلَافَاتُ الْمَشَارِبِ وَالْأَدْيَانِ، وَإِمَّا رَجُلٌ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي دِينٍ قَامَتْ جَامِعَتُهُ مَقَامَ الْجِنْسِيَّةِ، بَلْ فَاقَتْ مَنْزِلَتُهُ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَتَهَا كَالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الَّذِي حَلَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شُعُوبُهُمْ - مَحَلَّ كُلِّ رَابِطَةٍ نَسَبِيَّةٍ ; فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَامِعَتَيْنِ " الْجِنْسِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ السَّابِقِ وَالدِّينِيَّةِ " مَبْدَآنِ لِلْحَمِيَّةِ عَلَى الْمُلْكِ وَمَنْشَآنِ لِلْغَيْرَةِ عَلَيْهِ. " أَمَّا الْأَجَانِبُ الَّذِينَ لَا يَتَّصِلُونَ بِصَاحِبِ الْمُلْكِ فِي جِنْسٍ وَلَا فِي دِينٍ تَقُومُ رَابِطَتُهُ مَقَامَ الْجِنْسِ فَمَثَلُهُمْ فِي الْمَمْلَكَةِ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ فِي بِنَاءِ بَيْتٍ لَا يَهُمُّهُ إِلَّا اسْتِيفَاءُ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ لَا يُبَالِي أَسَلِمَ الْبَيْتُ أَوْ جَرَفَهُ السَّيْلُ أَوْ دَكَّتْهُ الزَّلَازِلُ، هَذَا إِذَا صَدَقُوا فِي أَعْمَالِهِمْ يُؤَدُّونَ مِنْهَا بِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَجْرِ، وَاقِفِينَ فِيهَا عِنْدَ الرَّسْمِ الظَّاهِرِ ; فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ فِيهَا وَلَا يَمَسُّهُ شَيْءٌ مِمَّا يَمَسُّهَا مِنَ الضَّعَةِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، إِذَا فَقَدَ الْعَيْشَ فِيهَا فَارَقَهَا وَارْتَدَّ إِلَى مَنْبَتِهِ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ فِي حَالِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ لِغَيْرِ جِنْسِهِ لَاصِقٌ بِمَنْبَتِهِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِ مَاعَدَا الْأَجْرَ الَّذِي يَأْخُذُهُ - وَهَذَا مَعْلُومٌ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ - فَلَا يَجِدُ فِي طَبِيعَتِهِ وَلَا فِي خَوَاطِرِ قَلْبِهِ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى الْحَذَرِ الشَّدِيدِ مِمَّا يُفْسِدُ الْمُلْكَ أَوِ الْحِرْصَ الزَّائِدَ عَلَى مَا يُعْلِي شَأْنَهُ، بَلْ لَا يَجِدُ بَاعِثًا عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا يُقَوِّمُ مَصْلَحَتَهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ. هَذِهِ حَالُهُمْ هِيَ لَهُمْ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ لَوْ فَرَضْنَا صِدْقَهُمْ وَبَرَاءَتَهُمْ مِنْ أَغْرَاضٍ أُخَرَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْأَجَانِبِ لَوْ كَانُوا نَازِحِينَ مِنْ بِلَادِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَضَرَبُوا فِي أَرْضِ غَيْرِهِمْ طَلَبًا لِلْعَيْشِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ صَدَقُوا أَوْ كَذَبُوا، وَسَوَاءٌ وَفَوْا أَوْ قَصَّرُوا، وَسَوَاءٌ رَاعَوُا الذِّمَّةَ أَوْ خَانُوا، أَوْ لَوْ كَانُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ يَخْدِمُونَ مَقَاصِدَ لِأُمَمِهِمْ يُمَهِّدُونَ لَهَا طُرُقَ الْوِلَايَةِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى الْأَقْطَارِ الَّتِي يَتَوَلَّوْنَ الْوَظَائِفَ فِيهَا - كَمَا هُوَ حَالُ الْأَجَانِبِ فِي الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَامِلًا عَلَى الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَلَكِنْ

يَجِدُونَ مِنْهَا الْبَاعِثَ عَلَى الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ - وَمَنْ تَتَبَّعَ التَّوَارِيخَ الَّتِي تُمَثِّلُ لَنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَتَحْكِي لَنَا عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلِيقَتِهِ وَتَصْرِيفَهُ لِشُئُونِ عِبَادِهِ رَأَى أَنَّ الدُّوَلَ فِي نُمُوِّهَا وَبَسْطَتِهَا مَا كَانَتْ مَصُونَةً إِلَّا بِرِجَالٍ مِنْهَا يَعْرِفُونَ لَهَا حَقَّهَا كَمَا تَعْرِفُ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهَا بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الدُّوَلَ مَا انْخَفَضَ مَكَانُهَا وَلَا سَقَطَتْ فِي هُوَّةِ الِانْحِطَاطِ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ الْعُنْصُرِ الْأَجْنَبِيِّ فِيهَا وَارْتِقَاءِ الْغُرَبَاءِ إِلَى الْوَظَائِفِ السَّامِيَةِ فِي أَعْمَالِهَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي كُلِّ دَوْلَةٍ آيَةُ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْغُرَبَاءِ وَبَيْنَ الدَّوْلَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ أَعْمَالَهَا مُنَافَسَاتٌ وَأَحْقَادٌ مُزِجَتْ بِهَا دِمَاؤُهُمْ وَعُجِنَتْ بِهَا طِينَتُهُمْ مِنْ أَزْمَانٍ طَوِيلَةٍ. " نَعَمْ كَمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الطَّبِيعِيَّةِ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي حَمِيَّةِ أَبْنَاءِ الدِّينِ أَوِ الْأُمَّةِ، وَيَطْرَأُ النَّقْصُ عَلَى شَفَقَتِهِمْ وَمَرْحَمَتِهِمْ فَيَنْقُصُ بِذَلِكَ اهْتِمَامُ الْعُظَمَاءِ مِنْهُمْ بِمَصَالِحِ الْمُلْكِ إِذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ حَقَّ قَدْرِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَدِّمُونَ مَنَافِعَهُمُ الْخَاصَّةَ عَلَى فَرَائِضِهِمُ الْعَامَّةِ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي نِظَامِ الْأُمَّةِ وَيَضْرِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ مِنْ ضُرِّهِ أَخَفُّ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّلَافِي مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُهُ اسْتِلَامَ الْأَجَانِبِ لِهَامَاتِ الْأُمُورِ فِي الْبِلَادِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ اللُّحْمَةِ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَخْلَاقُهُ وَاعْتَلَّتْ صِفَاتُهُ إِلَّا أَنَّ مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ وَثَبَتَ فِي الْجِبِلَّةِ لَا يُمْكِنُ مَحْوُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا أَسَاءَ فِي عَمَلِهِ مَرَّةً أَزْعَجَهُ مِنْ نَفْسِهِ صَائِحُ الْوَشِيجَةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِحْسَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّ مَا شُدَّ بِالْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْجِنْسِ لَا يَزَالُ يَجْذِبُهُ آوِنَةً بَعْدَ آوِنَةٍ لِمُرَاعَاتِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَيُمِيلُهُ إِلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِتِلْكَ الْعَلَائِقِ وَإِنْ بَعُدُوا. وَلِهَذَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَأْسَفَ غَايَةَ الْأَسَفِ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّرْقِ وَأَخُصُّ مِنْ بَيْنِهِمْ أُمَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ سَلَّمُوا أُمُورَهُمْ وَوَكَّلُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ كِتَابَةٍ وَإِدَارَةٍ وَحِمَايَةٍ لِلْأَجَانِبِ عَنْهُمْ، بَلْ زَادُوا فِي مُوَالَاةِ الْغُرَبَاءِ وَالثِّقَةِ بِهِمْ حَتَّى وَلُّوهُمْ خِدْمَتَهُمُ الْخَاصَّةَ بِهِمْ فِي بُطُونِ بُيُوتِهِمْ، بَلْ كَادُوا يَتَنَازَلُونَ لَهُمْ عَنْ مَلِكَتِهِمْ فِي مَمَالِكِهِمْ بَعْدَمَا رَأَوْا كَثْرَةَ الْمَطَامِعِ فِيهَا لِهَذَا الزَّمَانِ، وَأَحَسُّوا بِالضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ أَجْيَالٍ بَعِيدَةٍ بَعْدَ مَا عَلَّمَتْهُمُ التَّجَارِبُ أَنَّهُمْ إِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا، وَإِذَا عَزَّزُوا أَهَانُوا. يُقَابِلُونَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ وَالتَّوْقِيرَ بِالتَّحْقِيرِ، وَالنِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَيُجَازُونَ عَلَى اللُّقْمَةِ بِاللَّطْمَةِ، وَالرُّكُونَ إِلَيْهِمْ بِالْجَفْوَةِ، وَالصِّلَةَ بِالْقَطِيعَةِ، وَالثِّقَةَ فِيهِمْ بِالْخُدْعَةِ. " أَمَا آنَ لِأُمَرَاءِ الشَّرْقِ أَنْ يَدِينُوا لِأَحْكَامِ اللهِ الَّتِي لَا تُنْقَضُ؟ أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى حِسِّهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ؟ أَلَمْ يَأْتِ وَقْتٌ يَعْمَلُونَ فِيهِ بِمَا أَرْشَدَتْهُمُ الْحَوَادِثُ وَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا

120

وَالْمَصَائِبُ؟ أَلَمْ يَحِنْ لَهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ تَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ؟ أَلَا أَيُّهَا الْأُمَرَاءُ الْعِظَامُ مَا لَكُمْ وَلِلْأَجَانِبِ عَنْكُمْ؟ أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ شَأْنَهُمْ، وَلَمْ تَبْقَ رِيبَةٌ فِي أَمْرِهِمْ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا سَارِعُوا إِلَى أَبْنَاءِ أَوْطَانِكُمْ وَإِخْوَانِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، وَأَقْبِلُوا عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ مَا تُقْبِلُونَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ تَجِدُونَ فِيهِمْ خَيْرَ عَوْنٍ وَأَفْضَلَ نَصِيرٍ، اتَّبِعُوا سُنَّةَ اللهِ فِيمَا أَلْهَمَكُمْ وَفَطَرَكُمْ عَلَيْهِ كَمَا فَطَرَ النَّاسَ أَجْمَعِينَ، وَرَاعُوا حِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَمَا نَهَاكُمْ كَيْلَا تَضِلُّوا وَيَهْوِي بِكُمُ الْخَطَلُ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، أَلَمْ تَرَوْا، أَلَمْ تَعْلَمُوا، أَلَمْ تَحْسَبُوا، أَلَمْ تُجَرِّبُوا؟ إِلَى مَتَى إِلَى مَتَى؟ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " اهـ. هَذَا بَيَانٌ يُرِيكَ بِالْحُجَجِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاهِضَةِ أَنَّ الْغَرِيبَ عَنِ الْمِلَّةِ لَا يُتَّخَذُ بِطَانَةً لِلْقَائِمِينَ بِأَمْرِ الْمِلَّةِ، وَالْغَرِيبُ عَنِ الدَّوْلَةِ لَا يُتَّخَذُ بِطَانَةً لِرِجَالِ الدَّوْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَالْبَغْضَاءِ فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ؟ بَيَّنَتْ لَنَا الْآيَةُ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بَعْضَ حَالِ أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدُونَكَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ. هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ فَالْقُرْآنُ يَنْطِقُ بِأَفْصَحِ عِبَارَةٍ وَأَصْرَحِهَا وَاصِفًا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَثَرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُمُ الَّذِينَ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِهِمْ وَتَمَنِّي عَنَتِهِمْ عَلَى أَنَّ بَغْضَاءَهُمْ لَهُمْ ظَاهِرَةٌ وَمَا خَفِيَ مِنْهَا أَكْبَرُ مِمَّا ظَهَرَ، أُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ أَوْ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [5: 82] إِلَخْ. يَعْنِي أُولَئِكَ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ فِي الْحِجَازِ. أَلَيْسَ حُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لِأُولَئِكَ الْيَهُودِ الْغَادِرِينَ الْكَائِدِينَ وَإِقْرَارُ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِسْلَامِ فِي نُفُوسِهِمْ، هُوَ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ حُبٍّ وَرَحْمَةٍ وَتَسَاهُلٍ وَتَسَامُحٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَوِّبَ الْعَقْلُ نَظَرَهُ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ؟ بَلَى، وَلَكِنْ وُجِدَ فِي النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيَصِفُهُ بِضِدِّهِ زُورًا وَبُهْتَانًا، بَلْ تَعَصُّبًا خَرُّوا عَلَيْهِ صُمًّا وَعُمْيَانًا. مَنْ هُمُ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ دِينُ بُغْضٍ وَعُدْوَانٍ؟ لَا أَقُولُ إِنَّهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا أَجْدَرَ بِحُبِّنَا وَوُدِّنَا مِنَ الْيَهُودِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى بَلْ هُمْ قُسُوسُ أُورُوبَّا الْمُتَعَصِّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَسَاسَتُهَا الْمُتَعَصِّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْعٌ وَنِظَامٌ قَامَتْ بِهِ دُوَلٌ وَمَمَالِكُ. فَأُورُوبَّا الَّتِي تَتَّهِمُ الْإِسْلَامَ - وَالشَّرْقَ الْأَدْنَى كُلَّهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ -

بِالتَّعَصُّبِ وَالْبَغْضَاءِ لِلْمُخَالِفِ هِيَ الَّتِي أَبَادَتْ مِنْ بِلَادِهَا كُلَّ مُخَالِفٍ لِدِينِهَا إِلَّا التُّرْكَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَقْوَ عَلَى إِبَادَتِهِمْ حَتَّى الْآنَ، وَلَوْلَا مَا بَيْنَ دُوَلِهَا مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ لَقَضَتْ عَلَيْهِمْ، فَنَصَارَى الشَّرْقِ وَمُسْلِمُوهُ وَكَذَا وَثَنِيُّوهُ إِنَّمَا اغْتَرَفُوا غَرْفَةً مِنْ بَحْرِ تَعَصُّبِ أُورُوبَّا وَلَكِنَّهُمْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَمَامَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ سَوَاءٌ مِنْهُ مَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَا مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى بُغْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْتُمْ تُحِبُّونَهُمْ بِمُقْتَضَى إِيمَانِكُمْ هَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ تُؤْمِنُونَ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ وَكِتَابِكُمْ فَكَيْفَ لَوْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ؟ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) : " فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَانَةٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَرَحْمَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَأْفَتُهُمْ بِأَهْلِ الْخِلَافِ لَهُمْ، وَقَسَاوَةُ قُلُوبِ أُولَئِكَ وَغِلْظَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ: هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَوَاللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُحِبُّ الْمُنَافِقَ وَيَأْوِي إِلَيْهِ وَيَرْحَمُهُ وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَقْدِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ لَلْمُؤْمِنُ يَرْحَمُهُ، وَلَوْ يَقْدِرُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". اهـ. فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ خَيْرٌ لِلْكَافِرِ وَلِلْمُنَافِقِ مِنْهُمَا لَهُ حُبًّا وَرَحْمَةً وَمُعَامَلَةً. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السُّنِّيِّ مَعَ الْمُبْتَدِعِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْحَمُوا الْمُخَالِفَ لَهُمْ وَلَا يَقْطَعُوا أُخُوَّتَهُ فِي الدِّينِ ; وَلِذَلِكَ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ " لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " بَلْ كَانَ رُوَاةُ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ يَرْوُونَ عَنِ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ إِلَى عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَنَتِيجَةُ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي التَّسَاهُلِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِإِخْوَانِهِ الْبَشَرِ عَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَاللهُ يَقُولُ لِخِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ فَبِهَذَا نَحْتَجُّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ دِينَنَا يُغْرِينَا بِبَغْضِ الْمُخَالِفِ لَنَا كَمَا نَحْتَجُّ

عَلَى بَعْضِ الْجَاهِلِينَ مِنَّا بِدِينِهِمُ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ بِبَعْضِ عُلَمَائِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ، لِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَآرَائِهِمْ، أَوْ فِي ظُنُونِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَالَّذِينَ سَرَتْ إِلَيْهِمْ عَدْوَى الْمُتَعَصِّبِينَ، فَاسْتَحَلُّوا هَضْمَ حُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لِشَأْنِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَكَوْنِهَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ نِفَاقًا وَخِدَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُظْهِرُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْهُ لِيُشَكِّكَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ " 72 " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ إِلَى التَّشَفِّي سَبِيلًا، وَعَضُّ الْأَنَامِلِ: كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَيُكَنَّى بِهِ أَيْضًا عَنِ النَّدَمِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ غَيْظِكُمْ لَا يَزْدَادُ بِاعْتِصَامِ أَهْلِهِ بِهِ إِلَّا عِزَّةً وَقُوَّةً وَانْتِشَارًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " مُوتُوا بِغَيْظِكُمُ الَّذِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَائْتِلَافِ جَمَاعَتِهِمْ " فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِهَذَا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّهُ مَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْأَرْزَاءِ إِلَّا بِزَوَالِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ وَبِالتَّفَرُّقِ بَعْدَ الِاعْتِصَامِ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَضُمُّ صُدُورُكُمْ مِنْ شُعُورِ الْغَيْظِ وَالْبَغْضَاءِ وَمَوْجِدَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُونَ فِي خَلَوَاتِكُمْ وَمَا يُبْدِيهِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ كَذَلِكَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا حَسَدَهُمْ وَسُوءَ طَوِيَّتِهِمْ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا الْمَسُّ فِي الْأَصْلِ: كَاللَّمْسِ، وَالْمُرَادُ بِـ تَمْسَسْكُمْ هُنَا تُصِبْكُمْ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ لَفْظِ الْمَسِّ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَسُوءُهُمْ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرٍ وَإِنْ قَلَّ، بِأَنْ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُمَسُّ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالسَّيِّئَةِ إِذَا أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ إِصَابَةً يَشُقُّ احْتِمَالُهَا. هَذَا مَا كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي وَلَكِنْ رَأَيْتُ صَاحِبَ الْكَشَّافِ يَجْعَلُهُمَا هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيَسْتَدِلُّ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِكُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ، ثُمَّ خَطَرَ لِي أَنْ أُرَاجِعَ تَفْسِيرَ (أَبِي السُّعُودِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: " وَذِكْرُ الْمَسِّ مَعَ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ مَعَ السَّيِّئَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَدَارَ مَسَاءَتِهِمْ أَدْنَى مَرَاتِبِ إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَمَنَاطَ فَرَحِهِمْ تَمَامُ إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَأْسَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ " وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا، وَالْحَسَنَةُ: الْمَنْفَعَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً

أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَأَعْظَمُهَا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ وَدُخُولُ النَّاسِ فِيهِ وَانْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمُ الْمُقَاوِمِينَ لِدَعْوَتِهِمْ. قَالَ (قَتَادَةُ) فِي بَيَانِ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ: " فَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أُلْفَةً وَحِمَايَةً وَظُهُورًا عَلَى عَدُوِّهِمْ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فُرْقَةً وَاخْتِلَافًا أَوْ أُصِيبَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ سَرَّهُمْ ذَلِكَ وَأُعْجِبُوا بِهِ وَابْتَهَجُوا بِهِ، فَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ أَكْذَبَ اللهُ أُحْدُوثَتَهُ وَأَوْطَأَ مَحَلَّتَهُ، وَأَبْطَلَ حُجَّتَهُ وَأَظْهَرَ عَوْرَتَهُ ; فَذَلِكَ قَضَاءُ اللهِ فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ وَفِيمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا إِنْ تَمَسَّكُوا بِهِ سَلِمُوا مِنْ كَيْدِهِمُ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ إِلَيْهِ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ فَقَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَتَتَّقُوا اتِّخَاذَهُمْ بِطَانَةً وَمُوَالَاتَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ لَكُمْ هُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْكُمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ عَامَّةً وَتَتَّقُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَخَطَرٌ عَلَيْكُمْ - وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ - لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. وَيَضُرُّكُمْ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الضَّرَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " يَضِرْكُمْ " بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ، وَالضَّيْرُ بِمَعْنَى الْمَضَرَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الصَّبْرَ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ مَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَحَبْسُ الْإِنْسَانِ سِرَّهُ عَنْ وَدِيدِهِ وَعَشِيرِهِ وَمُعَامِلِهِ وَقَرِيبِهِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ لَذَّاتِ النُّفُوسِ أَنْ تُفْضِيَ بِمَا فِي الضَّمِيرِ إِلَى مَنْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَتَأْنَسُ بِهِ، فَلَمَّا نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ خُلَطَائِهِمْ وَعُشَرَائِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَلَّلَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ بَغْضَائِهِمْ وَكَيْدِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى هَذَا لِتَكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ، وَبِاتِّقَاءِ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ عَاقِبَةِ كَيْدِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالتَّقْوَى: الْأَخْذُ بِوَصَايَاهُ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ - تَعَالَى - فِي الْبِطَانَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى عَدَاوَةِ أُولَئِكَ الْمُبْغِضِينَ الْكَائِدِينَ وَبِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمُقَابَلَةِ كَيْدِهِمْ وَشَرِّهِمْ بِمِثْلِهِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْقُرْآنِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَحَبَّةِ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَدَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِنْ أَمْكَنَ كَمَا قَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [41: 34] فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْوِيلُ الْعَدُوِّ إِلَى مُحِبٍّ بِدَفْعِ سَيِّئَاتِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُجِيزُ دَفْعَ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَامَلَةِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; فَإِنَّهُ حَالَفَهُمْ وَوَادَّهُمْ فَنَكَثُوهُمْ وَخَانُوا غَيْرَ مَرَّةٍ: أَعَانُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَسُوا الْعَهْدَ، ثُمَّ أَعَانُوا الْأَحْزَابَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَتَعَذَّرَتْ مُوَادَّتُهُمْ وَاسْتِمَالَتُهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَكَانَ اللُّجْأُ إِلَى قِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ ضَرْبَةَ لَازِبٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: الْمُحِيطُ بِالْعَمَلِ هُوَ الْوَاقِفُ عَلَى دَقَائِقِهِ، فَهُوَ إِذَا دَلَّ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ لِعَامِلٍ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ وَالْوَسِيلَةِ لِلْخَلَاصِ مِنْ ضَرَرِهِمْ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ لِلنَّجَاةِ حَتْمًا، وَالْوَسِيلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النَّجَاحِ قَطْعًا، فَالْكَلَامُ كَالتَّعْلِيلِ لِكَوْنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالتَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى شَرْطَيْنِ لِلنَّجَاحِ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِـ " تَعْمَلُونَ " عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ جَمِيعًا - يَعْنِي عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَأَبِي حَاتِمٍ " تَعْمَلُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ أَوْ عَلَى الِالْتِفَاتِ - وَمَنْ كَانَ عَالِمًا بِعَمَلِ فَرِيقَيْنِ مُتَحَادَّيْنِ مُحِيطًا بِأَسْبَابِ مَا يَصْدُرُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَنَتَائِجِهِ وَغَايَاتِهِ، فَهُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَى إِرْشَادِهِ فِي مُعَامَلَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَفْسِهِ فِي حَاضِرِهَا وَآتِيهَا مَا يَعْرِفُهُ ذَلِكَ الْمُحِيطُ بِعَمَلِهِ وَعَمَلِ مَنْ يُنَاهِضُهُ وَيُنَاصِبُهُ، فَهِدَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرُ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ الْمَآرِبَ وَيَنْتَهُونَ بِهِ إِلَى أَحْسَنِ الْعَوَاقِبِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِحَاطَةَ إِحَاطَتَانِ إِحَاطَةُ عِلْمٍ وَإِحَاطَةُ قُدْرَةٍ وَمَنْعٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِحَاطَةَ عِلْمٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَمَلِ ; وَذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65: 12] وَقَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [10: 39] وَأَمَّا الْإِحَاطَةُ بِالشَّخْصِ أَوْ بِالشَّيْءِ قُدْرَةً فَهِيَ تَأْتِي بِمَعْنَى مَنْعِهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا، وَبِمَعْنَى مَنْعِهِ مَا يُرِيدُهُ، وَبِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْإِحَاطَةُ بِالْعَدُوِّ، أَيْ أَخْذُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ بِالْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [2: 81] وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [11: 92] وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [10: 22] كُلُّ هَذَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَإِنْ فُسِّرَ كُلُّ قَوْلٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: أَنَّ اللهَ قَدْ دَلَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُنْجِيكُمْ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّكُمْ فَعَلَيْكُمْ بَعْدَ الِامْتِثَالِ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ إِحَاطَةَ قُدْرَةٍ تَمْنَعُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْكُمْ مَعُونَةً مِنْهُ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا [48: 21] فَعَلَيْكُمْ بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَثِقُوا بِهِ وَتَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ: قَوْلُهُ: هَا أَنتُمْ أُولَاءِ أَصْلُهُ " أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ " فَقُدِّمَتْ أَدَاةُ التَّنْبِيهِ الَّتِي تَلْحَقُ اسْمَ الْإِشَارَةِ أُولَاءِ عَلَى الضَّمِيرِ وَيُقَالُ فِي الْمُفْرَدِ: " هَا أَنَا ذَا " وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَإِعْرَابُهُ: هَا لِلتَّنْبِيهِ وَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَأُولَاءِ خَبَرُهُ وَتُحِبُّونَهُمْ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ (أُولَاءِ) اسْمًا مَوْصُولًا وَتُحِبُّونَهُمْ صِلَتُهُ.

121

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَعَشَرَاتٍ بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَيَتَوَقَّفُ فَهْمُهَا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّةِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَوْ إِجْمَالًا. فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَأْتِيَ قَبْلَ تَفْسِيرِهَا مَا يُعِينُ الْقَارِئَ عَلَى فَهْمِهَا وَيُبَيِّنُ لَهُ مَوَاقِعَ تِلْكَ الْأَخْبَارِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ: غَزْوَةُ أُحُدٍ لَمَّا خَذَلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَجَعَ فُلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ مَقْهُورِينَ مَوْتُورِينَ نَذَرَ

أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَلَّا يُمِسَّ رَأْسَهُ مَاءً مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ لَيْلًا وَبَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً عِنْدَ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيِّ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَصَاحِبِ كَنْزِهِمْ فَسَقَاهُ الْخَمْرَ وَبَطَّنَ لَهُ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ وَأَرْسَلَ أَصْحَابَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. يُقَالُ لَهَا الْعُرَيْضُ، فَقَطَّعُوا وَحَرَّقُوا صُوَرًا مِنَ النَّخْلِ، وَرَأَوْا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فَقَتَلُوهُمَا، وَنُذِرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فَرُّوا وَأَلْقَوْا سَوِيقًا كَثِيرًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ يَتَخَفَّفُونَ بِهِ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةُ السَّوِيقِ. وَكَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ ذِكْرِ أُحُدٍ لِيَعْلَمَ الْقَارِئُ أَنَّ الْعُدْوَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُتَّصِلًا مُتَلَاحِقًا! ! . وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ أَخَذَ يُؤَلِّبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ بَعْدَ قَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ هُوَ السَّيِّدَ الرَّئِيسَ فِيهِمْ، لِذَلِكَ كَلَّمَهُ - فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ - الْمَوْتُورُونَ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِيَبْذُلَ مَالَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَ جَاءَ بِهَا مِنَ الشَّامِ فِي أَخْذِ الثَّأْرِ، فَرَضِيَ هُوَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَالُ الْعِيرِ - كَمَا فِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ - خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ رَبِحَتْ مِثْلَهَا، فَبَذَلُوا الرِّبْحَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِلْحَرْبِ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَخَرَجَتْ بِحَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، فَكَانُوا نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَأَخَذُوا مَعَهُمْ نِسَاءَهُمُ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَلَّا يَفِرُّوا ; فَإِنَّ الْفِرَارَ بِالنِّسَاءِ عَسِرٌ وَالْفِرَارَ دُونَهُنَّ عَارٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - وَهُوَ الْقَائِدُ - زَوْجُهُ هِنْدُ ابْنَةُ عُتْبَةَ، فَكَانَتْ تُحَرِّضُ الْغُلَامَ وَحْشِيًّا الْحَبَشِيَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَوْلَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لِيَقْتُلَ حَمْزَةَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَمِّهِ طُعْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَقَدْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَكَانَ هَذَا الْحَبَشِيُّ مَاهِرًا فِي الرَّمْيِ بِالْحَرْبَةِ عَلَى بُعْدٍ قَلَّمَا يُخْطِئُ، فَكَانَتْ هِنْدٌ كُلَّمَا رَأَتْهُ فِي الْجَيْشِ تَقُولُ لَهُ: " وَيْهًا أَبَا دَسَمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ " تُخَاطِبُهُ بِالْكُنْيَةِ تَكْرِيمًا لَهُ. وَذَكَرَ الْحَلَبِيُّ أَنَّهُمْ سَارُوا أَيْضًا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ وَالْمَعَازِفِ وَالْخُمُورِ. نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ أُحُدٍ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ " عِينِينَ " عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي

مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ. فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ كَعَادَتِهِ أَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ أَمْ يَمْكُثُ فِي الْمَدِينَةِ؟ وَكَانَ رَأْيُهُ هُوَ أَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلَهَا الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقَّةِ وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - كَمَا فِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ - وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَكَانَ هُوَ الرَّأْيَ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَمِمَّنْ كَانَ فَاتَهُمُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ فَمَا زَالُوا يُلِحُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَاهُمْ فِي خُطْبَتِهَا وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُ: اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ أَيْ لِمَا فِي فَسْخِ الْعَزِيمَةِ بَعْدَ إِحْكَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَمَبَادِئِ الْفَشَلِ وَسُوءِ الْأُسْوَةِ. وَفِي سَحَرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَرَجَ بِأَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ بِالْمَدِينَةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى عَلَى الصَّلَاةِ بِمَنْ بَقِيَ فِيهَا. فَلَمَّا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ انْعَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ (وَهُمْ 300) وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي - وَفِي رِوَايَةٍ أَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ - فَمَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، فَتَبِعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ أَلَّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ، تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمْ نَرْجِعْ وَلَكِنْ نَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِتَالٌ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَأَمْسَوْا وَقَدْ ذَهَبَ مِنَ الثُّلُثِ نَحْوُ ثُلُثِهِ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْأَوْسِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ أَنْ تَفْشَلَا فَعَصَمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -. وَقَدْ كَانَ خُرُوجُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ خَيْرًا لَهُمْ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَوْمَ تَبُوكَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [9: 47] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا ارْتَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ عَدَمَ الْخُرُوجِ لِيَكْتَفِيَ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ خَطَرَهُ حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ. فَكَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِلرَّسُولِ فِي الرَّأْيِ مُخَالِفًا لَهُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ، فَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَاعِي فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْعُدْوَانِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَإِيثَارًا لِلسَّلَامِ، وَتَعَزَّزَ رَأْيُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ - وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ - رَأَى أَنَّ فِي سَيْفِهِ ثُلْمَةً وَرَأَى أَنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ وَأَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَتَأَوَّلَ الثُّلْمَةَ فِي سَيْفِهِ بِرَجُلٍ يُصَابُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ

الرَّجُلُ حَمْزَةَ عَمَّهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَتَأَوَّلَ الْبَقَرَ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ، وَتَأَوَّلَ الدِّرْعَ بِالْمَدِينَةِ. وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ عَمِلَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقَامَةً لِقَاعِدَةِ الشُّورَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ بِهَا وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْ بِذَلِكَ قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَلَوْ إِلَى خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ هَضْمٌ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ وَإِخْلَالٌ بِأَمْرِ الشُّورَى الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْمُكْثُ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرًا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ فِي أُحُدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِقَاعِدَةِ الشُّورَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَكَيْفَ تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ الْأَعْلَى وَرَضُوا بِأَنْ يَكُونَ مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُدِيرُونَ دُوَلًا بِهَا بِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَ الدِّينِ وَلَا مَعَ الْعَقْلِ؟ وَسَأَلَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ فَأَبَى، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِلْعُ الْيَهُودِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي عُهُودِهِمْ بِمُوفِينَ. وَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمْ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَقَالَ لَهُمْ: " مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ - قُرْبٍ - لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ "؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ قَوْمِهِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ - وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ - فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ قَامَ يَحْثُو فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ فَلَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقْتُلُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ بِفَنِّ الْحَرْبِ: الْإِرْشَادُ إِلَى اخْتِيَارِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى الْعَدُوِّ وَأَخْفَاهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِخُرْتِ الْأَرْضِ الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِعِلْمِ الْجُغْرَافِيَةِ. وَإِبَاحَةُ الْمُرُورِ فِي مِلْكِ النَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ. وَفِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ الْمُجَاهِرِ بِعَدَائِهِ بَلْ رَحِمَهُ وَعَذَرَهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَتْلِهِ. وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُرَاعِي هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي حِفْظِ الدِّمَاءِ بَلْ قَلَّمَا تُرَاعِيهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ وَقَالَ: " لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَ بِالْقِتَالِ " وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ أَنَّ الرَّئِيسَ هُوَ الَّذِي يَفْتَحُهَا، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُرَاعِي ذَلِكَ دَائِمًا لَا سِيَّمَا إِذَا حَدَثَ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ، وَقَدِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ عَلَى اسْتِشْرَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ

الْأَنْصَارِ - وَقَدْ رَأَى قُرَيْشًا قَدْ سَرَّحَتِ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعِ الْمُسْلِمِينَ - أَتَرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ وَلَمَّا نُضَارِبْ؟ وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ تَعَبَّى لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ فِيهِمْ خَمْسُونَ فَارِسًا، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ; أَيْ لَبِسَ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الرُّمَاةِ - وَكَانُوا خَمْسِينَ - عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ مُعَلَّمٌ يَوْمَئِذَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَقَالَ: " انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ " وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَعَلَى الْأُخْرَى الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو. ثُمَّ اسْتَعْرَضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّبَّانَ يَوْمَئِذٍ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَهُ عَنِ الْقِتَالِ وَهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَجَازَ أَفْرَادًا مِنْ أَبْنَاءِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ، قِيلَ: لِسِنِّهِمْ، وَقِيلَ: لَبِنْيَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ ; فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ رَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَلَهُمَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ رَافِعًا رَامٍ فَأَجَازَهُ، فَقِيلَ لَهُ فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا تَصَارَعَا أَمَامَهُ. وَرَدَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ثُمَّ أَجَازَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ أَبْنَاءُ خَمْسَ عَشْرَةَ، إِذْ كَانُوا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ السِّنِّ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ. وَتَعَبَّتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَابْتَدَأَتِ الْحَرْبُ بِالْمُبَارَزَةِ. وَلَمَّا اشْتَبَكَ الْقِتَالُ وَالْتَقَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّاتِي مَعَهَا وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَهُمْ فَقَالَتْ هِنْدٌ فِيمَا تَقُولُ: وَيْهًا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ... وَيْهًا حُمَاةَ الْأَدْبَارِ ... ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارِ إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ ... فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ نَشِيدِ النِّسَاءِ: اللهُمَّ بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ، وَفِيكَ أُقَاتِلُ، حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَدَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ صَيْفِيٍّ وَكَانَ رَأْسَ الْأَوْسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ شَرِقَ بِهِ وَجَاهَرَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَدَاوَةِ وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يُؤَلِّبُ قُرَيْشًا عَلَى قِتَالِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ قَوْمَهُ إِذَا رَأَوْهُ أَطَاعُوهُ وَمَالُوا مَعَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الرَّاهِبَ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَاسِقِ. وَلَمَّا بَرَزَ نَادَى قَوْمَهُ وَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، قَالُوا لَهُ: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ. فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُبَارَزَةِ ثُمَّ فِي الْمُلَاحَمَةِ، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ

أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفَهُ، وَحَمْزَةُ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَغَيْرُهُمْ بَلَاءً عَظِيمًا حَتَّى انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ 31 مُشْرِكًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ وَأَعْطَاهُ وَتَرَكَنِي، وَاللهِ لَأَنْظُرَنَّ مَاذَا يَصْنَعُ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ لَهُ إِذَا تَعَصَّبَ بِهَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ ... أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللهِ وَالرَّسُولِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ. إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. وَمِمَّا كَانَ مِنْهُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى هِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ قَائِدِ الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهَا وَلَمْ يَقْتُلْهَا. قَالَ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَحْمُشُ حَمْشًا شَدِيدًا فَصَمَدْتُ لَهُ فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ وَلْوَلَ فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً. وَمِنْ فَوَائِدِ مَسْأَلَةِ إِعْطَاءِ السَّيْفِ أَبَا دُجَانَةَ: أَنَّ مِنْ سِيَاسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحَابِي قَوْمَهُ وَلَا ذِي الْقُرْبَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَوَلَّوْا إِلَى نِسَائِهِمْ مُدْبِرِينَ وَرَأَى الرُّمَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَزِيمَتَهُمْ تَرَكَ الرُّمَاةُ مَرْكَزَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِ وَأَلَّا يَدَعُوهُ سَوَاءٌ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ " وَإِنْ رَأَوُا الطَّيْرَ تَتَخَطَّفُ الْعَسْكَرَ " لِئَلَّا يَكُرَّ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ الْعَسْكَرِيِّ بِخَطِّ الرَّجْعَةِ. وَقَالُوا: يَا قَوْمِ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، فَذَكَّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرْجِعُوا وَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوُا الثَّغْرَ، فَلَمَّا رَأَى فُرْسَانُ الْمُشْرِكِينَ الثَّغْرَ قَدْ خَلَا مِنَ الرُّمَاةِ كَرُّوا حَتَّى أَقْبَلَ آخِرُهُمْ فَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَأَبْلَوْا فِيهِمْ، حَتَّى خَلَصُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَرَحُوا وَجْهَهُ الشَّرِيفَ وَكَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ الْيُمْنَى مِنْ ثَنَايَاهُ السُّفْلَى وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ الَّتِي عَلَى رَأْسِهِ وَدَثُّوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى سَقَطَ لِشِقِّهِ وَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِهِ وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ

ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى أَذَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ قَمِئَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَنَشِبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَضَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى سَقَطَتْ ثَنَيَاهُ مِنْ شِدَّةِ غَوْصِهِمَا فِي وَجْهِهِ، وَامْتَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الدَّمَ مِنْ وَجْنَتِهِ، وَطَمِعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ فَأَدْرَكُوهُ يُرِيدُونَ مِنْهُ مَا اللهُ عَاصِمٌ إِيَّاهُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [5: 67] وَحَالَ دُونَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوُ عَشَرَةٍ حَتَّى قُتِلُوا، ثُمَّ جَالَدَهُمْ طَلْحَةُ حَتَّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ، وَتَرَّسَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ فَكَانَ يَقَعُ النَّبْلُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ حَتَّى كَثُرَ فِيهِ، وَدَافَعَ عَنْهُ أَيْضًا بَعْضُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي شَهِدْنَ الْقِتَالَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ الْمَازِنِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ فَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ عُمَارَةَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا خَالَهْ أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ، فَقَالَتْ: خَرَجْتُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدَّوْلَةُ وَالرِّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْتُ أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَأَرْمِي عَنِ الْقَوْسِ حَتَّى خَلَصَتِ الْجِرَاحُ إِلَيَّ - فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ فَقُلْتُ: مَنْ أَصَابَكِ بِهَذَا؟ فَقَالَتْ: ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللهُ، لَمَّا وَلَّى النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضَّرْبَةَ وَلَكِنْ ضَرَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللهِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَأَعْطَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا السَّيْفَ فَلَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ فَشَدَّتْهُ عَلَى سَاعِدِهِ بِنِسْعَةٍ وَأَتَتْ بِهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا ابْنِي يُقَاتِلُ عَنْكَ. فَقَالَ " أَيْ بُنَيَّ! ! احْمِلْ هَاهُنَا " فَجُرِحَ: فَأَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ لَهُ: " لَعَلَّكَ جَزِعْتَ؟ " قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالُوا: وَصَرَخَ صَارِخٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. قَالَ الزُّبَيْرُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ وَصْفِهِ لِهَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ خَدَمَ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبَهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونُ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفَنَا الْقَوْمُ عَنْهُ وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: " أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ " فَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَانْهَزَمُوا وَكُسِرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَرَّ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ عُمَرُ وَطَلْحَةُ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا تَنْظُرُونَ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا

فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحِدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَوُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً، وَجُرِحَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَحْوَ عِشْرِينَ جِرَاحَةً. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَهُ تَحْتَ الْمِغْفَرِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنِ اسْكُتْ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَهَضُوا مَعَهُ إِلَى الشِّعْبِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ النُّعَاسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمَنَةً وَرَحْمَةً فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَلَمٍ وَلَا خَوْفٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّبْعَةَ قُتِلُوا دُونَهُ إِذْ كَانَ يَنْبَرِي لِلدِّفَاعِ عَنْهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْقُرَشِيَّانِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يُقَاتِلُ فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " مَرَّتَيْنِ " فَلَمْ أَنْشَبَ أَنْ أَدْرَكَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ يَشْتَدُّ كَأَنَّهُ طَيْرٌ فَدَفَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا طَلْحَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ أَيْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَقَدْ زُلْزِلَ كُلُّ أُحُدٍ سَاعَتَئِذٍ إِلَّا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكَانِهِ. وَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ عَلَى جَوَادٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْعُودُ، كَانَ يَعْلِفُهُ فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمَّدًا. وَكَانَ قَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُهُ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ اسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَتَلَ مُصْعَبًا، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَلْيَبْرُزْ لِي فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا قَتَلَنِي، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ فَطَعَنَهُ بِهَا فَجَاءَتْ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ فَكَرَّ الْخَبِيثُ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللهِ مَا بِكَ مِنْ بَأْسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِـ " سَرِفَ " مَرْجِعَهُ إِلَى مَكَّةَ - كَذَا فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَالسِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ - وَذَكَرَ الْأَوَّلَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْهُ انْتَفَضَ انْتِفَاضَةً تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشُّعَرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ ثُمَّ طَعَنَهُ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا. وَفِي زَادِ الْمَعَادِ

أَنَّهُ مَاتَ بِرَابِغٍ. أَقُولُ: وَلَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ أَحَدًا سِوَاهُ ; لِأَنَّهُ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَثْبَتَهُمْ فِي مَوَاقِفِ الْقِتَالِ كَانَ أَرْحَمَهُمْ وَأَرْأَفَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَكْتَفِي بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّثْبِيتِ وَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ لَوْ رَأَى مَنْدُوحَةً عَنْ قَتْلِ أُبَيٍّ لَمَا قَتَلَهُ. وَقَدْ كَانَ بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ أَنْ عَجَزَ عَنِ الصُّعُودِ إِلَى صَخْرَةٍ أَرَادَ أَنْ يَعْلُوَهَا فَوَضَعَ لَهُ طَلْحَةُ ظَهْرَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى صَعَدَهَا، وَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ جَالِسًا تَحْتَ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ. وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ الْحَبَشِيُّ الرَّاصِدُ لَهُ، وَقَدْ عَرَفَهُ وَهُوَ خَائِضٌ الْمَعْمَعَةَ كَالْجَمَلِ الْأَوْرَقِ يَقُطُّ الرِّقَابَ وَيُجَنْدِلُ الْأَبْطَالَ لَا يَقِفُ فِي وَجْهِهِ أَحَدٌ، فَرَمَاهُ بِحَرْبَتِهِ عَنْ بُعْدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ قَدْ أَتْقَنَهَا وَلَوْ قَرُبَ مِنْهُ لَمَا نَالَ إِلَّا حَتْفَهُ، وَقَدْ شَقَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلُ عَمِّهِ ; إِذْ كَانَ - عَلَى قُرْبِهِ - مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْمَانِعِينَ لَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ أَهْلِهِ بَأْسًا وَأَعْظَمَهُمْ شَجَاعَةً، بَلْ لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ لَمْ نَكُنْ مُبَالِغِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ إِسْلَامِهِ خَافَهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ بِلَا مُبَالَاةٍ، وَخَلَفَ حَمْزَةَ فِي بَأْسِهِ وَشَجَاعَتِهِ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -. وَقَدِ انْتَهَتِ الْحَرْبُ بِصَرْفِ اللهِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا كَانُوا يُرِيدُونَ مِنِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُولَاهُمُ الْغَالِبِينَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَتَمَحُّضِ الْقَصْدِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْ دِينِ اللهِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُمُ الظَّفَرُ عَنِ الْتِزَامِ طَاعَةِ رَسُولِهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَدَبَّ إِلَى قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ فَشِلُوا وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ وَزَادَهُمْ فَشَلًا إِشَاعَةُ قَتْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَّ كَثِيرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَحْيَوْا مِنْ دُخُولِهَا فَرَجَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ ثَبَتَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ خَالِدٌ بِالْفُرْسَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ صَارَ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، فَمِنْهُمُ الَّذِينَ اسْتَبْسَلُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْدُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَيَتَلَقَّوْنَ السِّهَامَ وَالسُّيُوفَ دُونَهُ حَتَّى كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرَوْهُ نَاظِرًا إِلَى جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يُصِيبَهُ سَهْمٌ، فَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ نِضَالِهِ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تَنْظُرْ يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. وَلَمَّا عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بِبَقَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُفِخَتْ فِيهِمْ رُوحٌ جَدِيدَةٌ مِنَ الْقُوَّةِ فَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ حَتَّى يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ وَصَرَفَهُمُ اللهُ عَنْهُمْ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ فِيمَا يَأْتِي - فَهَذَا مَا كَانَ مِنْ حَرْبِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِلسَّبْعِمِائَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَمَّا انْقَضَتِ الْحَرْبُ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْجَبَلِ فَنَادَى: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَقَالَ: أَفِيكُمُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَقَالَ: أَفِيكُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَهُمْ أَحْيَاءٌ وَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَكَ مَا يَسُوءُكَ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةٌ لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ قَالَ: اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا تُجِيبُونَهُ؟ فَقَالُوا: فَمَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَهُ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. فَأَجَابَهُ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. وَانْصَرَفَ الْفَرِيقَانِ. أَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَنْكَسِرُوا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَنْتَصِرُوا بَلْ نَالَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ وَنَالُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا النَّصْرَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَهْزِمُوا الْمُشْرِكِينَ وَيَرُدُّوهُمْ مَدْحُورِينَ - وَسَيَأْتِي فِي الْآيَاتِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحَكَمُ فِيمَا كَانَ - وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَا نُصِرَ رَسُولُ اللهِ فِي مَوْطِنٍ نَصْرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ " فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ كِتَابُ اللهِ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [3: 152] وَسَيَأْتِي. وَالْتَمَسُوا الْقَتْلَى فَرَأَوْا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ مَثَّلُوا بِهِمْ، وَكَانَ التَّمْثِيلُ بِحَمْزَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - شَرَّ تَمْثِيلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ لِيُمَثِّلَنَّ بِهِمْ عِنْدَمَا يُظْفِرُهُ اللهُ بِهِمْ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى فَلَمْ يَفْعَلْهُ الْمُسْلِمُونَ. وَخَرَجَ نِسَاءٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمُسَاعَدَةِ الْجَرْحَى، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - هِيَ الَّتِي دَاوَتْ جُرْحَ وَالِدِهَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَصَّ الدَّمَ مِنْهُ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَتَّى أَنْقَاهُ تَوَلَّتْهُ هِيَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَ دُووِيَ، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ (التُّرْسِ) فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ. وَلَمَّا انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ رَاجِعِينَ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ; فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِيٍّ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ؟ فَإِنْ هُمْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ فِيهَا

فَرَآهُمْ عَلِيٌّ قَدْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ. وَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَادَاهُمْ مَوْعِدَكُمُ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُولُوا نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي الطَّرِيقِ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحَدَّهُمْ وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَى النَّاسَ وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَقَالَ: لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُرْحِ الشَّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا: " سَمْعًا وَطَاعَةً " وَذَلِكَ مِنْ خَوَارِقِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَآيَاتِهِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَجِيبِينَ كَانَ قَدْ بَرَّحَ بِهِمُ التَّعَبُ وَالْجِرَاحُ تَبْرِيحًا. فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَأَقْبَلَ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فَيُخَذِّلُهُ، فَلَحِقَهُ بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى يَطْلُعَ أَوَّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَكَ نَاصِحٌ. فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِلَى مَكَّةَ. وَلَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تُبَلِّغَ مُحَمَّدًا رِسَالَةً وَأُوَقِّرُ لَكَ رَاحِلَتَكَ زَبِيبًا إِذَا أَتَيْتَ إِلَى مَكَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَبْلِغْ مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ لِنَسْتَأْصِلَهُ وَنَسْتَأْصِلَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ قَالُوا: " حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ". وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَرُبَّمَا كَانَ يُلَفُّونَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لِقِلَّةِ الثِّيَابِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ - كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْطَفُّوا خَلْفَهُ وَعَامَّتُهُمْ جَرْحَى، وَاصْطَفَّ خَلْفَهُمُ النِّسَاءُ وَهُنَّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً كُنَّ بِأَصْلِ أُحُدٍ، فَقَالَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَاسْتَوَوْا فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ

بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَمِنْ شَرِّ مَا مَنَعْتَ مِنَّا، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ - إِلَهَ الْحَقِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّهُ عَلَى نَظَافَةِ إِسْنَادِهِ مُنْكَرٌ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا. وَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ الْمُنَافِقُونَ فِيمَنْ قُتِلَ: لَوْ كَانُوا أَطَاعُونَا وَلَمْ يَخْرُجُوا لَمَا قُتِلُوا. إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَلْنَشْرَعْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّ وَجْهَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - نَهَاهُمْ فِي تِلْكَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَدَاوَةِ لَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِبَعْضِهِمْ إِيَّاهُمْ وَإِنْ خَادَعَهُمْ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لَا يَضُرُّهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ ذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَالُوا مَا قَالُوا أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِذْ خَرَجُوا ثُمَّ انْشَقُّوا وَرَجَعُوا لِيَخْذُلُوا الْمُؤْمِنِينَ وَيُوقِعُوا الْفَشَلَ فِيهِمْ، وَمِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأَلُبِّهِمُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دَافِعٍ إِلَّا الصَّبْرُ حَتَّى عَنِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي طَمِعَ فِيهَا الرُّمَاةُ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمْ وَإِلَّا التَّقْوَى، وَمِنْهَا - بَلْ أَهَمُّهَا - طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّمَاةَ، وَذَكَّرَهُمْ أَيْضًا بِوَقْعَةِ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ بِصَبْرِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أَيْ وَاذْكُرْ بَعْدَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ غَدْوَةً، وَذَلِكَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أَيْ تُوَطِّنُهُمْ وَتُنْزِلُهُمْ أَمَاكِنَ وَمَوَاضِعَ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَمِنْهَا مَوْضِعٌ لِلرُّمَاةِ وَمَوْضِعٌ لِلْفُرْسَانِ وَمَوْضِعٌ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَكَانُ الْقُعُودِ كَالْمَجْلِسِ لِمَكَانِ الْجُلُوسِ وَالْمَقَامِ لِمَكَانِ الْقِيَامِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ تَوَسُّعًا. وَقِيلَ: تَبْوِئَةُ الْمَقَاعِدِ تَسْوِيَتُهَا وَتَهْيِئَتُهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا قِيلَ فِي مُشَاوَرَتِكَ لِمَنْ مَعَكَ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ أَوِ انْتِظَارِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَهُوَ قَدْ سَمِعَ أَقْوَالَ الْمُشِيرِينَ وَعَلِمَ نِيَّةَ كُلِّ قَائِلٍ، وَأَنَّ مِنْهُمُ الْمُخْلِصَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي رَأْيِهِ كَالْقَائِلِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ الْمُخْلِصِ فِي قَوْلِهِ - وَإِنْ كَانَ صَوَابًا - كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْكَرِيمَانِ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ - كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ، وَالْمُرَادَ بِهِ أَصْحَابُهُ، يَضْرِبُ لَهُمْ مَثَلًا أَوْ مَثَلَيْنِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا بِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ عِنْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى، وَذَنْبُ

122

الْجَمَاعَةِ أَوِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ عِقَابُهُ قَاصِرًا عَلَى مَنِ اقْتَرَفَهُ بَلْ يَكُونُ عَامًّا، وَبِمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ، وَهَذَا الرَّأْيُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ. إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حِينَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. وَالْهَمُّ: حَدِيثُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهُهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَالْفَشَلُ ضَعْفٌ مَعَ جُبْنٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِـ تُبَوِّئُ أَيْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّخِذُ الْمُعَسْكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْزِلُ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَنْزِلًا فِي وَقْتٍ هَمَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ بِالْفَشَلِ افْتِتَانًا بِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنَ الْعَسْكَرِ. وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِصَّةِ - وَاللهُ وَلِيُهُمَّا أَيْ مُتَوَلِّي أُمُورِهِمَا لِصِدْقِ إِيمَانِهِمَا، لِذَلِكَ صَرَفَ الْفَشَلَ عَنْهُمَا وَثَبَّتَهُمَا فَلَمْ يُجِيبَا دَاعِيَ الضَّعْفِ الَّذِي أَلَمَّ بِهِمَا عِنْدَ رُجُوعِ نَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ بَلْ تَذَكَّرُوا وِلَايَةَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَثِقَا بِهِ وَتَوَكَّلَا عَلَيْهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْثَالُهُمْ، لَا عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَلَا عَلَى أَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْذُلُونَ حَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أُهْبَتَهُمْ وَعُدَّتَهُمْ إِقَامَةً لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَسْبَابَ مُفْضِيَةً إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُسَخِّرُ لِلسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَالْمُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ إِنْ شَاءَ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَهُوَ مَاءٌ أَوْ بِئْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَانَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ بَدْرٌ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَدْ كَانَتْ فِيهِ أَوَّلُ غَزْوَةٍ قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ الْمُشْرِكِينَ فِي 17 رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ نَصَرَكُمْ فِي حَالَةِ ذِلَّةٍ كُنْتُمْ فِيهَا عَلَى قِلَّتِكُمْ - كَمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ أَذِلَّةٍ، إِذْ هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ - وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إِذْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُدَّةِ مِنَ السِّلَاحِ وَالظَّهْرِ (أي مَا يُرْكَبُ) وَالزَّادِ. وَلَا غَضَاضَةَ فِي الذُّلِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَالظَّالِمِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَقْهُورِينَ وَلَا مُسْتَذَلِّينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ فِي أَوَائِلِ تَكَوُّنِهَا فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي يُسْدِيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى غَلَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُرْجَى لَهُ أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا يَصْرِفُ النِّعْمَةَ إِلَى مَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا مُتَعَلِّقٌ بِـ (تُبَوِّئُ) أَوْ بِـ (سَمِيعٌ) أَوْ بَدَلٌ مِنْ (إِذْ) الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: تُبَوِّئُهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هَمَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِالْفَشَلِ مَعَ أَنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ - عَلَى قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ تَقُولُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ

124

تَقُولُ فِيهِ لَهُمْ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِلَخْ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ ; فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِلَخْ. فَبَلَغَتْ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِمْدَادِ بِالْفِعْلِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْوَعْدَ بِالْإِمْدَادِ - وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِبَدْرٍ - عَامٌّ فِي كُلِّ الْحُرُوبِ، وَأَنَّهُمْ أُمِدُّوا فِي حَرْبِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَالْأَحْزَابِ، وَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَوْعِدًا مِنَ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ عَرَضَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِ اتَّقَوْا وَصَبَرُوا أَمَدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: " قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَيْسَ اللهُ يُمِدُّنَا كَمَا أَمَدَّنَا يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلَيْنِ وَإِنَّمَا أَمَدَّكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ. قَالَ: فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوَّمِينَ الْفَوْرُ: فِي الْأَصْلِ فَوَرَانُ الْقِدْرِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الْفَوْرُ لِلسُّرْعَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا تَعْرِيجَ مِنْ صَاحِبِهَا عَلَى شَيْءٍ، فَمَعْنَى وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ بِدُونِ إِبْطَاءٍ وَمُسَوِّمِينَ مِنَ التَّسْوِيمِ، قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ وَرَدَ سَوَّمَهُ الْأَمْرَ بِمَعْنَى كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وَسَوَّمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَسَوَّمَهُ فِي مَالِهِ: حَكَّمَهُ وَصَرَّفَهُ، وَسَوَّمَ الْخَيْلَ: أَرْسَلَهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْوَاوِ مِنْ (مُسَوَّمِينَ) فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ مِنَ اللهِ تَثْبِيتَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُحَكَّمِينَ وَمُصَرَّفِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِلْهَامِ النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالرَّبْطِ عَلَيْهَا. أَوْ مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِهِ - تَعَالَى -. وَأَمَّا قِرَاءَةُ كَسْرِ الْوَاوِ (مُسَوِّمِينَ) فَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَوَّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا أَغَارَ فَفَتَكَ بِهِمْ وَلَوْ بِالْإِعَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ مِنَ التَّسْوِيمِ بِمَعْنَى إِظْهَارِ سِيمَا الشَّيْءِ أَيْ عَلَامَتِهِ، أَيْ مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَيْلَهُمْ وَهُوَ كَمَا تَرَى - لَوْلَا الرِّوَايَةُ - لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُسَوِّمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ سِيمَا تَثْبِيتِهِمْ إِيَّاهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْإِمْدَادِ مَا نَصَّهُ: " وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ خَمْسَةَ آلَافٍ إِنْ صَبَرُوا لِأَعْدَائِهِمْ وَاتَّقَوْا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ

126

وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا بِهِمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَمَدَّهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا رَوَاهُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا أَنَّ اللهَ أَمَدَّهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ لَمْ يُمِدَّهُمْ عَلَى نَحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا صَحَّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُثْبِتُ أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ إِلَّا بِخَبَرٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِ، وَلَا خَبَرَ بِهِ فَنُسَلِّمُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أُمِدُّوا يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ [8: 9] أَمَّا فِي أُحُدٍ فَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا أَبْيَنُ مِنْهَا فِي أَنَّهُمْ أُمِدُّوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِدُّوا لَمْ يُهْزَمُوا وَيُنَلْ مِنْهُمْ مَا نِيلَ مِنْهُمْ " اهـ. أَقُولُ: مَا مَعْنَى هَذَا الْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إِمْدَادِ الْعَسْكَرِ بِمَا يَزِيدُ عَدَدَهُمْ أَوْ عُدَّتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَلَوِ النَّفْسِيَّةَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهَاكَ بَيَانُهُ. إِمْدَادٌ: مِنَ الْمَدِّ. وَالْمَدُّ فِي الْأَصْلِ: عِبَارَةٌ عَنْ بَسْطِ الشَّيْءِ كَمَدِّ الْيَدِ وَالْحَبْلِ، أَوْ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي مَادَّتِهِ كَمَدِّ النَّهْرِ بِنَهْرٍ أَوْ سَيْلٍ آخَرَ. قَالَ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [23: 55، 56] فَالْإِمْدَادُ يَكُونُ بِالْمَالِ وَهُوَ مَا يُتَمَوَّلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَيَكُونُ بِالْأَشْخَاصِ. وَالْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْإِمْدَادِ بِالْمَالِ الَّذِي يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْقَوْمِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِمْدَادِ بِالْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُنْتَفَعُ بِهِمْ وَلَوْ نَفْعًا مَعْنَوِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ تُلَابِسُ النُّفُوسَ فَتُمِدُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُثَبِّتُهَا وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي - تَعَالَى ذِكْرُهُ - وَمَا جَعَلَ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ إِمْدَادِهِ إِيَّاكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَدَدَهُمْ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ يُبَشِّرُكُمْ بِهَا وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يَقُولُ: وَكَيْ تَطْمَئِنَّ بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قُلُوبُكُمْ فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ وَلَا تَجْزَعَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ يَعْنِي وَمَا ظَفَرُكُمْ إِنْ ظَفَّرْتُكُمْ بِعَدُوِّكَمْ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمَدَدِ الَّذِي يَأْتِيكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اهـ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَا جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَكُمُ الرَّسُولُ وَهُوَ (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إِلَخْ إِلَّا بُشْرَى يَفْرَحُ بِهَا رَوْعُكُمْ وَتَنْبَسِطُ بِهَا أَسَارِيرُ وُجُوهِكُمْ وَطُمَأْنِينَةً لِقُلُوبِكُمُ الَّتِي طَرَقَهَا الْخَوْفَ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ. أَيْ إِنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَهُ هَذَا التَّأْثِيرُ فِي تَقْوِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَثْبِيتِ النُّفُوسِ. وَإِنَّمَا أَرْجَعْنَا ضَمِيرَ (جَعَلَهُ) إِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا إِلَى وَعْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لَيْسَتَا وَعْدًا مِنَ اللهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا إِخْبَارٌ عَمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدْ أَخْبَرَ - تَعَالَى - فِي تَيْنَكِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ رَسُولَهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْقَوْلِ

وَمَنْفَعَتَهُ مَعَ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ الْحَكِيمِ الَّذِي يُدِيرُ الْأَمْرَ عَلَى خَيْرِ سَنَنٍ، وَيُقِيمُهُ بِأَحْسَنِ سُنَنٍ، فَيَهْدِي لِأَسْبَابِ النَّصْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُ عَنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ. فَإِنْ حَصَلَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ فِعْلًا فَمَا يَكُونُ إِلَّا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ سَبَبِ النَّصْرِ أَوْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَمِنْهُ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْهُ سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ وَمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكَ إِلَى أُحُدٍ أَقْرَبَ الطُّرُقِ وَأَخْفَاهَا عَنِ الْعَدُوِّ، وَعَسْكَرَ فِي أَحْسَنِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الشِّعْبُ (الْوَادِي) ، وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ الرُّمَاةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَمَّا اخْتَلَّ بَعْضُ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السَّيْرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ، بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا عَدَاهُ كَانُوا عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يُقَاتِلُونَ. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي إِهْلَاكِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا فَعَلَ جِبْرِيلُ بِمَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ ; فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ وَبِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ، وَقَاتَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنِ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، وَأَيْضًا لَوْ قَاتَلُوا فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوَّلًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِهِ: وَيُقْلِلْكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [8: 44] وَلَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى الثَّانِي كَانَ يَلْزَمُ جَزُّ الرُّءُوسِ وَتَمَزُّقُ الْبُطُونِ وَإِسْقَاطُ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ فَاعِلٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَاتَرَ وَيَشْتَهِرَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ. وَأَيْضًا إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً هَوَائِيَّةً فَكَيْفَ ثَبَتُوا عَلَى الْخُيُولِ؟ اهـ. ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ، فَالرَّازِيُّ أَوْرَدَ هَذَا عَنِ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ حُجَجَهُ مُفَصَّلَةً كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى - الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ إِلَخْ، وَلَخَّصَهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْتَرَضَ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحُجَجَ أَوْ يُبَيِّنُ لَهَا مَخْرَجًا. لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَصٌّ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِيُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى أَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِمْدَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفَسَّرَ هَذَا الْإِمْدَادَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [8: 12] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ (ج 9 ص 197)

" يَقُولُ قَوَّوْا عَزْمَهُمْ وَصَحَّحُوا نِيَّاتِهِمْ فِي قِتَالِ عَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مَعُونَتَهُمْ إِيَّاهُمْ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ " فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ عَمَلَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنَّمَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الْقُلُوبَ بِتَقْوِيَةِ عَزِيمَتِهَا، وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهَا، وَذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَعُونَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ " قِيلَ " وَجُعِلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ إِلَخْ مِنْ تَتِمَّةِ خِطَابِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُهُ بَيَانًا لِمَا تُثَبِّتُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ النُّفُوسَ، أَيْ إِنَّهَا تُلْقِي فِيهَا اعْتِقَادَ إِلْقَاءِ اللهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ إِلَخْ. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ وَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِحُجَجِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اتِّصَالٌ مَا بِأَرْوَاحِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرٌ فِيهَا بِالْإِلْهَامِ أَوْ تَقْوِيَةِ الْعَزَائِمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. هَذَا مَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ - إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى - وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إِمْدَادٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَلَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ وَجَعَلَ الْوَعْدَ بِهِ مُعَلَّقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْأَعْدَاءِ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَفَادَ الْبِشَارَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ. وَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ وَمَا السَّبَبُ فِي إِمْدَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَلَائِكَةٍ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَصَابَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ؟ . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَيْنَكِ الْيَوْمَيْنِ فَنَذْكُرُهُ هُنَا مُجْمَلًا مَعَ بَيَانِ فَلْسَفَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَنَدَعُ التَّفْصِيلَ فِيهِ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ مَا هُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ تَفْصِيلٌ لِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ ذَلِكَ. كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِمَادٌ إِلَّا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمَا وَهَبَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ إِذْ قَالَ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [8: 45] فَبَذَلُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَامْتَثَلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِشْرَافٌ إِلَى شَيْءٍ مَا غَيْرَ نَصْرِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَالذَّوْدِ عَنْ نَبِيِّهِ لَا فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ، فَكَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَهَذَا الصَّفَاءِ قَدْ عَلَتْ وَارْتَقَتْ حَتَّى اسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ وَالتَّقْوَى بِنَوْعٍ مَا مِنَ الِاتِّصَالِ بِهَا. وَأَمَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الِافْتِتَانِ بِمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِذَلِكَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ أَنْ تَفْشَلَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا تَثَبَّتُوا وَبَاشَرُوا الْقِتَالَ انْتَصَرُوا وَهَزَمُوا

الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّقْوَى وَخَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ، وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ وَفَشِلُوا وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ فَضَعُفَ اسْتِعْدَادُ أَرْوَاحِهِمْ، فَلَمْ تَرْتَقِ إِلَى أَهْلِيَّةِ الِاسْتِمْدَادِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُمْ مَدَدٌ ; لِأَنَّ الْإِمْدَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ. هَذَا هُوَ السَّبَبُ لِمَا حَصَلَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا، وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهِيَ تَمْحِيصُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ [3: 141] إِلَخْ. وَتَرْبِيَتُهُمْ بِالْفِعْلِ عَلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [3: 137] وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ حَاكِمَةٌ حَتَّى عَلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ قَتْلَ الرَّسُولِ أَوْ مَوْتَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْهِمَمِ وَلَا دَاعِيَةً إِلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ شَيْءٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ إِذْ هُوَ عُقُوبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [3: 165] إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [3: 144] إِلَخْ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نَتَعَجَّلُهُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي الْوَقْعَتَيْنِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ هُنَا: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [8: 10] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ غَيْرُ وَعْدِ اللهِ وَبِشَارَتِهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا قَالَ عُمَرُ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ لِرَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَأَنْزَلَ اللهُ يَوْمَئِذٍ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [8: 9] الْآيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. فَكَانَ بِهَذَا الْوَعْدِ اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ لَا بِسِوَاهُ ; فَلِذَلِكَ قَدَّمَ (بِهِ) عَلَى (قُلُوبُكُمْ) وَأَمَّا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَلَمْ تَكُنِ الْحَالُ كَذَلِكَ - كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَلَمْ تَعُدِ الْبِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ فَقَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَبَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّصْرِ بِبَدْرٍ إِنَّمَا جَاءَ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَالْخَمْسَةِ الْآلَافِ مُتَعَلِّقًا بِهِ - وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; أَيْ إِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا، أَوْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا. وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرَفِ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ: " قُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ " إِذَا هَلَكُوا، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَعَبَّرَ عَنْ

127

الطَّائِفَةِ بِالطَّرَفِ لِأَنَّهُمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَسَطِ، أَوْ أَرَادَ بِهِمُ الْأَشْرَافَ مِنْهُمْ - كَذَا قِيلَ - وَالْمُتَبَادِرُ الْأَوَّلُ لَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [9: 123] كَمَا قِيلَ، بَلْ لِأَنَّ الطَّرَفَ هُوَ أَوَّلُ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ طَائِفَةً فِي أَوَّلِ الْحَرْبِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: ذَكَرَ اللهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ - يَعْنِي بِأُحُدٍ - وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ. وَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ بِأَنَّ حَمْزَةَ وَحْدَهُ قَتَلَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ غَلَطِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ أَرَادَ عَدَّ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَدَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا قَتْلَاهُمْ أَوْ دَفَنُوهُمْ لِئَلَّا يُمَثِّلَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ كَمَا مَثَّلُوا هُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا أَصَابُوا الْغِرَّةَ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ. وَانْتَظِرْ أَيُّهَا الْقَارِئُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [9: 165] الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِأَقْوَالٍ: مِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يُخْزِيهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ وَفِي الْأَسَاسِ: كَبَتَ اللهُ عَدُوَّهُ: أَكَبَّهُ وَأَهْلَكَهُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْأَسَاسِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ فِي الْكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: " لِيُخْزِيَهُمْ، وَيَغِيظَهُمْ بِالْهَزِيمَةِ ". وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَبْتُ: الرَّدُّ بِعُنْفٍ وَتَذْلِيلٍ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " أَوْ يُخْزِيهِمْ. وَالْكَبْتُ شِدَّةُ الْغَيْظِ أَوْ وَهَنٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ " وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي وَرَدَتْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَصَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ (أَوْ) هُنَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّرْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْطَعُ طَرَفًا وَطَائِفَةً وَيَكْبِتُ طَائِفَةً أُخْرَى، أَيْ وَيَتُوبُ عَلَى طَائِفَةٍ وَيُعَذِّبُ طَائِفَةً كَمَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ هَذَا التَّقْسِيمِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي قَبْلَهَا كَذَلِكَ وَإِلَّا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ: اللهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامً، اللهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ

128

ابْنَ عَمْرٍو، اللهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتِيبَ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُنَّ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ وَلَمْ يَعْزِ الْأَوَّلَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ اكْتِفَاءً بِمَنْ هُوَ أَصَحُّ مِنْهُمَا رِوَايَةً، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ فِيهِمْ حِينَ أَدْمَوْهُ، ثُمَّ لَعَنَ رُؤَسَاءَهُمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَقِبَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ - تَعَالَى - ذِكْرُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَقَوْلُهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ نَصْبُ يَتُوبَ بِمَعْنَى " أَوْ " الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى " حَتَّى " وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ ; لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ إِلَى أَحَدٍ سِوَى خَالِقِهِمْ قَبْلَ تَوْبَةِ الْكُفَّارِ، وَعِقَابُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَيْسَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَمْرِ خَلْقِي إِلَّا أَنْ تُنَفِّذَ فِيهِمْ أَمْرِي وَتَنْتَهِيَ فِيهِمْ إِلَى طَاعَتِي، وَإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَيَّ وَالْقَضَاءُ فِيهِمْ بِيَدِي دُونَ غَيْرِي. أَقْضِي فِيهِمْ وَأَحْكُمُ بِالَّذِي أَشَاءُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِي وَعَصَانِي وَخَالَفَ أَمْرِي، أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالنِّقَمِ الْمُبِيرَةِ، وَإِمَّا فِي آجِلِ الْآخِرَةِ بِمَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِي، انْتَهَى قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْدَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ. وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَا جَرَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حِكْمَةٌ إِلَّا نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَى، فَكَيْفَ وَقَدْ جُمِعَ إِلَيْهَا مَا سَيَأْتِي مِنَ الْحِكَمِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ؟ ! كَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَصْرِ نَبِيِّهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ لَمْ يُزَلْزِلْ إِيمَانَهُمْ بِذَلِكَ ضَعْفُهُمْ وَقِلَّتُهُمْ، وَلَا إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ أَوَّلَ تَبَاشِيرِ هَذَا النَّصْرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ زَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا

بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِينَ - إِنْ لَمْ نَقُلْ فِي نُفُوسِ الْجَمِيعِ - أَنَّ نَصْرَهُمْ سَيَكُونُ بِالْآيَاتِ وَالْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِلسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَأَنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ فِيهِمْ وَدُعَاءَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ هُمَا أَفْعَلُ فِي التَّنْكِيلِ بِالْكُفَّارِ مِنِ الْتِزَامِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي أَهَمُّهَا طَاعَةُ الْقَائِدِ وَالْتِزَامُ النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ لَا الْخَوَارِقِ. كَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ وَجُرِحَ الرَّسُولُ نَفْسُهُ - وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ هُوَ - وَلَمْ يَنْهَزِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَهَا - تَعَالَى - قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8: 25]- وَإِنْ تَبَرَّمَ الرَّسُولُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَدَعَا عَلَى رُؤَسَائِهِمْ - فَكَانَ ذَلِكَ فُرْصَةً لِإِعْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَمْرِ الْكَوْنِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلِّمٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ (154) يُدَبِّرُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (137) وَكِلَا الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. هَذَا الْبَيَانُ الْإِلَهِيُّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يَتَمَكَّنُ فِي النُّفُوسِ مَا لَا يَتَمَكَّنُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِوَاقِعَةٍ مَشْهُورَةٍ لَا مَجَالَ مَعَهَا لِتَأْوِيلِهِ وَلَا لِتَخْصِيصِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى دَعَائِمِ التَّوْحِيدِ فِي الْقُرْآنِ، وَدَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَسِّسَ مُلْكٍ، وَزَعِيمَ سِيَاسَةٍ يُدِيرُهَا بِالرَّأْيِ لَمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَأَيُّ نَصِيبٍ مِنْ هَذَا الدِّينِ لِلَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَمْرَ الْعِبَادِ وَتَدْبِيرَ شُئُونِ الْكَوْنِ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِالْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ وَيَخْذُلُونَ، وَيُسْعِدُونَ وَيُشْقُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ، وَيُغْنُونَ وَيُفْقِرُونَ، وَيُمْرِضُونَ وَيَشْفُونَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُخَاطِبُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - حِينَ لَعَنَ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَارَبُوهُ حَتَّى خَضَّبُوا بِالدَّمِ مُحَيَّاهُ وَكَسَرُوا إِحْدَى ثَنَايَاهُ - بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ؟ هَذَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَهَذَا هَدْيُهُ الْقَوِيمُ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ بُخَارَى مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا كَانُوا يَقُولُونَ وَقَدْ عَلِمُوا بِعَزْمِ رُوسْيَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بِلَادِهِمْ: إِنَّ " شَاهْ نَقْشَبَنْدَ " هُوَ حَامِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَنْ يَسْتَطِيعَهَا أَحَدٌ؟ هَلْ كَانَ أَهْلُ فَاسَ مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا لَجَئُوا إِلَى قَبْرِ وَلِيِّهِمْ " إِدْرِيسَ "

129

يَسْتَغِيثُونَهُ وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْفَرَنْسِيسِ؟ هَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هُدَى هَذَا الدِّينِ عِنْدَمَا كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِقِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ أَوْ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَوْلِيَاءِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ؟ أَيَزْعُمُونَ أَنَّ تِلْكَ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةَ تُعَدُّ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ؟ أَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ فِي سَبَبِهَا وَهُوَ دُعَاءُ النَّبِيِّ عَلَى رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا؟ أَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ بِالْفِعْلِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدُّعَاءِ بِالْقَوْلِ؟ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ أَيَّامَ لَمْ يَكُونُوا دَائِمًا يَقُولُونَ: " اللهُمَّ نَكِّسْ أَعْلَامَهُمْ، اللهُمَّ زَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، اللهُمَّ يَتِّمْ أَطْفَالَهُمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ " وَأَنَّهُمْ بَعْدَ اللهَجِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مَنْصُورِينَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ؟ فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ، الِاسْتِعْدَادَ الِاسْتِعْدَادَ، الْأُهْبَةَ الْأُهْبَةَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [8: 60] وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَلَا مَالَ إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا عَدْلَ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِبْدَادِ، ثُمَّ بَعْدَ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ يَكُونُ الذِّكْرُ وَالِاسْتِمْدَادُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [8: 45، 46] هَذَا هُدَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهُمْ صِدْقُهُ فِي النَّبِيِّ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23: 68] ؟ ثُمَّ أَكَّدَ - تَعَالَى - هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَأَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِمَا شَرِكَةٌ مَعَهُ وَلَا رَأْيٌ وَلَا وَسَاطَةُ تَأْثِيرٍ فِي تَدْبِيرِهِمَا وَإِنْ كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَّا مَنْ سَخَّرَهُ - تَعَالَى - لِلْقِيَامِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَاضِعًا لِذَلِكَ التَّسْخِيرِ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فِيهِ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِرَسُولِهِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: " يَعْنِي بِذَلِكَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - لَيْسَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَلِلَّهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، دُونَكَ وَدُونَهُمْ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ، وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا أَحَبَّ، فَيَتُوبُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ الْعَاصِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُ، وَيُعَاقِبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى جُرْمِهِ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُ غَفُورٌ الْغَفُورُ: الَّذِي يَسْتُرُ ذُنُوبَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ مِنْ خَلْقِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَرَحِيمٌ بِهَمْ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ - عَاجِلًا - عَلَى عَظِيمِ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْمَآثِمِ اهـ. وَلَا تَنْسَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ الْمَغْفِرَةَ أَوِ التَّعْذِيبَ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ - رَاجِعْ ص 223 مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] .

130

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ اعْلَمْ أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ هُوَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ فُنُونِ الْكَلَامِ وَضُرُوبِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمَحَلُّ بَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ وَحِكْمَتِهِ مُقَدِّمَةُ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا أَحْيَانًا فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ لَا تُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِاتِّصَالِ كُلِّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهٌ وَجِيهٌ تَتَقَبَّلُهُ الْبَلَاغَةُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ. قَالَ الرَّازِيُّ هُنَا: " اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِي الْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ - رَحِمَهُ اللهُ -: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْفَقُوا عَلَى تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا

بِسَبَبِ الرِّبَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا حَتَّى يَجْمَعُوا الْمَالَ وَيُنْفِقُوهُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. فَلَا جَرَمَ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ اهـ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: إِنَّ الْمَرْوِيَّ فِي السِّيَرِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْفَقُوا فِي حَرْبِ أُحُدٍ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَةِ الْعِيرِ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الشَّامِ عَامَ بَدْرٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَمَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ غَيْرُ وَجِيهٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ أَنَّ اللهَ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَذِلَّةٌ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُصِرُوا بِتَقْوَى اللهِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; وَلِذَلِكَ خُذِلُوا فِي أُحُدٍ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَالطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَا اعْتَصَمُوا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُوَادَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ وَاتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَابَى كَمَا كَانُوا يُرَابُونَ، وَكَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَظِنَّةَ أَنْ يُرَابِيَ تَوَسُّلًا لِجَلْبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ بِسُهُولَةٍ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ هَكَذَا: نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِشُرُوطِهَا الَّتِي هِيَ مَثَارُ الضَّرَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ بِهِ ضَرَرَهُمْ وَشَرَّ كَيْدِهِمْ وَهُوَ تَقْوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ طَرْدًا وَعَكْسًا بِذِكْرِ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ مِنْ شَرِّ أَعْمَالِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا وَهُوَ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً (قَالَ) : وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ تَمْهِيدًا لِهَذَا النَّهْيِ وَحُجَّةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ الْمُتَوَقَّعَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ السَّعَادَةِ وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى وَالِامْتِثَالِ. أَقُولُ: وَيُقَوِّي رَأْيَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ آيَةً فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْيَهُودِ، وَوَرَدَتْ قِصَّةُ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَائِهَا يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى الْيَهُودِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمَالِ وَالنَّفَقَاتِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَإِنْفَاقِهِ وَفِي آخِرِهَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنَاسَبَةٌ وَاشْتِبَاكٌ بِصِلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَهُودِ، وَالْحَرْبُ مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَحَالُ الْيَهُودِ فِيهِ مَعْلُومَةٌ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الطَّمَعِ فِيهِ، وَشَرُّهُ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ النَّهْيَ عَنْ هَذَا الشَّرِّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ الْخَيْرِ تَقْدِيمًا لِلتَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً هَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَآيَاتُ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ، بَلْ هِيَ آخِرُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ نُزُولًا، وَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ عِنْدَ نُزُولِهَا لَا مُطْلَقُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ، فَمَا كُلُّ مَا يُسَمَّى زِيَادَةً مُحَرَّمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فِي إِسْلَامِكُمْ، بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ

فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، وَكَانَ أَكْلُهُمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ: أَخِّرْ عَنِّي دَيْنَكَ وَأَزِيدُكَ عَلَى مَالِكَ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَنَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي إِسْلَامِهِمْ عَنْهُ " ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ فَمِنْهَا عَنْ عَطَاءٍ: كَانَتْ ثَقِيفٌ تُدَايِنُ فِي بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالُوا: نَزِيدُكُمْ وَتُؤَخِّرُونَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ " وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَبِي زَيْدٌ (الْعَالِمُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ) يَقُولُ: " إِنَّمَا كَانَ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّضْعِيفِ وَفِي السِّنِّ: يَكُونُ لِلرَّجُلِ فَضْلُ دَيْنٍ فَيَأْتِيهِ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَيَقُولُ لَهُ: تَقْضِينِي أَوْ تَزِيدُنِي ; فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَقْضِيهِ قَضَى وَإِلَّا حَوَّلَهُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي فَوْقَ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ ابْنَةَ مَخَاضٍ يَجْعَلُهَا ابْنَةَ لَبُونٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ حِقَّةً ثُمَّ جَذَعَةً ثُمَّ رُبَاعِيًّا ثُمَّ هَكَذَا إِلَى فَوْقٍ. وَفِي الْعَيْنِ (النُّقُودِ) يَأْتِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ أَيْضًا فَتَكُونُ مِائَةً فَيَجْعَلُهَا إِلَى قَابِلٍ مِائَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَعَلَهَا أَرْبَعَمِائَةٍ يُضَعِّفُهَا لَهُ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ يَقْضِيهِ قَالَ: فَهَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ زَيْدٌ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) الْآيَةَ هُوَ مِنَ الرِّبَا الْفَاحِشِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْمُرَكَّبِ، وَتَرَى أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ السَّلَفِ فِي تَصْوِيرِ الرِّبَا كُلِّهِ فِي اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَأَنْ يُعْطِيهِ الْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتَفُونَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالْقَلِيلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَقْضِ الْمَدِينُ - وَهُوَ فِي قَبْضَتِهِمْ - اضْطَرُّوهُ إِلَى قَبُولِ التَّضْعِيفِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْسَاءِ وَمَا قَالُوهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَمِنْهُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الشَّهِيرَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ ص95 ج 3 [طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ قَالَ: " هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ " وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرْعِ بِرِبَا النَّسِيئَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الزَّوَاجِرِ: أَنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الْإِنْسَاءُ فِيهِ بِالشُّهُورِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الرِّبَا: " وَرِبَا النَّسِيئَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ لِغَيْرِهِ إِلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ بِحَالِهِ

فَإِذَا حَلَّ طَالَبَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادَهُ فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ، وَتَسْمِيَةُ هَذَا نَسِيئَةً مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ رِبَا الْفَضْلِ أَيْضًا ; لِأَنَّ النَّسِيئَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ بِالذَّاتِ، وَهَذَا النَّوْعُ مَشْهُورٌ الْآنَ بَيْنَ النَّاسِ وَوَاقِعٌ كَثِيرًا. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لَا يُحَرِّمُ إِلَّا رِبَا النَّسِيئَةِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ فَيَنْصَرِفُ النَّصُّ إِلَيْهِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ صَحَّتْ بِتَحْرِيمِ سَائِرِ أَنْوَاعِ الرِّبَا، وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ يَنْصَرِفُ إِلَى رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنٌ، وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِذْ جَعَلْنَا حَرْفَ التَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَفِي لَفْظٍ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يُبِيحُ رِبَا الْفَضْلِ كَأُسَامَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ حَرَّمَهُ حَرَّمَهُ بِالْحَدِيثِ لَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الرِّبَا قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَالْآخَرُ تَعَبُّدِيٌّ، أَيْ إِنَّ الْأَوَّلَ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَهُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ - وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ضَرَرِ الرِّبَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالتَّفْصِيلِ - وَالثَّانِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّعَبُّدِيِّ، أَيْ أَنَّهُ حَرُمَ عَلَيْنَا لِنَتْرُكَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فَقَطْ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَهُوَ: الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ. فَالْجَلِيُّ حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حَرُمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدٌ وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى

تَصِيرَ الْمِائَةُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ ; تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لِأَخِيهِ فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَآذَنَ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ هَذَا كَلِمَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا آنِفًا - وَيَعْنِي بِذِكْرِهَا هُنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الرِّبَا الَّذِي يُعَدُّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ لَا الرِّبَا الَّذِي حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَرِبَا الْفَضْلِ ; فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الزِّنَا وَالنَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمْسِ يَدِهَا كَذَلِكَ أَوِ الْخَلْوَةِ بِهَا وَلَوْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لِذَاتِهَا بَلْ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ، أَيْ لِئَلَّا تَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الزِّنَا الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمُحَرَّمِ الشَّدِيدِ ضَرَرُهُ كَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا الْمُضَاعَفِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسِفًا تَائِبًا مِنْ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ - وَهُوَ تَقْبِيلُ امْرَأَةٍ فِي الطَّرِيقِ - وَسَأَلَهُ عَنْ كَفَّارَةِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ كَفَّارَةٌ لَهُ أَيْ مَعَ التَّوْبَةِ، قَالُوا وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [11: 144] وَلَوْ كَانَ زَنَا بِهَا لَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَمْ يَرْحَمْهُ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الرِّبَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ خَطَأٌ ; فَإِنَّ مِنْهَا عِنْدَهُ بَيْعَ قِطْعَةٍ مِنَ الْحُلِيِّ كَسِوَارٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا دَنَانِيرَ، أَوْ بَيْعِ كَيْلٍ مِنَ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِكَيْلٍ وَحَفْنَةٍ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعَيْنِ وَحَاجَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا أَخَذَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي نَهْيِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي وَعِيدِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ لَا يَشْتَهِيهَا وَلَا تَشْتَهِيهِ كَالزِّنَا فِي حُرْمَتِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ رِبَا الْفَضْلِ ; لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً لِلرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى رِبًا، فَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الرِّبَا عَلَى الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ الَّتِي لَا دَخْلَ لِلْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا كَالْغَيْبَةِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ. بِسَنَدٍ قَوِيٍّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الزَّوَاجِرِ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ أَيْ غِيبَتُهُ. وَحَدِيثُ أَبِي يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا أَتَدْرُونَ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللهِ؟ قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [33: 58] وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيِّ

وَالْبَيْهَقِيِّ. بَلْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا [30: 39] بِالْهَدِيَّةِ وَالْعَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ بِهَا مَزِيدُ مُكَافَأَةٍ. الْمُحَرَّمُ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمَا كُلُّ مُحَرَّمٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَالْمُحَرَّمُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ قَدْ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: " وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا فَإِنَّهُ مَا حُرِّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ " ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْلَ فِي حِلِّ بَيْعِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَحَقَّقَ أَنَّ لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً فِي نَفْسِهَا ثُمَّ قَالَ: " يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا أُبِيحَتِ الْعَرَايَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ وَكَمَا أُبِيحَتْ ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ - أَيْ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ - لِلْخَاطِبِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ وَالْعَامِلِ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حُرِّمَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ الْمَلْعُونِ فَاعِلُهُ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ الْمَصُوغَةِ صِيَاغَةً مُبَاحَةً بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ إِنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ ; فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلَّا بِهِ أَوْ بِالْحِيَلِ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ " إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ بِرُمَّتِهِ فِي الْمَنَارِ (ص 540 م 9) إِنَّمَا تَعَرَّضْتُ هُنَا لِرِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِلتَّفْرِقَةِ، وَلِأَنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا قَدْ قَامَتْ لَهَا الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ وَقَعَدَتْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَاقْتَرَحَ كَثِيرُونَ إِنْشَاءَ بَنْكٍ إِسْلَامِيٍّ وَأُلْقِيَتْ فِيهَا خُطَبٌ كَثِيرَةٌ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ بِالْقَاهِرَةِ خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ بَعْضًا فَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِ كُلِّ مَا عَدَّهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّبَا، وَأَنْحَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِقَوْلِهِمْ، وَمَالَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ أَوِ الْمُضَاعَفِ، فَغَلَا بَعْضُهُمْ وَتَوَسَّطَ بَعْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِتَحْرِيرِ الْبَحْثِ وَإِقْنَاعِ النَّاسِ بِشَيْءٍ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَفِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خُتِمَ فِيهَا هَذَا الْبَحْثُ أَلْقَى كَاتِبُ هَذَا خِطَابًا وَجِيزًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَالَ رَئِيسُ النَّادِي حِفْنِي بِكْ نَاصِفْ فِي خُطْبَتِهِ الْخِتَامِيَّةِ: إِنَّهُ فَصْلُ الْخِطَابِ وَرَغَّبَ إِلَيْنَا هُوَ (رَئِيسُ النَّادِي) وَغَيْرُهُ أَنْ نُدَوِّنَهُ، وَهَذَا هُوَ بِالْمَعْنَى:

إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ تَحْرِيمًا صَرِيحًا وَنَهَى عَنْهُ نَهْيًا مُؤَكَّدًا، وَوَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، فَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ النَّظَرِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فَتَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّانِيَةِ! الْمُحْكَمَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَإِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ وَمُوَافِقٌ لِمَصَالِحِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ الْيَوْمَ أَنَّ إِبَاحَةَ الرِّبَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَدَنِيَّةِ لَا تَقُومُ بِدُونِهِ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَامَلُ بِالرِّبَا لَا تَرْتَقِي مَدَنِيَّتُهَا وَلَا يُحْفَظُ كِيَانُهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنْ تَرَكَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ أَكْلَ الرِّبَا فَصَارَ الْوَاجِدُونَ فِيهَا يُقْرِضُونَ الْعَادِمِينَ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَتَصَدَّقُونَ عَلَى الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ، وَيَكْتَفُونَ بِالْكَسْبِ مِنْ مَوَارِدِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ وَمِنْهَا الْمُضَارَبَةُ لَمَا زَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ إِلَّا ارْتِقَاءً بِبِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّعَاوُنِ الَّذِي يُحَبِّبُ الْغَنِيَّ إِلَى الْفَقِيرِ وَلَمَا وُجِدَ فِيهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ الْغَالُونَ، وَالْفَوْضَوِيُّونَ الْمُتَغَالُونَ، وَقَدْ قَامَتْ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهَا فَكَانَتْ خَيْرَ مَدَنِيَّةٍ فِي زَمَنِهِمْ، فَمَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مَنْعِ الرِّبَا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَدَنِيَّةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ هِدَايَةٍ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. (الْوَجْهُ الثَّانِي) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرِينَ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لِلْإِسْلَامِ دُوَلٌ قَوِيَّةٌ وَأُمَمٌ عَزِيزَةٌ تُقِيمُ الشَّرْعَ وَتَهْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لَأَمْكَنَهَا الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّبَا، وَلَكَانَتْ مَدَنِيَّتُهَا بِذَلِكَ أَفْضَلَ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، لِأَنَّ شَرْعَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبِيحَ الرِّبَا، وَهُوَ دِينٌ غَرَضُهُ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحُ حَالِ الْمُجْتَمَعِ لَا تَوْفِيرُ ثَرْوَةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ فِيهِ أُمَمٌ إِسْلَامِيَّةٌ ذَاتُ دُوَلٍ قَوِيَّةٍ تُقِيمُ الْإِسْلَامَ وَتَسْتَغْنِي عَمَّنْ يُخَالِفُهَا فِي أَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا زِمَامُ الْعَالَمِ فِي أَيْدِي أُمَمٍ مَادِّيَّةٍ قَدْ قَبَضَتْ عَلَى أَزِمَّةِ الثَّرْوَةِ فِي الْعَالَمِ حَتَّى صَارَ سَائِرُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ عِيَالًا عَلَيْهَا. فَمَنْ جَارَاهَا مِنْهُمْ فِي طُرُقِ كَسْبِهَا - وَالرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهِ - فَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَ وُجُودَهُ مَعَهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَارِهَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُهُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا، فَهَلْ يُبِيحُ الْإِسْلَامُ لِشَعْبٍ مُسْلِمٍ - هَذِهِ حَالُهُ مَعَ الْأُورُوبِّيِّينَ كَالشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ - أَنْ يَتَعَامَلَ بِالرِّبَا لِيَحْفَظَ ثَرْوَتَهُ وَيُنَمِّيَهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِلِاسْتِقْلَالِ أَمْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ حَالَةُ ضَرُورَةٍ - وَيُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِاسْتِنْزَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِثَرْوَتِهِ وَهِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ؟ هَذَا مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ الْآنَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ - بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوَافِقُ مَصَالِحَ الْآخِذِينَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ - مِنْ وَجْهَيْنِ يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُوَجَّهُ إِلَى فَرِيقِ الْمُقَلِّدِينَ - وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ - فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ فِي مَذَاهِبِكُمُ الَّتِي تَتَقَلَّدُونَهَا مَخْرَجًا مِنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدَّعُونَهَا، وَذَلِكَ بِالْحِيلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى مَذْهَبِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ الَّذِي يَتَحَاكَمُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ كَافَّةً، وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَمْلَكَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ الَّتِي أُنْشِئَتْ فِيهَا مَصَارِفُ (بُنُوكُ) الزِّرَاعَةِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَهِيَ تُقْرِضُ بِالرِّبَا الْمُعْتَدِلِ مَعَ إِجْرَاءِ حِيلَةِ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُبَايَعَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَيُوَجَّهُ إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّلِيلَ وَيَتَحَرَّوْنَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فَلَا يُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْخُرُوجَ عَنْهَا بِحِيلَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ كُلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الثَّابِتَةِ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2: 185] وَقَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [5: 6] وَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَهُوَ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَمِنْهُ رِبَا النَّسِيئَةِ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا تَظْهَرُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِهِ، أَيْ إِلَى أَنْ يُقْرِضَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَيَأْكُلَ مَالَهُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، كَمَا تَظْهَرُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَحْيَانًا. وَالثَّانِي مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِغَيْرِهِ كَرِبَا الْفَضْلِ الْمُحَرَّمِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً وَسَبَبًا لِرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ وَلِلْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَأَوْرَدَ لَهُ الْأَمْثِلَةَ مِنَ الشَّرْعِ فَقَسَّمَ الرِّبَا إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَعَدَّهُ مِنَ الْخَفِيِّ (وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ آنِفًا) . فَأَمَّا الْأَفْرَادُ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فَيَعْرِفُ كُلٌّ مِنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ أَوْ مُحْتَاجٌ إِلَى أَكْلِ هَذَا الرِّبَا وَإِيكَالِهِ غَيْرَهُ فَلَا كَلَامَ لَنَا فِي الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ تَحْدِيدُ ضَرُورَةِ الْأُمَّةِ أَوْ حَاجَتِهَا فَهُوَ الَّذِي فِيهِ التَّنَازُعُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ لِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ، أَيْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالشَّأْنِ فِيهَا وَالْعِلْمِ بِمَصَالِحِهَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [4: 83] فَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَجْتَمِعَ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ مُسْلِمِي هَذِهِ الْبِلَادِ - وَهُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَرِّسِينَ وَالْقُضَاةُ وَرِجَالُ الشُّورَى وَالْمُهَنْدِسُونَ وَالْأَطِبَّاءُ وَكِبَارُ الْمُزَارِعِينَ وَالتُّجَّارُ - وَيَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ يَكُونُ الْعَمَلُ بِمَا يُقَرِّرُونَ أَنَّهُ قَدْ مَسَّتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوْ أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ حَاجَةُ الْأُمَّةِ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا قُلْتُهُ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ. هَذَا وَإِنَّ مُسْلِمِي الْهِنْدِ قَدْ سَبَقُوا مُسْلِمِي مِصْرَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُوا الْكِتَابَةَ فِيهَا فِي الْجَرَائِدِ وَلَكِنَّهُمْ طَرَقُوا بَابًا لَمْ يَطْرُقْهُ الْمِصْرِيُّونَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ مِنْ إِبَاحَةِ

جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يُحَرِّمِ الرِّبَا وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَ لَهُ سُلْطَةٌ وَحُكْمٌ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ، وَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمَجَالَ وَاسِعًا لِلْبَحْثِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ هَلْ هِيَ دَارُ إِسْلَامٍ أَمْ لَا؟ دُونَ بِلَادِ مِصْرَ الَّتِي لَا تَزَالُ حُكُومَتُهَا الرَّسْمِيَّةُ إِسْلَامِيَّةً بِحَسَبِ قَوَانِينِ الدُّوَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ السُّلْطَانِ صَاحِبِ السِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي النَّائِبِينَ عَنْهُ فِيهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَنْعَ الرِّبَا مِنْهَا وَلَا غَيْرَ الرِّبَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا الْقَانُونُ الْمِصْرِيُّ. وَالْأَضْعَافُ جَمْعُ قِلَّةٍ لِضِعْفٍ (بِكَسْرِ الضَّادِ) وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ الَّذِي يَثْنِيهِ فَضِعْفُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَهُوَ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ثَنَّاهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ، أَيِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودَ آخَرَ مِنْ جِنْسِهَا كَالنِّصْفِ وَالزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ، فَإِذَا ضَاعَفْتَ الشَّيْءَ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ مِثْلَهُ مَرَّةً فَأَكْثَرَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَقَطْ (الَّتِي هِيَ الرِّبَا) يَصِحُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَضْعَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا وَاقِعٌ الْآنَ، فَإِنَّنِي رَأَيْتُ فِي مِصْرَ مَنِ اسْتَدَانَ بِرِبَا ثَلَاثَةٍ فِي الْمِائَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَانْظُرْ كَمْ ضِعْفًا يَكُونُ فِي السَّنَةِ! وَقَدْ قَالَ: (مُضَاعَفَةً) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَضْعَافِ كَأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَضْعَافِ ثُمَّ تَأْتِي الْمُضَاعَفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَزِيَادَةِ الْمَالِ. وَأَقُولُ: حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا حَالَ كَوْنِهِ أَضْعَافًا تُضَاعَفُ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَزِيَادَةُ الْمَالِ ضِعْفُ مَا كَانَ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْبُخْلِ وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَةِ الْمُعْوِزِ أَوْ حَاجَتَهُ وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْبُؤْسِ فَلَا تُحَمِّلُوهُمْ مِنَ الدَّيْنِ هَذِهِ الْأَثْقَالَ الَّتِي تَرْزَحُهُمْ وَرُبَّمَا تُخْرِبُ بُيُوتَهُمْ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ فِي دُنْيَاكُمْ بِالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ فَتَتَحَابُّونَ، وَالْمَحَبَّةُ أُسُّ السَّعَادَةِ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الطَّمَعُ وَالْبُخْلُ فَكَانُوا فِتْنَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَعْدَاءِ الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا نَهَيا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَمَا أَمَرَا بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فِي الدُّنْيَا بِمَا تُفِيدُكُمُ الطَّاعَةُ مِنْ صَلَاحِ حَالِ مُجْتَمَعِكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ; فَإِنَّ الرَّاحِمِينَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ إِلَخْ وَعِيدٌ لِلْمُرَابِينَ بِجَعْلِهِمْ مَعَ الْكَافِرِينَ إِذَا عَمِلُوا فِيهِ عَمَلَهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الرِّبَا قَرِيبٌ مِنَ الْكُفْرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، ثُمَّ أَكَّدَهُ أَيْضًا بِالْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمُؤَكِّدَاتُ التَّنْفِيرِ مِنَ الرِّبَا أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا لَيْسَتْ مَدَنِيَّةً مَحْضَةً بَلْ هِيَ

133

دِينِيَّةٌ أَيْضًا، وَالْغَرَضُ الدِّينِيُّ مِنْهَا التَّرَاحُمُ الْمُفْضِي إِلَى التَّعَاوُنِ، فَالْمُقْرِضُ الْيَوْمَ قَدْ يَكُونُ مُقْتَرِضًا غَدًا، فَمَنْ أَعَانَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَانَ. ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ بِاتِّقَاءِ النَّارِ اتِّبَاعًا لِلْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَقَرْنًا لِلتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فَقَالَ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ هِيَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى أَسْبَابِهَا وَمَا يُعِدُّ الْإِنْسَانُ لِنَيْلِهِمَا مِنَ التَّوْبَةِ عَنِ الْإِثْمِ كَالرِّبَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبِرِّ كَالصَّدَقَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ " سَارِعُوا " بِغَيْرِ وَاوٍ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ عَرْضِ الْجَنَّةِ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالسَّعَةِ وَالْبَسْطَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِأَوْسَعِ مَا عَلِمَهُ النَّاسُ، وَخَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً أَقَلَّ مِنَ الطُّولِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: هُيِّئَتْ لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ اهـ. وَهُوَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ الْآنَ كَمَا فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ بِالْفِعْلِ أَمْ تُوجَدُ بَعْدُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْخِلَافِ وَلَا هُوَ مِمَّا يَصِحُّ التَّفَرُّقُ وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالصِّفَاتِ الْخَمْسِ الْآتِيَةِ فَقَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَيْ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ وَحَالَةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرَةِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [65: 7] وَالسَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُرُّ، وَالضَّرَّاءُ مِنَ الضَّرَرِ أَيِ الْحَالَةُ الضَّارَّةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَهُمَا بِالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ. وَقَدْ بَدَأَ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ بِالْإِنْفَاقِ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مُقَابَلَتُهُ بِالرِّبَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ; فَإِنَّ الرِّبَا هُوَ اسْتِغْلَالُ الْغَنِيِّ حَاجَةَ الْمُعْوِزِ وَأَكْلُ مَالِهِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَالصَّدَقَةُ إِعَانَةٌ لَهُ وَإِطْعَامُهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهِيَ ضِدُّ الرِّبَا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الرِّبَا إِلَّا وَقُبِّحَ وَمُدِحَتْ مَعَهُ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [30: 39] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [2: 276] . (ثَانِيهِمَا) أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَنْفَعُ لِلْبَشَرِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْمَالَ عَزِيزٌ عَلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمُؤْلِمَاتِ، وَبَذْلُهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ

134

الْعَامَّةِ الَّتِي تُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، أَمَّا فِي السَّرَّاءِ فَلِمَا يُحْدِثْهُ السُّرُورُ وَالْغِنَى مِنَ الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَشِدَّةِ الطَّمَعِ وَبُعْدِ الْأَمَلِ، وَأَمَّا فِي الضَّرَّاءِ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا جَدِيرًا بِأَنْ يَأْخُذَ وَمَعْذُورًا إِنْ لَمْ يُعْطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالْفِعْلِ، إِذْ مَهْمَا كَانَ فَقِيرًا لَا يَعْدِمُ وَقْتًا يَجِدُ فِيهِ فَضْلًا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ قَلِيلًا، وَدَاعِيَةُ الْبَذْلِ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي تُنَبِّهُ الْإِنْسَانَ إِلَى هَذَا الْعَفْوِ الَّذِي يَجِدُهُ أَحْيَانًا لِيَبْذُلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الدَّاعِيَةُ مَوْجُودَةً فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَأَمْرُ الدِّينِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لِتَعْدِيلِ الْفِطْرَةِ الْمَائِلَةِ وَتَصْحِيحِ مِزَاجِ الْمُعْتَلَّةِ يُوجِدُهَا وَيَكُونُ نِعْمَ الْمُنَبِّهُ لَهَا، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّرَّاءَ بِمَا يُخْرِجُ الْفُقَرَاءَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ. يَقُولُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ: إِنَّ تَكْلِيفَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ الْبَذْلَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا غِنَاءَ فِيهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا - يَعْنِي أَنَّهُ يَنْتَقِدُ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ، وَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ يُفِيدُنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْفَقِيرِ كَرِيمَةً فِي ذَاتِهَا وَأَنْ يَتَعَوَّدَ صَاحِبُهَا الْإِحْسَانَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ نَفْسُهُ وَتَطْهُرُ مِنَ الْخِسَّةِ وَهِيَ الرَّذِيلَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْفُقَرَاءِ فَتَجُرُّهُمْ إِلَى رَذَائِلَ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِنَّ النَّظَرَ يَهْدِينَا إِلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْكَثِيرِ كَثِيرٌ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ فَقِيرٍ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ مَثَلًا يَبْذُلُ فِي السَّنَةِ قِرْشًا وَاحِدًا لِأَجْلِ التَّعْلِيمِ لَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ أُلُوفُ الْأُلُوفِ وَتَيَسَّرَ بِهِ عَمَلٌ فِي الْبِلَادِ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَنْفَقَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ إِلَخْ. إِذَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - قَدْ جَعَلَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِهِ عَلَامَةً عَلَى التَّقْوَى أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا حَتَّى فِي حَالِ الضَّرَّاءِ، وَكَانَ انْتِفَاؤُهُ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ أَهْلِ السَّرَّاءِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ؟ وَهَلْ يُغْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ شَيْءٍ أَدَاءُ الرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَمَرَّنُونَ عَلَيْهَا عَادَةً مَعَ النَّاسِ؟ 2 - وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْغَيْظُ أَشَدُّ الْغَضَبِ وَهُوَ الْحَرَارَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ فَوَرَانِ دَمِ قَلْبِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْظُ أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا هُضِمَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا الْمَادِّيَّةِ كَالْمَالِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالشَّرَفِ، فَيُزْعِجُهَا إِلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَمَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْغَيْظِ إِلَى الِانْتِقَامِ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْحَقِّ بَلْ يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْبَغْيِ ; فَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ التَّقْوَى كَظْمُهُ، وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: إِنَّ الْغَيْظَ هَيَجَانُ الطَّبْعِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَضَبِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ الْغَضَبَ يَتْبَعُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ أَلْبَتَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الْغَيْظُ، وَقِيلَ: الْغَضَبُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْغَيْظُ لَيْسَ كَذَلِكَ اهـ. وَالِاقْتِصَارُ فِي سَبَبِ الْغَيْظِ عَلَى رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا الْكَظْمُ فَقَدْ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: كَظَمَ الْبَعِيرُ جِرَّتَهُ ازْدَرَدَهَا وَكَفَّ عَنِ الِاجْتِرَارِ. . وَكَظَمَ الْقِرْبَةَ مَلَأَهَا وَسَدَّ رَأْسَهَا، وَكَظَمَ

الْبَابَ سَدَّهُ. وَهُوَ كِظَامُ الْبَابِ لِسِدَادِهِ. وَمِنَ الْمَجَازِ كَظْمُ الْغَيْظِ، وَعَلَى الْغَيْظِ، فَهُوَ كَاظِمٌ. وَكَظَمَهُ الْغَيْظُ وَالْغَمُّ: أَخَذَ بِنَفَسِهِ فَهُوَ مَكْظُومٌ وَكَظِيمٌ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [68: 48] ظِلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [16: 58] وَ: مَا كَظَمَ فُلَانٌ عَلَى جِرَّتِهِ: إِذَا لَمْ يَسْكُتْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى تَكَلَّمَ بِهِ. وَ: غَمَّنِي وَأَخَذَ بِكَظَمِي، وَهُوَ مَخْرَجُ النَّفَسِ وَبِأَكْظَامِي اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَصْلُ الْكَظْمِ مَخْرَجُ النَّفَسِ، وَالْغَيْظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْجِسْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَثُورُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْمِلَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. فَلِذَلِكَ سَمَّى حَبْسَهُ وَإِخْفَاءَ أَثَرِهِ كَظْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَصْلِ مَعْنَى الْكَظْمِ: وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يُظْهِرُ لَهُ أَثَرًا. وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ خَادِمًا لَهَا غَاظَهَا فَقَالَتْ: " لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لَذِي غَيْظٍ شِفَاءً ". 3 - وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: هُوَ التَّجَافِي عَنْ ذَنْبِ الْمُذْنِبِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَتِلْكَ مَرْتَبَةٌ فِي ضَبْطِ النَّفْسِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ قَلَّ مَنْ يَتَبَوَّأُهَا، فَالْعَفْوُ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ، إِذْ رُبَّمَا يَكْظِمُ الْمَرْءُ غَيْظَهُ عَلَى حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ. 4 - وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ أَعْلَى مِنْهُمَا وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَالْإِحْسَانُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَا سَبَقَهُ مِنَ الصِّفَاتِ بَلْ صَاغَهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَمْيِيزًا لَهُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - لَا لِمَزِيدِ مَدْحِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَلَا مُجَرَّدَ مَدْحِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قِيلَ - فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ وَصْفٌ رَابِعٌ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا يَتَّضِحُ مِنَ الْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ: يُرْوَى أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ غَاظَهُ غُلَامٌ لَهُ فَجْأَةً غَيْظًا شَدِيدًا فَهَمَّ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ فَقَالَ الْغُلَامُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فَقَالَ: كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَ الْغُلَامُ: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ، قَالَ: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تُبَيِّنُ لَكَ تَرَتُّبَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ. 5 - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ؟ الْفَاحِشَةُ: الْفَعْلَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ، وَلَعَلَّ الْفَاحِشَةَ مَا تَتَعَدَّى، وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ " وَذِكْرُ اللهِ عِنْدَ الذَّنْبِ يَكُونُ بِتَذَكُّرِ نَهْيِهِ وَوَعِيدِهِ أَوْ عِقَابِهِ أَوْ تَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُمَا مَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ دُنْيَا لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنْدَ الذَّنْبِ النَّهْيَ وَالْعُقُوبَةَ فَيُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَمَرْتَبَةٌ عُلْيَا لِخَوَاصِّ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرُوا - إِذَا فَرَطَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ - ذَلِكَ الْمَقَامَ الْإِلَهِيَّ الْأَعْلَى الْمُنَزَّهَ عَنِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ كَمَالٍ، وَمَا يَجِبُ مِنْ طَلَبِ قُرْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّخَلُّقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْآمَالِ، فَإِذَا هُمْ تَذَكَّرُوا انْصَرَفَ عَنْهُمْ طَائِفُ الشَّيْطَانِ، وَوَجَدُوا نَفْسَ الرَّحْمَنِ،

135

فَرَجَعُوا إِلَيْهِ طَالِبِينَ مَغْفِرَتِهِ، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُلْتَزِمِينَ سُنَّتَهُ، وَارِدِينَ شِرْعَتَهُ، عَالِمِينَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ يَضِلُّ مَنْ يَدْعُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَّا إِيَّاهُ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِسُنَنِهِ فِيهِ، وَالْحَاكِمُ بِسُلْطَانِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَهَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ غَيْرُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ إِلَخْ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا عَلَى ذَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِرُّ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الذُّنُوبَ فُسُوقٌ عَنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيمَةِ وَبُعْدٌ عَنْ مَقَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ إِلَى قُرْبِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَخْضَعُ لِقَوَانِينِ الْحُكَّامِ الْوَضْعِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَنْ يَخْضَعُ لَهَا احْتِرَامًا لِلنِّظَامِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ - تَعَالَى -: كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ... وَيَرَوْنَ النَّجَاةَ حَظًّا جَزِيلَا أَوْ لِأَنْ يَسْكُنُوا الْجِنَانَ فَيَحْظَوْا ... بِقُصُورٍ وَيَشْرَبُوا سَلْسَبِيلَا لَيْسَ لِي فِي الْجَنَانِ وَالنَّارِ حَظٌّ ... أَنَا لَا أَبْتَغِي سِوَاكَ بَدِيلَا فَالْآيَةُ هَادِيَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ لَا يُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبٍ يَرْتَكِبُونَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ; لِأَنَّ ذِكْرَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ بِطَبِيعَتِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ مُتَلَازِمَانِ، وَقَدْ قَالُوا إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً، وَهَذَا أَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيهَا، وَرُبَّ كَبِيرَةٍ أَصَابَهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ وَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا - فَكَانَتْ دَائِمًا مُذَكِّرَةً لَهُ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَسُلْطَانِ الْغَضَبِ أَوِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ مُقَاوَمَةِ هَذَا السُّلْطَانِ طَلَبًا لِلْكَمَالِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّحْمَنِ، خَيْرٌ مِنْ صَغِيرَةٍ يَقْتَرِفُهَا الْمَرْءُ مُسْتَهِينًا بِهَا مُصِرًّا عَلَيْهَا فَتَأْنَسُ نَفْسُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتَزُولُ مِنْهَا هَيْبَةُ الشَّرِيعَةِ، فَيَتَجَرَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَرَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ يُورِدُونَ هُنَا حَدِيثَ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وَمِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ يَرَاهُ فَيَغْتَرُّ بِهِ ظَانًّا أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ كَافٍ فِي التَّوْبَةِ وَمُنَافَاةِ الْإِصْرَارِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ كَالْمُفَسِّرِ لِلْآيَةِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكُلَّمَا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا حَرَّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَرُبَّمَا عَدَّ مِائَةً أَوْ أَكْثَرَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ لَا عَنْ كَوْنِ اللَّفْظِ كَفَّارَةً. عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِهِ. وَرَاجِعْ بَحْثَ الِاسْتِغْفَارِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [3: 17] وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ فَهِمْتَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهَا جَعَلَتْ كُلًّا مِنْ

136

الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْمَعْنَى بَيَّنَّاهُ لِأَهْلِ الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ هَلْ تَجِدُكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ؟ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا يَعْنِيُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعْدِ وَتَفْصِيلُ مَا لِلْمَوْعُودِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً إِلَخْ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ قِسْمٌ مُسْتَقِلٌّ وَأَنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، لَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [2: 25] فَلَا نُعِيدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ فَهُوَ نَصٌّ فِي أَجْزَاءٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ كَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِنَفْسِ الْعَامِلِ، وَكُلُّهَا مِمَّا يُرَقِّي النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ، حَتَّى تَكُونَ أَهْلًا لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، أَيْ وَنِعْمَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّاتِ أَجْرًا لِلْعَامِلِينَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ كَالْإِنْفَاقِ، وَالنَّفْسِيَّةَ كَعَدَمِ الْإِصْرَارِ، وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ إِلَخْ. الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرْنَا حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَالْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَوَصْفِ الْمُتَّقِينَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْغُفْرَانَ وَالْجَنَّاتِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى التَّوْبَةِ

137

مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ تَأْمُلُ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ " وَإِنَّمَا هَذَا الَّذِي قَالَهُ بَيَانٌ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنِ السِّيَاقِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ خَبَرَ وَقْعَةِ " أُحُدٍ " وَأَهَمَّ مَا وَقَعَ فِيهَا مَعَ التَّذْكِيرِ بِوَقْعَةِ " بَدْرٍ " وَمَا بَشَّرُوا بِهِ فِي ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا يَذْكُرُ السُّنَنَ وَالْحِكَمَ فِي ذَلِكَ. وَيُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ الْحَكِيمِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحَزَنِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى (الْجَلَالُ) كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْعِفَ عَزَائِمَكُمْ فَإِنَّ السُّنَنَ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ تُبَيِّنُ لَكُمْ كَيْفَ كَانَتْ مُصَارَعَةُ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، وَكَيْفَ ابْتُلِيَ أَهْلُ الْحَقِّ أَحْيَانًا بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالِانْكِسَارِ فِي الْحَرْبِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُقَاوِمِينَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمَخْذُولِينَ الْمَغْلُوبِينَ، وَكَانَ جُنْدُ اللهِ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ إِيضَاحٍ وَزِيَادَةٍ: هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ ذِكْرَ السُّنَنِ بَعْدَ آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي مَوْضُوعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ بَدَتْ لَهُمْ بُغَضَاؤُهُمْ، وَبَيَّنَ هُوَ لَهُمْ مَجَامِعَ خُبْثِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِوَقْعَةِ " أُحُدٍ " وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْإِجْمَالِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنَصْرِهِ لَهُمْ بِبَدْرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَأَوْصَافَهُمْ وَمَا وُعِدُوا بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضِيَّ السُّنَنِ فِي الْأُمَمِ وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، فَذِكْرُ السُّنَنِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ جِدًّا لَا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قِيلَ. وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِفَادَةِ الْمَبَانِي الْقَلِيلَةِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْأُسْلُوبِ مَا لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ كُتَّابِ الْبَشَرِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِهِ، يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ: إِنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِبَلَاغَتِهِ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أُسْلُوبَهُ الَّذِي كَانَ مُعْجِزًا بِهِ فَنًّا لِيَبْقَى دَالًّا عَلَى وَجْهِ إِعْجَازِهِ. وَكَذَلِكَ أَقُولُ: إِنَّ إِرْشَادَ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ سُنَنًا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذِهِ السُّنَنَ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ لِنَسْتَدِيمَ مَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَوْمٌ يُبَيِّنُونَ لَهَا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا فَعَلُوا فِي غَيْرِ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ بِالْإِجْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّفْصِيلِ عَمَلًا بِإِرْشَادِهِ، كَالتَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا، وَالْقُرْآنُ سَجَّلَ

عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى مَأْخَذِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَسِيرَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ اجْتِلَائِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَلَا يُحْتَجُّ عَلَيْنَا بِعَدَمِ تَدْوِينِ الصَّحَابَةِ لَهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُدَوِّنُوا غَيْرَ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ، وَفُرِّعَتْ مِنْهَا الْفُرُوعُ وَالْمَسَائِلُ، (قَالَ) وَإِنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي كَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ السُّنَنِ وَعَالِمِينَ بِمُرَادِ اللهِ مِنْ ذِكْرِهَا. يَعْنِي أَنَّهُمْ بِمَا لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُمْ وَمِنَ التَّجَارِبِ وَالْأَخْبَارِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَبِمَا مُنِحُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْحِذْقِ وَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَهْتَدُونَ بِهَا فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحَاتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ لِلْأُمَمِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا ; لِذَلِكَ قَالَ: وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْعَمَلِ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ كَانَتْ عُلُومُهُمْ كُلُّهَا، وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ حَالَةُ الْعَصْرِ اخْتِلَافًا احْتَاجَتْ مَعَهُ الْأُمَّةُ إِلَى تَدْوِينِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَعِلْمِ الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهِمَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً أَيْضًا إِلَى تَدْوِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ عِلْمَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ عِلْمَ السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. سَمِّ بِمَا شِئْتَ فَلَا حَرَجَ فِي التَّسْمِيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ ; فَإِذَا أَنْتُمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ، وَإِنْ سَلَكْتُمْ سُبُلَ الْمُكَذِّبِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُحُدٍ، فَفِي الْآيَةِ مَجَارِي أَمْنٍ وَمَجَارِي خَوْفٍ، فَهُوَ عَلَى بِشَارَتِهِ لَهُمْ فِيهَا بِالنَّصْرِ وَهَلَاكِ عَدُوِّهِمْ يُنْذِرُهُمْ عَاقِبَةَ الْمَيْلِ عَنْ سُنَنِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا فِي طَرِيقِ الضَّالِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مِثْلِ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَالْآيَةُ خَبَرٌ وَتَشْرِيعٌ، وَفِي طَيِّهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَأَقُولُ: السُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعَبَّدَةُ وَالسِّيرَةُ الْمُتَّبَعَةُ أَوِ الْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، قِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، فَشَبَّهَتِ الْعَرَبُ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَائِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى (خَلَتْ) : مَضَتْ وَسَلَفَتْ. أَيْ إِنَّ أَمْرَ الْبَشَرِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ مُصَارَعَةِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ وَالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ جَرَى عَلَى طُرُقٍ قَوِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ ثَابِتَةٍ اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الْعَامُّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا تَحَكُّمًا وَاسْتِبْدَادًا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْحَشْوِيَّةُ. جَاءَ ذِكْرُ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، كَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [8: 38] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [15: 13] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [18: 55] وَقَوْلِهِ

فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا [35: 43] وَصَرَّحَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى كَمَا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ سُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ وَسُورَةِ الْفَتْحِ. هَذَا إِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ، لَمْ يُعْهَدْ فِي كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَعَلَّهُ أُرْجِئَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ كَمَالَ اسْتِعْدَادِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ الْأَدْيَانَ. كَانَ الْمِلِّيُّونَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْيَالِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَبِدِّ فِي حُكُومَتِهِ، الْمُطْلَقِ فِي سُلْطَتِهِ، فَهُوَ يُحَابِي بَعْضَ النَّاسِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُمْ عَمَّا يُعَاقِبُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُمْ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ مِنْ سِوَاهُمْ، لِمُجَرَّدِ دُخُولِهِمْ فِي عُنْوَانٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَيَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْعُنْوَانُ، أَوْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ. هَذَا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ فِي دِينِهِمْ وَيُسْنِدُونَهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ الْمُطْلَقَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ فِي حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَتَطْبِيقِهَا عَلَى سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، فَإِنْ نَبَّهَهُمْ مُنَبِّهٌ إِلَى مَا يُصِيبُهُمْ بَلْ مَا أَصَابَ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالُوا إِنَّهُ - تَعَالَى - يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَذَلِكَ رَفْعُ دَرَجَاتٍ أَوْ تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، وَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالِيهِ بِعَاطِلِهِ، وَقَدْ كَانَ وَمَا زَالَ عِلَّةَ غُرُورِ أَصْحَابِهِ بِدِينِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ وَطَرَائِقَ قَوِيمَةٍ، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْحَرْبِ - مَثَلًا - ظَفِرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِنْ كَانَ مُلْحِدًا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَإِنْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَجُّوا رَأْسَهُ، وَكَسَرُوا سِنَّهُ، وَأَرْدَوْهُ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ ; كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهَا بَيْنَ الْأُمَمِ ; لِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ ثَابُوا يَوْمَئِذٍ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، وَثَبَتُوا حَتَّى انْجَلَى عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ. وَكَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ حَفِظُوا مَا وَرَدَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ الْحِجْرِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَالْمَلَائِكَةِ أَوْ فَاطِرٍ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ - أَوْ حَفِظُوا وَلَمْ يَفْقَهُوهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ انْطِبَاقُهُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [3: 165] لِذَلِكَ صَرَّحَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْآيَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَنَهُ أَنَّ لَهُ

سُنَنًا عَامَّةً جَرَى عَلَيْهَا نِظَامُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ. وَأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِمَّا يَقُصُّ حِكْمَتَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ مُطَابِقٌ لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ وَلَا تَتَبَدَّلُ. وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيمُ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْبِيقٍ عَلَى الْوَاقِعِ مِمَّا يُنْسَى أَوْ يَقِلُّ الِاعْتِبَارُ بِهِ نَبَّهَهُمْ عَلَى هَذَا التَّطْبِيقِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى تَطْبِيقِهِ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْحَقِّ يَغْلِبُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَيُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى (أَيِ اتِّقَاءَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَدَرَجَةِ اسْتِعْدَادِ الْأَعْدَاءِ) وَكَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بِأَسْبَابٍ مُطَّرِدَةٍ وَعَلَى طَرَائِقَ مُسْتَقِيمَةٍ، يُعْلَمُ مِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا حَافَظَ عَلَيْهِ يُنْصَرُ وَيَرِثُ الْأَرْضَ، وَإِنَّ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهُ وَيَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُخْذَلُ وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ الدَّمَارَ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَاسْتَقْرُوا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلِيُّ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا فَسِيرُوا. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ. قَالَ: وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْمَاضِينَ وَتَعَرُّفُ مَا حَلَّ بِهِمْ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ السُّنَنِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا يَنْبَغِي. نَعَمْ: إِنَّ النَّظَرَ فِي التَّارِيخِ الَّذِي يَشْرَحُ مَا عَرَفَهُ الَّذِينَ سَارُوا فِي الْأَرْضِ وَرَأَوْا آثَارَ الَّذِينَ خَلَوْا يُعْطِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ وَيُفِيدُهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَلَكِنْ دُونَ اعْتِبَارِ الَّذِي يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ وَيَرَى الْآثَارَ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالسَّيْرِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ تَتَخَلَّلُهُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ عَقْلٌ يَعْتَبِرُ بِهِ، فَهُوَ يَفْهَمُ أَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّهُ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ أَجْدَرُ بِفَهْمِهَا لِأَنَّ كِتَابَهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهَا وَأَجْدَرُ كَذَلِكَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ لِسَيْرِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ سُنَنًا يُؤَدِّي بَعْضُهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ تِلْكَ السُّنَنَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ انْتَصَرُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَخُذِلْتُمْ بِتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَوَاصُلَهُمْ وَتَعَاوُنَهُمْ عَلَى طَلَبِ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ يَكُونُ - مَعَ الثَّبَاتِ - مِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِمْ وَوُصُولِهِمْ إِلَى مَقْصِدِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَيَكُونُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ قَدْ ثَبَتَ بِاسْتِنَادِهِ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ فَضِيلَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالثَّبَاتِ، فَالْفَضَائِلُ لَهَا عِمَادٌ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ وَلَكِنْ رَأَى جُمْهُورٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحِقٌّ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ نَافِعٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُهُ فَاجْتَمَعُوا

عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْجُونَ مَعَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَدُومُ، بَلْ لَا يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ مَا يُؤَيِّدُهُ بَلْ لَهُ مَا يُقَاوِمُهُ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ دَائِمًا مُتَزَلْزِلًا، فَإِذَا جَاءَ الْحَقُّ وَوَجَدَ أَنْصَارًا يَجْرُونَ عَلَى سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، وَيُؤَيِّدُونَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ بِالثَّبَاتِ وَالتَّعَاوُنِ ; فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَدْمَغَ الْبَاطِلَ وَتَكُونَ الْعَاقِبَةُ لِأَهْلِهِ، فَإِنْ شَابَتْ حَقَّهُمْ شَائِبَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ، أَوِ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَأْيِيدِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ تُنْذِرُهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ. فَالْقُرْآنُ يَهْدِينَا فِي مَسَائِلِ الْحَرْبِ وَالتَّنَازُعِ مَعَ غَيْرِنَا إِلَى أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا وَكُنْهَ اسْتِعْدَادِنَا لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ حَقِّنَا وَمِنَ السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي طَلَبِهِ وَفِي حِفْظِهِ، وَأَنْ نَعْرِفَ كَذَلِكَ حَالَ خَصْمِنَا، وَنَضَعَ الْمِيزَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَإِلَّا كُنَّا غَيْرَ مُهْتَدِينَ وَلَا مُتَّعِظِينَ. وَأَقُولُ: إِيضَاحُ النُّكْتَةِ فِي جَعْلِ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِرْشَادَ عَامٌّ، وَأَنَّ جَرَيَانَ الْأُمُورِ عَلَى السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، تَقِيِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَهِيَ تَدْحَضُ مَا وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا نِيلَ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ سُنَنَ اللهِ حَاكِمَةٌ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ كَمَا هِيَ حَاكِمَةٌ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. فَمَا مِنْ قَائِدِ عَسْكَرٍ يَكُونُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أُحُدٍ، وَيُعْمَلُ مَعَهُ مَا عَمِلُوا إِلَّا وَيُنَالُ مِنْهُ ; أَيْ يُخَالِفُهُ جُنْدُهُ، وَيَتْرُكُونَ حِمَايَةَ الثَّغْرِ الَّذِي يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِهِ، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ عَدُوِّهِمْ وَبَيْنَ ظُهُورِهِمْ وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخَطِّ الرَّجْعَةِ مِنْ مَوَاقِعِهِمْ وَالْعَدُوُّ مُشْرِفٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا وَيَكُونُونَ عُرْضَةً لِلِانْكِسَارِ إِذَا هُوَ كَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَشَلٍ وَتَنَازُعٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - سُنَنًا فِي الْأُمَمِ هُوَ بَيَانٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِاسْتِعْدَادِ كُلِّ عَاقِلٍ لِفَهْمِهِ، وَاضْطِرَارِهِ إِلَى قَبُولِ الْحُجَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ النَّظَرَ أَوْ يُكَابِرَ وَيُعَانِدَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً فَهُوَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَيَتَّعِظُونَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَقَائِعِ فَيَسْتَقِيمُونَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، هُمُ الَّذِينَ تَكْمُلُ لَهُمُ الْفَائِدَةُ وَالْمَوْعِظَةُ لِأَنَّهُمْ يَتَجَنَّبُونَ وَيَتَّقُونَ نَتَائِجَ الْإِهْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عَاقِبَتَهَا ضَارَّةٌ، فَلْيَزِنْ مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ إِيمَانَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَيَنْظُرُوا أَيْنَ مَكَانُهُمْ مِنْ هِدَايَتِهَا، وَمَا هُوَ حَظُّهُمْ مِنْ مَوْعِظَتِهَا؟ أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا فَبَدَءُوا بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، ثُمَّ اعْتَبَرُوا بِحَالِ الْأُمَمِ الْقَائِمَةِ وَبَحَثُوا عَنْ أَسْبَابِ عِزِّهَا وَثَبَاتِهَا، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَمْسَوْا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِسُنَنِ اللهِ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ خَلْقِ اللهِ، وَلَرَأَوْا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ سَيْرًا فِي الْأَرْضِ، وَأَشَدُّ مِنْهُمُ اسْتِنْبَاطًا لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَعْرَقُ مِنْهُمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِمَا أَصَابَ

139

الْأَوَّلِينَ، وَالِاتِّعَاظِ بِجَهْلِ الْمُعَاصِرِينَ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا كِتَابُهُمْ، أَنْ يَكُونَ مَنْ يَسِمُونَهُ بِسِمَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَتِهِ هَذِهِ مِنْهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ وَيَتَّعِظُ بِمَوَاعِظِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْهِدَايَةَ وَالْمَوْعِظَةَ مِنْ شُئُونِ الْمُتَّقِينَ الثَّابِتَةِ لَهُمْ، وَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِلَخْ. وَقَدْ مَرَّ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ وَذِكْرُ جَزَائِهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ فِيهِ وَالْحَثِّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قِوَامُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْإِيمَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْوَهَنُ: الضَّعْفُ فِي الْعَمَلِ وَفِي الْأَمْرِ، وَكَذَا فِي الرَّأْيِ، وَالْحُزْنُ: أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا فَقَدَتْ مَا تُحِبُّ، أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ التَّدْبِيرِ بِمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَالْفَشَلِ فِي أُحُدٍ وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ إِنْشَاءً بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَيْ إِنَّ مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَرْحِ فِي أُحُدٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوهِنًا لِأَمْرِكُمْ وَمُضْعِفًا لَكُمْ فِي عَمَلِكُمْ وَلَا مُوجِبًا لِحُزْنِكُمْ وَانْكِسَارِ قُلُوبِكُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْرًا تَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرْبِيَةٌ لَكُمْ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ قَائِدِكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَدْبِيرِهِ الْحَرْبِيِّ الْمُحْكَمِ، وَفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ فِي الْأَمْرِ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الظَّفَرِ، وَبِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ تَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الذُّنُوبِ، فَتَكُونُ التَّرْبِيَةُ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ عَدَمِهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ تَزِيدَكُمُ الْمَصَائِبُ قُوَّةً وَثَبَاتًا بِمَا تُرَبِّيكُمْ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي الْحَزْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَإِحْكَامِ الْعَزِيمَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ فِي الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْكُمْ شُهَدَاءُ وَذَلِكَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَتُذَكِّرُهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْحُزْنِ مِنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ (وَهَاتَانِ الْعِلَّتَانِ قَدْ ذُكِرَتَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ) وَكَيْفَ تَهِنُونَ وَتَحْزَنُونَ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْحَيَدَانَ عَنْ سُنَنِهِ، وَفِي نَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَتَّبِعُ سُنَنَهُ بِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ لِمَحْضِ الْبَغْيِ وَالِانْتِقَامِ، أَوِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهِمَّةُ الْكَافِرِينَ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرْمُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْخَسِيسِ، وَمَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ الْغَرَضِ الْقَرِيبِ، فَهِيَ لَا تَكُونُ كَهِمَّةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي غَرَضُهُ إِقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الدُّنْيَا، وَالسَّعَادَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِصِدْقِ وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ صَارَ هَذَا الْإِيمَانُ وَصْفًا ثَابِتًا لَكُمْ حَاكِمًا فِي ضَمَائِرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَإِنْ أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَكُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَإِنَّ مَا أَصَابَكُمْ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، فَتَسْتَحِقُّونَ تِلْكَ الْعَاقِبَةَ وَهِيَ عُلُوُّ

السِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ. أَيْ فَلَا تَضْعُفُوا وَلَا تَحْزَنُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَالرَّغْبَةَ فِي إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ - الظَّفَرِ أَوِ الشَّهَادَةِ - عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ مَوْعُودٌ بِالْحُسْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ إِحْدَاهُمَا الْأَفْرَادُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْحُزْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَا فَاتَ الْإِنْسَانَ وَخَسِرَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ بِفَوْتِهِ شَيْءٌ مِنْ قُوَّتِهِ وَفَقَدَ بِفَقْدِهِ شَيْئًا مِنْ عَزِيمَتِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ صِلَةَ الْإِنْسَانِ بِمَحْبُوبَاتِهِ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ وَالنَّاسِ كَالْأَصْدِقَاءِ وَذِي الْقُرْبَى تُكْسِبُهُ قُوَّةً وَتُعْطِيهِ غِبْطَةً وَسُرُورًا، فَإِذَا هُوَ فَقَدَ شَيْئًا مِنْهَا بِلَا عِوَضٍ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِنَفْسِهِ أَلَمُ الْحُزْنِ الَّذِي يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ وَيُسَمُّونَهُ كَدَرًا كَأَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ صَافِيَةً رَائِقَةً فَجَاءَ ذَلِكَ الِانْفِعَالُ فَكَدَّرَهَا بِمَا أَزَالَ مِنْ صَفْوِهَا. وَقَدْ يُقَالُ هُنَا: لِمَاذَا نَهَاهُمْ عَنِ الْوَهَنِ بِمَا عَرَضَ لَهُمْ وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَقَدُوا فِي " أُحُدٍ "، وَكُلٌّ مِنَ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ كَانَ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَسْبُ مِنْ مُعَالَجَةِ وِجْدَانِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ وَلَوْ تَكَلُّفًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا فِي سُنَنِ مَنْ قَبْلَكُمْ تَجِدُوا أَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ عَلَى حَقٍّ وَأَحْكَمُوا أَمْرَهُمْ وَأَخَذُوا أُهْبَتَهُمْ وَأَعَدُّوا لِكُلِّ أَمْرٍ عُدَّتَهُ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِنُصْرَتِهِ إِلَّا وَظَفِرُوا بِمَا طَلَبُوا، وَعُوِّضُوا مِمَّا خَسِرُوا، فَحَوِّلُوا وُجُوهَكُمْ عَنْ جِهَةِ مَا خَسِرْتُمْ، وَوَلُّوهَا جِهَةَ مَا يَسْتَقْبِلُكُمْ، وَانْهَضُوا بِهِ بِالْعَزِيمَةِ وَالْحَزْمِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْحُزْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فَقْدِ مَا لَا عِوَضَ مِنْهُ وَأَنَّ لَكُمْ خَيْرَ عِوَضٍ مِمَّا فَقَدْتُمْ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِرُجْحَانِكُمْ عَلَيْهِمْ فِي مَجْمُوعِ الْوَقْعَتَيْنِ - بَدْرٍ وَأُحُدٍ - إِذِ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْكُمْ، عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِكُمْ، أَوْ جُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ مُعْتَرِضَةٌ يُرَادُ بِهَا التَّبْشِيرُ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ النَّصْرِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّسْلِيَةِ أَوْ لِلْبِشَارَةِ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَقَ هَذَا الْإِيمَانُ فُؤَادَهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ سُوَيْدَائِهِ، يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْعَاقِبَةِ، بَعْدَ الثِّقَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَالْأَسْبَابِ الْمُطَّرِدَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ لَيْسَ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِ إِلَى حَالِهِ وَمُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ عَلَى أَعْمَالِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْمَاضِيَةَ (غُرَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 1320) فِي الرُّؤْيَا مُنْصَرِفًا مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ أُحُدٍ وَهُوَ يَقُولُ: " لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ النَّصْرِ وَالْهَزِيمَةِ لَاخْتَرْتُ الْهَزِيمَةَ " أَيْ لِمَا فِي الْهَزِيمَةِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَعْلِيمِهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالِاحْتِيَاطِ وَلَا يَغْتَرُّوا بِشَيْءٍ بِشَغْلِهِمْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ وَتَسْدِيدِ النَّظَرِ، وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ.

140

ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - وَجْهَ جَدَارَتِهِمْ بِأَلَّا يَهِنُوا وَلَا يَحْزَنُوا فَقَالَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ " قُرْحٌ " بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْقَرْحَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَاحِدٌ فَهُوَ كَالضَّعْفِ فِيهِ اللُّغَتَانِ، وَمَعْنَاهُ الْجُرْحُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقَرْحَ بِالْفَتْحِ هُوَ الْجِرَاحُ وَبِالضَّمِّ أَثَرُهَا وَأَلَمُهَا. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ قَالَ: " لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ هِيَ بِالْفَتْحِ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَرْحَ وَالْقُرْحَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مَا قُلْنَاهُ " أَيْ مِنْ أَنَّ الْقَرْحَ بِالْفَتْحِ يَشْمَلُ الْجَرْحَ وَالْقَتْلَ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَصَلَ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ " الْقَرْحُ وَالْقُرْحُ لُغَتَانِ: عَضُّ السِّلَاحِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجْرَحُ الْجَسَدَ. . وَقِيلَ: الْقَرْحُ الْآثَارُ وَالْقُرْحُ الْأَلَمُ " أَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ عَضَّ السِّلَاحِ وَتَأْثِيرَهُ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَشْمَلَ الْقَتْلَ وَالْجَرْحَ وَابْنُ جَرِيرٍ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَنَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ. وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لُغَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْفَتْحَ لُغَةُ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَالضَّمَّ لُغَةُ نَجْدٍ. وَيَمْسَسْكُمْ مِنَ الْمَسِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يُصِبْكُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ بَدَلَ الْمَاضِي فَلَمْ يَقُلْ " إِنْ مَسَّكُمْ قَرْحٌ " لِيُحْضِرَ صُورَةَ الْمَسِّ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ. أَقُولُ: وَالْمَعْنَى إِنْ يَكُنِ السِّلَاحُ قَدْ عَضَّكُمْ وَعَمِلَ فِيكُمْ عَمَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا مِثْلُ مَا أَصَابَكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَرْحَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ قَرْحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَجَابَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: بَلَى كَانَ مِثْلَهُ وَلَقَدْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [3: 152] الْآيَةَ - وَسَتَأْتِي، أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ، أَيْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أُصِيبُوا بِمِثْلِ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَثَلِ مِنَ التَّدْقِيقِ الْفَلْسَفِيِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَقْصِدُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الْأَيَّامُ: جَمْعُ يَوْمٍ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الزَّمَنِ وَالْوَقْتِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ هُنَا أَزْمِنَةُ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ. وَنُدَاوِلُهَا بَيْنَهُمْ: نُصَرِّفُهَا فَنُدِيلُ تَارَةً لِهَؤُلَاءِ وَتَارَةً لِهَؤُلَاءِ فَالْمُدَاوَلَةُ بِمَعْنَى الْمُعَاوَرَةِ، يُقَالُ: دَاوَلْتُ الشَّيْءَ بَيْنَهُمْ فَتَدَاوَلُوا، تَكُونُ الدَّوْلَةُ فِيهِ لِهَؤُلَاءِ مَرَّةً وَهَؤُلَاءِ مَرَّةً، وَدَالَتِ الْأَيَّامُ دَارَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُدَاوَلَةَ الْأَيَّامِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ تَكُونَ الدَّوْلَةُ مَرَّةً لِلْمُبْطِلِ وَمَرَّةً لِلْمُحِقِّ. وَإِنَّمَا الْمَضْمُونُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ كَقَاعِدَةِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أَيْ هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَالْمُدَاوَلَةُ فِي

الْوَاقِعِ تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ. فَلَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِفَرِيقٍ دُونَ أَخَرَ جُزَافًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ عَرَفَ أَسْبَابَهَا وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَهِنُوا وَتَضْعُفُوا بِمَا أَصَابَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الدَّوْلَةَ تَدُولُ. وَالْعِبَارَةُ تُومِئُ إِلَى شَيْءٍ مَطْوِيٍّ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَوْلَةٍ سَبَبًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمُدَاوَلَةُ مَنُوطَةً بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا كَالِاجْتِمَاعِ وَالثَّبَاتِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ وَإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتُحْكِمُوهَا أَتَمَّ الْإِحْكَامِ. وَفِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِيجَازِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ مَا لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُقِيمَ سُنَّتَهُ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ [3: 167] أَيْ يُمَيِّزُهُمْ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي إِجْمَالِ الْقِصَّةِ وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَذْهَبُ الْعُقُولُ فِي تَعْيِينِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي كُلِّ فَجٍّ، أَوْ تَلْتَمِسُهُ فِي فَوَائِدِ قَاعِدَةِ جَعْلِ الْأَيَّامِ دُوَلًا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَدَمِ حَصْرِ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ فِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَكُلَّ مَا وَجَدْتَهُ يَصْلُحُ حِكْمَةً وَعِلَّةً لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَدَدْتَهُ مِنَ الْمَطْوِيِّ الْمَحْذُوفِ، وَأَعَمُّهُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَقُومَ بِذَلِكَ الْعَدْلُ وَيَسْتَقِرَّ النِّظَامُ، وَيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ، وَالْبَاحِثُ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْبَالِغَةِ، أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي يُدَالُ بِهِ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ مِمَّا يَظْهَرُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: " فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا مَعْنَاهُ: وَلِيَتَمَيَّزَ الثَّابِتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الَّذِينَ عَلَى حَرْفٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، بِمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنَ الثَّابِتُ مِنْكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ الثَّابِتِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لِيُعَلِّمَهُمْ عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَوْجُودًا مِنْهُمُ الثَّبَاتُ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَحْذُوفَةً وَهَذَا عَطْفٌ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ (أَيْ مُدَاوَلَةَ الْأَيَّامِ) لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ (أَيْ مِنَ الْمَصَالِحِ) وَلِيَعْلَمَ اللهُ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا فَعَلَ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيُبَصِّرَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَسُوؤُهُ مَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَلَا يَشْعُرُ أَنَّ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ غَافِلٌ عَنْهُ " اهـ. وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّقْدِيرَ هَكَذَا: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ يُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ، وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِلْمِ اللهِ فِيهِ عِلْمُ عِبَادِهِ وَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِعِلْمِ الظُّهُورِ أَيْ لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ بِذَلِكَ،

وَقَالَ هُنَا مُوَضِّحًا قَوْلَ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الظُّهُورِ، قَالُوا: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ عَلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ ثَابِتٌ فِي الْأَزَلِ فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَصَلَ تَغَيُّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ فَصَارَ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا، فَهَلْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ هُوَ عَيْنُ تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى قُبَيْلِ وُقُوعِهِ؟ قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْزَمَنَ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ فَلَيْسَ هُنَاكَ تَقَدُّمٌ وَلَا تَأَخُّرٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ وَلَا مُتَأَخِّرٌ، فَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَاحِدٌ فِي الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللهُ لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ الْمَعْلُومِ لَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [8: 37] أَيْ يَعْلَمُ النَّاسُ ذَلِكَ وَيُمَيِّزُونَهُ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا سَتَقَعُ غَيْرُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ، فَذَلِكَ عِلْمٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ الْمَعْلُومُ فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا عِلْمٌ ظَهَرَ مُتَعَلِّقُهُ وَوُجِدَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " وَلِيَعْلَمَ " الثَّانِي. أَقُولُ: وَكُنْتُ أُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأُعَبِّرُ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَعِلْمِ الشَّهَادَةِ مُفَسِّرًا عِلْمَ الْغَيْبِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَعِلْمَ الشَّهَادَةِ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَوُجِدَ. وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَعْنًى آخَرَ وَكُنْتُ عَازِمًا عَلَى مُرَاجَعَتِهِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الدَّرْسِ فَنَسِيتُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ وَإِيهَامُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مَدْفُوعٌ، وَلَكِنْ مَا النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَلِمَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِعِبَارَةٍ لَا إِبْهَامَ فِيهَا؟ قَالَ مَا نَصُّهُ: " النُّكْتَةُ بَيَانُ أَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُ الشَّيْءَ وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنْ إِذَا عَرَضَ الْعَمَلُ كَذَّبَهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ صُورَةً انْطَبَعَتْ فِي مُخِّهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا يُعَارِضُهَا مِنْ سَائِرِ عَقَائِدِهِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى وِجْدَانِهِ وَأَثَرٌ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَعَادَاتِهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَعْمَالُهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ شُجَاعٌ، وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ مَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ بِالْفِعْلِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْخَطَرِ وَخَوْضِ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ جَبُنَ وَجَزِعَ وَظَهَرَ غُرُورُهُ بِنَفْسِهِ وَانْخِدَاعُهُ لِوَهْمِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ عَظِيمُ الثِّقَةِ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، حَتَّى تُظْهِرَ الْحَوَادِثُ وَالْوَقَائِعُ أَنَّهُ هَلُوعٌ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ كَانَ مَنُوًا، لَا يَثِقُ بِرَبِّهِ وَلَا بِنَفْسِهِ. فَأَرَادَ - تَعَالَى - أَنْ يُرْشِدَنَا بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ عِلْمًا وَالْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا إِذَا صَدَّقَهُمَا الْعَمَلُ وَظَهَرَ أَثَرُهُمَا بِالْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِيَتَبَيَّنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. أَقُولُ: وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عِلْمَ

اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ، فَمَا لَا يَعْلَمُهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ وَكُلُّ مَالَهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُ - تَعَالَى -، فَيَكُونُ مَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَثْبُتَ وَيَتَحَقَّقَ بِالْفِعْلِ إِيمَانُ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ صِدْقَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّهُ مَتَى ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ كَانَ اللهُ عَالِمًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، فَأَطْلَقَ أَحَدَ الْمُتَلَازِمَيْنِ وَأَرَادَ بِهِ الْآخَرَ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْقِتَالِ وَهِيَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مُدَافِعًا عَنِ الْحَقِّ قَاصِدًا إِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [2: 143] وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولُونَ شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَكُوتِ وَنَعِيمِهِ مَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ بِبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَكُونُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ مَوْتَهُمْ. أَقُولُ: وَقَوْلُهُ: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَكُونُونَ مِمَّنْ خَلَصُوا لِلَّهِ وَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، وَلَا بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَصْطَفِي لِلشَّهَادَةِ الظَّالِمِينَ مَا دَامُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ بِشَارَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْذَارٌ لِلْمُقَصِّرِينَ، فَالنَّاسُ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ بِالْمِحَنِ وَالْفِتَنِ يَكُونُونَ سَوَاءً، فَإِذَا ابْتُلُوا تَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ وَالصَّادِقُ وَالظَّالِمُ وَالْمُنَافِقُ وَمَا أَسْهَلَ ادِّعَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ إِذَا كَانَتْ آيَاتُهُمَا مَجْهُولَةً، فَبَيَانُ السَّبَبِ مُؤَدِّبٌ لِلْمُقَصِّرِينَ وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَغْنِيَاءِ الْجَاهِلِينَ. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ، أَيْ لَا يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ، لِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُسَفِّهُونَهَا بِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَيَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ، وَالظَّالِمُ لَا تَدُومُ لَهُ سُلْطَةٌ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ دَوْلَةٌ، فَإِذَا أَصَابَ غِرَّةً مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَكَانَتْ لَهُ دَوْلَةٌ فِي حَرْبٍ أَوْ حُكْمٍ، فَإِنَّمَا تَكُونُ دَوْلَتُهُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ، قَرِيبَةَ الِانْحِلَالِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: مَحَّصَ الشَّيْءَ مَحْصًا وَمَحَّصَهُ تَمْحِيصًا خَلَّصَهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَمَحَّصَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ خَلَّصَهُ مِمَّا يَشُوبُهُ،

ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ مَحَّصَ اللهُ التَّائِبَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَحَّصَ قَلْبَهُ وَتَمَحَّصَتْ ذُنُوبُهُ وَتَمَحَّصَتِ الظَّلْمَاءُ تَكَشَّفَتْ قَالَ: حَتَّى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وَتَمَحَّصَتْ ... ظَلْمَاؤُهُ وَرَأَى الطَّرِيقَ الْمُبْصَرِ أَقُولُ: وَأَصْلُ الْمَحْقِ النُّقْصَانُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَمِنْهُ الْمِحَاقُ لِآخِرِ الشَّهْرِ، وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: " مَحَقَ الشَّيْءَ مَحَاهُ وَذَهَبَ بِهِ. . وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يُحْسِنُ الْإِنْسَانُ عَمَلَهُ: قَدْ مَحَقَهُ، وَيَقُولُونَ لِلْهَلَكَةِ: الْمَحْقَةُ " قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ وَمَحْوِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُ التَّمْحِيصِ بِالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ. وَكَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْدَئِهِ دُونَ غَايَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمَحِّصُ اللهُ بِالْمَصَائِبِ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِمَحْقِ نُفُوسِ الْكَافِرِينَ. وَرَدَّ الْأُسْتَاذُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْحِيصَ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنَ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّكْفِيرِ، وَأَنَّ لِلتَّمْحِيصِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِ لَا فِي تَصْوِيرِهِ. وَصَوَّرَهُ هُوَ بِنَحْوِ مَا يَأْتِي: كُلُّ إِنْسَانٍ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُصَدِّقُهُ فِيهَا الْحَقُّ الْوَاقِعُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَالْمُعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الدِّينِ قَدْ يَتَصَوَّرُ وَقْتَ الرَّخَاءِ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِيَحْفَظَ شَرَفَ دِينِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَاءَ الْبَأْسُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خِلَافُ مَا كَانَ يَتَصَوَّرُ (وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آنِفًا) . فَالْإِنْسَانُ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَتَجَلَّى كَمَالَ التَّجَلِّي إِلَّا بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ وَالِامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ الْعَظِيمَةِ، فَالتَّجَارِبُ وَالشَّدَائِدُ كَتَمْحِيصِ الذَّهَبِ يَظْهَرُ بِهِ زَيْفُهُ وَنُضَارُهُ. ثُمَّ إِنَّهَا أَيْضًا تَنْفِي خَبَثَهُ وَزَغَلَهُ. كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي أُحُدٍ: تَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَطَهَّرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُدُورَتِهَا فَصَارَتْ تِبْرًا خَالِصًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِينَ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا وَهُمْ مُدْبِرُونَ، مَحَّصَ الْجَمِيعَ بِتِلْكَ الشِّدَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا خُلِقَ لِيَلْهُوَ وَيَلْعَبَ، وَلَا لِيَكْسَلَ وَيَتَوَاكَلَ، وَلَا لِيَنَالَ الظَّفَرَ وَالسِّيَادَةَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ خُلِقَ لِيَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ جِدًّا فِي الْعَمَلِ، وَأَشَدَّهُمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ. أَقُولُ: وَقَدْ تَجَلَّى أَثَرُ هَذَا التَّمْحِيصِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا يَتْبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِأُحُدٍ، فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَعَزَائِمَ شَدِيدَةٍ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَبْرِيحِ الْجِرَاحِ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ وَلْيَعْلَمُوا مَا هُوَ مِقْدَارُ حَظِّهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِالشَّدَائِدِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَنَاؤُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَأْسُ يَسْطُو عَلَيْهِمْ

142

وَفَقْدُ الرَّجَاءِ يَذْهَبُ بِعَزَائِمِهِمْ لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَبِّتُ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ حَتَّى يُذْهِبَ مَا كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ نُورِ الْفَضِيلَةِ فِي نُفُوسِهِمْ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ شَجَاعَةٌ وَلَا بَأْسٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ كَالْهِلَالِ فِي الْمِحَاقِ لَا نُورَ لَهُ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ ; لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَذَلِكَ مَحْقُهُ إِذَا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ، وَإِذَا هُوَ انْتَصَرَ طَغَى وَتَجَبَّرَ وَبَغَى وَظَلَمَ، وَذَلِكَ مَحْقٌ مَعْنَوِيٌّ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَحْقُ الصُّورِيُّ، كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِينَ الْمُبْطِلِينَ وُجُودٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا يَبْقَوْنَ ظَاهِرِينَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ وَيُقَاوِمُ بَاطِلَهُمْ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِمَنْ شَهِدَ وَقْعَةَ " أُحُدٍ " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - أَرْشَدَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَضْعُفُوا أَوْ يَحْزَنُوا، وَبَيَّنَ لَهُمْ حِكْمَةَ مَا أَصَابَهُمْ وَأَنَّهُ مُنْطَبِقٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ وَفِي تَمْحِيصِ أَهْلِ الْحَقِّ بِالشَّدَائِدِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّسْلِيَةِ مَا يُرَبِّي الْمُؤْمِنَ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْغَلَبَ وَالسِّيَادَةَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ لَا تُنَالُ أَيْضًا إِلَّا بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَهِيَ كَسَعَادَةِ الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (214) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ (أَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ أَوْ لِلْمُعَادَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ لِسُنَّتِهِ وَحُكْمِهِ فِيمَا حَصَلَ الْمُتَضَمِّنِ للِلَّوْمِ وَالْعِتَابِ فِي مِثْلِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ إِلَخْ. هَلْ جَرَيْتُمْ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْحِكَمَ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ كَمَا يَحْسَبُ أَهْلُ الْغُرُورِ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَأَنْتُمْ إِلَى الْآنِ لَمْ تَقُومُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حَقَّ الْقِيَامِ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ صِفَةُ الصَّبْرِ مِنْ نُفُوسِكُمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ! وَالْجَنَّةُ إِنَّمَا تُنَالُ بِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دُخُولِهَا بِدُونِهِمَا. لَوْ قُمْتُمْ بِذَلِكَ لَعَلِمَهُ - تَعَالَى - مِنْكُمْ وَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي غَزْوَتِكُمْ هَذِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى أَنَّهُ سَيُجَازِيكُمْ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ فِي مَعْنَى (أَمْ) هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي (أَمْ حَسِبْتُمْ) إِنَّهُ نَهْيٌ وَقَعَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ، وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [29: 1، 2] وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ (أَمْ) الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مَا تَأْتِي فِي كَلَامِهِمْ وَاقِعَةٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ يُشَكُّ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، يَقُولُونَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا؟ مَعَ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِأَحَدِهِمَا. قَالَ: وَعَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ؟ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ ". وَقَدْ جَرَيْنَا فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَنَفْيِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا مِنْ قُرْبٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَشَّافُ هُنَا وَقَالَ: " هُوَ بِمَعْنَى لَمَّا تُجَاهِدُوا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومِ فَنَزَلَ نَفْيُ الْعِلْمِ مَنْزِلَةَ نَفْيِ مُتَعَلِّقِهِ ; لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ. يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا عَلِمَ اللهُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا، يُرِيدُ مَا فِيهِ خَيْرٌ حَتَّى يَعْلَمَهُ. وَلَمَّا بِمَعْنَى " لَمْ " إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا

مَضَى وَعَلَى تَوَقُّعِهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَتَقُولُ: وَعَدَنِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَمَّا يَفْعَلْ. تُرِيدُ وَلَمْ يَفْعَلْ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ فِعْلَهُ " اهـ. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي إِيثَارِ ذِكْرِ الْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ هِيَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ أُخْرَى فِي الْبَالِ وَهِيَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ بِنَفْيِ عِلْمِ اللهِ بِهِ عِبَارَةٌ عَنْ دَعْوَى مَقْرُونَةٍ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ اللَّذَيْنِ هُمَا وَسِيلَةٌ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ لَمَّا يَقَعْ مِنْكُمْ، أَيْ لَمْ يَقَعْ إِلَى الْآنِ مِنْ مَجْمُوعِكُمْ أَوْ أَكْثَرِكُمْ بِحَيْثُ صَارَ يُعَدُّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَّةِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُخَالِفُوا وَلَمْ يَنْهَزِمُوا، إِذْ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا يَعْلَمْهُ فَهُوَ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطْعًا، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مِثْلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ [2: 214] إِلَخْ. أَيْ وَإِلَى الْآنِ لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَالِهِمْ وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ حَالُهُمْ تِلْكَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ، وَوَجْهُ التَّأْيِيدِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَاكَ هُوَ الْعَمَلُ وَالْحَالُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ. ثُمَّ إِنْ يُوَافِقْ أَحَدَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّوَاتِ وَصْفُهَا، فَالْمَعْنَى هُنَاكَ وَلِيَعْلَمَ اللهُ إِيمَانَ الَّذِينَ آمَنُوا - وَهُنَا - وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ جِهَادَ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَصَبْرَ الصَّابِرِينَ، أَيْ وَاقِعَيْنِ ثَابِتَيْنِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ - كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي وَجْهٍ آخَرَ - وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ جَمِيعًا وَلَمَّا يُمَيِّزِ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالْجِهَادُ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ وَيَصْبِرْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ الْجِهَادَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ - وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِي مُكَافَحَةِ الشَّدَائِدِ - وَمِنْهُ جِهَادُ النَّفْسِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مُجَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ لَا سِيَّمَا فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَجِهَادَهُ بِمَالِهِ، وَمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْبَاطِلِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَلِلنَّاسِ عَلَيْكَ حَقًّا، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْحُقُوقِ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ جِهَادِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا، وَرُبَّمَا يَفْضُلُ بَعْضُ جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَ فَكُرَةً صَالِحَةً فِي النَّاسِ أَوْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى خَيْرِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ أَوْ مُقَاوَمَةِ بِدْعَةٍ أَوِ النُّهُوضِ بِمَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَيُؤْذِيهِ إِيذَاءً قَلَّمَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَنَاهِيكَ بِالتَّصَدِّي لِإِصْلَاحِ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَعَادَاتِهِمْ، وَمَا الْخَاصَّةُ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَّا أَصْعَبُ مِرَاسًا مِنَ الْعَامَّةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ مَعْنَى أَمْ وَلَمَّا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَعْلَمَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ " أَنْ " عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ أَيْ لَا يَكُنْ أَكْلُ السَّمَكِ وَشُرْبُ اللَّبَنِ مَعًا، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ. بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْفَوْزَ وَالظَّفَرَ فِي الدُّنْيَا وَدُخُولَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونَانِ بِالْأَمَانِي وَالْغُرُورِ، وَلَا يُنَالَانِ بِالْمُحَابَاةِ وَالْكَيْلِ الْجُزَافِ، بَلْ بِالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَيَّامِ وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَاتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ - وَبَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَدَعْوَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الْجَزَاءُ بِالنَّصْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِهِمَا بِحَسَبِ عِلْمِ اللهِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ لَا بِحَسَبِ ظَنِّ النَّاسِ وَشُعُورِهِمْ - بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ يَظْهَرُ لَهُمْ بِهِ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ إِلَخْ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَيَتَعَلَّمُونَ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَغْتَرُّونَ بِشُعُورِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى أَلَا يَخْرُجَ لِلْمُشْرِكِينَ بَلْ يَسْتَعِدُّ لِمُدَافَعَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حَيْثُ عَسْكَرَ الْمُشْرِكُونَ وَمُنَاجَزَتَهُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّ الشُّبَّانَ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ ; لِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِتَابٌ لِرِجَالٍ غَابُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ أَنْ يَلْقَوْهُ فَيُصِيبُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى فَعَاتَبَهُمُ اللهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَقُولُونَ: لَئِنْ لَقِينَا الْعَدُوَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ، فَابْتُلُوا بِذَلِكَ فَلَا وَاللهِ مَا كُلُّهُمْ صَدَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ الْقِتَالَ كَثِيرُونَ. قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَظْهَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَعَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَمْتَحِنُونَ قُلُوبَهُمْ ; وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ أَوِ الْمَوْتَ فِي الْقِتَالِ لِيَنَالُوا مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ لَهُمْ هَذَا التَّمَنِّيَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَلَمْ

يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعْوَى قَوْلِيَّةً وَلَا صُورَةً فِي الذِّهْنِ خَيَالِيَّةً بَلْ كَانَ حَقِيقَةً وَاقِعَةً فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّهَا زَالَتْ عِنْدَ مَجِيءِ دَوْرِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ النَّفْسِ فِي شُعُورِهَا وَعِرْفَانِهَا هِيَ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ، وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّصَوُّرِ وَالتَّخَيُّلِ مَعَ الِانْصِرَافِ عَنْ تَمَنِّي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَوْ مَعَ كَرَاهَتِهِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ - كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَلَكِنَّهُ يَهْرُبُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ يَخْشَى أَنْ يُطَالَبَ فِيهِ بِعَمَلٍ يَأْتِيهِ لِأَجْلِهِمَا أَوْ مَالٍ يُعَاوِنُ بِهِ الْعَامِلِينَ لَهُمَا، أَوْ يَكُونُ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَمَلِ أَوِ الْبَذْلِ لِإِعْلَاءِ شَأْنِ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَوْ كَفِّ الْعُدْوَانِ أَوِ الشَّرِّ عَنْهُ. فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَيُفَكِّرُ فِي خِدْمَتِهِمَا وَيَتَمَنَّى لَوْ يُتَاحُ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا احْتِيجَ إِلَى خِدْمَتِهِ الَّتِي كَانَ يُفَكِّرُ فِيهَا وَيَتَمَنَّاهَا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ فَأَعْرَضَ عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ مَرَارَتَهُ وَكَابَدَ مَشَقَّتَهُ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، الْمَطْلُوبُ فِيهِ مَرْتَبَةُ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ الَّتِي مِنْ مُقْتَضَاهَا الْعَمَلُ مَهْمَا كَانَ شَاقًّا، وَالْجِهَادُ مَهْمَا كَانَ عَسِرًا، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ وَإِيثَارُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ وَتَفْسِيرِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَمْثِلَةٌ تَزِيدُ الْمَبْحَثَ وُضُوحًا. وَقَدْ كَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ عِنْدَ نُزُولِهَا مَنْ هُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَاتَ الْجِبَالِ لَا ثَبَاتَ الْأَبْطَالِ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِطَابُ عَامًّا لِيَكُونَ تَرْبِيَةً عَامَّةً ; فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ يَتَّهِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ فَيَزْدَادُونَ كَمَالًا. فَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ إِلَى الْغُرُورِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَتَهْدِيهِ إِلَى امْتِحَانِ نَفْسِهِ بِالْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا دُونَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، حَتَّى يَأْمَنَ الدَّعْوَى الْخَادِعَةَ، بَلْهَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ، وَإِنَّمَا الْخَادِعَةُ أَنْ تَدَّعِيَ مَا تَتَوَهَّمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِعَجْزِكَ عَنْهُ، وَالْبَاطِلَةُ لَا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَخْفَى عَلَى سِوَاكَ. قَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُوَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ الْحَرْبُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ الْمَأْثُورِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُشْكِلًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا إِشْكَالَ إِلَّا فِي مُخِّ مَنِ اخْتَرَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي الدِّفَاعِ وَالصِّدَامِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ مَكَّنَ الْأَعْدَاءَ مِنْهُ وَمَهَّدَ لَهُمْ سَبِيلَ الظَّفَرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْوَى جِهَادًا وَأَشَدَّ جِلَادًا وَأَجْدَرَ بِأَنْ يَنْصُرَ قَوْمَهُ وَيَخْذُلَ مَنْ يُحَارِبُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ

لَا يَقْصِدُ لَازِمَ الْمَوْتِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ نَقْصِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ضَعْفِهِمْ ; عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّازِمَ إِنَّمَا يَتْبَعُ اسْتِشْهَادَ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ، وَمَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فَإِنَّمَا يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ دُونَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ تَمَنِّيًا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمَنِّي مَنْ يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ دُونَهُ، فَإِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى مَا يَبْغِي مِنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ بِانْهِزَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَخِذْلَانِهِمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا فَضَّلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِعْزَازِ الْحَقِّ وَرَآهُ خَيْرًا مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ إِذْلَالِهِ وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ يَسْبِقُ لَهُمْ تَمَنِّي الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُمْ حُضُورُ وَقْعَةِ بَدْرٍ أَوِ الشَّهَادَةُ فِيهَا لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَوَهَنَ عَزْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَهَنَ وَضَعُفَ بَعْدَهَا عِنْدَمَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تُلَاقُوا الْقَوْمَ فِي الْحَرْبِ، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا تَغْفُلُونَ عَنْهُ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ الْمَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَنْ تَمَنَّى الشَّيْءَ وَسَعَى إِلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْزِنَهُ لِقَاؤُهُ وَيَسُوءَهُ فَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى الشَّيْءَ أَحْيَانًا وَلَكِنَّهُ لِانْشِغَالِهِ عَنْهُ رُبَّمَا لَا يَتَبَيَّنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُوهُ رُؤْيَةً كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الثَّابِتُ فِي نُفُوسِكُمْ لَا رُؤْيَةً مِنْ قَبِيلِ لَمْحِ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ أَبْصَرْتُمُوهُ وَأَنْتُمُ الْآنُ تَنْظُرُونَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ وَتُفَكِّرُونَ فِي عَلَاقَتِهِ بِشُئُونِكُمْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ. أَقُولُ: وَقَدْ جَرَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ عَلَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ نَاظِرِينَ إِلَى وُقُوعِهِ بِكُمْ، وَاغْتِيَالِهِ لِإِخْوَانِكُمْ مُتَوَقِّعِينَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ تَذْكِيرٌ لِمَنِ انْهَزَمَ وَعَصَى مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رُسُوخٍ وَيَقِينٍ وَتَفْضِيلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلِقَاءِ اللهِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالزَّهْوِ، وَإِرْشَادٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ إِلَى أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُطَالِبُوهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ الْأَعْمَالُ مُصَدِّقَةً لِخَوَاطِرِ النَّفْسِ وَتَمَنِّيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ إِشَاعَةُ قَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَقَالَ:

144

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ إِلَخْ. تَقَدَّمَ أَنَّهُ أُشِيعَ عِنْدَمَا فَرَّقَ خَالِدٌ جَمْعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ قَمِيئَةَ الْحَارِثِيَّ لَمَّا رُمِيَ الرَّسُولُ بِالْحَجَرِ فَشَجَّ رَأْسَهُ وَكَسَرَ سِنَّهُ أَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَذَبَّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قُتِلَ فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. فَصَرَخَ بِهَا الصَّارِخُ حَتَّى سَمِعَهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَشَتْ فِي النَّاسِ، فَوَهَنَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَضَعُفُوا وَاسْتَكَانُوا مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ: لَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ أَمَانًا، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ، ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَإِلَى دِينِكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: " وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ - أَيِ الَّذِينَ فَرُّوا إِلَى الْجَبَلِ فَقَامُوا عَلَى صَخْرَةٍ مِنْهُ - لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، يَا قَوْمِ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ " وَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ مَا يَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُوقِنُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَأَبُو دُجَانَةَ الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ تُرْسًا دُونَهُ فَكَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ النَّبْلُ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّ تَوْبِيخَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الصَّادِقُونَ عَلَى دِينِهِ حَتَّى كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، أَقُولُ: وَلَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ كَوْنُ الْوَقْعَةِ كَانَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِضْعِ سِنِينَ - لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ - فَإِنَّ تَوْطِينَ نَفْسِ الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَإِعْدَادِهَا لَهُ لَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ أَوْ شُهُورٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ زَمَنٍ يَكْفِي لِتَعْمِيمِهِ فِيهَا وَصَيْرُورَتِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسَلَّمَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهَا حَتَّى لَا يَغِيبَ عَنِ الْأَذْهَانِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا قَدْ خَلَتْ وَمَضَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ فَمَاتُوا وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْخُلْدُ وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ سُنَّةُ

اللهِ بِالْمَوْتِ فَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ، إِذْ لَا بَقَاءَ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ لِغَيْرِهِ، أَفَإِنْ مَاتَ كَمَا مَاتَ مُوسَى وَعِيسَى، أَوْ قُتِلَ كَمَا قُتِلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى تَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، أَيْ تُوَلُّونَ الدُّبُرَ رَاجِعِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، يَهْدِيهِمُ اللهُ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ فَيَبْقَى لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ إِرْسَالِهِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا وَجَبَ فِي عَهْدِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَرَضِيَ عَنْهُ فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي زَاغَتْ فِيهَا الْأَبْصَارُ وَالْبَصَائِرُ، وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ حَتَّى بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَقَالَ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا قَالُوا، قَدْ قَالَ: " يَا قَوْمِ إِنْ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اللهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ " ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: " وَالِانْقِلَابُ عَلَى الْأَعْقَابِ: الْإِدْبَارُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الِارْتِدَادُ، وَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ وَالِانْكِشَافِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِسْلَامِهِ " وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَلِمَةَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ تُضْرَبُ لِمَنْ رَجَعَ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ، وَالِارْتِدَادُ عَنِ الْعَمَلِ كَالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِأَنْ يَنْصُرَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُعِزُّ دِينَهُ وَيَجْعَلُ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَهُوَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَا يَحُولُ دُونَ إِنْجَازِهِ ارْتِدَادُ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَإِنَّهُ يُثَبِّتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُمَحِّصُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا كَالتِّبْرِ الْخَالِصِ وَبِهِمْ يُقِيمُ دِينَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ لَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَبِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِهَا فِي حَيَاةِ رَسُولِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَوَاءٍ، يَأْتُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَا يَأْلُونَ جُهْدًا، وَلَا يُقَصِّرُونَ فِي شَيْءٍ عَمْدًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُمْ لِوَجْهِ الرَّسُولِ فَيَبْطُلُ إِذَا غَيَّبَهُ الْمَوْتُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِوَجْهِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ لَا يَمُوتُ وَلَا يَزُولُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِرْشَادٌ لَنَا إِلَى أَلَّا نَجْعَلَ الْمَصَائِبَ الشَّخْصِيَّةَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ مَنْ تُصِيبُهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ عَلَى حَقٍّ، فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ عَقْلًا وَالْوَاقِعِ فِعْلًا أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْمَصَائِبِ وَالرَّزَايَا، وَأَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْبَاطِلِ بِالنِّعَمِ وَالْعَطَايَا، كَمَا أَنَّ عَكْسَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَتُعَلِّمُنَا أَيْضًا أَلَّا نَعْتَمِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى وُجُودِ الْمُعَلِّمِ بِحَيْثُ نَتْرُكُهُمَا بَعْدَ ذَهَابِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا وَالتَّحَقُّقِ بِهِمَا وَالسَّيْرِ عَلَى مِنْهَاجِهِمَا فِي حَالِ

وُجُودِ الْمُعَلِّمِ وَبَعْدَهُ، فَكَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَضِيئُوا بِالنُّورِ وَتَتَقَلَّدُوا سَيْفَ الْبُرْهَانِ اللَّذَيْنِ جَاءَكُمْ بِهِمَا مُحَمَّدٌ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ جِسْمَهُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ أَلَمٍ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِ، وَلَا فِي إِضْعَافِ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِتَعْلِيقِ إِيمَانِكُمْ بِحَيَاتِهِ أَوْ سَلَامَةِ بَدَنِهِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، خَاضِعٌ لِسُنَنِ اللهِ كَخُضُوعِكُمْ. أَقُولُ: قَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (جِنْسِيَّةً لَا إِذْعَانًا وَمَعْرِفَةً) فَتَرَاهُمْ إِذَا سَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِي رَجُلٍ - كَأَنْ خَالَفَ تَقَالِيدَهُمْ أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْوَاءَهُمْ - يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ فَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُ حُبًّا لَهُمْ وَبُغْضًا فِيهِ! فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَّهَمًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُمْ وَوِلَايَتَهُمْ، قَالُوا إِنَّهُمْ قَدْ تَصَرَّفُوا فِيهِ! ! وَيَغْفُلُونَ عَمَّا أَصَابَ النَّبِيَّ فِي أُحُدٍ وَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، بَلْ يَعْمُونَ عَمَّا يُصِيبُ مُعْتَقَدِيهِمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فِي عَهْدِهِمْ. لَمَّا حُبِسَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي عَاقِبَةِ الثَّوْرَةِ الْعُرَابِيَّةِ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ: إِنَّهُ حُبِسَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عِلِيشٍ لِأَنَّهُ - أَيِ الشَّيْخِ عِلِيشٍ - كَانَ يَكْرَهُهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّيْخُ عِلِيشٍ مَحْبُوسًا أَيْضًا فَقَالَ: لِمَاذَا أَكُونُ حُبِسْتُ كَرَامَةً لَهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي حُبِسَ كَرَامَةً لِي ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ بِي الظَّنَّ وَقَالَ السُّوءَ لِتَصْدِيقِهِ فِيَّ الْوُشَاةَ النَّمَّامِينَ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ فِيهِ شَيْئًا؟ السَّبَبُ فِي حَبْسِ كُلٍّ مِنَّا وَاحِدٌ، فَلِمَاذَا كَانَ كَرَامَةً لِوَاحِدٍ وَانْتِقَامًا مِنَ الْآخَرِ؟ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الْآيَةِ وَالْحُكْمِ فِي سَبَبِهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ بِبَيَانِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ مَا نَصُّهُ: " ثُمَّ أَمَاطَ (أَيِ الْإِسْلَامُ) اللِّثَامَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي النِّعَمِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْأَشْخَاصُ أَوِ الْأُمَّةُ، وَالْمَصَائِبُ الَّتِي يُرْزَءُونَ بِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَصْلًا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلْخَلْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي يُمَتِّعُ اللهُ بِهَا بَعْضَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالرَّزَايَا الَّتِي يُرْزَأُ بِهَا فِي نَفْسِهِ فَكَثِيرٌ مِنْهَا كَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَنِينَ أَوِ الْفَقْرِ وَالضَّعَةِ وَالضَّعْفِ وَالْفَقْدِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ كَاسِبُهَا أَوْ جَالِبُهَا مَا عَلَيْهِ الشَّخْصُ فِي سِيرَتِهِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَعِوَجٍ أَوْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، كَثِيرًا مَا أَمْهَلَ اللهُ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْبُغَاةِ أَوِ الْفَجَرَةِ الْفَسَقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنْظَارًا لَهُمْ حَتَّى يَتَلَقَّاهُمْ مَا أَعَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَكَثِيرًا مَا امْتَحَنَ اللهُ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِحُكْمِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ عَبَّرُوا عَنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [2: 156] فَلَا غَضَبُ زَيْدٍ وَلَا رِضَا عَمْرٍو وَلَا إِخْلَاصُ سَرِيرَةٍ وَلَا فَسَادُ عَمَلٍ مِمَّا يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الرَّزَايَا، وَلَا فِي تِلْكَ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ، اللهُمَّ

145

إِلَّا فِيمَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ عَلَى جَارِي الْعَادَةِ كَارْتِبَاطِ الْفَقْرِ بِالْإِسْرَافِ، وَالذُّلِّ بِالْجُبْنِ وَضَيَاعِ السُّلْطَانِ بِالظُّلْمِ، وَكَارْتِبَاطِ الثَّرْوَةِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي الْأَغْلَبِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمْ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمٍ آخَرَ. " أَمَّا شَأْنُ الْأُمَمِ فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرُّوحَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ تَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَتَسْدِيدِ النَّظْرَةِ وَتَأْدِيبِ الْأَهْوَاءِ وَتَحْدِيدِ مَطَامِحِ الشَّهَوَاتِ، وَالدُّخُولِ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنْ بَابِهِ، وَطَلَبِ كُلِّ رَغِيبَةٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارِ الْأُخُوَّةِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّنَاصُحِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ - ذَلِكَ الرُّوحُ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَشْرِقِ سَعَادَتِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَلَنْ يَسْلُبَ اللهُ عَنْهَا نِعْمَتَهُ مَا دَامَ هَذَا الرُّوحُ فِيهَا، يَزِيدُ اللهُ النِّعَمَ بِقُوَّتِهِ، وَيُنْقِصُهَا بِضَعْفِهِ حَتَّى إِذَا فَارَقَهَا ذَهَبَتِ السَّعَادَةُ عَلَى أَثَرِهِ وَتَبِعَتْهُ الرَّاحَةُ إِلَى مَقَرِّهِ، وَغَيَّرَ اللهُ عِزَّةَ الْقَوْمِ بِالذِّلَّةِ، وَكُثْرَهُمْ بِالْقِلِّ، وَنَعِيمَهُمْ بِالشَّقَاءِ، وَرَاحَتَهُمْ بِالْعَنَاءِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمِينَ أَوِ الْعَادِلِينَ فَأَخَذَهُمْ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [17: 16] ، أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ فَفَسَقُوا عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُمُ الْأَنِينُ وَلَا يُجْدِيهِمُ الْبُكَاءُ، وَلَا يُفِيدُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ صُوَرِ الْأَعْمَالِ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُمُ الدُّعَاءُ، وَلَا كَاشِفَ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَلْجَئُوا إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْأَكْرَمِ فَيَسْتَنْزِلُوهُ مِنْ سَمَاءِ الرَّحْمَةِ بِرُسُلِ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [13: 11] سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [33: 62] وَمَا أَجَلَّ مَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي اسْتِسْقَائِهِ: " اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ " عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ جَرَى سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسْلِمُ يَرْفَعُ رُوحَهُ بِهَذِهِ الْعَقَائِدِ السَّامِيَةِ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِمَا يُتْبِعُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَلِيَّةِ كَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُزَلْزِلُ الْأَرْضَ بِدُعَائِهِ وَيَشُقُّ الْفُلْكَ بِبُكَائِهِ، وَهُوَ وَلِعٌ بِأَهْوَائِهِ مَاضٍ فِي غُلَوَائِهِ، وَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُ ظَنُّهُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا اهـ. أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِمْرَارُ الْحَرْبِ وَعَدَمَهُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقَائِدِ بِحَيْثُ إِذَا قُتِلَ يَنْهَزِمُ الْجَيْشُ أَوْ يَسْتَسْلِمُ لِلْأَعْدَاءِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ جَارِيَةً عَلَى نِظَامٍ ثَابِتٍ لَا يُزَلْزِلُهُ فَقْدُ الرُّؤَسَاءِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ نِظَامُ الْحُرُوبِ وَالْحُكُومَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ تَبَعًا لِرُؤَسَائِهِمْ يَحْيَوْنَ لِحَيَاتِهِمْ وَيُخْذَلُونَ بِمَوْتِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ وُجُودَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ بَعْدَ فَقْدِ الْقَائِدِ كَالْعَدَمِ. إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُقَدِّرُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ قَدْرِهَا تُعِدُّ لِكُلِّ عِلْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ تَقُومُ

مَصَالِحُهَا بِهِ رِجَالًا كَثِيرِينَ، فَلَا تَفْقِدُ مُعَلِّمًا وَلَا مُرْشِدًا وَلَا حَاكِمًا وَلَا قَائِدًا وَلَا رَئِيسًا وَلَا زَعِيمًا إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيُؤَدِّي لَهَا مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ، فَهِيَ لَا تَحْصُرُ الِاسْتِعْدَادَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَقْصُرُ الْقِيَامَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى نَابِغٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّابِغِينَ، وَلَا يَتَجَرَّأُ فِيهَا حَاكِمٌ وَلَا زَعِيمٌ عَلَى احْتِكَارِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ تَتَسَابَقُ فِيهَا الْهِمَمُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ، وَيَنَالَ مِنْهُ الْعَامِلُ بِقَدْرِ هِمَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَتَأْيِيدِ التَّوْفِيقِ لَهُ، فَأَيْنَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْيَوْمَ؟ . بَعْدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - قَاعِدَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى التَّحَقُّقِ بِالْعُلُومِ وَالنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ دُونَ الِاتِّكَالِ عَلَى أَفْرَادِ الرِّجَالِ - هَدَانَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ إِلَى قَاعِدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ لَوْمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِذْ بَلَغَهُمْ قَتْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمَا كَانَ قَتْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْدَهَشَ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِ كَأَنَّهُمْ بِسَبَبِ زِلْزَالِهِمْ وَزَعْزَعَةِ عَقَائِدِهِمْ قَدْ جَعَلُوا مَوْتَهُ جِنَايَةً مِنْهُ، فَأَذَاقَهُمْ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مَرَارَةَ خَطَئِهِمْ وَأَرَاهُمْ بِهَا قُبْحَ جَهْلِهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ - أَيْ لَا إِلَى نَفْسِهِ - فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَوْتُ يَقَعُ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ لَكَانَ الِانْقِلَابُ صَوَابًا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْتُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ سُلْطَانٌ يَقْهَرُهُ وَيُوقِعُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا بِالْكُرْهِ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لِزَلْزَلَةِ ثِقَتِكُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ حَيًّا بَاقِيًا عَلِيمًا حَكِيمًا. قَالَ: وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَادَامَ مَحْيَانَا وَمَمَاتُنَا بِيَدِ اللهِ فَلَا مَحَلَّ لِلْجُبْنِ وَالْخَوْفِ، وَلَا عُذْرَ فِي الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ، وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ يَمُوتُ وَلَا عَلَى حَقِّيَّتِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ تَمْثِيلًا، فَنَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي حَلِّهَا قَالَ: " الْمَعْنَى أَنَّ مَوْتَ الْأَنْفُسِ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ فِعْلٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لَهُ فِيهِ تَمْثِيلًا، وَلِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَفْسًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ. وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ خَاضَ الْمَهَالِكَ، وَاقْتَحَمَ الْمَعَارِكَ. (الثَّانِي) ذِكْرُ مَا صَنَعَ اللهُ بِرَسُولِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ لَهُ نُهْزَةً لِلْمُخْتَلِسِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ وَتَأْخِيرِ الْأَجَلِ " انْتَهَى قَوْلُ الْكَشَّافِ. وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: " فِي الْجُمْلَةِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا حَذَرًا

مِنْ قَتْلِهِمْ وَبِنَاءً عَلَى الْإِرْجَافِ بِقَتْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيَانِ أَنَّ مَوْتَ كُلِّ نَفْسٍ مَنُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللهِ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَسْبَابِ، أَيْ وَمَا كَانَ الْمَوْتُ حَاصِلًا لِنَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، وَسَوْقُ الْكَلَامِ مَسَاقَ التَّمْثِيلِ بِتَصْوِيرِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّفُوسِ بِصُورَةِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَسَنَّى لِلْفَاعِلِ إِيقَاعَهَا وَالْإِقْدَامَ عَلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِ تَعَالَى، أَوْ بِتَنْزِيلِ إِقْدَامِهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَبَادِيهِ وَسَعْيِهَا فِي إِيقَاعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى نَفْسِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ الْمَرَامِ; فَإِنَّ مَوْتَهَا حَيْثُ اسْتَحَالَ وُقُوعُهُ عِنْدَ إِقْدَامِهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَبَادِيهِ وَسَعْيَهَا فِي إِيقَاعِهِ فَلِأَنْ يَسْتَحِيلَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَفِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ مَا لَا يَخْفَى " اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ النَّفْيَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ لِلشَّأْنِ لَا لِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ مِثْلَ " مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ كَذَا " بِنَحْوِ قَوْلِهِ: مَا صَحَّ مِنْهُ وَمَا اسْتَقَامَ لَهُ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ الصَّحِيحِ الْمَعْهُودِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَلَكِنَّهُ (أَيْ صَاحِبَ الْكَشَّافِ) لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ وَاضِحَةٍ يَجْرِي عَلَيْهَا بِتَعْبِيرٍ يُؤَدِّي الْمَعْنَى بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَأَوْضَحُ مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ وَأَصَحُّهُ: أَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ هَذَا الْمَنْفِيِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَمَعْنَى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِيهَا أَنْ تَمُوتَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي يُجْرِي بِهَا نِظَامَ الْحَيَاةِ وَارْتِبَاطَ الْأَسْبَابِ فِيهَا بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَتُؤَكِّدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ فِي مِثْلِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كِتَابًا مُؤَجَّلًا فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ كَتَبَهُ اللهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا، أَيْ أَثْبَتَهُ مَقْرُونًا بِأَجَلٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَغَيَّرُ: وَمُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، فَالْمُؤَجَّلُ ذُو الْأَجَلِ، وَالْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ قَالَ - تَعَالَى -: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [6: 128] وَمِنْهُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ، أَيْ مُدَّةٌ يُؤَدَّى فِي نِهَايَتِهَا، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُقَيَّدَةِ، وَالْأَفْهَامِ الضَّيِّقَةِ، أَنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَحْدُودٍ فِي عِلْمِ اللهِ يُنَافِي كَوْنَهُ بِأَسْبَابٍ تَجْرِي عَلَى سُنَنِ اللهِ ; وَلَيْسَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَدْنَى شُبْهَةٍ مِنَ الْعَقْلِ فَيُرَدُّ بِالدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْوُجُودِ فَيُفَسَّرُ بِالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأَجَلِ أَظْهَرَ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَقْرُونًا بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَعَرَّضُونَ لِأَسْبَابِ الْمَنَايَا بِخَوْضِ غَمَرَاتِ الْحُرُوبِ وَالتَّعَرُّضِ لِعَدْوَى الْأَمْرَاضِ، وَالتَّصَدِّي لِأَفَاعِيلِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ قَدْ يَسْلَمُ فِي الْحَرْبِ الشُّجَاعُ الْمُقَدَّمُ، وَيُقْتَلُ الْجَبَانُ الْمُخَلَّفُ. وَيَفْتِكُ الْمَرَضُ بِالشَّابِّ الْقَوِيِّ، مِنْ حَيْثُ تَعْدُو عَدْوَاهُ الْغُلَامُ الْقَمِيءُ، وَتَغْتَالُ فَوَاعِلُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْكَهْلَ الْمُسْتَوِي، وَتَتَجَاوَزُ

عَنِ الشَّيْخِ الضَّعِيفِ، وَلِكُلِّ عُمْرٍ أَجَلٌ وَلِكُلِّ أَجَلٍ قَدَرٌ، وَالْأَقْدَارُ هِيَ السُّنَنُ الَّتِي بِهَا يَقُومُ النِّظَامُ، وَالْحِكَمُ فِيهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنْ خَفِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ. هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَإِنَّنَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ صَفْوَةَ مَا قَالُوهُ ثُمَّ نُبَيِّنُ الْقَاعِدَةَ. قَالُوا: إِنَّهَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الْغَنَائِمُ يَوْمَ أُحُدٍ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلُزُومِهِ. وَإِنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ حَظَّ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِهَا، وَمَنْ قَصَدَ الْآخِرَةَ أَعْطَاهُ اللهُ حَظًّا مِنْ ثَوَابِهَا. وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا فِي مَعْنَى حَدِيثٍ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى وَفِيهَا وَجْهَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِمَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [3: 137] فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ لِنَيْلِ ثَوَابِ الدُّنْيَا سُنَنًا وَلِنَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ سُنَنًا، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَنٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَصَلَ إِلَيْهَا ; فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدِ اسْتَظْهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فَلِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِعَمَلِهِمُ الدُّنْيَا وَأَخَذُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنْ حَيْثُ قَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. (والْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَقُولُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ ضَعُفُوا وَفَشِلُوا وَانْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ: مَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ بِعَمَلِكُمْ هَذَا؟ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَاللهُ لَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ، وَمَا عَلَيْكُمْ إِلَّا أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى خَيْرٍ تَرَوْنَ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْآخِرَةِ. فَالْمَسْأَلَةُ مَعَكُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَإِرَادَةِ الْآخِرَةِ، كُلٌّ يُرِيدُ أَمْرًا وَلِكُلِّ أَمْرٍ سُنَنٌ تُتَّبَعُ، وَلِكُلِّ دَارٍ طَرِيقٌ تُسْلَكُ. أَقُولُ: وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي مِمَّا أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ [42: 20] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْبَحْثِ نَظِيرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [2: 200] إِلَخْ. وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ عَمَلَهَا فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَأَنَّ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْمَرْءُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ وَيَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ وَيُرِيدُ بِحَسَبِ سَعَةِ مَعْرِفَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِهِ، وَلَهُ مَا يُرِيدُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ لِنِظَامِ هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ تَفْصِيلٌ وَتَقْيِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

قَالَ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17: 18 - 21] ، وَلَا تُنْسِيَنَّ التَّقَالِيدَ الشَّائِعَةَ قَارِئُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ سُنَنِ اللهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا فِي كِتَابِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّ عَطَاءَهُ - تَعَالَى - وَتَفْضِيلَهُ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ يَكُونُ جُزَافًا، بَلِ الْإِرَادَةُ تُجْرَى عَلَى السُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13: 8] وَلِإِرَادَةِ الْإِنْسَانِ دَخْلٌ فِي تِلْكَ السُّنَنِ وَالْمَقَادِيرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ وَمَنْ أَرَادَ فَاعْرِفْ قِيمَةَ إِرَادَتِكَ وَاعْرِفْ قَبْلَ ذَلِكَ قِيمَةَ نَفْسِكَ، فَلَا تَجْعَلْهَا كَنُفُوسِ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ زَمَنًا مَحْدُودًا، ثُمَّ تَفْنَى كَأَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ لِلْبَقَاءِ وَلَكَ فِي الْوُجُودِ طَوْرَانِ: طَوْرٌ عَاجِلٌ قَصِيرٌ وَهُوَ طَوْرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَطَوْرٌ آجِلٌ أَبَدِيٌّ وَهُوَ طَوْرُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَسَعَادَتُكَ فِي كُلٍّ مِنَ الطَّوْرَيْنِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِكَ وَمَا تَوَجُّهُكَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَيَاتِكَ، فَأَعْمَالُ النَّاسِ مُتَشَابِهَةٌ، وَمَشَقَّتُهُمْ فِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً عِلَّةً وَتَارَةً مَعْلُولًا لِطَهَارَةِ الرُّوحِ وَعُلُوِّ النَّفْسِ وَسُمُوِّ الْعَقْلِ وَرِقَّةِ الْوِجْدَانِ، وَهِيَ هِيَ الْمَزَايَا الَّتِي يُفَضَّلُ بِهَا إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ. يُحَارِبُ قَوْمٌ حُبًّا فِي الرِّبْحِ وَالْكَسْبَ، أَوْ ضَرَاوَةً بِالْقَتْلِ وَالْفَتْكِ ; فَإِذَا غَلَبُوا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيُحَارِبُ آخَرُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةً لِقَوَانِينِ الْعَدْلِ، فَإِذَا غَلَبُوا عَمَّرُوا الْأَرْضَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَهَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ، إِذَا اسْتَوَى فِي الْبِدَايَةِ الْعَمَلَانِ! وَهُمَا فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ مُتَبَايِنَانِ؟ يَكْسِبُ الرَّجُلُ طَلَبًا لِللَّذَّاتِ، وَحُبًّا فِي الشَّهَوَاتِ، فَيَغْلُو فِي الطَّمَعِ، وَيُوغِلُ فِي الْحِيَلِ، وَيَأْكُلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، حَتَّى يَجْمَعَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ، فَإِذَا هُوَ يَمْنَعُ الْمَاعُونَ، وَيَدَعُ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَلَهُوَ إِذَا سُئِلَ الْبَذْلَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَشَدُّ بُخْلًا، وَأَكَزُّ يَدًا وَأَقْبَضُ كَفًّا، وَيَكْسِبُ الرَّجُلُ طَلَبًا لِلتَّجَمُّلِ فِي مَعِيشَتِهِ وَحُبًّا لِلْكَرَامَةِ فِي قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَيُجْمِلُ فِي الطَّلَبِ، وَيَتَحَرَّى الْحَلَالَ مِنَ الرِّبْحِ، وَيَلْتَزِمُ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، وَيَتَوَقَّى الْغِشَّ وَالْخِيَانَةَ، ثُمَّ هُوَ يُنْفِقُ مِنْ سَعَتِهِ فَيُوَاسِي الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. وَيُعِينُ الْعَاجِزَ وَالضَّعِيفَ، وَتَكُونُ لَهُ الْيَدُ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمَعَابِدِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَلَاجِئِ، فَهَلْ يَسْتَوِي الرَّجُلَانِ وَهُمَا فِي الثَّرْوَةِ سِيَّانَ؟ وَفِي ظَاهِرَةِ الْعَمَلِ مُتَشَابِهَانِ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحُسْنِ الْإِرَادَةِ؟

الْإِرَادَةُ تُصَغِّرُ الْكَبِيرَ وَتُكَبِّرُ الصَّغِيرَ. وَتَرْفَعُ الْوَضِيعَ وَتَضَعُ الرَّفِيعَ، وَبِهَا تَتَّسِعُ دَائِرَةُ وُجُودِ الشَّخْصِ حَتَّى تُحِيطَ بِكُرَةِ الْأَرْضِ، بَلْ تَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَتَبَوَّأُ مِنْ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ فِي عَالَمِ الْمَعْقُولِ وَالْأَرْوَاحِ، وَإِذَا كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ دَارَ الْبَقَاءِ فَإِنَّ وَجُودَهُ يَكُونُ كَبِيرًا بِحَسَبِ كِبَرِ إِرَادَتِهِ وَوَاسِعًا بِسَعَةِ مَقْصِدِهِ ; وَبِذَلِكَ تَعْلُو نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ مَنْ أَخْلَدُوا إِلَى الشَّهَوَاتِ وَكَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ عِلْمِهِمْ كَحَظِّ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَسِفَادٌ وَبَغْيٌ مِنَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ. قِسْ عَلَى هَذَا وُجُودُ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْقُرْبَ مِنَ اللهِ وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّحَقُّقَ بِتَجَلِّيَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الْقُرْبَ مِنَ الْوَاسِعِ الْعَلِيمِ، الْخَلَّاقَ الْحَكِيمِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسَعَةِ الْقَلْبِ، وَبَسْطَةِ الْعِلْمِ، وَإِقَامَةِ النِّظَامِ وَالْحِكْمَةِ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ وَبَسْطِ بِسَاطِ الرَّحْمَةِ، أَلَّا تَرَاهُ يَكُونُ أَشْرَفَ وُجُودٍ بَشَرِيٍّ وَأَعْلَاهُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ وَسُنَنِ اللهِ؟ لَسْتُ بِهَذَا الرَّمْزِ إِلَى مَكَانَةِ إِرَادَةِ الْبِرِّ مِنْ تَصْرِيفِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى سَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَائِهِمْ بِخَارِجٍ عَنْ مَوْضُوعِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَإِنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ قَدْ جَعَلَ عَطَاءَهُ لِلنَّاسِ مُعَلَّقًا عَلَى إِرَادَتِهِمْ وَلَا يُقَدِّرُ هَذَا حَقَّ قَدْرِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّذْكِيرِ بَلْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. إِذَا فَقِهْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أَيِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يُعَرِّجُ بِهِمْ إِلَى مُسْتَوَى الْكَمَالِ، فَتَكُونُ أَعْمَالُهُمْ صَالِحَةً رَافِعَةً لِنُفُوسِهِمْ وَنَافِعَةً لِغَيْرِهِمْ. وَأَبْهَمَ هَذَا الْجَزَاءَ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي جَاهَدُوا وَصَبَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِمْ قُوَّةَ إِرَادَاتِهِمْ، فَكَانُوا السَّبَبَ فِي انْجِلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ الْوَصْفُ تَنْوِيهًا بِهِمْ وَوَعْدًا لَهُمْ بِالْجَزَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُنَبِّهِ لَهُمْ إِلَى اسْتِعْدَادِهِمْ ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي غَيْرِهِمْ كَمَا ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِتَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (كَأَيِّنْ) بِمَعْنَى " كَمْ " الْخَبَرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَثِيرٌ، وَفِيهَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَشْهُورَتَانِ " كَائِنٌ " بِوَزْنِ فَاعِلٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَ " كَأَيِّنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - الَّتِي قَالُوا: إِنَّ أَصْلَهَا التَّنْوِينُ أُثْبِتَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخَاصَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقَالُوا: إِنَّ أَصْلَهَا " أَيِّ " الِاسْتِفْهَامِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَصَارَتْ كَلِمَةً مُسْتَقِلَّةً لَا مَعْنَى فِيهَا لِلتَّشْبِيهِ وَلَا لِلِاسْتِفْهَامِ.

146

وَالرِّبِّيُّونَ قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُمُ الرَّبَّانِيُّونَ " وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، فَالْفَتْحُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّبَّانِيِّينَ فِي آيَةِ 79 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ نِسْبَةً إِلَى الرَّبِّ، وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِيهَا كَزِيَادَتِهَا فِي جُسْمَانِيٍّ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْكَشَّافِ " مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ " مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُغَيِّرُ الِاسْمَ الْمَنْسُوبَ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ بِصْرِيٌّ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَإِلَى الدَّهْرِ دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ. وَقَالَ الْفَرَاءُ: الرِّبِّيُّونَ الْأَوَّلُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ وَأَحَدُهَا رِبِّيٌّ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُهُ مِنَ الرِّبَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْأَئِمَّةُ وَالْوُلَاةُ، وَالرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الرَّبِّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: ضَرْبٌ مِنَ الْخُضُوعِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُكُونِ الْإِنْسَانِ لِخَصْمِهِ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا يُرِيدُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ خَلَوْا قَدْ قَاتَلَ مَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى فِي وِجْهَةِ قُلُوبِهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ، الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ هُدَاةٌ وَمُعَلِّمُونَ لَا أَرْبَابٌ مَعْبُودُونَ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مَا ضَعُفَ مَجْمُوعُهُمْ بِمَا أَصَابَ بَعْضَهُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَبَعْضَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ هُوَ النَّبِيَّ نَفْسَهُ ; لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا فِي سَبِيلِ شَخْصِ نَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنْ نَبِيِّهِمْ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَبِّهِمْ وَبَيَانُهُ لِهِدَايَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [18: 56] وَمَا ضَعُفُوا عَنْ جِهَادِهِمْ وَلَا اسْتَكَانُوا وَلَا وَلَّوْا بِالِانْقِلَابِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ ثَبَتُوا بَعْدَ قَتْلِ نَبِيِّهِمْ كَمَا ثَبَتُوا مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الثَّبَاتِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَاهَا اللهُ كَحِفْظِ الْحَقِّ وَحِمَايَتِهِ وَتَقْرِيرِ الْعَدْلِ وَإِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " قُتِلَ مَعَهُ " ; وَلِذَلِكَ رُسِمَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلْفٍ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيِ اسْتُشْهِدُوا فِي الْقِتَالِ مَعَهُ أَوْ قُتِلُوا كَمَا قُتِلَ هُوَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَهُوَ نَفْيٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَا سِيَّمَا فِي النَّبِيِّينَ غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ ذَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالرُّسُلِ عِلْمًا وَاللهُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [4: 164] وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلُ قَتَادَةَ: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا عَجَزُوا وَمَا تَضَعْضَعُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا أَيْ مَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَلَا عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمَا وَهَنُوا لِقَتْلِ النَّبِيِّ وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنِ اللهِ لِلنَّاسِ وَعَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبِّ اللهِ لِلنَّاسِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَمْثَالَهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ، وَسُنَّتَهُ

147

فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ ; وَلِذَلِكَ هُدِيتُمْ إِلَى السُّنَنِ وَأُمِرْتُمْ بِمَعْرِفَةِ عَاقِبَةِ مَنْ سَبَقَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَاقْتَدُوا بِعَمَلِ الصَّادِقِينَ الصَّابِرِينَ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِ أُولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي اعْتَصَمُوا فِيهَا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ إِلَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُنْبِئُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَصِدْقِ إِرَادَتِهِمْ، وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ السُّنَنِ، أَوِ الْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّدَتْهُ الشَّرَائِعُ، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا بِالْغُلُوِّ فِيهِ، وَتَجَاوُزِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَنُ لَهُ وَثِبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَيْتَنَا إِلَيْهِ حَتَّى لَا تُزَحْزِحَنَا عَنْهُ الْفِتَنُ، وَفِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ، حَتَّى لَا يَعْرُونَا الْفَشَلُ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، الْمُعْتَدِينَ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ، فَلَا يَشْكُرُونَ لَكَ نِعَمَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ، فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِكَ، تُؤْتِيهِ مَنْ تَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْإِسْرَافَ فِي الْأُمُورِ مِنْ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ وَالْخِذْلَانِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالثَّبَاتَ وَالِاسْتِقَامَةَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ ; وَلِذَلِكَ سَأَلُوا اللهَ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِهِمْ أَثَرَ كُلِّ ذَنْبٍ وَإِسْرَافٍ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى دَوَامِ الثَّبَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِمَّا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ الْمُجَاهِدَ قُوَّةً وَعَزِيمَةً وَمُصَابَرَةً لِلشَّدَائِدِ ; وَلِذَلِكَ يَعْتَرِفُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ صَبْرًا وَثَبَاتًا فِي الْقِتَالِ مِنَ الْجَاحِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ [2: 250] الْآيَةَ. فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِزَّةِ، وَحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ وَشَرَفِ الذِّكْرِ وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِنَيْلِ رِضْوَانِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَالنَّعِيمِ بِدَارِ كَرَامَتِهِ، وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ - أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [32: 17] وَمَا آتَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُسْنِ إِرَادَتِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ حُسْنِ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، إِذَا أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَبَّوُا الْمَقَاصِدَ بِأَسْبَابِهَا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ حِكْمَتَهُ، فَيَكُونُ عَمَلُهُمْ لِلَّهِ بِاللهِ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا " أَيْ إِنَّ مَشَاعِرَهُ وَأَعْمَالَهُ لَا تَكُونُ مَشْغُولَةً إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللهَ وَيُقِيمُ سُنَنَهُ وَيُظْهِرُ حِكَمَهُ فِي خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَحُسْنِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِعَمَلِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ عَلَى حُسْنِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا (ص138) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَىُ الْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ، وَخَصَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ لِلْإِيذَانِ بِفَضْلِهِ وَمَزِيَّتِهِ وَأَنَّهُ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَذَا قَالُوا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ثَوَابُ هَؤُلَاءِ حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنْ ذِكْرُ الْحُسْنِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ مَزِيدٌ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ ثَوَابٌ لَا يَشُوبُهُ أَذًى،؟ فَلَيْسَ مِثْلَ ثَوَابِ الدُّنْيَا عُرْضَةً لِلشَّوَائِبِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى مَا أَثْبَتَتْهُ الْآيَةُ بِمِثْلِ وَقْعَتَيِ الرَّجِيعِ وَبِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ قُتِلُوا هُنَالِكَ لَمْ يُؤْتَوْا ثَوَابَ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ إِيثَارَ ثَوَابِ الدُّنْيَا مَشْرُوطٌ بِاتِّبَاعِ السُّنَنِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي وَقْعَةِ الرَّجِيعِ

149

قَدِ اخْتَلَفُوا فِي النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ، وَفِي وَقْعَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ قَدْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ إِذْ أَمِنُوا لِمَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَنَ لَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءَ التَّقْصِيرِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا حَذِرِينَ مُحْتَاطِينَ غَيْرَ مُقَصِّرِينَ وَلَا مُسْرِفِينَ. وَقَدْ صُرِّحَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ تَأْدِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ مَا فَرَّطَ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ فِي الضُّحَى أَوْ أَشَدُّ ظُهُورًا. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُنَافِقِينَ - الَّذِينَ وَبَّخَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنِ انْهَزَمُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا - إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَدِينِكُمْ وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا عَامٌّ وُجِّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِتَكَافُلِهِمْ، وَكُلٌّ يَعْتَبِرُ بِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ الْخِطَابِ وَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ، مَعَ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى مُرِيدٍ لِلدُّنْيَا وَمُرِيدٍ لِلْآخِرَةِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا مَعْنَاهُ إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْخَيْرِ كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ دَعَاكُمْ مَرْضَى الْقُلُوبِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيطِ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَئِيسِهِمْ (أَبِي سُفْيَانَ) لِيَطْلُبَ لَكُمْ مِنْهُ الْأَمَانَ، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَآمَنُوا بِأَفْوَاهِهِمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَذَلُوكُمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَرْبِ، ثُمَّ دَعَوْكُمْ بَعْدَهَا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى دِينِكُمْ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ابْتِدَاءً أَوِ اسْتِدْرَاجًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ

إِنْ طَلَبْتُمُ الْأَمَانَ مِنْهُمْ وَكَانَتْ حَالُكُمْ مَعَهُمْ حَالَ الْمَغْلُوبِ مَعَ الْغَالِبِ يَتَوَلَّوْا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا مَعَهُمْ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُخْضِعُوكُمْ لِسُلْطَانِهِمْ وَامْتِهَانِكُمْ بَيْنَهُمْ وَحِرْمَانِكُمْ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنِ اسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِالسِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ، وَمِنْ تَمْكِينِ دِينِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، أَمَّا الْآخَرُ فِيمَا يَمَسُّكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ الْمُرْتَدِّينَ مَعَ الْحِرْمَانِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الْمُتَّقِينَ. وَذِكْرُ بَعْضِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، وَقَدْ تَبِعُوا فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَحِزْبُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى الِارْتِدَادِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَكِّرُوا فِي وِلَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَحِزْبِهِ، وَلَا عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَشِيعَتِهِ، وَلَا أَنْ تُصْغُوا لِإِغْوَاءِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الْمَوْلَى الْقَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ إِذَا هُوَ تَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [8: 40] وَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَيَخْذُلُ مَنْ يُنَاوِئُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47: 10، 11] وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابَهُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا: " لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ " إِذْ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُجَابَ اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ هَذَا الْمُنْبِئِ عَنْ سُنَّتِهِ، وَبِتَذْكِيرِ الرَّسُولِ لَهُمْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَنَصْرِ الْحَقِّ فَهَلْ تَحْتَاجُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ؟ فَإِنَّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ النَّاصِرِ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُوَى وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُمُ الْقُوَى وَسَخَّرَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُوَ الْقَادِرُ بِذَاتِهِ عَلَى نَصْرِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِإِيتَائِهِمْ أَفْضَلَ مَا يُؤْتِي غَيْرَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالْعَزِيمَةِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَإِقَامَةِ السُّنَنِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْأَسْبَابِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا. وَيَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْمُ التَّفْضِيلِ (خَيْرُ) فِيهَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي أُولَئِكَ النَّاصِرِينَ الَّذِينَ يُعَرِّضُ بِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَإِنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ

151

بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّصْرِ، يَعْنِي أَنَّ نَصْرَ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ نَصْرِ الْكَافِرِينَ لِمَنْ يَنْصُرُونَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الْمُتَبَادِرُ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ تَعْلِيلٌ أَوْ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِهِ - تَعَالَى - خَيْرُ النَّاصِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، مُبَيِّنَةٌ لِبَعْضِ وُجُوهِهِ تَبْيِينًا يُقَبِّحُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَيَزِيدُهُمْ حُبًّا فِي الْإِيمَانِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ سَيُحَكِّمُ فِي أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ سُنَّتَهُ الْعَادِلَةَ، وَهِيَ أَنَّهُ يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَبِسُكُونِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ شِدَّةُ الْخَوْفِ الَّتِي تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللهِ أَصْنَامًا وَمَعْبُودَاتٍ لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا سُلْطَانًا، أَيْ لَمْ يُقِمْ بُرْهَانًا مِنَ الْعَقْلِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنْ أُلُوهِيَّتِهَا وَكَوْنِهَا وَاسِطَةً بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا فِي اتِّخَاذِهَا وَاعْتِقَادِهَا آبَاءَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ فِي دِينِهِ، وَلَا مُتَّبِعٍ لِلدَّلِيلِ فِي اعْتِقَادِهِ فَهُوَ دَائِمًا عُرْضَةٌ لِاضْطِرَابِ الْقَلْبِ وَاتِّبَاعٍ خَطَرَاتِ الْوَهْمِ، يَعُدُّ الْوَسْوَاسَ أَسْبَابًا وَيَرَى الْهَوَاجِسَ مُؤَثِّرَاتٍ وَعِلَلًا قِيَاسًا عَلَى اتِّخَاذِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْلِيَاءَ وَجَعْلِهِمْ وَسَائِطَ عِنْدَ اللهِ وَشُفَعَاءَ، وَاعْتِيَادِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَرْجُوَ مَا لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ، وَيَخَافُ مَا لَا يُخَافُ مِنْهُ ضَيْرٌ، فَالْإِشْرَاكُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِوُقُوعِ الرُّعْبِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُسْنِدُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا لِيَكُونَ بُرْهَانًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَسُوءِ أَثَرِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَعِيدَ فِيهَا عَامًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْكُفْرِ يُثِيرُ الرُّعْبَ بِطَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ طَبِيعَةُ الشِّرْكِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا وَرَاءَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ. وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: سَنُلْقِي وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْجَزَهُ اللهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَوَّلِ الْحَرْبِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَقْدِيرٍ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا عَقِبَ الْقِتَالِ وَانْصِرَافِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْوَعْدَ أُنْجِزَ فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، إِذْ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ أَنْ يَرْجِعُوا لِاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَوْقَعَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ مَعْبَدٌ مَا قَالَ (رَاجِعْ ص88 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَشَمَلَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ - وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ فِيهَا مَرْعُوبِينَ، بَلْ كَانُوا مُسْتَمِيتِينَ وَكَذَلِكَ نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَافِرِينَ قَدْ حَارَبُوا وَلَمْ يُصِبْهُمُ الرُّعْبُ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

(والْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ عَامَّةٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَبَيَانُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ " الْمُؤْمِنِينَ " وَلَفْظِ " الْكَافِرِينَ " وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَمَّا أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي مَرْتَبَةٍ مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ قَدْ صَدَّقَهَا الْعَمَلُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بَذْلُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ، الَّذِينَ عَاتَبَهُمُ اللهُ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْهَفْوَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ فَهُمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ، وَأُقِيمَ لَهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَجَحَدُوا وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا الْحَقَّ، وَآثَرُوا مُقَارَعَةَ الدَّاعِي وَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ بِالسَّيْفِ، وَقَعَدُوا لَهُ وَلَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِذَا نَظَرْنَا فِي شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، وَفِي حَالِهِمْ مَعَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ نَجِدُ أَنَّ شَأْنَهُمْ مَعَهُمْ كَشَأْنِ مَنْ يَرَى نُورَ الْحَقِّ مَعَ خَصْمِهِ فَيَحْمِلُهُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ عَلَى مُجَاحَدَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ، يَرْتَابُ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَيَتَزَلْزَلُ، فَإِذَا شَاهَدَ الَّذِينَ دَعَوْهُ ثَابِتِينَ مُطْمَئِنِّينَ يَعْظُمُ ارْتِيَابُهُ وَيَهَابُ خَصْمَهُ حَتَّى يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْهُمْ. هَذَا هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ الطَّبِيعَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذَا قَاوَمُوا الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَلَا تُبَالُوا بِقَوْلِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ. قَالَ: بِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا بَالُنَا نَجِدُ الرُّعْبَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ قَدْ يَكُونُونَ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا الْوَعْدِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ وَالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا رُعْبُ الْمُشْرِكِينَ مُرْتَبِطٌ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْآثَارِ، فَحَالُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْحَقِّ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، فَالْقُرْآنُ بَاقٍ عَلَى وَعْدِهِ؟ ، وَلَكِنْ هَاتِ لَنَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَنْطِقُ إِيمَانُهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَلَكَ مِنْ إِنْجَازِ وَعْدِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَشَاءُ. وَتَلَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [24: 55] الْآيَةَ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِشْرَاكُ سَبَبًا لِلرُّعْبِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ كَالشُّرْبِ لِلرِّيِّ وَالْأَكْلِ لِلشِّبَعِ، فَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْحَقُّ تَزَلْزَلَّ الْبَاطِلُ فِي نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ. أَقُولُ: وَمِنْ تَمَامِ التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا يَقَعُ فِيهَا الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، كَالْوَقَائِعِ الَّتِي يُشْرَبُ فِيهَا الْمَرْءُ وَلَا يَرْوَى لِعَارِضٍ مَرَضِيٍّ، فَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ كَسُنَنِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا عَوَارِضُ وَشُرُوطٌ وَمَوَانِعُ.

وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ أَيْ هِيَ مَكَانُهُمِ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ فِي الدُّنْيَا وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أَيْ وَالنَّارُ الَّتِي يَأْوُونَ إِلَيْهَا بِئْسَ الْمَثْوَى وَالْمَقَامِ لَهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ وَمُعَانَدَةِ الْحَقِّ وَمُقَاوَمَةِ أَهْلِهِ، وَظُلْمِ النَّاسِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

152

رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لِمَا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ - وَقَدْ أُصِيبُوا بِمَا أُصِيبُوا يَوْمَ أُحُدٍ - قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ النَّصْرَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ الْآيَةَ. وَنَقُولُ: نَعَمْ إِنَّ النَّاسَ قَالُوا ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [3: 165] وَسَيَأْتِي. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَمَا قِيلَ فِيهَا. الْوَعْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَعْدُ النَّبِيِّ لَهُمْ عِنْدَ تَعْبِئَتِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا بَرَزَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ فَإِنَّا لَنْ نَزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ يُعَجِّلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ وَيُعَجِّلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُعَجِّلُهُ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُعَجِّلَكَ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ وَالرَّحِمَ يَا ابْنَ عَمٍّ. فَتَرَكَهُ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وَحَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ - حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ، فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ تَنَادَوْا فَشَدُّوا

عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ " اهـ. أَيْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُفَصَّلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا رِوَايَةَ السُّدِّيِّ بِطُولِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلرُّمَاةِ: فَإِنَّا لَا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الرُّمَاةَ لَمْ يَعْصُوا كُلُّهُمْ وَإِنَّمَا أُولَئِكَ بَعْضُ عَامَّتِهِمْ، وَأَمَّا الْخَاصَّةُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ الْعَارِفُونَ بِالْوَاجِبِ فَقَدْ ثَبَتُوا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِوَعْدِ اللهِ هُنَا مَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ مَا قَالَ لِلرُّمَاةِ عَمَلًا بِالْقُرْآنِ وَتَأْوِيلًا لَهُ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - قَرَنَ الْوَعْدَ فِيهِ بِشُرُوطٍ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَالثَّبَاتِ. فَمُلَخَّصُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ هَكَذَا وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ بِالنَّصْرِ حَتَّى فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أَيِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ تَقْتُلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - أَيْ بِعِنَايَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ضَعُفْتُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، فَلَمْ تَقْوَوْا عَلَى حَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ فَقَالَ بَعْضُكُمْ مَا بَقَاؤُنَا هُنَا وَقَدِ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ؟ ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا نُخَالِفُ أَمْرَ الرَّسُولِ وَعَصَيْتُمْ رَسُولَكُمْ وَقَائِدَكُمْ بِتَرْكِ أَكْثَرِ الرُّمَاةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ يَحْمُونَ ظُهُورَكُمْ بِنَضْحِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبْلِ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَصَبَرْتُمْ عَلَى الضَّرَّاءِ وَلَمْ تَصْبِرُوا فِي السَّرَّاءِ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا كَالَّذِينَ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ وَذَهَبُوا وَرَاءَ الْغَنِيمَةِ لِيُصِيبُوا مِنْهَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ كَالَّذِينَ ثَبَتُوا مِنَ الرُّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُمْ نَحْوُ عَشَرَةٍ وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَيْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ وَنَصَرَكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَكَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا النَّصْرُ إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ، فَعِنْدَمَا وَصَلْتُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ تَعُودُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ الْعِنَايَةِ لِمُخَالَفَتِكُمْ لِسُنَّتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ أَهْلَ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ ; فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حَتَّى لِلْغَايَةِ وَإِذَا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْحِينِ وَالْوَقْتِ. هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:أَنَّهَا لِلشَّرْطِ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ " مَنَعَكُمْ نَصْرَهُ " أَوْ نَحْوَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي حَذْفِ الْجَوَابِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هِيَ أَنْ تَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا حَيْثُ يُنْتَظَرُ الْجَوَابُ بِكُلِّ شَغَفٍ وَلَهَفٍ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ: امْتَحَنَكُمْ بِالْإِدَالَةِ مِنْكُمْ لِيُمَحِّصَكُمْ وَيُمَيِّزُ الْمُخْلِصِينَ وَالصَّادِقِينَ مِنْكُمْ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَأَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ " إِذَا " وَلَكِنَّ اقْتِرَانَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِثُمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ بِإِذْنِهِ وَمَعُونَتِهِ قَتْلَ حَسٍّ وَاسْتِئْصَالٍ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بِفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ، وَحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمَامِ النَّصْرِ

لِيَمْتَحِنَكُمْ بِذَلِكَ، أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَمْتَحِنُ وَيَخْتَبِرُ، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ يُمَحِّصُكُمْ بِهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُزِيلُ بَيْنَ الْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - صَرْفَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نَفْسِهِ هُنَا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ الْحَمِيدَةِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمُ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلنَّصْرِ الْكَامِلِ وَالظَّفَرِ الشَّامِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَضَافَ مَا أَصَابَهُمْ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي السِّيَاقِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [3: 165] ، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَالْعِصْيَانِ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ إِسْنَادَ الصَّرْفِ إِلَيْهِ هُنَا مُشْكِلًا لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ تَكَلَّفَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي تَخْرِيجِهِ تَكَلُّفًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، إِذْ لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَكِنَّ الْمَذَاهِبَ وَالِاصْطِلَاحَاتِ هِيَ الَّتِي تُوَلِّدُ لِأَصْحَابِهَا الْمُشْكِلَاتِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ بِذَلِكَ التَّمْحِيصِ الَّذِي مَحَا أَثَرَ الذَّنْبِ مِنْ نُفُوسِكُمْ فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمْ لَمْ تَفْشَلُوا وَلَمْ تَتَنَازَعُوا وَلَمْ تَعْصُوا وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعَفْوِ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَمَا يَأْتِي وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَذَرُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ يُلِمُّ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَهْبِطُ بِنُفُوسِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَبْتَلِيَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُمَحِّصَ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَيَكُونُوا مِنَ الْمُخْلِصِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ أَيْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَصْعَدْتُمْ فِيهِ، أَيْ ذَهَبْتُمْ وَأَبْعَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُنْهَزِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ الصُّعُودِ الَّذِي هُوَ الذَّهَابُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ كَالْجِبَالِ وَلَا تَلْوُونَ أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ بِنَجْدَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ، وَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى مَنْ وَرَاءَكُمْ لِشِدَّةِ الدَّهْشَةِ الَّتِي عَرَتْكُمْ وَالذُّعْرِ الَّذِي فَاجَأَكُمْ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَالرَّسُولُ مِنْ وَرَائِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ فِيمَنْ تَأَخَّرَ مَعَهُ مِنْكُمْ فَكَانُوا سَاقَةَ الْجَيْشِ - رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دَعْوَتِهِ: إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأَنْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تَنْظُرُونَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي الرَّسُولِ فَتَقْتَدُوا بِهِ فِي صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لَمْ يَفْعَلْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أَيْ فَجَازَاكُمُ اللهُ غَمًّا بِسَبَبِ الْغَمِّ الَّذِي أَصَابَ الرَّسُولَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَهَزِيمَتِكُمْ أَوْ غَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ، فَنَالَ الْعَدُوُّ مِنْكُمْ وَنِلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ صِرْتُمْ مِنَ الدَّهْشَةِ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَفَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ الَّتِي طَمِعْتُمْ فِيهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَمُّ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يُفَاجِئُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ زَمَنًا، أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْغَمَّ أَلَمٌ أَوْ ضِيقٌ فِي الصَّدْرِ يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَسُوؤُكَ وَإِنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ حَقِيقَتَهُ أَوْ سَبَبَهُ، أَوْ لَا تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ، يَقُولُونَ: غَمَّ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ، وَغُمَّ عَلَيْهِمُ الْهِلَالُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يُرَ، وَرَجُلٌ أَغَمُّ الْوَجْهِ: كَثِيرُ شِعْرِهِ. . وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [10: 71]

153

وَفِي الْأَسَاسِ " وَإِنَّهُ لَفِي غُمَّةٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ " لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ أَيْ لِأَجْلِ أَلَّا تَحْزَنُوا بَعْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ قَرْحٍ وَمُصِيبَةٍ فَإِنَّ التَّرْبِيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالتَّمَرُّنِ الَّذِي بِهِ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ وَتَرْسَخُ الْأَخْلَاقُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فَأَثَابَكُمْ لِلرَّسُولِ أَيْ فَآسَاكُمْ فِي الِاغْتِمَامِ وَكَمَا غَمَّكُمْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ كَسْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالشَّجَّةِ وَغَيْرِهِمَا غَمَّهُ مَا نَزَلَ بِكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا اغْتَمَّهُ لِأَجْلِكُمْ بِسَبَبِ غَمٍّ اغْتَمَمْتُمُوهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يُثَرِّبْكُمْ عَلَى عِصْيَانِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُسَلِّيَكُمْ وَيُنَفِّسَ عَنْكُمْ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ. اهـ. وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَأَسْبَابِهِ وَلَا مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ وَعَاقِبَتِهِ فِيكُمْ، وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ تِلَاوَتِهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ، عَالِمٌ بِنَبِيِّهِ وَخَوَاطِرِهِ فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا ازْدَادَ نَشَاطًا خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي التَّقْصِيرِ وَأَنْ يَرَاهُ اللهُ حَيْثُ لَا يَرْضَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ فَلَا تَعْتَذِرُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَلَا تُخَادِعُوهَا، فَإِنَّ الْخَبِيرَ بِأَعْمَالِكُمُ الْمُحِيطَ بِنُفُوسِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ خَافِيَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ لَا عَلَى أَعْذَارِكُمْ وَتَأْوِيلِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَالنُّعَاسُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَيْنَيْنِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " تَغْشَى " بِالْفَوْقِيَّةِ أَيِ الْأَمَنَةُ وَالْبَاقُونَ " يَغْشَى " بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ النُّعَاسُ. يُقَالُ غَشِيَهُ النُّعَاسُ أَوِ النَّوْمُ كَمَا يُقَالُ رَانَ عَلَيْهِ أَيْ عَرَضَ لَهُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ، كَمَا يُلْقَى السِّتْرُ عَلَى الشَّيْءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسِ، وَأَنَّهُ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ. قَالَ مَا مِثَالُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا النُّعَاسِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنَامُ تَحْتَ تُرْسِهِ كَأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ إِلَّا الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ فَاشْتَدَّ جَزَعُهُمْ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [8: 11] وَإِنَّمَا هَذِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْخَلْقِ بِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّعُ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ هَوْلًا كَبِيرًا وَمُصَابًا عَظِيمًا فَإِنَّهُ يَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، وَيَبِيتُ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ فَيُصْبِحُ خَامِلًا ضَعِيفًا، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ يَتَوَقَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِذْ بَلَغَهُمْ أَنَّ جَيْشًا يَزِيدُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ سَيُحَارِبُهُمْ غَدًا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَعْظَمُ عُدَّةً فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يَنَامُوا عَلَى بِسَاطِ الْأَرَقِ وَالسُّهَادِ يَضْرِبُونَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ، وَيُفَكِّرُونَ بِمَا سَيُلَاقُونَ فِي غَدِهِمْ

154

مِنَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّعَاسِ، غَشِيَهُمْ فَنَامُوا وَاثِقِينَ بِاللهِ - تَعَالَى - مُطْمَئِنِّينَ لِوَعْدِهِ، وَأَصْبَحُوا عَلَى هِمَّةٍ وَنَشَاطٍ فِي لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّهِ، فَالنُّعَاسُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ بَلْ قَبْلَهَا، وَمِثْلُهُ الْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَّرَتْهُمْ بِعِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ وَقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْ كِبَارِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَكَانُوا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْعَةِ قِسْمَيْنِ: فَقِسْمٌ مِنْهُمْ ذَكَرُوا مَا أَصَابَهُمْ فَعَرَفُوا أَنَّهُ كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا اللهَ وَوَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَوَثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ - رَاجِعْ آيَةَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ [3: 135] وَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ كَانُوا قَدْ غُلِبُوا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ فِي غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِيهَا مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَعِصْيَانِ قَائِدِهِمْ وَرَسُولِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً أَوِ الْأَمَنَةَ نُعَاسًا، حَتَّى يَسْتَرِدُّوا مَا فَقَدُوا مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَرْحِ وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الضَّعْفِ، وَالنَّوْمُ لِلْمُصَابِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللهِ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّاحَةِ لِلْأَجْسَامِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ، أَنْ سَهَّلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ عِنْدَمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ مُذْعِنِينَ. قَالَ: وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اقْتِفَاءِ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قِيلَ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمْ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَفِيهَا الضُّعَفَاءُ وَالْأَقْوِيَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ ظَنَّهُمْ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَنُلَامُ أَنْ وَلَّيْنَا وَغُلِبْنَا؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النَّصْرِ وَعَدَمِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِمَّا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ النَّصْرَ وَحَقِّيَّةَ الدِّينِ مُتَلَازِمَانِ وَعَجِبُوا مِمَّا وَقَعَ فِي أُحُدٍ كَأَنَّهُ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، أَيْ فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لِرُسُلِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. أَقُولُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مُخَالِفًا لِهَذَا. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ لَا أَمْرَ النَّصْرِ وَحْدَهُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَجْرِي بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ وَنِظَامِهِ الَّذِي رَبَطَ فِيهِ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ وَمِنْهُ نَصْرُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أَيْ لَوْ كَانَ أَمْرُ

النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَيْدِينَا لَمَا وَقَعَ فِينَا الْقَتْلُ هَاهُنَا، يُقَرِّرُونَ رَأْيَهُمْ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ، غَافِلِينَ عَنْ تَحْدِيدِ الْآجَالِ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ وَادِعِينَ فِي بُيُوتِكُمْ فِي سِلْمٍ وَأَمَانٍ لَخَرَجَ مِنْ بَيْنِكُمْ مَنِ انْتَهَتْ آجَالُهُمْ، وَثَبَتَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كَمَا يَثْبُتُ الْمَكْتُوبُ فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَوْرَاقِ إِلَى حَيْثُ يُقْتَلُونَ وَيَسْقُطُونَ مِنَ الْبَرَازِ - الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ - فَتَكُونُ مَصَارِعُهُمْ وَمَضَاجِعُ الْمَوْتِ لَهُمْ، فَقَتْلُ مَنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ بَلْ لِأَنَّ آجَالَهُمْ قَدْ جَاءَتْ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ. وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَاقِبَةَ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُمْ مِنْكُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ اللهُ نُفُوسَكُمْ فَيُظْهِرَ لَكُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَيُطَهِّرَهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِالسَّرَائِرِ وَالْوِجْدَانَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلصُّدُورِ حَيْثُ الْقُلُوبُ الْمُنْفَعِلَةُ بِهَا، وَالْمُنْبَسِطَةُ أَوِ الْمُنْقَبِضَةُ بِتَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهَا فَيَنْخَدِعُونَ لِلشُّعُورِ الْعَارِضِ لَهَا الَّذِي يَرْسَخُ بِالتَّجَارِبِ وَالِابْتِلَاءِ كَمَا انْخَدَعَ الَّذِينَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلْقَوْهُ. هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ جَرَوْا عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ تُهِمُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذْ كَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورًا فِيمَا أَصَابَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَكَانَ فِي غَشَيَانِ النُّعَاسِ وَنُزُولِ الْأَمَنَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُونِهِمْ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً ; لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ فِي اللهِ ظَنَّ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ كَظَنِّهِمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ يُعَارِضُ فَهْمَهُمْ هَذَا كَوْنُ الْخِطَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي بَعْدَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ تَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَأْسًا وَضَعْفًا لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ وَلِيَبْتَلِيَ لِمَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ دُونَ مَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَلَكِنْ هَذَا تَفْكِيكٌ وَتَشْوِيشٌ لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ فِيمَا تَحْكِيهِ عَنِ الَّذِينَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يُوهِمُ الْمُحَالَ

عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مِنْ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ يَكُونُ مَغْزَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عَيْنَ مَغْزَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي جَوَابِهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمَا قُتِلُوا هُنَاكَ، يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ وَتَصَرُّفِ مَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَيْنُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَبِّتُهُ الْقُرْآنُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ؟ وَنَقُولُ: إِنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ بَيَّنَ لَنَا ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6: 148] وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا [6: 107] وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي ظَنَّتْ مِثْلَ ظَنِّهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مِثْلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُ ظَنًّا لَا يُوثَقُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَقَالَ فِي سُورَةِ يس: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [36: 47] فَقَدْ جَعَلَ تَبَرُّؤَ النَّاسِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ وَاعْتِذَارَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَخَبَّطُونَ فِي دَيَاجِي الظَّنِّ، وَيَهِيمُونَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مَعَ إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَحُصُولِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ نَظَرَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنْ رَآهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ حَتَّى جَعَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هِيَ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَجَعَلَ الْحُجَّةَ فِيهَا لِلْأَشَاعِرَةِ. وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ، وَبَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا فِيهَا وَاحْتَجُّوا بِوَاحِدَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الْأُخْرَى: (الْحَقِيقَةُ الْأُولَى) أَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَشِيئَتِهِ يَجْرِي كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا قَاهِرَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. (الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ إِنَّمَا يَجْرِي بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ وَمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [3: 137] وَفِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْمَشِيئَةُ أَوِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ. (الْحَقِيقَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدَرِهِ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ذَا عِلْمٍ وَمَشِيئَةٍ وَإِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ، فَيَعْمَلُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مَا يَرَى بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ وَشُعُورُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَالْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ وَبِعَمَلِهِ تُنَاطُ سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَهُوَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَشِيئَةِ اللهِ وَلَا مُزِيلًا لَهَا، بَلْ مَشِيئَتُهُ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَمَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهَا كَمَا قَالَ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [76: 30] وَ [81: 29] وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَشَاءَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَأَنْ نَتْرُكَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ. وَإِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ يَذْكُرُ بَعْضَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَسْكُتُ عَنِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي ذَلِكَ - وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ - وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَجْحَدُ شَيْئًا مِنْهَا جُحُودَهُ وَيُبَيِّنُ لَنَا خَطَأَهُ وَضَلَالَهُ كَمَا بَيَّنَ خَطَأَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا فِي مَوْضِعٍ وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ يُنْكِرُ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى، وَيَكْفُرُ لَهُ نِعْمَةَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي شُكْرِ هَذِهِ الْقُوَى بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، كَمَا يُنْكِرُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي يُجْلَبُ بِهَا الْخَيْرُ عِنْدَمَا تُبْطِرُهُ النِّعْمَةُ فَيَنْسُبُهَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ وَيَنْسَى ذِكْرَ رَبِّهِ وَشُكْرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ - تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [4: 78، 79] وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا بِأَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ضَعُفُوا وَأَنْكَرُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا احْتِجَاجًا لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِذَارًا عَنْهَا، فَأَجَابَهُمْ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لَهُمُ الْحَقِيقَةَ الْأُولَى، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْخَالِقُ لِلْقُوَى وَالْوَاضِعُ لِلسُّنَنِ وَالْمَقَادِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ الْفَرْعَ الَّذِي اقْتَضَى الْمَقَامُ بَيَانَهُ مِنْ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَوَاضِعُ السُّنَنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يُوَصِّلُ بِهَا إِلَيْهَا وَالْخَالِقُ لِلْقُوَى الْكَاسِبَةِ لِأَسْبَابِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهَا لِيُشْكَرَ عَلَيْهَا وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الْكَاسِبُ لَهَا وَالْمُنْحَرِفُ عَنْ سُنَنِ اللهِ وَشَرِيعَتِهِ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ وَيَرُدَّهَا إِلَى التَّوْبَةِ، كَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ. الْأُولَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَالثَّانِيةُ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِبُرُوزِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ الْقِتَالِ الَّتِي يُصْرَعُونَ فِيهَا. وَبُرُوزُهُمْ هَذَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ: فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُحَالٌ وَلَا نَصْرٌ لِمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جَامِعَةٌ لِلْحَقَائِقِ

155

مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، مُبْطِلَةٌ لِكُلٍّ مِنْ دَعْوَى الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَالتَّعْطِيلِ الْمَحْضِ وَدَعْوَى الذَّبْذَبَةِ بَيْنَهُمَا. وَيُؤَيِّدُ إِثْبَاتَهَا لِحَقِيقَةِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ وَاخْتِيَارِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ التَّالِيَةُ وَهِيَ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا أَيْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَفَرُّوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُمْ إِلَّا بِإِيقَاعِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الزَّلَلِ، أَيْ زَلُّوا وَانْحَرَفُوا عَمَّا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا ثَابِتِينَ عَلَيْهِ بِاسْتِجْرَارِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتَجَرَّهُمْ حَتَّى زَلُّوا فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ الصَّغِيرَةَ إِذَا تَرَخَّصَ الْإِنْسَانُ فِيهَا تَصِيرُ مُسَهِّلَةً لِسَبِيلِ الشَّيْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ اهـ. وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ تَوَلَّوُا الرُّمَاةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَثْبُتُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ لِيَدْفَعُوا الْمُشْرِكِينَ عَنْ ظُهُورِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا زَلُّوا وَانْحَرَفُوا عَنْ مَكَانِهِمْ إِلَّا مُتَرَخِّصِينَ فِي ذَلِكَ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَهَابِهِمْ وَرَاءَ الْغَنِيمَةِ ضَرَرٌ، فَكَانَ هَذَا التَّرَخُّصُ وَالتَّأْوِيلُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنِ التَّحَوُّلِ وَتَرْكِ الْمَكَانِ سَبَبًا لِكُلِّ مَا جَرَى مِنَ الْمَصَائِبِ، وَأَعْظَمُهَا مَا أَصَابَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ تَخَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ مِنَ الرُّمَاةِ وَغَيْرِهِمْ، كَالَّذِينَ انْهَزَمُوا عِنْدَمَا جَاءَهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ خَلْفِهِمْ وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عُوتِبَ فِي هَزِيمَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عَفَا اللهُ عَنْهُ. أَمَّا كَوْنُ الِاسْتِزْلَالِ قَدْ كَانَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: (بِبَعْضِ) عَلَى أَصْلِهَا وَأَنَّ الزَّلَلَ الَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا كَسَبُوا مِنَ التَّوَلِّي عَنِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ إِنَّ بَعْضَ مَا كَسَبُوا قَدْ كَانَ سَبَبًا لِزَلَّتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ مُتَقَدِّمًا دَائِمًا عَلَى الْمُسَبِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ كَسْبِهِمْ مُتَقَدِّمًا عَلَى زَلَلِهِمْ هَذَا وَمُفْضِيًا إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ تَوَلَّوُا الرُّمَاةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالزَّلَلِ الَّذِي أَوْقَعَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهِ مَا كَانَ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْفَشَلِ بَعْدَ تَوَلِّيهِمْ عَنْ مَكَانِهِمْ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّوَلِّي هُوَ الْمُرَادَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ أَدْبَرُوا عَنِ الْقِتَالِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا: مَا كَسَبَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ وَهُمْ بَعْضُهُمْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ مُدْبِرِينَ عَنِ الْقِتَالِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ بَعْضِ مَا كَسَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَعْضُ الرُّمَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَرَّ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ وَجَاءُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ حَتَّى أَدْهَشُوهُمْ وَهَزَمُوهُمْ. وَلِلسَّبَبِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ يَنْطَبِقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وَهُوَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا نَاشِئًا عَنْ بَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَحْدَثَتِ الضَّعْفَ فِي نُفُوسِهِمْ حَتَّى أَعْدَتْهَا إِلَى مَا وَقَعَ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [42: 30] فَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا إِلَّا أَنَّهُ هُنَالِكَ عَامٌّ وَهُنَا خَاصٌّ

بِالَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ، فَالْآيَتَانِ وَارِدَتَانِ فِي بَيَانِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصَائِبَ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وشُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ إِنَّمَا هِيَ آثَارٌ طَبِيعِيَّةٌ لِبَعْضِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ تُعَدُّ مُصِيبَةً وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، أَيِ الَّذِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يُعْفَى وَيُمْحَى أَثَرُهُ مِنَ النَّفْسِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ وَهُوَ بَعْضُ اللَّمَمِ وَالْهَفْوِ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ وَلَا يَصِيرُ مَلَكَةً وَعَادَةً. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ فِي بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [35: 45] أَيْ بِجَمِيعِ مَا كَسَبُوا، فَإِنَّ " مَا " مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُفِيدُ الْعُمُومَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَجَرَيْنَا عَلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَجَمِيعُهَا آثَارٌ طَبِيعِيَّةٌ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، وَقَدِ اهْتَدَى إِلَى هَذِهِ السُّنَّةِ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ فَالْعَفْوُ فِيهِ غَيْرُ الْعَفْوِ فِي آيَةِ الشُّورَى، ذَلِكَ عَفْوٌ عَامٌّ وَهَذَا عَفْوٌ خَاصٌّ، ذَلِكَ عَفْوٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ هَفَوَاتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إِلَى الْعُقُوبَةِ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْعَفْوُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَنْبَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ الَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَدْ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا وَعَفَا اللهُ عَنِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِتَحْتِيمِ الْعِقَابِ. وَمِنْ آيَاتِ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ وَحِلْمِهِ بِهِمْ تَوْفِيقُهُمْ لِلِاسْتِفَادَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ وَإِثَابَتُهُمُ الْغَمَّ الَّذِي دَفَعَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ حَتَّى تُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا الْعَفْوَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ

156

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَزِيمَةَ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَتْ بِوَسْوَاسٍ مِنَ الشَّيْطَانِ اسْتَزَلَّهُمْ فَزَلُّوا أَرَادَا أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ بِهَا قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا أَيْ لَا تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِ إِخْوَانِهِمْ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَذْهَبِ، إِذَا هُمْ ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ - أَيْ سَافَرُوا فِيهَا لِلتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ - فَمَاتُوا، أَوْ كَانُوا غُزًّى أَيْ غُزَاةً - وَهُوَ جَمْعٌ لِغَازٍ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ وَمِثْلُهُ عُفًّى جَمْعُ عَافٍ - سَوَاءٌ كَانَ غَزْوُهُمْ فِي وَطَنِهِمْ أَوْ فِي بِلَادٍ أُخْرَى فَقُتِلُوا: لَوْ كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، أَيْ مَا مَاتَ أُولَئِكَ الْمُسَافِرُونَ، وَمَا قُتِلَ أُولَئِكَ الْغَازُونَ، وَقَرْنُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْكُفْرِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مُؤْمِنٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ مُصَادِمٌ لِلْوُجُودِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَقَدِ انْتَهَى أَمْرُهُ وَصَارَ قَوْلُ (لَوْ كَانَ كَذَا) عَبَثًا لِأَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَرْتَفِعُ، وَالْحَسْرَةَ عَلَى الْفَائِتِ لَا تُفِيدُ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلَ - سُبْحَانَهُ - الْخِطَابَ فِي كِتَابِهِ مُوَجَّهًا إِلَى الْعُقَلَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولِي الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَقْبَلُونَ هِدَايَتَهُ، وَقَالَ فِيمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [7: 179] . (ثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ قَائِلِهِ بِالدِّينِ أَوْ جُحُودِهِ، فَإِنَّ الدِّينَ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْآجَالِ وَكَوْنِهَا بِإِذْنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3: 145] فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِعْلًا، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ فَلَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ سُئِلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ: إِنَّنِي أُجِيبُ السَّائِلَ بِمِثْلِ مَا أَجَبْتُ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَلَا يَحْفِلُونَ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ مَا يُنْتَقَدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ، فَمَا قَرَّرَهُ فَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُلْحِدٍ إِنْكَارُهُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ

عَنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالشَّيْءِ، وَالْعِلْمُ: انْكِشَافٌ لَا يُفِيدُ الْإِلْزَامَ، وَالْقَدَرُ: وُقُوعُ الشَّيْءِ عَلَى حَسَبِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ وَإِلَّا كَانَ جَهْلًا، أَوِ الْوَاقِعُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهُنَا أَمْرَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي يُسَمَّى " الْإِنْسَانَ " يَعْمَلُ أَعْمَالَهُ بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْقُدْرَةِ وَلَا الْإِرَادَةِ وَلَا الْعِلْمِ، فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْعَمَلِ ثُمَّ تَنْفَسِخُ عَزِيمَتُهُ لِتَغَيُّرِ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ لِمَرَضٍ يُلِمُّ بِهِ أَوْ مَانِعٍ يَحُولُ دُونَ مَا أَرَادَهُ، وَهَذَا يَقَعُ مَعَ النَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْهُ وَيَغْتَرُّونَ بِمَا يَنْفُذُ مِنْ عَزَائِمِهِمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ: جَاءَ مِصْرَ رَجُلَانِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ بِأَنْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ سَفَرِهِمْ وَمَقَامِهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ يَزُورُونَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ مِمَّا كَتَبَاهُ فِي بَرْنَامَجِ سَفَرِهِمَا أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ بِمِصْرَ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا فَاضْطُرَّ إِلَى أَنْ يَمُدَّ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ يَعْزِمُ فَيَعْمَلُ، أَوْ يَعْجِزُ أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، فَاخْتِيَارُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا وَمَعْرِفَتُهُ الْأَسْبَابَ وَقِيَامُهُ بِهَا كُلُّ ذَلِكَ لَهُ حُدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا، فَهُوَ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَا يَعْمَلُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمَا كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لَهُ يَقَعُ، فَجَمِيعُ الَّذِينَ يَصْطَلُونَ بِنَارِ الْحَرْبِ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ، وَقَدْ يَسْلَمُ أَكْثَرُهُمْ وَيُقْتَلُ أَقَلُّهُمْ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّيْءَ مَتَى وَقَعَ يُعْلَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عِنَايَةً بِهِ وَقَدْ يُلْهِمُهُ - إِذَا هُوَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ - عِلْمَ مَا يَجْهَلُ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِ وَيُوَفِّقُهُ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمَحْضِ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الْإِيمَانِ يَكُونُ مَعَ أَخْذِهِ بِالْأَسْبَابِ أَنْشَطَ فِي الْعَمَلِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا بَعْدَ الْيَأْسِ وَالْكَسَلِ. لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ لَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلَا تَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمُ النَّاشِئِ عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْكُمْ سَبَبًا لِتَحَسُّرِهِمْ وَغَمِّهِمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - ; فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكُمْ أَشِدَّاءَ أَقْوِيَاءَ لَا يُضْعِفُكُمْ فَقْدُ مَنْ فُقِدَ مِنْكُمْ، وَلَا يَقْعُدُ بِكُمْ عَنِ الْقِتَالِ خَوْفٌ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فَإِنَّهُمْ يَحْزَنُونَ وَيَتَحَسَّرُونَ، هَذَا وَجْهٌ فِي التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ نَفْسِهِ، وَمُلَخَّصُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ; لِأَجْلِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا بِامْتِيَازِكُمْ عَلَيْهِمْ إِذْ يَضْعُفُونَ بِفَقْدِ مَنْ يُفْقَدُ مِنْهُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَضْعُفُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاعْتِبَارِ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا فِيمَنْ مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا مَا قَالُوا ; لِيَكُونَ أَثَرُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَعَاقِبَتُهُ

حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَنْ فُقِدَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ ضَعْفًا وَيَرِثُهُمْ نَدَمًا عَلَى تَمْكِينِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا ظَنُّوهُ سَبَبًا ضَرُورِيًّا لِلْمَوْتِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ يُصِيبُكُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ مِثْلَ مَا يُصِيبُهُمْ، وَتَضْعُفُونَ عَنِ الْقِتَالِ كَمَا يَضْعُفُونَ، فَلَا يَكُونُ لَكُمُ امْتِيَازٌ عَلَيْهِمْ بِالْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ الَّتِي يَرَى صَاحِبُهَا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ هُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ، وَلَا بِالْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَزِيدُ ذَلِكَ صَاحِبَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي بَقَاءِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَإِنْ طَوَى بِالْأَسْفَارِ بِسَاطَ كُلِّ بَرٍّ، وَنَشَرَ شِرَاعَ كُلِّ بَحْرٍ، وَخَاضَ مَعَامِعَ الْحُرُوبِ، وَصَارَعَ الْأَهْوَالَ وَالْخُطُوبَ. وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَإِنِ اعْتَصَمَ فِي الْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ، وَحُرِسَ بِالْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُكِنُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُكُمْ لِأَقْوَالِ الْكُفَّارِ نَاشِئًا عَنْ طَهَارَةِ نُفُوسِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ بِيَدِ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مُمِدُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَحْفَظُ وُجُودَهَا وَالْعَالَمِينَ بِحَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَمَاتَهُ: لَوْ كَانَ فِي مَكَانِ كَذَا لَمَا مَاتَ بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَطُولَ (قَالَ) : وَهُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلَلِ النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ، وَمَا يُلَاقِيهِ مَنْ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ - تَعَالَى - وَرَحْمَتِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الْمَوْتُ فِي أَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، أَيْ سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ الَّتِي هَدَى اللهُ الْإِنْسَانَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا مِنْهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنَ التَّعَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُحَارِبُ فِي أَثْنَائِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْلِ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ كَثِيرًا فِي الْحَرْبِ وَالْمَوْتُ يَكُونُ فِيهَا أَقَلَّ، فَذَكَرَهُ تَبَعًا بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ يُخْبِرُنَا مُؤَكِّدًا خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْ يَمُوتُ فَإِنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغْفِرَةٍ تَمْحُو مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَرَحْمَةٍ تَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يَجْمَعُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى الْحَيَاةِ لِيَتَمَتَّعُوا بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ الدَّائِمَةَ عَلَى الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا عَلَى مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ

158

أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَوَدُّوا لَوْ لَمْ يَكُونُوا خَرَجُوا مِنْ دُورِهِمْ إِلَى حَيْثُ لَقُوا حَتْفَهُمْ فَإِنَّ مَا يَلْقَوْنَهُ بَعْدَ هَذَا الْحَتْفِ خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا فِيهِ قَبْلَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي بَيَّنْتُهُ تَظْهَرُ نُكْتَةُ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَالْغَيْبَةِ فِي آخِرِهَا، وَكَذَا تَنْكِيرُ مَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ قَالُوا: إِنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ هُنَا أَعَمُّ مِمَّا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمُوتُ وَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْشَرَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الَّذِي يَحْشُرُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ، وَهَاهُنَا قَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ وَأَكْثَرُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. فِي مَعْنَى الْحَشْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَكَانٌ يَحْصُرُهُ فَيَحْشُرُ النَّاسَ وَيُسَاقُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْفُلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَنِ اللهِ فَيَنْسَى هَيْبَتَهُ وَجَلَالَهُ، وَيَنْصَرِفُ عَنِ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَجَلْبِ اللَّذَّاتِ وَالرَّغَائِبِ لَهَا. وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يُحْشَرُ لَهُ النَّاسُ فَلَا اشْتِغَالَ فِيهِ بِتَقْوِيمِ بِنْيَةٍ، وَلَا التَّمَتُّعِ بِلَذَّةٍ، وَلَا مُدَافَعَةِ عَدُوٍّ، وَلَا مُقَاوَمَةِ مَكْرُوهٍ، وَلَا بِتَرْبِيَةِ نَفْسٍ، وَلَا تَنْزِيهِ حِسٍّ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ رَاجِعًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَحْشُورًا مَعَ سَائِرِ النَّاسِ إِلَيْهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ مَصِيرُ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ أَوْ يُقْتَلُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ وَمَهْمَا طَالَتْ حَيَاتُهُ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ سَبَبِ هَذَا الْمَصِيرِ وَمَبْدَئِهِ لَا يُفِيدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُ هُوَ الِاهْتِمَامُ بِذَلِكَ الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاشْتِغَالُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَذَلِكَ دَأْبُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

159

الْكَلَامُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَتِهِمْ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي وَقْعَةٍ خَالَفَ النَّبِيَّ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْفَشَلِ وَظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ حَتَّى أُصِيبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَنْ أُصِيبَ، فَكَانَ مِنْ لِينِهِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ صَبَرَ وَتَجَلَّدَ فَلَمْ يَتَشَدَّدْ فِي عَتْبٍ وَلَا تَوْبِيخٍ اهْتِدَاءً بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْوَقْعَةِ بَيَّنَ فِيهَا مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ وَعِصْيَانٍ وَتَقْصِيرٍ حَتَّى مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالظُّنُونِ الْفِكْرِيَّةِ وَالْهُمُومِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَكِنْ مَعَ الْعَتْبِ اللَّطِيفِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ، وَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِكَ يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَهُوَ مِمَّا يُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ فَلِنْتَ لَهُمْ وَعَامَلْتَهُمْ بِالْحُسْنَى، وَإِنَّمَا لِنْتَ لَهُمْ بِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى قَلْبِكَ وَخَصَّكَ بِهَا فَعَمَّتِ النَّاسَ فَوَائِدُهَا، وَجَعَلَ الْقُرْآنَ مُمِدًّا لَهَا بِمَا هَدَاكَ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ السَّامِيَةِ الَّتِي هَوَّنَتْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبَ وَعَلَّمَتْكَ مَنَافِعَهَا وَحِكَمَهَا وَحُسْنَ عَوَاقِبِهَا لِلْمُعْتَبِرِ بِهَا وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لِأَنَّ الْفَظَاظَةَ هِيَ الشَّرَاسَةُ وَالْخُشُونَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَهِيَ الْقَسْوَةُ وَالْغِلْظَةُ، وَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُنَفِّرَةِ لِلنَّاسِ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى مُعَاشَرَةِ صَاحِبِهِمَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَضَائِلُهُ، وَرُجِيَتْ فَوَاضِلُهُ، بَلْ يَتَفَرَّقُونَ وَيَذْهَبُونَ مِنْ حَوْلِهِ وَيَتْرُكُونَهُ وَشَأْنَهُ لَا يُبَالُونَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّحَلُّقِ حَوَالَيْهِ، وَإِذًا لَفَاتَهُمْ هِدَايَتُكَ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُلُوبَهُمْ دَعْوَتُكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَلَا تُؤَاخِذْهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا وَاسْأَلِ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ أَيْضًا، فَبِذَلِكَ تَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى تِلْكَ الرَّحْمَةِ الَّتِي خَصَّكَ اللهُ بِهَا، وَمُدَاوِمًا لِتِلْكَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، الَّتِي هَدَاكَ اللهُ إِلَيْهَا وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ دُمْ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ وَوَاظِبْ عَلَيْهَا، كَمَا فَعَلْتَ قَبْلَ الْحَرْبِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ (غَزْوَةِ أُحُدٍ) وَإِنْ أَخْطَئُوا الرَّأْيَ فِيهَا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُشَاوَرَةِ دُونَ الْعَمَلِ بِرَأْيِ الرَّئِيسِ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ لَهُمْ فِي مُسْتَقْبَلِ حُكُومَتِهِمْ إِنْ أَقَامُوا هَذَا الرُّكْنَ الْعَظِيمَ (الْمُشَاوَرَةَ) فَإِنَّ الْجُمْهُورَ أَبْعَدُ عَنِ الْخَطَأِ مِنَ الْفَرْدِ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْخَطَرُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي تَفْوِيضِ أَمْرِهَا إِلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أَشَدُّ وَأَكْبَرُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يُشَاوِرَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَنْ يُشِيرَ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَشَارُونَ كِثَارًا كَثُرَ النِّزَاعُ وَتَشَعَّبَ الرَّأْيُ، وَلِهَذِهِ الصُّعُوبَةِ وَالْوُعُورَةِ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَنْ يُقَرِّرَ

سُنَّةَ الْمُشَاوَرَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْعَمَلِ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ بِغَايَةِ اللُّطْفِ وَيُصْغِي إِلَى كُلِّ قَوْلٍ وَيَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ هَذَا. وَأَقُولُ: الْأَمْرُ الْمُعَرَّفُ هُنَا هُوَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُضَافُ إِلَيْهِمْ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى الَّتِي وُضِعَتْ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّورَى الْمَكِّيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [42: 38] فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْأُمَّةِ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْحُكَّامُ عَادَةً ; لَا أَمْرُ الدِّينِ الْمَحْضِ الَّذِي مَدَارُهُ عَلَى الْوَحْيِ دُونَ الرَّأْيِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ كَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُقَرَّرُ بِالْمُشَاوَرَةِ لَكَانَ الدِّينُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ رَأْيٌ لَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - كَانُوا لَا يَعْرِضُونَ رَأْيَهُمْ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسَائِلِ الدُّنْيَا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ لَا عَنْ وَحْيٍ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ فَنَزَلَ عِنْدَهُ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: " يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ " إِلَخْ. مَا قَالَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ وَعَمِلَ بِرَأْيِهِ. أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الرُّكْنَ (الشُّورَى) فِي زَمَنِهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ حَيْثُ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ الَّتِي انْتَهَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَكَانَ يَسْتَشِيرُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ، وَيَخُصُّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَضُرُّ إِفْشَاؤُهَا، فَاسْتَشَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا عَلِمَ بِخُرُوجِ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَرْبِ، فَلَمْ يُبْرِمِ الْأَمْرَ حَتَّى صَرَّحَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ بِالْمُوَافَقَةِ. وَاسْتَشَارَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِبَيَانِهِ فَيُنَفِّذُهُ حَتْمًا، وَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالرَّأْيِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ احْتِيجَ إِلَى وَضْعِ قَاعِدَةٍ أَوْ نِظَامٍ لِلشُّورَى يُبَيَّنُ فِيهِ طُرُقَ اشْتِرَاكِ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءِ عَنْ مَكَانِ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِيهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضَعْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَوِ النِّظَامَ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ: مِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ،

وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ الَّتِي عَاشَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَبْدَأَ دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ سَيَنْمُو وَيَزِيدُ وَأَنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ لِأُمَّتِهِ الْمَمَالِكَ، وَيُخْضِعُ لَهَا الْأُمَمَ وَقَدْ بَشَّرَهَا بِذَلِكَ. فَكُلُّ هَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ وَضْعِ قَاعِدَةٍ لِلشُّورَى تَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي الْعَصْرِ الَّذِي يَتْلُو عَصْرَهُ إِذْ تُفْتَحُ الْمَمَالِكُ الْوَاسِعَةُ وَتَدْخُلُ الشُّعُوبُ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ فِي سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقَوَاعِدُ الْمُوَافِقَةُ لِذَلِكَ الزَّمَنِ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَنٍ وَالْمُنْطَبِقَةُ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي سَذَاجَتِهِمْ مُنْطَبِقَةً عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ الْأَحْكَمَ أَنْ يَتْرُكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضْعَ قَوَاعِدِ الشُّورَى لِلْأُمَّةِ تَضَعُ مِنْهَا فِي كُلِّ حَالٍ مَا يَلِيقُ بِهَا بِالشُّورَى. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ وَضَعَ قَوَاعِدَ مُؤَقَّتَةً لِلشُّورَى بِحَسَبِ حَاجَةِ ذَلِكَ الزَّمَنِ لَاتَّخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ دِينًا وَحَاوَلُوا الْعَمَلَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا هِيَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابَةُ فِي اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ حَاكِمًا: رَضِيَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اتَّخَذُوا كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا دِينًا مَعَ قَوْلِهِ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلِهِ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ الْمَسْأَلَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ شُعُورِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ وَضَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمَّةِ وَإِنْ أَجَازَ لَهَا تَغْيِيرَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَهْذِيبًا لَنَا حَتَّى لَا يَصْعُبَ عَلَيْنَا الرُّجُوعُ عَنْ آرَائِنَا، وَرَأْيُهُ هُوَ الرَّأْيُ الْأَعْلَى فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَرِيبٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَالْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُهُ بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ، وَلَوْ وَضَعَهَا بِمُشَاوَرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَرَّرَ فِيهَا رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ كَانَ خَطَأً وَمُخَالِفًا لِرَأْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يَرْضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْكُمَ أَمْثَالُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَمَنْ دُونَهُمْ - كَأَكْثَرِ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ - فِي أُصُولِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقَوَاعِدِهَا؟ أَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْأُمَّةِ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا يُؤَهِّلُهَا لَهُ اسْتِعْدَادُهَا هُوَ الْأَحْكَمَ؟

بَلَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ كُنْهُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ كَافٍ لِوَضْعِ قَانُونٍ كَافِلٍ لِقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ عُمَرُ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) خَوْفَ الْخِلَافِ الْمُهْلِكِ لِلْأُمَّةِ ; وَصَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إِلَى مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ اسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَهْدِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا عَلِمَ رِضَاهُمْ عَهِدَ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مَجَالٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَوْ كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُسْتَعِدَّةٌ لِإِقَامَةِ الشُّورَى عَلَى وَجْهِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، لَتَرَكَ لَهَا الْأَمْرَ، وَلَمْ يُحَاوِلْ جَمْعَ كَلِمَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ هُوَ الْأَصْلَحَ حَتَّى يَمُوتَ آمِنًا عَلَيْهَا مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ. يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالْعَهْدِ لَا بِالشُّورَى الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَذَا الْعَهْدُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَلَا مُخَصِّصًا وَلَا مُقَيِّدًا لَهُ، فَكَيْفَ عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّخَذَهُ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً؟ إِذَا أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ شِيعِيٌّ أَوْ غَيْرُ شِيعِيٍّ مِنَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ يُجِيبُهُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِهِ: إِنَّهُ رَأْيٌ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشِّيعَةَ وَالْمُسْتَقِلِّينَ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُقْنِعُهُمْ هَذَا الْجَوَابُ، فَهُمْ يُنَازِعُونَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ مَعَ النَّصِّ وَكَوْنِهِ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقُومُ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهَا، وَيَقُولُونَ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ: كَيْفَ أَقْدَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ وَلَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ إِنَّمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالشُّورَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشُّورَى حَصَلَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَإِنَّمَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْأُمَّةِ فِتْنَةَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَاوَرَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ; فَرَأَى الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى أَنَّ أَمْثَلَهُمْ عُمَرُ، وَرَأَى بَعْضَهُمْ يَخَافُ مِنْ شِدَّتِهِ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: " إِنَّهُ يَرَانِي كَثِيرَ اللِّينِ فَيَشْتَدُّ " أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجْمُوعِ سِيرَتِهِمَا الِاعْتِدَالُ أَوْ مَا هَذَا مَغْزَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ تَكَلَّفَ صُعُودَ الْمِنْبَرِ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَقْنَعَ الْقَوْمَ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَتَوْكِيلٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَتَرْشِيحٍ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي جَعْلِهِ أَمِيرًا عَلَى مُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمُبَايَعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى الشُّورَى، وَلَكِنْ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الشُّورَى لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَاحِدٍ تَرْضَاهُ الْأُمَّةُ، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَشَاوُرٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَأَنْ جَعَلُوا ذَلِكَ بِالِانْتِخَابِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ فِي الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَمَا سَبَقَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْإِقْنَاعِ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ أَغْنَى عَنِ الْمُشَاوَرَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مُبَايَعَتِهِ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ بَعْدَ شُورَى أَوْ بِسَبَبِ الشُّورَى.

وَأَمَّا جَعْلُ عُمَرَ الشُّورَى فِي نَفَرٍ مُعَيَّنِينَ فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ مَعَ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ الْخِلَافِ الَّتِي تُخْشَى مِنْ تَكْثِيرِ عَدَدِ الْمُتَشَاوِرِينَ، فَأُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ جَعَلَهَا فِيهِمْ هُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَخْضَعُ لِرَأْيِهِمْ إِذَا اتَّفَقُوا وَتَتَعَصَّبُ لَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُصْبَةٌ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِلْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) هُمْ أُولِي الْأَمْرِ أَوْ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَزُعَمَاءَهُمْ، وَهُمُ الْأَحَقُّ بِالشُّورَى كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [4: 83] وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي أُولِي الْأَمْرِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ الْحَاكِمُونَ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَبِّرُ بِكَلِمَةِ " الْفُقَهَاءِ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءُ حَاكِمُونَ وَلَا صِنْفٌ يُسَمَّى الْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِـ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تُرَدُّ إِلَيْهِمْ مَسَائِلُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِمَصَالِحِهَا وَطُرُقِ حِفْظِهَا وَالْمَقْبُولَةُ آرَاؤُهُمْ عِنْدَ عَامَّتِهَا، فَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - هُوَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِي إِقَامَةِ الشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا فِي زَمَنِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَادَرُوا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ إِلَى مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ اهْتِمَامٍ بِالتَّشَاوُرِ ; لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِيهَا لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ شَرِكَةً تَدْعُو إِلَى إِجَالَةِ الرَّأْيِ، فَمُبَايَعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَانَتْ مِنَ الْأُمَّةِ بِرِضَاهَا، وَكَانُوا يَسْتَشِيرُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ أَحَاطُوا بِعُثْمَانَ وَغَلَبُوا الْأُمَّةَ عَلَى رَأْيِهَا عِنْدَهُ، فَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْفِتَنِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِمْ بِقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّهَاءِ، لَا بِاسْتِشَارَةِ الدَّهْمَاءِ ; فَهُمُ الَّذِينَ هَدَمُوا قَاعِدَةَ الْحُكْمِ بِالشُّورَى فِي الْإِسْلَامِ بَدَلًا مِنْ إِقَامَتِهِ وَوَضْعِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تَحْفَظُهَا، وَتَجْعَلُ اسْتِفَادَةَ الْأُمَّةَ مِنْهَا تَابِعَةً لِتَقَدُّمِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَأَعْمَالِ الْعُمْرَانِ فِيهَا، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ الْمُلْكُ الَّذِي وَسَّعُوا دَائِرَتَهُ بِالْفُتُوحَاتِ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ وَلَهُمْ، وَلَكَانَ شَأْنُ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ، وَانْتِشَارُهُ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِبْدَادَ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ مُعْظَمُهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سُلْطَتِهِمْ وَبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي أُسْرَتِهِمْ، قَلَّمَا يَتَسَرَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ. وَكَانَتْ حُرِّيَّةُ انْتِقَادِ الْحُكَّامِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَمَالِهَا حَتَّى تَبَرَّمَ مِنْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ - كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ - وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِأَهْوَائِهِمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى وَارِثِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ رَسَخَتِ السُّلْطَةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ لِمَا كَانَ لِلْأَعَاجِمِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي

مُلْكِهِمْ وَجَرَى سَائِرُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ وَجَارَاهُمْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الدِّينِ بَعْدَ مَا كَانَ لِعُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوَائِلِ زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَظَنَّ الْبَعِيدُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ اسْتِبْدَادِيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ، وَأَنَّ الشُّورَى مَحْمَدَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، فَيَاللهِ الْعَجَبَ: أَيُصَرِّحُ كِتَابُ اللهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ شُورَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ أَمْرًا ثَابِتًا مُقَرَّرًا، وَيَأْمُرُ نَبِيَّهُ - الْمَعْصُومَ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي سِيَاسَتِهِ وَحُكْمِهِ - بِأَنْ يَسْتَشِيرَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مَنْ خَطَأِ مَنْ غَلَبَ رَأْيُهُمْ فِي الشُّورَى يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ يَتْرُكُ الْمُسْلِمُونَ الشُّورَى لَا يُطَالِبُونَ بِهَا وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً؟ هَذَا، وَقَدْ بَلَغَ مُلُكُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ مَبْلَغًا صَارُوا فِيهِ عَارًا عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِ، إِلَّا مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي رَاحَةِ الْعَالِمِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَسَنَعُودُ إِلَى مَوْضُوعِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ أَمْرِ نَبِيِّهِ بِالْمُشَاوَرَةِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ عَلَى إِمْضَاءِ مَا تُرَجِّحُهُ الشُّورَى وَأَعْدَدْتَ لَهُ عُدَّتَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي إِمْضَائِهِ، وَكُنْ وَاثِقًا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، بَلِ اعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ مَا أَتَيْتَهُ وَمَا أُوتِيتَهُ قُوَّةً أَعْلَى وَأَكْمَلَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِهَا الثِّقَةُ وَعَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَإِلَيْهَا اللُّجْأُ إِذَا تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ الْفِكْرِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاحِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; لِأَنَّ الْمَوَانِعَ الْخَارِجِيَّةَ لَهُ وَالْعَوَائِقَ دُونَهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَ الْعَمَلِ فِي الْأَسْبَابِ بِسُنَّتِهِ، أَقُولُ: وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ عَصَمَهُ مِنَ الْغُرُورِ بِاسْتِعْدَادِهِ، وَالرُّكُونِ إِلَى عُدَّتِهِ وَعَتَادِهِ، وَالْبَطَرِ الَّذِي يَصْرِفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْكِمَ فِيهِ أَمْرَهُ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي الْأُمُورِ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَاسْتِمَاعُهُ لِأَنْبَائِهَا بِأُذُنِ الْغَفْلَةِ وَالِازْدِرَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُ لَهَا بَيَدِ التَّهَاوُنِ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَيَنْظُرُ بِعَيْنِ الْعِبْرَةِ فَبَصَرُهُ حِينَئِذٍ حَدِيدٌ، وَيَبْطِشُ بِيَدِ الْحَزْمِ فَبَطْشُهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْمَلُ لِلْحَقِّ لَا لِلْبَاطِلِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ الْهَوَى وَيُدْلِي بِهِ الْغُرُورُ، فَيَكُونُ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ". الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ إِمْضَاءِ الْعَزِيمَةِ الْمُسْتَكْمِلَةِ لِشُرُوطِهَا - وَأَهَمُّهَا فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ حَرْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِيَاسِيَّةً أَوْ إِدَارِيَّةً الْمُشَاوَرَةُ - وَذَلِكَ أَنَّ نَقْضَ الْعَزِيمَةِ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ

160

وَزِلْزَالٌ فِي الْأَخْلَاقِ لَا يُوثَقُ بِمَنِ اعْتَادَهُ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ، فَإِذَا كَانَ نَاقِضَ الْعَزِيمَةِ رَئِيسُ حُكُومَةٍ أَوْ قَائِدُ جَيْشٍ كَانَ ظُهُورُ نَقْضِ الْعَزِيمَةِ مِنْهُ نَاقِضًا لِلثِّقَةِ بِحُكُومَتِهِ وَبِجَيْشِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُصْغِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَوْلِ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حِينَ أَرَادُوا الرُّجُوعَ عَنْ رَأْيِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَكْرَهُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ - وَكَانَ قَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَخَرَجَ - وَذَلِكَ شُرُوعٌ فِي الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَتِ الشُّورَى حَقَّهَا - كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ - فَعَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتًا وَأَنَّ وَقْتَ الْمُشَاوَرَةِ مَتَى انْتَهَى جَاءَ دَوْرُ الْعَمَلِ، وَأَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ تَنْفِيذًا لِلشُّورَى لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ وَيُبْطِلَ عَمَلَهُ، وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ أَهْلَ الشُّورَى أَخْطَئُوا الرَّأْيَ - كَمَا كَانَ يَرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ - وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ ذَلِكَ إِلَى قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَشُدُّ مَنْ فَسْخِ الْعَزِيمَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْفَشَلِ وَإِبْطَالِ الثِّقَةِ؟ وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ يَجْرُونَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ فِي لُنْدُرَةَ عَاصِمَةِ انْكِلْتِرَا سَنَةَ 1301هـ. ذَاكَرَهُ وُزَرَاءُ الْإِنْكِلِيزِ فِي أُمُورِ مِصْرَ وَالسُّودَانِ الْتِمَاسَ خِدْمَتِهِ لِبِلَادِهِ وَقَدْ سَأَلَهُ يَوْمَئِذٍ رَئِيسُ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْهُمْ (الشَّكُ مِنِّي) عَنْ رَأْيِهِ فِي حَمْلَةِ هكس بَاشَا الَّتِي أَرْسَلُوهَا لِمُحَارَبَةِ مَهْدِيِّ السُّودَانِ الَّذِي ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ طَوِيلَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْحَمْلَةَ لَا تَنْجَحُ بَلْ يَقْضِي عَلَيْهَا السُّودَانِيُّونَ. ثُمَّ عَادَ الْأُسْتَاذُ مِنْ أُورُبَّا إِلَى بَيْرُوتَ، وَبَعْدَ عَوْدَتِهِ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ هكس بَاشَا وَتَنْكِيلِ السُّودَانِيِّينَ بِحَمْلَتِهِ، فَبَعَثَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِرِسَالَةٍ " بَرْقِيَّةٍ " إِلَى الْوَزِيرِ الْإِنْكِلِيزِيِّ يُذَكِّرُهُ فِيهَا بِرَأْيِهِ وَكَيْفَ صَدَقَ. فَجَاءَهُ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَزِيرِ وَمَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا قُلْتَهُ لَنَا مَعْقُولٌ وَجِيهٌ وَلَكِنَّ السِّيَاسَةَ مَتَى قَرَّرَتْ شَيْئًا وَشَرَعَتْ فِيهِ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ وَامْتَنَعَ نَقْضُهُ وَالرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ وَجْهِ وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْعَزِيمَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُهْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا يُسْتَطَاعُ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَيْ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ بِالْعَمَلِ بِسُنَنِهِ وَمَا يَكُونُ لَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَلَا غَالِبَ لَكُمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نَصَبَهُمْ حِرْمَانُهُمْ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ - تَعَالَى - غَرَضًا لِلْقُنُوطِ وَالْيَأْسِ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَعِصْيَانِ الْقَائِدِ فِيمَا حَتَّمَهُ مِنْ عَمَلٍ - كَمَا جَرَى لَكُمْ فِي أُحُدٍ - أَوْ بِالْإِعْجَابِ بِالْكَثْرَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُوَّةِ، وَهُوَ مُخِلٌّ بِالتَّوَكُّلِ - كَمَا جَرَى يَوْمَ حُنَيْنٍ - فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ ; أَيْ لَا أَحَدَ يَمْلِكُ لَكُمْ حِينَئِذٍ نَصْرًا، وَلَا أَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ ضُرًّا

وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَتَوَكَّلُوا عَلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِأَسْبَابِهِ وَأُهَبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ (رَاجِعْ لَفْظَ " نَصْرٍ " فِي الْأَجْزَاءِ السَّابِقَةِ) . قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْأَسْبَابِ بِدَعْوَى التَّوَكُّلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِالشَّرْعِ أَوْ فَسَادٍ فِي الْعَقْلِ، فَالتَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ مَحَلُّهُ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، وَالْإِنْسَانُ مَسُوقٌ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ [30: 30] وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. قَالَ - تَعَالَى -: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67: 15] وَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [4: 71] وَقَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [8: 60] وَقَالَ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [2: 197]- رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا - وَقَالَ لِنَبِيِّهِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [11: 81] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [4: 23] وَقَالَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [12: 5] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ أَيْضًا: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12: 67] فَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ وَالتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَلَا غَنَاءَ لِلْمُؤْمِنِ عَنْهُمَا. ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَكَّلَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْأَمْرِ وَيَأْخُذْ لَهُ أُهْبَتَهُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ يَقَعُ فِي الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ عِنْدَمَا يَخِيبُ وَيَفُوتُهُ غَرَضُهُ فَيَكُونُ مَلُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَالِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [17: 29] وَإِذَا هُوَ اسْتَعَدَّ وَأَخَذَ بِالْأَسْبَابِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَافِلًا قَلْبُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْجَزَعِ وَالْهَلَعِ إِذَا خَابَ سَعْيُهُ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَفُوتُهُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ اللَّذَانِ يُهَوِّنَانِ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَيَتَدَارَكُ أَمْرَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي الْيَأْسِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ مَعَهُ فِي فَلَاحٍ وَلَا نَجَاحٍ ; وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللهُ الصَّبْرَ بِالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي مُحَاجَّةِ أَقْوَامِهِمْ: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [14: 12] وَذَكَرُوا أَنَّ اللهَ هَدَاهُمْ سُبُلَهُ وَهِيَ سُنَنُهُ فِي الْأَسْبَابِ وَأَنَّهُمْ مُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَوَصَفَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [16: 42] وَقَالَ: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [29: 58، 59] فَوَصَفَهُمْ بِالْعَمَلِ

وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ، وَقَالَ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [73: 9، 10] كَمَا قَالَ لَهُ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا [33: 48] فَهَاهُنَا قَرَنَ أَمْرَهُ بِالتَّوَكُّلِ بِنَهْيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَغُشُّ وَلَا يَنْصَحُ، كَمَا أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا أَعْنِي قَوْلَهُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ سَلْبًا وَإِيجَابًا. وَجَاءَ ذِكْرُ التَّوَكُّلِ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْحِرْمَانِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ مِنْ سَعَتِهِ، كَمَا جَاءَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُعْتَدِينَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [65: 2، 3] وَقَوْلِهِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ نَبْذِ الِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ خَشْيَةَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [42: 63] وَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَتَحْقِيقِهِ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي التَّوَكُّلِ مِنْهَا حَدِيثُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَبَّابٍ، وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) : (وَلَا يَعْتَافُونَ) ذَكَرَهُ فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ قَرَنَ التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَهُوَ لَمْ يَنْفِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا الِاسْتِشْفَاءَ بِالرُّقْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا طُلَّابُهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَالْعَجْزِ عَنْهَا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ شَرْعًا وَطَبْعًا وَنَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطْلَبَ الشَّيْءُ مِنْ سَبَبِهِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَاهُ، وَإِلَّا التَّطَيُّرُ وَهُوَ التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ وَنَحْوِهِ، الِاعْتِيَافُ وَهُوَ: التَّفَاؤُلُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا قَدْ هَاجَنِي فَازْدَدْتُ وِجْدَا ... بُكَاءُ حَمَامَتَيْنِ تَجَاوَبَانِ تَجَاوَبَتَا بِلَحْنٍ أَعْجَمِيٍّ ... عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ غَرَبٍ وَبَانِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى ... وَفِي الْغَرَبِ اغْتِرَابٌ غَيْرُ دَانِ وَالطِّيرَةُ وَالْعِيَافَةُ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَسَخَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ; لِأَنَّهَا مِنْ مُفْسِدَاتِ الْفِطْرَةِ

الْبَشَرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الرُّقْيَةُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَانَ أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ يَرْقُونَ اللَّدِيغَ، وَإِلَّا الْكَيُّ بِالنَّارِ وَهُوَ مِمَّا كَانُوا يَتَدَاوَوْنَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُهُ لِأُمَّتِهِ وَيَعُدُّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الضَّعِيفَةِ الْمُؤْلِمَةِ الْمُسْتَبْشَعَةِ الَّتِي تُنَافِي التَّوَكُّلَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اسْتَرْقَى أَوِ اكْتَوَى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَيْلِي هَذَا الْحَدِيثَ: لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الطَّيْرَ تَذْهَبُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَهِيَ خِمَاصٌ لِفَرَاغِهَا وَتَرْجِعُ مُمْتَلِئَةَ الْبُطُونِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّمَا تَمْكُثُ فِي أَعْشَاشِهَا وَأَوْكَارِهَا فَيَهْبِطُ عَلَيْهَا الرِّزْقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْعَى إِلَيْهِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ الرَّجُلِ جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ نَاقَتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: أَأَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَمْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَجَعَلَا الْقَائِلَ عُمْرًا نَفْسَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ. وَكَلَامُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مُسْتَفِيضٌ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) أُرِيدُ الْحَجَّ عَلَى التَّوَكُّلِ، فَقَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ فِي غَيْرِ الْقَافِلَةِ، قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَى جُرُبِ النَّاسِ تَوَكَّلْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2: 198] نَزَلَ فِي تَخْطِئَةِ مَنْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قُلْتُ لِأَبِي: هَؤُلَاءِ الْمُتَوَكِّلُونَ يَقُولُونَ: نَقْعُدُ وَأَرْزَاقُنَا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. فَقَالَ: ذَا قَوْلٌ رَدِيءٌ خَبِيثٌ، يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [62: 9] وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: نَتَّكِلُ عَلَى اللهِ وَلَا نَكْتَسِبُ، فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَلَكِنْ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكَسْبِ، هَذَا قَوْلُ إِنْسَانٍ أَحْمَقَ. وَرُوِيَ عَنْ وَلَدِهِ صَالِحٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: التَّوَكُّلُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَلَّا يَكُونَ عِيَالًا عَلَى النَّاسِ، يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ حَتَّى يُغْنِيَ

أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ وَلَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ. قَالَ: وَسُئِلَ أَبِي - وَأَنَا شَاهِدٌ - عَنْ قَوْمٍ لَا يَعْمَلُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ. قَالَ الْجَلَالُ رَاوِي مَا ذُكِرَ: وَأَخْبَرَنِي الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يَقُولُ: هُمْ مُبْتَدِعَةٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُ سُوءٍ يُرِيدُونَ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَثِّ عَلَى الْكَسْبِ وَعَدَمِ تَوَقُّعِ الصِّلَةِ وَالنَّوَالِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَدَّادُ شَيْخُ الْجُنَيْدِ فِي التَّصَوُّفِ: أَخْفَيْتُ التَّوَكُّلَ عِشْرِينَ سَنَةً وَمَا فَارَقْتُ السُّوقَ، كُنْتُ أَكْتَسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِينَارًا وَلَا أُبَيِّتُ مِنْهُ دَانِقًا، وَلَا أَسْتَرِيحُ مِنْهُ إِلَى قِيرَاطٍ أَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْخُرُوجُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّوَكُّلِ، وَأَحْفَظُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْهُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ: " لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْخُرُوجُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - أَصْلًا " وَهَذِهِ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ. وَقَالَ فِي بَيَانِ أَعْمَالِ الْمُتَوَكِّلِينَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَقْطُوعِ بِهَا: " وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَبَطَتِ الْمُسَبِّبَاتُ بِهَا بِتَقْدِيرِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ارْتِبَاطًا مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ، كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ جَائِعٌ مُحْتَاجٌ وَلَكِنَّكَ لَسْتَ تَمُدُّ الْيَدَ إِلَيْهِ وَتَقُولُ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ، وَشَرْطُ التَّوَكُّلِ تَرْكُ السَّعْيِ، وَمَدُّ الْيَدِ إِلَيْهِ سَعْيٌ وَحَرَكَةٌ، وَكَذَلِكَ مَضْغُهُ بِالْأَسْنَانِ وَابْتِلَاعُهُ بِإِطْبَاقِ أَعَالِي الْحَنَكِ عَلَى أَسَافِلِهِ فَهَذَا جُنُونٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَزْرَعِ الْأَرْضَ وَطَمِعْتَ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللهُ - تَعَالَى - نَبَاتًا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ أَوْ تَلِدَ زَوْجَتُكَ مِنْ غَيْرِ وِقَاعٍ كَمَا وُلِدَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَكُلُّ ذَلِكَ جُنُونٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ وَلَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ " ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي لَا تُعَدُّ قَطْعِيَّةٌ مُطَّرِدَةٌ كَالتَّزَوُّدِ لِلسَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ تَرْكُهَا فِي التَّوَكُّلِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ وَيُعَدُّ مِنْ أَعْلَى التَّوَكُّلِ، وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمْثَالُهُ كَالزُّهْدِ وَالْفَقْرِ لَا يَسْلَمُ مِنْ نَقْدٍ وَخَطَأٍ ; لِمُبَالَغَتِهِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ: وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِنْكَارِ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَحُجُّوا مِنْ غَيْرِ زَادٍ. وَسَنُوَفِّي هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [5: 77] وَلِغَلَبَةِ هَذَا الْمَيْلِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ (رَحِمَهُ اللهُ) رَاجَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاهِيَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ، بَلْ رَاجَ عِنْدَهُ مَا دُونَهَا مِنْ كَلَامِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَتَخَيُّلَاتِ الشُّعَرَاءِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ ... فَسِيَّانَ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ ... وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ فَانْظُرْ كَيْفَ يُنْسِي الْإِنْسَانَ مَيْلُهُ وَحُبُّهُ لِلشَّيْءِ عِلْمَهُ وَفِقْهَهُ حَتَّى يَسْتَحْسِنَ مَا يُخَالِفُهُمَا، وَإِلَّا فَإِنَّ جَهَالَةَ هَذَا الشَّاعِرِ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ أَبِي حَامِدٍ عِلْمًا وَفِقْهًا ; فَإِنَّ جَرَيَانَ قَلَمِ

الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ سَبَبَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ هُوَ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ، وَمِنْهُ نَعْلَمُ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْحَرَكَةِ غَيْرُ سُنَّتِهِ فِي السُّكُونِ، وَسُنَنُ اللهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تُنْقَضُ، وَكَوْنُهُمَا كَذَلِكَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُمَا سَبَبَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءُ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا زَعَمَ الشَّاعِرُ الْجَاهِلُ لَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67: 15] وَلَمَا قَالَ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ [62: 10] وَالْمَشْيُ وَالِانْتِشَارُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَرَكَةِ لَا مِنَ السُّكُونِ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي أَبْعَدُ عَنِ الصَّوَابِ مِمَّا فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَاسَ حَيَاةَ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْقَادِرِ عَلَى حَيَاةِ الْجَنِينِ، وَسُنَّةُ اللهِ فِيهِمَا مُخْتَلِفَةٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْقِيَاسُ لَصَحَّ أَيْضًا قِيَاسُ الْإِنْسَانِ عَلَى النَّبَاتِ مِنْ نَجْمٍ وَشَجَرٍ ; فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ أَشْبَهُ بِغِذَاءِ النَّبَاتِ مِنْهُ بِغِذَاءِ الْحَيَوَانِ. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِاسْمِ الْجُنُونِ؟ أَمَّنَ يَقُولُ إِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْجَنِينِ يَتَكَوَّنُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَسُنَّتِهِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي بَلَغَ أَشُدَّهُ وَجَعَلَ لَهُ اللهُ رِجْلَيْنِ يَمْشِي بِهِمَا وَيَدَيْنِ يَبْطِشُ بِهِمَا وَسَمْعًا وَبَصَرًا يَسْمَعُ بِهِمَا وَيُبْصِرُ، وَعَقْلًا بِهِ يُفَكِّرُ وَيُدَبِّرُ؟ أَمْ مَنْ يَقُولُ إِنْ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِيهِمَا مُخْتَلِفَةٌ؟ هَذَا وَإِنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي الْكَسْبِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ التَّوَكُّلِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ وَالسَّعْيَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [11: 61] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ [15: 20] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [78: 11] وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، والْبَيْهَقِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحَسَّنَهُ. وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْعُدْ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ: اللهُمَّ ارْزُقْنِي فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " وَقَالَ أَيْضًا: " مَا مِنْ مَوْضِعٍ يَأْتِينِي الْمَوْتُ فِيهِ أَحَبُّ عَلَيَّ مِنْ مَوْطِنٍ أَتَسَوَّقُ فِيهِ لِأَهْلِي أَبِيعُ وَأَشْتَرِي " ذَكَرَهُمَا فِي الْقُوتِ وَالْأَحْيَاءِ. كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - تُجَّارًا حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا فَلَقِيَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ السُّوقَ. قَالَا: تَصْنَعُ مَاذَا وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ فَهَلْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَكِّلٍ؟ ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْكَسْبِ وَلَمْ يَقُولُوا لَهُ: تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَهُوَ يَرْزُقُكَ بِغَيْرِ عَمَلٍ.

وَقَدْ بَلَغَ مِنْ تَوَكُّلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنْ كَانَ يُسَلِّي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ وَيُخَفِّفُ عَنْهُ، فَفِي السِّيرَةِ الْهَاشِمِيَّةِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّلَ الصُّفُوفَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ الَّذِي بَنَوْهُ لَهُ فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدُ، وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللهِ بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ فَإِنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ " وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يُنْبِئُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، وَأَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ وَادِعًا مُطْمَئِنًّا، وَلَعَلَّهُ تَكَلَّفَ ذَلِكَ لِتَسْلِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ ضَعِيفُ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي رَفْضُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِعَدَمِ صِحَّةِ مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَشَدَّ تَوَكُّلًا وَثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ مِنْ رَسُولِهِ الْأَكْرَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بُعْدُ مَا بَيْنَ دَرَجَةِ النَّبِيِّ الْعُلْيَا فِي التَّوَكُّلِ وَدَرَجَةِ صَاحِبِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْهِجْرَةِ الشَّرِيفَةِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [9: 40] فَهَذَا مَقَامُ التَّوَكُّلِ وَهَذَا أَثَرُهُ، وَمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ إِلَّا أَعْلَى إِيمَانًا وَتَوَكُّلًا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا وَعِلْمًا بِرَبِّهِ وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا كَانَ يَدْعُوهُ بِأَمْرِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [20: 114] وَإِنَّمَا ظَهَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا ; فَفِي يَوْمِ الْهِجْرَةِ كَانَ خَارِجًا مِنْ قَوْمٍ بَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَكْفِي لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَمُدَافَعَتِهِمْ، وَالْعَرَبُ كُلُّهَا إِلْبٌ وَاحِدٌ مَعَ قَوْمِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُ الْعَجْزِ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْمَرَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادِعًا سَاكِنًا، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - عَلَى رَجَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ - مُضْطَرِبًا، وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ كَانَ قَادِرًا عَلَى اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ لِمُقَاوَمَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَحَفُوا عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانَ التَّوَكُّلُ فِيهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ اتِّخَاذِ كُلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَسْبَابِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْجَأِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الدُّعَاءِ وَمُنَاشَدَةِ رَبِّهِ الْمَعُونَةَ وَالنَّصْرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ فَعَلَ كُلَّ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْبَابِ مَعَ الْمُشَاوَرَةِ وَاتِّبَاعِ رَأْيِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مُقَصِّرًا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْأَسْبَابِ فَيَفُوتُ النَّصْرُ لِذَلِكَ فَلَجَأَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَلَّ بِهِمْ وَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَقَدْ ذُكِرَ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ هَذَا السِّيَاقِ - وَالصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ يَصِلْ عِلْمُهُ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ.

161

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِيَاقِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قَدْ نَزَلَ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَإِنْ حَسَّنَهَا التِّرْمِذِيُّ - لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَرَجَّحُوا عَلَيْهَا مَا رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ مِنْ أَنَّ الرُّمَاةَ قَالُوا حِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ الَّذِي وَضَعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ: نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ " وَأَلَّا يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ يُقَسِّمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَظَنَنْتُمْ أَنَّنَا نَغُلُّ وَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ؟ وَلِهَذَا نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ جَرِيرٍ مُرْسَلًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَائِعَ فَغَنِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنِيمَةً، فَقَسَمَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يَقْسِمْ لِلطَّلَائِعِ، فَلَمَّا قَدِمَتِ الطَّلَائِعُ قَالُوا: قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْسِمْ لَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - الْآيَةَ ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتٍ هَذِهِ الْوَقْعَةِ كَالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَكَثِيرٍ مِمَّا يَأْتِي بَعْدَهَا. وَأَصْلُ الْغُلِّ: الْأَخْذُ بِخُفْيَةٍ كَالسَّرِقَةِ، وَغَلَبَ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَتُسَمَّى غُلُولًا. قَالَ الرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ: أَصْلُ الْغُلُولِ مِنَ الْغَلَلِ وَهُوَ دُخُولُ الْمَاءِ فِي خَلَلِ الشَّجَرِ، وَسُمِّيَتِ الْخِيَانَةُ غُلُولًا لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمُلْكِ عَلَى خَفَاءٍ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَحِلُّ، وَمِنْ ذَلِكَ

الْغِلُّ: لِلْحِقْدِ، وَالْغَلِيلُ: لِحَرَارَةِ الْعَطَشِ، وَالْغِلَالَةُ: لِلشِّعَارِ. أَقُولُ: وَتَغَلْغَلَ فِي الشَّيْءِ دَخَلَ فِيهِ وَاخْتَفَى فِي بَاطِنِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ سِيرَتِهِ أَنْ يَغُلَّ ; لِأَنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْغُلُولِ فَهُوَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ; أَيْ يَخُونَ فِي الْمَغْنَمِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا يُفِيدُهُ هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ - لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَعْوَى بِدَلِيلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنْهُمْ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: " أَنْ يُغَلَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ أَغْلَلْتُهُ بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ غَالًّا ; أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ أَنْ يُوجَدَ غَالًّا، أَوْ بِمَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْغُلُولِ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِالْغُلُولِ، أَوْ مِنْ غَلَّ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَسْرِقُ مِنْ غَنِيمَتِهِ السَّارِقُونَ وَيَخُونُهُ الْعَامِلُونَ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْغُلَّ أَوِ الْغُلُولَ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ وَكِتْمَانُهُ عَنِ النَّاسِ لَا الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعُدُّهُ عَامًّا فِي كُلِّ غُلُولٍ أَوْ خَاصًّا بِالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ جِيءَ بِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا عُهِدَ فِي مُنَاسَبَاتِ الْقُرْآنِ، وَانْتِقَالُهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ لَهُ حِكْمَةٌ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا عَلَى مَنْ رَغِبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْرُكَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ مُنَاسَبَةِ كَوْنِ الْغُلِّ بِمَعْنَى الْكِتْمَانِ وَإِخْفَاءِ بَعْضِ التَّنْزِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِمُعَاتَبَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي أُحُدٍ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى مَا قَصَّرُوا، وَذَلِكَ مِمَّا يَصْعُبُ تَبْلِيغُهُ عَادَةً ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ، وَمِنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا إِعْلَاءٌ لِشَأْنِهِمْ وَمُعَامَلَةٌ لَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّئُونِ، وَذَلِكَ مِمَّا عَهِدَ الْبَشَرُ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الرَّئِيسِ مِنْهُمْ إِبْلَاغُهُ لِلْمَرْءُوسِينَ وَيُزَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [3: 128] عِنْدَمَا لَعَنَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ. كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ إِعْلَامًا لِلنَّاسِ بِمَا يَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ ذِكْرُهُ وَتَبْلِيغُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ غُلٌّ أَوْ غُلُولٌ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا غَلَّ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يَغُلُّ بِهِ الْغَالُّ أَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهُ لِيُفْتَضَحَ بِهِ، وَيَكُونُ مَزِيدًا فِي عَذَابِهِ هُنَالِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ

رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ: مِنْهَا أَنَّهُ يُكَلَّفُ الْإِتْيَانَ بِهِ مِنَ النَّارِ لَا أَنَّهُ يَجِيءُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَهُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا مَانِعَ مِنْ إِمْضَاءِ هَذَا الْإِتْيَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ غَلَّ الْإِنْسَانُ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْأَشْيَاءِ الصَّامِتَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ مَهْمَا كَثُرَتْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ رَجُلًا اسْتَشْكَلَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَهُ ذَاكَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ مَنْ يَغُلُّ مِائَةَ بَعِيرٍ أَوْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهَا؟ فَأَجَابَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ كَانَ ضِرْسُهُ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ حَمْلِ مَا يَغُلُّ بِهِ الْغَالُّ عَلَى رَقَبَتِهِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، شُبِّهَتْ حَالُ الْغَالِّ بِمَا يُرْهِقُهُ مِنْ أَثْقَالِ ذَنْبِهِ وَفَضِيحَتِهِ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْمُعِينِ وَالْمُغِيثِ بِمَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَيْنَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَقْصِدُ أَرْجَى النَّاسِ لِإِغَاثَتِهِ فَيَخْذُلُهُ وَيَتَنَصَّلُ مِنْ إِغَاثَتِهِ، وَمَازَالَ النَّاسُ يُشَبِّهُونَ الْأَثْقَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ بِالْأَثْقَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْحِمْلِ، يَقُولُونَ فُلَانٌ حَامِلُ أَثْقَالِ أَهْلِهِ أَوْ أَثْقَالِ الْبَلَدِ، وَفِي التَّنْزِيلِ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [29: 12، 13] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [35: 18] عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِتْيَانَ بِمَا غَلَّ بِهِ الْغَالُّ بِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَاءَ لِلْمُصَاحَبَةِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ. وَقَدْ عَدَلَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطَيْفٌ خَبِيرٌ [31: 16] فَلَيْسَ مَعْنَى يَأْتِ بِهَا اللهُ أَنَّهُ يَحْمِلُهَا، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا أَتَمَّ الْعِلْمَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَهْمَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً ; لِأَنَّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغُلُّهُ الْغَالُّ هُوَ عِبَارَةٌ - أَوْ قَالَ كِنَايَةٌ - عَنِ انْكِشَافِهِ وَظُهُورِهِ ; أَيْ إِنَّ كُلَّ غُلُولٍ

وَخِيَانَةٍ خَفِيَّةٍ يَعْلَمُهُ اللهُ - تَعَالَى - مَهْمَا خَفِيَ، وَيُظْهِرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْغَالِّ حَتَّى يَعْرِفَهُ كَمَعْرِفَةِ مَنْ أَتَى بِالشَّيْءِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99: 7، 8] . أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِالْأَعْمَالِ وَإِعْلَامِهِ الْعَامِلِينَ بِهَا يَوْمَ الْحِسَابِ. قَالَ بَعْدَمَا مَرَّ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَالُّ بِمَا غَلَّ، كَمَا يَأْتِي كُلُّ عَامِلٍ بِمَا يَعْمَلُ، فَيَتَمَثَّلُ لَدَيْهِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْهِ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [3: 30] وَمِثْقَالُ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَرْئِيًّا مُبْصِرًا، بَعْدَ هَذَا تَنَالُ جَزَاءَ مَا كَسَبْتَ مُسْتَوْفًى تَامًّا لَا تُنْقَصُ مِنْهُ شَيْئًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18: 49] . ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي آخِرِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ أَيْ جَعَلَ مَا يُرْضِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِمَامًا لَهُ فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاتَّقَى الْغُلُولَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، حَتَّى زَكَتْ نَفْسُهُ وَارْتَقَتْ رُوحُهُ، فَوُفِّيَ جَزَاءَ الْحَسَنِ، وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ أَيِ انْتَهَى إِلَى مَبَاءَتِهِ فِي الْآخِرَةِ مُصَاحِبًا وَمُقْتَرِنًا بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِتَدْسِيَةِ نَفْسِهِ بِمَا خَفِيَ مِنَ الْخَطَايَا كَالسَّرِقَةِ وَالْغُلُولِ، وَتَدْنِيسِهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَإِهْمَالِ تَطْهِيرِهَا بِالْعِبَادَاتِ وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ذَلِكَ الْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَسَاءَ ذَلِكَ الْمُنْتَهَى الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا لَا تَسْتَوِي الظُّلْمَةُ وَالنُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَقَدْ جَعَلَ الْخَيْرَ مُتْبَعًا لِلرِّضْوَانِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الرِّضْوَانِ أَعْلَامُ هِدَايَةٍ تُتَّبَعُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الشِّرِّيرِ ; لِأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ يَبْتَدِعُ وَلَا يَتَّبِعُ. هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضْوَانَ اللهِ وَالَّذِينَ يَبُوءُونَ بِسَخَطِهِ دَرَجَاتٌ أَوْ ذَوُو دَرَجَاتٍ وَمَنَازِلَ عِنْدَ اللهِ، أَيْ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ فِيهِ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَمَا قَالَ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40: 15، 16] . وَالَّذِي فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَرَجَاتٍ فِي حُكْمِ اللهِ وَبِحَسَبِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ التَّغَلُّبِ فَتَشْمَلُ الدَّرَكَاتِ، فَالدَّرَجَاتُ

مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ وَهِيَ لِلْمُرْتَقِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّضْوَانِ، وَالدَّرَكَاتُ مَا يُتَدَلَّى فِيهِ، وَهِيَ لِلْمُتَدَلِّينَ مِنْ أَهْلِ السُّخْطِ وَالْخِذْلَانِ، كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [2: 253] وَفِي الثَّانِي: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [4: 145] قَالَ الرَّاغِبُ: الدَّرْكُ كَالدَّرَجِ، لَكِنَّ الدَّرَجَ يُقَالُ اعْتِبَارًا بِالصُّعُودِ وَالدَّرْكُ اعْتِبَارًا بِالْحُدُورِ ; وَلِهَذَا قِيلَ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ وَدَرَكَاتُ النَّارِ وَلِتَصَوُّرِ الْحُدُودِ فِي النَّارِ سُمِّيَتْ هَاوِيَةً. (قَالَ) : وَالدَّرْكُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) أَقْصَى قَعْرِ الْبَحْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجَزَاءِ عِنْدَ اللهِ كَمَا يَتَفَاوَتُونَ هُنَا فِي الْعِرْفَانِ وَالْفَضَائِلِ، وَفِي الْجَهْلِ وَالرَّذَائِلِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ. وَهَذَا التَّفَاوُتُ عَلَى مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ يَعْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا مِنَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى الَّذِي كَانَ يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَبِّهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الَّذِي وَرَدَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ - وَذُكِرَ آنِفًا - وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ لَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَطَاءً مُؤْتَنَفًا وَكَيْلًا جُزَافًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِارْتِقَاءِ الْأَرْوَاحِ وَتَدَلِّيهَا هُنَا بِالْأَعْمَالِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهَا: وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فَهُوَ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْفَلَاحُ فِي ارْتِقَاءِ الدَّرَجَاتِ وَفِي تَدْسِيَتِهَا الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْخَيْبَةُ فِي هُبُوطِ الدَّرَكَاتِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [91: 9، 10] فَتَحْصِيلُ الدَّرَجَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالتَّمَتُّعُ بِهَا يَكُونُ فِي دَارِ الْقَرَارِ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [43: 32] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا [6: 165] وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ بِوَسِيلَةٍ وَلَا مَقْصِدٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ دَرَجَاتُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ يَظْهَرُ بِهَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ تَوْسِيعِ الرِّزْقِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى بَعْضٍ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17: 21] وَأَمَّا رَسَائِلُهَا الَّتِي قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ آثَارُهَا وَهِيَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [58: 11] وَقَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [12: 76] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [6: 83] فَهَذِهِ كُلُّهَا دَرَجَاتُ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي رَبْطِ دَرَجَاتِ الْعَمَلِ بِدَرَجَاتِ الْجَزَاءِ: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً [4: 95، 96] وَمِنْهَا بَعْدَ ذِكْرِ

164

الْجَزَاءِ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [6: 132] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا [20: 75] . فَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ فِي النَّفْسِ، وَلَا عَاطِفَةٌ مِنْ عَوَاطِفِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَا حَقِيقَةٌ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ فِي الْعَقْلِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَدَرَجَاتُ ارْتِقَاءِ الْأَرْوَاحِ لَهَا فِي عِلْمِهِ - تَعَالَى - نِظَامٌ دَقِيقٌ أَدَقُّ مِنْ نِظَامِ مِيزَانِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ الرُّطُوبَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ ثِقَلِ السَّائِلَاتِ فِي دَرَجَاتِهَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَوَازِينَ بِالْمَوَازِينِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْكَوْنِ، وَإِنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي نُفُوسِ النَّاسِ لَا تَقِلُّ عَنْ سُنَنِهِ فِي غَيْرِهَا نِظَامًا وَاطِّرَادًا، وَأَنَّ بَيْنَ عُلْيَا الدَّرَجَاتِ وَسُفْلَاهَا دَرَجَةَ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عُقُوبَةً، وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَثُوبَةً ; وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّرَجَاتِ: إِنَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَلَيْسَ عِنْدِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ وَهِيَ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ: غَمَرَهُمْ بِالْمِنَّةِ وَأَثْقَلَهُمْ بِالنِّعْمَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنْ نَفْيِ الْغُلُولِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ وَصْفِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِالْمُشَاوَرَةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَامَلَهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ - وَبَيْنَ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا مَا قَالُوا مِمَّا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ هِدَايَتِهِ - وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فِي أُحُدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مِنَّتِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْثِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحُسْنَى وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْغُلُولِ تَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ أُخْرَى أَكَّدَ بِهَا الْمِنَّةَ: الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَيِ الْعَرَبِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْمِنَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي كَوْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً عَامَّةً: هُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ يَزِيدُ فِي شَرَفِهِمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ فَهْمًا لِدَعْوَتِهِ، وَالنِّعْمَةُ الْعَامَّةُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21: 107] وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ بِالْعَرَبِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [2: 129] إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنْفُسِهِمْ هَاهُنَا الْبَشَرُ لَا الْعَرَبُ. أَقُولُ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ وَإِنْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكَوْنِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ، أَمَّا ضَعْفُهُ فَمِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ مَنْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي عَقِبِ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. (ثَانِيهَا) مُوَافَقَةُ دَعْوَةِ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ -، وَإِنَّمَا دَعَوْا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا، وَذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ هُمُ الْعَرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. (ثَالِثُهَا) مُوَافَقَةُ آيَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [62: 2] وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ. (رَابِعُهَا وَخَامِسُهَا) مَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَمَا يَأْتِي فِي تَفْسِيرِ وَصْفِهِمْ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ. (سَادِسُهَا) أَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِسَانِهِ آيَاتِ اللهِ، وَبَاشَرَ بِنَفْسِهِ تَزْكِيَتَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَرَبِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَلْقِينِهِ لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَمَنْ جَحَدَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَكُونُ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ يَنْشُرُ الدَّعْوَةَ كُلُّ قَوْمٍ قَبِلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، فَصَحَّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [34: 28] وَقَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21: 107] . الْوَصْفُ الثَّانِي قَوْلُهُ: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَاتُ هِيَ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكَمْتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَتِلَاوَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تِلَاوَةِ مَا فِيهِ بَيَانُهَا وَتَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3: 190] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2: 164] وَمِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ كَلِمَةُ " الْآيَاتِ " كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [91: 1، 2] إِلَخْ. الْوَصْفُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

قَالَ الْأُسْتَاذُ: تَزْكِيَتُهُ إِيَّاهُمْ هِيَ تَطْهِيرُهُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَوَسَاوِسِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَدْرَانِهَا، وَالْعَقَائِدُ هِيَ أَسَاسُ الْمَلَكَاتِ ; وَلِذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلَوَّثِينَ فِي عُقُولِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ. أَقُولُ: قَدْ سَبَقَ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (2: 129) أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّزْكِيَةِ تَرْبِيَةُ النُّفُوسِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُرَبِّيًا وَمُعَلِّمًا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعَقَائِدَ أَسَاسُ الْمَلَكَاتِ، أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَزَكَّ عَقْلُهُ وَيَتَطَهَّرْ مِنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَجَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ لَا تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالتَّحَلِّي بِالْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةِ ; فَإِنَّ الْوَثَنِيَّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِهَا الْمُسَبِّبَاتُ مَنَافِعَ تُرْجَى وَمَضَارَّ تُخْشَى مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهَا لِيُؤْمَنَ ضُرُّهَا، وَيُنَالَ خَيْرُهَا، وَيُتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى خَالِقِهَا وَأَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا يَكُونُ دَائِمًا أَسِيرَ الْأَوْهَامِ، وَأَخِيذَ الْخُرَافَاتِ، يَخَافُ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ وَيَرْجُو حَيْثُ يَجِبُ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ، وَتَتَعَدَّى قَذَارَةُ عَقْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ فَتَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا وَتُدَنَّسُ آدَابُهَا، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ لَا تَتِمُّ بِتَزْكِيَةِ الْعَقْلِ، وَلَا تَتِمُّ تَزْكِيَةُ الْعَقْلِ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْكِتَابَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ قَدِ اضْطَرَّهُمْ إِلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ دِينٌ حَثَّ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ. أَقُولُ: كَانَ أَوَّلَ حَاجَتِهِمْ إِلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ وُجُوبُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اتَّخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَةً لِلْوَحْيِ وَكَتَبُوا لَهُ كُتُبًا دَعَا بِهَا الْمُلُوكَ وَالرُّؤَسَاءَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ يَكْثُرُ فِيهِمْ عَلَى قَدْرِ نَمَاءِ مَدَنِيَّتِهِمْ وَامْتِدَادِ سُلْطَتِهِمْ، قَالَ: وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ أَسْرَارُ الْأُمُورِ وَفِقْهُ الْأَحْكَامِ وَبَيَانُ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا وَالطَّرِيقِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا، ذَلِكَ الْفِقْهُ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، أَوْ هِيَ الْعَمَلُ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلَى هَذَا الْفِقْهِ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ بِبَرَاهِينِهَا ; لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتُهُ فِي الْعَقَائِدِ وَكَذَا فِي الْآدَابِ وَالْعِبَادَاتِ ; وَقَدْ مَرَّتِ الشَّوَاهِدُ الْكَثِيرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَأْتِي مَا هُوَ أَكْثَرُ وَأَغْزَرُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَلَالٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ. وَأَيُّ ضَلَالٍ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَتَّبِعُونَ الْأَوْهَامَ أُمِّيِّينَ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ، فَيَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَلَالَتِهِمْ وَحَقِيقَةَ جَهَالَتِهِمْ، فَضَلَالُهُمْ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

165

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَعْدَ تَبْرِئَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْغُلُولِ وَبَيَانِ مَا بُعِثَ لِأَجْلِهِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى كَشْفِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْغُزَاةِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَبَيَانِ ضَلَالِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ قَالَ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْأَوَّلَ لِلتَّقْرِيعِ وَ (لَمَّا) بِمَعْنَى " حِينَ " وَالْمُصِيبَةُ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَعْنَى إِصَابَتِهِمْ مِثْلَيْهَا هُوَ كَوْنُهُمْ قَتَلُوا فِي بَدْرٍ سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ غَيْرَ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَجَعَلَ الْأَسْرَى فِي حُكْمِ الْقَتْلَى لِلتَّمَكُّنِ مِنْ قَتْلِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُصِيبَةِ الْهَزِيمَةُ، وَبِالْمِثْلَيْنِ هَزِيمَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهَزِيمَتُهُمْ إِيَّاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا نَالُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ هُوَ مِثْلَيْ مَا نَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ مَرْكَزَهُمْ وَإِخْلَائِهِمْ ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ لِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ - رَاجِعْ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [3: 152] وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّى هَذَا! ! فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ ; أَيْ مِنْ أَيْنَ جَاءَنَا هَذَا الْمُصَابُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ وَبَيَانٌ لِمِنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ حَتَّى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّ خِذْلَانَهُمْ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ ظَفَرَهُمْ فِي بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُهُمْ ضِعْفَيِ انْتِصَارِ الْمُشْرِكِينَ هُنَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَاذَا نَسِيتُمْ فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ فِي بَدْرٍ فَلَمْ تَذْكُرُوهُ؟ وَأَخَذْتُمْ تَعْجَبُونَ مِمَّا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ وَتَسْأَلُونَ عَنْ سَبَبِهِ وَمَصْدَرِهِ!

وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ سَبَبَ تَعَجُّبِهِمْ مِمَّا أَصَابَهُمْ هُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَصِرُوا وَهُمْ مُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِيهِمْ رَسُولُهُ - وَتَقَدَّمَ كَشْفُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ - وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا تَعَجُّبُهُمْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَهُوَ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ بِخُرُوجِكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أُحُدٍ، وَكَانَ الرَّأْيَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَقَاءِ فِيهَا حَتَّى إِذَا مَا دَخَلَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ سُطُوحِ الْمَنَازِلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ إِنَّكُمْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمُ الرَّسُولَ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، فَفَارَقَ الرُّمَاةُ مِنْكُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِحِمَايَةِ ظُهُورِكُمْ بِنَضْحِ عَدُوِّكُمْ بِالنَّبْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُرَّ عَلَيْكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ، هَذَا الْمُتَبَادِرُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا لَازِمَةً لِلْأَعْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَا حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ كَانَ عِقَابًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْ أَسْرَى بَدْرٍ الَّذِي عَاتَبَ اللهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [8: 67] إِلَخْ. وَقَوَّوْهُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ، فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ قَالَ: فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَقُولُ مَا أَرَى أَنَّ هَذَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْمَعْقُولِ وَكَيْفَ يَصِحُّ وَالْمَأْثُورُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ مِنْ رَأْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَحَاشَا لَهُمْ أَنْ يَرْضَيَا بِأَخْذِ مَالٍ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مُؤْمِنًا! ! وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَحْثُ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا طَبِيعِيَّةً لِلْأَعْمَالِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ. إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ تَنْفِيذُ سُنَنِهِ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ وَإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَإِقَامَةِ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي الْكَائِنَاتِ، بِرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِ وَجْهِ تَعَجُّبِهِمْ هُوَ وُجُودُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. أَيْ إِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْفَعُ أُمَّةً قَدْ خَالَفَتِ السُّنَنَ وَالطَّبَائِعَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِوُجُودِكُمْ مَعَهُ، مَعَ الْمُخَالَفَةِ لِلَّهِ وَلَهُ، فَهُوَ لَا يَحْمِيكُمْ مِمَّا تَقْتَضِيهِ سُنَنُ اللهِ فِيكُمْ وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ قُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَنَّ لَهَا الصَّدَارَةَ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.

166

وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ وَفَعَلْتُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَمْ تُبَالُوا بِذَلِكَ وَتُفَكِّرُوا فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا تَعَجُّبًا مِنْهُ وَاسْتِغْرَابًا! ! وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ لَا عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا قَهْرًا لِلْإِرَادَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يَمْنَعُهَا وُجُودُ الرَّسُولِ فِيهِمْ. أَقُولُ أَيْ وَكُلُّ مَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَهُوَ بِإِذْنِ اللهِ: أَيْ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ بِأَنْ تَكُونَ السُّنَنُ الْعَامَّةُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ مُطَّرِدَةً، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يُخْطِئُ الرَّأْيَ وَيَعْصِي الْقَائِدَ وَيَخَلِّي بَيْنَ ظَهْرِهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِنْ تَفْسِيرِ الْإِذْنِ هُنَا بِقَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ وَعِبْرَةٌ، وَعِلْمٌ عَالٍ يُجَلِّي لَهُمْ قَوْلَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [3: 137] وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمَنْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا تِلْكَ الْعِنَايَةَ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ -، وَقَدْ فَشِلُوا فِي الْأَمْرِ وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَذِنَ بِهِ وَأَرَادَهُ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَالَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى أَسْبَابِهَا، وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ فِيهِمْ حُكْمُهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلْمِ فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، فَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا لِيُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ حَالَ الْكَافِرِينَ مَعَهُمْ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَتَبَطَّنُوا الْكُفْرَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّفَقِ، وَهُوَ السِّرْبُ فَهُمْ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ مُشْتَقٌ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ أَوْ أَحَدُ بَابَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ يَجْعَلُ لِجُحْرِهِ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَاصِعَاءُ وَالْآخُرُ النَّافِقَاءُ فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ يَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ بَابِ الْكُفْرِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُ مَشَقَّةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَجَأَ إِلَى الْآخَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنِ النَّافِقَاءَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ يَحْفِرُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُرَقِّقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا رَابَهُ شَيْءٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فُتِّشَهُ

167

رَمَى عَنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ. كَذَا وَجَّهَهُ الرَّازِيُّ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ لِأَنَّهُ يَلْجَأُ لِلْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِيَ بِهِ، فَإِذَا رَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَسَيَأْتِي مِنْ أَوْصَافِهِمْ مَا يَظْهَرُ بِهِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [4: 141] . وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ حَالَ الَّذِينَ نَافَقُوا، أَيْ وَقَعَ مِنْهُمُ النِّفَاقُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ كَثُبُوتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْعِبْرَةِ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ شَرًّا وَسُوءًا وَكَرِهُوا حُصُولَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ وَأَهْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ لَا لِلْحَمِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا ابْتِغَاءَ الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ دِفَاعٌ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ فَرَاوَغُوا وَحَاوَلُوا، وَقَعَدُوا وَتَكَاسَلُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ أَيْ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ قِتَالًا فِي خُرُوجِكُمْ لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَلَكِنَّنَا نَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي بِغَيْرِ قِتَالٍ، نَزَلَ ذَلِكَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعُوا مِنَ الطَّرِيقِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ لِيُخَذِّلُوا الْمُسْلِمِينَ وَيُوقِعُوا فِيهِمُ الْفَشَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُجْمَلِ الْقِصَّةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا (رَاجِعْ ص80 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ) قَالَ - تَعَالَى -: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ يَوْمَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ لِظُهُورِ صِفَتِهِ فِيهِمْ وَانْطِبَاقِ آيَتِهِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا يَتَعَمَّدُ الْمُؤْمِنُ تَرْكَهَا، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي جَعْلِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي حُصِرَ الْإِيمَانُ فِي الْمُتَّصِفِينَ بِهَا كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [49: 15] قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لِلِاحْتِرَاسِ بَلْ لِرَفْعِ شَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالَ إِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كُفَّارٌ مِنْ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمَنْعًا لِلتَّهَجُّمِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعَلَامَاتِ وَالْقَرَائِنِ. أَقُولُ: يَعْنِي إِنَّ هَذَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَصْدُرَ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ لَا يُعَدُّ - بِحَدِّ ذَاتِهِ - كُفْرًا صَرِيحًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، لِاحْتِمَالِ الْعُذْرِ وَالتَّأْوِيلِ،

وَلَوْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِهِ ظَاهِرًا لَوَجَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَئِيسِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَحِينَئِذٍ فَضَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ [9: 84] فَحَاصِلُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُ - تَعَالَى - كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ بَلْ صَرَّحَ بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُمْ عَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ، وَمَنْعًا لِلنَّاسِ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى التَّكْفِيرِ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُتَفَقِّهَةُ زَمَانِنَا الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ وَالتَّقْوَى فِي عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِيَسْتُرُوا بِذَلِكَ مَا يُضْمِرُونَ، وَيُؤَيِّدُوا بِهِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهَلْ يَكُونُ نِفَاقٌ بِغَيْرِ كَذِبٍ؟ وَفِي تَقَيُّدِ الْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ تَوْضِيحٌ لِنِفَاقِهِمْ بِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ وَفِي التَّنْزِيلِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ هَذِهِ قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ، فَهُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ حِينِ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى نَافَقُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْوَاوِ مَا حَاصِلُهُ: وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْوَاوِ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي لِوَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لِلْأَوَّلِ تَمَامَ الْمُبَايَنَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَمُرْتَبِطٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا فُصِلَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْبَحْتِ وَحْشَةٌ عَلَى السَّمْعِ وَإِيهَامٌ لِلذِّهْنِ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى، فَيَجِيءُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَاوِ لِيَسْتَمِرَّ الْأُنْسُ بِالْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ وَيَظَلَّ الذِّهْنُ مُنْتَظِرًا لِغَايَةِ الْفَائِدَةِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِالْوَاوِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ تَمَّ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ مِثْلُ مَا يُرَادُ مِمَّا قَبْلَهُ يَقُولُ: هَذَا جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ يُثْبِتُ غَرَضِي وَيُبَيِّنُ مُرَادِي وَثَمَّ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ وَهُوَ كَذَا. وَهَذَا الشَّرْحُ

168

مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِوَجْهٍ مَا وَإِنَّمَا يَقْرِنُهَا السِّيَاقُ وَالْغَرَضُ، وَفِيهَا رَأْيٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مَعْنًى خَفِيٍّ فِيمَا قَبْلَهَا غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا يُنْتَزَعُ مِنَ الْكَلَامِ انْتِزَاعًا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْوَاوَ وَفِيهَا عَاطِفَةٌ إِذْ لَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَقَالُوا لِلِاسْتِئْنَافِ مُرَاعَاةً لِصُورَةِ اللَّفْظِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِلْكُفْرِ وَلِلْإِيمَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى " إِلَى " فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي صِلَةِ الْقُرْبِ حَرْفَا " إِلَى " وَ " مِنْ " يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ وَقَرُبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلًا آخَرَ قَالُوهُ بَعْدَ الْقِتَالِ - وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْقِتَالِ اعْتِذَارًا عَنِ الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ - فَقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَيْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا أَوْ نَعْتٌ لَهُ. أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي أُحُدٍ وَفِي شَأْنِهِمْ. وَالْحَالُ أَنَّهُمْ هُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ: لَوْ أَطَاعُونَا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ فَلَمْ يَخْرُجُوا كَمَا أَنَّنَا لَمْ نَخْرُجْ لَمَا قُتِلُوا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ لَمْ نُقْتَلْ إِذْ لَمْ نَخْرُجْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ جَاءَ فِي سِيَاقِ التَّقْرِيعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدَّمَ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ ; فَإِنَّ الْقُعُودَ رُبَّمَا كَانَ لِعُذْرٍ أَوِ الْتَمَسَ النَّاسُ لَهُ عُذْرًا، وَاللَّوْمُ فِيهِ عَلَى فَاعِلِهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ إِثْمَهُ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْخَبِيثُ فَإِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ السَّرِيرَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَضَرَرُهُ يَتَعَدَّى لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْبِيطِ هِمَمِ الْمُجَاهِدِينَ، أَقُولُ: وَيَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ التَّثْبِيطِ وَالنَّهْيِ حِينَ انْفَصَلَ ابْنُ أُبَيٍّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْعَسْكَرِ مُؤَيِّدِينَ ذَلِكَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا الصَّوَابَ وَقَدْ دَحَضَ اللهُ - تَعَالَى - حُجَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي حُكْمِهِ الْجَازِمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِلْمَهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فِيهَا جَازَ فِي غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُهُمْ دَرْءُ الْمَوْتِ أَيْ دَفْعُهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ طَالَبَهُمْ بِهِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فَرْقًا بَيْنَ التَّوَقِّي مِنَ الْقَتْلِ بِالْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْمَوْتِ بِالْمَرَّةِ. فَالْمَوْتُ حَتْمٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ وَإِنْ طَالَ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ دَرْءِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالَ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ يَجِيءُ مِنْ وُقُوفِ النَّظَرِ، فَكُلٌّ يَعْلَمُ - وَلَا سِيَّمَا مَنْ حَارَبَ - أَنَّهُ مَا كُلُّ مَنْ حَارَبَ يُقْتَلُ، فَقَدْ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثِيرِينَ يُصَابُونَ بِالرَّصَاصِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَلَا يَمُوتُونَ، وَأَنَّ كَثِيرِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَعْمَعَةِ سَالِمِينَ وَلَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهَا أَنْ يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ كَمَا يَمُوتُ كَثِيرٌ مِنَ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْقِتَالِ. فَمَا كُلُّ مُقَاتِلٍ يَمُوتُ، وَلَا كُلُّ قَاعِدٍ يَسْلَمُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ حَتْمًا سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ ذَكَرَ

169

فِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا آخَرَ لَمْ أَكْتُبْهُ فِي وَقْتِهِ وَلَمْ أَفْرَغْ لَهُ بَعْدَهُ حَتَّى نَسِيتُهُ. وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَنْ لَاقَوُا الْحُرُوبَ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الَّتِي يَسْلَمُ فِيهَا الْمُخَاطِرُونَ وَيَهْلِكُ الْحَذِرُونَ. وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي قُعُودِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَتَثْبِيطِهِمْ إِخْوَانَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَوْلِهِمْ فِيمَنْ قُتِلُوا إِنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوهُمْ مَا قُتِلُوا وَبَيَّنَ أَفْنَهُمْ وَفَسَادَ رَأْيِهِمْ فِي التَّوَقِّي مِنَ الْمَوْتِ بِعَدَمِ الْقِتَالِ وَالدِّفَاعِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَا مِنْ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَظُنُّ أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ فِي مَوْتِهِمْ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ

اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ لَنَا - وَفِي لَفْظٍ - قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللهُ - تَعَالَى - مَا مَعْنَاهُ: " أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا جَابِرُ! مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَى أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ - تَعَالَى -: قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أَيْ رَبِّي فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالُوا: وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِجَوَازِ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَنُزُولِ الْآيَةِ فِيهِمَا مَعًا. وَأَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِذَا صَحَّ الْخَبَرَانِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ وَقَائِعِ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ أَوْ يَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُؤْثِرُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَنَّ مَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ قَدْ فَقَدُوا الْحَيَاةَ وَصَارُوا عَدَمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لِلشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلِكَرَامَتِهِ وَشَرَفِهِ أَضَافَهُ الرَّبُّ - تَعَالَى - إِلَيْهِ فَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ شَرَفٍ وَكَرَامَةٍ لَا مَكَانٍ وَمَسَافَةٍ. وَقِيلَ عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَضِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ قَتْلُهُمْ، وَلَيْسَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْقِتَالِ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلْقَتْلِ لَا يَتَخَلَّفُ كَمَا يُوهِمُ كَلَامُ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْمُؤْمِنِ عَنِ الْجِهَادِ عِنْدَ وُجُوبِهِ بِمِثْلِ مُهَاجَمَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ، أَوْ بِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، فَكَيْفَ وَالْخُرُوجُ إِلَى الْقِتَالِ هُوَ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ فِي الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي لَا تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا يَطْمَعُ غَيْرُهَا فِيهَا، فَإِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ ظَفِرُوا بِهَا وَنَالُوا مَا يُرِيدُونَ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [2: 154] وَأَنَّ الْمُخْتَارَ فِيهَا أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَلَا نَزِيدُ فِيهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ خَبَرُ الْوَحْيِ شَيْئًا فَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَلْ أَحْيَاءٌ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ فِي أَحْيَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ

170

أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُذْ قُتِلُوا، وَلَا تَخْصِيصَ فِي قَوْلِهِمْ لِلشُّهَدَاءِ وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا يَأْتِي، وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ بِحُسْنِ الذِّكْرِ وَطَيِّبِ الثَّنَاءِ كَمَا يُقَالُ " مَنْ خَلَّفَ مِثْلَكَ مَا مَاتَ " وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَرْءَ يَحْيَا بِنَسْلِهِ ... وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي ... فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْلٌ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ بِأَجْسَادِهِمْ كَحَيَاتِنَا الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ فِي قُبُورِهِمْ كَسَائِرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَا بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ أَجْسَادَهُمْ تُرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا حَيَاةٌ جَسَدِيَّةٌ مَا نَصُّهُ: " وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - يُصَعِّدُ أَجْسَادَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَإِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيُوَصِّلُ أَنْوَاعَ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَاتِ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتْرُكُهَا فِي الْأَرْضِ وَيُحْيِيهَا وَيُوَصِّلُ هَذِهِ السَّعَادَاتِ إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّا نَرَى أَجْسَادَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ قَدْ تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ يُحْيِيهَا حَالَ كَوْنِهَا فِي بُطُونِ هَذِهِ السِّبَاعِ وَيُوَصِّلُ الثَّوَابَ إِلَيْهَا. أَوْ يُقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ يُرَكِّبُهَا اللهُ وَيُؤَلِّفُهَا وَيَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَيْهَا وَيُوَصِّلُ الثَّوَابَ إِلَيْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدٌ وَلِأَنَّا قَدْ نَرَى الْمَيِّتَ الْمَقْتُولَ بَاقِيًا أَيَّامًا إِلَى أَنْ تَنْفَسِخَ أَعْضَاؤُهُ وَيَنْفَصِلَ مِنْهُ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا كَوْنَهَا حَيَّةً مُتَنَعِّمَةً عَاقِلَةً عَارِفَةً لَزِمَ الْقَوْلُ بِالسَّفْسَطَةِ " اهـ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَتَطَرَّفَ جَمَاعَةٌ فَزَعَمُوا أَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ كَحَيَاتِنَا هَذِهِ فِي الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ أَكْلَنَا وَيَشْرَبُونَ شُرْبَنَا وَيَتَمَتَّعُونَ تَمَتُّعَنَا، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ عَنْ عَاقِلٍ، لِأَنَّ مِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ يُحْرَقُ بِالنَّارِ وَمَنْ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ أَوِ الْأَسْمَاكُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَبْلَى وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ، عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ لَا ثَمَرَةَ لَهُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الرُّوحُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مَجَازِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا حَقِيقِيَّةٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا دُنْيَوِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا أُخْرَوِيَّةٌ وَلَكِنْ لَهَا مَيْزَةٌ خَاصَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا هُوَ عَدَمُ الْبَحْثِ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَذَكَرْنَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بَحْثَ مَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ أَرْوَاحِهِمْ تَكُونُ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ فَرَاجِعْهُ (ج2ص 32ط. الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مَسْرُورِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِعَمَلِهِمْ، فَالْفَضْلُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، كَمَا قَالَ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [35: 30] . وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ الِاسْتِبْشَارُ: السُّرُورُ الْحَاصِلُ بِالْبِشَارَةِ، وَأَصْلُ الِاسْتِفْعَالِ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَالْمُسْتَبْشِرُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ السُّرُورَ فَوَجَدَهُ بِالْبِشَارَةِ كَذَا قَالُوا، وَالْعِبَارَةُ لِلرَّازِيِّ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّلَبِ فِيهِ عَلَى حَالِهِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَقُوا فِي الدُّنْيَا

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّمَا قَالَ " مِنْ خَلْفِهِمْ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ وَرَاءَهُمْ يَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ وَيَحْذُونَ حَذْوَهُمْ قَدَمًا بِقَدَمٍ، فَهُوَ قَيْدٌ فِيهِ الْخَبَرُ وَالْحَثُّ وَالتَّرْغِيبُ وَالْمَدْحُ وَالْبِشَارَةُ وَهُوَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُطَاوَلُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَيَطْلُبُونَ الْبُشْرَى بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ أَيْ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُبَشَّرُوا فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِمْ مَقْتُولِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا قُتِلُوا، مُسْتَحِقِّينَ مِنَ الرِّزْقِ وَالْفَضْلِ الْإِلَهِيِّ مِثْلَ مَا أُوتُوا، وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَرُّونَ بِذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِهِ. هَذَا مَا رُوِيَ فِي وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةَ وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الشَّهِيدَ يُؤْتَى بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ مَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ يُبَشَّرُ بِذَلِكَ فَيُسَرُّ وَيَسْتَبْشِرُ كَمَا يَسْتَبْشِرُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَاخْتَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالزَّجَّاجُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: هُمْ إِخْوَانُهُمُ الَّذِينَ لَا يُحَصِّلُونَ فَضِيلَةَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَنَالُونَ مِثْلَ دَرَجَتِهِمْ، وَأَنَّ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِمْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ قَبْلَهُمْ فَيَرَوْنَ مَنَازِلَهُمْ فِيهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ فَاتَتْهُمْ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ مَنْ جَاهَدَ مِثْلَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [4: 95، 96] وَالْآيَةُ الْآتِيَةُ تُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَنْ خَلْفَهُمْ بَقِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ يَسْتَبْشِرُونَ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ عَلَى هَذَا مَنْفِيَّانِ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إِلَخْ. وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا مَنْفِيَّيْنِ عَنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ إِنَّ الْفَرَحَ وَالِاسْتِبْشَارَ يَكُونَانِ شَامِلَيْنِ لَهُمْ بِحَالِهِمْ وَبِحَالِ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ وَهُمْ حَيْثُ هُمْ. كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُمَا عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحِقُوا بِهِمْ أَيْضًا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ نَفْيُهُمَا عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَأَنَّ الْآيَةَ الْآتِيَةَ مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ. وَالْخَوْفُ: تَأَلُّمٌ مِنْ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ، وَالْحُزْنُ: تَأَلُّمٌ مِنْ مَكْرُوهٍ وَقَعَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ رَاجِعْ تَفْسِيرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [2: 62] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ: مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنِ اسْتِئْصَالِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَوْ ظَفَرِهِمْ بِهِمْ ثَانِيَةً وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْبَعِيدِ عِنْدَمَا يَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَاعْرِضْ هَذَا عَلَى الْآيَاتِ الْآتِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ ضَمِيرُ يَسْتَبْشِرُونَ إِمَّا لِلشُّهَدَاءِ وَإِمَّا لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ،

فَإِنْ كَانَ لِلشُّهَدَاءِ فَهُوَ عَمَّا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَفَضْلٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِنِعْمَةٍ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً عِنْدَهُ يُرْزَقُونَ وَفَضْلٍ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِنْ كَانَ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمِثْلِ مَا فَرِحَ بِهِ الشُّهَدَاءُ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ " وَإِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ تَذْيِيلٌ، أَوْ مُعْتَرِضٌ لِتَأْيِيدِ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا عَامٌّ أُرِيدُ بِهِ خُصُوصُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ وَهُمْ إِخْوَانُ أُولَئِكَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اتِّبَاعِ أَبِي سُفْيَانَ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلَهُ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ فِي أُحُدٍ حَتَّى أَنْهَكَ قُوَاهُمْ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ (رَاجِعْ غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ ص 88 ج 4 ط. الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشُّهَدَاءُ وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَدْحِيَّةٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ اسْتِبْشَارَهُمْ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَأَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ. فَالَّذِي آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مُجْمَلٌ تَفْصِيلُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قِسْمَانِ: فَضْلٌ عَلَيْهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ وَرَاءَهُمْ، وَفَضْلٌ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَفَضْلُهُ الْخَاصُّ بِهِمْ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَقَدْ أَبْهَمَهُ فَلَمْ يُعَيِّنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِهِ وَعَلَى كَوْنِهِ غَيْبًا لَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، ثُمَّ اخْتَتَمَ الْكَلَامَ بِفَضْلِهِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ كَمَا افْتَتَحَهُ بِهِ، وَتَرَكَ الْعَطْفَ لِتَنْزِيلِ الِاسْتِبْشَارِ الثَّانِي مَنْزِلَةَ الِاسْتِبْشَارِ الْأَوَّلِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ اهـ. لَيْسَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَخَبَرِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ هُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ " مِنْهُمْ "؟ وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ " مِنْ " هُنَا لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ الْوَصْفَ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى لِلْمَدْحِ وَالتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَقَالَ هِيَ فِي مَحَلِّهَا ; لِأَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى " حَمْرَاءِ الْأَسَدِ " أَيْ وَهُمْ مِنَ الَّذِينَ لَا يُضَيِّعُ اللهُ أَجْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ وَهُمْ مُثْقَلُونَ بِالْجِرَاحِ وَمُرْهَقُونَ مِنَ الْإِعْيَاءِ إِلَى اسْتِئْنَافِ قِتَالِ أَضْعَافِهِمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ. أَقُولُ: فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " مِنْهُمْ " رَاجِعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا،

172

وَهُوَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَالْجُمْلَةُ الْمَدْحِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ - قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا تَأْدِيبٌ لَهُمْ، وَلَمَّا دَعَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخُرُوجِ لَبَّوْا وَاسْتَجَابُوا لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَكِنْ عَرَضَ لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ الْخُرُوجِ بِالْفِعْلِ مَوَانِعُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ فَلَمْ يَخْرُجُوا، فَأَرَادَ مَنِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَاتَّقَوْا: الَّذِينَ خَرَجُوا بِالْفِعْلِ وَهُمْ بَعْضُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهِ الْمُمْكِنَةِ. وَالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ الْإِسَاءَةَ وَالتَّقْصِيرَ فِيهِ. أَقُولُ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنُهَا. وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ الْعَدُوِّ " وَأَلَّا يَخْرُجَ مَعَنَا إِلَّا مِنْ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ " كَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ " يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَى كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِالَّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِي فَتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ. فَتَخَلَّفَ عَلَيْهِنَّ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي أُولَئِكَ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَيْفَ جَاءَ وَعْدُهُمْ بِالْأَجْرِ مَقْرُونًا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَنَّى يَعْتَبِرُ الْمَغْرُورُونَ الْمُسِيئُونَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ مَانِعُونَ، وَالَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَبْذُلُونَهَا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَلَا يَتْعَبُونَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، وَالَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْمُبْطِلِينَ وَيَنْصُرُونَ، وَيُشَاقُّونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَخْذُلُونَ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ! أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ: هُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَخَرَجُوا إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ عَادَ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ لِاسْتِئْصَالِهِمْ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ أُحُدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَوْعِدُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الْقَابِلُ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ (كَمَا تَقَدَّمَ) فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ " مَجَنَّةً " مِنْ نَاحِيَةِ " مَرِّ الظَّهْرَانِ " وَقِيلَ بَلَغَ " عُسْفَانَ " فَأَلْقَى اللهُ - تَعَالَى - الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ فَبَدَا لَهُ الْجُوعُ، فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ وَقَدْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ وَإِنَّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا

173

إِلَّا عَامٌ نَرْعَى فِيهِ الشَّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللَّبَنَ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَرْجِعَ وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَخْرُجُ أَنَا فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ جُرْأَةً فَالْحَقْ بِالْمَدِينَةِ فَثَبِّطْهُمْ وَلَكَ عِنْدِي عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ أَضَعُهَا فِي يَدَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. فَأَتَى نُعَيْمٌ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْمُسْلِمِينَ يَتَجَهَّزُونَ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا بِالرَّأْيِ، أَتَوْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَقَرَارِكُمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْكُمْ إِلَّا شَرِيدٌ، فَتُرِيدُونَ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَيْهِمْ وَقَدْ جَمَعُوا لَكُمْ عِنْدَ الْمَوْسِمِ! فَوَاللهِ لَا يُفْلِتُ مِنْكُمْ أَحَدٌ. فَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ وَلَوْ وَحْدِي فَخَرَجَ وَمَعَهُ سَبْعُونَ رَاكِبًا يَقُولُونَ: " حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " حَتَّى وَافَى بَدْرًا فَأَقَامَ بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ فَلَمْ يَلْقَوْا أَحَدًا لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجَعَ بِجَيْشِهِ إِلَى مَكَّةَ (وَكَانَ مَعَهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - أَلْفَا رَجُلٍ) فَسَمَّاهُ أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السَّوِيقَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَوَافَى الْمُسْلِمُونَ سُوقَ بَدْرٍ وَكَانَتْ مَعَهُمْ نَفَقَاتٌ وَتِجَارَاتٌ فَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا أُدْمًا وَزَبِيبًا وَرَبِحُوا وَأَصَابُوا بِالدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ. وَقَالَ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَوْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ وَعْدًا فَلَمْ نَجِدْ ... لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتَنَا فَلَقِيتَنَا ... لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنَهُ ... وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفٍّ لِدِينِكُمْ ... وَأَمْرِكُمُ الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ غَاوِيَا وَإِنِّي وَإِنْ عَنَّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ ... فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَالِيَا أَطَعْنَاهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينَا بِغَيْرِهِ ... شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ هَادِيَا فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ: نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَأَذَاعَ قَوْلَهُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُجَبِّنُوهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جَعْلًا. وَعَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ قَالُوا هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا النَّاسُ الَّذِينَ جَمَعُوا الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَعْوَانُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ قَالَهُ رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَتَحَدَّثَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ وَيَذْهَبُونَ فِيهِ مَعَ أَهْوَائِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ (بَدْرٍ الْمَوْعِدِ) هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَتَصْدُقُ الْآيَةُ عَلَى الْقِصَّتَيْنِ

وَتَكُونُ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةَ النُّزُولِ عَمَّا قَبْلَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ وَالْحَلَبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَكُونَ خَرَجَ أَوَّلًا بِالسَّبْعِينَ ثُمَّ تَبِعَهُ الْبَاقُونَ. فَزَادَهُمْ إِيمَانًا أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ لَهُمْ إِيمَانًا بِاللهِ وَثِقَةً بِهِ مِنْ حَيْثُ خَشُوهُ وَلَمْ يَخْشَوُا النَّاسَ الَّذِينَ خُوِّفُوا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ وَاعْتَمَدُوا عَلَى نَصْرِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَضَعُفَ جَلَدُهُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَزِيَادَتِهِ أَنْ أَقْدَمُوا - وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ قَدْ أُثْخِنُوا بِالْجِرَاحِ - عَلَى مُحَارَبَةِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَالزِّيَادَةُ كَانَتْ فِي الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ، وَالشُّعُورِ الْقَلْبِيِّ، وَتَبِعَهَا الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ، بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَالشُّعُورِ بِعِزَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا كَادَ يَكُونُ وَرَاءَ حُدُودِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ النَّفْسِيَّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَدْ نَظَرَ إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا إِلَى نَفْسِهِ فِي إِدْرَاكِهَا وَشُعُورِهَا وَقُوَّتِهَا فِي الْإِذْعَانِ وَضَعْفِهَا. قَالُوا: إِنَّ التَّصْدِيقَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَكُونُ إِيمَانًا صَحِيحًا إِلَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، فَإِذَا نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ كَانَ ظَنًّا أَوْ شَكًّا. وَلَيْسَ الظَّنُّ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالشَّكُّ كُفْرٌ صَرِيحٌ وَنَقُولُ: إِنَّ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يُعَدُّ إِيمَانًا صَحِيحًا هُوَ مَا لُوحِظَ فِيهِ جَوَازُ وُقُوعِ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ، أَيْ مَا لُوحِظَ فِيهِ طَرَفَانِ مُتَقَابِلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لِأَمْرٍ ثَابِتٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا أَلَّا يَكُونَ ثَابِتًا، فَإِنْ جَزَمَ الذِّهْنُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ فَلَمْ يُتَصَوَّرِ الطَّرَفُ الْمُخَالِفُ - وَهُوَ عَدَمُ الثُّبُوتِ - كَانَ جَزْمُهُ هَذَا إِيمَانًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ بُرْهَانٍ مُؤَلَّفٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا مُلَاحَظًا فِيهِ اسْتِحَالَةُ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ. وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَهْلِهَا لَفْظُ " الْمُوقِنِينَ ". وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مَنْطِقِيٍّ عَلَى إِثْبَاتِ قَضَايَاهُ وَاسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا لَمَا تُصُوِّرَ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ مُكَابَرَتُهُ وَمُجَاحَدَتُهُ بِاللِّسَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: " الرُّجُوعُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْيَقِينِ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ " يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَقِينَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي تَنْتَهِي مُقَدِّمَاتُهُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ. وَلَكِنَّ الرِّدَّةَ ثَابِتَةٌ نَقْلًا وَوُقُوعًا. قَالَ - تَعَالَى -: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ [16: 106] وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [4: 137]

هَذَا وَإِنَّ لِلْيَقِينِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ يَعْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَصَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي ثَلَاثٍ: عِلْمِ الْيَقِينِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ. فَالِارْتِقَاءُ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْرَى زِيَادَةٌ فِي نَفْسِ الْيَقِينِ. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا " وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ فُلَانًا طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِأَنَّهُ رَآهُ نَجَحَ فِي مُعَالَجَةِ بَعْضِ الْمَرْضَى يَضْعُفُ يَقِينُهُ إِذَا رَآهُ خَابَ فِي مُعَالَجَةِ آخَرِينَ، وَيَزْدَادُ إِذَا رَآهُ يَنْجَحُ آوِنَةً بَعْدَ أُخْرَى - وَلَا سِيَّمَا - فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يَعْسُرُ تَشْخِيصُهَا. ثُمَّ إِنَّ فَائِدَةَ الْإِيمَانِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ الَّذِي يُحَرِّكُ فِيهَا الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ وِجْدَانَاتِ الدِّينِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ الْمُنْكَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ حَالِ الْبَشَرِ. وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الْإِذْعَانَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؟ أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ إِذْعَانُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَتَسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا تَفَاوُتًا عَظِيمًا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنْشَئِهَا مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْإِذْعَانُ الَّذِي يَقْوَى وَيَضْعُفُ بِالتَّبَعِ لِلْإِيمَانِ، وَهَذَا عَيْنُ قَبُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى إِدْخَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْأَعْمَالَ فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ اعْتِقَادٍ لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ يَتْبَعُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَهِيَ سِلْسِلَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ ثَلَاثِ حَلَقَاتٍ يُحَرِّكُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْعِلْمِ وَالْحَالِ وَالْعَمَلِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ كَذَا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - أَوْ كَذَا يُسْخِطُهُ مَثَلًا يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا يُرْضِيهِ وَيَقْتَضِي مَثُوبَتَهُ، وَتَرْكُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَقْتَضِي عُقُوبَتَهُ. وَيَقُولُ: إِنَّ تَرَتُّبَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاجِبٌ. وَعِبَارَتُهُ: إِنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ الْحَالَ وَالْحَالُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ. وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِزِيَادَةِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِشُعَبِ الْإِيمَانِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي بَيَانِهَا إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُتَلَقَّى إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ فَكُلَّمَا تَلَقَّى الْمُؤْمِنُ مَسْأَلَةً مِنْهَا ازْدَادَ إِيمَانًا. وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْكَافِرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ النَّاشِئَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَتِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَزِيدُ الْإِنْسَانَ مَعْرِفَتُهَا إِيمَانًا مَحْصُورَةً فِي النُّصُوصِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ هَدَانَا إِلَى التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِنَزْدَادَ إِيمَانًا وَنَعْتَبِرَ وَنَسْتَفِيدَ، وَذَلِكَ يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابًا مِنَ الْعِلْمِ بِاللهِ وَسُنَنِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. فَكُلُّ مَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ فِي بَحْثِنَا وَنَظَرِنَا مِنْ أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّا نَزْدَادُ بِهِ عِلْمًا بِاللهِ وَإِيمَانًا

بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقَدْ قَالَ - سُبْحَانَهُ - لِأَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا وَأَوْسَعِهِمْ عِلْمًا بِهِ وَبِسُنَّتِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [20: 114] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ مَنْ يَتَلَقَّاهَا إِيمَانًا كُلَّمَا تَلَقَّى شَيْئًا مِنْهَا، وَقَدْ يَتَدَبَّرُهَا الْمُؤْمِنُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا بِأَيَّامٍ أَوْ سِنِينَ، فَيَفْهَمُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [9: 124، 125] وَقَالَ عَلِيٌّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) حِينَ سُئِلَ هَلْ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ؟ : لَا إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ. وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدْرِ تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي أَصْلِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْوِجْدَانِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [33: 22] وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَيْ وَقَالُوا مُعَبِّرِينَ عَنْ إِيمَانِهِمْ حَسْبُنَا اللهُ أَيْ هُوَ كَافِينَا مَا يُهِمُّنَا مَنْ أَمْرِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَنَا، وَحَسْبُنَا بِمَعْنَى مُحْسِبُنَا، فَهُوَ مِنْ أَحْسَبَهُ إِذَا كَفَاهُ كَمَا قَالُوا: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّتِنَا وَكَثْرَتِهِمْ، أَوْ يُلْقِيَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَكْفِيَنَا شَرَّ بَغْيِهِمْ وَكَيْدِهِمْ - وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ وَجَيْشِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَعَزَّ اللهُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أَيْ فَعَادُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَى لِقَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَهُمْ وَمُنَاجَزَتِهِمُ الْقِتَالَ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَهِيَ السَّلَامَةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَافِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْفَضْلُ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ مَالًا فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَوْسِمَ هُوَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا خَبَرُ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَأَنَّهُمُ اتَّجَرُوا فِيهَا وَرَبِحُوا، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَزْوَةَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ الْمُتَّصِلَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ قَدْ قِيلَ لَهُمْ فِيهَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا فَخَرَجُوا إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ مَعْنَوِيٍّ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَلَا أَذًى، وَفَسَّرَ السُّوءَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ أَيْ أَعْظَمَ مَا يُرْضِيهِ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ كَرَامَتُهُ - وَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَفَمِنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ [3: 162]

174

إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ فَإِنْ كَانَ أَكْرَمَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ يُعْطِيهِمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ فِي الْعُقْبَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ " فَانْقَلَبُوا " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [26: 63] أَيْ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ فِي أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَجَعْلِ أَخِيهِ وَزِيرًا لَهُ وَأَمْرِهِمَا بِأَنْ يُبَلِّغَا فِرْعَوْنَ رِسَالَتَهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [20: 49] أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا بَلَّغَاهُ الرِّسَالَةَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولَانِ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ فَقَدَ فُهِمَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - صَدَعَا بِأَمْرِ رَبِّهِمَا وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَبَلَّغَاهُ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ - تَعَالَى - بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ هُنَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ الَّذِي غَشَّ الْمُسْلِمِينَ وَخَوَّفَهُمْ لِيُخَذِّلَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ فَقِيلَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ أُحُدٍ أَنْ يَكُرَّ لِيَسْتَأْصِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ فِي بَدْرٍ الثَّانِيَةِ أَوِ الصُّغْرَى. وَقِيلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِيُثَبِّطَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ (وَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) وَقِيلَ هُوَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَيْطَانُ الْجِنِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ عَلَى حَدِّ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [2: 268] وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَكُمْ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ مَنْ أَوْعَزَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ مَنْ وَسْوَسَ بِهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِكُمْ أَنْ تَقْعُدُوا عَنْ لِقَائِهِمْ وَتَجْبُنُوا عَنْ مُدَافَعَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَخْوِيفِهِمْ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ فَيُسَوِّلُ لَهُمُ الْقُعُودَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُزَيِّنُ لَهُمْ خِذْلَانَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ لَيْسَتْ جَلِيَّةً كَجَلَائِهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي أَيْضًا، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فَيُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. أَيْ لَا تَحْفُلُوا بِقَوْلِهِمْ: فَاخْشَوْهُمْ فَتَخَافُوهُمْ بَلْ خَافُونِي أَنَا لِأَنَّكُمْ أَوْلِيَائِي وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ قَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبَيْنَ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُوَازِنُوا بَيْنَ قُوَّتِي

وَقُوَّتِهِمْ، وَنُصْرَتِي وَنُصْرَتِهِمْ، فَأَنَا الَّذِي وَعَدْتُكُمُ النَّصْرَ، وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَصِيرُكُمْ مَا أَطَعْتُمُونِي، وَأَطَعْتُمْ رَسُولِي، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ شُبْهَةٌ تَعْرِضُ لِبَعْضِهِمْ، يَقُولُونَ: إِنَّ تَكْلِيفَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوُسْعِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ ذَا الْعُدَدِ الْعَظِيمَةِ يُرِيدُ أَنْ يُوَاثِبَهُ وَيُنْزِلَ بِهِ الْعَذَابَ بِأَنْ رَآهُ، أَوْ سَمِعَ بِاسْتِعْدَادِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَخَافَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِإِكْرَاهِ النَّفْسِ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ، وَالْمُدَافَعَةِ مَعَ الْخَوْفِ لَا أَنْ يُنْهَوْا عَنِ الْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ حُجَّةُ الْجُبَنَاءِ فَهِيَ لَا تَطُوفُ إِلَّا فِي خَيَالِ الْجَبَانِ ; فَإِنَّ أَعْمَالَ النَّفْسِ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ يَتَرَاءَى أَنَّهَا اضْطِرَارِيَّةٌ، وَأَنَّ آثَارَهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ مَهْمَا حَدَثَ سَبَبُهَا، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَأْتِي بِالْعَادَةِ وَالْمُزَاوَلَةِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ الشُّعُوبُ وَالْأَجْيَالُ، فَمَنِ اعْتَادَ الْإِحْجَامَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّفَاعِ يَصِيرُ جَبَانًا، وَالْعَادَاتُ خَاضِعَةٌ لِلِاخْتِيَارِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّمْرِينِ، فَفِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُقَاوِمَ أَسْبَابَ الْخَوْفِ، وَيُعَوِّدَ نَفْسَهُ الِاسْتِهَانَةَ بِهَا، (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِذَا حَدَثَتْ بِأَسْبَابِهَا فَالْإِنْسَانُ مُخْتَارٌ فِي الْإِسْلَاسِ لَهَا، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ أَثَرُهَا فِي النَّفْسِ، وَتَتَجَسَّمَ صُورَتُهَا فِي الْخَيَالِ، وَمُخْتَارٌ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ مُغَالَبَتُهَا، وَالتَّعَمُّلُ فِي صَرْفِهَا وَشُغْلُ النَّفْسِ بِمَا يُضَادُّهَا، وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهَا، أَوْ يَتَبَدَّلُ بِهِ أَثَرًا آخَرَ مُنَاقِضًا لَهُ، فَهَذَا الْأَمْرُ الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَرَضَتْ لَكُمْ أَسْبَابُ الْخَوْفِ فَاسْتَحْضِرُوا فِي نُفُوسِكُمْ قُدْرَةَ اللهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَكَوْنَهُ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرُوا وَعْدَهُ بِنَصْرِكُمْ، وَإِظْهَارِ دِينِكُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَنَّ الْحَقَّ يَدْمَغُ الْبَاطِلَ، فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [2: 249] ثُمَّ خُذُوا أُهْبَتَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَدَعُ لِخَوْفِ غَيْرِهِ مَكَانًا فِي قُلُوبِكُمْ اهـ. بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ، إِنَّ مَقُولَةَ: " كَأَنَّهُ يَقُولُ " مِنْ عِنْدِي لِأَنَّنِي لَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِيهِ، وَإِنَّمَا تَرَكْتُ لَهُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، ثُمَّ نَسِيتُهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فِي التَّرْبِيَةِ التَّدْرِيجِيَّةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فَوْرًا فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَقَدْ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرًا فِي الْحُزْنِ مِنْ مَرْثِيَّةٍ نَظَمْتُهَا فِي أَيَّامِ التَّحْصِيلِ وَهُوَ: أَطَبِيعَةُ، ذَا الْحُزْنُ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ شَرَائِعُ الْأَ (م) دْيَانِ مِنْ هُدًى لَنَا وَرَشَادِ أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ كَلَّا، فَلَيْسَ لِأَمْرٍ ضَرْبَةُ لَازِبٍ لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ فَاخْلَعْ سَرَابِيلَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ لَيْسَتْ بِنَهْجِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ وَتَقَلَّدِ الْحَزْمَ الشَّرِيفَ كَصَارِمٍ كَيْمَا تُنَافِحُ جَيْشَهَا بِجِهَادِ

176

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُفِيدُ وُجُوبَ تَوْثِيقِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ، وَالْهَوَاجِسَ الَّتِي تُحْدِثُ الْخَوْفَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا يَمْحُوهَا مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ إِلَّا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الثَّابِتُ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيمَانَ مَنْ يُرَجِّحُ الْخَوْفَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - مَشْكُوكٌ فِيهِ. أَقُولُ: فَلْيَزِنْ كُلُّ مُؤْمِنٍ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَارِنْ بَيْنَ عَمَلِهِ، وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَبَيْنَ إِيمَانِهِ، وَإِيمَانِهِمْ، لِكَيْلَا يَكُونَ مِنَ الْمَغْرُورِينَ. مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّدَبُّرِ عَلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَكُونُ جَبَانًا، فَالشَّجَاعَةُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذَا شَارَكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ فِيهِ مَدَاهُمْ، وَلَا يَبْلُغُ شَأْوَهُمْ. وَمَنْ بَحَثَ عَنْ عِلَلِ الْأَشْيَاءِ يَرَى أَنَّ عِلَّةَ الْجُبْنِ هِيَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِرْصِ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَقَلْبِ غَيْرِهِ. قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [2: 96] وَلَا يَزَالُ الْعَالَمُ كُلُّهُ يَشْهَدُ أَنَّ الْجَيْشَ الْإِسْلَامِيَّ أَشْجَعُ جُيُوشِ الْمِلَلِ كُلِّهَا، هَذَا مَعَ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَالْجَهْلِ بِالْإِسْلَامِ " هَذَا وَمَا، فَكَيْفَ لَوْ ". وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ

لَمَّا كَانَ مِنْ فَوْزِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ، وَمَا أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَظْهَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ كُفْرَهُمْ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا قُتِلَ (رَاجِعْ ص132 ج 4 ط. الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ) ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ نَقْلُ بَعْضِهِ، وَمَا سَارَعَ هَؤُلَاءِ فِي إِظْهَارِ مَا يُسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَتَثْبِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَصْرِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُحْزِنُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مِنْ تَسْلِيَةِ التَّنْزِيلِ لَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ كَمَا كَانَ يُسَلِّيهِ عَمَّا يُحْزِنُهُ مِنْ إِعْرَاضِ الْكَافِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ أَوْ طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي شَخْصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [10: 65] وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18: 6] وَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [35: 8] أَوِ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاقِ تَسْلِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا سَاءَهُ وَحَزِنَهُ مِنِ اهْتِمَامِ الْمُشْرِكِينَ بِنُصْرَةِ شِرْكِهِمْ، وَمُعَاوَدَتِهِمْ لِلْقِتَالِ بَعْدَ أُحُدٍ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ أَوْ بَدْرٍ الصُّغْرَى لَوْلَا خُذْلَانُ اللهِ لَهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِتَفْسِيرِ " الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ " بِالْمُنَافِقِينَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا قَالَ فِي " الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ " فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُرْتَدُّونَ خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هُمُ الْكُفَّارُ، قَالُوا: الْمُسَارَعَةُ فِيهِ هِيَ الْوُقُوعُ فِيهِ سَرِيعًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْكُفْرِ هِيَ الْمُسَارَعَةُ فِي نُصْرَتِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشُئُونِهِ، وَالْإِيجَافِ فِي مُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كُلُّ كَافِرٍ يُسَارِعُ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ الْقَاعِدَ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ لِنُصْرَةِ كُفْرِهِ، وَلَا لِمُقَاوَمَةِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِيهِ. وَالْمُسَارِعُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا: هُمْ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا لَوْ قَالَ: " يُسَارِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ " إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا أَيْ إِنَّهُمْ لَا يُحَارِبُونَكَ، فَيَضُرُّوكَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ - تَعَالَى -، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ قُوَّتِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنْ مُنَاوَأَةِ قُوَّتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أَيْ إِنَّهُمْ عَلَى حَالَةٍ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ تَقْتَضِي حِرْمَانَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، سُنَّةَ اللهِ، وَإِرَادَتَهُ، فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَوْقَ عَذَابِ الْحِرْمَانِ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ أَعَمُّ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ وُقُوعًا وَنَقْلًا بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [9: 101] فَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللهُ إلخ. بَيَانٌ لِكَوْنِهِمْ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَضُرُّونَهُ - تَعَالَى -، وَجَعَلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَعْلِيلًا آخَرَ، إِذَا قَالَ مَا مِثَالُهُ: فَإِنْ كُنْتَ تَحْزَنُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً

177

عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ النُّورَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَالْهِدَايَةَ قَدْ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ، وَتَطْمَعُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَتَرْجُوهَا، وَكُلَّمَا رَأَيْتَ مِنْهُمْ حَرَكَةً جَدِيدَةً فِي الْكُفْرِ، حَدَثَ لَكَ حُزْنٌ جَدِيدٌ - فَعَلَيْكَ أَلَّا تَحْزَنَ أَيْضًا. هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَتَرَكْتُ بَيَاضًا فِي دَفْتَرِ الْمُذَكِّرَاتِ عَنْهُ لِأُتِمَّ فِيهِ مَا قَالَهُ، ثُمَّ نَسِيتُهُ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمُ اسْتِعْدَادٌ مَا لِلْإِيمَانِ، فَلَا مَسَاغَ لِلْحُزْنِ مِنْ حَالِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي مَرَدَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي مَجْمُوعِ مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ لَا جَمِيعِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشَدُّ اتِّفَاقًا مَعَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَعْمِيمٌ لِلْكَفَرَةِ بَعْدَ تَخْصِيصِ مَنْ نَافَقَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ الْمَعْنَى، وَعَمَّمَهُ، وَأَكَّدَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي بَادِي الرَّأْيِ تَكْرَارٌ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَمَنْ فَقِهَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَهَذِهِ فِي الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، أَيِ اخْتَارُوهُ، وَرَضُوا بِهِ كَمَا يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ، وَيَرَاهَا بَعْدَ بَذْلِهِ فِيهَا مَتَاعًا يَنْتَفِعُ بِهِ، بَلِ الشَّأْنُ فِي الْمُشْتَرِي أَنْ يَرَى مَا أَخَذَهُ أَنْفَعَ لَهُ مِمَّا بَذَلَهُ، فَهَذَا الْوَصْفُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَرَاهُمْ يُسَارِعُونَ فِي نُصْرَةِ الْكُفْرِ، وَتَعْزِيزِهِ، وَالدِّفَاعِ دُونَهُ، وَمُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهِ، لَا شَأْنَ لَهُمْ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ، وَيُغَالِبُونَهُ، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ضَرِّهِ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْزَنَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ مَحْرُمُونَ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَخْطُرَ فِي الْبَالِ أَنَّهُ حُكْمٌ خَاصٌّ بِالَّذِينِ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ، فَفِي إِعَادَةِ الْعِبَارَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ فِيهَا قِسْمًا مِنَ الْكَافِرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهَا مَعَ تَأْكِيدِ عَدَمِ إِضْرَارِهِمْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَدُلُّ عَلَى سَخَافَتِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ ; إِذْ رَضُوا بِالْكُفْرِ، وَاخْتَارُوهُ، وَحَسِبُوهُ مَنْفَعَةً، وَفَائِدَةً، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لَهُمْ، فَيُخَافُ مِنْهُمْ، أَوْ يُحْزَنُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْكَارِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَيَجُولُ فِيهَا صُورَةُ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَالْقُوَّةِ، وَإِمْكَانِ نَيْلِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَذْنَبُوا كَمَا نَالُوا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِذَنْبِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِمْ، فَيَقُولُ الْوَاهِمُ: آمَنَّا، وَصَدَّقْنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ سَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَكِنْ أَلَيْسُوا الْآنَ مُتَمَتِّعِينَ بِالدُّنْيَا؟ ! أَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْنَا؟ وَقَدْ كَشَفَ هَذَا الْوَهْمَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

178

فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّةً حَكِيمَةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْلُغُ الْخَيْرَ بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ، وَيَقَعُ فِي الضَّيْرِ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَشْمِيرِهِ فِي عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ عِنَايَةً مِنَ اللهِ بِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ جَرْيٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ. وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِمْلَاءُ لِلْكَافِرِ عِلَّةً لِغُرُورِهِ، وَسَبَبًا لِاسْتِرْسَالِهِ فِي فُجُورِهِ، فَيُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْإِثْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ الْمُهِينُ. هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَحْسَبُ، وَفَتْحَ سِينَ " يَحْسَبُ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ. وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِيَبْلُغَ مَدَاهُ فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ. إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْخَيْرَ لَيْسَ فِي الْإِمْهَالِ، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانَ لِلْإِنْسَانِ لِيَعْمَلَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ مَا يَشَاءُ ; فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْبَشَرِ بِاخْتِيَارِهِمْ مَا يَشَاءُونَ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَيْرُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِمْلَاءِ وَطُولِ الْأَجَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، إِذَا كَانَ يَزْدَادُ فِيهِ عَمَلًا صَالِحًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَفْسِهِ بِارْتِقَائِهَا فِي الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَيَنْفَعُ بِهِ النَّاسَ فِي تَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَعِيشَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَمْثَالِهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا إِثْمًا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالتَّمَادِي فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْفِسْقِ، وَتَأْيِيدِ سُلْطَانِ الشَّرِّ فِي الْخَلْقِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ بِحَسَبِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ يُقَاوِمُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قَوِيَتْ بِالْعَمَلِ وَالْإِثْمِ دَاعِيَةُ الْإِثْمِ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا مِنْ خَلِيقَةٍ، وَلَا شَاكِلَةٍ فِي الْإِنْسَانِ إِلَّا وَيَزِيدُهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا قُوَّةً، وَرُسُوخًا فِي نَفْسِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ - تَعَالَى - فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ. وَقَدْ يَرِدُ هُنَا إِشْكَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ، فَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ ازْدَادَ مِنْهُ، وَهَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْكُمُ بِالضَّلَالِ عَلَى الْكَثِيرِ

أَوِ الْأَكْثَرِ، وَإِذَا أَطْلَقْتَ الْحُكْمَ أَوْ عَمَّمْتَهُ أَتْبَعْتَهُ بِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ إِذَا أُمْلِيَ لَهُ يَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ عَمَلِهِ بِكُفْرِهِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فَيَتُوبُ، وَيُؤْمِنُ، وَيَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. فَالْقَاعِدَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ فِي ازْدِيَادِ الِاعْتِقَادِ وَالْخَلْقِ قُوَّةً، وَرُسُوخًا بِالْعَمَلِ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّنَا نَحُلُّ الْإِشْكَالَيْنِ كَأَيِّهِمَا بِالْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ حَلًّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا. (الْأُولَى) إِنَّ الْكَلَامَ فِي الَّذِينَ ثَبَتَ كُفْرُهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ ; لِأَنَّ تَرْبِيَتَهُمْ وَسِيرَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مُذْ كَانُوا رَانَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْهِدَايَةِ طَرِيقٌ إِلَى نُفُوسِهِمْ. (الثَّانِيَةُ) أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ ازْدِيَادِهِمْ إِثْمًا بِالْإِمْلَاءِ لَهُمْ هُوَ شَأْنُهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، فَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَزْدَادُونَ عَلَى تَمَادِي الزَّمَانِ إِلَّا إِثْمًا بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ، وَآمَنَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْإِمْلَاءِ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْإِمْلَاءِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا. (الثَّالِثَةُ) أَنَّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ - مَهْمَا كَانَ دِينُهَا - أُنَاسًا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، وَحُبُّ الْفَضِيلَةِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ غَلَبَ الشَّرُّ، وَالْفَسَادُ عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا دُعُوا إِلَى الْحَقِّ دَعْوَةً صَحِيحَةً لَا يُسَارِعُونَ فِي مُجَاحَدَتِهِ، وَمُعَادَاةِ الدَّاعِي، وَإِيذَائِهِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ يَتَثَبَّتُونَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ جُحُودُ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّتِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [4: 115] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [47: 32] فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ. (الرَّابِعَةُ) أَنَّ مَنْ يَسْتَثْنِيهِمُ الْقُرْآنُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي يَصِفُهَا بِالْكُفْرِ لَا يَسْتَثْنِيهِمْ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ وَالشَّرِّ فَقَطْ، بَلْ يَسْتَثْنِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ نَفْسِهِ أَيْضًا فَكَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [7: 159] وَقَالَ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [3: 75] وَقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [5: 66]- قَالَ فِيهِمْ أَيْضًا: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [4: 155] (الْخَامِسَةُ) قَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَكَانَ إِيمَانُهُمْ يَظْهَرُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ عِنْدَمَا تَتِمُّ أَسْبَابُهُ، كَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ كَافِرِينَ فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَتْ نَوَاجِمُ الْكُفْرِ تَبْدُو مِنْهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ - كَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ - وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بِبَعِيدٍ، وَكَمَا ظَهَرَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي فَضَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي

179

تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسُورَةِ التَّوْبَةِ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فَاللهُ تَعَالَى يَحْكُمُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا تَنْسَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ أَنْ يَزْدَادَ كُفْرًا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَيُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، وَازْدَادَتْ خَيْرَاتُهُ، فَعَسَى أَنْ يَتَّخِذَ هَذَا مِيزَانًا مِنْ مَوَازِينِ الْإِيمَانِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْغُرُورِ، وَيُخْرِجُ الَّذِي فَقِهَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّمَا الْأُولَى الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً " أَنَّ " فِيهَا " مَا " اتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَيَجِبُ بِحَسَبِ فَنِّ الرَّسْمِ فَصْلُهَا، وَ " مَا " هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى " الَّذِينَ " إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ حَالٍ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى تَرْجِيحِ الْبَدَلِيَّةِ، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْبَدَلَ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُنَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ الِاسْتِغْنَاءِ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْمَصْدَرِ نَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى تَقْدِيرٍ. أَقُولُ: وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ الْعَذَابِ بَيْنَ عَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمُهِينٍ، وَالْأَلِيمُ: ذُو الْأَلَمِ، وَالْمُهِينُ: ذُو الْإِهَانَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَتَوَارَدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَصْفٍ لِآيَتِهِ، كَكَوْنِ الْجَزَاءِ بِالْعَظِيمِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَظَائِمِ، وَبِالْأَلِيمِ عَلَى شِرَاءِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْبُونَ يَتَأَلَّمُ، وَبِالْمُهِينِ عَلَى ازْدِيَادِ الْإِثْمِ بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادُوا إِثْمًا مَا كَانُوا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْعِزَّ وَالْكَرَامَةَ. مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَرَأَ حَمْزَةُ: " يُمَيِّزَ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنْ مَازَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَرْسِلًا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَمَا بَعْدَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ بَيَانُ حَالِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَضَعْفُهُمْ، وَبَيَانُ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَمَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ، وَحَالِ الْكُفَّارِ الْمُهَدِّدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَوْنُ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ أَشَدَّ وَقْعَةٍ أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ عَقِبَهَا بِأَلَمِ الْغَلَبِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ النَّصْرِ فِي " بَدْرٍ "، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَيَّنَ ضَعْفُ نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - بِبَيَانِ فَوَائِدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَظِيمَةً. وَمِنْهَا خَتْمُهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ

أَنْ يَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ حُدُوثِ غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَكَيْفَ كَانُوا؟ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَمْتَثِلُونَ كُلَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُ إِرْسَالُ السَّرَايَا الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِيهَا مَخَاوِفُ كَبِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ فِيهَا الصَّادِقُ بِالْمُنَافِقِ بِلَا تَمْيِيزٍ ; إِذِ التَّمَايُزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشَّدَائِدِ، أَمَّا الرَّخَاءُ، وَالْيُسْرُ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ - كَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ - فَكَانَ يَقْبَلُهُ الْمُنَافِقُونَ كَالصَّادِقِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ مَعَ التَّمَتُّعِ بِمَزَايَا الْإِسْلَامِ، وَفَوَائِدِهِ، وَرُبَّمَا خَدَعَ الشَّيْطَانُ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِتَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ السَّهْلَةِ - وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي دِينٍ جَدِيدٍ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الظَّاهِرِ مَدْعَاةُ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ. الشَّدَائِدُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَوِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَالضَّعِيفِ فِيهِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ ضَعِيفَ الْعَزِيمَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ قَوِيِّهَا، وَتُزِيلُ الِالْتِبَاسَ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ كَبِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الصَّادِقَ قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ إِلَى الْمُنَافِقِ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَالِانْخِدَاعِ بِأَدَاءِ الْمُنَافِقِ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلصَّادِقِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا عَرَفَهُ اتَّقَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْرِفَ الْجَمَاعَةُ وَزْنَ قُوَّتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ ; لِأَنَّهَا بِانْكِشَافِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَهَا تَعْرِفُ أَنَّهُمْ عَلَيْهَا لَا لَهَا، وَبِانْكِشَافِ حَالِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُرَبِّهِمُ الشِّدَّةُ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا. هَذَا بَعْضُ مَا تَكْشِفُهُ الشِّدَّةُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ ضَرَرِ الِالْتِبَاسِ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ لَهُمْ حُجُبَ الْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنَ الضَّعْفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَكَانُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى تُظْهِرَهُ الشَّدَائِدُ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّبْسُ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ فِي عِبَادِهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَتَظْهَرَ الْخَفَايَا، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ، وَيَتَّضِحَ الْمَنْهَجُ السَّوِيُّ لِلنَّاسِ. قَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ أَقْرَبَ وَسِيلَةٍ لِرَفْعِ اللَّبْسِ هِيَ أَنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْغَيْبِ فَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَقَائِقَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مَنْ سُنَنِهِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ، فَقَالَ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ إِطْلَاعُ النَّاسِ عَلَى الْغَيْبِ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْرَجَ بِهِ الْإِنْسَانَ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْإِنْسَانَ نَوْعًا عَامِلًا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَغَائِبِهِ، وَيَدْفَعُ جَمِيعَ مَكَارِهِهِ بِالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَهَدْيُ النُّبُوَّةِ ; وَلِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُزِيلَ هَذَا اللَّبْسَ وَيَمِيزَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ بِالشَّدَائِدِ، وَمَا تَتَقَاضَاهُ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِهِ الَّتِي هِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لَا سَبِيلَ الْهَوَى، كَمَا ابْتَلَى

الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعِهِ أُحُدٍ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِاخْتِيَارِ الْخُرُوجِ لِمُحَارَبَتِهِ، وَابْتَلَى الرُّمَاةَ مِنْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ، وَإِخْلَاءِ ظُهُورِ قَوْمِهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمُ بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ حَتَّى ظَهَرَ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ، وَزِلْزَالُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَبَاتُ كَمَلَةِ الْمُوقِنِينَ. وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ يَصْطَفِيهِمْ فَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْغَيْبِ، وَهُوَ مَا فِي تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبَعْضِ شُئُونِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمُدِحُوا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [2: 1 - 3] أَقُولُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّ مَنْ يَجْتَبِيهِمْ مِنْ رُسُلِهِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِعِبَادِهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [72: 26 - 28] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ، وَقَرَنْتُمْ بِالْإِيمَانِ تَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ. لَزُّ التَّقْوَى هَاهُنَا مَعَ الْإِيمَانِ فِي قَرَنٍ، وَتَرْتِيبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا مَعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيِ الْكَثِيرَةِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهِيَ أَظْهَرُ، وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا بِالشَّوَاهِدِ كُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ ذَهَبَ وَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اجْتَبَاهُمُ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كُلَّهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عِلْمَ السَّاعَةِ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي عِلْمَهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [6: 50] هَذَا مَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ خَلْقَهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [11: 31] فَهُمْ كَانُوا يَنْفُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ اللهِ بِالْإِعْطَاءِ، وَالْمَنْعِ، وَأَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَشَرِ. وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7: 188] ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6: 59]

180

يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ بِعِلْمٍ ذَاتِيٍّ اسْتِقْلَالِيٍّ ; وَنَقُولُ: إِذَا أَجَزْنَا لِأَنْفُسِنَا أَنْ نُقَيِّدَ كُلَّ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّأْوِيلِ، فَيَجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِ النُّصُوصِ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِعُقُولِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا كَلَامٌ جَدِيدٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ آيَاتٌ فِي شُئُونِ الْكَافِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تُذْكَرُ لِلْمُنَاسَبَةِ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَقْعَةِ وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهِيَ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْإِرْشَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَنَاسُبٌ، بَلِ التَّنَاسُبُ

فِيهَا ظَاهِرٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَجْهَ فِي وَصْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي حَالِ الْيَهُودِ، وَقَبْلَهَا فِي حَالِ النَّصَارَى مَعَ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى مَا أَرَادَ اللهُ بَيَانَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَمِنْهُ أَنَّهُ أَيَّدَ دِينَهُ وَأَعَزَّ حِزْبَهُ حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ خَطَأَهُمْ فِي الْحَرْبِ مُفِيدًا لَهُمْ - عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرَعَ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ. اهـ. وَحَسْبُكَ مَا عَلِمْتَ مِنْ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا قَبْلَهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ: " تَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ حَاسِبٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " يَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا بُخْلَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ، أَوْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا خَيْرًا لَهُمْ. وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَى مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، أَوْ وَصَفٍ مِنْهُ، عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [5: 8] أَيِ الْعَدْلُ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ، وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ أَيْ إِذَا نَهَى عَنِ السَّفَهِ جَرَى إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّهْيُ إِغْرَاءً لَهُ بِهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: هُمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ ... هُمُ وَالْآخِذُونَ بِهِ وَالسَّادَةُ الْأُوَلُ قَالُوا: وَالْآخِذُونَ بِهِ، أَيْ بِالْمُلْكِ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُبُوَّتَهُ، فَالْبُخْلُ عَلَى هَذَا هُوَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ، وَبَيَانِ الْحَقِّ. وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ: الْمَالُ، وَأَنَّ الْبُخْلَ بِهِ هُوَ الْبُخْلُ بِالصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، فَكَثِيرًا مَا يُتْرَكُ التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْبُخْلِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَالزِّينَةَ فِي نَصِّ كِتَابِهِ، وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ

بَذْلَ كُلِّ مَا يَكْسِبُونَ، وَأَنْ يَبْقُوا جَائِعِينَ عُرَاةً بَائِسِينَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ أُوتُوا صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَتَمُوهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تَبْقَى عَلَى عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْمَالَ مِنْ فَضْلِ اللهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ، وَالْجَاهُ، وَالنَّاسُ مُطَالَبُونَ بِشُكْرِ ذَلِكَ، وَالْبُخْلُ عَلَى النَّاسِ بِهِ كُفْرٌ لَا شُكْرٌ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ الْمَذْمُومَ هُنَا هُوَ الْبُخْلُ بِمَا يَجِبُ بَذْلُهُ مِمَّا يَتَفَضَّلُ اللهُ بِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، هِيَ أَنَّ فِي الْعُمُومِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ إِذَا أُنْزِلَتْ مُقَرِّرَةً، فَإِذَا طَرَقَ سَمْعَ الْمُؤْمِنِ هَذَا الْقَوْلُ تَذَكَّرَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ حَقًّا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ يُذَكَّرُ بِهِ، سَوَاءٌ مِنْهُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، وَمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَا مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي يَتْبَعُ عَاطِفَةَ الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا نَفَى أَوَّلًا كَوْنَهُ خَيْرًا، ثُمَّ أَثْبَتَ كَوْنَهُ شَرًّا مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يُمَارَى فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَانِعَ لِلْحَقِّ إِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّ فِي مَنْعِهِ خَيْرًا لَهُ لِمَا فِي بَقَاءِ الْمَالِ فِي الْيَدِ مَثَلًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ، وَدَفْعِ الْغَوَائِلِ، وَالْآفَاتِ، وَتَوَهُّمِ التَّمَكُّنِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ كَانَ أَوْضَحَ، وَأَنْفَى لِلْإِيهَامِ. قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ هِدَايَةٍ، وَوَعْظٍ يُخَاطِبُ الْأَرْوَاحَ لِيَجْذِبَهَا إِلَى الْخَيْرِ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ تَأْثِيرًا لَا كَكُتُبِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُنُونِ الَّتِي تُتَحَرَّى فِيهَا التَّعْرِيفَاتُ الْجَامِعَةُ الْمَانِعَةُ، وَكِتَابٌ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَجْرِي عَلَى السَّنَنِ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِضُعَفَاءِ الْعُقُولِ الَّذِينَ فَسَدَتْ فِطَرُهُمْ بِالتَّعَالِيمِ الْفَاسِدَةِ، يَعْنِي تِلْكَ التَّعَالِيمَ الَّتِي تَشْغَلُ الْأَذْهَانَ بِعِبَارَتِهَا الضَّيِّقَةِ، وَأَسَالِيبِهَا الْمُعَقَّدَةِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ مِمَّا يَعْتَصِرُ مِنْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُخْطِرُ فِي الْبَالِ بَذْلَ كُلِّ مَا فِي الْيَدِ، وَتَكَادُ تُوجِبُهُ - لَوْلَا الدَّلَائِلُ الْأُخْرَى - تُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَرِيحِيَّةً لِلْبَذْلِ تَدْفَعُهَا إِلَى بَذْلِ الْوَاجِبِ، وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُبْخَلُ بِهِ هُوَ الْمَالُ، فَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعُمُّ الْمَالَ، وَالْعِلْمَ، وَالْجَاهَ، وَكُلَّ فَضْلٍ مِنَ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ النَّاسَ، يُمْكِنُنَا أَنْ نَجْعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَنَقُولَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْعِلْمِ مُتَعَذَّرٌ، إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ فِي الْمَالِ مُتَيَسِّرٌ، وَبِهَذَا كَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةً لِمَا لَا يَتَأَتَّى تَفْصِيلُهُ، إِلَّا بِصُحُفٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْجَوَابُ أَظْهَرَ، وَالْإِيجَازُ أَبْلَغَ فِي الْإِعْجَازِ وَأَكْبَرَ. أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ: بِمَا آتَاهُمُ اللهُ الْعُمُومُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْبُخْلِ فِي قَوْلِهِ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَقُلْ: سَيُطَوَّقُونَ زَكَاتَهُمْ، أَوِ الْمَالَ الَّذِي مَنَعُوهُ، أَمَّا مَعْنَى التَّطْوِيقِ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّاقَةِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ ; أَيْ سَيُكَلَّفُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كَقَوْلِهِ: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [68: 42]

وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّوْقِ، أَيْ سَيَجْعَلُ مَا بَخِلُوا بِهِ طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يُوبَقُونَ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا، وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَأْثُورِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْهُ وَلَا أَشَارَتْ إِلَى كَيْفِيَّتِهِ، فَإِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحٍ مَا بَيَّنَهُ اتُّبِعَ الْوَارِدُ بِقَدْرِهِ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِنْدَ مَنْ صَحَّ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ لِمَحْضِ الِاتِّبَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ تَبِعَةَ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ: طَوَّقَنِي الْأَمْرَ أَيْ أَلْزَمَنِي إِيَّاهُ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْبُخْلِ لِزَامٌ لَا مَرَدَّ لَهُ. أَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّطْوِيقَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ (ثُعْبَانٌ مَعْرُوفٌ) أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِلِهْزَمَتَيْهِ (أْي شِدْقَيْهِ) يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ فَيَلْزَمُهُ، أَوْ يُطَوِّقُهُ يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. هُنَاكَ رِوَايَاتٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَوْقًا مِنَ النَّارِ فِي عُنُقِ مَنْ يَبْخَلُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالتَّخْيِيلُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ نَحْوُ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ التَّمْثِيلِ، وَلَا التَّخْيِيلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَا يَقُولُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قَوْلُهُ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكِتْمَانِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: " سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَلِقَوْلِ مُجَاهِدٍ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ ظُهُورًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ ; أَيْ يُكَلَّفُونَ بَيَانَ مَا كَتَمُوا، فَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " وَطَوَّقْتُكَ الشَّيْءَ كَلَّفْتُكَهُ، وَطَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ قَوَّانِي، " وَذَكَرَ ذَلِكَ وَجْهًا فِي الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثٍ بِمَعْنَاهَا قَبْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَهُمْ: تَطْوِيقُهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَعْلِهِ طَوْقًا لَهُ: " وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مِنْ طَوْقِ التَّكْلِيفِ لَا مِنْ طَوْقِ التَّقْلِيدِ " أَقُولُ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ طَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ بِ " قَوَّانِي "، فَهُوَ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ، وَهِيَ إِحْدَى قُوَاهُ لَا مِنَ الطَّوْقِ، وَالْمُخْتَارُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنَّ لَهُ وَحْدَهُ - سُبْحَانَهُ - جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا يَتَوَارَثُهُ النَّاسُ، فَيُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي يَدٍ، وَلَا يُسَلَّمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى جَمِيعُ الْوَارِثِينَ وَالْمُوَرِّثِينَ، وَيَبْقَى الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ كُلَّ مَا يُورَثُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَدْ يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَالًا لِوَلَدِهِ

فَيَجْعَلُهُ اللهُ بِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ مَتَاعًا لِغَيْرِهِمْ، كَأَنْ يَمُوتُوا قَبْلَ وَالِدِهِمْ أَوْ يُضَيِّعُوا مَا جَمَعَهُ لَهُمْ بِالْإِسْرَافِ فِيهِ، وَيَبْقُونَ فُقَرَاءَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْبَاخِلِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا يُفِيضُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ مُغْتَرِّينَ بِتَصَرُّفِهِمُ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَمِلْكِهِمْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، ذَاهِلِينَ عَنْ مَصْدَرِهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَنْ مَرْجِعِهِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَاحَ فِي خَاطِرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ، وَيَفْنَى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ وَارِثًا يَرِثُ مَا يَتَمَتَّعُ هُوَ بِهِ كَأَوْلَادِهِ وَذِي الْقُرْبَى ; فَكَأَنَّهُ يَبْقَى فِي يَدِهِ، فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتْرُكُهُ الْهَالِكُونَ، هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي أَعْطَى أُولَئِكَ الْهَالِكِينَ مَا كَانُوا بِهِ يَتَمَتَّعُونَ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْعِبَارَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ، وَجَاهٍ، وَقُوَّةٍ، وَعِلْمٍ فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَصَاحِبُهُ يَفْنَى وَيَزُولُ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْقَاءِ الْفَانِي مَا هُوَ فَانٍ مِثْلُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَيَبْذُلَهُ فِي وُجُوهِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ ; أَيْ فَهُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ خَلِيفَةً لِلَّهِ فِي إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَمُحْسِنًا لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا اسْتَخْلَفَهُ فِيهِ. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: " يَعْلَمُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ ; أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِ عَمَلِكُمْ، وَلَا مِمَّا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الصُّدُورُ مِنَ الْهَوَى فِيهِ وَالنِّيَّةِ فِي إِتْيَانِهِ، فَيُجْزَى كُلُّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ. لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ الْمَدَارِسِ، فَوَجَدَ مِنْ يَهُودَ نَاسًا كَثِيرًا قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحُكَ يَا فِنْحَاصُ، اتَّقِ اللهَ، وَأَسْلِمْ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ فِنْحَاصُ: وَاللهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إِلَى اللهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا، وَيُعْطِينَاهُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا. فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللهِ، فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، زَعَمَ أَنَّ اللهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ، وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا -

181

الْآيَةُ الْآتِيَةُ بَعْدَ آيَاتٍ - وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [2: 245] قَالَ: يَسْتَقْرِضُنَا رَبُّنَا، إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَأَخْرَجَ الضِّيَاءُ، وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ: فَقِيرٌ رَبُّكَ يَسْأَلُ عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُجَازَفَةَ فِي الْقَوْلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ يَهُودَ، وَمَا يَقُولُهُ الْبَعْضُ، وَيُجِيزُهُ الْجَمْعُ يُسْنَدُ إِلَى الْقَائِلِينَ، وَالْمُجِيزِينَ جَمِيعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ تَهَكُّمًا بِالْقُرْآنِ، وَرِوَايَةُ فِنْحَاصَ لَيْسَ لَهَا مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ. سَمِعَ اللهُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُجَازِفِينَ لَمْ يَفُتْهُ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ، فَهُوَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ، وَالْوَعِيدَ كَمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " الْبِشَارَةَ، وَالْوَعْدَ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ، وَكَمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [58: 1] مَزِيدَ الْعِنَايَةِ، وَإِرَادَةَ الْإِشْكَاءِ، وَالْإِغَاثَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَكَ: سَمِعْتُ مَا قَالَ فُلَانٌ يُشْعِرُ بِمَا لَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُكَ: عَلِمْتُ بِمَا قَالَ، وَالسَّمْعُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ خَاصَّةً بِوَجْهٍ خَاصٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ سَمْعَ الْبَارِي - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، لَا يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ، أَوْ بِالْأَصْوَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ تُنْكِرُهُ اللُّغَةُ، وَلَا يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ. وَلَيْسَ لِلرَّأْيِ، أَوِ الْعَقْلِ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِنَظَرِيَّاتِهِ، وَأَقْيِسَتِهِ، وَمِنْ فَائِدَةِ التَّعْبِيرِ بِسَمْعِ اللهِ لِكَلَامِ عِبَادِهِ مُرَاقَبَتُهُمْ لَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ بِخُصُوصِهَا عَلَى رَأْيِ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ. سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ. قَرَأَ حَمْزَةُ: " سَيُكْتَبُ " بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ سَيُكْتَبُ قَوْلُهُمْ هَذَا، وَيُثْبَتُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ مُفَسِّرُنَا كَغَيْرِهِ، أَيْ نَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ، فَمَا مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ كِتَابَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ؟ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِوَجْهٍ يَصِحُّ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلَكِنَّ ضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا الضَّعْفِ فِي الْفَهْمِ وَالضَّعْفِ فِي الدِّينِ، وَتَبِعَ ذَلِكَ الضَّعْفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا يُقَالُ - كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ - إِنَّ الْفِعْلَ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - يَتَجَرَّدُ مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ. وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: " سَنُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتْمًا "، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ حِفْظِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّوَعُّدُ بِحِفْظِ الذَّنْبِ، وَكِتَابَتِهِ، وَإِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ شَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ حَتَّى

183

الْيَوْمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دِقَّةِ نَظَرٍ، وَلَفْظُ الْكِتَابَةِ آكَدُ مِنْ لَفْظِ الْحِفْظِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِتْبَابِ، وَأَمْنِ النِّسْيَانِ. وَإِنَّمَا ضَمَّ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ - وَهُوَ أَفْظَعُ جَرَائِمِ هَذَا الشَّعْبِ - إِلَى الْجَرِيمَةِ الَّتِي سَبَقَ الْوَعِيدُ لِأَجْلِهَا لِبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكُفْرِ، وَالتَّهَوُّرِ لَيْسَ بِدَعًا مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ قَتَلُوا الْهُدَاةَ الْمُرْشِدِينَ بَعْدَ مَا جَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَهُمْ يَجْرُونَ فِي هَذَا عَلَى عِرْقٍ وَلَيْسَ هُوَ بِأَوَّلِ كَبَائِرِهِمْ، وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْجَرِيمَتَيْنِ سِيَّانِ فِي الْعِظَمِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ (كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ) . وَأَمَّا إِضَافَةُ الْقَتْلِ إِلَى الْحَاضِرِينَ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكْمَتُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُمْ يُعَدُّونَ قَتَلَةً لِرِضَاهُمْ بِمَا فَعَلَهُ سَلَفُهُمْ، وَهَذَا تَحْوِيمٌ حَوْلَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ مُتَكَافِلَةٌ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِذْ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِنْكَارُ عَلَى فَاعِلِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَفْرَادِهَا، وَتَغْيِيرُهُ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِئَلَّا يَفْشُوَ فِيهَا، فَيَصِيرَ خُلُقًا مِنْ أَخْلَاقِهَا، أَوْ عَادَةً مِنْ عَادَاتِهَا، فَتَسْتَحِقَّ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا كَالضَّعْفِ، وَالْفَقْرِ، وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَسْتَحِقُّ عُقُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَا دَنَّسَ نُفُوسَهَا ; وَلِذَلِكَ لَعَنَ اللهُ - تَعَالَى - الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وَبَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [5: 79] . ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ فَاعِلَ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَنْهَهُ وَلَمْ يَسْخَطْ عَلَيْهِ تَكُونُ نَفْسُهُ مُشَاكِلَةً لِنَفْسِهِ، تَأْنَسُ بِمَا تَأْنَسُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُنْكَرَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ مَا لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ، كَضَعْفِ الْجِسْمِ، أَوْ قِلَّةِ الْمَالِ، أَيْ إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَتْرُكُ الْمُنْكَرَ لِأَنَّهُ رَذِيلَةٌ تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا، فَيَكُونُ بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِرِضْوَانِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ يَجْعَلُ إِسْنَادَ الْمُنْكَرِ إِلَى مُقِرِّهِ، وَالرَّاضِي بِهِ إِسْنَادًا قَرِيبًا مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ السَّبَبُ فِي انْتِشَارِهِ وَشُيُوعِهِ ; لِأَنَّ الْمَيَّالِينَ إِلَى الْمُنْكَرِ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ يَمْقُتُونَهُمْ، وَيُؤَاخِذُونَهُمْ عَلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنَ الْخِلَسِ الْخَفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّاكِتُ عَلَى الْمُنْكَرِ شَرِيكَ الْفَاعِلِ فِي الْإِثْمِ، قَالَ: كُلُّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَنْ يُفْعَلُ الْمُنْكَرُ فِي زَمَنِهِ، وَلَا يُنْكِرُهُ، وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ الْمُنْكَرُ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ زَمَنِهِمْ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ؟ فَهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي عِلَّةِ الْجَرِيمَةِ، وَمَبْعَثِهَا مِنَ النَّفْسِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْخَلَفُ مُتَّفِقِينَ مَعَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسَّجَايَا، وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمُ انْتِسَابَ حَسَبٍ وَتَشَرُّفٍ، أَيْ فَهُمْ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى شَاكِلَتِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُتَأَخِّرَ رُبَّمَا كَانَ أَضْرَى بِالشَّرِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ لِتَمَكُّنِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ جَمِيعًا. وَقَدْ حَاوَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْيَهُودِ قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ

آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بَلْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، فَإِنَّهُ مَاتَ بِالسُّمِّ الَّذِي وَضَعَتْهُ لَهُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: يَا عَائِشَةُ، مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَبَّهَنَا بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْبِيرِ إِلَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِذَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَيُطَبِّقُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَيَسْتَحْسِنُ مِنْهُ مَا اسْتَحْسَنَتْ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا اسْتَهْجَنَتْ، وَيُسَجِّلُ عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ سَلَفِهِ إِسَاءَتَهُ، وَيَنْفِرُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِثْلَهُ، وَشَرِيكًا لَهُ فِي إِثْمِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِ، فَعَلَيْكُمْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِزَالَةِ الْمُنْكَرَاتِ الْفَاشِيَةِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ بَذْلِ الْجُهْدِ، وَإِعْمَالِ الرَّوِيَّةِ وَالْفِكْرِ، وَمَا عَلَيْنَا الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَّا الْحِيلَةُ فِي بَذْلِ النُّصْحِ، وَالْإِرْشَادِ، بِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهِ، وَكُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ: " وَيَقُولُ ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الذَّوْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ، أَوْ ضِدِّهِ، فَمَعْنَى ذُوقُوا: تَأَلَّمُوا. أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقَوْلِ فَلَا نَبْحَثُ فِيهَا، أَوْ إِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُوصِلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَيْهِمْ. أَقُولُ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَبِمِثْلِهِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى اقْتِبَاسِ النَّبِيِّ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ - عَلَيْهِ رِضْوَانُ اللهِ - مَقْتُولًا: " ذُقْ عُقُقُ " أَيْ ذُقْ عَاقِبَةَ إِسْلَامِكَ أَيُّهَا الْعَاقُّ لِدِينِ آبَائِكَ، وَلِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. نَعَمْ: إِنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ لِمَعْرِفَةِ طَعْمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ كَقَوْلِهِمْ: " ذُقْتَ الْقَوْسَ " إِذَا جَذَبْتَ وَتَرَهَا لِتَنْظُرَ مَا شِدَّتُهَا. وَقَوْلُهُمْ: ذُقْتَ الرُّمْحَ إِذَا غَمَزْتَهَا قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: يَهْزُزْنَ لِلْمَشْيِ أَوْصَالًا مُنَعَّمَةً ... هَزَّ الشَّمَالِ ضُحًى عِيدَانَ يَبْرِينَا أَوْ كَاهْتِزَازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقُهُ ... أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لَيِنَا كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَفِي الْأَسَاسِ " أَيْدِي الْكُمَاةِ " بَدَلَ " أَيْدِي التِّجَارِ "، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الذَّوْقُ يَكُونُ بِالْفَمِ، وَبِغَيْرِ الْفَمِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْمَعَانِي، قَالَ ابْنُ طُفَيْلٍ: فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ مُحَجَّرٍ ... مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْرِفَةِ جَيِّدِ الشِّعْرِ، وَأَحَاسِنِ الْكَلَامِ. وَعَذَابَ الْحَرِيقِ مَعْنَاهُ: عَذَابٌ هُوَ الْحَرِيقُ.

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي تَذُوقُونَ مَرَارَتَهُ، أَوْ حَرَارَتَهُ بِسَبَبِ مَا قَدَّمْتُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ. عَبَّرَ عَنِ الْأَشْخَاصِ بِالْأَيْدِي لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا، وَلِيُفِيدَ أَنَّ مَا عُذِّبُوا عَلَيْهِ هُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى يَدِ الْفَاعِلِ تُفِيدُ مِنْ إِلْصَاقِهِ بِهِ مَا لَا تُفِيدُهُ نِسْبَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ ; لِأَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الْيَدِ يَمْنَعُ التَّجَوُّزَ، فَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا إِذَا أَمَرَ بِهِ، أَوْ مَكَّنَ الْعَامِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بِنَفْسِهِ، وَمَتَى أُسْنِدَ إِلَى يَدِهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الْأَيْدِي، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ جَمِيعُ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْعِصْيَانِ. وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِنَّمَا يُصِيبُكُمْ بِعَمَلِكُمْ وَبِكَوْنِهِ - تَعَالَى - عَادِلًا فِي حُكْمِهِ، وَفِعْلِهِ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، فَيُعَاقِبُ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِقَابِ وَلَا يَجْعَلُ الْمُجْرِمِينَ كَالْمُتَّقِينَ، وَالْكَافِرِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ كَانَ - سُبْحَانَهُ - ظَلَّامًا لَجَازَ أَلَّا يَذُوقُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ بِأَنْ يُجْعَلُوا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإذًا لَكَانَ الدِّينُ عَبَثًا أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38: 28] ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45: 21] ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [68: 35، 36] فَالِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ تَعْذِيبِ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ هُوَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ، وَالْمُسِيءِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ ظُلْمًا كَبِيرًا، فَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ اسْتِشْكَالَ عَطْفِ نَفْيِ الظُّلْمِ عَلَى جَرَائِمِهِمْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالْمُبَالَغَةَ بِصِيغَةِ " ظَلَّامٍ " أَفَادَتْ أَنَّ تَرْكَ مِثْلِهِمْ يُعَدُّ ظُلْمًا كَبِيرًا، أَوْ كَثِيرًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ عَدْلٌ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - وَأَشَارَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ (ظَلَّامٍ) إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ كَثِيرَ الظُّلْمِ مُبَالِغًا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَلِيلُ مِنَ الظُّلْمُ يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ عَبَّرَ فِي نَفْيِهِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِي كِتَابِهِ التَّوْرَاةِ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا شَيْئًا كَانَ شَائِعًا عِنْدَهُمْ، وَهُمْ أَنْ يُذْبَحَ الْقُرْبَانُ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَيُوضَعَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَتَأْتِيَ نَارٌ بَيْضَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَهَا دَوِيٌّ فَتَأْخُذَهُ، أَوْ تَحْرِقَهُ

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَكَلَتْهُ ; أَيْ أَكَلَتْ مَا تَصَدَّقَ بِهِ. هَذَا مَا أَوْرَدَهُ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْبَانَ إِنَّمَا كَانَ يُوجِبُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَا لِذَاتِهِ إِذْ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. أَقُولُ: إِنَّ الْقُرْبَانَ فِي عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: دَمَوِيٌّ، وَغَيْرُ دَمَوِيٍّ. فَالْقَرَابِينُ الدَّمَوِيَّةُ كَانَتْ تَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ كَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحَمَامِ، وَغَيْرُ الدَّمَوِيَّةِ هِيَ بَاكُورَاتُ الْمَوَاسِمِ، وَالْخَمْرُ، وَالزَّيْتُ، وَالدَّقِيقُ. وَالْقَرَابِينُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْمُحَرَّقَاتُ، وَالتَّقَدُّمَاتُ، وَذَبَائِحُ السَّلَامَةِ، وَذَبَائِحُ الْخَطِيئَةِ، وَذَبَائِحُ الْإِثْمِ. وَكَانُوا يَحْرِقُونَ الْمُحَرَّقَاتِ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: " [1] وَدَعَا الرَّبُّ مُوسَى. وَكَلَّمَهُ مِنْ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ قَائِلًا [2] كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ. إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَمِنَ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ [3] إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَكَرًا صَحِيحًا يُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ [4] وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرَقَةِ فَيَرْضَى عَلَيْهِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهُ [5] وَيَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُقَرِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الدَّمَ، وَيَرُشُّونَ الدَّمَ مُسْتَدِيرًا عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ [6] وَيَسْلُخُ الْمُحْرَقَةَ، وَيُقَطِّعُهَا إِلَى قِطَعِهَا [7] وَيَجْعَلُ بَنُو هَارُونَ الْكَاهِنِ نَارًا عَلَى الْمَذْبَحِ، وَيُرَتِّبُونَ حَطَبًا عَلَى النَّارِ [8] وَيُرَتِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الْقِطَعَ مَعَ الرَّأْسِ، وَالشَّحْمَ فَوْقَ الْحَطَبِ الَّذِي عَلَى النَّارِ الَّتِي عَلَى الْمَذْبَحِ [9] وَأَمَّا أَحْشَاؤُهُ وَأَكَارِعُهُ فَيَغْسِلُهَا بِمَاءٍ وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ مَحْرَقَةَ وَقُودٍ رَائِحَةَ سُرُورٍ لِلرَّبِّ " ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَ قُرْبَانِ الْغَنَمِ بِصِنْفَيْهِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالطَّيْرِ وَهُوَ صِنْفَانِ أَيْضًا الْحَمَامُ وَالْيَمَامُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا بَيَّنَ بَقِيَّةَ أَنْوَاعِ الْقَرَابِينِ. فَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِدُونَ النَّارَ بِأَيْدِيهِمْ وَيَحْرِقُونَ بِهَا الْقَرَابِينَ الْمُحَرَّقَاتِ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْبَارًا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، أَوْ مُخْتَرَعَاتِهِمْ لِيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ، وَيَمْزُجُوهَا بِدِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي كُتُبِ قَوْمِنَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِينَا مَنْ يُقَدِّسُ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَوَائِلِنَا فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ، وَيَرْفَعُهُ عَنِ النَّقْدِ وَالتَّمْحِيصِ، وَلَا يَتِمُّ تَمْحِيصُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَدْ ذَكَرَ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقُرْبَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ

أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْنَا تَقْرِيبَ قُرْبَانٍ يُحْرَقُ بِالنَّارِ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَحْرِقُوا بَعْضَ الْقُرْبَانِ وَقَدْ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِي لِأَنِّي لَمْ آمُرْ بِإِحْرَاقِ الْقَرَابِينِ، أَيْ إِنَّكُمْ لَمْ تَرْضَوْا بِعِصْيَانِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فَقَطْ بَلْ قَسَوْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلْتُمُوهُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْكُمْ إِلَّا لِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ (بِذَا وُصِفُوا فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ) وَأَنَّكُمْ قُسَاةٌ غُلْفُ الْقُلُوبِ لَا تَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَلَا تُذْعِنُونَ لَهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ أَخْلَاقِهَا، وَصِفَاتِهَا، وَعَادَاتِهَا الْعَامَّةِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يُلْصِقُونَ جَرِيمَةَ الشَّخْصِ بِقَبِيلَتِهِ وَيُؤَاخِذُونَهَا بِهِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَدُلُّنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْجِنَايَاتِ، وَالْجَرَائِمَ مُرْتَبِطَةٌ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَنَاشِئِهَا، وَمَنَابِعِهَا فَمَنْ لَمْ يَرْتَكِبِ الْجَرِيمَةَ؛ لِأَنَّ آلَاتِهَا، وَأَسْبَابَهَا غَيْرُ حَاضِرَةٍ لَدَيْهِ لَا يَكُونُ بَرِيئًا مِنَ الْجَرِيمَةِ إِذَا كَانَ مَنْشَؤُهَا وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا مُسْتَقِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَنْشَأُ هُوَ التَّهَاوُنُ بِأَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِأَمْرِ الْحَقِّ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ بَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ النَّاصِعَةِ، وَالزُّبُرِ الصَّادِعَةِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي يُنِيرُ السَّبِيلَ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ. فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَحْزَنْ لِكُفْرِهِمْ، وَلَا تَعْجَبْ مِنْ فَسَادِ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي الْعِبَادِ، وَشَنْشَنَةُ مَنْ سَبَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ آبَاءٍ وَأَجْدَادٍ فَقَدْ كَذَّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فَأَقَامُوا عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَاتِهِمْ، وَهَزَمُوا قُلُوبَهُمْ بِزُبُرِ عِظَاتِهِمْ، وَأَنَارُوا بِالْكِتَابِ سَبِيلَ نَجَاتِهِمْ فَمَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا انْصَرَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ، وَتَحَرِّي سَبِيلِ الْخَيْرِ. فَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانٌ لِطِبَاعِ النَّاسِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ. وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، مِنْ زَبَرْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ مُطْلَقًا، أَوْ كِتَابَةً عَظِيمَةً غَلِيظَةً. قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَوْ مُتْقَنَةً كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ، يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ بِمَعْنَى كَتَبْتُهُ. وَبِمَعْنَى قَرَأْتُهُ، أَوْ بِمَعْنَى الزَّاجِرَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَزَبَرَهُ يَزْبُرُهُ بِالضَّمِّ نَهَاهُ وَنَهَرَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " إِذَا رَدَدْتَ عَلَى السَّائِلِ ثَلَاثًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَزْبُرَهُ " أَيْ تَنْهَرَهُ، وَتُغْلِظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالرَّدِّ. وَالزَّبْرُ بِالْفَتْحِ: الزَّجْرُ، وَالْمَنْعُ اهـ. وَأَصْلُ مَعْنَى الزَّبْرِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ زُبَرُ الْحَدِيدِ قِطَعُهُ، وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونَ الزُّبَرُ هُنَا الْمَوَاعِظُ، وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ جِنْسُهُ أَيِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ، أَوِ الزُّبُرُ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ الْإِنْجِيلُ.

185

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ الْكَلَامُ فِي الْآيَتَيْنِ مُسْتَقِلٌّ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ لَهُ، بِبَيَانِ طَبِيعَةِ النَّاسِ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَصَبْرِ أُولَئِكَ عَلَى الْمُجَاحَدَةِ، وَالْمُعَانَدَةِ، وَالْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ تَأْكِيدٌ لِلتَّسْلِيَةِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الْغَايَةُ، وَبِهِ تَذْهَبُ الْأَحْزَانُ وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْدَهُ دَارًا يُجَازَى فِيهَا كُلٌّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهَا تَسْلِيَةٌ أُخْرَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَضْجَرْ، وَلَا تَسْأَمْ لِمَا تَرَى مِنْ مُعَانَدَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّ هَذَا مُنْتَهٍ، وَكُلُّ مَا لَهُ نِهَايَةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَالَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدُونَ قَرِيبٌ، فَيُجَازَوْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَا تَنْتَظِرْ أَنْ يُوَفَّوْا جَزَاءَ عَمَلِهِمُ السَّيِّئِ كُلِّهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا أَنَّ أَجْرَكَ عَلَى عَمَلِكَ لَا تُوَفَّاهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَحَسْبُكَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ، وَحَسْبُهُمْ مَا أُصِيبُوا، وَمَا يُصَابُونَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ السَّيِّئِ فِي الدُّنْيَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُوَفَّى أَحَدٌ جَزَاءَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِأَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: وَيَصِحُّ وَصْلُهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلخ. أَيْ إِنَّ أُولَئِكَ الْبُخَلَاءَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْحُقُوقَ، وَأُولَئِكَ الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى اللهِ وَالظَّالِمِينَ لِرُسُلِهِ وَالَّذِينَ عَانَدُوا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - كُلُّ أُولَئِكَ سَيَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ غَيْرُهُمْ، وَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَكَذَلِكَ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ هَؤُلَاءِ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ مَا يَلْقَوْنَ أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَلَّا، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا فِي ضِمْنِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِهِمْ، فَإِنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ مُتَبَادِرَةٌ فِي الْخَيْرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا لِيَسْهُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقْعُ إِنْبَائِهِمْ بِمَا يُبْتَلَوْنَ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَمُوتُ، فَتَذُوقُ نَفْسُهُ طَعْمَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا عَلَيْهَا إِشْكَالَاتٍ بِحَسَبِ عُلُومِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تَغَلْغَلَتِ اصْطِلَاحَاتُهَا فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِكَلِمَةِ نَفْسٍ اسْتِعْمَالَاتٌ يَصِحُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ مَا بِهِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الْحَيَوَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ (أَيْ فَيُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْبَارِئُ - تَعَالَى - لِإِضَافَةِ لَفْظِ النَّفْسِ إِلَيْهِ - عِزَّ وَجَلَّ) ، وَاسْتَشْكَلُوا مَوْتَ النَّفْسِ مَعَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ ; لِأَنَّهَا تُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يُبْعَثُ الْمَوْجُودُ، وَلَوْ عُدِمَتِ النَّفْسُ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُبْعَثُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ تُوجَدُ. وَأَجَابُوا عَنْهُ: كَوْنُهَا بَاقِيَةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا تَذُوقُ الْمَوْتَ، فَإِنَّ الَّذِي يَذُوقُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْمَيِّتُ لَا يَذُوقُ لِأَنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ، فَالْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ إِنَّمَا تَشْعُرُ بِهَا النَّفْسُ، وَأَمَّا الْبَدَنُ فَلَا شُعُورَ لَهُ لِأَنَّهُ يَمُوتُ، وَمِنَ الْعَبَثِ، وَالْجَهْلِ الْبَحْثُ فِي تَعْرِيفِ الْمَوْتِ، فَالْمَوْتُ هُوَ الْمَوْتُ الْمَعْرُوفُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُنَاكَ جَوَابٌ آخَرُ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي التَّخَاطُبِ الْمُتَبَادِرِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَمُوتُ. وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَّاهُ أَجْرَهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا بِالْعَمَلِ لَمْ يَنْقُصْهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَمَهْمَا نَالَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يُوَفَّاهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِيَامَةِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ، أَيْ مَا تَذُوقُهُ هَذِهِ النُّفُوسُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ، وَتِلْكَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ - وَهُوَ مِنْ أَسَاطِينِهِمْ - يَرُدُّ اسْتِدْلَالَهُمْ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا يُوهِمُ نَفْيَ مَا يُرْوَى مِنْ أَنَّ الْقَبْرَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، قُلْتُ: كَلِمَةُ التَّوْفِيَةِ تُزِيلُ هَذَا الْوَهْمَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْضُ الْأُجُورِ اهـ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ: نُحِّيَ وَأُبْعِدَ عَنْهَا، وَاخْتُطِفَ دُونَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَهِمَهُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الزَّحْزَحَةُ تَكْرِيرُ الزَّحِّ، وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، وَالَّذِي يَهُمُّ بِمَوَاقِعِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا) فَيُنَحَّى عَنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ (بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ حَسَنَاتِهِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ) إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَائِزًا فَوْزًا عَظِيمًا.

وَذِكْرُ الْفَوْزِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهِ شَيْءٌ يُفِيدُ أَنَّهُ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ الْمَرْءُ مِنْ سَلَامَةٍ مِنْ مَكْرُوهٍ، وَفَوْزٍ بِمَحْبُوبٍ، وَنَاهِيكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ النَّارِ، وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي دَارِ الْقَرَارِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ مُوجَزَةٍ إِيجَازًا مُعْجِزًا فَأَعْلَمَ أَنَّ هُنَالِكَ جَنَّةً وَنَارًا، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُلْقَى فِي تِلْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ، وَأَبَانَ عَظِيمَ هَوْلِ النَّارِ، وَشِدَّتِهَا بِالتَّعْبِيرِ عَنِ النَّجَاةِ عَنْهَا بِالزَّحْزَحَةِ كَأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ فِيهَا، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الزَّحْزَحَةِ عَنْهَا فَوْزٌ كَبِيرٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ النَّاسِ سَائِقَةٌ لَهُمْ إِلَى النَّارِ ; لِأَنَّهَا حَيَوَانِيَّةٌ فِي الْغَالِبِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زُحْزِحَ عَمَّا كَانَ صَائِرًا إِلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِي النَّارِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُزَحْزَحُونَ فَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَتْ فِي نُفُوسِهِمُ الصِّفَاتُ الرُّوحِيَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي أَعْمَالِهِمْ، وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمْ شَائِبَةٌ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللهِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. أَفَادَ هَذَا الْإِيجَازُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَمْ يَحْتَجْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ هُنَالِكَ مِنَ الْإِطْنَابِ، وَالتَّعْرِيفِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَعَبَّرَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ زُحْزِحَ لِلتَّرْتِيبِ، وَبَيَانِ السَّبَبِ. كَذَا كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَتَبْتُ بِجَانِبِهِ " وَفِيهِ نَظَرٌ " وَلَعَلِّي كَنْتُ أُرِيدُ مُرَاجَعَتَهُ فِيهِ فَنَسِيتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّرْتِيبِ دُونَ السَّبَبِ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِتَوْفِيَةِ الْأُجُورِ. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ الدُّنْيَا صِفَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، وَالْمَتَاعُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا مُمْتَدًّا امْتِدَادًا طَوِيلًا، أَوْ قَصِيرًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتُوعِ، وَهُوَ الِامْتِدَادُ، يُقَالُ مَتَعَ النَّهَارُ وَمَتَعَ النَّبَاتُ: إِذَا ارْتَفَعَ وَامْتَدَّ، وَيُقَالُ لِلْآنِيَةِ: مَتَاعٌ، قَالَ - تَعَالَى -: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ [13: 17] وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ [12: 65] وَهُوَ الْأَوْعِيَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ، وَأَصْلُهُ إِصَابَةُ الْغِرَّةِ أَيِ الْغَفْلَةِ مِمَّنْ تَخْدَعُهُ وَتَغُشُّهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ، وَيُغَرُّ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا هِيَ السُّفْلَى، أَوِ الْقُرْبَى، وَالْمُرَادُ مِنْهَا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ مَعِيشَتُنَا الْحَاضِرَةُ الَّتِي نَتَمَتَّعُ فِيهَا بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْجَاهِ، وَالْمَنْصِبِ، وَالسِّيَادَةِ، هَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَقْرَبُ الْحَيَاتَيْنِ، وَأَدْنَاهُمَا، وَأَحَطُّهُمَا، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَاعُ الْغُرُورِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا دَائِمًا مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ لَهَا تَشْغَلُهُ كُلَّ حِينٍ بِجَلْبِ لَذَّاتِهَا وَدَفْعِ آلَامِهَا، فَهُوَ يَتْعَبُ لِمَا لَا يَسْتَحِقُّ التَّعَبَ، وَيَشْقَى لِتَوَهُّمِ السَّعَادَةِ، وَيَتْعَبُ نَقْدًا لِيَسْتَرِيحَ نَسِيئَةً، وَالْعِبَارَةُ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَهِيَ تَشْمَلُ حَيَاةَ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ فِي نَفْعِ النَّاسِ حُبًّا بِالْخَيْرِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -

186

مِنْ حَيْثُ هُمْ مُتَمَتِّعُونَ فِيهَا، إِمَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَذَّتَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ قَهْرِيَّةٌ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا بَقَاءَ لَهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْحَصْرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ. وَأَقُولُ: حَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا مَتَاعًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغُرَّ الْإِنْسَانَ وَيَشْغَلَهُ عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي تَرْقَى بِرُوحِهِ فَتَعُدُّهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَتَاعِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنْهُ قَدْ يَشْغَلُهُ وَيُنْسِيهِ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاشْتِغَالُ بِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا مِنْ حَاجَاتِ الْمَعِيشَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، أَمَا تَرَى الْمُغْرَمِينَ فِيهَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ كَالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا - وَهُوَ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ - كَيْفَ يُسْرِفُونَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُفْنُونَ أَعْمَارَهُمْ بَيْنَ جُدْرَانِ بُيُوتِ اللهْوِ كَالْقَهَاوِي وَالْحَانَاتِ. كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ; لِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِصَرْفِ مُعْظَمِ زَمَنِهِ فِي عِلْمٍ يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ، وَعِبْرَةٍ تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَنْفَعُ بِهِ عِبَادَ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَمَا أَحْسَنَ وَصِيَّةَ الْحَلَّاجِ الْأَخِيرَةَ لِمُرِيدِهِ قُبَيْلَ قَتْلِهِ: " عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ ". وَلَيْسَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا غَايَةٌ يَنْتَهِي الْعَامِلُ إِلَيْهَا فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بَلِ الْمَزِيدُ مِنْهُ يُغْرِي بِزِيَادَةِ الْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَنْتَهِي أَرَبٌ مِنْهُ إِلَّا إِلَى أَرَبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنَّا لُبَانَتَهُ ... وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ فَمِنْ هَدْيِ الدِّينِ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَيْهِمُ الْحَيَوَانِيَّةُ فَيَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ، وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَيُؤْذُونَهُمْ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ، وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَعِبَارَةُ الْكَشَّافِ خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا سَيَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى، وَالشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا لَقُوهَا وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَا يُرْهِقُهُمْ مَا يُرْهِقُ مَنْ تُصِيبُهُ الشِّدَّةُ بَغْتَةً فَيُنْكِرُهَا وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نَفْسُهُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَذِكْرَ حَالِ الْيَهُودِ، وَهَذِهِ تُذَكِّرُ الْبَلَاءَ بِالْمَالِ، وَمَا سَيُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا

بِمَا هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْعَةِ أُحُدٍ إِلَى هُنَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالطَّعْنِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ لَيْسَ آخِرَ الِابْتِلَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُبْلَوْا بَعْدَ ذَلِكَ بِكُلِّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنْهُ وَتَجْرِي فِيكُمْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّكُمْ جَلَسْتُمْ عَلَى عَرْشِ الْعِزَّةِ وَاعْتَصَمْتُمْ بِالْمَنَعَةِ، وَأَمِنْتُمْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَامِلَكُمُ اللهُ - تَعَالَى - كَمَا يُعَامِلُ الْأُمَمَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الْمُبْتَلِي لَا لِيَعْلَمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِكُمْ فَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، بَلْ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ بَعْدُ، كَمَا مَازَ الْكَثِيرِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ. قَالَ: وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ يُفَسَّرُ بِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ، وَبِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُوصِلُ إِلَى الْخَيْرِ - وَبِالْجَوَائِحِ وَالْآفَاتِ وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالْأَوَّلِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِتَكْلِيفِ بَذْلِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبِمَوْتِ مَنْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاءِ (أَقُولُ: وَكَذَا الِابْتِلَاءُ بِالْمَصَائِبِ الْبَدَنِيَّةِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ) ، وَالِابْتِلَاءُ بِالتَّكْلِيفِ هُوَ أَهَمُّ الِابْتِلَاءَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكْفُلْ لِلْمُسْلِمِينَ الْحِفْظَ، وَالنَّصْرَ، وَالسِّيَادَةَ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُكَلِّفُهُمُ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - كَغَيْرِهِمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ دَائِمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَذْلَ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ غَلَطَ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الِابْتِلَاءَ بِالْمَالِ، وَالْأَمْرَ بِبَذْلِهِ، وَالْجِهَادَ بِهِ كُلَّ ذَلِكَ بِالزَّكَاةِ، وَمَا الزَّكَاةُ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْمَالِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَرَفْعُ شَأْنِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكُلَّ مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الْأَعْدَاءَ، وَيَرُدُّ عَنْهَا الْمَكَارِهَ وَالْأَسْوَاءَ، (يَعْنِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ) ، وَمِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ فِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَالِ، أَوْ بِالنَّفْسِ، فَهُوَ يُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهَا بِالْمَالِ، وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرَهِ، وَالطَّمَعِ فِي الْمَالِ حَتَّى إِذَا طَمِعُوا، أَوْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ - كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ - عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أُصِيبُوا إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ قَصَّرَتْ فِيهِ هِمَمُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّلُونَ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ أُصِبْنَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ؟ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الِاسْتِعْدَادُ لِبَذْلِ النَّفْسِ، فَبَذْلُ الْمَالِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ بَذْلِ النَّفْسِ، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دِفَاعًا عَنْ مَالِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ لَاحَظُوا الْغَالِبَ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ. عَلِمْنَا أَنَّ فَائِدَةَ الِابْتِلَاءِ هِيَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِهِ فَفَائِدَتُهُ التَّعْرِيفُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَهْيِئَةُ الْمُؤْمِنِ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُقَاوَمَتِهَا، فَإِنَّ مَنْ تَحْدُثُ لَهُ النِّعْمَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا سَعْيٍ تُرْجَى هِيَ مِنْ وَرَائِهِ تُدْهِشُهُ وَتُبْطِرُهُ، وَرُبَّمَا تُهَيِّجُ عَصَبَهُ فَيَقَعُ فِي دَاءٍ أَوْ يَمُوتُ فَجْأَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْمُصِيبَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَيُحِيطُ بِهِ الْغَمُّ حَتَّى يَقْتُلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَمَّا الْمُسْتَعِدُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَلِيعًا قَوِيًّا.

أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهُ يَحْمِلُ الْبَلَاءَ بِلَا تَبَرُّمٍ، وَلَا سَآمَةٍ، فَإِنْ ظَفِرَ لَا يَفْرَحُ فَرَحَ الْبَطِرِ الْفَخُورِ، وَإِنْ خَسِرَ لَا يَشْقَى شَقَاءَ الْبَئُوسِ الْكَفُورِ، فَهَذَا الْإِعْلَامُ تَرْبِيَةٌ مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23: 68] ؟ هَذَا وَإِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْأُولَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْآخِرَةِ - كَمَا يَأْتِي - فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِابْتِلَاءِ فِيهَا بِالْمَالِ هُوَ الْحَاجَةُ وَالْقِلَّةُ كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ [2: 155] ص27 ج 2 تَفْسِيرُ ط [الْهَيْئَةُ الْمِصْرِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ] ، وَتَقْرَأُ بَيَانَهُ لَنَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَسْطُرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا فَهُوَ ابْتِلَاءٌ آخَرُ، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مَلَئُوا الْفَضَاءَ بِكَلَامِهِمُ الْمُؤْذِي لِلرَّسُولِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَاذَا صَرَّحَ الْكِتَابُ بِهَذَا، وَهُوَ مَا أَلِفَهُ الْمُسْلِمُونَ وَاعْتَادُوا؟ بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ فِي الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ. أَقُولُ: نَبَّهَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا النَّبَإِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي سَبَبِهِ، وَالْمُرَادِ مِنْهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي اطَّلَعْتُ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّارِيخِ ; أَيْ سِيرَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا تَذَكَّرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْآخِرَةِ الَّتِي سَبَقَ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ بَعْدَ الْكَلَامِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَغَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ - وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَتَذَكَّرْنَا مَا كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَذْفِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ - بَرَّأَهَا اللهُ تَعَالَى - وَمِنْ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِمْ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَجْلَاهُمْ، وَأَمِنَ شَرَّ مُجَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْ تَأَلُّبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمْعِ الْأَحْزَابِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَزَحْفِهِمْ عَلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، وَالْجُوعِ الدَّيْقُوعِ، وَالْحِصَارِ الضَّيِّقِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ كُلِّهِ: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظَّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [33: 10، 11]- إِذَا تَذَكَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لَهُ، وَإِعْدَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّيهِ لَعَلَّ وَقْعَهُ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يَعْنِي إِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَيَحِلُّ بِكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَعَلَى مَا تَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَذَى، وَتَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَمُكَافَحَتِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ

187

أَيِ الْأُمُورُ الَّتِي يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهَا، أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ; أَيْ مِنْ عَزَمَاتِ قَضَائِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ ضَعْفَ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَفِنْحَاصَ، وَقَدْ سَرَدْنَا الرِّوَايَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَمَا سَبَقَهَا مِنَ التَّمْهِيدِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنْ حَسَّنَهَا مَنْ رَوَاهَا - وَيُرَجِّحُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي الْكَافِرِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فِيمَا كَانَ يَهْجُو بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، وَهَذِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُولَى، فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ قُتِلَ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَفَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ كَيْدَهُ وَقَوْلَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّبْرُ هُوَ تَلَقِّي الْمَكْرُوهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَكَظْمُ النَّفْسِ عَلَيْهِ مَعَ الرَّوِيَّةِ فِي دَفْعِهِ، وَمُقَاوَمَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنَ الْجَزَعِ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: دَفْعُ الْجَزَعِ، وَمُحَاوَلَةُ طَرْدِهِ، ثُمَّ مُقَاوَمَةُ أَثَرِهِ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْمَكْرُوهِ، فَمَنْ لَا يُحِسُّ بِهِ لَا يُسَمَّى صَابِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ فَاقِدٌ لِلْإِحْسَاسِ يُسَمَّى بَلِيدًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْبَلَادَةِ، فَالصَّبْرُ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَزَعِ وَالْبَلَادَةِ، وَمَا أَحْسَنَ قَرْنَ التَّقْوَى بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا هَدَى اللهُ إِلَيْهِ فِعْلًا، وَتَرْكًا عَنْ بَاعِثِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ; أَيِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَيْهَا الْعَزِيمَةُ، وَتَصِحَّ فِيهَا النِّيَّةُ وُجُوبًا مُحَتَّمًا لَا ضَعْفَ فِيهِ. وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَحْوَالَ النَّصَارَى مِنْهُمْ وَحَاجَّهُمْ فِي

أَوَّلِ السُّورَةِ - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَبْلَ قِصَّةِ أُحُدٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ شُئُونِهِمْ بَعْدَهَا، فَكَانَ مِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أُمِرُوا بِبَيَانِهِ، وَاسْتِبْدَالُ مَنْفَعَةٍ حَقِيرَةٍ بِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ إِلَّا بِآيَتَيْنِ قَدْ عُرِفَتْ حِكْمَةُ وَضْعِهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ عَنْهَا أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ، وَصِدْقِ نَبُوَّتِهِ، وَرِسَالَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ الطَّعْنِ فِي نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا، وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا يُصَابُونَ بِهِ لِأَخْذِهِمْ بِالْحَقِّ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَطَّنَ عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ - لِيَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا - أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، إِذْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِبَيَانِ الْحَقِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا كَتَمْتُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَكُونُ وَعِيدُكُمْ كَوَعِيدِهِمْ قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقَيِّدَ بِرَأْيِنَا مَا أَطْلَقَهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ أَيْ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ إِيجَابَ الْبَيَانِ أَوِ التَّبْيِينِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَالتَّدْرِيجِ، كَمَا يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَهَمَّ الْأُمُورِ بِالْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، فَيُقَالُ لَهُ: اللهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَقَرَءُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ حِكَايَةً لِلْمُخَاطَبَةِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ) لِأَنَّهُمْ غَائِبُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي الْآيَةِ 81 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ((رَاجِعْ ص287 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) . رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِبَيَانِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَعَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَتَبْيِينُهُ هُوَ أَنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ، وَلَا يُئَوِّلُوهُ، وَلَا يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وُضِعَ لِتَقْرِيرِهَا، وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ فِي فَهْمِهِ لَبْسٌ، وَلَا اضْطِرَابٌ. وَهَهُنَا أَمْرَانِ: الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ عَدَمِ الْبَيَانِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتْمَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ فِي التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْكِتْمَانِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْبَيَانِ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ إِظْهَارِ الْكِتَابِ فَلِمَاذَا عَكَسَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدَّمَ أَهَمَّ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتْمَانُ تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْبَسِيطَ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالدِّينِ، وَفِي الثَّانِي تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ أَهْوَنُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْفَرَ بِالْكِتَابِ يَوْمًا فَيَهْتَدِيَ بِهِ وَيَعْرِفَ الدِّينَ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ - وَهُوَ فَهْمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ - فَيَعْسُرُ زَوَالُهُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ ضَالًّا مَعَ وُجُودِ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ أَمَامَهُ. قَالَ: وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَنْفُسِنَا، فَإِنَّ كِتَابَنَا - وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ - لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ فِي الدُّنْيَا حُفِظَ كَمَا حُفِظَ، وَنُقِلَ، وَنُشِرَ كَمَا نُشِرَ، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَهُمْ يَتْلُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُهُ فِي الشَّارِعِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَمُجْتَمَعَاتِ الْأَفْرَاحِ، وَالْأَحْزَانِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عَدَمُ الْكِتْمَانِ شَيْئًا ; فَإِنَّهُمْ فَقَدُوا هِدَايَتَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْحَرِفُونَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْقَابِضَ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْغِشَّ قَدْ عَمَّ وَطَمَّ، وَيَعْتَرِفُونَ بِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ، وَشُيُوعِ الْخِيَانَةِ إلخ. . إلخ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ التَّبْيِينِ. قَالَ: وَلِهَذِهِ التَّعْمِيَةِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ أَسْبَابٌ أَهَمُّهَا مَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلُ - لَاسِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ - فَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ إِلَى شِيَعٍ وَذَهَبَتْ فِي الْخِلَافِ مَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْكِتَابِ يَأْخُذُ مَا وَافَقَهُ مِنْهُ وَيُئَوِّلُ مَا خَالَفَهُ، وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَضِيَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ حَتَّى جَاءَتْ أَزْمِنَةٌ تَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ التَّحَاكُمَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَأْيِيدَ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ بِهِ، وَتَأْوِيلَ مَا عَدَاهُ (أَقُولُ: بَلْ وَصَلْنَا إِلَى زَمَنٍ يُحَرِّمُونَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا يَرَوْنَ فِيهِ لِلْقُرْآنِ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ، بَلْ كُلُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْجَسَدِ دُونَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ) ، حَتَّى صِرْنَا نَتَمَنَّى لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْخِلَافَاتُ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنَ بَتَاتًا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي اضْطِرَابٍ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى صَارُوا يَحْسَبُونَ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَحَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرَوْنَ

الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يُنْكِرُونَهَا بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فِيهَا، أَوْ يَتَأَوَّلُونَ لِفَاعِلِيهَا، وَلَوْ بَيَّنُوا لِلنَّاسِ كِتَابَ اللهِ لَقَبِلُوهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ - وَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ - لَمْ يَكُنْ تَبْيِينُهُمْ كَامِلًا كَمَا يَنْبَغِي، وَكَانَ جَمَالُ الدِّينِ يَقُولُ: " إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَزَالُ بِكْرًا "، وَإِنَّ لِي كَلِمَةً مَا زِلْتُ أَقُولُهَا، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا كُتُبُهُمْ هُوَ عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ التَّامِّ فِي الْفَهْمِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِبَلَادَةٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ أُمُورٍ أَهَمُّهَا: الِافْتِتَانُ بِالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَتَغَلُّبُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُحَاوَلَةُ نَصْرِ الْمَذَاهِبِ، وَتَأْيِيدِهَا. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْبَيَانَ، أَوِ التَّبْيِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَبْيِينُهُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا تَبْيِينُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ إِرْشَادِهِمْ، وَهِدَايَتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَاجِبٌ حَتْمٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ، وَالسُّؤَالِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْعَالِمَ لَا يِجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِدَعْوَةِ النَّاسِ، وَتَعْلِيمِهِمْ إِلَّا إِذَا سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آكَدُ فِي الْإِيجَابِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [3: 104] الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِلَّا أَنَّ التَّأْكِيدَ فِيهِ دُونَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هُنَا، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ تَرْكِ الِامْتِثَالِ بِنَبْذِ الْكِتَابِ، وَبَيْعِهِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَمِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَالَ: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ النَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ جَرَتْ كَلِمَةُ نَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي تَرْكِ الشَّيْءِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: " جَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، أَوْ أَلْقَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " أَيِ اهْتَمَّ بِهِ أَشَدَّ الِاهْتِمَامِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَنْسَاهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى كَوْنِ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِهِ فَيَجْعَلُوا الْكِتَابَ إِمَامًا لَهُمْ وَنُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لَا شَيْئًا مُهْمَلًا مُلْقًى وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَلَا يُفَكَّرُ فِي شَأْنِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ (مِنْهُمُ) الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ كَمَا يَحْمِلُ الْحِمَارُ الْأَسْفَارَ فَلَا يَسْتَفِيدُ مِمَّا فِيهَا شَيْئًا، (وَمِنْهُمُ) الَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، (وَمِنْهُمُ) الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، أَيْ قِرَاءَاتٍ يَقْرَءُونَهَا، أَوْ تَشْهِيَاتٍ يَتَشَهُّونَهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَرِيمَةً أُخْرَى مِنْ جَرَائِمِهِمْ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَيْ أَخَذُوا بَدَلَهُ فَائِدَةً دُنْيَوِيَّةً قَلِيلَةً لَا تُوَازِي عُشْرَ فَوَائِدِ بَيَانِ الْكِتَابِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، فَكَانُوا مَغْبُونِينَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الثَّمَنُ هُوَ مَا كَانَ يَسْتَفِيدُهُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَعَكْسُهُ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَمِنْهُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعُلَمَاءُ إِلَى الْحُكَّامِ، وَأُجُورُ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ فِيهِ، وَالْعِبْرَةُ بِهِ. وَقَدْ أَرْجَعَ بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَنَبَذُوهُ وَقَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ إِلَى الْمِيثَاقِ. وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الدَّرْسِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ بَعْضُ الطُّلَّابِ، وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [2: 174] الْآيَةَ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْكِتَابِ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [2: 79] وَمِنْهَا فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [2: 41] فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَوَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) بَيْعُ الْعَهْدِ وَالْأَيْمَانِ، وَاشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [3: 77] الْآيَةَ. وَتُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَالْعَهْدُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمِيثَاقِ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى مَا عَهِدَ اللهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ فِي وَحْيِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [36: 60] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [2: 125] الْآيَةَ، فَالْعَهْدُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ الْمَعْهُودُ بِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (3: 77) ، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْعَهْدَ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ ; لِأَنَّ الْعَهْدَ وَاحِدٌ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْأَيْمَانُ تُعْتَبَرُ كَثِيرَةً بِكَثْرَةِ مَنْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَنَبَذُوهُ وَقَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ هُوَ ضَمِيرُ الْكِتَابِ لَا الْمِيثَاقِ كَمَا قِيلَ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَبَذُوا الْمِيثَاقَ: لَمْ يَفُوا بِهِ إِذْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي اشْتَرَوْهُ بِهِ لَمْ يُبَيِّنْهُ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ سِيرَتِهِمْ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الدَّنِيَّةِ وَاللَّذَائِذِ الْفَانِيَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجِدُ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالْتِزَامِ الشَّرِيعَةِ مَشَقَّةً فَيَتْرُكُهُ حُبًّا فِي الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا لِلَذَّةٍ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ: (مِنْهَا) الْخَوْفُ مِنَ الْحُكَّامِ، وَالرَّجَاءُ فِيهِمْ، فَيُحَرِّفُ رِجَالُ الدِّينِ

النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا الْمَقْصُودَةِ، وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِيُوَافِقُوا مَا يُرِيدُ الْحَاكِمُ فَيَأْمَنُوا شَرَّهُ، وَيَنَالُوا بِرَّهُ. (وَمِنْهَا) إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ، أَوِ الْأَغْنِيَاءِ خَاصَّةً بِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ لِاسْتِفَادَةِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ. (وَمِنْهَا) - وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي التَّحْرِيفِ - الْجَدَلُ، وَالْمِرَاءُ بَيْنَ رِجَالِ الدِّينِ أَنْفُسِهِمْ لَاسِيَّمَا الرُّؤَسَاءُ وَطُلَّابُ الرِّيَاسَةِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا قَالَ قَوْلًا، أَوْ أَفْتَى فَأَخْطَأَ فَأَبَانَ خَطَأَهُ آخَرُ يَنْبَرِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِ، وَتَوْجِيهِ فُتْيَاهُ، وَتَخْطِئَةِ خَصْمِهِ، وَتَأْخُذُهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَيَرَى الْمَوْتَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ أَخِيهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ. (وَمِنْهَا) الْجَهْلُ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلتَّعْلِيمِ، أَوِ الْفُتْيَا قَدْ يَجْهَلُ مَسَائِلَ فَيَتَعَرَّضُ لِبَيَانِهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا أُبِيحَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَلِّمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي نَعْهَدُهَا مِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ جَهَلَةَ الطُّلَّابِ بِالتَّدْرِيسِ، وَيُعْطُونَهُمُ الشَّهَادَةَ بِالْعِلْمِ مُحَابَاةً لَهُمْ، فَإِنَّهُ يُرَبِّي تَلَامِيذَ أَجْهَلَ مِنْهُ فَيَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُحَرِّفِينَ مُخَرِّفِينَ، وَيَفْسُدُ بِهِمُ الدِّينُ لَاسِيَّمَا إِذَا صَارُوا مُقَرَّبِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. (وَمِنْهَا) انْقِطَاعُ سِلْسِلَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ، وَالتَّبْيِينِ، وَخَبْطُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ بَيَانٍ، وَتَأْوِيلٍ، وَحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ حَتَّى بَعُدُوا عَنِ الْأَصْلِ بُعْدًا شَاسِعًا قَالَ: وَانْظُرْ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ - وَاعْتَبِرْ بِحَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْهَرِ تَرَى بِعَيْنَيْكَ كَمَا رَأَيْنَا، وَتَسْمَعُ بِأُذُنَيْكَ كَمَا سَمِعْنَا، وَتَفْهَمُ سِرَّ مَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا. أَقُولُ: وَمِمَّا سَمِعَهُ هُوَ - وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ - قَوْلُ شَيْخٍ مِنْ أَكْبَرِ الشُّيُوخِ سِنًّا وَشُهْرَةً فِي الْعِلْمِ فِي مَجْلِسِ إِدَارَةِ الْأَزْهَرِ عَلَى مَسْمَعِ الْمَلَإِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا بِكُتُبِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ فِي دِينِي بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الزِّنْدِيقُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَنَارِ فِي زَمَنِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ أَضَرُّ عَلَى الدِّينِ وَأَبْعَثُ عَلَى إِضَاعَةِ الْكِتَابِ، وَنَبْذِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ بِهِ مِنْ جَعْلِ أَرْزَاقِ الْعُلَمَاءِ وَرُتَبِهِمْ فِي أَيْدِي الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ - لَاسِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ - وَإِنَّنِي لَا أَعْقِلُ مَعْنًى لِجَعْلِ الرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَايِشِ الْعُلَمَاءِ فِي أَيْدِي السَّلَاطِينِ، وَالْأُمَرَاءِ إِلَّا جَعْلَ هَذِهِ السَّلَاسِلَ الذَّهَبِيَّةَ أَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يَقُودُونَهُمْ بِهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنْ غِشِّ الْعَامَّةِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَجَعْلِهَا مُسْتَعْبَدَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَوْ عَقَلَتِ الْعَامَّةُ لَمَا وَثَقَتْ بِقَوْلٍ، وَلَا فَتْوًى مِنْ عَالِمٍ رَسْمِيٍّ مُطَوَّقٍ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ، وَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنْ صَارَتْ تُوَجَّهُ عَلَى الْأَطْفَالِ بَلِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَحَدُ عُلَمَاءِ طَرَابُلْسِ الشَّامِ مِنْ قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ فِي سُوءِ حَالِ الدَّوْلَةِ:

زَمَنٌ رَأَيْتُ بِهِ الْعَجَائِبْ ... وَذُهِلْتُ فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبْ زَمَنٌ بِهِ الْوَهْمُ السَّخِي ... فُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ غَالِبْ أَفَلَا تَرَاهُمْ جَانَبُوا ... كَسْبَ الْمَعَارِفِ وَالْمَآدِبْ وَرَضُوا بِأَوْرَاقٍ تُخَطُّ ... خُطُوطُهَا مِثْلُ الْعَقَارِبْ يَشْهَدْنَ زُورًا أَنَّ مَنْ ... هِيَ بِاسْمِهِ نُورُ الْغَيَاهِبْ عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ ... بَلَّاغُ دَوْلَتِهِ الْمَآرِب وَيَكُونُ أَجْهَلَ جَاهِلٍ ... ولِمَا لَهَا بالْغِشِّ نَاهِبْ أَوْ أَنَّهُ حَدَثٌ عَلَى ... فَخِذَيْهِ خَرْءُ اللَّيْلِ لَازِبْ ثُمَّ هَزَأَ النَّاظِمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَسَاوِي التَّشْرِيفِ الْعِلْمِيَّةِ وَشَبَّهَهَا - وَهِيَ عَلَى الْعُلَمَاءِ - بِالسُّرُوجِ (الْمُزَرْكَشَةِ) عَلَى الدَّوَابِّ " وَالسُّيُورِ عَلَى الْقَبَاقِبِ " إِلَى أَنْ قَالَ: ضَحِكَتْ عَلَيْهِمْ دَوْلَةٌ ... هَرِمَتْ وَقَارَبَتِ الْمَعَاطِبْ عَلَى أَنَّهُ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حَمَلَةِ هَاتِيكَ الْأَوْرَاقِ، وَالْمُتَزَيِّنِينَ بِتِلْكَ الْكَسَاوِي الْمُوَشَّاةِ وَالْمُتَحَلِّينَ بِتِلْكَ الْأَوْسِمَةِ الْبَرَّاقَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ السُّلْطَانِ مُعْطِيهَا بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَيُضَلِّلُونَ مَنْ يَطْلُبُ إِصْلَاحَ حَالِ الدَّوْلَةِ تَضْلِيلًا؟ فَهَلْ يُوثَقُ بِعِلْمِ عَالِمٍ مُقَرَّبٍ مِنَ الْمُسْتَبِدِّينَ أَوْ بِدِينِهِ؟ إِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ كَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ قُرْبِ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ أَشَدَّ مِمَّا يَهْرُبُونَ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا، وَآثَارًا كَثِيرَةً: مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ - زَادَ فِي رِوَايَةٍ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ - فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْحَوْضِ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ يُحَدِّثُونَكُمْ فَيَكْذِبُونَكُمْ، وَيَعْمَلُونَ فَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ حَتَّى تَحَسِّنُوا قَبِيحَهُمْ وَتُصَدِّقُوا كَذِبَهُمْ، فَأَعْطُوهُمُ الْحَقَّ مَا رَضُوا بِهِ، فَإِذَا تَجَاوَزُوا فَمَنْ قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُلَالَةٍ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَشْهُورُ: " الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللهِ مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ " رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَأَبُو نَعِيمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ

وَغَيْرُهُمْ، وَنَازَعَ السُّيُوطِيُّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي وَضْعِهِ فَقَالَ: إِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ، فَيُحْكَمُ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ بِالْحُسْنِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مَنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا قَالَ السُّيُوطِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ. وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ: " سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُلَمَاءُ يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْغَبُونَ، وَيُزَهِّدُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَزْهَدُونَ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ غِشْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَلَا يَنْتَهُونَ ". وَمِنْهُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ: " مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنَ ". وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: " مَا مِنْ عَالَمٍ أَتَى صَاحِبَ سُلْطَانٍ طَوْعًا إِلَّا كَانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ لَوْنٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا: " إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ وَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَتَى بَابَ السُّلْطَانِ تَمَلُّقًا إِلَيْهِ، وَطَمَعًا لِمَا فِي يَدِهِ خَاضَ بِقَدْرِ خُطَاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ سَمَّاهُ (الْأَسَاطِينُ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ إِلَى السَّلَاطِينِ) وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ لِظُهُورِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي زَمَنِهِمْ، وَتَهَافُتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا قَوْلُ حُذَيْفَةَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ: " إِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ. قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ، وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ: " وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ لِسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: " لَا تَغْشَ أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ فَإِنَّكَ لَا تُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ "، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ: " مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ مِنْ عَالَمٍ يَزُورُ عَامِلًا، أَيْ مِنْ عُمَّالِ الْحُكُومَةِ " وَقَالَ سَمْنُونُ الْعَابِدُ الشَّهِيرُ: " مَا أَسْمَجَ بِالْعَالَمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يُوجَدُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَيُقَالُ عِنْدَ الْأَمِيرِ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ يُقَالُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ يُحِبُّ الدُّنْيَا فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ حَتَّى جَرَّبْتُ ذَلِكَ، مَا دَخَلْتُ قَطُّ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ إِلَّا وَحَاسَبْتُ نَفْسِي بَعْدَ الْخُرُوجِ، فَأَرَى عَلَيْهَا الدَّرْكَ مَعَ مَا أُوَاجِهُهُمْ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِهَوَاهُمْ " اهـ، وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُ أَسْمَعُ إلخ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الْعَالِمَ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ مُخَالَطَةً كَثِيرَةً فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ. أَوْ إِلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ: إِذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِالسُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ. وَإِذَا رَأَيْتَهُ

يَلُوذُ بِالْأَغْنِيَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُرَاءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ، فَيُقَالُ لَكَ: نَرُدُّ مَظْلَمَةً، نَدْفَعُ عَنْ مَظْلُومٍ، فَإِنَّ هَذِهِ خُدْعَةٌ إِبْلِيسُ اتَّخَذَهَا لِلْقُرَّاءِ سُلَّمًا. أَقُولُ: يَعْنُونَ بِالْقُرَّاءِ عُلَمَاءَ الدِّينِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلَبِّسُ عَلَى رِجَالِ الدِّينِ مَا يَلْبِسُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نُرِيدُ بِغِشْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَفْعَ النَّاسِ، وَدَفْعَ الْمَظَالِمِ عَنْهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ بِدِينِهِمْ، وَيَقِلُّ الصَّادِقُ فِيهِمْ. وَهَكَذَا أَضَاعُوا دِينَهُمْ فَنَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَقَدْ نَظَمَ كَثِيرُونَ مِنْ نَاظِمِي الْحِكَمِ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا نُظِمَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قُلْ لِلْأَمِيرِ مَقَالَةً ... لَا تَرْكَنَنَّ إِلَى فَقِيهِ إِنَّ الْفَقِيهَ إِذَا أَتَى ... أَبْوَابَكُمْ لَا خَيْرَ فِيهِ قَالَ - تَعَالَى -: فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ أَيْ هُوَ ذَمِيمٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الْعَرَضَ الْفَانِيَ بَدَلًا مِنَ النَّعِيمِ الْبَاقِي فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْأُمَّةِ بِمُحَافَظَةِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْكِتَابِ، وَتَبْيِينِهِ لَهَا، وَإِرْشَادِهَا بِهِ إِلَى مَا يُهَذِّبُ أَخْلَاقَهَا، وَيُعْلِي آدَابَهَا، وَيَجْمَعُ كَلِمَتَهَا، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَطَامِعِ الْمُسْتَبِدِّينَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ أُمَّةً عَزِيزَةً قَوِيَّةً مُتَكَافِلَةً مُتَضَامِنَةً، أَمْرُهَا شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَفْرَادِهَا. ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لِنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَهَذِهِ! إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا قَدِمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا عِنْدَ مَرْوَانَ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا رَافِعُ، فِي أَيِّ شَيْءٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا؟ قَالَ رَافِعٌ: " أُنْزِلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَذَرُوا، وَقَالُوا: مَا حَبَسَنَا عَنْكُمْ إِلَّا شُغْلٌ، فَلَوَدِدْنَا لَوْ كُنَّا مَعَكُمْ

فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَأَنَّ مَرْوَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَجَزِعَ رَافِعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ "، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، قَالَ: وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ: نَحْنُ الْيَهُودُ، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةِ، وَالطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ أَيْضًا. وَقَدْ وَجَّهَهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ، فَحَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَرِحُوا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيُصَلُّونَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ ، وَالْكُفْرِ بِهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ يُوَجَّهُ نُزُولُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ، وَحِفْظِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، إِذْ أُخِذَ عَلَى أُولَئِكَ الْمِيثَاقُ، فَقَصَّرُوا فِيهِ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَتَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْغَابِرِينَ لِيُحَذِّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ لِلْكِتَابِ، وَيَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ شَرَفًا فِيهِ، وَفَضْلًا بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا فَرَحٌ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ حُفَّاظُ الْكِتَابِ، وَمُفَسِّرُوهُ، وَعُلَمَاؤُهُ، وَمُبَيِّنُوهُ، وَالْمُقِيمُونَ لَهُ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ إِذْ حَوَّلُوهُ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَأَهْوَاءَ سَائِرِ النَّاسِ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ حَمْدَهُمْ، بَيَّنَ اللهُ هَذِهِ الْحَالَ فِي أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ، بَيَّنَ فِيهِ حُكْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَرِحِينَ الْمُحِبِّينَ لِلْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهُمْ عَلَى النَّاسِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَأَنْصَارُ دِينِهِ، وَعُلَمَاءُ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ عَذَابِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْ رِضْوَانِهِ، فَبَيَّنَ اللهُ كَذِبَ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ. أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا مُبَيِّنَةٌ لِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بِكِتَابِ اللهِ، وَكَوْنِهِ بِئْسَ الثَّمَنُ، وَهُوَ أَمْرَانِ: " أَحَدُهُمَا " فَرَحُهُمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَرَحَ غُرُورٍ، وَخُيَلَاءَ، وَفَخْرٍ

عَلَى أَنَّ مِنْهُ نَبْذَ كِتَابِ اللهِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَدَمِ تَبْيِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ، إِمَّا بِتَحْرِيفِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُوَافِقَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، أَوْ أَهْوَاءَ النَّاسِ، وَإِمَّا بِالسُّكُوتِ عَنْهُ، وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ إِلَّا ادِّعَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَالَفُوا بَعْضَ نُصُوصِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. " وَثَانِيهِمَا ": حُبُّ الْمَدْحِ، وَالثَّنَاءِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَالنَّاسِ فِي الدِّينِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ يُبَيِّنُونَ الْحَقَّ لِوَجْهِ اللهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ، أَوْ غَيْرَ الْحَاكِمِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى عَمَلٍ يُرْضِي بِهِ هَوَاهُ، وَشَهْوَتَهُ مِمَّا يَحْظَرُهُ عَلَيْهِ الدِّينُ فَلَجَأَ إِلَى الْعَالِمِ فَعَلَّمَهُ حِيَلَةً شَرْعِيَّةً يَسْلَمُ بِهَا مِنْ نَقْدِ النَّاقِدِينَ، وَذَمِّ الْمُتَدَيِّنِينَ، فَشُكَّ أَنَّهُ يَحْمَدُ ذَلِكَ الْعَالِمَ وَيُطْرِيهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ التَّقِيُّ الْمُحَقِّقُ، لَا مُكَافَأَةً لَهُ فَقَطْ بَلْ يَرَى مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَالصَّلَاحَ فِي مُفْتِيهِ لِيَأْخُذُوا كَلَامَهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّ الْحُكَّامَ مُنْذُ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ مَعَ كِبَارِ شُيُوخِ الْعِلْمِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَرَمِينَ - عِنْدَ الْعَامَّةِ - عَلَى تَعْظِيمِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ، فَرُؤَسَاءُ الْحُكَّامِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ الْعُلَمَاءِ، وَالِاعْتِقَادَ بِوِلَايَةِ كِبَارِ شُيُوخِ أَهْلِ الطَّرِيقِ، فَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرُبَّمَا أَهْدَوْا إِلَيْهِمْ بَعْضَ الْهَدَايَا، وَالْمَشَايِخُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الطَّرِيقِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ أُولَئِكَ الْحُكَّامِ، وَيَشْهَدُونَ بِقُوَّةِ دِينِهِمْ، وَشِدَّةِ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ - يَقُولُونَ: وَإِنْ ظَلَمُوا وَجَارُوا ; لِأَنَّهُمْ مُسَلَّطُونَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ! ! ! فَهَكَذَا كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُسْتَبِدُّونَ، وَمَا زَالُوا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ الدِّينَ بِمُسَاعَدَةِ رِجَالِهِ، وَيَتَّفِقُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالِهَا لَهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا بِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَنَعِمِيهَا فَيَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ ضُرُوبِ الْمَكَايِدِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَهُمْ، وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لَهُمْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا دَائِمًا بِأَنَّهُمْ أَنْصَارُ الدِّينِ، وَحُمَاتُهُ، وَمُبَيِّنُو الشَّرْعِ وَدُعَاتُهُ، وَإِنْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى كُتُبِ أَمْثَالِهِمْ، وَأَشْبَاهِمْ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ لَا تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَّا شَقَاءً بِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا بِسُوءِ سِيَاسَتِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْكِتَابَ كَمَا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلْزَامِ الْحُكَّامِ بِهَدْيِهِ لَمَا عَمَّ الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَصَارَتِ الشُّعُوبُ الْإِسْلَامِيَّةُ دُونَ سَائِرِ الشُّعُوبِ حَتَّى ذَهَبَتْ سُلْطَتُهَا، وَتَقَلَّصَ ظِلُّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْمَمَالِكِ الَّتِي كَانَتْ خَاضِعَةً لَهَا، وَهِيَ تَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْخَطَرِ بِالْبَاقِي وَهُوَ أَقَلُّهَا. وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْحُكَّامِ هُمُ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ وُدَّ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَيَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَزَّزُونَ، فَيَسْتَجِيبُ لِلرُّقْيَةِ بَعْضُهُمْ، وَيَعْتَصِمُ بِالْإِبَاءِ، وَالتَّقْوَى آخَرُونَ ; ثُمَّ انْعَكَسَتِ الْحَالُ، وَضَعُفَ سُلْطَانُ التَّقْوَى أَمَامَ سُلْطَانِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ، فَصَارَ رِجَالُ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَهَافَتُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، فَيُقَرَّبُ الْمُنَافِقُونَ، وَيُؤْذَى الْمُحِقُّونَ الْمُتَّقُونَ، وَتَكُونُ مَرَاتِبُ الْآخَرِينَ عَلَى نِسْبَةِ قُرْبِهِمْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.

188

هَذَا مَا أَحْبَبْتُ التَّذْكِيرَ بِهِ فِي تَبْيِينِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَعَمَلِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنْ سَاءَتْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِالشِّعْرِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي رَاجَتْ سُوقُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالصُّحُفِ الْمُنْتَشِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَرَائِدِ، فَالْكَثِيرُ مِنْهَا قَدْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ - مَدْحَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا - حَتَّى اطْمَأَنُّوا بِاعْتِقَادِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ أَنَّ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَحَتَّى بَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمَحْمَدَةِ الصَّحِيحَةِ وَحُبُّ الثَّنَاءِ بِالْحَقِّ، وَالشُّكْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَانْهَدَّ بِذَهَابِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ، وَالْإِصْلَاحِ الْقَوْمِيِّ، وَالشَّخْصِيِّ، فَإِنَّ حُبَّ الْحَمْدِ غَرِيزَةٌ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الَّتِي تَنْهَضُ بِالْهِمَمِ، وَتُحَفِّزُ الْعَزَائِمَ إِلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ النَّافِعَةِ رَغْبَةً فِي اقْتِطَافِ ثِمَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُدْرِكُ هَذَا الثَّنَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُونَ بِدُونِ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ عَنَاءَ الْعَمَلِ لِلْأُمَّةِ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِكَذِبِ الْجَرَائِدِ فِي حَمْدِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ قَعَدَتْ هِمَّتُهُ وَوَهَتْ عَزِيمَتُهُ، وَأَخْلَدَ إِلَى الرَّاحَةِ، أَوِ اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ لِلَذَّتِهِ فَقَطْ. فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ، وَلَا بِدِينِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ - فَأَصْحَابُ الْجَرَائِدِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثِّقَةِ بِأَخْبَارِهِمْ، وَآرَائِهِمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ. وَأَنَّى لِلْعَوَامِّ الْمَسَاكِينِ فَهْمُ هَذَا وَإِدْرَاكُ سِرِّهِ وَالْجَهْلُ غَالِبٌ، وَالْغِشُّ رَائِجٌ، وَالنَّاصِحُ الْمُخْلِصُ نَادِرٌ؟ وَقَدْ صَارَتْ حَاجَةُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَى حَمْدِ الْجَرَائِدِ تُوَازِي حَاجَتَهُمْ إِلَى حَمْدِ رِجَالِ الدِّينِ فِي غِشِّ الْأُمَّةِ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ يُغْدِقُونَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَيُقَرِّبُونَهُمْ، وَيُحَلُّونَهُمْ بِالرُّتَبِ، وَشَارَاتِ الشَّرَفِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَوْسِمَةِ، أَوِ النَّيَاشِينِ، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى إِرْضَائِهِمْ كُلُّ مُحِبِّي الشُّهْرَةِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَالْوُجَهَاءِ. لَوْلَا أَنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ: بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94: 4] وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [43: 44] نَعَمْ، إِنَّ هُنَاكَ مَرْتَبَةً أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَنْ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ لِيُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَرْتَبَةُ مَنْ يَعْمَلُهَا حَبًّا بِالْخَيْرِ لِذَاتِهِ، وَتَقْرُّبًا بِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. عَلَى أَنَّ الْمَدْحَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ ضَرَرٍ فِي الْمَمْدُوحِ كَالْغُرُورِ وَالْعُجْبِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي حُمِدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْحَكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: - وَيْلَكَ - قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مَرَّتَيْنِ - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لِأَخِيهِ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ زِيَادَةٌ: وَاللهِ لَوْ سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ نَعَمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ ذَلِكَ الْمَادِحِ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ مِنْ قُبْحِ الْإِطْرَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَمْدُوحُ بِهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْدَادَهُ لِلْغُرُورِ بِمَا يُقَالُ فِيهِ، فَوَقَائِعُ الْأَحْوَالِ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِجْمَالِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَلَكِنْ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالْمَدْحِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ إِطْرَاءً، وَقَلَّمَا يَكُونُ الْإِطْرَاءُ حَقًّا، وَقَلَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطْرُونَ الْحَقَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَبَعْضُهُمْ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ أَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَحَ بِالْعَمَلِ مِنْ شَأْنِ الْمَغْرُورِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا ارْتِيَاحَ نَفْسِ الْعَامِلِ، وَانْبِسَاطَهَا لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ مَحْمُودٌ - كَمَا فَهِمَ مَرْوَانُ - وَإِنَّمَا هُوَ فَرَحُ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورُ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ - كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ - وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي فَائِدَةِ الْمَصَائِبِ تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [57: 23] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [28: 76] وَهَذَا الْإِفْرَاطُ فِي الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الضُّعَفَاءِ يُقَابِلُهُ عِنْدَهُمُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ فِي الْمُصِيبَةِ إِلَى أَنْ يَقَعَ الْمُصَابُ فِي الْيَأْسِ وَالْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لِيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لِيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [11: 9 - 11] أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَبَّاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِحَوَادِثِ الزَّمَانِ وَغِيَرِهِ مَعَ إِرْشَادِهِمْ إِلَى وَجْهِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ ذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ - وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَصَائِبِ: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَفِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْفَائِدَةِ آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [30: 36] . وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ شَأْنَ أَصْحَابِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَرَحِ - فَرَحِ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ - كَانَ مِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ تَبَعَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ تَرْكَ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يَسُرُّهُمْ وَيُمَتِّعُهُمْ بِلَذَّاتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَهْلَكَةً لِلْأُمَّةِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6: 44] وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [10: 58] لِأَنَّ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ مَعَ تَذَكُّرِ أَنَّهَا فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَا يُحْدِثُ بَطَرًا، وَلَا غُرُورًا، وَإِنَّمَا يُحْدِثُ شُكْرًا، وَإِحْسَانًا فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا فَقِهْتَ هَذَا كُلَّهُ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ - فَرَحَ بَطَرٍ وَاخْتِيَالٍ وَغُرُورٍ - يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي بَطَرُوا بِهَا، وَفَخَرُوا، وَاغْتَرُّوا بِهَا، وَكَفَرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ رَدِيئَةٌ، وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَاقِبَةٌ حَسَنَةٌ، وَفِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي حِكْمَةٍ: " رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا ". وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ الْأَخْيَارِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [23: 60] وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ - وَصَحَّحَهُ - وَغَيْرِهِمْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْلُ اللهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ، وَيَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ أَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [23: 61] بِخِلَافِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ - بِمَا أَتَوْا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا آتَوْا مِنْ صَدَقَةٍ - فَرَحَ عُجْبٍ وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الرِّيَاءُ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، فَيَكْسَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ. هَذَا شَأْنُ الْعَمَلِ فِي الدِّينِ، وَمِثْلُهُ الْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا، وَلِلدُّنْيَا كَمَا يُفِيدُنَا الْبَحْثُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْغُرُورُ يَفْرَحُونَ، وَيَبْطَرُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، فَلَا تَنْشَطُ هِمَمُهُمْ إِلَى طَلَبِ الْمَزِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الِانْتِقَادَ عَلَى التَّقْصِيرِ. حَدَّثَنِي الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَالِمٌ أَلْمَانِيٌّ لَقِيتُهُ فِي السَّفِينَةِ فِي إِحْدَى سِيَاحَاتِي قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَنَا عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ نَحْنُ رَاضُونَ بِهِ، وَمُعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّرَقِّيَ وَالْإِتْقَانَ، بَلْ عِنْدَنَا جَمْعِيَّاتٌ تَبْحَثُ فِي تَرْقِيَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْسِينِهِ مِنَ الْإِبْرَةِ إِلَى أَعْظَمِ الْآلَاتِ، وَأَبْدَعِ الْمُخْتَرَعَاتِ، مِثَالُ ذَلِكَ الْبُنْدُقِيَّةُ يَبْحَثُونَ فِيهَا: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَخَفَّ وَزْنًا، أَوْ أَبْعَدَ رَمْيًا، أَوْ أَقَلَّ نَفَقَةً؟ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. فَإِذَا تَدَبَّرْتَ مَا قُلْنَاهُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ: فَرَحِ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورِ، وَالْفَخْرِ بِالْأَعْمَالِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْكَسَلِ، وَالْإِهْمَالِ، وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ، إِذَا تَدَبَّرْتَ

هَذَا فَقِهْتَ سِرَّ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِتَعْذِيبِ الْأُمَّةِ الْمُتَّصِفَةِ بِهِمَا مَرَّتَيْنِ: وَاحِدَةٌ فِي الدُّنْيَا وَوَاحِدَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ إلخ. أَيْ لَا تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّهُمْ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، أَيْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ مِنْهُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْأُمَمَ الَّتِي فَسَدَتْ أَخْلَاقُهَا، وَسَاءَتْ أَعْمَالُهَا، وَكَابَرَتِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَأَلِفَتِ الْفَسَادَ وَالظُّلْمَ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَذَابٌ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِلْحَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْمُبْطِلُونَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهُوَ خُذْلَانُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ، وَانْكِسَارُهُمْ، وَذَهَابُ اسْتِقْلَالِهِمْ بِنَصْرِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ رِقَابِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، لِيَحُلَّ الْإِصْلَاحُ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ، وَالْعَدْلُ مَكَانَ الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11: 102] وَعَذَابٌ لَا يَكُونُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا، بَلْ يُسَمَّى سُخْطًا سَمَاوِيًّا كَالزِّلْزَالِ، وَالْخَسْفِ، وَالطُّوفَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجَوَائِحِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِبَعْضِ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ، وَكَذَّبُوهُمْ، وَآذَوْهُمْ، فَكَانَ اللهُ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَأَقْدَارِهَا فَيُنْزِلُهَا بِالْقَوْمِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عُتُوِّهِمْ، وَإِيذَائِهِمْ لِرَسُولِهِ فَيَكُونُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَنَحْوِهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ - تَعَالَى - وَأَمَدَّنَا بِتَوْفِيقِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ مَا قَرَّرْتَهُ يَشْمَلُ اسْتِعْلَاءَ بَعْضِ الْأُمَمِ الشَّمَالِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ الْجَنُوبِيَّةِ فَهَلْ كَانَ أُولَئِكَ الشَّمَالِيُّونَ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَنُوبِيُّونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ؟ أَقُلْ: نَعَمْ، الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَعْمَالًا، وَعَدْلًا، وَإِصْلَاحًا، وَاتِّبَاعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ لَمَا سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [11: 117] وَلَكِنَّهُ يُهْلِكُهَا وَأَهْلُهَا مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ - كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ - وَالْإِيمَانُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ النَّصْرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ التَّفْسِيرِ - وَلَكِنَّ لِذَلِكَ شُرُوطًا وَسُنَنًا بَيَّنَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ الْآيَاتِ فِيهَا، فَتُطْلَبُ مِنْ مَوَاضِعِهَا وَمِنْهَا تَتَذَكَّرُ، وَتَعْلَمُ أَسْبَابَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، فَإِنَّ اللهَ مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ فَسَادَ أَخْلَاقِهِمْ، وَفَرَحَهُمْ، وَبَطَرَهُمْ، وَصَغَارَهُمُ الَّذِي زَيَّنَ لَهُمْ حُبَّ الْحَمْدِ الْكَاذِبِ بِالْبَاطِلِ جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مُظْلِمَةً دَنِسَةً، فَهِيَ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِمْ إِلَى الْهَاوِيَةِ حَيْثُ يُلَاقُونَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْمُؤْلِمَ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَطَالَتِ الْقِصَّةَ تُعِيدُ " حَسِبْتَ " وَمَا أَشْبَهَهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ الَّذِي جَرَى مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ، فَتَقُولُ: لَا تَظْنَنَّ زَيْدًا إِذَا جَاءَكَ وَكَلَّمَكَ بِكَذَا وَكَذَا فَلَا تَظُنَّهُ صَادِقًا، فَيُقَيِّدُ (لَا تَظُنَّنَّ) تَوْكِيدًا وَتَوْضِيحًا. وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّوْجِيهَ فِي الدَّرْسِ عَنِ الْكَشَّافِ وَرَدَّهُ، فَقَالَ: لَوْلَا الْفَاءُ لَصَحَّ، وَلَكِنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ حَرْفٍ مَا فِي الْقُرْآنِ بِلَا فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَبَعْضِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَعْنُونَ زِيَادَتَهَا غَالِبًا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ لَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا وَتَرْكَهَا سَوَاءٌ، وَوَجْهُ الْعِبَارَةِ هُنَا بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مَحْذُوفٌ حَذْفَ إِيجَازٍ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، قَالَ: وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ لِتَحْدِيدِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالْقِصَصِ تَحْدِيدًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ كُلُّ قَارِئٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهُ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ، وَالتَّأْثِيرُ الصَّالِحُ فِيهَا بِتَرْغِيبِهَا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَنْفِيرِهَا مِنْ ضِدِّهِمَا. فَإِذَا قَالَ هَاهُنَا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِكَذَا وَيُحِبُّونَ كَذَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُ الْقَارِئِ، أَوِ السَّامِعِ إِلَى طَلَبِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَتَذْهَبُ فِيهِ مَذَاهِبَ شَتَّى كُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُمْ، كَأَنْ تُقَدِّرَ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، أَوْ عَامِلِينَ بِهِدَايَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَهُ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهَا بِهَذَا التَّفْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَا بِشَخْصِهِ وَعَيْنِهِ بَلْ بِنَوْعِهِ ; لِأَنَّنَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ هُوَ عَيْنُ مَا أُثْبِتَ فِي الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِيعِ فَائِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَطَفَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مِثْلِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا تَضْعُفُوا وَاصْبِرُوا وَاتَّقُوا وَلَا تُخَوِّرُونَ عَزَائِمَكُمْ، بَيِّنُوا الْحَقَّ، وَلَا تَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا عَمِلْتُمْ، وَلَا تُحِبُّوا أَنْ تُحْمَدُوا بِمَا لَمْ تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَكْفِيكُمْ مَا أَهَمَّكُمْ، وَيُغْنِيكُمْ عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، فَإِنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّهُ لَهُ، يُعْطِي مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا يَعِزُّ عَلَيْهِ نَصْرُكُمْ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَكُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُهَا بِحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَعْدٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِذَمِّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ سَبَقَ وَصْفُهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ

190

وَإِلَّا لَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِكِتَابِهِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِوَعْدِهِ - تَعَالَى - وَالْخَوْفِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَالْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ أَفَاعِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُجَاهِدِينَ لَوْ كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَفُّوا مِنْ غُرُورِهِمْ، وَلَعَلِمُوا أَنَّهُ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ - تَعَالَى - أَنْ يُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً مُوَجَّهَةً إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ لِيُطْلِقَ النَّظَرَ

وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَذْبُ الْقُلُوبِ، وَالْأَرْوَاحِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ، وَالْجَوَابِ عَنْ شُبَهَاتِ الْمُبْطِلِينَ عَادَ إِلَى إِنَارَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَلَالِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشُئُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَمُخْتَتَمَةٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَدُعَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالْحَوَادِثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: بِمَ جَاءَكُمْ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ فَقَالُوا: عَصَاهُ، وَيَدُهُ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى، فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا. انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَنْتَ لَا تَرَى الْمُنَاسَبَةَ قَوِيَّةً بَيْنَ الِاقْتِرَاحِ وَبَيْنَ الْآيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُرَادَ الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ الْخَوَارِقِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِوَحْدَةِ النِّظَامِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ لِلْعِبَادِ، فَلْيُرَاجَعْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ [2: 164] إلخ [ص4 ج 2 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: السَّمَاوَاتُ: مَاعَلَاكَ مِمَّا تَرَاهُ فَوْقَكَ، وَالْأَرْضُ: مَا تَعِيشُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ، كَمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّظَامِ وَالْإِتْقَانِ وَهُوَ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَبَعْدَ مَا ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَفَتَ الْعُقُولَ إِلَى أَمْرٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ; فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَصَرِهِمَا، وَتَعَاقُبِهِمَا، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، أَوْ مَا يَعْتَقِدُونَ الْآنَ مِنْ أَنَّ سَبَبَهُ حَرَكَةُ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَمِنَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا نَرَاهُ فِي أَجْسَامِنَا وَعُقُولِنَا مِنْ تَأْثِيرِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَرُطُوبَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَا فِي تَرْبِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ اللَّيْلُ سَرْمَدًا وَالنَّهَارُ سَرْمَدًا لَفَاتَتْ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ

191

فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ نِظَامِهَا مَا يُدْهِشُ الْعَقْلَ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَحَسْبُهُمْ هَذِهِ الْمَنَاظِرُ الْبَدِيعَةُ، وَالْأَجْرَامُ الرَّفِيعَةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ، وَالرَّوْعَةِ، وَخَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ أُولُو أَلْبَابٍ ; لِأَنَّ مِنَ اللُّبِّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، كَلُبِّ الْجَوْزِ وَنَحْوِهِ إِذَا كَانَ عَفِنًا، وَكَذَا تَفْسَدُ أَلْبَابُ بَعْضِ النَّاسِ وَتَعْفَنُ، فَهِيَ لَا تَهْتَدِي إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ لُبًّا ; لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ مَحَلُّ الْحَيَاةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَخَاصَّتُهُ وَفَائِدَتُهُ، وَإِنَّمَا حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الْخَاصَّةُ بِهِ هِيَ حَيَاتُهُ الْعَقْلِيَّةُ، وَكُلُّ عَقْلٍ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاسْتِفَادَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَنْظُرُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ الَّذِي يَنْظُرُ، وَيَسْتَفِيدُ، وَيَهْتَدِي هُوَ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَالذِّكْرُ فِي الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهِ لَا يُخَصُّ بِالصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ إِحْضَارُ اللهِ - تَعَالَى - فِي النَّفْسِ وَتَذَكُّرُ حُكْمِهِ، وَفَضْلِهِ، وَنِعَمِهِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالِاضْطِجَاعِ، وَهَذِهِ الْحَالَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي لَا يَخْلُو الْعَبْدُ عَنْهَا تَكُونُ فِيهَا السَّمَاوَاتُ، وَالْأَرْضُ مَعَهُ لَا يَتَفَارَقَانِ، وَالْآيَاتُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَظْهَرُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا لِأَهْلِ الذِّكْرِ، فَكَأَيِّنْ مِنْ عَالَمٍ يَقْضِي لَيْلَهُ فِي رَصْدِ الْكَوَاكِبِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَيَعْرِفُ مِنْ نِظَامِهَا، وَسُنَنِهَا، وَشَرَائِعِهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَهُوَ يَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَا تَظْهَرُ لَهُ هَذِهِ الْآيَاتُ ; لِأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكْفِي فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْآيَاتِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ الذِّكْرِ التَّفَكُّرُ فِيهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ، فَقَدْ يُذَكَّرُ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ رَبَّهُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدِيعِ صُنْعِهِ، وَأَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. أَقُولُ: قَدْ يَتَفَكَّرُ الْمَرْءُ فِي عَجَائِبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَسْرَارِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِتْقَانِ، وَالْإِبْدَاعِ، وَالْمَنَافِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالنِّعَمِ السَّابِغَةِ، وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْقَادِرِ الرَّحِيمِ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ فِي أَبْدَعِ نِظَامٍ، وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ إِلَى صَنْعَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ صَانِعُهَا اشْتِغَالًا بِهَا عَنْهُ، فَالَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعِلْمِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُمْ غَافِلُونَ عَنْ خَالِقِهِمَا، ذَاهِلُونَ عَنْ ذِكْرِهِ، يُمَتِّعُونَ عُقُولَهُمْ بِلَذَّةِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَبْقَى مَحْرُومَةً مِنْ لَذَّةِ الذِّكْرِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَمَثَلِ مَنْ يَطْبُخُ طَعَامًا شَهِيًّا يُغَذِّي بِهِ جَسَدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ، يَعْنِي أَنَّ الْفِكْرَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لَا تَكُونُ فَائِدَتُهُ نَافِعَةً فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تَكْمُلُ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْفِكْرِ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتَمْتَعَ بِهَاتَيْنِ اللَّذَّتَيْنِ، فَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَتِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي لَا تَفْضُلُهَا نِعْمَةٌ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي لَا تَعْلُوهَا لَذَّةٌ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَهُونُ مَعَهَا كُلُّ كَرْبٍ، وَيَسْلُسُ كُلُّ صَعْبٍ، وَتَعْظُمُ كُلُّ نِعْمَةٍ، وَتَتَضَاءَلُ كُلُّ نِقْمَةٍ، تِلْكَ اللَّذَّةُ الَّتِي تَتَجَلَّى مَعَ الذِّكْرِ

فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ فِي عَيْنِ نَاظِرِهِ جَمِيلًا، وَفِي كُلِّ صَوْتٍ فَيَكُونُ فِي سَمْعِ سَامِعِهِ مُطْرِبًا، فَلِسَانُ حَالِ الذَّاكِرِ يُنْشِدُ فِي هَذَا التَّجَلِّي قَوْلَ الشَّاعِرِ الذَّاكِرِ: مِنْ كُلِّ مَعْنًى لَطِيفٍ أَجْتَلِي قَدَحًا ... وَكُلُّ حَادِثَةٍ فِي الْكَوْنِ تُطْرِبُنِي فَإِذَا تَحَوَّلَ التَّجَلِّي عَنْ جَمَالِ الْأَكْوَانِ، وَتَفَكُّرِ الذَّاكِرِ فِي تَقْصِيرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَتَمَتَّعُ بِهِ، وَعَنِ الْقِيَامِ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ اسْتِعْدَادُهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْجَلَالِ فَتَعْلُو هِمَّتُهُ فِي طَلَبِ الْكَمَالِ فَيَنْطَلِقُ لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ، وَالثَّنَاءِ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، مُعَبِّرِينَ عَنْ نَتِيجَةِ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ مِنَ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَرْضِيَّةِ بَاطِلًا، وَلَا أَبْدَعْتَهُ، وَأَتْقَنْتَهُ عَبَثًا، سُبْحَانَكَ وَتَنْزِيهًا لَكَ عَنَ الْبَاطِلِ، وَالْعَبَثِ بَلْ كُلُّ خَلْقِكَ حَقٌّ مُؤَيَّدٌ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَزُولُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ التَّحَوُّلُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْأُفُولُ، وَنَحْنُ بَعْضُ خَلْقِكَ لَمْ نُخْلَقْ عَبَثًا، وَلَا يَكُونُ وُجُودُنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَاطِلًا، فَإِنْ فَنِيَتْ أَجْسَادُنَا، وَتَفَرَّقَتْ أَجَزَاؤُنَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَرْوَاحِنَا لِأَبْدَانِنَا، فَإِنَّمَا يَهْلَكُ مِنَّا كَوْنُنَا الْفَاسِدُ، وَوَجْهُنَا الْمُمْكِنُ الْحَادِثُ، وَيَبْقَى وَجْهُكَ الْكَرِيمُ، وَمُتَعَلِّقُ عِلْمِكَ الْقَدِيمِ. يَعُودُ بِقُدْرَتِكَ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى، كَمَا بَدَأْتَهُ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى، فَرِيقٌ ثَبَتَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ، وَفَرِيقٌ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الضَّلَالَةِ، فَأُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ بِعِلْمِهِمْ، وَفَضْلِكَ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ بِعِلْمِهِمْ وَعَدْلِكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ بِعِنَايَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ لَنَا وَاجْعَلْنَا مَعَ الْأَبْرَارِ بِهِدَايَتِكَ إِيَّانَا وَرَحْمَتِكَ بِنَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا إلخ: هَذَهِ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ تَفَكُّرِهِمْ وَذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَسْتَنْبِطُونَ مِنَ اقْتِرَانِهِمَا الدَّلَائِلَ عَلَى حِكْمَةِ اللهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ - سُبْحَانَهُ - بِدَقَائِقِ الْأَكْوَانِ الَّتِي تَرْبُطُ الْإِنْسَانَ بِرَبِّهِ حَقَّ الرَّبْطِ. وَقَدِ اكْتَفَى بِحِكَايَةِ مُنَاجَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ عَنْ بَيَانِ نَتَائِجِ ذِكْرِهِمْ، وَفِكْرِهِمْ، فَطَيُّ هَذِهِ، وَذِكْرُ تِلْكَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يُخَاطِبُونَ اللهَ - تَعَالَى - عِنْدَمَا يَهْتَدُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ، وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ الذَّاكِرِ الْمُتَفَكِّرِ، يَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِمِثْلِ هَذَا الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، وَكَوْنُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ التَّعْلِيمِ، وَالْإِرْشَادِ لَا يَمْنَعُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَظَرُوا، وَذَكَرُوا، وَفَكَّرُوا، ثُمَّ قَالُوا هَذَا أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَذَكَرَ اللهُ حَالَهُمْ، وَابْتِهَالَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّتَهُمْ، وَأَسْمَاءَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لَنَا فِي عِلْمِهِمْ، وَأُسْوَةً فِي سِيرَتِهِمْ، أَيْ لَا فِي ذَوَاتِهِمْ، وَأَشْخَاصِهِمْ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالَ: أَمَّا مَعْنَى كَوْنِ هَذَا الْخَلْقِ لَا يَكُونُ بَاطِلًا، فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِبْدَاعَ فِي الْخَلْقِ، وَالْإِتْقَانَ لِلصُّنْعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي أُوتِيَ الْعَقْلَ الَّذِي يَفْهَمُ هَذِهِ الْحِكَمَ، وَدَقَائِقَ

192

هَذَا الصُّنْعِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا حَتَّى إِنَّهُ لَا حَدَّ يُعْرَفُ لِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُجِدَ لِيَعِيشَ قَلِيلًا، ثُمَّ يَذْهَبَ سُدًى، وَيَتَلَاشَى فَيَكُونَ بَاطِلًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ قَدْ خُلِقَ لِيَحْيَا حَيَاةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَرَى كُلُّ عَامِلٍ فِيهَا جَزَاءَ عَمَلِهِ ; وَلِهَذَا وَصَلَ الثَّنَاءَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ: جَنِّبْنَا السَّيِّئَاتِ، وَوَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ وِقَايَةً لَنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَهَذِهِ هِيَ نَتِيجَةُ فِكْرِ الْمُؤْمِنِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يَصِلُوا بِالْفِكْرِ مَعَ الذِّكْرِ إِلَى بَقَاءِ الْعَالَمِ، وَاسْتِمْرَارِهِ ; لِأَنَّ نِظَامَهُ الْبَدِيعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْحَكِيمُ بَاطِلًا (أَيْ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ) وَبَعْدَ أَنْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ أَنْ يَقِيَهُمْ دُخُولَ النَّارِ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أَيْ إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى هَيْبَةِ ذَلِكَ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الْأَكْوَانَ الْمَمْلُوءَةَ بِالْأَسْرَارِ، وَالْحِكَمِ، وَالدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ عَادَاهُ فَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ نَارَهُ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وَصَفَ مَنْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالظَّالِمِينَ تَشْنِيعًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَبَيَانًا لِعِلَّةِ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَهُوَ جَوْرُهُمْ، وَمَيْلُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. فَالظَّالِمُ هُنَا هُوَ الَّذِي يَتَنَكَّبُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا الْكَافِرُ خَاصَّةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ وُلُوعُ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ كُلِّ وَعِيدٍ يُذْكَرُ فِي كِتَابِهِمْ، وَحَمْلُهُ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ فَعَلَ السَّابِقُونَ، وَاتَّبَعَ سَنَنَهُمُ اللَّاحِقُونَ، فَكُلُّ ظَالِمٍ يُؤْخَذُ بِظُلْمِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَا يَجِدُ لَهُ نَصِيرًا يَحْمِيهِ مِنْ أَثَرِ ذَنْبِهِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّعْبِيرِ عَمَّا أَثْمَرَهُ الْفِكْرُ وَالذِّكْرُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشْيَتِهِ وَدُعَائِهِ عَبَّرُوا عَمَّا أَفَادَهُمُ السَّمْعُ مِنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ هُوَ الرَّسُولُ، وَذَكَرَهُ بِوَصْفِ الْمُنَادِي تَفْخِيمًا لِشَأْنِ هَذَا النِّدَاءِ، وَذَكَرَ اسْتِجَابَتَهُمْ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْوُصُولِ مِنْهُمَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ الْحَمِيدَةِ لَمْ يَتَلَبَّثُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا تَلَبَّثَ قَوْمٌ، وَاسْتَكْبَرَ آخَرُونَ بَلْ بَادَرُوا، وَسَارَعُوا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ مَعَ زِيَادَةٍ صَالِحَةٍ تَزِيدُهُمْ مَعْرِفَةً بِاللهِ - تَعَالَى - وَبَصِيرَةً فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ اللَّتَيْنِ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِمَا دَلَالَةً مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً، وَالْأَنْبِيَاءُ يَزِيدُونَهَا بِمَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ بَيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أُولُو أَلْبَابٍ هَذَا شَأْنُهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُنَادَى نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. أَقُولُ: وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا هُمُ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِحُكْمِهِمْ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْهِجْرَةِ مَا يُرَجِّحُ هَذَا.

193

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: وَسَمَاعُ النِّدَاءِ يَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً فِي عَصْرِهِ، وَمَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: فَآمَنَّا مُرَادًا بِهِ إِيمَانٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الْإِيمَانِ الَّذِي اسْتَفَادُوهُ مِنَ التَّفَكُّرِ، وَالذِّكْرِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا سَمِعُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ أَوَّلًا، وَآمَنُوا بِهِ ثُمَّ نَظَرُوا، وَذَكَرُوا، وَتَفَكَّرُوا، فَاهْتَدَوْا إِلَى مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُدَعِّمُ إِيمَانَهُمْ، فَذَكَرُوا النَّتِيجَةَ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْوَسِيلَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ هَذِهِ عَنْ تِلْكَ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا تُفِيدُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ اتِّصَالَ هَذَا الدُّعَاءِ بِمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ: الْإِذْعَانُ لِلرُّسُلِ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، لَا دَعْوَى الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ مَعَ خُلُوِّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِذْعَانِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ ; وَلِأَجْلِ هَذَا اسْتَشْعَرُوا الْخَوْفَ مِنَ الْهَفَوَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ هُنَا الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَعِنْدِي أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ: التَّقْصِيرُ فِي عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَكُلِّ مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَالسَّيِّئَاتُ: هِيَ التَّقْصِيرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَالذَّنْبُ مَعْنَاهُ الْخَطِيئَةُ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ مَا يَسُوءُ، فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْإِسَاءَةِ يُشْعِرُ بِمَا قُلْنَاهُ، وَغَفْرُ الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ سَتْرِهَا، وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ ; وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ حَطِّهَا، وَإِسْقَاطِهَا، فَكُلٌّ مِنَ الطَّلَبَيْنِ مُنَاسِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ أَيْ أَمِتْنَا عَلَى حَالَتِهِمْ، وَطَرِيقَتِهِمْ، يُقَالُ أَنَا مَعَ فُلَانٍ أَيْ عَلَى رَأْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمَذْهَبِهِ فِي عَمَلِهِ. وَالْأَبْرَارُ: هُمُ الْمُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ. أَقُولُ: رَاجِعْ فِي الْأَبْرَارِ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ [2: 177] فِي ص89 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [2: 189] وَتَفْسِيرَ الْغُفْرَانِ وَالْمَغْفِرَةِ (في 115، 170، 188، 255 ج 2، 158، 99 ج 4) . أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ الْأَخْذُ بِذَنَبِ الشَّيْءِ (بِالتَّحْرِيكِ) ، يُقَالُ ذَنَبْتُهُ أَيْ أَصَبْتُ ذَنَبَهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ فِعْلٍ يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ اعْتِبَارًا بِذَنَبِ الشَّيْءِ ; وَلِهَذَا يُسَمَّى الذَّنْبُ تَبِعَةً اعْتِبَارًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَجَمْعُ الذَّنْبِ ذُنُوبٌ اهـ. أَقُولُ: وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا سَوَاءٌ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمِنْهُ تَرْكُ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَاجِلًا، أَوْ آجِلًا، فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا، وَضِدُّهَا الْحَسَنَةُ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ، وَالشَّرْعِ نَحْوُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [6: 160] وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ

194

الطَّبْعِ، وَذَلِكَ مَا يَسْتَخِفُّهُ الطَّبْعُ، وَمَا يَسْتَثْقِلُهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [7: 131] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [7: 95] اهـ. وَكَأَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ حَمَلَ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَا يَسُوءُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ أَخْذًا مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42: 40 - 43] فَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ ادِّعَاءُ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ فِي الدَّارَيْنِ، وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا. وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ أَعْطِنَا مَا وَعَدْتَنَا مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ كَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالدُّنْيَا، وَبَعْضُهُمْ بِالْآخِرَةِ - جَزَاءً عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ، إِذِ اسْتَجَبْنَا لَهُمْ وَآمَنَّا بِمَا جَاءُوا بِهِ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ مُنْزَلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَعْطِنَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا نَسْتَحِقُّهُ بِهِ إِلَى أَنْ تَتَوَفَّانَا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ هَضْمٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَاسْتِشْعَارُ تَقْصِيرِهَا، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِثَبَاتِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقِيلَ إِنَّ الدُّعَاءَ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَطْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَلَىْ رُسُلِكَ مَعْنَاهُ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِمْ، وَالْإِيمَانِ بِهِمْ. فَجَعَلَ " عَلَى " لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا أَذْكُرُ هَذَا لِغَيْرِهِ هُنَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قِيلَ مِنَ اسْتِشْكَالِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَاخْتَارَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ هَدَاهُمُ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى ضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَالْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُبَلِّغُهُمْ مَا وَعَدَ اللهُ مَنِ اسْتَجَابُوا لِلرُّسُلِ، وَنَصَرُوهُمْ، وَأَحْسَنُوا اتِّبَاعَهُمْ ; وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَفْضَحْنَا وَتَهْتِكْ سِتْرَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِدْخَالِنَا النَّارَ الَّتِي يَخْزَى مَنْ دَخَلَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ - وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ ; لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَاسْتَنْبَطَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَجَعَلَ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ آخِرًا، وَخِتَامًا، إِذِ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ أَشَدُّ، وَيَعْنُونَ بِالْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ الْحِرْمَانَ مِنَ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ بِكَمَالِ الْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9: 72] وَلَكِنَّ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ الْخِزْيِ

لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَهِيَ ثَنَاءٌ خَتَمَ بِهِ الدُّعَاءَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَعْدَ يُصِيبُهُمْ إِذَا قَامُوا بِمَا تَرَتَّبَ هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الْوَعْدَ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ: " لَا يَتَنَاوَلُ آحَادَ الْأُمَّةِ بِأَعْيَانِهِمْ بَلْ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُمْ بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ "، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْوَعْدِ بِسِيَادَةِ الدُّنْيَا: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [24: 55] الْآيَةَ، وَقَالَ فِيهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ [47: 7] وَقَالَ فِي الْوَعْدِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [9: 72] الْآيَةَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ كُلُّهَا آنِفًا. وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْوَعْدَيْنِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُحَرِّفِينَ لِدِينِ اللهِ يَجْعَلُونَ كُلَّ جَزَاءٍ حَسَنٍ لِلْأَفْرَادِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهِمْ، أَوْ ذَوَاتِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَطَفَ اسْتِجَابَتَهُ لَهُمْ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ هُوَ الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دُعَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ: اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَالذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّنْزِيهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَإِيمَانِهِمْ بِهِمْ، وَشُعُورِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ مُقَصِّرُونَ فِي الشُّكْرِ لِلَّهِ، مُحْتَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ لَهُمْ، وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ بِهِمْ بِإِيتَائِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِعَيْنِ مَا طَلَبُوا كَمَا طَلَبُوا ; وَلِذَلِكَ صَوَّرَهَا وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لِحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا تَوْفِيَةَ كُلِّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ لِيُنَبِّهَهُمْ بِذِكْرِ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَوْزِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ إِنَّمَا هِيَ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تَغُشُّهُ نَفْسُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُحْسِنٍ، وَأَنَّهُ مُخْلِصٌ، وَمَا هُوَ بِمُخْلِصٍ، وَأَنَّ حَوْلَهُ وَقُوَّتَهُ قَدْ فَنِيَا فِي حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا وَجْهَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَيَكُونُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ مَغْرُورًا مُرَائِيًا. وَذَكَرَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْجَزَاءِ مَتَى تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ حَتَّى لَا يَغْتَرَّ الرَّجُلُ بِقُوَّتِهِ، وَرِيَاسَتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ مِنْهَا، وَلَا تُسِيءَ الْمَرْأَةُ الظَّنَّ بِنَفْسِهَا فَتَتَوَهَّمَ أَنَّ جَعْلَ الرَّجُلِ رَئِيسًا عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - عِلَّةَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالرَّجُلُ مَوْلُودٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ مَوْلُودَةٌ مِنَ الرَّجُلِ، فَلَا فَرْقَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْأَعْمَالِ، أَيْ وَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَيَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ. أَقُولُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِنْوٌ وَزَوْجٌ وَشَقِيقٌ لِلْآخَرِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ حَدِيثُ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ قَالُوا: أَيْ مِثْلُهُمْ فِي الطِّبَاعِ، وَالْأَخْلَاقِ كَأَنَّهُنَّ مُشْتَقَّاتٌ مِنْهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مَعَهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ سَلْمَانُ مِنَّا وَحَدِيثِ

195

لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ فَمَعْنَى " مِنَّا " عَلَى طَرِيقَتِنَا، وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرْفَعُ قَدْرَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ فِي أَنْفُسِهِنَّ، وَعِنْدَ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ كَانَتْ تَهْضِمُ حَقَّ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَتَعُدُّهَا كَالْبَهِيمَةِ الْمُسَخَّرَةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ وَشَهْوَتِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَدْيَانِ فَضَّلَتِ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ ذَكَرًا وَكَوْنِهَا أُنْثَى، وَبَعْضُ النَّاسِ عَدَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ - مَنْ عَلِمَ هَذَا قَدَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ الْإِسْلَامِيَّ لِعَقَائِدِ الْأُمَمِ، وَمُعَامَلَاتِهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا تَدَّعِيهِ الْإِفْرِنْجُ مِنَ السَّبْقِ إِلَى الِاعْتِرَافَاتِ بِكَرَامَةِ الْمَرْأَةِ، وَمُسَاوَاتِهَا لِلرَّجُلِ بَاطِلٌ، بَلِ الْإِسْلَامُ السَّابِقُ. وَأَنَّ شَرَائِعَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ لَا تَزَالُ تُمَيِّزُ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ. نَعَمْ، إِنَّ لَهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّقْصِيرِ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ، وَتَرْبِيَتِهِنَّ، وَجَعْلِهِنَّ عَارِفَاتٍ بِمَا لَهُنَّ، وَمَا عَلَيْهِنَّ، وَنَحْنُ نَعْتَرِفُ بِأَنَّنَا مُقَصِّرُونَ تَارِكُونَ لِهِدَايَةِ دِينِنَا، صِرْنَا حُجَّةً عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَجَانِبِ، وَفِتْنَةً لَهُمْ، وَأَمَّا مَا يَفْضُلُ بِهِ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَمَا يَقُومُونَ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ سَبَبُهُ مَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَكَذَا جُعِلَ حَظُّ الرَّجُلِ فِي الْإِرْثِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ نَفَقَتَهَا، وَيُكَلَّفُ مَا لَا تُكَلَّفُهُ، فَلَا دَخْلَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّفَاضُلِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْكَرَامَةِ وَضِدِّهَا، بَلْ سَوَّى اللهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى فِي الْحُقُوقِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ إِلَّا مَسْأَلَةَ الْقِيَامِ وَالرِّيَاسَةِ، فَجَعَلَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [ص299 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَكْتَفِ بِرَبْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ حَتَّى بَيَّنَ أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَا طَلَبُوا مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ذَكَرَ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ بَابِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، فَالْهِجْرَةُ إِنَّمَا كَانَتْ وَتَكُونُ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ، وَتَسْتَتْبِعُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا مِنَ الْإِيذَاءِ وَالْقِتَالِ، وَقُرِئَ (وَقُتِّلُوا) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الْقَتْلَ بَلْ وَالتَّقْتِيلَ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَبْذُلْ مُهْجَتَهُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَطْمَعَنَّ بِهَذِهِ الْمَثُوبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي قَوْلِهِ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَبِيرَةِ الْوَادِرَةِ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [49: 15] إلخ. وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [8: 2] إلخ، وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23: 1، 2] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [25: 63] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [70: 19] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَالْعَصْرِ [103: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: هَكَذَا يَذْكُرُ اللهُ - تَعَالَى - صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُنَبِّهَنَا إِلَى أَنْ نَرْجِعَ إِلَى أَنْفُسِنَا وَنَمْتَحِنَهَا

بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنْ رَأَيْنَاهَا تَحْتَمِلُ الْإِيذَاءَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى الْقَتْلَ فَلْنُبَشِّرْهَا بِالصِّدْقِ مِنْهَا، وَالرِّضْوَانِ مِنْهُ - تَعَالَى -، وَإِلَّا فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا يُنْجِي عِنْدَهُ غَيْرُهَا. وَإِنَّمَا كَلَّفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْمُوقِنِينَ الْمُخْلِصِينَ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّاقَّ لِأَنَّ قِيَامَ الْحَقِّ مُرْتَبِطٌ بِهِ، وَإِنَّمَا سَعَادَتُهُمْ - مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - بِقِيَامِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِهِ، وَالْحَقُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَمَكَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَهْلِهِ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَهُ. وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ يَتَصَارَعَانِ دَائِمًا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حِزْبٌ يَنْصُرُهُ، فَيَجِبُ عَلَى أَنْصَارِ الْحَقِّ أَلَّا يَفْشَلُوا وَلَا يَنْهَزِمُوا، بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا، وَيَصْبِرُوا، حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الْبَاطِلِ هِيَ السُّفْلَى. (قَالَ) : وَانْظُرْ إِلَى حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ تَجِدُهُمْ يَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، كَأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُمْ، وَيُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومُوا بِعَمَلٍ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفٍ مِمَّا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ وَعْدَهُ بِمَثُوبَتِهِمْ، بَلْ وَإِنِ اتَّصَفُوا بِضِدِّهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْغُرُورِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَجْتَمِعُ وَتَفْتَرِقُ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ تَرَكَ وَطَنَهُ مُخْتَارًا، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنْهُ إِخْرَاجًا، بَلْ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ هَاجَرَ مُسْتَخْفِيًا لِئَلَّا يَمْنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَمَرُوهُمْ بِالْهِجْرَةِ أَمْرًا، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ قَسْرًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ ضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أُوذِيَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا مَكَّنُوهُ مِنَ الْخُرُوجِ. وَرَاجِعْ بَعْضَ الْكَلَامِ فِي إِيذَاءِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ص254 وَمَا بَعْدَهَا ح2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْهِجْرَةَ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُمْنَعَ التَّوْبَةُ أَيْ إِلَى قُبَيْلِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا فَقَدْ قَرَأَهُ حَمْزَةُ بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ فِي اللَّفْظِ " وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا "، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا هُمُ الْبَادِئِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُنَاسٌ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ. وَشَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ تَاءَ " قُتِّلُوا " لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا جَاءَ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَرِيبٍ وَوَلِيٍّ. وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُهَاجَرَةَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمُ الَّذِينَ أَلْجَأَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى الْخُرُوجِ. وَلَا شَكَّ أَنْ رُتْبَةَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُلَازَمَتَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَكَانُوا أَفْضَلَ. وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ قَبْلَ الْقِتَالِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ

وَأَبُو عَمْرٍو: " وَقَاتَلُوا " بِالْأَلِفِ أَوَّلًا " وَقُتِلُوا " مُخَفَّفَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَاتَلُوا مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ (وَقَاتَلُوا) أَوَّلًا (وَقُتِّلُوا) مُشَدَّدَةً، قِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَتَكَرُّرِ الْقَتْلِ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ [38: 50] وَقِيلَ: قُطِّعُوا، عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، والْكِسَائِيُّ (وَقُتِلُوا) بِغَيْرِ أَلِفٍ أَوَّلًا، (وَقَاتَلُوا) بِالْأَلِفِ بَعْدَهُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [3: 43] وَالثَّانِي عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْقَتْلِ أَوْ إِذَا قَتَلَ قَوْمَهُ وَعَشَائِرَهُ، وَالثَّالِثُ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ وَقَاتَلُوا رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ كَكَلِمَةِ وَقُتِلُوا وَالرَّازِيُّ لَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ قَرَأَ نَافِعٌ. . . " قَاتَلُوا " بِالْأَلِفِ: إِنَّ الْكَلِمَةَ رُسِمَتْ أَوْ تُرْسَمُ بِالْأَلِفِ فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلتَّوْضِيحِ، يَعْنِي قَرَءُوا بِالْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ ; وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ هُنَا إِفَادَةُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِهَا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَعْنَاهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأُدْخِلَنَّهُمُ الْجَنَّاتِ، أُثِيبُهُمْ بِذَلِكَ ثَوَابًا مِنَ النَّوْعِ الْعَالِي الْكَرِيمِ الَّذِي عِنْدَ اللهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّوَابُ: اسْمٌ مِنْ مَادَّةِ ثَابَ يَثُوبُ ثَوْبًا أَيْ رَجَعَ، يُقَالُ: تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ ثَابُوا إِلَيْهِ، وَفِي الْمَجَازِ ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَحِلْمُهُ إِذَا كَانَ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَالْحِلْمِ بِنَحْوِ غَضَبٍ شَدِيدٍ ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ، وَمِنْهُ جَعْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الثَّوَابُ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِ، فَيُسَمَّى الْجَزَاءُ ثَوَابًا تَصَوُّرًا أَنَّهُ هُوَ هُوَ، أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - الْجَزَاءَ نَفْسَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99: 7] وَلَمْ يَقُلْ جَزَاءَهُ. وَالثَّوَابُ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ الْمُتَعَارَفَ فِي الْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ انْتَهَى الْمُرَادُ. وَأَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ الثَّوَابِ وَالْمَثُوبَةِ حَيْثُ وَقَعَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ بِالْعِبَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيَّنَ الْعَمَلَ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي أَخَذْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا إِيضَاحَهَا، وَإِثْبَاتَهَا، وَكَرَّرْنَا الْقَوْلَ فِيهَا بِعِبَارَاتٍ، وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ، أَيْ إِنَّ لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِ الْعَامِلِ تُزَكِّيهَا فَتَكُونُ بِهَا مُنَعَّمَةً فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تُدَسِّيهَا فَتَكُونُ مُعَذَّبَةً فِيهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَكَأَنَّ الْأَعْمَالَ نَفْسَهَا تَثُوبُ وَتَعُودُ، وَلَيْسَ - أَيِ الْجَزَاءُ - أَمْرًا وَضِيعًا كَجَزَاءِ الْحُكَّامِ بِحَسَبِ قَوَانِينِهِمْ، وَشَرَائِعِهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ - لَاسِيَّمَا الصُّوفِيَّةُ - كَالْغَزَالِيِّ وَمُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ، وَإِذَا فَقِهَ النَّاسُ هَذَا الْمَعْنَى زَالَ غُرُورُهُمْ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا فِي أَمْرِ مَا يَرْجُونَ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَيَخْشَوْنَ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا عَلَى

مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ دُونَ أَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ، وَتَسْمِيَةِ أَنْفُسِهِمْ " مَحَاسِيبَ عَلَيْهِمْ "، وَدُعَائِهِمْ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ: " فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ (أَيِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْمُهَاجَرَةِ، وَاحْتِمَالِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْإِيذَاءِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ، وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فِيهِ) فَلَمَّا كَانَ حُصُولُ هَذَا الشَّرْطِ عَزِيزًا كَانَ الشَّخْصُ الْمُجَابُ الدُّعَاءِ عَزِيزًا ". وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضِيعُ نَفْسُ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ كُلَّمَا وُجِدَ تَلَاشَى وَفَنِيَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضِيعُ ثَوَابُ الْعَمَلِ، وَالْإِضَاعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْإِثَابَةِ، فَقَوْلُهُ: لَا أُضِيعُ نَفْيٌ لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ إِثْبَاتًا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنِّي أُوصِلُ ثَوَابَ جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ إِلَيْكُمْ، إِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَا فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مُخَلَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِإِيمَانِهِ اسْتَحَقَّ ثَوَابًا، وَبِمَعْصِيَتِهِ اسْتَحَقَّ عِقَابًا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِمَا إِلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمَ الثَّوَابَ ثُمَّ يَنْقُلَهُ إِلَى الْعِقَابِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَدِّمَ الْعِقَابَ، ثُمَّ يَنْقُلَهُ إِلَى الثَّوَابِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَمَلَ تَلَاشَى وَفَنِيَ مَا عَلِمْتُ مِنْ قَاعِدَتِنَا الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا آنِفًا، فَنَقُولُ: إِنَّ حَرَكَةَ الْأَعْضَاءِ بِهِ فَنِيَتْ، وَلَكِنَّ صُورَتَهُ فِي النَّفْسِ بَقِيَتْ، فَكَانَتْ مَنْشَأَ الْجَزَاءِ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَفْسُهُ وَجْهًا آخَرَ فِي عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَدَمُ إِضَاعَةِ الدُّعَاءِ، وَقَالَ بَعْدَ مَبَاحِثَ: ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَعَدَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: مَحْوُ السَّيِّئَاتِ، وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا. وَثَانِيهِمَا: إِعْطَاءُ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَهُوَ الَّذِي طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَآتِنًا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّوَابُ ثَوَابًا عَظِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ اللهِ وَهُوَ الَّذِي قَالُوهُ: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذَا قَالَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ لِعَبْدِهِ: إِنِّي أَخْلَعُ عَلَيْكَ خِلْعَةً مِنْ عِنْدِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْخِلْعَةِ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَدَمَ الْخِزْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ فِي النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، وَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا، وَمَا قَرَّرَهُ فِي الِاسْتِجَابَةِ مِنْ أَنَّهَا بِعَيْنِ مَا طَلَبُوا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَدْ رَأَيْتَهُ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ.

196

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَغَيْرِهِ: إِنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ الثَّوَابِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالْكَرَمِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّهُ يَقَعُ بِإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ - تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَوْنَ الْجَزَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعِبَادَ مِنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ - تَعَالَى - وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا كَالْمَطَرِ، وَالنَّبَاتِ، وَالصِّحَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللهُ أَكْرَمُ، وَأَرْحَمُ، وَأَعْلَمُ، وَأَحْكَمُ. لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَقُولُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَالظَّفَرِ، وَأَنَّنَا اخْتَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، وَمَا وَعَدَ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، رُبَّمَا يَسْتَبْطِئُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ إِيتَاءَهُمُ الْوَعْدَ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّصْرِ، وَالتَّغَلُّبَ عَلَى الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ [2: 214] فَجَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ الْآيَةَ، تَسْلِيَةً لَهُمْ، وَبَيَانًا لِكَوْنِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ

لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَدْعَاةً لِيَأْسِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا حُجَّةً لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا عِنْدَ الشِّدَّةِ: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [33: 12] ، فَهَذَا وَجْهٌ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي نِهَايَةِ الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا فِي النِّعَمِ، ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسَلِّيهِمْ، وَيُصَبِّرُهُمْ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَجِيبُ لَهُمْ بِالْأَعْمَالِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَمِنْهُ الْمُهَاجَرَةُ، وَتَحَمُّلُ الْإِيذَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى يُقْتَلُوا ; وَبِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ ثَوَابَ اللهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ لِلْمُقَابَلَةِ، وَرَبَطَ الْكَلَامَ بِمَا قَبْلَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ، وَتَمَتُّعٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ مَرْمَى طَرَفِهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الَّذِي وَعَدْتُهُ، فَهُوَ النَّعِيمُ الْحَقِيقِيُّ الْبَاقِي، وَهَذَا الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، فَلَا تَطْلُبُوهُ، وَلَا تَحْفُلُوا بِهِ. يَسْهُلُ بِهَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا كُلِّفُوهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْإِيذَاءِ وَالْعَنَاءِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ. أَقُولُ: أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ: فَهُوَ لَا يَغُرَّنَّكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الْمُؤْمِنُ، أَوْ لَا يَغُرَّنَّكَ يَا مُحَمَّدُ (قَوْلَانِ) تَقَلُّبُهُمْ، قَالُوا: وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِثْلِ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: وَاللهِ مَا غَرُّوا نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. وَمَعْنَى غَرَّهُ: أَصَابَ غُرَّتَهُ، فَنَالَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَفْطَنْ لِمَا فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْغِرَّةُ (بِالْكَسْرِ) غَفْلَةٌ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْغِرَارُ: غَفْلَةٌ مَعَ غَفْوَةٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرِّ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْأَثَرُ الظَّاهِرُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ، وَغِرَارُ السَّيْفِ أَيْ حَدُّهُ. وَغَرُّ الثَّوْبِ: أَثَرُ كَسْرِهِ، وَقِيلَ: اطْوِهِ عَلَى غَرِّهِ، وَغَرَّهُ كَذَا غُرُورًا كَأَنَّمَا طَوَاهُ عَلَى غَرِّهِ اهـ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) أَيِ الْغَفْلَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ، أَوْ يَتَّصِلُ بِهِ أَخْذُهُ مِنْ غَرِّ الثَّوْبِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ أَثَرُ طَيِّهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالثَّنْيِ وَالْكَسْرِ، وَجُمِعَ الْغَرُّ عَلَى غُرُورٍ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: " وَاطْوِهِ عَلَى غُرُورِهِ أَيْ مَكَاسِرِهِ "، وَالْمُرَادُ: اطْوِهِ عَلَى طَيَّاتِهِ الْأُولَى لِيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ غَرَارَةُ الصِّغَارِ (بِالْفَتْحِ) أَيْ سَذَاجَتُهُمْ، وَقِلَّةُ تَجَارِبِهِمْ يُقَالُ: فَتًى غِرٌّ، وَفَتَاةٌ غِرٌّ (بِالْكَسْرِ) وَقِيلَ: إِنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَارِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مِنَ السَّيْفِ، وَالسَّهْمِ، وَالرُّمْحِ حَدُّهَا، قَالُوا: غِرَّةٌ أَيْ خُدْعَةٌ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ كَأَنَّهُ ذَبَحَهُ بِالْغِرَارِ. وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَبُعْدٌ. وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْغُرُورِ: أَنَّ تَقَلُّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ آمِنِينَ مُعْتَزِّينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغُرُورِ الْمُؤْمِنِ بِحَالِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَدُومُ لَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ إِبْقَاءِ

197

الْأَشْيَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَعِلَلِهَا، وَالْغَوْصِ عَلَى بُطُونِهَا، وَدَخَائِلِهَا، كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ عَلَى غَرِّهِ، وَكَمَا يَنْظُرُ الْغِرُّ إِلَى ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَوَاطِنِهَا. وَمَنِ اكْتَنَهَ حَالَهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةَ عَلِمَ أَنَّ تَقَلُّبَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَتَمَتُّعَهُمْ بِالْأَمْنِ، وَالنِّعْمَةِ فِيهَا لَيْسَ قَائِمًا عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَلَا مَرْفُوعًا عَلَى رُكْنٍ رَكِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ حَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ لِمُحَرِّكٍ مِنَ الْبَاطِلِ سَابِقٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ، فَإِذَا عَارَضَهُ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْحَقِّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَفْرَادِهِمْ عَلَى فِرَاشِ نَعِيمِهِ، وَلَمْ يُنْسَأْ لَهُ فِي أَجْلِهِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا نَالَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالنَّتِيجَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَيْ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ فِي الْبِلَادِ الَّذِي يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ عَاقِبَتُهُ هَذَا الْمَأْوَى الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ مُتَمَتِّعًا بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أُنْسِئَ لَهُ فِي عُمُرِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْخِذْلَانُ بِنَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلَبَ مِنْهُ مَتَاعَهُ، أَوْ نَغَّصَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَسَيَأْتِي مَا لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَجَهَنَّمُ: اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي يُجَازَى فِيهَا الْكَافِرُونَ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: إِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَرَبِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ وَالتَّشْدِيدِ) أَيْ بِئْرٌ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، فَجَهَنَّمُ إِذًا بِمَعْنَى الْهَاوِيَةِ. وَالْمِهَادُ: الْمَكَانُ الْمَهْدُ الْمُوَطَّأُ كَالْفِرَاشِ، قِيلَ: سُمِّيَتِ النَّارُ مِهَادًا تَهَكُّمًا بِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْبَقَرَةِ [2: 206 - فَرَاجِعْ ص201 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَتَّجِرُونَ وَيَكْسِبُونَ، عَلَى حِينِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ لِوُقُوفِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَإِيقَاعِهِمْ بِهِمْ أَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ، وَعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ دَارِهِمْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ، وَالْجُهْدِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَتُصِيبُ الْأَمْوَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ فِي الْقِسْمَةِ غَيْرُ مَغْبُونِينَ، فَقَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ قَالُوا: إِنَّ النُّزُلَ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ النَّازِلِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا يُهَيَّأُ بِهِ، وَخَصَّهُ الرَّاغِبُ بِالزَّادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ نُزُلًا عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَبَيْعًا وَصَدَقَةً. وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّاتُ نُزُلًا - وَهِيَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ - فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ أَعْظَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَنَعِيمًا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَقَدْ وَعَدَهُمْ هَذَا الْجَزَاءَ عَلَى التَّقْوَى الَّتِي يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهَا تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ يَكُونُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالْإِحْسَانِ لِلْأَبْرَارِ، فَقَالَ: وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَرَامَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذَا النُّزُلِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ مَا عِنْدَهُ

198

وَأَوَّلُ مَا يُقَدِّمُهُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَتَاعٍ فَانٍ، بَلْ وَمِمَّا يَحْظَى بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنْ نُزُلِ الْجِنَانِ. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لِلْأَبْرَارِ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ النُّزُلِ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ نُكْتَةَ وَضْعِ الْمُظْهَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا عِنْدَ اللهِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ - لَوْ كَانَ هَذَا عَيْنَ ذَاكَ - تَظْهَرُ عَلَى هَذَا ظُهُورًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَبِهِ يَنْجَلِي الْفَرْقُ بَيْنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَبَيْنَ الْأَبْرَارِ، فَإِنَّ الْأَبْرَارَ جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْبِرِّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2: 177] إلخ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي آيَاتِ الدُّعَاءِ الْقَرِيبَةِ [رَاجِعْهُ ثَانِيَةً فِي ص89 ج 2 تَفْسِيرِ - ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] فَشَرَحَ الْبِرَّ بِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ مِنْ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِّ - بِالْفَتْحِ - الْمُقَابِلِ لِلْبَحْرِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ التَّوَسُّعَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، فَهُوَ إذًا أَدَلُّ عَلَى الْكَمَالِ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ أَسْبَابِ السُّخْطِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَتَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِعْلِ الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّعٍ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ، وَذَكَرَ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِسْمَيْهِمُ - الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَالْأَبْرَارِ - بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا قُلْنَا. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّ مَنْ يُفَسِّرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْرَاكًا، أَوِ اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِهَا، أَيْ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنِ اسْتَكْبَرْتُمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِمَّنْ أَصَرَّ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ إلخ. وَيَصِحُّ هَذَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ، وَهُوَ عُمُومُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " لَمَّا جَاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، نُصَلِّي عَلَى عَبْدٍ حَبَشِيٍّ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَنَقُولُ: إِنَّهَا تَشْمَلُ النَّجَاشِيَّ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَكَذَا الْمَجُوسُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ إِلَّا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. ثُمَّ رَاجَعْتُ الرَّازِيَّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ حِينَ مَاتَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ

مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَأَسْلَمُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْعِقَابِ بَيَّنَ فِيمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الثَّوَابِ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهْتَدُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَكَانُوا مُهْتَدِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ لِلَّهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ خَاشِعٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ هُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَهُوَ السَّائِقُ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهَذَا الثَّمَنُ يَعُمُّ الْمَالَ وَالْجَاهَ، فَإِنَّ مِنْهُ التَّمَتُّعَ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ صَعْبًا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَلِفَهُ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُعِدُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِرِينَ لِأَجَلِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ السَّابِقِ، وَالدِّينِ اللَّاحِقِ، وَذَكَرَ إِيمَانَهُمْ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ - بِغُرُورِهِمْ بِكِتَابِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِمَا عِنْدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ - كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَكَانَ مِنَ الْغَرَابَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِنَادِ وَمُكَابَرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي إِيذَائِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بَعْضُهُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ قَلِيلِينَ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِهِمْ عِلْمًا، وَفَضْلًا، وَبَصِيرَةً، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَنَا الْأَذْكِيَاءَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَلَّمَا يَرْجِعُونَ عَنْ عَقِيدَةٍ، أَوْ رَأْيٍ فِي الدِّينِ جَرَوْا عَلَيْهِ، وَتَلَقَّوْهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَقَرَءُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، وَخَطَأً ظَاهِرًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيدٌ لِكَوْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضِيقٍ خَيْرًا مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى حَالِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَيْفَ لَا يَحْفُلُونَ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ. بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَثَلِ وَالْأُسْوَة لِلْمُسْلِمِينَ. أَقُولُ: وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ - إِحْدَاهَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ، يَعْنِي الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ، وَلَا يُفَارِقُهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [2: 8] وَلَا مَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12: 106] ثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَهُ الْهَيْمَنَةُ، وَالْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي الْخِلَافِ لِثُبُوتِهِ بِالْيَقِينِ، وَعَدَمِ طُرُوءِ الضَّيَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ.

199

ثَالِثُهَا: مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ضَيَاعَ وَنِسْيَانَ بَعْضِهِ، وَطُرُوءَ التَّحْرِيفِ بِالتَّرْجَمَةِ، وَالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ إِجْمَالًا، وَاتِّبَاعُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ تَفْصِيلًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْعُمْدَةُ فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِ مَنْ خَالَفَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْهُ [ص129 - 132 ج 3 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . رَابِعُهَا: الْخُشُوعُ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعِينُ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَمَلِ، فَالْخُشُوعُ أَثَرُ خَشْيَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْقَلْبِ تَفِيضُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالْمَشَاعِرِ، فَيَخْشَعُ الْبَصَرُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِسَارِ، وَيَخْشَعُ الصَّوْتُ بِالْمُخَافَتَةِ وَالتَّهَدُّجِ، كَمَا يَخْشَعُ غَيْرُهَا. خَامِسُهَا: وَهِيَ أَثَرٌ لِمَا قَبْلَهُ عَدَمُ اشْتِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِآيَاتِ اللهِ كَمَا هُوَ فَاشٍ فِي أَصْحَابِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الْجِنْسِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ مِلَّتْهِمْ، وَيَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا. قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ لَهُمْ أَجْرُهُمُ اللَّائِقُ بِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمُ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِنِعَمِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ ; أَيْ فِي دَارِ الرِّضْوَانِ الَّتِي نَسَبَهَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا، بِخِلَافِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَفِهِمْ عِنَادًا حَمَلَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظَهَرَتْ لَهُ حَقِيقَتُهَا كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَحَجَدَ وَعَانَدَ كَمَا جَحَدُوا وَعَانَدُوا فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَكُتُبِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا مَقْرُونًا بِالْخَشْيَةِ، وَالْخُشُوعِ ; وَلِذَلِكَ لَا يَخْشَاهُ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي آيَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [2: 62] مِنَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا كَالَّذِينِ كَانُوا قَبْلَهُ. إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ بِمَا يَكْشِفُ لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ عَمَلٍ سَبَقَ مِنْهُمْ كَالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ الْوَقَائِعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ. ثُمَّ خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِجَابَةُ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، وَإِيفَاءُ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيِ اصْبِرُوا

عَلَى مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْأَذَى، وَصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَكُمْ لِيَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، وَيَخْذُلُونَ الْحَقَّ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَارْبُطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْبُطُونَهَا اسْتِعْدَادًا لِلْجِهَادِ. أَقُولُ: فَالْمُصَابَرَةُ، وَالْمُرَابَطَةُ، وَهِيَ الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُبَارَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُغَالَبَتِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَفِي رَبْطِ الْخَيْلِ كَمَا قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [8: 60] عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ، وَالْمَدَافِعِ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُرَابَطَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ، وَهِيَ مَدَاخِلُهَا عَلَى حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِرَبْطِ خُيُولِهِمْ، وَخِدْمَتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى: يُكْثِرُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهَا بَتَّةً، صَارَ التَّقِيُّ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْأَهْبَلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَصْلَحَتَهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ النَّاسِ. وَلَا شَيْءَ أَشْأَمَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ فَهْمِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى. التَّقْوَى: أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ غَضَبِهِ، وَسُخْطِهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا مَنْ فَهِمَ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - وَعَرَفَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مُطَالِبًا نَفْسَهُ بِالِاهْتِدَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَنْ صَبَرَ، وَصَابَرَ، وَرَابَطَ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي سَائِرِ شُئُونِهِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ الْفَوْزُ، وَالظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [20: 64] وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا [18: 20] وَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ أَكْثَرَ وَعْدِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَإِرَادَةُ الْفَلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الصَّبْرَ، وَمُصَابَرَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَابَطَةَ، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّهَا مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَقَصْدِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ - الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ - مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِهَا، فَعِلْمُهُ إذًا هُوَ سَبَبُ فَلَاحِهِ. فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُنِيلَنَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَنَا عَلَى أَسْبَابِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.

سُورَةُ النِّسَاءِ (وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ فِي الْعَدِّ الشَّامِيِّ، وَسِتٌّ فِي الْكُوفِيِّ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْآسِتَانَةِ، وَمِصْرَ، وَخَمْسٌ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ فَلَوْجَلَ. فَالْخِلَافُ فِي فَاصِلَتَيْنِ) أَقُولُ: وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، قِيلَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " أَعْرَسَ بِي عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ " أَيْ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [4: 58] ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نُزُولَ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ السُّورَةِ كُلِّهَا مَكِّيَّةً، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي وَاقِعَةِ الْمِفْتَاحِ تُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْآيَةَ مُحْتَجًّا، وَمُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ فِيهَا. فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَأَزَالَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقِدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، عَادَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا. ثُمَّ إِنَّهُ يُنْظَرُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْوَاقِعِ، وَتَحْدِيدُ التَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا. ثَانِيهِمَا: بَيَانُ شَأْنِ الدِّينِ، وَسُنَّةِ التَّشْرِيعِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَ فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ بِالتَّفْصِيلِ كُلُّ آيَةٍ آيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَتِ الْمَدِينَةُ فِيهِ هِيَ عَاصِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُهُمْ وَنِظَامٌ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، أَوْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَحُكْمِ مَا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ

وَبَدْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَزْوٍ أَوْ نُسُكٍ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَدِينَةِ. يَغْلِبُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الْإِيجَازُ فِي الْعِبَارَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لِمَا فِي التَّكْرَارِ مِنَ الْفَوَائِدِ ; لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَبَارَى الْبُلَغَاءُ بِالْإِيجَازِ، وَيَغْلِبُ فِي مَعَانِيهَا تَقْرِيرُ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، وَالِاحْتِجَاجُ لَهَا، وَالنِّضَالُ عَنْهَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْبَعْثُ، وَعَمَلُ الْخَيْرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ، وَمُعْظَمُ الْحِجَاجِ فِيهَا مُوَجَّهٌ إِلَى دَحْضِ الشِّرْكِ، وَإِقْنَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَحِجَاجُهَا فِي الْغَالِبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا. فَإِذَا فَطِنْتَ لِهَذَا تَجَلَّى لَكَ أَفَنُ رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَوَائِلَهَا نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ، فَلَا شَيْءَ مِنْ أَحْكَامِهَا كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. افْتُتِحَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِأَحْكَامِ الْيَتَامَى وَالْبُيُوتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ، وَمُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ، وَحُقُوقُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، ثُمَّ ذُكِرَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ فِيهَا بَيْنَ أَحْكَامِ الْبُيُوتِ، وَأَحْكَامِ الْقِتَالِ حِجَاجٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَآدَابِهِ شَيْءٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَاخِرُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ هُنَّ خَاتِمَتُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَمِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا: أَنَّ هَذِهِ قَدِ افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا اخْتُتِمَتْ بِهِ تِلْكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ تَشَابُهَ الْأَطْرَافِ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَنَّ هَذَا آكَدُ وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ. (وَمِنْهَا) مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ شَيْءٍ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِتَالِ. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ أَحْكَامِ الْقِتَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) أَنَّ فِي هَذِهِ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي فُصِّلَتْ وَقَائِعُهَا وَحُكْمُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [4: 88] إلخ. كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ (أُحُدٍ) وَسَبَقَ ذِكْرُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [4: 104] وَسَيَأْتِي. وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَا تَتَعَلَّقُ الْمُنَاسَبَةُ فِيهَا بِمُعْظَمِ الْآيَاتِ فَلَمْ أَرَهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ.

النساء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: افْتَتَحَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ هَذَا تَمْهِيدًا وَبَرَاعَةَ مَطْلَعٍ لِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَرَابَةِ بِالنَّسَبِ، وَالْمُصَاهَرَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ، وَالْمَوَارِيثِ، فَبَيَّنَ الْقَرَابَةَ الْعَامَّةَ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَرْحَامَ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. وَسُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِنَّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَمَا فَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَاسِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فِيهَا شَكٌّ، هَلْ هِيَ مَدَنِيَّةٌ أَمْ مَكِّيَّةٌ. وَلَفَظُ النَّاسِ اسْمٌ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، قِيلَ: أَصْلُهُ " أُنَاسٌ " فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَيَّدَهُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: كَوْنِ اللَّامِ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَكَوْنِ جَمِيعِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَمَأْمُورِينَ بِالتَّقْوَى. وَأَذْكُرُ أَنَّ أَقْدَمَ عِبَارَةٍ سَمِعْتُهَا فِي التَّفْسِيرِ فَوَعَيْتُهَا وَأَنَا صَغِيرٌ عَنْ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللهُ - هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يُنَادِي أَهْلَ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُنَادِ الْكُفَّارَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [66: 7] وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا يُنَادَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالْحَجِّ، وَالنَّمْلِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْحُجُرَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، فَخِطَابُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعُمُّ غَيْرَهُمْ، وَوُرُودُهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ

يُرَادُ بِهِ خِطَابُ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ابْتِدَاءً، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي فَاتِحَةِ النِّسَاءِ: إِنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ نَحْوًا مِمَّا رَوَيْنَاهُ آنِفًا عَنِ الْوَالِدِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ النَّاقِلُونَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْخِطَابِ حَتَّى غَلِطَ فِيهِ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَإِنْ حَقَّقَ فِي الْإِتْقَانِ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ كَثِيرًا، وَآخِرُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى رَبِّ النَّاسِ وَمُغَذِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الْخَلْقَ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى وَيُحْذَرَ عِصْيَانُهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الْيَتَامَى، وَنَحْوِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خَافُوا اللهَ، وَاتَّقُوا اعْتِدَاءَ مَا وَضَعَهُ لَكُمْ مِنْ حُدُودِ الْأَعْمَالِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَقْرِبَاءُ يَجْمَعُكُمْ نَسَبٌ وَاحِدٌ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْطِفُوا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْيَتِيمِ الَّذِي فَقَدَ وَالِدَهُ، وَتُحَافِظُوا عَلَى حُقُوقِهِ. أَقُولُ: وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا مَا هُوَ دَاعِيَةٌ لِهَذَا الِاسْتِعْطَافِ، أَيْ رَبُّوا الْيَتِيمَ وَصِلُوا الرَّحِمَ كَمَا رَبَّاكُمْ خَالِقُكُمْ بِنِعَمِهِ وَحَبَاكُمْ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالظَّاهِرِ، فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ نِدَاءٍ مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، أَوْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ بَنُو قُرَيْشٍ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ قُرَيْشٌ أَوْ عَدْنَانُ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عَامَّةً جَازَ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يَعْرُبُ أَوْ قَحْطَانُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَفْهَمُ مِنْهُ مَا تَعْتَقِدُهُ، فَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ يَفْهَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ، وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْبَشَرِ أَبًا يَحْمِلُونَ النَّفْسَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ (وَالْأَصْنَافُ الْكُبْرَى هِيَ الْأَبْيَضُ الْقُوقَاسِيُّ، وَالْأَصْفَرُ الْمَغُولِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الزِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُ فُرُوعِ هَذَا تَكَادُ تَكُونُ أُصُولًا كَالْأَحْمَرِ الْحَبَشِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ الْأَمِرِيكِيِّ، وَالْمَلَقِيِّ) . قَالَ: وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً بِالتَّنْكِيرِ: وَكَانَ الْمُنَاسِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولَ: وَبَثَّ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَيْفَ يَنُصُّ عَلَى نَفْسٍ مَعْهُودَةٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ. وَهَذَا الْعَهْدُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ آدَمَ وَلَا حَوَّاءَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِمَا. وَهَذَا النَّسَبُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ مَثَلًا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلْبَشَرِ تَارِيخًا مُتَّصِلًا بِآدَمَ، وَحَدَّدُوا لَهُ زَمَنًا قَرِيبًا. وَأَهْلُ الصِّينِ يَنْسِبُونَ الْبَشَرَ إِلَى أَبٍ آخَرَ، وَيَذْهَبُونَ بِتَارِيخِهِ إِلَى زَمَنٍ أَبْعَدَ مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِبْرَانِيُّونَ. وَالْعِلْمُ وَالْبَحْثُ

فِي آثَارِ الْبَشَرِ مِمَّا يَطْعَنُ فِي تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نُكَلَّفُ تَصْدِيقَ تَارِيخِ الْيَهُودِ، وَإِنْ عَزَوْهُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ لَا ثِقَةَ عِنْدِنَا بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى. قَالَ: نَحْنُ لَا نَحْتَجُّ عَلَى مَا وَرَاءَ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّنَا نَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْوَحْيِ لَا نَزِيدُ، وَلَا نَنْقُصُ كَمَا قُلْنَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَهُنَا أَمْرَ النَّفْسِ الَّتِي خُلِقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَجَاءَ بِهَا نَكِرَةً فَنَدَعُهَا عَلَى إِبْهَامِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ أَبًا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَى كِتَابِنَا كَمَا يَرِدُ عَلَى كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا حَمَلَ بَاحِثِيهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ. وَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ [7: 26] لَا يُنَافِي هَذَا، وَلَا يُعَدُّ نَصًّا قَاطِعًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَبْنَائِهِ، إِذْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ. وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ: إِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوا النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هُنَا بِآدَمَ فَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَلَا مِنْ ظَاهِرِهَا بَلْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [7: 189] الْآيَةَ. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَالْمُرَادُ: خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ إلخ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمُ. وَأَجَابَ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ هُوَ وَزَوْجُهُ بِالشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَوْجِيهُ كَوْنِ قِصَّةِ آدَمَ نَفْسِهَا مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الَّذِي حَمَلَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ آيَةَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ آدَمَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا آدَمُونَ كَثِيرُونَ، قَالَ فِي رُوحِ الْمَعَانِي: وَذَكَرَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ خَبَرًا طَوِيلًا نَقَلَ فِيهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ قَبْلَ أَبِينَا آدَمَ ثَلَاثِينَ آدَمَ بَيْنَ كُلِّ آدَمَ، وَآدَمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَقِيَتْ خَرَابًا بَعْدَهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ عُمِّرَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ خُلِقَ أَبُونَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى ابْنُ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنِ الصَّادِقِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرًا غَيْرَكُمْ، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ خَلَقَ أَلْفَ أَلْفَ

آدَمَ أَنْتُمْ فِي آخِرِ أُولَئِكَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ الْمِيثَمُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ لِلنَّهْجِ: وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ، أَوْ أَكْثَرُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْأَكْبَرُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - فِي فُتُوحَاتِهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ قَبْلَ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ آدَمَ غَيْرَهُ. وَفِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ (لِابْنِ بَابَوَيْهِ كَمَا فِي الْهَامِشِ) مَا يَكَادُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَدُّدُ أَيْضًا الْآنَ، حَيْثُ رَوَى فِيهِ عَنِ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ عَالَمٍ، كُلُّ عَالَمٍ مِنْهُمْ أَكْبَرُ مِنْ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ أَرَضِينَ، مَا يَرَى عَالَمٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَالَمًا غَيْرَهُمْ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُقُولٌ أُخْرَى فِي الْفُتُوحَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ بِتَعَدُّدِ آدَمَ. وَهَذَا مِنْ جُرْأَتِهِ، وَجُرْأَةِ أَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَهَجَّمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَوْهَى الشُّبُهَاتِ. لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ رَأْيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ آدَمَ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَبَ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالتَّارِيخِيَّةِ لَهُ وَمِنْ تَنْكِيرِ مَا بَثَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ زَوْجِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِمَنْ وُلِدَ مِنْهُمَا مُبَاشَرَةً كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَثَّ مِنْهُمَا كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَثَّ مِنْ هَؤُلَاءِ سَائِرَ النَّاسِ، وَعَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا هَذَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، الْبَادِي الْبَشَرَةِ، الْمُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ لَا يُرَدُّ عَلَى الْقُرْآنِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَمَنِ اقْتَنَعَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ آبَاءٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ سَلَائِلُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَرُدُّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ آدَمَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْفِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ إِثْبَاتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ صَرَّحْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ فَهِمَ مِنْ دَرْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُنَافِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، أَيِ اعْتِقَادَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هَذَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَلْوِيحًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ فِي الْعُلُومِ، وَآثَارِ الْبَشَرِ، وَعَادِيَّاتِهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ أُصُولٍ، وَمِنْ كَوْنِ آدَمَ لَيْسَ أَبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَلَا يُنَاقِضُهُ، وَيُمْكِنُ لِمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا بِالْقُرْآنِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا خَلَا مِنْ نَصٍّ قَاطِعٍ يُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّائِعَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ - وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ - جَاءَ فِي ذَلِكَ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ أَنْ تُعَارِضَهُ مِنْ قَبْلُ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ

لِكُتُبِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاحِثُونَ أَنْ يُعَارِضُوهُ مِنْ بَعْدُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِيمَنْ يُوقِنُ بِدَلَائِلَ قَامَتْ عِنْدَهُ بِأَنَّ الْبَشَرَ مِنْ عِدَّةِ أُصُولٍ؟ هَلْ يَقُولُونَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَرْكُ يَقِينِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ يُعَارِضُ يَقِينَهُ! ؟ هَذَا وَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ النَّفْسِ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمُسَلَّمَاتِ - أَنَّهَا هِيَ الْمَاهِيَّةُ، أَوِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْكَائِنُ الْمُمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، أَيْ خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بُدِئَتْ بِآدَمَ - كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ بُدِئَتْ بِغَيْرِهِ وَانْقَرَضُوا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ، أَوْ بُدِئَتْ بِعِدَّةِ أُصُولٍ انْبَثَّ مِنْهَا عِدَّةُ أَصْنَافٍ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُصُولُ أَوِ الْأَصْلُ مِمَّا ارْتَقَى عَنْ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ خُلِقَ مُسْتَقِلًّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [23: 12] الْآيَاتِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِهَا، أَوْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا يُفِيدُهُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ. عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكُلُّ قَوْلٍ يَصِحُّ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ هُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ هِيَ الْإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي كَانُوا بِهَا نَاسًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَّفِقُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى خَيْرِ النَّاسِ، وَبِرِّهِمْ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ عَلَى كَوْنِهَا هِيَ الْحَقِيقَةُ الْجَامِعَةُ لَهُمْ، فَتَرَاهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِنْسَانِ يَقُولُونَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَصْنَافِ: إِنَّهُمْ إِخْوَتُنَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَعُدُّونَ الْإِنْسَانِيَّةَ مَنَاطَ الْوَحْدَةِ، وَدَاعِيَةَ الْأُلْفَةِ وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْبَشَرِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَاهُمْ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ الْقِرْدُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرْحَامِ ; وَلَيْسَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا لِبَيَانِ مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ بِالتَّفْصِيلِ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْحَلُّ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْإِشْكَالِ اللَّفْظِيِّ بِأَوْضَحَ مِمَّا حَلُّوهُ بِهِ. أَمَّا حَقِيقَةُ النَّفْسِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا الْإِنْسَانُ وَتَتَحَقَّقُ وَحْدَةُ جِنْسِهِ عَلَى كَثْرَةِ أَصْنَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهَا بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ هِيَ جَوْهَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَادِّيٌّ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَادَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ، وَقِيلَ:

جِسْمٌ مُودَعٌ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ فَقِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْوَقْفِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْكَلَامِ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ، كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ نُقِلَتْ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَالتَّصَوُّفِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا بِمَذْهَبِهِ فِيهَا، وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْجِسْمِ هُوَ الْحَيَاةُ مَنْقُولٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْأَشَاعِرَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَعْرِيفِ الرُّوحِ، وَشَرْحِ حَقِيقَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ خَفِيفٌ حَيٌّ مُتَحَرِّكٌ، يَنْفُذُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَةً لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ مُشَابِكًا لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَفَادَهَا هَذِهِ الْآثَارَ الْفَائِضَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَجْزَاءِ الْغَلِيظَةِ عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ أَقْوَى النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الرُّوحِ، أَوِ النَّفْسِ - وَهُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ - هِيَ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْحِفْظَ، وَالذُّكْرَ (بِالضَّمِّ) أَيِ الذَّاكِرَةَ، لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْجَسَدِ، أَوْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ قَطْعًا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَنْشَأٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ هَذَا الْجَسَدِ الْكَثِيفِ، حَتَّى إِنَّ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُهَا تَنْحَلُّ دَقَائِقُهُ حَتَّى يَنْدَثِرَ، وَيَزُولَ، ثُمَّ يَتَجَدَّدَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَبْقَى الْمُدْرَكَاتُ مَحْفُوظَةً فِي النَّفْسِ تَفِيضُهَا عَلَى الدِّمَاغِ الْجَدِيدِ بَعْدَ زَوَالِ مَا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَبَّرَ الْأَقْدَمُونَ عَنْ مَنْشَئِهَا الْوُجُودِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَطِيفًا خَفِيًّا لِلَطَافَتِهِ بِالنَّفْسِ (بِسُكُونِ الْفَاءِ) ، وَبِالرُّوحِ (بِضَمِّ الرَّاءِ) وَهُمَا قَرِيبَا الْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ كُلِّ النَّاسِ، فَالرُّوحُ (بِالضَّمِّ) ، وَالرَّوْحُ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي هُوَ التَّنَفُّسُ وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ مَادَّةِ الرِّيحِ، فَإِنَّ يَاءَ الرِّيحِ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْإِدْرَاكِ وَالْحَيَاةِ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُدْرَكَةِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرِّيحِ، وَالنَّفْسِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَالْكَهْرَبَاءِ لَأَطْلَقُوا لَفْظَهُمَا أَوْ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنْهُمَا عَلَى مَنْشَأِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ، وَسَبَبِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِقِي الْمَرْكَبَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ (التِّرَامِ) ، وَغَيْرَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ التَّيَّارِ الْكَهْرَبَائِيِّ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتُ بِالنَّفَسِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) فَالتَّسْمِيَةُ لَا تُعَيِّنُ حَقِيقَةَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاضِعِينَ تَخَيَّلُوا مَنْشَأَ الْحَيَاةِ شَيْئًا فِي مُنْتَهَى اللَّطَافَةِ، وَالْخَفَاءِ مَعَ قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ

وَعِظَمِ آثَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَلَاسِفَةُ هُمُ الَّذِينَ بَحَثُوا كَعَادَتِهِمْ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [17: 85] أَيْ إِنَّ قِلَّةَ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمَكِّنُكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، وَأَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِمَّا أُوتِيَ أُولَئِكَ السَّائِلُونَ جَازَ أَنْ يَعْرِفُوهَا، لَمْ أَرَ مُوَضِّحًا، أَوْ مُقَرِّبًا لِمَعْنَى الرُّوحِ وَالنَّفْسِ فِي الْإِنْسَانِ كَالتَّمْثِيلِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ، فَالْمَادِّيُّ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ لَا رُوحَ إِلَّا هَذَا الْعَرَضُ الَّذِي يُسَمَّى الْحَيَاةَ، يُشَبِّهُ الْجَسَدَ بِالْبَطَّارِيَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا بِوَضْعِهَا الْخَاصِّ وَبِمَا يُودَعُ فِيهَا مِنَ الْمَوَادِّ تَتَوَلَّدُ فِيهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فُقِدَتْ، وَكَذَلِكَ تَتَوَلَّدُ الْحَيَاةُ فِي الْبَدَنِ بِتَرْكِيبِ مِزَاجِهِ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ وَبِزَوَالِهَا تَزُولُ. وَيَقُولُ الْمُعْتَقِدُ اسْتِقْلَالَ الْأَرْوَاحِ: إِنَّ الْجَسَدَ يُشْبِهُ الْمَرْكَبَةَ الْكَهْرَبَائِيَّةَ، وَشِبْهَهَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تُدَارُ بِالْكَهْرَبَاءِ، تُوَجَّهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَعْمَلِ الْمُوَلِّدِ لَهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْآلَةُ عَلَى وَضْعٍ خَاصٍّ فِي أَجْزَائِهَا، وَأَدَوَاتِهَا كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَأَدَاءِ وَظِيفَتِهَا فِيهَا، وَإِنْ فُقِدَ مِنْهَا بَعْضُ الْأَدَوَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ، أَوِ اخْتَلَّ وَضْعُهَا الْخَاصُّ، فَارَقَتْهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، وَلَمْ تَعُدْ تَعْمَلُ بِهَا. عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْكَهْرَبَاءَ قُوَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمَادَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، فَصَارُوا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ يُرَجِّحُونَ أَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا أَيْ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ بِذَاتِهَا، وَكُلُّ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى مَوْجُودَةٌ بِهَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الرُّوحِيِّينَ: إِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ الثَّابِتَةُ، وَإِنَّ قِوَامَ الْجَسَدِ بِهَا، فَهِيَ الْحَافِظَةُ لِوُجُودِهِ وَالْمُنَظِّمَةُ لِشُئُونِهِ الْحَيَوِيَّةِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ انْحَلَّ وَعَادَ إِلَى بَسَائِطِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سُلَّمًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فَنَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْضِعٍ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَظْهَرُ بِطَرِيقِ الِاسْتِخْدَامِ بِحَمْلِ النَّفْسِ عَلَى الْجِنْسِ، وَإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، أَيْ وَحَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ لَهَا زَوْجَهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجًا مِنْهَا وَهِيَ حَوَّاءُ، قَالُوا: إِنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ نَائِمٌ، وَذَلِكَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَهُوَ: أَنَّ مَعْنَى " خَلَقَ مِنْهَا

زَوْجَهَا " خَلَقَهُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَانَ مِثْلَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30: 21] وَقَوْلُهُ: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [16: 72] وَقَوْلُهُ: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42: 11] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [9: 128] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [3: 164] وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِبَارَةِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَعِبَارَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ فَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إِلَى إِلْصَاقِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لَهَا، وَإِخْرَاجِهَا عَنْ أُسْلُوبِ أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ. هَذَا وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا الْأُنْثَى ; وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا حَيْثُ وَرَدَتْ، وَذَكَّرَ زَوْجَهَا الَّذِي خُلِقَ مِنْهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [7: 189] وَعَلَيْهِ يَظْهَرُ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِهَا، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالنِّسَاءِ أَكْثَرُ، وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا هُوَ ثَابِتٌ إِلَى الْيَوْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّوَالُدِ الْبِكْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ إِنَاثَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الدُّنْيَا تَلِدُ عِدَّةَ بُطُونٍ بِدُونِ تَلْقِيحٍ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ تَلْقِيحٌ لِبَعْضِ أُصُولِهَا، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ذَاتِهَا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ جَامِعَةً لِأَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ، فَصَارَ أَفْرَادُهَا زَوْجَيْنِ، قَالَ بِهَذَا، وَذَاكَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ الْعَصْرِيِّينَ، وَمَحَلُّ تَحْقِيقِهِ تَفْسِيرُ آيَةٍ أُخْرَى. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَيْنِ فِي عَطْفِ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا، وَابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى شَعْبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا إلخ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ قَالَ: وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غَيْرَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ. أَقُولُ: وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَنِسَاءً كَثِيرًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَكَّرَ " رِجَالًا "، " وَنِسَاءً "، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَثِيرًا إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ كُلَّ زَوْجَيْنِ، وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّاسِ لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَهُ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ ; فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ

الْكَلَامِ مُرَتَّبًا مُتَنَاسِقًا كَمَا تَطْلُبُ الْبَلَاغَةُ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا إِجْمَالٌ فَصَّلَهُ بِبَيَانِ كَوْنِهِ خَلَقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ زَوْجًا لَهَا، وَجَعَلَ النَّسْلَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَجَمِيعُ سَلَائِلِ الْبَشَرِ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ زَوْجَيْنِ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى اهـ. وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ آيَةُ الزُّمَرِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [39: 6] وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِمَا يُذْكَرُ فِي مَحَلِّهِ. وَيَرُدُّ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَرَأْيِ الْجُمْهُورِ أَنَّ بَثَّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعًا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُنَاقِضُهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى جَعْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عِبَارَةً عَنِ الْجِنْسِ، وَالْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ، فَكَوْنُهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ هَذَا الْجِنْسِ خُلِقَ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا، وَأُنْثَى، وَكَوْنَهُ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، بَلْ وَلَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ، عَنِ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ كَوْنُ الزَّوْجِ خُلِقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ خَلْقًا مُسْتَقِلًّا دُونَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الزَّوْجَ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ ذَاتِهَا بِخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ، وَنَفْسَ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ مَخْلُوقُونَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُمَا نَفْسَانِ ثِنْتَانِ سَوَاءٌ خُلِقَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ، أَوْ خُلِقَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [49: 13] الْآيَةَ، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَسْهَلُ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَفْسَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْأُخْرَى صَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْعَسِيرِ، فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمِثْلُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ " تَسَاءَلُونَ " بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاءَلُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ مَعْهُودٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي صِيغَةِ تَتَفَاعَلُونَ. وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يَقُولَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَقْضِيَ هَذِهِ الْحَاجَةَ، يَرْجُو بِذَلِكَ إِجَابَةَ سُؤَالِهِ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِ بِاللهِ سُؤَالُهُ بِإِيمَانِهِ بِهِ وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَسْأَلُكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْأَرْحَامَ فَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الْكَرِيمِ، أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ

تَقْطَعُوهَا، أَوِ اتَّقُوا إِضَاعَةَ حَقِّ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تَصِلُوهَا، وَلَا تَقْطَعُوهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي (بِهِ) ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَجَوَّزَ الْوَاحِدِيُّ نَصْبَهُ بِالْإِغْرَاءِ كَالْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ. أَيِ الْزَمِ الْجَبَلَ وَلُذْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَأَدُّوا حُقُوقَهَا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِالْجَرِّ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ، وَقَدْ سُمِعَ عَطْفُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ وَقَوْلُهُمْ: فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَقَدِ اعْتَرَضَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَمْزَةَ فِي قِرَاءَتِهِ هَذِهِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ قَلِيلًا عَنِ الْعَرَبِ لَا يَعُدُّونَهُ فَصِيحًا، وَلَا يَجْعَلُونَهُ قَاعِدَةً بَلْ يُسَمُّونَهُ شَاذًّا، وَهَذَا مِنَ اصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذِهِ اللُّغَاتِ الَّتِي لَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ قَدْ تَكُونُ فَصِيحَةً وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النُّحَاةَ مَفْتُنُونَ بِقَوَاعِدِهِمْ، وَقَدْ نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي تَحْكِيمِهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا قَوَاعِدَهُمْ حُجَّةً عَلَى عَرَبِيٍّ مَا، وَقَالَ هُنَا: إِنَّ الْأَرْحَامَ إِمَّا مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَإِمَّا مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) وَهُوَ جَائِزٌ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَقَالَ الرَّازِيُّ هُنَا: وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ. وَلَا يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَهَا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَمُجَاهِدٍ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ. هَذَا، وَإِنَّ الْمُنْكِرِينَ عَلَى حَمْزَةَ جَاهِلُونَ بِالْقِرَاءَاتِ، وَرِوَايَاتِهَا مُتَعَصِّبُونَ لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ مِثْلَ هَذَا الْعَطْفِ مَقِيسًا، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُمْ هَذَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَطَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا مُخِلٌّ بِالْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ كَمَا يُتَسَاءَلُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا مِمَّا مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا مِنْ مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَمْهِيدٌ لِحِفْظِ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، وَالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّورَةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ أَرْجَعَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ بِجَعْلِ نَصْبِ (وَالْأَرْحَامَ) بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:

تَسَاءَلُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْحَلِفُ الَّذِي يُعْتَقَدُ وُجُوبُ الْبِرِّ بِهِ لَا مَا قُصِدَ بِهِ مَحْضُ التَّأْكِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَالتَّأْكِيدِ بِأَنَّ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ هُوَ قَسَمًا بِهَا، وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّؤَالَ بِاللهِ غَيْرُ الْقَسَمِ بِاللهِ، وَالسُّؤَالَ بِالرَّحِمِ غَيْرُ الْحَلِفِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَرَّرَ فِيهَا مَسْأَلَةَ التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ، فَقَالَ، وَأَجَادَ، وَحَقَّقَ كَعَادَتِهِ جَزَاهُ اللهُ عَنْ دِينِهِ، وَنَفْسِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إِذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ (فَهِيَ) لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ : لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لِأَبَرَّهُ وَقَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ، كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ "، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ (حَدِيثُ) أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَالْآخَرُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ. . . " وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلُ كَذَا، فَإِنْ حَنِثَهُ، وَلَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يُجِبْ إِلَى سُؤَالِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ: مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَقَدْ يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ، وَيَسْقِيهِمْ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا. " وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللهِ فَيَبَرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ " فَهَذَا سُؤَالُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِقْسَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ. ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ سُئِلَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ،

فَإِذَا قَالَ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ، وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إِجَابَةِ دُعَائِهِ ; لِهَذَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، أَيِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَالْقَبُولِ. ثُمَّ قَالَ: " وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ أَسْأَلُكَ بِاللهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاللهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ، وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ، فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ "، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، فَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [42: 26] وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [3: 193] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [23: 109، 110] وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ " أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - غَضِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ " فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنَ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إِجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ: " اللهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي "، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا. " فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا نَوْعَانِ، فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ تَكُونُ

لِلسَّبَبِ، فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللهِ، وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَغَيْرِهِمْ، أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ، أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَاهٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ، وَجَاهٌ، وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللهُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعَظِّمَ أَقْدَارَهُمْ، وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إِذَا شَفَعُوا مَعَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2: 255] وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا، وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمُ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنِ اللهِ كَانَ سَعِيدًا، وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ، وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إِجَابَةَ دُعَائِهِ إِذَا سَأَلَ اللهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللهَ بِذَلِكَ، بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ إِذَا اتَّبَعَهُمْ، وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ عَنِ اللهِ، أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إِذَا دَعَوْا لَهُ، وَشَفَعُوا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ، وَلَا شَفَاعَةٌ، وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْفَعًا بِجَاهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ، بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ، وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعٍ كَبِيرٍ: أَسْأَلُكَ بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَكَ وَبِحُبِّكَ لَهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَبِجَاهِهِ عِنْدَكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَكَ، كَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ إِحْسَانُ اللهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبٍ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ - بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ. وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَقَوْلُهُ: " أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي ; وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ "، فَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ

لَا بِالرَّحِمِ، وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاللهِ - تَعَالَى - يَتَضَمَّنُ إِقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاللهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاللهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُمْ: أَسْأَلُكَ بِاللهِ وَبِالرَّحِمِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ لَيْسَ إِقْسَامًا بِالرَّحِمِ، وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا، كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَاعَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رَوَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ، فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ، بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ الرَّحِمِ ; لِأَنَّ حَقَّ اللهِ إِنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ، وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ " اهـ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَرَبَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، اتَّقُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا حُدُودَهُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ لَكُمْ لِإِصْلَاحِ شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكُنْتُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ بِتَعَاوُنِ أَفْرَادِهِ، وَاتِّحَادِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِهِمْ حُقُوقَ بَعْضٍ. فَتَقْوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا شُكْرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَفِيهَا تَرْقِيَةٌ لِوَحْدَتِكُمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعُرُوجٌ لِلْكَمَالِ فِيهَا. وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ فِي حُقُوقِ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِأَنْ تَصِلُوا الْأَرْحَامَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِوَصْلِهَا،، وَتَحْذَرُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ قَطْعِهَا، اتَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي تَقْوَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكُمُ الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِهِ تَسَاؤُلُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِحُقُوقِ الرَّحِمِ، وَمَا فِي هَذَا التَّسَاؤُلِ مِنْ الِاسْتِعْطَافِ، وَالْإِيلَافِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي هَاتَيْنِ الرَّابِطَتَيْنِ بَيْنَكُمْ: رَابِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَتَعْظِيمِ اسْمِهِ، وَرَابِطَةِ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ; فَإِنَّكُمْ إِذَا فَرَّطْتُمْ فِي ذَلِكَ أَفْسَدْتُمْ فِطْرَتَكُمْ، فَتَفْسَدُ الْبُيُوتُ وَالْعَشَائِرُ، وَالشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أَيْ مُشْرِفًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَمَنَاشِئِهَا مِنْ نُفُوسِكُمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُشَرِّعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيَعُدُّكُمْ بِهِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. " الرَّقِيبُ ": وَصْفٌ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ: رَقَبَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَمِنْهُ الْمَرْقَبُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُشْرِفُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا دُونَهُ. وَأُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ هُنَا مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَنَا هُنَا بِمُرَاقَبَتِهِ لَنَا لِتَنْبِيهِنَا إِلَى الْإِخْلَاصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَنَّ اللهَ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ مُرَاقِبٌ لِأَعْمَالِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَيَلْتَزِمَ حُدُودَهُ.

2

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا وَآتُوا: أَعْطُوا، الْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ السِّنَّ الَّتِي يَسْتَغْنِي فِيهَا عَنْ كَفَالَتِهِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ صَغِيرًا ; لِأَنَّ إِنَاثَ الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَكْفُلُ صِغَارَهَا. وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ يَتِيمٌ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ جَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَالَى مَا يَعُدُّونَهُ بِهِ مِقْيَاسًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ " يَتِيمٍ " قَدْ جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبِ. يُقَالُ تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ. وَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَ الْأَوَّلَ بَدَلًا مِنَ الثَّانِي الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ، أَوْ فِي شَرَفِ الْحُصُولِ وَمَظِنَّتِهِ، يُسْتَعْمَلَانِ دَائِمًا بِالتَّعَدِّي إِلَى الْمَأْخُوذِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى الْمَتْرُوكِ بِالْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [2: 61] وَأَمَّا التَّبْدِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ. وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولًا، مِنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَهُوَ صَدَؤُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ الرَّدِيءُ الدُّخْلَةُ الْجَارِي مَجْرَى خَبَثِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا ... فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِلَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ فِي الْمَقَالِ، وَالْقَبِيحَ فِي الْفِعَالِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. قَالَ: وَأَصْلُ (الطَّيِّبِ) مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ. أَقُولُ: وَهُوَ كَمُقَابِلِهِ يُوصَفُ بِهِ الشَّخْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [24: 26] وَالْأَشْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

3

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [7: 157] وَقَوْلُهُ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [- 7: 58] وَالْأَعْمَالُ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْعَمَلَ الْخَبِيثَ بِالْعَمَلِ الطَّيِّبِ أَنْ تَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ (14: 24 - 26) . وَ (الْحُوبُ) : الْإِثْمُ، وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَلِمَةُ " حُوبٍ " لِزَجْرِ الْإِبِلِ. قَالَ: وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا أَيْ يَتَأَثَّمُ. وَقَوْلُهُمْ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَالْحَوْبَاءُ قِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ النَّفْسُ الْمُرْتَكِبَةُ لِلْحُوبِ اهـ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) تَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ وَبِالظُّلْمِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِثْمُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى: فَإِنِّي وَمَا كَلَّفْتُمُونِي مِنْ أَمْرِكُمْ ... لِيُعْلَمَ مَنْ أَمْسَى أَعَقَّ وَأَحْوَبَا وَحَابَ يَحُوبُ حُوبًا وَحَابًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُهُ التَّحَوُّبُ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ: ارْتِكَابُ مَا يُتَوَجَّعُ مِنْهُ. وَتُقسِطُوا تَعْدِلُوا مِنَ الْإِقْسَاطِ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، وَيُقَالُ قَسَطَ إِذَا جَارَ. قَالَ - تَعَالَى -: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [49: 9] وَقَالَ: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [72: 15 وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَقَالَ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] 7: 29 [وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [4: 135] وَالْقِسْطُ فِي الْأَصْلِ: النَّصِيبُ بِالْعَدْلِ. وَقَالُوا: قَسَطَ فُلَانٌ بِوَزْنِ جَلَسَ إِذَا أَخَذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَنَصِيبَهُ. وَقَالُوا: أَقْسَطَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ قِسْطَهُ وَنَصِيبَهُ. كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ، فَقَسَطَ بِمَعْنَى: عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِمَعْنَى: أَزَالَ الْقِسْطَ فَلَمْ يُقِمْهُ، كَمَا يُقَالُ فِي شَكَا وَأَشْكَى، فَإِنَّ أَشْكَاهُ بِمَعْنَى أَزَالَ شَكْوَاهُ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: كَأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلسَّلْبِ. فَانْكِحُوا مَعْنَاهُ: فَتَزَوَّجُوا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى مَا يُقْصَدُ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَوْ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْنَاهُ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ مَعْدُولَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْمُكَرَّرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ حَسُنَ اخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْإِيجَازِ لِيُصِيبَ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ الْجَمْعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَاطَبِينَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثًا فَقَطْ، أَوْ أَرْبَعًا فَقَطْ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَوْ أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى. أَيْ

لَوْ قُلْتَ لِلْجَمْعِ: اقْتَسِمُوا الْمَالَ الْكَثِيرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْكَلَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ دِرْهَمَيْنِ فَقَطْ لَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ " أَوْ "؟ قُلْتُ كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمِثَالِ الَّذِي حَذَوْتُهُ لَكَ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تَقُولُ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا فَيَجْعَلُوا بَعْضَ الْقَسْمِ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ، وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، وَذَهَبَ مَعْنَى تَجْوِيزِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْوَاوُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْوَاوَ دَلَّتْ عَلَى إِطْلَاقِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءُوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ شَاءُوا وَمُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ يَنْقُلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْوَاحِدِ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ مَجْمُوعُ 2 و3 و4 وَبَعْضٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ 18 وَهُوَ مَجْمُوعُ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثٍ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْفُقَرَاءِ قِرْشَيْنِ قِرْشَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، مَعْنَاهُ أَعْطِ بَعْضَهُمُ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ ثَلَاثَةً فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ أَرْبَعَةً فَقَطْ، وَلِلْمُوَزِّعِ الْخِيَارُ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُجَوِّزُ لَهُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ 9 قُرُوشٍ، وَلَا 18 قِرْشًا. وَاسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَعَقْدِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ; لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَعُولُوا تَجُورُوا، وَأَصْلُ الْعَوْلِ: الْمَيْلُ، يَقُولُونَ: عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ، وَمِيزَانٌ عَائِلٌ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَيُقَالُ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ: إِذَا مَانَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لِئَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْآيَةِ. وَصَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ - صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ - وَهُوَ الصَّدَاقُ بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا أَيْ مَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ مِنْ مَهْرِهَا، وَإِيتَاءُ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ يَحْتَمِلُ الْمُنَاوَلَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّخْصِيصَ، يُقَالُ: أَصْدَقَهَا، وَأَمْهَرَهَا بِكَذَا إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ. وَقَوْلُهُ: نِحْلَةً رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَالٌ تَأْخُذُهُ بِلَا عِوَضٍ مَالِيٍّ، وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ مُشْتَقَّةً مِنَ النَّحْلِ كَأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَمَا يَجْنِي النَّحْلُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَارِضُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الْمَهْرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِدُونِ رِضَا الْمَرْأَةِ كَمَا سَيَأْتِي. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْأَزْوَاجِ

6

وَهُوَ يَتَسَلْسَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [4: 36] الْآيَةَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأُمَّةِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَفِقَ يُبَيِّنُ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ كَالْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ، وَيَأْمُرُ بِالْتِزَامِهَا، فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَالْيَتِيمُ لُغَةً: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ مُطْلَقًا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَمَتَى بَلَغَ زَالَ يُتْمُهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهٌ، فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ الْيَتِيمِ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَمَعْنَى إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ هُوَ جَعْلُهَا لَهُمْ خَاصَّةً، وَعَدَمُ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ أَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَزُولَ يُتْمُهُمْ بِالرُّشْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَا بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْيُتْمِ وَالْقُصُورِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي إِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ فِي حَالَتَيِ الْيُتْمِ، وَالرُّشْدِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحَالِ الرُّشْدِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ نَفَقَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِيتَاءُ مَالٍ لِلْيَتِيمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ وَجَعْلُهُ خَاصَّةً، وَعَدَمُ هَضْمِ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ: الْحَرَامُ، وَبِالطَّيِّبِ: الْحَلَالُ، أَيْ لَا تَتَمَتَّعُوا بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِكُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا فِيهَا بِأَمْوَالِكُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي هُوَ قَيِّمٌ وَوَصِيٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقَدْ جَعَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَدَلًا مِنْ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّبَدُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ مَالٌ يَضُمُّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكْلَهُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَضْمُومٍ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَقِيلَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ جَوَازُ أَكْلِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ. أَقُولُ: وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِنَفْيِ التَّجَوُّزِ مِنَ الْآيَةِ يَعُمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَمْوَالِ سَالِمَةً لَهُمْ، وَعَدَمِ اغْتِيَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيتَائِهِمْ إِيَّاهَا هُوَ تَسْلِيمُهُمْ إِيَّاهَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْيَتَامَى بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَسِّهِ فِي هَذِهِ - وَقِيلَ: أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى هُوَ خَلْطُهَا بِهَا، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُخَالَطَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ آيَةَ 220 مِنْهَا فِي ص271 وَمَا بَعْدَهَا ج 2.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَبَدُّلِ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَخْذِ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَوَضْعِ الرَّدِيءِ بَدَلَهُ، وَأَخْذِ السَّمِينِ مِنْهُ، وَإِعْطَائِهِ الْهَزِيلَ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لَا تَبَدُّلٌ. وَعَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّصَرُّفُ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعٌ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [2: 188] وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، أَوْ تَبَدُّلَ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ مِنْهُ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ - وَكَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ - كَانَ فِي حُكْمِ اللهِ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ السُّورَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّسَاءِ بِمُنَاسَبَةِ الْيَتَامَى، وَقِيلَ: بِالْيَتَامَى بِأَنْفُسِهِمْ أَصَالَةً، وَأَمْوَالِهِمْ تَبَعًا، وَمَا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ خَاصَّةً. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ خَالَتَهُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: " يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا يُشْرِكُهَا فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ ". قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: " ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [4: 127] قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا، قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَوَارِثُهَا، وَلَهَا مَالٌ، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا فَلَا يَنْكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضْرِبُهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يَقُولُ: خُذْ مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ وَدَعْ هَذِهِ الَّتِي تَضْرِبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أُخْرَى عَنْهَا فِيمَا يُحَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ

قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضُلُهَا، فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ ". أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً فِي الْأَصْلِ لِلْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ حَقِّ يَتَامَى النِّسَاءِ فِي أَمْوَالِهِنَّ، وَأَنْفُسِهِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتَامَى فِيهَا النِّسَاءُ، وَبِالنِّسَاءِ غَيْرُ الْيَتَامَى، أَيْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَيْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي يَتَامَى النِّسَاءِ فَتُعَامِلُوهُنَّ كَمَا تُعَامِلُونَ غَيْرَهُنَّ فِي الْمَهْرِ، وَغَيْرِهِ، أَوْ أَحْسَنَ، فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهِنَّ، وَتَزَوَّجُوا مَا حَلَّ لَكُمْ، أَوْ مَا رَاقَ لَكُمْ، وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ. قَالَ رَبِيعَةُ: اتْرُكُوهُنَّ، فَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكُمْ أَرْبَعًا. أَيْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْلِمُوهُنَّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَ عَائِشَةَ بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّزَوُّجَ بِالْيَتِيمَةِ وَخِفْتُمْ أَنْ تُسَهِّلَ عَلَيْكُمُ الزَّوْجِيَّةُ أَنْ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهَا فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهَا، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الرَّشِيدَاتِ. أَقُولُ: وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقْوَالِ عَائِشَةَ ظَاهِرٌ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى رِوَايَةِ الْعَضْلِ، وَهُوَ مَنْعُهُنَّ مِنَ التَّزَوُّجِ إِلَّا أَنْ كَانُوا يَعْتَذِرُونَ عَنِ الْعَضْلِ بِإِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَيَمْطُلُونَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا أَيَّدَهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ حَذَرًا عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَنْ يُتْلِفَهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْأَكْثَرَ، وَالْأَقَلَّ، فَإِذَا صَارَ مُعْدَمًا مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ فَأَنْفَقَهُ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ عَلَى أَمْوَالِ أَيْتَامِكُمْ أَنْ تُنْفِقُوهَا فَلَا تَعْدِلُوا فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهَا لِمَا يَلْزَمُكُمْ مِنْ مُؤَنِ نِسَائِكُمْ، فَلَا تَجَاوَزُوا فِيمَا تَنْكِحُونَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ، فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ، أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ رُوِيَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيَتَغَايَرُونَ فِي الْكَثْرَةِ، وَيُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَزَوَّجُ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَصَرَ الرِّجَالَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى. أَقُولُ: إِنَّ الْإِفْضَاءَ بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَدْ جُعِلَ حُجَّةً عَلَى تَقْلِيلِ التَّزَوُّجِ لِظُهُورِ قُبْحِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّعَدُّدِ مِنَ الْمَضَرَّاتِ الْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ وَجْهًا ثَالِثًا فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَحَوَّبُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَا يَتَحَوَّبُونَ فِي النِّسَاءِ أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ كَمَا

خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْيَتَامَى، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِيهِنَّ، وَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، وَلَا تَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَنْكِحُوا إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ الْأَيَامَى، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْيَتِيمِ، فَتَفَقَّدُوا مِنْ دِينِهِمْ شَأْنَ الْيَتِيمِ، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (أَيْ لَمْ يَتَفَقَّدُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَتَأَثَّمُوا مِمَّا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ) فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَنَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ، وَنِسَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُ وَعَظَهُمْ فِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ فَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِ مِنْهُنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، فَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ فِي الْوَاحِدَةِ أَيْضًا فَلَا تَنْكِحُوهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا تَجُورُوا عَلَيْهِنَّ. قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - افْتَتَحَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَخَلَطَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ اتَّقَوُا اللهَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِيهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ اللهِ، وَالتَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ ظَنُّ التَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفَ التَّخَلُّصُ لَهُمْ مِنَ الْجَوْرِ فِيهِنَّ كَمَا عَرَّفَهُمُ الْمُخَلِّصَ مِنَ الْجَوْرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَقَالَ: انْكِحُوا إِنْ أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَبَحْتُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، وَحَلَّلْتُهُ، مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ إلخ. مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ: فَفِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَتَعْدِلُوا فِيهَا، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا أَلَّا تُقْسِطُوا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَتَزَوَّجُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا أَمِنْتُمْ مَعَهُ الْجَوْرَ إلخ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى هُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعْدِلُوا فَإِنَّ هَذَا أَفْهَمُ أَنَّ اللَّازِمَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِقْسَاطُ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ

مِنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِيهِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ كَمَا يُخَافُ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِي الْيَتَامَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ تُغْضِبُ اللهَ، وَتُوجِبُ سَخَطَهُ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنَهُ هُوَ بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي النِّسَاءِ، وَتَقْلِيلُ الْعَدَدِ الَّذِي يُنْكَحُ مِنْهُنَّ مَعَ الثِّقَةِ بِالْعَدْلِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي ذَاتِهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ - فَمَسْأَلَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ جَاءَتْ بِالتَّبَعِ لَا بِالْأَصَالَةِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِيُنْفِقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْكَثِيرَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّازِيُّ إِنَّهُ أَقْرَبُهَا. وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ كَاتِبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي دُرُوسِ التَّفْسِيرِ دَائِمًا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُرْشِدَةً إِلَى إِبْطَالِ كُلِّ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَمْرِ النِّسَاءِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِنَّ يَأْكُلُهَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ عَضْلِهِنَّ لِيَبْقَى الْوَلِيُّ مُتَمَتِّعًا بِمَا لَهُنَّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الزَّوْجُ، وَمَنْ ظَلَمَ النِّسَاءَ بِتَزَوُّجِ الْكَثِيرَاتِ مِنْهُنَّ مَعَ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهِمَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ هُنَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ ذِكْرُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَتَامَى، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْخَوْفَ مِنْ أَكْلِ مَالِ الزَّوْجَةِ الْيَتِيمَةِ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَزَوَّجُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَكُمْ مَنْدُوحَةً عَنِ الْيَتَامَى بِمَا أَبَاحَهُ لَكُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِنَّ إِلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَكِنْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَوِ الزَّوْجَتَيْنِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَلْتَزِمُوا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَالْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ يَصْدُقُ بِالظَّنِّ وَالشَّكِّ فِيهِ، بَلْ يَصْدُقُ بِتَوَهُّمِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَغْتَفِرُ الْوَهْمَ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْهُ عِلْمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً، أَوْ أَكْثَرَ هُوَ الَّذِي يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِيهِ ضَعِيفًا. قَالَ: وَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا

أَيْ أَقْرَبُ مِنْ عَدَمِ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ، فَجَعَلَ الْبُعْدَ مِنَ الْجَوْرِ سَبَبًا فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَدْلِ، وَوُجُوبِ تَحَرِّيهِ، وَمُنَبِّهٌ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ عَزِيزٌ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [4: 129] وَقَدْ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْعَدْلُ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ مُنْتِجًا عَدَمَ جَوَازِ التَّعَدُّدِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَاللهُ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَاقَتِهِ مِنْ مَيْلِ قَلْبِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِيلُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ إِلَى عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ نِسَائِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخُصُّهَا بِشَيْءٍ دُونَهُنَّ. أَيْ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ وَإِذْنِهِنَّ، وَكَانَ يَقُولُ: اللهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ أَيْ مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ. قَالَ: فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْجَوْرِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ مَعَ هَذَا التَّضْيِيقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَبِّيَ أُمَّةً فَشَا فِيهَا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ زَوْجَتَانِ لِزَوْجٍ وَاحِدٍ لَا تَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ نِظَامٌ، بَلْ يَتَعَاوَنُ الرَّجُلُ مَعَ زَوْجَاتِهِ عَلَى إِفْسَادِ الْبَيْتِ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْأَوْلَادُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَمَفْسَدَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأُمَّةِ. قَالَ: كَانَ لِلتَّعَدُّدِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَوَائِدُ أَهَمُّهَا صِلَةُ النَّسَبِ، وَالصِّهْرِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الْعَصَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا لَهُ الْآنَ ; لِأَنَّ الدِّينَ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَكَانَ أَذَى الضَّرَّةِ لَا يَتَجَاوَزُ ضَرَّتَهَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ ضَرَّةٍ إِلَى وَلَدِهَا إِلَى وَالِدِهِ إِلَى سَائِرِ أَقَارِبِهِ، فَهِيَ تُغْرِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ: تُغْرِي وَلَدَهَا بِعَدَاوَةِ إِخْوَتِهِ، وَتُغْرِي زَوْجَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِحَمَاقَتِهِ يُطِيعُ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَيَدِبُّ الْفَسَادُ فِي الْعَائِلَةِ كُلِّهَا، وَلَوْ شِئْتَ تَفْصِيلَ الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لَأَتَيْتُ بِمَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهَا: السَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَالْكَذِبُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْجُبْنُ، وَالتَّزْوِيرُ، بَلْ مِنْهَا الْقَتْلُ، حَتَّى قَتَلَ الْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الْمَحَاكِمِ ; وَنَاهِيكَ بِتَرْبِيَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ قِيمَةَ الزَّوْجِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِنَفْسِهَا، وَجَاهِلَةٌ بِدِينِهَا، لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خُرَافَاتٍ وَضَلَالَاتٍ تَلَقَّفَتْهَا مِنْ أَمْثَالِهَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَلَوْ تَرَبَّى النِّسَاءُ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً صَحِيحَةً يَكُونُ بِهَا الدِّينُ هُوَ صَاحِبَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، عَلَى قُلُوبِهِنَّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَيْرَةِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ضَرَرُهُ قَاصِرًا عَلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ. أَمَّا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَرَى، وَنَسْمَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ مَعَ فُشُوِّ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِيهَا،

فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا الْحَنَفِيَّةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الْأَمْرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمُ الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ) . قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ. هَذَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ الْأَوَّلِ الَّذِي فَسَّرَ فِيهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي الدَّرْسِ الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مُضَيَّقَةٌ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا مَا يَصْعُبُ تَحَقُّقُهُ فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ عَارِضَةٌ لَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، فَقَدْ يَخَافُ الظُّلْمَ، وَلَا يَظْلِمُ، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَعْدِلُ فَيَعِيشُ عِيشَةً حَلَالًا. قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَيْ فَالْزَمُوا زَوْجًا وَاحِدَةً، أَوْ أَمْسِكُوا زَوْجًا وَاحِدَةً مَعَ الْعَدْلِ - وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَثِيرَاتٍ - أَوِ الْزَمُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاكْتَفُوا بِالتَّسَرِّي بِهِنَّ بِغَيْرِ شَرْطٍ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْفِرَاشِ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذْ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَهُنَّ الْحَقُّ فِي الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ حِلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْجَوَارِي الْمَمْلُوكَاتِ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مَهْمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا شُوهِدَ، وَلَا يَزَالُ يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الزِّيَادَةِ فِي الْإِمَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدِي. أَقُولُ: هَذَا، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ بِهَا كَمَا تَكُونُ بِهِ زَوْجًا، وَلَكِنَّهُ ضَرُورَةٌ تَعْرِضُ لِلِاجْتِمَاعِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمَمِ الْحَرْبِيَّةِ كَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَهُوَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثُ أُخْرَى كَبَحْثِ حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَالْعَدَدِ، وَبَحْثِ إِمْكَانِ مَنْعِ الْحُكَّامِ لِمَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ إِذَا عَمَّ ضَرَرُهُ كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ كَمَا يُقَالُ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُونَ هُنَا مَا لَا يَكْثُرُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَبِلَادِ التُّرْكِ مَعَ كَوْنِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْهَا هُنَاكَ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ فَتْوَى نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ هَذَا نَصُّهَا.

(حِكْمَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ) (س 20 مِنْ نَجِيبٍ أَفَنْدِي قِنَاوِيٍّ أَحَدِ طَلَبَةِ الطِّبِّ فِي أَمْرِيكَا: يَسْأَلُنِي كَثِيرٌ مِنْ أَطِبَّاءِ الْأَمِرِيكَانِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَيَقُولُونَ: كَيْفَ يَجْمَعُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ؟ فَأَجَبْتُهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَهِمْتُ مِنَ الْآيَةِ مُدَافَعَةً عَنْ دِينِي وَقُلْتُ: إِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَزَوَّجُ الْجَدِيدَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْرَهَ الْقَدِيمَةَ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا، وَاللهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، فَالْأَحْسَنُ وَاحِدَةٌ، هَذَا مَا قُلْتُهُ وَرُبَّمَا أَقْنَعَهُمْ، وَلَكِنْ أُرِيدُ مِنْكُمُ التَّفْسِيرَ وَتَوْضِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا قَوْلُكُمْ فِي الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا؟ . (ج) إِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ يَرَوْنَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الْأَزْوَاجِ أَكْبَرَ قَادِحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَأَثِّرِينَ بِعَادَاتِهِمْ، وَتَقْلِيدِهِمُ الدِّينِيِّ، وَغُلُوِّهِمْ فِي تَعْظِيمِ النِّسَاءِ، وَبِمَا يَسْمَعُونَ وَيَعْلَمُونَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِمَا قَيَّدَ الْقُرْآنُ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَبِمَا يُعْطِيهِ النَّظَرُ مِنْ فَسَادِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَزَوْجَاتٍ لَهُنَّ أَوْلَادٌ يَتَحَاسَدُونَ، وَيَتَنَازَعُونَ، وَيَتَبَاغَضُونَ. وَلَا يَكْفِي مِثْلُ هَذَا النَّظَرِ لِلْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَا بُدَّ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنَ النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الرَّجُلِ، وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ، وَالْغَرَضِ مِنْهَا، وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي الْأُمَمِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَكَفَالَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِهِ، وَفِي تَارِيخِ النُّشُوءِ الْبَشَرِيِّ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ النَّاسُ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ يَكْتَفُونَ بِأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ هَلْ جَعَلَ الْقُرْآنُ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَمْرًا دِينِيًّا مَطْلُوبًا، أَمْ رُخْصَةً تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ مُضَيَّقٍ فِيهَا؟ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَةِ الرَّجُلِ وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَأَهَمِّ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا، وَمِمَّا نَعْلَمُ نَحْنُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ الرَّجُلَ بِطَبِيعَتِهِ أَكْثَرُ طَلَبًا لِلْأُنْثَى مِنْهَا لَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ رَجُلٌ عِنِّينٌ لَا يَطْلُبُ النِّسَاءَ بِطَبِيعَتِهِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَطْلُبْنَ الرِّجَالَ بِطَبِيعَتِهِنَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُغْرَمَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّجُلِ، وَكَثِيرَةُ التَّفَكُّرِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَهُ لَوُجِدَ فِي النِّسَاءِ مِنَ الزَّاهِدَاتِ فِي التَّزَوُّجِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ الْآنَ. وَهَذَا الْغَرَامُ فِي الْمَرْأَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَيْلِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ الطَّبِيعِيَّةِ فِيهَا، وَفِي الرَّجُلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَجُوزَ، وَالَّتِي لَا تَرْجُو زَوَاجًا عَلَى التَّزَيُّنِ بِمِثْلِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَذْرَاءُ الْمُعَرِّضَةُ، وَالسَّبَبُ عِنْدِي فِي هَذَا مُعْظَمُهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ، وَاعْتِقَادِهِنَّ الْقُرُونَ الطَّوِيلَةَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى حِمَايَةِ الرِّجَالِ، وَكَفَالَتِهِمْ وَكَوْنِ عِنَايَةِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ حُظْوَتِهَا عِنْدَهُ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهَا، أَحَسَّ النِّسَاءُ بِهَذَا فِي الْأَجْيَالِ الْفِطْرِيَّةِ فَعَمَلْنَ لَهُ حَتَّى صَارَ مَلَكَةً مَوْرُوثَةً فِيهِنَّ حَتَّى

إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُبْغِضُ الرَّجُلَ، وَيُؤْلِمُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا، وَيَمْتَهِنَهَا، وَإِنَّهُنَّ لَيَأْلَمْنَ أَنْ يَرَيْنَ رَجُلًا - وَلَوْ شَيْخًا كَبِيرًا أَوْ رَاهِبًا مُتَبَتِّلًا - لَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَا يَخْضَعُ لِسِحْرِهِنَّ، وَيَسْتَجِيبُ لِرُقْيَتِهِنَّ. وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْمَرْأَةِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أُولَى. ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَيْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى إِلَى الْآخَرِ الْمَيْلَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الزَّوَاجِ هِيَ التَّنَاسُلُ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ النَّوْعُ، كَمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي شَهْوَةِ التَّغَذِّي هِيَ حِفْظُ الشَّخْصِ. وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا، وَالْحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَطِبَّاءُ أَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ، وَقَدْ يَضِيعُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ كَمَا يَضِيعُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُرِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ بِمَنْ هِيَ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ يَضِيعُ عَلَيْهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ هَرَمٍ عَاجِلٍ، أَوْ مَوْتٍ قَبْلَ بُلُوغِ السِّنِّ الطَّبِيعِيِّ يَطْرَأُ مِثْلُهُ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً فَأَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا تُنْتِجُ أَحَدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ يُفْسِدُ حَرْثَ الْآخَرِ. وَمَنْ لَاحَظَ عِظَمَ شَأْنِ كَثْرَةِ النَّسْلِ فِي سُنَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَفِي حَالِ الْأُمَمِ يَظْهَرُ لَهُ عِظَمُ شَأْنِ هَذَا الْفَرْقِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَانِيَةٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيدَ مِنَ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ تَرَى الرِّجَالَ عَلَى كَوْنِهِمْ أَقَلَّ مِنَ النِّسَاءِ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ التَّزَوُّجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْجُنْدِيَّةِ وَالْحُرُوبِ، وَفِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الزَّوَاجِ، وَنَفَقَاتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي أَصْلِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَفِيمَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الشُّعُوبِ، وَالْأُمَمِ إِلَّا مَا شَذَّ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ وَإِلَى إِلْزَامِهِنَّ مُجَاهَدَةَ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي طَبِيعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يُحْدِثُ أَمْرَاضًا بَدَنِيَّةً، وَعَقْلِيَّةً كَثِيرَةً يُمْسِي بِهَا أُولَئِكَ الْمِسْكِينَاتُ

عَالَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَلَاءً فِيهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّ نِعْمَةً لَهَا، أَوْ إِلَى إِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِنَّ وَالرِّضَا بِالسِّفَاحِ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِنَّ - لَا سِيَّمَا إِذَا كُنَّ فَقِيرَاتٍ - مَا لَا يَرْضَى بِهِ ذُو إِحْسَاسٍ بَشَرِيٍّ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهَا، وَطَفِقَ أَهْلُ الْبَحْثِ يَنْظُرُونَ فِي طَرِيقِ عِلَاجِهَا فَظَهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الْوَحِيدَ هُوَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنِ ارْتَأَى هَذَا الرَّأْيَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ، وَقَدْ نَقَلْنَا ذَلِكَ عَنْهُنَّ فِي مَقَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ (تُرَاجَعُ فِي ص741 مِنْهُ) ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا عَجِيبًا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ طَبْعًا، وَهُنَّ يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الشُّعُورِ، وَالْوِجْدَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْبُرْهَانِ، بَلْ إِنَّ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ صَارَتْ مَسْأَلَةً وِجْدَانِيَّةً عِنْدَ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ تَبَعًا لِنِسَائِهِمْ حَتَّى لَا تَجِدَ الْفَيْلَسُوفَ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْحَثَ فِي فَوَائِدِهَا، وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا بَحْثَ بَرِيءٍ مِنَ الْغَرَضِ - طَالِبٍ كَشْفَ الْحَقِيقَةِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ. وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا إِلَى اكْتِنَاهِ حَالِ الْمَعِيشَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأُشْرِفُ بِكَ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَافِلَ لِلْمَرْأَةِ، وَسَيِّدَ الْمَنْزِلِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَوْنِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدِّفَاعِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [4: 34] وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةَ الْمَنْزِلِ، وَمُرَبِّيَةَ الْأَوْلَادِ لِرِقَّتِهَا، وَصَبْرِهَا، وَكَوْنِهَا كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَاسِطَةً فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّعَقُّلِ بَيْنَ الرَّجُلِ، وَالطِّفْلِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً لِنَقْلِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلرُّجُولَةِ وَلِجَعْلِ الْبِنْتِ كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللُّطْفِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِعَمَلِهَا الطَّبِيعِيِّ. وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْبَيْتَ مَمْلَكَةٌ صُغْرَى كَمَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْبُيُوتِ هُوَ الْمَمْلَكَةُ الْكُبْرَى، فَلِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ إِدَارَةُ نِظَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِلرَّجُلِ مَعَ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ إِدَارَةُ نِظَارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَشْغَالِ الْعُمُومِيَّةِ، وَالْحَرْبِيَّةِ، وَالْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَيِّمَةَ الْبَيْتِ، وَعَمَلُهَا مَحْصُورًا فِيهِ لِضَعْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْآخَرِ بِطَبِيعَتِهَا، وَبِمَا يَعُوقُهَا مِنَ الْحَبَلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَمُدَارَاةِ الْأَطْفَالِ، وَكَانَتْ بِذَلِكَ عَالَةً عَلَى الرَّجُلِ كَانَ مِنَ الشَّطَطِ تَكْلِيفُهَا الْمَعِيشَةَ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ بَلْهَ السِّيَادَةَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَمَاذَا نَعْمَلُ، وَالنِّسَاءُ (قَدْ يَكُنَّ) أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ عَدَدًا؟ أَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُبَاحَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفَالَةُ عِدَّةِ نِسَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ الَّتِي تَجْتَاحُ الرِّجَالَ، وَتَدَعُ النِّسَاءَ لَا كَافِلَ لِلْكَثِيرِ مِنْهُنَّ وَلَا نَصِيرَ؟ وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ فِي خَارِجِ الْمَنْزِلِ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى أَعْمَالِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الْمَنْزِلَ لَا يَشْمَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مُسَاعَدَةٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقْضِي قَوَاعِدُ عِلْمِ

الِاقْتِصَادِ فِي تَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسَاعِدُهَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ عِدَّةُ نِسَاءٍ مَصْلَحَتُهُنَّ عِمَارَتُهُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَابِعَةٌ. وَإِذَا رَجَعْتَ مَعِي إِلَى الْبَحْثِ فِي تَارِيخِ النُّشُوءِ فِي الزَّوَاجِ، وَالْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) ، أَوْ فِي الِازْدِوَاجِ، وَالْإِنْتَاجِ تَجِدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحَلٍّ لِبَيَانِ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ فِي ذَلِكَ، بَلْ ثَبَتَ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْقَبَائِلَ الْمُتَوَحِّشَةَ كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ حَقًّا مُشَاعًا لِلرِّجَالِ بِحَسَبِ التَّرَاضِي، وَكَانَتِ الْأُمُّ هِيَ رَئِيسَةَ الْبَيْتِ إِذِ الْأَبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْغَالِبِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا ارْتَقَى يَشْعُرُ بِضَرَرِ هَذَا الشُّيُوعِ، وَالِاخْتِلَاطِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِصَاصٍ فِي الْقَبِيلَةِ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهَا لِرِجَالِهَا دُونَ رِجَالِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَا زَالُوا يَرْتَقُونَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ نِسَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ حَسَبَ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ، فَانْتَقَلَ بِهَذَا تَارِيخُ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) إِلَى دَوْرٍ جَدِيدٍ صَارَ فِيهِ الْأَبُ عَمُودَ النَّسَبِ، وَأَسَاسَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ، وَالْإِنْكِلِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبٍ لَهُمْ فِي تَارِيخِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) ، وَمِنْ هُنَا يَذْهَبُ الْإِفْرِنْجُ إِلَى أَنَّ نِهَايَةَ الِارْتِقَاءِ هُوَ أَنْ يُخَصَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُونَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُلْجِئُ إِلَى أَنْ يَكْفُلَ الرَّجُلُ عِدَّةً مِنَ النِّسَاءِ لِمَصْلَحَتِهِنَّ، وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَلِاسْتِعْدَادِهِ الطَّبِيعِيِّ لِذَلِكَ، وَلِيُخْبِرُونَا هَلْ رَضِيَ الرِّجَالُ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَقَنَعُوا بِالزَّوَاجِ الْفَرْدِيِّ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْيَوْمِ؟ أَيُوجَدُ فِي أُورُبَّا فِي كُلِّ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا يَزْنِي؟ كَلَّا. إِنَّ الرَّجُلَ بِمُقْتَضَى طَبِيعَتِهِ، وَمَلَكَاتِهِ الْوِرَاثِيَّةِ لَا يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِذِ الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِغِشْيَانِ الرَّجُلِ إِيَّاهَا، كَمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِثَمَرَةِ هَذَا الْغِشْيَانِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ النَّسْلُ فَدَاعِيَةُ الْغِشْيَانِ فِي الرَّجُلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَحْصُورٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَمَمْنُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَالدَّاعِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الرَّجُلِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ اعْتِدَالِ الْفِطْرَةِ عَقِبَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْحَمْلِ وَالْإِثْقَالِ فَتَأْبَى طَبِيعَتُهَا ذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْطِينُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى إِرْضَاءِ الرَّجُلِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا مَا يُحْدِثُهُ التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ لِلَذَّةٍ وَقَعَتْ فِي إِبَّانِهَا مِنَ التَّعَمُّلِ لِاسْتِعَادَتِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَاتِ الْعُمُومِيَّةِ لَكَانَ النِّسَاءُ يَأْبَيْنَ الرِّجَالَ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ الَّتِي لَا يَكُنَّ فِيهَا مُسْتَعِدَّاتٍ لِلْعُلُوقِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِنْتَاجِ، وَمِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَفِعًا بِطَبِيعَتِهِ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَيْهَا فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ هِيَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِقَبُولِهِ أَظْهَرُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ، وَالْإِثْقَالِ بِالْحَمْلِ، وَالنِّفَاسِ، وَأَقَلُّهَا ظُهُورًا أَيَّامُ الرَّضَاعِ لَا سِيَّمَا الْأَيَّامُ الْأُولَى، وَالْأَخِيرَةُ مِنْ

أَيَّامِ طُهْرِهَا. وَقَدْ يُنَازَعُ فِي هَذِهِ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِيهَا عَلَى الطَّبِيعَةِ، وَأَمَّا اكْتِفَاءُ الْمَرْأَةِ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ فِي طَبِيعَتِهَا، وَلَا لِمَصْلَحَةِ النَّسْلِ، بَلْ هُوَ الْمُوَافِقُ لِذَلِكَ إِذْ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِي حَالٍ مُسْتَعِدَّةً فِيهَا لِمُلَامَسَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ مَا دَامَا فِي اعْتِدَالِ مِزَاجِهِمَا، وَلَا نَذْكُرُ الْمَرَضَ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَآدَابِهَا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شُغْلٌ بِتَمْرِيضِ الْآخَرِ فِي وَقْتِ مُصَابِهِ عَنِ السَّعْيِ وَرَاءَ لَذَّتِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ مُحَقِّقِي الْأُورُبِّيِّينَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْأَزْوَاجِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْمُتَوَحِّشَةِ كَانَ سَبَبُهُ قِلَّةَ الْبَنَاتِ لِوَأْدِ الرِّجَالِ إِيَّاهُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ خَامِسَةٌ. بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَجِلْ طَرْفَكَ مَعِي فِي تَارِيخِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَجِدْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ ارْتَفَعَتْ إِلَى أَنْ صَارَ فِيهَا الزَّوَاجُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْبُيُوتِ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُ النَّسَبِ، وَلَكِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا بِعَدَدٍ، وَلَا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ، وَكَانَ اخْتِلَافُ عِدَّةِ رِجَالٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُعَدُّ مِنَ الزِّنَا الْمَذْمُومِ، وَكَانَ الزِّنَا عَلَى كَثْرَتِهِ يَكَادُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِمَاءِ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِ الْحَرَائِرُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَتَبَضَّعَ مِنْ رَجُلٍ يُعْجِبُهَا ابْتِغَاءَ نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَالزِّنَا لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَلَا عَارًا صُدُورُهُ مِنَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَابُ مِنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَدْ حَظَرَ الْإِسْلَامُ الزِّنَا عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا حَتَّى الْإِمَاءِ، فَكَانَ يَصْعُبُ جِدًّا عَلَى الرِّجَالِ قَبُولُ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ هَذَا الْحَجْرِ بِدُونِ إِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَادِسَةٌ. وَلَا تَنْسَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ غَايَةَ التَّرَقِّي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَعَادَةِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) أَنْ يَكُونَ تَكَوُّنُ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَيْنِ فَقَطْ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِيثَاقًا غَلِيظًا عَلَى الْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالثِّقَةِ، وَالِاخْتِصَاصِ، حَتَّى إِذَا مَا رُزِقَا أَوْلَادًا كَانَتْ عِنَايَتُهُمَا مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ لِيَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا، وَيَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ فِي الْوِفَاقِ، وَالْوِئَامِ، وَالْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَابِعَةٌ. إِذَا أَنْعَمْتَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا وَعَرَفْتَ فَرْعَهَا، وَأَصْلَهَا تَتَجَلَّى لَكَ هَذِهِ النَّتِيجَةُ، أَوِ النَّتَائِجُ، وَهِيَ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ فِي بَابِهِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَبَّى النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَقْتَنِعُوا بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَحُولُ دُونَ أَخْذِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِهِ، وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى كَفَالَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةِ الْأَفْرَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ عَاقِرٍ فَيَضْطَرُّ إِلَى غَيْرِهَا لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَتِهِمَا مَعًا أَلَّا يُطَلِّقَهَا، وَتَرْضَى بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ أَمِيرًا، أَوْ تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي سِنِّ الْيَأْسِ وَيَرَى الرَّجُلُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلْإِعْقَابِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَكِفَايَةِ أَوْلَادِ كَثِيرِينَ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، أَوْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِإِحْصَانِهِ

لِأَنَّ مِزَاجَهُ يَدْفَعُهُ إِلَى كَثْرَةِ الْإِفْضَاءِ وَمِزَاجَهَا بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكُونُ فَارِكًا مِنْشَاصًا (أَيْ تَكْرَهُ الزَّوْجَ) ، أَوْ يَكُونُ زَمَنُ حَيْضِهَا طَوِيلًا يَنْتَهِي إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ، وَيَرَى نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: التَّزَوُّجِ بِثَانِيَةٍ، أَوِ الزِّنَا الَّذِي يُضِيعُ الدِّينَ، وَالْمَالَ، وَالصِّحَّةَ، وَيَكُونُ شَرًّا عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ ضَمِّ وَاحِدَةٍ إِلَيْهَا مَعَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ اسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِالْمَرَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّعَدُّدُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَأَنْ تَكْثُرَ فِيهَا النِّسَاءُ كَثْرَةً فَاحِشَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي مِثْلِ الْبِلَادِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِي كُلِّ بِلَادٍ تَقَعُ فِيهَا حَرْبٌ مُجْتَاحَةٌ تَذْهَبُ بِالْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَزِيدُ عَدَدُ النِّسَاءِ زِيَادَةً فَاحِشَةً تَضْطَرُّهُنَّ إِلَى الْكَسْبِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجِ الطَّبِيعَةِ، وَلَا بِضَاعَةَ لِأَكْثَرِهِنَّ فِي الْكَسْبِ سِوَى أَبْضَاعِهِنَّ، وَإِذَا هُنَّ بَذَلْنَهَا فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ مَا وَرَاءَ بَذْلِهَا مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا كَافِلَ لَهَا إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ نَفْسِهَا، وَأَوَدِ وَلَدٍ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَلَاسِيَّمَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَلِ الطُّفُولِيَّةِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ بِوُجُوبِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي يَشْتَغِلْنَ فِي الْمَعَامِلِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ مِنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشَّقَاءِ، وَالْبَلَاءِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُبِيحُ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ هِيَ ضَرُورَاتٌ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَكَانَ الرِّجَالُ إِنَّمَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي الْغَالِبِ إِرْضَاءً لِلشَّهْوَةِ لَا عَمَلًا بِالْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ - جُعِلَ التَّعَدُّدُ فِي الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لَا وَاجِبًا، وَلَا مَنْدُوبًا لِذَاتِهِ، وَقُيِّدَ بِالشَّرْطِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَكَّدَتْهُ تَأْكِيدًا مُكَرَّرًا فَتَأَمَّلْهَا. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِالْيَتِيمَةِ الْغَنِيَّةِ لِيَتَمَتَّعَ بِمَالِهَا، وَيَهْضِمَ حُقُوقَهَا لِضَعْفِهَا حَذَّرَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ النِّسَاءَ أَمَامَكُمْ كَثِيرَاتٌ، فَإِذَا لَمْ تَثِقُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى إِذَا تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ فَعَلَيْكُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهَا ضِمْنًا لَا اسْتِقْلَالًا (عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ) ، وَالْإِفْرِنْجُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا مَسْأَلَةً مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ إِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَدْنَى، وَأَقْرَبُ لِعَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَالْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، مِنْ " عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ "، وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ، فَأَكَّدَ أَمْرَ الْعَدْلِ، وَجَعَلَ مُجَرَّدَ تَوَقُّعِ الْإِنْسَانِ عَدَمَ الْعَدْلِ مِنْ نَفْسِهِ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّعَدُّدِ. وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ يَتَزَوَّجُ بِثَانِيَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَغَرَضٍ صَحِيحٍ يَأْمَنُ الْجَوْرَ ; لِذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ الذَّوَّاقِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا لِمُجَرَّدِ التَّنَقُّلِ فِي التَّمَتُّعِ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ

عَلَى ظُلْمِ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَوَّجُ لِأَجْلِ أَنْ يَغِيظَهَا، وَيُهِينَهَا، وَلَا شَّكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ خَرَابُ الْبُيُوتِ، بَلْ وَخَرَابُ الْأُمَمِ، وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا الْآنَ فِي الْجَوَابِ كَتَبْنَاهُ بِقَلَمِ الْعَجَلَةِ عَلَى أَنَّنَا كُنَّا قَدْ أَرْجَأْنَا الْجَوَابَ لِنُمْعِنَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنُرَاجِعَ كِتَابًا، أَوْ رِسَالَةً فِي مَوْضُوعِهَا لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَا قِيلَ لَنَا: إِنَّهَا تُرْجِمَتْ، وَطُبِعَتْ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي نَفْسِ السَّائِلِ الشَّيْءُ فَلْيُرَاجِعْنَا فِيهِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ اهـ. وَكَتَبْنَا فِي الرَّدِّ عَلَى لُورْدِ كُرُومَرْ فِي (ص225 م 10) مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ: طَالَمَا انْتَقَدَ الْأُورُبِّيُّونَ عَلَى الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ مَشْرُوعِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ، وَهُمَا لَمْ يُطْلَبَا، وَلَمْ يُحْمَدَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَا ; لِأَنَّهُمَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَشَرَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ كِتَابُهُمُ (الْإِنْجِيلُ) إِلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَا، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ تَعْرِضُ الضَّرُورَةُ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ كَأَنْ تَغْتَالَ الْحَرْبُ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ، فَيَكْثُرُ مَنْ لَا كَافِلَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ ضَرَائِرَ، وَلَا يَكُنَّ فَوَاجِرَ يَأْكُلْنَ بِأَعْرَاضِهِنَّ، وَيُعَرِّضْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِذَلِكَ لِمَصَائِبَ تَرْزَحُهُنَّ أَثْقَالُهَا، وَقَدْ أَنْشَأَ الْقَوْمُ يَعْرِفُونَ وَجْهَ الْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا كَمَا عَرَفُوا وَجْهَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَقَامَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْكِلِيزِ الْكَاتِبَاتِ الْفَاضِلَاتِ يُطَالِبْنَ فِي الْجَرَائِدِ بِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ رَحْمَةً بِالْعَامِلَاتِ الْفَقِيرَاتِ، وَبِالْبَغَايَا الْمُضْطَرَّاتِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْمَنَارِ تَرْجَمَةُ بَعْضِ مَا كَتَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي جَرِيدَةِ (لندن ثروت) مُسْتَحْسِنَةً رَأْيَ الْعَالِمِ (تومس) فِي أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِتَقْلِيلِ الْبَنَاتِ الشَّارِدَاتِ إِلَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، وَمَا كَتَبَتِ الْفَاضِلَةُ " مس أني رود " فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) وَالْكَاتِبَةُ " اللادي كوك " فِي جَرِيدَةِ (الايكو) فِي ذَلِكَ (رَاجِعْ ص481 م 4) . إِنَّ قَاعِدَةَ الْيُسْرِ فِي الْأُمُورِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَسَاسِيَّةِ لِبِنَاءِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2: 185] وَمَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [5: 6] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَحْرِيمُ أَمْرٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، أَوِ الْخَاصَّةُ (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا) وَهُوَ مِمَّا يَشُقُّ امْتِثَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَاسِيَّمَا عَلَى مَنِ اعْتَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهِ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَنْهُ وَتَرْكُ النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَلَّلَ الْعَدَدُ، وَيُقَيَّدَ بِقَيْدٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَهُوَ شَرْطٌ يَعِزُّ تَحَقُّقُهُ، وَمَنْ فَقِهَهُ، وَاخْتَبَرَ حَالَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَلْتَزِمِ الشَّرْطَ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَزَوَاجُهُ غَيْرُ إِسْلَامِيٍّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِيهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأُورُبِّيِّينَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ بَعْضُ فُضَلَائِهِمْ، وَفُضْلَيَاتِهِمُ الْآنَ: وَأَمَّا

الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا هِدَايَتَهُ، فَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ مِنَّا إِلَى إِقْنَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَضْلِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ أَهْلِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَخَازِي، وَالْآثَامِ، إِذْ لَوْ رَجَعُوا إِلَيْهِ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ اهـ. أَمَّا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ اقْتِرَاحِ بَعْضِ كَاتِبَاتِ الْإِفْرِنْجِ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ مَا أَوْدَعْنَاهُ مَقَالَةً عُنْوَانُهَا (النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ) نُشِرَتْ فِي (ص481 م 4) مِنَ الْمَنَارِ، وَهَاكَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا: لَمَّا تَنَبَّهَ أَهْلُ أُورُبَّا إِلَى إِصْلَاحِ شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَرْقِيَةِ مَعِيشَتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ اعْتَنَوْا بِتَرْبِيَةِ النِّسَاءِ وَتَعْلِيمِهِنَّ، فَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْقِيَتِهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ كَمَالَهَا إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَعْنِي بِالْإِسْلَامِيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ لَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ، وَلَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ، فَقَدْ قُلْتُ آنِفًا: إِنَّهُمْ مَا رَعَوْا تَعَالِيمَ دِينِهِمْ حَقَّ رِعَايَتِهَا ; وَلِهَذَا وُجِدَتْ مَعَ التَّرْبِيَةِ الْأُورُبِّيَّةِ لِلنِّسَاءِ جَرَاثِيمُ الْفَسَادِ، وَنَمَتْ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَدْوَاءُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَدَنِيَّةُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا بِشِدَّةٍ فِي الدَّوْلَةِ السَّابِقَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ فَرَنْسَا فَضَعُفَ نَسْلُهَا، وَقَلَّتْ مَوَالِيدُهَا قِلَّةً تُهَدِّدُهَا بِالِانْقِرَاضِ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ. حَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْعُقَلَاءُ، وَحَذَّرَ مِنْ عَوَاقِبِهِ الْكُتَّابُ الْأَذْكِيَاءُ، وَصَرَّحَ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى تَعَالِيمِهَا الْمُرْضِيَةِ، وَفَضَائِلِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمَرْأَةَ، وَأَفْسَدَ تَرْبِيَتَهَا، وَأَنَّ بَعْضَ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ صَرَّحَتْ بِتَمَنِّي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِيَكُونَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَكَفِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ. جَاءَ فِي جَرِيدَةِ (لاغوص ويكلي ركورد) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ فِي 20 مِنْ إِبْرِيلَ (نِيسَانَ) سَنَةَ 1901 نَقْلًا عَنْ جَرِيدَةِ (لندن ثروت) بِقَلَمِ كَاتِبَةٍ فَاضِلَةٍ مَا تَرْجَمَتُهُ مُلَخَّصًا: لَقَدْ كَثُرَتِ الشَّارِدَاتُ مِنْ بَنَاتِنَا، وَعَمَّ الْبَلَاءُ، وَقَلَّ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُ امْرَأَةً تَرَانِي أَنْظُرُ إِلَى هَاتِيكَ الْبَنَاتِ، وَقَلْبِي يَتَقَطَّعُ شَفَقَةً عَلَيْهِنَّ، وَحُزْنًا، وَمَاذَا عَسَى يُفِيدُهُنَّ بَثِّي، وَحُزْنِي، وَتَوَجُّعِي، وَتَفَجُّعِي، وَإِنْ شَارَكَنِي فِيهِ النَّاسُ جَمِيعًا؟ لَا فَائِدَةَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّجِسَةَ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ (تُومَسْ) ، فَإِنَّهُ رَأَى الدَّاءَ، وَوَصْفَ لَهُ الدَّوَاءَ الْكَافِلَ لِلشِّفَاءِ وَهُوَ (الْإِبَاحَةُ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ) ، وَبِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ يَزُولُ الْبَلَاءُ لَا مَحَالَةَ، وَتُصْبِحُ بَنَاتُنَا رَبَّاتِ بُيُوتٍ، فَالْبَلَاءُ كُلُّ الْبَلَاءِ فِي إِجْبَارِ الرَّجُلِ الْأُورُبِّيِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا التَّحْدِيدُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ بَنَاتِنَا شَوَارِدَ، وَقَذَفَ بِهِنَّ إِلَى الْتِمَاسِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفَاقُمِ الشَّرِّ إِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. أَيُّ ظَنٍّ وَخَرَصٍ يُحِيطُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ الَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ غَيْرُ شَرْعِيِّينَ أَصْبَحُوا كَلًّا، وَعَالَةً، وَعَارًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ مُبَاحًا لَمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ وَبِأُمَّهَاتِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَلَسَلِمَ عِرْضُهُنَّ، وَعِرْضُ أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ سَتُحِلُّ بِنَا الدَّمَارَ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ حَالَ خِلْقَتِهَا تُنَادِي بِأَنَّ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ

مَا لَيْسَ عَلَيْهَا، وَبِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تُصْبِحُ كُلُّ امْرَأَةٍ رَبَّةَ بَيْتٍ، وَأُمَّ أَوْلَادٍ شَرْعِيِّينَ ". وَنَشَرَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (مِسْ أَنِي رُودْ) مَقَالَةً مُفِيدَةً فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ مِنْهَا فِي 10 مِنْ مَايُو (أَيَارَ) سَنَةَ 1901 نَقْتَطِفُ مِنْهَا مَا يَأْتِي لِتَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ: " لَأَنْ يَشْتَغِلَ بَنَاتُنَا فِي الْبُيُوتِ خَوَادِمَ أَوْ كَالْخَوَادِمِ خَيْرٌ، وَأَخَفُّ بَلَاءً مِنَ اشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، حَيْثُ تُصْبِحُ الْبِنْتُ مُلَوَّثَةً بِأَدْرَانٍ تَذْهَبُ بِرَوْنَقِ حَيَاتِهَا إِلَى الْأَبَدِ. أَلَا لَيْتَ بِلَادَنَا كَبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الْحِشْمَةُ، وَالْعَفَافُ، وَالطَّهَارَةُ رِدْءٌ، الْخَادِمَةُ وَالرَّقِيقُ يَتَنَعَّمَانِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَيُعَامَلَانِ كَمَا يُعَامَلُ أَوْلَادُ الْبَيْتِ، وَلَا تُمَسُّ الْأَعْرَاضُ بِسُوءٍ. نَعَمْ إِنَّهُ لَعَارٌ عَلَى بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ تَجْعَلَ بَنَاتِهَا مَثَلًا لِلرَّذَائِلِ بِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَمَا بَالُنَا لَا نَسْعَى وَرَاءَ مَا يَجْعَلُ الْبِنْتَ تَعْمَلُ بِمَا يُوَافِقُ فِطْرَتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ مِنَ الْقِيَامِ فِي الْبَيْتِ، وَتَرْكِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ سَلَامَةً لِشَرَفِهَا ". وَقَالَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (اللِّادِي كُوكْ) بِجَرِيدَةِ (ألايكو) مَا تَرْجَمَتُهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ: " إِنَّ الِاخْتِلَاطَ يَأْلَفُهُ الرِّجَالُ ; وَلِهَذَا طَمِعَتِ الْمَرْأَةُ بِمَا يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا وَعَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الِاخْتِلَاطِ تَكُونُ كَثْرَةُ أَوْلَادِ الزِّنَا، وَهُنَا الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ يَتْرُكُهَا، وَشَأْنَهَا تَتَقَلَّبُ عَلَى مَضْجَعِ الْفَاقَةِ، وَالْعَنَاءِ، وَتَذُوقُ مَرَارَةَ الذُّلِّ، وَالْمَهَانَةِ، وَالِاضْطِهَادِ، بَلْ وَالْمَوْتِ أَيْضًا، أَمَّا الْفَاقَةُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ وَثِقَلَهُ، وَالْوَحَمَ وَدُوَارَهُ مِنْ مَوَانِعِ الْكَسْبِ الَّذِي تُحَصِّلُ بِهِ قُوتَهَا، وَأَمَّا الْعَنَاءُ فَهُوَ أَنَّهَا تُصْبِحُ شِرِّيرَةً حَائِرَةً لَا تَدْرِي مَاذَا تَصْنَعُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا الذُّلُّ وَالْعَارُ فَأَيُّ عَارٍ بَعْدَ هَذَا؟ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَكَثِيرًا مَا تَبْخَعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالِانْتِحَارِ وَغَبَرِهِ. هَذَا وَالرَّجُلُ لَا يُلِمُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ، وَعَلَيْهَا التَّبِعَةُ مَعَ أَنَّ عَوَامِلَ الِاخْتِلَاطِ كَانَتْ مِنَ الرَّجُلِ. " أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا يُخَفِّفُ - إِذَا لَمْ نَقُلْ عَمَّا يُزِيلُ - هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْعَائِدَةَ بِالْعَارِ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ؟ أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ طُرُقًا تَمْنَعُ قَتْلَ أُلُوفٍ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ بَلِ الذَّنْبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَغْرَى الْمَرْأَةَ الْمَحْبُوبَةَ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي تَصْدِيقَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْوُعُودِ، وَيُمَنِّي بِهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ حَتَّى إِذَا قَضَى مِنْهَا وَطَرًا تَرَكَهَا وَشَأْنَهَا تُقَاسِي الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. " يَا أَيُّهَا الْوَالِدَانِ لَا يَغُرَّنَّكُمَا بَعْضُ دُرَيْهِمَاتٍ تَكْسِبُهَا بَنَاتُكُمَا بِاشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، وَنَحْوِهَا، وَمَصِيرُهُنَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلِّمُوهُنَّ الِابْتِعَادَ عَنِ الرِّجَالِ، أَخْبِرُوهُنَّ بِعَاقِبَةِ الْكَيْدِ الْكَامِنِ لَهُنَّ بِالْمِرْصَادِ، لَقَدْ دَلَّنَا الْإِحْصَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ النَّاتِجَ مِنْ حَمْلِ الزِّنَا يَعْظُمُ، وَيَتَفَاقَمُ حَيْثُ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ أَكْثَرَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ الزِّنَا مِنَ الْمُشْتَغِلَاتِ فِي الْمَعَامِلِ، وَالْخَادِمَاتِ فِي الْبُيُوتِ، وَكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّدَاتِ الْمُعَرَّضَاتِ لِلْأَنْظَارِ، وَلَوْلَا الْأَطِبَّاءُ الَّذِينَ يُعْطُونَ

الْأَدْوِيَةَ لِلْإِسْقَاطِ لِرَأَيْنَا أَضْعَافَ مَا نَرَى الْآنَ، لَقَدْ أَدَّتْ بِنَا هَذِهِ الْحَالُ إِلَى حَدٍّ مِنَ الدَّنَاءَةِ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُهَا فِي الْإِمْكَانِ حَتَّى أَصْبَحَ رِجَالُ مُقَاطَعَاتٍ مِنْ بِلَادِنَا لَا يَقْبَلُونَ الْبِنْتَ زَوْجَةً مَا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّبَةً أَيْ عِنْدَهَا أَوْلَادٌ مِنَ الزِّنَا يُنْتَفَعُ بِشُغْلِهِمْ! ! وَهَذَا غَايَةُ الْهُبُوطِ بِالْمَدَنِيَّةِ، فَكَمْ قَاسَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَرَارَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَتَّى قَدَرَتْ عَلَى كَفَالَتِهِمْ وَالَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى أُولَئِكَ الْأَطْفَالِ، وَلَا يَتَعَهَّدُهُمْ بِشَيْءٍ، وَيْلَاهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ التَّعِيسَةِ، تُرَى مَنْ كَانَ مُعِينًا لَهَا فِي الْوَحَمِ وَدُوَارِهِ، وَالْحَمْلِ وَأَثْقَالِهِ، وَالْوَضْعِ وَآلَامِهِ، وَالْفِصَالِ وَمَرَارَتِهِ؟ " اهـ. ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ فِي وَجْهِ الْحَاجَةِ تَارَةً وَالضَّرُورَةِ تَارَةً إِلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ مَا عُلِمَ مِنْهُ ضِمْنًا مِنْ كَثْرَةِ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، وَطَبْعًا، فَإِذَا كَانَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَهُوَ مِمَّا يُقَلِّلُ النَّسْلَ كَانَ مِمَّا يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُرَغِّبَةِ فِي كَثْرَةِ النَّسْلِ وَالْمُشَدِّدَةِ فِي مَنْعِ الزِّنَا أَنْ تُبِيحَ التَّعَدُّدَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مَعَ التَّشْدِيدِ فِي مَنْعِ مَضَرَّاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا بِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَفْرِيقْيَا، وَغَيْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ضَرَرِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ لَا يَبْلُغُ ضَرَرَ قِلَّةِ النَّسْلِ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ فَرَنْسَا بِانْتِشَارِ الزِّنَا وَقِلَّةِ الزَّوَاجِ، وَسَتَتْبَعُهَا إِنْكِلْتِرَا، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَلَى شَاكِلَتِهِمَا فِي التَّسَاهُلِ فِي الْفِسْقِ، أَمَّا مَنْعُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِذَا فَشَا ضَرَرُهُ، وَكَثُرَتْ مَفَاسِدُهُ، وَثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ أَنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَعْدِلُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَلْهَ الضَّرُورَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمْحَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مَا دَامَتِ الْمَفْسَدَةُ قَائِمَةً بِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِهِ، بَلْ مَنَعَ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي عَامِ الرَّمَادَةِ أَنْ يُحَدَّ سَارِقٌ ; وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِهَا، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَتْوَى فِي ذَلِكَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ. لَكِنَّ الْإِفْرِنْجَ يُبَالِغُونَ فِي وَصْفِ مَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ، وَكَذَا الْمُتَفَرْنِجُونَ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي التَّسْلِيمِ لِلْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهَا. وَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا قَالَهُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى التَّعَدُّدِ إِلَّا لِتَنْفِيرِ الذَّوَّاقِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيُطَلِّقُونَ كَثِيرًا لِمَحْضِ التَّنَقُّلِ فِي اللَّذَّةِ، وَالْإِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ عَدَمِ التَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ. أَلَا إِنَّ التَّهْذِيبَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ التَّعَدُّدَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30: 21] قَلَّمَا تَتَحَقَّقُ عَلَى كَمَالِهَا مَعَ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَإِنَّنِي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَدْ صَدَقَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا تَرْبِيَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَقَلَّ ضَرَرُ التَّعَدُّدِ فِينَا حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ غَيْرَةَ الضَّرَائِرِ، بَلْ أَعْرِفُ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، وَالِاخْتِبَارِ الشَّخْصِيِّ أَنَّ بَعْضَ الضَّرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ قَدْ عِشْنَ مَعِيشَةَ الْوِفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُنَادِي الْأُخْرَى " يَا أُخْتِي "، وَقَدْ تَزَوَّجَ كَبِيرُ قَرْيَةٍ فِي لُبْنَانَ فَلَمْ يُولَدْ لَهُ فَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْأُولَى، وَرِضَاهَا ابْتِغَاءَ النَّسْلِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، وَكَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَتَا مُتَحَابَّتَيْنِ كَالْأُخْتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَعْتَنِي بِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَخِدْمَتِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ عِنَايَةَ أُمِّهِ بِهِ كَانَتْ أَقَلَّ، وَمَاتَ الرَّجُلُ عَنْهُمَا فَلَمْ تَتَفَرَّقَا مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا عَدْلُهُ وَتَدَيُّنُهُمَا. نَعَمْ إِنَّ الْوِفَاقَ صَارَ مِنَ النَّادِرِ، وَيَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ الضَّرَائِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَزَوَّجْتُ اثْنَتَيْنِ لِفَرْطِ جَهْلِي ... وَقَدْ حَازَ الْبَلَا زَوْجُ اثْنَتَيْنِ فَقُلْتُ أَعِيشُ بَيْنَهُمَا خَرُوفًا ... أُنَعَّمُ بَيْنَ أَكْرَمِ نَعْجَتَيْنِ فَجَاءَ الْأَمْرُ عَكْسَ الْقَصْدِ دَوْمًا ... عَذَابٌ دَائِمٌ بِبَلِيَّتَيْنِ لِهَذِي لَيْلَةٌ وَلِتِلْكَ أُخْرَى ... نِقَارٌ دَائِمٌ فِي اللَّيْلَتَيْنِ رِضَا هَذَى يُهَيِّجُ سُخْطَ هَذِي ... فَلَا أَخْلُو مِنْ إِحْدَى السَّخْطَتَيْنِ وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَقَالَةٌ فِي حُكْمِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَشُرُوطِهِ، وَمَضَارِّهِ الْمُشَاهَدَةِ بِمِصْرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ نَشَرَهَا فِي جَرِيدَةِ الْوَقَائِعِ الرَّسْمِيَّةِ فِي 9 مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ 1298 نَنْشُرُهَا هُنَا اسْتِيفَاءً لِلْبَحْثِ وَهِيَ. ((حُكْمُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ)) قَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلرَّجُلِ الِاقْتِرَانَ بِأَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِغَيْرِ وَاحِدَةٍ قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِعْطَاءَ كُلٍّ مِنْهُنَّ حَقَّهَا اخْتَلَّ نِظَامُ الْمَنْزِلِ، وَسَاءَتْ مَعِيشَةُ الْعَائِلَةِ، إِذِ الْعِمَادُ الْقَوِيمُ لِتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ هُوَ بَقَاءُ الِاتِّحَادِ، وَالتَّآلُفِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ. وَالرَّجُلُ إِذَا خَصَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاقِيَاتِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ زَهِيدٍ كَأَنْ يَسْتَقْضِيَهَا حَاجَةً فِي يَوْمِ الْأُخْرَى امْتَعَضَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى، وَسَئِمَتِ الرَّجُلَ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حُقُوقِهَا بِتَزَلُّفِهِ إِلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهَا، وَتَبَدَّلَ الِاتِّحَادُ بِالنَّفْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ بِالْبُغْضِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْعُلَمَاءُ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَأْتُونَ حُجْرَةَ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا بِإِذْنِهَا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطَافُ بِهِ وَهُوَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ عَلَى بُيُوتِ زَوْجَاتِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْأَكْتَافِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِ إِحْدَاهُنَّ خَاصَّةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ سَأَلَ: فِي أَيِّ بَيْتٍ أَكُونُ غَدًا؟ فَعَلِمَ نِسَاؤُهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ نَوْبَةِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهَا مُدَّةَ الْمَرَضِ، فَقَالَ: هَلْ رَضِيتُنَّ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ، فَلَمْ يُقِمْ فِي بَيْتِ عَائِشَة حَتَّى عَلِمَ رِضَاهُنَّ. وَهَذَا الْوَاجِبُ الَّذِي حَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى نَصَائِحِهِ، وَوَصَايَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ حَتَّى لَجْلَجَ لِسَانُهُ، وَخَفِيَ كَلَامُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، اللهَ اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ فِي أَيْدِيكُمْ - أَيْ أُسَرَاءُ - أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ دُونَ الْأُخْرَى - وَفِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا - جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَذِرُ عَنْ مَيْلِهِ الْقَلْبِيِّ بِقَوْلِهِ: اللهُمَّ هَذَا - أَيِ الْعَدْلُ فِي الْبَيَاتِ وَالْعَطَاءِ - جُهْدِي فِيمَا أَمْلِكُ وَلَا طَاقَةَ لِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ - يَعْنِي الْمَيْلَ الْقَلْبِيَّ - وَكَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا. وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَسْمِ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَفِيهَا، وَفِي الْعَطَاءِ أَعْنِي النَّفَقَةَ عِنْدَ غَالِبِهِمْ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يُطَوِّفَهُ عَلَى نِسَائِهِ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الدُّخُولُ عِنْدَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ مُبِيحَةٍ غَايَتَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهَا مِنْ خَارِجِ الْبَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهَا بِدُونِ دُخُولٍ، وَصَرَّحَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ عِنْدَ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ بِحُجْرَتِهَا، وَلَا يَذْهَبَ إِلَى ضَرَّتِهَا إِلَّا لِمَانِعِ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ ظَاهِرَ آيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَنَّ الْعَدْلَ فَرْضٌ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَفِي الْمَلْبُوسِ، وَالْمَأْكُولِ، وَالصُّحْبَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فَحْلٍ وَعِنِّينٍ، وَمَجْبُوبٍ، وَمَرِيضٍ وَصَحِيحٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدْلَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا. وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَعْدِلْ وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَجَبَ نَهْيُهُ، وَزَجْرُهُ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ بِالضَّرْبِ لَا بِالْحَبْسِ ; وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مُحَافَظَةً عَلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَهُوَ التَّعَاوُنُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ السُّلُوكِ فِيهَا. أَفَبَعْدَ الْوَعِيدِ الشَّرْعِيِّ، وَذَاكَ الْإِلْزَامِ الدَّقِيقِ الْحَتْمِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْوِيلًا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ تَوَهُّمِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسْوَةِ فَضْلًا عَنْ تَحَقُّقِهِ؟ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ نِسْوَةٍ لَا يَحْمِلُنَا عَلَى جَمْعِهِنَّ إِلَّا قَضَاءُ شَهْوَةٍ فَانِيَةٍ، وَاسْتِحْصَالُ لَذَّةٍ وَقْتِيَّةٍ غَيْرَ مُبَالِينَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّهُ إِنْ

بَدَتْ لِإِحْدَاهُنَّ فُرْصَةٌ لِلْوِشَايَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى صَرَفَتْ جُهْدَهَا مَا اسْتَطَاعَتْ فِي تَنْمِيقِهَا، وَإِتْقَانِهَا، وَتَحْلِفُ بِاللهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ فِيمَا افْتَرَتْ - وَمَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبَاتِ - فَيَعْتَقِدُ الرَّجُلُ أَنَّهَا أَخْلَصَتْ لَهُ النُّصْحَ لِفَرْطِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا، وَيُوسِعُ الْأُخْرَيَاتِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَسَبًّا فَظِيعًا، وَيَسُومُهُنَّ طَرْدًا، وَنَهْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيمَا أَلْقَى إِلَيْهِ ; إِذْ لَا هِدَايَةَ عِنْدَهُ تُرْشِدُهُ إِلَى تَمْيِيزِ صَحِيحِ الْقَوْلِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَلَا نُورَ بَصِيرَةٍ يُوقِفُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَتَضْطَرِمُ نِيرَانُ الْغَيْظِ فِي أَفْئِدَةِ هَاتِيكَ النِّسْوَةِ، وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الزَّوْجِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاشِيَةِ، وَيَكْثُرُ الْعِرَاكُ، وَالْمُشَاجَرَةُ بَيْنَهُنَّ بَيَاضَ النَّهَارِ وَسَوَادَ اللَّيْلِ، وَفَضْلًا عَنِ اشْتِغَالِهِنَّ بِالشِّقَاقِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنْزِلِ يُكْثِرْنَ مِنْ خِيَانَةِ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ وَأَمْتِعَتِهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ ; فَإِنَّهُنَّ دَائِمًا يَتَوَقَّعْنَ مِنْهُ الطَّلَاقَ ; إِمَّا مِنْ خُبْثِ أَخْلَاقِهِنَّ، أَوْ مِنْ رَدَاءَةِ أَفْكَارِ الزَّوْجِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَكِلَاهُمَا لَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، وَلَا يَرِقُّ لَهُ عَيْشٌ. وَمِنْ شِدَّةِ تَمَكُّنِّ الْغَيْرَةِ وَالْحِقْدِ فِي أَفْئِدَتِهِنَّ تَزْرَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي ضَمِيرِ وَلَدِهَا مَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَلَدِّ الْأَعْدَاءِ لِإِخْوَتِهِ أَوْلَادِ النِّسْوَةِ الْأُخْرَيَاتِ، فَإِنَّهَا دَائِمًا تَمْقُتُهُمْ، وَتَذْكُرُهُمْ بِالسُّوءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَتُبَيِّنُ لَهُ امْتِيَازَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ وَالِدِهِمْ، وَتُعَدِّدُ لَهُ وُجُوهَ الِامْتِيَازِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وَمَا شَابَهَهُ إِنْ أُلْقِيَ إِلَى الْوَلَدِ حَالَ الطُّفُولَةِ يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا لَا يَقْوَى عَلَى إِزَالَتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ، فَيَبْقَى نَفُورًا مِنْ أَخِيهِ عَدُوًّا لَهُ (لَا نَصِيرًا، وَظَهِيرًا لَهُ عَلَى اجْتِنَاءِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَخِ) . وَإِنْ تَطَاوَلَ وَاحِدٌ مِنْ وَلَدِ تِلْكَ عَلَى آخَرَ مِنْ وَلَدِ هَذِهِ - وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا لَفَظَ إِنْ كَانَ خَيْرًا، أَوْ شَرًّا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا - انْتَصَبَ سُوقُ الْعِرَاكِ بَيْنَ وَالِدَتَيْهِمَا، وَأَوْسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى بِمَا فِي وُسْعِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْفُحْشِ وَمُسْتَهْجَنَاتِ السَّبِّ - وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ فِي بُيُوتِ الْمُعْتَبَرِينَ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجِهَاتِ خُصُوصًا الرِّيفِيَّةَ، وَإِذَا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِطْفَاءُ الثَّوْرَةِ مِنْ بَيْنِهِنَّ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَلِينِ الْجَانِبِ ; إِذْ لَا يَسْمَعْنَ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَرْهَبْنَ مِنْهُ وَعِيدًا ; لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ، وَالْمُشَاجَرَاتِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَوْ غَيْرِهَا الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ، وَانْتِهَاكِ وَاجِبَاتِهِ عِنْدَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، أَحْمَقَ الطَّبْعِ، فَتَقُودُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ إِلَى فَضِّ هَذِهِ الْمُشَاجَرَةِ بِطَلَاقِهِنَّ جَمِيعًا، أَوْ بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ عِنْدَهُ أَقَلُّ مَنْزِلَةً فِي الْحُبِّ - وَلَوْ كَانَتْ أَمَّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ - فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَنْزِلِ سَائِلَةَ الدَّمْعِ، حَزِينَةَ الْخَاطِرِ، حَامِلَةً مِنَ الْأَطْفَالِ عَدِيدًا فَتَأْوِي بِهِمْ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَا يَمْضِي عَلَيْهَا بِضْعَةُ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ إِلَّا سَئِمَهَا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْأَوْلَادِ إِلَى أَبِيهِمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَتَهُ الْحَالِيَّةَ تُعَامِلُهُمْ بِأَسْوَأَ مِمَّا عُومِلُوا بِهِ مِنْ عَشِيرَةِ أَبِيهَا. وَلَا تَسَلْ عَنْ أُمِّ الْأَوْلَادِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ فَإِنَّ شَرْحَ مَا تُعَانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَاقَةِ وَذُلِّ النَّفْسِ لَيْسَ يُحْزِنُ

الْقَلْبَ بِأَقَلَّ مِنَ الْحُزْنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِمَا تُسَامُ بِهِ صِبْيَتُهَا مِنَ الطَّرْدِ، وَالتَّقْرِيعِ يَئِنُّونَ مِنَ الْجُوعِ، وَيَبْكُونَ مِنْ أَلَمِ الْمُعَامَلَةِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَلَّفَتِ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ مِنْهَا حَتَّى تُحْسِنَ تَرْبِيَتَهُمْ، وَعَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَضَانَةِ إِنْ خَرَجَتْ مِنْ عِلَّتِهَا وَتَزَوَّجَتْ. فَإِنَّ الزَّوْجَ وَإِنْ كَلَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يَرْضَخُ لِأَحْكَامِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُكَلِّفُهُ نَفَقَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَّا مُكْرَهًا مَجْبُورًا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِحَقِّهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ، إِمَّا لِبُعْدِ مَرْكَزِهِ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَتَتْرُكُ بَنِيهَا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مُدَّةَ أُسْبُوعٍ، أَوْ أُسْبُوعَيْنِ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ، وَرُبَّمَا آبَتْ إِلَيْهِمْ حَامِلَةً صَكًّا بِالْتِزَامِهِ بِالدَّفْعِ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ مَا أَوْجَبَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَوْ يَذْهَبُ بِالْعَوَزِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ مُصِرًّا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ; لِكَوْنِهِ مُتَحَقِّقًا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُخَاطِرَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْعَوْدَةِ لِلشِّكَايَةِ لِوَهْنِ قُوَاهَا، وَاشْتِغَالِهَا بِمَا يُذْهِبُ الْحَاجَةَ الْوَقْتِيَّةَ، أَوْ حَيَاءً مِنْ شِكَايَةِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْيَافِ يَعُدُّونَ مُطَالَبَةَ الْمَرْأَةِ بِنَفَقَتِهَا عَيْبًا فَظِيعًا، فَهِيَ تُفَضِّلُ الْبَقَاءَ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَتْعَابِ الشَّاقَّةِ طَلَبًا لِمَا تُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهَا هِيَ وَبَنِيهَا عَلَى الشِّكَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ لَهَا الْعَارَ، وَرُبَّمَا لَمْ تَأْتِ بِالثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ. وَغَيْرُ خَفِيٍّ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَرْأَةِ الْإِثْمَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمُعَانَاةَ الْبَلَايَا الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي أَقَلُّهَا ابْتِذَالُ مَاءِ الْوَجْهِ تُؤَثِّرُ فِي أَخْلَاقِهَا فَسَادًا، وَفِي طِبَاعِهَا قُبْحًا ; مِمَّا يَذْهَبُ بِكَمَالِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيرِهَا عِنْدَ الرَّاغِبِينَ فِي الزَّوَاجِ، وَلَرُبَّمَا أَدَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا مُدَّةَ شَبَابِهَا تَتَجَرَّعُ غُصَصَ الْفَاقَةِ، وَالذُّلِّ، وَإِنْ خَطَبَهَا رَجُلٌ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقَلَّ مَنْزِلَةً وَأَصْغَرَ قَدْرًا مِنْ بَعْلِهَا السَّابِقِ، أَوْ كَهْلًا قَلَّتْ رَغْبَةُ النِّسَاءِ فِيهِ، وَيَمْكُثُ زَمَنًا طَوِيلًا يُقَدِّمُ رِجْلًا، وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَائِلَةِ زَوْجِهَا السَّالِفِ ; فَإِنَّهَا تُبْغِضُ أَيَّ شَخْصٍ يُرِيدُ زَوَاجَ امْرَأَتِهِ وَتُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأَنَّ مُطَلِّقَهَا يُرِيدُ أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا إِلَى الْمَمَاتِ رَغْبَةً فِي نَكَالِهَا، وَإِسَاءَتِهَا إِنْ طَلَّقَهَا كَارِهًا لَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ طَلَاقُهَا نَاشِئًا عَنْ حَمَاقَةِ الرَّجُلِ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ أَدْنَى الْأَسْبَابِ، وَأَضْعَفِ الْمُقْتَضَيَاتِ - كَمَا هُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ الْآنَ - اشْتَدَّ حَنَقُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَيْهَا، وَتَمَنَّى لَوِ اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهَا، أَوْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ الِاقْتِرَانَ بِهَا. وَكَأَنِّي بِمَنْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، وَتِلْكَ الْمُعَاشَرَةَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ، وَأَدْنِيَائِهِمْ، وَأَمَّا ذَوُو الْمَقَامَاتِ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ فَلَا نُشَاهِدُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَالًا لُبَدًا عَلَى مُطَلَّقَاتِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ مِنْهَا، وَعَلَى نِسْوَتِهِمُ الْعَدِيدَاتِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَلَا ضَيْرَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الزَّوَاجِ إِلَى الْحَدِّ الْجَائِزِ، وَالطَّلَاقِ إِذَا أَرَادُوا، بَلِ الْأَجْمَلُ وَالْأَلْيَقُ بِهِمْ

اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَاعِدَةً لِلنَّهْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّبِيِّ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ خُصُوصًا وَآيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لَمْ تُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذًا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمَدْلُولِهَا مَا دَامَ الْكِتَابُ. نَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْمَقَالُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْكَثِيرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْيَسَارِ يَطْرُدُونَ نِسَاءَهُمْ مَعَ أَوْلَادِهِنَّ، فَتُرَبَّى أَوْلَادُهُنَّ عِنْدَ أَقْوَامٍ غَيْرِ عَشِيرَتِهِمْ لَا يَعْتَنُونَ بِشَأْنِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَكَثِيرًا مَا رَأَيْنَا الْآبَاءَ يَطْرُدُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَهُمْ كِبَارٌ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِمُ الْجَدِيدَاتِ، وَيُسِيئُونَ إِلَى النِّسَاءِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى تَزَوُّجِ ثَانِيَةٍ إِلَّا إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ بِالْأُولَى - وَهَذَا شَائِعٌ كَثِيرٌ - وَعَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ أَنَّ ذَوِي الْيَسَارِ قَائِمُونَ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ النَّفَقَاتِ لَا يُمْكِنُنَا إِلَّا أَنْ نَقُولَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ: إِنَّ إِنْفَاقَهُمْ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَوْفِيَةَ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ لَيْسَ عَلَى نِسْبَةٍ عَادِلَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ، فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَسْتَوِي مَعَ عَدَمِهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجَاتِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ كَمَا أَمَرَنَا بِهِ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ. فَإِذًا لَا تُمَيُّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا قَدِ ارْتَكَبَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ وَنَهَتْ عَنْهُ نَهْيًا شَدِيدًا، خُصُوصًا وَأَنَّ مَضَرَّاتِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَبْقَى فِي بَيْتِ الْغَنِيِّ سَنَةً، أَوْ سَنَتَيْنِ بَلْ ثَلَاثًا بَلْ خَمْسًا بَلْ عَشْرًا لَا يَقْرَبُهَا الزَّوْجُ خَشْيَةَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ (مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهَا مَيْلًا شَدِيدًا) ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ بَأْسِهِ فَتَضْطَرُّ إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ، وَبَقِيَّةُ الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى عَدَاوَةِ إِخْوَانِهِمْ بَلْ وَأَبِيهِمْ أَيْضًا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُكَابَرَةُ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ آثَارِهِ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ وَالنَّوَاحِي، وَتَطَايُرِ شَرِّهِ فِي أَكْثَرِ الْبِقَاعِ مِنْ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ الْمَشْرِقِيَّةِ. فَهَذِهِ مُعَامَلَةُ غَالِبِ النَّاسِ عِنْدَنَا مِنْ أَغْنِيَاءَ، وَفُقَرَاءَ فِي حَالَةِ التَّزَوُّجِ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ ; كَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ بَلِ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا لِصَرْفِ الشَّهْوَةِ، وَاسْتِحْصَالِ اللَّذَّةِ لَا غَيْرَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْقَصْدِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا تُجِيزُهُ الشَّرِيعَةُ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ. فَاللَّازِمُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعَدْلِ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ - عَمَلًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَأَمَّا آيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَبَصَّرُوا قَبْلَ طَلَبِ التَّعَدُّدِ فِي الزَّوْجَاتِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ

شَرْعًا مِنَ الْعَدْلِ، وَحِفْظِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَحِفْظِ النِّسَاءَ مِنَ الْغَوَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِنَّ إِلَى الْأَعْمَالِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ، وَلَا يَحْمِلُوهُنَّ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَبِأَوْلَادِهِمْ، وَلَا يُطَلِّقُوهُنَّ إِلَّا لِدَاعٍ وَمُقْتَضٍ شَرْعِيٍّ شَأْنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيُوَقِّرُونَ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى حُرُمَاتِ النِّسَاءِ، وَحُقُوقِهِنَّ، وَيُعَاشِرُونَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُفَارِقُونَهُنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلُ الْأَتْقِيَاءُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النِّسْوَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمُبَاحِ شَرْعًا، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَإِقْلِيمٍ لَكِنَّ أَعْمَالَهُمْ وَاضِحَةُ الظُّهُورِ تَسْتَوْجِبُ لَهُمُ الثَّنَاءَ الْعَمِيمَ، وَالشُّكْرَ الْجَزِيلَ، وَتُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللهِ الْعَادِلِ الْعَزِيزِ. انْتَهَى كَلَامُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ [4: 129] وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ التَّعَدُّدَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَخِلَافُ الْكَمَالِ، وَيُنَافِي سُكُونَ النَّفْسِ، وَالْمَوَدَّةَ، وَالرَّحْمَةَ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَاجِ مَنْ لَمْ يُقِمْهَا وَبَيْنَ ازْدِوَاجِ الْعَجْمَاوَاتِ، وَنَزَوَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ مَعَ الثِّقَةِ بِمَا اشْتَرَطَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - فِيهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَمَرْتَبَةُ الْعَدْلِ دُونَ مَرْتَبَةِ سُكُونِ النَّفْسِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُ إِلَّا ظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، وَامْرَأَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأُمَّتِهِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَأَمَّا حِكْمَةُ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهَا مَا هُوَ كَفَالَةُ بَعْضِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ، أَوْ عِلْمِيٌّ دِينِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فَتْوَى فِي ذَلِكَ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص699) وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ. (تَعَدُّدُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (س) مُصْطَفَى أَفَنْدِي رُشْدِي الْمِرْلِيُّ بِالزَّقَازِيقِ: مَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِمَّا أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ الشَّرِيفُ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فَمَا دُونَهَا وَتَعَيُّنُ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدْلِ؟ (ج) إِنَّ الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِسِيَاسَةٍ، وَمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ دُونَ سِنِّ الشَّبَابِ، وَرَاحَةِ الْبَالِ هِيَ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ، فَأَمَّا خَدِيجَةُ، وَهِيَ الزَّوْجُ الْأُولَى فَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا وَرَاءَ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ السُّؤَالِ. وَقَدْ عَقَدَ بَعْدَ وَفَاتِهَا عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ الْهَاجِرَاتِ لِأَهْلِيهِنَّ خَوْفَ

الْفِتْنَةِ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا (وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا) لَعَذَّبُوهَا وَفَتَنُوهَا فَكَفَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَافَأَهَا بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ. ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحِكْمَةِ فِي التَّزَوُّجِ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بِبَدْرٍ، وَهِيَ إِكْرَامُ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) ، وَإِقْرَارُ أَعْيُنِهِمَا بِهَذَا الشَّرَفِ الْعَظِيمِ، (كَمَا أَكْرَمَ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِبَنَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَصْحَابِهِ، وَأَخْلَصُهُمْ خِدْمَةً لِدِينِهِ) . وَأَمَّا التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْلُو كُلَّ حِكْمَةٍ، وَهِيَ إِبْطَالُ تِلْكَ الْبِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ لَاحِقَةً بِبِدْعَةِ التَّبَنِّي كَتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الْمُتَبَنَّى بَعْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ مَقَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدُهُمَا لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، فَلْيُرَاجِعْهُمَا السَّائِلُ هُنَاكَ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْحِكْمَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِجُوَيْرِيَةَ، وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَسَرُوا مِنْ قَوْمِهَا مِائَتَيْ بَيْتٍ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَسْرَى فَتَزَوَّجَ بِسَيِّدَتِهِمْ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْبَغِي أَسْرُهُمْ وَأَعْتَقُوهُمْ، فَأَسْلَمَ بَنُو الْمُصْطَلِقِ - لِذَلِكَ - أَجْمَعُونَ، وَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ فِي سَائِرِ الْعَرَبِ. وَقَبْلَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي (أُحُدٍ) ، وَحِكْمَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا يَدْعُونَهَا أُمَّ الْمَسَاكِينِ لِبِرِّهَا بِهِمْ، وَعِنَايَتِهَا بِشَأْنِهِمْ، فَكَافَأَهَا - عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى فَضَائِلِهَا بَعْدَ مُصَابِهَا بِزَوْجِهَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَدَعْهَا أَرْمَلَةً تُقَاسِي الذُّلَّ الَّذِي كَانَتْ تُجِيرُ مِنْهُ النَّاسَ، وَقَدْ مَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ. وَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ سَلَمَةَ (وَاسْمُهَا هِنْدٌ) وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا (عَبْدُ اللهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ أَسَدِ ابْنُ عَمَّةِ الرَّسُولِ بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَتُجِلُّهُ، حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خَطَبَاهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَلِي اللهَ أَنْ يَأْجُرَكِ فِي مُصِيبَتِكِ وَيُخْلِفَكِ خَيْرًا قَالَتْ: وَمَنْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَمِنْ هُنَا يَعْلَمُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ مِقْدَارَ مُصَابِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْفَاضِلَةِ بِزَوْجِهَا، وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا عَزَاءَ لَهَا عَنْهُ إِلَّا بِهِ، فَخَطَبَهَا فَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا مُسِنَّةٌ وَأُمُّ أَيْتَامٍ، فَأَحْسَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ - وَمَا كَانَ إِلَّا مُحْسِنًا - وَتَزَوَّجَ بِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ

الزَّوَاجَ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ الْمُبَاحِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لِفَضْلِهَا الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُتَأَمِّلُ بِجَوْدَةِ رَأْيِهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلِتَعْزِيَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا زَوَاجُهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ لَا تَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ عَرَفَ سِيرَتَهَا الشَّخْصِيَّةَ، وَعَرَفَ عَدَاوَةَ قَوْمِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَرَغْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، كَانَتْ رَمْلَةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَانْظُرُوا إِلَى إِسْلَامِ امْرَأَةٍ يُكَافِحُ أَبُوهَا بِقَوْمِهِ النَّبِيَّ وَيَتَنَصَّرُ زَوْجُهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي هِجْرَةٍ مَعْرُوفٍ سَبَبُهَا، أَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تُضَيَّعَ هَذِهِ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ بَيْنَ فِتْنَتَيْنِ؟ أَمْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَكْلُفَهَا مَنْ تَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ أَصْلَحُ لَهَا؟ كَذَلِكَ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي زَوَاجِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَخَذَهَا دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا سَيِّدَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَاسْتَحْسَنَ رَأْيَهُمْ، وَأَبَى أَنْ تُذَلَّ هَذِهِ السَّيِّدَةُ بِأَنْ تَكُونَ أَسِيرَةً عِنْدَ مَنْ تَرَاهُ دُونَهَا فَاصْطَفَاهَا، وَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَوَصَلَ سَبَبَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنْزِلُ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ. وَآخِرُ أَزْوَاجِهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ (وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَسَمَّاهَا مَيْمُونَةَ) ، وَالَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا الثَّانِي أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَزَوُّجِهِ بِهَا تَشَعُّبُ قَرَابَتِهَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَجُمْلَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعَى الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِيَارِ كُلِّ زَوْجٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ (عَلَيْهِنَّ الرِّضْوَانُ) فِي التَّشْرِيعِ، وَالتَّأْدِيبِ فَجَذَبَ إِلَيْهِ كِبَارَ الْقَبَائِلِ بِمُصَاهَرَتِهِمْ، وَعَلَّمَ أَتْبَاعَهُ احْتِرَامَ النِّسَاءِ وَإِكْرَامَ كَرَائِمِهِنَّ، وَالْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَقَرَّرَ الْأَحْكَامَ بِذَلِكَ، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ تِسْعَ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمْنَ نِسَاءَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمْنَهُ مِنَ النِّسَاءِ

دُونَ الرِّجَالِ، وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً فَقَطْ لَمَا كَانَتْ تُغْنِي فِي الْأُمَّةِ غِنَاءَ التِّسْعِ، وَلَوْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِتَعَدُّدِ الزَّوَاجِ مَا يُرِيدُهُ الْمُلُوكُ، وَالْأُمَرَاءُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ فَقَطْ لَاخْتَارَ حِسَانَ الْأَبْكَارِ عَلَى أُولَئِكَ الثَّيِّبَاتِ الْمُكْتَهِلَاتِ كَمَا قَالَ لِمَنِ اخْتَارَ ثَيِّبًا: هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّ أَسْرَارَ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا كُلِّهَا أَفْكَارُ مِثْلِنَا اهـ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعَةً مِنْهُنَّ، وَيُسَرِّحَ الْأُخْرَيَاتِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُنَّ يُمْسِكُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ أَوَّلًا إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَأْثُورُ فِي كُتُبِ السُّنَنِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا - وَفِي لَفْظٍ آخَرَ - أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسَدِيِّ حِينَ أَسْلَمَا، وَكَانَ عِنْدَ الْأَوَّلِ خَمْسٌ، وَعِنْدَ الثَّانِي ثَمَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَالثِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِنَّ هُوَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا لِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، بَلْ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَذِكْرُ الْأَرْبَعِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْخَمْسِ فَأَكْثَرَ، فَلَمَّا حَتَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَلَّا يُمْسِكُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَاحْتِمَالِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأُصُولِ قَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَهِيَ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُجَوِّزُونَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ - كَبَعْضِ الشِّيعَةِ - بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِمُفَارَقَةِ مَا زَادَ عَنِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُنَّ كَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ الذَّاتِيِّ كَالنَّسَبِ الْقَرِيبِ وَالرَّضَاعِ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ فِي الِاحْتِمَالِ لَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ أَرْبَعًا أَوْ أَمْسِكْ أَرْبَعًا، فَالِاخْتِيَارُ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ أَرْبَعٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَأْبَى مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ لَا يَتِمُّ مَعَ مُخَالَفَةِ الشِّيعَةِ فِي ذَلِكَ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ; لِأَنَّ الرِّقَّ خِلَافُ مَقْصِدِ الشَّرْعِ

وَخِلَافُ الْأَصْلِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مُخَاطَبَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْأَزْوَاجِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ. وَمِنْهَا: أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لِلْوُجُوبِ، فَالزَّوَاجُ وَاجِبٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ أَعْظَمَ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا دِينُ الْفِطْرَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ (مَا) عَلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ إِرَادَةُ الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا أَيَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِنَّ مِنَ الثَّيِّبَاتِ وَالْأَبْكَارِ وَذَوَاتِ الْجَمَالِ وَذَوَاتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ كَلِمَةُ " مَا " أَوْ تَغْلِبُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الْوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ فَأُنْزِلْنَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَأْبَاهُ هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ تَكْرِيمُهُنَّ، وَحِفْظُ حُقُوقِهِنَّ، وَحُرِّمَ فِيهِ ظُلْمُهُنَّ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي. وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَاحِدَةَ يَطْلُبُ فِي نِكَاحِهَا الْعَدْلَ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي مُعَامَلَتِهَا لَجَأَ إِلَى التَّسَرِّي، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْجَمَاهِيرُ الْعَجْزَ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا فِي التَّسَرِّي بِهَا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [4: 25] الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ يُرَجِّحُ كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِنَّ لَا أَنَّ حُكْمَ تَعَدُّدِهِنَّ فِي الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ عَرَضًا وَتَبَعًا لِأَحْكَامِ الْيَتَامَى مِنْهُنَّ، أَيْ وَأَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي تَعْقِدُونَ عَلَيْهِنَّ مُهُورَهُنَّ نِحْلَةً، أَيْ عَطَاءَ نِحْلَةٍ، أَيْ فَرِيضَةً لَازِمَةً عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيحٍ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً، وَقِيلَ: دِيَانَةً مِنَ النِّحْلَةِ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّحْلَةَ: الْمَهْرُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ النِّحْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْحُلُهُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطِيهِ هِبَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِدُونِ مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا. قَالَ: الصَّدُقَاتُ: جَمْعُ صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفِيهِ لُغَاتٌ، مِنْهَا الصَّدَاقُ: وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْعَطَاءِ مَعْنَى أَعْلَى مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَاحَظَهُ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالْمَهْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْبِضْعِ، وَالثَّمَنِ لَهُ، كَلَّا إِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَعْلَى، وَأَشْرَفُ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَفَرَسِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ،

وَلِذَلِكَ قَالَ: نِحْلَةً فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَصِلَةِ الْقُرْبَى، وَتَوْثِيقِ عُرَى الْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ حَتْمٍ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَتَرَى عُرْفَ النَّاسِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْعَطَاءِ بَلْ يَشْفَعُهُ الزَّوْجُ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ. أَقُولُ: الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِلْأَزْوَاجِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ الْيَتَامَى، وَغَيْرَ الْيَتَامَى، وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُعْطُوهُنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ مُهُورِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُنَّ، وَكَانَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُهَا وَيَأْخُذُ صَدَاقَهَا لِنَفْسِهِ دُونَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلَ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أُخْتَهُ فَلَا يُصِيبُ الْأُخْتَيْنِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ جُمْلَةً، فَالزَّوْجُ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا إِذَا هُوَ قَبَضَهُ مِنَ الزَّوْجِ بِاسْمِهَا إِلَّا أَنْ تَسْمَحَ هِيَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ بِرِضَاهَا، وَاخْتِيَارِهَا، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ إِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِإِعْطَائِكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ وَلَوْ كُلَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُ) لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهُ كُلِّهِ، وَلَا أَخْذُهُ إِنْ هِيَ وَهَبَتْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ اللَّيْثُ. فَأَعْطَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا إِلْجَاءٍ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَا إِخْجَالٍ بِالْخِلَابَةِ وَالْخُدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ - فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، مِنْ هَنُوءِ الطَّعَامِ وَمَرُوئِهِ إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا غَصَصَ فِيهِ، وَلَا تَنْغِيصَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا تَجْمُلُ عَاقِبَتُهُ كَأَنْ يَسْهُلَ هَضْمُهُ، وَتَحْسُنَ تَغْذِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ - رَاجِعْ ص160 ج2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]- وَبِكَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهَا طَيِّبَةٌ بِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَمَلَهَا الْخَجَلُ أَوِ الْخَوْفُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ. وَعَلَامَاتُ الرِّضَا، وَطِيبِ النَّفْسِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الصَّالِحِينَ الْمُتَحَلَّوْنَ بِعُقُودِ السِّبَحِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ شِفَاهَهُمْ وَيَلُوكُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ ذِكْرًا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَيْنَهَا، أَوْ أَجَزْنَ أَخْذَهَا بِالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوِ الْخَجَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُنَّ أَعْطَيْنَنَا، وَلَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [4: 20] فَإِذَا شَدَّدَ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي طَوْرِ الْمُفَارَقَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَوْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ؟ .

أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ طَوْرَ الْمُفَارَقَةِ هُوَ طَوْرُ مُغَاضَبَةٍ، فَفِي الطَّبْعِ دَاعِيَةٌ لِلْمُشَاحَّةِ فِيهِ، وَأَمَّا طَوْرُ عَقْدِ الْمُصَاهَرَةِ فَهُوَ طَوْرُ الرَّغْبَةِ، وَالتَّحَبُّبِ، وَإِظْهَارِ الزَّوْجِ أَهْلِيَّتَهُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كَفَالَةِ الْمَرْأَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ حُبُّ الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَلَى الْعَوَاطِفِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَحُبِّ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَقْوَامُهُمَا يُمَاكِسُونَ فِي الْمَهْرِ كَمَا يُمَاكِسُونَ فِي سِلَعِ التِّجَارَةِ وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ بَاطِنَ الْمَرْأَةِ فِيهَا مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَيَدَّعِي الْأَخْذَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ (فَإِنْ أَعْطَيْنَكُمْ) حَتَّى يُقَالَ حَصَلَ الْعَطَاءُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا نَاطَ الْحِلَّ بِطِيبِ نُفُوسِهِنَّ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طِيبُ النَّفْسِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ لَمَا نَاطَ - سُبْحَانَهُ - الْحُكْمَ بِهِ، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ: إِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ أَكْلِ مَا تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَعْطَتْ مَا أَعْطَتْ كَارِهَةً أَوْ مُكْرَهَةً لِمَا اتَّخَذْتُمُوهُ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَكَيْفَ تُخَادِعُونَ رَبَّكُمْ وَتُكَابِرُونَ أَنْفُسَكُمْ؟ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا الْمُفْرَدَاتُ: (السَّفُهَاءُ) جَمْعُ سَفِيهٍ مِنَ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ هُوَ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، وَالْفِكْرِ، أَوِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهُ الِاضْطِرَابُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ. وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.

ثُمَّ جَعْلُ السَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ السُّفَهَاءِ هُنَا، وَمَثَّلَ لِلسَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا [72: 4] . فَالسُّفَهَاءُ هُنَا هُمُ الْمُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَيُسِيئُونَ التَّصَرُّفَ بِإِنْمَائِهَا وَتَثْمِيرِهَا - قِيَامًا تَقُومُ بِهَا أُمُورُ مَعَايِشِكُمْ فَتَحُولُ دُونَ وُقُوعِكُمْ فِي الْفَقْرِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ (قِيَمًا) ، وَهُوَ بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا يَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ الْقِيَامَ وَالْقِوَامُ: اسْمٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ يَثْبُتُ، كَالْعِمَادِ، وَالسِّنَادِ لِمَا يَعْمِدُ بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَفُسِّرَتْ فِي الْكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: أَيْ تَقُومُونَ بِهَا، وَتَتَعَيَّشُونَ، وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ قَالَ: وَقُرِئَ (قِيَمًا) بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا جَاءَ عِوَذًا بِمَعْنَى عِيَاذًا - وَارْزُقُوهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ مِنَ الشَّيْءِ، وَقَدْ يُخَصُّ بِالطَّعَامِ، قِيلَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا لِمُقَابَلَتِهِ بِالْكِسْوَةِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْمُرْضِعَاتِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [2: 233] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَعَمُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَعْنَاهُ أَبْصَرْتُمْ مِنْهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرُّشْدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا إِبْصَارَ إِينَاسٍ، وَهُوَ الِاسْتِيضَاحُ، وَاسْتَعْبَرَ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالْحِفْظُ لِلْمَالِ إِسْرَافًا وَبِدَارًا مَصْدَرَانِ لِـ أَسْرَفَ وَبَادَرَ، فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَمْوَالِ، وَيُقَابِلُهُ الْقَتْرُ، وَهُوَ النَّقْصُ فِي النَّفَقَةِ عَمَّا يَنْبَغِي، قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [20: 67] يُقَالُ: قَتَرَ - يَقْتُرُ بِوَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ، وَقَتَّرَ يُقَتِّرُ - بِالتَّشْدِيدِ - وَالْقَوَامُ كَالْقِيَامِ: هُوَ الْقَصْدُ بَيْنَهُمَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَتَثْبُتُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبِدَارُ: الْمُبَادَرَةُ أَيِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: بَادَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَبَدَرْتُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ كِبَرُهُمْ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: كَبِرَ يَكْبَرُ - بِوَزْنِ عَلِمَ يَعْلَمُ، إِذَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَأَمَّا كَبُرَ يَكْبُرُ - بِضَمِّ الْبَاءِ - فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، فَهُوَ كَعَظُمَ يَعْظُمُ حِسًّا، أَوْ مَعْنًى فَلْيَسْتَعْفِفْ فَلْيَعِفَّ مُبَالِغًا فِي الْعِفَّةِ، أَوْ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِالْعِفَّةِ وَيَحْمِلْهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَطَلَبُهَا يَكُونُ بِالتَّعَفُّفِ وَهُوَ تَكَلُّفُ الْعِفَّةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، حَتَّى تَسْتَحْكِمَ الْمَلَكَةُ فِي النَّفْسِ بِالتَّكْرَارِ، وَالْمُمَارَسَةِ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ، وَالْمَلَكَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ. الْمَعْنَى: اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ هُنَا. فَقِيلَ: هُمُ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءُ. وَقِيلَ: النِّسَاءُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفِيهٍ مِنْ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، وَذَكَرٍ، وَأُنْثَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لِيَشْمَلَ النَّهْيُ كُلَّ مَالٍ يُعْطَى لِأَيِّ سَفِيهٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [2: 188]- ص157 ج 2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ

السَّابِقَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِإِيتَاءِ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ أَيْ مُهُورِهِنَّ، وَأَتَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا بِشَرْطٍ لِلْإِيتَاءِ يَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ ; أَيْ أَعْطُوا كُلَّ يَتِيمٍ مَالَهُ إِذَا بَلَغَ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ صَدَاقَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ تُعْطُوهُ إِيَّاهُ لِئَلَّا يُضَيِّعَهُ، وَيَجِبُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَهُ، أَوْ يَرْشُدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَمْوَالَكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْمَالَ لِلسُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا ضَاعَ هَذَا الْمَالُ وَلَمْ يَبْقَ لِلسَّفِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ إِضَاعَةُ مَالِ السَّفِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ، فَكَأَنَّ مَالَهُ عَيْنُ مَالِهِ. ثَانِيهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ إِذَا رَشَدُوا وَأَمْوَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ، وَتَصَرَّفُوا فِيهَا تَصَرُّفَ الرَّاشِدِينَ، وَأَنْفَقُوا مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّهُ يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ حَظٌّ مِنْهَا. ثَالِثًا: التَّكَافُلُ فِي الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنُ مُصْلَحَةِ الْآخَرِينَ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَذَهَبَ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ - وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ - وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُخَاطَبِينَ الصِّغَارُ إِلَّا لِحَيْرَتِهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوَالَكُمُ وَقَوْلِهِ: لَكُمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ النُّكْتَةِ لَهُ فِي إِيثَارِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. أَقُولُ: وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِجَوَابَيْنِ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بَلْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، قَالَ: وَيَكْفِي لِحُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْجَلَالُ. ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [9: 128] وَقَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4: 25] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [2: 54] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [2: 85] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَكَانَ الْكُلُّ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ اهـ. أَقُولُ: وَهَذَا أَوْسَعُ مِمَّا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي النَّوْعِ

كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْمِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ اتَّحَدَتْ مَصَالِحُهُمْ بِمَصَالِحِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي النَّظَائِرِ، وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلٍ، أَيْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي النَّوْعِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ لَهَا مِلَّةٌ تَرْتَبِطُ بِهَا مَصَالِحُهُمْ فَخَالَفُوهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ لِتَكَافُلِهِمْ بِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الذَّنْبِ، وَعَدَمِ التَّنَاهِي عَنْهُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ لَمَا كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْأَمْرِ، وَلَمَا قِيلَ لَهُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَالرَّاجِحُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتِ الْبَعْثَةُ عَامَّةً كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي تَكْلِيفِهِمُ اتِّبَاعَهُ وَفِي كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ. فَلَا بُدَّ فِي إِقَامَةِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، أَوِ الْقَوْمِيَّةِ، أَوِ الْأَهْلِيَّةِ مَقَامَ الْوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ اشْتِرَاكِ أَفْرَادِ النَّوْعِ، أَوِ الْقَوْمِ، أَوِ الْأَهْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَوْجِيهِ إِسْنَادِ مَا فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ السَّلَفِ فِي الْخَلَفِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الْوَحْدَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ وَحْدَةَ الْقَرَابَةِ وَالْكَفَالَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْوَحْدَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي قَالَ بِهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَكَانَ الْمَعْنَى أَظْهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ فِي الْأَمْوَالِ مُطَّرِدٌ تَظْهَرُ فِيهِ الْوَحْدَةُ دَائِمًا، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ جَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتَكَافُلِهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَظَائِرِهَا الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرِدَاتِ مَعْنَى جَعْلِ الْأَمْوَالِ قِيَامًا لِلنَّاسِ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَيَبْلُغَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ، وَبَيَانِ فَائِدَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ السُّفَهَاءِ، وَبَيَانِ غَائِلَتِهِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنَافِعَكُمْ وَمَرَافِقَكُمُ الْخَاصَّةَ وَمَصَالِحَكُمُ الْعَامَّةَ لَا تَزَالُ قَائِمَةً ثَابِتَةً مَا دَامَتْ أَمْوَالُكُمْ فِي أَيْدِي الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَصِدِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَثْمِيرَهَا وَتَوْفِيرَهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ الْمَصْلَحَةِ فِي إِنْفَاقِ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحُدُودَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالْمَعْقُولَةَ يَتَدَاعَى مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ سَالِمًا، وَيَسْقُطُ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَائِمًا، فَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأَمْوَالِ كَالْأُمُورِ كُلِّهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25: 67] فَهَذِهِ الْآيَةُ شَارِحَةٌ لِلَّفْظِ قِيَامًا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ نَهَانَا الْقُرْآنُ عَنِ التَّبْذِيرِ حَتَّى فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ الْمُؤَكَّدِ وَجَعَلَ الْمُبَذِّرَ كَالشَّيْطَانِ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُتَوَسِّعِ فِي النَّفَقَةِ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ كَمَا فِي آيَاتِ 26 - 29 مِنَ السُّورَةِ 17 (الْإِسْرَاءِ) . وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ "، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ "، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: " مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ " إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ "، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا. فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟ وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى " (19: 23) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [24] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ "، وَيَقُولَ كَمَا فِي (6: 24) مِنْهُ: " لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [25] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ " إلخ. وَفِي (10: 9) مِنْهُ: " لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " - مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.

وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَدَنِيَّةً إِسْلَامِيَّةً مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا خَالَفَهُ جَمَاهِيرُنَا فِي أَكْثَرِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى مَدَنِيَّتُهُمْ مَدَنِيَّةً مَسِيحِيَّةً مَعَ بِنَاءِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَبُغْضِ الْمَالِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَهُمْ لَهَا مُخَالِفُونَ، وَعَنْهَا مُعْرِضُونَ! ! ! أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ! وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا ... أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا تُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ حَتَّى صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ جَمِيعِ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِدْرَارُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ عَلَى عُلَمَاءِ الدِّينِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ " الصَّالِحِينَ "، فَهُمْ يَأْكُلُونَ مَالَ الْأُمَّةِ بِدِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهَا بِقَبُولِهِ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا

السُّفَهَاءَ بِأَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ مَعًا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلُوا إِضَافَةَ أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَقَالُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وِلْدَانَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُبَذِّرُوهَا، وَيُتْلِفُوهَا، وَهِيَ قِيَامُكُمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ مَعَاشِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَوَلَّوْا أَنْتُمْ إِصْلَاحَهَا، وَتَثْمِيرَهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا فِي طَعَامِهِمْ، وَكِسْوَتِهِمْ، فَهِيَ فِي وُجُوبِ إِنْفَاقِ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ الْكَسْبَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّفَهَاءِ عَامَّةً، وَفِي حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْكُمْ حِفْظُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَتَثْمِيرُهَا حَتَّى كَأَنَّهَا - بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَبِارْتِبَاطِ مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا بِمَصَالِحِكُمْ، وَبِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَالْعَشِيرَةِ وَوَحْدَتِهَا - أَمْوَالُكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَتُقَدِّمُوا لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَامٌّ فِي أَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ، وَالْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظَ أَمْوَالِكُمْ عَامٌّ فِيمَا هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَمَا هُوَ لِلسُّفَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - وَقُلْنَا إِنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - جَعَلُوا مَعْنَاهَا شَامِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مَالِ نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَحُوا ; حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ اهـ. أَيْ إِنَّ مَا يُنْفَقُ مِنْ أَصْلِهِ، وَصُلْبِهِ يَنْقُصُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَتَبِعَ الْكَشَّافَ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّزْقُ يَعُمُّ وُجُوهَ الْإِنْفَاقِ كُلَّهَا كَالْأَكْلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْكِسْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاكْسُوهُمْ فَخَصَّ الْكِسْوَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِيهَا أَحْيَانًا، وَتَخْصِيصُ (الْجَلَالِ) - أَيْ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ - الرِّزْقَ بِالْإِطْعَامِ لَا يَصِحُّ اهـ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ النَّفَقَاتِ الْمُرَتَّبَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُسَمَّى رِزْقًا، وَهُوَ مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ هُوَ جَعْلُهُمُ الرِّزْقَ هُنَا شَامِلًا لِأَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ دُونَ الْإِيوَاءِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، نَقَلَهُ الرَّازِيُّ، عَنِ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَعْدُ الْجَمِيلُ لِلسَّفِيهِ بِإِعْطَائِهِ مَالَهُ عِنْدَ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: بَلْ وَعْدُهُ بِزِيَادَةِ الْإِدْرَارِ عَلَيْهِ وَالتَّوْسِعَةِ عِنْدَ زِيَادَةِ رِبْحِ الْمَالِ وَغَلَبَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ. وَفَصَّلَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا (أَيْ صَغِيرًا وَلَوْ أُنْثَى)

فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا، وَعَظَهُ، وَنَصَحَهُ، وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ الْفَقْرُ، وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَأْلَفُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ وَتَمُجُّهُ. فَالْمَعْرُوفُ هُنَا: يَشْمَلُ تَطْيِيبَ الْقُلُوبِ بِإِفْهَامِ السَّفِيهِ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَيَشْمَلُ النُّصْحَ، وَالْإِرْشَادَ، وَتَعْلِيمَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ، وَمَا يَعُدُّهُ لِلرُّشْدِ، فَإِنَّ السَّفَهَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عَارِضًا لِلشَّخْصِ لَا فِطْرِيًّا، فَإِذَا عُولِجَ بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا. أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ. وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ

الِاقْتِصَادِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَتَدْبِيرِ الثَّرْوَةِ أَجَابُوكَ أَحْسَنَ جَوَابٍ مَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّجَارِبِ، وَإِنْعَامِ النَّظَرِ، ثُمَّ هُمْ يُسَفَّهُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَيُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ تَبْذِيرًا يُسَارِعُونَ فِيهِ إِلَى الْفَقْرِ، أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلًا تَرَكَ لَهُ وَالِدُهُ ثَرْوَةً قُدِّرَتْ قِيمَتُهَا بِمِلْيُونِ جُنَيْهٍ (أَيْ بِأَلْفِ أَلْفِ جُنَيْهٍ) فَأَتْلَفَهَا بِإِسْرَافِهِ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ إِعَانَةً مِنَ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ! ! قَالَ: فَالرَّأْيُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ، وَأَصْوَبُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَمْنُوعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّشْدِ هُوَ إِعْطَاءُ الْيَتِيمِ مَالَهُ كُلَّهُ لِيَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ طَائِفَةً مِنْهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ الْوَلِيِّ ابْتِلَاءً وَاخْتِيَارًا لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ بَلْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ: وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ ابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَى ابْتِدَاءِ الْبُلُوغِ، وَكَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لِلْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَالَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي الْإِعْرَابِ، فَسَمَّوُا الْأُولَى الِابْتِدَائِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي لَا تَجُرُّ الْمُفْرَدَ، وَسَمَّوُا الثَّانِيَةَ الْجَارَّةَ وَهِيَ الَّتِي تَجُرُّ الْمُفْرَدَ. وَالْغَايَةُ فِي الْأُولَى هِيَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيِ ابْتَلُوهُمْ إِلَى ابْتِدَاءِ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُونَ فِيهِ سِنَّ النِّكَاحِ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَى الِابْتِلَاءِ إِلَى أَنْ تَأْنَسُوا مِنْهُمُ الرُّشْدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْطَى مَالَهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ، وَجُمْلَةُ فَإِنْ آنَسْتُمْ جَوَابُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا. أَقُولُ: إِنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْمَرْءُ مُسْتَعِدًّا لِلزَّوَاجِ، وَهُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ، فَفِي هَذِهِ السِّنِّ تُطَالِبُهُ بِأَهَمِّ سُنَنِهَا وَهِيَ سُنَّةُ الْإِنْتَاجِ، وَالنَّسْلِ فَتَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجًا، وَأَبًا وَرَبَّ بَيْتٍ وَرَئِيسَ عَشِيرَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَهُ إِلَّا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ إِيتَاؤُهُ مَالَهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا، وَخِيفَ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ فَيَعْجِزُ عَمَّا تُطَالِبُهُ بِهِ الْفِطْرَةُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي هَذِهِ السِّنِّ يُكَلَّفُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، فَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ فِيهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ صِحَّةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِهِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا خَاصَّةً، وَقَدْ يُرَادُ أَمْرُ الدِّينِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي دِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، لِأَنَّ الرُّشْدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا أَمْرَ الدُّنْيَا. وَقَدْ يُقَالُ إِذَا كَانَ فَسِقُهُ مِمَّا يَتَنَاوَلُ الْأُمُورَ الْمَالِيَّةَ كَمَنْعِ الْحُقُوقِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ بِالْإِسْرَافِ فِي الْخُمُورِ، وَالْفُجُورِ وَجَبَ الْحَجْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ خَاصَّةً كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ. نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخِلَافَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: هُوَ الْعَقْلُ، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ حُسْنُ الْحَالِ

وَالصَّلَاحُ فِي الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِمَعْنَى الرُّشْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَقْلُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ ; لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَحَوْزَ مَا فِي يَدِهِ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينِهِ - إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ. وَتَنْكِيرُ الرُّشْدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَهُوَ لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنَ الرُّشْدِ يُنَافِي الْإِسْرَافَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَا. وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى مُسْرِفِينَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهَا، وَلَا مُبَادِرِينَ كِبَرَهُمْ إِلَيْهَا، أَيْ مُسَابِقِينَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَتَكُونُوا طَالِبِينَ لِأَكْلِ هَذَا الْمَالِ كَمَا يَطْلُبُهُ كِبَرُ سِنِّ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي يَظْفَرُ بِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا هُوَ كَالْأَمْرِ قَبْلَهُ تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ النَّاهِيَةِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ قَيَّدَ النَّهْيَ هُنَا بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ صَرْفُ مَالِ الْيَتِيمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَلَوْ عَلَى الْيَتِيمِ نَفْسِهِ. وَسَمَّى هَذَا أَكْلًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ، وَالْأَكْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِضَاعَةِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ ضَمَّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ لَا يُسَمَّى إِسْرَافًا، وَقَيَّدَهُ أَيْضًا بِالْبِدَارِ وَالْمُسَابَقَةِ لِكِبَرِ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الضَّعِيفَ الذِّمَّةِ يَسْتَعْجِلُ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ لِئَلَّا تَفُوتَهُ إِذَا كَبِرَ الْيَتِيمُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَهَاتَانِ الْحَالَانِ: الْإِسْرَافُ وَبِدَارٌ وَمُسَابَقَةُ كِبَرِ الْيَتِيمِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ، هُمَا مِنْ مَوَاضِعِ الضَّعْفِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمَا، وَنَهَى عَنْهُمَا لِيُرَاقِبَ الْوَلِيُّ رَبَّهُ فِيهِمَا إِذَا عَرَضَتَا لَهُ. أَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمَا يَرَى أَنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَمُخَادَعَةُ النَّفْسِ لِلْإِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَخَفَاءِ وِجْهِ مَنْفَعَةِ الْوَلِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا كَانَ مَوْضِعَ خِلَافٍ، وَخَفَاءٍ لَا يُنْكِرُهُ، وَلَا يَنْتَقِدُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ يَسْهُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ مَا فَعَلَهُ الْوَلِيُّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وُضِعَ فِي مَحَلِّهِ، وَعُمِلَ فِي وَقْتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ تَغُشُّ الْوَلِيَّ فِيهِ نَفْسُهُ حَتَّى يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْبَاطِنِ، وَيَكْتَفِي بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ أَحَدٌ مِرَاءً ظَاهِرًا تَتَّضِحُ فِيهِ خِيَانَتُهُ ; فَلِأَجْلِ هَذَا، وَذَاكَ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الْأَلْبَابِ. أَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مُبَادَرَةٍ خَوْفَ أَخْذِهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِنِ - فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَلْيَعِفَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لِيُطَالِبْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْهَا عَلَى الْعَفِّ عَنْهُ نَزَاهَةً وَشَرَفَ

نَفْسٍ. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَصْرِفُ بَعْضَ وَقْتِهِ، أَوْ كُلَّهُ فِي تَثْمِيرِهِ، وَحِفْظِهِ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَلَا يَسْتَنْكِرُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ، وَالْفَضْلِ، وَلَا يَعُدُّونَهُ طَمَعًا، وَلَا خِيَانَةً. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ بِهِ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ فَقِيلَ: هُوَ الْقَرْضُ يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَعِبَارَةُ الْأَخِيرِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَسْتَقْرِضْ مِنْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ ; وَهُوَ يَعْنِي وَلِيَّهُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ فِي الْأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَدُكَ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ. أَيْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَالِ كَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ كَقَدْرِ خِدْمَتِهِ وَقَدْرِ عَمَلِهِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقَرْضُ وَالْأُجْرَةُ، وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا غَوْصٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَعَاتِيهِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَكْلِ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَدْ يَظْهَرُ فِي الْأُجْرَةِ. وَأَقُولُ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنِّي وَلِيُّ يَتِيمٍ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَتِيمَ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْوَلِيِّ كَوَلَدِهِ وَالْخَيْرُ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ الْوَلِيُّ هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْمُؤَاكَلَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَنِيًّا، وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي مَالِهِ كَانَ الْيَتِيمُ هُوَ الرَّابِحُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصْرَفُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ

إِصَابَةِ بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الْغَنِيِّ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَثَمَرِهِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ غَيْرَ مُصِيبٍ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا، وَلَا مُتَأَثِّلٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَقَارًا، وَلَا مَالًا آخَرَ، وَلَا مُسْتَخْدِمًا مَالَهُ فِي مَصَالِحِهِ وَمَرَافِقِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ آكِلًا بِالْمَعْرُوفِ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [2: 220] فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ [ص271 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَيْ لِيُعْرَفَ أَمْرُ رُشْدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَلِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِكُمْ وَلِتُحْسَمَ مَادَّةُ النِّزَاعِ بَيْنَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَفَعَ إِلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ (أَيْ عِنْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ) فَلْيَدْفَعْهُ إِلَيْهِ بِالشُّهُودِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -. وَهَذَا الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ وُجُوبٍ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَارَّةَ كُلَّهَا لِلْإِيجَابِ الْقَطْعِيِّ، وَالنَّوَاهِيَ كُلَّهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِثْلُ مَا سَبَقَهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنَّ النَّاسَ تَهَاوَنُوا بِأَمْرِ الْإِشْهَادِ وَأَهْمَلُوهُ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْفُقَهَاءِ التَّأْوِيلَ، وَرَأَوْهُ أَوْلَى مِنْ تَأْثِيمِ النَّاسِ وَجَعْلِ أَكْثَرِهِمْ مُخَالِفِينَ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّ الْإِشْهَادَ حَتْمٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّقَاضِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَنٍ مَا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الدِّينِ اسْتِمْسَاكًا عَامًّا، وَكَانَ الْيَتَامَى يُحْسِنُونَ الظَّنَّ فِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَتَّهِمُونَهُمْ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ مُحَتَّمًا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ هَذَا. أَفَلَيْسَ هَذَا الزَّمَنُ الْمَعْلُومُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ الزَّمَنِ الْمَجْهُولِ مُخَالَفَةً تَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِشْهَادُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِقَطْعِ عِرْقِ الْخِصَامِ وَنُزُوعِ النَّفْسِ إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُشَاغَبَةِ؟ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا أَيْ وَكَفَى بِاللهِ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ وَشَهِيدًا يُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا أَظْهَرْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ، أَوْ كَفَى بِاللهِ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ. الْحَسْبُ (بِسُكُونِ السِّينِ) فِي الْأَصْلِ: الْكِفَايَةُ، وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ الْحَسِيبَ: بِالرَّقِيبِ، وَفَسَّرَهُ السُّدِّيُّ: بِالشَّهِيدِ، فَهَلْ هَذَانِ مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ أَمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَسِيبُ: هُوَ الْمُرَاقِبُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ النِّزَاعِ لِيَدُلَّنَا عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ - وَإِنْ حَصَلَ، وَكَانَ يُسْقِطُ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي بِالْمَالِ - لَا يُسْقِطُ الْحَقَّ

عِنْدَ اللهِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ خَائِنًا ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ وَالْحُكَّامِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْصِيَاءَ الْخُبَثَاءَ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ فِي ذَلِكَ قَطُّ ; فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمُ الْخِيَانَةُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالسُّفَهَاءِ وَالْأَوْقَافِ بِالْحِيَلِ حَتَّى إِنَّهُ يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ عَشَرَةُ أَشْخَاصٍ يَصْلُحُونَ لِلْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ، أَوِ السَّفِيهِ، وَالْوَقْفِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ كَالْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ. فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِاخْتِبَارِ الْيَتِيمِ، وَدَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ رُشْدَهُ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِطُرُقِ الْإِسْرَافِ وَمُبَادَرَةِ كِبَرِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - الَّتِي تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللهِ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى كَفَى اللهُ حَسِيبًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالْبَاءَ حَرْفُ جَرٍّ أَصْلِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا - أَوْ قَالَ قَعَّدُوهَا - وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِهَا، فَلَهَا مَعْنًى فِي الْكَلَامِ كَيْفَمَا أُعْرِبَتْ، وَإِنَّ (كَفَى) فِعْلٌ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَالْجَارَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَشَدُّ مَنْ يُرَاقِبُ وَيُحَاسِبُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ الْبَلَاغَةِ الْمَسْمُوعَةِ الَّتِي لَا تُحْتَذَى، وَلَا يُؤْتَى بِمِثْلٍ لَهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ النَّادِرِ مِثْلُهَا فِي حُسْنِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ الدَّائِرِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْفَهَاهَةِ عَلَى السَّوَاءِ. أَقُولُ: وَيَحْسُنُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا قَالَهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ النَّحْوِيَّةَ، وَنَحْوَهَا (كَقَوَاعِدِ الْبَيَانِ) ، وُضِعَتْ بَعْدَ وَضْعِ اللُّغَةِ لَا قَبْلَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً شَامِلَةً لِكُلِّ كَلَامٍ. وَلَكِنَّ النُّحَاةَ حَاوَلُوا إِدْخَالَ كُلِّ الْكَلَامِ فِي قَوَاعِدِهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ النَّادِرِ الِاسْتِعْمَالِ: إِنَّهُ وَرَدَ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي وَضَعْنَاهَا فَهُوَ نَظْمٌ سَمَاعِيٌّ يُحْفَظُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ الشَّائِعِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الْقَوَاعِدُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَاذٌّ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ بُلَدَاءِ الْأَعْرَابِ لَا حُسْنَ فِيهِ، وَقِسْمٌ كَالدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَحْسَنُ تَأْثِيرٍ فِي الْكَلَامِ، وَيُوجَدُ كُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلِّ لُغَةٍ، وَمَا يُوجَدُ مِنْهُ فِي كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَعْلَاهُ، وَأَبْلَغُهُ.

7

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا الْمُفْرَدَاتُ: وَلْيَخْشَ أَمْرٌ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَعَاجِمِ الْخَوْفُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [35: 28] . وَأَقُولُ: إِنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَظْهَرُ فِي كُلِّ الشَّوَاهِدِ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَنْتَرَةَ خَوْفٌ مَشُوبٌ بِتَعْظِيمٍ وَلَا عِلْمٍ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَشِيتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَيْ ضَمْضَمِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ فَرْقٌ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْخَشْيَةُ هِيَ الْخَوْفُ فِي مَحَلِّ الْأَمَلِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرْفُ الْخَشْيَةِ يَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا، وَلَعَلَّ أَصْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ مَادَّةِ خَشَتِ النَّخْلَةُ تَخْشُو إِذَا جَاءَ تَمْرُهَا دَقَلًا (رَدِيئًا) ، وَهِيَ مِمَّا يُرْجَى مِنْهَا الْجَيِّدُ. وَلَمْ يَرِدْ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَفْعُولٍ وَلْيَخْشَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّلَبُّسِ بِالْخَشْيَةِ كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى [80: 8، 9] أَوْ حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ إِلَى كُلِّ مَا يُخْشَى فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لِيَسْتَشْعِرُوا خَوْفًا مِنْ مَعَرَّتِهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِيَخْشَوُا اللهَ. قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ. وَهُوَ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُتَدَيِّنِ

10

إِلَّا مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَقَالُوا: سَدَّ قَوْلُهُ يَسِدُّ " بِكَسْرِ السِّينِ " إِذَا كَانَ سَدِيدًا، وَهُوَ يَسِدُّ فِي الْقَوْلِ إِسْدَادًا: يُصِيبُ السَّدَادَ " بِالْفَتْحِ ": وَهُوَ الْقَصْدُ وَالصَّوَابُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالسِّدَادُ " بِكَسْرٍ ": الْبُلْغَةُ، وَمَا يُسَدُّ بِهِ الشَّيْءُ كَالثَّغْرِ، وَالْقَارُورَةِ. وَقَوْلُهُمْ: " سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ " وَرَدَ بِفَتْحِ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا، وَهُوَ الْأَفْصَحُ. وَإِذَا كَانَ السَّدِيدُ مَأْخُوذًا مِنْ سَدِّ الثَّغْرِ، وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ السَّدِيدُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تُدْرَأُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ، وَتُحْفَظُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا أَنَّ سَدَادَ الثَّغْرِ يَمْنَعُ اسْتِطْرَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ يَضُرُّ مَا وَرَاءَهُ. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (وَسَيُصَلَّوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِصْلَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا مِنَ الصِّلِيِّ. يُقَالُ: صَلَى اللَّحْمَ صَلْيًا " بِوَزْنٍ رَمَاهُ رَمْيًا " شَوَاهُ. فَإِذَا رَمَاهُ فِي النَّارِ يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ يُقَالُ: أَصْلَاهُ إِصْلَاءً، وَصَلَّاهُ تَصْلِيَةً، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الثُّلَاثِيِّ، وَالرُّبَاعِيِّ وَاحِدًا، كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ وَفِي الْإِلْقَاءِ لِأَجْلِ الْإِحْرَاقِ، وَالْإِفْسَادِ. وَصَلَّى يَدَهُ بِالنَّارِ: سَخَّنَهَا، وَأَدْفَأَهَا، وَاصْطَلَى: اسْتَدْفَأَ. وَأَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ إِيَّاهَا: أَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، وَأَصْلَاهُ فِيهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا، وَصَلَيْتُ النَّارَ قَاسَيْتُ حَرَّهَا. وَالصَّلَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - وَالصِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ -: الْوَقُودُ. وَيُطْلَقُ الصِّلَاءُ عَلَى الشِّوَاءِ أَيْ مَا يُشْوَى، قَالَ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ أَصْلَ الصِّلِيِّ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدُّخُولِ مَجَازًا - اهـ. وَ (السَّعِيرُ) النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ أَيِ الْمُشْتَعِلَةُ، يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ سَعْرًا وَسَعَّرْتُهَا تَسْعِيرًا أَشْعَلْتُهَا، قَالَ الرَّازِيُّ: وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيرًا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللهُ. اهـ. فَهُوَ يَعْنِي أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّهْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ يَصْلَوْنَ أَوْ يُصْلِيهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ سَعِيرًا خَاصًّا مِنَ السَّعْرِ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا مَنْ هَضَمَ حُقُوقَ الْيَتَامَى، وَأَكَلَ أَمْوَالَهُمْ ظُلْمًا. الْمَعْنَى أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، وَلَا الصِّغَارَ الذُّكُورَ حَتَّى يُدْرِكُوا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَابْنًا صَغِيرًا، فَجَاءَ ابْنَا عَمِّهِ خَالِدٌ، وَعُرْفُطَةُ - وَهُمَا عَصَبَتُهُ - فَأَخَذَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فَنَزَلَتْ " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَطَرِيقُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَضْعَفُهَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُجَّةَ، وَابْنَةِ كُجَّةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ أَحَدُهُمْ

زَوْجَهَا، وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُوُفِّيَ زَوْجِي، وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ فَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَرْكَبُ فَرَسًا، وَلَا تَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا تَنْكِئُ عَدُوًّا، يُكْسَبُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكْتَسِبُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، زَادَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَا الصِّغَارِ - لَمْ يَذْكُرُوا وَاقِعَةً مُعَيَّنَةً. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَدِيدٌ، وَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ثَلَاثِ آيَاتٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إلخ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فِي حُرْمَةِ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا رَشَدُوا، ذَكَرَ أَنَّ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْأَوْلِيَاءُ لِلْيَتَامَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خِلَافًا لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ آخَرُ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْإِعْطَاءِ وَوَقْتِهِ، وَشَرْطِهِ. وَمَالُ الْيَتَامَى إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا كَانَ لِلْيَتَامَى مَالٌ مِمَّا تَرَكَهُ لَهَا الْوَالِدَانِ، وَالْأَقْرَبُونَ فَهُمْ فِيهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ لَا فَرْقَ فِي شَرِكَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَعَنَى بِقَوْلِهِ: نَصِيبًا مَفْرُوضًا أَنَّهُ حَقٌّ مُعَيَّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُصَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَقُولُ - زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ رَأْيِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ -: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ كَانَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ هَضْمِ حَقِّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ، وَبَيَانِ حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالزَّوْجَاتِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِنَّ، فَمَنَعَ فِيهَا أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بِالِاسْتِبْدَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ فِيهِ جِيِّدُ الْيَتِيمِ وَيُعْطَى رَدِيئًا بَدَلَهُ، وَمَنَعَ أَكْلَ مُهُورِ النِّسَاءِ، أَوْ عَضْلَهُنَّ لِلتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ تَزْوِيجَهُنَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِهِنَّ - فَكَمَا حَرَّمَ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ حَرَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعَ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ - فَالْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ وَمَنْعِ الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ عَامٌّ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ كَأَنَّهُ قَالَ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً. كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ إِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ - الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمُوَرِّثُ لِوَرَثَتِهِ، أَوْ قِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ الرُّشْدِ أَوِ الْوَصِيَّةِ - أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِينَ، أَوِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَمِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَانْفَحُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا كَدْحٍ، وَقُولُوا

لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَسْتَحْسِنُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْأَذْوَاقُ السَّلِيمَةُ وَلَا تَمُجُّهُ، وَالْمُرَادُ بِذَوِي الْقُرْبِ - الَّذِينَ يَحْضُرُونَ قِسْمَةَ الْوَرَثَةِ - مَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ، وَقَرِيبُ الْوَارِثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، فَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَخِ الْمَيِّتِ الشَّقِيقِ وَهُوَ لَا يَرِثُ، وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَالْخَالُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ يُعَدُّونَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِ الَّذِي لَا يَرِثُونَ مَعَهُ، وَقَدْ يَسْرِي إِلَى نُفُوسِهِمُ الْحَسَدُ فَيَنْبَغِي التَّوَدُّدُ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْرُوثِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَوْ بِصِفَةِ الْهِبَةِ، أَوِ الْهَدِيَّةِ، أَوْ إِعْدَادِ طَعَامٍ لَهُمْ يَوْمَ الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ. وَوَجْهُ إِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ظَاهِرٌ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِأَرْبَابِ الْمَالِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ رَشَدُوا كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعِظَهُمْ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ أَرْبَابِ الْمَالِ. وَالْأَدَبُ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ اعْتِبَارُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَى الْوَارِثِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ، وَلَا سَعْيٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْخَلُوا بِهِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أُمَّتِهِمْ، وَيَتْرُكُوهُمْ يَذْهَبُونَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ مُضْطَرِبِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْحِرْمَانُ مَدْعَاةَ حَسَدِهِ لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مَا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ عِنْدَمَا يَأْخُذُونَ مَا يُفَاضُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَثْقُلَ عَلَى عَزِيزِ النَّفْسِ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُهُ، وَيَرْضَى الطَّامِعُ فِي أَكْثَرِ مِمَّا أُعْطِيَ بِمَا أُعْطِيَ، فَإِنَّ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ يُظْهِرُ اسْتِقْلَالَ مَا نَالَهُ، وَاسْتِكْثَارَ مَا نَالَ سِوَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاطَفَ مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَتَضَايَقُوا، وَيَتَبَرَّمُوا مِنْ حُضُورِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَغَيْرِهِمْ مَجْلِسَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (أَنَّ كَمَا أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُحِبُّونَ أَنْ يَحْضُرُوا وَيَعْرِفُوا مَا نَالَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ) وَمَنْ كَانَ كَارِهًا لِشَيْءٍ تَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لَهُ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، فَعَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْأَدَبَ فِي الْحَدِيثِ لِنُهَذِّبَ بِهِ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [70: 19] الْآيَاتِ. قَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِلنَّدْبِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحُدِّدَ، وَقُدِّرَ كَمَا حُدِّدَتِ الْمَوَارِيثُ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ ; فَقَدْ يَجِبُ الْعَطَاءُ وَيُوكَلُ الْأَمْرُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَى الْمُعْطِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهَجَرَهُ النَّاسُ كَمَا هَجَرُوا الْعَمَلَ بِآيَةِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ دُخُولِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَدْبٌ أَوْ مَنْسُوخٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ رَأْيًا، وَمَذْهَبًا وَيُحَاوِلَ جَرَّ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، وَتَحْوِيلَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ بِإِخْرَاجِ الْأَلْفَاظِ عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، وَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَا أَنْ فَوَّضَ أَمْرَ مِقْدَارِ مَا نُعْطِيهِ إِلَيْنَا وَجَعَلَهُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ فِيهِ الْأَسْخِيَاءُ.

أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ مَا أُمِرْنَا أَنْ نَرْزُقَهُمْ مِنْهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَنْقُولَةُ، وَأَمَّا الْأَرْضُ وَالرَّقِيقُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَرْضَخَ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَلْ يَكْتَفِي حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، أَوْ بِإِطْعَامٍ كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرِّزْقِ هُنَا وَسَيَأْتِي. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالضَّحَّاكِ قَالَا: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَضْعَفِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَصَرَّحَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، هَذِهِ الْآيَةُ، وَآيَةُ الِاسْتِئْذَانِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [24: 58] وَهَذِهِ الْآيَةُ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [49: 13] اهـ. وَخَصَّهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ لِأُولِي قُرْبَى الْمُوصِي ; وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا كَمَا فَهِمَ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ أَنَّ أُولِي الْقُرْبَى هُمُ الْوَارِثُونَ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِرِزْقِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَسْخِ هَذَا الْأَمْرِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ - أَنَّهُ يَشْمَلُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ رُشْدِهِمْ، وَقِسْمَةَ الْوَصَايَا، وَهِيَ فِي التَّرِكَةِ أَظْهَرُ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ فِيمَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ - أَيِ الرِّزْقَ وَالْعَطَاءَ - لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ إِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمِيرَاثِ صَغِيرًا، وَقَسَّمَ عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَلِيُّ مَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُقَسِّمَ مِنْ مَالِهِ وَوَصِيَّتِهِ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا. قَالُوا: وَالَّذِي أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا هُوَ وَلِيُّ مَالِ الْيَتِيمِ، إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْيَتِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَاءِ الْيَتِيمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ مَالِهِ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مِنْ نَصِيبِهِ، وَيُعْطِيهِمْ مَنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ، قَالُوا: فَأَمَّا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَالَّذِي يُوَلَّى عَلَى مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. اهـ. وَسَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْوَالِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا تَوَلَّوْا عِنْدَ الْقِسْمَةِ إِعْطَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّ مَالِهِمْ اهـ. وَأَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُمَا تَأَوَّلَا الرِّزْقَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ، فَكَانَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَأْمُرَانِ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَصُنْعِ طَعَامٍ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْضُرُونَ فَيُعْطَوْنَ الشَّيْءَ وَالثَّوْبَ الْخَلِقَ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْآيَةِ مِنَ السَّلَفِ أَوْجَبُوا رِزْقَ مَنْ حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَتْهُمُ الْآيَةُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا قِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا يُرْزَقُونَ مِنْ مَالِ الْكَبِيرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلِيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبِينَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَلِّلَةً لِلْأَمْرِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي تِلْكَ مُتَّصِلَةً بِهَا مُبَاشَرَةً، ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى بَعْضُ حَاضِرِي الْقِسْمَةِ عَنْ رِزْقِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهَا. وَهَذَا يَكْثُرُ فِي النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوُجَهَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُوهِمُ الْغَيْرَةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحُولُونَ دُونَ عَمَلِ الْبِرِّ بِأَنْ يَخَافُوا اللهَ أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَثَةً ضُعَفَاءَ يَحْتَاجُونَ مَا يَحْتَاجُهُ حَاضِرُو الْقِسْمَةِ وَطَالِبُو الْبِرِّ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَيُعَامَلُوا بِالْحِرْمَانِ وَالْقَسْوَةِ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّونَ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمْ إِذَا تَرَكُوهُمْ ضِعَافًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى الْيَتَامَى، فَهُوَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ بِابْتِلَائِهِمْ، وَاخْتِبَارِهِمْ بِالْعَمَلِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُمْ أَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ لَهُمْ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْيَتِيمَ يَجْرَحُهُ أَقَلُّ قَوْلٍ يُهِينُ وَلَاسِيَّمَا ذِكْرُ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ بِسُوءٍ. وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا حَافِظِينَ لِلْأَمْوَالِ مُحْسِنِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ يَتِيمٌ فِي بَيْتٍ إِلَّا وَيُمْتَهَنُ وَيُقْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَذِكْرِ وَالِدَيْهِ بِمَا يَشِينُهُمَا ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّأْكِيدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْيَتَامَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَقُولُ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْهَا - لِاخْتِيَارِهِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قِسْمَةِ الْوَصَايَا - أَنَّهَا فِي الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مُوصِيًا يُوصِي فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَأْمُرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَخَافُوا عَلَى ذُرِّيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَا يَخَافُونَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا فَلَا يَقُولُوا فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرَّ بِذُرِّيَّةِ الْمُوصِي كَالتَّرْغِيبِ فِي تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِلْغُرَبَاءِ، بَلْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا بِأَنْ يُرَغِّبُوهُ فِيمَا يَرْضَوْنَ مِثْلَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي وُلَاةِ الْيَتَامَى يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ لَوْ تَرَكُوهُمْ وَمَاتُوا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " يَعْنِي بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَمُوتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ (أَيِ الْفَقْرَ) وَالضَّيْعَةَ، وَيَخَافُ بَعْدَهُ أَلَّا يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلِيَ مِثْلَ ذُرِّيَّتِهِ ضِعَافًا يَتَامَى فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ إِسْرَافًا وَبِدَارًا خَشْيَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَهُمْ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ كَمَا بَيَّنَ هُنَاكَ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْوَرَثَةِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ مَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ رِزْقِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مُؤَكِّدًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي أَمْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِبُّ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالثُّلُثِ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَقَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " أَيْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ، وَلْيَقُولُوا فِي تَقْرِيرِ الْوَصِيَّةِ قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ قَرِيبًا مِنَ الْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ، بَعِيدًا مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْمَضَرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَشْمَلَ كُلَّ مَا ذُكِرَ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: لِيَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ - أَوْ لِيَخْشَ الْعَاقِبَةَ، أَوِ اللهَ - الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا أَنْ يُسِيءَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيُهِينُوهُمْ فَلَا يَقُولُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِذُرِّيَّةِ أَحَدٍ، بَلْ لِيَقُولُوا قَوْلًا مُحْكَمًا يَسُدُّ مَنَافِذَ الضَّرَرِ فَكَمَا يُدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أَيْ ظَالِمِينَ فِي أَكْلِهَا أَوْ أَكْلًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحَقِّ لَا أَكْلًا بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوِ اقْتِرَاضًا، أَوْ تَقْدِيرًا لِأُجْرَةِ الْعَمَلِ كَمَا أَذِنَ اللهُ لِلْفَقِيرِ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ، وَكَمَا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ بِدَلَائِلَ أُخْرَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، فَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الظَّرْفِيَّةِ كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَظْرُوفُ مَالِئًا لِلظَّرْفِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْبُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْوَاقِعِ بِكَمَالِ هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [48: 11] . نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ; لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: " فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ

لَمَّا ذَكَرَ يَأْكُلُونَ غُفْلًا مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ " يَصْلَوْنَ " مَقْرُونًا بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ الْآنَ مَالَا خَيْرَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ ; لِأَنَّهُ فِي قُبْحِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ كَالنَّارِ، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَجَازُ فِي أَكْلِ النَّارِ فَقَالَ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَقَّقَ هَذَا الْبَحْثَ وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ

أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَائِلِ السُّورَةِ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ الْمَالِ وَلَا حِفْظَهُ، فَيُثَمِّرُهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَيَحْفَظُهُ لَهُ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْطَلَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ. فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ وَفَرَائِضِهِ، فَكَانَ بَيَانُهُ فِي هَاتَيْنِ، وَآيَةٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَبَطَلَ بِهَا، وَبِقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [8: 75] مَا كَانَ مِنْ نِظَامِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ. ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ، وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [2: 180] الْآيَاتِ [

11

فِي ص108 - وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَأَعَادَ مَا قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فَتَرَكْنَا إِعَادَتَهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: " جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ أَوَّلُ تَرِكَةٍ قُسِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ وَيُنَفِّذُونَ الْوَصِيَّةَ، وَلِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا - وَمِنْهَا تِلْكَ الْآيَةُ الْمُجْمَلَةُ - فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى فَرْضِ التَّأْخِيرِ، وَالتَّرَاخِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ هَضْمَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا قَدْ كَثُرُوا وَكَثُرَ أَقَارِبُهُمْ مِنْهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِنَسْخِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ الْأُولَى الْمُوَقَّتَةِ بِأَسْبَابِ الْإِرْثِ الدَّائِمَةِ فَلَمَّا اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ نَزَلَ التَّفْصِيلُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ. يُوصِيكُمُ اللهُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالِاسْمُ الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ كَمَا أَفْهَمُ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالِ أَهْلِهَا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهَا: مَا تَعْهَدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، يَقُولُونَ: يُسَافِرُ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا، وَأَوْصَيْتُهُ، أَوْ وَصَّيْتُهُ بِأَنْ يُحْضِرَ لِي مَعَهُ كَذَا، وَيَقُولُونَ: وَصَّيْتُ الْمُعَلِّمَ بِأَنْ يُرَاقِبَ آدَابَ الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّبَهُ عَلَى مَا يُسِيءُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، أَوِ الْعَمَلِ أَوْصَيْتُ، وَلَا وَصَّيْتُ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ الرَّازِيَّ يَنْقُلُ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ الْإِيصَاءَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ، يُقَالُ وَصَّى يَصِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ

بِمَعْنَى وَصَلَ يَصِلُ، وَأَوْصَى يُوصِي بِمَعْنَى أَوْصَلَ يُوصِلُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي الْآيَةِ يُوصِلُكُمُ اللهُ إِلَى إِيفَاءَ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهَا يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُهُ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ التَّقَدُّمُ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ وَاصِيَةٌ مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرْجِعْنِي عَنْ فَهْمِي الْأَوَّلِ. فِي أَوْلَادِكُمْ أَيْ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، أَوْ مِيرَاثِهِمْ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِمَّا تَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا كِبَارًا أَمْ صِغَارًا: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَفْهُومِ الْأَوْلَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لَفْظَ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُهُمْ حَقِيقَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أَوْلَادٌ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيَامِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ مَقَامَ وَالِدَيْهِمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ وَعَدَمِ إِرْثِهِمْ مَعَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلذُّكُورِ كَمَا قَالَ الشِّعْرُ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ ابْنِ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ - كَمَا فِي الصَّحِيحِ - مَبْنِيٌّ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ فِي جَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بِنْتِهِ، أَوْ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيُنْظَرُ فِي عَلَامَاتِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِيهِ، فَأَيُّهُمَا رَجَحَ حُكِمَ بِهِ. وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِلْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ الْعَارِفِينَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يُعْرَفُ بِالْبَوْلِ، فَالْعُضْوُ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُرَجِّحُ ذُكُورَتَهُ أَوْ أُنُوثَتَهُ. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْوَصِيَّةِ فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ، وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَابِهِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - أَيْ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ إِنَاثِهِمْ إِذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَاخْتِيرَ فِيهَا هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِإِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى مُقَرَّرًا مَعْرُوفًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ جَعَلَهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، وَجَعَلَ إِرْثَ الذَّكَرِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ يُعْرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ، وَإِذًا لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَلْتَئِمُ السِّيَاقُ بَعْدَهُ كَمَا تَرَى ; أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَرَاهُ فِي بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ تَقْدِيمِ بَيَانِ مَا لِلْإِنَاثِ بِالْمَنْطُوقِ الصَّرِيحِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِمَا لِلذُّكُورِ كَمَا تَرَى فِي فَرَائِضِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرُ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ نُكْتَةِ الْخِطَابِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ. وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ كَحَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هِيَ أَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى

نَفْسِهِ، وَعَلَى زَوْجِهِ، فَكَانَ لَهُ سَهْمَانِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَهِيَ تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ نَصِيبُ الْأُنْثَى مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الذَّكَرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفَقَاتِهِمَا. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ نَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِنَّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي الْوُجُوهِ الْمُنْكَرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ شَنِيعٌ، وَضَعْفُ عُقُولِهِنَّ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ نَصِيبِهِنَّ، بَلْ رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَتَهُ كَضَعْفِ أَبْدَانِهِنَّ لِقِلَّةِ حِيلَتِهِنَّ فِي الْكَسْبِ وَعَجْزِهِنَّ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْمِيرَاثَ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا عَلِمْتُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَأَمَّا مَا يَزْعُمُونَ مِنْ كَوْنِ شَهْوَتِهِنَّ أَقْوَى مِنْ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَمَا بَنَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِيَارِ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْكَثِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَلَّمَا نَسْمَعُ أَنَّ امْرَأَةً أَنْفَقَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَهُنَّ يَأْخُذْنَ وَلَا يُعْطِينَ، وَالرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى شَهْوَةً، وَأَشَدُّ ضَرَاوَةً، نَعَمْ إِنَّ النِّسَاءَ يَمِلْنَ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فَلَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُنَّ كَثِيرًا مَا يُرَجِّحْنَ الِاقْتِصَادَ إِذَا كَانَ أَمْرُ النَّفَقَةِ مَوْكُولًا إِلَيْهِنَّ ; فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَالِدِ، أَوِ الزَّوْجِ فَلَا يَكَادُ إِسْرَافُهُنَّ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلِهَذَا نَرَى بَعْضَ الرِّجَالِ الْمُقْتَصِدِينَ يَكِلُونَ أَمْرَ النَّفَقَةِ فِي بُيُوتِهِمْ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ فَتَقِلُّ النَّفَقَةُ وَيَتَوَفَّرُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَفَّرُ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوْلَادِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ إِذْ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ كُفْرَهُ قَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ، قَالَ - تَعَالَى -: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [11: 45، 46] فَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِهِ بِكُفْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ أَوْلَادِكُمْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ابْتِدَاءً، لَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْقَاتِلُ عَمْدًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُعَاقَبَ أَيُّ مُذْنِبٍ بِعُقُوبَةٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ بَدَنِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا قُبْحَ

فِيهِ. فَمَنْعُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ هُوَ فَرْعُ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا ; إِذْ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ حَقَّهُ مِنَ الْإِرْثِ بِنَصِّ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيعَةَ عَاقَبَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ لِوَالِدِهِ بِحِرْمَانِهِ مِنْ حَقِّهِ فِي تَرِكَتِهِ لِيَرْتَدِعَ أَمْثَالُهُ، وَتُسَدَّ ذَرِيعَةُ الْفَسَادِ عَلَى الْأَشْرَارِ الطَّامِعِينَ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِي أَيْدِي وَالِدَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّقِيقُ أَيْضًا، وَالرِّقُّ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَمْلِكُ، بَلْ كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَى يَدِهِ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَمَالِكِهِ، فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا لَكُنَّا مُعْطِينَ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ هُوَ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ عَارِضًا، وَخِلَافَ الْأَصْلِ، وَمَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ، وَإِطْلَاقَهَا، وَلَا تُعَدُّ مُنَافَاتُهُ لِلْإِرْثِ خُرُوجًا مِنْ حُكْمِهَا. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَأْمُورِ هُوَ بِتَبْلِيغِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ، وَإِنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِحَدِيثِ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الشِّيعَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فَرَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَهُ فِيهِ بِنَصِّهِ قَالَ: " وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَنَاوِلَةِ لَهُ لُغَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَأَخَذَ الشِّيعَةُ بِالْعُمُومِ، وَعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَطَعَنُوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ لَمْ يُورِثِ الزَّهْرَاءَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَتْ لَهُ بِزَعْمِهِمْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَنْتَ تَرِثُ أَبَاكَ، وَأَنَا لَا أَرِثُ أَبِي، أَيُّ إِنْصَافٍ هَذَا! ؟ وَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُ رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً لَمَّا كَانَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ [65: 6] فَقَالَ: " كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ " فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ لَخَصَّصَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَوْنَهُ خَبَرَ امْرَأَةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهِ، وَأَيْضًا الْعَامُّ وَهُوَ الْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، وَالْخَاصُّ وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [27: 16] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [19: 5، 6] فَإِنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَرِثُونَ وَيُورَثُونَ. " وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ بِمَحْضِرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ - تَعَالَى - هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: اللهُمَّ نَعَمْ ". فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي كُتُبِ الشِّيعَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ رَوَى الْكِلِينِيُّ فِي الْكَافِي، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا أَحَادِيثَ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. وَكَلِمَةُ " إِنَّمَا " مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ قَطْعًا بِاعْتِرَافِ الشِّيعَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ غَيْرَ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمَعْصُومِينَ عِنْدَ الشِّيعَةِ، وَالْمَحْفُوظِينَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ تَرِكَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَعَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا الْعَبَّاسَ وَلَا بَنِيهِ وَلَا الْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَاتِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ جَارِيًا فِي تِلْكَ التَّرِكَةِ لَشَارَكُوهُمْ فِيهَا قَطْعًا. " فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا التَّوَاتُرُ فَحَبَّذَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَبَقِيَ الْخَبَرُ مِنَ الْآحَادِ فَنَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِجَوَازِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - خَصَّصُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [4: 24] وَيَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَخُضَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَنْكِحُوا الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَالشِّيعَةُ أَيْضًا قَدْ خَصَّصُوا عُمُومَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْعَقَارِ، وَيَخُصُّونَ أَكْبَرَ أَبْنَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ، وَالْخَاتَمِ، وَاللِّبَاسِ، بِدُونِ بَدَلٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ

فِيمَا مَرَّ. وَيَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَحَادِيثِ آحَادٍ تَفَرَّدُوا بِرِوَايَتِهَا مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْآيَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِخَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا رَدَّ خَبَرَ ابْنَةِ قَيْسٍ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا، وَكَذِبِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ. فَعَلَّلَ الرَّدَّ بِالتَّرَدُّدِ فِي صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا لَا بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ. وَكَوْنُ التَّخْصِيصِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ فِي الدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ بَلْ هُوَ تَرْكٌ لِلظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ. " وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ ; لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ فِيهِمَا وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا وِرَاثَةَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْوَالِ. " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا كَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْكِلِينِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَرِثَ سُلَيْمَانَ ; فَإِنَّ وِرَاثَةَ الْمَالِ بَيْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِوَجْهٍ. وَأَيْضًا إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّأْرِيخِ - كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكُلُّهُمْ كَانُوا وَرَثَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي يَزْعُمُهُ الْخَصْمُ. فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فِي وِرَاثَةِ الْمَالِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَا بِخِلَافِ وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ. وَأَيْضًا تَوْصِيفُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتِلْكَ الْوِرَاثَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ كَمَالًا، وَلَا يَسْتَدْعِي امْتِيَازًا ; لِأَنَّ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَأَيُّ دَاعٍ لِذِكْرِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذَا النَّبِيِّ وَمَنَاقِبهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -! ؟ " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوِرَاثَةِ فِيهَا وِرَاثَةَ الْمَالِ كَانَ الْكَلَامُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالسَّفْسَطَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ يَعْقُوبَ حِينَئِذٍ إِنْ كَانَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ يَلْزَمُ أَنَّ مَالَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَاقِيًا غَيْرَ مَقْسُومٍ إِلَى عَهْدِ زَكَرِيَّا، وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى! ! وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى وَارِثًا جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَهَذَا أَفْحَشُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ الْأَوْلَادِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ يَعْقُوبَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يُقَالُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِ هَذَا الْوَلِيِّ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ، وَيَرِثُ بَعْضَ ذَوِي قَرَابَتِهِ؟ وَالِابْنُ وَارِثُ الْأَبِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْوِرَاثَةَ تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَأْكِيدٍ. وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَنْظَارِ الْعَالِيَةِ، وَهِمَمِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ مِنْ تَعَلُّقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَاتَّصَلَتْ بِحَظَائِرِ الْقُدْسِ الْحَقَّانِيِّ مَيْلٌ لِلْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ حَتَّى يَسْأَلَ حَضْرَةُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مَالُهُ وَيَصِلُ إِلَى يَدِهِ مَتَاعُهُ، وَيُظْهِرُ لِفَوَاتِ ذَلِكَ

الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَرِيحًا كَمَالَ الْمَحَبَّةِ، وَتَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ سَاحَتِهِ الْعَلِيَّةِ وَهِمَّتِهِ الْقُدْسِيَّةِ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِخَوْفِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ صَرْفِ بَنِي أَعْمَامِهِ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي طَاعَةٍ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَالُ إِلَى الْوَارِثِ وَصَرَفَهُ فِي الْمَعَاصِي فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا عِتَابَ، عَلَى أَنَّ دَفْعَ هَذَا الْخَوْفِ كَانَ مُتَيَسِّرًا لَهُ بِأَنْ يَصْرِفَهُ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - قَبْلَ وَفَاتِهِ وَيَتْرُكُ وَرَثَتَهُ عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، وَاحْتِمَالُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ عِنْدَ الشِّيعَةِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُونَ وَقْتَ مَوْتِهِمْ. فَمَا مُرَادُ ذَلِكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوِرَاثَةِ إِلَّا وِرَاثَةَ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ الْمُرَشِّحَةِ لِمَنْصِبِ الْحُبُورَةِ ; فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَشِيَ مِنْ أَشْرَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُحَرِّفُوا الْأَحْكَامَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالشَّرَائِعَ الرَّبَّانِيَّةَ، وَلَا يَحْفَظُوا عِلْمَهُ، وَلَا يَعْمَلُوا بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَسَادِ الْعَظِيمِ، فَطَلَبَ الْوَلَدَ لِيُجْرِيَ أَحْكَامَ اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ، وَيُرَوِّجَ الشَّرِيعَةَ، وَيَكُونَ مَحَطَّ رِحَالِ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَاتِّصَالِ الثَّوَابِ، وَالرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهِ مِنْ شَأْنِ ذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ الزَّكِيَّةِ. " فَإِنْ قِيلَ الْوِرَاثَةُ فِي وِرَاثَةِ الْعِلْمِ مَجَازٌ وَفِي وِرَاثَةِ الْمَالِ حَقِيقَةٌ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَمَا الضَّرُورَةُ هُنَا؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا حِفْظُ كَلَامِ الْمَعْصُومِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْوِرَاثَةِ حَقِيقَةً فِي الْمَالِ فَقَطْ بَلْ صَارَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِالْمَالِ، وَفِي أَصْلِ الْوَضْعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمَنْصِبِ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ مُتَعَارَفٌ، وَمَشْهُورٌ بِحَيْثُ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ خُصُوصًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [35: 32] وَأُورِثُوا الْكِتَابَ [42: 14] إِلَى غَيْرِ مَا آيَةٍ ". " وَمِنَ الشِّيعَةِ مَنْ أَوْرَدَ هُنَا بَحْثًا: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدًا فَلِمَ أُعْطِيَتْ أَزْوَاجُهُ الطَّاهِرَاتُ حُجُرَاتِهِنَّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ إِفْرَازَ الْحُجُرَاتِ لِلْأَزْوَاجِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُنَّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ، بَلْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى كُلَّ حُجْرَةٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَصَارَتِ الْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقَةً وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ بَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَأُسَامَةَ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِمَّا بَنَاهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَسَنَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَأْذَنَ مِنْ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ مَوْضِعًا لِلدَّفْنِ فِي جِوَارِ جَدِّهِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحُجْرَةُ مِلْكَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ، وَالسُّؤَالِ مَعْنًى، وَفِي الْقُرْآنِ نَوْعُ إِشَارَةٍ إِلَى كَوْنِ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مَالِكَاتٍ لِتِلْكَ الْحُجَرِ، حَيْثُ قَالَ -

سُبْحَانَهُ -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [33: 33] فَأَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ: فِي بُيُوتِ الرَّسُولِ. " وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْبَحْثِ بِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لِخَلِيفَةِ الْوَقْتِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا خَصَّ الصِّدِّيقُ جَنَابَ الْأَمِيرِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِسَيْفٍ، وَدِرْعٍ، وَبَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى الدُّلْدُلَ مَعَ أَنَّ الْأَمِيرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمْ يَرِثِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ، وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بَعْضًا مِنْ مَتْرُوكَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكَ مَعَ أَنَّهَا طَلَبَتْهَا إِرْثًا، وَانْحَرَفَ مِزَاجُ رِضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) بِالْمَنْعِ إِجْمَاعًا، وَعَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ، وَأَتَتْ بَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنَيْنِ، وَأُمِّ أَيْمَنَ لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ، وَلَمْ تُمَكَّنْ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ رَآهُمَا الْخَلِيفَةُ إِذْ ذَاكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَسْلَمِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَالصَّوْلَةِ الْحَيْدَرِيَّةِ، وَأَطَالَ فِيهِ. " وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) خَصَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِلَا شُبْهَةٍ، وَالْعَمَلُ بِسَمَاعِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَمِعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ. " وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ تَقْسِيمَ الْخَبَرِ إِلَى الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعُوا خَبَرَهُ بِوَاسِطَةِ الرُّوَاةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَخَبَرُ " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ قَطْعِيٌّ ; لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُتَوَاتِرِ بَلْ أَعْلَى كَعْبًا مِنْهُ، وَالْقَطْعِيُّ يُخَصِّصُ الْقَطْعِيَّ اتِّفَاقًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا نِسْبَةُ الْوِرَاثَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لِمَا عَلِمْتَ. " وَدَعْوَى الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكًا بِحَسَبِ الْوِرَاثَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ بَلْ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِقَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِهَا، وَمَزِيدِ عِلْمِهَا، وَكَذَا أَخْذُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ حُجُرَاتِهِنَّ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا مَرَّ وَجَلَا، وَعُدُولُهَا إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ عِنْدَنَا، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دَعْوَى الْإِرْثِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهَا دَعْوَى الْهِبَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَتَتْ بِأُولَئِكَ الْأَطْهَارِ شُهُودًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ فِي قَبْضَةِ الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فِي وَقْتٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِطَلَبِ الشُّهُودِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَطْهَارَ شَهِدُوا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ بَلْ لَمْ يَقْضِ بِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ الْقَضَاءِ هُنَا وَالرَّدِّ ; فَإِنَّ الثَّانِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ لِتُهْمَةِ كَذِبٍ مَثَلًا، وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِمْضَاءِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، وَانْحِرَافُ مِزَاجِ رِضَا الزَّهْرَاءِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. وَقَدْ

غَضِبَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَخِيهِ الْأَكْبَرِ هَارُونَ حَتَّى أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَرَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ قَدْرَيْهِمَا شَيْئًا، عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرْضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مُسْتَشْفِعًا إِلَيْهَا بِعَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَرَضِيَتْ عَنْهُ كَمَا فِي مِدْرَاجِ النُّبُوَّةِ، وَكِتَابِ الْوَفَاءِ، وَشَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِلدَّهْلَوِيِّ وَغَيْرِهَا. " وَفِي مَحَاجِّ السَّالِكِينَ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِمَامِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَصْلَ حَيْثُ رَوَوْا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَأَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - انْقَبَضَتْ عَنْهُ، وَهَجَرَتْهُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ فَدَكَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ اسْتِرْضَاءَهَا، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: صَدَقْتِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ادَّعَيْتِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُهَا فَيُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتِيَ مِنْهَا قُوتَكُمْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهَا؟ فَقَالَتْ: أَفْعَلُ فِيهَا كَمَا كَانَ أَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ فِيهَا، فَقَالَ: لَكِ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ أَفْعَلَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُوكِ فَقَالَتْ: وَاللهِ لَتَفْعَلَنَّ! فَقَالَ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: اللهُمَّ اشْهَدْ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَأَخَذَتِ الْعَهْدَ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا قُوتَهُمْ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ. " وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ عَدَمِ تَمْكِينِهَا - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ دَفْعُ الِالْتِبَاسِ، وَسَدُّ بَابِ الطَّلَبِ الْمُنْجَرِّ إِلَى كَسْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُلُوبِ، أَوْ تَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَ " الْمُؤْمِنُ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا " عَلَى أَنَّ رِضَا الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - بَعْدُ عَلَى الصِّدِّيقِ سَدَّ بَابَ الطَّعْنِ عَلَيْهِ أَصَابَ فِي الْمَنْعِ أَمْ لَمْ يُصِبْ، وَسُبْحَانَ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ، وَالْعَاصِمِ أَنْبِيَاءَهُ عَنِ الْخَطَأِ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ " اهـ. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً أَيْ فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ - وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ - وَقِيلَ: الْمَوْلُودَاتُ، أَوِ الْوَارِثَاتُ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَيْ زَائِدَاتٍ عَلَى اثْنَتَيْنِ مَهْمَا بَلَغَ عَدَدُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَالِدُهُنَّ الْمُتَوَفَّى، أَوْ وَالِدَتُهُنَّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْلُودَةُ، أَوِ الْوَارِثَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً وَنَصْبُ " وَاحِدَةً " هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا أَخٌ وَلَا أُخْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، يُعْرَفُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ مَحَلِّهِ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ وَهُمْ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَصَّلَ فِيهِ فُرُوضَ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِذَا كُنَّ مَعَ الذُّكُورِ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُنَّ، فَإِذَا كَانَا ذَكَرًا، وَأُنْثَى مَثَلًا أَخَذَ الذَّكَرُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْأُنْثَى الثُّلُثَ، وَإِذَا كَانُوا ذَكَرًا، وَأُنْثَيَيْنِ أَخَذَ الذَّكَرُ النِّصْفَ وَالْأُنْثَيَانِ النِّصْفَ الْآخَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِفُهُ، وَهُوَ رُبْعُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَإِذَا كُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بِالْإِرْثِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِنَّ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْجَمْعِ، وَسَكَتَ عَنِ الثِّنْتَيْنِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ كَالْوَاحِدَةِ،

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِوُجُوهٍ أَظْهَرُهَا اثْنَانِ: (أَحَدُهُمَا) : مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ يَرِثُ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثَانِ هُمَا حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ عَطْفُ حُكْمِ الْجَمْعِ مِنْهُنَّ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاحِدَة بِالْفَاءِ. (وَثَانِيهِمَا) : الْقِيَاسُ عَلَى الْأَخَوَاتِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَهُنَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [4: 176] ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عَلَى إِرْثِ الْبَنَاتِ هُنَا وَالْأَخَوَاتِ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَقَدْ تَرَكَ هُنَاكَ حُكْمَ الْجَمْعِ مِنَ الْأَخَوَاتِ كَمَا تَرَكَ هَنَا حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْأُخْرَى فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ. وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ. وَلَسْتُ أَرْضَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ، وَلَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى اثْنَتَيْنِ فَفَوْقَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْإِنَاثِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَسْتَغْرِقُ فَرْضُهُنَّ التَّرِكَةَ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرَ إِذَا انْفَرَدَ يَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَخٌ لَهُ فَأَكْثَرُ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ حُكْمِ الْأَوْلَادِ إِلَى حُكْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّي الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقَالَ: وَلِأَبَوَيْهِ أَيْ أَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ لَا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ فِي ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا كَمَا يَتَفَاضَلُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَقَامِ الْأُمِّ بِحَيْثُ تُسَاوِي الْأَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا يَتَفَاضَلَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَغَيْرِهَا. وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي يَتَقَاسَمُهُ الْوَالِدَانِ يَكُونُ لِأَوْلَادِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مَا، لَا وَلَدَ صُلْبٍ، وَلَا وَلَدَ ابْنٍ، أَوِ ابْنِ ابْنٍ إلخ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ انْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِمَا وَهَاهُنَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ فِي قَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كُلٌّ فِي طَبَقَتِهِ، وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ لِيَكُونَ احْتِرَامُهُمْ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْضُلُ الْأُمَّ هَنَا بِالْفَرِيضَةِ بَلْ لَهُ السُّدُسُ فَرْضًا وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ إِذْ لَا عُصَبَةَ هُنَا سِوَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ حَظُّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْإِرْثِ أَقَلَّ مِنْ حَظِّ الْأَوْلَادِ مَعَ مُعْظَمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي الْغَالِبِ أَقَلَّ حَاجَةً مِنَ الْأَوْلَادِ إِمَّا لِكِبَرِهِمَا، وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِمَا، وَإِمَّا لِاسْتِقْلَالِهِمَا، وَتَمَوُّلِهِمَا، وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا مِنْ أَوْلَادِهِمَا الْأَحْيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ

عَلَى الْكَسْبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى كِبَرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى نَفَقَةِ الزَّوَاجِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَلِهَذَا، وَذَاكَ كَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّ الْوَالِدَيْنِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أَيِ الْمَيِّتِ مَعَ إِرْثِ أَبَوَيْهِ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكُورًا، أَوْ إِنَاثًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَحْجُبُهَا الْوَاحِدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخَوَيْنِ أَوِ الْأُخْتَيْنِ، فَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمَا كَالْجَمْعِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي، وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يُعَدَّانِ جَمْعًا، وَإِجَازَةُ عُثْمَانَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [66: 4] وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبَتَيْنِ بِهَذَا إِلَّا قَلْبَانِ. وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، فَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ الْمُثَنَّى إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ " هَذَانِ جَمَاعَةٌ "، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَقَلِّ مَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَوَصَفَ النِّسَاءَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ. جَرَى عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: إِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ وَحَقِيقَتَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ مَجَازًا. إِذًا مَا هُوَ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَبِالْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ، وَلَيْسَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَلَا أَدَقَّ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ؟ الظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ اللُّغَةَ إِذَا لَمْ تَدُلَّ فِي أَصْلِهَا عَلَى دُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَوْ عَلَى قِلَّةٍ، بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الشَّوَاهِدِ. فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْإِرْثِ، إِذْ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ، وَالْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ذَكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْبِنْتَيْنِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُمَا كَالْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَخَوَاتِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُنَّ كَالْبَنَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ مِنْ مُقَابِلِهِ، وَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَ

نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاحْتِبَاكِ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [72: 21] أَيْ لَا ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا رَشَدًا، وَلَا إِغْوَاءً، وَقَوْلِهِ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [76: 13] أَيْ لَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا حَرًّا، وَلَا زَمْهَرِيرًا - إِذَا جَازَ لَنَا هَذَا وَعَدَدْنَاهُ مِنْ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَفْهُومِهِ أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ لَهُمَا حُكْمُ الْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَدَمُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ؟ بَلَى، وَبِهَذَا عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَخِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَا يُنَافِي هَذَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ، وَاللُّغَةُ عَلَى وَضْعِهَا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَلَكِنَّ لَهُ هَاهُنَا رَأْيًا آخَرَ يُخَالِفُ فِيهِ الْجُمْهُورَ، رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَالُوا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِخْوَةَ الَّذِينَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوهَا عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْأَبِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَجْبِهِمْ إِيَّاهَا إِلَّا أَخَذُهُمْ لِمَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِهَا، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْحَجْبِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُمْ سَبَبًا لِزِيَادَةِ نَصِيبِ الْأَبِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَيْئًا، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ - وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ - كُلُّهُ لِلْأَبِ، سُدُسٌ مِنْهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّ فَرْضَهُ كَفَرْضِهَا، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُنَا أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْعَكْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. ذَكَرَتِ الْآيَةُ حُكْمَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ وَحُكْمَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا وَارِثٌ آخَرُ، وَحُكْمَهُمَا مَعَ الْإِخْوَةِ، وَبَقِيَ حُكْمُهُمَا مَعَ الزَّوْجِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَهُوَ النِّصْفُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَالرُّبْعُ إِنْ كَانَ أُنْثَى، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَبَوَيْنِ ثُلُثُهُ لِلْأُمِّ، وَبَاقِيهِ لِلْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْخُذُ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ، أَيْ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَيَأْخُذُ الْأَبُ مَا بَقِيَ. وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَفِي الْمَسْأَلَةِ صُورَتَانِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ، وَيُسَمِّيهِمَا الْفَرْضِيُّونَ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ، وَبِالْغَرَاوَيْنِ، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) : زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ، وَهُوَ 3 مِنْ 12 وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ 3 وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ 6 فَيَجْرِي حَظُّ الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ "، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ 4 مِنْ 12 وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ 5 فَلَا يَجْرِي عَلَى الْقَاعِدَةِ. (وَثَانِيَتُهُمَا) : زَوْجٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ 6 مِنْ 12 وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ 2 مِنْ 12 وَلِلْأَبِ الْبَاقِي 4 عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ وَهُوَ

مِنْ 12 وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَانِ، فَيَكُونُ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ يَكُونُ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ. فَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقُرْآنِ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْإِخْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الزَّوْجَيْنِ كَمَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَافَقَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فَقَطْ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي هَذَا: أَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ مُقَدَّمَةٌ فِي الْإِرْثِ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ إِنَّمَا يَتَقَاسَمَانِ مَا يَبْقَى بَعْدَ أَخْذِ الزَّوْجِ حِصَّتَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِ هَذَا: إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَمَّا كَانَ يَتَوَارَثَانِ بِالزَّوْجِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا بِالْقَرَابَةِ كَانَ فَرْضُهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ. وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاطَّرَدَ تَقْدِيمُ فَرْضِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَوْلَادِ، وَالْإِخْوَةِ، فَقُدِّمَ كَالْوَصِيَّةِ، وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ، أَوِ الْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ حَقَّ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا أَشْرَفَ، وَأَجْدَرَ مِنَ الزَّوْجِ بِالِاحْتِرَامِ. ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ زَوَاجِ الْوَلَدِ عَرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَعِيشَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَقَلَّ حَاجَةً إِلَى الْمَالِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الَّذِينَ أَوِ اللَّوَاتِي فِي سِنِّهِمْ غَالِبًا لِانْصِرَامِ أَكْثَرِ أَعْمَارِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا إِذَا احْتَاجَا إِلَى مَالِ الْأَوْلَادِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِمَا، وَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَإِنَّهُمَا يَعِيشَانِ مُجْتَمِعَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمٌ لِوُجُودِ الْآخَرِ حَتَّى كَأَنَّهُ نِصْفُ مَاهِيَّتِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِانْفِصَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ وَالِدَيْهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْآخَرِ. فَبِهَذَا كَانَتْ حُقُوقُ الْمَعِيشَةِ بَيْنَهُمَا آكَدَ ; وَلِهَذَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي النَّفَقَةِ هُوَ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا رَغِيفَيْنِ وَسَدَّ رَمَقَهُ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَ لِامْرَأَتِهِ لَا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَقَارِبِهِ. فَصِلَةُ الزَّوْجِيَّةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ حَتَّى إِنَّ صِلَةَ الْبُنُوَّةِ فَرْعٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْأَوْلَادِ أَقْوَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَيْ يُوصِيكُمُ اللهُ وَيَعْهَدُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِأَوْلَادِ مَنْ يَمُوتُ مِنْكُمْ كَذَا وَلِأَبَوَيْهِ كَذَا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ: يُوصَى بِهَا أَيْ يَقَعُ الْإِيصَاءُ بِهَا مِنَ الْمَيِّتِ هَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: (يُوصَى) بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يُوصِي " بِكَسْرِ الصَّادِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِأَنَّهَا يُوصَى بِهَا لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهَا. هَذَا مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي، وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ الْوَصْفِ التَّرْغِيبُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّعْمِيمُ أَوْ دَيْنٍ أَيْ وَمِنْ بَعْدِ دَيْنٍ يَتْرُكُهُ عَلَيْهِ. وَقُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْمِيرَاثِ شَاقَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فِي الْوَفَاءِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي التَّرِكَةِ، وَيَلِيهِ الْوَصِيَّةُ فَهِيَ مِمَّا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ أَدَائِهِمَا هُوَ الَّذِي يُقْسَمُ عَلَى الْوَارِثِينَ. وَعَطَفَ

الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِأَوْ دُونَ الْوَاوِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ مُتَقَدِّمَانِ عَلَى الْقِسْمَةِ مَجْمُوعَيْنِ أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ بَيَانِ مَا فَرَضَ اللهُ لِلْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَمَا اشْتَرَطَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ أَيْ فُرِضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ لَا هَوَادَةَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ. أَآبَاؤُكُمْ أَمْ أَبْنَاؤُكُمْ فَلَا تَتَّبِعُوا فِي قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِعْطَائِهَا لِلْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الْأَعْدَاءَ، وَحِرْمَانِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ. بَلِ اتَّبِعُوا مَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ، مِمَّا تَقُومُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَصَالِحُكُمْ، وَتَعْظُمُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أُجُورُكُمْ. . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، أَيْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، أَمَنْ يُوصِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَيُمَهِّدُ لَكُمْ طَرِيقَ الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ تُبَاشِرُونَهُ فَتَكُونُونَ جَدِيرِينَ بِأَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، وَالْخَيْرُ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ؟ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ فَيُوَفِّرُ لَكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا؟ بَلِ اللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَثَّلُوا أَمْرَهُ، وَتَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا تَتَبَرَّمُوا بِإِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَلَا تَذْكُرُوا الْمُوصِيَ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَهُوَ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِكُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يُقَدِّرُ بِهَا الْأَشْيَاءَ قَدْرَهَا، وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، لَا يَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَكُمْ ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْغَرَضِ، وَالْهَوَى اللَّذَيْنِ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَمْنَعَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ فَرَائِضِ عَمُودِ النَّسَبِ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ الْأَوْلَادُ، وَالْوَالِدُونَ، وَقَدَّمَ الْأَهَمَّ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ الْمَتْرُوكِ، وَهُمُ الْأَوْلَادُ دُونَ الْأَشْرَفِ وَهُمُ الْوَالِدُونَ - بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَالْمُسَبِّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قُوَّةِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَالْوُجُوهُ فِي التَّفَاضُلِ تُخَالِفُ الِاعْتِبَارَاتِ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ اللَّوَاتِي تَحَقَّقَتْ بِهِنَّ الزَّوْجِيَّةُ بِأَكْمَلِ مَعْنَاهَا بِالدُّخُولِ بِهِنَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ مَا مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ بَطْنِهَا مُبَاشَرَةً، أَوْ مِنْ صُلْبِ بَنِيهَا، أَوْ بَنِي بَنِيهَا فَنَازِلًا، وَالْبَاقِي لِأَوْلَادِهَا، وَوَالِدَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَحْجُبُ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ وَالْبَاقِي مِنَ

12

التَّرِكَةِ لِلْأَقْرَبِ إِلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ، وَذَوَى الْأَرْحَامِ، يُعْلَمُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ لَكُمْ ذَلِكَ فِي تَرْكِهِنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَتَيْنِ. بَعْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ، إِذْ لَيْسَ لِوَارِثٍ شَيْءٌ إِلَّا مِمَّا يَفْضَلُ عَنْهُمَا إِنْ كَانَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مَا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِنْكُمْ زَوْجٌ وَاحِدَةٌ كَانَ لَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَانِ فَأَكْثَرَ اشْتَرَكَتَا، أَوِ اشْتَرَكْنَ فِيهِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِمُسْتَحِقِّهِ شَرْعًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَأُولِي الْأَرْحَامِ لَكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَالْبَاقِي لِوَلَدِكُمْ عَلَا أَوْ نَزَلَ، وَلِمَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ وَالِدَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَبِهَذَا كَانَ لِلذَّكَرِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ زَوْجَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا كَانَ لَهُنَّ نَصِيبُ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَطَّرِدُ فِيهِنَّ قَاعِدَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُ مِنْ إِرْثِ امْرَأَتِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. فَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الزَّوْجَيْنِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ؟ أَقُولُ: الْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ هِيَ إِرْشَادُ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الَّذِي نَجْرِي عَلَيْهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلرَّجُلِ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ إِلَى أَرْبَعٍ بِشَرْطِهِ الْمُضَيَّقِ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا الضَّرُورَةُ أَحْيَانًا، وَقَدْ تَكُونُ لِخَيْرِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ - كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ إِبَاحَةِ التَّعَدُّدِ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ - وَنَذْكُرُ مَا قُلْنَاهُ فِي حِكْمَةِ جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَمَا هُنَا يُلَاقِي مَا هُنَاكَ، وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، وَالنُّصُوصُ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ لِجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِلزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجَاتِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فَلَمْ يُرَاعِهِ فِي أَحْكَامِهِ. وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تُوضَعُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ. وَلَمَّا بَيَّنَ ـ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ ـ أَحْكَامَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِالْوَاسِطَةِ، وَهُوَ الْكَلَالَةُ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ أَيْ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تُورَثُ كَلَالَةً أَيْ حَالَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَالَةً، أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مُورَثٌ كَلَالَةً أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَاللَّفْظُ مَصْدَرُ كَلَّ يَكِلُّ، بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ غَيْرِ قَرَابَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ لِضَعْفِهَا بِالنِّسْبَةِ

إِلَى قَرَابَةِ الْأُصُولِ، وَالْفُرُوعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْقَرَابَةُ، وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إِذَا تَبَاعَدَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ كَلَالَةً، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَانِيًا. وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا هُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ؟ وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: تَكَلَّلَ السَّحَابُ إِذَا صَارَ مُحِيطًا بِالْجَوَانِبِ. قَالَ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْكَلَالَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ، وَكَالْإِكْلِيلِ الْمُحِيطِ بِرَأْسِهِ، أَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهَا يَتَفَرَّعُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ، وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَسَبٌ تَتَابَعَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ فَأَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُغَايِرَةُ لِقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ كَالْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصَالٌ، وَإِحَاطَةٌ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكَلَالَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، وَيُرَادُ بِهَا مَنْ يَرِثُهُ غَيْرُ أَوْلَادِهِ، وَيُوصَفُ بِهَا الْوَارِثُ، وَيُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ، وَرَجَحَ هَذَا بِحَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ أَنَّ لَفْظَ الْكَلَالَةِ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُثَنَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ صِفَةٌ كَالْهَجَاجَةِ لِلْأَحْمَقِ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَارِثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [4: 176] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيِّبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ عَنْهَا، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَانِي اعْلَمُهَا أَبَدًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَمْرَ الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ فِي كَتِفٍ (أَيْ عَظْمِ كَتِفٍ) ، ثُمَّ طَفِقَ يَسْتَخِيرُ

رَبَّهُ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكَتِفِ، فَمَحَاهَا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ كَتَبْتُ كِتَابًا فِي الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ فِي الْكَتِفِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ غَرِيبِةٌ فِي مَعْنَاهَا. فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ مَنْ دُونَ عُمَرَ، وَلَا مَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَلِلَّهِ فِي الْبَشَرِ شُئُونٌ، وَقَلَّمَا تَقْرَأُ تَرْجَمَةَ رَجُلٍ عَظِيمٍ إِلَّا وَتَجِدُ فِيهَا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي بَابِهِ. إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ آيَتَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقَطْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ مَا يَأْخُذُهُ إِخْوَةُ الْعَصَبِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِرْثُ كَلَالَةٍ فِيهِ إِخْوَةُ عَصَبٍ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي جَعَلَتْ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَخِ فَأَكْثَرَ كُلَّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4: 176] فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَعْنِي بِهِ الْأَخَ، أَوِ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ مِنَ الْعَصَبِ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ فَرْضَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ إِمَّا السُّدُسُ، وَإِمَّا الثُّلُثُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفَسِّرُونَ علىْ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِزِيَادَةِ " مِنَ الْأُمِّ "، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِزِيَادَة " مِنْ أُمٍّ " وَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ أَيْ غَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ تُخَصِّصُ ; لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَحَادِيثِ الْآحَادِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمَا فَظَنُّوا أَنَّ كَلِمَةَ: " مِنَ الْأُمِّ " قِرَاءَةٌ، وَأَنَّهُمَا يَعُدَّانِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ بِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ فَظَنَّ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَالِيَةُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَا دَخْلَ هَاهُنَا لِلَفْظِ الرَّاوِي فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا. وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ، وَفِيهِ قِرَاءَةُ " يُوصَى " بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بِقَوْلِهِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ أَيْ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ - سُبْحَانَهُ - لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ. ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً ; وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَصِيَّةً مِنَ اللهِ أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ حَلِيمٌ لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا "، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا

يُشِيرُ اسْمُ " الْعَلِيمِ " هُنَا إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ بِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَمَنْفَعَتِهِمْ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ مُرَاقَبَةِ الْوَارِثِينَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى التَّرِكَاتِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّهُ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يَلْتَزِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَالُ مَنْ يَتَعَدَّى تِلْكَ الْحُدُودَ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنَ الْوَصَايَا، أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ حَقِّ صِغَارِ الْوَارِثِينَ، أَوِ النِّسَاءِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَلِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ - تَعَالَى - هُنَا فَائِدَتَانِ: فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَفَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ التَّنْفِيذِ. وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقْرِنَ وَصْفَ الْعِلْمِ بِوَصْفِ الْحِكْمَةِ كَالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيُقَالُ: " وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ فِي إِيثَارِ الْوَصْفِ بِالْحِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ، وَحَثٍّ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ ; لَا مَقَامَ حَثٍّ عَلَى التَّوْبَةِ فَيُؤْتَى فِيهِ بِالْحِلْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّذْكِيرَ بِعِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِنْذَارِ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ، وَالْفَرَائِضِ، وَوَعِيدِهِ، وَكَانَ تَحَقُّقُ الْإِنْذَارِ، وَالْوَعِيدِ بِعِقَابِ مُعْتَدِي الْحُدُودِ وَهَاضِمِ الْحُقُوقِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ غُرُورِ الْغَافِلِ، ذَكَّرَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِحِلْمِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ تَأَخُّرَ نُزُولِ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرَاءَةِ، وَالِاغْتِرَارِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَفِزُّهُ الْمَعْصِيَةُ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحِلْمِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّ الطَّامِعَ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَأَكْلِ الْحُقُوقِ تَمَتُّعُ بَعْضِ الْمُعْتَدِينَ بِمَا أَكَلُوا بِالْبَاطِلِ، فَيَنْسَى عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَوَعِيدَهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ مَا تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَغُرَّنَّ الْمُعْتَدِيَ نَفْسَهُ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِ، فَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لَا يَغُرَّنَّ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إِمْهَالٌ يَقْتَضِيهِ الْحِلْمُ، لَا إِهْمَالٌ مِنَ الْعَجْزِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَفَائِدَةُ الْمُذْنِبِ مِنْ حِلْمِ الْحَلِيمِ الْقَادِرِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ وَقْتًا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي بَشَاعَةِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَإِذَا أَصَرَّ الْمُذْنِبُ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْحِلْمِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ، يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْحَلِيمِ لَهُ أَشَدَّ مِنْ عِقَابِ السَّفِيهِ عَلَى الْبَادِرَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَمِنَ الْأَمْثَالِ فِي ذَلِكَ: " اتَّقُوا غَيْظَ الْحَلِيمِ " ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْظَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ آخِرِ دَرَجَاتِ الْحِلْمِ إِذَا لَمْ تُبْقِ الذُّنُوبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ انْتِقَامُهُ عَظِيمًا. نَعَمْ إِنَّ حِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَزُولُ، وَلَكِنَّهُ يُعَامِلُ بِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13: 8] فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ - تَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِكَرَمِهِ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [82: 6 - 9] .

13

تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودًا لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا، وَيَتَعَدَّوْهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَكَذَا الْمُبَاحَاتِ، فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمُكَلَّفُ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ فَقَدْ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [7: 31] أَقُولُ: فَمَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَائِرَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَمَدَارُ الْعِصْيَانِ عَلَى اعْتِدَائِهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُبَيِّنَةَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ حُدُودًا بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ إلخ. طَاعَةُ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ اتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَطَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [4: 80] وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ إِذًا فِي ذِكْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ذِكْرِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى -؟ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَطَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَتَّحِدَانِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى فِيمَا يُسْنِدُهُ الرَّسُولُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ يَأْمُرُ الرَّسُولُ بِأَشْيَاءَ، وَيَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ، أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ الِاسْتِهْجَانِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَامُ الْأُمَّةِ، وَحَاكِمُهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُقِرُّ رُسُلَهُ عَلَى خَطَإٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الِاجْتِهَادِ حَقَّهُ الْمُوصِلَ إِلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا أَذِنَ لِبَعْضِ مَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [9: 43] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ مَعَ الْعِتَابِ كَمَا عَاتَبَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُوَافِقِ لِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى

إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [67، 68] مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [80: 1] إلخ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا، وَلَا قَضَاءً، وَلَا سِيَاسَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُرْتَابِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ: أَنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ، وَالْآدَابِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ، وَتَنْفَعُ النَّاسَ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ الدِّينِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَهُ بَلْ يَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لَجَعْلِ الْأُمَمِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي آدَابِهِمْ، وَارْتِقَائِهِمْ. وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هِدَايَةِ الْجَمَاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ بِارْتِقَائِهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَوِيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنَا التَّارِيخُ أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَنِيَّاتِ الَّتِي وَعَاهَا وَعَرَفَهَا إِلَّا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ حَتَّى مَدَنِيَّاتُ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْكَلَدَانِيِّينَ، وَالْيُونَانِيِّينَ، وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِهِدَايَتِهَا، فَنَحْنُ بِهَذَا نَرَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةَ كَانَ لَهَا أَصْلٌ إِلَهِيٌّ، ثُمَّ سَرَتِ الْوَثَنِيَّةُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا سَرَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي بَقِيَ أَصْلُهَا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَلَيْسَ لِلْبَشَرِ دِيَانَةٌ يَحْفَظُ التَّارِيخُ أَصْلَهَا حِفْظًا تَامًّا إِلَّا الدِّيَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ دَوَّنَ فِي أَسْفَارِهِ كَيْفِيَّةَ سَرَيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّأْوِيلُ أَوِ الْجَهْلُ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ

فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ غَيْرَ قَلِيلٍ مِمَّا يُخَالِفُونَ بِهِ جِيرَانَهُمْ كَجَوَازِ أَكْلِ لَحْمِ الْبَقَرِ فِي الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَيْفِيَّةِ الزَّوَاجِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى فِي بَعْضِ بِلَادِ رُوسْيَا وَغَيْرِهَا! ! فَمَنْ عَلِمَ هَذَا لَا يَسْتَبْعِدُ تَحَوُّلَ الدِّيَانَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ. فَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ أَسَاسُ كُلِّ مَدَنِيَّةٍ ; لِأَنَّ الِارْتِقَاءَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِقَاءِ الْمَادِّيِّ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَقْرَأُ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْفَلَاسِفَةِ الِاجْتِمَاعِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ (هربرت سبنسر) أَنَّ آدَابَ الْأُمَمِ وَفَضَائِلَهَا الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَدَنِيَّتِهَا مُسْتَنِدَةٌ كُلُّهَا إِلَى الدِّينِ وَقَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَهَا عَنْ أَسَاسِ الدِّينِ، وَبِنَاءَهَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا هَذَا التَّحْوِيلُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ فِي طَوْرِ التَّحْوِيلِ فِي فَوْضَى أَدَبِيَّةٍ لَا تُعْرَفُ عَاقِبَتُهَا، وَلَا يُحَدَّدُ ضَرَرُهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامُ فِي حَدِيثٍ لَهُ مَعَهُ: إِنَّ الْفَضِيلَةَ قَدِ اعْتَلَّتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَضَعُفَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيْثُ قَوِيَ فِيهَا الطَّمَعُ الْمَادِّيُّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ مِنْ أَشَدِّ أُمَمِ أُورُبَّا تَمَسُّكًا بِالدِّينِ مَعَ كَوْنِ مَدَنِيَّتِهَا أَثْبَتَ، وَتَقَدُّمِهَا أَعَمَّ ; لِأَنَّ الدِّينَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ الْفَضَائِلِ، وَالْآدَابِ، عَلَى أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ الْأُورُبِّيَّةَ بَعِيدَةٌ عَنْ رُوحِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَا غَلَبَةُ بَعْضِ آدَابِ الْإِنْجِيلِ عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ لَأَسْرَفُوا فِي مَدَنِيَّتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ إِسْرَافًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَإِذًا لَبَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ سَرِيعًا. وَمَنْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَكُونُ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّينِ أَقْرَبُهَا إِلَى السُّقُوطِ، وَالْهَلَاكِ لَا يَكُونُ مِفْتَاتًا فِي الْحُكْمِ وَلَا بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ. فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ: أَنَّ وُجُودَ أَفْرَادٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ غَيْرِ الْمُتَدَيِّنِينَ لَا يَنْقُضُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى كَمَالِهِ الْمَدَنِيِّ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَسُوقُهُ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ فُلَانًا الْمُلْحِدَ الَّذِي يَرَاهُ عَالِيَ الْأَفْكَارِ وَالْآدَابِ قَدْ نَشَأَ عَلَى الْإِلْحَادِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى فِي ذَلِكَ عَنِ الدِّينِ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الْإِلْحَادِ، وَإِنَّنَا نَعْرِفُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُرْتَقِينَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَاتِّبَاعًا لِآدَابِ دِينِهِمْ، وَفَضَائِلِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِلْحَادُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُنَاقِضُ بَعْضَ أُصُولِ ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي نَشَئُوا عَلَيْهِ، وَالْفَلْسَفَةُ قَدْ تُغَيِّرُ بَعْضَ عَقَائِدِ الْإِنْسَانِ، وَآرَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يُقَبِّحُ لَهُ الْفَضَائِلَ وَالْآدَابَ الدِّينِيَّةَ، أَوْ يَذْهَبُ بِمَلَكَاتِهِ، وَأَخْلَاقِهِ الرَّاسِخَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَسْطُو الْإِلْحَادُ عَلَى بَعْضِ آدَابِ الدِّينِ كَالْقَنَاعَةِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ فَيُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ

أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مِنَ الْحَرَامِ كَأَكْلِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْقِمَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ مَا يَجْعَلُهُ حَقِيرًا بَيْنَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَوْ يُلْقِيهِ فِي السِّجْنِ، وَكَالْعِفَّةِ فِي الشَّهَوَاتِ فَيُبِيحُ لَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ مَا لَا يُخِلُّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. هَذَا إِذَا كَانَ رَاقِيًا فِي أَفْكَارِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاقِينَ مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ، وَالنَّسْلِ إِلَّا الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ دُوَلَ أُورُبَّا قَدْ نَظَّمَتْ فِرَقَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الْحُقُوقِ مِنَ الشِّحْنَةِ وَالشُّرْطَةِ (الْبُولِيسِ وَالضَّابِطَةِ) أَتَمَّ تَنْظِيمٍ وَجَعَلَتِ الْجُيُوشَ الْمُنَظَّمَةَ عَوْنًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمَا حُفِظَ لِأَحَدٍ عِنْدَهَا عِرْضٌ وَلَا مَالٌ، وَلَعَمَّتْ بِلَادَهَا الْفَوْضَى وَالِاخْتِلَالُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُقُوقُ وَالْأَعْرَاضُ مَحْفُوظَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُنَظَّمَةِ أَيَّامَ كَانَ الدِّينُ مَرْعِيًّا فِي الْآدَابِ، وَالْأَحْكَامِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرُسُلِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا قَدْ جَاءَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى ; وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فِي الطَّاعَةِ هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَنَّهَا أَرْقَى مِمَّا نَرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ وَمَنْ يُطِعْ إلخ، وَجَمَعَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، فَإِنَّ مَنْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ مِنْ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ الصَّافِي الدَّائِمُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ بِجَانِبِهِ الْفَوْزُ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ الْمُنَغَّصَةِ بِالشَّوَائِبِ وَالْأَكْدَارِ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَقَدْ جِيءَ بِالْحَالِ هُنَا مُفْرَدًا كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ فَقَالَ: خَالِدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَقَدِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى تَمَتُّعِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَأُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنْعِمُ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَعَرِّي الْحَكِيمُ: وَلَوْ أَنِّي حُبِيتُ الْخُلْدَ وَحْدِي ... لَمَا أَحْبَبْتُ بِالْخُلْدِ انْفِرَادَا وَأَمَّا مَنْ قَذَفَهُ عِصْيَانُهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي النَّارِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْأُنْسِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ وَحِيدٌ لَا يَجِدُ لَذَّةً فِي الِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِهِ وَلَا أُنْسًا، فَلَمَّا كَانَ لَا يَتَمَتَّعُ بِمَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ كَانَ كَأَنَّهُ وَحِيدٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ خَالِدًا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [43: 39] .

وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ يَكُونُ خَالِدًا فِي النَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ عَاصِيًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4: 116] وَسَتَأْتِي الْآيَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْعَلُ الْآيَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلًا يُرْجِعُ إِلَيْهِ سَائِرَ الْآيَاتِ وَلَوْ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّأْوِيلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَى أَنَّ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحُدُودِ لَا جِنْسُهَا، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ كُلَّهَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعَدِّيَ يَصْدُقُ بِالْبَعْضِ وَهُوَ يَكُونُ مِنَ الْكُفْرِ وَجُحُودِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَالْجُحُودُ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَإِمَّا غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ إِنْسَانٍ، وَإِعْطَاءَهُ لِآخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْكَارِ حُكْمِ اللهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ السَّرِقَةُ فَحَبَسَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ مُعَاقَبَةَ السَّارِقِ بِهِ، أَوْ مُسْتَقْبِحًا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ تَجِدُونَهُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي النَّاجِينَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْجَنَّةِ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [3: 135]-[رَاجِعْ ص112 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ]- فَإِنَّ مَنْ يَعْمَلُ الذَّنْبَ، وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مُصِرًّا عَالِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ لِلْمُذْنِبِ حَالَتَيْنِ، وَإِنَّنَا نُعِيدُ ذَلِكَ وَلَا نَزَالُ نُلِحُّ فِي تَقْرِيرِهِ إِلَى أَنْ نَمُوتَ. الْحَالَةُ الْأُولَى: غَلَبَةُ الْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، أَوِ الْغَضَبِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِهِ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَقَلْبُهُ غَائِبٌ عَنِ الْوَعِيدِ غَيْرُ مُتَذَكِّرٍ لِلنَّهْيِ، وَإِذَا تَذَكَّرَهُ يَكُونُ ضَعِيفًا كَنُورٍ ضَئِيلٍ يَلُوحُ فِي ظُلْمَةِ ذَلِكَ الْبَاعِثِ الْمُتَغَلِّبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَخْتَفِيَ، فَإِذَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ وَتَذَكَّرَ النَّهْيَ وَالْوَعِيدَ نَدِمَ وَتَابَ، وَوَقَعَ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَشَدِّ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعِقَابِ، وَصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بِالنَّجَاةِ فِي يَوْمِ الْمَآبِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى الذَّنْبِ جَرِيئًا عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا ارْتِكَابَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِتَرْكِهِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ تَذَكُّرُ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ

17

بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى آثَرَ طَاعَةَ شَهْوَتِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2: 81] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ. رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَطْمَعُونَ فِي عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَنْ يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ - تَعَالَى - عَامِدًا عَالِمًا بِنَهْيهِ، وَوَعِيدِهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِصِدْقِ خَبَرِهِ، وَلَا مُذْعِنًا لِشَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ رَحْمَتُهُ وَرِضَاهُ بِالْتِزَامِهِ، وَعَذَابُهُ وَبَأْسُهُ بِاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، فَيَكُونُ إِذًا مُسْتَهْزِئًا بِهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ مَعَ عَدَمِ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَالنَّدَمِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَصِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ يَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا لَا حَقِيقِيًّا. أَقُولُ: هَذَا بَسْطُ مَا قَرَّرَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا تَذَكَّرَ الْقَارِئُ طَرِيقَتَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - إِذْ بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَابِ الْفَتَاوَى مِنَ الْمَنَارِ - فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَبَيِّنَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَعْنِي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فِي النَّفْسِ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لِلْإِيمَانِ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا، وَسَنُعِيدُ الْقَوْلَ فِيهِ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ إلخ. وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ عَذَابَ الرُّوحِ بِالْإِهَانَةِ، يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ بَدَنَ هَذَا الْعَاصِي يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ يَتَأَلَّمُ، وَرُوحُهُ تَتَأَلَّمُ بِالْإِهَانَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ يَشْعُرُ بِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا قَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (نَظْمِ الدُّرَرِ، فِي تَنَاسُبِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ) بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ

السَّابِقَةِ مُبَيِّنًا وَجْهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا نَصُّهُ: " وَلَمَّا تَقَدَّمَ - سُبْحَانَهُ - فِي الْإِيصَاءِ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ الْإِحْسَانُ فِي الدُّنْيَا تَارَةً يَكُونُ بِالثَّوَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالزَّجْرِ، وَالْعِقَابِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الشَّرَائِعِ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْإِنْصَافِ، وَالِاحْتِرَازِ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ - خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - بِإِهَانَةِ الْعَاصِي، وَكَانَ إِحْسَانًا إِلَيْهِ بِكَفِّهِ عَنِ الْفَسَادِ ; لِئَلَّا يُلْقِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَكَانَ مِنْ أَفْحَشِ الْعِصْيَانِ الزِّنَا، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ، وَالْفِتْنَةُ بِهِنَّ أَكْبَرَ، وَالضَّرَرُ مِنْهُنَّ أَخْطَرَ، وَقَدْ يُدْخِلْنَ عَلَى الرِّجَالِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِهِمْ قَدَّمَهُنَّ فِيهِ اهْتِمَامًا بِزَجْرِهِنَّ " اهـ. وَأَقُولُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالَّتِي قَبْلَهُمَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِ آيِ الْإِرْثِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ حَتَّى جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى فِيهَا أَصْلًا، أَوْ كَالْأَصْلِ يُبْنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [فِي ص322 ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ، وَالْقِسْطِ فِيهِنَّ وَعَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ مَعَ الْعَدْلِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا جَاءَ حُكْمُ إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مُقَدَّمًا عَلَى حُكْمِ إِتْيَانِ الرِّجَالِ الْفَاحِشَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ حُكْمِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كُرْهًا وَعَضْلِهِنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَحُكْمِ مَا يَحْرُمُ مِنْهُنَّ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَوْجِيهِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّسَاءِ هُنَا بِعِلَاقَتِهِ بِالْإِرْثِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشَةِ بِالزِّنَا الَّذِي يَقْضِي إِلَى تَوْرِيثِ وَلَدِ الزِّنَا، وَلَكِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ بَلِ الرِّجَالُ أَكْثَرُ جُرْأَةً عَلَى الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانًا لَهَا، وَلَوْ أَمْكَنَ إِحْصَاءُ الزُّنَاةِ، وَالزَّوَانِي لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ. قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ اللَّاتِي: جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ الَّتِي أَوْ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَيَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مَعْنَاهَا يَفْعَلْنَ الْفِعْلَةَ الشَّدِيدَةَ الْقُبْحِ، وَهِيَ الزِّنَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَالسِّحَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَصْلُ الْإِتْيَانِ وَالْإِتِيِّ الْمَجِيءُ، تَقُولُ: جِئْتُ الْبَلَدَ وَأَتَيْتُ الْبَلَدَ، وَجِئْتُ زَيْدًا، وَأَتَيْتُهُ، وَيَجْعَلُونَ مَفْعُولَهُمَا حَدَثًا فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَمِنْهُ فِي الْمَجِيءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مُوسَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [18: 74] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [19: 89] وَاسْتِعْمَالُ الْإِتْيَانِ فِي الزِّنَا، وَاللِّوَاطِ هُوَ الشَّائِعُ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولُهُ حَدَثًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَمَا بَعْدَهَا، وَيَكُونُ شَخْصًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ [7: 81] إلخ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ، وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِثَالًا فِي اسْتِعْمَالِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ يَدِي وَأَنَا فِي فُنْدُقِ الْمُسَافِرِينَ كُتُبٌ أُرَاجِعُ فِيهَا مِنْ نِسَائِكُمْ أَيْ يَفْعَلْنَهَا حَالَ كَوْنِهِنَّ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَالْخِطَابُ

لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً ; لِأَنَّهُمْ مُتَكَافِلُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْحُكَّامَ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ. وَلَفْظُ الْأَرْبَعَةِ يُطْلَقُ عَلَى الذُّكُورِ، فَالْمُرَادُ أَرْبَعَةٌ مِنْ رِجَالِكُمْ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: " مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَلَّا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ " فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قِيَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا عَدَاهَا، وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ إِبْعَادُ النِّسَاءِ عَنْ مَوَاقِفِ الْفَوَاحِشِ، وَالْجَرَائِمِ، وَالْعِقَابِ، وَالتَّعْذِيبِ رَغْبَةً فِي أَنْ يَكُنَّ دَائِمًا غَافِلَاتٍ عَنِ الْقَبَائِحِ لَا يُفَكِّرْنَ فِيهَا، وَلَا يَخُضْنَ مَعَ أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُحْفَظَ لَهُنَّ رِقَّةُ أَفْئِدَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الشُّهَدَاءِ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا. فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِنَّ بِإِتْيَانِهَا: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَيْ فَاحْبِسُوهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَامْنَعُوهُنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا عِقَابًا لَهُنَّ، وَحَيْلُولَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَمَنْعِهِنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُجَرَّدِ الْغَيْرَةِ، أَوْ مَحْضِ التَّحَكُّمِ مِنَ الرِّجَالِ، وَإِتْبَاعِهِمْ لِأَهْوَائِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ التَّوَفِّي: الْقَبْضُ، وَالِاسْتِيفَاءُ، أَيْ حَتَّى تُقْبَضَ أَرْوَاحُهُنَّ بِالْمَوْتِ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. فَسَّرَ الْجُمْهُورُ السَّبِيلَ بِمَا يَشْرَعُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا عِنْدَهُمْ، فَجَعَلُوا الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ عِقَابًا مُؤَقَّتًا مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَرَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ لَا نَاسِخٌ، وَالَّذِينَ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْأَحَادِيثِ جَعَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخًا لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ النَّاسِخُ لَهُ آيَةُ النُّورِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24: 2] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْجَائِزِ أَلَّا تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِأَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُوصِيَ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ أَنْ يُحْدَدْنَ صِيَانَةً لَهُنَّ عَنْ مِثْلِ مَا جَرَى عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ، وَيَكُونُ السَّبِيلُ - عَلَى هَذَا - النِّكَاحَ الْمُغْنِيَ عَنِ السِّفَاحِ. وَقَوْلُهُ هَذَا أَوْ تَجْوِيزُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ آيَةِ الْحَدِّ سَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجُمْهُورِ الْمَبْنِيُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا فَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِرِوَايَاتٍ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بِالزِّنَا حُبِسَتْ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَخَذَ الْمَهْرَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدٌّ، وَلَا يُجَامِعُهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ وَأَخَذَ زَوْجُهَا مَهْرَهَا

حَتَّى جَاءَتِ الْحُدُودُ فَنَسَخَتْهَا. وَلَكِنَّنَا إِذَا بَحَثْنَا فِي مَتْنِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفَمَا كَانَ سَنَدُهُمَا نَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ فِيهِمَا عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إِجَازَةٌ لِأَخْذِ الْمَهْرِ، بَلِ الْآيَاتُ قَبْلَهَا، وَبَعْدَهَا تُحَرِّمُ أَكْلَ الرَّجُلِ شَيْئًا مَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَهَا فِي السِّجْنِ أَيْ لَا فِي بَيْتِهَا، وَصَرَّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، أَوِ اسْتِصْحَابِ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَلَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ كُلُّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السَّبِيلَ بِالْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبِيلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ دَاعِيَةُ السِّحَاقِ، وَالشِّفَاءُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَرَضًا، وَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: التَّوْبَةُ وَصَلَاحُ الْحَالِ، وَيُرَجِّحُهُ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْ عِقَابِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ إِنْ تَابَا، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدْلِهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الرِّجَالِ، فَالْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يُفَسِّرُهُ الْإِيضَاحُ وَالتَّفْصِيلُ فِي آخِرِ مَا بَعْدَهَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ بِعْدَهُمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أَيْ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ هُنَا الزِّنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللِّوَاطُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْأَمْرُ مَعًا فِي قَوْلِ (الْجَلَالَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْأَوَّلِ الزَّانِي، وَالزَّانِيَةُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَفِي الثَّانِي الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ يَجْعَلُ الْقَابِلَ كَالْفَاعِلِ وَفِي الثَّالِثِ، وَاللَّائِطُ وَلَا تَجُوزُ فِيهِ فَآذُوهُمَا. بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَفْسِيرُ الْإِيذَاءِ بِالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعْيِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ فَقَطْ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الزِّنَا - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَالْعِقَابُ كَانَ تَعْزِيرًا مُفَوَّضًا إِلَى الْأُمَّةِ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِيذَاءِ الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ، وَمُحَدِّدَةٌ لِلْإِيذَاءِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا هُنَا فِي الزِّنَا، وَإِلَّا فَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحُكْمِ الزِّنَا ; لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللِّوَاطِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي عِقَابِ مَنْ يَأْتِيهِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَتَخْصِيصُهُ الْفَاحِشَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاللِّوَاطِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الرَّجُلِ بِالرَّجُلِ، وَالْفَاحِشَةَ فِيمَا قَبْلَهَا بِالسِّحَاقِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ تِلْكَ خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ خَاصَّةً بِالذُّكُورِ، فَهَذَا مَرْجِعٌ لَفْظِيٌّ يُدَعِّمُهُ مَرْجِعٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ نَاطِقًا بِعُقُوبَةِ الْفَوَاحِشِ الثَّلَاثِ، وَكَوْنُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ

مُحْكَمَتَيْنِ، وَالْإِحْكَامُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ حَتَّى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ. فَإِنْ تَابَا رَجَعَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَنَدِمَا عَلَى فِعْلِهَا وَأَصْلَحَا الْعَمَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ يُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ الْعِصْيَانِ لِيُطَهِّرَ نَفْسَهُ وَيُزَكِّيَهَا مِنْ دَرَنِهِ وَيُقَوِّيَ فِيهَا دَاعِيَةَ الْخَيْرِ عَلَى دَاعِيَةِ الشَّرِّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيْ كُفُّوا عَنْ إِيذَائِهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ مُبَالِغًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْعِقَابَ لِيَنْزَجِرَ الْعَاصِي، وَلَا يَتَمَادَى فِيمَا يُفْسِدُهُ فَيَهْلِكَ، وَيَكُونَ قُدْوَةً فِي الشَّرِّ وَالْخُبْثِ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ " التَّوَّابِ الرَّحِيمِ " فِي [ص41: ج: 2 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً وَلِأَجْلِ الْفِرَارِ مِنَ التَّكْرَارِ، قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُحْصَنَاتِ أَيِ الثَّيِّبَاتِ، فَهُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يُحْبَسْنَ فِي الْبُيُوتِ إِذَا زَنَيْنَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَالثَّانِيَةُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، وَالْمُحْصَنَاتِ، أَيْ فِي الْأَبْكَارِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِقَابُ فِيهَا أَخَفَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَالْآيَتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُمْسَكْنَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ يَبْقَى فِي نَظْمِ الْآيَةِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ وَمِنْ جَعْلِ السَّبِيلِ قَدْ جُعِلَ غَايَةً لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِإِنْزَالِ حُكْمٍ جَدِيدٍ فِيهِنَّ ; إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يُنْزِلَ اللهُ فِيهِنَّ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدْ فَسَّرَ السَّبِيلَ بَعْضُهُمْ بِالزَّوَاجِ كَأَنْ يُسَخِّرَ اللهُ لِلْمَرْأَةِ الْمَحْبُوسَةِ رَجُلًا آخَرَ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَدْ وَافَقَ الْجَلَالُ الْجُمْهُورَ فِي الْأُولَى، وَخَالَفَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ مَعًا، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطِ، فَتَكُونُ الْأُولَى مَنْسُوخَةً عَلَى رَأْيِهِ، وَالثَّانِيَةُ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ. وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأُولَى فِي الْمُسَاحِقَاتِ، وَالثَّانِيَةَ فِي اللِّوَاطِ، فَلَا نَسْخَ، وَحِكْمَةُ حَبْسِ الْمُسَاحِقَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَعْتَادُ الْمُسَاحَقَةَ تَأْبَى الرِّجَالَ، وَتَكْرَهُ قُرْبَهُمْ - أَيْ فَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ حَرْثًا لِلنَّسْلِ - فَتُعَاقَبُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنْعِ مِنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَاءٍ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَتَزَوَّجَ. أَقُولُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَكْرَهَ السِّحَاقَ، وَتَمِيلَ إِلَى الرِّجَالِ فَتُقْبِلُ عَلَى بَعْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتَتَزَوَّجُ إِنْ كَانَتْ أَيِّمًا. قَالَ: وَفِي إِسْنَادِ جَعْلِ السَّبِيلِ لَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - إِشَارَةٌ إِلَى عُسْرِ النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ، وَالشِّفَاءِ مِنْهَا حَتَّى بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْحَبْسِ فَكَأَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ - تَعَالَى -. قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَأَنَّ تَفْسِيرَ الْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَبِأَنَّ

الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ. فَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ بِهِ وَنَاهِيكَ بِمُجَاهِدٍ. وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، وَيَفْهَمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا عَنْ أَحَدٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا. وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَجْلِسُونَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَدَارَسُونَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَالِاتِّعَاظِ، وَهُمْ يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ ذَكَرُوا لَهُ تَفْسِيرَهَا يَسْكُتُونَ عَنْ حُكْمِ الشَّيْءِ السِّنِينَ الطِّوَالَ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ذَكَرُوا حُكْمَهَا، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حُكْمُ السِّحَاقِ، وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَنَا رِوَايَةً عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلَا حُكْمًا مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بِالْحَبْسِ لِأَجْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ هَذَا، وَذَاكَ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ. وَيَشْهَدُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يَضَعُ عِقَابًا عَلَى فَاحِشَةٍ، أَوْ جَرِيمَةٍ فَيَمْتَنِعُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ. فَلَا تَقَعُ أَوَّلًا تَظْهَرُ فِيهِمْ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى أَحَدٍ، فَهَذَا مِمَّا نَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَنَحْمَدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ فَالْحَقُّ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْآيَتَيْنِ. قَالَ: وَبَحَثُوا فِي جَمْعِ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، وَتَثْنِيَةِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، وَعَدُّوهُ مُشْكِلًا، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ بَلْ نُكْتَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ النِّسَاءَ لَمَّا كُنَّ لَا يَجِدْنَ مِنَ الْعَارِ فِي السِّحَاقِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ فِي إِتْيَانِ مِثْلِهِ كَانَتْ فَاحِشَةُ السِّحَاقِ مَظِنَّةَ الشُّيُوعِ وَالْإِظْهَارِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَفَاحِشَةُ اللِّوَاطِ مَظِنَّةَ الْإِخْفَاءِ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَجَاوَزُ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، فَفِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَقْدِيرٌ لِكَوْنِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ عَارًا فَاضِحًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ بِالْجَمْعِ، وَالتَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّنْوِيعِ فَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الِاشْتِبَاهِ. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

لَمَّا ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الْإِصْلَاحِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّوَّابِ الرَّحِيمِ، أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ كَثِيرًا، وَيَعْفُو بِهَا عَنْهُمْ - عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ أَيْ إِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - قَبُولَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ كَرَمِهِ، وَفَضْلِهِ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَالسُّوءُ: هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ فَاعِلَهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ كَرِيمَ النَّفْسِ، أَوْ يَسُوءُ النَّاسَ، وَيَصْدُقُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. وَالْجَهَالَةُ: الْجَهْلُ وَتَغْلِبُ فِي السَّفَاهَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النَّفْسَ عِنْدَ ثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ سَوْرَةِ الْغَضَبِ فَتَذْهَبُ بِالْحِلْمِ، وَتُنْسِي الْحَقَّ، وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ، وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [2: 7] وَتَفْسِيرَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [2: 81] مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ [رَاجِعْ ص120 و300 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 وَكَذَا ص300 وَمَا بَعْدَهَا ج 3 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ أَيْضًا. وَكَمْ غَرَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ النَّاسَ وَجَرَّأَتْهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِعَلَى الذُّنُوبِ، وَالْآثَامِ، وَأَوْهَمَتْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي طُولَ حَيَاتِهِ إِذَا تَابَ قَبْلَ بُلُوغِ رُوحِهِ الْحُلْقُومَ، فَصَارَ الْمَغْرُورُونَ يُسَوِّفُونَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى يُوبِقَهُمُ التَّسْوِيفُ، فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تُقْرَنَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [20: 82] وَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [40: 7] وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ. كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَيَيْأَسَ مِنْ قَبُولِهِ إِيَّاهُ إِذَا هُوَ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَيْسَ

مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ إِذَا هُوَ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ ; فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِهَدْيِ كِتَابِ اللهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَلِسُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَفْسَهُ تَتَدَنَّسُ بِالذُّنُوبِ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا لَهَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا، وَتَرْسَخُ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِتَزْكِيَتِهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ! الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ. وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ. فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ. وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَالْجَهَالَةُ: تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا: الْعِصْيَانُ، وَالْمُخَالَفَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ

18

عِنْدَهُ احْتِمَالَاتٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ تُشَكِّكُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ السَّارِقِ، كَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَالْجِيرَانِ الصَّالِحِينَ، وَكَاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَكَالْمُكَفِّرَاتِ. فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ يَسْرِقُهُ، وَتَذَكَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى السَّرِقَةِ يَنْتَصِبُ فِي ذِهْنِهِ مِيزَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ بِمَا يَسْرِقُهُ، وَالْعِقَابِ الْآجِلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْعِقَابِ رَجَحَتْ كِفَّةُ دَاعِيَةِ السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَسْرُوقِ يَقِينِيٌّ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ نَفْعَهُ لَهُ وَرُجْحَانَهُ عَلَى مُقَابِلِهِ إِنْ خَطَرَ فِي بَالِهِ الْمُقَابِلُ، فَعَلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَهُوَ لَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا جَهْلًا بِحَقِيقَةِ الْوَعِيدِ، أَوْ مُتَأَوِّلًا لَهُ يُمَثِّلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ مَغْلُوبًا بِشَهْوَةٍ، أَوْ بِغَضَبٍ، فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْ قَرِيبٍ فَتَابَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً حَتْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ هُوَ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ. وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَعْقِلُ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ، أَوْ شَهْوَةٍ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ. وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا. فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى -

يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَقَدْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَأَرْكَانِهَا. أَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً: لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ

فِيهِ الشَّهَوَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، فَهُوَ يَأْلَفُ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَقْلُ لِيَضَعَ لِتِلْكَ الشَّهَوَاتِ النِّظَامَ وَالْقَوَانِينَ، وَالْعِلْمَ بِمَا شُرِعَ فِيهَا مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ هَفْوَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِفَ الْعَقْلُ وَيَفْقَهَ أَسْرَارَ النَّقْلِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَبِيرُ النَّفْسِ، عَالِي الِاسْتِعْدَادِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ مَرَّةً كَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ عَوَاقِبِهَا وَمُصَوِّرًا إِيَّاهَا بِصُورَةٍ أَحْسَنَ مِنْ صُورَتِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِذَا أَلَمَّ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ بِالذَّنْبِ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ الَّذِي حَجَبَتْهُ عَنْهُ الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ضَعُفَ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ، فَيُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ، وَبَيْنَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَا لَهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِذَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ، وَاعْتَادَهُ وَعُرِفَ بِهِ فَيَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَيَصْرِفُهَا عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَرْسَخُ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا، وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا

كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ ; إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ; لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ - وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [3: 16، 17] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [3: 135] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي

الْآخِرَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ اسْتَثْقَلَتِ التَّكَالِيفَ لِجَهْلِهَا بِفَائِدَتِهَا، فَفَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاتَّبَعَتْ أَهْوَاءَهَا، وَجَعَلَتْ حَظَّهَا مِنَ الدِّينِ بَعْضَ الْأَذْكَارِ، وَالْأَوْرَادِ السَّهْلَةِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا شَيْئًا، فَصَارَ الدِّينُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47: 24] بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا "، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ " إلخ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَلَكَاتِهَا، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ ; بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ ; وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ هُنَاكَ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ. قَالَ: وَقَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَاهُنَا: قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا. وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ

إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ; وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ " يَتُوبُونَ " هُنَاكَ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ. وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللهِ " فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا. قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى

تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَالْبَسْطِ، وَالْإِيضَاحِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ. قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [23: 107] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ، وَهُوَ - أَيِ الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ:

إِذَا كُنْتَ جَائِعًا وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا طَعَامًا أَخْبَرَكَ رَجُلٌ يَهُودِيُّ لَا تَثِقُ بِرِوَايَتِهِ فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، أَفَلَا تَبْنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَتْرُكُ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ؟ بَلْ إِنَّكَ لَتَقُولُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِلْهَلَاكِ بِهَذَا الطَّعَامِ! وَقَدْ أَخْبَرَكَ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ لِلْأَرْوَاحِ مُفْضِيَةٌ إِلَى سُخْطِ اللهِ، وَعَذَابِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْجَزْمَ بِصِدْقِهِ، وَأَنْتَ تَجْعَلُ خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ! ؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ: الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ. قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْفَرِيقَانِ الْبَعِيدَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَهِدَايَةِ الشَّرِيعَةِ، الْمُسْتَعْبَدَانِ لِسُلْطَانِ الشَّهْوَةِ وَشَيْطَانِ الرَّذِيلَةِ، قَدْ أَعْتَدْنَا، وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْمَمَاتُ قَدْ دَسَّى نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ، فَصَارُوا مِنَ التُّحُوتِ، تَهْبِطُ خَطَايَاهُمْ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَى هَاوِيَةِ الْهَوَانِ. وَتَعْجَزُ عَنِ الْعُرُوجِ إِلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ، وَمَعَاهِدِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

19

قَالُوا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ: لَمَّا نَهَى - سُبْحَانَهُ - فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى وَالْأَمْوَالِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِنَانِ بِسُنَنِهِمْ فِي النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ أَمْوَالِهِنَّ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي النِّسَاءِ، وَالْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ اسْتِطْرَادًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ حَمِيمُهُ وَتَرَكَ جَارِيَةً أَلْقَى عَلَيْهَا ابْنُهُ، أَوْ حَمِيمُهُ ثَوْبَهُ فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبْسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا "، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا: وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كُبَيْشَةَ ابْنَةِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحُ. فَنَزَلَتْ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، فَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْبِسُ الْمَرْأَةَ عِنْدَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَيَنْتَظِرُ مَوْتَهَا حَتَّى يَرِثَهَا. قَالَ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ الْجَائِرَةِ وَآمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ فَتَجْعَلُوهُنَّ مِيرَاثًا لَكُمْ كَالْأَمْوَالِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْعَبِيدِ، وَتَتَصَرَّفُوا بِهِنَّ كَمَا تَشَاءُونَ، فَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَمَنَعَهَا الزَّوَاجَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْآتِي ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ كَرْهًا بِأَنْ تُمْسِكُوهُنَّ عَلَى كُرْهٍ لِأَجْلِ أَنْ يَمُتْنَ فَتَرِثُوهُنَّ، وَقَوْلُهُ: (كَرْهًا) قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ فِي الْأَحْقَافِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ بالضَّبْطَيْنِ مَصْدَرٌ لِـ كَرِهَ ضِدِّ أَحَبَّ (كَمَا وَرَدَ الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا) ، وَقِيلَ الْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْإِكْرَاهُ، وَبِالْفَتْحِ: الْكَرَاهِيَةُ، وَقِيلَ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَعَلَى مَا أُكْرِهَ الْمَرْءُ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْكُرْهِ هُنَا فَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَرِثُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهَاتٍ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ مُكْرَهَاتٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهِينَ لَكُمْ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِكُمْ مَكْرُوهِينَ لَهُنَّ، وَكُلُّ هَذِهِ

الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ، وَلَفْظُ الْكُرْهِ لَيْسَ قَيْدًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْتَقِرُ النِّسَاءَ وَتَعُدُّهُنَّ مِنْ قَبِيلِ الْمَتَاعِ، وَالْعُرُوضِ حَتَّى كَانَ الْأَقْرَبُونَ يَرِثُونَ زَوْجَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ كَمَا يَرِثُونَ مَالَهُ، فَحَرَّمَ اللهُ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَفْظُ الْكُرْهِ هُنَا لَيْسَ قَيْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَهُنَّ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ. وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَصْلُ (الْعَضْلِ) : التَّضْيِيقُ، وَالْمَنْعُ، وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، أَيِ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَنْجَاةَ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَ (تَعْضُلُوهُنَّ) مَعْطُوفٌ عَلَى (لَا تَرِثُوا) وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ إِرْثُ النِّسَاءِ، وَلَا عَضْلُهُنَّ، أَيْ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، لِأَجْلِ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، أَيْ أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكَافُلِهِمْ فَيَصْدُقُ بِمَا أَعْطَوْهُ لِلنِّسَاءِ مِنْ مِيرَاثٍ، وَمَهْرِ زَوَاجٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْوَرَثَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ يَعْضُلُ النِّسَاءَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا مَا تُوَافِقُهُ فَيُفَارِقُهَا عَلَى أَلَّا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ فَإِنْ أَعْطَتْهُ، وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا. وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [2: 231] وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [2: 229] وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَخَصَّ الْآيَةَ فِي الْجِلَالَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَضْلِ هُنَا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ زَوَاجِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تُضَارُّوهُنَّ، وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِيَكْرَهْنَكُمْ، وَيَضْطَرِرْنَ إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْكُمْ ; فَقَدْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مَنْ يُعْجِبُهُمْ حُسْنُهَا، وَيُزَوِّجُونَ مَنْ لَا تُعْجِبُهُمْ أَوْ يُمْسِكُونَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ بِمَا كَانَتْ وَرِثَتْ مِنْ قَرِيبِ الْوَارِثِ، أَوْ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْوِهِ، أَوِ الْمَجْمُوعِ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوهَا الزِّيَادَةَ إِنْ عَلِمُوا أَنَّهَا تَسْتَطِيعُهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْمُحَرَّمُ هُنَا. أَقُولُ: وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَتَيِ الْمَوَارِيثِ.

إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَكَلِمَةُ " مُبَيِّنَةٍ " قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ ظَاهِرَةٍ مُتَبَيِّنَةٍ أَوْ مُبَيِّنَةٍ حَالَ صَاحِبِهَا فَاضِحَةٍ لَهُ. وَقَدْ وَرَدَ: بَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ اللَّازِمِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هُنَا هِيَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ "، وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَرَءَا " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ " دُونَ لَفْظِ " عَلَيْكُمْ "، وَعِنْدِي أَنَّهُمَا ذَكَرَا الْآيَةَ بِالْمَعْنَى فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهُمَا رَوَيَا ذَلِكَ قِرَاءَةً فَعَنَيَا لَفْظَ الْقُرْآنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِ أَنَّهَا: الزِّنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمَعْنَى لَا تَعْضُلُوهُنَّ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا الْحَالَ أَوِ الزَّمَنَ الَّذِي يَأْتِينَ فِيهِ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ دُونَ الظِّنَّةِ وَالشُّبْهَةِ، فَإِذَا نَشَزْنَ عَنْ طَاعَتِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ يَنْفَعْ مَعَهُنَّ التَّأْدِيبُ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَاءَتْ عِشْرَتُهُنَّ لِذَلِكَ، أَوْ تَبَيَّنَ ارْتِكَابُهُنَّ لِلزِّنَا، أَوِ السِّحَاقِ فَلَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ ; لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ إِذْ لَا يُكَلِّفُكُمُ اللهُ أَنْ تَخْسَرُوا عَلَيْهِنَّ مَا لَكَمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَجِيءُ فِيهَا الْفُحْشُ مِنْ جَانِبِهِنَّ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ [2: 229] وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ هُنَا هِيَ الزِّنَا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا النُّشُوزُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْفُحْشُ بِالْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ عَدَمُ تَعْيِينِهَا وَتَخْصِيصِهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ تَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَصْدُقُ بِالسَّرِقَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْفَاحِشَةِ الْمَمْقُوتَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ فِيهَا هَذَا الْوَصْفُ الْمَنْصُوصُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً، أَيْ ظَاهِرَةً فَاضِحَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا الْقَيْدُ لِئَلَّا يَظْلِمَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِإِصَابَتِهَا الْهَفْوَةَ وَاللَّمَمَ، أَوْ بِمُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ وَالتُّهَمِ، فَمِنَ الرِّجَالِ الْغَيُورُ السَّيِّئُ الظَّنِّ يُؤَاخِذُ الْمَرْأَةَ بِالْهَفْوَةِ فَيَعُدُّهَا فَاحِشَةً، وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمُضَارَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْهَا بَعْضَ مَا كَانَ آتَاهَا مِنْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُضَارَّةَ لِأَخْذِ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكْرَهُ الرَّجُلَ وَتَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ فَتُؤْذِيهِ بِفُحْشٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، لِيَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ مُعَاشَرَتَهَا، فَيُطَلِّقَهَا، فَتَأْخُذَ مَا كَانَ آتَاهَا، وَتَتَزَوَّجَ آخَرَ تَتَمَتَّعُ مَعَهُ بِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا فَعَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَتْ بِالْأَوَّلِ. وَإِذَا عَلِمَ النِّسَاءُ أَنَّ الْعَضْلَ، وَالتَّضْيِيقَ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَمِمَّا أُبِيحَ لَهُمْ إِذَا هُنَّ أَهَنَّهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُنَّ عَنِ ارْتِكَابِهَا وَالِاحْتِيَالِ بِهَا عَلَى أَرْذَلِ الْكَسْبِ. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ نِسَائِكُمْ بِأَنْ تَكُونَ

مُصَاحَبَتُكُمْ وَمُخَالَطَتُكُمْ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْرِفُهُ، وَتَأْلَفُهُ طِبَاعُهُنَّ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، وَلَا مُرُوءَةً، فَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ، وَالْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، وَكَثْرَةُ عُبُوسِ الْوَجْهِ، وَتَقْطِيبِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ كُلُّ ذَلِكَ يُنَافِي الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي الْمُعَاشَرَةِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، أَيْ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُعَاشِرْنَكُمْ كَذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَزَيَّنَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الزِّينَةِ لِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ لَهُ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَدْعَاةَ سُرُورِ الْآخَرِ، وَسَبَبَ هَنَائِهِ فِي مَعِيشَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الْمَعْرُوفَ " بَعْضُهُمْ بِالنَّصَفَةِ فِي الْقَسْمِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا، فَقَالَ هُوَ أَلَّا يُسِيءَ إِلَيْهَا، وَلَا يَضُرَّهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَعِيفٌ، وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمَدَارَ فِي الْمَعْرُوفِ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَسْتَنْكِرُهُ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهَا بِحَسَبِ طَبَقَتِهِمَا فِي النَّاسِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ. وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْخَادِمَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَخْدِمْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَكَانَ الزَّوْجُ قَادِرًا عَلَى أُجْرَةِ الْخَادِمَةِ. وَقَلَّمَا يُقَصِّرُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلنِّسَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ، بَلْ هُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمِلَلِ إِنْفَاقًا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ إِرْهَاقًا لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى، قَصَّرُوا فِي إِعْدَادِ الْبَنَاتِ لِلزَّوْجِيَّةِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالتَّعْلِيمِ الْمُغَذِّي لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ فَعَسَى أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ قَرِيبٍ. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِعَيْبٍ فِي الْخُلُقِ، أَوِ الْخَلْقِ مِمَّا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا لَهُنَّ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِنَّ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ النِّسَاءُ وَكَذَا الرِّجَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ، أَوِ الْمَيْلِ مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فَاصْبِرُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِمُضَارَّتِهِنَّ، وَلَا بِمُفَارَقَتِهِنَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا فَهَذَا الرَّجَاءُ عِلَّةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بَلْ أَهَمُّهُ وَأَعْلَاهُ الْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ يَمَلُّهَا زَوْجُهَا وَيَكْرَهُهَا، ثُمَّ يَجِيئُهُ مِنْهَا مَنْ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ فَيَعْلُو قَدْرُهَا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ شَاهَدْنَا، وَشَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا، وَنَاهِيكَ بِهِ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [25: 74] . نِعَمُ الْإِلَهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيرَةٌ ... وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الْأَوْلَادِ وَمِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ حَالَهَا بِصَبْرِهِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، فَتَكُونَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ هَنَائِهِ فِي انْتِظَامِ مَعِيشَتِهِ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُصِيبَ بِالْأَمْرَاضِ، أَوْ بِالْفَقْرِ، وَالْعَوَزِ، فَكَثِيرًا مَا يَكْرَهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِبَطَرِهِ بِصِحَّتِهِ، وَغِنَاهُ، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَمَتَّعَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَأَجْمَلَ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُسْلَبَ مَا أَبْطَرَهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَيَكُونَ لَهُ مِنْهَا إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الْبَطَرِ خَيْرُ سَلْوَى، وَعَوْنٍ فِي أَيَّامِ الْمَرَضِ، أَوِ الْعَوَزِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَكْرَهُ زَوْجَهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ مِثْلَ هَذَا وَيَتَذَكَّرَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ تَصْبِرُ امْرَأَتُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، غَيْرَ مَا وَطَّنَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ،

20

وَقَدْ بَيَّنَّا حَاجَةَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى مَوَدَّةِ الْآخَرِ، وَرَحْمَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ) فَتُرَاجَعْ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ، وَرُبَّمَا نُودِعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30: 21] . هَذَا، وَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْآيَةِ يُرْشِدُنَا إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ تَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، مَتَى جَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرُ تَظْهَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَرَفَ الْعُقَلَاءُ صِدْقَهَا بِالتَّجَارِبِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ لَهَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [2: 216] وَلَمْ يَقُلْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَاحْتِمَالِهِ فَوَائِدَ أُخْرَى غَيْرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكْرُوهِ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْمَحْبُوبِ، فَالصَّابِرُ الْمُحْتَمِلُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِصَبْرِهِ، وَرَوِيَّتِهِ سَوَاءٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ أَمْ لَا، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ الْقِتَالُ بِالْحَقِّ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَكْرُوهٌ طَبْعًا، وَنَاهِيكَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَنَصْرِهِ، وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَخِذْلَانِ الْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوصِي أَهْلَهُ بِحُسْنِ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَرِهْنَ الْأَزْوَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ خَيْرٌ. وَإِنَّمَا يُبِيحُ مُؤَاخَذَتَهُنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَضْلِ حَتَّى يَفْتَدِينَ بِالْمَالِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ سَبَبًا لِمَهَانَةِ الرَّجُلِ وَاحْتِقَارِهِ، أَوْ إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا جَمِيعَ حَقِّهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: [2: 216] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَيْ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ جَدِيدَةٍ تَرْغَبُونَ فِيهَا مَكَانَ زَوْجٍ سَابِقَةٍ تَرْغَبُونَ عَنْهَا لِكَرَاهَتِكُمْ لَهَا وَعَدَمِ طَاقَتِكُمُ الصَّبْرَ عَلَى مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَقَدْ آتَيْتُمْ مِنْ قَبْلُ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا مِنَ الْمَالِ أَيْ مَالًا كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ أَخَذْنَهُ وَحُزْنَهُ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ الْتَزَمْتُمُوهُ لَهُنَّ فَصَارَ دِينًا فِي ذِمَّتِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِصَاحِبَتِهِ؛ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَبْدِلُونَ غَيْرَهَا بِهَا لِأَجْلِ هَوَاكُمْ، وَتَمَتُّعِكُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ مِنْهَا يُبِيحُ لَكُمْ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّالِبَةَ لِفِرَاقِكُمُ الْمُسِيئَةَ إِلَيْكُمْ لِأَجْلِ حَمْلِكُمْ عَلَى طَلَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَسْتَحِلُّونَ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا؟ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

21

اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ أَتَأْخَذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاهِتِينَ إِيَّاهَا كَاذِبِينَ عَلَيْهَا بِنِسْبَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهَا؟ ! فَالْبُهْتَانُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ، وَيُسْكِتُهُ مُتَحَيِّرًا، يُقَالُ: بَهَتَهُ فَبُهِتَ، أَيِ افْتَرَى عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِافْتِرَاءِ فَأَدْهَشَهُ، وَأَسْكَتَهُ مُتَحَيِّرًا. وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ ذِكْرَ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِعَدَمِ حِلِّ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ تَزَوُّجَ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ عِشْرَتَهَا، أَوِ اخْتَارَ الْوَحْدَةَ، وَعَدَمَ التَّقَيُّدِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ إِنْكَارٌ آخَرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ إِيحَاشِهَا بِالطَّلَاقِ، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا أَكَّدَ بِهِ الْإِنْكَارَ الْأَوَّلَ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ، أَوْ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ مَنْ تَمَتَّعَ بِامْرَأَتِهِ وَعَامَلَهَا مُعَامَلَةَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ أَشَدُّ صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا، وَأَرَادَ فِرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تُلْجِئَهُ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، أَوْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ، وَلَمْ يَتَأَثَّمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا الَّذِي آتَاهَا فِي حَالِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالرَّغْبَةِ فِيهَا. يَقُولُ: كَيْفَ تَأْخُذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ مَالِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَيْ خَلَصْتُمْ، وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِنَّ ذَلِكَ الْخُلُوصَ الْخَاصَّ بِالزَّوْجَيْنِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ تَمَامَ التَّحَقُّقِ، فَيُلَابِسُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَتَّى كَأَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَجْلِهِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى التَّثْنِيَةِ " زَوْجٍ "، وَبِهِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ؟ أَبَعْدَ هَذَا الْإِفْضَاءِ وَالْمُلَابَسَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ الْبَاذِلُ هُوَ الْقَاطِعَ لِلصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ طَامِعًا فِي مَالِ الْآخَرِ الْمَظْلُومِ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ: وَبِتْنَا وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ثَالِثٌ ... كَزَوْجِ حَمَامٍ أَوْ كَغُصْنَيْنِ هَكَذَا فَمِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَصْلِ وَالْوُدِّ كُلِّهِ ... أَكَانَ جَمِيلًا مِنْكَ تَهْجُرُ هَكَذَا؟ وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُنَا الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا الْمُلَامَسَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُفَسِّرُونَ بِمَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ مَعَ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ، فَالْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْدِيَةُ الْإِفْضَاءِ بِـ إِلَى الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الِاتِّصَالِ. وَهَذَا مِنْ حُسْنِ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّعْبِيرِ وَأَدَبِهِ الْعَالِي فِي الْخِطَابِ، وَمِنَ الدِّقَّةِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ أَفْضَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْآخَرِ وَبَعْضِهِ الْمُتَمِّمِ لِوُجُودِهِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ وَاتَّحَدَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أَيْ عَهْدًا شَدِيدًا مُوَثَّقًا يَرْبُطُكُمْ بِهِنَّ أَقْوَى الرَّبْطِ

وَأَحْكَمَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ هُوَ مَا أَخَذَ اللهُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [2: 229] قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُقَالُ: اللهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ، أَيْ صِيغَةُ الْعَقْدِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الرِّجَالَ مِنْ مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ النِّسَاءُ مِنَ الرِّجَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ شُئُونِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30: 21] فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَقْوَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فِي تَرْكِ أَبَوَيْهَا، وَإِخْوَتِهَا، وَسَائِرِ أَهْلِهَا، وَالرِّضَا بِالِاتِّصَالِ بِرَجُلٍ غَرِيبٍ عَنْهَا تُسَاهِمُهُ السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءَ، فَمِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فِي هَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَرْأَةُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ أَهْلِهَا ذَوِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهَا، لِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بِالْغَرِيبِ، تَكُونُ زَوْجًا لَهُ وَيَكُونُ زَوْجًا لَهَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَتَرْضَى بِأَنْ تَتْرُكَ جَمِيعَ أَنْصَارِهَا وَأَحِبَّائِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا إِلَّا وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ صِلَتُهَا بِهِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، وَعِيشَتُهَا مَعَهُ أَهْنَأَ مَنْ كُلِّ عِيشَةٍ، وَهَذَا مِيثَاقٌ فِطْرِيٌّ مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ، وَأَشَدِّهَا إِحْكَامًا، وَإِنَّمَا يَفْقَهُ هَذَا الْمَعْنَى الْإِنْسَانُ الَّذِي يُحِسُّ إِحْسَاسَ الْإِنْسَانِ، فَلْيَتَأَمَّلْ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ يَجِدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَمَا هُوَ الضَّمَانُ الَّذِي تَأْخُذُهُ عَلَيْهِ، وَالْمِيثَاقُ الَّذِي تُوَاثِقُهُ بِهِ؟ مَاذَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ إِذَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَكُونِينَ زَوْجًا لِفُلَانٍ. إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَخْطُرُ فِي بَالِهَا عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ هُوَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ اسْتَقَرَّ فِي فِطْرَتِهَا وَرَاءَ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ: هُوَ عَقْلٌ إِلَهِيٌّ، وَشُعُورٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَ فِيهَا مَيْلًا إِلَى صِلَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَثِقَةً مَخْصُوصَةً لَا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَهْلِ، وَحُنُوًّا مَخْصُوصًا لَا تَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا الْبَعْلَ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنَ الرَّجُلِ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْفِطْرَةِ الَّذِي يُوَثَّقُ بِهِ مَا لَا يُوَثَّقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَثَّقِ بِالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَعْتَقِدُ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا بِالزَّوَاجِ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَى سَعَادَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا سَعَادَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ مَنْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، وَلَمْ تَسْمَعْ لَهُ مِنْ قَبْلُ كَلَامًا، فَهَذَا مَا عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ، وَذَكَّرَنَا بِهِ - وَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي أَعْمَاقِ نُفُوسِنَا - بِقَوْلِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ أَخَذْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالزَّوَاجِ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَمَا هِيَ قِيمَةُ مَنْ لَا يَفِي بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَمَا هِيَ مَكَانَتُهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ؟ انْتَهَى. بِتَصَرُّفٍ مَا.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِالْآيَتَيْنِ عَلَى مَنْعِ الْخُلْعِ - وَهُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ - طَلَاقُ الْمَرْأَةِ عَلَى عِوَضٍ تَبْذُلُهُ لِلرَّجُلِ، كَأَنْ تَتْرُكُ لَهُ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَا هُنَا نَاسِخٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [2: 229] وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ تِلْكَ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلَهُ نَاسِخًا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِنَّمَا أَعْيَاهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فَحَكَمُوا بِنَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَآيَةُ النَّسْخِ التَّنَافِي، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ التَّفْسِيرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِعَدَمِ النَّسْخِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا هُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَالْمُبَاحُ هُنَاكَ مَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا بِرِضَاهَا لِتَعَذُّرِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الْقِنْطَارِ هُنَا عَلَى جَوَازِ التَّغَالِي فِي الْمُهُورِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي جَوَازِ جَعْلِ الْقِنْطَارِ مَهْرًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ الْقِنْطَارِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْهَدَايَا، وَالْمِنَحِ، وَلَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) نَهَى عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يُزَادَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [4: 20] فَقَالَ: " اللهُمَّ عَفْوًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ! "، ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: " إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ. وَفِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بِكَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ " لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - فَمَنْ زَادَ أُوقِيَّةً جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا ذَاكَ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ "، وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحَدِّدْ مِقْدَارَ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، بَلْ تَرَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَيُعْطِي كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْيُسْرِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّغَالِي فِيهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ خَيْرَ النِّسَاءِ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا حَدِيثُهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا كَذَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً. هَذَا وَإِنَّ التَّغَالِيَ فِي الْمُهُورِ قَدْ صَارَ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الزَّوَاجِ ; لِأَنَّهُ يُكَلِّفُ الرِّجَالَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقِلَّةُ الزَّوَاجِ تُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَالْفَسَادِ، وَيَكُونُ الْغَبْنُ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَنْتَهِي بِالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِرَدِّ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ النِّسَاءُ فِي

22

الْإِسْلَامِ هُنَّ اللَّوَاتِي يُعْطِينَ الْمُهُورَ لِلرِّجَالِ لِيَتَزَوَّجُوهُنَّ، كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّصَارَى. وَإِنَّكَ لَتَرَى هَذِهِ الْعَادَةَ الضَّارَّةَ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ النَّاسِ تَمَكُّنًا غَرِيبًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ لِلْكُفْءِ الصَّالِحِ الَّذِي لَا يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ إِذَا كَانَ لَا يُعْطِيهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِمَقَامِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ لَا يُرْضِيهِ دِينُهُ، وَلَا خُلُقُهُ، وَلَا يَرْجُو لَهَا الْهَنَاءَ عِنْدَهُ إِذَا هُوَ أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُخَيِّلُ إِلَيْهِ جَهْلُهُ أَنَّهُ لَائِقٌ بِمَقَامِهِ، وَهَكَذَا تَتَحَكَّمُ الْعَادَاتُ الضَّارَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْفَاسِدَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَيْهِمْ نِظَامَ مَعِيشَتِهِمْ، وَهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَوْ ضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ يَنْقَادُونَ لَهَا صَاغِرِينَ! وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ حُكْمُ نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَعَدَدُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ بِشَرْطِهِ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ بِأَنْ يُطَلِّقَ هَذِهِ وَيَنْكِحَ تِلْكَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: لَمَّا كَرَّرَ الْإِذْنَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِذْنُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ الطَّيِّبُ شَرْعًا يَحْمِلُ عَلَى الْحِلِّ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ فَقَالَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. أَقُولُ: قَدَّمَ هَذَا النِّكَاحَ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَسْرُدْهُ مَعَ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ عَلَى قُبْحِهِ كَانَ فَاشِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَاكَ ذَمَّهُ بِمِثْلِ مَا ذَمَّ بِهِ الزِّنَا

لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ كَمَا تَرَى فِي آخِرِ الْآيَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنِ امْرَأَتِهِ كَانَ ابْنُهُ أَحَقَّ بِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إِنْ شَاءَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، أَوْ يَنْكِحُهَا مَنْ شَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ قَامَ ابْنُهُ مِحْصَنٌ فَوَرِثَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ أَمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ ضَمْرَةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْهَا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ارْجِعِي لَعَلَّ اللهَ يُنْزِلُ فِيكِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلَا تَنْكِحُوا الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَقِبَ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِحْصَنٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَفِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي مَنْظُورِ بْنِ رَيَّانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ. وَالنِّكَاحُ هُوَ الزَّوَاجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2: 230] أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ إِطْلَاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى مَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، أَيْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَطْءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْإِطْلَاقَيْنِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَيِّهِمَا الْمَجَازِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْعَقْدُ، وَمَا وَرَاءَهُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) النِّكَاحَ هُنَا بِالْعَقْدِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ "، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآبَاءِ مَا يَشْمَلُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا قَدْ مَاتَ مِنْهُنَّ، وَرَوَوْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَطْعُ عِرْقِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَسَدُّ بَابِ إِبَاحَتِهَا سَدًّا مُحْكَمًا، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلًا مَسْلُوكًا إِلَّا أَنَّهُ سَبِيلٌ سَيِّئٌ، وَلَمْ يَزِدْهُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَّا قُبْحًا، وَمَقْتًا، وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " مَرَاتِبُ الْقُبْحِ ثَلَاثٌ: الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ، وَالْقُبْحُ الْعَادِيُّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - هَذَا النِّكَاحَ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: فَاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَقْتًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَسَاءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَادِيِّ ". أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخِيرَ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَادِيُّ ; أَيْ إِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَكِنَّهَا قَبِيحَةٌ وَمَا قَبْلَهُ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الطَّبْعِيُّ، أَيْ أَنَّ الطِّبَاعَ تَمْقُتُ هَذَا لِاسْتِقْبَاحِهَا إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْعِبَارَاتِ، وَفَاتَهُ هُوَ ذِكْرُ الْقُبْحِ الطَّبْعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِوُرُودِ الْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَرَّمَ حَلَائِلَ الْآبَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ. هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَانَ يَنْكِحُ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ. وَنِكَاحِ الشِّغَارِ: وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّوَاجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ هَذَا مُوَلِّيَتَهُ، وَلَا مَهْرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَكُونُ كَمَهْرٍ لِلْأُخْرَى. وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِلْآيَةِ، وَنَقْلِ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - الزِّنَا - هَذَا نَصُّهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً " إلخ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِذْ كَانَتْ " مَا " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيَ - عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - لَقِيلَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ " مَنْ " لِبَنِي آدَمَ، وَ " مَا " لِغَيْرِهِمْ، وَلَا تَقُلْ - أَيْ حِينَئِذٍ - وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَا مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ

23

بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا قَدْ مَضَى إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ - أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا - وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى - فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَبَنَاتُكُمْ وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا ; لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى. هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا

أَمْ سَعِيدًا، مُؤْمِنًا، أَمْ كَافِرًا! ! فَلَعَنَ اللهُ الزُّنَاةَ، مَا أَعْظَمَ شَرَّهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْبَشَرِ، وَلَعَنَ اللهُ الزَّوَانِيَ مَا أَكْثَرَ شَرَّهُنَّ وَأَعْظَمَ بُهْتَانَهُنَّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ لَتَحْمِلُ مَا لَا يَحْمِلُهُ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا مِنَ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ وَتَوْبِيخِ الضَّمِيرِ، فَهُوَ يَسْفَحُ مَاءً لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ وَرَاءَهُ، وَهِيَ الَّتِي تَعَلَّقُ بِهَا الْمُصِيبَةُ فَتُعَانِي مِنْ أَثْقَالِ حَمْلِهَا مَا تُعَانِي، ثُمَّ تُلْقِي حَمْلَهَا عَلَى فِرَاشِ زَوْجِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْسَى طُولَ الْحَيَاةِ أَنَّهَا أَلْقَتْ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بُهْتَانًا افْتَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَتْهُ مِنْ حُقُوقِ عَشِيرَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تُلْقِيهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهَا، وَقَلْبُهَا مُعَلَّقٌ بِهِ قَلِقٌ عَلَيْهِ لَا يَسْكُنُ لَهُ اضْطِرَابٌ إِلَّا أَنْ يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ أَفْضَلَ عَاطِفَةٍ، وَشُعُورٍ تَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْأَةُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَسْتَعْمِلُ الْأَدْوِيَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْحَمْلِ، فَتَضُرُّ نَفْسَهَا وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ رَحِمَهَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَوَاشِي الْقَرِيبَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَخَوَاتُكُمْ سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ لَكُمْ، أَوْ كُنَّ مِنَ الْأُمِّ وَحْدَهَا، أَوِ الْأَبِ وَحْدَهُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَعَمَّةُ جَدِّهِ، وَخَالَتُهُ، وَعَمَّةُ جَدَّتِهِ، وَخَالَاتُهَا لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ الْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْخُئُولَةِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَيْ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ: الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَالنَّسَبِ بَيَّنَهَا - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، وَبِنْتَهَا أُخْتًا لَهُ، فَأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ أَنَّ جِهَةَ الرَّضَاعَةِ كَجِهَةِ النَّسَبِ تَأْتِي فِيهَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي جَاءَتْ فِي النَّسَبِ كُلُّهَا، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَمَّا أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ عَمِّهِ حَمْزَةَ، أَيْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي صَحِيحِهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: ائْذَنِي لِأَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَا جَرَى جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَجَعَلُوا زَوْجَ الْمُرْضِعَةِ أَبًا لِلرَّضِيعِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهُ، وَفُرُوعُهُ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ; لِأَنَّهُ صَاحِبُ اللَّقَاحِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اللَّبَنِ الَّذِي تَغَذَّى مِنْهُ أَيِ الرَّضِيعُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا

جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا) ، وَالْأُخْرَى غُلَامًا، أَيَحِلُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ " قَالَ: لَا! اللَّقَاحُ وَاحِدٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَا فَهِمْنَا مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالْمُرْضِعَةِ، وَيَنْتَشِرُ فِي أُصُولِهَا، وَفُرُوعِهَا لِتَسْمِيَتِهَا أُمًّا، وَتَسْمِيَةِ بِنْتِهَا أُخْتًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا أَبًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَحْرُمَ جَمِيعُ فُرُوعِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّضِيعِ، كَمَا أَنَّ تَسْمِيَةَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمَّهَاتِ فَالتَّسْمِيَةُ يُرَاعَى فِيهَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَمَنْ رَضَعَ مِنِ امْرَأَةٍ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ جُزْءًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ مِنْ لَبَنِهَا فَصَارَتْ فِي هَذَا كَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهَا إِخْوَةً لَهُ ; لِأَنَّ لِتَكْوِينِ أَبْدَانِهِمْ أَصْلًا وَاحِدًا هُوَ ذَلِكَ اللَّبَنُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى إِلَّا مِنْ بَعْدُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ بِلَقَاحِهِ سَبَبًا لِتَكَوُّنِ اللَّبَنِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ قَدْ صَارَ أَصْلًا لِأَوْلَادِهِمَا، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ لَقَاحِهِ تَنَاوَلَهُ مَعَ اللَّبَنِ فَاشْتَرَكَا فِي سَبَبِ اللَّبَنِ، أَوْ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي تَكَوَّنَ بَعْضُ بَدَنِهِمَا مِنْهُ فَكَانَا أَخَوَيْنِ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا، وَالْآخَرُ أُنْثَى ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ بِنْتِ الزِّنَا عَلَى وَالِدِهَا بِالْأَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ دُونَهَا. فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَتْ زَيْنَبُ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي، أَرَى أَنَّهُ أَبِي، وَمَا وُلِدَ مِنْهُ فَهُمْ إِخْوَتِي، إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَخْطُبُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيَّةِ، فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ، أَمَّا مَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ فَهُمْ إِخْوَتُكِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ، فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ - وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ - فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا. فَأَنْكَحَتْهَا إِيَّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا، " قَالُوا: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِهَذَا - أَيْ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ - عَنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، فَالْمَسْأَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِجْمَاعِيَّةً. وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُصُولِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَا يُعَارِضُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَعَلَى الثَّانِي إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ عَارَضَتْهُ عِنْدَنَا النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ، وَمَتَى ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ امْتَنَعَ الْعُدُولُ عَنْهَا

لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَارَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتَّى أَتَاهُمُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ، أَيْ فَأَخَذُوا بِهِ وَرَجَعُوا عَنْ رَأْيِهِمُ الْأَوَّلِ. فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَمٌّ لِمَنْ رَضَعَ مِنْهَا، وَجَمِيعَ أَوْلَادِهَا إِخْوَةٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ آبَاؤُهُمْ، وَأُصُولَهَا أُصُولٌ لَهُ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا وَإِخْوَتُهَا خُئُولَةٌ لَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا. وَأَنَّ زَوْجَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَبٌ لِلرَّضِيعِ أُصُولُهُ أُصُولٌ لَهُ، وَفُرُوعُهُ فُرُوعٌ لَهُ، وَإِخْوَتُهُ عُمُومَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّةَ بِنْتٍ مِنْ بَنَاتِهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ مُرْضِعَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ مِنَ الْمُرْضِعَةِ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ لِلرَّضِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهَا إِخْوَةٌ لِأَبٍ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَهَا هِيَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ لَقَاحِ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ الرَّضِيعُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَمَّاتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ إِخْوَةُ أَبِيهِ بِالرَّضَاعَةِ، فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ - وَقَدْ ذُكِرْنَ بِالتَّفْصِيلِ - مُحَرَّمَاتٍ بِالرَّضَاعَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا إِخْوَةُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعُوا مِثْلَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي تَكْوِينِ بِنْيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي بِنْيَتِهِ فَيُبَاحُ لِلْأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ أَرْضَعَتْ أَخَاهُ، أَوْ أُمَّهَا، أَوْ بِنْتَهَا، وَيُبَاحُ لِلْأُخْتِ أَنْ تَتَزَوَّجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ أَخُوهَا، أَوْ أُخْتُهَا، أَوْ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ مَثَلًا. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِ الرَّضَاعَةِ فَيُرْضِعُونَ الْوَلَدَ مِنَ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عِدَّةِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَعْنُونَ بِمَعْرِفَةِ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَإِخْوَتِهَا، وَلَا أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَإِخْوَتِهِ لِيَعْرِفُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَحُقُوقِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ، فَكَثِيرًا مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمَا يُسَمَّى إِرْضَاعًا فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ - وَالْإِمْلَاجَةُ: الْمَرَّةُ مِنْ أَمْلَجَتْهُ ثَدْيَهَا إِذَا جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ أَيْ يَمُصُّهُ - وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعَةِ كَكَثِيرِهَا، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ

إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَابْنِ حَزْمٍ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى قَوْلٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ فَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَانْحَصَرَ التَّحْرِيمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُنَالِكَ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَذْهَبٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ عَائِشَةَ. وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَهَا، وَبِهَا يَقُولُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَهِيَ تَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ مَنْعِ تَحْرِيمِ الْمَصَّتَيْنِ وَالْإِمْلَاجَتَيْنِ، وَيُعَدُّ تَقْيِيدًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا قَالُوا: وَتَقْيِيدُ بَيَانٍ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ. قَالَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ إِلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا: إِنَّ عَائِشَةَ نَقَلَتْ رِوَايَةَ الْخَمْسِ نَقْلَ قُرْآنٍ لَا نَقْلَ حَدِيثٍ فَهِيَ لَمْ تُثْبِتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ تُثْبِتْ سُنَّةً فَنَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ ضَيَاعُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَدْلُولُ بِنَسْخِ الدَّالِّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَعَمَلُ عَائِشَةَ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَقُولُ بِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى لَمَا بَقِيَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِعَائِشَةَ، بَلْ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ تَكْثُرُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَابِعِ الْخُلَفَاءِ وَأَوَّلِ الْأَئِمَّةِ الْأَصْفِيَاءِ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ قَالَ بِالْخَمْسِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَمُعَلِّمَتُهُ، وَاتِّبَاعُهُ لَهَا لَا يَزِيدُ قَوْلَهَا قُوَّةً وَلَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً. ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، فَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ إِلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ "

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ " كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَقَطَ: لَا يُحَرِّمُ إِلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " فَهِيَ لَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَلَا السُّورَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ ذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ " ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ، وَالْعَمَلَ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْقَائِلَةَ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَآيَةُ الْخَمْسِ الرَّضَعَاتِ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ التِّلَاوَةُ، وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُهُ الْحُكْمُ، وَالْعَمَلُ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ الْعَشْرَ، وَالْخَمْسَ ذُكِرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَصَفَ الْخَمْسَ بِالْمَعْلُومَاتِ قَالَ: ثُمَّ سَقَطَ أَيْ نُسِخَ فَبَطَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهَا، وَهُوَ الْعَمَلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْسِ. وَلَهَا فِيهِ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ، وَأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَسَتَأْتِي، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَلَا يَعْمَلُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْخَمْسِ كَالشَّافِعِيَّةِ. وَوَصْفُ الْخَمْسِ بِالْمَعْلُومَاتِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ دُونَ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَصْفِ الْعَشْرِ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَشْرِ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَغْوًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ وَصْفٍ لِلْعَشْرِ يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ وَيَرْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ مُضْطَرِبَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَقَاءِ التِّلَاوَةِ، وَبَعْضُهَا عَلَى نَسْخِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ وَالْخَمْسِ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ نَزَلَ أَوَّلًا ثُمَّ تَرَاخَى الْأَمْرُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ نَاسِخًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ. وَإِذَا رَجَّحْنَا هَذَا الْأَخِيرَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّلَاثَةُ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُهُ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ سِيَاقٌ آخَرُ يُنَاسِبُ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ تِلْكَ الْعِبَارَةُ ثُمَّ تُحْذَفَ مِنْهُ، فَالْأَقْرَبُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ إِذًا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْآيَةِ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ) ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَمِلَ فِيهَا النَّاسُ بِقَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَشْرٍ - اسْتِبْدَالُ لَفْظِ " خَمْسٍ " بِلَفْظِ " عَشْرٍ "، وَبَقِيَ النَّاسُ يَقْرَءُونَهَا هَكَذَا إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَاذَا لَمْ تَثْبُتْ حِينَئِذٍ فِي الْقُرْآنِ؟ أَجَابَهُ الْجَامِدُونَ عَلَى الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِمَعَانِيهَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُوُفِّيَ وَهُمْ يَتْلُونَهَا لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ! . وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15: 9] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ

لَمْ يُثْبِتُوهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ عَنْ مَثَارِ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِرِوَايَةٍ آحَادِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: إِذَا صَحَّ هَذَا: فَمَا هِيَ حِكْمَةُ نَسْخِ الْعَشْرِ بِالْخَمْسِ عِنْدَ عَائِشَةَ، وَمَنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهَا، وَنَسْخِ الْخَمْسِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهَا وَادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَ نُسِخَتْ أَيْضًا بِنَسْخِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ؟ لَعَلَّ أَظْهَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا هِيَ التَّدْرِيجُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ شَيْءٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَإِذَا أَنْصَفُوا رَأَوُا الْفَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الرَّضَاعِ وَاسِعًا جِدًّا، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي الْعَصَبِ تَأْثِيرًا يُغْرِي الشَّارِبَ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَجْأَةً، وَلَا كَذَلِكَ تَرْكُ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ بِنْتِهَا مَثَلًا، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ - وَهِيَ كَوْنُ بَعْضِ بِنْيَةِ الرَّضِيعِ مُكَوَّنَةً مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَهُ - تَتَحَقَّقُ بِالرَّضْعَةِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْخَمْسِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَشْرًا، ثُمَّ خَمْسًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، وَيَدَّعِي نَسْخَهَا؟ وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ يُقَالُ: مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا التَّدْرِيجِ فَتَزَوَّجَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا، أَوْ بِنْتَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا تِسْعًا، أَوْ ثَمَانِيَ أَوْ سَبْعًا أَوْ سِتًّا؟ ثُمَّ مَاذَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرِ؟ هَلْ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ، أَمْ عُفِيَ عَنْهُمْ، وَجُعِلَ التَّحْرِيمُ بِمَا دُونَ الْعَشْرِ خَاصًّا بِغَيْرِهِمْ؟ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِهَذَا النَّسْخِ حِكْمَةٌ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ لَأَهْوَنُ مِنْ قَبُولِهَا مَعَ عَدَمِ عَمَلِ جُمْهُورٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ بِهَا كَمَا عَلِمْتَ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ رِوَايَتَهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَبِمَنْ قَالُوا بِاضْطِرَابِهَا خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ مَعْنَاهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَوَ لَيْسَ رَدُّ عَمْرَةَ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِنُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ، تَمَّ نَسْخُهُ، أَوْ سُقُوطُهُ، أَوْ ضَيَاعُهُ، فَإِنَّ عَمْرَةَ زَعَمَتْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الْخَمْسَ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِذًا لَا نَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ إِلَّا الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ إِذْ لَا تُسَمَّى رَضْعَةً فِي الْغِذَاءِ، وَبِمَعْنَاهَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَلْجِ الْوَلِيدِ الثَّدْيَ إِذَا مَصَّهُ وَأَمْلَجَتْهُ إِيَّاهُ جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ، فَإِنْ رَضَعَ رَضْعَةً تَامَّةً ثَبَتَتْ بِهَا الْحُرْمَةُ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ بَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِسِنِّ الرَّضِيعِ، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي سِنِّهِ، وَمُدَّتِهِ الْمَحْدُودَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [2: 233] وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَطْمِ، فَإِنْ فُطِمَ الرَّضِيعُ، وَلَوْ قَبْلَ السَّنَتَيْنِ امْتَنَعَ تَأْثِيرُ رَضَاعِهِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ رَضَاعُهُ إِلَى مَا بَعْدَ السَّنَتَيْنِ، وَلَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعُهُ مُحَرَّمًا، وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَصِحَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي الْفِطَامِ لِحَوْلٍ ثُمَّ الرَّضَاعِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِي، قَالَ: إِنْ تَمَادَى فِيهِ كَانَ مُحَرِّمًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ يُؤَثِّرُ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَحْدِيدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي وَاقِعَةِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي مُسْلِمٍ، وَمُفَصَّلَةٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَتُجْلِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَيُعْرَفُ أَمْثَلُهَا، وَهُوَ أَنَّ " أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ يُدْعَى ابْنَهُ، فَلَمَّا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ التَّبَنِّيَ صَارَ سَالِمٌ أَجْنَبِيًّا مِنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَصَارَ مِنَ الْحَرَجِ دُخُولُهُ عَلَى بَيْتِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِهْنَتِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِبْدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَاهَا لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا (أَيْ فِي فَضْلِ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ وَقْتَ الشُّغْلِ، أَوِ النَّوْمِ) ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ هَذَا سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ تَعْنِي مِنْ حِلِّ دُخُولِهِ بَعْدَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي لَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ فِي عِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَكَانَ الِابْنِ مِنْ قُوَّةِ دِينِهِ، وَتَقْوَاهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِيَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْفَاضِلَاتِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا سَقَتْهُ لَبَنَهَا فِي إِنَاءٍ. يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمَعْنَى " فِي الثَّدْيِ " فِي زَمَنِهِ أَيْ سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ

عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ " يُرْوَى " أَنْشَرَ " بِالرَّاءِ أَيْ بَسْطَهُ، وَمَدَّهُ، وَأَنْشَزَ بِالزَّايِ وَمَعْنَاهُ رَفَعَهُ. وَبَسْطُ الْعِظَامِ وَارْتِفَاعُهَا كِلَاهُمَا يَكُونَانِ بِنُمُوِّهَا، وَالْكَبِيرُ لَا تَنْمُو عِظَامُهُ، وَتَرْتَفِعُ بِالرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغَذَاءِ - وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. قَالَ بَعْضُ الذَّاهِبِينَ إِلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ فِي الْكِبَرِ لَاسِيَّمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ: إِنَّ حَدِيثَ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ حِينَ حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَإِنْ خَفِيَ نَسْخُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ، وَالتَّخْصِيصُ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ الْحُكُومَاتِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْقَوَانِينِ وَيُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَيْسَ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِمَنْسُوخٍ، وَلَا مَخْصُوصٍ بِسَالِمٍ، وَلَا عَامٍّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ سَالِمٍ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَهْلِهِ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى أَهْلِهِ ; أَيْ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ كَرِيمٍ يَثِقُ رَبُّهُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ خَدَمِهِ قَدْ جَرَّبَ أَمَانَتَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَصِدْقَهُ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَالِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ إِلَى جَعْلِهِ مَعَهَا فِي سَفَرٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ صِلَتَهُ بِهِ، وَبِهَا بِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُمَا فِي الرَّضَاعَةِ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ لَبَنِهَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِحِكْمَتِهَا أَلَا يَكُونَ أَوْلَى! بَلَى وَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَيُحْدِثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ عَاطِفَةً جَدِيدَةً. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُحَرَّمَاتُ الْمُصَاهَرَةِ، أَيِ الَّتِي تَعْرِضُ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، وَتَحْتَهُ الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ قَالَ تَعَالَى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يَدْخُلُ فِي الْأُمَّهَاتِ أُمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ وَجَدَّاتُهَا، وَيَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَدْخُلُ بِهَا الرَّجُلُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا تَدْخُلَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [2: 223] وَقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [2: 187] وَقَوْلِهِ: لَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [2: 231] وَلَا قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [2: 226] لِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْإِيلَاءَ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ دُخُولُهُ بِهَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْتَرِطِ الدُّخُولَ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي بِنْتِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهِيَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَكُونُ مِنْ نِسَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا وَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا.

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَنَاتِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ حَتَّى عَامَّةُ الْمُوَلَّدِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ ; لِأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتُهَا، وَالرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُلِ وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ لِأَنَّهُ يَرُبُّهُ كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ أَيْ يَسُوسُهُ، فَهُوَ مَعْنَى مَرْبُوبٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ يُقَالَ فِي مُؤَنَّثِهِ رَبِيبٌ كَمُذَكَّرِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ رَبِيبَةٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا. وَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْغَالِبِ فِي الرَّبِيبَةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا (وَالْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا يَحْجُرُهُ وَيَحُوطُهُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ صَدْرِهِ بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ) كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [17: 31] لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ، فَلَوْ قَتَلُوهُمْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا. وَيُقَالُ: فَلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ، قَالُوا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، كَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ زَوْجِ أُمِّهَا يَخْلُو بِهَا، وَيُسَافِرُ مَعَهَا، وَيُعَامِلُهَا بِكُلِّ مَا يُعَامِلُ بِهِ بِنْتَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِإِشْعَارِ الرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُوَضِّحُ لَهُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَيُقَرِّرُهَا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: " كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا " (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ " وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ

عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزَّوْجِ ; لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ لِبَيَانِ مَفْهُومِ مَا قُيِّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ كَانَ الْكَوْنُ فِي الْحُجُورِ قَيْدًا أَيْضًا لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ رَبَائِبُكُمْ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ. وَالْجُنَاحُ فَسَّرُوهُ بِالْإِثْمِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالتَّضْيِيقِ، وَالْأَذَى أَحْكَمُ، وَأَوْلَى، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: " وَالْجُنَاحُ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْهَمِّ، وَالْأَذَى، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا ... جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مِنْ تِرْبِهَا قَبْلُ وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَلَا تَضْيِيقَ " اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ نِكَاحَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا. وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنْهَا بِشَهْوَةٍ، بَلْ قَالُوا أَيْضًا: إِذَا لَمَسَ يَدَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي حَالِ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ خَطَأً فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْقِيَاسِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ تَوَسُّعًا ضَيَّقُوا فِيهِ تَضْيِيقًا! وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ فَاللَّوَاتِي يُزْنَى بِهِنَّ، أَوْ يُلْمَسْنَ، أَوْ يُقَبَّلْنَ، أَوْ يُنْظَرُ لَهُنَّ بِشَهْوَةٍ لَا يَصِرْنَ مِنْ نِسَاءِ الزُّنَاةِ، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مِنْهُنَّ بِمَا دُونَ الزِّنَا، فَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّهَا، وَلَا فَحْوَاهَا، وَحِكْمَةُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَعِلَّتُهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَحْيَانًا، وَمَا كَانَ الشَّارِعُ لِيَسْكُتَ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا تَمْضِيَ بِهِ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَ الزِّنَا فِيهَا فَاشِيًّا بَيْنَهُمْ، فَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْرَكًا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَلُهُ، وَحِكَمُهُ لَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا يُفْتُونَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْحَلَائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: حَلِيلٌ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُلُولِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَحِلَّانِ مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَفِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحِلِّ بِالْكَسْرِ، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، وَقِيلَ: مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) ، وَيَدْخُلُ فِي الْحَلَائِلِ الْإِمَاءُ اللَّوَاتِي يُسْتَمْتَعُ بِهِنَّ، وَاللَّفْظُ يَصْدُقُ عَلَيْهِنَّ بِكُلِّ مَعْنًى قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءُ الصُّلْبِ مُبَاشَرَةً، وَبِوَاسِطَةٍ كَابْنِ الِابْنِ، وَابْنِ الْبِنْتِ، فَحَلَائِلُهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْجَدِّ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ لَا بِالذَّاتِ، وَلَا بِالْوَاسِطَةِ فَهُوَ يَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ بِحَسَبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ: وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ - إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ ابْنَ الرَّضَاعِ تَحْرُمُ حَلِيلَتُهُ إِمَّا لِدُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ هُنَا، وَجَعَلَ الْقَيْدَ لِإِخْرَاجِ الدَّعِيِّ الَّذِي يُتَبَنَّى، وَإِمَّا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ حُرْمَةَ امْرَأَةِ الِابْنِ

لَا تَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ، فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَبِأَنَّ الدَّعِيَّ لَيْسَ ابْنًا فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ لَا حَقِيقَةً كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَنْزَلَ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [33: 4] بَطَلَ هَذَا الْعُرْفُ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ حُجَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَدِلَّتِنَا، وَعُمْدَتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ تَحْرِيمَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالصِّهْرِ لَا بِالنَّسَبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَصَرَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا عَلَى شَقِيقِهِ وَهُوَ الصِّهْرُ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (قَالُوا) : وَالتَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، فَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَنُصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ أَلْبَتَّةَ بِنَصٍّ، وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَا إِشَارَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَحْرُمَ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَفِي ذَلِكَ إِرْشَادٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِالصِّهْرِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لَقَالَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ. (قَالُوا) : وَأَيْضًا فَالرَّضَاعُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ فَقَطْ دُونَ التَّوَارُثِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَهُوَ نَسَبٌ ضَعِيفٌ، فَأَخَذَ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَلَمْ يَقْوَ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَهِيَ أَلْصَقُ بِهِ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ مَعَ قُصُورِهِ عَنْ أَحْكَامِ مُشْبِهِهِ وَشَقِيقِهِ، وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شُبْهَةَ نَسَبٍ، وَلَا بَعْضِيَّةَ، وَلَا اتِّصَالَ. (قَالُوا) : وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِيَّةِ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا يُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، فَمِنَ اللهِ الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَالِانْقِيَادُ، فَهَذَا مُنْتَهَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ ظَفِرَ فِيهَا بِحُجَّةٍ فَلْيُرْشِدْ إِلَيْهَا، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهَا ; فَإِنَّا لَهَا مُنْقَادُونَ، وَبِهَا مُعْتَصِمُونَ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ " انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَبَارَكَ اسْمُهُ مَا يَحْرُمُ بِالْأَسْبَابِ الثَّابِتَةِ، وَقَدَّمَ الْأَقْوَى فِي عِلَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ إِذَا زَالَ يَزُولُ التَّحْرِيمُ فَقَالَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمُ الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ إِطْلَاقِ إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَائِرَ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ

هَذَا وَحْدَهُ مِنْهَا. وَأَنَّ إِطْلَاقَ إِبَاحَةِ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ إِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسَبَبِ الْحِلِّ دُونَ شُرُوطِهِ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى، فَمَنْ مَلَكَ إِحْدَى مَحَارِمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَلَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِمْتَاعِ الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ، وَبِنْتِهَا فِي ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ؟ وَالْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، كَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِإِحْدَاهُمَا، وَمُتَزَوِّجًا الْأُخْرَى، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِمَا مَعًا. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يُعْتِقَ الْمَمْلُوكَةَ، أَوْ يَهَبَهَا، وَيُسَلِّمَهَا لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُخْتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالضَّابِطُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ بِهَا نِكَاحُ الْأُخْرَى: وَهُوَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحِكْمَةُ. ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَرَ لَكِنْ مَا سَلَفَ لَكُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: إِلَّا مَا سَلَفَ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ. وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَنْتُمُ الْتَزَمْتُمُ الْعَمَلَ بِشَرِيعَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِكُمْ أَثَرَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي تُنَافِي سَلَامَةَ الْفِطْرَةِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ أَنْ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لَكُمْ، وَتَوْثِيقُ رَوَابِطِ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرِ، وَالرَّضَاعِ بَيْنَكُمْ لِتَتَرَاحَمُوا، وَتَتَعَاطَفُوا، وَتَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى فَتَنَالُوا تَمَامَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

24

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ بَقِيَّةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَحَلِّ مَا عَدَاهُ، وَحُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَمَا فَصَلْنَاهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا إِلَّا لِأَنَّ مَنْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ إِلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا جَعَلُوهُمَا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ، وَقَدْ رَاعَوْا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُنَاسِبَ لِلْمَعْنَى

29

أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (4: 29) ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ ـ بِضَمِّ الصَّادِ ـ حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ ـ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ـ قَالَ الشَّاعِرُ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ وَيُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حِصْنِ الرَّجُلِ وَحِمَايَتِهِ، وَيُقَالُ: أَحْصَنَهَا أَهْلُهَا إِذَا زَوَّجُوهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَهَا فَتَكْتَفِيَ بِزَوْجِهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى الرِّجَالِ لِأَجْلِ حَاجَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتُحَصِّنَ زَوْجَهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُعَوَّلُ فِي الْإِحْصَانِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ ـ بِفَتْحِ الصَّادِ ـ اسْمُ فَاعِلٍ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ أَفْعَلَ اسْمُ فَاعِلِهِ بِالْكَسْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: أَحْصَنَ، أَلْفَجَ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ، وَأَسْهَبَ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَفِيفَةَ يُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِفَتْحِ الصَّادِ - وَمُحْصِنَةٌ - بِكَسْرِهَا - وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِالْفَتْحِ - لَا غَيْرَ، وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْمَشْهُورُونَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَقِيلَ: هُنَّ الْحَرَائِرُ، وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلِمَاذَا قَالَ: مِنَ النِّسَاءِ وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُغْنِيَةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَرَ قَوْلَهُ كَافِيًا وَافِيًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِغُمُوضِ النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ (الْمُحْصَنَاتِ) إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ

أَيْ: إِلَّا مَا سَبَيْتُمْ مِنْهُنَّ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ تُدَافِعُونَ فِيهَا عَنْ حَقِيقَتِكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَ بِهَا دَعْوَةَ دِينِكُمْ، وَرَأَيْتُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَلَّا تُعَادَ السَّبَايَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْحَلُّ عَقْدُ زَوْجِيَّتِهِنَّ وَيَكُنَّ حَلَالًا لَكُمْ بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحَرُّجُ الصَّحَابَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَايَا (أَوْطَاسٍ) وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا وَحَيْضِ غَيْرِهَا، ثُمَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ مَنْ سُبِيَ مَعَهَا زَوْجُهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي الْحِلِّ اخْتِلَافَ الدَّارِ: دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا دَخْلَ فِي حِلِّ السَّبَايَا، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ مَنْ سُبِيَتْ دُونَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا لِلشَّكِّ فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، أَيْ: وَعَدَمُ الطَّمَعِ فِي لُحُوقِهِ بِهَا إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ بَقِيَ حَيًّا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ الْغَالِبُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِنَّ وَيَفِرَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَفَالَةُ هَؤُلَاءِ السَّبَايَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الْفِسْقِ، كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُنَّ وَلِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ـ أَوْ أَكْثَرَـ كَافِلٌ يَكْفِيهَا هَمَّ الرِّزْقِ وَبَذْلَ الْعِرْضِ لِكُلِّ طَالِبٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً - كَمَا قَيَّدْنَا - فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ ; لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ; وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ - كَمَا يَأْتِي - وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ اهـ.

أَقُولُ: وَالَّذِي تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هُنَا نُشُوءُ الْمِلْكِ وَحُدُوثُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، فَالْمَعْنَى: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيِ الْمُتَزَوِّجَاتُ إِلَّا مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ الْمِلْكُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ بِالسَّبْيِ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَالزَّوَاجُ فِيهَا هُوَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمِلْكِ بِجَعْلِ الْمِلْكِ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا مَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي صَارَ حَقَّ الزَّوْجِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمِلْكَ الْجَدِيدَ يُبْطِلُ نِكَاحَهَا فَتُطَلَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَتَحِلُّ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: كَتَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ النِّسَاءِ كِتَابًا مُؤَكَّدًا ; أَيْ: فَرَضَهُ فَرْضًا ثَابِتًا مُحْكَمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (4: 26) . وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، [4: 23) (فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْطُوفًا عَلَى " كَتَبَ " الْمُقَدَّرَةِ النَّاصِبَةِ لِقَوْلِهِ: كِتَابَ اللهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى حُرِّمَتْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُنَاكَ هُوَ الْمُحَلِّلُ هُنَا وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْمُرَادُ بِـ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ الْمُبِينُ تَحْرِيمُهُ هُوَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ فَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ، وَلَا قِيَاسٍ وَاضِحٍ، جَعَلَ وَرَاءَهُ خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ مَدْلُولِهِ وَإِفَادَتِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لَيْسَ وَرَاءَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (4: 23) ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ مُحَرَّمَاتِ الرَّضَاعِ سَبْعًا كَمُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ غَيْرُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ، وَمِثْلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ أُحِلَّ لَنَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ آنِفًا وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِجْمَاعًا أَوْ بِنُصُوصٍ أُخْرَى كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْضَهُ، فَدَخَلَ فِي الْأُمَّهَاتِ الْجَدَّاتُ، وَفِي الْبَنَاتِ بَنَاتُ الْأَوْلَادِ إِلَخْ، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مُطَلِّقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَالسِّرُّ فِي النَّصِّ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ يُعْلِمُنَا بِالنَّصِّ عَلَى الْوَاقِعِ أَلَّا نَتَعَرَّضَ إِلَّا لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَخَيَّلَةَ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ لَهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (4: 22) ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانًا لَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ آخَرَ كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا ذُكِرَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمْ لَا، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَاهُنَا جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَهُوَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلُّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُحَرَّمَاتِ بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِلَخْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ حِلُّ مَا حُرِّمَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لِلْمُتَعَلِّمِ عِنْدَمَا تَقْرَأُ لَهُ كِتَابَ الطَّهَارَةِ: لَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، ثُمَّ تَقُولَ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللِّبَاسِ: لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ وَلَا الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْبَسْ كُلَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهَا، فَهَلْ تُدْخِلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّوْبَ الْمُنَجَّسَ؟ لَا. لَا، إِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَسْمَحُ لَهُ السِّيَاقُ، وَالْمَقَامُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، فَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ فِي نَوْعٍ لَهُ جِنْسٌ أَوْ أَجْنَاسٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خُرُوجَ الْعَامِّ عَنْ سِيَاقِ النَّوْعِ وَتَنَاوُلَهُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ السَّافِلِ أَوِ الْعَالِي لِذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ لِلْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الْأَشْجَارَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لِتَكُونَ خَشَبًا: لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الصَّغِيرَ وَاقْطَعُوا كُلَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ أَفْرَادُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ لَا جِنْسَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعُمُّ الْمُثْمِرَ، وَمِثَلُ الثِّيَابِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَشْبَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوهُ

أَوْ إِرَادَةَ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ تَطْلُبُوهُ بِأَمْوَالِكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَحَلَّهُ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ أَحَلَّ لَكُمْ طَلَبَهُ بِأَمْوَالِكُمْ تَدْفَعُونَهَا مَهْرًا لِلزَّوْجَةِ، أَوْ ثَمَنًا لِلْأَمَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الْأَمَةِ كَمَا يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ لِقَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَإِنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْعَامِلِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُحْصِنِينَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ وَمَنْ تَطْلُبُونَهَا بِمَا لَكُمْ بِاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْكُمَا بِالْآخَرِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ ; فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَسُوقُ كُلَّ ذَكَرٍ بِدَاعِيَةِ النَّسْلِ إِلَى الِاتِّصَالِ بِأُنْثَى، وَكُلَّ أُنْثَى إِلَى الِاتِّصَالِ بِذَكَرٍ لِيَزْدَوِجَا وَيُنْتِجَا، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَمْنَعُ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ الْفِطْرِيَّةَ أَنْ تَذْهَبَ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَتَّصِلَ كُلُّ ذَكَرٍ بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ وَاتَتْهُ وَكُلُّ امْرَأَةٍ بِأَيِّ رَجُلٍ وَاتَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ غَرَضُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُشَارَكَةَ فِي سَفْحِ الْمَاءِ الَّذِي تُفْرِزُهُ الْفِطْرَةُ لِإِيثَارِ اللَّذَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّاعِيَةُ الْفِطْرِيَّةُ سَائِقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسَيْنِ؛ لِأَنْ يَعِيشَ مَعَ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِيشَةَ الِاخْتِصَاصِ لِتَتَكَوَّنَ بِذَلِكَ الْبُيُوتُ وَيَتَعَاوَنَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمَا، فَإِذَا انْتَفَى قَصْدُ هَذَا الْإِحْصَانِ انْحَصَرَتْ طَاعَةُ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ الْعَامُّ الَّذِي لَا تَنْحَصِرُ مَصَائِبُهُ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ أُمَّةُ فَرَنْسَا قَدْ قَلَّ فِيهَا النِّكَاحُ وَكَثُرَ السِّفَاحُ بِضَعْفِ الدِّينِ فِي عَاصِمَتِهَا (بَارِيسَ) وَأُمَّهَاتِ مُدُنِهَا، فَقَلَّ نَسْلُهَا، وَوَقَفَ نَمَاؤُهَا، وَفَتَكَ النِّسَاءُ، وَمَسَنَ الرِّجَالُ، وَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ فَصَارَتْ دُونَ خَصْمِهَا حَتَّى اضْطُرَّتْ إِلَى الِاعْتِزَازِ بِمُحَالَفَةِ دَوْلَةٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فِي شَكْلِ حُكُومَتِهَا وَمَدَنِيَّتِهَا وَهِيَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ، وَلَوْلَا الثَّرْوَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْعُلُومُ الزَّاخِرَةُ وَالسِّيَاسَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَأَسْرَعَ إِلَيْهَا الْهَلَاكُ كَمَا أَسْرَعَ إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَثُرَ مُتْرَفُوهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ فِي سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فَدَمَّرَهَا اللهُ تَدْمِيرًا، وَمَا أُرَاهَا إِلَّا أَوَّلَ دَوْلَةٍ تَسْقُطُ فِي أُورُوبَّا إِذَا ظَلَّ هَذَا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ عَلَى هَذَا النَّمَاءِ فِيهَا. وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَصْدَ الْإِحْصَانِ بِالرِّجَالِ، وَخَصَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَحِفْظَهَا أَنْ يَنَالَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لِيَكُنَّ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ، وَلَا يَكُونُ التَّزَوُّجُ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَسَفْحِ الْمَاءِ وَإِرَاقَتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَتِمُّ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ مَا قَصَّرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ حَقَّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَعَمُّدُ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِسْقُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِفْسَادَ الْبُيُوتِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْسَادُ الْأُمَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَمْلُوكَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا مِنَ الزِّنَا، فَهَلْ يَكْفِي هَذَا الْمَنْعُ فِي إِحْصَانِ الْأَمَةِ دُونَ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ، أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ شِرَاءَ الْإِمَاءِ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ وَمُنْطَبِقًا عَلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ؟ الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (47: 4) ، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (47: 4) ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ. هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ التَّمَتُّعُ أَوْ طُولُ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ (9: 69) ، أَيْ نَصِيبِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي اسْتَمْتَعْتُمْ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلطَّلَبِ الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ فِي مَعْنَاهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصِّيغَةِ لِلطَّلَبِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْأُجُورُ: جَمْعُ أَجْرٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ. وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (4: 4) ، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص 300 ج2 [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ] ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ. وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟ إِذَا قُلْنَا:

إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي: اسْتَمْتَعْتُمْ لِلطَّلَبِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَنْ طَلَبْتُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا أَوْ تَنْتَفِعُوا بِتَزَوُّجِهَا فَأَعْطُوهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَفْرِضُونَهُ لَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَرِيضَةً تَفْرِضُونَهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِلطَّلَبِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعْتُمْ بِتَزَوُّجِهَا مِنْهُنَّ بِأَنْ دَخَلْتُمْ بِهَا أَوْ صِرْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَعْطُوهَا مَهْرَهَا عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوِ افْرِضُوهُ لَهَا فَرِيضَةً، أَوْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَرِيضَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا، أَوْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَهْرِ فَرِيضَةً مِنْكُمْ أَوْ مِنْهُ تَعَالَى، فَالْمَهْرُ يُفْرَضُ وَيُعَيَّنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِيتَاءً وَإِعْطَاءً حَتَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: عَقَدَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ وَأَمْهَرَهَا بِأَلْفٍ أَوْ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ آلَافٍ مَثَلًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَيْضًا: فَرَضَ لَهَا كَذَا فَرِيضَةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنَّ الَّذِي فَرَضَ الْفَرِيضَةَ هُوَ الزَّوْجُ بِتَقْدِيمِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (2: 236) ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (2: 237) ، فَالْمَهْرُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ بِفَرْضِهِ وَتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ وَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُعْطَى، وَالْعَادَةُ أَنْ يُعْطَى كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُجِبُ كُلُّهُ إِلَّا بِالدُّخُولِ ; لِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا كُلُّهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِمُعَجَّلِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالدُّخُولِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْمَعْهُودِ فَيَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا تَرَاضَيْتُمْ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا أَوْ حَطِّهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونُوا فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ تَصْلُحُ بِهَا شُئُونُكُمْ، وَتَرْتَقِي بِهَا أُمَّتُكُمْ، وَالشَّرْعُ يَضَعُ لَكُمْ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَهْدِيكُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِحِكْمَتِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَجْرًا يُكَافِئُهَا بِهِ عَلَى قَبُولِ قِيَامِهِ وَرِيَاسَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ وَلَهَا فِي التَّرَاضِي عَلَى مَا يَرَيَانِ الْخَيْرَ فِيهِ لَهُمَا وَالِائْتِلَافَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمَا. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّهَا قَدْ بَيَّنَتْ مَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حُرِّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِي صَدْرِهَا، وَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ وَبِأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِحْصَانَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِسَفْحِ الْمَاءِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ": وَهُوَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ رُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَبِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ

فِي الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ شَاذَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا صَحَّتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ مِنْ مِثْلِ هَذَا آحَادًا، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فَهْمٌ لِصَاحِبِهِ، وَفَهْمُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النَّظْمُ وَالْأُسْلُوبُ يَأْبَاهُ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالنِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ لَا يَقْصِدُ الْإِحْصَانَ دُونَ الْمُسَافَحَةِ، بَلْ يَكُونُ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ الْمُسَافَحَةَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَوْعٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا مِنَ التَّنَقُّلِ فِي دِمَنِ الزِّنَا ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ لِرَجُلٍ فَتَكُونُ كَمَا قِيلَ: كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةٍ ... فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ ثُمَّ إِنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى هَذَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (23: 5 - 7) ، أَيِ: الْمُتَجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تُعَارِضُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَلْ هِيَ بِمَعْنَاهَا فَلَا نَسْخَ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتَّعُ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَيَكُونُ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا أَحْكَامَ الزَّوْجَةِ وَلَوَازِمَهَا، فَلَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي تَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقُولُونَ بِرَجْمِ الزَّانِي الْمُتَمَتِّعِ إِذْ لَا يَعُدُّونَهُ مُحْصَنًا، وَذَلِكَ قَطْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْتَمْتِعِينَ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ مِنْهُمْ، وَنَقَلَ عَنْهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَ لَهَا إِرْثٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِدَّةٌ! وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا شِبْهَ دَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَخِّصُ لِأَصْحَابِهِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا نَهْيًا مُؤَبَّدًا، وَأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لِلْعِلْمِ بِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِ الزِّنَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ نِسَائِهِمْ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَلِيَّةٍ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا وَأَقَامَ مَعَهَا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِلزِّنَا بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَمِيلَهَا، وَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْمُتْعَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي مَنْعِ الزِّنَا مَنْعًا بَاتًّا كَمَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكِلْتَا الْفَاحِشَتَيْنِ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فُشُوَّ الزِّنَا كَانَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ بِالْمُتْعَةِ لَمْ تُنْسَخْ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لَا فِي حَالِ الْعَنَتِ وَالِاضْطِرَارِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشْهَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ فِيهَا قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْتُ: قَالُوا: قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ! وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيزُهَا إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَجَزَ عَنِ التَّزَوُّجِ الَّذِي مَبْنَى عَقْدِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الزِّنَا إِلَّا بِهَذَا الزَّوَاجِ الْمُوَقَّتِ، وَرَوَوْا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ خَطَّأَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي رَأْيِهِ هَذَا، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلَدَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (23: 6) ، فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مَكِّيَّةٌ، وَبِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُسَافِرُ إِلَى الْبَلَدِ فَيُقِيمُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مُعَرَّضِينَ لِلْقَتْلِ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، نَعَمْ إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَيْسَ مُحَالًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ عَنْ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ كَانَ شَائِعًا، فَعِبَارَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَتِمُّ عَلَيْهَا وَتَشْهَدُ أَنَّهَا لُفِّقَتْ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى فَتْوَاهُ بِالْمُتْعَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ مُعَارَضٌ بِالنُّصُوصِ، وَيُقَابِلُهُ اجْتِهَادُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْعُمْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا وُجُوهٌ، (أَوَّلُهَا) : مَا عَلِمْتَ مِنْ مُنَافَاتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، إِنْ لَمْ نَقُلْ لِنُصُوصِهِ، (وَثَانِيهَا) : الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَمَعَ مُتُونَهَا وَطُرُقَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْحِ النَّوَوِيِّ لَهُ، وَكَذَا شَرْحُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَثَالِثُهَا) : نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا فِي خِلَافَتِهِ وَإِشَادَتُهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِقْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْجِعُونَهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَمِنْهُ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (4: 20) ، [رَاجِعْ ص 375

وَمَا بَعْدَهَا جـ4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، فَقَدْ خَطَّأَتْهُ امْرَأَةٌ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا وَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الشِّيعَةِ: إِنَّهُمْ سَكَتُوا تَقِيَّةً، وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَا مُحَرِّمُهَا "، فَقَالُوا: إِنَّهُ حَرَّمَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ لَذَكَرَهُ، وَأُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، فَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ اللَّفْظَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لَفْظُهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُبَيِّنٌ تَحْرِيمَهَا أَوْ مُنَفِّذٌ لَهُ، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِسْنَادُ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَالْإِبَاحَةِ إِلَى مُبَيِّنِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: حَرَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّبِيذَ، وَأَحَلَّهُ أَوْ أَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لَمْ يَعْنُوا أَنَّهُمَا شَرَّعَا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَقَدْ كُنَّا قُلْنَا فِي " مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ " الَّتِي نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ: إِنَّ عُمَرَ مَنَعَ الْمُتْعَةَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّاهِدِ وَالْمِثَالِ، لَا التَّمْحِيصِ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ. وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنَّ لَدَيْهِمْ رِوَايَاتٍ عَنْ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَاطِعَةً بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَسَانِيدِهَا لِنَحْكُمَ فِيهَا فَأَيْنَ هِيَ؟ وَلَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ إِمَامَ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ لَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي التَّعَصُّبِ مِنْهُمْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ الْخَصْمِ؛ وَلِأَنَّ شِيعَتَهُ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِهِ، وَيُجِيبُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَمُغَالَطَةٌ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَتِ الشِّيعَةُ بِهَا شِيعَةً، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُهِمُّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَرِّرَ الرِّوَايَةَ فِيهَا عَنْ عُلَمَاءِ الصَّاحِبَةِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَوْنِ عَلِيٍّ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رُوَاةَ الْأَحَادِيثِ الْمُدَوَّنَةِ فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ قِسْمَانِ: مِنْهُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ مَذْهَبًا فَيُتَّهَمُوا بِتَأْيِيدِهِ بِالرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَإِلَّا مَا صَحَّ مِنْهَا يَذْهَبُونَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْمَذَاهِبِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، وَقَدْ كَانَ عُدُولُهُمْ يَرْوُونَ مَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللهَ بِالصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ وَيَكِلُونَ إِلَى فُقَهَائِهِمْ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَتَرْجِيحَ الْمُتَعَارَضِ مِنْهَا، بَلْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ طَعْنٍ فِي بَعْضِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ، فَعَدَالَةُ الرُّوَاةِ هِيَ الْعُمْدَةُ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَرَاجِمِ الرِّجَالِ وَتَمْحِيصِ مَا قِيلَ فِي جَرْحِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ كَانَتْ سَبَبًا لِلْوَضْعِ وَالْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَقْدَ الرُّوَاةِ الْمُقَلِّدِينَ هُوَ أَهَمُّ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتْعَةِ لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ عَدَّلَ الْمُحَدِّثُونَ

مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا سَعَةَ فِي التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ بَلْ أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ خَرَجْتُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَنْ مِنْهَاجِي فِيهِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَادِيهِمْ، عَلَى أَنَّنِي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى غَيْرِ مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْبَحْثِ وَأَنَا أَنْوِي أَلَّا أَكْتُبَ فِيهِ إِلَّا بِضْعَةَ أَسْطُرٍ ; لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِي الرِّوَايَاتِ هُنَا، وَلَيْسَ عِنْدِي حَيْثُ أَكْتُبُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ فَأُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ مَا كَتَبْتُهُ هُوَ صَفْوَتَهَا وَصَفْوَةَ مَا قَالُوهُ فِيهَا، فَإِنِ اطَّلَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلشِّيعَةِ بِأَسَانِيدِهَا، فَرُبَّمَا نَكْتُبُ فِي ذَلِكَ مَقَالًا نُمَحِّصُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَعْتَقِدُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعَرُّضِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَنْشُرُ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ. هَذَا، وَإِنَّ تَشْدِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي مَنْعِ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا نَوَى الزَّوْجُ التَّوْقِيتَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ يُعَدُّ خِدَاعًا وَغِشًّا، وَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ مِنَ الْعَقْدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْقِيتُ، وَيَكُونُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا الْعَبَثَ بِهَذِهِ الرَّابِطَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِيثَارُ التَّنَقُّلِ فِي مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ بَيْنَ الذَوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ غِشًّا وَخِدَاعًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَذَهَابِ الثِّقَةِ حَتَّى بِالصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالزَّوَاجِ حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ وَتَعَاوُنُهُمَا عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ صَالِحٍ بَيْنَ بُيُوتِ الْأُمَّةِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الِاسْتِطَاعَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي طَوْعِكَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِكَ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِطَاقَةِ، وَالطَّوْلُ: الْغِنَى وَالْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَالْمُحْصَنَاتُ: فُسِّرَتْ هُنَا بِالْحَرَائِرِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْفَتَيَاتِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ كَانَتْ عِنْدَهُمْ دَاعِيَةَ الْإِحْصَانِ، وَالْبِغَاءُ شَأْنُ الْإِمَاءِ، قَالَتْ هِنْدُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُنَّ بِهَذَا اللَّقَبِ إِرْشَادٌ إِلَى تَكْرِيمِهِنَّ ; فَإِنَّ الْفَتَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ وَعَلَى الْكَرِيمَةِ السَّخِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُعَبِّرُوا عَنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ بِلَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ الْمُشْعِرِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مُبَلِّغُ الْقُرْآنِ وَمَبَيِّنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَوْلَهُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي ; لِيَقْلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلِيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى زِيَادَةِ تَكْرِيمِ الْأَرِقَّاءِ إِذَا كَبِرُوا فِي السِّنِّ بِتَقْلِيلِ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ.

وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فِي الْمَالِ أَوِ الْحَالِ لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ اسْتِطَاعَةَ طَوْلٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الطَّوْلِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا نِكَاحَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَقْصِدُوا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِنِكَاحِهِنَّ الْإِحْصَانَ لَهُنَّ وَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلْيَنْكِحِ امْرَأَةً مِنْ نَوْعِ مَا مَلَكْتُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ، أَيْ: إِمَائِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ تَبَعًا لِجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ النِّكَاحَ الثَّابِتَ، لَا الْمُتْعَةَ الَّتِي هِيَ اسْتِئْجَارٌ عَارِضٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الِانْتِفَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلرَّجُلِ الَّذِي شَكَا مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِطَلَاقِهَا: " فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تُجِيزُ الْمُتْعَةَ بِالْحَرَائِرِ لَمَا كَانَ لِوَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا فَائِدَةٌ، وَأَيُّ امْرِئٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُتْعَةَ لِعَدَمِ الطَّوْلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ فَيَجْعَلَ بِهَا نَسْلَهُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَسْتَطِيعُهَا لِعَدَمِ رَغْبَةِ النِّسَاءِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعَارِ، قُلْنَا: إِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فَهُوَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْقَائِلَ ; لِأَنَّ سَبَبَ عَدِّ الْمُتْعَةِ عَارًا فِي الْغَالِبِ هُوَ تَحْرِيمُهَا، وَمَنْ لَا يُحَرِّمُهَا كَالشِّيعَةِ فَإِنَّمَا يُبِيحُونَهَا فِي الْغَالِبِ اعْتِقَادًا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ لِغَلَبَةِ شُعُورِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ عَارِ الْمُتْعَةِ، وَقَلَّمَا يَتْرُكُهُ أَحَدٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَنْ يَتْرُكُهُ تَدَيُّنًا فِي الْغَالِبِ، وَخَوْفًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ أَقْدَرَ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ أَنْ تُقَيَّدَ الْأَحْكَامُ بِعَادَاتِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ حَتَّى مِنَ التَّشْرِيعِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الطَّوْلَ هُنَا بِالْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ مَهْرًا، وَهُوَ تَحَكُّمٌ ضَيَّقُوا بِهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الطُّولِ بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهَا الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ، وَالْفَضْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ الْمَهْرَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِمُرِيدِ الزَّوَاجِ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْتِمَاسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَتَزَوَّجَ بَعْضُهُمْ بِنَعْلَيْنِ، وَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُقَيِّدِ السَّلَفُ الْمَهْرَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَتَفْسِيرُ الطَّوْلِ بِالْغِنَى لَا يُلَائِمُ تَحْدِيدَ الْمُحَدِّدِينَ ; فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَجِدُ أَمَةً يَرْضَى أَنْ يُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ نَعْلَيْنِ، وَفَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ أَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ـ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ يَسْتَمْتِعُ بِنِكَاحِهَا بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً حُرَّةً مُؤْمِنَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَحَاصِلُهُ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ

وَالْأَمَةِ (قَالَ) : وَالطَّوْلُ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالسَّعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمَادِّيَّةُ، فَقَدْ يَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِحُرَّةٍ، وَهُوَ ذُو مَالٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُعْتَادِ لِنُفُورِ النِّسَاءِ مِنْهُ لِعَيْبٍ فِي خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ لَهَا حُقُوقًا كَثِيرَةً فِي النَّفَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَمَةِ مِثْلُ تِلْكَ الْحُقُوقِ كُلِّهَا، فَفَقْدُ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ لَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُؤْمِنَاتِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي الْحَرَائِرِ وَلَا فِي الْإِمَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَّ أُولَئِكَ الْوَثَنِيَّاتُ اللَّوَاتِي لَا كِتَابَ لِقَوْمِهِنَّ، وَسَكَتَ عَنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَشْمَلُهُنَّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ص 282 ج 2 تَفْسِيرٌ - فَكَانَ الزَّوَاجُ مَحْصُورًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ، فَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ، أَيْ: وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِحِلِّ زَوَاجِهِنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْوَصْفِ بِالْمُؤْمِنَةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ. أَقُولُ: فِي هَذَا أَحْسَنُ تَخْرِيجٍ وَتَوْجِيهٍ لِمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ بَلْهَ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَظَاهِرُ وَصْفِ الْفَتَيَاتِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ـ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ـ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُنَّ الْعَفَائِفُ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ نَاسِخَةً لِمَفْهُومِهِ، أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ خَاصٌّ، وَعِنْدِي أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ تَارَةً يَكُونُ مُرَادًا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ أَوِ انْسَخْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ الْفُقَرَاءِ تَعَيَّنَ أَلَّا يُوَزَّعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ مَقْصُودَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ هُوَ سَبَبَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْخَدَمِ الْوَاقِفِينَ بِالْبَابِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا لِلْوَاقِفِ مِنْهُمْ وَالْقَاعِدِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ هَاهُنَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُعْتَادِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوُقُوفِ يَقْتَضِي الْعَطَاءَ، فَبِالْقَرَائِنِ تُعْرَفُ الصِّفَةُ الَّتِي يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَالصِّفَةُ الَّتِي لَا يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْوَصْفِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَاتُ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَوْلَا الْقَيْدُ هُنَا لَتُوُهِّمَ نَسْخُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَفَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ الْمُشْرِكَاتِ حَلَالٌ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِنَّ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَالْمَفْهُومُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكَاتِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فَحَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ حَتَّى يُؤْمِنَّ ; لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً

خَاصَّةً بِالْعَرَبِ وَهِيَ عَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ؛ لِيَكُونُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَيَرْضَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُوَادَّتِهِمْ أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ وَيَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَقَرَّ الْمَجُوسَ عَلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَسَاوَى بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْإِيمَانِ وَدَرَجَاتِ قُوَّتِهِ، وَكَمَالِهِ، فَرُبَّ أَمَةٍ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ حُرَّةٍ فَتَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ: فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَعُدُّوا نِكَاحَ الْأَمَةِ عَارًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (3: 195) ، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (9: 71) ، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (9: 67) ، إِلَخْ، وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي النَّسَبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَرَى فَالْإِيمَانُ هُوَ الْمُرَادُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْكِحَ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الشِّرْكِ وَنَقْصُ الرِّقِّ. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَيْ: فَإِذَا رَغِبْتُمْ فِي نِكَاحِهِنَّ ـ لَمَّا رَفَعَ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنِهِنَّ ـ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ هُنَا الْمَوَالِي الْمَالِكُونَ لَهُنَّ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ مَنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِينَ، فَلِلْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيِّ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ فِي تَزْوِيجِ أَوْلِيَائِهَا لَهَا وَعَدَمِ تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ أَوْلِيَائِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنْ تَوَلِّي وَلِيِّهَا فِي النَّسَبِ لِلْعَقْدِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَالْمَوْلَى أَوِ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ، فَالْمَهْرُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهُوَ لَهَا لَا لِمَوْلَاهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَآتُوا أَهْلَهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ بِأَنَّ قَيْدَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مُعْتَبَرٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ عِنْدَهُنَّ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ حَقِّهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يُنْكِرُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ، وَكَوْنُ مِلْكِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا يَرَى أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ حَقُّ الزَّوْجَةِ تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا وَيَكُونُ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فِي مُقَابَلَةِ رِيَاسَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُ الْأَمَةِ الَّتِي يُزَوِّجَهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهَا تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِذَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لِمَهْرِهَا، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ

ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَوْ قَوَاعِدِ فِقْهِهِ؟ وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ ـ مَعَ خُضُوعِهِ لِحُكْمِ رَبِّهِ ـ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ، بَلْ فَتَاتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ مُكْتَفِيًا بِمَا قَرَّرَهُ لَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ امْتِلَاكِ ذُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الزَّوْجِ عِوَضًا مَالِيًّا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقًا بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ، وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِذْنِ الْأَهْلِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِيتَاءُ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ مَعْنَاهُ بِالْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا كَمَا قَالَ فِي الْحَرَائِرِ: فَرِيضَةً لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِيهِ أَخَفُّ وَالْأَمْرَ أَهْوَنُ، وَالتَّسَاهُلُ فِي أُجُورِ الْإِمَاءِ مَعْهُودٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِعْطَائِهَا الْمَهْرَ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْلِكُ ; لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يَقْبِضُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - أَوْ قَالَ: أَصْحَابِ مَالِكٍ - أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ جَارِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَ لِلزَّوْجِ ضَرْبًا مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لَا يُشَارِكُهُ هُوَ فِيهِ، فَمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الزَّوْجِ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ، بَلْ يَكُونُ لَهَا وَحْدَهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَيْ: أَعْطُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ مِنْكُمْ لَا مُسْتَأْجَرَاتٍ لِلْبِغَاءِ جَهْرًا وَهُنَّ الْمُسَافِحَاتُ، وَلَا سِرًّا وَهُنَّ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ، فَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّاحِبُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَانَ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سِرٌّ وَعَلَانِيَةٌ، وَعَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْخَاصُّ السِّرِّيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ خِدْنٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا فَلَا تَبْذُلُ نَفْسَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْعَامُّ الْجَهْرِيُّ: هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّفَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْبِغَاءُ، وَكَانَ الْبَغَايَا مِنَ الْإِمَاءِ، وَكُنَّ يَنْصِبْنَ الرَّايَاتِ الْحُمْرَ لِتُعْرَفَ مَنَازِلُهُنَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لُؤْمٌ، وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ وَيَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِتَحْرِيمِ الْقِسْمَيْنِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (6: 151) ، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهِمْ لِزِنَا الْعَلَانِيَةِ اسْتِقْبَاحُهُ، وَعَدُّ مَا يَأْتِيهِ لَئِيمًا، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مِنَ الزِّنَا مَعْرُوفَانِ الْآنَ وَفَاشِيَانِ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي شُرُورِ مَدَنِيَّتِهِمْ كَمِصْرَ وَالْآسِتَانَةِ وَبَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَيُسَمِّي الْمِصْرِيُّونَ الْخِدْنَ بِالرَّفِيقَةِ، وَالتُّرْكُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّفِيقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمِثْلُهُمُ التَّتَرُ فِي رُوسْيَا فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْعُرْفِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْمُتَفَرْنِجِينَ مَنْ هُمْ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْسِنُونَ الزِّنَا السِّرِّيِّ وَيُبِيحُونَهُ، وَيَسْتَقْبِحُونَ الْجَهْرِيَّ وَقَدْ يَمْنَعُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمُّ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَكِنَّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ

يَسْتَبِيحُونَهَا بِالْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ! ! وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَخْدَعُهُ جَاهِلِيَّتُهُ فَتُوهِمُهُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ إِذَا هُوَ اسْتَبَاحَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ بِالْعَمَلِ فَوَاظَبَ عَلَيْهَا بِلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَا حَيَاءٍ، وَلَا لَوْمٍ مِنَ النَّفْسِ وَلَا تَوْبِيخٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَقُولَ هِيَ حَلَالٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُعَامَلَاتِ: إِنَّهَا مِنَ الرِّبَا، وَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا آكُلُ الرِّبَا لَا أُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ لَا أَقُولُ إِنَّهُ حَلَالٌ! ! فَكَأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا، وَبِأَنَّهُ فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَحَبَّ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدُّوهَا، وَيَجْهَلُ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَوْجَبَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ، فَهَلْ صَلَحَتْ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ وَأَحْوَالُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارُوا أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ؟ ! وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَا فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ النُّفُوسِ بِالْعِفَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ عَامَّةً، وَالْأَبْكَارَ مِنْهُمْ خَاصَّةً أَبْعَدُ مِنَ الرِّجَالِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ أَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِخَدْشِ الْعِفَّةِ، وَانْقِيَادًا لِطَاعَةِ الشَّهْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ هُمُ الطَّالِبِينَ لِلنِّسَاءِ وَالْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِ السِّفَاحِ مِنْ قِبَلِهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِمَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَشْتَرُونَهُنَّ لِأَجْلِ الِاكْتِسَابِ بِبِغَائِهِنَّ، حَتَّى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - رَأْسَ النِّفَاقِ - كَانَ يُكْرِهُ إِمَاءَهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمْنَ عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنِ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (24: 33) ، وَلَمَّا كُنَّ أَيْضًا مَظَنَّةً لِلزِّنَا لِذُلِّهِنَّ وَضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ رَجُلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَمْ تَتَوَطَّنْ نُفُوسُهُنَّ عَلَى عِيشَةِ الِاخْتِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَرَى لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهِنَّ، فَاشْتَرَطَ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُ أَمَةً أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً مَصُونَةً مِنَ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، يَكُونُ الْمُرَادُ: انْكِحُوهُنَّ مُحْصِنَاتٍ لَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَيَّ طَالِبٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَأَصْحَابٍ ـ أَوْ رُفَقَاءَ كَمَا فِي عُرْفِ الْمِصْرِيِّينَ ـ تَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِصَاحِبٍ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: فَإِذَا فَعَلْنَ الْفِعْلَةَ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ الزِّنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِنَّ بِالزَّوَاجِ فَعَلَيْهِنَّ مِنَ الْعِقَابِ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْكَامِلَاتِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ إِذَا زَنَيْنَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (24: 2) ، فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَتُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْحُرَّةِ أَبْعَدَ عَنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ، وَالْأَمَةُ عُرْضَةٌ لَهَا وَضَعِيفَةٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا، فَرَحِمَ الشَّارِعُ ضَعْفَهَا فَخَفَّفَ الْعِقَابَ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي تِلْكَ ـ الْآيَةِ ـ آيَةِ الْجَلْدِ ـ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَافَّةً وِفَاقًا لِقَاعِدَةِ: " الْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا "، فَظَاهِرُهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُحَدُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَظَاهِرُ آيَةِ النُّورِ أَنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُحْصَنَةً أَمْ أَيِّمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَيِّمُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ لَكَانَ لِذَاهِبٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا خَصَّصَتِ الزَّانِيَةَ الْحُرَّةَ بِالْمُحْصَنَةِ لِلْمُقَابَلَةِ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَاءِ اللَّوَاتِي أُحْصِنَّ وَبَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ لَا يَغُوصُ عَلَيْهِ إِلَّا غَوَّاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (5: 15) ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَكَمَ بِهِ فَصَارَ مَشْرُوعًا لَنَا، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أَيْ: مِمَّا تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَوُجُوبَ اتِّبَاعِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الرَّجْمِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ بَعْدَ آيَةِ الْجَلْدِ، ثُمَّ رُفِعَتْ وَبَقِيَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَجْمِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ وَالْغَامِدِيَّةِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَا، وَلَكِنَّهُ أَرْجَأَ الْمَرْأَةَ حَتَّى وَضَعَتْ، وَأَرْضَعَتْ، وَفَطَمَتْ وَلَدَهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَيَا وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَجْمَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَلَدَ الْغُلَامَ الْعَسِيفَ (الْأَجِيرَ) الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرَةٍ، وَرَجَمَ الْمَرْأَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَظَاهِرُ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنَّ السَّائِلَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ كَانَ الْجَلْدُ نَاسِخًا لِلرَّجْمِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَمْ كَانَ الرَّجْمُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْجَلْدِ بِجَعْلِهِ خَاصًّا بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالزَّوَاجِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ حَدِيثًا صَرِيحًا فِي رَجْمِ الْأَيِّمِ الثَّيِّبِ، وَسَأَتَتَبَّعُ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ النُّورِ وَأُحَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ لَكِنْ يَجْلِدُهَا سَيِّدُهَا، قِيلَ: حَدًّا، وَقِيلَ: تَعْزِيرًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَقْوَالٌ وَوُجُوهٌ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُعْلَمُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْإِمَاءِ بِشَرْطِهِ، وَقِيلَ: كَالْأَحْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالْجُهْدُ وَالْفَسَادُ، قِيلَ: أَصْلُهُ انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالْفَسَادَ مِنَ الْتِزَامِ الْعِفَّةِ وَمُقَاوَمَةِ دَاعِيَةِ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مُقَاوَمَةَ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى وَأَرْسَخُ شُئُونِ الْحَيَاةِ قَدْ تُفْضِي إِلَى أَمْرَاضٍ عَصَبِيَّةٍ وَغَيْرِ عَصَبِيَّةٍ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَتِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ بِارْتِكَابِ الزِّنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَنَتَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ لُغَةً، وَنَقُولُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الضَّرَرُ فَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْعَنَتَ أَشُدُّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنِ الْعَنَتِ، فَقَالَ: الْإِثْمُ، قَالَ نَافِعٌ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: رَأَيْتُكَ تَبْتَغِي عَنَتِي وَتَسْعَى ... مَعَ السَّاعِي عَلَيَّ بِغَيْرِ ذَحْلِ وَأَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: وَصَبْرُكُمْ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكُمْ، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ كَالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالِابْتِذَالِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ الْأَعْمَالِ، وَسَرَيَانِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ إِلَى أَوْلَادِهِنَّ بِالْوِرَاثَةِ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، فَقَدْ يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِفَتَاةِ فُلَانٍ الْفَاضِلِ الْمُهَذَّبِ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِأَمَةِ فُلَانٍ اللَّئِيمِ أَوِ الْفَاسِقِ الزَّنِيمِ، وَمَنْ كَانَتْ لِلْفَاضِلِ الْيَوْمَ قَدْ تَكُونُ لِلْفَاسِقِ غَدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَإِذَا نَكَحَ الْحُرُّ الْأَمَةَ فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ; وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظُ " زَوْجٍ " لِاتِّحَادِهِ بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَزَحَّفَ نَاكِحُ الْأَمَةِ عَنِ الزِّنَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ ... تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَمَلَكَةِ الْعِفَّةِ وَتَحْكِيمِ الْعَقْلِ بِالْهَوَى، وَمِنْ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ، وَلِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ بِالْإِرْثِ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ، فَهِيَ تَشْعُرُ دَائِمًا بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيَرِثُ أَوْلَادُهَا إِحْسَاسَهَا وَوِجْدَانَهَا الْخَسِيسَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَتْ لَمْ تَحِلَّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ جَائِزَةً؟ ! وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، رَحِيمٌ بِهِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الذَّنْبِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَاتُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِمَا تَتَّصِلُ بِهِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عُرْضَةً لِلْهَفَوَاتِ وَاللَّمَمِ كَعَدَمِ الطَّوْلِ، وَاحْتِقَارِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهِنَّ عِنْدَ الْحَدِيثِ فِي نِكَاحِهِنَّ، ثُمَّ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِنَّ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ اتِّقَاؤُهُ، ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُهُ مِنْهَا.

يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَيُبَيِّنَ حُكْمَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلِيلُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَخْ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَا هِيَ حِكْمَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفَائِدَتُهَا لَنَا؟ وَهَلْ كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إِيَّاهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كُلَّ امْرَأَةٍ، وَهَلْ كَانَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ تَشْدِيدًا عَلَيْنَا، أَمْ تَخْفِيفًا عَنَّا؟ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً أَجْوِبَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ، فَاللَّامُ نَاصِبَةُ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ ـ كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ ـ وَمِثْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (61: 8) ، أَقُولُ: وَيَجْعَلُ الْبَصْرِيُّونَ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفًا، وَاللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: يُرِيدُ اللهُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ; لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ بِهِ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ وَقِوَامُ فِطْرَتِكُمْ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ. إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ،

وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ شُعُورًا بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَنْشَأَ وُجُودِهِ وَمُمِدَّ حَيَاتِهِ، وَقِوَامَ تَأْدِيبِهِ وَعُنْوَانَ شَرَفِهِ، وَبِهَذَا الشُّعُورِ يَحْتَرِمُ الِابْنُ أَبَاهُ، وَبِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ يَعْطِفُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَيُسَاعِدُهُ. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ. وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ. وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْحَدِيثِ " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ "، أَيْ: هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ (2: 133) ، فَعَدُّوا إِسْمَاعِيلَ مِنْ آبَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِإِسْحَاقَ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ صِلَةُ الْعُمُومَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُبُوَّةِ، وَصِلَةُ الْخُئُولَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُمُومَةِ، قَالُوا: إِنَّ تَحْرِيمَ الْجَدَّاتِ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَدَاخِلٌ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْفِطْرَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَاطِفَةِ صِلَةِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ، وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاوُنُ بِهَا وَأَلَّا تَنْزَويَ الشَّهْوَةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ، فَحَرَّمَ اللهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ

فِي النَّفْسِ يُزَاحِمُهُ شُعُورُ عَوَاطِفِ الْقَرَابَةِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُزِيلَهُ وَإِمَّا أَنْ يُزَلْزِلَهُ وَيُضْعِفَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، قَالَ: فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِآلِ السَّائِبِ: " اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا "، أَيْ: تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا، وَعَلَّلَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ. وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (4: 23) ، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ. وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ

وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَأُمُّهَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ شَقِيقَةُ رُوحِهِ بَلْ مُقَوِّمَةُ مَاهِيَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمِّمَتُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الِاحْتِرَامِ، وَيَقْبُحُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ ضَرَّةً لَهَا ; فَإِنَّ لُحْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَةٍ صَارَ كَأَحَدِ أَفْرَادِهَا وَتَجَدَّدَتْ فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةُ مَوَدَّةٍ جَدِيدَةٍ لَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّغَايُرِ وَالضِّرَارِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا؟ كَلَّا، إِنْ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَيَكُونُ سَبَبَ فَسَادِ الْعَشِيرَةِ، فَالْمُوَافِقُ لِلْفِطْرَةِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الزَّوْجَةِ كَأُمِّ الزَّوْجِ، وَبِنْتُهَا الَّتِي فِي حِجْرِهِ كَابْنَتِهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زَوْجُ ابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ، يُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْعَاطِفَةَ الَّتِي يَجِدُهَا لِابْنَتِهِ، كَمَا يُنْزِلُ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لِتَكُونَ الْمُصَاهَرَةُ لُحْمَةَ مَوَدَّةٍ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الضِّرَارِ وَالنَّفْرَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُبِيحَ نِكَاحَ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا، أَوْ زَوْجَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَزَوْجَةِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الزَّوَاجِ هِيَ سُكُونُ نَفْسِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَقَالَ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) ، فَقَيَّدَ سُكُونَ النَّفْسِ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ وَتَزْدَادُ وَتَقْوَى بِالْوَلَدِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ. فَهَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30: 30) ، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51: 20، 21) ، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ الدَّهْلَوِيِّ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ: "

مِنْهَا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِالِاصْطِحَابِ وَالِارْتِبَاطِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ لُزُومِ السَّتْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَارْتِبَاطُ الْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الطَّبِيعِيِّ دُونَ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ بِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْهُنَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ لَهَاجَتْ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَتَوَلَّهُ بِهَا، وَيَقْتَحِمُ فِي الْمَهَالِكِ لِأَجْلِهَا، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ يَخْلُو مَعَهَا وَيَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَيْضًا لَوْ فُتِحَ بَابُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَمْ يُسَدَّ، وَلَمْ تَقُمِ اللَّائِمَةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَبُ عَضْلِهِمْ إِيَّاهُنَّ عَمَّنْ يَرْغَبْنَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بِيَدِهِمْ أَمْرُهُنَّ وَإِلَيْهِمْ إِنْكَاحُهُنَّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِنْ نَكَحُوهُنَّ مَنْ يُطَالِبُهُمْ عَنْهُنَّ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُنَّ، وَنُظِرَ لِذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ عَضْلِهِمْ لِلْيَتَامَى الْغَنِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ: " وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ! " وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ ". قَالَ: " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ، وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ: قَالَ: " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ،

وَالتَّحَاسُدَ شَنِيعٌ، وَالْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَازِعَةٌ، فَكَأَنَّ أَمْرَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ ". قَالَ: " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ "، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ: " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ: بَاتَ عِنْدَهَا، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ، اهـ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ 4 ص 282 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ. قَالَ: " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (2: 221) ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ. قَالَ: " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ: مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ: " فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا ". أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَ:

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا 5: 48] ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا فِي التَّوْحِيدِ، وَرُوحِ الْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَوِّمُ الْمَلَكَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ. ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ: إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ فِيهِ غَيْرُ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأُولَى الْقَبُولُ، وَبِالثَّانِيَةِ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الْقَبُولِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى ذُكِرَتْ فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ يَكُونُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَمَّا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَنْكِحَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الضَّارَّةِ، وَأَنَّ اللهَ شَرَعَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَابِلُهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنَّا مُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ عِلَّةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْكُمْ لِتَزْكُوَ نُفُوسُكُمْ وَتَطْهُرَ قُلُوبُكُمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ وَيُرِيدَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا عَنْ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ فَتُؤْثِرُوا دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ، فَلَا تُبَالُوا أَنْ تُقَطِّعُوا لِإِرْضَائِهَا وَشَائِجَ الْأَرْحَامِ، وَتُزِيلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ وَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، إِمَامُكُمُ الْمُتَّبَعُ هُوَ الشَّهْوَةُ، وَغَرَضُكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَكَذَا الْأُخْتُ لِأَبٍ كَمَا نُقِلَ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ، وَالْمُخْتَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِذْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ أَبَاحَ لَكُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، بَلْ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَطُّ، فَشَرِيعَتُكُمْ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا وَرَدَ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَحْمِلُ ثِقَلَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ إِلَّا مَا فِي إِبَاحَتِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الزِّنَا يَفْشُو حَيْثُ يَضْعُفُ الدِّينُ حَتَّى لَا يَكَادَ النَّاسُ يَثِقُونَ بِنَسْلِهِمْ، وَحَتَّى تَكْثُرَ الْأَمْرَاضُ وَيَقِلَّ النَّسْلُ، وَيَسْتَشْرِيَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الرِّجَالُ وَلَا يَزَالُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ، فَهُمْ

31

يُفْسِدُونَ النِّسَاءَ وَيَسْتَمِيلُونَهُنَّ بِالْمَالِ، ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ الْمُتَصَدِّيَاتُ لِلْإِفْسَادِ، وَيَحِجْرُ وَاحِدُهُمْ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَحْجُبُهَا، وَيَحْتَالُ عَلَى إِخْرَاجِ امْرَأَةِ غَيْرِهِ مِنْ خِدْرِهَا! وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّ الْحِلْيَةَ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا امْرَأَةَ غَيْرِهِ هِيَ الَّتِي يُفْسِدُ بِهَا غَيْرُهُ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَفْسُقُ رَجُلٌ إِلَّا وَيَكُونُ أُسْتَاذًا لِأَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْفِسْقِ، وَمِنْ حِكَمِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَعْنَاهُ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّجَالِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَارِقِينَ مَنْ مَرَدُوا عَلَى الْفِسْقِ وَصَارُوا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ، فَخَزِيَتْ عِفَّتُهُمْ وَزَالَتْ غَيْرَتُهُمْ، فَهُمْ يَعُدُّونَ الدِّيَاثَةَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكِيَاسَةِ، فَيُسْلِسُونَ الْقِيَادَ لِنِسَائِهِمْ، كَمَا يُسْلِسْنَ الْقِيَادَ لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا تُطِيقُهُ الرَّذِيلَةُ مِنَ الْجُهْدِ فِي إِفْسَادِ الْبُيُوتِ بِتَنْكِيثِ قُوَى الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِمَا هِيَ فِي الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَشَدُّ الْمَوَانِعِ دُونَهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْحِصْنُ لِلْمُرْتَبِطِينَ بِهَا مِنْ فَوْضَى الْأَبْضَاعِ، وَالْحِفَاظِ لِمَا فِيهِ هَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ. أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَعَدَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ضَعِيفًا وَالرَّابِعَةُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (4: 31) ، وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (4: 40) ، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4: 48) ، إِلَخْ، وَالسَّابِعَةُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ (4: 110) ، إِلَخْ، وَالثَّامِنَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (4: 152) ، إِلَخْ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " نَظْمِ الدُّرَرِ " مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا: وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا مَضَى مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، تَارَةً بِالْإِرْثِ، وَتَارَةً

بِالْجُعْلِ فِي النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ - أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ - لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ. فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ

الْجَمَاعَةِ الْحَاكِمَةِ مِنَ الْأُمَّةِ ; لِئَلَّا يَمْنَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمْرَضُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرَكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْأَفْرَادِ سَائِرَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَثَّهُمْ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ; لِيَكُونَ الدَّافِعُ لَهُمْ إِلَى الْبَذْلِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَتَقْوَى مَلِكَاتُ السَّخَاءِ وَالنَّجْدَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ وَمَرْضَاتِهِمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ قَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَفْسَدَةَ اتِّكَالِ الْكُسَالَى عَلَى كَسْبِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ وَرَاءِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ انْحِطَاطُ الْبَشَرِ وَفَسَادُ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَمِنْهُمُ الْمَغْمُولُ الْمُخْلِدُ إِلَى الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَمِنْهُمْ مُحِبُّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَتَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ، فَإِذَا أُبِيحَ لِلْكُسَالَى الْبَطَّالِينَ، أَنْ يَفْتَاتُوا عَلَى الْكَاسِبِينَ الْمُجِدِّينَ، فَيَأْخُذُوا مَا شَاءُوا أَوِ احْتَاجُوا مِنْ ثَمَرَاتِ كَسْبِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ، أَفْضَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ إِلَى الْفَوْضَى فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّعْفِ وَالتَّوَانِي فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِحَقٍّ، أَوْ يَبْذُلَ صَاحِبُ الْمَالِ مَا شَاءَ عَنْ كَرَمٍ وَفَضْلٍ. فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [س 2 آيَةِ 188 ج2 ص 157 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ. أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (2: 61) ، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ ـ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ ـ هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.

قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (تِجَارَةً) بِالنَّصْبِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً إِلَخْ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: لَا تَقْصِدُوا إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اقْصِدُوا أَنْ تَرْبَحُوا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً عَنِ التَّرَاضِي مِنْكُمْ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ أَسْبَابِ الْمُلْكِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَوْفَقَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ: وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (24: 61) ، الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ـ أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ ـ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ ـ أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ ـ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا. فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ التَّسَامُحُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّعَاوُضِ فِيهِ بَرَاعَةَ التَّاجِرِ فِي تَزْيِينِ سِلْعَتِهِ وَتَرْوِيجِهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ غِشٍّ وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَغْرِيرٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَرِيهِ بِثَمَنٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ ابْتِيَاعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا خِلَابِةَ التَّاجِرِ وَزُخْرُفَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَاتِّقَاءِ التَّغْرِيرِ وَالْغِشِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَاطِلِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التِّجَارَةِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُوتُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فِي اخْتِبَارِ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ قِيَامًا أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مَنْفَعَةٍ تُقَابِلُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا خَرَجَ بِهِ الرِّبْحُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ غِشٍّ وَلَا تَغْرِيرٍ، بَلْ بِتَرَاضٍ لَمْ تَنْخَدِعْ فِيهِ إِرَادَةُ الْمَغْبُونِ، وَلَوْ لَمْ يُبِحْ مِثْلَ هَذَا لَمَا رُغِبَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا اشْتَغَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ

عَلَى شَدَّةِ حَاجَةِ الْعُمْرَانِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَارَى الْهِمَمُ فِيهَا مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ شَعَرَ النَّاسُ مُنْذُ الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ بِمَا يُلَابِسُ التِّجَارَةَ مِنَ الْبَاطِلِ حَتَّى إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ جَعَلُوا لِلتِّجَارَةِ وَالسَّرِقَةِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا وَاحِدًا فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ لِأَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلِّيَّاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِدْرَاكِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا مِنْ ذَوِي الطَّمَعِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ لَهَا مَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلَكِنْ كُلُوهَا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي قِوَامُ الْحِلِّ فِيهَا التَّرَاضِي، فَذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ وَالثَّرْوَةِ، وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ: إِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ لَا يَجِيءُ فِي النَّظْمِ الْبَلِيغِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيِ: الَّذِي يُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. وَقَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ هُنَا هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ الْعَاقِلُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعِينَ، وَالْغِشُّ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ غِشٍّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالدِّينِ. قَالَ الْبَقَاعِيُّ: وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ عَدِيلَ الرُّوحِ، وَنَهَى عَنْ إِتْلَافِهِ بِالْبَاطِلِ، نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النَّفْسِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ إِتْلَافِهِمْ لَهُمَا بِالْغَارَاتِ لِنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِهَا أَوْ تَسَبُّبِهَا، عَلَى أَنَّ مَنْ أُكِلَ مَالُهُ ثَارَتْ نَفْسُهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَ آخِرَهَا الْقَتْلُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَنْسَبَ شَيْءٍ لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَخْ، أَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَحْدَهَا أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الِانْتِحَارُ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الْأَقْوَى، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِتَعَاوُنِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَوَحْدَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مَالَ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا حَقِيقَةً بِالِانْتِحَارِ وَلَا مَجَازًا بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَاطِلِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ النَّفَقَاتِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا (4: 5) ، [رَاجِعْ ص 39 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَكُلُّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاجِبِ حِفْظُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْلُ،

وَالْمَالُ، وَالنَّسَبُ، وَعَلَّلُوا التَّعْبِيرَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُفْضِي إِلَى قَتْلِهِ قِصَاصًا أَوْ ثَأْرًا كَانَ كَأَنَّهُ قَتْلٌ لِنَفْسِهِ، وَقَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ (2: 84، 85) ، الْآيَةَ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (2: 54) ، إِنَّ الْمَعْنَى لِيَقْتُلْ كُلٌّ مِنْكُمْ نَفْسَهُ بِالْبَخْعِ وَالِانْتِحَارِ أَوْ أُمِرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَتْلِ هُنَالِكَ قَطْعُ الشَّهَوَاتِ، كَمَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يُعَذِّبْ نَفْسَهُ لَمْ يُنَعِّمْهَا، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْهَا لَمْ يُحْيِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هُنَا: لَا تُخَاطِرُوا بِنُفُوسِكُمْ فِي الْقِتَالِ فَتُقَاتِلُوا مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَكُمْ، وَمَنْ نَظَرَ فِي مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَرَاعَى دَلَالَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النَّاسِ أَنْفُسَهُمْ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّعْبِيرِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ حَتَّى كَأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا هُوَ عَيْنُ الْآخَرِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَجِنَايَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (5: 32) ، وَإِذَا كَانَ يُرْشِدُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْتَرِمَ نُفُوسَ النَّاسِ بَعْدَهَا كَنُفُوسِنَا فَاحْتِرَامُنَا لِنُفُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى، فَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ كَأَنْ يَبْخَعَهَا لِيَسْتَرِيحَ مِنَ الْغَمِّ وَشَقَاءِ الْحَيَاةِ، فَمَهْمَا اشْتَدَّتِ الْمَصَائِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، وَلَا يَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ مِنَ الْفَرَجِ الْإِلَهِيِّ ; وَلِذَلِكَ نَرَى بَخْعَ النَّفْسِ (الِانْتِحَارَ) يَكْثُرُ حَيْثُ يَقِلُّ الْإِيمَانُ، وَيَفْشُو الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْإِيمَانِ مُدَافَعَةُ الْمَصَائِبِ وَالْأَكْدَارِ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَأَلَّمُ مِنْ بُؤْسِ الْحَيَاةِ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْكَافِرُ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ حَتَّى يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا صَرِيحًا. إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أَيْ: إِنَّهُ كَانَ بِنَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ رَحِيمًا بِكُمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَاحَمُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَيَكُونَ كُلٌّ مِنْكُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِينَ عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَمُدَافَعَةِ رَزَايَا الدَّهْرِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ كُلٌّ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (4: 19) ، إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ سُنَّةِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ الْأَخِيرَةَ لَمْ يُوعَدْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ وُصِفَتْ بِالْقُبْحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ـ وَهِيَ النَّهْيُ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا، وَعَنْ عَضْلِهِنَّ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِنَّ، وَعَنْ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنِ الْقَتْلِ ـ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقَتْلُ فَقَطْ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلَّ التَّقْصِيرِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَعَنِ الْقَتْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الْمَقْبُولُ فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْوَعِيدِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. (قَالَ) وَالْعُدْوَانُ: هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، فَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْفَاعِلُ إِتْيَانَ الْفِعْلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى الْحَقَّ، وَجَاوَزَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالظُّلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي لَمْ يَتَحَرَّ وَيَجْتَهِدْ فِي اسْتِبَانَةِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ فَيَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ، وَالْوَعِيدُ مَقْرُونٌ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الْفَاعِلُ الْعُدْوَانَ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ظُلْمًا فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، مِثَالُ تَحَقُّقِ الْعُدْوَانِ دُونَ الظُّلْمِ أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَقْصِدُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ رَاصِدًا لَهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ لِقَتْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ دَمِهِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ، فَهَاهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الْعُدْوَانُ فَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَمِثَالُ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ فَقَطْ أَنْ يُسَلِّمَ امْرُؤٌ مَالَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ مَالُهُ الَّذِي كَانَ سَرَقَهُ أَوِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَالَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مَالَهُ، وَأَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا رَآهُ هَاجِمًا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ صَائِلٌ يُرِيدُ قَتْلَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَأُ ظَنِّهِ، فَهَاهُنَا تَحَقَّقَ الظُّلْمُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعُدْوَانُ، أَقُولُ: وَقَدْ يُعَاقَبُ الْإِنْسَانُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تَجْمَعُ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ مَعًا لِتَقْصِيرِهِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ عِقَابَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِصْلَاءَهُ النَّارَ إِدْخَالُهُ فِيهَا وَإِحْرَاقُهُ بِهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصِّلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ لِلِاسْتِدْفَاءِ، قَالَ الرَّاجِزُ: يُقْعِي جُلُوسَ الْبَدَوِيِّ الْمُصْطَلِي ، أَيِ: الْمُسْتَدْفِئِ، وَتَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [ص 284 ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الْبَعِيدَ شَأْوُهُ، الشَّدِيدَ وَقْعُهُ، يَسِيرٌ عَلَى اللهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْعَادِينَ الظَّالِمِينَ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ مُدَنِّسًا لِلنُّفُوسِ مُدَسِّيًا لَهَا بِحَيْثُ يَهْبِطُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُرْدِيهَا فِي الْهَاوِيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ يَسِيرًا عَلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ حِلْمَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ وَعَدَمَ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ، بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ، أَيْ: فَلَا يَغْتَرَّنَّ الظَّالِمُونَ بِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى مَنْ يَظْلِمُونَهُمْ

وَلَا يَقِيسُنَّ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا فِيمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (34: 35) ، بَلْ يَجِبُ أَلَّا يَأْمَنُوا تَقَلُّبَ الدُّنْيَا وَغِيَرَهَا وَلَا يَنْخَدِعُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى ... كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا. نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَهُمَا أَكْبَرُ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَتُؤْذِنُ بِضَعْفِ إِيمَانِ مُرْتَكِبِهَا، وَوَعَدَ عَلَى تَرْكِهَا بِالْجَنَّةِ وَمُدْخَلِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَ الْبَقَاعِيُّ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِفَاعِلِ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَتْبَعُهُ مَا لِلْمُنْتَهِي تَبْشِيرًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ جُمْلَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ، وَذَكَرَ الْآيَةَ. الِاجْتِنَابُ: تَرْكُ الشَّيْءِ جَانِبًا، وَالْكَبَائِرُ: جَمْعُ كَبِيرَةٍ، أَيِ الْفَعَائِلُ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ: جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا (3: 193) ، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغَائِرِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْكَبَائِرِ، وَاللَّفْظُ أَهَمُّ وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي الْمَعَاصِي صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ أَمِ الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ؟ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْإِسْفَرَايِينِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي عَدِّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. أَقُولُ: أَشْهَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ،

وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَزِيَادَةٌ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَيُقَابِلُهَا الصَّغَائِرُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّ كِبَرَهَا فِي ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ، وَالْمُوبِقَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَوْبَقَهُ إِذَا أَهْلَكَهُ، أَوْ ذَلَّلَهُ، وَيُقَابِلُ الْمُوبَقَ مَا يَضُرُّ ضَرَرًا قَلِيلًا، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ. وَكَيْفَ يُنْكِرُ أَحَدٌ انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَغَيْرِ كَبَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مِنْ ذَاتِهِ بَدِيهِيٌّ ـ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ـ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَنْوَاعٌ لَهَا أَفْرَادٌ تَتَفَاوَتُ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا. قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ 53: 32] ، وَالْفَوَاحِشُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْفَعَائِلِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نَفْسُهَا فِي مَعْنَاهَا بِذَاتِهَا وَمَوْقِعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَدْ عَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ هَذَا الِاجْتِنَابِ تَكْفِيرَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغُفْرَانَهُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِ الْكَبَائِرِ هُنَا بِالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ كَمَا عُلِمَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِاللَّمَمِ، وَفَسَّرُوا اللَّمَمَ بِمَا قَلَّ وَصَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ وَمَا أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّمَمُ بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْفَاحِشَةِ بِإِتْيَانِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا مَعَ اجْتِنَابِ اقْتِرَافِهَا، مِنْ أَلَمَّتِ النَّخْلَةُ إِذْ قَارَبَتِ الْإِرْطَابَ وَأَلَمَّ الْغُلَامُ إِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ مَا يُوَضِّحُهُ بِالْأَمْثِلَةِ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالسِّيَاقِ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مَغْفِرَةَ اللَّمَمِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ تَكُونُ غِذَاءً

فَدَمًا فَمَنِيًّا يُلَقِّحُ الْبُوَيْضَاتِ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَعِلْمُهُ بِحَالِهِ بَعْدَ هَذَا التَّلْقِيحِ إِذْ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَقُصَارَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ فِي أُخْرَى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (30: 54) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَعْلِيلُ التَّخْفِيفِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (4: 28) . وَمِمَّا وَرَدَ صَرِيحًا فِي تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا (18: 49) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (54: 52، 53) . وَإِذَا كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْكَارُهُ؟ لَا، بَلْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا عُزِيَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُخَالِفُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ كَلَامَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَالَ: " مَعَاصِي اللهِ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ " اهـ، وَأَوَّلَ الْآيَةَ تَأْوِيلًا بَعِيدًا، وَهَلْ يُؤَوِّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي صَرَفَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ عَنْ إِفَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَعَلَ كُتُبَهُمْ فِتْنَةً لِلْمُسْلِمِينَ اشْتَغَلُوا بِالْجَدَلِ فِيهَا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَسَتَرَى مَا يَنْقُلُهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَيَرُدُّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَيْنَ الرَّازِيُّ مِنَ الْغَزَالِيِّ، وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ؟ وَالْمُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُحَقِّقِي الْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ فَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتِ الْحَدَّ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَوَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِعَارِضٍ، أَوْ لَا لِسَدِّ ذَرِيعَةٍ، وَضَعَّفُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَقْوَالًا أُخْرَى كَثِيرَةً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْكَبَائِرَ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقِيلَ: فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّازِيُّ: إِنَّهَا كُلُّ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي تَعْرِيفِهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، وَأَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْكَبَائِرَ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَوْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ، فَالِاحْتِيَاطُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مِنْهَا صَغَائِرَ مُبْهَمَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَهِيَ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ الزَّوَاجِرَ مَنْ شَاءَ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْمَعْصِيَةَ إِلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَأَرَادُوا بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لَمْ يَفْهَمُوا الْآيَةَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (45: 21) ، فَجُعِلَ أَهْلُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُفْسِدُونَ، وَقَالَ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (4: 18) ، الْآيَةَ، وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَعِيدٍ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السَّيِّئَاتِ فِيهَا عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ فِي كُلِّ سَيِّئَةٍ، وَفِي كُلِّ نَهْيٍ خَاطَبَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ، وَصَغِيرَةً أَوْ صَغَائِرَ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَاحْتِرَامِ التَّكْلِيفِ وَمِنْهُ الْإِصْرَارُ، فَإِنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَكُونُ مُحْتَرِمًا وَلَا مُبَالِيًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ أَيِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا كُلُّ شَيْءٍ تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ صَغِيرَهُ فَلَا نُؤَاخِذْكُمْ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ ; بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ يَكُونُ كَبِيرَةً مُطْلَقًا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنْ فُعِلَ بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ وَعَدَمِ اسْتِهَانَةٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ فُعِلَتْ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ وَأَصَرَّ الْفَاعِلُ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ قِيلَ لَهُ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ ، قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، أَيْ: مَعَ تَوْبَةٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ اسْتِشَاطَةِ غَضَبٍ، أَوْ غَلَبَةِ جُبْنٍ، أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ وَصَاحِبُهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الدِّينِ يَخَافُ اللهَ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ فَهُوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ تَعَالَى، إِذَا كَانَ لَوْلَا ذَلِكَ الْعَارِضُ الْقَاهِرُ لِلنَّفْسِ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِحَهُ تَهَاوُنًا بِالدِّينِ، وَكَانَ بَعْدَ اجْتِرَاحِهِ إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ يَنْدَمُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْزِمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى اقْتِرَافِ مِثْلِهِ، فَهُوَ بِعَدَمِ إِصْرَارِهِ وَبِاسْتِقْرَارِ هَيْبَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَنْبٍ يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ ـ مَعَ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ حَيْثُ نَهَاهُ ـ فَهُوَ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَيْ: فِي صُورَتِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، يُعَدُّ كَبِيرَةً (أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ وَدَاعٍ إِلَى الْإِصْرَارِ وَالِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِهْتَارِ) ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِخْسَارُهُمَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (83: 1) ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَوْ حَبَّةً، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (104: 1) ، أَيِ: الَّذِينَ اعْتَادُوا الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، وَهُمَا عَيْبُ النَّاسِ وَالطَّعْنُ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ تَرْجِيحٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ بِحَسَبِ قَصْدِ فَاعِلِهَا وَشُعُورِهِ عِنْدَ اقْتِرَافِهَا وَعَقِبَهُ، لَا فِي ذَاتِهَا وَحَسَبِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي إِنْكَارَ تَمَايُزِ الْمَعَاصِي فِي أَنْفُسِهَا، وَكَوْنَ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ كَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ كَالزِّنَا، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الرَّجُلِ خَادِمَهُ ضَرْبًا خَفِيفًا بِدُونِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي

ذَلِكَ يُعَدُّ صَغِيرَةً، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ صَغِيرَةً فِي نَفْسِهِ مَهْمَا كَانَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَقَاصِدِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنِ الْغَزَالِيِّ نُبَذًا تَدُلُّ عَلَى رَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَبَائِرَ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا فَهَاهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (42: 7) . (وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَةٍ أَزْيَدَ مِنْ عُقَابِ مَعْصِيَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ. (وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ ; وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ رَدَّ الرَّازِيُّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ بَاطِلَةٍ عِنْدَنَا، أَيْ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَوْنَ الطَّاعَةِ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةِ تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ جَزَاءً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، لَا أَدْرِي أَنَقَلَ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا أَمْ بِمَعْنَاهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ عَلَى الْحَالَيْنِ: إِنَّ تَوْجِيهَ الرَّجُلِ ذَكَاءَهُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِهِمْ، وَنَصْرِ الْأَشَاعِرَةِ وَتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ قَدْ شَغَلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، فَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِيجَابِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، وَإِنَّمَا حَرَّكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خَيَالِهِ ذِكْرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ

لَيْسَ بِإِيجَابٍ مِنْ ذِي سُلْطَةٍ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَعْلُو تَأْوِيلَ الْمُؤَوِّلِينَ وَجَدَلَ الْمُجَادِلِينَ، وَكَذَلِكَ حُبُوطُ الْأَعْمَالِ بِالْكُفْرِ، وَإِحَاطَةُ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهَا مِرَاءً ظَاهِرًا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (9: 17) ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ 2: 81] ، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (83: 14) ، عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ هُنَا لَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَفِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ. وَهَذِهِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، فَإِذَا زَكَتِ النَّفْسُ بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي أَفْلَحَتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ الْعَكْسُ خَسِرَتْ وَحَبِطَ مَا عَمِلَتْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (91: 9، 10) ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْحَسَنَاتِ وَإِذْهَابَهَا لِلسَّيِّئَاتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيضَاحٍ، لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ يُضَادُّ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا وَيُكَفِّرَهَا؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ مَا عَنْهُ التَّوْبَةُ، أَيِ الذُّنُوبُ مَا نَصُّهُ: " اجْتِنَابُ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ امْرَأَةٍ، وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَظَرٍ أَوْ لَمْسٍ، فَإِنَّ مُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْوِقَاعِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَنْوِيرِ قَلْبِهِ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي إِظْلَامِهِ، فَهَذَا مَعْنَى تَكْفِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، أَوْ لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا وَلَكِنِ امْتَنَعَ لِخَوْفِ أَمْرٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يَشْتَهِي الْخَمْرَ بِطَبْعِهِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهُ لَمَا شَرِبَهُ فَاجْتِنَابُهُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْأَوْتَارِ. نَعَمْ مَنْ يَشْتَهِي الْخَمْرَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ فَيُمْسِكُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ عَنِ الْخَمْرِ وَيُطْلِقُهَا فِي السَّمَاعِ فَمُجَاهَدَتُهُ النَّفْسَ بِالْكَفِّ رُبَّمَا تَمْحُو عَنْ قَلْبِهِ الظُّلْمَةَ الَّتِي ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ السَّمَاعِ. فَكُلُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهَا مَحَلَّ الشَّكِّ، وَتَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَا يُعْرَفُ تَفْصِيلُهَا إِلَّا بِالنَّصِّ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بَعْدُ وَلَا حَدَّ جَامِعٌ، بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الصَّلَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِشْرَاكٌ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قِيلَ: مَا تَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: الْخُرُوجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ يُبَايِعَ

رَجُلًا ثُمَّ يَخْرُجَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ يُقَاتِلُهُ " فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يُحِيطُ بِالْعَدَدِ كُلِّهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى حَدٍّ جَامِعٍ فَيَبْقَى لَا مَحَالَةَ مُبْهَمًا اهـ. وَقَالَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ تَمَامُ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطُهَا، وَدَوَامُهَا: " وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَيَجِبُ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَوَّلِ بُلُوغِهِ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَيَدِهِ وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَسَاعَاتِهِ، وَيُفَصِّلَ عِنْدَ نَفْسِهِ دِيوَانَ مَعَاصِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى جَمِيعِهَا صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظْلَمَةِ الْعِبَادِ كَنَظَرٍ إِلَى غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَقُعُودٍ فِي مَسْجِدٍ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَمَسِّ مُصْحَفٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاعْتِقَادِ بِدْعَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَمَاعِ مَلَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَيْهَا، وَبِأَنْ يَحْسِبَ مِقْدَارَهَا مِنْ حَيْثُ الْكِبَرِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمُدَّةِ، وَيَطْلُبَ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ مِنْهَا حَسَنَةً تُنَاسِبُهَا، فَيَأْتِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِمِقْدَارِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا بَلْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (11: 114) ، فَيُكَفِّرُ سَمَاعَ الْمَلَاهِي بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَيُكَفِّرُ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَيُكَفِّرُ مَسَّ الْمُصْحَفِ مُحْدِثًا بِإِكْرَامِ الْمُصْحَفِ وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَكَثْرَةِ تَقْبِيلِهِ وَبِأَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا وَيَجْعَلَهُ وَقْفًا، وَيُكَفِّرُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِشَرَابٍ حَلَالٍ هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ، وَعَدُّ جَمِيعِ الْمَعَاصِي غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُضَادَّةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَكُلُّ ظُلْمَةٍ ارْتَفَعَتْ إِلَى الْقَلْبِ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا نُورٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا، وَالْمُتَضَادَّاتُ هِيَ الْمُتَنَاسِبَاتُ ; فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُمْحَى كُلُّ سَيِّئَةٍ بِحَسَنَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَكِنْ تُضَادُّهَا، فَإِنَّ السَّوَادَ يُزَالُ بِالْبَيَاضِ لَا بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّحْقِيقُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي طَرِيقَةِ الْمَحْوِ، فَالرَّجَاءُ فِيهِ أَصْدَقُ، وَالثِّقَةُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي الْمَحْوِ. فَهَذَا حُكْمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُكَفَّرُ بِضِدِّهِ، وَأَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَثَرَ اتِّبَاعِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ السُّرُورُ بِهَا وَالْحَنِينُ إِلَيْهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّ أَذًى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ يَنْبُو بِسَبَبِهِ قَلْبُهُ عَنِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ ; إِذِ الْقَلْبُ يَتَجَافَى بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ عَنْ دَارِ الْهُمُومِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبٌ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا الْهُمُومُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إِلَّا الْهَمُّ بِطَلَبِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى الْمُرَادُ هُنَا. وَلَهُ فِي هَذَا الْمَنْحَى كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكْفِيرَ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِذْهَابِ أَثَرِهَا السَّيِّئِ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْأُنْسُ بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالرَّغْبَةُ

فِيهِ وَالِاسْتِلْذَاذُ بِهِ، وَأَمَّا تَكْفِيرُ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِلسَّيِّئَاتِ فَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي هُوَ تَرْكٌ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ بِعَمَلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ الَّتِي تَكُفُّ النَّفْسَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَتْ دَاعِيَتُهُ، وَمِمَّا أَتَذَكَّرُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ أَوْ بُسْتَانَهُ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهَ وَخَافَهُ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ السَّرِقَةِ وَخَرَجَ، فَإِنَّ هَذَا الْكَفَّ عَنِ الْكَبِيرَةِ يُكَفِّرُ مِنْ نَفْسِهِ دُخُولَ مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ ; لِأَنَّ شُعُورَ الْإِيمَانِ الَّذِي تَنَبَّهَ فِيهِ يَكُونُ قَدْ غَلَبَ شُعُورَ الْفِسْقِ الَّذِي حَرَّكَهُ أَوَّلًا لِقَصْدِ السَّرِقَةِ وَمَحَاهُ وَأَزَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ وَلَا الْعِلْمِ بِرِضَاهُ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الِاسْتِهَانَةَ بِحَقِّهِ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُقَوِّي فِي نَفْسِهِ أَثَرَ الشَّرِّ وَدَاعِيَةَ التَّعَدِّي وَلَا يُكَفِّرُ ذَلِكَ وَيَمْحُوهُ كَوْنُهُ مُجْتَنِبًا لِشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَإِنِ اجْتَنَبَهُ بِقَصْدٍ مَعَ حُصُولِ دَاعِيَتِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ يَضُرُّونَ بِبَعْضِ الْمَعَاصِي وَيَجْتَنِبُونَ غَيْرَهَا أَشَدَّ الِاجْتِنَابِ، فَهَلْ يَكُونُ لِهَذَا الِاجْتِنَابِ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا مِمَّا ضَرِيَتْ بِهِ وَأَصَرَّتْ عَلَيْهِ؟ بَلْ وَلَا مِمَّا فَعَلَتْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تُتْبِعْهُ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنْ قَدْ تُكَفِّرُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ فِي مَجْمُوعِهَا، وَمَنْ فَهِمَ هَذَا لَا يَرَى إِشْكَالًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَحَدِيثِ مُسْلِمٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَةٌ لِمَا بَيْنَهَا مَا اجْتُنِبَ الْكَبَائِرُ وَإِنْ تَخَبَّطَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ. لِكُلِّ مَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ دَوَاءٌ خَاصٌّ يُزِيلُهُ، وَلَا يُزِيلُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَأَمَّا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالْغِذَاءِ الْمُوَافِقِ وَالرِّيَاضَةِ وَاسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ، وَالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى شِفَاءِ كُلِّ مَرَضٍ إِذَا لَمْ يَكْثُرِ التَّعَرُّضُ لِأَسْبَابِهِ، وَإِنَّ أَدْوَاءَ النَّفْسِ وَأَدْوِيَتَهَا تُشْبِهُ أَمْرَاضَ الْبَدَنِ وَأَدْوِيَتَهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي حَامِدٍ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْثِلَتُهُ كُلُّهَا مُطَابِقَةً لِقَاعِدَتِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْسَ أَنَّ إِصْلَاحَ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ قَدْ يُذْهِبُ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ لِحِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَطْبِيقَهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ تَعَدُّدِ مَرَاكِزِ الْإِدْرَاكِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ آلَةُ النَّفْسِ، وَكَوْنِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا لَهُ مَرْكَزٌ خَاصٌّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي أَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا تَكُونُ الْأَعْمَالُ مِنْ مَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُعْجَبُ بِمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ قُوَّةِ الذِّهْنِ وَنُفُوذِ أَشِعَّةِ الْفَهْمِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عُنْصُرًا بَسِيطًا كَمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانَ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِالنُّبُوغِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْحِسِّيَّةِ، كَمَا حَكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: مُدْخَلًا بِضَمِّ

32

الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَيْ: وَنُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: نُدْخِلُكُمْ فَتَدْخُلُونَ مَكَانًا كَرِيمًا، وَوَصَفَ الْمَكَانَ بِالْكَرِيمِ ظَنَّ مَنْ لَا يَرْجِعُ فِي الْمَعَانِي إِلَى أُصُولِ اللُّغَةِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحُسْنِ تَجَوُّزًا وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: أَرْضٌ كَرِيمَةٌ وَأَرْضٌ مُكَرَّمَةٌ: أَيْ طَيِّبَةٌ جَيِّدَةُ النَّبَاتِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26: 57، 58) ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ هُوَ الْمَكَانَ الَّذِي يُكْرَمُ بِهِ مَنْ يَدْخُلُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ. وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا: نَهَى أَوَّلًا عَنْ أَكْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ وَأَوْعَدَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَنَاهِي مَا يُغْفَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُغْفَرُ، ثُمَّ أَرْشَدَنَا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى قَطْعِ عِرْقِ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهُوَ التَّمَنِّي وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ لِمَوَاهِبِهِ فِي الْجِدِّ وَالْكَسْبِ وَكُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي ذَلِكَ: وَلَمَّا نَهَى عَنِ الْقَتْلِ، وَعَنِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْمَعَاصِي الْوَخِيمَةِ نَهَى عَنِ التَّمَنِّي، فَإِنَّ التَّمَنِّيَ قَدْ يَكُونُ حَسَدًا وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَالرِّضَى بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَالتَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُرُّ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ يَقُودُ إِلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَإِذَا انْتَهَى عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَاطِنُهُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِحَسَبِ الطَّرِيقَةِ، لِيَكُونَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ، وَيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَيَرْضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ الْجِهَادَ، فَقُلْنَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبَ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ، فَنَزَلَتْ، وَالثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ

قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (4: 11) ، قَالَ الرِّجَالُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ بِحَسَنَاتِنَا كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَيَكُونَ أَجْرُنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ أَجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَتِ النِّسَاءُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا لَنَا الْمِيرَاثُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ الْوَاحِدِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَهِيَ لَا تَتَّفِقُ اتِّفَاقًا بَيِّنًا مَعَ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْحَسَدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: لَيْتَ مَا أُعْطِيَ فُلَانٌ مِنَ الْمَالِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ كَانَ عِنْدِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَدًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللهُمَّ أَعْطِنِي مِثْلَهُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَبُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْحَيْرَةُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّفَ كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْمَالًا فَمَا كَانَ خاصًّا بِالرِّجَالِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا لِلْفَرِيقَيْنِ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَتَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي تَمَنَّيْنَ عَمَلَ الرِّجَالِ، وَأَيُّ عَمَلِ الرِّجَالِ تَمَنَّيْنَ؟ تَمَنَّيْنَ أَخَصَّ أَعْمَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَهُوَ حِمَايَةُ الذِّمَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْقُوَّةِ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ عِنَايَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَتَلَطُّفٌ بِهِنَّ وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ وَإِخْلَاصِهِنَّ فِيمَ تَمَنَّيْنَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّمَنِّي النَّاشِئُ عَنِ الْحَيَاةِ الْمِلِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ غَرِيبٌ مِنَ النِّسَاءِ جِدًّا ; وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي عُنْفُوَانِ حَيَاتِهَا يَكُونُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ فِيهَا مُشْتَرِكِينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي آثَارِهَا، وَإِنَّهَا لَتَسْرِي فِيهَا سَرَيَانًا عَجِيبًا وَمَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَةَ الْعَرَبِ بِهِ وَسِيرَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي زَمَنِهِ يَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَسِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَنْقَبَةٍ وَكُلِّ عَمَلٍ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ وَيُبَايِعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي (سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ) ، كَمَا كَانَ يُبَايِعُهُ الرِّجَالُ، وَكُنَّ يَنْفِرْنَ مَعَهُمْ إِذَا نَفَرُوا لِلْقِتَالِ، يَخْدُمْنَ الْجَرْحَى وَيَأْتِينَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَصَّ النِّسَاءُ بِأَعْمَالِ الْبُيُوتِ، وَالرِّجَالُ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي فِي خَارِجِهَا لِيُتْقِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِهِ كَمَا يَجِبُ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، وَتَنْكِيرُ لَفْظِ نَصِيبٌ، لِإِفَادَةِ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى مَا عُمِلَ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: فَفِي الْكَلَامِ حَثٌّ ضِمْنِيٌّ عَلَيْهِ ـ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: لِيَسْأَلْهُ كُلٌّ مِنْكُمُ الْإِعَانَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَى مَا نِيطَ بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَمَنَّى مَا نِيطَ بِالْآخَرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ تَمَنِّي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ كَالْجَمَالِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّيهَا لِمَنْ لَمْ يُعْطَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ إِذْ يُحْمَدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا نَالَ الْآخَرُ وَيَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ بِالسَّعْيِ وَالْجِدِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَجِّهُوا

أَنْظَارَكُمْ إِلَى مَا يَقَعُ تَحْتَ كَسْبِكُمْ وَلَا تُوَجِّهُوهَا إِلَى مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ؛ فَإِنَّمَا الْفَضْلُ بِالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ فَلَا تَتَمَنَّوْا شَيْئًا بِغَيْرِ كَسْبِكُمْ وَعَمَلِكُمْ اهـ. أَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَنِّي تَشَهِّي حُصُولِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيَّ اهـ. وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مُشْكِلًا، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ مَنْ يُتْبِعُ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَيُسْلِسُ لِخَوَاطِرِهَا الْعِنَانَ، بَلْ يُلْقِي مِنْ يَدِهِ الْعِنَانَ وَاللِّجَامَ، حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانِيُّ مِنْهُ كَالْأَحْلَامِ مِنَ النَّائِمِ لَا يَمْلِكُ دَفْعَهَا إِذَا أَتَتْ، وَلَا رَدَّهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَشَأْنُ قُوَى الْإِرَادَةِ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَزَائِمَ قَوِيَّةٍ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ بِهَذَا النَّهْيِ إِلَى تَحْكِيمِ الْإِرَادَةِ فِي خَوَاطِرِهِمُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، لِتَصْرِفَهَا عَنِ الْجَوَلَانِ فِيمَا هُوَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا يَصْرِفُونَ أَجْسَامَهُمْ أَنَّ تَجُولَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَوَجُّهِهَا فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَشْرَفُ كَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ عَنِ النَّفْسِ مَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالِ الْحَيَاةِ وَتَكَالِيفِهَا. الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ مِنَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْتِهَاءُ وَهُوَ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعَمَلُ النَّافِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْفَائِدَةُ تَامَّةً مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يَشْغَلُ النَّفْسَ بِالْأَمَانِي وَالتَّشَهِّي كَالْبِطَالَةِ وَالْكَسْرِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكَسْبَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي (ثَانِيهِمَا) : تَوْجِيهُ الْفِكْرِ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْعَمَلِ إِلَى مَا يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاكَ بِهِ آنِفًا وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الْإِرَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ ; وَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فَضْلٌ، أَيْ: زِيَادَةٌ فِي صَاحِبِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ، وَهَذَا الْفَضْلُ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَسْبُ وَلَا يُنَالُ بِالْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَلَا يُعَابُ الْمَفْضُولُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يُمْدَحُ الْفَاضِلُ فِيهِ بِالْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، كَاسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، فَتَمَنِّي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَزَايَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ سَخَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَمَهَانَةٍ فِي النَّفْسِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مُعَالَجَتِهِ بِالْفَضْلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الْأَمَانِيُّ فَتُنْسِيَهُ رَبَّهُ وَمَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْفَضْلِ، وَتُنْسِيَهُ نَفْسَهُ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُدْرَةِ

عَلَى الْكَسْبِ، ثُمَّ تَحْمِلُهُ آلَامُ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ عَلَى الْمَرْكَبِ الصَّعْبِ، وَهُوَ طَاعَةُ الْحَسَدِ بِالْإِيذَاءِ وَالْبَغْيِ، فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ. (وَمِنْهَا) مَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ، كَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِتَمَنِّي هَذَا إِلَّا ضَعِيفُ الْهِمَّةِ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، جَاهِلٌ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ وَآيَاتِ الْجِدِّ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فَهُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَهُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَيَهْدِيهِ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا أُوتِيهِ مِنَ الْقُوَى فِي تَحْصِيلِ كُلِّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَالْجَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالْكَسْبِ كَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْمَنَاصِبِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ الثَّرْوَةُ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تُنَالَ بِالْكَسْبِ وَالسَّعْيِ، وَالْمَوْرُوثُ مِنْهَا قَلَّمَا يَثْبُتُ وَيَنْمُو إِلَّا عِنْدَ الْعَامِلِينَ، وَالَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا وَإِنْكِلْتِرَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الطَّرِيفِ دُونَ التَّلِيدِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْوَارِثِينَ مِنْهُمْ رَاهَنَ عَلَى كَسْبِ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ يُضَاهِي ثَرْوَتَهُ الْمَوْرُوثَةَ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ فَمَا حَلَّ الْأَجَلُ إِلَّا وَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الْعَظِيمُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ حَتَّى ثِيَابِهِ وَابْتَدَأَ عَمَلَهُ الِاسْتِقْلَالِيَّ بِالْخِدْمَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَهِمَمُ الرِّجَالِ لَا يَقِفُ أَمَامَهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْدَادِهِمْ، يَتَّكِلُونَ عَلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَنَا الْفَاطِرُ جَلَّ صُنْعُهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّلَهِّي بِالْبَاطِلِ إِلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي يُنَالُ بِهِ كُلُّ أَمَلٍ، فَقَالَ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، فَشَرَعَ الْكَسْبَ لِلنِّسَاءِ كَالرِّجَالِ فَأَرْشَدَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى تَحَرِّي الْفَصْلِ بِالْعَمَلِ دُونَ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَحِكْمَةُ اخْتِيَارِ صِيغَةِ الِاكْتِسَابِ عَلَى صِيغَةِ الْكَسْبِ أَنَّ صِيغَةَ الِاكْتِسَابِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ، وَهُوَ اللَّائِقُ فِي مَقَامِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا تَطْلُبُونَ مِنَ الْفَضْلِ إِنَّمَا يُنَالُ بِفَضْلِ الْعِنَايَةِ وَالْكُلْفَةِ فِي الْكَسْبِ، لَا بِمَا تُثِيرُهُ الْبِطَالَةُ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَمَا قِيلَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَسْبِ فِي الْخَيْرِ وَالِاكْتِسَابِ فِي الشَّرِّ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (2: 286) ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الصِّيغَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ [رَاجِعْ 118 ج 2 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا إِرْشَادٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَكُلِّ مَا يَتَفَاضَلُ فِيهِ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادٌ إِلَى اعْتِمَادِ النَّاسِ فِي مَطَالِبِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ دُونَ الْكَسَلِ وَالتَّوَاكُلِ، وَاعْتِمَادِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُؤَيِّدَانِ لِذَلِكَ، فَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً مَثَلًا لِلْمُسْتَقِلِّينَ، فَالْمُسْلِمُ بِمُقْتَضَى إِسْلَامِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَوَاهِبِهِ، وَقُوَاهُ فِي كُلِّ مَطَالِبِهِ مَعَ الرَّجَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاكْتِسَابِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: وَمَهْمَا أَصَبْتُمْ بِالْجِدِّ وَالِاكْتِسَابِ فَلَا يُنْسِيَنَّكُمْ ذَلِكَ حَاجَتَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ

الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، إِمَّا لِجَهْلِكُمْ بِهِ أَوْ بِطَرْقِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَإِمَّا لِعَجْزِكُمْ عَنْهُ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الزِّرَاعَةِ أَوِ التِّجَارَةِ فَيُدْلِي إِلَيْهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُ، وَيَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُتِمَّ فَضْلَهُ بِالْمَطَرِ الَّذِي يَنْمُو بِهِ الزَّرْعُ، وَاعْتِدَالِ الرِّيحِ لِيَسْلَمَ الْفُلْكُ، وَهَذَا مِمَّا يَجْهَلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ. وَمِنْ هُنَا تَفْهَمُ حِكْمَةَ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْإِلْهَامِ وَبِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ كَيْفَ يَطْلُبُ الْمَنَافِعَ وَالْفَضْلَ، وَكُلَّمَا سَأَلَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعَمَلِ زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَخَزَائِنُ جُودِهِ لَا تَنْفَدُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (15: 21) ، وَلَا يَزَالُ الْعَامِلُونَ يَسْتَزِيدُونَهُ وَلَا يَزَالُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَفْضُلُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ الْبَطَّالِينَ، وَقَدْ بَلَغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ حَدًّا بَعِيدًا جِدًّا ; حَتَّى كَادَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ بَعْضِ الشُّعُوبِ وَبَعْضِهِمُ الْآخَرِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَبَعْضِ الْإِنْسَانِ. أَلَا أُذُنٌ تَسْمَعُ وَعَيْنٌ تُبْصِرُ! ! كَيْفَ يَسْتَوْلِي الْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ عَلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ كَمَا يُسَخِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ؟ ! أَيُنْكِرُ أَصْحَابُ النُّفُوذِ الصُّورِيِّ وَالنُّفُوذِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَلَبِ فَضْلِ اللهِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالثَّرْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ تَارَةً بِاسْمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، قَدْ خَرَجَتِ السُّلْطَةُ عَلَيْهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَا هَذَا الْقَلِيلُ بِالَّذِي يَبْقَى لَهُمْ، أَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالْعِلْمِ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَوَعَيْنُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَيَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ أَيَّامَ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَيُجِيزُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي أَصَابُوهُ بِكَسْبِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ، ثُمَّ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي؟ ! فَإِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَهَذَا الْغُرُورُ؟ ! إِنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ فَضْلِ اللهِ فِي الدِّينِ كَمَا حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنَعُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَأَنْ تَطْلُبَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَوْ سَأَلَتْهُ لَأَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ، فَنَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصُرَهَا عَلَيْهِمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ. قَدْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْحَسَدُ وَالتَّمَنِّي، كُلَّمَا ظَهَرَتْ آيَاتُ النُّبُوغِ فِي الْعِلْمِ، أَوِ الْعَمَلِ فِي رَجُلٍ مِنْهَا قَامَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَكَسْبِهِ، يُبَدِّلُونَ حَسَنَاتِهِ سَيِّئَاتٍ، وَيَبْغُونَهُ الْفِتَنَ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعَثَرَاتِ، يَسْتَكْبِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَقِرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا أَهْلًا لِأَنْ تُدْرِكَ مَا أَدْرَكَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا اسْتَكْبَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْمِغَتِهِمْ، وَيُعَظِّمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ

33

مَا يُحَقِّرُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ، يَقُولُونَ: مَا هُوَ فُلَانٌ؟ لَا يَعْلَمُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الصِّبْيَانُ، وَمَا هِيَ أَعْمَالُهُ الَّتِي تُذْكَرُ لَهُ؟ إِنَّهُ لَيَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ، أَوْ إِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا السُّمْعَةَ وَالرِّيَاءَ، أَوْ ظَاهِرُهَا نَفْعٌ وَبَاطِنُهَا إِيذَاءٌ، وَلَكِنْ مَا بَالُهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا مِنْهُ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ؟ ، وَلِمَاذَا حَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَنَاءَ الْكَيْدِ لَهُ وَالْمَكْرِ بِهِ؟ أَلَمْ يَرَوْا شَرًّا فِي الْأَرْضِ يَسْعَوْنَ فِي إِزَالَتِهِ إِلَّا عِلْمَهُ النَّاقِصَ، وَعَمَلَهُ النَّافِعَ الَّذِي يَخْشَوْنَ احْتِمَالَ ضَرَرِهِ، أَلَا مُحَاسِبٌ الْحَاسِدُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُسِيئُونَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى مَحْسُودِيهِمْ؟ أَلَا يَجِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَصْرِفًا عَنْ نَارِ الْحَسَدِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ، قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَ بَقَايَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَقِسْمَتِهِ الْفَضْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ؟ أَلَا لِلَّهِ دَرُّ التِّهَامِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ: إِنِّي لِأَرْحَمُ حُسَّادِي لِفَرْطِ مَا ... ضَمَّتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الْأَوْغَارِ نَظَرُوا صَنِيعَ اللهِ بِي فَعُيُونُهُمْ ... فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي النَّارِ أَلَا وَإِنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي النَّارِ، أَوْ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ عَلَى التَّهَوُّكِ وَالتَّهَافُتِ عَلَى النَّارِ، وَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْحِسْدَةِ الْأَشْرَارِ يَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُ مَا أُوتِيَهُ الْأَقْوَامُ الْآخَرُونَ؟ إِنِّي لَا أَرَى عِلَاجًا لِلْحَاسِدِينَ الْبَاغِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَشْرَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فِيهَا حَتَّى يُمَيِّزَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ لِيَعْلَمُونَ أَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ جَهْلَهُمْ وَسُوءَ حَالِهِمْ، فَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، فَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا بِمَا يُلَقِّنُونَهُ الْعَامَّةَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي تُخَدِّرُ أَعْصَابَهَا وَتُبْقِيهَا عَلَى حَالِهَا، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا. وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ التَّمَنِّي فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّحَاسُدِ وَتَمَنِّي مَا عِنْدَ الْغَيْرِ يَكُونُ فِي الْمَالِ، وَقَلَّمَا يَتَمَنَّى النَّاسُ مَا فَضَلَهُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْجَاهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْجَاهَ يَسْتَتْبِعُ الْمَالَ فِي الْغَالِبِ، فَالْعَالِمُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا يَكَادُ يَحْسُدُهُ عَلَى عِلْمِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَأَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُظْهِرًا لِجَهْلِ الْأَدْعِيَاءِ وَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ تَمَنِّي أَحَدِ مَا فَضَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِ ; لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسُوقُ إِلَى التَّعَدِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَامًّا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَالسِّيَاقُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَسْبُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الْغَالِبِ هُوَ الْكَسْبُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ، فَالْمَوَالِي مَنْ لَهُمُ الْوِلَايَةُ عَلَى التَّرِكَةِ، وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتِمُّ بِقَوْلِهِ: تَرَكَ وَالْمَعْنَى: وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، مَوَالِي لَهُمْ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتْرُكُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمَوَالِي هُمُ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، وَالْأَزْوَاجُ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ هُنَا بِالَّذِينِ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمُ: الْأَزْوَاجُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ زَوْجًا لَهُ حَقُّ الْإِرْثِ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَدَيْنِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ: فَأَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَصِيبَهُمُ الْمَفْرُوضَ لَهُمْ وَلَا تَنْقُصُوهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ مَوْضِعًا لِطَمَعِ بَعْضِ الْوَارِثِينَ ـ أَيْ: وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمُ الْمَالُ لِإِقَامَةِ الْمُورِثِ مَعَهُمْ ـ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ حَاضِرٌ يَشْهَدُ تَصَرُّفَكُمْ فِي التَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الطَّمَعُ وَحَسَدُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ الْوَارِثِينَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا. أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي لَا يَعْثُرُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَلَا يَكْبُو فِي مَيْدَانِهِ جَوَادُ الذِّهْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَأَيْنَ مِنْهُ تِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمُتَكَلَّفَةُ الَّتِي انْتَزَعَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَنْوِينِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ فَهُوَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْمَأْخَذُ الْقَرِيبُ الْمُتَبَادَرُ لِهَذَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الْآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي عُطِفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ فَاخْتَارَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْحُكْمِ فِي امْتِثَالِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبُعْدَ فِي التَّقْدِيرِ فَقَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَفْظَ تَرِكَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ قَوْمٍ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: وَلِكُلِّ تَرِكَةٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا يَلُونَهَا وَيَحُوزُونَهَا، مِمَّا تَرَكَ بَيَانٌ لِكُلٍّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْعَامِلِ، أَوْ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا مِمَّا تَرَكَ عَلَى أَنَّ مِنْ صِلَةُ مَوَالِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَارِثِ وَفِي تَرَكَ ضَمِيرُ كُلٍّ وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ اسْتِئْنَافٌ مُفَسِّرٌ لِلْمَوَالِي وَفِيهِ خُرُوجُ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْأَقْرَبُونَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ حَظٌّ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ عَلَى أَنَّ

جَعَلْنَا مَوَالِيَ صِفَةُ كُلٍّ، وَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْأَقْرَبِينَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلِمَاذَا لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (4: 7) ، إِلَخْ، بَلْ فَسَّرَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمُتَوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ، وَذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا وَرَدَ فِي إِرْثِ الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَةِ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ بِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَرَوَوْا أَنَّ الْحَلِيفَ كَانَ يَرِثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (8: 75) ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، فَجُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ـ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ـ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْآيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ بَدْرٍ، وَالْمَوَارِيثُ شُرِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا لِأَنَّهَا بَعْدَهَا فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَبُنِيَتْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْوَارِثِينَ نَصِيبًا يَجِبُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ تَمَامًا، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُقَرِّرَةً لِلْإِرْثِ بِالتَّحَالُفِ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الْإِرْثَ بِالتَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ وَنَسَخَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلَهُ إِرْثُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ. وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا آخَى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ أَخَاهُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ قَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْإِرْثَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (33: 6) ، وَهُوَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، أَمَّا الْمَوَالِي فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهُمُ الْوَارِثُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي (19: 5) . هَذَا وَإِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَدْ سَبَقَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ

34

مُخْتَارٌ لَهُ لَا مُبْتَكَرٌ، وَقَدْ ذُهِلَ مَنْ قَالَ مِنْ نَاقِلِيهِ: إِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مُسْتِدِلًّا بِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْيَمِينِ ; فَإِنَّهُ لَا يُلْتَزَمُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوَافِقُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِعْمَالٍ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مَعْهُودًا فِي كَلَامِ النَّاسِ قَبْلَهُ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ نَفْيَ الِابْتِكَارِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْتِعْمَالٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَكَمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَبْكَارِ الْأَسَالِيبِ الْحِسَانِ، اللَّاتِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، وَمَا مِنْ بَلِيغٍ إِلَّا وَلَهُ مُخْتَرَعَاتٌ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يَسْلُكْ فِجَاجَهَا مِنْ قَبْلِهِ إِنْسَانٌ، وَلِمَاذَا يُسْتَبْعَدُ إِسْنَادُ عَقْدِ النِّكَاحِ إِلَى الْأَيْمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ، كَالْحَلِفِ وَالْبَيْعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي جَمِيعِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ؟ وَقَدْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَقَدَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ عَاقَدَتْ بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ، وَقُرِئَ فِي شَوَاذٍّ: عَقَّدَتْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا. لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ عَلَى كَسْبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الْوَارِثَ نَصِيبَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَيَانِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجِهَادِ كَانَ لِسَائِلٍ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ جَوَابُ سُؤَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الْمَعْرُوفِ الْمَعْهُودِ الْقِيَامَ عَلَى النِّسَاءِ بِالْحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ دُونَهُنَّ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِمَايَةَ لَهُنَّ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّهِنَّ ; لِأَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِنَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ،

وَأَعْطَاهُمْ مَا لَمْ يُعْطِهِنَّ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّفَاوُتُ فِي التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ أَثَرَ التَّفَاوُتِ فِي الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ كَسْبِيٌّ يُدَعِّمُ السَّبَبَ الْفِطْرِيَّ، وَهُوَ مَا أَنْفَقَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُهُورَ تَعْوِيضٌ لِلنِّسَاءِ وَمُكَافَأَةٌ عَلَى دُخُولِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ تَحْتَ رِيَاسَةِ الرِّجَالِ، فَالشَّرِيعَةُ كَرَّمَتِ الْمَرْأَةَ إِذْ فَرَضَتْ لَهَا مُكَافَأَةً عَنْ أَمْرٍ تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ، وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا قَيِّمًا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهَا بِالْعُقُودِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنَازَلَتْ بِاخْتِيَارِهَا عَنِ الْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ، وَسَمَحَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَرَضِيَتْ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228) ، فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ; لِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِعْطَاؤُهَا عِوَضًا وَمُكَافَأَةً فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَجَعَلَهَا بِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِتَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ مُثْلَجَةَ الصَّدْرِ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى قَبُولِ عَقْدٍ يَجْعَلُهَا مَرْءُوسَةً لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّا نَرَى النِّسَاءَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ يُعْطِينَ الرِّجَالَ الْمُهُورَ لِيَكُنَّ تَحْتَ رِيَاسَتِهِمْ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا بِدَافِعِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ عِصْيَانَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ تَسْمِيَةِ الْمُهُورِ أُجُورًا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ هُنَا شَامِلًا لِلْمَهْرِ، وَلِمَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الزَّوَاجِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمَرْءُوسُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُوسُ مَقْهُورًا مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا مَا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ رَئِيسُهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ قَيِّمًا عَلَى آخَرَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرْشَادِهِ وَالْمُرَاقَبَةِ عَلَيْهِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ أَيْ: مُلَاحَظَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَنْزِلِ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ وَلَوْ لِنَحْوِ زِيَارَةِ أُولِي الْقُرْبَى إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَأْذَنُ بِهَا الرَّجُلُ وَيَرْضَى، أَقُولُ: وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلرَّجُلِ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لِلْمَرْأَةِ تَقْدِيرًا إِجْمَالِيًّا يَوْمًا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا شَهْرًا أَوْ سَنَةً سَنَةً، وَهِيَ تُنَفِّذُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرَى أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيُنَاسِبُهُ حَالُهُ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: " بِمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ "، أَوْ قَالَ: " بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَيْهِنَّ " لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَظْهَرَ فِيمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ هِيَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (4: 32) ، وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَدَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَالرَّجُلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ، (أَقُولُ) : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْغِيَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَثْقِلَ فَضْلَهُ وَتَعُدَّهُ خَافِضًا لِقَدْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا عَارَ

عَلَى الشَّخْصِ أَنْ كَانَ رَأْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ يَدِهِ، وَقَلْبُهُ أَشْرَفَ مِنْ مَعِدَتِهِ مَثَلًا ; فَإِنَّ تَفَضُّلَ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ عَلَى بَعْضٍ بِجَعْلِ بَعْضِهَا رَئِيسًا دُونَ بَعْضٍ ـ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى عُضْوٍ مَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَتَثْبُتُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ مَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِلْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْحِمَايَةِ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهَا بِهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَهِيَ آمِنَةٌ فِي سِرْبِهَا، مَكْفِيَّةُ مَا يُهِمُّهَا مِنْ أَمْرِ رِزْقِهَا، وَفِي التَّعْبِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْجِنْسِ لَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ، فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَفْضُلُ زَوْجَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ فِي قُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ظُهُورِهِ مِنَ الْعِبَارَةِ وَتَصْدِيقِ الْوَاقِعِ لَهُ وَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ ضَعْفَهُ، وَبِهَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفَادَتْهُمَا الْعِبَارَةُ ظَهَرَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّ التَّعْبِيرَ يَشْمَلُ مَا يَفْضُلُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَمَا يَفْضُلُ بِهِ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادَ جِنْسِهِ وَأَفْرَادَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَلَا تَأْتِي تِلْكَ الصُّوَرُ كُلُّهَا هُنَا، وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَاكَ غَيْرُهُ هُنَا، عَلَى أَنَّنَا أَشَرْنَا ثَمَّةَ إِلَى ضَعْفِ صُورَةِ فَضْلِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِنَّ مِنَ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرِّجَالُ لَا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ، وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ. قَالَ: وَمَا بِهِ الْفَضْلُ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالْفِطْرِيُّ: هُوَ أَنَّ مِزَاجَ الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَجْمَلُ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ أَقُولَ: إِنَّ الرَّجُلَ أَجْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا الْجَمَالُ تَابِعٌ لِتَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا الْإِنْسَانُ فِي جِسْمِهِ الْحَيِّ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَنِظَامُ الْخِلْقَةِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّنَا نَرَى ذُكُورَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ وَأَجْمَلَ مِنْ إِنَاثِهَا، كَمَا تَرَوْنَ فِي الدِّيكِ وَالدَّجَاجَةِ، وَالْكَبْشِ وَالنَّعْجَةِ، وَالْأَسَدِ وَاللَّبُؤَةِ، وَمِنْ كَمَالِ خِلْقَةِ الرِّجَالِ وَجَمَالِهَا شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ الْأَجْرَدُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَجِدُ دَوَاءً يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اعْتَادُوا حَلْقَ اللِّحَى، وَيَتْبَعُ قُوَّةَ الْمِزَاجِ وَكَمَالَ الْخِلْقَةِ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ فِي مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْأَطِبَّاءِ: الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْكَمَالُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، فَالرِّجَالُ أَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ ; أَيْ: فَلِأَجْلِ هَذَا كَانُوا هُمُ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَحْمُوهُنَّ وَيَقُومُوا بِأَمْرِ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فِي مُجْتَمَعِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَضُمُّهَا الْمَنْزِلُ ; إِذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ رَئِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَوْحِيدِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، انْتَهَى بِزِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ. أَقُولُ: وَيَتْبَعُ هَذِهِ الرِّيَاسَةَ جَعْلُ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ يُبْرِمُونَهَا بِرِضَا النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَحُلُّونَهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَوَّلُ مَا يَذْكُرُهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ

فِي هَذَا التَّفْضِيلِ النُّبُوَّةُ وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَإِقَامَةُ الشَّعَائِرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْجُمْعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزَايَا تَابِعَةٌ لِكَمَالِ اسْتِعْدَادِ الرِّجَالِ، وَعَدَمِ الشَّاغِلِ لَهُمَا عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، عَلَى مَا فِي النُّبُوَّةِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ أَسْبَابَ قِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى شُئُونِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ اخْتِصَاصٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا أَنَّ كَلَّ رَجُلٍ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا رِجَالًا، وَأَمَّا الْإِمَامَةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا ذَكَرُوهُ ; فَإِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُمَيِّزُوا بِكُلِّ حُكْمٍ، وَلَوْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْطُبْنَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، وَيُؤَذِّنَّ وَيُقِمْنَ الصَّلَاةَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفُلُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَعْلِيلِ حِكْمَةِ أَحْكَامِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيَلْتَمِسُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهَا تَحْتَ رِيَاسَةِ الرَّجُلِ، ذُكِرَ أَنَّهُنَّ فِيهَا قِسْمَانِ: صَالِحَاتٌ وَغَيْرُ صَالِحَاتٍ، وَأَنَّ مِنْ صِفَةِ الصَّالِحَاتِ الْقُنُوتَ، وَهُوَ السُّكُونُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لِأَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَحِفْظِ الْغَيْبِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يَحْفَظْنَ فِي غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا وَقَرَأَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْآيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْبُ هُنَا هُوَ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ. أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ هَذَا وُجُوبُ كِتْمَانِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرَّفَثِ، فَمَا بَالُكَ بِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَقَائِقِ كِنَايَاتِ النَّزَاهَةِ، تَقْرَؤُهَا خَرَائِدُ الْعَذَارَى جَهْرًا، وَيَفْهَمْنَ مَا تُومِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سِرًّا، وَهُنَّ عَلَى بُعْدٍ مِنْ خَطَرَاتِ الْخَجَلِ أَنْ تَمَسَّ وِجْدَانَهُنَّ الرَّقِيقَ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهَا، فَلِقُلُوبِهِنَّ الْأَمَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَجَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى الْوَجَنَاتِ، نَاهِيكَ بِوَصْلِ حِفْظِ الْغَيْبِ. بِمَا حَفِظَ اللهُ فَالِانْتِقَالُ السَّرِيعُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْغَيْبِ الْخَفِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْجَلِيِّ، يَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ التَّمَادِي فِي التَّفَكُّرِ فِيمَا يَكُونُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ مِنْ تِلْكَ الْخَفَايَا وَالْأَسْرَارِ، وَتَشْغَلُهَا بِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: بِمَا حَفِظَ اللهُ بِمَا حَفِظَهُ لَهُنَّ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُنَّ تَحْفَظْنَ حَقَّ الرِّجَالِ فِي غَيْبَتِهِمْ جَزَاءَ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الْمَحْفُوظَيْنِ

لَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا ذَاهِبًا مَعِي إِلَى وَهَنِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُزَالِهِ، وَتَكْرِيمِ أُولَئِكَ الصَّالِحَاتِ بِشَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ حِفْظُهُنَّ لِذَلِكَ الْغَيْبِ مِنْ يَدٍ تَلْمَسُ، أَوْ عَيْنٍ تُبْصِرُ، أَوْ أُذُنٍ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، مُعَلَّلًا بِدَرَاهِمَ قُبِضْنَ، وَلُقَيْمَاتٍ يُرْتَقَبْنَ، وَلَعَلَّكَ بَعْدَ أَنْ تَمُجَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْبَلُ ذَوْقُكَ مَا قَبِلَهُ ذَوْقِي وَهُوَ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِمَا حَفِظَ اللهُ هِيَ صِنْوُ " بَاءِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ "، وَأَنَّ الْمَعْنَى حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِحِفْظِ اللهِ أَيْ: بِالْحِفْظِ الَّذِي يُؤْتِيهِنَّ اللهُ إِيَّاهُ بِصَلَاحِهِنَّ ; فَإِنَّ الصَّالِحَةَ يَكُونُ لَهَا مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ مَا يَجْعَلُهَا مَحْفُوظَةً مِنَ الْخِيَانَةِ، قَوِيَّةً عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ، أَوْ حَافِظَاتٌ لَهُ بِسَبَبِ أَمْرِ اللهِ بِحِفْظِهِ، فَهُنَّ يُطِعْنَهُ وَيَعْصِينَ الْهَوَى، فَعَسَى أَنْ يَصِلَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى نِسَاءِ عَصْرِنَا اللَّوَاتِي يَتَفَكَّهْنَ بِإِفْشَاءِ أَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَحْفَظْنَ الْغَيْبَ فِيهَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ سُلْطَانِ التَّأْدِيبِ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ النُّشُوزُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ حُقُوقِ الرَّجُلِ قَدْ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ وَحَاوَلَتْ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَئِيسِهَا، بَلْ تَرَفَّعَتْ أَيْضًا عَنْ طَبِيعَتِهَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ فِي التَّعَامُلِ، فَتَكُونُ كَالنَّاشِزِ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي خَرَجَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ خَوْفَ النُّشُوزِ بِتَوَقُّعِهِ فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لِمَ تَرَكَ لَفْظَ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ لَفْظَ الْخَوْفِ؟ أَوْ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَاللَّاتِي يَنْشُزْنَ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ حِكْمَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعِيشَةَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَرَاضٍ وَالْتِئَامٍ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُسْنِدَ النُّشُوزَ إِلَى النِّسَاءِ إِسْنَادًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُنَّ فِعْلًا، بَلْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُومِئُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ، وَتَطِيبُ بِهِ الْمَعِيشَةُ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَنْبِيهٌ لَطِيفٌ إِلَى مَكَانَةِ الْمَرْأَةِ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي شَأْنِهَا، وَإِلَى مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ السِّيَاسَةِ لَهَا وَحُسْنِ التَّلَطُّفِ فِي مُعَامَلَتِهَا، حَتَّى إِذَا آنَسَ مِنْهَا مَا يَخْشَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى التَّرَفُّعِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَبْدَأَ بِالْوَعْظِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا، وَالْوَعْظُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّخْوِيفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِقَابِهِ عَلَى النُّشُوزِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا، كَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ الرَّغَائِبِ كَالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَالْحُلِيِّ، وَالرَّجُلُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَعْظُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ أَمْرَأَتِهِ، وَأَمَّا الْهَجْرُ: فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ لِمَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهَا هَجْرُهُ إِيَّاهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَنْشُزُ لَا تُبَالِي بِهَجْرِ زَوْجِهَا بِمَعْنَى إِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى وَاهْجُرُوهُنَّ قَيِّدُوهُنَّ مِنْ هَجْرِ الْبَعِيرِ إِذَا شَدَّهُ بِالْهِجَارِ

وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُقَيَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِشَيْءٍ، وَمَا هُمْ بِالْوَاقِفِينَ عَلَى أَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَطِبَاعِهِنَّ ; فَإِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيُزَيِّنُ لَهَا الطَّيْشُ وَالرُّعُونَةُ النُّشُوزَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ امْتِحَانًا لِزَوْجِهَا لِيَظْهَرَ لَهَا أَوْ لِلنَّاسِ مِقْدَارُ شَغَفِهِ بِهَا وَحِرْصِهِ عَلَى رِضَاهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ لِتَحْمِلَ زَوْجَهَا عَلَى إِرْضَائِهَا بِمَا تَطْلُبُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُغْرِيهَا أَهْلُهَا بِالنُّشُوزِ لِمَآرِبَ لَهُمْ. وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الْهَجْرِ فِي الْمَضَاجِعِ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ، وَكَمْ تَخَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ; فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِأَيِّ عَامِّيٍّ: إِنَّ فُلَانًا يَهْجُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ أَوْ فِي مَحَلِّ الِاضْطِجَاعِ، أَوْ فِي الْمَرْقَدِ أَوْ مَحِلِّ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَأَوُا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِمَا يُرَادُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَأَخَلَّ بِمَا قَصَدَ فِي الْكِتَابَةِ مِنَ النَّزَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى اهْجُرُوا حُجَرَهُنَّ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَبِيتِهِنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ اهْجُرُوهُنَّ بِسَبَبِ الْمَضَاجِعِ أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِنَّ إِيَّاكُمْ فِيهَا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ؟ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ الْهَجْرَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْهِجَارِ: قَيِّدُوهُنَّ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا تَمَنَّعْنَ عَنْهُ، وَسَمَّى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ بِتَفْسِيرِ الثُّقَلَاءِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ وَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْعِبَارَةُ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى مَنْعِ مَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنًى لَهَا فَهُوَ يَقُولُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، وَلَا بِهَجْرِ الْحُجْرَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الِاضْطِجَاعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرٍ فِي الْفِرَاشِ نَفْسِهِ، وَتَعَمُّدُ هَجْرِ الْفِرَاشِ أَوِ الْحُجْرَةِ زِيَادَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْجَفْوَةِ، وَفِي الْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ، أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَضْجَعِ هُوَ الَّذِي يُهَيِّجُ شُعُورَ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَسْكُنُ نَفْسُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَيَزُولُ اضْطِرَابُهُمَا الَّذِي أَثَارَتْهُ الْحَوَادِثُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا هَجَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَأَعْرَضَ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُجِيَ أَنْ يَدْعُوَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ وَالسُّكُونُ النَّفْسِيُّ إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَيَهْبِطُ بِهَا مِنْ نَشَزِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى صَفْصَفِ الْمُوَافَقَةِ، وَكَأَنِّي بِالْقَارِئِ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَلَا الْأَحْيَاءِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ فَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالتَّبْرِيحُ الْإِيذَاءُ الشَّدِيدُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ تَفْسِيرُهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ: كَالضَّرْبِ بِالْيَدِ أَوْ بِقَصَبَةٍ صَغِيرَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ وَفِي امْرَأَتِهِ حَبِيبَةَ

بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا فَانْطَلَقَ أَبُوهَا مَعَهَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا "، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ارْجِعُوا، هَذَا جِبْرَائِيلُ أَتَانِي وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَتَلَاهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: أَرَدْنَا أَمْرًا، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى خَيْرٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَامْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ. يَسْتَكْبِرُ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْإِفْرِنْجِ فِي آدَابِهِمْ مِنَّا مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ النَّاشِزِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ تَنْشُزَ وَتَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ، فَتَجْعَلَهُ وَهُوَ رَئِيسُ الْبَيْتِ مَرْءُوسًا بَلْ مُحْتَقَرًا، وَتُصِرُّ عَلَى نُشُوزِهَا حَتَّى لَا تَلِينَ لِوَعْظِهِ وَنُصْحِهِ، وَلَا تُبَالِيَ بِإِعْرَاضِهِ وَهَجْرِهِ، وَلَا أَدْرِي بِمَ يُعَالِجُونَ هَؤُلَاءِ النَّوَاشِزَ؟ وَبِمَ يُشِيرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ يُعَامِلُوهُنَّ بِهِ؟ لَعَلَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً نَحِيفَةً، مُهَذَّبَةً أَدِيبَةً، يَبْغِي عَلَيْهَا رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَيُطْعِمُ سَوْطَهُ مِنْ لَحْمِهَا الْغَرِيضِ، وَيَسْقِيهِ مِنْ دَمِهَا الْعَبِيطِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنْ تَجَرَّمَ وَتَجَنَّى عَلَيْهَا وَلَا ذَنْبَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ غِلَاظِ الْأَكْبَادِ مُتَحَجِّرِي الطِّبَاعِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ بِمِثْلِ هَذَا الظُّلْمِ أَوْ يَرْضَى بِهِ، إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ الَّذِي يَظْلِمُ الْمَرْأَةَ بِمَحْضِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصِيَّةِ أَمْثَالِهِمْ بِالنِّسَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَأْتِي فِي حَقِّهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الْفَوَارِكَ الْمَنَاشِيصَ الْمُفَسِّلَاتِ اللَّوَاتِي يَمْقُتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيَكْفُرْنَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَيَنْشُزْنَ عَلَيْهِمْ صَلَفًا وَعِنَادًا، وَيُكَلِّفْنَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ التَّقِيِّ الْفَاضِلِ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ صَلَفِ إِحْدَاهِنَّ، وَيُدَهْوِرَهَا مِنْ نَشَزِ غُرُورِهَا بِسِوَاكٍ يَضْرِبُ بِهِ يَدَهَا، أَوْ كَفٍّ يَهْوِي بِهَا عَلَى رَقَبَتِهَا؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمُ الْعَالِمَاتِ الْمُهَذَّبَاتِ وَالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ الْمُمِيلَاتِ، فَعَلَ هَذَا حُكَمَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَهُوَ ضَرُورَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْغَالُونَ فِي تَكْرِيمِ أُولَئِكَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّمَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَنْكِرُ إِبَاحَتَهُ لِلضَّرُورَةِ فِي دِينٍ عَامٍّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ؟ ! .

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.

هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَدْ خَصُّوا النُّشُوزَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي يُبِيحُ الضَّرْبَ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِإِزَالَتِهِ بِخِصَالٍ قَلِيلَةٍ، كَعِصْيَانِ الرَّجُلِ فِي الْفِرَاشِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهَا الزِّينَةَ وَهُوَ يَطْلُبُهَا نُشُوزًا، وَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَيْضًا عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّشُوزَ أَعَمُّ فَيَشْمَلُ كُلَّ عِصْيَانٍ سَبَبُهُ التَّرَفُّعُ وَالْإِبَاءُ، وَيُفِيدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَإِنْ أَطْعَنْكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ: إِنْ أَطْعَنْكُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ التَّأْدِيبِيَّةِ فَلَا تَبْغُوا بِتَجَاوُزِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ مِنَ الْوَعْظِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَهْجُرْ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَضْرِبْ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا أَيْضًا يَلْجَأُ إِلَى التَّحْكِيمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَانِتَاتِ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى فِي الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، فَضْلًا عَنِ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ. وَأَقُولُ: صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّأْدِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاو لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ وَالْقَرِينَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذْ لَوْ عُكِسَ كَانَ اسْتِغْنَاءً بِالْأَشَدِّ عَنِ الْأَضْعَفِ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْتِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَى أَجْزِئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، مُرَتَّبَةٍ عَلَى أَمْرٍ مُدْرَجٍ، فَإِنَّمَا النَّصُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَمَعْنَى: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، لَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إِلَى إِيذَائِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، فَالْبَغْيُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوهُنَّ بِطَرِيقٍ مَا، فَمَتَى اسْتَقَامَ لَكُمُ الظَّاهِرُ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْ مَطَاوِي السَّرَائِرِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فَإِنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْكُمْ فَوْقَ سُلْطَانِكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَإِذَا بَغَيْتُمْ عَلَيْهِنَّ عَاقَبَكُمْ، وَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ عَنْ هَفَوَاتِهِنَّ كَرَمًا وَشَمَمًا تَجَاوَزَ عَنْكُمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَتَى بِهَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَبْغِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَقْدَرَ، فَذَكَّرَهُ تَعَالَى بِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لِيَتَّعِظَ وَيَخْشَعَ وَيَتَّقِيَ اللهَ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بِظُلْمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونُوا سَادَةً فِي بُيُوتِهِمْ إِنَّمَا يَلِدُونَ عَبِيدًا لِغَيْرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى ذُلِّ الظُّلْمِ فَيَكُونُونَ كَالْعَبِيدِ الْأَذِلَّاءِ لِمَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعِيشَةِ مَعَهُمْ. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، الْخِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِنُشُوزِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَالنُّشُوزُ يُعَالِجُهُ الرَّجُلُ بِأَقْرَبِ التَّأْدِيبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا مَرَّ سَرْدُهُ، وَحَلَا وِرْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا تَمَادَى هُوَ فِي ظُلْمِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِنْزَالِهَا عَنْ نُشُوزِهَا، وَخِيفَ أَنْ يَحُولَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِقَامَتِهِمَا لِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى فِي الزَّوْجِيَّةِ، بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ: السُّكُونُ، وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَكَافِلِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِهَا،

وَيَجِبُ عَلَى هَذَيْنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوَجِّهَا إِرَادَتَهُمَا إِلَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَتَى صَدَقَتِ الْإِرَادَةُ كَانَ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ رَفِيقَهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ الْخُضُوعُ لِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَالْعَمَلُ بِهِ. فَخَوْفُ الشِّقَاقِ تَوَقُّعُهُ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، وَالشِّقَاقُ هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ، وَالْحَكَمُ (بِالتَّحْرِيكِ) : مَنْ لَهُ حَقُّ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ( فِيكَ الْخَصْمُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ ) وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُسِنِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ لِرَوِيَّتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمَا إِرْسَالُهُمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِيَنْظُرَا فِي شَكْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَتَعَرَّفَا مَا يُرْجَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَرْضُوهُمَا بِالتَّحْكِيمِ، وَإِعْطَائِهِمَا حَقَّ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ " وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهَلْهِ، وَرَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيَّ بِهِ، وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةَ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلَيْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْحَكَمَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَالنَّصُّ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، لِيَجْتَهِدَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهَلْ هُمَا قَاضِيَانِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، أَمْ وَكِيلَانِ لَيْسَ لَهُمَا إِلَّا مَا وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَاكِمُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ يُمَثِّلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْحُكَّامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَأَقَارِبُهُمَا، فَإِنْ قَامَ بِهِ الزَّوْجَانِ أَوْ ذَوُو الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا بِذَلِكَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجِيهٌ، فَالْأَوَّلُ يُكَلِّفُ الْحُكَّامَ مُلَاحَظَةَ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ وَالِاجْتِهَادَ فِي إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي يُكَلِّفُ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَاحِظَ بَعْضُهُمْ

35

شِئُونَ بَعْضٍ، وَيُعِينَهُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَظِيفَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَا يَحْكُمَانِ إِلَّا بِمَا وُكِّلَا بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ (وَذَكَرَ مَذْهَبَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاخْتِصَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا آنِفًا) ، وَقَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَلَّا يَدَّخِرَا وُسْعًا فِي الْإِصْلَاحِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُمَا فَالتَّوْفِيقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِحْكَامِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى لَا يُذَكِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، وَلِيُشْعِرَ النُّفُوسَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا التَّحْكِيمَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَاشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ فِيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنَايَتَنَا بِالدِّينِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَتَعَصُّبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهَا هُمْ أُولَاءِ قَدْ أَهْمَلُوا هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَلِيلَةَ لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَالْبُيُوتُ يَدِبُّ فِيهَا الْفَسَادُ، فَيَفْتِكُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَيَسْرِي مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ. إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ

36

فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَجَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الذِّكْرَى مِنَ الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ إِصْلَاحَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا وَلَا يَنْسَاهَا جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ، تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ قَوْلُهُ لِلَّتِي صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّ زَوْجًا: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ أَحَدَنَا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا بُنِيَ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَعِيشُ (أَوْ قَالَ يَتَعَاشَرُ) النَّاسُ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: إِنَّ حَسَبَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا يُحْفَظُ بِحُسْنِ عِشْرَتِهِ لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَعَاشَرَا بِالْمَعْرُوفِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (4: 19) . قَدِ اهْتَدَى الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبْحَرَ عِلْمُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عِنْدَهُمْ، فَرَبَّوْا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَعِيشَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْعَدَا بِهَا فَلْيَعِيشَا بِالْحَسَبِ، وَهُوَ تَكْرِيمُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَمُرَاعَاتُهُ لِشَرَفِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عُرْفُ أُمَّتِهِمْ، ثُمَّ يَعْذُرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ فَلَا يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَعَادَةَ الْمَحَبَّةِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَالِصَةِ قَلَّمَا تَمَتَّعَ بِهَا زَوْجَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا الْمَوَدَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ بِإِبَاحَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالتَّبَرُّجِ قَدْ أَفْرَطُوا فِي إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، حَتَّى صَارَ الْأَزْوَاجُ يَتَسَامَحُونَ فِي السِّفَاحِ، أَوِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، وَهَذَانِ يَعْصِمُ مَجْمُوعَ أُمَّتِنَا مِنْهُ الْإِسْلَامُ. وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا.

قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مَا نَصُّهُ: وَلَمَّا كَثُرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوَصَايَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا نَتِيجَةَ التَّقْوَى (كَذَا) الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وَالتَّرْغِيبُ فِي نُوَالِهِ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ نَكَالِهِ، إِلَى أَنْ خَتَمَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالْحُسْنَى، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِمَا هُوَ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ حُسْنِ الْخِتَامِ مِنْ صِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى مَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ الْآمِرَةَ بِالتَّقْوَى مِنَ الْوَصْفِ بِالرَّقِيبِ، اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْرِيرَ التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى الَّتِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتْمًا فَاتَّقُوهُ، عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نَحْوِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ (4: 32) ، أَوْ عَلَى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ (4: 1) ، الْخَلْقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَلْقِ الْمَبْثُوثِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ، وَأَتْبَعَهَا الْإِحْسَانَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلَائِقِ، فَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَخْ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ أَبْعَدُ فِي الْعَطْفِ، وَأَحْسَنُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْوَصْفِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ خَاصًّا بِنِظَامِ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ، وَحَالِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْأُمَّةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْخُصُوصِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا عَلَى بَعْضِ الْحُقُوقِ الْعُمُومِيَّةِ، وَهِيَ الْعِنَايَةُ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِنَايَةَ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَبَدَأَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَعِبَادَتُهُ مِلَاكُ حِفْظِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَهِيَ الْخُضُوعُ لَهُ تَعَالَى، وَتَمْكِينُ هَيْبَتِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعُ لِسُلْطَانِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُقِيمُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَغَيْرَهَا حَتَّى تَصْلُحَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَنَا تَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ عِبَادَاتٍ، كَالزَّارِعِ لِيُقِيمَ أَمْرَ بَيْتِهِ وَيَعُولَ مَنْ يُمَوِّنُهُ، وَيُفِيضَ مِنْ فَضْلِ كَسْبِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيُسَاعِدَ عَلَى الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، فَعَمَلُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَجْعَلُ حَرْثَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَاعْبُدُوا اللهَ خَاصَّةً بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ " الْجَلَالُ "، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ كَمَا قُلْنَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَجَمِيعَ مَا يَمُدُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ (قَالَ) : اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّعْطِيلِ بِالْأَوْلَى، أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْخُضُوعُ لِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُرْجَى صَاحِبُهَا وَيُخْشَى مِنْهُ مَا تَعْجِزُ الْمَخْلُوقَاتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ السُّلْطَةُ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَلَا يُخْشَى سِوَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ عَادَةً ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَانَ مُؤْمِنًا مُشْرِكًا وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (12: 106) ، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ إِنْكَارُ الْأُلُوهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، أَيْ إِنْكَارُ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَإِذَا نَهَى تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ

مِنَ الْهِبَاتِ الَّتِي مَنَحَهَا خَلْقَهُ وَعُرِفَتْ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَجَحْدِ أُلُوهِيَّتِهِ يَكُونُ أَوْلَى. قَالَ: وَالْإِشْرَاكُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ ضُرُوبِهِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، يُقَرِّبُونَ الْمُتَوَسِّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (10: 18) ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (39: 3) . وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، فَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَقَالَ اللهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (9: 31) ، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ: أَنَّهُ كَانُوا يَضَعُونَ لَهُمْ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا، وَسَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، (قَالَ) : فَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ وَضُرُوبٌ، أَدْنَاهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ، وَأَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا مَا سَمَّاهُ اللهُ دُعَاءً وَاسْتِشْفَاعًا، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِهِمْ إِلَى اللهِ وَتَوْسِيطُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهَذَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَأَقْوَى مَظَاهِرِهِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا مَعْنَاهُ أَتَمَّ التَّجَلِّي، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا عِبَادَةٌ أُخْرَى. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ قَدْ فَشَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَنِ الْمُعْتَقِدِينَ الْغَالِينَ فِي الْبَدَوِيِّ " شَيْخِ الْعَرَبِ " وَ " الدُّسُوقِيِّ " وَغَيْرِهِمَا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ الِاعْتِذَارَ لَهُمْ لَزَحْزَحَتِهُمْ عَنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ إِلَى شِرْكٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَلَاءً وَوُضُوحًا، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَمِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِالْمَدْحِ عَلَيْهِ (مَثَلًا) . أَقُولُ: ثُمَّ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا لَا تُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ لَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِذَا تَعَدَّى الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْعَطْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ أَبْلَغُ لِإِشْعَارِهَا بِإِلْصَاقِ الْإِحْسَانِ بِمَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ

بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ، وَالتَّعْدِيَةُ بِـ " إِلَى " تُشْعِرُ بِطَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَصِلُ الْإِحْسَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ. وَالْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّ الْعَامِّيَّ الْجَاهِلَ لَيَدْرِي كَيْفَ يُحْسِنُ إِلَى وَالِدَيْهِ وَيُرْضِيهِمَا مَا لَا يَدْرِي الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ جِمَاعَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَأَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَلْقَاهُمَا إِلَّا عَابِسًا مُقَطِّبًا، أَوْ أَدَّى النَّفَقَةَ الَّتِي يَحْتَاجَانِ إِلَيْهَا، وَهُوَ يُظْهِرُ الْفَاقَةَ وَالْقِلَّةَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُحْسِنًا بِهِمَا، فَالتَّعْلِيمُ الْحَرْفِيُّ لَا يُحَدِّدُ الْإِحْسَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْعُمْدَةُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمَرْءِ وَإِخْلَاصُ قَلْبِهِ فِي تَحَرِّي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَحَسَبِ فَهْمِهِ، لِأَكْمَلِ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ التَّفْصِيلِيِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (17: 23 - 25) ، فَأَنْتَ تَرَى الرَّبَّ الْعَلِيمَ الْحَكِيمَ الرَّحِيمَ قَدْ قَفَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْبَلِيغَةَ الدَّقِيقَةَ بِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْوَلَدِ مِنْ قَصْدِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ مَعَ هَذَا مَرْجُوُّ الْغُفْرَانِ، وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْغَزَالِيِّ فِي " الْإِحْيَاءِ "، وَابْنِ حَجَرٍ فِي " الزَّوَاجِرِ ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، أَيْ: لِيُحْسِنْ كُلٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ بِمَا بَذَلَا مِنَ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي تَرْبِيَتِهِ بِكُلِّ رَحْمَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ كُتُبُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ حُقُوقِ النَّفَقَةِ، وَبَيَّنَتْ كُتُبُ الدِّينِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، وَالْمُرَادُ بِكُتُبِ الدِّينِ كُتُبُ آدَابِهِ " كَالْإِحْيَاءِ " لِلْغَزَالِيِّ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْحُقُوقَ كُلَّهَا آيَتَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ـ وَذَكَرَهُمَا وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمَا قَلِيلًا. وَأَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً، قَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا بَيَّنَهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْوَالِدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِرْضَاؤُهُمَا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْلَادُهُمَا مِنَ الْإِحْسَانِ، بَلْ يُكَلِّفُونَ الْأَوْلَادَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَمَا أَعْجَبَ حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْإِنْسَانِ، قَلَّمَا تَجْدُ ذَا سُلْطَةٍ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ فِي سُلْطَتِهِ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ آتَاهُمُ الْفَاطِرُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ مَا لَمْ يُؤْتِ سِوَاهُمَا، قَدْ تَظْلِمُ الْأُمُّ وَلَدَهَا قَلِيلًا مَغْلُوبَةً لِبَادِرَةِ الْغَضَبِ، أَوْ طَاعَةً لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَوَى، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ رَجُلًا تُحِبُّهُ وَهُوَ يَكْرَهُ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَأَنْ يَقَعَ التَّغَايُرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ وَلَدِهَا، وَتَرَاهُ شَدِيدَ الْحُبِّ لِامْرَأَتِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُغْضِبَهَا لِأَجْلِ مَرْضَاتِهَا هِيَ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ

قَلَّمَا تَرْضَى الْأُمُّ بِالْعَدْلِ وَتَعْذُرُ وَلَدَهَا فِي خُضُوعِهِ لِسُلْطَانِ الْحُبِّ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، بَلْ تَأْخُذُهَا عِزَّةُ الْوَالِدِيَّةِ، حَتَّى تَسْتَلَّ مِنْ صَدْرِهَا حَنَانَ الْأُمُومَةِ، وَيَطْغَى فِي نَفْسِهَا سُلْطَانُ اسْتِعْلَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا، وَلَا يُرْضِيهَا إِلَّا أَنْ يَهْبِطَ مِنْ جَنَّةِ سَعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَجْلِهَا، وَرُبَّمَا تَلْتَمِسُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ زَوْجًا أُخْرَى يَنْفِرُ مِنْهَا طَبْعُهُ، وَمَا حِيلَتُهُ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ قَلْبُهُ، كَمَا أَنَّهَا تَظْلِمُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِيَارِ، وَظُلْمُ الْآبَاءِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَا وَيْحَ الْوَلَدِ الَّذِي يُصَابُ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بَلِيدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِقْنَاعُهُمَا. وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ مَنْ يُحِبُّونَ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا "، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا، وَعَدَمِ اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا بَصِمَاتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ فِي الْعَذْرَاءِ الْمُخَدَّرَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا، وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا، وَعَاقِلًا حَكِيمًا؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا، وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِسُلْطَتَيْنِ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا تَعْلَمُ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ، فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَضَرُّ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ. وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ: مَنْعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَمْثِلَةُ

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَوَّلُ مَا خَطَرَ فِي بَالِي مِنْهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ اثْنَانِ: شَابٌّ عَاشِقٌ لِلْعِلْمِ كَانَ أَبُوهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ لِيَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا لِتَوَجُّهِ اسْتِعْدَادِهِ إِلَى الْعِلْمِ، فَفَرَّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، يَرْكَبُ الْأَهْوَالَ، وَيُصَارِعُ أَنْوَاءَ الْبِحَارِ، وَيُعْجِمُ عُودَ الذُّلِّ وَالضُّرِّ، وَيَذُوقُ طُعُومَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، وَرَجُلٌ دُعِيَ إِلَى دَارٍ خَيْرٍ مِنْ دَارِهِ، وَقَرَارٍ أَشْرَفَ مِنْ قَرَارِهِ، وَرِزْقٍ أَوْسَعَ مِنْ رِزْقِهِ، فِي عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَلٍ فِي الْكَمَالِ أَعْلَى مِنْ سَابِقِ أَمَلِهِ، وَرَجَاءٍ فِي ثَوَابِ اللهِ أَعْظَمَ مِنْ رَجَائِهِ، فَاسْتَشْرَفَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَكِنَّ وَالِدَتَهُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ وَيَقْبَلَ النِّعْمَةَ، لَا حُبًّا فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَارِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَلَكِنْ حُبًّا فِي نَفْسِهَا، وَإِيثَارًا لِلَذَّتِهَا وَأُنْسِهَا، نَعَمْ إِنَّ الْعَجُوزَ أَلِفَتْ بَيْتَهَا وَمَنْ تُعَاشِرُ فِي بَلَدِهَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، فَآثَرَتْ لَذَّةَ الْبِيئَةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهَا، عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعُلْيَا لِوَلَدِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوِ اخْتَارَ الظَّعْنَ لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَوَافَقَهَا الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الْمُسَلَّمَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَأَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ: أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي ... يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا لَا فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا، وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا مَعَهُ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (96: 6، 7) ، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ: وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ

وَأَعُدُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الشِّعْرِيَّةِ حَتَّى كِدْتُ بَعْدَ إِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْأَوْلَادِ وَتَدَبُّرِ مَا أَحْفَظُ مِنَ الْوَقَائِعِ فِي ذَلِكَ، أُجْزِمُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا صَحِيحٌ مُطَّرِدٌ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ قَدِ انْغَمَسَ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ، وَأَفَاضَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَنْ يَعِيشُ فِي الْبُؤْسِ وَالضَّنْكِ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَالِدِهِ لَمَاجٌ وَلَا مُجَاجٌ مِنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَعَبْدِ الرِّقِّ. إِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ غَافِلُونَ عَنْهُ، فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الْوَالِدَيَنِ حُجَّةٌ، عَلَى أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَالِمًا وَهُمَا جَاهِلَيْنِ بِمَصَالِحِهِ، وَبِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَهَذَا الْجَهْلُ الشَّائِعُ مِمَّا يَزِيدُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ إِغْرَاءً بِالِاسْتِبْدَادِ فِي سِيَاسَتِهِمْ لِلْأَوْلَادِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَقَامَ الْوَالِدِيَّةِ يَقْتَضِي بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْوَلَدِ وَعَقْلُهُ وَفَهْمُهُ دُونَ رَأْيِ وَالِدَيْهِ وَعَقْلِهِمَا وَفَهْمِهِمَا، كَمَا يَحْسَبُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمُسْتَبِدُّونَ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ رَعَايَاهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا وَرَأْيًا، أَوْ يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ رَأْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَفِينًا عَلَى رَأْيِ أَوْلَادِهِمْ وَرَعَايَاهُمْ وَإِنْ كَانَ حَكِيمًا. إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاشِي فِي أُمَّتِنَا فَإِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ تَسْتَعْبِدُ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعُوبِنَا خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ سُلْطَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ هَذَا الْجَهْلُ. يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِي دِينِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ نَكُونَ فِي غَايَةِ الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ حَتَّى يَكُونَا مَغْبُوطَيْنِ بِنَا، وَأَنْ نَكْفِيَهُمَا أَمْرَ مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِنَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ سَلْبِ حُرِّيَّتِنَا وَاسْتِقْلَالِنَا فِي شُئُونِنَا الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ، وَلَا فِي أَعْمَالِنَا لِأَنْفُسِنَا وَلِمِلَّتِنَا وَلِدَوْلَتِنَا، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الِاسْتِبْدَادَ فِي تَصَرُّفِنَا فَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ وَلَا مِنَ الْإِحْسَانِ شَرْعًا أَنْ نَتْرُكَ مَا نَرَى فِيهِ الْخَيْرَ الْعَامَّ أَوِ الْخَاصَّ، أَوْ نَعْمَلَ مَا نَرَى فِيهِ الضُّرَّ الْعَامَّ أَوِ الْخَاصَّ، عَمَلًا بِرَأْيِهِمَا وَاتِّبَاعًا لِهَوَاهُمَا، مَنْ سَافَرَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، أَوْ خِدْمَةِ دِينِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ، أَوْ سَافَرَ لِأَجْلِ عَمَلٍ نَافِعٍ لَهُ أَوْ لِأُمَّتِهِ، وَوَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرُ رَاضٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَاقًّا وَلَا مُسِيئًا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهُ الْوَالِدُونَ وَالْأَوْلَادُ: الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ لَا يَقْتَضِيَانِ سَلْبَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ أُمَّهَاتُ سَلَفِنَا الْأَمَاجِدِ كَأُمَّهَاتِنَا أَكَانُوا فَتَحُوا الْمَمَالِكَ، وَفَعَلُوا هَاتِيكَ الْعَظَائِمَ؟ كَلَّا، بَلْ كَانَتِ الْأَسِيفَةُ الرَّقِيقَةُ الْقَلْبِ مِنْهُنَّ كَتَمَاضُرَ الْخَنْسَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَدْفَعُ بَنِيهَا الْأَرْبَعَةَ إِلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ بِعِبَارَاتٍ تُشَجِّعُ الْجَبَانَ، بَلْ تُحَرِّكُ الْجَمَادَ، فَقَدَ

رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهَا شَهِدَتْ حَرْبَ الْقَادِسِيَّةِ، وَمَعَهَا أَرْبَعَةُ بَنِينَ لَهَا فَقَالَتْ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ: يَا بُنِيَّ إِنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ، وَهَاجَرْتُمْ مُخْتَارِينَ، وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَبَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّكُمْ بَنُو امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، مَا خُنْتُ أَبَاكُمْ، وَلَا فَضَحْتُ خَالَكُمْ، وَلَا هَجَّنْتُ حَسَبَكُمْ، وَلَا غَيَّرْتُ نَسَبَكُمْ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي حَرْبِ الْكَافِرِينَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدَّارَ الْبَاقِيَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (3: 200) ، فَإِذَا أَصْبَحْتُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ سَالِمِينَ، فَاغْدُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ مُسْتَبْصِرِينَ، وَبِاللهِ عَلَى أَعْدَائِهِ مُسْتَنْصِرِينَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرْبَ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا، وَاضْطَرَمَتْ لَظًى عَلَى سِبَاقِهَا، وَجَلَّلَتْ نَارًا عَلَى أَرْوَاقِهَا، فَيَمِّمُوا وَطِيسَهَا، وَجَالِدُوا رَئِيسَهَا عِنْدَ احْتِدَامِ خَمِيسِهَا، تَظْفَرُوا بِالْغُنْمِ، وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْمُقَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِي الْغَدِ كَانَ يَهْجُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَقُولُ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ وَصِيَّةَ الْعَجُوزِ وَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا خَبَرُ قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ، وَأَرْجُو رَبِّي أَنْ يَجْمَعَنِي بِهِمْ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَرْوِيَ لَكَ مِثْلَ خَبَرِهَا عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهَا لَفَعَلْتُ، أَفَتَرَى هَذِهِ الْأُمَّةَ تَعْتَبِرُ الْيَوْمَ بِسِيرَةِ سَلَفِهَا، وَهِيَ لَمْ تَعْتَبِرْ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَأَمَامَ عَيْنَيْهَا، وَمَا يُتْلَى كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ، وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَصْبَحَتْ مِنْهَا فِي مَوْقِعِ النَّجْمِ، تُشْرِفُ عَلَيْهَا مِنْ سَمَاءِ الْعَظَمَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاسْتِقْلَالُ الشَّخْصِيُّ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ ; فَإِنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مُتَّفِقُونَ فِيهَا عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِدَارَةِ فِي الْعَمَلِ، فَقُرَّةُ أَعْيُنِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ أَوْلَادُهُمْ بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْخَيْرُ لَهُمْ وَلِقَوْمِهِمْ. وَإِنَّمَا قُرَّةُ أَعْيُنِ أَكْثَرِ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَنْ نُدْرِكَ بِعُقُولِهِمْ لَا بِعُقُولِنَا، وَنُحِبَّ وَنُبْغِضَ بِقُلُوبِهِمْ لَا بِقُلُوبِنَا، وَنَعْمَلَ أَعْمَالَنَا بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَتِنَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ لَنَا وُجُودٌ مُسْتَقِلٌّ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِنَا، فَهَلْ تُخْرِجُ هَذِهِ التَّرْبِيَةُ الِاسْتِبْدَادِيَّةُ الْجَائِرَةُ أُمَّةً عَزِيزَةً عَادِلَةً، مُسْتَقِلَّةً فِي أَعْمَالِهَا، وَفِي سِيَاسَتِهَا وَأَحْكَامِهَا؟ أَمِ الْبُيُوتُ هِيَ الَّتِي تُغْرَسُ فِيهَا شَجَرَةُ الِاسْتِبْدَادِ الْخَبِيثَةُ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ، فَيَجْنُونَ ثَمَرَاتِهَا الدَّانِيَةَ نَاعِمِينَ آمِنِينَ؟ فَعَلَيْكُمْ يَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَالْأَدَبِ أَنْ تُبَيِّنُوا لِأُمَّتِكُمْ فِي الْمَدَارِسِ وَالْمَجَالِسِ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَحُقُوقَ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَحُقُوقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا تَنْسَوْا قَاعِدَتَيِ الْحَرِيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَهُمَا الْأَسَاسُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ بِنَاءُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الشُّعُوبِ الشَّمَالِيَّةِ الَّتِي سَادَتْ فِي

هَذَا الْعَصْرِ عَلَيْنَا، يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ أَخَذُوا هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ ـ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ ـ عَنَّا وَأَقَامُوا بِنَاءَ مَدَنِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمَا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ مِنَّا: " لَاعِبْ وَلَدَكَ سَبْعًا وَأَدِّبْهِ سَبْعًا، وَصَاحِبْهُ سَبْعًا، ثُمَّ اجْعَلْ حَبْلَهُ عَلَى غَارِبِهِ " وَسَنَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: وَبِذِي الْقُرْبَى أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِمُعَامَلَةِ ذِي الْقُرْبَى وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمَا فِي الْحُقُوقِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى (2: 83) ، إِلَخْ، فَأُعِيدَ الْجَارُّ هُنَا وَلَمْ يُعَدْ هُنَاكَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذِي الْقُرْبَى مُؤَكَّدَةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ زِيَادَةً عَنْ تَأْكِيدِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ إِعَادَةَ الْجَارِّ لِلتَّأْكِيدِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِعَادَةُ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ غَيْرُ الْإِحْسَانِ بِالْأَقْرَبِينَ، إِذْ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَالْخُضُوعِ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِهِمَا، وَمَتَى ارْتَقَتِ الشَّرَائِعُ بِارْتِقَاءِ الْأُمَّةِ حَسُنَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا التَّحْدِيدِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الْحُدُودِ وَالْوَاجِبَاتِ لِاسْتِعْدَادِ الْأُمَّةِ لَهَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى فَصَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَصَلَحَتْ أَعْمَالُهُ، وَقَامَ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ فَصَلَحَ حَالُهُمَا وَحَالُهُ، تَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ وَحْدَةُ الْبُيُوتِ الصَّغِيرَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ، وَبِصَلَاحِ هَذَا الْبَيْتِ الصَّغِيرِ يَحْدُثُ لَهُ قُوَّةٌ، فَإِذَا عَاوَنَ أَهْلُهُ الْبُيُوتَ الْأُخْرَى الَّتِي إِلَى هَذَا الْبَيْتِ بِالْقَرَابَةِ وَعَاوَنَتْهُ هِيَ أَيْضًا يَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْبُيُوتِ الْمُتَعَاوِنَةِ قُوَّةٌ كُبْرَى يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْسِنَ بِهَا إِلَى الْمُحْتَاجِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ تَكْفِيهِمْ مُؤْنَةَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بِهِمُ النَّسَبُ، وَهُمُ الَّذِينَ عَطَفَهُمْ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى بِقَوْلِهِ: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُوصِي بِالْيَتَامَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ يُهْمَلُ أَمْرُهُ بِفَقْدِهِ النَّاصِرَ الْقَوِيَّ الْغَيُورَ وَهُوَ الْأَبُ، أَوْ تَكُونُ تَرْبِيَتُهُ نَاقِصَةً بِالْجَهْلِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْعَقْلِ، أَوْ فَسَادُ الْأَخْلَاقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ بِجَهْلِهِ وَفَسَادِ أَخْلَاقِهِ يَكُونُ شَرًّا عَلَى أَوْلَادِ النَّاسِ يُعَاشِرُهُمْ فَيَسْرِي إِلَيْهِمْ فَسَادُهُ، وَقَلَّمَا تَسْتَطِيعُ الْأُمُّ أَنْ تُرَبِّيَ الْوَلَدَ تَرْبِيَةً كَامِلَةً مَهْمَا اتَّسَعَتْ مَعَارِفُهَا، وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِينُ لَا تَنْتَظِمُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ بِهِمْ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ، فَإِنْ أَهْمَلَ أَمْرَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ كَانُوا بَلَاءً وَوَيْلًا عَلَى النَّاسِ، وَقَلَّمَا يَنْظُرُ النَّاسُ فِي الْمَسْكَنَةِ إِلَى غَيْرِ الْعُدْمِ وَصُفْرِ الْكَفِّ، وَالْمُهِمُّ مَعْرِفَةُ سَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سَبَبَ عُدْمِهِ وَعَوَزِهِ ضَعْفُهُ وَعَجْزُهُ عَنِ الْكَسْبِ، أَوْ نُزُولُ الْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ تَذْهَبُ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمِسْكِينُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَجِبُ مُوَاسَاتُهُ بِالْمَالِ الَّذِي يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَمِنْهُمُ الْعَادِمُ: الَّذِي مَا عَدِمَ الْمَالَ إِلَّا بِالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْمَخِيلَةِ وَالْفَخْفَخَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنْهُمُ الْعَادِمُ: الَّذِي مَا عَدِمَ الْمَالَ إِلَّا لِكَسَلِهِ وَإِهْمَالِهِ لِلْكَسْبِ طَمَعًا فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَاتِّكَالًا عَلَيْهِمْ،

أَوْ بِسُلُوكِهِ فِيهِمْ مَسْلَكَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ حَتَّى يُفْضَحَ سِرُّهُ وَيَظْهَرَ أَمْرُهُ، فَيَحْبَطَ عَمَلُهُ، فَالْمَسَاكِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِسْكِينٌ مَعْذُورٌ يُسَاعَدُ بِالْمَالِ يُنْفِقُهُ، أَوْ يُسَاعَدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَمِسْكِينٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ يُرْشَدُ إِلَى تَقْصِيرِهِ، وَلَا يُسَاعَدُ عَلَى إِسْرَافِهِ وَتَبْذِيرِهِ، بَلْ يُدَلُّ عَلَى طُرُقِ الْكَسْبِ، فَإِنِ اتَّعَظَ وَقَبِلَ النُّصْحَ، وَإِلَّا تُرِكَ أَمْرُهُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ وَاخْتِصَارٍ. ثُمَّ قَالَ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الْجِوَارُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْقَرَابَةِ فَهِيَ قُرْبٌ بِالنَّسَبِ، وَهُوَ قُرْبٌ بِالْمَكَانِ وَالسَّكَنِ، وَقَدْ يَأْنَسُ الْإِنْسَانُ بِجَارِهِ الْقَرِيبِ، مَا لَا يَأْنَسُ بِنَسِيبِهِ الْبَعِيدِ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ مَا لَا يَحْتَاجُ الْأَنْسِبَاءُ الَّذِينَ تَنَاءَتْ دِيَارُهُمْ، فَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خَيْرٌ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ هُوَ الْقَرِيبُ مِنْكَ بِالنَّسَبِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَجْنَبِيُّ لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ الْأَقْرَبُ مِنْكَ دَارًا، وَالثَّانِي مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مَزَارًا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْقُرْبَى مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْكَ وَلَوْ بِالدِّينِ، وَالْأَجْنَبِيَّ مَنْ لَا يَجْمَعُكَ بِهِ دِينٌ وَلَا نَسَبٌ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفِ السَّنَدِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَالْبَزَّارِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ، فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: حَقُّ الْجِوَارِ "، وَثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْجَارِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى كَأَحَادِيثِ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ وَالْوَقَائِعِ الْمُعَيَّنَةِ كَعِيَادَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِوَلَدِ جَارِهِ الْيَهُودِيِّ فِي الصَّحِيحِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ " أَنَّهُ ذُبِحَ لَهُ شَاةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ: أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ، أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْجَارِ أَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَنَاهِيكَ بِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْوَصَايَا حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهَا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: حَدَّدَ بَعْضُهُمُ الْجِوَارَ بِأَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ هِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا سِرَّ الْوَصِيَّةِ، وَمَعْنَى الْجِوَارِ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَيَتَرَاءَى وَجْهُكَ وَوَجْهُهُ فِي غُدُوِّكَ أَوْ رَوَاحِكَ إِلَى دَارِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعَامِلَ مَنْ تَرَى وَتُعَاشِرَ بِالْحُسْنَى، فَتَكُونَ فِي رَاحَةٍ مَعَهُمْ، وَيَكُونُوا فِي رَاحَةٍ مَعَكَ، اهـ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ أَمْرَ الْجِوَارِ لَا يُحَدَّدُ بِالْبُيُوتِ، وَالتَّحْدِيدُ بِالدُّورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، وَحَدَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَالصَّوَابُ عَدَمُ التَّحْدِيدِ وَالرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعَرَبِ، وَالْأَقْرَبُ حَقُّهُ آكَدُ وَإِكْرَامُ الْجَارِ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَزَادَهُ الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنَ

الْإِحْسَانِ بِالْجَارِ الْإِهْدَاءُ إِلَيْهِ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الطَّعَامِ وَتَعَاهُدُهُ بِالزِّيَارَةِ وَالْعِيَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ قَوْلَانِ: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَالْمُنْقَطِعُ إِلَيْكَ يَرْجُو نَفْعَكَ وَرِفْدَكَ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ أَنَّهُ الْمَرْأَةُ، أَيْ: لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَضَتِ الْفِطْرَةُ وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ أَنْ تَكُونَ بِجَنْبِ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ لِلتَّغْلِيبِ جَازَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْأَةِ الزَّوْجُ وَرَجُلُهَا مِثْلُهَا، فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْإِحْسَانُ بِالْآخَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَبَّرَ بِلَفْظِ الزَّوْجِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْمَرْأَةَ ; لِأَنَّهَا أَحْوَجُ إِلَى إِحْسَانِ بَعْلِهَا مِنْهُ إِلَى إِحْسَانِهَا، فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ مَنْ صَاحَبْتَهُ وَعَرَفْتَهُ وَلَوْ وَقْتًا قَصِيرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الرَّفِيقُ فِي أَمْرٍ حَسَنٍ كَتَعَلُّمٍ وَتَرَفٍ وَصِنَاعَةٍ وَسَفَرٍ، فَإِنَّهُ بِقَيْدِ " وَلَوْ وَقْتًا قَصِيرًا " يَشْمَلُ صَاحِبَ الْحَاجَةِ الَّذِي يَمْشِي بِجَانِبِكَ وَيَسْتَشِيرُكَ أَوْ يَسْتَعِينُكَ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْحَابِ عِنْدَهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، كَانَ لَا يَكَادُ يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فِي طَرِيقٍ إِلَّا وَتَرَاهُمْ يُوفِضُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نُصُبٍ يَمْشُونَ بِجَانِبِهِ مُسْتَشِيرِينَ أَوْ مُسْتَعِينِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَابْنِ السَّبِيلِ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا الْمُسَافِرُ وَالضَّيْفُ، وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: لَيْسَ الْبَرَّ (2: 177) ، هُوَ الْمُنْقَطِعُ فِي السَّفَرِ لَا يَتَّصِلُ بِأَهْلٍ وَلَا قَرَابَةٍ كَأَنَّ السَّبِيلَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَرَحِمُهُ وَأَهْلُهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: إِنَّهُ مَنْ تَبَنَّاهُ السَّبِيلُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، أَيِ: السَّائِحُ الرَّحَّالَةُ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا ضَيَّقُوا فِي تَفْسِيرِهِ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ كُلَّ مَنْ عُرِفَ فِي الطَّرِيقِ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ الْمُطْلَقُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ أَوْسَعُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ دَائِمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ، كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ إِلَخْ، وَهُوَ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَا أَذْكُرُ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَةُ فِيمَنْ يَتَأَكَّدُ الْإِحْسَانُ بِهِمْ، وَالضَّيْفُ وَالْمُسَافِرُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُسْتَحِقَّيْنِ لِلزَّكَاةِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ بِابْنِ السَّبِيلِ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي السِّيَاحَةِ وَالْإِعَانَةَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَهْمَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ إِلَّا قَلِيلًا خَيْرُهُ أَقَلُّ، وَذُكِرَتْ فِي هَامِشِ تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ آيَةِ لَيْسَ الْبَرَّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّقِيطَ يُوشِكُ أَنْ يَدْخُلَ فِي مَعْنَى " ابْنِ السَّبِيلِ "، وَاخْتَارَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمُعَاصِرِينَ فِي رِسَالَةٍ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَاللَّفْظُ يَتَّسِعُ لِلَّقِيطِ وَلَا سِيَّمَا فِي بَابِ الْإِحْسَانِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى وَأَجْدَرُ مِنَ الْيَتِيمِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْفِقْهِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِهِ، وَإِنَّمَا غَفَلَ جَمَاهِيرُ

الْمُفَسِّرِينَ عَنْ ذِكْرِهِ لِنُدْرَةِ اللُّقَطَاءِ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ، وَلَا حَظَّ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مِنَ التَّأْلِيفِ إِلَّا النَّقْلَ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِقْلَالَ فِي الْفَهْمِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِهِ، وَانْقِرَاضِ أَرْبَابِهِ، وَالرِّضَى بِاسْتِبْدَالِ الْجَهْلِ بِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُسْتَقِلِّ بِفَهْمِ الشَّيْءِ لَا يُسَمَّى عَالِمًا بِهِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ اللُّقَطَاءُ، وَلَوْلَا عِنَايَةُ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ بِجَمْعِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ لَكَانَ شَرُّهُمْ فِي الْبِلَادِ مُسْتَطِيرًا، فَلِلَّهِ دَرُّ هَؤُلَاءِ الْأُورُبِّيِّينَ مَا أَشَدَّ عِنَايَتَهُمْ بِدِينِهِمْ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ، وَيَا لَلَّهِ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلَ جَمَاهِيرِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْإِفْرِنْجِ عِنَايَةً بِدِينِهِمْ وَغَيْرَةً عَلَيْهِمْ وَعَمَلًا بِهِ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَكُوا الدِّينَ أَلْبَتَّةَ، يَسْتَنْبِطُونَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مِنْ بَعْضِ أَحْرَارِهِمُ الْغَالِينَ، الَّذِينَ يَلْقَوْنَهُمْ فَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَلِمَ الْإِلْحَادِ، أَوْ مِنَ السِّيَاسِيِّينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُزَلْزِلُونَ ثِقَتَنَا بِالدِّينِ لِمَا يَجْهَلُ أَكْثَرُنَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ اللُّقَطَاءِ، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، مِنْ فِتْيَانِكُمْ وَفَتَيَاتِكُمْ، وَعَبَّرَ فِي آيَةِ الْبِرِّ [2: 177] ، وَفِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ [9: 60] ، بِقَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: تَحْرِيرِهَا، وَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الْأَتَمُّ الْأَكْمَلُ وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِ يَحْصُلُ بِعِتْقِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِإِعَانَتِهِمْ عَلَى شِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ نُجُومًا وَأَقْسَاطًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَدُونَ هَذَا إِحْسَانُ الْمَالِكِينَ الْمُعَامَلَةَ إِذَا اسْتَبْقَوْهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُكَلَّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: هُمْ إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُبَالِغُ وَيُؤَكِّدُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهِمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ وَصَايَاهُ، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ "، فَهَلْ بَعْدَ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ مِنْ تَأْكِيدٍ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَوْصَانَا اللهُ تَعَالَى بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَدْنَى الطَّبَقَاتِ؛ لِئَلَّا نَظُنَّ أَنَّ اسْتِرْقَاقَهُمْ يُجِيزُ امْتِهَانَهُمْ، وَيَجْعَلُهُمْ كَالْحَيَوَانَاتِ الْمُسَخَّرَةِ، فَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْإِحْسَانِ كَسَائِرِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.

إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَعْلِيلٌ أَوْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمُخْتَالُ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى بَدَنِهِ أَثَرٌ مِنْ كِبْرِهِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ، فَتُرَى نَفْسُهُ أَعْلَى مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْ تِيهِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ هُوَ مِنْهُ، فَالْمُخْتَالُ: مَنْ تَمَكَّنَتْ فِي نَفْسِهِ مَلَكَةُ الْكِبْرِ، وَظَهَرَ أَثَرُهَا فِي عَمَلِهِ وَشَمَائِلِهِ، فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُتَكَبِّرِ غَيْرِ الْمُخْتَالِ، وَالْفَخُورُ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْكِبْرِ فِي قَوْلِهِ كَمَا يَظْهَرُ فِي فِعْلِ الْمُخْتَالِ، فَهُوَ يَذْكُرُ مَا يَرَى أَنَّهُ مُمْتَازٌ بِهِ عَلَى النَّاسِ تَبَجُّحًا بِنَفْسِهِ وَتَعْرِيضًا بِاحْتِقَارِهِ غَيْرَهُ، فَالْمُخْتَالُ الْفَخُورُ مَبْغُوضٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ احْتَقَرَ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَوْجَبَهَا لِلنَّاسِ، وَعَمِيَ عَنْ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، بَلْ لَا يَجِدُ هَذَا الْمُتَكَبِّرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنَى عَظَمَةِ اللهِ وَكِبْرِيَائِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَهَا لَتَأَدَّبَ وَشَعَرَ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَصَغَارِهِ، فَهُوَ جَاحِدٌ أَوْ كَالْجَاحِدِ لِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ إِلَّا بِهَا وَلَا تَكُونُ بِحَقٍّ إِلَّا لَهَا، فَمَنْ فَتَّشَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا، عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُعِينُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَيُطَهِّرُهُ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ بِهِ وَمُنَازَعَتِهِ فِي صِفَاتِهِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِوَصَايَاهُ هَذِهِ، وَبِغَيْرِهَا إِلَى سُكُونِ النَّفْسِ وَمَعْرِفَتِهَا قَدْرَهَا بِبَرَاءَتِهَا مِنْ خُلُقِ الْكِبْرِ الْخَبِيثِ الَّذِي تَظْهَرُ آثَارُ تَمَكُّنِهِ وَرُسُوخِهِ بِالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، إِنَّ الْمُخْتَالَ لَا يَقُومُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ عَمَلًا مَا لَا يُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا إِذَا كَانَ صَادِرًا عَنِ الشُّعُوبِ بِعَظَمَةِ الْمَعْبُودِ وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى غَيْرِ الْمَحْدُودِ، وَمَنْ أُوتِيَ هَذَا الشُّعُورَ خَشَعَ قَلْبُهُ، وَمَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَلَا يَكُونُ مُخْتَالًا، إِنَّ الْمُخْتَالَ لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا حُقُوقِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْعُرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَفَضْلُهُمَا عَلَيْهِ لَيْسَ فَوْقَهُ فَضْلٌ إِلَّا اللهَ تَعَالَى، وَلَا بِحُقُوقِ ذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ بِمُقْتَضَى النَّسَبِ فِي طَبَقَتِهِ، فَهَلْ يَرَى نَفْسَهُ مُطَالَبًا بِحَقٍّ مَا لِلْيَتِيمِ الضَّعِيفِ، أَوْ لِلْمِسْكِينِ الْأَسِيفِ، أَوْ لِلْجَارِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، أَوْ لِلصَّاحِبِ النَّبِيهِ أَوِ الْمَغْمُولِ، أَوْ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمَعْرُوفِ أَوِ الْمَجْهُولِ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا رَجُلٌ مَفْتُونٌ بِنَفْسِهِ مَسْحُورٌ فِي عَقْلِهِ وَحِسِّهِ، فَلَا يُرْجَى مِنْهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ، وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِسَاءَةُ وَالْكُفْرَانُ، انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ. وَأَقُولُ: لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ وَقُورًا فِي غَيْرِ غِلْظَةٍ، عَزِيزَ النَّفْسِ مَعَ الْأَدَبِ وَالرِّقَّةِ، حَسَنَ الثِّيَابِ بِلَا تَطَرُّسٍ، وَلَا ابْتِغَاءِ شُهْرَةٍ، رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا

37

وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمَصُ النَّاسِ وَبَطَرُ الْحَقِّ: رَدُّهُ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَرَفُّعًا أَوْ عِنَادًا، وَغَمْصُ النَّاسِ وَغَمْطُهُمُ: احْتِقَارُهُمْ وَالِازْدِرَاءُ بِهِمْ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَذَكَرَ الْكِبْرَ وَعَظَّمَهُ فَبَكَى ثَابِتٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَا يُبْكِيكَ "؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ الْجَمَالَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَحْسُنَ شِرَاكُ نَعْلِي، قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكِبَرِ أَنْ تُحَسِّنَ رَاحِلَتَكَ وَرَحْلَكَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا جَمِيلًا أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ الْجَمَالَ وَقَدْ أُعْطِيتُ مِنْهُ مَا تَرَى حَتَّى مَا أُحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ بِشِرَاكِ نَعْلٍ فَمِنَ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ إِطَالَةُ الثِّيَابِ وَجُرُّ الْأَذْيَالِ بَطَرًا، وَمِنْهُ مِشْيَةُ الْمَرَحِ، فَتَرَى الشَّابَّ يَتَمَطَّى وَيَمْرَحُ وَيَأْرُنُ كَالْمُهْرِ أَوِ الْعِجْلِ وَيَضْرِبُ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (17: 37) ، وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، وَمِثْلُهُ التَّعْلِيمُ الْعَسْكَرِيُّ، وَالْفَخُورُ: كَثِيرُ الْفَخْرِ يَعُدُّ مَنَاقِبَهُ وَيُزَكِّي نَفْسَهُ تَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا عَلَى النَّاسِ وَتَعْرِيضًا بِنَقْصِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ عَنْ بُلُوغِ مَدَاهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَلَّتَيْنِ ـ الْخُيَلَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَخْرِ هُوَ التَّنَاهِي فِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُتُوِّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِاحْتِقَارِ خَلْقِهِ، وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بَدَلًا مِنَ الْفَخْرِ وَالزَّهْوِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فَتَرَكُوهُ، وَالْفَخْرُ فِي الشِّعْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْغِيبُ فِي الْفَضِيلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ مَذْمُومًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ كَرَدْمُ بْنُ زَيْدٍ حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عُمَرَ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ كُلُّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، يَأْتُونَ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ـ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا وَرَوَى ابْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " هُمْ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْلُ الْكِتَابِ بَخِلُوا بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَمُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ "، وَبِنَاءً عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ

جَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) الْآيَةَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا فِي الْيَهُودِ، فَجَعَلَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ مُخْتَالًا أَوْ صِفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِوُقُوعِ الْمَوْصُولِ مَوْصُوفًا وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى الذَّمِّ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ، وَمِنْ قَوْلِ الْجَلَالِ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَالْبُخْلُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِالتَّحْرِيكِ: وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُرِئَ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ الْمُفَسِّرُ: يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهُمَا قَوْلَانِ: فَمَنْ خَصَّ الْبُخْلَ بِالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْيَهُودِ، فَالْمُفَسِّرُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَخَصَّ الْكَلَامَ بِالْيَهُودِ، وَاضْطُرَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ الْكَلَامِ وَجَعَلَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِمَنْ يَحْمِلُ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ هَذَا الْقَطْعِ إِلَى أَهْوَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِنَ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ إِلَخْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ كَأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ بِالْإِحْسَانِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْيَهُودَ، وَمَا هَذَا بِأَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ مِنَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ، وَأَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ تَعْلِيلَهُ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ أُمَّةٌ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُخْلِ الْبُخْلَ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَكَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُخْبِرِ النَّاسَ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَخِيلِ الْأَمْرَ بِالْبُخْلِ بِحَالِهِ وَمَقَالِهِ لِيُسَهِّلَ عَلَى نَفْسِهِ خُلُقَهُ الذَّمِيمَ وَيَجِدَ لَهُ فِيهِ أَقْرَانًا وَأَمْثَالًا، وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَمَرُوهُ بِالْبُخْلِ مِرَارًا، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَحْيَانًا حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا رَدَّ يَدَهُ بِالدَّرَاهِمِ إِلَى جَيْبِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا إِذَا كَانَ لِلْبَخِيلِ الْمُنَفِّرِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَإِعْطَاؤُهُ إِضَاعَةٌ، وَإِذَا وُضِعَ مَا يُرَادُ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا يَكُونُ خَيْرًا وَأَوْلَى، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا وَقَعَ لِي أَيْضًا حَتَّى فِي هَذَا الْأُسْبُوعِ الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَيْسَ لَدَيَّ الْآنَ تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ فَأُرَاجِعُ عِبَارَتَهُ فَإِنِّي أَرَى الْعَجَبَ الْعُجَابَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأُسْتَاذُ هُوَ مُخَالَفَتُهُ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْهُ آنِفًا عَنْ بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالذَّمُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْبُخْلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بِاسْمِ الدِّينِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ وَلِيَتَذَكَّرِ الْقَارِئُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ إِذَا كَانَتْ تُنَاسِبُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا خَاصَّةً بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ هِيَ مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَإِنِ الرَّاوِي رَأَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْحَادِثَةَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا خَاصَّةً، وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْبَلِيغِ، وَلْنَعُدْ إِلَى سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْآيَةِ قَالَ مَا مِثَالُهُ

الْمُتَعَيَّنُ فِي السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إِلَخْ، وَصْفٌ لِمَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَبْخَلُونَ بِهِ فَيَخُصَّهُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَوِي الْقُرْبَى وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ، لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ فَقَطْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَلْ مِنْهُ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْبُخْلِ: الْبُخْلُ بِذَلِكَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ فَيَشْمَلُ الْبُخْلُ بِلِينِ الْكَلَامِ وَإِلْقَاءِ السَّلَامِ وَالنُّصْحِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالنَّفْسِ لِإِنْقَاذِ الْمُشْرِفِ عَلَى التَّهْلُكَةِ، وَكَذَلِكَ كِتْمَانُ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ يَشْمَلُ كِتْمَانَ الْمَالِ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، وَجِيءَ بِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِتَوْبِيخِ أَهْلِهِ، وَبَيَانِ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ الْبُخْلُ بِإِمْسَاكِ الْمَالِ، وَيُجْعَلَ الْكِتْمَانُ عَامًّا شَامِلًا لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْمُقَصِّرُونَ فِيهِ إِنَّمَا يُقَصِّرُونَ بِعِلَّةِ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ التَّرَفُّعِ وَالْكِبْرِ، فَهُوَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ مَنْ كَانَ مُلَوَّثَ النَّفْسِ بِتِلْكَ الرَّذِيلَةِ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَسْتَلْزِمُ جُحُودَ الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُهُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَجُحُودُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَهُ، وَمَنْعُهُ هُوَ الْبُخْلُ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلَوَّثِينَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الَّذِي يُبْغِضُ اللهُ صَاحِبَهُ وَلَا يُحِبُّهُ ـ وَهُوَ الْكِبْرُ الْبَيِّنُ أَثَرُهُ ـ يَبْخَلُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِإِنْكَارِهَا وَعَدَمِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَلِذَلِكَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، أَيْ: وَهَيَّأْنَا لَهُمْ بِكِبْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَبُخْلِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، عَذَابًا ذَا إِهَانَةٍ يُجْمَعُ لَهُمْ فِيهِ بَيْنَ الْأَلَمِ وَالْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ جَزَاءَ كِبْرِهِمْ، وَقَالَ: لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: (لَهُمْ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْكَفُورِ، لَا مِنَ الْمُؤْمِنِ الشَّكُورِ. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ قَالَ الْأُسْتَاذُ: الرِّئَاءُ يُخَفَّفُ فَيُقَالُ: الرِّيَاءُ مَصْدَرُ رَاءَى كَالْمُرَاءَاةِ وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَأُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (3: 135) ، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، أَيْ أَنَّ مَانِعِي الْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَبْخَلُونَ وَيَكْتُمُونَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَصِنْفٌ يَبْذُلُونَ الْمَالَ لَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَاعْتِرَافًا لِعِبَادِهِ بِحُقُوقِهِمْ، بَلْ يُنْفِقُونَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، أَيْ: مُرَائِينَ لَهُمْ يَقْصِدُونَ أَنْ يَرَوْهُمْ فَيُعَظِّمُوا قَدْرَهُمْ وَيَحْمَدُوا فِعْلَهُمْ، فَالْمُرَائِي لَا يَقْصِدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الْفَخْرَ عَلَى النَّاسِ بِكِبْرِيَائِهِ، وَإِشْرَاعَ الطَّرِيقِ لِخُيَلَائِهِ، فَإِنْفَاقُهُ أَثَرُ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّدِيئَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ كَمَا تَكُونُ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِ الشَّخْصِ تَكُونُ أَيْضًا بِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلُ يَمْشِي يَنْظُرُ إِلَى عِطْفَيْهِ وَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ

38

هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْإِعْجَابِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ النَّاسِ أَمْ لَا؟ ـ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ نَعَمْ عَلَى لَا ـ وَشَرُّ هَذَا دُونَ شَرِّ الْبَخِيلِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى قَبُولِ اخْتِيَالِهِ وَفَخْرِهِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ رَأَى لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلُ الْتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ الَّذِي يَطْلُبُهُ بِرِئَائِهِ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ تَعْظِيمُهُ وَمَدْحُهُ لِأَجْلِ مَالِهِ ـ وَمَالُهُ فِي الصُّنْدُوقِ مَكْتُومٌ عَنْهُمْ ـ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُرَائِي بِلَا شَكٍّ ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْبُخَلَاءِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَقُ فِي تِلْكَ الرَّذِيلَةِ وَآثَارِهَا، وَالْمُرَائِي فِي الْحَقِيقَةِ بَخِيلٌ لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ يَخُصُّ بِبَذْلِهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا حَقَّ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَبْخَلُ عَلَى أَرْبَابِ الْحُقُوقِ الْمُؤَكَّدَةِ حَتَّى عَلَى زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، وَعَلَى الْأَقْرَبِينَ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَتَحَرَّى فِي إِنْفَاقِهِ مَوَاضِعَ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا الْخَاصِّ، وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى مَوَاطِنَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ كَانَ الْإِنْفَاقُ هُنَالِكَ ضَارًّا كَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْفِسْقِ أَوِ الْفِتَنِ، فَهُوَ تَاجِرٌ يَشْتَرِي تَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ وَتَسْخِيرَهُمْ لِقَضَاءِ حَاجِهِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ. أَقُولُ: إِنَّ مَا يُبَيِّنُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا هُوَ الرِّيَاءُ الْحَقِيقِيُّ الْمَمْقُوتُ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خِيَارِ عِبَادِهِ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ: إِنَّ لِلرِّيَاءِ أَنْوَاعًا وَمَرَاتِبَ، وَإِنَّ مِنْهَا أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لِمُسْتَحَقِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِالْحَقِّ وَإِيثَارًا لِلْخَيْرِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عُرِفَ، وَيَعُدُّونَ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ كَهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ فَهُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللهِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ، فَلَا يَضِيرُهُ حُبُّهُ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ لِذَاتِهِ أَكْمَلَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (3: 188) ، الْآيَةَ فَرَاجِعْهُ فِي ص [235 - 242 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ] ، أَوْ فِي الْمَنَارِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الْمُرَائِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَائِيَ يَثِقُ بِمَا عِنْدَ اللهِ، وَيُرَجِّحُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَدْحِ وَتَوَقُّعِ النَّفْعِ عَلَى مَا أَعَدَّهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ فَاللهُ فِي نَظَرِهِ الْمُظْلِمِ أَهْوَنُ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا يَجِبُ؟ أَمْ يَكُونُ إِيمَانُهُ تَخَيُّلًا كَتَخَيُّلِ الشُّعَرَاءِ، وَقَوْلًا كَقَوْلِ الصِّبْيَانِ: وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَنْطِقُ بِاسْمِ اللهِ وَيُؤَكِّدُ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ الْكَلَامَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اللهَ، وَإِنَّمَا

يَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَيُقَلِّدُهُمْ بِمَا يَحْفَظُ مِنْهُ، لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْكَائِنَاتِ، النَّافِذُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَهَلْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ كَلَّا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُوقِنًا بِأَنَّ لَهُ هُنَالِكَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، لَمَا فَضَّلَ عَلَيْهَا عَرَضَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا. وَمِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْلِصِ وَالْمُرَائِي أَنَّ الْمُرَائِيَ يَلْتَمِسُ الْفُرَصَ وَالْمُنَاسَبَاتِ لِلْفَخْرِ وَالتَّبَجُّحِ بِمَا أَعْطَى، وَمَا فَعَلَ، وَالْمُخْلِصُ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ عَمَلَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ كَأَنَّ يَرْغَبَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْبَذْلِ، فَيَقُولُ لِلْغَنِيِّ مَثَلًا: إِنَّنِي عَلَى فَقْرِي أَوْ عَلَى قَدْرِ حَالِي قَدْ أَعْطَيْتُ فِي مَصْلَحَةِ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، فَاللَّائِقُ بِكَ أَنْ تَبْذُلَ كَذَا. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا يَبْذُلَ مَالًا، وَلَا يَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا بِقَصْدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَرَاءَ حُظُوظِ هَذِهِ الدُّنْيَا أَمَلٌ، وَلَا مَطْلَبٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ الرِّيَاءُ مِنْ مُؤْمِنٍ فَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ ضَعِيفِ الْإِيمَانِ قَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ كُلُّ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلْمَامًا يَنْدَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَيُسْرِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا مُجَاهِرًا، أَوْ مُنَافِقًا مُخَادِعًا، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) . قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا أَيْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (2: 268) ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قُرَنَاءُ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ بِئْسَ الْقَرِينُ فَعَلِمَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الشَّرِّ كَحَالِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَقْصِدِ بَلِ اكْتَفَى بِذَمِّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا لَهُ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الَّذِي لَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ إِلَى تَأْثِيرِ قُرَنَاءِ الْمَرْءِ فِي سِيرَتِهِ وَمَا يَنْبَغِي مِنَ اخْتِيَارِ الْقَرِينِ الصَّالِحِ عَلَى قَرِينِ السُّوءِ، وَتَعْرِيضٌ بِتَنْفِيرِ أُولَئِكَ الْأَنْصَارِ مِنْ مُقَارَنَةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَيَانُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ يَعِدِونَ الْفَقْرَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْعُرْفِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَالْقَرِينُ الصَّالِحُ مَنْ يَكُونُ عَوْنًا لَكَ عَلَى الْخَيْرِ، مُرَغِّبًا لَكَ فِيهِ، مُنَفِّرًا لَكَ بِنُصْحِهِ وَسِيرَتِهِ عَنِ الشَّرِّ، مُبْعِدًا لَكَ عَنْهُ، مُذَكِّرًا لَكَ بِتَقْصِيرِكَ، مُبَصِّرًا إِيَّاكَ بِعُيُوبِ نَفْسِكَ، وَكَمْ أَصْلَحَ الْقَرِينُ الصَّالِحُ فَاسِدًا، وَكَمْ أَفْسَدَ قَرِينُ السُّوءِ صَالِحًا. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ: أَيْ مَا الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَرِ لَوْ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا؟ وَهَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ

بِاللهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ وَإِيمَانُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ كَانَ قَدْ تَغَلْغَلَ فِيهِمْ أَيْضًا، فَالْمُرَادُ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ مَعَ الْإِذْعَانِ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَلَوْ عَلَى مَعْنَاهَا وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ، وَعَمَلِ الْإِحْسَانِ لِوَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَابْتِغَاءِ رِضْوَانِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعَجُّبِ إِثَارَةُ عَجَبِ النَّاسِ مِنْ حَالِهِمْ ; إِذْ لَوْ أَخْلَصُوا لَمَا فَاتَتْهُمْ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا، وَلَفَازُوا مَعَ ذَلِكَ بِسَعَادَةِ الْعُقْبَى، وَكَثِيرًا مَا يَفُوتُ الْمُرَائِيَ غَرَضُهُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى النَّاسِ وَامْتِلَاكِ قُلُوبِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ لِخِدْمَتِهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَيَفُوزُ بِذَلِكَ الْمُخْلِصُ الَّذِي يُخْفِي الْعَمَلَ مِنْ حَيْثُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَحْتَسِبُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمُخْلِصِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُرَائِي بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، بَلْ يَكُونُ قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، فَجَهْلُ الْمُرَائِينَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ جَهْلٌ بِاللهِ وَجَهْلٌ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَلَوْ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا وَأَحْسَنُوا وَوَثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ لَكَانَ هَذَا الْإِيمَانُ كَنْزَ سَعَادَةٍ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ يُحْسِنُ مُوقِنًا أَنَّ الْمَالَ وَالْجَاهَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَتَقَرَّبَ بِهِمَا إِلَيْهِ تَعْلُو هِمَّتُهُ فَتَهُونُ عَلَيْهِ الْمَصَاعِبُ وَالنَّوَائِبُ، وَيَكُونُ هَذَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ عِوَضًا لَهُ مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَسَلْوَى فِي كُلِّ مُصَابٍ، وَفَاقِدُ الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ عُرْضَةٌ لِلْغَمِّ وَالْيَأْسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ عِنْدَمَا يَرَى خَيْبَةَ أَمَلِهِ، وَكَذِبَ ظَنِّهِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي مُصَابٍ عَظِيمٍ كَفَقْدِ الْمَالِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذَهَبَ كُلُّ مَالِهِ وَأَمْسَى فَقِيرًا، وَلَمْ يُنْقِذْهُ النَّاسُ وَلَا بَالَوْا بِهِ، فَإِنَّ الْغَمَّ وَالْقَهْرَ رُبَّمَا أَمَاتَاهُ جَزَعًا لَا صَبْرًا، وَرُبَّمَا بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ ; وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِانْتِحَارُ مِنْ فَاقِدِي الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنْ أَقَلَّ مَا يُؤْتَاهُ فِي الْمَصَائِبِ هُوَ الصَّبْرُ وَالسَّلْوَى فَيَكُونُ وَقْعُ الْمُصِيبَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَخَفَّ، وَثَوَاءُ الْحُزْنِ فِي قَلْبِهِ أَقَلَّ، وَأَكْثَرُهُ أَنْ تَكُونَ الْمُصِيبَةُ فِي حَقِّهِ رَحْمَةً، وَتَتَحَوَّلَ النِّقْمَةُ فِيهَا نِعْمَةً، بِمَا يَسْتَفِيدُ فِيهَا مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالتَّمْحِيصِ، وَكَمَالِ الْعِبْرَةِ وَالتَّهْذِيبِ (أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ 3: 137] ، إِلَى الْآيَةِ 141 فَتُرَاجَعُ مِنْ [ص 114 - 126 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ] ، إِنَّ النِّعَمَ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ) عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ الْمُخْلِصِينَ يَكُونُونَ أَبْعَدَ عَنِ النَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ يَبْتَلِي اللهُ الْمُؤْمِنَ وَيَمْتَحِنُ صَبْرَهُ فَيُعْطِيهِ إِيمَانُهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِاللهِ تَعَالَى مَا تُخَالِطُ حَلَاوَتَهُ مَرَارَةُ الْمُصِيبَةِ حَتَّى تَغْلِبَهَا أَحْيَانًا، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ

39

مِنْ يَعْظُمُ رَجَاؤُهُ بِاللهِ وَصَبْرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ، وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ مَا ابْتَلَاهُ إِلَّا لِيُرَبِّيَهُ وَيُعَظِّمَ أَجْرَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْنَسُ بِالْمُصِيبَةِ وَيَتَلَذَّذُ بِهَا، وَهَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ وَلَكِنَّهُ وَاقِعٌ. وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِتَنْبِيهِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِإِنْفَاقِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَنْسَى عَمَلَ عَامِلٍ وَلَا يَظْلِمُهُ مِنْ أَجْرِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْقُلُوبَ لِمَنْ شَاءَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتُ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيمًا لَكَانَتْ كَافِيَةً لِهِدَايَةِ مَنْ لَهُ قَلْبٌ يَشْعُرُ وَعَقْلٌ يُفَكِّرُ، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ تَقْصِيرَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَذَكَرَ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْجِيرَانِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مُشَاهَدٌ مَعْرُوفٌ، وَأَيْنَ الْمُعْتَبِرُونَ الْمُتَّعِظُونَ؟ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا. قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ قَالَ مُعَلِّلًا لَهُ: إِنَّ اللهَ إِلَخْ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا إِلَخْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَرَغَّبَ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى صِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَسُوءَ حَالِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَوَعِيدًا، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنَ الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَلْ يُوَفِّيهِ حَقَّهُ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْآيَةُ تَتْمِيمٌ لِمَوْضُوعِ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ وَتَرْغِيبٌ لِلْعَامِلِينَ فِي الْخَيْرِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (99: 7) ، إِلَخْ، فَمَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ، وَرَجَاؤُهُ فِي اللهِ تَعَالَى. (قَالَ) : وَلِلْعَابِثِينَ بِالْكِتَابِ وَبِعَقَائِدِ النَّاسِ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ، وَأَقَامُوهُ عَلَى أَسَاسِ مَذَاهِبِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ الظُّلْمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى (عَقْلًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا تَمَدَّحَ بِنَفْيِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ، بِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْ نَفْسِهِ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ، وَأَنْتُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ كَلَامٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَنَفْيَ النَّوْمِ كَلَامٌ فِي صِفَاتِهِ

وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْجَدَلِ الْبَاطِلِ وَالْهَذَيَانِ، وَإِدْخَالِ الْفَلْسَفَةِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عَقْلِ وَلَا بَيَانٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ بِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعِيدِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ تَعَالَى، وَبَلَغَ بِهِمُ الْجَهْلُ مِنْ تَأْيِيدِ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى تَجْوِيزِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَجَعَلُوا هَذَا نَصْرًا لِلسُّنَّةِ، وَالَّذِي قَذَفَ بِهَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمُهَاوِي هُوَ الْجَدَلُ وَالْمِرَاءُ لِتَأْيِيدِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تَقَلَّدُوهَا، وَالْتِزَامُ كُلِّ فَرِيقٍ تَفْنِيدَ الْآخَرِ وَإِظْهَارَ خَطَئِهِ لَا طَلَبَ الْحَقِّ أَيْنَمَا ظَهَرَ، وَلَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَاتِ الْكَثِيرُ الْبَعِيدُ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَدِينِهِ، كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَبَعْضَهَا قَبِيحٌ لِذَاتِهِ، وَيَجِبُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْجَائِزَيْنِ، وَكَقَوْلِ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَسْأَلَةَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَبَثِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَكُلُّ هَذَا جَهْلٌ. (قَالَ) : وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الظُّلْمُ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ النَّقْصِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ذُو الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ خَلَقَ لِلنَّاسِ مَشَاعِرَ يُدْرِكُونَ بِهَا، وَعُقُولًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى مَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، وَشَرَعَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَآدَابِهِ مَا لَا تَسْتَقِلُّ عُقُولُهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَى مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهِمْ وَحِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَجَعَلَ فَوَائِدَ الدِّينِ وَآدَابَهُ سَائِقَةً إِلَى الْخَيْرِ صَارِفَةً عَنِ الشَّرِّ لِتَأْيِيدِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَمَنْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا. قَالَ: وَنَفْيُ الظُّلْمِ هَاهُنَا عَلَى إِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالذَّرَّةُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْتَهَى الصِّغَرِ فِي الْأَجْسَامِ، وَقِيلَ: الذَّرُّ: الْهَبَاءُ، وَقِيلَ: النَّمْلُ الصَّغِيرُ الْأَحْمَرُ، أَوِ الذَّرَّةُ: رَأْسُ النَّمْلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعُمُومِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ إِلَخْ، وَقَدْ قَدَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فِي الْآيَةِ هُنَا (أَحَدًا) لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْعُمُومِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكَافِرِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (18: 105) ، وَقَوْلِهِ فِي عَمَلِهِمْ: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (25: 23) ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَمْعِ: إِنَّ اللهَ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا خَاصٌّ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَلٌّ يَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمُقَلِّدِينَ فِي جَعْلِ مَذَاهِبِهِمْ أَصْلًا، وَالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَرْعًا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ السَّقِيمِ وَالتَّحْرِيفِ الْبَعِيدِ. قَالَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ قَائِلِيهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ بِعَمَلٍ لَهُ، حَاتِمٌ بِكَرَمِهِ، وَأَبُو طَالِبٍ بِكَفَالَتِهِ النَّبِيَّ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُ، بَلْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي لَهَبٍ لِعِتْقِهِ ثُوَيْبَةَ حِينَ بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ

40

هَذَا وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (111: 1) ، إِلَخْ، السُّورَةِ، فَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ إِذَنْ لِلْآيَاتِ هُوَ أَنَّ اللهَ لَا يُقِيمُ وَزْنًا لِلْمُشْرِكِ فِي مُقَابَلَةِ شِرْكِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُ الشِّرْكَ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَمْحُوهُ، بَلِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِإِزَاءِ الشِّرْكِ هَبَاءٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكَ الْعَاصِيَ أَشَدُّ عَذَابًا مِنَ الْمُشْرِكِ الْمُحْسِنِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءً، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ بِلَا شَكٍّ. أَقُولُ: الْمِثْقَالُ ـ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ ـ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَهُ ثَقُلَ مَهْمَا قَلَّ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمِعْيَارِ الْمَخْصُوصِ لِلذَّهَبِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالذَّرَّةُ أَصْغَرُ مَا يُدْرَكُ مِنَ الْأَجْسَامِ كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَمَا أُطْلِقَ عَلَى النَّمْلَةِ وَعَلَى رَأْسِهَا وَعَلَى الْخَرْدَلَةِ، وَعَلَى الدَّقِيقَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْهَبَاءِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِي نُورِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى ـ إِلَّا لِبَيَانِ مَكَانِ صِغَرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الذَّرَّةِ رِوَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا رَأْسُ النَّمْلَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ذَرَّةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: " إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ نَمْلَةٍ "، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّفْسِيرُ، وَالظُّلْمُ مَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ النَّقْصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (18: 33) ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْقُصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا مَا وَإِنْ صَغُرَ كَذَرَّةِ الْهَبَاءِ، بَلْ يُوَفِّيهِ أَجْرَهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ الْبَارِئِ فِي مَوَاضِعِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، مِنْهَا تَفْسِيرُ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (3: 182) ، فَيُرَاجَعُ فِي ص 218 وَتَفْسِيرِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (3: 192) ، فِي ص 247 مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ أَيْضًا، وَلَا أَذْكُرُ غَيْرَهَا الْآنَ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ الْكَلَامُ فِي الْجَزَاءِ وَمَوَازِينِ الْأَعْمَالِ، وَلَا تُفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِاسْتِبَانَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَكَوْنِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَابِعَيْنِ لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّدْسِيَةِ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَا أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي فَهْمِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ مُقَارَنَةِ الْآيَاتِ الْمُتَنَاسِبَةِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِذَلِكَ تَحْكِيمَ الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا عُلَمَاءُ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِرْجَاعِ الْآيَاتِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهَا عَلَيْهَا، فَهَذَا يَسْتَشْكِلُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَسْتَحِقُّونَ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْأَجْرِ، فَيَكُونُ مَنْعُهُ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ ظُلْمًا، ثُمَّ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَعْدِ فَهُوَ قَدْ وَعَدَ بِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ، وَأَوْعَدَ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ، ثُمَّ جَعَلُوا جَوَازَ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ أَوِ الْوَعِيدِ مَحَلَّ بَحْثٍ وَجِدَالٍ أَيْضًا، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِ وَعِقَابَ الْمُسِيءِ أَمْرٌ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ مُوَافِقٌ

لِلْحِكْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ كَمَا يَجِبُ لَهُ كُلُّ كَمَالٍ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ كُلُّ نَقْصٍ، فَقَامَ الْآخَرُونَ يُجَادِلُونَهُمْ عَلَى لَفْظِ " يَجِبُ عَلَيْهِ " وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: " يَجِبُ لَهُ " فَحَرَّفُوهَا، وَمَهْمَا قَالُوا فَالْمَقْصَدُ وَاحِدٌ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَكْثَرُ الْجَدَلِ الَّذِي أَهْلَكَ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقَهُمْ شِيَعًا وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُشَاحَةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَكِتَابُ اللهِ وَدِينُهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الْقُرْآنِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا فِي مَسْأَلَةِ الْجَزَاءِ يَفْقَهُ مَعَهُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ، فَلِكُلِّ عَمَلٍ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يَرْفَعُ نَفْسَهُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى عِلِّيِّينَ، أَوْ يَهْبِطُ بِهَا إِلَى سَافِلِينَ، وَلِذَلِكَ دَرَجَاتٌ وَمَثَاقِيلُ مُقَدَّرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يُحِيطُ بِدَقَائِقِهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَإِنْ تَكْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا أَقُولُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْقِصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَزِيدُ لِلْمُحْسِنِ فِي حَسَنَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الذَّرَّةُ الَّتِي عَمِلَهَا الْعَامِلُ سَيِّئَةً كَانَ جَزَاؤُهَا بِقَدْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا لَهُ اللهُ تَعَالَى عَشْرَةَ أَضْعَافٍ أَوْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (6: 160) ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (2: 245) ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ "، بِرَفْعِ حَسَنَةٍ أَيْ: وَإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: " يُضَعِّفْهَا " بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ، وَرَدُّوا قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ ضَاعَفَ يَقْتَضِي مِرَارًا كَثِيرَةً وَضَعَّفَ يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يَعْنِي أَنَّ فَضْلَهُ تَعَالَى أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ لِلْمُحْسِنِ حَسَنَتَهُ فَقَطْ بِأَلَّا يَكُونَ عَطَاؤُهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ هُوَ يَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُعْطِيهِمْ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ حَسَنَاتِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ عَطَاءً كَبِيرًا قَالُوا: إِنَّهُ سَمَّى هَذَا الْعَطَاءَ أَجْرًا، وَهُوَ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّجَوُّزِ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْعَظِيمَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِينَ، فَهُوَ عِلَاوَةٌ عَلَى أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْعِلَاوَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَا مَطْمَعَ فِيهَا لِلْمُسِيئِينَ الَّذِينَ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمُ الْمُفْرَدَةُ عَلَى حَسَنَاتِهِمُ الْمُضَاعَفَةِ، فَمَا قَوْلُكَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ طُمِسَتْ حَسَنَاتُهُمْ فِي ظُلْمَةِ شِرْكِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَرَاجِعْهُ فِي مَظَانِّهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ حَذْفُ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ فَإِنَّ أَصْلَهَا " تَكُنْ "

41

فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلتَّخْفِيفِ سَمَاعًا، وَعَلَّلُوهُ بِتَشْبِيهِهَا بِحُرُوفِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْغُنَّةِ وَالسُّكُونِ " وَلَدُنْ " بِمَعْنَى: عِنْدَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ " لَدُنْ " أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ " عِنْدَ " فَلَا يُقَالُ: لَدَيَّ مَالٌ إِلَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَيُقَالُ: عِنْدِي مَالٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا. فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعْطُوفَةً بِالْفَاءِ فَهُوَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَا يُضَيِّعُ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جَمَعَهُمُ اللهُ، وَجَاءَ بِالشُّهَدَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَلَهَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ! . هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا النَّاسُ وَبَكَى لَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ; إِذْ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ. هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَابَلَةِ عَقَائِدِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ. تُعْرَضُ أَعْمَالُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى نَبِيِّهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورِهَا، بِأَنَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَعَمِلَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْعَمَلِ بِهِ فَهُمُ النَّاجُونَ. إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ تَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ، وَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا شُرُورٌ أَوْ مَفَاسِدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، فَهَؤُلَاءِ يَتَبَرَّأُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ وَإِنِ ادَّعَوْا هُمُ اتِّبَاعَهُمْ وَالِانْتِمَاءَ إِلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهَادَةُ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ فَهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ شَهَادَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (2: 143) ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَكُونُ بِسِيرَتِهَا شَهِيدَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَحُجَّةً عَلَيْهَا فِي انْحِرَافِهَا عَنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْأَعْظَمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِسِيرَتِهِ الْعَالِيَةِ وَسُنَّتِهِ الْمُعْتَدِلَةِ حُجَّةً عَلَى الْمُفْرِطِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ مِنْ أُمَّتِهُ اتِّبَاعًا لِلْبِدَعِ الطَّارِئَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْمُحْدَثَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فَهُوَ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ

سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ، فَقَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَعْتَبِرُ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا وَهُمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا اعْتَبَرَ الشَّهِيدُ الْأَعْظَمُ فَيَبْكُونَ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا بَكَى، وَيَسْتَعِدُّونَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْبِدَعِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ، لِأَنْ يَكُونُوا كَأَصْحَابِهِ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدِهَا فِي الدِّينِ، وَلَا إِفْرَاطَ لَا فِي أُمُورِ الْجَسَدِ وَلَا فِي أُمُورِ الرُّوحِ، أَمْ يَظَلُّونَ سَادِرِينَ فِي غَلْوَائِهِمْ، مُقَلِّدِينَ لِآبَائِهِمْ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْكَافِرِينَ وَالْعَاصِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَى شَدَّتِهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ جَوَابُ فَكَيْفَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ. وَالْجَوَابُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ أَيْ يُحِبُّ وَيَتَمَنَّى الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ فَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَ بِهِ أَنْ يَصِيرُوا تُرَابًا تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فَيَكُونُوا وَإِيَّاهَا سَوَاءً كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (78: 4) ، وَقِيلَ: أَنْ يُدْفَنُوا وَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أَوْ تُسَوَّى عَلَيْهِمْ كَمَا تُسَوَّى عَلَى الْمَوْتَى عَادَةً، وَقِيلَ: يَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ فَيَدْفَعُوهَا فِدْيَةً، فَتَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ (5: 36) ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (تَسَّوَّى) بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا تَتَسَوَّى فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ مَعَ الْإِمَالَةِ بِحَذْفِ تَاءٍ تَتَسَوَّى الثَّانِيَةِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا عَطْفٌ عَلَى يَوَدُّ أَيْ: لَا يَكْتُمُونَ شَيْئًا مِنْ خَبَرِ كُفْرِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَفْرٍ وَأَبَاطِيلَ وَبِدَعٍ وَتَقَالِيدَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا لَيْسَ خَبَرًا مُجَرَّدًا وَإِنَّمَا الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ يَمُوتُونَ أَوْ يَكُونُونَ تُرَابًا فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُونَ كَتَمُوا اللهَ تَعَالَى وَكَذَبُوا أَمَامَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْكَارِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (6: 22 - 24) ، فَهُمْ عِنْدَمَا يَكْذِبُونَ وَيُنْكِرُونَ شِرْكَهُمْ، إِمَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَيْسَ شِرْكًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِشْفَاعٌ وَتَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا مُكَابِرَةً وَتَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، عِنْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنْ شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْئًا ابْتَدَعُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ

43

بِقِيَاسِ رَبِّهِمْ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ وَأُمَرَائِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ عِقَابَ بَعْضِ الْمُسِيئِينَ بِشَفَاعَةِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِطَانَتِهِمْ وَيُقَرِّبُونَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّقْرِيبَ بِشَفَاعَتِهِمْ أَيْضًا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ تَمَنَّوْا لَوْ كَانُوا سُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ وَمَا افْتَرَوْا ذَلِكَ الْكَذِبَ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ فَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مُجَرَّدًا مَعْطُوفًا عَلَى يَوَدُّ قَالَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ فِي بَعْضِهَا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَكَتَمُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا وَمَا كَذَبُوا بِأَنْ يَكُونَ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقِيضَيْنِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَمِثْلُ هَذَا مُشَاهَدٌ فِي مُحَاكَمَةِ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُونَ ثُمَّ يُقِرُّونَ، وَيُكَذِّبُونَ ثُمَّ يُصَدِّقُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتْمَانِ هُنَا كِتْمَانُ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا كَكِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْبِشَارَاتِ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْكَلَامُ، وَذَهَبَ الْبَقَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الْمُحْدَثُ، أَوِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ بِهِ رُسُلُهُمْ، قَالَ: أَيْ شَيْئًا أَحْدَثُوهُ، بَلْ يَفْتَضِحُونَ بِسَيِّئِ أَخْبَارِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ جَمِيعَ أَوْزَارِهِمْ، جَزَاءً لِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ مِنْ آيَاتِهِ، وَمَا نَصَبَ لِلنَّاسِ مِنْ بَيِّنَاتِهِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا. قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: وَلَمَّا وَصَفَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ، وَالْأَهْوَالَ الَّذِي أَدَّتْ فِيهِ سَطْوَةُ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ إِلَى تَمَنِّي الْعَدَمِ، وَمَنَعَتْ فِيهِ قُوَّةُ يَدِ الْقَهْرِ وَالْجَبْرِ أَنْ يَكْتُمَ حَدِيثًا، وَتَضَمَّنَ وَصْفُهُ أَنَّهُ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ طَاهِرَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَفَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الدُّنْيَا فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَحَضْرَةِ الْقُدُسِ الْمُنَجِّي مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالَّذِي حَظَرَتْ مَعَانِي اللُّطْفِ

وَالْجَمَالِ فِيهِ الِالْتِفَاتَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِالطَّهَارَةِ فِي حَالِ التَّزَيُّنِ بِهِ عَنِ الْخَبَائِثِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى إِلَخْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ: إِنَّهُمْ لَمَّا نُهُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى نُهُوا عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقِيلَ: لَمَّا أُمِرُوا فِيمَا تَقَدَّمَ بِالْعِبَادَةِ أُمِرُوا هُنَا بِالْإِخْلَاصِ فِي رَأْسِ الْعِبَادَةِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِعِبَادَتِهِ وَتَرْكِ الشِّرْكِ بِهِ وَبِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَوَعَّدَ الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ سُوَرٍ أُخْرَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقِيَامِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَتَكَالِيفِهِ كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (2: 153) ، وَقَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (29: 45) ، وَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (7: 19 - 22) ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، لَا بِالصَّلَاةِ هَكَذَا مُطْلَقًا بَلْ بِإِقَامَتِهَا، وَإِنَّمَا إِقَامَتُهَا الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَنْ يَنْبَعِثَ الْمُؤْمِنُ إِلَيْهَا بِبَاعِثِ الشُّعُورِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ وَيُؤَدِّيهَا بِالْخُشُوعِ لَهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي ; وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهَا هَاهُنَا عَقِبَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْجَامِعَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْقُرْآنِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي حَالِ السُّكْرِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ الْخُشُوعُ وَالْحُضُورُ مَعَ اللهِ تَعَالَى بِمُنَاجَاتِهِ بِكِتَابِهِ، وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا لَا مَوْضِعُهَا وَهُوَ الْمَسَاجِدُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهَا دُونَ مُطْلَقِ الْإِتْيَانِ بِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَسْجِدِ؛ إِذِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الْعَمَلِ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَفِي التَّنْزِيلِ خَاصَّةً وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا (17: 32) ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ الْإِقَامَةُ، فَقَدْ سَنَّهَا اللهُ لَنَا لِإِعْدَادِنَا لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَرِّقِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ، بَلْ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمَحَالِّ ; إِذْ وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَى السَّكْرَانِ وَهُوَ لَا يَعِي الْخِطَابَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِ قَبْلَ السُّكْرِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهُ إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ إِلَى التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالِاحْتِيَاطِ وَاجْتِنَابِ السُّكْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، أَقُولُ: سَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لِتَحْرِيمِ السُّكْرِ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ يَتَّقِي أَنْ يَجِيءَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَكْرَانٌ، يَتْرُكُ الشُّرْبَ عَامَّةَ النَّهَارِ، وَأَوَّلَ اللَّيْلِ لِانْتِشَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَالْوَقْتُ الَّذِي يَبْقَى لِلسُّكْرِ فِي وَقْتِ النَّوْمِ مِنْ بَعْدِ الْعَشَاءِ إِلَى السَّحَرِ، فَيَقِلُّ الشُّرْبُ فِيهِ لِمُزَاحَمَتِهِ لِلنَّوْمِ الَّذِي

لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَمَّا أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الظَّهِيرَةِ، فَهُوَ وَقْتُ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ، وَيَقِلُّ أَنْ يَسْكَرَ فِيهِ غَيْرُ الْمُتْرَفِينَ الَّذِينَ لَا عَمَلَ لَهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ نُزُولِهَا يَشْرَبُونَ بَعْدَ الْعَشَاءِ فَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا وَقَدْ زَالَ السُّكْرُ، وَصَارُوا يَعْلَمُونَ مَا يَقُولُونَ قَالَ: (ثَانِيهَا) : أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ مُتَكَافِلُونَ مَأْمُورُونَ بِمَنْعِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوا السَّكْرَانَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَالْأَمْرُ عَلَى حَدِّ: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (4: 35) ، أَيْ عَلَى حَدِّ الْأَقْوَالِ إِذْ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ. (ثَالِثُهَا) : أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْغُوَاةُ لَا يُنَافِي فَهْمَ الْخِطَابِ، وَهُوَ النَّشْوَةُ وَالسُّرُورُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَفْهَمُ السَّكْرَانُ وَيَفْهَمُ وَيَصِحُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَضْبِطُ أَعْمَالَهُ وَأَفْكَارَهُ وَأَقْوَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فَأَمَّا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّكْرَانُ مِمَّا لَا يَقْصِدُ فَصَاحِبُهُ لَا يُخَاطَبُ فِيهِ، وَهُوَ مَا عَرَّفَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ السَّكْرَانَ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لِلنَّهْيِ يُفِيدُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يَقُولُهُ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ تِلَاوَةٍ وَذِكْرٍ وَاجِبٌ أَوْ شَرْطٌ، وَالْعِلْمُ بِهِ فَهْمُهُ ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَيْ إِلَى أَنْ يُحْسِنَهَا أَوْ يَعْجِزَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَوْضِعُهَا فَالْمُرَادُ تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ وَهِيَ بُيُوتُ اللهِ عَنِ اللَّغْوِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْدُرَ مِنَ السَّكْرَانِ. أَقُولُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: " صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا، وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتْ مِنَّا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَنَزَلَتْ "، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ: " أَنَّ إِمَامَ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا مَوَاضِعُهَا، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ سُكْرُ النُّعَاسِ وَغَلَبَةِ النَّوْمِ، وَلَعَلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ شَبَّهَ النُّعَاسَ بِالسُّكْرِ وَجَعَلَ حُكْمَهُ كَحُكْمِهِ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِهِ وَالْعِلَّةُ فِي قِيَاسِهِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ "، " وَحَتَّى " لِلْغَايَةِ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا

لِلتَّعْلِيلِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ كَحَتَّى فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لِفَهْمِ مَا يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنُبًا، عَطَفَ فِيهِ قَوْلَهُ: وَلَا جُنُبًا، عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَالْمَعْنَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا، فَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، حَالِيَّةٌ فَهِيَ فِي حَيِّزِ النَّصْبِ، وَفَرَّقَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، فَمَعْنَى جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا، أَنَّ الرُّكُوبَ كَانَ وَصْفًا لَهُ حَالَ الْمَجِيءِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَجِيءِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهِ، وَمَعْنَى جَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ أَنَّ الرُّكُوبَ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ غَيْرَ وَصْفٍ لِذِي الْحَالِ كَقَوْلِكَ: جَاءَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةً، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ مَضْمُونُهَا فِعْلَ ذِي الْحَالِ الَّذِي جُعِلَتْ قَيْدًا لَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْحَالُ الْمُفْرَدَةُ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مُقَارَنَةُ فِعْلِ ذِي الْحَالِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ، بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ ; لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِفِعْلِ ذِي الْحَالِ كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ، هَذَا وَإِنِّي لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ بَيَانًا لِنُكْتَةِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا، أَوْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَلَا وَأَنْتُمْ جُنُبٌ، أَوْ يَجْعَلِ الْأُولَى مُفْرَدَةً وَالثَّانِيَةَ جُمْلَةً؟ وَهَلْ يَقَعُ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا، أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ؟ كَلَّا إِنَّ النُّكْتَةَ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ كَانَتِ اللُّغَةُ مَلَكَةً لَهُ، وَقَدْ تَخْفَى عَمَّنْ تَكُونُ صِنَاعَةً عِنْدَهُ لَا يَفْهَمُ دَقَائِقَ نُكَتِهَا إِلَّا عِنْدَ تَذَكُّرِ الْقَوَاعِدِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا وَتُدَبِّرُهَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ الْمَلَكَةُ وَالصِّنَاعَةُ قَدْ يَفْهَمُ الْمُرَادَ فِي الْجُمْلَةِ وَيَغْفُلُ عَنْ إِيضَاحِهَا بِالْقَوَاعِدِ الصِّنَاعِيَّةِ، إِنَّ التَّعْبِيرَ بِجُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكَارَى يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ السُّكْرِ الَّذِي يُخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُفْضِيَ إِلَى أَدَائِهَا فِي أَثْنَائِهِ، فَالْمَعْنَى: احْذَرُوا أَنْ يَكُونَ السُّكْرُ وَصْفًا لَكُمْ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى، فَامْتِثَالُ هَذَا النَّهْيِ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ السُّكْرِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ وَفِيمَا يَقْرُبُ مِنْ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: لَا تُصَلُّوا حَالَ كَوْنِكُمْ سُكَارَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرِدُ لَوْ قَالَ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى أَوْ يُقَالُ فِي دَفْعِهِ هَذَا، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ فِي مَعْنَى هَذَا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عَلَى اجْتِنَابِ السُّكْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَأَمَّا نَهْيُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ جُنُبًا فَلَا يَتَضَمَّنُ نَهْيَهُمْ عَنِ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: وَأَنْتُمْ جُنُبٌ، فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ

دِقَّةِ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهَا، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِاخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ ; فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يُرِيدُ صَرْفَ النَّاسِ عَنِ السُّكْرِ، وَتَرْبِيَتَهُمْ عَلَى تَرْكِهِ بِالتَّدْرِيجِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ وَالضَّرَرِ، وَلَا يُرِيدُ صَرْفَهُمْ عَنِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا حَتَّى يَغْتَسِلُوا، فَهَذَا النَّهْيُ تَمْهِيدٌ لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَوْنِهَا شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ النَّهْيُ تَمْهِيدٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَلْبَتَّةَ فِي سِيَاقِ إِيجَابِ الْفَهْمِ، وَالتَّدَبُّرِ لِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالتِّلَاوَةِ. وَالْجُنُبُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ـ يَعْنِي مِنْ قُرَّاءِ الْعَرَبِيَّةِ ـ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ الْآنَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا هِيَ صِيغَتُهُ وَمَا مَعْنَى أَصْلِ مَادَّتِهِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا اللَّفْظَ اسْتِعْمَالَ الْمَصَادِرِ فِي الْوَصْفِيَّةِ، فَقَالُوا: هُوَ جُنُبٌ وَهِيَ جُنُبٌ، وَهُمْ جُنُبٌ وَهُمْ جُنُبٌ، وَثَنَّاهُ وَجَمَعَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: جُنُبَانِ وَأَجْنَابٌ وَجَنُوبٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُجَانَبَةِ بِمَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَقَدْ قَالُوا: جَانَبَهُ بِمَعْنَى سَارَ إِلَى جَنْبِهِ، وَمِنْهُ الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ لِرَفِيقِ السَّفَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَرْكَبُ بِجَانِبِ رَفِيقِهِ فِي الشُّقْدُفِ عَلَى الْبَعِيرِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْمُضَاجَعَةِ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْجَارَ الْجُنُبَ هُوَ مَنْ كَانَ بَيْتُهُ بِجَانِبِ بَيْتِكَ، وَفَاتَنِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَوْنَكُمْ عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ: مُجْتَازِي طَرِيقٍ، وَقِيلَ: إِنَّ إِلَّا هُنَا صِفَةٌ بِمَعْنَى غَيْرَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مَا اشْتَرَطَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لِذَلِكَ مِنْ تَعَذُّرِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا حَقِيقَتُهَا فَسَّرَ عَابِرَ السَّبِيلِ هُنَا بِالْمُسَافِرِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ مَوَاضِعُهَا ـ أَيِ الْمَسَاجِدُ ـ فُسِّرَ بِالْمُجْتَازِ لِحَاجَةٍ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وَغَيْرُهُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْمُكْثِ فِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا حَقِيقَتُهَا وَمَكَانُهَا مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْعُبُورِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَإِنِّي لَأَسْتَبْعِدُ التَّعْبِيرَ عَنِ السَّفَرِ بِعُبُورِ السَّبِيلِ، وَالسَّفَرُ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ بِلَفْظِ السَّفَرِ، فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْعُبُورِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَهُوَ بِالْمُرُورِ بِالْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهُ مَنْ قَرُبَ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا الْمَكَانُ وَحْدَهُ، أَمِ الْمَكَانُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا أَمِ الْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا ; لِأَنَّ الْمُكْثَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ، فَالْمَنْعُ مِنْهُ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَانَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ وَمَنَافِذُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَكَانُوا يَعْبُرُونَ مِنْهُ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ يُقِيمُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فَهِمُوا مِنْهَا

وَلَا بُدَّ أَنَّ إِقَامَةَ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ تُعَدُّ مِنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَثْنَ عَابِرِي السَّبِيلِ لَكَانَ عَلَى أُولَئِكَ الْجِيرَانِ حَرَجٌ فِي إِلْزَامِهِمْ أَلَّا يَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ إِذَا كَانُوا جُنُبًا، وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَى إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ الشَّرِيفِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى خَوْخَةَ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ (أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَالْخَوْخَةُ: الْكُوَّةُ وَالْبَابُ الصَّغِيرُ مُطْلَقًا، أَوْ مَا كَانَ فِي الْبَابِ الْكَبِيرِ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ. حَتَّى تَغْتَسِلُوا أَيْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَلَا بِالْمُكْثِ فِي مَكَانِهَا إِلَى أَنْ تَغْتَسِلُوا إِلَّا مَا رُخِّصَ لَكُمْ فِيهِ مِنْ عُبُورِ السَّبِيلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَحِكْمَةُ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالطَّهَارَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ فَوَائِدُ صِحِّيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ سَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِالتَّفْصِيلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَالِاغْتِسَالُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْجَنَابَةِ أَنْ تُحْدِثَ تَهَيُّجًا فِي الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَيَتَأَثَّرَ بِهَا الْبَدَنُ كُلُّهُ وَيَعْقُبُهَا فُتُورٌ، وَضَعْفٌ فِيهِ يُزِيلُهُ الْمَاءُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ جَهِلَ هَذَا مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ لَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنَابَةِ إِلَّا غَسْلَ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ، فَأَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ الْجُنُبِ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ فِي صِلَاتِهِ النَّظَافَةَ وَالنَّشَاطَ، كَمَا أَوْجَبَ فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ السَّكْرَانِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ وَتَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرَ، وَيَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ. وَلَمَّا كَانَ الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ يَتَعَسَّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَيَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِهَا وَمِثْلُهُ الْوُضُوءُ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ عِبَادَةً مَحْتُومَةً وَفَرِيضَةً مَوْقُوتَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا ; لِأَنَّهَا بِتَكْرَارِهَا تُذَكِّرُ الْمَرْءَ إِذَا نَسِيَ مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى فَتَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى، بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ، وَالشَّأْنُ فِيهِمَا تَعَسُّرُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَاءُ ضَارًّا بِالْمَرِيضِ كَبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْجِلْدِيَّةِ وَالْقُرُوحِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً أَيْ: أَوْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَهُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ـ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ ـ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ كِنَايَةً كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي النَّزَاهَةِ بِالْكِنَايَةِ عَمَّا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَالْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ كَالْوَادِي، وَأَهْلُ الْبَوَادِي وَالْقُرَى الصَّغِيرَةِ يَقْصِدُونَ بِحَاجَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِأَجْلِ السَّتْرِ، وَالِاسْتِخْفَاءِ عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ صَارَ لَفْظُ الْغَائِطِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الْحَدَثِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُكَنَّى عَنِ الْحَدِيثِ فِي الْمُدُنِ الْآهِلَةِ

الَّتِي تُتَّخَذُ فِيهَا الْكُنُفُ بِكِنَايَاتٍ أُخْرَى، وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ: كِنَايَةٌ عَنْ غِشْيَانِهِنَّ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِنَّ، وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ بِالْيَدِ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَحَقِيقَتُهَا إِصَابَةُ الْبَشَرَةِ لِلْبَشَرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " أَوْ لَمَسْتُمُ " وَلَا تُنَافِي قِرَاءَتُهُمَا ذَلِكَ التَّجَوُّزَ الْمَشْهُورَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ بَشَرَةِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمَحَارِمَ مِنْهُنَّ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أَيْ: فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ: الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَفَقْدُ الْمَاءِ عَقِبَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ تَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، أَيِ اقْصِدُوا وَتَحَرَّوْا مَكَانًا مَا مِنْ صَعِيدِ الْأَرْضِ، أَيْ: وَجْهِهَا طَيِّبًا، أَيْ طَاهِرًا لَا قَذَرَ فِيهِ وَلَا وَسَخَ، فَامْسَحُوا هُنَاكَ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، تَمْثِيلًا لِمُعْظَمِ عَمَلِ الْوُضُوءِ فَصَلُّوا، فَقَيْدُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً لِلْجَائِي مِنَ الْغَائِطِ وَمُلَامِسِ النِّسَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَيْدَ بَعْدَ الْجُمَلِ لِلْأَخِيرَةِ، وَمَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ، وَالْمَانِعُ هُنَا: أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِاشْتِرَاطِ فَقْدِ الْمَاءِ لِتَيَمُّمِ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ دُونَ الصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ كَحُكْمِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ، أَوْ مُلَامِسِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَعَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ التَّيَمُّمُ فَقَطْ، هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ مِنَ الْآيَةِ نَفْسِهَا إِذَا لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسَهُ حَمْلَهَا عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ وَرَاءِ الْقُرْآنِ يَجْعَلُهَا بِالتَّكَلُّفِ حُجَّةً لَهُ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ طَالَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا غَنَاءً، وَلَا رَأَيْتُ قَوْلًا فِيهَا يَسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمُصْحَفِ وَحْدَهُ فَوَجَدْتُ الْمَعْنَى وَاضِحًا جَلِيًّا، فَالْقُرْآنُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ وَأَظْهَرُهُ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ ـ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبَهَا ـ إِلَى تَكَلُّفَاتِ فَنُونِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ اللُّغَةِ عِنْدَ حَافِظِي أَحْكَامِهَا مِنَ الْكُتُبِ مَعَ عَدَمِ تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ ـ إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَةَ مُشْكِلَةً ; لِأَنَّهَا لَمْ تَنْطَبِقْ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ انْطِبَاقًا ظَاهِرًا سَالِمًا مِنَ الرَّكَاكَةِ وَضَعْفِ التَّأْلِيفِ، وَالتَّكْرَارِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا أَعْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ، وَإِذَا كَانَ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ رَاجَعَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ فِيهَا قَوْلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، فَأَنَا لَمْ أُرَاجِعْ عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِهَا إِلَّا رُوحَ الْمَعَانِي وَهُوَ آخِرُ التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ تَأْلِيفًا، وَصَاحِبُهُ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ فَإِذَا بِهِ يَقُولُ: " الْآيَةُ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْقُرْآنِ "، وَوَاللهِ إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُعْضِلَةً وَلَا مُشْكِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مُعْضِلَاتٌ إِلَّا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ بِالرِّوَايَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَعِنْدَ مَنِ اتَّخَذُوا الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ بَعْدَ الْقُرْآنِ أُصُولًا لِلدِّينِ يَعْرِضُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا عَرْضًا، فَإِذَا وَافَقَهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ أَوْ بِتَكَلُّفٍ قَلِيلٍ فَرِحُوا وَإِلَّا عَدُّوهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالْمُعْضِلَاتِ ; عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْقَطْعِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ عَمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الدِّينِ، وَأَنَّ حُكْمَ اللهِ يُلْتَمَسُ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ يُؤْخَذُ، وَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى مَأْخَذٍ آخَرَ،

وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْتُمِسَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، عَلَى هَذَا أَقَرَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ ; وَبِهَذَا كَانَ يَتَوَاصَى الْخُلَفَاءُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ رَأَى الْقَارِئُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. سَيَقُولُ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ: نَعَمْ إِنَّ الْآيَةَ وَاضِحَةُ الْمَعْنَى كَامِلَةُ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْتُمْ، وَلَكِنَّهَا تَقْتَضِي عَلَيْهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى مَعْنَاهَا هَذَا عَلَى أُولَئِكَ الْفُقَهَاءِ الْمُحَقِّقِينَ وَيُعْقَلُ أَنْ يُخَالِفُوهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لِظَاهِرِهَا أَرْجَعُوهَا إِلَيْهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ ـ وَإِنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ لَا يُحَاجُّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ ـ وَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغُ الْكَلَامِ وَأَسْلَمُهُ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالضَّعْفِ مُعْضِلًا مُشْكِلًا؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ: آلطَّعْنُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ تَجْوِيزُ الْخَطَأِ عَلَى الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ الْمُلْتَئِمُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ الَّتِي مِنْهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ وَجَمْعُهَا وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَهَلْ يُسْتَنْكَرُ مَعَ هَذَا أَنْ يُرَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَهُمَا دُونَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي نَظَرِ الدِّينِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْمُجَرَّبِ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ يَشُقَّانِ عَلَى الْمُسَافِرِ الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي سَهُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ السَّفَرِ فِي قِطَارَاتِ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ وَالْبَوَاخِرِ؟ أَفَلَا يَتَصَوَّرُ الْمُنْصِفُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِمَا أَشَدُّ عَلَى الْمُسَافِرِينَ عَلَى ظُهُورِ الْإِبِلِ فِي مَفَاوِزِ الْحِجَازِ وَجِبَالِهَا؟ هَلْ يَقُولُ مُنْصِفٌ: إِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ أَسْهَلُ مِنَ الْغُسْلِ أَوِ الْوُضُوءِ فِيهِ؟ السَّفَرُ مَظَنَّةُ الْمَشَقَّةِ يَشُقُّ فِيهِ غَالِبًا كُلُّ مَا يُؤْتَى فِي الْحَضَرِ بِسُهُولَةٍ، وَأَشَقُّ مَا يَشُقُّ فِيهِ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ حَاضِرًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا هَذِهِ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، فَإِنَّ الْمَاءَ فِيهَا كَثِيرٌ دَائِمًا وَفِي كُلِّ بَاخِرَةٍ مِنْهَا حَمَّامَاتٌ، أَيْ: بُيُوتٌ مَخْصُوصَةٌ لِلِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ السَّخِنِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَلَكِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يُصِيبُهُ دُوَارٌ شَدِيدٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعَهُ الِاغْتِسَالُ أَوْ خَفِيفٌ يَشُقُّ مَعَهُ الِاغْتِسَالُ وَلَا يَتَعَذَّرُ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السُّفُنُ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِحْمَامِ مَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي بَيْتِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَنَ التَّنْزِيلِ يَشُقُّ فِيهَا الِاغْتِسَالُ أَوْ يَتَعَذَّرُ، فَمَا قَوْلُكَ فِي الِاغْتِسَالِ فِي قِطَارَاتِ سِكَكِ الْحَدِيدِ أَوْ قَوَافِلِ الْجِمَالِ أَوِ الْبِغَالِ؟ أَلَا إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ غَفْلَةَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الرُّخْصَةِ الصَّرِيحَةِ فِي عِبَارَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الصِّيَامِ، وَأَظْهَرُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَاحْتِمَالُ رَبْطِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ بِعِيدٌ، بَلْ مَمْنُوعٌ أَلْبَتَّةَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي الْمَرْضَى؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ فَقْدِ الْمَاءِ فِي حَقِّهِمْ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصِحَّاءَ مِثْلُهُمْ فِيهِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمْ

لَغْوًا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَنَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْمُسَافِرِينَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُقِيمَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْلَا أَنَّ السَّفَرَ سَبَبٌ لِلرُّخْصَةِ كَالْمَرَضِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ ; وَلِذَلِكَ عَلَّلُوهُ بِمَا هُوَ ضَعِيفٌ مُتَكَلَّفٌ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ فَقْدِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ، أَوِ الْمُكْثِ مُدَّةً عَلَى غَيْرِ مَاءٍ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، رَوَوْا " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَسْفَارِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدِ انْقَطَعَ فِيهَا عِقْدٌ لِعَائِشَةَ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَالنَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَلَمَّا صَلَّوْا بِالتَّيَمُّمِ جَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى مَضْرِبِ عَائِشَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ " رَوَاهُ السِّتَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَرْحَمُكِ اللهُ تَعَالَى يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَهِيَ مِنْ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ لَا حُكْمَ لَهَا فِي تَغْيِيرِ مَدْلُولِ الْآيَةِ، وَلَا تُنَافِي جَعْلَ الرُّخْصَةِ أَوْسَعَ مِنَ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا شَمِلَتِ الْمَرْضَى، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَرْضَى شَقَّ عَلَيْهِمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْجَيْشِ كَانَ فَاقِدًا لِلْمَاءِ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَعَلَ التَّيَمُّمَ فِيهَا خَاصًّا بِفَاقِدِي الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ لِفَقْدِ الْمَاءِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ بِالْمَعْنَى، وَهِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ مُجْمَلَةٍ لَا تَنْهَضُ دَلِيلًا، وَمَفْهُومُهَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا سِيَّمَا فِي مُعَارَضَةِ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَإِنَّنَا نَرَى رُخْصَةَ قَصْرِ الصَّلَاةِ قَدْ قُيِّدَتْ بِالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةِ الْكَافِرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَرَى هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا فِيهَا بِمَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، أَفَلَا يَكُونُ مَا هُنَا أَوْلَى بِأَلَّا يُشْتَرَطَ فِيهِ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ وَرُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ نَالَتْهُمْ جِرَاحَةٌ وَابْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَزَلَتْ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنِ اغْتَسَلَ فِي السَّفَرِ بِمَشَقَّةٍ وَسَيَأْتِي. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ بِلَا شَرْطٍ، وَلَا قَيْدٍ بَطَلَتْ كُلُّ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي تَوَسَّعُوا فِي بِنَائِهَا عَلَى اشْتِرَاطِ فَقْدِ الْمَاءِ، وَمِنْهَا مَا قَالُوهُ مِنْ وُجُوبِ طَلَبِهِ فِي السَّفَرِ، وَمَا وَضَعُوهُ لِذَلِكَ مِنَ الْحُدُودِ كَحَدِّ الْقُرْبِ وَحَدِّ الْغَوْثِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي عِنْدَمَا كُنْتُ أَدْرُسُ شَرْحَ الْمِنْهَاجِ فِي فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ قَرَأْتُ بَابَ التَّيَمُّمِ فِي شَهْرَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ أَتْرُكِ الدَّرْسَ فِيهِمَا لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَهَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ أَحَدَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَتَيْنِ؟ وَهَلْ كَانَ هَذَا التَّوَسُّعُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ وَالْحُدُودِ سَعَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمْ عُسْرًا وَحَرَجًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا رَفَعَهُ اللهُ عَنْهُمْ؟ . إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا الْعَفُوُّ ذُو الْعَفْوِ الْعَظِيمِ، وَيُطْلَقُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ

وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ: خُذِ الْعَفْوَ (7: 199) ، وَفِي الْحَدِيثِ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صُدْفَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، أَيْ: أَسْقَطْتُهَا تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ، وَمِنْ عَفْوِهِ تَعَالَى أَنْ أَسْقَطَ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ مَحْوُ الشَّيْءِ يُقَالُ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَيُقَالُ: عَفَا الْأَثَرُ (لَازِمٌ) أَيْ: أُمْحِيَ، وَمِنْهُ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ عَفَا عَنْهُ، وَعَفَا لَهُ ذَنْبَهُ، وَعَفَا عَنْ ذَنْبِهِ، أَيْ: مَحَاهُ، فَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ عِقَابًا، فَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ ; لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الْغَفْرِ، وَهُوَ السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ بِعَدَمِ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي بَقَاءَ أَثَرٍ خَفَيٍّ لَهُ، وَمَعْنَى الْعَفْوِ ذَهَابُ الْأَثَرِ، فَالْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ جَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِأَلَّا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ لَا ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ، فَهَذَا التَّذْيِيلُ لِلْآيَةِ مُبَيِّنٌ مَنْشَأَ الرُّخْصَةِ وَالْيُسْرِ الَّذِي فِيهَا، وَهُوَ عَفْوُ اللهِ تَعَالَى، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْخَطَأِ فِي صَلَاةِ السُّكَارَى كَقَوْلِهِمْ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَخْتِمُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَسَائِلَ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ لَا بُدَّ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى التَّيَمُّمِ اللُّغَوِيُّ وَالشَّرْعِيُّ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، قَالَ الْأَعْشَى: تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْعَمَلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ ضَرْبُ الْيَدَيْنِ بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِهِمَا، وَصَارُوا يَقُولُونَ: تَيَمَّمَ بِالتُّرَابِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَقَالَ: تَيَمَّمْتُكُمْ لَمَّا فَقَدْتُ أُولِي النُّهَى ... وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ بِالتُّرْبِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ـ مَحَلُّ التَّيَمُّمِ: نَصُّ الْآيَةِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَلَكِنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى مَا تُزَاوَلُ بِهِ الْأَعْمَالُ مِنَ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ وَحَدُّهَا الرُّسْغُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْمَفْصِلُ الَّذِي يَرْبُطُ الْكَفَّ بِالسَّاعِدِ وَهِيَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذِّرَاعِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمِرْفَقِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ إِلَى الْإِبِطِ وَالْكَتِفِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ فَنَقُولُ: جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا "، وَضَرَبَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ ـ وَسَيَأْتِي نَصُّهُ وَسَبَبُهُ وَمَا قِيلَ فِيهِ ـ وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ تَنْفُخَ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ إِلَى الرُّسْغَيْنِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. أَقُولُ:

وَعَلَيْهِ الشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ أَيْضًا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ لَهُ بِإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي آيَةِ السَّرِقَةِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْكَفَّانِ، وَرَدَّ الْحَافِظُ مَا أَوَّلَهُ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ: إِنَّ الْمَسْحَ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، وَبِهَا أَخَذَ الزُّهْرِيُّ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهَا، وَلَفْظُ حَدِيثِ عَمَّارٍ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى " أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ وَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ لَهُ: لَا تُصَلِّ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَصَابَتْنَا جَنَابَةٌ فَلَمْ نَجِدِ الْمَاءَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ "، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللهَ يَا عَمَّارُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ، فَقَالَ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ ": أَيْ: بَلْ نَكِلُكَ إِلَى مَا قُلْتَ وَنَرُدُّ إِلَيْكَ مَا وَلَّيْتَهُ نَفْسَكَ، وَذَلِكَ إِذْنٌ لَهُ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِفْتَاءِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ الَّذِي لَا حُجَّةَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَهُ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: " قَوْلُهُ: بَابُ التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، أَيْ: هُوَ الْوَاجِبُ الْمُجْزِئُ، وَأَتَى بِذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مَعَ شُهْرَةِ الْخِلَافِ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَعَمَّارٍ، وَمَا عَدَاهُمَا فَضَعِيفٌ أَوْ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ رَفْعِهِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جَهْمٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي السُّنَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ وَكَذَا نِصْفُ الذِّرَاعِ فَفِيهَا مَقَالٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكُلُّ تَيَمُّمٍ صَحَّ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ، وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ، انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَةِ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِضَرْبَةٍ

وَاحِدَةٍ فَهِيَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: قَوْلُهُ: " ظَهْرُ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرُ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ "، كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: " ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى الْكَفَّيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ " وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ، وَفِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي التَّيَمُّمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ فَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " ثُمَّ " وَفِي سِيَاقِهِ اخْتِصَارٌ، وَلِمُسْلِمٍ بِالْوَاوِ وَلَفْظُهُ: " ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ " وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قُلْتُ: وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْجَمَّالِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ، وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ "، اهـ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا هُوَ الصَّعِيدُ؟ : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالصَّعِيدُ التُّرَابُ أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ: الصَّعِيدُ تُرَابُ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ أَيْضًا: وَيُقَالُ: الصَّعِيدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وُجُوهٍ عَلَى التُّرَابِ الَّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ، أَقُولُ: وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ يَدَيْهِ عَلَى أَيِّ مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَمْسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الرِّوَايَاتِ بِتَيَمُّمِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ جِدَارٍ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْجَهْمِ، وَبِالْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ تَرَاهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: التُّرَابُ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ " وَجُعِلَ التُّرَابُ لَنَا طَهُورًا " وَجَعَلُوا لِلتُّرَابِ مَعْنًى مَقْصُودًا كَمَا سَتَعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لَفْظَ التُّرْبَةِ وَالتُّرَابِ لَا يُؤْخَذُ بِمَفْهُومِهِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، فَهُوَ لَا يُخَصِّصُ الْمَنْطُوقَ وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ اثْنَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَاحِدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ; عَلَى أَنَّ التُّرَابَ هُوَ الْأَعَمُّ الْأَكْثَرُ مِنْ صَعِيدِ الْأَرْضِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَجَاءَتْ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ الْأَرْضِ، كَحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيِّ: وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً وَطَهُورًا

وَمَسْجِدًا وَاسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ قَالَ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (5: 6) ، إِنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَارَضَهُمُ الْآخَرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَيَمُّمِ النَّبِيِّ مِنَ الْجِدَارِ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ: " أَنَّهُ حَكَّهُ بِالْعَصَا، ثُمَّ مَسَحَ مِنْهُ " وَفِيهَا مَقَالٌ عَلَى أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ لَيْسَ خَاصًّا بِالتُّرَابِ، فَأَكْثَرُ مَوَادِّ الْأَرْضِ يَنْفَصِلُ مِنْهَا شَيْءٌ إِذَا دِيسَتْ، أَوْ سُحِقَتْ، وَمِنَ التُّرَابِ اللَّزِجِ الَّذِي يَيْبَسُ فَلَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِضَرْبِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُدَاسَ كَثِيرًا أَوْ يُدَقَّ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ " مِنْ " فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ مَا هُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَغْلَبُ، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ قَيْدًا لَا بُدَّ مِنْهُ لَذُكِرَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِإِطْلَاقِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ التَّيَمُّمِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ فِيهِ عُسْرٌ يُنَافِي الرُّخْصَةَ وَنَفْيَ الْحَرَجِ الَّذِي عُلِّلَتْ بِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَجِدَ التُّرَابَ الطَّاهِرَ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنْهُ الْغُبَارُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; وَلِهَذَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ يَحْمِلُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ أَكْيَاسًا فِيهَا تُرَابٌ نَاعِمٌ يَتَيَمَّمُونَ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرُ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَثَلًا، وَمَا كَانَ يُوجَدُ التُّرَابُ إِلَّا فِي بَعْضِ طَرِيقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ مَقْصُودًا لَمَا نَفَضَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَفَّيْهِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ بِهِمَا الْأَرْضَ كَمَا فِي رِوَايَةِ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَلَمَا أَمَرَ بِنَفْخِهِمَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى لَهُ، وَهَلْ يَبْقَى بَعْدَ النَّفْضِ وَالنَّفْخِ مَا يَكْفِي لِإِصَابَةِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنَ الضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ؟ فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ التُّرَابِ أَوِ الْغُبَارِ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَيَضْرِبُ الْمُتَيَمِّمُ بِيَدَيْهِ أَيَّ مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ حَيْثُ كَانَ وَيَمْسَحُ، فَإِنْ وَجَدَ مَكَانًا فِيهِ غُبَارٌ وَاخْتَارَهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ فَذَاكَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُضَ يَدَيْهِ أَوْ يَنْفُخَهُمَا مِنَ الْغُبَارِ، وَلَا يُعَفِّرَ وَجْهَهُ بِهِ، وَإِنْ عَدَّ بَعْضُهُمُ التَّعْفِيرَ مِنْ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ تُخَالِفُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ـ التَّيَمُّمُ عَنِ الْحَدَثَيْنِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ، الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ: تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي اعْتَزَلَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِلْجَنَابَةِ وَفَقْدِ الْمَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمَسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ وَفِيهَا رِوَايَةُ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ، وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَرَأَيْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ

شَهْرًا كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: لَا يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (5: 6) ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَأَوْشَكَ إِذَا بَرُدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيدِ، قَالَ: إِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ بِالصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، وَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ وَشِمَالَهُ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَوَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ أَقُولُ: بَلْ قَنِعَ عُمَرُ بُقُولِ عَمَّارٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّوَسُّعَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ، وَكَانَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللهِ يَرَيَانِ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْوُضُوءِ دُونَ الْجَنَابَةِ، وَيَرَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ مَسُّ الْبَشَرَةِ، وَأَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَا عَنْ قَوْلِهِمَا هَذَا، وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمَا إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ، وَأَنَّ كَيْفِيَّتَهُ لَهُمَا وَاحِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي كَوْنِ الْمُتَيَمِّمِ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ: وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْقَطَ عَنْهُ شَرْطَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: " خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ "، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: " لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ". الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الرِّوَايَةُ فِي تَيَمُّمِ الْمُسَافِرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ بِدُونِهِ تَفْسِيرُهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ يُخِلُّ بِبَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَمَلِيَّةً صَرِيحَةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ مَا نَصُّهُ: " وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: " كُنْتُ أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّحْلَةَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُرَحِّلَ نَاقَتَهُ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ

الْبَارِدِ فَأَمُوتَ، فَأَمَرْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي إِرْحَالِهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ سَمِعْتُ (لَعَلَّهُ أَدْرَكْتُ) رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ: يَا أَسْلَعُ، مَا لِي أَرَى رَحْلَتَكَ تَغَيَّرَتْ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقُرَّ عَلَى نَفْسِي فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْلَعِ قَالَ: " كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُرَحِّلُ لَهُ فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ: يَا أَسْلَعُ، قُمْ فَأَرْحِلْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً حَتَّى جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَسْلَعُ، فَتَيَمَّمْ ثُمَّ أَرَانِي الْأَسْلَعُ كَيْفَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ التَّيَمُّمَ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ فَدَلَّكَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ذِرَاعَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا " اهـ. وَحَدِيثُ الْأَسْلَعِ فِي التَّيَمُّمِ بِالضَّرْبَتَيْنِ فِي سَنَدِهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالرِّوَايَاتُ فِي التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ قَلِيلَةٌ، وَفِي أَكْثَرِهَا ذِكْرُ فَقْدِ الْمَاءِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْآيَةَ مُشْكِلَةً أَوْ مُعْضِلَةً عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ ; عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَوْ كُلَّهَا عَلَى كَوْنِهَا وَقَائِعَ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٌ بِالْمَعْنَى، وَمَنْ نَظَرَ فِي آيَةٍ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا فَهِمَهَا كَمَا فَهِمْنَاهَا، قَالَ السَّيِّدُ حَسَنٌ صِدِّيق خَانْ: قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِبَاطُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَقُّ أَنْ قَيْدَ عَدَمِ الْوُجُودِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، فَتَكُونُ الْأَعْذَارُ ثَلَاثَةً: السَّفَرَ، وَالْمَرَضَ، وَعَدَمَ الْوُجُودِ فِي الْحَضَرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَيْدَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَّصِلَةٍ كَانَ قَيْدًا لِآخِرِهَا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ قَيْدًا لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ هَاهُنَا مِنْ تَقْيِيدِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ بِعَدَمِ الْوُجُودِ لِلْمَاءِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُذْرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ كَالصَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَحَادِيثُ التَّيَمُّمِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً بِالْحَضَرِ، انْتَهَى مِنْ شَرْحِهِ لِلرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِي أَنْ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَحَدِ الْأَصْدِقَاءِ بَعْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَإِرْسَالِهِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَى مِصْرَ لِيُطْبَعَ فِيهَا، فَأَلْحَقْتُهُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ: الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ وَعَدَمُ تَرْكِ الطِّهَارَةِ بِالْمَاءِ إِلَّا لِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنَ النَّظَافَةِ وَحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالنَّشَاطِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ

آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّنِي لَمْ أَتَيَمَّمْ فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِي قَطُّ عَلَى أَنَّنِي وَجَدْتُ فِي بَعْضِهَا مَشَقَّةً مَا فِي الْوُضُوءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: التَّيَمُّمُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْبَرْدِ. الْجِرَاحُ مِنَ الْمَرَضِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ، فَهِيَ مَظِنَّةُ الضَّرَرِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوِ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَشَتْ فِيهِمُ الْجِرَاحُ وَأَصَابَتْهُمُ الْجَنَابَةُ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ قَالَ: " خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الزُّبَيْرُ بْنُ خِرْيَقٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى فِيهَا مَقَالٌ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (4: 29) ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ، إِنَّ ضَحِكَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبْلَغُ فِي إِقْرَارِ ذَلِكَ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ حُجَّةٌ، فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَاشْتَرَطَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ الْعَجْزَ عَنْ تَسْخِينِ الْمَاءِ، وَلَوْ بِالْأُجْرَةِ وَعَنْ شِرَاءِ الْمَاءِ السَّاخِنِ بِالثَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ وَفِي اسْتِبَاحَةِ عِدَّةِ صَلَوَاتٍ بِهِ: لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ الثَّلَاثَةُ وَالْعِتْرَةُ يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَلَا دَلِيلَ فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: " جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ "، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا " جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ عِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَلَا دَلِيلَ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّصِّ وَلَا نَصَّ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ هُوَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْمَنْقُوضَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: جَرَى جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ لَا حِكْمَةَ لَهُ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى ; وَذَلِكَ أَنَّ لِأَكْثَرِ الْعِبَادَاتِ مَنَافِعَ ظَاهِرِيَّةً لِفَاعِلِيهَا، وَمِنْهَا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، فَإِذَا هِيَ فُعِلَتْ لِأَجْلِ فَائِدَتِهَا الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا مَعَ ذَلِكَ الْإِذْعَانُ وَطَاعَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا وَلَا سِيَّمَا الطَّهَارَةُ، وَمَعْنَى النِّيَّةِ قَصْدُ الِامْتِثَالِ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعَمَلِ لَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ، فَالْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِلتَّيَمُّمِ هِيَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِتَمْثِيلِ بَعْضِ عَمَلِ الْوُضُوءِ لِيُشِيرَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَهُ مَا فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مِنَ النَّظَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ، فَالتَّيَمُّمُ رَمْزٌ لِمَا فِي الطِّهَارَةِ الْمَتْرُوكَةِ لِلضَّرُورَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي طَهَارَةِ النَّفْسِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الدِّينِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالَّتِي شَرَعَتْ طَهَارَةَ الْبَدَنِ؛ لِتَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهَا وَوَسِيلَةً لَهَا ; فَإِنَّ مَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَعِيشَ فِي الْأَوْسَاخِ وَالْأَقْذَارِ لَا يَكُونُ عَزِيزَ النَّفْسِ آبِيَ الضَّيْمِ كَمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (5: 6) . وَيْلِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ حِكْمَةٌ أُخْرَى عَالِيَةٌ، وَهِيَ مَا فِي تَمْثِيلِ عَمَلِ الطَّهَارَةِ بِالْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُحَافَظَةِ، فَمَنِ اعْتَادَ ذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَإِتْمَامُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ الْمُؤَقَّتِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ لِعُذْرٍ يُوشِكُ أَنْ يُتَهَاوَنَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَلْ لِمَحْضِ الْكَسَلِ ; فَمَلَكَةُ الْمُوَاظِبَةِ وَالْمُحَافِظَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ وَالنِّظَامِ، وَتَرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَاضِحًا جَلِيًّا فِي نِظَامِ الْجُنْدِيَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْجُنُودَ فِي مَأْمَنِهِمْ دَاخِلَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ يُقِيمُونَ الْخُفَرَاءَ عَلَيْهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ؛ لِكَيْلَا يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ أَيَّامَ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، كَذَلِكَ نَرَى الْعُمَّالَ فِي الْمَعَامِلِ وَالْبَوَاخِرِ يَتَعَاهَدُونَ الْآلَاتِ بِالْمَسْحِ وَالتَّنْظِيفِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الْخَدَمُ فِي الْقُصُورِ وَالدُّورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ النِّظَامَ فِي مَعِيشَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ بِالْكَنْسِ وَالْفَرْشِ وَالْأَثَاثَ بِالتَّنْفِيضِ وَالْمَسْحِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ وَسَخٌ وَلَا غُبَارٌ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَاهِدُ كُلُّهَا وَمَا فِيهَا نَظِيفًا دَائِمًا، وَمَا مِنْ مَكَانٍ تُتْرَكُ فِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَتُتَّبَعُ قَاعِدَةُ تَنْظِيفِ الشَّيْءِ عِنْدَ طُرُوءِ الْوَسَخِ أَوِ الْغُبَارِ عَلَيْهِ فَقَطْ، إِلَّا وَتَرَى الْوَسَخَ يُلِمُّ بِهِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ مَثَلًا بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِعَمَلٍ يُمَثِّلُ طَهَارَتَهَا، وَيُذَكِّرُ بِهَا تُضْعِفُ مَلَكَةَ الْمُوَاظِبَةِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَوْدُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ مُسْتَثْقَلًا، وَأَنَّ فِي التَّيَمُّمِ تَقْوِيَةً لِتِلْكَ الْمَلَكَةِ وَتَذْكِيرًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ إِمْكَانِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْهُ قَبْلُ مِنْ أُسْتَاذٍ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابٍ، وَلَعَلَّكَ

تَرَاهُ مَعْقُولًا مَقْبُولًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّنِي أَنْقُلُ لَكَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: (فَصْلٌ) : وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَابُ التَّيَمُّمِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ التُّرَابَ مُلَوَّثٌ لَا يُزِيلُ دَرَنًا وَلَا وَسَخًا وَلَا يُطَهِّرُ الْبَدَنَ، كَمَا لَا يُطَهِّرُ الثَّوْبَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُضْوَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّتِهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُضَادِّ لِلدِّينِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَخَلَقَنَا مِنَ التُّرَابِ، فَلَنَا مَادَّتَانِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ، فَجَعَلَ مِنْهُمَا نَشْأَتَنَا وَأَقْوَاتَنَا وَبِهِمَا تَطَهَّرْنَا وَتَعَبَّدْنَا، فَالتُّرَابُ أَصْلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ النَّاسُ، وَالْمَاءُ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمَا الْأَصْلُ فِي الطَّبَائِعِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا هَذَا الْعَالَمُ وَجُعِلَ قِوَامُهُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْلَ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَقْذَارِ هُوَ الْمَاءُ فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا فِي حَالِ الْعَدَمِ أَوِ الْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَانَ النَّقْلُ عَنْهُ إِلَى شَقِيقِهِ وَأَخِيهِ التُّرَابُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَوَّثَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنًا، ثُمَّ يُقَوِّي طَهَارَةَ الْبَاطِنِ فَيُزِيلُ دَنَسَ الظَّاهِرِ أَوْ يُخَفِّفُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ بَصَرٌ نَافِذٌ بِحَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَارْتِبَاطِ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ وَتَأَثُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَانْفِعَالِهِ عَنْهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي عُضْوَيْنِ فَفِي غَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ مَكْرُوهٌ فِي الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، وَالرِّجْلَانِ مَحَلُّ مُلَابَسَةِ التُّرَابِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَتْرِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِانْكِسَارِ مَا هُوَ أَحَبُّ فِي الْعِبَادَاتِ إِلَيْهِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْعَبْدِ ; وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُتَرِّبَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَأَلَّا يَقْصِدَ وِقَايَةَ وَجْهِهِ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ رَآهُ قَدْ سَجَدَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ وِقَايَةً، فَقَالَ: تَرِّبْ وَجْهَكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي تَتْرِيبِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَيْضًا فَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ وَسَقَطَ مِنَ الْعُضْوَيْنِ الْمَمْسُوحَيْنِ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُمْسَحَانِ فِي الْخُفِّ، وَالرَّأْسَ فِي الْعِمَامَةِ، فَلَمَّا خُفِّفَ عَنِ الْمَغْسُولَيْنِ بِالْمَسْحِ خُفِّفَ عَنِ الْمَمْسُوحَيْنِ بِالْعَفْوِ، إِذْ لَوْ مُسِحَا بِالتُّرَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَنْهُمَا، بَلْ كَانَ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ إِلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَعْدَلُ الْأُمُورِ وَأَكْمَلُهَا وَهُوَ الْمِيزَانُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا كَوْنُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ كَتَيَمُّمِ الْمُحْدِثِ، فَلَمَّا سَقَطَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ عَنِ الْمُحْدِثِ سَقَطَ مَسْحُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، إِذْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا يُنَاقِضُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ، وَيَدْخُلُ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اللهِ فِي شَبَهِ الْبَهَائِمِ إِذَا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ، فَالَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَا مَزِيدَ فِي الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اهـ.

وَقَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ، أَوْ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بِجَوَازِهِ بِالْحِجَارَةِ وَجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى النَّبَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ أَقُولُ: وَكَذَا الثَّلْجُ وَالْجَلِيدُ فِي رِوَايَةٍ مَا نَصُّهُ: " وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قُرْبُ التُّرَابِ مِنَ الرُّوحَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ عُكَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَهُوَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الزَّائِدَ الصَّاعِدَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِلْمَائِيَّةِ وَلَا لِلتُّرَابِيَّةِ، فَكَانَ ضَعِيفَ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ التُّرَابِ، وَسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لِبُعْدِ الْحَجَرِ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ وَرُوحَانِيَّتِهِ فَلَا يَكَادُ يُحْيِي الْعُضْوَ الْمَمْسُوحَ، وَلَوْ سُحِقَ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ أَمْثَالِنَا الَّتِي مَاتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَعَاصِي وَالْغَفَلَاتِ وَأَكْلِ الشَّهَوَاتِ، وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ: نِعْمَ مَا فَعَلَ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ بِهِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي الْخَطَايَا مِنْ أَمْثَالِنَا، فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ خَاصٌّ بِالْأَصَاغِرِ، وَوُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْحَجَرِ خَاصٌّ بِالْأَكَابِرِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ رَبَّهُمْ، لَكِنْ إِنْ تَيَمَّمُوا بِالتُّرَابِ زَادُوا رُوحَانِيَّةً وَانْتِعَاشًا. وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ: وَجْهُ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ كَوْنُهُ رَأَى أَنَّ أَصْلَ الْحَجَرِ مِنَ الْمَاءِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ انْتَهَى، إِلَى أَنْ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ: لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُتَوَرِّعِ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةٌ ضَعِيفَةٌ بِالنَّظَرِ لِلتُّرَابِ، ثُمَّ أَوْرَدَ آيَةَ التَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَالْحَدِيثَ الَّذِي بِمَعْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِي بَابِ الْحَجِّ: إِنَّ مَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُهُ الْمُوسَى عَلَيْهِ تَشْبِيهًا بِالْحَالِقِينَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا، فَمَنْ فَقَدَ التُّرَابَ الْمَعْهُودَ ضَرَبَ عَلَى الْحَجَرِ تَشْبِيهًا بِالضَّارِبِينَ بِالتُّرَابِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْمَعْرُوفُ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ، الْمُحَدِّثُ الدَّهْلَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ) مَا نَصُّهُ: لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي شَرَائِعِهِ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَهُ، وَكَانَ أَحَقَّ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ أَنْ يُسْقِطَ مَا فِيهِ حَرَجٌ إِلَى بَدَلٍ ; لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُهُمْ وَلَا تَخْتَلِفَ الْخَوَاطِرُ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِ مَا الْتَزَمُوهُ غَايَةَ الِالْتِزَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَأْلَفُوا تَرْكَ الطِّهَارَاتِ، أَسْقَطَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ نَزَلَ الْقَضَاءُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِإِقَامَةِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَحَصَلَ لَهُ وُجُودٌ تَشْبِيهِيٌّ أَنَّهُ طَهَارَةٌ مِنَ الطِّهَارَاتِ، وَهَذَا الْقَضَاءُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي تَمَيَّزَتْ بِهَا الْمِلَّةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ مِنْ سَائِرِ الْمِلَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: جُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ أَقُولُ: إِنَّمَا خَصَّ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْقَدُ، فَهِيَ أَحَقُّ مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَرَجُ؛ وَلِأَنَّهَا طَهُورٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْخُفِّ وَالسَّيْفِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَذَلُّلًا بِمَنْزِلَةِ تَعْفِيرِ الْوَجْهِ فِي التُّرَابِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ طَلَبَ الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَرَّقَ بَيْنَ بَدَلِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ

44

وَلَمْ يُشْرَعِ التَّمَرُّغُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّ يُجْعَلَ كَالْمُؤَثِّرِ بِالْخَاصِّيَّةِ دُونَ الْمِقْدَارِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ التَّمَرُّغَ فِيهِ بَعْضُ الْحَرَجِ فَلَا يَصْلُحُ رَافِعًا لِلْحَرَجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ: الْبَرْدُ الضَّارُّ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالسَّفَرُ لَيْسَ بِقَيْدٍ إِنَّمَا هُوَ صُورَةٌ لِعَدَمِ وُجْدَانِ الْمَاءِ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَسْحِ الرِّجْلِ بِالتُّرَابِ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ مَحَلُّ الْأَوْسَاخِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِمَا لَيْسَ حَاصِلًا لِيَحْصُلَ بِهِ التَّنَبُّهُ اهـ. أَقُولُ: أَحْسَنُ مَا أَوْرَدَهُ الشَّعْرَانِيُّ التَّنْظِيرُ بِمَسْأَلَةِ إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الدَّهْلَوِيُّ مَسْأَلَةُ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ بِالْبَدَلِ وَاتِّقَاءِ أَنْ يَأْلَفُوا تَرْكَ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي أَوْرَدْتُهُ أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهُ ; عَلَى أَنَّنِي مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَّرْتُ هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا وَكَتَبْتُهُ قَبْلَ الْآنِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَبَاطِنًا وَظَاهِرًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقُومَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ الرَّازِيُّ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ـ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ـ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَطَعَ هَاهُنَا بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَحْوَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَأَقَاصِيصَ الْمُتَقَدِّمِينَ ; لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا يُكِلُّ الطَّبْعَ وَيُكَدِّرُ الْخَاطِرَ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُنَشِّطُ الْخَاطِرَ وَيُقَوِّي الْقَرِيحَةَ اهـ، وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ الَّذِي اخْتَصَرَ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَحْوَالِهِمْ ; لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ هِزَّةً وَجِدَّةً اهـ.

أَقُولُ: غَلِطَ الْمُفَسِّرَانِ كِلَاهُمَا فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ الْكَلَامَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُمَا تَوَهَّمَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِهِمَا، وَمَا قَالَاهُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ صَحِيحٌ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْكَلَامُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى بَيَانِ حَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ مِنْ حَيْثُ أَخْذُهُمْ بِأَحْكَامِ دِينِهِمْ وَعَدَمُهُ ; لِيُذَكِّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هَيْمَنَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا هُمْ قَصَّرُوا يَأْخُذُهُمْ بِالْعِقَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ دِينِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُنْتَظَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا قُرِنَتْ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ أَثَرُهَا الْمُرَادُ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهَا فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، لَا فِي صُورَتِهَا فَقَطْ، وَلَكِنْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأُمَمِ أَنْ يَكْتَفِيَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الدِّينِ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَالرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي الْقَرَابِينِ وَأَحْكَامِ الطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُصْلِحِ لِلنُّفُوسِ كَمَا أَرَادَ اللهُ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَهَا رُسُومٌ ظَاهِرَةٌ كَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ: أَنَّ يُذَكِّرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا، وَكَوْنُ هَذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهَا مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنَالُوا بِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا بِهِ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَوَعْدِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهَا أَعَمُّ، وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ قَلْبِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى النَّظَرِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُعْطُوا نَصِيبًا أَيْ: حَظًّا وَطَائِفَةً مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ حَرَّمُوا هِدَايَتَهُ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا ضِدَّهَا فَهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنْفُسِهِمْ بَدَلًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ السَّبِيلَ أَيْ: طَرِيقَ الْحَقِّ الْقَوِيمَ كَمَا ضَلُّوا، فَهُمْ يَكِيدُونَ لَكُمْ لِيَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كِتَابَهُمْ كُلَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوهُ فِي زَمَنِ إِنْزَالِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَمَا حَفِظْنَا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبُوا مِنْهُ نُسَخًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَمَا فَعَلْنَا، حَتَّى إِذَا مَا فُقِدَ بَعْضُهَا قَامَ مَقَامَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، بَلْ كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ هِيَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَفُقِدَتْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [ص 129 وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ] ، وَفِيهِ بَحْثُ تَارِيخِ كِتَابَتِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَوْجُودِ الْآنَ مِنْهَا وَبَحْثُ كِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (5: 14) ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ

فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا هُنَا، يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا أَيْ حَظًّا، وَيَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا، فَالْكَلَامُ يُؤَيِّدُ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّعْبِيرُ: أُوتُوا الْكِتَابَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْجِنْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عِلْمُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالَ: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ بَلْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَزَادُوا عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، فَالتَّوْرَاةُ تَنْهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ وَأَكْلِ الرِّبَا مَثَلًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَزَادَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَا مِمَّا يَعْرِفُونَهُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَهُمْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي الدِّينِ، فَالْأَمْرُ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَدْ أَهْمَلُوا سَائِرَهَا، فَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ وَعَدَمِهِ يَذْكُرُ الْوَاقِعَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ إِذْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِبَعْضِهِ، وَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ يُنَادِيهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا إِلَخْ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ. هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هُنَا قُلْتُ: أَلَيْسَ التَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ إِشَارَةً أَوْ نَصًّا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ، بَلْ فَقَدُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَأَجَازَ مَا فَهِمْتُهُ وَأَقَرَّهُ وَكُنْتُ بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ قَبْلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي وَنِسْبَتِهَا إِلَى التَّوْرَاةِ، وَمَا هِيَ التَّوْرَاةُ، وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ. فَالَّذِي لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَكُونُ قِسْمَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: مَا أَضَاعُوهُ وَنَسُوهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا حَفِظُوا حُكْمَهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَضَاعُوهُ مِنَ الْكِتَابِ نَعْتُ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ هُوَ: بَذْلُ الْمَالِ لِتَأْيِيدِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ وَمُقَاوَمَتِهِ، فَقَالَ: كَانَ بَعْضُ عَوَامِّ الْيَهُودِ يُعْطُونَ أَحْبَارَهُمُ الْمَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أَيْ: وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِأَعْدَائِكُمْ، ذَوَاتِهِمْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ; وَأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَكِيدُونَ بِهَا لَكُمْ فِي الْخَفَاءِ وَمَا يَغْشَوْنَكُمْ بِهِ فِي الْجَهْرِ بِإِبْرَازِ الْخَدِيعَةِ فِي مَعْرِضِ النَّصِيحَةِ، وَإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لَكُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي نَصْرِكُمْ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا، لَكُمْ يَتَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِإِرْشَادِكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ وَفَوْزُكُمْ، وَيَنْصُرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ بِتَوْفِيقِكُمْ لِلْعَمَلِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَالتَّعَاوُنِ، وَالتَّنَاصُرِ، وَإِعْدَادِ جَمِيعِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِوِلَايَةِ غَيْرِهِ وَلَا تَطْلُبُوا النَّصْرَ إِلَّا مِنْهُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَهِدَايَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَهْلُ الْأَثَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ كَالْيَهُودِ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا أَبْلَغُ مِنْ كَفَى اللهُ وَلِيًّا، أَوْ كَفَى وِلَايَةُ اللهِ ; لِأَنَّ الْكِفَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُ.

46

قَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي الْحِجَازِ كَالْمُشْرِكِينَ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاوَمَةً لَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَنَا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ فَوْزُ الْمُسْلِمِينَ فِي فَتْحِ سُورِيَّةَ وَفِلَسْطِينَ، ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ لِيَسْلَمُوا بَعْدَهَا مَنْ ظُلْمِ النَّصَارَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَكَانُوا مَغْبُوطِينَ بِالْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ، وَقَدْ كَانُوا يُظْلَمُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، حَتَّى كَانَ مَا كَانَ ـ بِكَيْدِهِمْ وَسَعْيِهِمْ ـ مِنْ هَدْمِ صُرُوحِ اسْتِبْدَادِ الْبَابَوَاتِ وَالْمُلُوكِ الْمُسْتَعْبِدِينَ لَهُمْ فِي أُورُبَّا، وَإِدَالَةِ الْحُكُومَاتِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ حُكْمِ الْكَنِيسَةِ، فَظَلُّوا يُظْلَمُونَ فِي رُوسِيَّةَ وَإِسْبَانِيَّةَ؛ لِأَنَّ السُّلْطَةَ فِيهِمَا دِينِيَّةٌ، وَقَدْ كَادُوا وَلَا يَزَالُونَ يَكِيدُونَ لِهَدْمِ نُفُوذِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَمْلَكَتَيْنِ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَنُفُوذِ الْجَمْعِيَّةِ الْمَاسُونِيَّةِ كَمَا فَعَلُوا فِي فَرَنْسَا، وَإِنَّ لَهُمْ يَدًا فِيمَا كَانَ فِي رُوسِيَّةَ مِنَ الِانْقِلَابِ، وَفِيمَا تَتَمَخَّضُ بِهِ إِسْبَانِيَّةُ الْآنَ، فَهُمْ يُقَاوِمُونَ كُلَّ سُلْطَةٍ دِينِيَّةٍ تَقِفُ فِي وَجْهِهِمْ لِأَجْلِ تَكْوِينِ سُلْطَةٍ دِينِيَّةٍ لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ يَدٌ فِي الِانْقِلَابِ الْعُثْمَانِيِّ، لَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَظْلُومِينَ أَوْ مُضْطَهَدِينَ فِي الْمَمْلَكَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا آمَنَ النَّاسِ مِنَ الظُّلْمِ فِيهَا حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ إِلَيْهَا لَاجِئِينَ مِنْ ظُلْمِ رُوسِيَّةَ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَمْلِكُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ لِيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتِ الْحُكُومَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ تُعَارِضُهُمْ فِي امْتِلَاكِ الْأَرْضِ هُنَاكَ فَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِالْحِيلَةِ وَالرِّشْوَةِ، وَلَهُمْ مَطَامِعُ أُخْرَى مَالِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَهُمُ الْآنَ يُظْهِرُونَ الْمُسَاعَدَةَ لِلْحُكُومَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ الْجَدِيدَةِ لِتُسَاعِدَهُمْ عَلَى مَا يَبْتَغُونَ، فَإِذَا لَمْ تَتَنَبَّهِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ لِكَيْدِهِمْ، وَتُوَقِّفْ حُكُومَتَهَا عِنْدَ حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي مُسَاعَدَتِهِمْ، فَإِنَّ الْخَطَرَ مِنْ نُفُوذِهِمْ عَظِيمٌ وَقَرِيبٌ ; فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ اعْتَادُوا الرِّبَا الْفَاحِشَ فَلَا يَبْذُلُونَ دَانِقًا مِنَ الْمُسَاعَدَةِ إِلَّا لِيَنَالُوا مِثْقَالًا أَوْ قِنْطَارًا مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِذَا كَانُوا بِكَيْدِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَدْ جَعَلُوا الدَّوْلَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ كَكُرَةِ اللَّاعِبِ فِي أَيْدِيهِمْ فَأَزَالُوا مِنْهَا سُلْطَةَ الْكَنِيسَةِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى عُقُوقِهَا وَكَانَتْ تُدْعَى بِنْتَ الْكَنِيسَةِ الْبِكْرَ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الظُّلْمِ فِي الْجَزَائِرِ وَهِيَ الَّتِي تُفَاخِرُ الْأُمَمَ وَالدُّوَلَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، عَمِلُوا فِيهَا عَمَلُهُمْ، وَهِيَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالثَّرْوَةِ، وَالْقُوَّةِ، أَفَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْحُكُومَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى مَا نَعْلَمُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ؟ وَطَمَعُهُمْ فِيهَا أَشَدُّ وَخَطَرُهُ أَعْظَمُ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى كَافَّةً، فَإِذَا تَغَلَّبَ الْيَهُودُ فِيهِ لِيُقِيمُوا فِيهِ مُلْكَ إِسْرَائِيلَ وَيَجْعَلُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى (هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ) وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ مَعْبَدًا خَالِصًا لَهُمْ يُوشِكُ أَنْ تَشْتَعِلَ نِيرَانُ الْفِتَنِ وَيَقَعَ مَا نَتَوَقَّعُ مِنَ الْخَطَرِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَجْتَهِدَ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ فِي دَرْءِ ذَلِكَ، وَمُدَافِعَةِ سَيْلِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِي إِبَّانِ ضَعْفِهَا فَيَكُونَ قَاضِيًا عَلَى سُلْطَتِهَا وَنَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ. مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ هَذَا بَيَانٌ لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ

وَاتَّصَفُوا بِالضَّلَالَةِ وَالْإِضْلَالِ، وَقَوْلُهُ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ إِلَخْ جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِأَعْدَائِكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ نَصِيرًا أَيْ: يَنْصُرُكُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ أَيْ: فَمِنْهُمَا تَارَةٌ أَمُوتُ فِيهَا إِلَخْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَتَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ هُوَ: إِمَالَتُهُ وَتَنْحِيَتُهُ عَنْهَا كَأَنْ يُزِيلُوهُ بِالْمَرَّةِ أَوْ يَضَعُوهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِمَوَاضِعِهِ: مَعَانِيهِ؛ كَأَنْ يُفَسِّرُوهُ بِغَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: التَّحْرِيفُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : تَأْوِيلُ الْقَوْلِ بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مُجَاحَدَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، إِذْ أَوَّلُوا وَلَا يَزَالُونَ يُئَوِّلُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ كَمَا يُئَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْمَسِيحِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ. (ثَانِيهِمَا) : أَخْذُ كَلِمَةٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ وَوَضْعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا التَّشْوِيشِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ: خَلَطُوا فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مَا كُتِبَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُمْ بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّحْرِيفِ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَامِلَ عَلَى إِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَكَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عِنْدَ كِتَابَتِهِ كَأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُمْ قَرَاطِيسُ مُتَفَرِّقَةٌ، أَيْ بَعْدَ أَنْ فُقِدَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَرَادُوا أَنْ يُؤَلِّفُوا بَيْنَ الْمَوْجُودِ، فَجَاءَ فِيهِ ذَلِكَ الْخَلْطُ، وَهَذَا سَبَبُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرَارِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْعُلَمَاءُ تَحْرِيفَ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَفِي كِتَابِ ـ إِظْهَارِ الْحَقِّ ـ لِلشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ الْهِنْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مِائَةُ شَاهِدٍ عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَبْدِيلُ الْأَلْفَاظِ، وَزِيَادَتُهَا، وَنُقْصَانُهَا. فَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى الزِّيَادَةِ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ " 36: 31 وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا فِي الْأَرْضِ أَدْوَمُ قَبْلَ أَنْ مَلَكَ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ " وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ (شَاوُلُ) وَهُوَ بَعْدَ مُوسَى بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ وَنِصْفٍ، وَقَدْ قَالَ آدَمُ كِلَارَكْ أَحَدُ مُفَسِّرِي التَّوْرَاةِ: أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا قَرِيبًا مِنَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ [أَيْ مِنْ 32 - 39] ، كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَظَنَّ النَّاقِلُ أَنَّهَا جُزْءُ الْمَتْنِ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ.

وَمِنْهَا فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ " 3: 14 يَائِيرُ بْنُ مِنِسَّى أَخَذَ كُلَّ كَوْرَةِ أَرُجُوبَ إِلَى تَخَمِ الْجَشُورِيِّينَ وَالْمُعَكِيِّينَ وَدَعَاهَا عَلَى اسْمِهِ بَاشَانْ حَوَّوِثْ يَائِيرْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ " قَالَ هُورُونُ فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْفِقْرَةِ وَالْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ: " هَاتَانِ الْفِقْرَتَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِأَنَّ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُصَنِّفَ هَذَا الْكِتَابِ ـ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوِ التَّوْرَاةِ كُلِّهَا ـ وُجِدَ بَعْدَ زَمَانٍ قَامَتْ فِيهِ سَلْطَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْفِقْرَةُ الثَّانِيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُصَنِّفَهُ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ إِقَامَةِ الْيَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ " إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَمِنْهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْفِقْرَتَيْنِ ثِقَلٌ عَلَى الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا الثَّانِيَةُ. وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ عِزْرَا الْكَاتِبَ قَدْ زَادَ بَعْضَ الْعِبَارَاتِ فِي التَّوْرَاةِ، وَصَرَّحُوا فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ زَادَهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا كَتَبَهُ مُوسَى، وَكَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ الْبَابِلِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَ سَبْيِ الْبَابِلِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُنَالِكَ شَوَاهِدُ عَلَى تَحْرِيفِ سَائِرِ كُتُبِهِمْ تُرَاجَعُ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ لِبَيَانِ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا أَيْ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَلَكِنْ لَا نُطِيعُكَ، وَيَقُولُونَ لَهُ أَيْضًا: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ زَادَهُ اللهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا، وَمَعْنَاهُ: لَا سَمِعْتَ أَوْ لَا أَسْمَعَكَ اللهُ، وَهَذَا فِي مَكَانِ الدُّعَاءِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُتَأَدِّبِينَ لِلْمُخَاطَبِ: لَا سَمِعْتَ مَكْرُوهًا، أَوْ لَا سَمِعْتَ أَذًى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا تَقُولُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاسْمَعْ شَيْئًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَأَمَّا " رَاعِنَا " فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَسَابُّونَ بِكَلِمَةِ " رَاعِينَا " الْعِبْرَانِيَّةِ أَوِ السُّرْيَانِيَّةِ فَسَمِعُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: رَاعِنَا، مِنَ الْمُرَاعَاةِ أَوْ بِمَعْنَى أَرْعِنَا سَمْعَكَ فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلِمَةِ وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ فَيَجْعَلُونَهَا فِي الظَّاهِرِ رَاعِنَا وَبِلَيِّ اللِّسَانِ وَإِمَالَتِهِ " رَاعِينَا " يَنْوُونَ بِذَلِكَ الشَّتْمَ وَالسُّخْرِيَةَ، أَوْ جَعْلَهُ رَاعِيًا مِنْ رِعَاءِ الشَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّعَنِ وَالرُّعُونَةِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَاءُوا بِالْقَوْلِ الْمُحْتَمَلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ مَا صَرَّحُوا، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ (قُلْتُ) : جَمِيعُ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَدُعَاءِ السُّوءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَجُوزُ أَلَّا يَنْطِقُوا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا جَعَلُوا كَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ اهـ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا (2: 104) ، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمْ يَرْتَضِ مَا قَالُوهُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ سَبًّا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَاخْتَارَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنَ الْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ ـ نُهُوا عَنْهَا تَأْدِيبًا لَهُمْ، إِذْ لَا يَلِيقُ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:

ارْعَنَا نَرْعَكَ، كَمَا هُوَ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ، كَمَا نُهُوا أَنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ (قَالَ) : وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ، يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ، إِذَا رَاعَى مَعَهَا، فَكَانَ الْيَهُودُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سَبٌّ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى حَدِّ: " اقْتُلُونِي وَمَالِكًا "، وَمِنْ تَحْرِيفِ الْكَلَامِ وَلَيِّهِ فِي خِطَابِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحِيَّةِ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " يُوهِمُونَ بِفَتْلِ اللِّسَانِ وَجَمْجَمَتِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ كَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ بَعْدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَعَلَيْكُمْ " أَيْ كُلُّ أَحَدٍ يَمُوتُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ، أَيْ: لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَاسْمَعْ مَا نَقُولُ وَانْظُرْنَا أَيْ: أَمْهِلْنَا وَانْتَظِرْنَا وَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا، يُقَالُ: نَظَرُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ أَوِ انْظُرْ إِلَيْنَا نَظَرَ رِعَايَةٍ وَرِفْقٍ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَقْوَمَ، مِمَّا قَالُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ وَالْفَائِدَةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ. وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ، أَيْ: خَذَلَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الصَّوَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَيْ: مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ الْكُفْرُ صَاحِبَهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّوِيَّةِ وَالْأَدَبِ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيدًا لَا يُدْلِي إِلَى الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بِحَبْلٍ وَلَا سَبَبٍ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، إِذْ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ صَاحِبِهِ وَلَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يَرْقَى عَقْلُهُ، وَلَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ كَامِلًا لَكَانَ خَيْرَ هَادٍ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَنْ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يُبَيِّنُ مَا نَسُوا مِنْهُ وَمَا حَرَّفُوا فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بِإِصْلَاحٍ جَدِيدٍ فِي إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَجَاءَهُ زِيَادَةٌ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَغْبُوطًا بِهَا حَرِيصًا عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ـ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ مَهْمَا فَسَدَتْ لَا يَعُمُّ الْفَسَادُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا، بَلْ تَغْلِبُ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ عَلَى أُنَاسٍ يَكُونُونَ هُمُ السَّابِقِينَ إِلَى كُلِّ إِصْلَاحٍ جَدِيدٍ، هَكَذَا كَانَ، وَهَكَذَا يَكُونُ فَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا مِنْ قَبْلُ عَلَى دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْأَكْثَرِ، فَإِذَا عَمَّمَ الْحُكْمَ يَسْتَثْنِي وَهِيَ دِقَّةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا.

47

خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، فَذَاكَ نَعِيٌ عَلَيْهِمْ بِمَا أَضَاعُوا وَحَرَّفُوا، وَهَذَا إِلْزَامٌ بِمَا حَفِظُوا وَعَرَفُوا، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ أَيْ جِنْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوِ التَّوْرَاةَ خَاصَّةً آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْهُ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَاتِّقَاءِ الشِّرْكِ كُلِّهِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا يُغَذِّي ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ مِنْ تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، أَيْ: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصِدُ مِنْ إِرْسَالِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي طُرُقِ حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهِدَايَتِهِمْ بِهَا وَتَرْقِيَتِهِمْ فِي مَعَارِجِهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ بِالتَّدْرِيجِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَمَا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنْ جَمِيعِ الْحُكُومَاتِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الدُّوَلُ فِي الْقَوَانِينِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ وَلَا الصَّوَابِ أَنْ تُنْكِرَ الْأُمَّةُ تَغْيِيرَ حَاكِمٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُوَافِقُهُ فِي جَعْلِهِ مُقَرِّرًا لِلْعَدْلِ مُقِيمًا لِمِيزَانِهِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا كَانَ أَوْ أَكْمَلَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُسَمَّى مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ لَا مُكَذِّبًا وَلَا مُخَالِفًا، فَالْقُرْآنُ قَرَّرَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَوَبَّخَ الْأَقْوَامَ الْمُدَّعِينَ لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى إِضَاعَتِهِمْ لِبَعْضِ مَا جَاءُوا بِهِ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ، وَعَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِمَا هُوَ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَهُمْ هَدَمُوا الْأَسَاسَ الْأَعْظَمَ لِلدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَيُذْكَرُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَتَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لِمَا مَعَهُمْ لَا يُنَافِي مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِضَاعَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّفْرِيطِ. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَيْ: آمِنُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ نُنْزِلَ بِكُمْ هَذَا الْعِقَابَ، وَهُوَ طَمْسُ الْوُجُوهِ وَرَدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَالطَّمْسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ إِزَالَةُ الْأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ (10: 88) ، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ (36: 66) ، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُرِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، وَكَذَلِكَ طَمْسُ النُّجُومِ، وَالْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَنِ وَوَجْهِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَمِنْهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ (3: 20) ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ (31: 22) ، وَقَوْلُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (30: 30) ، وَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ ـ بِضَمَّتَيْنِ ـ وَهُوَ الْخَلْفُ وَالْقَفَا، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحِسِّيَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ الِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ الْفِرَارُ مِنْهُ. وَمِنَ الثَّانِي: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (47: 25) ،

فَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ هُنَا: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الْإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الْوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقُوَّةِ، فَهَذَا مَا نُفَسِّرُهَا بِهِ عَلَى جَعْلِ الطَّمْسَ وَالرَّدَّ عَلَى الْأَدْبَارِ مَعْنَوِيَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَلَكِنْ أَوْجَزَ فَقَالَ: نَطْمِسَ وُجُوهًا عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فِي الضَّلَالَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ فَنُعْمِيهَا عَنِ الْحَقِّ وَنُرْجِعُهَا كُفَّارًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي أَنْ نَرُدَّهُمْ عَنِ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ، فَقَدْ رَدَّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ اللهِ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (7: 159) ، فَحَذَّرَهُمْ مِنْ إِرْجَاءِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْوِيفِ بِهِ أَنْ يَطُولَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ، فَيَصْعُبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ، وَيَضْعُفَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِقَبُولِهِ بِتَعَلُّقِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِجَاهِهِمْ فِيهِ. وَجَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ حِسِّيًّا ظَاهِرِيًّا فَقَالَ: الْمَعْنَى نَطْمِسُ آثَارَهُمْ مِنَ الْحِجَازِ وَنَرُدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ بِالْجَلَاءِ إِلَى فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ، وَهِيَ بِلَادُهُمُ الَّتِي جَاءُوا الْحِجَازَ مِنْهَا، وَرَوَاهُ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ وُجُوهِهِمْ فِي أَقْفِيَتِهِمْ، وَفَهِمَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِالْمَسْخِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ وَقَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ، وَالْوَجْهُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: طَمْسُ الْوَجْهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مَا يُغَطِّيهِ فَيَمْنَعَ صَاحِبَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَقْصِدِهِ، وَمَتَّى بَطَلَ التَّوَجُّهُ الصَّحِيحُ إِلَى الْمَقْصِدِ امْتَنَعَ السَّعْيُ إِلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِذْلَانُ وَالْخَيْبَةُ، أَيْ: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ نُعَمِّيَ عَلَيْكُمُ السَّبِيلَ بِمَا نُبَصِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِشُئُونِكُمْ وَنُغْرِيهِمْ بِكُمْ فَتُرَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكِمْ بِأَنْ يَكُونَ سَعْيُكُمْ إِلَى غَيْرِ خَيْرِكُمْ. وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ وُجُوهًا أُخْرَى، مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ الرُّؤَسَاءُ أَيْ: قَبْلَ أَنْ نُزِيلَ وَجَاهَتَهُمْ وَعِزَّهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ تَقْبِيحُ صُورَتِهَا كَمَا يُقَالُ: طَمَسَ اللهُ وَجْهَهُ وَقَبَّحَ اللهُ وَجْهَهُ بِمَعْنَى تَقْبِيحِ صُورَتِهَا، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الذُّلِّ وَالْكَآبَةِ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ هَدَّدَهُمْ بِالطَّمْسِ، أَوِ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِذْلَالُ الْمَعْنَوِيُّ، ثُمَّ أَنْفَذَ الثَّانِيَ أَيْ: عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الطَّمْسَ بِمَعْنَى الْمَسْخِ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْخِذْلَانِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا إِلَى الشَّامِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَصَلَ

48

حَتْمًا وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَرَدَّ أَهْلُ السَّبْتَ أَنَّ اللهَ أَهْلَكَهُمْ، فَمَعْنَى اللَّعْنَةِ هُنَا الْإِهْلَاكُ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّعْنِ هُنَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ تَقَعُوا فِي إِحْدَى الْهَاوِيَتَيْنِ: الْخَيْبَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَفَسَادُ الْأَمْرِ وَذَهَابُ الْعِزَّةِ بِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ ـ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أُجْلُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَخُذِلُوا فِي كُلِّ أَمْرِهِمْ ـ أَوِ الْهَلَاكُ وَقَدْ وَقَعَ بِقَتْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى وَهَلَاكِهَا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا أَيْ: وَاقِعًا، أَيْ: شَأْنُهُ أَنْ يُفْعَلَ حَتْمًا، وَالْمُرَادُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ (36: 82) . إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا. رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (39: 53) ، قَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَلَاهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فِي رَجُلٍ شَكَا ابْنَ أَخِيهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ إِذْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَلَّا يُقْبَلَ إِسْلَامُهُ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَةً وَمُرَاجَعَةً عَزَاهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةُ وَحْشِيٍّ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ لَمَّا أَخْلَفَهُ مَوْلَاهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ عِتْقِهِ، وَرَاجَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِسْلَامِهِ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ كَانَ يُدَاعِبُ وَحْشِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيَسْتَمِيلُهُمْ بِآيَةٍ بَعْدَ آيَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَالْكَلَامُ مُلْتَئِمٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، فَهُوَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ عُمْدَتَهُمْ

فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْرِيفُ أَحْبَارِهِمْ لِلْكِتَابِ، وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (9: 31) ، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَرْفُوعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; إِذِ الشِّرْكُ بِاللهِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا، أَوْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيعِ كَالْعِبَادَاتِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِثْبَاتُ الشِّرْكِ لِلْيَهُودِ هُنَا وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: إِيمَانًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; إِذْ لَا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشِّرْكِ. أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ: الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الشُّعُورِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ: الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ بَعْضِ الْبَشَرِ دُونَ الْوَحْيِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِآيَةِ التَّوْبَةِ بِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (9: 31) ، فَسَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتِّخَاذَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِطُرُوءِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عُنْوَانًا لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَلِيُمَيِّزَهُمْ عَنْ مُشْرِكِي الْوَثَنِيِّينَ، وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَدْ سَرَى مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عُرِفَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِنَبْذِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ كَطَوَائِفِ الْبَاطِنِيَّةِ (رَاجِعْ مَبَاحِثَ الشِّرْكِ فِي ص 57، 68 و354 - 360 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَفِي ص 24، 45، 325، 347 مِنْ جُزْئِهِ الثَّالِثِ، 82 مِنْ جُزْئِهِ الْخَامِسِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) وَبِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغُرَّنَّكُمُ انْتِمَاؤُكُمْ إِلَى الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ هَدَمْتُمْ أَسَاسَ دِينِهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ، فَهِيَ أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَتَطْهِيرِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّرَكُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَهْبِطُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ وَأَفْكَارُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ، وَمِنْهُ تَتَوَلَّدُ جَمِيعُ الرَّذَائِلِ وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُفْسِدُ الْبَشَرَ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمْعِيَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِمْ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ أَوْ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ دُونَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ إِلَى مَرْتَبَةٍ يُقَدِّسُونَهَا وَيَخْضَعُونَ

لَهَا وَيَذِلُّونَ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا ذَاتُ سُلْطَةٍ عُلْيَا فَوْقَ سُنَنِ الْكَوْنِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَنَّ إِرْضَاءَهَا وَطَاعَتَهَا هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهَا لِذَاتِهَا، فَهَذِهِ الْخَلَّةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اسْتِبْدَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَاسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ بِالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَاشِيَةِ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالتَّمَلُّقِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُنَاقِضُ الشِّرْكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْتَاقِ الْإِنْسَانِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَجَعْلِهِ حُرًّا كَرِيمًا عَزِيزًا لَا يَخْضَعُ خُضُوعَ عُبُودِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ إِلَّا لِمَنْ خَضَعَتْ لِسُنَنِهِ الْكَائِنَاتُ، بِمَا أَقَامَهُ فِيهَا مِنَ النِّظَامِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلِسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ يَخْضَعُ، وَلِشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ الْمُنَزَّلَةِ يَتْبَعُ، وَإِنَّمَا خُضُوعُهُ هَذَا خُضُوعٌ لِعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، لَا لِأَمْثَالِهِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَأَقْرَانِهِ، وَأَمَّا طَاعَتُهُ لِلْحُكَّامِ فَهِيَ طَاعَةٌ لِلشَّرْعِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَالنِّظَامِ الَّذِي يَرَى فِيهِ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ جِنْسِهِ، لَا تَقْدِيسًا لِسُلْطَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُمْ، وَلَا ذُلًّا وَاسْتِخْذَاءً لِأَشْخَاصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَعَانَهُمْ، وَإِنْ زَاغُوا عَنْهَا اسْتَعَانَ بِالْأُمَّةِ فَقَوَّمَهُمْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ نَصْبِ الْأُمَّةِ لَهُ وَمُبَايَعَتِهَا إِيَّاهُ: " وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي "، فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُوَحِّدِينَ مَعَ حُكَّامِهِمْ، وَهَكَذَا يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا يَكُونُونَ أَشْقِيَاءَ بِالشِّرْكِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ. وَأَمَّا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاؤُهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَالْمَدَارُ فِيهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ أَيْضًا، إِنَّ رُوحَ الْمُوَحِّدِينَ تَكُونُ رَاقِيَةً عَالِيَةً لَا تَهْبِطُ بِهَا الذُّنُوبُ الْعَارِضَةُ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي تَهْوِي فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُشْرِكِينَ، فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُشْرِكُ مِنَ الصَّالِحَاتِ تَبْقَى رُوحُهُ سَافِلَةً مُظْلِمَةً بِالذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَا تَرْتَقِي بِعَمَلِهَا إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِي تَنْعَمُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُوَحِّدِينَ الْعَالِيَةُ فِي أَجْسَادِهِمُ الشَّرِيفَةِ، وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ، فَإِنَّ ذُنُوبَهُمْ لَا تُحِيطُ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَظُلْمَتَهَا لَا تَعُمُّ قُلُوبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعِزِّ الْإِيمَانِ وَرِفْعَتِهِ يَغْلِبُ خَيْرُهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ، وَلَا يَطُولُ الْأَمَدُ وَهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (7: 201) ، يُسْرِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِتْبَاعِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (11: 114) ، فَإِذَا ذَهَبَ أَثَرُ السَّيِّئَةِ مِنَ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغُفْرَانَ، فَكُلُّ سَيِّئَاتِ الْمُوَحِّدِينَ قَابِلَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ أَيْ: يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ،

وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ (تُرَاجَعُ الْفَهَارِسُ عِنْدَ مَادَّةِ مَشِيئَةٍ) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا بِقَوْلِنَا: وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَخْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يَشَاءُ غُفْرَانَهُ، وَلِسُنَنِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا سُنَنُهُ تَعَالَى فِيمَا لَا يَغْفِرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَظْهَرُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَتُوبُ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ السَّيِّئُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ آثَارِهَا فِي النَّفْسِ عَلَيْهَا كَمَا تُؤَثِّرُ الْحَرَارَةُ فِي الزِّئْبَقِ فِي الْأُنْبُوبَةِ فَيَتَمَدَّدُ وَيَرْتَفِعُ، وَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْبُرُودَةُ فَيَتَقَلَّصُ وَيَنْخَفِضُ، فَهَذَا مِثَالُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ مَادَّةَ ذَنْبٍ وَعِقَابٍ وَجَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) . وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ، وَذَاكَ يَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ ـ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ (4: 17) ، إِلَخْ ص 440 - 452 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ عَدَمِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَا مَعَهُ ـ دَعِ الْإِلْحَادَ بِإِنْكَارِ سُلْطَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ النِّظَامِ الْبَدِيعِ فِي الْكَوْنِ - سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، أَوْ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، مَنْ يُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، أَيِ: اخْتَرَعَ ذَنْبًا مُفْسِدًا عَظِيمَ الْفُحْشِ وَالضَّرَرِ سَيِّئَ الْمَبْدَأِ وَالْأَثَرِ، تُسْتَصْغَرُ فِي جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَلَّا يُغْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ قَدْ يَمْحُوهُ الْغُفْرَانُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى يَفْرِي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الْقَطْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْإِفْسَادِ ; لِأَنَّ قَطْعَ الشَّيْءِ الصَّحِيحِ مُفْسِدٌ لَهُ،

49

وَالشِّرْكُ بِالْقَوْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا وَبِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا فَسَادًا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْيُ قَطْعُ الْجِلْدِ لِلْخَرَزِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ: (قَطْعُهُ) لِلْإِفْسَادِ، وَالِافْتِرَاءُ فِيهِمَا وَفِي الْإِفْسَادِ أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْكَذِبِ وَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ. كَانَتِ الْيَهُودُ تُفَاخِرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ شَعْبَ اللهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (5: 18) ، وَقَوْلُهُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى (2: 111) ، وَقَوْلُ الْيَهُودِ خَاصَّةً: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (2: 80) ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ. أَقُولُ: وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَنُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا التَّوْرَاةَ صِغَارًا فَلَا تَكُونُ لَهُمْ ذُنُوبٌ، وَذُنُوبُنَا مِثْلُ ذُنُوبِ أَبْنَائِنَا مَا عَمِلْنَا بِالنَّهَارِ كُفِّرَ عَنَّا بِاللَّيْلِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَرَجَّحَ أَنَّ تَزْكِيَتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا لَا ذُنُوبَ لَهَا وَلَا خَطَايَا، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. أَمَّا مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ فَقَدْ ذُكِرَ قَرِيبًا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْعَلُهَا زَاكِيَةً أَيْ طَاهِرَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَصْلُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالْبَرَكَةُ فِي الزَّرْعِ، وَمِثْلُهُ كُلُّ نَافِعٍ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْمِيَةِ فَضَائِلِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الشُّرُورِ الَّتِي تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَتَعُوقُهُ، وَهَذِهِ التَّزْكِيَةُ مَحْمُودَةٌ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (91: 9) ، أَيْ: نَفْسَهُ. وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ ادِّعَاءُ الزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَمَدْحِهَا وَلَوْ بِالْحَقِّ، وَلَتَزْكِيَتُهَا بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ قُبْحًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّزْكِيَةِ مَصْدَرُهُ الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ، وَمِنْ آثَارِهِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَيْ: لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِتَزْكِيَتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ لَا تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّكُمْ سَتَكُونُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ دُونَ غَيْرِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ شَهَادَةِ كِتَابَةٍ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (53: 32) . وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ اللهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ

شَيْئًا مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَوْ حَقِيرًا كَالْفَتِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَصْلَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ: لَا يَنْقُصُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ شَيْئًا مَا بِعَدَمِ تَزْكِيَتِهِ إِيَّاهُمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَزْكِيَتِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِمَا تَكُونُ بِهِ النَّفْسُ زَكِيَّةً مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَنِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَتِيلُ: مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، وَمَا تَفْتِلُهُ بَيْنَ أَصَابِعِكَ مِنْ وَسَخٍ أَوْ خَيْطٍ، وَتَضْرِبُ الْعَرَبُ بِهِ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْحَقِيرِ فَهُوَ بِمَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (4: 40) ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَخِذْلَانُ الْمُلَوَّثِينَ بِرَذِيلَةِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا بِالْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ انْحِطَاطِهِمْ، وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا لَا يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَنَقْصِهِ إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِنُقْصَانِ دَرَجَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنِ الْعُرُوجِ بِأَرْوَاحِهِمْ، بَلْ بِتَدْسِيَتِهَا لِنُفُوسِهِمْ، لِتَزْكِيَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْقَوْلِ الْبَاطِلِ دُونَ الْفِعْلِ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (6: 132) ، كَدَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مِيزَانِهَا، وَدَرَجَاتِ الرُّطُوبَةِ فِي مِيزَانِهَا، فَمَا كَلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الْأُولَى يَغْلِي بِهَا الْمَاءُ، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا يَكُونُ بِهَا جَلِيدًا، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ يَنْزِلُ بِهَا الْمَطَرُ، وَكَدَرَجَاتِ امْتِحَانِ طُلَّابِ الْعُلُومِ فِي الْمَدَارِسِ، أَوِ الْأَعْمَالِ فِي الْحُكُومَةِ لَا يُنَالُ الْفَوْزُ فِيهَا إِلَّا بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى الْمُحَدَّدِ أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالْحِكْمَةِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ عَامِلِ خَيْرٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا ; لِأَنَّ لِعَمَلِهِ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مَنَاطَ الْجَزَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ تَأْثِيرُ عَمَلِ الْمُشْرِكِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ عَمَلَهُ يَنْفَعُهُ بِكَوْنِ عَذَابِهِ أَقَلَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَ عَمَلِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا رَجُلَانِ يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ، أَحَدُهُمْ مُقِلٌّ وَالْآخَرُ مُكْثِرٌ، فَضَرَرُ الْمُكْثِرِ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ضَرَرِ الْمُقِلِّ، وَآخَرَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الشُّرْبِ وَلَكِنْ بِنْيَةُ أَحَدِهِمَا قَوِيَّةٌ تُقَاوِمُ الضَّرَرَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْجِسْمِ، وَبِنْيَةُ الْآخَرِ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ الْمُقَاوَمَةَ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا مِنَ الشُّرْبِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ ذَاكَ. كَذَلِكَ الرُّوحُ الْقَوِيَّةُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةُ الْإِيمَانِ الْمُزَكَّاةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تَهْبِطُ بِهَا السَّيِّئَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسَّيِّئَتَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ فَتَجْعَلَهَا شَقِيَّةً مِثْلَهُمْ، بَلْ يَغْلِبُ خَيْرُهَا عَلَى الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهَا، فَيُزِيلُهُ أَوْ يُضْعِفُهُ حَتَّى يَكُونَ ضَرَرُهَا غَيْرَ مُهْلِكٍ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ قَدْ يُعَذَّبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِذَنْبِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَالِدِينَ. وَالْعِبْرَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ هِيَ وُجُوبُ اتِّقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ، وَاتِّقَاءُ مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَوْلِ وَاحْتِقَارِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي انْجَرَّ إِلَى احْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْغُرُورِ وَتِلْكَ التَّزْكِيَةِ الْبَاطِلَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ غَلَبَهُمُ

50

الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ الْعَظِيمَ الْحَكِيمَ لَا يُحَابِي فِي سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لِأَجْلِ اسْمِهِ وَلَقَبِهِ، أَوْ لِانْتِسَابِهِ بِالِاسْمِ إِلَى أَصْفِيَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ كَانَتْ سُنَنُهُ حَاكِمَةً عَلَى أُولَئِكَ الْأَصْفِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى إِنَّ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، وَرُدِيَ فِي الْحُفْرَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِ عَسْكَرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نِظَامِ الْحَرْبِ، فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْغُرُورُ بِالِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَأَنْتُمْ لَا تُقِيمُونَ كِتَابَهُ وَلَا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَا تَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ النُّذُرِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ عَادَتِ الْكَرَّةُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مَا تَرَكُوا الْغُرُورَ، وَاعْتَصَمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِمَا جَرَى عَلَيْهِ نِظَامُ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، حَتَّى مَلَكَتْ دُوَلُ الْأَجَانِبِ أَكْثَرَ بِلَادِكُمْ، وَقَامَ الْيَهُودُ الْآنَ لِيُجْهِزُوا عَلَى الْبَاقِي لَكُمْ، وَيَسْتَرِدُّوا الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَهُمْ؟ ! فَاهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ الْحَكِيمِ وَبِسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، وَاتْرُكُوا وَسَاوِسَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ فِيكُمْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ فَيَصْرِفُونَكُمْ عَنْ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِكَلَامِ رَبِّكُمْ إِلَى الِاتِّكَالِ عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِحَبْلِ الْخُرَافَاتِ، وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بِمَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالصَّلَوَاتِ، وَمَا غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا سَلْبُ أَمْوَالِكُمْ، وَحِفْظُ جَاهِهِمُ الْبَاطِلِ فِيكُمْ، أَفِيقُوا أَفِيقُوا، تَنَبَّهُوا تَنَبَّهُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَتِيلًا، فَمَا زَالَ مُلْكُكُمْ، وَلَا ذَهَبَ عِزُّكُمْ، إِلَّا بِتَرْكِ هِدَايَةِ رَبِّكُمْ، وَاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنْكُمْ. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ أَيِ: انْظُرْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً يَخْرُجُونَ فِيهَا عَنْ نِظَامِ سُنَنِهِ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ. وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أَيْ: وَكَفَى بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ آثَامِهِمْ إِثْمًا بَيِّنًا ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً مُخَالِفَةً لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي عَامَلَ بِهَا غَيْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ جَاهِلُونَ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِثْمُ عَلَى الْكَذِبِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِثْمُ وَالْآثَامُ: اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، يَعْنِي عَنِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ صِدْقَ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ; إِذْ قَالَ تَعَالَى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (2: 219) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، وَالْغُرُورَ بِالدِّينِ وَالْجِنْسِ، مِمَّا يُبَطِّئُ عَنِ الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُسْنَى وَزِيَادَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (2: 219) ، أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إِلَّا عَلَى مَا كَانَ ضَارًّا، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَكْبَرُ مِنْ ضَرَرِ الْغُرُورِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ فِي بَعْضِ

51

الْبِلَادِ؟ ! يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَدْحِهَا، وَيَتْرُكُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَرْفَعُهَا وَتُعْلِيهَا، وَقَدْ تَرَكَ الْيَهُودُ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِمِلَّتِهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ سَاكِنُونَ، وَلَا يَدَّعُونَ وَلَا يَتَبَجَّحُونَ، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الْمُنْصَبِرَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السَّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (108: 3) ، وَنَزَلَتْ فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيرًا وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عُمَارَةَ، وَهَوْدَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مَنْ بُنِيَ النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُولَى، فَاسْأَلُوهُمْ: أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ! ! فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: مُلْكًا عَظِيمًا اهـ، مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. أَقُولُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ،

وَوَقَائِعُ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَمُحَاجَّةُ الْيَهُودِ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ لَمْ يُفَصَّلْ إِلَّا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ بَعْدَ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ فِيهَا وَفِي جِوَارِهَا، فَفِي الرِّوَايَةِ خَلْطٌ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ قَدْ نَزَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ; إِذْ نَقَضَ الْيَهُودُ عَهْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاتَّحَدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ هُوَ تَفْضِيلُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِالتَّفْضِيلِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ لِحَرْبِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِضْلَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ " الْجِبْتُ " قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: أَصْلُهُ الْجِبْسُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا، وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا الرَّدِيءُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى السَّاحِرِ، وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَبَشِيُّ الْأَصْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ السَّاحِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ الْأَصْنَامُ، وَعَنْ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ السِّحْرُ. وَ " الطَّاغُوتُ ": مِنْ مَادَّةِ الطُّغْيَانِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [ص 20 ج 3 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، بِأَنَّهُ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الطَّاغُوتَ: الشَّيْطَانُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّاغُوتَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ: الْكُهَّانُ، وَقِيلَ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: صَنَمَانِ كَانَا لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ سَجَدُوا لَهُمَا مَرْضَاةً لِقُرَيْشٍ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ لِيَتَّحِدُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حَدِيثِ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: " الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ " وَفَسَّرَ الْعِيَافَةَ بِالْخَطِّ، وَهُوَ ضَرْبُ الرَّمْلِ، وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى التَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَفَاءَلْتُ فِي أَنْ تَبْذُلِي طَارِفَ الْوَفَا ... بِأَنْ عَنَّ لِي مِنْكِ الْبَنَانُ الْمُطَرَّفُ وَفِي عَرَفَاتٍ مَا يُخْبِرُ أَنَّنِي ... بِعَارِفَةٍ مِنْ طِيبِ قَلْبِكِ أُسْعَفُ وَأَمَّا دِمَاءُ الْهَدْيِ فَهْوَ هَدْيٌ لَنَا ... يَدُومُ وَرَأْيٌ فِي الْهَوَى يَتَأَلَّفُ فَأَوْصَلَتَا مَا قُلْتُهُ فَتَبَسَّمَتْ ... وَقَالَتْ أَحَادِيثُ الْعِيَافَةِ زُخْرُفُ وَالطِّيَرَةُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ بِالْحَصَا أَوِ الْوَدَعِ، أَوْ حَبِّ الْفُولِ، أَوِ الرَّمْلِ لِمَعْرِفَةِ الْبَخْتِ وَمَا غَابَ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا

مِنَ الدَّجَلِ وَالْحِيَلِ، فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الْجِبْتِ هُوَ الدَّجَلُ وَالْأَوْهَامُ وَالْخُرَافَاتُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الطَّاغُوتِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ مُثَارَاتِ الطُّغْيَانِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ لَمْ تَنْظُرْ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ كَيْفَ حُرِمُوا هِدَايَتَهُ؟ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَنْصُرُونَ أَهْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَحَقِّيَّةِ أَصْلِ كُتُبِهِمْ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ وَالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أَيْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ طَرِيقًا فِي الدِّينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ اللهَ وَصَفَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ بِتَعْظِيمِهِمْ غَيْرَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْصِيَتِهِمَا وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللهِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنَّ دِينَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَعْدَلُ وَأَصْوَبُ مِنْ دِينِ أَهْلِ التَّصْدِيقِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْزُوهُ وَقَالَ: إِنَّا مَعَكُمْ نُقَاتِلُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا فَاسْجُدْ لِهَذَيْنَ الصَّنَمَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِمَا فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَنَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ ـ النَّاقَةَ الضَّخْمَةَ السَّنَامِ ـ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، وَمِنْهَا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ مَا كَانَ حِينَ أَتَاهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينَ فَهَمُّوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى مَا هَمُّوا مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَرَبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَعَاهَدَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ الْمَاءَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا وَنَتَّبِعَهُ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَيَّنَّا سُوءَ حَالِهِمْ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، أَيِ: اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَالْكُفْرِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَيْ: وَمَنْ يَلْعَنْهُ اللهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ ; إِذْ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخِذْلَانُ وَالِانْكِسَارُ نَصِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، أَيْ: بِمَثَارِ الدَّجَلِ

53

وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْ مُجَاوَزَةُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ مُقَاوَمَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ فِي سِيَاسَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ لَعْنِ اللهِ لِلْأُمَمِ هُوَ إِيمَانُهَا بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالطُّغْيَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاجْتِنَابِهِمْ ذَلِكَ، وَتَدُلُّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ عَلَى أَنَّ الْأُمَمَ الْمَغْلُوبَةَ تَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ مِنَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) ، لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ صِدْقُهُمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُعَوِّلُونَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ عَلَيْهِ. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ قَالُوا: إِنَّ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِلْإِضْرَابِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا: الِانْتِقَالُ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَفْضِيلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْأَثَرَةِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ أَمْ إِذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ [رَاجِعْ ص 24 ج 2 مِنَ التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، وَالتَّوْبِيخُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ كَمَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْكِتَابِ، بَلْ فَقَدُوا الْمُلْكَ كُلَّهُ بِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فإذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَيْ: وَلَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لَسَلَكُوا فِيهِ طَرِيقَ الْبُخْلِ وَالْأَثَرَةِ بِحَصْرِ مَنَافِعِهِ وَمَرَافِقِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطُونَ النَّاسَ نَقِيرًا مِنْهُ إِذْ ذَاكَ، وَالنَّقِيرُ: هُوَ النُّقْرَةُ أَوِ النُّكْتَةُ فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ، وَهِيَ الثَّقْبَةُ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا النَّخْلَةُ شُبِّهَتْ بِمَا نُقِرَ بِمِنْقَارِ الطَّائِرِ أَوْ مِنْقَارِ الْحَدِيدِ الَّذِي تُحْفَرُ بِهِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَالنَّقِيرُ كَالْفَتِيلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ (49) يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَالْحَقِيرِ التَّافِهِ، وَيُطْلَقُ النَّقِيرُ أَيْضًا عَلَى مَا نُقِرَ، أَيْ حُفِرَ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْخَشَبِ فَجُعِلَ إِنَاءً يُنْبَذُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالْقِطْمِيرِ وَهِيَ الْقِشْرَةُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى النَّوَاةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ أَصْحَابُ أَثَرَةٍ شَدِيدَةٍ وَشُحٍّ مُطَاعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا صَارَ لَهُمْ مُلْكٌ حَرَصُوا عَلَى مَنْعِ النَّاسِ أَدْنَى النَّفْعِ وَأَحْقَرَهُ، فَكَيْفَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظْهَرَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ وَيَكُونَ لِأَصْحَابِهِ مِلْكٌ يَخْضَعُ لَهُمْ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَزَالُ غَالِبَةً عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرَةً فِيهِمْ، فَإِنْ تَمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُمْ يَطْرُدُونَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا نَقِيرًا مِنْ نَوَاةٍ أَوْ مَوْضِعَ زَرْعِ نَخْلَةٍ، أَوْ نُقْرَةً فِي أَرْضٍ أَوْ جَبَلٍ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ الْآنَ وَحَاوَلُوا قَبْلَ الْآنِ ذَلِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَالنَّجَّارُ الْيَهُودِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَعْمَلُ لَكَ الْعَمَلَ بِأُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْأُجْرَةِ الَّتِي يَرْضَى بِهَا الْمُسْلِمُ

54

أَوِ النَّصْرَانِيُّ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَعَلَّ جَمْعِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةَ وَالْخَيْرِيَّةَ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالدَّلَائِلُ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يُحَاوِلُونَ امْتِلَاكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَحِرْمَانَ غَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ فِيهَا، يَفْعَلُونَ هَذَا وَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ " هَذَا وَمَا كَيْفَ لَوْ ". وَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِمُ الْمُلْكُ كَمَا يَبْغُونَ؟ الْآيَةُ لَا تُثْبِتُ ذَلِكَ وَلَا تَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مَا تَقْتَضِيهِ طِبَاعُهُمْ فِيهِ لَوْ حَصَلَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا (سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَمُتَعَلِّقُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ الْمَمَالِكِ، وَمِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَالزِّرَاعَةِ، وَقَدْ ضَعُفَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا دِينِيًّا أَنَّهُمْ سَيُقِيمُونَ الْمُلْكَ، أَوْ سَوْفَ يُقِيمُونَهُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَدِ ادَّخَرُوا لِذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا، فَيَجِبُ عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ أَلَّا يُمَكِّنُوا لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ وَلَا يُسَهِّلُوا لَهُمْ طُرُقَ امْتِلَاكِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةَ الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا كَبِيرًا كَمَا نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَقَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ الْيَهُودَ حَكَمُوا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فَهُمْ فِي شَرِّ حَالٍ، وَيَعِيبُونَ مَنْ هُمْ فِي أَحْسَنِ حَالٍ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَضِيقَ فَضْلُ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغُرُورِ بِنَسَبِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ مَعَ سُوءِ حَالِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ غَرَّرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ تَغْرِيرًا، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فِي هَذَا الْكَوْنِ فَهُمْ يَمْنَعُونَ النَّاسَ، فَلَا يُؤْتُونَهُمْ مِنْهُ نَقِيرًا، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ أَيِ: الْعَرَبُ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وَالْعَرَبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ تَبَاشِيرُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ فِيهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ ; فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ، وَكَانَتْ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَوِيَتْ، فَالْآيَةُ مُبَشِّرَةٌ لَهُمْ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَتْبَعُ النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ كَانَ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ: إِمَّا غُرُورٌ خَادِعٌ يَظُنُّونَ مَعَهُ أَنَّ فَضْلَ اللهِ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَرَحْمَتَهُ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا حُسْبَانُ أَنَّ مُلْكَ الْكَوْنِ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَوْ حَقِيرًا كَالنَّقِيرِ، وَإِمَّا حَسَدُ الْعَرَبِ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الَّذِي ظَهَرَتْ مَبَادِئُ عَظَمَتِهِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَأَقُولُ: فَسَّرُوا الْحَسَدَ بِأَنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ

فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (2: 109) ، وَفِي سُورَةِ الْفَلَقِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُمُ الْيَهُودُ، فَهُوَ لَمْ يُسْنِدِ الْحَسَدَ إِلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ ـ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُمُ الْمُلْكُ ـ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَتَهُ إِلَيْهِمْ وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَسْبِقَهُمُ الْعَرَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّصَارَى يَوْمَئِذٍ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِمُلْكٍ وَاسِعٍ، وَلَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَقٌّ، وَلَا أَنَّهَا تَسْتَتْبِعُ مُلْكًا؛ فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ حَقِّيَّةُ الدَّعْوَةِ صَارَ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِمَّنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ حَقِّيَّةُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَمَنَعَ الْحَسَدُ بَاقِيَ الرُّؤَسَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَقَلَّمَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ مِثْلُ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، فَالْحَسُودُ يُؤْثِرُ هَلَاكَ نَفْسِهِ عَلَى انْقِيَادِهَا لِمَنْ يَحْسُدُهُ؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ يُفْسِدُ الطِّبَاعَ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ وَحَسَدُوا قَوْمَهُ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَسْبَقُ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ. وَرَدَ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَجِدُوا مَطْعَنًا يَقُولُونَهُ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا تَعَدُّدَ أَزْوَاجِهِ، وَقِيلَ: حَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ تَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَ لَهُمْ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمُ اسْتِبْعَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ فِي غَيْرِ آلِ إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى آلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ فَضْلًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ يُعْطَى ذَلِكَ لِآلِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَا حَجْرَ عَلَى فَضْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَضْلُ الْإِلَهِيُّ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ سَلَفٌ فِيهِ، فَلِلْعَرَبِ هَذَا السَّلَفُ ; عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ وَإِلَّا لَكَانَتْ هَذِهِ الْعَطَايَا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ فُرُوعِهِ أَزَلِيَّةً، فَإِيتَاءُ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ الْفَضْلَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَزَايَا وَفَضَائِلَ فِيمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ مَنْ يَكْتَسِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَزَايَا مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْفَضْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ. أَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ، لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ (ص) وَأَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ أَتْبَاعُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَكْثَرَهُنَّ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ، وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ مِنْ كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ: 11: 1 وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ مُوآبِيَاتٍ وَعَمُونِيَاتٍ وَأَدُومِيَاتٍ وَصَيْدُونِيَاتٍ

55

وَحَثَيَاتٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهَؤُلَاءِ بِالْمَحَبَّةِ وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ وَثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ السَّرَارِي فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ " إِلَى آخِرِ مَا هُنَاكَ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَبَرَّأَهُ اللهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمُقَدَّمُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، أَيْ: مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، يُقَالُ: صَدَّ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: صَدَّ غَيْرَهُ عَنْهُ إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَنَفَّرَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ مِنْ آلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقِيلَ: إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: إِلَى الْكِتَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهِيَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَيَانِ أَسْرَارِ الْكِتَابِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْمُلْكِ فَهُوَ الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُ آخَرُونَ. وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا أَيْ: نَارًا مُسَعَّرَةً لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ وَآثَرَ إِرْضَاءَ حَسَدِهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يُزَيِّنُهُ لَهُ عَلَى اتِّبَاعُ الْحَقِّ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يُغْرِيهِ بِنَصْرِ الْبَاطِلِ وَمُعَانِدَةِ الْحَقِّ حَتَّى يُدَسِّيَ نَفْسَهُ وَيُفْسِدَهَا وَيَهْبِطَ بِهَا إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ وَهَاوِيَةِ النَّكَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِجَهَنَّمَ وَبِالسَّعِيرِ وَهِيَ بِئْسَ الْمَثْوَى وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا وَنَقَلُوا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " سَوْفَ " تَأْتِي لِلتَّهْدِيدِ وَتَنُوبُ عَنْهَا " السِّينُ " وَيَسْتَشْهِدُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ـ أَيْ عَلَى سَوْفَ وَبِمَا بَعْدَهَا عَلَى السِّينِ ـ وَلَكِنْ وَرَدَ دُخُولُ السِّينِ عَلَى الْفِعْلِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ السِّينَ وَسَوْفَ عَلَى مَعْنَاهُمَا الْمَشْهُورِ فِي إِفَادَةِ التَّنْفِيسِ وَالتَّأْخِيرِ، وَاشْتُقَّ لَفْظُ التَّسْوِيفِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ مِنْ سَوْفَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَشْكَلَ التَّسْوِيفَ هُنَا، وَلَوْ نَظَرُوا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ لَرَأَوْا أَنَّ حُصُولَهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا جِدًّا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ بِهِ، عَلَى أَنَّ لِلتَّرَاخِي وَالْبُعْدِ مَعْنًى آخَرَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمَقَامِ فِي الْخِطَابِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَى حَالِ الْمَغْرُورِينَ ـ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ ـ الَّذِينَ صَرَفَهُمْ غُرُورُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ بِعِزَّتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَصَدُّوا عَنْهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا هُمْ فِيهِ، يَرَاهُمْ بِهَذَا الْغُرُورِ بُعَدَاءَ جِدًّا عَنْ تَصَوُّرِ الْوَعِيدِ وَالتَّفْكِيرِ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّسْوِيفُ مَرْعِيًّا فِيهِ حَالُهُمْ لِيَتَفَكَّرُوا فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ. أَقُولُ: قَدْ تَرَكْتُ هُنَا فِي مُذَكِّرَتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِهِ بَيَاضًا بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " تُصَوِّرُ الْوَعِيدَ وَالتَّفْكِيرَ فِيهِ "، وَلَا أَذْكُرُ مَاذَا كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ فِيهَا وَلَا يَظْهَرُ لِي الْآنَ وَجْهُ اسْتِشْكَالِ التَّأْخِيرِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ التَّسْوِيفَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَيْسَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ دِينِهِ مُطْلَقًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقُرْآنُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَوْضَحُهَا، وَنُصْلِيهِمْ نَارًا مَعْنَاهُ نَجْعَلُهُمْ يَصْلَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا وَيُعَذَّبُونَ بِهَا [رَاجِعْ بَحْثَ الصَّلْيِ وَالْإِصْلَاءِ فِي ص 323 ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نُضْجُ الْجُلُودِ هُوَ نَحْوُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَقْدِ التَّمَاسُكِ الْحَيَوِيِّ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ لِأَنَّ النُّضْجَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ الْحَيَوِيَّةَ الَّتِي بِهَا الْإِحْسَاسُ، فَإِذَا بَقِيَتْ نَاضِجَةً يَقِلُّ الْإِحْسَاسُ بِمَا يَمَسُّهَا أَوْ يَزُولُ ; لِذَلِكَ تَتَبَدَّلُ بِهَا جُلُودًا حَيَّةً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ لِأَنَّ الذَّوْقَ وَالْإِحْسَاسَ يَصِلُ إِلَى النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْجِلْدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِتَبْدِيلِ الْجُلُودِ دَوَامُ الْعَذَابِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ وَهْمًا رُبَّمَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّ الَّذِي يَتَعَوَّدُ الْأَلَمَ يَقِلُّ شُعُورُهُ بِهِ وَيَصِيرُ عَادِيًّا عِنْدَهُ، كَمَا نَرَى مِنْ حَالِ الرَّجُلِ تُعْمَلُ لَهُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ وَتَتَكَرَّرُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى يَتَأَلَّمُ أَلَمًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَا يَزَالُ التَّأَلُّمُ يَخِفُّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى نَرَاهُ لَا يُبَالِي، وَهَكَذَا نُشَاهِدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يَطُولُ أَمْرُهَا.

56

أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُضْجَ الْجُلُودِ مِنَ الْعَذَابِ ـ إِنْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ـ يَكُونُ هُوَ أَثَرُ لَفْحِ النَّارِ بِسَمُومِهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (23: 104) ، وَمَتَى لُفِحَ الْجِلْدُ مِرَارًا يَبْطُلُ إِحْسَاسُهُ وَيَنْفَصِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ وَيَتَرَبَّى تَحْتَ جِلْدٍ آخَرَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ عَنِ اسْتِشْكَالِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَعْذِيبِ الْجُلُودِ الْجَدِيدَةِ مَعَ أَنَّ الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ بِهَا، وَلَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ وَلَا أَتَذَكَّرُهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ يَكُونُ عَيْنَ الْأَصْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مَادَّتِهِ، وَغَيْرَهُ فِي صُورَتِهِ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ جَوَابًا ثَانِيًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُعَذَّبَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ الْجِلْدُ مَا كَانَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّتِهِ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الزَّائِدِ الْمُلْتَصِقِ بِهِ، وَثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُودِ السَّرَابِيلُ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ الْقَاضِي بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ، وَرَابِعًا: هُوَ أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُرَادُ وَصْفُهُ بِالدَّوَامِ: كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ، وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا يَعْنِي كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَثُوا وَوُجِدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ دَوَامَ الْعَذَابِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِهِ، انْتَهَى تَصْوِيرُهُ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْعِبَارَةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهُ صَوَّرَهَا بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ إِلَى الْعَقْلِ وَاللَّفْظِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَجْهًا خَامِسًا وَرَدَّهُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ. وَقَدْ رَدَّ الْأَلُوسِيُّ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ فَاضِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِصْيَانَ الْجِلْدِ وَطَاعَتَهُ وَتَأَلُّمَهُ وَتَلَذُّذَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ سَائِرِ الْجَمَادَاتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِالْآلَةِ ; فَيَدُ قَاتِلِ النَّفْسِ ظُلْمًا مَثَلًا آلَةٌ لَهُ كَالسَّيْفِ الَّذِي قَتَلَ بِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِأَنَّ الْيَدَ حَامِلَةٌ لِلرُّوحِ وَالسَّيْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِإِعَادَةِ الْيَدِ بِذَاتِهَا وَإِحْرَاقِهَا دُونَ إِعَادَةِ السَّيْفِ وَإِحْرَاقِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى النَّفْسِ الْحَسَّاسَةِ بِأَيِّ بَدَنٍ حَلَّتْ وَفِي أَيِّ جَسَدٍ كَانَتْ، وَكَذَا يُقَالُ فِي النَّعِيمِ اهـ. وَقَدْ أُيِّدَ هَذَا الرَّأْيُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي كِبَرِ أَجْسَادِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَوْلَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِحَيْثُ صَارَ إِنْكَارُهُ كُفْرًا لَمْ يَبْعُدْ عَقْلًا الْقَوْلُ بِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الرُّوحَانِيَّيْنِ فَقَطْ، وَلَمَا تَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَقْلًا عَلَى إِثْبَاتِ الْأَجْسَامِ فِعْلًا، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا أَنِّي أَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ مَعَاذَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنِّي أَقُولُ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى إِعَادَتِهِ وَإِنْ أَمْكَنَتْ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ

الْأَجْسَامِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِعْدَامِهَا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهَا وَفَنَاءِ الْأُولَى، وَلَا أَرَى بَأْسًا ـ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ ـ فِي اعْتِقَادِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ اهـ، وَلَهُ الْحَقُّ فِي رَدِّ الْإِيرَادِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقَلَّ فِي بَعْضِ الْقَوْلِ وَقَلَّدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي بَعْضٍ آخَرَ كَإِعَادَةِ الْمَعْدُومِ، وَلِهَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعٌ آخَرُ نُحَرِّرُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ (لِيَذُوقُوا) وَلَمْ يَقِلْ " لِتَذُوقَ " أَيِ الْجُلُودُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ قَلِيلٍ بِالْفَمِ لِيُعْرَفَ طَعْمُهُ فَلَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الْعَذَابِ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ أَوْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ اهـ. وَلَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ يُسَمَّى أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ " يَذُوقُوا " وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنُ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي الْعَذَابِ كَثِيرًا! فَاخْتِيَارُهُ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَشَدُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَهْمَا كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ الْمُعَذَّبِينَ شَدِيدًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الشِّدَّةِ كَأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ الرَّحْمَةِ ; عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِمْ مَوْثِقٌ مِنَ اللهِ بِنَجَاتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَجَعَلَ سُنَّتَهُ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا مُطَّرِدَةً لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَبْطُلَ اطِّرَادُهَا؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا جَعَلَ دُخُولَ الْجَنَّةِ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ; إِذِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَكْفِي لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمَرْءُ عَقِبَ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِظُهُورِ آثَارِ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ " سَوْفَ " أَبْلَغُ مِنَ " السِّينِ " فِي التَّنْفِيسِ وَسِعَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمُضَارِعِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَيَرَى ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَاعِدَةِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَتْ سَوْفَ أَكْثَرَ حُرُوفًا كَانَ مَعْنَاهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْسَعَ، وَلَا يَدَ عَلَى هَذَا مِنْ نُكْتَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وَعَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: سَنُدْخِلُهُمْ وَكَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْفَرِيقَيْنِ يُعَجِّلُ لِأَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ

57

وَلَا يُعَجِّلُ لِأَهْلِ الْعَذَابِ عَذَابَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ وَقْتِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخُلُودُ: طُولُ الْمُكْثِ، وَأَكَّدَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: أَبَدًا أَيْ: دَائِمًا. لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالُوا: أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعُيُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2: 25] ، وَهُنَاكَ كَلَامٌ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْنَى مُصَاحَبَتِهِنَّ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَيْسَ كَعَالَمِ الدُّنْيَا. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: ظِلُّ اللَّيْلِ وَظِلُّ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الشَّمْسُ: ظِلٌّ، وَلَا يُقَالُ: الْفَيْءُ، إِلَّا لِمَا زَالَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، وَيُعَبَّرُ بِالظِّلِّ عَنِ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعَنِ الرَّفَاهَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ كَلَامِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَظَلَّنِي فُلَانٌ أَيْ: حَرَسَنِي وَجَعَلَنِي فِي ظِلِّهِ أَيْ: عِزِّهِ وَمَنَعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَظِلٍّ ظَلِيلٍ أَيْ: فَائِضٍ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كِنَايَةٌ عَنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ هِيَ السَّبَبُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لَفْظَ الظِّلِّ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، وَالظِّلُّ صِفَةٌ اشْتُقَّتْ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ يُؤَكَّدُ بِهَا مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، أَيْ: ظِلٌّ وَارِفٌ فَيْنَانُ، لَا يُصِيبُ صَاحِبَهُ حَرٌّ، وَلَا سَمُومٌ، وَدَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِدُّهُ وَثَنَاؤُهُ. إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا أَسَاسُ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُمَا لَكَفَتَا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ إِذَا هُمْ بَنَوْا جَمِيعَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ لِنُزُولِهِمَا أَسْبَابًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ

58

السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ، قَالَ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ ـ أَيْ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ـ فَلَمَّا بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: هَاتِ الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: هَاكَ أَمَانَةَ اللهِ، فَقَامَ فَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ شُعْبَةُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ بِهِ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَنَاوَلَهُ الْمِفْتَاحَ "، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ "، قُلْتُ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ اهـ. أَقُولُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا يَوْمَئِذٍ اسْتِشْهَادًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ عُمَرُ أَنَّهُ سَمِعَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ذُهِلَ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَّا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَوْتِهِ حَتَّى قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (3: 144) ، الْآيَةَ فَتَذَكَّرَ، وَذُهِلَ عَنْ آيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا (4: 20) ، حَتَّى ذَكَّرَتْهُ بِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي رَاجَعَتْهُ فِي مَسْأَلَةِ تَحْدِيدِ الْمُهُورِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ـ وَكُلُّ أَحَدٍ عُرْضَةٌ لِلنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَصِحُّ وَإِنِ اعْتَمَدَهَا الْجَلَالُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ قَالُوا: إِنَّ أَوْهَى طُرُقِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ طَرِيقُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَرْوَانُ الصَّغِيرُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ فَإِنْ كَانَ حَجَّاجٌ هَذَا هُوَ الْمِصِّيصِيَّ الْأَعْوَرَ فَقَدْ كَانَ ثِقَةً وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْهُ وَلَكِنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ. وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ بَحْثٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْلَى بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِلْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا إِلَّا مَا لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ يَكُونُ هُوَ أَهْلَهُ وَأَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (33: 6) ، بَلْ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ الْمِفْتَاحُ مِفْتَاحَ بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ نَفْسِهِ وَنَزَعَ مِلْكَهُ مِنْهُ وَأَعْطَاهُ آخَرَ، بَلِ الْحُكَّامُ الْآنَ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ يَنْزِعُونَ مِلْكَ مَنْ يَرَوْنَ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي نَزْعِ مِلْكِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُ ثَمَنَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَيَّنَهُ ـ حَتَّى تَفْضِيلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ـ أَدَّبَنَا بِهَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي، وَأَمَرَنَا بِالْأَمَانَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ بِمُنَاسَبَةٍ قَوِيَّةٍ تَجْعَلُ السِّيَاقَ كَعِقْدٍ مِنَ الْجَوْهَرِ مُتَنَاسِبِ اللَّآلِئِ، فَسَوَاءٌ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حِكَايَةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّ صِحَّتَهُ لَا تَضُرُّ بِالْتِئَامِ السِّيَاقِ وَلَا بِعُمُومِ الْحُكْمِ، إِذِ السَّبَبُ الْخَاصُّ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْحُكْمِ. وَالْأَمَانَةُ حَقٌّ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَيُودَعُهُ لِأَجْلِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودَعُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ قَدْ تَعَاقَدَ مَعَ الْمُودِعِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدٍ قَوْلِيٍّ خَاصٍّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوَدَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ كَذَا إِلَى فُلَانٍ مَثَلًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، فَالَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ قَدْ أُودِعَ أَمَانَةً وَأُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِالتَّعَامُلِ وَالْعُرْفِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَيُفِيدَ النَّاسَ وَيُرْشِدَهُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ الْعَامَّ عَلَى النَّاسِ بِهَذَا التَّعَامُلِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ شَرْعًا وَعُرْفًا بِنَصِّ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (3: 187) ، وَلِذَلِكَ عُدَّ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ خَائِنِينَ بِكِتْمَانِ صِفَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَةَ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْدَعَ الْمَالَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَتَوَقَّفَ أَدَاءُ أَمَانَةِ الْعِلْمِ عَلَى تَعَرُّفِ الطُّرُقِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ هَذِهِ الطُّرُقُ لِأَجْلِ السَّيْرِ فِيهَا، وَإِعْرَاضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي تَتَأَدَّى بِهَا هَذِهِ الْأَمَانَةُ بِالْفِعْلِ هُوَ ابْتِعَادٌ عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَإِخْفَاءُ الْحَقِّ بِإِخْفَاءِ وَسَائِلِهِ هُوَ عَيْنُ الْإِضَاعَةِ لِلْحَقِّ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَاشِيًا بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتُبْدِلَتْ بِهِ الشُّرُوعُ وَالْبِدَعُ، وَرَأَيْنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ مَا اسْتُحْفِظُوا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ اسْتِبَانَةِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ وَقُرْبٍ، فَهُمْ خَوَنَةُ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالْأُمَنَاءِ. أَقُولُ: يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْرِفُوا الطُّرُقَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِيصَالِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ وَقَبُولِهِ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا أَمَانَةُ الْمَالِ، فَفِي هَذَا الْعَصْرِ تُؤَدَّى الْأَمْوَالُ إِلَى أَصْحَابِهَا بِطُرُقٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، مِنْهَا التَّحْوِيلُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَرِيدِ، وَمِنْهَا الْمَصَارِفُ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ تُوجَدُ طُرُقٌ لِنَشْرِ الْعِلْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَسْهَلُ مِنَ الطُّرُقِ السَّابِقَةِ، فَمَنْ أَبَى سُلُوكَهَا لَا يُعْذَرُ بِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ لِأَمَانَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ، وَرُبَّمَا قَيَّدُوا هَذَا بِمَا إِذَا فُقِدَ

مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا مَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ ; وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، أَفَيُتْرَكُ الْجَاهِلُونَ بِالسُّنَنِ الْعَامِلُونَ بِالْبِدَعِ حَتَّى يَطْرُقُوا أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ مَدَارِسِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ؟ ! وَلَا يَخْرُجُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ تَبِعَةِ الْكِتْمَانِ وَالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَةِ اللهِ بِتَصَدِّيهِمْ لِتَدْرِيسِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا تَفْهَمُهَا الْعَامَّةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَتُهَا ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِلْمِ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا تَمُرُّ الْأَعْصَارُ وَلَا يَقَعُ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهْلُهُ وَأَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ: لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ لَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهَا تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمِينَ لِشَخْصٍ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَكُلُّ مَنْ يَحْكُمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْعَدْلِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (16: 90) ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (5: 8) ، وَقَوْلُهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (4: 135) ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا حَدَّ الْعَدْلِ وَلَا تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ أَيْضًا، وَالْعَدْلُ وَقْفٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِيَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5: 1) ، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ بِمَا نَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (2: 188) ، الْآيَةَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرِشْوَةَ الْحُكَّامِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْبِيقُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قِيَاسٍ وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِجْهَادٍ لِلْفِكْرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ. وَالرُّكْنُ الثَّانِي لِلْعَدْلِ - هَكَذَا عَبَّرَ تَارَةً بِالنَّوْعِ وَتَارَةً بِالرُّكْنِ - يَتَأَلَّفُ مِنْ أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : فَهْمُ الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي وَالْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ مَوْضِعَ مَا بِهِ التَّنَازُعُ

وَالتَّخَاصُمُ بِأَدِلَّتِهِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ. (ثَانِيهِمَا) : اسْتِقَامَةُ الْحَاكِمِ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَمِنَ الْهَوَى بِأَنْ يَكْرَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ أَيْضًا، فَكُلٌّ مِنْ رُكْنَيِ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللهُ الْعَدْلَ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِنَفْسِهِ كَالنُّورِ. وَلَكَ ـ وَقَدْ فَهِمْتَ مَا قُلْنَاهُ ـ أَنْ نَقُولَ: الْعَدْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِقَامَةِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهُمَا فَهُوَ ظُلْمٌ، فَإِذَا أَخَّرَ الْقَاضِي النَّظَرَ فِي الْقَضِيَّةِ اتِّبَاعًا لِرُسُومٍ وَعَادَاتٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا إِقَامَةُ الْعَدْلِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلِ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ الْمُرَادُ، أَوْ أَخَّرَ الْحُكْمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُحَاكَمَةِ، وَاسْتِيفَاءِ أَسْبَابِهَا هَلْ يَكُونُ مُقِيمًا لِلْعَدْلِ؟ (قالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا فِي الدَّرْسِ فَضَجَّ الْحَاضِرُونَ بِقَوْلِ: لَا لَا) إِذَا عَلِمْنَا هَذَا وَتَأَمَّلْنَا فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَنَا الْيَوْمَ فَهَلْ نَرَاهَا جَارِيَةً عَلَى أُصُولِ الْعَدْلِ (قَالُوا: لَا لَا) . نَجِدُ مَحَاكِمَنَا الشَّرْعِيَّةَ تَشْتَرِطُ فِي تَوْجِيهِ الدَّعْوَى، وَفِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ شُرُوطًا وَأَلْفَاظًا مُعَيَّنَةً كَلَفْظِ: أَشْهَدُ، وَلَفْظِ هَذَا أَوِ الْمَذْكُورِ وَتَبْيِينِ النَّقْدِ وَذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ضُرِبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَهْمِهِ الْقَاضِي وَلَا الْخَصْمُ، فَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ كَثِيرًا مَا تَحُولُ دُونَ الْعَدْلِ إِذْ تُرَدُّ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا أَوِ الشَّهَادَةُ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِلْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا وَإِنْ أَدَّتْ مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَفَهْمِ الشَّرِيعَةِ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ إِضَاعَةِ الْعَدْلِ، وَلَا عُذْرَ لِلنَّاسِ بِالْجَهْلِ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ وَإِزَالَةُ كُلِّ مَا يَحُولُ دُونَ فَهْمِهَا مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَلَوْ كُنَّا نُقِيمُ الْعَدْلَ لَمَا كُنَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي دَرْسٍ آخَرَ: إِنَّهُ اطَّلَعَ بَعْدَ الدَّرْسِ الْأَوَّلِ ـ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ بِمَا رَأَيْتَ ـ عَلَى كِتَابِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَإِذَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَوَسَّعَ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي أَيْدِي الْحُكَّامِ، وَمِنْهَا أَلَّا يُوَلُّوا الْأُمُورَ إِلَّا خِيَارَ النَّاسِ الصَّالِحِينَ لَهَا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ـ أَيْ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ ـ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ "، أَيْ: سَاعَةَ قِيَامَةِ الْأُمَّةِ وَهَلَاكِهَا ; لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سَاعَةً، أَيْ: وَقْتًا تَهْلِكُ فِيهِ أَوْ يَذْهَبُ اسْتِقْلَالُهَا. أَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَتَجَلَّ تَمَامَ التَّجَلِّي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ وَنُفَصِّلُهُ فِي مَسَائِلَ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الْأَمَانَةِ: الْأَمَانَةُ مَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَمْنِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ يُقَالُ: أَمِنْتُهُ ـ كَسَمِعْتُهُ ـ عَلَى الشَّيْءِ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ (12: 64) ،

وَيُقَالُ: أَمِنَهَا بِكَذَا وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (3: 75) ، وَيُقَالُ: ائْتَمَنَ فُلَانًا، أَيْ: عَدَّهُ أَوِ اتَّخَذَهُ أَمِينًا، وَائْتَمَنَهُ عَلَى الشَّيْءِ كَأَمِنَهُ عَلَيْهِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (2: 283) ، وَكُلُّ أَمَانَةٍ يَجِبُ حِفْظُهَا، وَمِنْهَا مَا يُحْفَظُ فَقَطْ كَالسِّرِّ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبُو يُعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الِائْتِمَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَعُرْفٍ وَقَرِينَةٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ تَصْرِيحُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ، وَمِنْهَا، أَيِ ـ الْأَمَانَةِ ـ مَا يُحْفَظُ لِيُؤَدَّى إِلَى صَاحِبِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي ائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ لِأَجْلِهِ، وَيُسَمَّى مَا يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ وَيُؤَدِّيهَا حَفِيظًا وَأَمِينًا وَوَفِيًّا، وَيُسَمَّى مَنْ لَا يَحْفَظُهَا أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا خَائِنًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (8: 27) ، فَمَنْ خَانَ عَالِمًا كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْعَدْلِ: الْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ـ الْمِثْلُ، وَالْعَدِيلُ: الْمَثِيلُ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفُلَانٌ يَعْدِلُ فُلَانًا أَيْ يُسَاوِيهِ، وَيُقَالُ مَا يَعْدِلُكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ، أَيْ: مَا يَقَعُ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَوْقِعَكَ، وَعَدَلَ الْمَكَايِيلَ وَالْمَوَازِينَ سَوَّاهَا، وَعَدَلَ الشَّيْءَ يَعْدِلُهُ عَدْلًا وَعَادَلَهُ وَازَنَهُ، وَعَادَلْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَعَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ إِذَا سَوَّيْتُ بَيْنَهُمَا، وَتَعْدِيلُ الشَّيْءِ تَقْوِيمُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ تَقْوِيمُكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَجْعَلُهُ لَهُ مِثْلًا، وَالْعَدْلُ وَالْعِدْلُ وَالْعَدِيلُ سَوَاءٌ، أَيِ: النَّظِيرُ وَالْمَثِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمِثْلُ وَلَيْسَ بِالنَّظِيرِ عَيْنِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا (5: 95) ، قَالَ مُهَلْهِلٌ: عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا ظَهَرَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ وَالْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ ـ أَصْلُهُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: عَدَلْتُ بِهَذَا عَدْلًا حَسَنًا، نَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْمِثْلِ؛ لِتُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدْلِ الْمَتَاعِ كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ رَزَانٌ، وَعَجْزٌ رَزِينٌ لِلْفَرْقِ (ثُمَّ قَالَ) : وَالْعِدْلُ بِالْكَسْرِ: نِصْفُ الْحِمْلِ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيِ الْبَعِيرِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَدْلُ اسْمُ حِمْلٍ مَعْدُولٍ يُحْمَلُ آخَرُ مُسَوًّى بِهِ، وَالْجَمْعُ أَعْدَالٌ وَعُدُولٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْعَدِيلَتَانِ الْغِرَارَتَانِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُعَادِلُ صَاحِبَتَهَا، الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ عَدَلْتُ الْجُوَالِقَ عَلَى الْبَعِيرِ أَعْدِلُهُ عَدْلًا، يُحْمَلُ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ وَيُسَوَّى بِآخَرَ، ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَدَلُ ـ مُحَرَّكٌ ـ تَسْوِيَةُ الْأُونَيْنِ وَهُمَا الْعَدَلَانِ، وَيُقَالُ: عَدَلْتُ أَمْتِعَةَ الْبَيْتِ إِذَا جَعَلْتُهَا أَعْدَالًا مُسْتَوِيَةً لِلِاعْتِكَامِ يَوْمَ الظَّعْنِ، وَالْعَدِيلُ الَّذِي يُعَادِلُكَ فِي الْمَحْمَلِ اهـ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَوَّلِينَ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْمُعَاصِرِينَ فِي الْجَزِيرَةِ وَسُورِيَّةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ تَحَرِّي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَلَّا يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ يَجْعَلُهُمَا سَوَاءً كَالْعَدْلَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْعَدْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; فَإِنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعَدْلِ، بَلِ الْعَدْلُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كُلُّ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ وَيَتَخَاصَمُونَ فِيهَا قَدْ بُيِّنَتْ أَحْكَامُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا بُيِّنَ فِيهِمَا كَانَ خَيْرَ عَوْنٍ عَلَى الْعَدْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَمَا لَمْ يُبَيَّنْ يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَتَحَرَّوْا فِيهِ الْمُسَاوَاةَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمُ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بَيَانُ مَا يَجِبُ مِنَ اتِّبَاعِ أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا حَكَمَا بِهِ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ فِيمَا لَمْ يَحْكُمَا بِهِ. قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنَ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كَانَ لَا يُضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَأَلَّا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (4: 58) ، اهـ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْوَاعُ الْأَمَانَةِ: الْأَمَانَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ ; وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (8: 27) ، وَسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (23: 8، 70: 32) ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَمَانَةَ الْعِلْمِ، وَأَمَانَةَ الْمَالِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ ثَلَاثًا: (إِحْدَاهَا أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ) : وَهِيَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ حِفْظَهُ مِنَ الِائْتِمَارِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ

عَمًّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَاسْتِعْمَالُ مَشَاعِرِهِ وَجَوَارِحِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا خِيَانَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. ثَانِيهَا: (أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ النَّاسِ) وَيَدْخُلُ فِيهَا رَدُّ الْوَدَائِعِ وَعَدَمُ الْغِشِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَحِفْظُ السِّرِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لِآحَادِ النَّاسِ، وَلِلْحُكَّامِ، وَلِلْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ " عَدْلُ الْأُمَرَاءِ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ، وَعَدْلُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَوَامِّ بِأَلَا يَحْمِلُوهُمْ عَلَى التَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ، بَلْ يُرْشِدُوهُمْ إِلَى اعْتِقَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ "، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ الْعَامَّةَ مَسَائِلَ الْخِلَافِ الَّتِي تُثِيرُ التَّعَصُّبَ بَيْنَهُمْ، وَالَّذِينَ لَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنْ أُمُورِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي تُقَوِّي إِيمَانَهُمْ وَتُنَفِّرُهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، كُلُّ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْخَائِنِينَ لِلْأُمَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَسَّمَ إِلَى أَقْسَامٍ، فَيُجْعَلَ رِعَايَةُ أَمَانَةِ الْحُكَّامِ قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الْأَقْرَبِينَ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالصِّهْرِ قِسْمًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُفْشِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ سِرَّ الْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا السِّرُّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَادَةً مِنْهُمَا سِوَاهُمَا، وَرِعَايَةُ أَمَانَاتِ سَائِرِ النَّاسِ قِسْمًا. ثَالِثُهَا: (أَمَانَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ) وَعَرَّفَهَا الرَّازِيُّ بِأَلَّا يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَالْأَصْلَحُ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَلَّا يُقَدَّمَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ. أَقُولُ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَجْمَلَهُ تَوَقِّي الْإِنْسَانِ لِأَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَمَانَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَلُّمِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْأَمْرَاضِ الْوَبَائِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ نَفْعُ بَعْضِ مَا يُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرَضِ كَتَلْقِيحِ الْجُدَرِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْمَرَضِ، وَتَفْصِيلُ رِعَايَةِ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ يَطُولُ، وَسَنُعِيدُ الْبَحْثَ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ إِنْ أَنْسَأَ اللهُ فِي الْعُمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْأَمْرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْأَحْكَامِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَالتَّخَاصُمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَنَاءَ يَقُومُونَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ بِوَازِعِ الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ، وَالْخِيَانَةُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الْأُمَّةِ الْمُتَدَيِّنَةِ إِلَّا شُذُوذًا، وَقَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ إِذَا رَاعَى النَّاسُ أَمَانَاتِهِمْ وَأَدَّوْهَا إِلَى أَهْلِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَرَدَ فِي الْأَمَانَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَوَرَدَ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُشَدِّدَةٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَتِهَا وَأَدَائِهَا وَتَشْنِيعِ الْخِيَانَةِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، مِنْهَا حَدِيثُ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ

وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ، مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ رُسْتَهْ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ أَبِي الْحَسَنِ الزُّهْرِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ) فِي الْإِيمَانِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي التَّوْبِيخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ بِالصِّحَّةِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا الْأَمَانَةَ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةَ مَغْرَمًا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا وَمَضَرَّةِ الْخِيَانَةِ: ذَكَرَ حَكِيمُ الْإِسْلَامِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي رِسَالَتِهِ (الرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيِّينَ) الَّتِي أَلَّفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَتَرْجَمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الدِّينَ قَدْ أَفَادَ النَّاسَ ثَلَاثَ عَقَائِدَ وَثَلَاثَ خِصَالٍ أَقَامُوا بِهَا بِنَاءَ مَدَنِيَّتِهِمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوِ الصِّفَاتِ: الْأَمَانَةُ: وَهَاكَ مَا قَالَهُ فِيهَا فَهُوَ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ: " مِنَ الْمَعْلُومِ الْجَلِيِّ أَنَّ بَقَاءَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَائِمٌ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فِي مَنَافِعِ الْأَعْمَالِ، وَرُوحُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ إِنَّمَا هِيَ الْأَمَانَةُ، فَإِنْ فَسَدَتِ الْأَمَانَةُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بَطَلَتْ صِلَاتُ الْمُعَامَلَةِ وَانْبَتَرَتْ حِبَالُ الْمُعَاوَضَةِ، فَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ، وَأَفْضَى ذَلِكَ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَنَاءِ الْعَاجِلِ. " ثُمَّ مِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ الْأُمَمَ فِي رَفَاهَتِهَا، وَالشُّعُوبَ فِي رَاحَتِهَا وَانْتِظَامِ أَمْرِ مَعِيشَتِهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحُكُومَةِ بِأَيِّ أَنْوَاعِهَا، إِمَّا جُمْهُورِيَّةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مَشْرُوطَةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مُقَيَّدَةً، وَالْحُكُومَةُ فِي أَيِّ صُوَرِهَا لَا تَقُومُ إِلَّا بِرِجَالٍ يَلُونَ ضُرُوبًا مِنَ الْأَعْمَالِ فَمِنْهُمْ حُرَّاسٌ عَلَى حُدُودِ الْمَمْلَكَةِ يَحْمُونَهَا مِنْ عُدْوَانِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا، وَيُدَافِعُونَ فِي الْوَالِجِ فِي ثُغُورِهَا، وَحَفَظَةٌ فِي دَاخِلِ الْبِلَادِ يَأْخُذُونَ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِمَّنْ يَهْتِكُ سِتْرَ الْحَيَاءِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاعْتِدَاءِ مِنْ فَتْكٍ أَوْ سَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الشَّرْعِ، وَعُرَفَاءُ الْقَانُونِ يَجْلِسُونَ عَلَى مِنَصَّاتِ الْأَحْكَامِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَالْحُكْمِ فِي الْمُنَازَعَاتِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ يُحَصِّلُونَ مِنَ الرَّعَايَا مَا فَرَضَتْ عَلَيْهِمُ الْحُكُومَةُ مِنْ خَرَاجٍ مَعَ مُرَاعَاةِ قَانُونِهَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُسْتَحْفَظُونَ مَا يُحَصِّلُونَ فِي خَزَائِنِ الْمَمْلَكَةِ، وَهِيَ خَزَائِنُ الرَّعَايَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَفَاتِيحُهَا بِأَيْدِي خَزَنَتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى صَرْفَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِلرَّعِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الِاقْتِصَادِ وَالْحِكْمَةِ، كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ، وَالْمَكَاتِبِ، وَتَمْهِيدِ الطُّرُقِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَإِقَامَةِ الْجُسُورِ، وَإِعْدَادِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَيُؤَدِّي أَرْزَاقَ سَائِرِ الْعَامِلِينَ فِي شُئُونِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْحُرَّاسِ وَالْحَفَظَةِ وَقُضَاةِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ حَسْبَمَا عُيِّنَ لَهُمْ، وَهَذِهِ الطَّبَقَاتُ مِنْ رِجَالِ الْحُكُومَةِ الْوَالِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا إِنَّمَا تُؤَدِّي كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا عَمَلَهَا الْمَنُوطَ بِهَا بِحُكْمِ

الْأَمَانَةِ، فَإِنْ خَزِيَتْ أَمَانَةُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ وَهُمْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةِ سَقَطَ بِنَاءُ السُّلْطَةِ وَسُلِبَ الْأَمْنُ، وَرَاحَتِ الرَّاحَةُ مِنْ بَيْنِ الرَّعَايَا كَافَّةً وَضَاعَتْ حُقُوقُ الْمَحْكُومِينَ، وَفَشَا فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالتَّنَاهُبُ وَوَعِرَتِ طُرُقُ التِّجَارَةِ، وَتَفَتَّحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَخَوَتْ خَزَائِنُ الْحُكُومَةِ، وَعُمِّيَتْ عَلَى الدَّوْلَةِ سُبُلُ النَّجَاحِ ; فَإِنْ حَزَبَهَا أَمْرٌ سُدَّتْ عَلَيْهَا نَوَافِذُ النَّجَاةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْمًا يُسَاسُونَ بِحُكُومَةٍ خَائِنَةٍ، إِمَّا أَنْ يَنْقَرِضُوا بِالْفَسَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُمْ جَبَرُوتُ أُمَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ يَسُومُونَهُمْ خَسْفًا، وَيَسْتَبِدُّونَ فِيهِمْ عَسْفًا فَيَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَرَارَةِ الِانْقِرَاضِ وَالزَّوَالِ. " وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْتِعْلَاءَ قَوْمٍ عَلَى آخَرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّحَادِ آحَادِ الْعَامِلِينَ وَالْتِئَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِبِنْيَةِ قَوْمِهِ كَالْعُضْوِ لِلْبَدَنِ، وَلَنْ يَكُونَ هَذَا الِاتِّحَادُ حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانَةُ قَدْ مَلَكَتْ قِيَادَهُمْ، وَعَمَّتْ بِالْحُكْمِ أَفْرَادَهُمْ. " فَقَدْ كَشَفَ الْحَقُّ أَنَّ الْأَمَانَةَ دِعَامَةُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، وَمُسْتَقَرُّ أَسَاسِ الْحُكُومَاتِ، وَبَاسِطُ ظِلَالِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، وَرَافِعُ أَبْنِيَةِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ، وَرُوحُ الْعَدَالَةِ وَجَسَدُهَا، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِدُونِهَا. " وَإِلَيْكَ الِاخْتِيَارُ فِي فَرْضِ أُمَّةٍ عَطَّلَتْ نُفُوسَهَا مِنْ حِلْيَةِ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْجَلِيلَةِ، فَلَا تَجِدُ فِيهَا إِلَّا آفَاتٍ جَائِحَةً وَرَزَايَا قَاتِلَةً، وَبَلَايَا مُهْلِكَةً، وَفَقْرًا مُعْوِزًا، وَذُلًّا مُعْجِزًا، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَبْتَلِعَهَا بَلَالِيعُ الْعَدَمِ، وَتَلْتَهِمَهَا أُمَّهَاتُ اللهِيمِ اهـ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90) ، وَقَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (49: 9) ، وَالْإِقْسَاطُ هُوَ: الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ آمِرًا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنِكُمْ (42: 15) ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا (4: 135) ، الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (5: 8) ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَلَا الْآيَاتِ الْمُحَرِّمَةِ لِلظُّلْمِ الْمُتَوَعِّدَةِ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (6: 152) ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ وَهُوَ هُنَا: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ

وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعِظُكُمْ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَفَلَاحُكُمْ مَا عَمِلْتُمْ بِهِ مُهْتَدِينَ مُتَّعِظِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَلَا مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَلَا مِنْ نِيَّاتِكُمْ، فَلَا تَدَّعُوا مَا لَيْسَ فِيكُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ وَلَا تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ; فَإِنَّهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ. أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَبِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ مُخَاطِبًا بِذَلِكَ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا كَانَ يَدْخُلُ فِي رَدِّ الْأَمَانَاتِ تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ أَمَرَّ الْأَحْكَامَ إِلَى أَهْلِهَا الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ يَجِبُ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مُرَاعَاةُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا يَتَجَدَّدُ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مُنَاسَبَةِ الِاتِّصَالِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَرَدَتَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: إِنَّ الْكَافِرِينَ أَهْدَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَمِنَ الطَّاغُوتِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْنَامُ وَالْكُهَّانُ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ الْكَاهِنَ، وَيَجْعَلُونَهُ شَارِعًا وَيَقْتَسِمُونَ عِنْدَ الصَّنَمِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ فَصْلًا فِي الْخُصُومَةِ. وَقَدِ اتَّخَذَ الْيَهُودُ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ مِثْلَهُمْ، وَطَوَاغِيتُهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ أَعْلَمُ مِنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمَصْلَحَتِنَا، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا حَالَهُمْ وَقَرَنَهُ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ نَسِيرَ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى لَا نَضِلَّ كَمَا ضَلَّ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَفْرَادًا مِنْهُمْ أَرْبَابًا إِذْ جَعَلُوهُمْ شَارِعِينَ فَكَانُوا سَبَبَ طُغْيَانِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ سُمُّوا طَوَاغِيتَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَهِيَ الْعَمَلُ بِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَبِطَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أَعَادَ لَفْظَ الطَّاعَةِ لِتَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ تَوْحِيدٍ مَحْضٍ لَا يَجْعَلُ لِغَيْرِ اللهِ أَمْرًا، وَلَا نَهْيًا، وَلَا تَشْرِيعًا، وَلَا تَأْثِيرًا، فَكَانَ رُبَّمَا يُسْتَغْرَبُ فِي كِتَابِهِ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ غَيْرِ وَحْيِ اللهِ، وَلَكِنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ شَرْعَهُ لِلنَّاسِ رُسُلٌ مِنْهُمْ وَتَكَلَّفَ بِعِصْمَتِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيمَا يُبَيِّنُونَ بِهِ الدِّينَ وَالشَّرْعَ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَرَعَ لَنَا عِبَادَةَ الصَّلَاةِ، وَأَمَرَنَا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّتَهَا وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا، وَلَا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَلَا تَحْدِيدَ أَوْقَاتِهَا فَبَيَّنَهَا الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) ، فَهَذَا الْبَيَانُ بِإِرْشَادٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَاتِّبَاعُهُ لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَلَا كَوْنَ الشَّارِعِ هُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ.

قَالَ: وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَاشْتَرَطُوا فِيهِمْ أَلَّا يَأْمُرُوا بِمُحَرَّمٍ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، أَيْ: وَإِنَّمَا أَخَذُوا هَذَا الْقَيْدَ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَحَدِيثِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ فِي الْحُكَّامِ فَأَوْجَبُوا طَاعَةَ كُلِّ حَاكِمٍ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ، فَمَنْ يُطَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ وَمَنْ يُعْصَى؟ وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَنْبِطُوا الْأَحْكَامَ غَيْرَ الْمَنْصُوصَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ، وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَصَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَمَعْنَى وَأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمُ النَّظَرُ فِي أَمْرِ إِصْلَاحِ النَّاسِ، أَوْ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِطَاعَتِهِمْ بِدُونِ شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ فَانْتَهَى بِهِ الْفِكْرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَسَائِرُ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فِي الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ، أَوْ حُكْمٍ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا، وَأَلَّا يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ وَلَا سُنَّةَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّتِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الْأَمْرِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا لِأُولِي الْأَمْرِ سُلْطَةٌ فِيهِ وَوُقُوفٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِقَادِ الدِّينِيِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ لَيْسَ لِأَحَدٍ رَأْيٌ فِيهِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي فَهْمِهِ. فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمَلٍ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنِ الشَّارِعِ ـ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ وَلَا نُفُوذِهِ ـ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَعْصُومُونَ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ ; وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِطَاعَتِهِمْ بِلَا شَرْطٍ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَالِاتِّبَاعِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ كَالدِّيوَانِ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَمَرُ بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي أُخِذَ بِهَا بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَأَمْرُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الثَّابِتَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْعَمَلِ هُمَا الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَنْهُمَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِيهَا وَيَتْبَعُونَهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِي تَقْرِيرِ مَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا وَأَجْمَعُوا وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا

59

فَقَدْ بَيَّنَ الْوَاجِبَ فِيمَا تَنَازَعُوا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْمُطَّرِدَةِ، فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمَا عُلِمَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَنَا، وَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ، وَمَا كَانَ مُنَافِرًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ وَوَجَبَ تَرْكُهُ وَبِذَلِكَ يَزُولُ التَّنَازُعُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ، وَهَذَا الرَّدُّ وَاسْتِنْبَاطُ الْفَصْلِ فِي الْخِلَافِ مِنَ الْقَوَاعِدِ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِي الْقِيَاسِ شُرُوطًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِلَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ أَلَّا يَقَعَ خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَالشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي أَحْكَامِهِمَا، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْمُرَادُ أَلَّا يُفْضِيَ التَّنَازُعُ إِلَى اخْتِلَافِ التَّفَرُّقِ الَّذِي يُلْبِسُ الْمُسْلِمِينَ شِيَعًا وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالْآيَةِ فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا. ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ كَوْنِهِمْ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ سَبَقَهُ إِلَيْهِ حَتَّى رَآهُ فِي تَفْسِيرِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَأَقُولُ: إِنَّ النَّيْسَابُورِيَّ قَدْ لَخَّصَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، بَلْ جَمِيعُ تَفْسِيرِهِ تَلْخِيصٌ لِتَفْسِيرِ الرَّازِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ الْأُسْتَاذُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ عِبَارَةِ الرَّازِيِّ تُشْعِرُ بِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَارَةً بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ يُسَمِّي أَهْلَ الْإِجْمَاعِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ بِالْفِعْلِ. وَأَمَّا النَّيْسَابُورِيُّ فَعِبَارَتُهُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِبْطَالِ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ: " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ مَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ اهـ. فَقَوْلُهُ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الَّذِي أَدْخَلَ فِيهِ أُمَرَاءَ الْجُنْدِ وَرُؤَسَاءَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَحْفَظُ مَصَالِحَهَا، وَبِاتِّفَاقِهِمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ. وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ بَعْضَ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ فِي عُرْفِ أَهْلِ السِّيَاسَةِ بِسُلْطَةِ الْأُمَّةِ، وَتَفْنِيدُهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَهُوَ مَا يَتَزَلَّفُ بِهِ الْمُتَزَلِّفُونَ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَسَامِعِ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي كُلِّ صَلَاةِ جُمُعَةٍ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ صَرَّحْنَا بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَنَارِ وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَقْرِيرِ كَوْنِ الْجَزْمِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ يَقْتَضِي عِصْمَتَهُمْ فِيمَا يُطَاعُونَ فِيهِ

مَا نَصُّهُ: " ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، (أَقُولُ: وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ) ، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ (كَذَا) عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي أُولِي الْأَمْرِ أَرْبَعَةٌ: 1 - الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. 2 - أُمَرَاءُ السَّرَايَا (أَقُولُ: وَهُمْ قُوَّادُ الْعَسْكَرِ) عِنْدَ عَدَمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِيهِ أَيْ: فِي الْعَسْكَرِ. 3 - عُلَمَاءُ الدِّينِ الَّذِينَ يُفْتُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ. 4 - الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ وَعَزَاهُ إِلَى الرَّافِضَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَارَهُ إِيرَادَيْنِ أَوْ سُؤَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ، أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَالَغَ بِالتَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَطْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ بِوُجُوهٍ أُخْرَى أَقْوَى مِنْهَا: فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَيْسَ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا قِسْمًا مُنْفَصِلًا عَنْ طَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلْأُسْتَاذِ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا تَحْتَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمْكَنَ جَعْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُنْفَصِلًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهَذَا أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ يَقْتَضِي إِدْخَالَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْأُمَرَاءِ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانُوا مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُ الشَّرْطُ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ مُشْعِرٌ بِإِجْمَاعٍ مُقَدَّمٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ هَذَا التَّنَازُعِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا وَعِنْدَنَا أَنَّ طَاعَةَ الْإِجْمَاعِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَأَمَّا طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَفِي الْأَقَلِّ تَكُونُ وَاجِبَةً بِحَسَبِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فَكَانَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالرَّسُولِ عَلَى الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَاجِرِ الْفَاسِقِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ " أُولِي الْأَمْرِ " عَلَيْهِمْ أَوْلَى. قَالَ: وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ كَمَا تَقُولُهُ الرَّوَافِضُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَقُدْرَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِمْ كَانَ هَذَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ إِذَا صِرْنَا عَارِفِينَ بِهِمْ وَبِمَذَاهِبِهِمْ صَارَ هَذَا الْإِيجَابُ مَشْرُوطًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ:

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ. أَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ يَقُولُونَ: إِنَّ فَائِدَةَ اتِّبَاعِهِ إِنْقَاذُ الْأُمَّةِ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَضَرَرِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ كَأَنْ يَخْتَلِفَ أُولُو الْأَمْرِ فِي حُكْمِ بَعْضِ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ، وَالْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ مَعَ وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِهِمْ. وَحَصْرُ الرَّازِيِّ الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الصَّحَابَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَهِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الرَّازِيُّ يَعْنِي بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ فَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ الْآخَرِ فَقَدْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ قَوْلَ ابْنِ كَيْسَانَ: إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ قَوْلًا إِلَّا وَتَجِدُ لِمَنْ قَبْلَهُ قَوْلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا مُفَصَّلًا حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ يَضِيعُ وَلَا يَفْهَمُ الْجُمْهُورُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَهَذَا الرَّازِيُّ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ فِي الْمَسَائِلِ لَمْ يَحُلَّ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ، إِذْ عَبَّرَ تَارَةً بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَتَارَةً بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ أَوِ اخْتَارَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ يَكُونُ الرَّازِيُّ قَدْ حَقَّقَ مَسْأَلَةَ الْإِجْمَاعِ أَفْضَلَ التَّحْقِيقِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. قَالَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ: أَحَدُهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ " إِلَخْ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْجُنْدِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَدُهَمَاءَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ بِارْتِيَاحٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْعَارِفُونَ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ وَاتِّفَاقَهُمْ مَيْسُورٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ بِمَعْنَى

إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِرِمَّتِهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَتَحَقَّقُ بِإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفِقْهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَعْرِفُوا، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا وَأَنْ تَعْلَمَ الْأُمَّةُ بِإِجْمَاعِهِمْ وَتَثِقَ بِهِمْ. إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أُصُولَ الدِّينِ وَشَرِيعَتَهُ وَالْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَهِيَ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى. الْأَصْلُ الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ طَاعَةُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعُ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالرُّؤَسَاءِ فِي الْجَيْشِ، وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا رُؤَسَاءُ الْعُمَّالِ، وَالْأَحْزَابِ، وَمُدِيرُو الْجَرَائِدِ الْمُحْتَرَمَةِ وَرُؤَسَاءُ تَحْرِيرِهَا، وَطَاعَتُهُمْ حِينَئِذٍ هِيَ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ. الْأَصْلُ الرَّابِعُ: عَرْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ. فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَصَادِرُ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ جَمَاعَةٍ يَقُومُونَ بِعَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُتَنَازَعُ فِيهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَلْ يَكُونُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ أَوْ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ؟ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا. وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ الْحُكْمُ بِمَا يُقَرِّرُهُ أُولُو الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ جَمَاعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ: الْأُولَى: جَمَاعَةُ الْمُبَيِّنِينَ لِلْأَحْكَامِ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهَيْئَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ: جَمَاعَةُ الْحَاكِمِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْهَيْئَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ. وَالثَّالِثَةُ: جَمَاعَةُ الْمُحَكِّمِينَ فِي التَّنَازُعِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةً مِنَ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى. وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ قَبُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْخُضُوعُ لَهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِذَلِكَ خَاضِعَةً خَانِعَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا خَارِجَةً مِنْ دَائِرَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي شِعَارُهُ إِنَّمَا الشَّارِعُ هُوَ اللهُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (12: 40) ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى أَوْ حُكْمِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِذْنِهِ، أَوْ حُكْمِ نَفْسِهَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ لَهَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّذِينَ وَثِقَتْ بِهِمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ خَاضِعَةً لِوِجْدَانِهَا لَا تَشْعُرُ بِاسْتِبْدَادِ أَحَدٍ فِيهَا، وَلَا بِاسْتِذْلَالِهِ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهَا، بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ لِحُكُومَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَّةٌ: أَنَّهَا أَعَزُّ النَّاسِ نُفُوسًا وَأَرْفَعُهُمْ رُؤُوسًا، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَا بُدَّ لَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَرِّرَ مَسْأَلَةَ التَّنَازُعِ مِنْ فَتْحِ بَابِ الْبَحْثِ فِي اجْتِمَاعِ أُولِي الْأَمْرِ

وَتَقْرِيرِهِمْ لِلْأَحْكَامِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ مَعْنَاهُ أَصْحَابُ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي حُكْمِهَا وَإِدَارَةِ مَصَالِحِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (42: 38) ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ تُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَيَكُونَ رَأْيُهَا كَرَأْيِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لِعِلْمِهِمْ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَغَيْرَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَلِمَا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مِنَ الثِّقَةِ بِهِمْ وَالِاطْمِئْنَانِ بِحُكْمِهِمْ، بِحَيْثُ تَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ عَامِلَةً بِحُكْمِ نَفْسِهَا وَخَاضِعَةً لِقَلْبِهَا وَضَمِيرِهَا، وَمَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَجْمَعُهُمْ، وَلِمَاذَا لَمْ يُوضَعْ لَهُمْ نِظَامٌ فِي الْإِسْلَامِ كَنِظَامِ مَجَالِسِ الشُّورَى، الَّتِي تُسَمَّى مَجَالِسَ النُّوَّابِ فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ؟ بَحَثْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (3: 159) ، فَبَيَّنَّا الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ لِعَدَمِ وَضْعِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا النِّظَامَ، وَكَيْفَ كَانَتْ خِلَافَةُ الرَّاشِدِينَ بِالشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ زَمَانِهِمْ، وَكَيْفَ أَفْسَدَ الْأُمَوِيُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكُومَةَ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا قَوَاعِدَهَا وَسَنُّوا لِلْمُسْلِمِينَ سُنَّةَ الْحُكُومَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمُؤَيَّدَةِ بِعَصَبِيَّةِ الْحَاكِمِ، فَعَلَيْهِمْ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَفْوَةُ مَا هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُوضَعَ لَهُ نِظَامٌ مُوَافِقٌ لِحَالِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَأُولُو الْأَمْرِ فِيهِمْ مَحْصُورُونَ فِي الْحِجَازِ وَيُجْعَلَ عَامًّا لِكُلِّ زَمَانٍ، وَلَوْ وَضَعَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَاتَّخَذُوهُ دِينًا وَتَقَيَّدُوا بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ كُلَّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَكَانَ إِذَا عَمِلَهُ بِاجْتِهَادِهِ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَإِذَا عَمِلَهُ بِالشُّورَى جَازَ أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْمُسْتَشَارِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ـ فَيَكُونَ رَأْيُهُمْ قَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ مَدَى الدَّهْرِ، وَيَتَّخِذُونَهُ دِينًا كَمَا اتَّخَذُوا كَثِيرًا مِنْ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ [رَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي ص 163 وَمَا بَعْدَهَا ج4 ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هَدَانَا إِلَى أَفْضَلِ وَأَكْمَلِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا حُكُومَتَنَا وَنُقِيمَ بِهَا دَوْلَتَنَا، وَوَكَلَ هَذَا الْبِنَاءَ إِلَيْنَا فَأَعْطَانَا بِذَلِكَ الْحُرِّيَّةَ التَّامَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ الْكَامِلَ فِي أُمُورِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَمَصَالِحِنَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَنَا شُورَى بَيْنَنَا يَنْظُرُ فِيهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّذِينَ نَثِقُ بِهِمْ، وَيُقَرِّرُونَ لَنَا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُنَا وَتَسْعَدُ أُمَّتُنَا، لَا يَتَقَيَّدُونَ فِي ذَلِكَ بِقَيْدٍ إِلَّا هِدَايَةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِمَا قُيُودٌ تَمْنَعُ سَيْرَ الْمَدَنِيَّةِ أَوْ تُرْهِقُ الْمُسْلِمِينَ عُسْرًا فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ أَسَاسُهُمَا الْيُسْرُ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَحَظْرُ الضَّارِّ، وَإِبَاحَةُ النَّافِعِ، وَكَوْنُ مَا حُرِّمَ

لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَمُرَاعَاةُ الْعَدْلِ لِذَاتِهِ، وَرَدُّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَلَكِنَّنَا مَا رَعَيْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا فَقَيَّدْنَا أَنْفُسَنَا بِأُلُوفٍ مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي اخْتَرَعْنَاهَا وَسَمَّيْنَاهَا دِينًا، فَلَمَّا أَقْعَدَتْنَا هَذِهِ الْقُيُودُ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ صَارَ حُكَّامُنَا الَّذِينَ خَرَجُوا بِنَا عَنْ هَذِهِ الْأُسُسِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا رَضُوا بِالْقُعُودِ وَاخْتَارُوا الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ بِمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى قُيُودِهِمُ التَّقْلِيدِيَّةِ مُحَافِظُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَائِلِينَ: إِنَّ الْمَوْتَ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْحَيَاةِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ حُكُومَتِهِمْ، وَفَرِيقًا رَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوَانِينِهِمُ الْأَسَاسِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِجَهْلِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْإِسْلَامُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكِتَابُ اللهِ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَنُورُهُ مُتَأَلِّقٌ لَا يَخْفَى، وَإِنْ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَلْفَ حِجَابٍ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (6: 149) . لَيْسَ بَيْنَ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ الَّذِي قَرَّرَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا، وَبَيْنَ الْقَوَانِينِ الْأَسَاسِيَّةِ لِأَرْقَى حُكُومَاتِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا فَرْقٌ يَسِيرٌ، نَحْنُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَأَثْبَتُ فِي الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ إِذَا نَحْنُ عَمِلْنَا بِمَا هَدَانَا إِلَيْهِ رَبُّنَا. هُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَصْدَرَ الْقَوَانِينِ الْأُمَّةُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ آنِفًا، وَالْمَنْصُوصُ قَلِيلٌ جِدًّا. وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْأُمَّةِ مَنْ يُمَثِّلُهَا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَا يُقَرِّرُونَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَرَّرَتْهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِالِانْتِخَابِ وَلَهُمْ فِيهِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَنَحْنُ لَمْ يُقَيِّدْنَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَنَا أَنْ نَسْلُكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مَا نَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصِدِ، وَلَكِنَّهُ سَمَّى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ أَيْ: أَصْحَابِ الشَّأْنِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مَصَالِحِهَا وَتَطْمَئِنُّ هِيَ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مَحْصُورِينَ فِي مَرْكَزِ الْحُكُومَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا كَانُوا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَالسِّتَّةُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ عُمَرُ لِلشُّورَى فِي انْتِخَابِ خَلَفٍ لَهُ كَانُوا هُمْ أُولِي الْأَمْرِ ; وَلِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِهِمْ، وَلَوْ بَايَعَ غَيْرُهُمْ أَمِيرًا لَمْ يُبَايِعُوهُ لَانْشَقَّتِ الْعَصَا وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ، وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْبِلَادِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ جَمْعِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يَضَعُوا قَانُونًا لِذَلِكَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا تَفَرَّقُوا وَجَبَ عَلَى الْحُكُومَةِ تَنْفِيذُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ الطَّاعَةُ، وَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا الْحَاكِمَ الَّذِي لَا يُنَفِّذُ قَانُونَهُمْ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي نَعُدُّهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِنَا. وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا يَجِبُ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عِنْدَنَا يُرَدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُعْرَضُ عَلَى أُصُولِهِمَا وَقَوَاعِدِهِمَا،

فَيُعْمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَهُمَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ لَيْسَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ رَأْيِ الْأَقَلِّينَ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ حَيْثُ يَتَكَوَّنُ الْأَكْثَرُ مِنْ حِزْبٍ يَنْصُرُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَتَوَاضَعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ أَقَلِّهِمْ لِأَكْثَرِهِمْ فِي خَطَئِهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَعْضَاءُ الْمَجْلِسِ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ يَتَّبِعُونَ حِزْبًا مِنَ الْأَحْزَابِ، وَأَرَادَ زُعَمَاءُ هَذَا الْحِزْبِ تَقْرِيرَ مَسْأَلَةٍ، فَإِذَا أَقْنَعُوا بِالدَّلِيلِ أَوِ النُّفُوذِ سِتِّينَ مِنْهُمْ يَتْبَعُهُمُ الْخَمْسُونَ الْآخَرُونَ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خَطَأَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ عَدَدُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ الْمَسْأَلَةِ 140 وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ حَقِيقَتَهَا سِتُّونَ، وَهُمْ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَتُنَفِّذُ بِرَأْيِهِمْ. الْأَكْثَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِّيَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا هِيَ بَالَتِي تَطْمَئِنُّ الْأُمَّةُ إِلَى رَأْيِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ مَسْأَلَةً مَالِيَّةً أَوْ عَسْكَرِيَّةً مَثَلًا لَيْسَ فِيهِمُ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَيَظْهَرُ لِلْجُمْهُورِ خَطَؤُهَا فَتَتَزَلْزَلُ ثِقَتُهُ بِمَجْلِسِ الْأُمَّةِ وَيُفْتَحُ بَابُ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُخْشَى أَنْ تَتَأَلَّفَ الْأَحْزَابُ لِلْمُقَاوَمَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ الْجُمْهُورُ الْمُخَالِفُ عَلَى الْقَبُولِ إِكْرَاهًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْعَصَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ، لَا لِلْأُمَّةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَطَّلَعَ رُؤُوسُ الْفِتَنِ وَهَذَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ فِي أَسَاسِ الْحُكْمِ وَأُصُولِ السُّلْطَةِ، لِئَلَّا تَهْلِكَ الْأُمَّةُ بِقِيَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ مَقَاتِلِهَا، وَقَدْ نُهِينَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا حِكْمَةُ عَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ عَلَى جَمَاعَةٍ يَرُدُّونَهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهَا بِقَوَاعِدِهِمَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا تَرْضَى بِفَصْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَمَا تُؤَيِّدُهُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ فَقَطْ أَمْ مِنْ طَبَقَاتِ أُولِي الْأَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مُخَيَّرِينَ فِي طَرِيقَةِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنِ اتَّضَحَ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتْمًا، وَإِلَّا كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي تَرْجِيحِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُبْنَى تَرْجِيحُهُ؟ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَجَّحَ فِي أُحُدٍ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ، وَرَجَّحَ فِي بَدْرٍ الرَّأْيَ الْمُوَافِقَ لِرَأْيِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَكْثَرِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَلَا مَجَالَ فِي هَذَا لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ أَيِ الْعَامَّةُ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا

يَخْتَصُّ بِأَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تُقِيمَ مَنْ يَحْكُمُ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْتِي هُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَالتَّنَازُعُ مِنَ النَّزْعِ وَهُوَ الْجَذْبُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْذِبُ الْآخَرَ إِلَى رَأْيِهِ، أَوْ يَجْذِبُ حُجَّتَهُ مِنْ يَدِهِ وَيُلْقِي بِهَا، وَالْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَفَرُّقٌ وَلَا خِلَافٌ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (42: 13) ، لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: آيَةُ الِاسْتِنْبَاطِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (4: 83) ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ هُوَ الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي لَهَا الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ اسْتِنْبَاطِهِ وَإِقْنَاعِ الْآخَرِينَ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ مُلُوكٌ وَلَا أُمَرَاءُ، وَأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْكَامِ الْفَتْوَى فَقَطْ ; لِأَنَّ مَسَائِلَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَلَا الِاجْتِهَادُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَخْ، أَوْ رُدُّوا الشَّيْءَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِلَخْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُؤْثِرُ عَلَى حُكْمِ اللهِ شَيْئًا، وَالْمُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَهْتَمُّ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا، فَلَوْ كَانَ لَهُ هَوًى فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَتْرُكُهُ لِحُكْمِ اللهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَوْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُؤْثِرُ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَهْوَائِهِ وَحُظُوظِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِيهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ. ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا هَذَا بَيَانٌ لِفَائِدَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْ هَذَا الرَّدِّ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ بَيَانِ فَائِدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي شَرَّعْنَاهُ لَكُمْ فِي تَأْسِيسِ حُكُومَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَمْرِكُمْ، أَوْ ذَلِكَ الرَّدُّ لِلشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَكُمْ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسَاسٍ لِحُكُومَتِكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمْ يَشْرَعْ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ إِلَّا مَا هُوَ قِيَامٌ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا فِي نَفْسِهِ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ مَآلًا وَعَاقِبَةً ; لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عِرْقَ التَّنَازُعِ وَيَسُدُّ ذَرَائِعَ الْفِتَنِ وَالْمَفَاسِدِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرِ وَهُوَ الرَّدُّ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَذْكِيرُهُمْ بِاللهِ حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوا شَهَوَاتِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الرَّدِّ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَإِخْرَاجٌ لَهُ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا: أَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَوْ جَرَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، فَقَدْ رَأَيْنَا كَيْفَ سَعِدَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ، وَكَيْفَ شَقِيَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا فَهُوَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَكُونُ صُوَرًا مَعْقُولَةً وَعِبَارَاتٍ مَقُولَةً حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا فَتَظْهَرَ فَائِدَتُهَا وَأَثَرُهَا، فَعِلْمُنَا بِالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَا نَعْرِفُ الْحَقَائِقَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا صِرْنَا إِلَيْهَا. أَقُولُ: تِلْكَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَدَنِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الْقَضَائِيَّةُ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَلَا تُبْصِرُ فِيهَا غِلًّا وَلَا قَيْدًا، وَلَيْسَ فِيهَا عُسْرٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاضْطِرَابِ وَالْهَرْجِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا إِلَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَمْ تَكْتَحِلْ بِمِثْلِ عَدْلِهِمْ عَيْنُ الدُّنْيَا إِلَى الْآنِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لَنَا بِالْإِسْلَامِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَوَضَعَ لَنَا أُصُولَ الْكَمَالِ لِلشَّرِيعَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَوَكَلَ إِلَيْنَا أَمْرَ التَّرَقِّي فِيهَا بِمُرَاعَاةِ تِلْكَ الْأُصُولِ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا بَعْدَ اتِّسَاعِ مُلْكِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولِ الْمَمَالِكِ الْعَامِرَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي دَائِرَةِ سُلْطَانِهِ أَنْ نَرْتَقِيَ فِي نِظَامِ الْحُكُومَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَيَكُونَ خَلَفُنَا فِيهَا أَرْقَى مِنْ سَلَفِنَا لِمَا لِلْخَلَفِ مِنْ أَسْبَابِ وَوَسَائِلِ هَذَا التَّرَقِّي، وَلَكِنَّهُمْ حَوَّلُوا الْحُكُومَةَ عَنْ أَسْبَابِ الشُّورَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَضَاعُوا الْأُصُولَ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَجَرَى أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَفْرَادُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُمْ قَدِ انْقَرَضُوا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُفَهُمْ أَحَدٌ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ خَاصٌّ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامٍ لِوَقَائِعَ وَأَقْضِيَةٍ جَدِيدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَنْبِطَ لَهَا حُكْمًا، وَأَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلُ بِمَا يَهْدِيَانِ إِلَيْهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَلِّدَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ شَاءُوا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَيَتَّبِعُوا الْحُكَّامَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا ضَرَرَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ شِيَعًا، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا وَفِي الْعِبَادَاتِ حَتَّى صَارَ الْحَنَفِيُّ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذْهَبِهِ فَلَا يُصَلِّي هَذَا الْحَنَفِيُّ مَعَهُمْ حَتَّى يَجِيءَ إِمَامُ مَذْهَبِهِ فَيَأْتَمَّ بِهِ.

وَقَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ عِنْدَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْمُقَلَّدُونَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنَّ الزَّمَانَ مَا وَقَفَ حَتَّى صَارَ حُكَّامُهُمْ فَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَ النَّاسُ يَنْسُبُونَ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ وَالْجَهْلِ وَالْفَقْرِ إِلَى دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَسَرَى هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ أُورُبَّا وَقَوَانِينَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَرَقَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ تِلْكَ الْقَوَانِينَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَذَا الْفِقْهِ فِي السِّيَاسَةِ وَأَحْكَامِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا الْقَوَانِينَ الْأُورُبِّيَّةَ، فَصَارَتْ حُكُومَتُهُمْ أَمْثَلَ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ حُجَّةُ أَهْلِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَظَنُّوا أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَقَامَ طُلَّابُ إِصْلَاحِ الْحُكُومَةِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَالْإِيرَانِيَّةِ مِنَ الْمُتَفَرْنِجِينَ يَطْلُبُونَ تَقْلِيدَ الْإِفْرِنْجِ فِي إِصْلَاحِ قَوَانِينِ حُكُومَتَيْهِمَا ; لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ مِنْ أُصُولِ حُكُومَةِ الشُّورَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتُعَوِّلُ عَلَى رَأْيِهِمْ. إِذَا كَانَ فُقَهَاؤُهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمَا يَقُولُ فِينَا أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَجْلِهِمْ وَلِأَجْلِ بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُبَالُوا وَلَا يَرْضَوْا بِأَنْ يُنْسَبَ الْجُمُودُ إِلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، نَعَمْ إِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأُصُولَ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْآنَ وَلَا قَبْلَ الْآنِ بِقُرُونٍ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلْإِجْمَاعِ وَلَا لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَالَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ أَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ لَا يَتَجَلَّى مَعْنَاهَا تَمَامَ التَّجَلِّي وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِهَا، فَنَأْتِي بِمَا يَفْتَحُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَكْرَارِ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ. الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي أُولِي الْأَمْرِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ: أُولُو الْأَمْرِ فِي كُلِّ قَوْمٍ وَكُلِّ بَلَدِ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفُونَ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْسَعُ مَعْرِفَةً وَأَخْلَصُ فِي النَّصِيحَةِ، وَقَدْ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَكُونُونَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفُتُوحَاتِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فِي مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ (الْخَلِيفَةِ) وَفِي الشُّورَى، وَفِي السِّيَاسَةِ، وَالْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ، فَأَمَّا الْبَيْعَةُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى الْبَعِيدِ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَرُؤُوسِ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَأْخُذُ بَيْعَتَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ـ وَكَانَ لَهُ عَصَبَةٌ قَوِيَّةٌ ـ قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حَرْبِهِ وَقَدْ كَانَ

فِي أَتْبَاعِهِ مَنْ هُوَ حَسَنُ النِّيَّةِ، كَمَا كَانَ فِيهِمْ مُحِبُّ الْفِتْنَةِ، وَمَنْ قَالَ فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: " أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ "، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ فِي عُنُقِهِ لَمَا كَانَ ثَمَّ مَجَالٌ لِاشْتِبَاهِ مَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَمْرِهِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ لَهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَرُؤَسَاءِ النَّاسِ، فَيَأْخُذُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. رَوَى الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: " كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ نَظَرَ هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِ سُنَّةٌ، فَإِنْ عَلِمَهَا قَضَى بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهَا خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا، وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ شَيْئًا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ نَظَرَ هَلْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ فِيهِ قَضَاءٌ فَإِنْ وَجَدَهُ قَضَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ "، فَلْيَتَأَمَّلِ الْفَقِيهُ تَفْرِقَةَ أَبِي بَكْرٍ بَيْنَ مَنْ يُسْأَلُ عَنِ الرِّوَايَةِ لِقَضَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ مَنْ يُسْتَشَارُ فِي وَضْعِ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِهِ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَكَانَ يَسْأَلُ عَنْهَا عَامَّةَ النَّاسِ، وَأَمَّا الِاسْتِشَارَةُ فَكَانَ يَجْمَعُ لَهَا الرُّءُوسَ وَالْعُلَمَاءَ وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي مَا كَانَ يَعْمَلُ الْخَلِيفَتَانِ إِذَا اخْتَلَفَ أُولَئِكَ الْمُسْتَشَارُونَ فِي الْقَضِيَّةِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " أَنِ اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ " اهـ، وَالرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ، وَفِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ لَفْظُ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَئِذٍ أَئِمَّةٌ مُتَعَدِّدُونَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَضَائِهِمْ لِبِنَائِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِي الْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَرَضَ لِي أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قَضَاءٌ فِي أَمْرِهِ وَلَا سُنَّةٌ كَيْفَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: تَجْعَلُونَهُ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعَابِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْضِ فِيهِ بِرَأْيِكَ خَاصَّةً، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " تَجْعَلُونَهُ " وَالْعَدْلُ بِهِ عَنْ " تَجْعَلُهُ " ـ وَالْخِطَابُ لِلْمُفْرَدِ ـ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ

مِنْ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا، لَا عِلْمَ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُحْدَثَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفِقْهِ غَالِبًا. وَأَمَّا اسْتَشَارَتُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ فَمِثَالُهَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعْوَتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تَقُدْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ أَيْ: مُسَافِرٌ، وَالظَّهْرُ: ظَهْرُ الرَّاحِلَةِ، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ ـ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ ـ أَيِ الْوَبَاءِ ـ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ انْصَرَفَ اهـ. أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَكَّمَ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ أَنْفَذَهُ، وَهَذَا نَحْوُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونُوا مُحِيطِينَ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ قَضَاءٍ وَعَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِ. كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمُ الْعَادِلُونَ يَعْرِفُونَ رُءُوسَ النَّاسِ، وَأَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالدِّينِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ فَيَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا رَقِيبَةً عَلَى أَمِيرِهَا يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَضْعَفُ رِجَالِهَا وَنِسَائِهَا فِيمَا يُخْطِئُ فِيهِ، كَمَا رَاجَعَتِ الْمَرْأَةُ

عُمَرَ فِي الصَّدَاقِ، فَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ وَإِصَابَتِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَيْفَ بِأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ؟ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَصَبِيَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِمْ إِلَّا مَا كَانَ لِعُثْمَانَ مِنْ عَصَبِيَّةِ بَنِي أُمُيَّةَ، وَلَمْ يُرِدْ هُوَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِقُوَّتِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَلَمَّا أَخَذَتْهُ الْأُمَّةُ بِظُلْمِهِمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ شَيْئًا، فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا مُخْلِصِينَ فِي مُشَارَكَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَالتَّقَيُّدِ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نُصْفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دِينِهِمْ ا; وَلِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مُتَعَيَّنًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ـ وَالْإِسْلَامُ فِي عُنْفُوَانِ قَوَّتِهِ ـ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ عَصَبِيَّةً يَسْتَبِدُّ بِهَا دُونَ أُولِي الْأَمْرِ إِنْ شَاءَ ـ عَلَى أَنَّهُ لِقُوَّةِ دِينِهِ لَا يَشَاءُ ـ وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَالَتْ دُونَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى وَضْعِ أُولِي الْأَمْرِ لِنِظَامٍ يَكْفُلُ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالشُّورَى الشَّرْعِيَّةِ، وَتَقْيِيدِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَالِ أُولِي الْأَمْرِ بَعْدَ الرَّاشِدِينَ: بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الَّذِينَ زُعْزَعُوا بِنَاءَ السُّلْطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى ; إِذْ كَوَّنُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَصَبِيَّةً هَدَمُوا بِهَا سُلْطَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ وَحَصَرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ الْأَمِيرُ مُقَيَّدًا بِسُلْطَةِ قَوْمِهِ لَا بِسُلْطَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ الْعَبَّاسِيُّونَ بِعَصَبِيَّةِ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْفُرْسِ فَالتُّرْكِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّغَلُّبِ بَيْنَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ بِعَصَبِيَّاتِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ تَكُنِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَسَاسِهَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ، بَلْ جَعَلَتْ أُولِي الْأَمْرِ كَالْعَدَمِ فِي أَمْرِ السُّلْطَةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ تَحَرِّي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْعَدْلِ وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَكَانَتْ أَحْكَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَأَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي الْعَدْلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ أَمَانَةَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى إِلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ عَصَبِيَّةَ قَوْمِهِ كَانَتْ مُحْتَكِرَةً لَهَا حُبًّا فِي السُّلْطَةِ وَالرِّيَاسَةِ، ثُمَّ كَانَتْ سُلْطَةُ الْمُلُوكِ الْعُثْمَانِيِّينَ بِعَصَبِيَّتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَقُوَّةِ جُيُوشِهِمِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِنْكِشَارِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، أَصْحَابِ الْفِقْهِ وَالرَّأْيِ، الَّذِينَ هُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ كَانُوا أَخْلَاطًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ يَأْخُذُهُمُ السَّلَاطِينُ وَيُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً حَرْبِيَّةً، ثُمَّ كَوَّنُوا جُنْدًا إِسْلَامِيًّا، ثُمَّ جُنْدًا مُخْتَلِطًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُولُو الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ: ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا هَذَا هُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَالْقُضَاةُ وَكِبَارُ التُّجَّارِ وَالزُّرَّاعُ، وَأَصْحَابُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمُدِيرُو الْجَمْعِيَّاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَزُعَمَاءُ الْأَحْزَابِ وَنَابِغُو الْكُتَّابِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُحَامِينَ ـ وُكَلَاءُ الدَّعَاوَى ـ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ

فِي مَصَالِحِهَا وَتَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي مُشْكِلَاتِهَا حَيْثُ كَانُوا، وَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يَعْرِفُونَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيُحْتَرَمُ رَأْيُهُ فِيهِمْ، وَيَسْهُلُ عَلَى رَئِيسِ الْحُكُومَةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَهُمْ لِلشُّورَى إِنْ شَاءَ، وَلَكِنَّ الْحُكَّامَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُؤَيَّدُونَ بِقُوَّةِ الْجُنْدِ الَّذِي تُرَبِّيهِ الْحُكُومَةُ عَلَى الطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ حَتَّى لَوْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاجِدَ، وَيَقْتُلَ أُولِي الْأَمْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَ أُمَّتِهِ لَفَعَلَ، فَلَا يَشْعُرُ الْحَاكِمُ بِالْحَاجَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ إِلَّا لِإِفْسَادِهِمْ وَإِفْسَادِ النَّاسِ بِهِمْ، وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرُبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُتَمَلِّقُ الْمُدْهِنُ، وَقَدْ جَرَتِ الدُّوَلُ الَّتِي بَنَتْ سُلْطَتَهَا عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى أَنْ تَعْهَدَ إِلَى الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِ مَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِوَضْعِ الْقَوَانِينِ الْعَامَّةِ لِلْمَمْلَكَةِ، وَالْمُرَاقِبَةِ عَلَى الْحُكُومَةِ الْعُلْيَا فِي تَنْفِيذِهَا، وَمَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِلْمَحَاكِمِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَجَالِسِ الْإِدَارِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الِانْتِخَابُ شَرْعِيًّا عِنْدَنَا إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ الِاخْتِيَارُ التَّامُّ فِي الِانْتِخَابِ بِدُونِ ضَغْطٍ مِنَ الْحُكُومَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا وَلَا تَرْغِيبٍ وَلَا تَرْهِيبٍ، وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنْ تَعْرِفَ الْأُمَّةُ حَقَّهَا فِي هَذَا الِانْتِخَابِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ انْتِخَابُ غَيْرِهِمْ بِنُفُوذِ الْحُكُومَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنْتَخَبِينَ سُلْطَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً شَرْعًا بِحُكْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي بَابِ سُلْطَةِ التَّغَلُّبِ، فَمَثَلُ مَنْ يَنْتَخِبُ رَجُلًا لِيَكُونَ نَائِبًا عَنِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ السُّلْطَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا الِانْتِخَابِ، كَمَثَلِ مَنْ يَتَزَوَّجُ أَوْ يَشْتَرِي بِالْإِكْرَاهِ لَا تَحِلُّ لَهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا سِلْعَتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّةِ الِانْتِخَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَالَ لَا يُغْنِي فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنِ التَّفْصِيلِ. خَاطَبَ اللهُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِإِقَامَةِ الْقَوَاعِدِ الْأَرْبَعِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِلْمُخَاطَبِينَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ لِإِقَامَتِهَا، فَالْوَاجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مُطَالَبَتُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يُتْرَكُ الْأَمْرُ فَوْضَى، ثُمَّ يُبْحَثُ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، أَوِ الِاجْتِهَادِ وَعَنِ اسْتِنْبَاطِ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي رِوَايَةِ الرُّوَاةِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَسَكَتَ النَّاسُ عَنْ كَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَعْرِفُ فِيهَا خِلَافًا فَهِيَ إِجْمَاعِيَّةٌ، كَمَا وَقَعَ مُنْذُ زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ وَالتَّصْنِيفِ إِلَى الْيَوْمِ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أُولِي الْأَمْرِ هُنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي يَنُوطُ فِيهَا الِاسْتِنْبَاطَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (4: 83) ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَجْمَعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ لِتَرُدَّ إِلَيْهِمْ فِيهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَنَازَعَ فِيهَا وَالْمَسَائِلَ الْعَامَّةَ مِنْ أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ؛ لِيَحْكُمُوا فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ تَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ وَأَفْرَادِ الْأُمَّةِ إِذَا هُمْ أَجْمَعُوا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ رَدُّ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ وَالْمُتَنَازَعِ فِيهَا إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِطَلَبِ الْأُمَّةِ، أَوْ بِطَلَبِ الْحُكُومَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ هُمْ.

فَإِنْ قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِذَا انْتَخَبَتِ الْأُمَّةُ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْتُمْ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ، وَالنَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ، لِيَكُونُوا هُمُ الْمُسْتَنْبِطِينَ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَوَانِينِ، وَالْمُشْرِفِينَ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُسْتَشَارِينَ لَهُمْ، أَيَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مَنْ وَصَفْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَخِبْهُمُ الْأُمَّةُ، أَمْ يَكُونُونَ هُمُ الْمُنْتَخَبِينَ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّةِ وَإِنْ فَقَدُوا تِلْكَ الصِّفَاتِ؟ . أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ الْأُمَّةَ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمُخْتَارَةً فِي الِانْتِخَابِ عَالِمَةً بِالْغَرَضِ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَخِبَ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْمَكَانَةِ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ عِنْدَهَا ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُهَا الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَانْتِخَابُهَا إِيَّاهُمْ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِثِقَتِهَا بِهِمْ وَلِعِلْمِهَا بِهَدْيِ دِينِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَ مُخْتَارَةٍ فِي الِانْتِخَابِ فَلَا يَكُونُ لِانْتِخَابِهَا صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْمُذْعِنَةُ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَنَهْيِهِ الْعَالِمَةُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ فِيهِ، وَلَعَلَّ جَهْلَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ لِأُولِي الْأَمْرِ، كَانَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِقَاعِدَةِ الِانْتِخَابِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيَجِبُ انْتِخَابُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَتِهَا الْعَامَّةِ أَمْ يُكْتَفَى بِبَعْضِهِمْ؟ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِأَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ بِرِضَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمَمْلَكَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِائَةِ مَدِينَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَشَرَةٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَثِقُ أَهْلُهَا بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، وَيَنْقَادُونَ لَهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ أُولِي الْأَمْرِ أَلْفَ نَسَمَةٍ، فَإِذَا هُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِخَابِ، أَوِ الْقُرْعَةِ مِائَةً أَوْ مِائَتَيْنِ لِلْقِيَامِ بِمَا ذُكِرَ حَصَلَ الْمَقْصِدُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَا يُقَرِّرُونَهُ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى الْبَاقِينَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِمَكَانِهِمْ كَالشُّورَى فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ، وَهَذَا مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ: بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمُبَيَّنَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَطَبَّقَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ـ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ـ وَجَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَقْوَى دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ آيَةِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (4: 115) ، الْآيَةَ، بَلْ لَا تَدُلُّ هَذِهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْقِيَاسَ الْأُصُولِيَّ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ هُمُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي أَعْضَاءِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ

الْعُثْمَانِيِّينَ بِالْمَبْعُوثِينَ وَفِي أَعْضَاءِ الْمَحَاكِمِ وَالْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ صِفَةٌ تَشْرِيعِيَّةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ عَلِمْتَ رَأْيَنَا فِيهِ وَسَنَزِيدُكَ إِيضَاحًا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللهِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ اللهِ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ كَلَامِهِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِمَا وَعَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ بِشَيْءٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِإِسْهَابِهِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ عِبَارَةَ النَّيْسَابُورِيِّ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَرَدِّ هَذَيْنِ الْإِيرَادَيْنِ ـ وَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا ـ لِأَنَّهُ اخْتَصَرَ فِيهَا مَا طَالَ بِهِ الرَّازِيُّ، قَالَ بَعْدَ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ أُولِي الْأَمْرِ غَيْرُ مَا ادَّعَاهُ: " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ

كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ، فَالْمُرَادُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ الْمُدَّعَى. قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ رَدَّهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَفْوِيضَ عِلْمِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْإِهْمَالَ وَتَفْتَقِرُ إِلَى قَطْعِ مَادَّةِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَلَا الْإِحَالَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ رَدًّا إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ. " فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ لِمَنْ عَدَا الرَّسُولَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِمَا سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا ـ إِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ وَاشْتِبَاهٌ فِي النَّاسِ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ مَا ـ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا لَهَا وُجُوهًا مِنْ نَظَائِرِهَا وَأَشْبَاهِهَا، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ "، انْتَهَى كَلَامُ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ رَدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَتَحَقَّقُ بِعَرْضِهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ كَالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَكَمَنْعِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الْمَحْظُورِ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَحْظُورِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَيَلِي هَذَا عَرْضُ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ هُنَا: رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَمَّا مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ غَيْرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِآيَةِ الِاسْتِنْبَاطِ [4: 83] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِجْمَاعُ وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَرَأَيْتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْأُصُولِيُّ فَمَا هُوَ تَعْرِيفُهُ؟ الْإِجْمَاعُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ: " هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوِ الْأَكْثَرَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ الْمُقَلِّدِينَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَالَّذِينِ يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ جِنْسِيَّةً لَهُمْ لَا دِينًا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ عَصْرًا خَلَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (كَمَا يَقُولُ جَمَاهِيرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) ، وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ عَرَضَتْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ كُلِّهِمْ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا يَقُولُ مُتَفَقِّهَتُنَا: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُلُّهُمْ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِمْ هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَنَطِّعُ مِنْ هَؤُلَاءِ

الْمُتَفَقِّهَةِ: إِنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَلُّوا وَضْعَ الْحُكْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَعَدَّهُ شَرْعِيًّا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّنَطُّعِ الَّذِي يُجِيزُ عَقْلُ صَاحِبِهِ خَطَأَ الْمَلَايِينِ، وَيَقُولُ بِعِصْمَةِ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ وِفَاقَ الْعَوَامِّ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِيَصِحَّ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ، إِذْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي التَّعْرِيفِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَعَبَّرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ " بِمُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ " لِصِدْقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ، وَأَرَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَجْمَعَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِجْمَاعِهِمَا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَهُنَاكَ خِلَافَاتٌ أُخْرَى فِي قُيُودِ الْحَدِّ وَمَفْهُومِهَا وَفِي مَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ فِي كَشَّافِ اصْطِلَاحَاتِ الْفُنُونِ: الِاجْتِهَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْمُسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ التَّحْصِيلِ يُسَمَّى مُجْتَهِدًا، ثُمَّ قَالَ: فَائِدَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ شَرْطَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ الْبَارِئِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمُعْجِزَاتِهِ وَسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِلْمُ الْإِيمَانِ، كُلُّ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا هُوَ دَأَبُ الْمُتَبَحِّرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَدَارِكَ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَتَفَاصِيلِ شَرَائِطِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَجِهَاتِ تَرْجِيحِهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا وَالتَّفَصِّي عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، فَيُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الرُّوَاةِ، وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَقْسَامِ النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ مِنَ اللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، هَذَا كُلُّهُ خُلَاصَةُ مَا فِي الْعَضُدِيِّ وَحَوَاشِيهِ وَغَيْرِهَا اهـ. وَإِنَّنِي أَذْكُرُ لَكَ خُلَاصَةَ مَا فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَقِيهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ذَا مَلَكَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ، فَقِيهَ النَّفْسِ، عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَيِ ـ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ـ ذَا دَرَجَةٍ وُسْطَى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَالْأُصُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَيْ: إِلَى مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يَصِحُّ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَلَا الذُّكُورَةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَلَّفَ الْمُجْتَهِدُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ. أَقُولُ: لَيْسَ تَحْصِيلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ وَلَا بِالَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اشْتِغَالٍ أَشَقَّ مِنَ اشْتِغَالِ الَّذِينَ يُحَصِّلُونَ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ فِي

الْأُمَمِ الْحَيَّةِ كَالْحُقُوقِ وَالطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ التَّقْلِيدِ مَنَعُوهُ فَلَا تَتَوَجَّهُ نُفُوسُ الطُّلَّابِ إِلَى تَحْصِيلِهِ. وَظَاهِرٌ أَنَّ تَعْرِيفَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ لِلْإِجْمَاعِ وَتَخْصِيصَهُ بِالْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ، وَالْخَوْفِ، وَالسِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالْأَمْوَالِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، بَلْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمُ الَّذِي اشْتَرَطُوهُ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَجَدَّدَ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ طُرُقِ الْمُعَامَلَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى فَيَقِيسُوهُ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْرِيفِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْصُومِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ إِجْمَاعَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَغَلَا بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَقَالُوا: إِنَّ عِصْمَتَهُمْ كَعِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهِ، فَقَالُوا: فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ خِلَافًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ وُقُوعَ الْخَطَأِ مِنْهُمْ مُحَالٌ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ كَوْنِ الْأُمَّةِ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ، عَلَى أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ خَطَأَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ، وَنَحْمَدُهُ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآرَاءُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ الْبَاحِثِينَ، حَتَّى مَنَعَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاجْتِمَاعَ أَلْبَتَّةَ وَأَحَالَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاعْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَبَعْضُهُمْ مُوَافَقَةَ الْعَوَامِّ. وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ نَقُولُ: إِنَّ حَصْرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُمْكِنُ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ لَا يُمْكِنُ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأُصُولِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ دُونَ الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَالْقَوْلَ الثَّالِثَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ يُقَالُ: السُّكُوتِيُّ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْقَوْلِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ، وَكَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ السَّلَفِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ. وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ ـ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ـ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ

اخْتَلَفُوا أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ " نَقَلَ هَذَا فِي الْمُسَوَّدَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ " أَجْمَعُوا " إِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ أَجْمَعُوا فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا كَانَ (أَحْسَنَ) قَالَ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عَلَّمَهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْتَمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إِجْمَاعُ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، وَحَمَلَ الْقَاضِي إِنْكَارَ أَحْمَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَرَعِ، وَحَمَلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى إِجْمَاعِ الْمُخَالِفِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، أَوْ بَعْدَهُمْ، وَبَعْدَ التَّابِعِينَ، أَوْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا كَلَامَهُ الْمَقْرُونَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَرُدُّ تَأْوِيلَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ لَفْظُ الْإِجْمَاعِ كَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مُقَيَّدٌ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي نَفَاهُ. كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ فَنِّ الْأُصُولِ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَهُمْ، وَلِهَذَا ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَلَفَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْإِجْمَاعِ تَارَةً وَإِنْكَارِهِ تَارَةً أُخْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الْأَمْرِ وَإِحْكَامُهُ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَجْمَعُوا الْأَمْرَ وَالرَّأْيَ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ إِذَا أَحْكَمُوهُ وَضَمُّوا مَا انْتَشَرَ وَتَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَزَمُوا عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بَعْدَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّدْقِيقِ وَالْمُرَادَّةِ فِي الشُّورَى، قَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (10: 71) ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا الْإِمْضَاءُ وَالتَّنْفِيذُ، وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ (12: 12) ، وَقَالَ حِكَايَةً لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ (20: 64) ، وَالْإِجْمَاعُ لِلْأَمْرِ يَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَمِنَ الْجَمْعِ. قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ الْإِجْمَاعُ: إِحْكَامُ النِّيَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، أَجْمَعْتُ الرَّأْيَ وَأَزْمَعْتُهُ وَعَزَمْتُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى، وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: " أَجْمَعَتْ صَدَقَةً " وَفِي حَدِيثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ: " مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا " أَيْ: مَا لَمْ أَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَأَجْمَعَ أَمْرَهُ جَعَلَهُ جَمِيعًا بَعْدَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفَرُّقُهُ أَنَّهُ جَعَلَ يُدِيرُهُ فَيَقُولُ مَرَّةً: أَفْعَلُ كَذَا، وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ مُحْكَمٍ أَجْمَعَهُ أَيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُقَالُ: أُجْمِعَتِ النَّهْبُ، وَالنَّهْبُ إِبِلُ الْقَوْمِ أَغَارَ عَلَيْهَا اللُّصُوصُ، وَكَانَتْ

مُتَفَرِّقَةً فِي مَرَاعِيهَا فَجَمَعُوهَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لَهُمْ، ثُمَّ طَرَدُوهَا وَسَاقُوهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قِيلَ: أَجْمَعُوهَا. . . وَالْإِجْمَاعُ أَنْ تَجْمَعَ الشَّيْءَ الْمُتَفَرِّقِ جَمِيعًا، فَإِذَا جَعَلْتَهُ جَمِيعًا بَقِيَ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكَدْ يَتَفَرَّقُ كَالرَّأْيِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ الْمَمْضِيِّ، وَأَجْمَعَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا سَالَ رَغَابُهَا وَجِهَادُهَا كُلُّهَا، وَفَلَاةٌ مُجَمَّعَةٌ وَمُجَمِّعَةٌ (بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ) يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَوْمُ، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ خَوْفَ الضَّلَالِ وَنَحْوَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْمَعُهُمُ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ اتِّفَاقَ النَّاسِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ الْمُتَفَرِّقِ وَعَزْمُهُ لِئَلَّا يَتَفَرَّقَ، وَيَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ بِهِ كُلُّ أَهْلِ الشَّأْنِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُبْرِمَهُ مَنْ يَمْتَنِعُ التَّفَرُّقُ بِإِبْرَامِهِمْ لَهُ، فَرُجُوعُ عَمَرَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ عَنِ الْوَبَاءِ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الْأُصُولِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ: " اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ " وَفِي لَفْظٍ: " مَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْبِيرِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: مَا جَزَمُوا بِهِ وَعَزَمُوهُ بِالْعَمَلِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُصُولِ الَّذِي مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّفِقَ جَمِيعُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أُلُوفًا كَثِيرَةً لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ دَعْوَى الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ غَيْرُهُ. وَمَا زَالَ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ يَبْحَثُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ زُرْتُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ فِي الْعِيدِ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُ أَحْمَدَ فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول الْعَالِمَ الْقَانُونِيَّ وَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ، وَأَنْ يُعْلَمَ بِهِ مَعَ عَدَمِ حَصْرِ أَهْلِهِ وَلَا تَعَارُفِهِمْ؟ وَرَأَيْتُ الْأُسْتَاذَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَافَقَهُ عَلَى اسْتِنْكَارِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ فِي الْإِجْمَاعِ هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعُلَمَاءُ النَّابِغُونَ الْمَوْثُوقُ بِهِمْ وَيَتَذَاكَرُوا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا، وَيَكُونُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ إِجْمَاعٌ آخَرُ مِنْهُمْ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا حَسَنٌ لَوْ كَانَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِمْ بَعْضُهُمْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ بِمَنْ يُمَثِّلُهَا وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ بِمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا وَلَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ، وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ وَمَا أَجْمَعُوا هُمْ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لِأَجْلِ الْمُصْلِحَةِ، لَا لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ

كَمَا قِيلَ فِي الْأُصُولِ، وَالْمَصْلَحَةُ تَظْهَرُ وَتَخْفَى وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مَا حَظَرَهُ السَّلَفُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانُوا يَعْنُونَ بِهِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَكَذَا التَّابِعُونَ مِنْ هَدْيِ الدِّينِ بِغَيْرِ خِلَافٍ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَرَى أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ عَلَى هَذَا، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يُعْزَى إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ سُكُوتٍ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي خَبَرِ الْقُرُونِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ؟ . وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى دَعْوَى عَدَمِ جَوَازِ مُضَادَّةِ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ بِحَدِيثِ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَجَاءَ الْمَرْفُوعُ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَعْطَانِيهَا وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا فِي إِجْمَاعِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُعَدُّ ضَالًّا وَإِنَّمَا يُعَدُّ عَامِلًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ وَيُصَلِّي عِدَّةَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ كَانَ خَطَأً، فَإِنَّ صِلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، فَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا كَمَا تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ الْقَضَائِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الِاجْتِهَادُ الْعَامُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَذُكِرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ مَضَادَّةَ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ فِيهِ خِلَافُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مُغَيًّا بِوُجُودِ الثَّانِي، وَفِي الْمُسَوَّدَةِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ قَالَ: يَجُوزُ تَرْكُ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، مِثْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ فِيهَا ـ أَيْ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ـ خَرَجَ مِنْهَا بَلْ وَجَبَ وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُنْتَقَلُ مِنَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي مَدْلُولِ النَّصِّ، فَالْأَقْوَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ، اهـ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقِيَاسُ الْأُصُولِيُّ: عَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ ـ تَبَعًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ ـ بِأَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ لِمُسَاوَاتِهِ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، فَمَنَعَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبْدَانَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ دَاوُدُ غَيْرَ الْجَلِيِّ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وَالتَّقْدِيرَاتِ، وَقَوْمٌ

فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَقَوْمٌ فِي أُصُولِ الْعِبَادَاتِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَعَلَى الْأَخِيرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَرْكَانُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ: 1 - الْأَصْلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَيِ: الْمَقِيسُ عَلَيْهِ. 2 - حُكْمُ الْأَصْلِ، قَالُوا: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ. 3 - الْفَرْعُ الْمُشَبَّهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقِيسُ، وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ تَمَامِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ. 4 - الْعِلَّةُ، قَالُوا: وَهِيَ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ. أَقُولُ: وَفِيهَا مُعْتَرَكُ الْأَنْظَارِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ بَدِيهِيٌّ كَكَوْنِ الْإِسْكَارِ هُوَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلٌ، وَلَا نَقْلٌّ، كَالْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا: الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، وَقَدِ اكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِلَّةِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ التَّشْبِيهِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ حَتَّى يَجُوزَ الرَّدُّ وَالْحَمْلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَا يَظْهَرُ حَمْلُ الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ عَلَى عَرْضِهِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْعِلَلِ وَالتَّشْبِيهَاتِ الَّتِي لَا نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا هِيَ مُتَبَادَرَةٌ مِنْهُمَا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ التَّنَازُعَ، بَلْ رُبَّمَا يَزِيدُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَحْصُورًا فِي طَلَبِ النُّصُوصِ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ مَا يَشْمَلُ رَدَّهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمَا أَوْ قَوَاعِدِهِمَا الْعَامَّةِ وَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِلتَّنَازُعِ فِيهِ مَجَالٌ. هَذَا وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِ الْأُصُولِيِّينَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَهُمُ الْإِحَاطَةُ بِمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ كَافِيَةٌ لِمَا يَنْبَغِي الْعِلْمُ بِهِ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَقُضَاتِهِمْ، فَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَسْأَلُونَ عَنِ السُّنَّةِ وَقَضَاءِ النَّبِيِّ مَنْ حَضَرَ وَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الطَّلَبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا عَمِلُوا بِالرَّأْيِ الَّذِي مَنَاطُهُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ فِي وَاقِعَةِ الْوَبَاءِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِمَا عِنْدَهُ فِيهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَكِنَّ طَلَبَ النُّصُوصِ مِنَ الْكُتُبِ الْآنَ أَسْهَلُ مِنْ طَلَبِهِ مِنَ النَّاسِ قَبْلَ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ الطَّلَبِ التَّامِّ لِلنُّصُوصِ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ: الْأُولَى: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنَ النُّصُوصِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ. الثَّانِيَةُ: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَعْرِفُهَا مَعَ رَجَاءِ الْوُجُودِ لَوْ طَلَبَهَا، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْحَنَفِيَّةِ تَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ،

وَلِهَذَا جَعَلُوا الْقِيَاسَ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ التَّيَمُّمَ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمَاءِ فَكَذَا النَّصُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَا تَصْنَعُ بِالْقِيَاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيكَ عَنْهُ! وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أُمٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي طَلَبِ النُّصُوصِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ بِحُضُورِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ: وُجُودُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ النَّصِّ. الثَّالِثَةُ: إِذَا أَيِسَ مِنَ الظَّفَرِ بِنَصٍّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ فَهُنَاكَ يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ، اهـ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: بِنَاءُ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اجْتِهَادَ أُولِي الْأَمْرِ هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ وَجَبَ عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَعَلَى حُكَّامِهَا الْعَمَلُ بِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ خَاصٌّ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا بِالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ إِذَا لَمْ تُرْفَعْ إِلَى الْقَضَاءِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى قَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَحِفْظِهَا وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِزَالَتِهَا، وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ أَنَّ جَعْلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَيِ - الْمُطْلَقَةِ - أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ خَاصٌّ بِالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهَا عِنْدَ التَحْقِيقِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ: لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي عَنْ عُبَادَةَ، وَعَلَّمَ السُّيُوطِيُّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْحُسْنِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا فِي مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَتَقْدِيمُ كُلِّ مَا فِيهِ الْيُسْرُ عَلَى الْأُمَّةِ وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ، التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّعَارُضِ بَيْنَ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ مُؤَيَّدَةٌ بِهَا، وَقَلَّمَا تَرَى فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَحْثًا مُشَبَّعًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الشَّرِيعَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ لَا يُبَالُونَ بِتَقْدِيمِ نُصُوصِ عُلَمَاءِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُحْفَظُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، فَمَا بَالُكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَوَسَّعَ فِيهَا نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ تُوُفِّيَ سَنَةَ 716 هـ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ نَشَرْنَا كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمَنَارِ، وَقَاعِدَتُهُ: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُقَدَّمَةٌ حَتَّى عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ـ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ـ بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ كَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرِّبْحِ، وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ: بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً، وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَوْجُهٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (10: 57، 58) ، وَأَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَائِلَ كَثِيرَةً أَصْرَحُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْضِيلِ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ يَطُولُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ، وَلَعَلَّنَا نُوَفَّقُ لِبَيَانِهِ فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ الَّتِي نُودِعُهَا كُلِّيَّاتِ فِقْهِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ الْعُلْيَا. عَلَى أَنَّ الطُّوفِيَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وُجُوهِ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَكَرَ دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَرَدَّ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَبَيْنَ مَا تَتَعَارَضُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَطُرُقَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ (مِنَ الْمَنَارِ مِنْ ص 745 - 770) . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ـ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ: بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ، وَيُقَابِلُهُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ اللَّذَانِ نَهَى الله عَنْهُمَا وَرَسُولُهُ نَهْيًا شَدِيدًا. وَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ حَتَّى يُرَاجِعَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَبِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ. وَمِنْهَا حَدِيثُ: يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَرْفَجَةَ بِزِيَادَةِ: " وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ " وَحَدِيثُ: " لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ ذِكْرُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ مِنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: " بَابُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ "، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي اللهُ بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ ; فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَفِي خُطْبَةِ عُمَرَ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي الْجَابِيَةِ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ

مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُ الْبَابِ الْحَضُّ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) ، وَشَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: وَسَطًا وَالْوَسَطُ الْعَدْلَ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مُتَابَعَةُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - أَيِ الْبُخَارِيِّ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَرْجَمَ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، أَيْ عُدُولًا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عُصِمُوا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: " عُصِمُوا " إِلَخْ، مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ. أَقُولُ: إِنَّ التَّعْدِيلَ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمْ أَمْرُهَا وَيَجِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوهُ وَعَزَمُوهُ لَا الْمُجْتَهِدُونَ، خَاصَّةً الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأُصُولِ الَّذِينَ قَدْ يَكُونُونَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ أَوْ هَاتَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِمَا نَصُّ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ بَطَّالٍ فَقَدْ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (42: 38) ، مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ: وَكَانَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وُضِعَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَذَكَرَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ عَمَلًا بِالنَّصِّ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ اهـ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أُولِي الْأَمْرِ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ، قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَاعَةُ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا قِيَامَتُهَا أَيْ: تَدُولُ دَوْلَتُهَا عَلَى حَدِّ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَفِي " إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ": أَنَّ الْقِيَامَةَ قِيَامَتَانِ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى وَهِيَ قِيَامَةُ أَفْرَادِ النَّاسِ بِالْمَوْتِ، وَالْقِيَامَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ قِيَامَتُهُمْ كُلِّهِمْ بِانْتِهَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَالدُّخُولِ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِيَامَةَ الْجَمَاعَاتِ كَقِيَامَةِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّجَوُّزُ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْقِيَامَةِ ; فَإِنَّ الْقِيَامَةَ مِنَ الْقِيَامِ، وَهِيَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (83: 6) ، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مُطْلَقًا، وَلَا يَزَالُ النَّاطِقُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: جَاءَتْ سَاعَةُ فُلَانٍ، أَوْ جَاءَ وَقْتُهُ، وَالْقَرِينَةُ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَتِلْكَ

السَّاعَةِ، وَإِنَّ خُرُوجَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ يَدِ أَهْلِهِ ـ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ كَمَا يَجِبُ ـ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَمْرِهِمْ وَمُدْنٍ لِلسَّاعَةِ الَّتِي يَهْلِكُونَ فِيهَا بِالظُّلْمِ، أَوْ بِخُرُجِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُفْرِدَاتِ الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ السَّاعَاتِ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا: السَّاعَةُ الْكُبْرَى بَعْثُ النَّاسِ لِلْحِسَابِ، وَالْوُسْطَى مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَحُمِلَ عَلَى الْأَخِيرِ بَعْضُ الْآيَاتِ. تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَمْرَهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِهَا، وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحُقُوقِهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَعْلِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُسْلِبُهَا الْمُتَغَلِّبُونَ هَذَا الْحَقَّ بِجَهْلِهَا وَعَصَبِيَّتِهِمُ الَّتِي يَعْلُو نُفُوذُهَا نُفُوذَ أُولِي الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَجْرُؤَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، أَوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلسَّجْنِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ. هَذَا مَا كَانَ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ سُقُوطِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ الْوَاسِعَةِ، وَذَهَابِ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ وِصَايَةِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ، الَّتِي لَمْ تَعْتَزَّ وَتَقْوَ إِلَّا بِجَعْلِ أَمْرِهَا بِيَدِ الْأُمَّةِ، وَتَوْسِيدِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِرْشَادِ دِينِهِمْ، وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ تَرْكُ أُصُولِ الشُّورَى وَتَقْدِيسِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ بَعْدَ أَنْ حَجَبُوا الْأُمَّةَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا فَجَهِلَتْ حُقُوقَهَا، ثُمَّ أَفْسَدُوا عَلَيْهَا بَعْضَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا، وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْآخَرِينَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. نَعَمْ، كَانَ الْجَهْلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي مَكَّنَ لِأَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّدْرِيجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّةِ قَرِيبًا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي احْتِرَامِ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ لِدِينِهِمْ وَعِلْمِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى الْعَصَبِيَّةُ عَلَيْهِمْ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهُ، دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَقَالُوا: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ وَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، وَنَظَمَ ذَلِكَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي فَقَالَ: مُلَّ الْمُقَامُ فَكَمْ أُعَاشِرُ أُمَّةً ... أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلَاحِهَا أُمَرَاؤُهَا ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا ... فَعَدَوْا مَصَالِحَهَا وَهُمْ أُجَرَاؤُهَا وَقَدْ عُنِيَ الْمُلُوكُ الْمُسْتَبِدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَذْبِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِمْ بِسَلَاسِلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرُّتَبِ وَالْمَنَاصِبِ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ انْجِذَابًا، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَضَعَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الرَّسْمِيُّونَ قَاعِدَةً لِأُمَرَائِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ هَدَمُوا بِهَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ كَالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ فَاقِدِينَ لِلشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ صَرَّحَ

بِهَا أَئِمَّةُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ، قَالُوا: يَجُوزُ إِذَا فَقَدَ الْحَائِزُونَ لِتِلْكَ الشُّرُوطِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمُ الْعِلْمُ الِاسْتِقْلَالِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْجَاهِلِ ـ أَيِ: الْمُقَلِّدِ ـ وَعَدُّوهُ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَثِيرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَذَلِكَ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي يُقَرِّبُ خُطُوَاتِ سَاعَةِ هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا ذَهَابُ الْأَمَانَةِ وَظُهُورُ الْخِيَانَةِ، وَلَا خِيَانَةَ أَشَدُّ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى الْجَاهِلِينَ، رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مُقَدِّمَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ انْتَظِرِ السَّاعَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِضَاعَتُهَا؟ فَقَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. أَطْلَقَ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْجَاهِلِ، وَكَذَا فَاقِدُ غَيْرِ الْعِلْمِ مِنْ شُرُوطِ الْوِلَايَاتِ كَالْعَدَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يُصَرِّحِ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ ضَرُورَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ إِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهَا أَوْ دُنْيَاهَا أَنْ تَسْعَى فِي إِقَامَتِهِ، وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبَ قَوْلُهُ فِي الْجُمْهُورِ الْجَاهِلِ عَبَثًا، وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا تَكُونُ آثِمَةً إِذَا فَقَدَ أُولُو الْأَمْرِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَا يَجِبُ فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيَجِبُ عَلَيْهَا السَّعْيُ وَالْعَمَلُ لِإِيجَادِ الصَّالِحِينَ لِذَلِكَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ أَمْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُ بِفَقْدِ تِلْكَ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، أَوْ بَعْضِهَا وَتُقَدِّرُهُ بِقَدْرِهِ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ: الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، أَوِ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا اهـ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُسِّدَ أَمْرُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا بِجَهْلِ أُولِي الْأَمْرِ وَضَعْفِهِمْ، ثُمَّ بِإِفْسَادِ الْأُمَرَاءِ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ وَتُعِيدَ إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ لِيُعِيدُوا إِلَيْهَا حَقَّهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا غَيْرُهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بَرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ: إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَشْرُوعًا لَقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَقِيسُوهُ عَلَى أَشْبَاهِهِ أَوْ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا أُصُولِيًّا فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا فِي مَنْعِهِ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ، أَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ، فَلِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ جَوَازِ التَّنَازُعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ قَبْلَ عِلْمِ الْمُتَنَازِعِينَ بِهِ، فَإِذَا تَحَرَّوْا رَدَّ الْمَسْأَلَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ نَصًّا عَلَى مَنْعِهِ فَلِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مُمَاثِلِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ مَعَ عِلَّتِهَا بِالنَّصِّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ. نَعَمْ، إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ عَلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ ـ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ ـ كَمَا نَرَاهُ كَثِيرًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، يَقُولُونَ: هَذَا جَائِزٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَذَا، وَمِثْلُهُ الْقِيَاسُ بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ عَنْ بُعْدٍ بِالتَّمَحُّلِ الَّذِي يُوجَدُ فِي النَّصِّ مَا يَنْفِيهِ وَلَا يُوجَدُ مَا يُثْبِتُهُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الدَّمِ عَلَى الْبَوْلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا لَمَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ النُّصُوصُ لِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ فِيهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الدِّمَاءَ كَانَتْ تَسِيلُ كَثِيرًا مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَجْسَادِ الطَّاهِرَةِ؛ دِفَاعًا عَنِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَفِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَقَدْ قَاسَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَا يُعَارِضُ ثُبُوتَ الْقِيَاسِ الْعَمَلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِيَاسَ فِي الدِّينِ بَاطِلٌ بِنَصِّ الْأَحَادِيثِ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَحَدِيثُ: إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ نَصِّ الشَّارِعِ، وَأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَلَّا تَكُونَ تَكَالِيفُهَا كَثِيرَةً، فَتَكْثِيرُهَا بِقِيَاسِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَهُ اللهُ فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَلِنُصُوصِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ ; إِذِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ إِلَّا مُبَيِّنًا

لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (5: 101، 102) ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَفْوِ وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْحِلْمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ شَبِيهًا بِالْمَنْصُوصِ، بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ حِينَ كَانَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ـ أَيْ وَقْتَ شُرِّعَ الدِّينُ لَكَانَ الْجَوَابُ إِلْحَاقَهُ بِالْمَنْصُوصِ وَزِيَادَةَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِنَا، وَلِنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِهِ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ وَالْأَحَادِيثَ خَاصَّةٌ بِأَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِحَيْثُ يَزِيدُ فِيهَا عِبَادَةً، أَوْ يُحَرِّمُ شَيْئًا لَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَكَمْ قَالُوا ـ وَلَا نَزَالُ نَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ ـ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، بِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ وَالتَّهَجُّمَ عَلَى شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْإِسْلَامَ عَنْهُمْ يَرَاهُ غَيْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ، يَرَاهُ دِينًا لَا يَكَادُ يُحْتَمَلُ مِنْ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرِ وَكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ بِهِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا بِالنُّصُوصِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي زَعْمِ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَظْهَرُ مِنْ سَابِقَتِهَا فِي جَعْلِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى ضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَرْكَانِ الِاجْتِهَادِ وَشَارِعَةٌ لَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، فَزَعَمُوا أَنَّ تَفْسِيرَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الَّذِينَ فَسَّرُوا بِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لَا أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّ طَاعَةَ أَفْرَادِ الْمُجْتَهِدِينَ تَتَعَارَضُ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَطَاعَةَ الْجَمِيعِ إِذَا أَجْمَعُوا هِيَ الْمُمْكِنَةُ، عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ غَيْرُ الِاتِّبَاعِ، قَالَ صَاحِبُ " فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ " مَا نَصُّهُ: " وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ـ أَيْ مَعًا ـ وَلَكِنْ أَيْنَ هَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْمُقَلِّدِينَ؟ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا إِذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ،

وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَرْشَدُوا غَيْرَهُمْ إِلَى تَرْكِ تَقْلِيدِهِمْ، وَنَهَوْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَطَاعَتُهُمْ تَرْكُ تَقْلِيدِهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى التَّقْلِيدِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ لَكَانَ يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا طَاعَةَ لَهُ بِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الْحُجَجَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ هَذَا الْإِرْشَادُ مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ آرَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ، فَمَا عَمِلُوا بِهِ عَمِلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ لَمْ يَعْمَلُوا، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، بَلْ مِنْ شَرْطِ التَّقْلِيدِ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ إِمَامِهِ رَأْيَهُ وَلَا يُعَوِّلَ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَلَا يَسْأَلَهُ عَنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَإِنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا خَرَجَ عَنِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُطَالَبًا بِالْحُجَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَمْرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَعْظَمُ مِمَّا قَالَ، وَالْجَمَاهِيرُ مُتَّبِعَةٌ لَهُمْ مَعَ نَقْلِهِمُ الْإِجْمَاعَ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ جَاهِلٌ لَا رَأْيَ لَهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِكَلَامِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَهَافُتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ـ مَرَاتِبُ الطَّاعَاتِ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ وَنُكْتَةُ تَكْرَارِ لَفْظَةِ الطَّاعَةِ: قَدْ رَأَى الْقَارِئُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي نُكْتَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ أَطِيعُوا فِي جَانِبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دُونَ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّكْتَةُ ظَاهِرَةً عِنْدِي، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ مَعَ تَكْرَارِ لَفْظِ الطَّاعَةِ وَعَدَمِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا عَسِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِعَادَةَ كَلِمَةِ أَطِيعُوا تَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الطَّاعَتَيْنِ، كَأَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى طَاعَةَ مَا نَزَّلَ اللهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالثَّانِيَةُ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ مَا وَرَدَ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقَضِيَّةِ يُنْظَرُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَقْضِي بِمَا فِيهَا، وَهَذَا مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمْ وَعُمَّالُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَعَبَّرْنَا عَنْهَا بِالْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ، وَعَطَفَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ أَطِيعُوا لِأَنَّهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَيْ: إِنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَدَلٌ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي اجْتِهَادِهِ وَحَالَّةٌ مَحَلَّهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ كَعِصْمَتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْمُصْلَحَةَ وَارْتِقَاءَ الْأُمَّةِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الِاسْتِبْدَادِ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ لِنُذَكِّرَ النَّاسَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي اجْتِهَادِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا مِمَّا عَاتَبَهُمْ فِيهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِمْ وَلَمْ يُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِخَلَفِهِمْ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ؟

60

وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ مِنْ جَعْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَجَّحُ دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ. هَذَا مَا فُتِحَ بِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ طَبْعِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَجَلَّى بِهِ مَعْنَاهَا، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةُ اللهِ بِالْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَطَاعَةُ جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ـ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهَا ـ فِيمَا يَضَعُونَهُ لَهَا بِالشُّورَى مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَمِنْهَا الصِّحِّيَّةُ وَالْعَسْكَرِيَّةُ، وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ، أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَجَمَاعَاتِهَا فِي شَيْءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ لِلْمُتَنَازِعِينَ أَوْ لِمَنْ يُحَكِّمُونَهُمْ فِي فَصْلِ النِّزَاعِ مِنَ النُّصُوصِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ فِيهِمَا أَوِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ فِيهِمَا، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الرَّازِيِّ وَالنَّيْسَابُورِيِّ: إِنَّ هَذَا الرَّدَّ خَاصٌّ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّنَازُعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُتَنَازِعُونَ، كَمَا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى عُمَرَ فِي الدُّخُولِ عَلَى مَكَانِ الطَّاعُونِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الَّذِي رَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَوْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَبْلَ تَحْكِيمِ عُمَرَ لِمَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَرَوَى لَهُمُ الْحَدِيثَ لَعَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى التَّحْكِيمِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُسْتَقِلُّونَ مَا حَقَّقْنَاهُ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. (تَنْبِيهٌ) : تَكَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ " النَّصِّ " مُعَرَّفًا وَمُضَافًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْنَى عِبَارِتِهِمَا لَا النَّصِّ الْأُصُولِيِّ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا.

قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الْجُلَاسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِشْرٌ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْكُهَّانِ حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أُحَاكِمُكَ إِلَى أَهْلِ دِينِكَ، أَوْ قَالَ: إِلَى النَّبِيِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ فَاخْتَلَفَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ فَنَزَلَتْ " اهـ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْيَهُودَ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إِلَخْ، وَذَكَرَ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ خَانُوا بِجَعْلِهِمُ الْكَافِرِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِيمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مُخْتَارِينَ لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَبِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فِي مُقَابَلَةِ طَاعَةِ أُولَئِكَ لِلطَّاغُوتِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَبِالْجِبْتِ وَاتِّبَاعِهِمْ لِلْهَوَى. وَبَعْدَ هَذَا بَيَّنَ لَنَا حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا، وَمِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ امْتِثَالُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُنَا اخْتِلَافُهَا وَتَشَتُّتُ رِوَايَتِهَا أَنْ نَجْزِمَ بِوَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا نَسْتَرْشِدُ بِمَجْمُوعِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ " الطَّاغُوتَ " مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَتِ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ بِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَمَنْ قَصَدَ التَّحَاكُمَ إِلَى أَيِّ حَاكِمٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْبَاطِلِ وَيَهْرُبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، وَلَا كَذَلِكَ الَّذِي يَتَحَاكَمُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ يُتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّاغُوتِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ الْكَثِيرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ تَحَاكُمِ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَى الدَّجَّالِينَ كَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الْمَنْدَلِ وَالرَّمْلِ وَمُدَّعِي الْكَشْفِ، وَيَخْرُجُ الْمُحَكَّمُ فِي الصُّلْحِ، وَكُلُّ مَا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ.

أَقُولُ: وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَأْتُونَ بِمَا يُنَافِي الْإِيمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَأَحْوَالُ الْأُمَمِ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً؛ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ أَطْوَارِ الْبَشَرِ، فَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِكُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ وَالْعَمَلَ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ تِلْكَ الرُّسُلِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ رَاسِخٍ فِي نَفْسِ مُدَّعِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِضِدِّ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى؟ هَكَذَا كَانَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ جَمِيعُ الْيَهُودِ حَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَيُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي مُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أَنْزِلُ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرْغَبُونَ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ لَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ عُدُولًا صَادِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا عُدُولًا، وَالْقُرْآنُ يَصِفُ بَعْضَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُسَجِّلُ عَلَى بَعْضِهِمُ النِّفَاقَ. وَالزَّعْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَوْلُ وَالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا أَمْ بَاطِلًا، قَالَ أُمُيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي شِعْرٍ لَهُ: سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ مَا زَعَمَ ، يُرِيدُ مَا وَعَدَ، وَأَرَى أَنَّ الْقَافِيَةَ اضْطَرَّتْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ هُنَا، وَمَا هُوَ بِمَكِينٍ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَقَالَ اللَّيْثُ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ: ذَكَرَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يُسْتَيْقَنُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِذَا شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَدِرْهُ لَعَلَّهُ كَذِبٌ أَوْ بَاطِلٌ، قِيلَ: زَعَمَ فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ: الزَّعْمُ الظَّنُّ، وَقِيلَ: الْكَذِبُ، وَكُلُّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ بِنَظَرِ الْقَائِلِ إِلَى بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ دُونَ بَعْضٍ، وَالَّذِي يَنْظُرُ فِي مَجْمُوعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّعْمُ حِكَايَةُ قَوْلٍ يَكُونُ مَظَنَّةً لِلْكَذِبِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَمُّ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَزِيدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِهَا، قَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ (64: 7) ، وَقَالَ: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (6: 94) ، وَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ، فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (17: 56) ، وَقَالَ: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (18: 52) ، وَبَقِيَ آيَاتٌ أُخْرَى مُسْتَعْمَلَةً هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، فَلُغَةُ الْقُرْآنِ أَنَّ الزَّعْمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الزَّاعِمِينَ وَلَا يُقِرُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ

يَكْفُرُوا بِهِ فِي التَّنْزِيلِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ، فَهَذَا التَّنْزِيلُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (1: 36) ، الْآيَةَ، وَهِيَ نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (2: 256) ، إِلَخْ الْآيَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ تَدَّعِي أَلْسِنَتُهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَتَدُلُّ أَفْعَالُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِيمَانِهِمْ بِالطَّاغُوتِ وَإِيثَارِهِمْ لِحُكْمِهِ. وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ ـ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ ـ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَقِّ مَسَافَةً بَعِيدَةً فَيَكُونَ ضَلَالُهُمْ عَنْهُ مُسْتَمِرًّا؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ بُعْدِهِمْ عَنْهُ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ؟ قَالَ: تِلْكَ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ خَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كُنَّا قَدْ تَرَكْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقِيلِ وَالْقَالِ وَآرَاءِ الرِّجَالِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نُبْتَلَى بِهَذِهِ الْقَوَانِينِ وَمُنَفِّذِيهَا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ آرَاءِ فُلَانٍ وَآرَاءِ فُلَانٍ وَكُلُّهَا آرَاءٌ مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهَا؟ وَنَحْنُ الْآنَ مُكْرَهُونَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى يُقَالُ فِيهِ، أَيْ: فِي أَهْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (16: 106) ، الْآيَةَ، وَانْظُرْ إِلَى مَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْنَا إِلَى الْآنَ كَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهَلْ نَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ إِذَا تَنَازَعَ عَالِمَانِ مِنَّا فِي مَسْأَلَةٍ، فَهَلْ يَرُدَّانِهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَمْ يَرُدَّانِهَا إِلَى قِيلٍ وَقَالَ؟ فَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الْحَمَلُ، وَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الصَّاوِي، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، انْتَهَى مَا كَتَبَهُ عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَكَتَبْتُ فِي آخِرِهِ يَوْمَئِذٍ " يُحَرَّرُ الْمَوْضُوعُ " وَمُرَادُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَعَ وُجُودِ نَصٍّ فِيهَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، أَوْ مَا قَضَى بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَرَكُوا مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهِمَا، بَلْ عَمِلُوا بِآرَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُسَمُّونَهُمْ عُلَمَاءَ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ نَصُّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُخَالِفًا لَهُ، وَيُحَرِّمُونَ الرُّجُوعَ إِلَى هَذِهِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمَمْنُوعِ عِنْدَهُمُ الَّذِي يُعَدُّ الْمُتَصَدِّي لَهُ ضَالًّا مُضِلًّا فِي نَظَرِهِمْ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَرَأْيٍ أَنْ سَلِسَ الْمُسْلِمُونَ لِحُكَّامِهِمْ فِي مِثْلِ مِصْرَ، حَتَّى انْتَقَلُوا بِهِمْ مِنَ الْحُكْمِ يَقُولُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْفِقْهِ وَيَأْخُذُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمُ ابْتِدَاءً ـ وَافَقَ

61

نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ خَالَفَهَا ـ إِلَى الْحُكْمِ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ وَاضِعِي الْقَوَانِينِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَحَاكِمُونَ إِلَى رِجَالِ الْقَانُونِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْآنَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْكِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي مَحَاكِمِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْكِيمِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ ; لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْأَجَانِبِ الْأَقْوِيَاءِ، وَأَمَّا فِي ذَاكَ فَلَيْسُوا تَحْتَ سَيْطَرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَإِذَا أَرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِيهِمْ ذَلِكَ نَفَذَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ وَالَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْقَوَانِينَ الْمِصْرِيَّةَ يُوَافِقُونَ فِي أَكْثَرِهَا الشَّرْعَ وَيَبْنُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِحَسَبِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُلْصِقُونَ رَأْيَهُمْ بِالشَّرْعِ كَالْفُقَهَاءِ، وَمُرَاعَاةُ الْمُصْلِحَةِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي الْمَوْكُولِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالنَّاسُ يَقْبَلُونَ آرَاءَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، وَلَوْ فِيمَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّهُمْ يُلْصِقُونَهَا بِالشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ أَنَّهَا اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَكِنْ لَا اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ، وَرُبَّمَا كَانَ الْعَامِلُ بِالرَّأْيِ ـ لَا يُسَمِّيهِ دِينًا ـ أَقَلَّ جِنَايَةً عَلَى الشَّرْعِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ يُسَمِّيهِ دِينًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ أَحَدٍ، أَوْ يَعْمَلُوا بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ حُكْمٌ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الثَّابِتَةِ، إِلَّا فِيمَا رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ، وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِمَا فَالْعَمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِشَرْطِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ دَائِمًا بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ لِكُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، هَذَا هُوَ مَا كَانَ يُرِيدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا فِي دَرْسِهِ بِالْأَزْهَرِ، وَمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ، نَعَمْ إِنَّ مَنْ يَضَعُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالنُّصُوصِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَعِلَلِهَا حَتَّى لَا يُخَالِفُوهَا وَلِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهَا، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ بِهَذَا أَيْضًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ نِفَاقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ كِتَابِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَحُكْمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا مَا بُيِّنَتِ الدَّعْوَى عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِهِ بِشَرِيعَتِهِ فَقَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ بِجَهْلِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ، أَوْ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ لِنَعْمَلَ بِهِ وَنُحَكِّمَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَا أَرَاهُ اللهُ، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ أَيْ رَأَيْتَهُمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ـ جَاءَ بِالظَّاهِرِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِيُبَيِّنَ حَالَهُمْ وَحَالَ أَمْثَالِهِمْ بِالنَّصِّ وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَثَرُهُ ـ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا

62

أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ وَيَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِكَ إِعْرَاضًا مُتَعَمَّدًا مِنْهُمْ، وَهُوَ هُنَا مِنْ " صَدَّ " اللَّازِمِ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ صَدَّ وَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَمْدًا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ وَتَذْكِيرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِقًا لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا اسْتَبَانَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ وَوُعِظُوا بِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهِمْ، وَأُلْفَتُهُمْ لِلْبَاطِلِ، وَعَدُوُّ الْحَقِّ يُعْرِضُ عَنْهُ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، قَالَ: ثُمَّ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَعَدَمَ طَاقَتِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ، فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَخْ، أَيْ لَوْ عَقَلُوا لَالْتَزَمُوا مَا أَظْهَرُوا قَبُولَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِيمَانِ لَيَتِمَّ لَهُمُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ التى اخْتَارُوا فِيهَا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ لَا تَدُومُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْهَا فَيَقَعُوا فِي مُصَابٍ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْتَذِرُوا عَنْ صُدُودِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ إِذَا أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَى شَأْنِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَهُمْ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ؟ إِنَّهُمْ إِذَنْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْإِذْلَالَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَقَعُونَ فِي مُصِيبَةٍ تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَكْشِفُ سِرَّهُمْ، وَهَلْ يَتُوبُونَ حِينَئِذٍ وَيَجِيئُونَكَ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُ غَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِشَيْءٍ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ نَاجِزٌ لِأَمْرِهِمْ، وَإِيذَانٌ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، مُسْتَحِقُّونَ لِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَنَاقَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَهْمٌ شَاذٌّ فَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَالْمَعْنَى: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِلَخْ. أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَيْكَ يَصُدُّونَ عَنْكَ فِي غَيْبَتِكَ، ثُمَّ يَجِيئُونَكَ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ فِي حَضْرَتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ! أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ! وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْوَاحِدِيَّ قَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَأَقُولُ: لَا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَهَا وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْكَرِيمُ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَرَتْ فِي بَالِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَهْمًا لِلْكَلَامِ، وَهَلْ عَثَرَ مُتَقَدِّمٌ عَثْرَةً وَلَمْ يَعْثُرْ وَرَاءَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَوْ تَكَلُّفًا لِلْعِثَارِ؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، وَخَلَطَ بِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعْدِ

بِبَيَانِ نِفَاقِهِمْ، وَإِغْرَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِعِقَابِهِمْ، وَفِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّعِ الَّذِي يَضِيعُ مَعَهُ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ حَالُهُمْ وَحَالُ أَمْثَالِهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي أَمْرِهِمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ! أَيْ مَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ بِبَاعِثِ النِّفَاقِ الظَّاهِرِ، وَالْخُبْثِ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ، وَتَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ لَا يُمْكِنُ كِتْمَانُهَا، وَلَا يَسْتَغْنِي صَاحِبُهَا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ فِيهَا بِقَوْمِهِ وَأَوْلِيَاءِ أَمْرِهِ، فَالْآيَةُ تُنْذِرُ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِ النِّفَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالِاعْتِذَارِ لَهُ وَالْحَلِفِ عَلَى ذَلِكَ لِيُصَدِّقَهُ، فَإِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَيْفَ تُعَامِلُهُمْ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ عِلْمِكَ بِمَا كَانَ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ فِي وَقْتِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ، هَلْ تَعْطِفُ عَلَيْهِمْ وَتَقْبَلُ قَوْلَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الْمُصِيبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا؟ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أَيْ: يُخَادِعُونَكَ بِالْحَلِفِ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا عَمِلُوا مِنَ الصُّدُودِ أَوْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْمُصِيبَةُ إِلَّا إِحْسَانًا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَصْمِهِمْ بِالصُّلْحِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ لَا تُرَاعِي فِيهِ أَحَدًا، فَلَمْ نَرَ ضَرَرًا فِي اسْتِمَالَةِ خُصُومِنَا بِقَبُولِ حُكْمِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مَنْفَعَتِنَا وَمَنْفَعَتِهِمْ. سَأَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كَيْفَ تَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْهِيدًا لِبَيَانِ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ تَرَبُّصَ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُظْهِرُوا عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ أَيْ فَظَاعَتِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَا يَزَالُ مِثْلُهَا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يَعْظُمُ شَأْنُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَسَرَّةٍ وَحُزْنٍ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وُدَّهُ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لَكَ، أَيْ: وَيَقُولُ فِي الْعَدُوِّ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَبِيرٌ جِدًّا لَا يَعْرِفُهُ كَمَا هُوَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ: اصْرِفْ وَجْهَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَعِظْهُمْ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ لَهُمْ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَهُ فِيهَا. أَقُولُ: أَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي نُفُوسِهِمُ الْهَوَاجِسَ وَالْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَسْبَابِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلَا جَازِمِينَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ

63

عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْذَارِهِمُ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مَا نُسِرُّ فِي نُفُوسِنَا، لَعَلَّ سُورَةً نَزَلَتْ نَبَّأَتْهُ بِمَا فِي قُلُوبِنَا، لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فِي بَوَاطِنِنَا، وَهَذِهِ الظُّنُونُ تَعِدُهُمُ التَّأَمُّلَ فِيمَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي [ص 321 ج2 طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ] ، ـ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا فَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، كَأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ فِي عَقَائِدِهَا، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِرْآةُ الْبَاطِنِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الذَّبْذَبَةَ لَمْ تَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ فِيمَا يُهِمُّهُمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَا فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَهِيَ شَرٌّ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَقِيلَ: فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَاهُ فِي السِّرِّ دُونَ الْمَلَأِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّرِّ يَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْكَلَامُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ خَالِيًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِكَ مَا يَشْغَلُ غَيْرَهُ مِنْ ذَهَابِ نَفْسِهِ وَرَاءَ تَأْثِيرِ حَدِيثِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ: هَلْ يَحْتَقِرُونَهُ بِهِ، هَلْ يُحَدِّثُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ؟ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَقُولَ إِذَا قِيلَ لَهُ فِيهِ أَوِ احْتُقِرَ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يَغُوصُ فِيهَا وَيَبْلُغُ غَايَةَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَذْهَبَهُمْ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْجَوَازِ وَاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ - وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فِي الظُّرُوفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، فَالْوَعْظُ: النُّصْحُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ: مَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ طُولَهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ. وَفِي الْآيَةِ شَهَادَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ الْوَعْظِ وَالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ بِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا بِمَعْنَى إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ فَضِيلَةً إِلَّا وَأُوتِيَ مِثْلَهَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَشَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَإِنَّمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا بَيْنَ قَوْمِهِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْ مَظْهَرِ فَصَاحَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ وَهُوَ الشِّعْرُ وَالْخَطَابَةُ

64

وَالْمُمَاتَنَةُ ـ الْمُغَالَبَةُ ـ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ، وَإِنَّمَا صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتُهُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْبَلَاغَةِ أَظْهَرَ وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَمَرَّنَ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَزَاوَلَهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ حَتَّى ارْتَقَى فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْقِمَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي لَا يُطَاوَلُ فِيهَا، هَذِهِ هِيَ حُجَّتُنَا الْمُؤَيَّدَةُ بِسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي بُلَغَاءِ الْقَوْمِ بِالشِّعْرِ وَلَا الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفُلُ بِمُفَاخَرَاتِهِمْ وَمُمَاتَنَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالصِّدْقِ، وَأَمَّا دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا كَالْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا قَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا وَبِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (4: 113) . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: " وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لِفَظٍّ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعَلِمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ تَأَمُّلِ حَدِيثِهِ وَسِيَرِهِ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِعْشَارِ الْهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَمِّمٌ لِسِيَاقِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُؤْثِرُ عَلَيْهِ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلرَّسُولِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ

فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ لِلْمَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضُوا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: إِنَّنَا أَرْسَلْنَا هَذَا الرَّسُولَ عَلَى حُكْمِنَا، وَسُنَّتُنَا فِي الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَنَّنَا لَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ صَدَّ عَنْهُمْ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِنَا وَسُنَّتِنَا فِيهِمْ مُرْتَكِبًا أَكْبَرَ الْآثَامِ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللهِ لِلِاحْتِرَاسِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ قُيُودِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةِ الذَّاهِبَةِ بِظُنُونِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ الرَّسُولَ يُطَاعُ لِذَاتِهِ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ الذَّاتِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى رَبِّ النَّاسِ وَخَالِقِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ تُطَاعَ رُسُلُهُ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ بِإِذْنِهِ وَإِيجَابِهِ. أَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ رَسُولٍ أَبْلَغُ فِي اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: " وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا "، فَكُلُّ رَسُولٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِيجَابُ طَاعَةِ الرَّسُولِ تُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ ; فَالرَّسُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا لِشَرِيعَةٍ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِذْنَ بِالْإِرَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، وَهُوَ مِمَّا تُجَادِلُ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْجِدَالِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إِعْلَامٌ بِإِجَازَتِهِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ نَحْوَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ اهـ، وَقَوْلُهُ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ وَإِلَّا فَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ كَالْأَذَانِ وَالْإِيذَانِ لِمَا يُعْلَمُ بِإِدْرَاكِ حَاسَّةِ الْأُذُنَيْنِ أَيْ: بِالسَّمْعِ، فَقَوْلُهُ: لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ مَعْنَاهُ بِإِعْلَامِهِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَحْيُهُ وَطَرَقَ آذَانَكُمْ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ هَذَا السِّيَاقِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَمَا صَرَفَ الرَّازِيَّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيهِيِّ إِلَّا انْصِرَافُ ذَكَائِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْجُبَّائِيِّ دُونَ فَهْمِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِطَاعَتِهِمْ مُطْلَقًا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِطَاعَتِهِمْ فِيهَا، فَتَكُونُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ أَوْ يَحْكُمُونَ بِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمُوا أَوْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي لَمْ يَأْمُرُوا بِهَا وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ فِي نَفْسِهَا، كَالتَّهَجُّدِ الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا خَصَائِصُ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ. وَمِنْ أَوَامِرِهِ وَأَحْكَامِهِ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ، أَوِ الدَّعْوَى وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ

فِيهِ، وَقَدْ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَسْأَلَةِ الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَكِنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، أَيْ وَلَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنْ حُكْمِكَ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ، مِنْ ذَنْبِهِمْ وَنَدِمُوا أَنِ اقْتَرَفُوهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، أَيْ دَعَا اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُمْ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ الْقَبُولِ وَأَكْمَلَهُ، وَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَغَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ كَثِيرًا مَهْمَا عَادَ صَاحِبُهَا، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. هَذَا هُوَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَوَّابٍ رَحِيمٍ، وَإِنَّمَا قُرِنَ اسْتِغْفَارُهُمُ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ تَوْبَتِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ; لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ لَمْ يَتَعَدَّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ فَيَكْفِي فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، بَلْ تَعَدَّى إِلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولٌ لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَكَانَ لَا بُدَّ فِي تَوْبَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ؛ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ فِيمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى حَقِّهِ، وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَعْرِفُ نُكْتَةَ وَضْعِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَقُلْ: " وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ "، فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي وَحْيِهِ وَمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا فِي مَعْصِيَتِهِمْ عَلَى حُقُوقِهِ الشَّخْصِيَّةِ كَأَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقَالَ: وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا صَحِيحَةً إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْضَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِجْلَالَ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيذَانَ بِقَبُولِ اسْتِغْفَارِ صَاحِبِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَعَدَمِ رَدِّ شَفَاعَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ وَالْمَنْصِبُ هُوَ هُوَ فِي شَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَإِنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ فِيهِمْ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (9: 80) ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ مَقْبُولَةً حَتْمًا إِذَا كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَقِبَ الذَّنْبِ كَمَا يَدُلُّ الشَّرْطُ، وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ (4: 17) ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْمًا لِلْأَنْفُسِ أَيْ إِفْسَادًا لِمَصْلَحَتِهَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ إِلَى مَصَالِحِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَهَذَا الظُّلْمُ يَشْمَلُ الِاعْتِدَاءَ وَالْبَغْيَ وَالتَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَعَزْمُ التَّائِبِ عَلَى اجْتِنَابِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْعَوْدِ إِلَيْهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ دُونِ هَذَا التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ فَلَيْسَ اسْتِغْفَارًا حَقِيقِيًّا.

65

أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِلَفْظِ: " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " لَا يُعَدُّ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْحَقِيقِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْعُرَ الْقَلْبُ أَوَّلًا بِأَلَمِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى التَّزَكِّي مِنْ دَنَسِهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مِنَ التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ الْقَوِيِّ عَلَى اجْتِنَابِ سَبَبِ هَذَا الدَّنَسِ، وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْقَذَرِ الْحِسِّيِّ مَنْ أَلِفَهُ وَعَرَّضَ بَدَنَهُ لَهُ إِذَا طَلَبَ غَسْلَهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الِالْتِيَاثَ بِهِ وَلَا يَدْنُو مِنَ الْمَاءِ؟ وَقَالَ فِي اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُشَارَكَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الدُّعَاءِ مَسْنُونَةٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرَعِ مِمَّا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْوَاحِدِ، فَدُعَاءُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ كُلُّ دَاعٍ مَوْعُودًا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَالْإِجَابَةُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا: هِيَ الْإِثَابَةُ وَحُسْنُ الْجَزَاءِ، فَمَتَى أَخْلَصَ الدَّاعِي أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي الدَّاءِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِينَ الْكَثِيرِينَ لِشَخْصٍ يُؤَدُّونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ بِسَبَبِهِ، أَيْ أَنَّ ذَنْبَهُ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي شُعُورِهِمْ وَإِحْسَاسِهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالِاتِّحَادِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُمْ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الدَّاعِيَ وَالْمُسْتَغْفِرَ لِأُولَئِكَ التَّائِبِينَ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ اسْتِغْفَارِهِمْ هُمْ، فَذَلِكَ مِنَ اشْتِرَاكِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَعَ قُلُوبِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِ اللهِ لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الذَّنْبِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَاهِيكَ بِقُرْبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ رَبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ رِضًا كَامِلًا، بِحَيْثُ يَشْعُرُ قَلْبُهُ الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَغْفِرَةِ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَذَنْبُهُمْ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِضَمِّ اسْتِغْفَارِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَنْبٍ كَذَلِكَ، بَلْ يُكْتَفَى فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ حَيْثُ كَانَ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ بُعْدُ مَنْ قَاسَ كُلَّ ذَنْبٍ عَلَى ذَنْبِ الرَّغْبَةِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِيثَارِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَاسَ كُلَّ مُذْنِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ كُلِّ مُذْنِبٍ إِلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَهُ كَمَجِيءِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ لِيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، وَالسِّيَاقُ مُحْكَمٌ مُتَّسِقٌ وَإِنْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا خَاصَّةً لِنُزُولِهَا، أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِرُبُوبِيَّتِهِ

لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُخَاطِبًا لَهُ فِي ذَلِكَ خِطَابَ التَّكْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَسَمِ يُعَدُّ تَكْرِيمًا، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُقْسِمُ بِرَبِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا غَضِبَتْ مَرَّةً أَقْسَمَتْ بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ بَعْدَ رِضَاهَا، فَقَالَتْ: " إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ "، أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمْثَالَهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا ـ وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ ـ إِلَّا بِثَلَاثٍ: الْأُولَى: أَنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلٌّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ شَجْرًا ـ مَصْدَرُ شَجَرَ ـ، وَالتَّشَاجُرُ وَالِاشْتِجَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَدَاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سُمِّيَ الشَّجَرُ شَجَرًا لِاشْتِجَارِ أَغْصَانِهِ وَتَدَاخُلِهَا ـ وَقِيلَ: مِنَ الشِّجَارِ ـ كَكِتَابٍ ـ وَهُوَ خَشَبُ الْهَوْدَجِ لِاشْتِبَاكِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّجَرِ ـ بِالْفَتْحِ ـ وَهُوَ مَفْتَحُ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنَاسِبَةٌ، وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ الْحَرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا امْتِعَاضٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الْأَلَمُ وَالْحَرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالْحُكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمُخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنِ الْحَرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِـ ثُمَّ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْهَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ وِجْدَانِ الْحَرَجِ عَدَمُ الشَّكِّ فِي حَقِّيَّةِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمُرِّ الْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ ; لِأَنَّ وِجْدَانَ الْقَلْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا التَّسْلِيمُ هُنَا: الِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ

حَقِّيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا. وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ هَذَا بِفَتْوَاهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (9: 43) ، وَقَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى (80: 1) ، إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ (66: 1) ، وَأَحَالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَشَكَّ فِي عِصْمَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِحَسَبِ صُورَةِ الدَّعْوَى وَظَاهِرِهَا لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ الرَّأْيُ هَلْ هُوَ عَنْ وَحْيٍ أَوْ رَأْيٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَطَاعُوا وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا ذَكَرُوا مَا عِنْدَهُمْ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَا لَلَّهِ مَا أَكْمَلَ هَدْيَهُ، وَمَا أَجْمَلَ تَوَاضُعَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأُولَئِكَ الصَّحْبِ الْكَامِلِينَ وَسَلَّمَ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ، فَمَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِهِ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطِيعٍ الرَّسُولَ، وَلَا مِمَّنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَمُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَتَدُلُّ الْآيَةُ بِالْأَوْلَى عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ فِي شَيْءٍ وَتَرَكَهُ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُمْ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتْبَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَتَّخِذَهُمْ شَارِعِينَ، وَيُقَدِّمَ أَقْوَالَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهُمْ بِتَلَقِّي هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى فَهْمِهَا لَا فِي آرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْمُعَارِضَةِ لِلنَّصِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ

عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِذَا حَكَمَ لَكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ صَارَ حَلَالًا لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَنَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَحَدٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ إِذَا أَخَذَهَا، فَمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عِنْدَهُ نَصٌّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْسَخُهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاحْتِمَالِ، وَبَقِيَ مُقَلِّدًا لِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ يَسْتَحِلُّ مَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا مُتَّصِفًا بِالْخِصَالِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ إِلَخْ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَهُوَ نَفْيٌ وَإِبْطَالٌ لِظَنِّ الظَّانِّينَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ يَكُونُونَ صَحِيحِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِقِّينَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهَا، لَا وَرَبِّكَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُوقِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مُذْعِنِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، وَلَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الضِّيقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُلَازِمُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرْضَى بِالْحَقِّ مَتَى عَرَفَهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فَحُكْمُ الرَّسُولِ يُرْضِيهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ. أَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ مِنْهُ فِي لُبَابِ النُّقُولِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَبَ الزُّبَيْرُ حَقَّهُ وَكَانَ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلَّا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ فَقَضَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْأَسْفَلُ، وَهَذِهِ عَيْنُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ، وَفِيهَا جَزْمٌ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِانْطِبَاقِ الْآيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ.

66

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ وَالسِّيَاقُ لَمْ يَنْتَهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ عَائِدٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ، إِذِ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ وَشُخُوصِهِمْ، بَلْ بِصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ: لَوْ أَمَرْنَاهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ الْمُحَقَّقِ أَوِ الْمَظْنُونِ ظَنًّا رَاجِحًا، وَقِيلَ: قَتْلُهَا هُوَ الِانْتِحَارُ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ قُلْنَا لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ أَيْ: أَوْطَانِكُمْ وَهَاجِرُوا إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى مَا فَعَلُوهُ أَيِ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْهِجْرَةِ مِنَ الْوَطَنِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " قَلِيلًا " بِالنَّصْبِ، قَالُوا: وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ ـ وَإِعْرَابُهُمَا ظَاهِرٌ ـ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ هُوَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالسَّهْلِ وَالشَّاقِّ، وَلَوْ قَتْلُ النَّفْسِ وَالْخُرُوجُ مِنَ الدَّارِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ ; لِأَنَّ الْجِسْمَ دَارُ الرُّوحِ، وَالْوَطَنَ دَارُ الْجِسْمِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَغَرَضَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى نَارِ الْفِتْنَةِ ـ رِيَاءً وَتَقِيَّةً ـ فَيُطِيعُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، وَالْجَلَاءُ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأَهْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (28) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ كَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ لَعَصَى الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُطِعْ إِلَّا الْقَلِيلُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ رِضْوَانَ اللهِ عَلَى حُظُوظِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بَلْ أَرْسَلْنَا خَاتَمَ رُسُلِنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ

فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِالضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ أَنْ عَصَوُا الرَّسُولَ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَقْرُونَةِ بِحُكْمِهَا، وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ صَدَّ عَنْهَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَاعْتِزَازِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِقَاءِ أُمَّتِهِمْ، وَفِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، التَّثْبِيتُ: التَّقْوِيَةُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ وَإِتْيَانُ الْأُمُورِ الْمَوْعُوظُ بِهَا فِي الدِّينِ يَزِيدُ الْعَامِلَ قُوَّةً وَثَبَاتًا ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ الْمُبْهَمُ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، وَهِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ وَالْمَلِكَاتِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ، وَتُبَدِّدُ الْمَخَاوِفَ وَالْأَوْهَامَ مِنْ نَفْسِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْبِرِّ آيَةٌ مِنْ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلْمُهُ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ إِلَّا نَاقِصًا، وَكُلَّمَا اعْتَنَّ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَذْلِ تَحَدَّاهُ فِي نَفْسِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ، كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، أَوْ نُقْصَانِ مَالِهِ عَنْ مَالِ بَعْضِ الْأَقْرَانِ، أَوْ تَعْلِيلِ النَّفْسِ بِادِّخَارِ مَا احْتِيجَ إِلَى بَذْلِهِ الْآنَ لِيُوضَعَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ اعْتَادَ الْبَذْلَ صَارَ السَّخَاءُ خُلُقًا لَهُ، لَا يُثْنِيهِ وَسْوَاسٌ وَلَا خَوْفٌ، وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ مَنَافِعِهِ، وَوُضِعَ الْمَالُ فِي خَيْرِ مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يَتَضَمَّنُ الذِّكْرَى، وَتَصَوُّرَ احْتِرَامِ أَمْرِ اللهِ، وَالشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَإِمْرَارَ هَذِهِ الذِّكْرَى عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُثْبِتُهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْمَرْءُ بِالشَّرِيعَةِ عَمَلًا صَحِيحًا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ. أَقُولُ: وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي التَّثْبِيتِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: 1 - أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى مِثْلِهَا. 2 - أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ. 3 - أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ أَوَّلًا، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ ثَابِتًا بَاقِيًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي " أَنَّ " وَ " أَوْ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ نُونِ " أَنْ " وَضَمِّ وَاوِ "

أَوْ " وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَإِجْرَاؤُهُمَا مَجْرَى الْهَمْزَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلِ تُنْقَلُ حَرَكَةُ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّلْفِيقِ، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا فَعَلُوهُ يَعُودُ ضَمِيرُهُ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ. وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، " إِذًا " حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهَا هُنَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالتَّثْبِيتِ؟ فَأُجِيبُ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ أَيْ: نُعْطِيَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، إِلَخْ. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا قِيلَ: إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُنَا هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي شَرَحَهَا الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصِّرَاطُ هُنَا: هُوَ الصِّرَاطُ هُنَاكَ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا. الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ عِبَادُ اللهِ الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارُ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُمُ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ إِلَخْ، وَكَانَ الظَّاهِرُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنْ يُقَالَ: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، صِرَاطَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ فَكَانُوا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مَا هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ أُعِيدَ ذِكْرُ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُرَادُ فِي السِّيَاقِ، الَّذِي تَكُونُ سَعَادَةُ صُحْبَةِ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً لَهُ، أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَى قَوْلِهِ:

68

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الطَّاعَةَ تَصْدُقُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ وَاحِدٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ هُوَ مِمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اخْتِرَاعِ الْإِيرَادَاتِ وَالْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ يَأْبَاهَا، فَهَذِهِ الطَّاعَةُ هِيَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا إِيثَارُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهِيَ الَّتِي عَلِمْنَا بِهَا أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ أَوْ شَرْطٌ لَهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْعَانِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ حَرَجٌ مِنْهُ وَيُسَلِّمُ لَهُ تَسْلِيمًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ فِي تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَوْطَانِ. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَوْصَافٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَرِيقَانِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي صِفَاتِهِمْ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِمْ، وَهَاكَ مَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ وَلَا جِنَايَةَ عَلَى اللُّغَةِ. (الصِّدِّيقُونَ) جَمْعُ صِدِّيقٍ، وَهُوَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الصِّدْقُ وَعُرِفَ بِهِ كَالسِّكِّيرِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّكْرُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الصِّدِّيقُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الصِّدْقُ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ لِمَنْ لَا يَكْذِبُ قَطُّ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْكَذِبُ لِتَعَوُّدِهِ الصِّدْقَ، وَقِيلَ: بَلْ لِمَنْ صَدَقَ بِقَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَحَقَّقَ صِدْقَهُ بِقَوْلِهِ. قَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (19: 41) ، وَقَالَ: أَيْ فِي الْمَسِيحِ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (5: 75) ، وَقَالَ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَالصِّدِّيقُونَ هُمْ قَوْمٌ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الذَّرِيعَةِ إِلَى مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّدِّيقُونَ: هُمُ الَّذِينَ زَكَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَاعْتَدَلَتْ أَمْزِجَتُهُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ لَهُمْ، فَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَيُبَالِغُونَ فِي صِدْقِ اللِّسَانِ وَالْعَمَلِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَرَفَ أَنَّهَا الْحَقُّ وَقَبِلَهَا وَصَدَّقَ بِهَا فَصَدَّقَ النَّبِيَّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَكْمَلَ الصِّدْقَ، وَيَلِيهِ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّهُمُ انْقَادُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِسُهُولَةٍ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ الْآيَاتُ وَثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ تَمَامَ الظُّهُورِ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ـ وَعَدَّ آخَرِينَ مِنَ السَّابِقِينَ ـ وَدَرَجَةُ هَؤُلَاءِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، بَلِ الْأَنْبِيَاءُ صِدِّيقُونَ وَزِيَادَةٌ.

وَأَقُولُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الرَّاغِبِ وَالْأُسْتَاذِ مِنْ كَوْنِ الصِّدِّيقِيَّةِ هِيَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي تَلِي مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ فِي الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ قَدْ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِلْغَزَالِيِّ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِيهِ، وَلَا غَرْوَ فَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ أُسُّ الْفَضَائِلِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ وَالنِّفَاقَ أُسُّ الرَّذَائِلِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَخْذَ الصِّدِّيقِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ بِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ صِدِّيقًا، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَالَّتِي دُونَ الصِّحَاحِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " مَا عَرَضْتُ الْإِسْلَامَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نَظِرَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: مَا كَلَّمْتُ فِي الْإِسْلَامِ أَحَدًا إِلَّا أَبَى عَلَيَّ، وَرَاجَعَنِي الْكَلَامَ إِلَّا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ إِلَّا قَبِلَهُ وَسَارَعَ إِلَيْهِ، وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الْمُسَارَعَةَ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَمَ التَّلَبُّثِ بِهِ، وَحَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ السَّذَاجَةِ وَضَعْفِ الرَّوِيَّةِ، وَيَنْقُضُ حُسْبَانَهُ كُلُّ مَا عُرِفَ مِنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ رَأْيًا، وَأَنْفَذِهِمْ بَصِيرَةً، وَأَصَحِّهِمْ حُكْمًا، وَأَقَلِّهِمْ خَطَأً، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الصِّدْقِ الصَّادِقُونَ، وَقَدْرَ الشُّجَاعَةِ الشُّجْعَانُ، وَحَقَائِقَ الْحِكْمَةِ الْحُكَمَاءُ، فَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ أَبِي بَكْرٍ قَرِيبَةً مِنْ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الصِّدْقِ وَتَحَرِّي الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ رَكِبَ فِي سَبِيلِهِ الصِّعَابَ وَتَقَحَّمَ فِي الْأَخْطَارِ كَانَ السَّابِقَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَبَذْلِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي نَصْرِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الدِّينَ صِدْقًا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (39: 33) نَعَمْ إِنَّ الصَّادِقَ يَكُونُ أَسْرَعَ إِلَى تَصْدِيقِ غَيْرِهِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ بَلِيدًا أَوْ سَاذَجًا غِرًّا صَدَّقَ غَيْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا مُجَرِّبًا ـ كَأَبِي بَكْرٍ ـ لَمْ يُصَدِّقْ إِلَّا مَا هُوَ مَعْقُولٌ، وَمَنْ كَانَ كَبِيرَ الْعَقْلِ قَوِيَّ الْحَدْسِ يُدْرِكُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ إِلَّا بَعْدَ السِّنِينَ الطِّوَالِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِتَارِيخِ الْعَرَبِ وَأَنْسَابِهَا وَأَخْلَاقِهَا، وَظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي سِيَاسَتِهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَانْتَكَثَ فَتْلُ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتْهُ عَصَبِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَهَكَذَا تَكُونُ السَّذَاجَةُ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَالرَّوِيَّةِ! أَمْ ذَلِكَ مَا أَمْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْتَشْرِقِ كُرْهُ الْمُخَالِفِ، وَوَسْوَسَ بِهِ شَيْطَانُ الْعَصَبِيَّةِ؟ ؟ (الشُّهَدَاءُ) جَمْعُ شَهِيدٍ، وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّهِيدِ هُنَا مَنْ قَتَلَهُ الْكَفَّارُ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ " وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ شَرَفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفُسَّاقِ، وَمَنْ لَا مَنْزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى " وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ

يَقْتُلُونَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ وَرَدَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّهِيدِ عَلَى الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَالْغَرِيقِ، قَالَ: " فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَتْلِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (3: 18) ، وَيُقَالُ لِلْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللهِ شَهِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللهِ، وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِينَ يُؤَيِّدُونَ الْحَقَّ بِالشَّهَادَةِ لِأَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَدَرَجَتُهُمْ تَلِي دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ، وَالصِّدِّيقُونَ شُهَدَاءُ وَزِيَادَةٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَحْوَالِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُبْطِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) ، مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَتَفْسِيرِ (2: 140) ، مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَيُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَيَتَوَهَّمُ أَسْرَى الِاصْطِلَاحَاتِ، وَرَهَائِنُ الْقُيُودِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، أَنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ هُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ حَمَلَةُ الشَّهَادَاتِ، الَّذِينَ حَذَقُوا النِّقَاشَ فِي الْعِبَارَاتِ، وَالْجَدَلَ فِي مُصَارَعَةِ الشُّبُهَاتِ، وَجَمْعَ النُّقُولِ فِي تَلْفِيقِ الْمُصَنَّفَاتِ، كَلَّا؛ إِنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ هُمْ أَعْلَامُ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَمُثُلُ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ وَإِنْ سَخِطَ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْحَاكِمُ الْمُقِيمُ لِلْعَدْلِ، وَإِنْ كَثُرَ حَوْلَهُ الْجَائِرُونَ، وَالْمُصْلِحُ لِمَا فَسَدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَإِنْ غَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَالْبَاذِلُ لِرُوحِهِ حَتَّى يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَإِنْ أَحْجَمَ الْجُبَنَاءُ وَالْمُرَاءُونَ. (الصَّالِحُونَ) هُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ نُفُوسُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا حُجَجًا ظَاهِرِينَ كَالَّذِينِ قَبْلَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُتَعَدِّي نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَالْجَائِرِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُمُ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَيَكْفِي أَنْ تَغْلِبَ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ وَأَلَّا يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ هُمْ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ،

69

وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَالرَّسُولَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ مِنْهُمْ، وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَدْ خَتَمَ اللهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْتَقِيَ فِي الِاتِّبَاعِ إِلَى دَرَجَةِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ: الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا أَيْ: إِنَّ مُرَافَقَةَ أُولَئِكَ الْأَصْنَافِ هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَرْغَبُ الْعَاقِلُ فِيهَا لِحُسْنِهَا، وَفِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَالرَّفِيقُ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ الصَّاحِبِ، وَالْأَصْحَابُ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَاسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الرَّفِيقَ وَالرَّسُولَ الْبَرِيدَ مُفْرَدًا اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ أَوِ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِفْرَادُ هُنَا، وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ، وَحَسُنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَهَلْ يُرَافِقُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقَهُ، إِذْ كَانَ مُشَاكِلَهُ وَضَرِيبَهُ، أَمْ يَتَّصِلُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْ فَوْقَهُ، وَلَوْ بَعْضَ الِاتِّصَالِ، الَّذِي يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْفَضْلِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَلَّا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُفَارِقَكَ فَإِنَّكَ لَوْ قَدِمْتَ لَرُفِعْتَ فَوْقَنَا وَلَمْ نَرَكَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَى فَتًى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ لَنَا مِنْكَ نَظْرَةً فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَرَاكَ فَإِنَّكَ فِي الْجَنَّةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - اهـ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةُ السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِهَا الْمُتَّصِلَةَ بِهِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ. وَأَمَّا مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي قُرْصَانَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حَشَرَهُ اللهُ مَعَهُمْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَقَدْ يَغُرُّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْفُسَهُمْ بِدَعْوَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا آيَةُ الْمَحَبَّةِ الطَّاعَةُ، وَالْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ جَزَاءَ الطَّاعَةِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (3: 31) ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ

70

مِنْ جَزَاءِ مَنْ يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ هُوَ الْفَضْلُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَضْلٌ، فَإِنَّ الصُّعُودَ إِلَى إِحْدَى تِلْكَ الْمَرَاتِبِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُرَافَقَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلِ مَنْ فَوْقَهَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ مُنْتَهَى السَّعَادَةِ، فِيهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فَيَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ مِنَ اللهِ تَفَضَّلٌ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَثَانِيَهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ جَزَاءِ الْمُطِيعِينَ هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. وَيَرَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْفَضْلِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءً وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْجَزَاءِ، سَمِّهِ جَزَاءً أَوْ لَا تُسَمِّهِ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا وَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِعِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ وَبِدَرَجَةِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ وَالْجَزَاءِ الْفَضْلِ وَلِزِيَادَةِ الْفَضْلِ، ذَلِكَ كُلُّهُ تَابِعٌ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ! فَهُوَ يُعْطِي بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَيَشَاءُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، فَالتَّذْكِيرُ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي آخِرِ السِّيَاقِ يُشْعِرُنَا بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِنَا وَنِيَّاتِنَا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ، لِيُحَذِّرَ الْمُنَافِقُونَ الْمُرَاءُونَ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَيَتُوبُونَ، وَلْيَطْمَئِنَّ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، لَعَلَّهُمْ يَنْشَطُونَ وَيَزْدَادُونَ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْيَتَامَى مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْإِرْثِ، وَالْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ إِلَى هُنَا فِي مُطَالَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَرِقَّاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ تَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا مَثَلَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَهْتَدُونَ بِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِمْ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ

71

إِلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَرَدِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَكَّدَ أَمْرَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَبَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَمِلُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ صَلُحَ حَالُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ وَصَارُوا مُتَّحِدِينَ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ وَحِفْظِ الْجَامِعَةِ، وَوَثِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَالدِّفَاعِ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا انْتِظَامُ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاحُ أُمُورِهِمُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. بَعْدَ بَيَانِ هَذَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُوَجِّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ يَلِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وَاحِدَةٍ وَانْتِظَامِ شُئُونِهِمْ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ، وَهُوَ مَا يَتِمُّ لَهُمْ بِهِ الْأَمْنُ وَحُسْنُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّنْزِيلِ أَعْدَاءٌ يُنَاصِبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتِمُّ لَهُ نِظَامٌ فِي مَعِيشَتِهِ وَلَا هَنَاءٌ وَلَا رَاحَةٌ إِلَّا بِالْأَمْنَيْنِ كِلَيْهِمَا: الْأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ، وَالْأَمْنُ الْخَارِجِيُّ، فَلَمَّا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا الدَّاخِلِيِّ أَرْشَدَنَا إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا مَعَ الْخَارِجِينَ عَنَّا الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي دِينِنَا، وَذَلِكَ إِمَّا بِمُعَاهَدَاتٍ تَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى دِينِنَا وَأَنْفُسِنَا وَمَصَالِحِنَا، وَإِمَّا بِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ بِالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي. أَقُولُ: كَانَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَةِ الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِلَخْ، وَكَانَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَثِيرًا مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ - كَمَا يُقَالُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ شَرَعَ يُبَيِّنُ لَنَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَيُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الَّذِي نَسِيرُ عَلَيْهِ فِي حِفْظِ مِلَّتِنَا وَحُكُومَتِنَا الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُحْكَمَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَذَرُ - بِالتَّحْرِيكِ - احْتِرَازٌ عَنْ مُخِيفٍ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: خُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: مَا فِيهِ الْحَذَرُ مِنَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ اهـ، وَظَاهِرُهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَذَرِ بِالتَّحْرِيكِ وَالْحِذْرِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْحَذَرَ وَالْحِذْرَ الْخِيفَةُ، وَمَنْ خَافَ شَيْئًا اتَّقَاهُ بِالِاحْتِرَاسِ مِنْ أَسْبَابِهِ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: رَجُلٌ حَذِرٌ مُتَيَقِّظٌ مُحْتَرِزٌ وَحَاذِرٌ مُسْتَعِدٌّ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْإِثْرِ وَالْأَثَرِ وَالْمِثْلِ وَالْمَثَلِ، يُقَالُ: أَخَذَ حَذَرَهُ إِذَا تَيَقَّظَ وَاحْتَرَزَ مِنَ الْخَوْفِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَقِي بِهَا نَفْسَهُ، وَالْمَعْنَى: احْذَرُوا وَاحْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا تُمَكِّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السِّلَاحُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ

الْمَعْنَى: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْحَذَرَ الْخِيفَةُ وَيَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ: الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِاتِّقَاءِ شَرِّ الْعَدُوِّ وَذَلِكَ بِأَنْ نَعْرِفَ حَالَ الْعَدُوِّ وَمَبْلَغَ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَعْدَاءُ مُتَعَدِّدِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ، وَأَنْ تَعْرِفَ الْوَسَائِلَ لِمُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا هَجَمُوا، وَأَنْ يُعْمَلَ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا أَنِسَ غِرَّةً مِنَّا هَاجَمَنَا، وَإِذَا لَمْ يُهَاجِمْنَا بِالْفِعْلِ كُنَّا دَائِمًا مُهَدَّدِينَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ نُهَدَّدْ فِي نَفْسِ دِيَارِنَا كُنَّا مُهَدَّدِينَ فِي أَطْرَافِهَا، فَإِذَا أَقَمْنَا دِينَنَا أَوْ دَعَوْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَارِضَنَا فِي ذَلِكَ، وَإِذَا احْتَجْنَا إِلَى السَّفَرِ إِلَى أَرْضِهِ كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ (8: 60) ، إِلَخْ، وَعَلَى النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلْفَهْمِ أَنْ تَبْحَثَ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ حَالِ الْعَدُوِّ، وَمَعْرِفَةُ أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، طُرُقِهَا وَمُضَايِقِهَا وَجِبَالِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَإِنَّنَا إِذَا اضْطُرِرْنَا فِي تَأْدِيبِهِ إِلَى دُخُولِ بِلَادِهِ فَدَخَلْنَاهَا وَنَحْنُ جَاهِلُونَ لَهَا كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: " قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا "، وَتَجِبُ مَعْرِفَةُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضِنَا بِالْأَوْلَى حَتَّى إِذَا هَاجَمَنَا فِيهَا لَا يَكُونُ أَعْلَمُ بِهَا مِنَّا. وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ مَعْرِفَةُ الْأَسْلِحَةِ وَاتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْهَنْدَسَةِ وَالْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ وَجَرِّ الْأَثْقَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، ذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحَذَرَ، أَيْ: وَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْوِقَايَةُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِحَسَبِهِ، يُرِيدُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى -: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّخَاذُ أُهْبَةِ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهِ مِنَ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ الْمَنَاطِيدِ الْهَوَائِيَّةِ وَالطَّيَّارَاتِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِصُنْعِ هَذِهِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِهَا وَمَا يَلْزَمُ لَهَا، وَالْعِلْمُ بِسَائِرِ الْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ الْحَرْبِيَّةِ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ الْأُخَرِ كَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَخَرْتِ الْأَرْضِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَارِفِينَ بِأَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَكَانَ لِلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ فِي مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ اسْتَعَدَّ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ لِظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِنَكْثِهِمْ لَمْ يُفْلِحْ وَكَانَ جَوَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ لَهُ وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِخَالِدٍ يَوْمَ حَرْبِ الْيَمَامَةِ: حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهِ، السَّيْفُ بِالسَّيْفِ

وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ "، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ، فَالْقَوْلُ وَعَمَلُ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْعَدُوِّ وَقُوَّتِهِ. أَقُولُ: تَعَرَّضَ الرَّازِيُّ هُنَا لِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ مِنْ عَدَمِ نَفْعِ الْحَذَرِ وَكَوْنِهِ عَبَثًا، قَالَ: وَعَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ وَالْهَمُّ الْفَضْلُ، وَقِيلَ أَيْضًا: " الْحَذَرُ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ "، فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطُلَ الْقَوْلُ بِالشَّرَائِعِ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّحْقِيقِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَدَرٍ كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ أَيْضًا دَاخِلًا فِي الْقَدَرِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْحَذَرِ " كَلَامًا مُتَنَاقِضًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَذَرُ مُقَدَّرًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ الطَّاعِنِ فِي الْحَذَرِ؟ انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ. أَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ ابْتُلُوا بِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ كَمَا ابْتُلِيَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ شُفِيَ غَيْرُهُمْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَعُدْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمْ فِي تَرْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَلَمَّا يَشْفِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ نَرَ بُدًّا مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا لِأَنَّ مِثْلَ الرَّازِيِّ ذَكَرَهَا بَلْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا أَقَلَّ النَّاسِ حَذَرًا مِنَ الْأَعْدَاءِ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ بِلَادِهِمْ ذَهَبَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ أَمْرَ اللهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا يَمْتَثِلُونَ، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَهُمْ يَسُلُّونَ فِي وَجْهِكَ كَلِمَةَ الْقَدَرِ، وَمِثْلَ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الرَّازِيُّ. أَمَّا حَدِيثُ: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ إِلَخْ، فَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعُبِ وَالْقَدَرِ مَرْفُوعًا: لَا تُكْثِرُ هَمَّكَ مَا قُدِّرَ يَكُنْ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " وَقِيلَ أَيْضًا " فَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَصَحَّحَهُ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ، وَتَسَاهُلُ الْحَاكِمِ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ، وَالرَّازِيُّ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ رَأَى بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ أَوْ مُضَعَّفٌ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَكَيْفَ يَقُولُ اللهُ: خُذُوا حِذْرَكُمْ، وَيَقُولُ رَسُولُهُ: إِنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْقَدَرِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ! وَإِنِّي عَلَى اسْتِبْعَادِي لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَمَيْلِي إِلَى أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ أَفْسَدُوا بَأْسَ الْأُمَّةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، أَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَنَا بِالْحَذَرِ لِنَدْفَعَ عَنَّا شَرَّ الْأَعْدَاءِ وَنَحْفَظَ حَقِيقَتَنَا لَا لِنَدْفَعَ الْقَدَرَ وَنُبْطِلَهُ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ جَرَيَانِ الْأُمُورِ بِنِظَامٍ يَأْتِي فِيهِ الْأَسْبَابُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْحَذَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْقَدَرِ لَا بِمَا يُضَادُّهُ.

ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مَا هُوَ الْغَايَةُ لَهُ وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ أَوِ الْمُتَمِّمُ لَهُ، فَقَالَ: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا، النَّفْرُ: الِانْزِعَاجُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَالْفَزَعِ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ وَلَقَدْ صَرَفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذْكُرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (17: 41) ، وَهُمْ إِنَّمَا يَنْفِرُونَ عَنِ الْقُرْآنِ لَا إِلَيْهِ، وَمِنَ الثَّانِي النَّفْرُ إِلَى الْحَرْبِ وَفِيهِ آيَاتٌ، وَكَانُوا إِذَا اسْتَنْفَرُوا النَّاسَ لِلْحَرْبِ يَقُولُونَ: النَّفِيرُ النَّفِيرُ، وَالثُّبَاتُ: جَمْعُ ثُبَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ، وَالْمَعْنَى فَانْفِرُوا جَمَاعَةً فِي إِثْرِ جَمَاعَةٍ بِأَنْ تَكُونُوا فَصَائِلَ وَفِرَقًا، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ كَثِيرًا أَوْ كَانَ مَوْقِعُ الْعَدُوِّ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوِ انْفِرُوا كُلُّكُمْ مُجْتَمِعِينَ، إِذَا قَضَتِ الْحَالُ بِذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى فَانْفِرُوا سَرَايَا وَطَوَائِفَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ نَفِيرًا عَامًا، وَيَجِبُ هَذَا إِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ أَرْضَنَا كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّفْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ ثُبَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَلَا تَتَقَيَّدُ الْجَمَاعَةُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَجَمِيعًا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ لَيَشْمَلُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ سَوْقِ الْجَيْشِ وَقِيَادَتِهِ وَهُوَ النَّفْرُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ فَأَمَرَ بِهِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي أَخْذِ الْحَذَرِ مِمَّا قَدْ يَقِفُ دُونَهُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ أَنْ يُرْسَلَ الْجَيْشُ جَمَاعَاتٍ وَفِرَقًا كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ حَتَّى الْآنَ، فَإِذَا احْتِيجَ فِي الْمُقَاوَمَةِ إِلَى نَفْرِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَخُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ وَجَبَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ النَّفْرُ عَلَى كَيْفِيَّتَيْنِ الْأُولَى: أَنْ يُقَسَّمَ الْجَيْشُ إِلَى فِرَقٍ وَسَرَايَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَسِيرَ خَمِيسًا وَاحِدًا، لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَوَّلُ. قَالَ: وَيَتَوَقَّفُ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُسْتَعِدَّةً دَائِمًا لِلْجِهَادِ بِأَنْ يَتَعَلَّمَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فُنُونَ الْحَرْبِ وَيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُعَافَاةَ مِنَ الْخِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَيْسَتْ شَرَفًا بَلْ هِيَ إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ. أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ اقْتِنَاءُ السِّلَاحِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّمَرُّنِ عَلَى الرَّمْيِ بِالْمَدَافِعِ وَبِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا كَانُوا يَتَمَرَّنُونَ عَلَى رَمْيِ السِّهَامِ، وَقَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ مَنْ يُعَيِّبُونَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَصَارَتْ أُمَّةُ السَّلَامِ بِدَعْوَاهَا قُدْوَةً لِأُمَّةِ الْحَرْبِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تُقِيمَ هَذَا الْوَاجِبَ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ تَبْقَى فِيهِ عَالَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُوَاتِيَهَا وَتُسَاعِدَهَا عَلَيْهِ، وَأَنْ تُلْزِمَهَا إِيَّاهُ إِذَا هِيَ قَصَّرَتْ فِيهِ. وَإِنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَضِعَافُ

72

الْإِيمَانِ وَالْجُبَنَاءِ وَهُمُ الْأَقَلُّ، فَالْمُنَافِقُونَ يَرْغَبُونَ عَنِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُدَافِعُوا عَنْهُ وَيَحْمُوا بَيْضَتِهِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَيُبْطِئُونَ غَيْرَهُمْ عَنِ النَّفْرِ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُونَ يُبْطِئُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَالتَّبَطُّؤُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبْطَاءِ وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْبُطْءِ مَعًا، وَالْبُطْءُ التَّأَخُّرُ عَنِ الِانْبِعَاثِ فِي السَّيْرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَيْ: يُبْطِئُ هُوَ عَنِ السَّيْرِ إِبْطَاءً لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ التَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ وَتِكْرَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى الْبُطْءِ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ، وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ: " بَطَّأَ " بِالتَّشْدِيدِ (لَازِمٌ) بِمَعْنَى أَبْطَأَ وَقَدْ شَرَحَ اللهُ حَالَ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الضُّعَفَاءِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِزْعَاجًا إِلَى تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا فَقَالَ: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا فَشُكْرُهُ لِلَّهِ عَلَى عَدَمِ شُهُودِهِ لِتِلْكَ الْحَرْبِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ كَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أَيْ لَيَقُولَنَّ قَوْلَ مَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ، وَلَا جَمَعَتْهُ مَوَدَّةٌ بِكُمْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ بِذَلِكَ الْفَضْلِ فَوْزَهُمْ، فَهُوَ قَدْ نَسِيَ أَنَّهُ كَانَ أَخًا لَكُمْ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَكُمْ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا ضَعْفُ إِيمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّيَهُ بَعْدَ الظَّفَرِ أَوِ الْغَنِيمَةِ لَوْ كَانَ مَعَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ عَقْلِهِ وَكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ تُشِيرُ إِلَيْهِمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ. هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحُوهُ بِكَوْنِ الْخِطَابِ لِلَّذِينِ آمَنُوا ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: " فِيكُمْ "، وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكَمَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (9: 38) . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا كَانَ ضَعِيفَ الْإِيمَانِ لَا يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَعُدُّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، بَلْ يَسْتَحِي مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَلُومُ نَفْسَهُ إِنْ أَطَاعَتْ دَاعِيَ الْجُبْنِ وَيَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ شَدِيدَ الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْفَوْزِ وَالْغَنِيمَةِ، فَالْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ سَوَاءٌ كَانَ التَّبَطُّؤُ فِيهَا لَازِمًا بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ أَوْ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالظَّاهِرُ هُنَا مَعْنَى الْإِبْطَاءِ عَنِ الْخُرُوجِ ; إِذْ لَوْ بَطَّأَ غَيْرَهُ وَخَرَجَ هُوَ لَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْحَرْبَ فَلَا مَعْنَى لِسُرُورِهِ إِذَا أُصِيبُوا، وَلَا لِتَمَنِّيهِ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَبْطَأَ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِإِبْطَائِهِ إِذْ يَكُونُ قُدْوَةً رَدِيئَةً لِمِثْلِهِ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ جَبَانٍ، وَيُبْطِئُهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ

73

بِهَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ أَشَدُّ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُذْنِبُونَ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عِقَابُهُمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَتَأَلَّفُ الْعِصَابَاتُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا الْحُكَّامُ، وَلَفْظُ التَّبَطُّئِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِسَبَبِ إِبْطَائِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ. هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَارُوا أَنَّ الْمُبْطِئَ هُوَ الْمُنَافِقُ قَدْ أَجَابُوا عَنْ جَعْلِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُمْ: مِنْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِالزَّعْمِ وَالدَّعْوَى أَوْ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْاكَمُهُمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ وَالِاخْتِلَاطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. يَجْزِمُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّبَطُّئِ عَنِ الْقِتَالِ بِكُلٍّ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مَعَ ذَيْنِكَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَعِنْدَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُبْطِئُ وَيَقُولُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ وَلَا عِنَايَةٌ بِأَمْرِ دِينِهِ، وَإِنَّمَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَهَوَاتُهُ وَرِبْحُهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ يَعُدُّ مُصِيبَةَ الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً إِذَا لَمْ يُصِبْهُ سَهْمٌ مِنْهَا، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْفُسَهُمْ، وَلْيَزِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِيمَانَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ، وَذَكَرَ الْمَوَدَّةَ هُنَا نَكِرَةً مَنْفِيَّةً فِي سِيَاقِ التَّشْبِيهِ فِي أَوْجِ الْبَلَاغَةِ الْأَعْلَى فَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تُدْرِكُ شَأْوَهَا أُخْرَى وَلَا تَنْتَهِي إِلَى غَوْرِهَا فِي التَّأْثِيرِ، ذَلِكَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةٌ مَا مَعْدُودٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَبِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ: تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ، وَكَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَكَانَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ التَّمَنِّي الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرَى نِعْمَةَ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً وَفَضْلًا عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَمَّنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ مَا وَلَوْ قَلِيلَةً فِي زَمَنٍ مَا وَلَوْ بَعِيدًا، أَعْنِي أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْمَوَدَّةِ كَانَ فِي وَقْتٍ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ التَّمَنِّي، وَفِي هَذَا مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بِأَلْطَفِ الْقَوْلِ وَأَرَقِّ الْعِبَارَةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ بُلَغَاءُ الْبَشَرِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَذُوقُهُ التَّأْثِيرَ الَّذِي لَا يَدْنُو مِنْ مِثْلِهِ النَّبْزُ بِالْأَلْقَابِ وَالطَّعْنُ بِهَجْرِ الْقَوْلِ، التَّأْثِيرَ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي حَقِيقَةِ حَالِهِ، وَمُعَاتَبَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الرَّجَاءِ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَرَجَعَ كُلُّهُ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِ، هَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَبِاللهِ مَا أَعْجَبَ التَّشْبِيهَ فِيهَا وَنَفْيَ الْكَوْنِ وَتَنْكِيرَ الْمَوَدَّةِ إِنَّكَ إِنْ تُعْطِ ذَلِكَ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ، وَيُؤْتِكَ ذَوْقُ الْكَلَامِ قِسْطَهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ، فَقَدِ أُوتِيتَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَكَشَفَ لَكَ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ.

74

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّاءِ، وَالْبَاقُونَ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، فَتَأْنِيثُ الْفِعْلِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَلَكِنَّ التَّأْنِيثَ فِيهِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَلِهَذَا جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ وَحَسُنَ، وَيَكْثُرُ مِثْلُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْفَصْلِ أَيْ: إِذَا فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ أَوِ اسْمِهِ فَاصِلٌ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (10: 57) ، وَمِنَ الثَّانِي: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (2: 275) ، ذَكَرَ الْفِعْلَ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاعِلِهِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا. أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ أَعْدَاءِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَهْلِهَا بِالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِلْحَرْبِ، وَبِالنَّفْرِ وَكَيْفِيَّةِ تَعْبِئَةِ الْجَيْشِ وَسَوْقِهِ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ يُرَغِّبُ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَلَى الْفَخْرِ بِالْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ فَقَالَ: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حَالَ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ

تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ذَنْبِ الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَوْ عَمِلُوا كُلَّ صَالِحٍ وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِخَطِيئَتِهِمْ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالِانْتِصَارُ لَهُ، فَمِنْهُ إِعْلَاءُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَشْرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ دِفَاعُ الْأَعْدَاءِ، إِذَا هَدَّدُوا أَمْنَنَا، أَوْ أَغَارُوا عَلَى أَرْضِنَا أَوْ نَهَبُوا أَمْوَالَنَا، أَوْ صَادَرُونَا فِي تِجَارَتِنَا، وَصَدُّونَا عَنِ اسْتِعْمَالِ حُقُوقِنَا مَعَ النَّاسِ، فَسَبِيلُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَبِيعُونَ قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا احْتِمَالٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِيهِ مُطَّرِدٌ فَفِي سُورَةِ يُوسُفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (12: 20) ، أَيْ: بَاعُوهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (2: 102) ، أَيْ: بَاعُوهَا وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ (2: 207) ; أَيْ يَبِيعُهَا، وَالْبَاءُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ تَدْخُلُ عَلَى الثَّمَنِ دَائِمًا، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَبْذُلَهَا وَيَجْعَلَ الْآخِرَةَ ثَمَنًا لَهَا وَبَدَلًا عَنْهَا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ. أَقُولُ: إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا فِي يَشْرُونَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِنَا الْآنَ الشِّرَاءُ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ شَرَى يَشْرِي يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ، وَإِنَّ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْكَامِلِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِيَاعُ فَهُوَ لِأُولَئِكَ الْمُبْطِئِينَ لِيَتُوبُوا، وَذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِسِلْعَةٍ دُونَ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِدَرَاهِمَ، وَالْقُرْآنُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ شَرَى يَشْرِي بِمَعْنَى بَاعَ يَبِيعُ، وَاشْتَرَى يَشْتَرِي بِمَعْنَى ابْتَاعَ يَبْتَاعُ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الْفَصِيحُ وَإِنْ وَرَدَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: " شَرَيْتُ بُرْدًا " بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ فِي الشِّعْرِ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الثَّمَنُ أَوِ الْبَدَلُ وَقَدْ يُسْكَتُ عَنْهُ وَهُوَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ دَائِمًا سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَ الشِّرَاءُ أَوِ الْبَيْعُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّاتِ. وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - لَا لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ - فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِظَفَرِ عَدُوِّهِ بِهِ فَفَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ وَهُوَ إِذَا ظَفِرَ وَغَلَبَ عَدُوَّهُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَالَهُ بِكَوْنِ قِتَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ لَا فِي سَبِيلِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ. وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ: وَمَاذَا ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي حَالِ تَرْكِ الْقِتَالِ حَتَّى تَتْرُكُوهُ؟ أَيْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ التَّوْحِيدِ مَقَامَ الشِّرْكِ، وَإِحْلَالِ الْخَيْرِ مَحَلَّ الشَّرِّ، وَوَضْعِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فِي مَوْضِعِ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ

75

وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَيْ: فِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ وَأَخَصُّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْقَاذُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ ظُلْمِ الْأَقْوِيَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدِ اسْتَذَلَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَنَالُوا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - لَا لِلْمُنَافِقِينَ - وَالْمُسْتَضْعَفُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَحْصُورُونَ فِي مَكَّةَ يَضْطَهِدُهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَظْلِمُونَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ سَبِيلًا خَاصًّا عَطَفَهُ عَلَى سَبِيلِ اللهِ مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ إِثَارَةُ النَّخْوَةِ، وَهَزُّ الْأَرْيَحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِيقَاظُ شُعُورِ الْأَنَفَةِ وَالرَّحْمَةِ ; وَلِذَلِكَ مَثَّلَ حَالَهُمْ بِمَا يَدْعُو إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلْيًا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا، أَقُولُ: بَيَّنَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مِنْ قَوْمِهِمْ - لِأَجْلِ دِينِهِمْ - كُلَّ عَوْنٍ وَنَصِيرٍ، وَحُرِمُوا كُلَّ مُغِيثٍ وَظَهِيرٍ، فَهُمْ لِتَقَطُّعِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ بِهِمْ يَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ، وَيَدْعُونَهُ لِيُفَرِّجَ كَرْبَهُمْ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ وَطَنُهُمْ لِظُلْمِ أَهْلِهَا لَهُمْ، وَيُسَخِّرَ لَهُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ لِيُهَاجِرُوا إِلَيْكُمْ وَيَتَّصِلُوا بِكُمْ ; فَإِنَّ رَابِطَةَ الْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ رَوَابِطِ الْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنْكُمْ وَلِيًّا لَهُمْ وَنَصِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْذِيبِهِمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (2: 191) ، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهِجْرَةِ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - هَاجَرَا لَيْلًا، وَلَوْ ظَفِرُوا بِهِمَا لَقَتَلُوهُمَا إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَكَانُوا يَصُدُّونَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَيُعَذِّبُونَ مُرِيدَهَا عَذَابًا نُكْرًا، وَمَا كَانَ سَبَبُ شَرْعِ الْقِتَالِ إِلَّا عَدَمَ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَظُلْمَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَمَا أَفَاضَتْ بِهِ الْآيَاتُ مِنْ بَيَانِهِ، يَقُولُ الْجَاهِلُونَ وَالْمُتَجَاهِلُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ، فَأَيْنَ كَانَتِ الْقُوَّةُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؟ ! الْقِتَالُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يُجِيزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ ارْتِكَابَ الْقَبِيحِ إِلَّا لِإِزَالَةِ شَرٍّ أَقْبَحَ مِنْهُ، وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ حِكْمَةَ الْقِتَالِ وَكَوْنِهِ لِلضَّرُورَةِ وَإِزَالَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِدَالَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ هُنَا بِبَيَانِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِ الْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظُّلْمِ، حَتَّى أَكَّدَهُ بِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، إِلَى الْبَاطِلِ

76

وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُؤْمِنُونَ الْقِتَالَ - وَالْكَافِرُونَ لَا يَتْرُكُونَهُ - لَغَلَبَ الطَّاغُوتُ وَعَمَّ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) ، فَغَلَبَتِ الْوَثَنِيَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَمَّ الظُّلْمُ بِعُمُومِ الِاسْتِبْدَادِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُزَيِّنُ لِأَصْحَابِهِ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ وَالشَّرَّ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَيُوهِمُهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ، وَفِيهَا عِزُّهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ وَالْخِدَاعُ، وَمِنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَعَارُضِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَالْبَاطِلَ يَسْفُلُ، وَفِي مُصَارَعَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بَقَاءُ الْأَصْلَحِ، وَرُجْحَانُ الْأَمْثَلِ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا ثَابِتًا صَالِحًا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُمْرَانِ فَسُنَنُ الْوُجُودِ مُؤَيِّدَةٌ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ يَطْلُبُونَ الِانْتِقَامَ وَالِاسْتِعْلَاءَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَسْخِيرَ النَّاسِ لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَهِيَ أُمُورٌ تَأْبَاهَا فِطْرَةُ الْبَشَرِ السَّلِيمَةِ، وَسُنَنُ الْعُمْرَانِ الْقَوِيمَةِ، فَلَا قُوَّةَ وَلَا بَقَاءَ لَهَا، إِلَّا بِتَرْكِهَا وَشَأْنَهَا، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِأَهْلِهَا، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي نَوْمَةِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ عَمَّا عَسَاهُ يَطُوفُ بِخَوَاطِرِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ أَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ لِأَنَّنَا ضُعَفَاءُ وَالْأَعْدَاءُ أَكْثَرُ مِنَّا عَدَدًا، وَأَقْوَى مِنَّا عُدَدًا، فَدَلَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى قُوَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا قُوَّةٌ، وَضَعْفِ الْأَعْدَاءِ الَّذِي لَا يُفِيدُهُ مَعَهُ كَيَدٌ وَلَا حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ الْحَقِّ الَّذِي يُوقِنُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَصَاحِبُ الْيَقِينِ وَالْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ الْفَاضِلَةِ تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ بِكُلِّ قُوَاهَا إِلَى إِتْمَامِ الِاسْتِعْدَادِ، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ. أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَدَنِيِّ لِأَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يُقْصَدُ بِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَحُرِّيَّةَ الدِّينِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ (8: 39) ، أَيْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَيُكْرَهُ عَلَى تَرْكِهِ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (2: 256) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَنْ أُذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ إِلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (22: 41) ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمَدَنِيُّ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْمُلْكَ وَالْعَظْمَةَ، وَتَحَكُّمَ الْغَالِبِ الْقَوِيِّ فِي الْمَغْلُوبِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْحَرْبَ الدِّينِيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي الْحُرُوبِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَهُمْ طَمَعٌ فِي بِلَادٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَإِنَّمَا لَهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَى هَذِهِ الْبَقِيَّةِ وَيَتَّهِمُونَهَا بَاطِلًا بِهَذِهِ التُّهْمَةِ. وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِتَالِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ - إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي يُوجِبُهَا الدِّينُ وَيَشْتَرِطُ لَهَا الشُّرُوطَ وَيُحَدِّدُ لَهَا الْحُدُودَ

77

قَدْ تَرَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ، وَلَوْ وُجِدَتْ فِي الْأَرْضِ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُقِيمُ الْقُرْآنَ وَتُحَوِّطُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ إِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْحَرْبِ حَتَّى تَكُونَ أَقْوَى دَوْلَةٍ حَرْبِيَّةٍ ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّبُ الِاعْتِدَاءَ فَلَا تَبْدَأُ غَيْرُهَا بِقِتَالٍ بِمَحْضِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، بَلْ تَقِفُ عِنْدَ تِلْكَ الْحُدُودِ الْعَادِلَةِ فِي الْهُجُومِ وَالدِّفَاعِ، لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ لَاتَّخَذَهَا أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الصَّحِيحَةِ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ، وَلَكِنْ صَارَ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ إِلَى أَحْكَامِهِ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَإِنَّمَا الْغَلَبَةُ وَالْعِزَّةُ لِمَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْفِعْلِ، عَلَى مَنْ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ تَذْكِيرُ صِفَةِ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا لِتَذْكِيرِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالْفِعْلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ فِيهِ، فَالظَّالِمُ أَهْلُهَا هَاهُنَا كَقَوْلِكَ: الَّتِي يَظْلِمُ أَهْلُهَا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.

أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعِنْدَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَنَّهَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِبْهَامِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَجْزِمُ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَهْمَا كَانَ سَنَدُهَا ; لِأَنَّنِي أُبَرِّئُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ وَالنَّفْرِ لَهُ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي تَخَاصُمٍ وَتَلَاحُمٍ وَحُرُوبٍ مُسْتَحِرَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ - فَإِنَّ الْحُرُوبَ بَيْنَهُمْ لَمْ تَنْقَطِعْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ أَمَرَهُمُ الْإِسْلَامُ بِالسِّلْمِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ بِالْعِبَادَةِ وَالْكَفِّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالْقِتَالِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِاحْتِرَامِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَبِالْخُشُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَتَمْكِينِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي تُفِيدُ مَعَ تَمْكِينِ الْإِيمَانِ شَدَّ أَوَاخِي التَّرَاحُمِ بَيْنَهُمْ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَكْتُبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ لِيَجْرُوا عَلَى مَا تَعَوَّدُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَتِهِمْ وَحِمَايَةِ حَقِيقَتِهِمْ، كَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْقَهُوا مِنَ الْأَمْرِ بِكَفِّ الْأَيْدِي أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُحِبُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهُ مَا كَتَبَ الْقِتَالَ إِلَّا لِضَرُورَةِ دِفَاعِ الْمُبْطِلِينَ الْمُغِيرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَاطِيلَهُمْ وَاتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِهِمْ، أَوْ يَرْجِعُوا عَنْ حَقِّهِمْ فَأَيْنَ مَحَلُّ الِاسْتِنْكَارِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟ وَهَؤُلَاءِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَأَوْ هُنَا بِمَعْنَى " بَلْ " أَيْ: إِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْخَشْيَةِ أَنْ يَمِيلَ إِلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى الْآخَرِ تَارَةً، وَكَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ رَجَّحُوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ خَشْيَةَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَالَ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أَيْ: بَلْ أَشَدَّ خَشْيَةً، أَقُولُ: اسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ نُزُولَ الْآيَةِ فِي بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمَا اسْتَحَقُّوهَا إِلَّا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَجَعْلِهَا فِي الْمُبْطِئِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ ضِعَافُ

الْإِيمَانِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُ رِوَايَةً تَجْعَلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُمْ! وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَآيَاتٌ بَعْدَهَا فِي الْيَهُودِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، نَهَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَصْنَعُوا صَنِيعَهُمْ، اهـ، أَيْ: أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - الِاعْتِبَارُ بِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (2: 246) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَلَّفَهُمْ مُخَالَفَةَ عَادَتِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَالْقِتَالِ لِأَجْلِ الثَّأْرِ، وَلِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْكَسْبِ، وَأَمَرَهُمْ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ، حَتَّى خَمَدَتْ مِنْ نُفُوسِ أَكْثَرِهِمْ تِلْكَ الْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا أَشْرَفُ الْعَوَاطِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى لَوْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَبَعْضُ السَّابِقِينَ رَأَوْا تَرْكَهُ ذُلًّا وَطَلَبُوا الْإِذْنَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنَ النَّاسِ بَلْ ذَلِكَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ - لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ - كَانَ كُرْهًا لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 216) ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْعَزْمِ وَالْيَقِينِ أَطَاعُوا وَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ قِتَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فَكَانُوا قَدْ أَنِسُوا وَسَكَنُوا إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ وَكَفِّ الْأَيْدِي فَنَالَ مِنْهُمُ الْجُبْنُ، وَأَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَكَرِهُوا الْمَوْتَ لِأَجْلِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرُ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ حَتَّى رَجَّحُوهُ عَلَى الْخَشْيَةِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ بِالْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ وَهُوَ يَقُولُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) ، وَاسْتَنْكَرُوا فَرْضَ الْقِتَالِ وَأَحَبُّوا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى أَجَلٍ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَيْ هَلَّا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ نَمُوتَ حَتْفَ أُنُوفِنَا بِأَجَلِنَا الْقَرِيبِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْقَرِيبِ الزَّمَنُ الَّذِي يَقْوَوْنَ فِيهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ بِمِثْلِ مَا عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونُوا قَصَدُوا أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِمَحْضِ الْهَرَبِ وَالتَّفَصِّي مِنَ الْقِتَالِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُرْهِقُكَ عُسْرًا فِي أَمْرٍ: أَمْهِلْنِي قَلِيلًا أَنْظِرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ أَيْ: إِنَّ عِلَّةَ اسْتِنْكَارِكُمْ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِكُمُ الْإِنْظَارَ فِيهِ؛ إِنَّمَا هِيَ خَشْيَةُ

الْمَوْتِ، وَالرَّغْبَةُ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَكُلُّ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَتَاعِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ، فَإِنَّ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى لِأَنَّ مَتَاعَهَا كَثِيرٌ وَبَاقٍ لَا نَفَادَ لَهُ وَلَا زَوَالَ، وَإِنَّمَا يَنَالُهُ مَنِ اتَّقَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدَنِّسُ النَّفْسَ بِالشِّرْكِ وَبِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْجُبْنِ وَالْقُعُودِ عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، وَإِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهِيَ شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَجْزِيُّونَ هُنَالِكَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَسْتَحِقُّونَهُ بِأَثَرِ أَعْمَالِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِقْدَارَ فَتِيلٍ، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، أَوْ مَا يُفْتَلُ بِالْأَصَابِعِ مِنَ الْوَسَخِ عَلَى الْجِلْدِ أَوْ مِنَ الْخُيُوطِ، يُضْرَبُ هَذَا مَثَلًا فِي الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، وَقِيلَ: لَا تُنْقَصُونَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ آجَالِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " يُظْلَمُونَ " عَلَى الْغِيبَةِ لِتَقَدُّمِهَا وَالْبَاقُونَ " تُظْلَمُونَ " بِالْخِطَابِ، ثُمَّ جَاءَ بِمَا يَذْهَبُ بِأَعْذَارِهِمْ، وَيَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: إِنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَهْرَبَ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَكُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُمْ وَلَوْ تَحَصَّنْتُمْ مِنْهُ فِي الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ، وَهِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ فَيَعُزُّ الِارْتِقَاءُ إِلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوِ الْحُصُونُ الْمَنِيعَةُ الَّتِي تَعْتَصِمُ فِيهَا حَامِيَةُ الْجُنْدِ، شَيَّدَ الْبِنَاءَ يُشَيِّدُهُ عَلَّاهُ وَأَحْكَمَ بِنَاءَهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ بِالشِّيدِ وَهُوَ - بِالْكَسْرِ - كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ الْحَائِطُ كَالْجِصِّ وَالْبَلَاطِ، يُقَالُ: شَادَّ الْبِنَاءَ إِذَا جَصَّصَهُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ مِنَ الْبِنَاءِ فَقَدْ شُيِّدَ، وَتَشْيِيدُ الْبِنَاءِ إِحْكَامُهُ وَرَفْعُهُ، أَيْ: لِأَنَّ فِي التَّفْعِيلِ مَعْنًى مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الشَّيْءِ، وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ بُرُوجَ النَّجْمِ وَيَكُونَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمُشَيَّدَةِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ بِالْمَعْنَى إِلَى نَحْوِ مَا قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ لَا مَفَرَّ عَنْهُ وَلَا عَاصِمَ، وَكَانَ الْمَرْءُ يَخُوضُ مَعَامِعَ الْقِتَالِ فَيُصَابُ وَلَا يَمُوتُ، وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَحْيَانًا فَلَا يُصَابُ بِجُرْحٍ وَلَا يُقْتَلُ، وَقَدْ يَمُوتُ الْمُعْتَصِمُ فِي الْبُرُوجِ وَالْحُصُونِ اغْتِضَارًا، وَإِذَا كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ هُوَ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْجُبَنَاءَ يُغْرُونَ أَعْدَاءَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ دِفَاعِهِمْ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ لِلْقِتَالِ وَالْإِقْدَامُ فِيهِ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَمَنْعِ الْبَاطِلِ أَنْ يَسُودَ وَالشَّرِّ أَنْ يَفْشُوَ - مُوجِبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَلِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَمَا هُوَ عُذْرُكُمْ أَيُّهَا الْقَاعِدُونَ الْمُبْطِئُونَ؟ وَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ ... كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ

78

فَلِمَاذَا تَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْحَقِيرَ عَلَى الْعَظِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ كَانَ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ أَنْ كَرِهُوا الْقِتَالَ وَجَبُنُوا عَنْهُ وَخَافُوا النَّاسَ وَتَمَنَّوْا بِذَلِكَ طُولَ الْبَقَاءِ، فَكَانَ هَذَا صَدْعًا فِي دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ قَامَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ يُشْبِهُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَرَضِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْحَسَنَةُ مَا يَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهِ كَالرَّخَاءِ وَالْخَضْبِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، كَانُوا يُضِيفُونَ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا بِشُعُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بَلْ غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُمْ بِهَا عِنَايَةً بِهِمْ، وَهُرُوبًا مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَا حَاطَهُمْ بِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ السَّيِّئَةَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيءٌ مِنْ أَسْبَابِهَا، دَعْ إِيجَادَهَا وَإِيقَاعَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَالسَّيِّئَةُ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ كَالشِّدَّةِ وَالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْهَزِيمَةِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ، كَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ فِي الْمَدِينَةِ سَيِّئَةٌ بَعْدَ الْهِجْرَةِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِوُقُوعِهَا فِي مُلْكِهِ عَلَى حَسَبِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أَيْ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَاذَا أَصَابَ عُقُولَهُمْ حَالَ كَوْنِهَا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِ الْحَدِيثِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِهِ وَأَسْرَارِهِ! فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقُونَهُ وَلَا حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ قَطُّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الْمَعْنَى عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ بَادِئَ الرَّأْيِ، وَالْفِقْهُ مَعْرِفَةُ مُرَادِ صَاحِبِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ وَالْغَائِيَّةِ لَهُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ فَقَدُوا هَذَا الْفِقْهَ وَحُرِمُوهُ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ، فَأَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يُحْرَمُوهُ مِنْ حَدِيثٍ يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ عَنْ وَحْيِ رَبِّهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِفَضْلِ الرَّوِيَّةِ وَذَكَاءِ الْعَقْلِ وَطُولِ التَّدَبُّرِ، وَمَنْ نَالَهَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ سَيِّئَةً تَقَعُ بِشُؤْمِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يُسْنِدُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى السَّبَبِ، أَوْ إِلَى وَاضِعِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ أَنْ يَطْلُبَ فِقْهَ الْقَوْلِ دُونَ الظَّوَاهِرِ الْحَرْفِيَّةِ، فَمَنِ اعْتَادَ الْأَخْذَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الظَّوَاهِرِ دُونَ مَا رَسَبَ فِي أَعْمَاقِ الْكَلَامِ وَمَا تَغَلْغَلَ فِي أَنْحَائِهِ وَأَحْنَائِهِ يَبْقَى جَاهِلًا غَبِيًّا طُولَ عُمْرِهِ. بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوْضُوعِهَا وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا تُضَافُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:

79

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَهِيَ مِنْ مَحْضِ فَضْلِ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ لَكَ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَكَ لَا بِاسْتِحْقَاقِ سَبْقٍ لَكَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَبِمَاذَا اسْتَحْقَقْتَ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ الْهَوَاءَ النَّقِيَّ الَّذِي يُطَهِّرُ دَمَكَ، وَيَحْفَظُ حَيَاتَكَ، وَالْمَاءَ الْعَذْبَ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَكَ وَحَيَاةَ كُلِّ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الْكَثِيرَةُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَيَوَانَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَادِّ الْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ وَالْهَنَاءِ، وَمَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ أُوتِيتَ قُدْرَةً عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتِيَارًا فِي تَقْدِيرِ الْبَاعِثِ الْفِطْرِيِّ عَلَيْهِ مِنْ دَرْءِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، فَصِرْتَ تَعْمَلُ بِاجْتِهَادِكَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْمَقَاصِدِ عَلَى بَعْضٍ فَتُخْطِئُ فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، فَلَا أَنْتَ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَتَتَحَرَّى جَادَّتَهَا، وَلَا أَنْتَ تُحِيطُ عِلْمًا بِالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَضَبْطِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ فِي اخْتِيَارِ الْحَسَنِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا تُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي حِينٍ دُونَ حِينٍ بِالْهَوَى أَوْ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ مِنْهَا فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَمِلْتَ السَّيِّئَاتِ. وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ أَنَّ هُنَا حَقِيقَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّهُ وَاضِعُ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ لِأَسْبَابِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِسَعْيِ الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُ مَظْهَرُ الْإِبْدَاعِ وَالنِّظَامِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقَعُ فِي شَيْءٍ يَسُوؤُهُ إِلَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْأَسْبَابِ وَتَعَرُّفِ السُّنَنِ، فَالسَّوْءُ مَعْنًى يَعْرِضُ لِلْأَشْيَاءِ بِتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَسُوؤُهُ وَلَيْسَ ذَاتِيًا لَهَا وَلِذَلِكَ يُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ. مِثَالُ ذَلِكَ: الْمَرَضُ، فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوءُ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُصِيبُهُ بِتَقْصِيرِهِ فِي السَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الْغِذَاءِ وَالْعَمَلِ فَيَجِيءُ مِنْ تُخْمَةٍ قَادَتْهُ إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ، أَوْ مِنْ إِفْرَاطٍ فِي التَّعَبِ أَوْ فِي الرَّاحَةِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ كَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلْبَرْدِ الْقَارِسِ أَوِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ فِي التَّرْجِيحِ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَوْرُوثَةُ مِنْ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ أَيْضًا لَا مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَحْضِ خَلْقِ اللهِ دُونَ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، فَوَالِدَاهُ يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِتَعْرِيضِ أَنْفُسِهِمَا لِلْمَرَضِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى نَسْلِهِمَا بِالْوِرَاثَةِ، كَمَا يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ بَعْدَهُ بِتَعْرِيضِهِ هُوَ لِلْمَرَضِ فِي صِغَرِهِ بِعَدَمِ وِقَايَتِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اخْتِيَارُهُمَا لَهُ قَائِمًا مَقَامَ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا خَاصًّا: غَزْوَةَ أُحُدٍ، أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا سَيِّئَةٌ كَانَ سَبَبُهَا تَقْصِيرَهُمْ

فِي الْوُقُوفِ عِنْدَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ فَعِصْيَانَ قَائِدِ عَسْكَرِهِمْ وَرَسُولِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِلنِّضَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لِخَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ سَبَبُهُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا تُسْنَدُ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَوَادِّهَا وَالْوَاضِعُ لِسُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِيهَا، وَيُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْهَا كُلُّ مَالَهُ فِيهِ كَسْبٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَوِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ مَضَى بِهَذَا عُرْفُ النَّاسِ وَأَيَّدَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (6: 160) ، فَلِمَاذَا جَعَلَ هُنَا إِصَابَةَ الْحَسَنَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا وَإِصَابَةَ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ حَقٌّ، وَمَا فِي الْآيَةِ حَقٌّ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَالْمَقَامُ الَّذِي سِيقَتِ الْآيَةُ لَهُ هُوَ بَيَانُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الشُّؤْمِ وَالتَّطَيُّرِ وَإِبْطَالُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ لَا يُصِيبُهُمْ بِشُؤْمِ أَحَدٍ يَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ وَيَتَطَيَّرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَزَالُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِينَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ وَقَدْ أَبْطَلَهَا دِينُ الْفِطْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (7: 131) ، فَقَدْ جَعَلَ التَّطَيُّرَ مِنَ الْجَهْلِ وَفَقْدِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ. ثَانِيَهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى شُؤْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا كَسْبٌ ; لِأَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ تَقْصِيرِهِ وَخُرُوجِهِ بِجَهْلِهِ أَوْ هَوَاهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْتِمَاسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَارِّ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَرْجِيحِ الْخَيْرِ لَهَا عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ، وَكَوْنِ كُلِّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَاهُ نَافِعَةً لَهُ إِذَا أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَهَا، وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَيِّئَةٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ يَقَعُ فِي الضَّرَرِ غَالِبًا بِسُوءِ الِاسْتِعْمَالِ وَطَلَبِ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ لَوْلَا جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، كَالْإِفْرَاطِ فِي اللَّذَّاتِ وَالتَّعَبِ، تَنْفِرُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ فَيَحْتَالُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَيَحْمِلُهَا مَا لَا تَحْمِلُهُ بِطَبْعِهَا لَوْلَا ظُلْمُهُ لَهَا، كَاسْتِعْمَالِهِ الْأَدْوِيَةِ لِإِثَارَةِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالْوِقَاعِ وَعَدَمِ وُقُوفِهِ فِيهِمَا عِنْدَ حَدِّ الدَّاعِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، كَأَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا جَاعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ وَالتَّوَابِلِ الْمُحَرِّضَةِ، فَمَصَائِبُ الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمِهِ وَكَسْبِهِ [رَاجِعْ ص 65 و155 - 158 و281 ج4] .

لُبُّ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهَا وَرَبَّانَا بِهَا هُوَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، كَسُنَنِهِ فِي فِطْرَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (67: 3) ، كُلُّهَا مَصَادِرُ لِلْحَسَنَاتِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سَيِّئٌ بِطَبْعِهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَحْكَمَ الْعِلْمَ وَأَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ مُهْتَدِيًا بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - كَانَ مَغْمُورًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِذَا قَصَّرَ فِي الْعِلْمِ وَأَسَاءَ الِاخْتِيَارَ فِي اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ وَحَاجَةُ الطَّبِيعَةِ وَقَعَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوؤُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاتَبَةِ كُلَّمَا أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ، لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَيَزْدَادَ عِلْمًا وَكَمَالًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَعِلْمِ النَّفْسِ فِيهَا شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ، وَتَثْبِيتٌ فِي مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَهِيَ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلْقًا لِمَوَارِدِهَا وَأَسْبَابِهَا وَتَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بِجَعْلِهَا عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَحْسَنَ وَأَصَابَ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِفَضْلِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ وَأَسَاءَ كَانَتْ لَهُ السَّيِّئَةُ بِخُرُوجِهِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَتَقْصِيرِهِ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ دَخْلٌ فِيمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ لَا لِلتَّصَرُّفِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَحْوِيلِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ تَبْدِيلِهَا، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (35: 43) ، فَزَعْمُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَمَا تَخَيَّلُوا مِنْ شُؤْمِهِ، لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا بَيَّنَ مِنْ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي النَّقْلِ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ جَامِعَةٌ لِأَسْبَابِ النِّعَمِ فَهِيَ مِنْ يُمْنِهِ لَا مَنْ خَلْقِهِ. وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِتَأْيِيدِكَ بِآيَاتِهِ، وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا أَنْذَرْتَ بِهِ الْمُعْرِضِينَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ شَهِيدًا بِأَنَّكَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ وَلَا جَبَّارًا لَهُمْ، وَلَا مُغَيِّرًا لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الشَّهَادَةُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُنْكَرَةَ. تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هُنَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى هُنَا كَانَ يَقُولُ هَذَا يَهُودُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَ السِّيَاقِ فِيهِمْ، وَفِي مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ، لَا فِي ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ خَاصَّةً كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَلَهُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَقَالٌ فِي تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ سُئِلَ

عَنْهُمَا فَأَجَابَ وَنَشَرْنَا جَوَابَهُ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ (ص 157) وَيَحْسُنُ أَنْ نَضَعَهُ هَاهُنَا فَهُوَ مَوْضِعُهُ وَهُوَ: " كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ بَطَرًا جَاهِلًا، إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَنِعْمَةٌ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَكْرَمَهُ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْدَرَهُ مِنْ لَدُنْهُ وَسَاقَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ عِنَايَةً مِنْهُ بِهِ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ شَرٌّ - وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ السَّيِّئَةِ - يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ شُؤْمَ وَجُودِهِ هُوَ يَنْبُوعُ هَذِهِ السَّيِّئَاتِ وَالشُّرُورِ، فَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ يَتَنَاوَبَانِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَنْسُبُونَ الْخَيْرَ أَوِ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمُعْطِيهَا الْحَقِيقِيُّ، يُشِيرُونَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ، وَيَنْسُبُونَ الشَّرَّ أَوِ السَّيِّئَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمَنْبَعُهَا الْحَقِيقِيُّ كَذَلِكَ، وَأَنَّ شُؤْمَهُ هُوَ الَّذِي رَمَاهُمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ مِنْ لَدُنْهُ وَمِنْ خَزَائِنِ عَطَائِهِ، وَمِنْ لَدُنْكَ وَمِنْ خَزَائِنِ رَزَايَاكَ الَّتِي تَرْمِي بِهَا النَّاسَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَيْ: إِنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ وَوَاضِعَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْمُنْعِمَ بِالنِّعَمِ وَالرَّامِيَ بِالنِّقَمِ إِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِيُمْنٍ وَلَا لِشُؤْمٍ مُدْخَلٌ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ بَيَانٌ لِلْفَاعِلِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ الْفِعْلُ فِيمَا لَا تَتَنَاوَلُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَسْبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْنِيهِ أُولَئِكَ الْمُشَاقُّونَ عِنْدَمَا يَقُولُونَ: الْحَسَنَةُ مِنَ اللهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَيْ: إِنَّهُ لَا دَخْلَ لِاخْتِيَارِهِمْ فِي الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ الْأُولَى مِنْ عِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ وَالثَّانِيَةَ مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ تَرْمِيهِمْ بِالْجَهْلِ فَمَا زَعَمُوا، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِعْلٌ، الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. " هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ الْأَعْلَى فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِسُنَّةِ اللهِ فِي طَرِيقِ كَسْبِ الْخَيْرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الشَّرِّ وَالتَّمَسُّكِ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ، كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ وَهَبَنَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْقُوَى مَا يَكْفِينَا فِي تَوْفِيرِ أَسْبَابِ سَعَادَتِنَا وَالْبُعْدِ عَنْ مَسَاقِطِ الشَّقَاءِ، فَإِذَا نَحْنُ اسْتَعْمَلْنَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ فِيمَا وُهِبَتْ لَهُ لِأَجْلِهِ وَصَرَفْنَا حَوَاسَّنَا وَعُقُولَنَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي نَنَالُ مِنْهَا الْخَيْرَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَإِخْضَاعِ جَمِيعِ قُوَانَا لِأَحْكَامِهِ وَفَهْمِ شَرَائِعِ اللهِ حَقَّ الْفَهْمِ وَالْتِزَامِ مَا حَدَّدَهُ فِيهَا، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّنَا نَنَالُ الْخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ، وَنَبْعُدُ عَنِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَاسَةِ، وَهَذِهِ النِّعَمُ إِنَّمَا يَكُونُ مَصْدَرُهَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ الْإِلَهِيَّةَ فَهِيَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنِ اللهِ ; لِأَنَّ قُوَاكَ الَّتِي كَسَبْتَ بِهَا الْخَيْرَ وَاسْتَغْزَرْتَ بِهَا الْحَسَنَاتِ، بَلْ وَاسْتِعْمَالَكَ لِتِلْكَ الْقُوَى إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ سِوَى اسْتِعْمَالِ مَا وَهَبَ اللهُ، فَاتِّصَالُ الْحَسَنَةِ بِاللهِ ظَاهِرٌ، وَلَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ لَا ظَاهِرٌ

وَلَا بَاطِنٌ، وَأَمَّا إِذَا أَسَأْنَا التَّصَرُّفَ فِي أَعْمَالِنَا، وَفَرَّطْنَا فِي النَّظَرِ فِي شُئُونِنَا، وَأَهْمَلْنَا الْعَقْلَ وَانْصَرَفْنَا عَنْ سِرِّ مَا أَوْدَعَ اللهُ فِي شَرَائِعِهِ، وَغَفَلْنَا عَنْ فَهْمِهِ، فَاتَّبَعْنَا الْهَوَى فِي أَفْعَالِنَا، وَجَلَبْنَا بِذَلِكَ الشَّرَّ عَلَى أَنْفُسِنَا، كَانَ مَا أَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ سُوءِ اخْتِيَارِنَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَيْنَا جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطْنَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنَّ نَنْسُبَ ذَلِكَ إِلَى شُؤْمِ أَحَدٍ أَوْ تَصَرُّفِهِ، وَنِسْبَةُ الشَّرِّ وَالسَّيِّئَاتِ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، فَأَمَّا الْمَوَاهِبُ الْإِلَهِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَاتِ وَإِنَّمَا يُبْطِلُ أَثَرَهَا إِهْمَالُهَا، أَوْ سُوءُ اسْتِعْمَالِهَا، وَعَنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُسَاقُ الشَّرُّ إِلَى أَهْلِهِ وَهُمَا مِنْ كَسْبِ الْمُهْمِلِينَ وَسَيِّئِ الِاسْتِعْمَالِ، فَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مَا أُصِيبُوا بِهِ وَهُمُ الْكَاسِبُونَ لِسَبَبِهِ، فَقَدْ حَالُوا بِكَسْبِهِمْ بَيْنَ الْقُوَى الَّتِي غَرَزَهَا اللهُ فِيهِمْ لِتُؤَدِّيَ إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، وَبَيْنَمَا حَقُّهَا أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعُدُوا بِهَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ فِيهَا، وَصَارُوا بِهَا إِلَى ضِدِّ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا الْكَسْبِ الْجَدِيدِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى كَاسِبِهِ. " وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَقَامَيْنِ: أَنَّهُ إِذَا نُظِرَ إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَمْنَحُ وَيَسْلُبُ وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ فَذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ سِوَاهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ لَا يَكَادُ يَفْقَهُ كَلَامًا ; لِأَنَّ نِسْبَةَ الْخَيْرِ إِلَى اللهِ وَنِسْبَةَ الشَّرِّ إِلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَيَقْدِرُ عَلَى سَوْقِهِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّرِّ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبٌ مِنَ الْخَبَلِ فِي الْعَقْلِ. " وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ الَّتِي دَعَا اللهُ الْخَلْقَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا لِيَكُونُوا سُعَدَاءَ وَلَا يَكُونُوا أَشْقِيَاءَ، فَمَنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا وَهَبَ اللهُ فَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ الَّتِي مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا آتَاهُ، وَمَنْ فَرَّطَ أَوْ أَفْرَطَ فِي اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ الَّذِي أَسَاءَ إِلَيْهَا بِسُوءِ اسْتِعْمَالِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَلَيْسَ بِسَائِغٍ لَهُ أَنْ يَنْسُبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْ سِوَاهُ لَمْ يَغْلِبْهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْهَرْهُ عَلَى إِتْيَانِ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ. " فَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَحَمِدُوا اللهَ وَحَمَدُوكَ - يَا مُحَمَّدُ - عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَانِحُهُمْ مَا وَصَلُوا بِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَنْتَ دَاعِيهِمْ لِالْتِزَامِ شَرَائِعِ اللهِ وَفِي الْتِزَامِهَا سَعَادَتُهُمْ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ أَوْ خُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ اللهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلتَّقْصِيرِ أَوِ الْعِصْيَانِ فَيُؤَدِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِيَخْرُجُوا مِنْ نِقْمَتِهِ إِلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّمَا يُنْعِمُ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ وَيَسْلُبُ نِعْمَتَهُ عَمَّنْ أَسَاءَهُ. "

وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، وَأَنَّ عِصْيَانَهُ مِنْ مَجَالِبِ النِّقَمِ، وَطَاعَةُ اللهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ، وَصَرْفِ مَا وَهَبَ مِنَ الْوَسَائِلِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ ". " وَلِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَظَائِرٌ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، فَإِنَّكَ لَوْ كُنْتَ فَقِيرًا وَأَعْطَاكَ وَالِدُكَ مَثَلًا رَأْسَ مَالٍ فَاشْتَغَلْتَ بِتَنْمِيَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ مَعَ حُسْنٍ فِي التَّصَرُّفِ وَقَصْدٍ فِي الْإِنْفَاقِ وَصِرْتَ بِذَلِكَ غَنِيًّا، فَإِنَّهُ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ غِنَاكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَاكَ رَأْسَ الْمَالِ وَأَعَدَّكَ بِهِ لِلْغِنَى، أَمَّا لَوْ أَسَأْتَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَأَخَذْتَ تُنْفِقُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ، وَاطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ فَاسْتَرَدَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَحَرَمَكَ نِعْمَةَ التَّمَتُّعِ بِهِ، فَلَا رَيْبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَفْسُكَ وَسُوءُ اخْتِيَارِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُعْطِيَ وَالْمُسْتَرِدَّ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَالِدُكَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ يُنْسَبُ إِلَى مَصْدَرِهِ الْأَوَّلِ إِذَا انْتَهَى عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، وَيُنْسَبُ إِلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ إِذَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ مَا يُحِبُّ ; لِأَنَّ تَحْوِيلَ الْوَسَائِلِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ حَوَّلَهَا وَعَدَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ. " وَهُنَاكَ لِلْآيَةِ مَعْنًى أَدَقُّ، يَشْعُرُ بِهِ ذُو وِجْدَانٍ أَرَقَّ، مِمَّا يَجِدُهُ الْغَافِلُونَ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنَّ مَا وَجَدْتَ مِنْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ، وَمَا تَمَتَّعْتَ بِهِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ، فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ وَاخْتَارَهُ لَكَ، وَمَا خُلِقْتَ إِلَّا لِتَكُونَ سَعِيدًا بِمَا وَهَبَكَ، أَمَّا مَا تَجِدُهُ مِنْ حُزْنٍ وَكَدَرٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَوْ نَفَذَتْ بَصِيرَتُكَ إِلَى سِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا سِيقَ إِلَيْكَ لَفَرَحْتَ بِالْمُحْزِنِ فَرَحَكَ بِالسَّارِّ، وَإِنَّمَا أَنْتَ بِقِصَرِ نَظَرِكَ تُحِبُّ أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَخْتَرْهُ لَكَ الْعَلِيمُ بِكَ الْمُدَبِّرُ لِشَأْنِكَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْعَالَمِ نَظْرَةَ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَأَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَتِ الْمَصَائِبُ لَدَيْكَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَابِلِ الْحِرِّيفَةِ يُضِيفُهَا طَاهِيكَ عَلَى مَا يُهَيِّئُ لَكَ مِنْ طَعَامٍ لِتَزِيدَهُ حُسْنَ طَعْمٍ وَتَشْحَذَ مِنْكَ الِاشْتِهَاءَ لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّةِ، وَاسْتَحْسَنْتَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ، وَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنَ الْتِزَامِ حُدُودِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّحَوُّلِ عَنْ مَصَابِّ نِقَمِهِ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي النِّقْمَةِ إِنَّمَا هِيَ لَذَّةُ التَّأْدِيبِ، وَمَتَاعُ التَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ وَهُوَ مَتَاعٌ تَجْتَنِي فَائِدَتَهُ، وَلَا تَلْتَزِمُ طَرِيقَتَهُ، فَكَمَا يَسُرُّ طَالِبُ الْأَدَبِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَأَنْ يَلْتَذَّ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَعَبٍ فِيهِ، يَسُرُّهُ كَذَلِكَ أَنْ يَرْتَقِيَ فَوْقَ ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى مُسْتَوًى يَجِدُ نَفْسَهُ فِيهِ مُتَمَتِّعًا بِمَا حَصَلَ، بَالِغًا مَا أَمَلَ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ، انْتَهَى.

80

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُسَايِرَةٌ لَهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ طَاعَةَ اللهِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِمَا مَعًا أَمْرًا عَامًّا، وَبَيَّنَ جَزَاءَ الْمُطِيعِ وَأَحْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالصِّدْقِ فِيهِ وَالنِّفَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ، وَبَيَّنَ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الطَّاعَةِ وَكَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى بِالذَّاتِ، وَلِغَيْرِهِ بِالتَّبَعِ، وَبَيَّنَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ مُرَاوَغَةِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أَيْ: إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْفَضَائِلُ، وَالْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ الَّتِي تُحْفَظُ بِهَا الْحُقُوقَ، وَتُدْرَأُ الْمَفَاسِدُ، وَتُحْفَظُ الْمَصَالِحُ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَأْمُرُ النَّاسَ وَيَنْهَاهُمْ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْهُمْ، يَفْهَمُونَ عَنْهُمْ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعَادَاتِ، كَمَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَمَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ أَمْرَ الْإِرْشَادِ، فَطَاعَتُهُ فِيهِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا وَلَا شَرْعًا عَنْهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْأَدَبِ وَقُدْوَةِ الْحُبِّ، مِثَالُهُ: أَمْرُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَيْلِ الطَّعَامِ كَالْقَمْحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُبُوبِ، أَيْ: عِنْدَ اتِّخَاذِهِ وَعِنْدَ إِرَادَةِ طَبْخِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي الْبُيُوتِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَتْرُكُونَهُ إِلَّا مَنْ يَتَّبِعُ طُرُقَ الْمَدَنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ فِي الِاقْتِصَادِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِمُنَاسَبَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُخَاطَبِينَ، كَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الزَّيْتِ وَالِادِّهَانِ بِهِ وَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الْبَلَحِ بِالتَّمْرِ، فَهُوَ مَا كَانَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا بَاسِمِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -

إِذَا شَكُّوا فِي الْأَمْرِ، هَلْ هُوَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ رَأْيِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجْتِهَادِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَأْيٌ آخَرَ سَأَلُوهُ، فَإِنْ أَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ أَطَاعُوهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ ذَكَرُوا رَأْيَهُمْ وَرُبَّمَا رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ. فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ وَإِلَهُهُمْ وَمَلِكُهُمْ، وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَغْمُورُونَ بِنِعَمِهِ، وَأَنَّ رُسُلَهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُهُ لَا لِذَاتِهِمْ، وَمِثَالُ ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ الْمَمْلَكَةِ وَقَوَانِينِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْأَوَامِرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا تَجُبْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ "، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ قَارَبَ هَذَا الرَّجُلُ الشِّرْكَ، وَهُوَ أَنْ نَهَى أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، وَيُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ أَلْبَتَّةَ لِلرَّسُولِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ، انْتَهَى. وَوَجْهُ قَوْلِ مُقَاتِلٍ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْبَدًا خَاضِعًا إِلَّا لِخَالِقِهِ وَحْدَهُ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَرْجُو نَفْعَهُ وَتَخَافُ ضُرَّهُ وَتَدْعُو وَتَذِلُّ لَهُ، سَوَاءٌ شَعَرْتَ فِي تَوَجُّهِ قَلْبِكَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْفَعُكَ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَاهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ حَقَّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - شُبْهَةَ الْمُنَافِقِينَ وَأُغْلُوطَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مُرْسَلٌ فِيهِ وَمَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ يَكُونُ أَعَزَّ النَّاسِ نَفْسًا، وَأَعْظَمَهُمْ كَرَامَةً، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِ حَاكِمٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، وَمَا قَوَى الِاسْتِبْدَادُ فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِضَعْفِ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِارْتِقَاءِ وَالْكَمَالِ، فَصَاحِبُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي تِلْكَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى هُوَ خَاضِعٌ وَمَقْهُورٌ لِلنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ الْعَامُّ، وَأَنَّ تَفَاوُتَهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْخَوَاصِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَقْوَى فِي صِفَةٍ مَا عَلَى الْأَضْعَفِ رَفْعَ الْإِلَهِ

عَلَى الْمَأْلُوهِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، فَحَجَرُ الصَّوَّانِ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ لَيْسَ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِحَجَرِ الْكَذَّانِ الضَّعِيفِ، وَلَا حَجَرُ الْمِغْنَاطِيسِ إِلَهًا يُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ، وَالشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ لَيْسَتْ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِلسَّيَّارَاتِ التَّابِعَةِ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهِنَّ، بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ مِثْلُهُنَّ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ، كَذَلِكَ الْقَوِيُّ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ لَيْسَ إِلَهًا لِلضَّعِيفِ يَدْعُوهُ هَذَا وَيَذِلُّ لَهُ وَيَسْتَخْذِي أَمَامَهُ، وَوَاسِعُ الْعِلْمِ لَيْسَ رَبًّا لِقَلِيلِ الْعِلْمِ يُشَرِّعُ لَهُ وَيُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ وَمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا الطَّاعَةُ، كَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ لَا يَجِبُ رَفْعُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ تَعَبُّدًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ، أَوْ حِيلَةٍ وَهُوَ السِّحْرُ أَوْ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِقُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ كَرَامَةً، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ كَامْتِيَازِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْبَلِيدِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَلَا خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ كُلٌّ عَبِيدٌ مُسَخَّرُونَ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا بِقَدْرِ عِلْمِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَيُكَلَّفُونَ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ بِحَسَبِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي شَرْعِهِ، لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِاعْتِقَادِ غَيْرِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ يَتَعَاوَنُونَ فِي الْأَعْمَالِ وَفِي الْعُلُومِ، فَقَوِيُّ الْبَدَنِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا لِلْآخَرِينَ بِقُوَّتِهِ الْبَدَنِيَّةِ وَهُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يُقَدِّسُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَ مَرْتَبَتَهُ عَنِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يُشَارِكُهُمْ فِيهَا، وَقَوِيُّ الْعَقْلِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ارْتِفَاعًا قُدُسِيًّا، وَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ يَفِيضُ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى الطُّلَّابِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَلَا بِفَهْمِهِ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَصَارَ عِلْمًا لَهُ وَاعْتِقَادًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا بِاعْتِقَادِ نَفْسِهِ الَّذِي حَصَّلَهُ بِمُسَاعَدَةِ أُسْتَاذِهِ لَا بِاعْتِقَادِ أُسْتَاذِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَحِّدُ لَا يُطِيعُ أَمْرَ الرَّسُولِ لِذَاتِهِ بَلْ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ. يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَ أَمْرَ مَنْ دُونَهُ لِذَاتِهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -؟ ! هَذَا هُوَ مَقَامُ التَّوْحِيدِ الْأَعْلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَيْسَ لَقَبًا مِنْ أَلْقَابِ الشَّرَفِ أَوْ لَفْظًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوضَعُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ جَمَاعَاتِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ لَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إِطْلَاقٌ عُرْفِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى أُنَاسٍ لَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ، لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَدْلُولَاتُهَا وَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ آيَاتُهَا، وَلَمْ يَنَالُوا مَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، كَكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَالْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّكَ أَثْبَتَّ فِي تَفْسِيرِ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) ، أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ وَاجِبَةٌ، وَذَكَرْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا ذَيْلًا لِتَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَضِّحًا لَهَا أَنَّ مَرَاتِبَ الطَّاعَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى: مَا يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ

عَنْ رَبِّهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَحْكُمُ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَالثَّالِثَةُ: مَا يَسْتَنْبِطُهُ جَمَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَقَدْ أَثْبَتُّ وُجُوبَ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ أَصْرَحِهَا وَأَوْضَحِهَا مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ (4: 13) ، إِلَخْ، [ص 350، 351 ج4 ط الْهَيْئَةِ] ، أَفَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَوْنَ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ التَّوْحِيدِ؟ قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَاجْتِهَادُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ بَيَانٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهَذَا الْبَيَانِ فَقَالَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) ، وَهَذَا الْإِذْنُ ضَرُورِيٌّ لَا غِنَى عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ اجْتِهَادُ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ فِي تَفْسِيرِ الْقَوَانِينِ، فَطَاعَتُهُمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةٌ لِلْقَانُونِ لَا لِلشَّخْصِ الْحَاكِمِ بِجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ وَحْيٌ، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، بَلِ الْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لِلتَّحَدِّي بِهِ، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَأَمْرِنَا بِالتَّعَبُّدِ بِهِ، وَهُنَاكَ وَحْيٌ لَيْسَ لَهُ خَصَائِصُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يُلْقِيهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فِي رُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَيْسَتْ مُعْجِزَةً يَتَحَدَّى بِهَا وَلَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهَا وَلَكِنْ يُطَاعُ الرَّسُولُ فِيهَا لِأَنَّهُ مَا جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ عِنْدِ مُرْسِلِهِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) ، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ هَذَا النَّصَّ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً. وَأَمَّا طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ فَهِيَ لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ أَيْضًا، وَلَا تَقْتَضِي ذُلَّ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ بِخُضُوعِهِ لِمِثْلِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ إِنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا تَعْهَدُ إِلَيْهِمُ الْأُمَّةُ وَضَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي مَسَّتْ حَاجَتُهَا إِلَيْهَا لِثِقَتِهَا بِهِمْ لَا تَقْدِيسًا لِذَوَاتِهِمْ، وَمَا يَضَعُونَهُ بِشُرُوطِهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ يُنْسَبُ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهُ بِالنِّيَابَةِ عَنْهَا، فَلَا يَشْعُرُ أَحَدُ مُتَّبِعِيهِ بِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْبَدًا مُسْتَذَلًّا لِأَحَدِ أُولَئِكَ النُّوَّابِ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ رَأْيَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَضَعُوا مَا وَضَعُوهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، يَكُونُ مُدْغَمًا فِي آرَاءِ الْآخَرِينَ، وَالسُّلْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا لَا لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ وَكَّلَتْ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكِلُّ إِلَى آخَرَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ أَوْ يُوَكِّلَهُ فِيهِ فَيَقُومَ بِذَلِكَ، وَلَا يَرَى الْعَاهِدُ أَوِ الْمُوَكَّلُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَذَلًّا لَهُ، وَلَا يَرَى النَّاسُ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ قَدْ يَرَوْنَ عَكْسَهُ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَذِلُّ وَيَسْتَخْذِي لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ لِذَاتِهِ بَلْ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَثْبَتَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ. وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَفْهَمُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، أَيْ وَمَنْ

تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَتِكَ الَّتِي هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَلَيْسَ مِنْ شُئُونِ رِسَالَتِكَ أَنْ تُكْرِهَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّنَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا لَا حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَا مُسَيْطِرًا وَرَقِيبًا تَحْفَظُ عَلَى النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ فَتُكْرِهُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَا جَبَّارًا تَجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، بَلِ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتْبَعُ الِاقْتِنَاعَ. ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا حَقَّقَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَرَبِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي بَعْضِ فُصُولِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ فِي كَوْنِ مُعَانَاةِ أَهْلِ الْحَضَرِ لِلْأَحْكَامِ مُفْسِدَةً لِبَأْسِهِمْ ذَاهِبَةً بِمَنَعَتِهِمْ، وَكَوْنِ الَّذِينَ يُؤْخَذُونَ بِأَحْكَامِ الْقَهْرِ وَالسُّلْطَةِ وَبِأَحْكَامِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ يَنْقُصُ بِأْسُهُمْ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ وَالضَّعْفُ، وَكَوْنُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَازِعًا اخْتِيَارِيًّا لَا يُفْسِدُ الْبَأْسَ، وَلَا يُذَلِّلُ النَّفْسَ، قَالَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: " وَلِهَذَا نَجِدُ الْمُتَوَحِّشِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَهْلَ الْبَدْوِ أَشَدَّ بَأْسًا مِمَّنْ تَأْخُذُهُمُ الْأَحْكَامُ، وَنَجِدُ أَيْضًا الَّذِينَ يُعَانُونَ الْأَحْكَامَ وَمَلَكَتِهَا مِنْ لَدُنْ مَرْبَاهُمْ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ فِي الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ وَالدِّيَانَاتِ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَكَادُونَ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَادِيَةً بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا شَأْنُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ عَنِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُمَارِسِينَ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ فِي مَجَالِسِ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَذَهَابُهَا بِالْمَنَعَةِ وَالْبَأْسِ ". وَلَا تَسْتَنْكِرْ ذَلِكَ بِمَا وَقَعَ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَخْذِهِمْ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ بَلْ كَانُوا أَشَدَّ بَأْسًا ; لِأَنَّ الشَّارِعَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ دِينَهُمْ كَانَ وَازِعَهُمْ فِيهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَمْ يَكُنْ بِتَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْدِيبٍ تَعْلِيمِيٍّ، إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامُ الدِّينِ وَآدَابُهُ الْمُتَلَقَّاةُ نَقْلًا يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا بِمَا رَسَخَ فِيهِمْ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلَمْ تَزَلْ سُورَةُ بِأْسِهِمْ مُسْتَحْكِمَةً كَمَا كَانَتْ وَلَمْ تَخْدِشْهَا أَظْفَارُ التَّأْدِيبِ وَالْحُكْمِ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الشَّرْعُ لَا أَدَّبَهُ اللهُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَازِعُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَقِينًا بِأَنَّ الشَّارِعَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَلَمَّا تَنَاقَصَ الدَّيْنُ فِي النَّاسِ وَأَخَذُوا بِالْأَحْكَامِ الْوَازِعَةِ، ثُمَّ صَارَ الشَّرْعُ عِلْمًا وَصِنَاعَةً يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْحَضَارَةِ وَخُلُقِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْأَحْكَامِ نَقَصَتْ بِذَلِكَ سَوْرَةُ الْبَأْسِ فِيهِمْ. " فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَحْكَامَ السُّلْطَانِيَّةَ وَالتَّعْلِيمِيَّةَ مِمَّا تُؤَثِّرُ فِي أَهْلِ الْحَوَاضِرِ فِي ضَعْفِ نُفُوسِهِمْ وَخَضَدِ الشَّوْكَةِ مِنْهُمْ بِمُعَانَاتِهِمْ فِي وَلِيدِهِمْ وَكُهُولِهِمْ، وَالْبَدْوُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ كِتَابِهِ فِي أَحْكَامِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الصِّبْيَانِ فِي التَّعْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ، نَقَلَهُ شُرَيْحٌ الْقَاضِيُّ، انْتَهَى الْمُرَادُ ".

يَظُنُّ مَنْ نُشِّئَ عَلَى التَّقْلِيدِ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْحَكِيمُ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ ذَاتِ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تَأْدِيبِ الْمَدَارِسِ، وَسَيْطَرَتِهَا فِي تَكْوِينِ نَابِتَةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَعْتَزُّ بِهِمْ وَيَعْلُو شَأْنُهَا. مَهْلًا أَيُّهَا الْمُقَلِّدُ الْغِرُّ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاظِرِينَ تُصَوِّرُ لَهُمْ أَذْهَانُهُمْ بِدَلَائِلِهَا النَّظَرِيَّةِ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْوَاءُ الرُّؤَسَاءِ مَا لَا يَظْهَرُ الصَّوَابُ فِيهِ بَعْدَ التَّجَارِبِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَمِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَبْحَثُ فِيهَا. وَضَعَ رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةُ قَوَانِينَ لِتَرْبِيَةِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ تَرْبِيَةً شَدِيدَةً، يُؤْخَذُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ وَالطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ لِيَكُونُوا جُنْدًا رُوحِيًّا لِرُؤَسَائِهِمْ، يَتَحَرَّكُونَ بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَتَوَجَّهُونَ حَيْثُمَا يُوَجِّهُونَهُمْ، وَيُنَفِّذُونَ كُلَّ مَا بِهِ يَأْمُرُونَهُمْ، فَاسْتَوْلَى أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ بِهَذَا النِّظَامِ عَلَى أَبْنَاءِ دِينِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَى الصَّعَالِيكِ وَسَخَّرُوهُمْ لِإِرَادَتِهِمْ قُرُونًا كَثِيرَةً، وَفَعَلَ الْمُلُوكُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سُلْطَتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ فَاسْتَعْبَدُوا النَّاسَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَكَانُوا سَبَبَ ضَعْفِ أُمَمِهِمْ وَانْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ حَرَّرُوا أَنْفُسَهُمْ. ثُمَّ زَلْزَلَتِ الِانْقِلَابَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ السُّلْطَتَيْنِ وَأَضْعَفَتْهُمَا بِمَا اسْتَفَادَ الْأُورُبِّيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُرُوبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبِمَا بَثَّهُ فِيهِمْ تَلَامِيذُ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَضَعُفَتِ السُّلْطَتَانِ وَنَازَعَتْهُمَا قُوَّةُ الْعِلْمِ فَنَزَعَتْ مِنْهُمَا مَا نَزَعَتْ، فَلَمَّا رَأَى الْفَرِيقَانِ أَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمَا بِالْعِلْمِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمَا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ، تَوَجَّهَتْ هِمَّتُهُمَا إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى تَقْرِيرِ سُلْطَانِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَكَانَتِ الْمَدَارِسُ عَوْنًا لِلْأَدْيَارِ وَلِلثُّكْنَاتِ فِي إِضْعَافِ إِرَادَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَإِفْسَادِ بَأْسِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي حُرِّيَّتِهِمْ، وَهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشُّعُوبِ أَقْوَى مِنْهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ فَطِنُوا لَهُ بَعْدُ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ قُوَّةُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْحَاضِرَةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ، وَيَنْشُدُونَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ، وَضَعُفْنَا بِفَقْدِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَحْنُ السَّابِقِينَ إِلَيْهِ. الْإِنْكِلِيزُ أَعْرَقُ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ، عَلَى تَثَبُّتِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَبُطْئِهِمْ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ الْأَمْرِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَلِحُرِّيَّتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ اسْتِفَادَةً مِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي زَلْزَلَ سُلْطَةَ الْبَابَوِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ وَثَلَّ عَرْشَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَحُكُومَةُ هَذَا الشَّعْبِ هِيَ الْحُكُومَةُ الْفَذَّةُ الَّتِي جَعَلَتْ خِدْمَةَ الْجُنْدِيَّةِ اخْتِيَارِيَّةً، وَأَقَامَتِ التَّرْبِيَةَ فِي الْمَدَارِسِ عَلَى قَوَاعِدَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالِاسْتِقْلَالِ، وَكَرَامَةِ النَّفْسِ، لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِثْلَهَا، وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ عَلَى زُهَاءِ خُمْسِ الْبَشَرِ الْأَذِلَّاءِ بِضَعْفِ الِاسْتِقْلَالِ وَفَقْدِ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى كَوْنِ جُنْدِهَا أَقَلَّ مِنْ جُنْدِ غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ الْكُبْرَى، وَقَدْ فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ

جِيرَانِهَا الْفِرِنْسِيسِ وَأَهَابُوا بِقَوْمِهِمْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهَا فِيهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً تُرْجِمَ بَعْضُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَاشْتُهِرَ كَكِتَابِ " سِرِّ تَقَدُّمِ الْإِنْكِلِيزِ السَّكْسُونِيِّينَ " وَكِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ " الْمُسَمَّى فِي الْأَصْلِ " إِمِيلِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ ". بَيَّنَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ لَا يُرَبِّي رِجَالًا، وَإِنَّمَا يَصْنَعُ آلَاتٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْحُكُومَةُ فِي تَنْفِيذِ سِيَاسَتِهَا كَمَا تَشَاءُ قَالَ فِي نِظَامِ مَدَارِسِهِمْ: " وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ الْغَرَضِ كَمَا يَنْبَغِي، أَيْ أَنَّهُ يُهَيِّئُ الطَّلَبَةَ إِلَى الْوَظَائِفِ الْمَلَكِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوَظَّفَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ إِرَادَتِهِ ; وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَتَرَبَّى عَلَى الطَّاعَةِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَمْرِ رُؤَسَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَدَارِسُ الدَّاخِلِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَاعِثِ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ ; لِأَنَّ الْمَدْرَسَةَ نُظِّمَتْ عَلَى نَسَقِ ثُكْنَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ يَقُومُ الطَّلَبَةُ فِيهَا مَنْ نَوْمِهِمْ عَلَى صَوْتِ الْبُوقِ أَوْ رَنَّةِ الْجَرَسِ، وَيَنْتَقِلُونَ مُصْطَفِّينَ بِالنِّظَامِ مِنْ عَمَلٍ إِلَى آخَرَ، وَرِيَاضَتُهُمْ تُشْبِهُ الِاسْتِعْرَاضَ الْعَسْكَرِيَّ، فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدَّرْسِ إِلَّا فِي رَحَبَاتٍ دَاخِلَ الْبِنَاءِ عَالِيَةِ الْأَسْوَارِ وَيَتَمَشُّونَ فِيهَا جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْعَبُونَ إِلَى أَنْ قَالَ: " وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ يُضْعِفُ فِي الشَّبَابِ قُوَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَيُوهِنُ الْهِمَّةَ وَالْإِقْدَامَ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَيْضًا إِزَالَةُ مَا قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّلَبَةِ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَنْسَابِ ; لِأَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ فَتَجْعَلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ آلَاتٍ مُعَدَّةً لِلْعَمَلِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهَا، وَمِمَّا يَزِيدُ فِي سُهُولَةِ انْقِيَادِهِمْ وَحُسْنِ طَاعَتِهِمْ كَوْنُ النِّظَامِ الَّذِي تَرَبُّوا عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْبِيَةِ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، بَلِ الطَّالِبُ يَتَنَاوَلُ - مُسْرِعًا - كَثِيرًا مِنَ الْمَوَادِّ سَوَاءٌ أَحْكَمَ تَعَلُّمَهَا أَمْ لَا، وَلَا تَشْغَلُ مِنْ مَلَكَاتِهِ إِلَّا الذَّاكِرَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَتَلَقَّى التَّعْلِيمَ مِنْ دُونِ نَظَرٍ فِيهِ تَرَاهُ يَنْحَنِي مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ أَمَامَ الْأَوَامِرِ الَّتِي تَصْدُرُ لَهُ مِنْ رُؤَسَائِهِ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي يُوَظَّفُ فِيهَا ". وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ الْتَفَتَ إِلَى جَعْلِ الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ هَكَذَا هُوَ نَابِلْيُونُ الْأَوَّلُ، لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ جَعْلِ السُّلْطَةِ كُلِّهَا بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَنَاهِيكُمْ بِوُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالِانْفِرَادِ بِالسُّلْطَةِ. وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَدَارِسَ الْأَلْمَانِيَّةَ لَا تُرَبِّي رِجَالًا لِأَنَّهَا كَالْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ، بَلْ هُمْ قَلَّدُوا أَلْمَانْيَا فِي نِظَامِ مَدَارِسِهَا كَمَا قَلَّدُوهَا فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ، وَذَكَرَ شَكْوَى عَاهِلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَتَصْرِيحِهِ فِي خِطَابٍ لَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَأَطَالَ فِي انْتِقَادِ نِظَامِ هَذِهِ الْمَدَارِسِ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْكِلِيزَ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، فَيَشُبُّ الْوَاحِدُ

مِنْهُمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ وَعَامَّةِ أُمُورِهِ، لَا مُتَّكِلًا عَلَى عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا عَلَى حُكُومَتِهِ، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَطَالَ فِي وَصْفِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ ": " قَهْرُ الطِّفْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِلْزَامِهِ إِطَاعَةَ الْأَوَامِرِ يَسْتَلْزِمُ حَتْمًا إِخْمَادَ وِجْدَانِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، خُصُوصًا إِذَا طَالَ أَمَدُ ذَلِكَ الْقَهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَكَلَّفُ الْحُلُولَ مَحَلَّهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِنْصَافِ وَالْجَوْرِ، لَمْ تَبْقِ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وِجْدَانِهِ وَاسْتِفْتَاءِ قَلْبِهِ "، ثُمَّ قَالَ: " الطَّاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حُرِّيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ تَرْفَعُ طَبْعَ الطِّفْلِ، وَالْإِذْعَانُ النَّاشِئُ عَنِ الْقَهْرِ يَحُطُّهُ، فَلِلْأُمِّ وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ كَلِمَةٌ يَقُولَانِهَا عَنِ الطِّفْلِ الْعَنِيدِ الْقَاسِي وَهِيَ قَوْلُهُمَا: " سَأُذَلِّلُهُ " وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ النَّاشِئِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْفَرَنْسِيَّةِ فِي التَّرْبِيَةِ مُذَلَّلُونَ دَائِمًا، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْأَحْدَاثِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَلَكِنْ سَائِسُ الْخَيْلِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لِلْحِصَانِ الَّذِي يُرَوِّضُهُ: لَا تَجْزَعْ فَإِنِّي أَعْمَلُ هَذَا بِكَ لِمَصْلَحَتِكَ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّرْوِيضِ عَلَى الْحِصَانِ أَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَخْسَرُ بِتَرْوِيضِهِ بِاللِّجَامِ وَالْمِهْمَازِ إِلَّا حِدَّتَهُ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَهُ بِالْقَهْرِ وَسُسْتَهُ بِالْإِرْغَامِ تَذْهَبُ بِحُبِّ الْكَرَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَبْخَسُ قِيمَتَهُ فِي نَظَرِهِ "، وَلَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا انْتَقَدَ بِهِ التَّعْلِيمَ الدِّينِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوَالِبِ الَّتِي تُصُبُّ فِيهَا الْمَوَادُّ لِتُكَونَ آلَاتٍ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ. فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِلَى تَصْدِيقِ مَا قَالَهُ عَالَمُنَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ بِضْعَةِ قُرُونٍ، نَعَمْ إِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ الْمُنْغَمِسَةَ فِي الْحَضَارَةِ قَدْ عَالَجَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ كَالْبَارُودِ وَالدِّينَامِيتِ وَالْبُخَارِ وَالْكَهْرُبَاءِ، وَبِعَمَلِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي تَدُكُّ الْمَعَاقِلَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ وَتَقْتُلُ فِي الدَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أُلُوفًا مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْجَدِيدِ، فَصَارَ الْغَلَبُ لِأُمَمِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا صِنَاعَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَفِقُوا يُعَالِجُونَ مَا تُحْدِثُهُ الْحَضَارَةُ مِنَ الضَّعْفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْعَزَائِمِ بِالتَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَنْ حُرِمُوا هَذِهِ الْمَزَايَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَكَادُوا يُسَخِّرُونَ لِخِدْمَتِهِمْ سَائِرَ الْبَشَرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَلِيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ أَهْلَ الْقُبُورِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلِ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا وَلَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا هَادِيًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - بَلْ جَعَلَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ

81

مِنَ النَّفْسِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، فَمَا أَرْقَى هَذَا الدِّينَ وَمَا أَسْمَى هَدْيَهُ، وَمَا أَضَلَّ مَنِ الْتَمَسَهُ مِنْ غَيْرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ -. وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ أَيْ: يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ كَافَّةً وَأُولَئِكَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ خَشُوا النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، لَكَ مِنَّا طَاعَةٌ فِيمَا تَأْمُرُنَا بِهِ وَتَنْهَانَا عَنْهُ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ " أَمْرُنَا طَاعَةٌ " أَيْ: شَأْنُنَا مَعَكَ الطَّاعَةُ لَكَ، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَعْنَى أَمْرُكَ طَاعَةٌ أَنَّهُ مُطَاعٌ، فَجَعَلَ الْمَصْدَرَ فِي مَكَانِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِإِيجَازِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ يَدَّعُونَ كَمَالَ الطَّاعَةِ وَيُظْهِرُونَ مُنْتَهَى الِانْقِيَادِ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَكَلِمَةُ بَرَزَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَازِ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَهُوَ الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: خَرَجُوا مِنَ الْمَكَانِ يَكُونُونَ مَعَكَ فِيهِ إِلَى الْبَرَازِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ دَبَّرَتْ فِي أَنْفُسِهَا لَيْلًا غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهَا وَتُظْهِرُ الطَّاعَةَ لَكَ فِيهِ نَهَارًا، أَوْ بَيَّتَتْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ هِيَ لَكَ وَتُؤَكِّدُهُ مِنْ طَاعَتِكَ، وَالتَّبْيِيتُ مَا يُدَبَّرُ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَأْيٍ وَنِيَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى عَمَلٍ، وَمِنْهُ قَصْدُ الْعَدُوِّ لَيْلًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ، وَمِنْهُ تَبْيِيتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ أَيِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا هُوَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ وَيَصْفُو فِيهِ الذِّهْنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، أَيْ: زَوَّرُوا وَرَتَّبُوا فِي سَرَائِرِهِمْ غَيْرَ مَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ كَمَا يُزَوِّرُونَ الْأَبْيَاتَ مِنَ الشِّعْرِ، أَيْ: يَعْزِمُونَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَاتِّقَاءِ غَوَائِلِهَا كَمَا يُرَتِّبُونَ أَبْيَاتَ الشِّعْرِ وَيَزِنُونَهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ خَاصًّا هَذَا بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَكُونُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ فَعَاتَبَهُمُ اللهُ. وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ، أَيْ يُبَيِّنُهُ لَكَ فِي كِتَابِهِ وَيَفْضَحُهُمْ بِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَلَا تُبَالِ بِمَا يُبَيِّتُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا أَسَرُّوا وَلَمْ يُظْهِرُوا، أَوِ الْمُرَادُ: لَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ كَمَا تُقْبِلُ عَلَى الصَّادِقِينَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا تَكِلْ إِلَيْهِ جَزَاءَهُمْ وَتُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَيَقْدِرُ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْجَزَاءِ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.

82

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ هُنَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَرَدَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ إِلَّا وَيَزْعُمُونَ نَسْخَهُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ " بَيَّتَ طَائِفَةٌ " وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ يُدْغِمُ بَعْضُ الْعَرَبِ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَذْكِيرِ بَيَّتَ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ " بَيَّتَتْ " بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ طَائِفَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَافٍ فِي بَيَانِ الْجَوَازِ لَا فِي بَيَانِ الِاخْتِيَارِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَوْ كَانَ تَأْنِيثُهُ لَفْظِيًّا، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ الَّذِي أَرَاهُ هُوَ أَنَّ تَكْرَارَ التَّاءِ قَبْلَ الطَّاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ لَا يَخْلُو مَنْ ثِقَلٍ عَلَى اللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ تُحْذَفُ إِحْدَى التَّائَيْنِ مَنْ مِثْلِ تَتَصَدَّى وَتَتَكَلَّمُ فَيُقَالُ: تَصَدَّى وَتَكَلَّمُ. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ التَّدَبُّرُ: هُوَ النَّظَرُ فِي إِدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، وَتَدَبُّرِ الْكَلَامِ هُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي غَايَاتِهِ وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا، وَعَاقِبَةِ الْعَامِلِ بِهِ وَالْمُخَالِفِ لَهُ، وَالْمَعْنَى جَهِلَ هَؤُلَاءِ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَكُنْهَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَعَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا وَالْجَاحِدِينَ لَهَا، فَيَعْرِفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاقِعٌ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَمَا صَدَقَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يُبَيِّتُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ صُدُورَهُمْ، وَيَطْوُونَ عَلَيْهِ سَرَائِرَهُمْ، يَصْدُقُ كَذَلِكَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ سُوءِ مَصِيرِهِمْ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ، وَالْخِزْيِ وَالسُّوءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، بَلْ لَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ إِلَّا الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ، وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ، فَإِذَا كَانُوا لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ وَالْغَيِّ عَلَيْهِمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ ! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أَيْ: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيِّ لَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي تَصْوِيرِ الْحَقِّ بِصُورَتِهِ كَمَا هِيَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لَا فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الْمَاضِي الَّذِي لَمْ يُشَاهِدْهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقِفْ عَلَى تَارِيخِهِ، وَلَا فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْآتِي فِي مَسَائِلَ

كَثِيرَةٍ وَقَعَتْ كَمَا أَنْبَأَ بِهَا، وَلَا فِي بَيَانِهِ لِخَفَايَا الْحَاضِرِ، حَتَّى حَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَمُخَبِّآتِ الضَّمَائِرِ، كَبَيَانِ مَا تُبَيِّتُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفًا لِمَا تَقُولُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَا يَقُولُهُ لَهَا فَتَقْبَلُهُ فِي حَضْرَتِهِ. وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ، وَفَلْسَفَةِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ، مَعَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوعِ. وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ وَأَلْوَانِ الْعِبَرِ فِي أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ; وَفِيهَا الْكَلَامُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَوَصْفِ الْكَائِنَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، كَالْكَوَاكِبِ وَبُرُوجِهَا وَنِظَامِهَا، وَالرِّيَاحِ وَالْبِحَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْآيَاتِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَعَانِيهِ. وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَنَوَامِيسِ الْعُمْرَانِ، وَطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَالْأَقْوَامِ، وَإِيرَادِ الشَّوَاهِدِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَتَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُتَشَابِهَةِ، تَنْوِيعًا لِلْعِبَرِ، وَتَلْوِينًا لِلْمَوْعِظَةِ، مَعَ تَجَاوُبِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَقِّ، وَتَوَاطُئِهِ عَلَى الصِّدْقِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ، وَتَعَالِيهِ عَلَى التَّفَاوُتِ وَالتَّبَايُنِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَالْخَبَرِ عَنِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَالْجَزَاءِ الْوِفَاقِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَجَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ، فَالِاتِّفَاقُ وَالِالْتِئَامُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هُوَ غَايَةُ الْغَايَاتِ عِنْدَ مَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُنَجَّمًا بِحَسْبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ، فَيَأْمُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْآيَاتِ أَنْ تُوضَعَ فِي مَحَلِّهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا، وَهُوَ لَا يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ مَا كُتِبَ أَوَّلًا وَلَا مَا كُتِبَ آخِرًا، وَإِنَّمَا يَحْفَظُهُ حِفْظًا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ الْكَثِيرِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ جَمِيعَ مَا سَبَقَ لَهُ فِي السِّنِينِ الْخَالِيَةِ وَيَسْتَحْضِرُهُ لِيَجْعَلَ الْآخَرَ مُوَافِقًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا تَذَكَّرْتَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ كَانَ يَنْزِلُ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَبَعْضَهَا كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ الْخِصَامِ، وَتَنَازُعِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، جَزَمْتَ بِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَمِيعَ مَا كَانَ قَالَهُ مِنْ قَبْلُ لِيَأْتِيَ بِكَلَامٍ يَتَّفِقُ مَعَهُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ إِذَا تَلَا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ يَحْفَظُونَهَا عَنْهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَجَالٌ لِلتَّنْقِيحِ وَالتَّحْرِيرِ

لَوْ فُرِضَ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أَنْ تَمُرَّ السُّنُونَ وَالْأَحْقَابُ وَتَكِرَّ الْقُرُونُ وَالْأَجْيَالُ، وَتَتَّسِعَ دَوَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَتَتَغَيَّرَ أَحْوَالُ الْعُمْرَانِ، وَلَا تُنْقَضُ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، لَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَشُئُونِ الْكَوْنِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ. كَتَبَ ابْنُ خَلْدُونَ مُقَدِّمَتَهُ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَأَحْكَمَهَا فِي عَصْرِ مُؤَلِّفِهَا وَبَعْدَ عَصْرِهِ بِعِدَّةِ عُصُورٍ، ثُمَّ ارْتَقَتِ الْعُلُومُ وَتَغَيَّرَتْ أُصُولُ الْعُمْرَانِ فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ وَالْخَطَأُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا فِيهَا، بَلْ نَرَى الْعَالِمَ النَّابِغَ فِي عِلْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ يُؤَلِّفُ الْكِتَابَ فِيهِ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَعَارِفِ أَقْرَانِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ، ثُمَّ يُطِيلُ التَّأَمُّلَ فِيهِ وَيُنَقِّحُهُ وَيَطْبَعُهُ فَلَا تَمُرُّ سَنَوَاتٌ قَلِيلَةٌ إِلَّا وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَطَأُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَلَا يُعِيدُ طَبْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْهُ وَيُصَحِّحَ مَا شَاءَ، فَمَا بَالُكَ بِمَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا غَيْرُهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لَا بَعْدَ مُرُورِ السِّنِينَ، وَاتِّسَاعِ دَائِرَةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا مَدَارِسَ فِيهَا وَلَا كُتُبَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَتَعَلَّمْ قِرَاءَةً وَلَا كِتَابَةً، فَكَيْفَ يَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْعُمْرَانُ الْبَشَرِيُّ كَمَا قُلْنَا، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتٌ حَقِيقِيٌّ يُعْتَدُّ بِهِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَطْعَنًا فِيهِ! أَلَيْسَ هَذَا بُرْهَانًا نَاصِعًا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ هَذَا مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ جَرْيًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا اقْتِبَاسٍ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي، وَسَلَكْتُ فِيهِ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَتَرَكْتُ مَسْأَلَةَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَاتِّفَاقِ أُسْلُوبِهِ فِيهِمَا إِلَى مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ رَاجَعْتُ بَعْضَ التَّفَاسِيرِ فَإِذَا أَنَا بِابْنِ جَرِيرٍ يَخْتَصِرُ الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ فَيَقُولُ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُ الْمُبَيِّتُونَ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كِتَابَ اللهِ فَيَعْلَمُوا حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِكَ وَاتِّبَاعِ أَمْرِكَ، وَأَنَّ الَّذِي أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، لِاتِّسَاقِ مَعَانِيهِ وَائْتِلَافِ أَحْكَامِهِ، وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا بِالتَّصْدِيقِ، وَشَهَادَةِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَاخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ وَتَنَاقَضَتْ مَعَانِيهِ وَأَبَانَ بَعْضُهُ عَنْ فَسَادِ بَعْضٍ اهـ. وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ احْتِجَاجٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَثْبُتُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِيهِ مِنْ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَصَاحَتُهُ، وَاشْتِمَالُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ، وَسَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرَ فِيهِ - أَيِ الْأَخِيرِ - ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ سِرًّا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فَبَيَّنَهَا اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ صِدْقًا عَلَى خَفَائِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ هَذَا الصِّدْقَ.

الثَّانِي: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِلَافُ فِي مَرْتَبَةِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ - وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ - إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْجِزُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -. نَقَلَ الرَّازِيُّ مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَمَزَايَاهُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَرَافِعُ لِوَائِهِمُ الْمُتَوَفَّى 403 هـ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ " إِعْجَازُ الْقُرْآنِ " وَجْهَ إِعْجَازِهِ بِإِخْبَارِهِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَبِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّلَقِّي وَالتَّعْلِيمِ مَعَ كَوْنِ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيًّا ثُمَّ قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدِيعُ النَّظْمِ عَجِيبُ التَّأْلِيفِ، مُتَنَاهٍ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُعْلَمُ عَجْزُ الْخَلْقِ عَنْهُ وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ وَنَكْشِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَطْلَقُوهَا، فَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَدِيعُ نَظْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْجَازِ وُجُوهً: (مِنْهَا) مَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ عَلَى تَصَرُّفِ وُجُوهِهِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ خَارِجٌ عَنِ الْمَعْهُودِ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ، وَمُبَايِنٌ لِلْمَأْلُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ خِطَابِهِمْ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَيَتَمَيَّزُ فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَتَقَيَّدُ بِهَا الْكَلَامُ الْمَنْظُومُ تَنْقَسِمُ إِلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ إِلَى مُعَدَّلٍ مَوْزُونٍ غَيْرَ مُسَجَّعٍ، ثُمَّ إِلَى مَا يُرْسَلُ إِرْسَالًا فَتُطْلَبُ فِيهِ الْإِصَابَةُ وَالْإِفَادَةُ، وَإِفْهَامُ الْمَعَانِي الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِلًا فِي وَزْنِهِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِجُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُتَعَمَّلُ وَلَا يُتَصَنَّعُ لَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمُبَايِنٌ لِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَيَبْقَى عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشِّعْرِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسَجَّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ فِيهِ شِعْرًا كَثِيرًا وَالْكَلَامُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا إِذَا تَأَمَّلَهُ الْمُتَأَمِّلُ تَبَيَّنَ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ، وَأَسَالِيبِ خِطَابِهِمْ، أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْقُرْآنِ، وَتَمَيُّزٌ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِهِ.

(وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ كَلَامٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْفَصَاحَةِ وَالْغَرَابَةِ وَالتَّصَرُّفِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْغَزِيرَةِ، وَالْحِكَمِ الْكَثِيرَةِ، وَالتَّنَاسُبِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالتَّشَابُهِ فِي الْبَرَاعَةِ، عَلَى هَذَا الطُّولِ وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَى حَكِيمِهِمْ كَلِمَاتٌ مَعْدُودَةٌ، وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ، وَإِلَى شَاعِرِهِمْ قَصَائِدٌ مَحْصُورَةٌ، يَقَعُ فِيهَا مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَالِ، وَيَعْتَرِضُهَا مَا نَكْشِفُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَيَقَعُ فِيهَا مَا نُبْدِيهِ مِنَ التَّعَمُّلِ وَالتَّكَلُّفِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّعَسُّفِ، وَقَدْ حَصَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَطُولِهِ مُتَنَاسِبًا فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ (39: 23) ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (4: 82) ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّ إِذَا امْتَدَّ وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ، وَبَانَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، فَتَأَمَّلْهُ تَعْرِفِ الْفَضْلَ. " وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّ عَجِيبَ نَظْمِهِ وَبَدِيعَ تَأْلِيفِهِ لَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَتَبَايَنُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ قَصَصٍ وَمَوَاعِظَ، وَاحْتِجَاجٍ وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ، وَإِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَتَبْشِيرٍ وَتَخْوِيفٍ، وَأَوْصَافٍ وَتَعْلِيمٍ، وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ، وَشِيَمٍ رَفِيعَةٍ، وَسِيَرٍ مَأْثُورَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَنَجِدُ كَلَامَ الْبَلِيغِ الْكَامِلِ، وَالشَّاعِرِ الْمُلَفِّقِ، وَالْخَطِيبِ الْمِصْقَعِ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَمِنَ الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الْمَدْحِ دُونَ الْهَجْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْرُزُ فِي الْهَجْوِ دُونَ الْمَدْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ فِي التَّقْرِيظِ دُونَ التَّأْبِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ فِي التَّأْبِينِ دُونَ التَّقْرِيظِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِبُ فِي وَصْفِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، أَوْ سَيْرِ اللَّيْلِ، أَوْ وَصْفِ الْحَرْبِ، أَوْ وَصْفِ الرَّوْضِ، أَوْ وَصْفِ الْخَمْرِ، أَوِ الْغَزَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشِّعْرُ وَيَتَدَاوَلُهُ الْكَلَامُ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِامْرِئِ الْقَيْسِ إِذَا رَكِبَ، وَالنَّابِغَةِ إِذَا رَهِبَ، وَبِزُهَيْرٍ إِذَا رَغِبَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ الْكَلَامِ، وَمَتَى تَأَمَّلْتَ شِعْرَ الشَّاعِرِ الْبَلِيغِ رَأَيْتَ التَّفَاوُتَ فِي شِعْرِهِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا، فَيَأْتِي بِالْغَايَةِ فِي الْبَرَاعَةِ فِي مَعْنًى فَإِذَا جَاءَ إِلَى غَيْرِهِ قَصَّرَ عَنْهُ، وَوَقَفَ دُونَهُ، وَبَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى شِعْرِهِ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِالَّذِينِ سَمَّيْتُهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَقَدُّمِهِمْ فِي صَنْعَةِ الشِّعْرِ، وَلَا شَكَّ فِي تَبْرِيزِهِمُ فِي مَذْهَبِ النَّظْمِ، فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَالُ بَيِّنًا فِي شِعْرِهِمْ لِاخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ ذِكْرِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ عَنْ تَفْصِيلِ نَحْوِ هَذَا فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَنَحْوِهَا. " ثُمَّ نَجِدُ فِي الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الرَّجَزِ وَلَا يُمْكِنُهُ نَظْمُ الْقَصِيدِ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصِيدَ وَلَكِنْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَهْمَا تَكَلَّفَهُ وَتَعَمَّلَهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ فِي الْكَلَامِ الْمُرْسَلِ فَإِذَا

أَتَى بِالْمَوْزُونِ قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانًا عَجِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجَدُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَمَّلْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَا جَمِيعَ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي حُسْنِ النُّظُمِ، وَبَدِيعِ التَّأْلِيفِ وَالرَّصْفِ لَا تَفَاوُتَ وَلَا انْحِطَاطَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا، وَلَا إِسْفَالَ فِيهِ إِلَى الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ قَدْ تَأَمَّلْنَا مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ وُجُوهُ الْخِطَابِ مِنَ الْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ فَرَأَيْنَا الْإِعْجَازَ فِي جَمِيعِهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَفَاوَتُ كَلَامُ النَّاسِ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَرَأَيْنَاهُ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَفَاوِتٍ، بَلْ هُوَ عَلَى نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَغَايَةِ الْبَرَاعَةِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَّا فِيهِ التَّفَاوُتَ الْكَثِيرَ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَعِنْدَ تَبَايُنِ الْوُجُوهِ وَاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَضَمَّنُ. " وَمَعْنًى رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَيِّنًا فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَسِمُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ عِنْدَ النَّظْمِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّعَرَاءِ قَدْ وُصِفَ بِالنَّقْصِ عِنْدَ التَّنَقُّلِ مِنْ مَعْنًى إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْصِيرِ الْبُحْتُرِيِّ - مَعَ جَوْدَةِ نَظْمِهِ، وَحُسْنِ وَصْفِهِ - فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّسِيبِ إِلَى الْمَدِيحِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُهُ وَلَا يَأْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ خُرُوجٌ يُرْتَضَى، وَتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ سَبِيلُ غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَالتَّحَوُّلِ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ. " وَنَحْنُ نُفَصِّلُ بَعْدَ هَذَا وَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، وَالطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَجْعَلُ الْمُخْتَلِفَ كَالْمُؤْتَلِفِ، وَالْمُتَبَايِنَ كَالْمُتَنَاسِبِ، وَالْمُتَنَافِرَ فِي الْأَفْرَادِ، إِلَى أَحَدِ الْآحَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ تَتَبَيَّنُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْعَادَةِ، وَيَتَجَاوَزُ الْعُرْفَ. (وَذَكَرَ هُنَا مَعْنًى خَامِسًا: هُوَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَقَعَ مَوْقِعًا فِي الْبَلَاغَةِ يَخْرُجُ عَنْ عَادَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ الْجِنِّ مَا كَانَتْ تَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ وَتَحْكِيهِ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الْجِنِّ وَزَجَلِهَا وَعَزِيفِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَفْيِ الْخِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ ثُمَّ قَالَ) : " وَمَعْنًى سَادِسٌ: وَهُوَ كُلُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ الْبَسْطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّصْرِيحِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّحْقِيقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ ضَمَّنَّا بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدُ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُ الْمُقْدِمَاتِ دُونَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: يَعْنِي أَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.

وَمَعْنًى سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُتَضَمَّنُ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَالِاحْتِيَاجَاتِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمُوَافَقَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا فِي اللُّطْفِ وَالْبَرَاعَةِ، مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْبَشَرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخَيُّرَ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَالْأَسْبَابِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ - أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ مِنْ تَخَيُّرِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ، وَأَسْبَابٍ مُؤَسَّسَةٍ مُسْتَحْدَثَةٍ، فَلَوْ أُبْرِعَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْبَارِعِ كَانَ أَلْطَفَ وَأَعْجَبَ مِنْ أَنْ يُوجَدَ اللَّفْظُ الْبَارِعُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَدَاوَلِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ الْمُتَصَوَّرِ، ثُمَّ إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَأْيِيدَ مَا يُبْتَدَأُ تَأْسِيسُهُ، وَيُرَادُ تَحْقِيقُهُ، بِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْبَرَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الْأَلْفَاظُ وَفْقَ الْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي وَفْقَهَا لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَالْبَرَاعَةُ أَظْهَرُ وَالْفَصَاحَةُ أَتَمُّ. حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ فِي الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ الْمُبْتَذَلَةِ لَا يَخْلُو مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَانْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْبَتَّةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي ضُرُوبِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْعَرَبِ التَّصَرُّفُ فِيهَا - أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَظْهَرُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى ثَامِنًا: بَيَّنَ فِيهِ وُقُوعَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ مَوْضِعَ الْيَتِيمَةِ مِنْ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ فَتُؤْخَذُ لِأَجْلِهَا الْأَسْمَاعُ، وَتُتَشَوَّفُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَأَجَادَ فِي هَذَا كُلَّ الْإِجَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى التَّاسِعُ: فَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَسْرَارَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْعَاشِرُ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ يُفِيدُنَا إِيضَاحَ وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ مِمَّا يُسِرُّهُ اللهُ لِكُلِّ عَارِفٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، قَالَ: وَمَعْنًى عَاشِرٌ: وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلٌ سَبِيلُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْوَحْشِيِّ الْمُسْتَكْرَهِ، وَالْغَرِيبِ الْمُسْتَنْكَرِ، وَعَنِ الصَّنْعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَجَعَلَهُ قَرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ، يُبَادِرُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُسَابِقُ الْمَغْزَى مِنْهُ عِبَارَتَهُ إِلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الْمَطْلَبِ عَسِيرُ الْمُتَنَاوَلِ، غَيْرُ مُطْمِعٍ مَعَ قُرْبِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُوهِمٌ مَعَ دُنُوِّهِ فِي مَوْقِعِهِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يُظْفَرَ بِهِ، فَأَمَّا الِانْحِطَاطُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الْكَلَامِ الْمُبْتَذَلِ، وَالْقَوْلِ الْمُسَفْسَفِ، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَصَاحَةٌ أَوْ بَلَاغَةٌ فَيُطْلَبُ فِيهِ التَّمَنُّعَ، أَوْ يُوضَعُ فِيهِ الْإِعْجَازُ، وَلَكِنْ لَوْ وُضِعَ فِي وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، أَوْ غُمِرَ بِوُجُوهِ الصَّنْعَةِ، وَأُطْبِقَ بِأَبْوَابِ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ، لَكَانَ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ وَيَعْتَذِرَ وَيَعِيبَ وَيَقْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ مَنَارَهُ، وَقَرَّبَ مِنْهَاجَهُ، وَسَهَّلَ سَبِيلَهُ، وَجَعَلَهُ فِي ذَلِكَ مُتَشَابِهًا مُتَمَاثِلًا، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ إِعْجَازَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كَلَامَ فَصَائِحِهِمْ وَشِعْرَ بُلَغَائِهِمْ، لَا يَنْفَكُّ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي غَرِيبٍ مُسْتَنْكَرٍ، أَوْ وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، وَمَعَانٍ مُسْتَبْعَدَةٍ، ثُمَّ عُدُولِهِمْ إِلَى كَلَامٍ مُبْتَذَلٍ وَضِيعٍ لَا يُوجَدُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ، ثُمَّ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى

كَلَامٍ مُعْتَدِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، مُتَصَرِّفٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَقَّقَ هَذَا نَظَرَ فِي قَصِيدَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا - عَلَى التَّفْصِيلِ - مَا تَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ وَنَظَائِرُهَا وَمَنْزِلَتَهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ فَوْتِ نَظْمِ الْقُرْآنِ مَحَلَّهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤْخَذُ بِالْيَدِ وَيُتَنَاوَلُ مِنْ كَثَبٍ وَيُتَصَوَّرُ فِي نَفْسٍ كَتَصَوُّرِ الْأَشْكَالِ لِيُبَيِّنَ مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ الْعَجِيبَةِ لِلْقُرْآنِ. اهـ. (تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلَ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ هُوَ طَرِيقُ الْهِدَايَةِ الْقَوِيمُ، وَصِرَاطُ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّهُ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ الْعَلِيمِ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُمْ، مَعَ كَوْنِ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ مَعْقُولًا فِي نَفْسِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ، وَمُلَاءَمَتِهِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَفِيهِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لَا خَاصٌّ بِنَفَرٍ يُسَمَّوْنَ الْمُجْتَهِدِينَ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ شُرُوطٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا غِنَى عَنْهُ، هُوَ مَعْرِفَةُ لُغَةِ الْقُرْآنِ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، فَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ فِيهِ أَنْ يُتْقِنَهَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ بِمُزَاوَلَةِ كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا وَمُحَاكَاتِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكِتَابِ حَتَّى تَصِيرَ مَلَكَةً وَذَوْقًا، لَا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي قَوَانِينِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الَّتِي وُضِعَتْ لِضَبْطِهَا وَلَيْسَ تَعَلُّمُ هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ فَقَدْ كَانَ الْأَعَاجِمُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى يَحْذِقُونَهَا فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ حَتَّى يُزَاحِمُوا الْخُلَّصَ مِنْ أَهْلِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَإِنَّمَا يَرَاهُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَسِيرًا لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنِ اللُّغَةِ نَفْسِهَا بِتِلْكَ الْقَوَانِينِ وَفَلْسَفَتِهَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ النَّبَاتَ نَفْسَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْهُ إِلَّا حِفْظَ الْقَوَاعِدِ وَالْمَسَائِلِ فَيَعْرِفُ أَنَّ الْفَصِيلَةَ الْفُلَانِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا رَأَى ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ. وَفِيهِ أَيْضًا وُجُوبُ الِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ، قَالَ الرَّازِيُّ: " دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مِنَ اسْتِدْلَالٍ فَبِأَنْ يَحْتَاجَ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ كَانَ أَوْلَى " اهـ. الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا قَالَ التَّقْلِيدُ مَعَ مَنْعِ الِاسْتِدْلَالِ، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاجِبٌ، التَّقْلِيدُ مَنَعَ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَتَدَبُّرُهُ وَاجِبٌ، إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ،

وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْنَا مَا أَوْجَبَهُ، الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيَقْتَضِي هَجْرَهُ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ يُطَاعُونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَدِلَّاءَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، مَا قَالَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِ الِاسْتِقْلَالِ إِلَّا بَعْضَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يُتَّبَعُ وَلَا أَمْرٌ يُطَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَسِيسَةً مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، لِيُذَلِّلُوا النَّاسَ وَيَسْتَعْبِدُوهُمْ بِاسْمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَبُولَ الِاسْتِبْدَادِ وَاتِّبَاعَ الْقُرْآنِ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا نَبَغَ عَالِمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ إِلَّا وَحَارَبَهُ بَعْدَ نُبُوغِهِ، كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ الَّذِي نَقَلْنَا قَوْلَهُ آنِفًا، وَلَهُ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ نَقَلْنَا بَعْضَهَا مِنْ قَبْلُ، وَغَيْرِهِ كَثِيرُونَ. لَسْنَا نَعْنِي بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلِّهَا فَيَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، وَيَهْتَدِيَ بِهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ قَطُّ أَنْ يَهْجُرَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ مِنْ هِدَايَتِهِ كَلَامُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ لَا مُجْتَهِدِينَ وَلَا مُقَلِّدِينَ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُوجَدُ كِتَابٌ لِإِمَامٍ مُجْتَهِدٍ، وَلَا لِمُصَنِّفٍ مُقَلِّدٍ، يُغْنِي عَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِ اللهِ فِي إِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشِيَتَهُ وَحُبَّهُ وَالرَّجَاءَ فِي رَحْمَتِهِ وَالْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَتَشْوِيقِهَا إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَصَالِحِ، وَرَفْعِهَا عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ إِلَى مَعَالِيهَا، وَلَا فِي الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ فِي سَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَطَبَائِعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، فَكَيْفَ تُغْنِي عَنْهُ فِيهَا الْمُصَنَّفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ؟ ! أَمَا - وَسِرِّ الْقُرْآنِ - لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَمَا فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَآدَابُهُمْ، وَلَمَا ظَلَمَ وَاسْتَبَدَّ حُكَّامُهُمْ، وَلَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ، وَلَمَا صَارُوا عَالَةً فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَسْبَابِهَا عَلَى سِوَاهُمْ. هَذَا التَّدَبُّرُ وَالتَّذَكُّرُ الَّذِي نُطَالِبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ - كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَخْتَصَّ أُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَتْبَعَهُمْ سَائِرُ الْأُمَّةِ فِيهَا، فَإِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى أُولَئِكَ الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ تَرْكَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا إِذَاعَتَهُمْ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى رَدِّهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ، وَأَقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ فَقَالَ:

83

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُذِيعُونَ بِمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِيمَنْ سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهَا فِي الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ تُبَيِّتُ غَيْرَ مَا يَقُولُ لَهَا الرَّسُولُ أَوْ تَقُولُ لَهُ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِعُمُومِ الْعِبْرَةِ، وَمَنْ خَبِرَ أَحْوَالَ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِذَاعَةَ بِمِثْلِ أَحْوَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ لَا تَكُونُ مِنْ دَأْبِ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هِيَ مِمَّا يَلْغَطُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ النِّيَّاتُ، فَالْمُنَافِقُ قَدْ يُذِيعُ مَا يُذِيعُهُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وَضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَدْ يُذِيعُ مَا يَرَى فِيهِ الشُّبْهَةَ، اسْتِشْفَاءً مِمَّا فِي صَدْرِهِ مِنَ الْحَكَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَثِيرًا مَا يَوْلَعُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِمَحْضِ الرَّغْبَةِ فِي ابْتِلَاءِ أَخْبَارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، أَوْ لِمَا عَسَاهُ يَنَالُهُمْ مِنْهَا. فَخَوْضُ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَهُوَ ضَارٌّ جَدًا إِذَا شُغِلُوا بِهِ عَنْ عَمَلِهِمْ، وَيَكُونُ ضَرَرُهُ أَشَدُّ إِذَا وَقَفُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَرَرِ مَا يَقُولُونَ، وَأَضَرُّهُ عِلْمُ جَوَاسِيسِ الْعَدُوِّ بِأَسْرَارِ أُمَّتِهِمْ، وَمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالشُّئُونِ الْعَامَّةِ، الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ سَرِيَّةٍ غَازِيَةٍ أَمِنَتْ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِظُهُورِهِمْ عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، أَوْ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَايَا الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْكَزِ الْعَامِّ لِلسُّلْطَةِ، أَذَاعُوا بِهِ أَيْ بَثُّوهُ فِي النَّاسِ وَأَشَاعُوهُ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: أَذَاعَ الشَّيْءَ وَأَذَاعَ بِهِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ أَيْ: حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالنَّارِ فِي الْمَكَانِ الْعَالِي، أَوْ كَأَنَّهُ نَارٌ فِي رَأْسِ عَلَمٍ، وَالثَّقُوبُ وَالثِّقَابُ الْعِيدَانُ الَّتِي تُوَرَّى بِهَا النَّارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَعَلُوا بِهِ الْإِذَاعَةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَذَاعُوهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُمْ مِنَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ

بِحَيْثُ يَسْتَفِزُّهُمْ كُلُّ خَبَرٍ عَنِ الْعَدُوِّ يَصِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطْلِقُ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلَامِ فِيهِ وَإِذَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ أَخْبَارُ الْحَرْبِ وَأَسْرَارُهَا، وَلَا أَنْ تَخُوضَ الْعَامَّةُ فِي السِّيَاسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا بِمَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَضُرُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَيَضُرُّ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا مِنْ أَمْرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ رَدُّ الشَّيْءِ صَرْفُهُ وَإِرْجَاعُهُ وَإِعَادَتُهُ، وَفِي الرَّدِّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، مَعْنَى التَّفْوِيضِ: أَيْ وَلَوْ أَرْجَعُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَامَّ الَّذِي خَاضُوا فِيهِ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَفَوَّضُوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَصْلِ فِيهَا، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَةِ أُمُورِهَا لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: لَعَلِمَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَهُ وَيُظْهِرُونَ مَخْبَأَهُ مِنْهُمْ. الِاسْتِنْبَاطُ: اسْتِخْرَاجُ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْ إِبْصَارِ الْعُيُونِ عَنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْلُهُ اسْتِخْرَاجُ النَّبَطِ مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ الْمَاءُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ، وَفِي الْمُسْتَنْبِطِينَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الرَّسُولُ وَبَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُذِيعِينَ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ لَكَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ مِثْلَهُ وَيَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَاهُ بِدِقَّةِ نَظَرِهِمْ، فَهُوَ إِذًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ سِرَّهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ غَوْرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَإِدَارَتِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْحَرْبِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَضَائِيَّةِ، وَكُلُّ الْمَسَائِلِ تَكُونُ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَنْبِطُهُ إِلَّا بَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَرْعًا بَيْنَ الْعَامَّةِ يُذِيعُونَ بِهِ؟ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَنْبِطِينَ هُمْ بَعْضُ الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ لَوْ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ وَطَلَبُوا الْعِلْمَ بِهِ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ لَعَلِمَهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعِلْمَ بِهِ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعَارِفُونَ بِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ. وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ; فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَيْهِمْ دُونُ غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُوَكَّلُ

إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِهَذَا التَّفْوِيضِ شَيْئًا يَسْتَنْبِطُهُ مِنْهُمْ فَلْيَقِفْ عِنْدَهُ، وَلَا يَتَعَدَّهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَقِّهِمْ، وَالنَّاسُ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ طَاعَتُهُمْ. لَا غَضَاضَةَ فِي هَذَا عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا خَدْشًا لِحُرِّيَّتِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ، وَلَا نَيْلًا مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ، فَحَسْبُهُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي خُوَيِّصَةِ نَفْسِهِ، لَمْ يُكَلِّفْ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا فِي عَقِيدَتِهِ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا مِنَ الْعَدْلِ وَلَا الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي شُئُونِهَا كَالْأَفْرَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي هَذِهِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ يَثِقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ بِأُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ قَدْ وَثِقَتْ بِهِ الْأُمَّةُ هُوَ عَيْنُ تَصَرُّفِهَا، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِهِ سُلْطَتُهَا مِنْ نَفْسِهَا. زَعَمَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا تَعَلُّقُ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا بِكَلِمَةِ " يَسْتَنْبِطُونَهُ " وَهِيَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ، أَقُولُ: وَقَدْ فَرَّعَ الرَّازِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ فُرُوعٍ: 1 - أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَا يُعَرَفُ بِالنَّصِّ. 2 - أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ. 3 - أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. 4 - أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ كَأُولِي الْأَمْرِ. وَأَوْرَدَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجَابَ عَنْهَا كَعَادَتِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَخَذَ مِنْهَا هَذِهِ الْفُرُوعَ وَبَنَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ - خَارِجَةً عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَلَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَلَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، كَانَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ لَغْوًا وَعَبَثًا. هَذَا شَاهِدٌ مَنْ أَفْصَحِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ قَبْلُ مَنْ سَبَبِ غَلَطِ الْمُفَسِّرِينَ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْكَثِيرِ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، بِتَفْسِيرِهِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُسْتَحْدَثَةِ، فَأَهْلُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ اصْطَلَحُوا عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ لِكَلِمَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَلَمَّا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَمَلَ الرَّازِيُّ عَلَى فِطْنَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا عَنْ طَرِيقِهَا وَيَسِيرَ بِهَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ ذِي شِعَابٍ كَثِيرَةٍ يَضِلُّ فِيهَا السَّائِرُ، حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ. مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْعَامَّةِ مُطْلَقًا يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَيُذِيعُونَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْإِذَاعَةِ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَالْوَاجِبُ تَفْوِيضُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ

وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي الْحَرْبِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالِ الشُّورَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَا هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْرِفُونَ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَمَا يَنْبَغِي إِذَاعَتُهُ وَمَا لَا يَنْبَغِي، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالسُّكُوتِ عَنْ بَعْضٍ؟ وَوُجُوبِ اسْتِنْبَاطِ مَا سُكِتَ عَنْهُ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فِيمَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مُطْلَقًا؟ لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ. عَلَى أَنَّ الرَّازِيَّ كَانَ أَبْطَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَيْ جَمَاعَتُهُمْ، فَكَيْفَ يُبْطِلُ هُنَا مَا حَقَّقَهُ فِي آيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) ، بِقَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا أَبْطَلَ بِهِ مَا حَقَّقَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ؟ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَوْجَبَتْ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَكَانَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ الَّذِي صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالنُّصُوصَ فِيهَا أَوْضَحُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبَهِ فِيهَا أَنْ تُتْرَكَ لِئَلَّا تَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُشْتَبَهِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ وَيُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَالْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُفَوِّضُهَا الْعَامَّةُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَتَتْبَعُهُمْ فِيهَا، هَذَا مَا تَهْدِي إِلَيْهِ الْآيَةُ وِفَاقًا لِغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتُدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَرَدِّ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لَاتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ كَمَا اتَّبَعَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُولُ لِلرَّسُولِ: طَاعَةٌ لَكَ، وَتُبَيِّتُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالَّتِي تُذِيعُ بِأَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَتُفْسِدُ عَلَى الْأُمَّةِ سِيَاسَتَهَا بِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَتْبَاعِ، أَيْ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِكُمْ بِجَعْلِهَا مِنَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ لَا فِيهَا كُلِّهَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ أُوتُوا مِنْ صَفَاءِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا مَا يَكْفِي لِإِيثَارِهِمُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا (24: 21) . وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ بِالْقُرْآنِ وَبِعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِنَايَةِ

اللهِ بِهِدَايَتِهِمْ بِهِمَا كَمَا قُلْنَا، وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى بِمِثْلِ قَسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ نَحْوَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ هُنَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لِيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ (4: 73) ، أَيْ لَوْلَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ الْمُتَتَابِعُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ وَتَرَكْتُمُ الدِّينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْكُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ وَالنِّيَّاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْعَزَائِمِ الْمُتَمَكِّنَةِ مَنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِهِ حَقًا حُصُولُ الدَّوْلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، وَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الِانْهِزَامِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَاطِلًا، بَلِ الْأَمْرُ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا عَلَى الدَّلِيلِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. انْتَهَى مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ وَرَجَّحَهُ، وَقَوْلُهُ بِعَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا وَبَيْنَ الظَّفَرِ وَضِدِّهِ لَا يَسْلَمُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْوَقَائِعِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ، وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ رِوَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ وَالْإِحَاطَةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلُ الْإِحَاطَةِ، أَقُولُ: أَوْ كَمَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: مِعْيَارُ الْعُمُومِ، أَيْ: فَهُوَ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (87: 6، 7) ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَا يَظْهَرُ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَتَحَرِّيهِ لِلْحَقَائِقِ عَدَمَ حُكْمِهِ بِالضَّلَالِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مُتَعَدِّدٌ فِيهِ، وَلَا يَكَادُ يَتَحَرَّاهُ النَّاسُ [رَاجِعْ ص 54 ج 4 طَبْعَةَ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ] . فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبَ

84

فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنَافِقِينَ قِلَّةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ، بَلْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شِدَّةَ سَعْيِهِمْ فِي تَثْبِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمَّا قَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَيَّدَ هَذَا وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: إِنَّكَ أَنْتَ الْمُكَلَّفُ أَنْ تُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَالرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِكَ، فَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكَ بِالْعَمَلِ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَكَ ; لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مِنَ التَّبْلِيغِ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَسَى هُنَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِأَنَّ التَّرَجِّيَ الْحَقِيقِيَّ مُحَالٌ عَلَى الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى حَقٌّ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالْبَأْسُ الْقُوَّةُ، وَكَانَ بَأْسُ الْكَافِرِينَ مُوَجَّهًا إِلَى إِذْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَجْلِ الْإِيمَانِ لَا لِذَوَاتِهِمْ وَأَشْخَاصِهِمْ، فَتَأْيِيدُ الْإِيمَانِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَفِّ بَأْسِهِمْ، وَكَفُّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَدِّي الْمُؤْمِنِينَ لِلْجِهَادِ. أَقُولُ: سَبَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَفْسِيرُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِكَلِمَةِ عَسَى بِمِثْلِ هَذَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ دُونَ الْإِلْزَامِ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُوَطِّنُ نُفُوسَ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفِّ بِأَسِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَبُعْدِهِمْ لِتَرْكِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَدْعَى إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَرَى عَمَلُ دُوَلِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَبِهِ يُصَرِّحُونَ، تَبْذُلُ كُلُّ دَوْلَةِ مُنْتَهَى مَا فِي وُسْعِهَا مِنَ اتِّخَاذِ آلَاتِ الْقِتَالِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتَنْظِيمِ الْجُيُوشِ، لِتَكُونَ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةُ بَيْنَهُنَّ مُتَوَازِنَةً، فَلَا تَطْمَعُ الْقَوِيَّةُ فِي الضَّعِيفَةِ فَيُغْرِيهَا ضَعْفُهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مُحَارَبَتِهَا. وَجَعْلُ عَسَى لِلتَّرَجِّي لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَرَجَّي هُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَرْجُوٌّ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ. وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أَيْ: لَا يُخِيفَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَأْسُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَشِدَّتُهُمْ وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْعَمَلِ بِتَحْرِيضِهِ مُذْعِنِينَ مُخْتَارِينَ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - الَّذِي وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ أَشَدُّ بَأْسًا مِنْهُمْ وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا لَهُمْ مِمَّا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِكُمْ، وَلَكِنَّ سُنَّتَهُ سَبَقَتْ بِأَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لِأَهْلِ الْحَقِّ إِذَا اتَّقَوْا أَسْبَابَ الْخِذْلَانِ، وَاتَّخَذُوا أَسْبَابَ الدِّفَاعِ مَعَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، لَا أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ وَهُمْ قَاعِدُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي الْجَرْيِ عَلَى سُنَنِهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَالتَّنْكِيلُ أَنْ تُعَاقِبَ الْمُجْرِمَ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِغَيْرِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يُجْرِمَ مِثْلَ إِجْرَامِهِ، وَهُوَ مِنَ النُّكُولِ بِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَلَّفَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقَاتِلَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَتَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَبِأَسِهِمْ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَسِيرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ قَدْ تَصَدَّى لِمُقَاوَمَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَاتِّبَاعِ النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَلَمَّا قَاتَلُوهُ قَاتَلَهُمْ، وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ مَرَّةً فَبَقِيَ ثَابِتًا كَالْجَبَلِ لَا يَتَزَلْزَلُ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَاتِلْ لِلتَّفْرِيعِ بِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ: إِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ فَقَاتِلْ، وَكَانَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ وَإِذَا كُنْتَ مُبَلِّغًا عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا عَلَى النَّاسِ فَقَاتِلْ، أَنْتَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ لَكَ، وَحَرِّضْ غَيْرَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِذَلِكَ تَحْرِيضًا، لَا إِلْزَامَ سُلْطَةٍ وَلَا إِجْبَارَ قُوَّةٍ، وَالتَّحْرِيضُ الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ بِتَزْيِينِهِ وَتَسْهِيلِ الْخَطْبِ فِيهِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَمَعْنَى: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لَا تُكَلَّفُ أَنْتَ إِلَّا أَفْعَالَ نَفْسِكَ دُونَ أَفْعَالِ النَّاسِ، فَلَا يَضُرُّكَ إِعْرَاضُ الَّذِينَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ (4: 77) ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ لَكَ طَاعَةٌ وَيُبَيِّتُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ لَكَ إِنَّمَا تَجِبُ لِأَنَّكَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ فَهِيَ طَاعَةُ اللهِ، وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ لَا يَضُرُّهُ عِصْيَانُ مَنْ عَصَاهُ. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا. الشَّفَاعَةُ مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْوَتْرِ أَيِ الْفَرْدِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الشَّفْعُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالشَّفَاعَةُ الِانْضِمَامُ إِلَى آخَرَ، نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلًا عَنْهُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَاتِّصَالَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً مَنْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ شَفْعًا لَكَ وَقَدْ أُمِرَتْ بِالْقِتَالِ وَتْرًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّهَا نَصْرٌ لِلْحَقِّ وَتَأْيِيدٌ لَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَنْضَمُّ إِلَى أَيِّ مُحْسِنٍ وَيُشَفِّعُهُ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، أَيْ مِنْ شَفَاعَتِهِ هَذِهِ

85

بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالشَّرَفِ وَالْغَنِيمَةِ مِنَ الدُّنْيَا عِنْدَمَا يَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا أَمْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَالنَّصِيبُ الْحَظُّ الْمَنْصُوبُ، أَيْ: الْمُعِينُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَمَنْ يَشْفَعُ شَفَاعَةً سَيِّئَةً بِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَدُوِّكَ فَيُقَاتِلَ مَعَهُ، أَوْ يُخْذِلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ، وَمَثْلُهَا كُلُّ إِعَانَةٍ عَلَى السَّيِّئَاتِ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا، وَهُوَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَالْكِفْلُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْمَكْفُولِ لِلشَّافِعِ لِأَنَّهُ أَثَرُ عَمَلِهِ، أَوِ الْمَحْدُودِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِهِ، أَوِ الَّذِي يَجِيءُ مِنَ الْوَرَاءِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَلِ الْبَعِيرِ وَهُوَ عَجُزُهُ، أَوْ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْمَرْكَبِ الَّذِي يُسَمَّى كِفْلًا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْكِفْلُ مِنْ مَرَاكِبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كِسَاءٌ يُؤْخَذُ فَيُعْقَدُ طَرَفَاهُ ثُمَّ يُلْقَى مُقَدَّمُهُ عَلَى الْكَاهِلِ وَمُؤَخَّرُهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزِ - أَيِ الْكَفَلُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ - وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ مُسْتَدِيرٌ يُتَّخَذُ مِنْ خِرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيُوضَعُ عَلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: " ذَلِكَ كَفَلُ الشَّيْطَانِ " يَعْنِي مَقْعَدَهُ ثُمَّ قَالَ: وَالْكِفْلُ مَا يَحْفَظُ الرَّاكِبَ مِنْ خَلْفِهِ، وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا، انْتَهَى، كَأَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ مِنْ نَاحِيَةِ الْكِفْلِ وَالْمُؤَخَّرِ. وَالرَّاغِبُ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: إِنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْكِفْلِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الشَّيْءُ الرَّدِيءُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكَفَلِ، وَهُوَ أَنَّ الْكِفْلَ لَمَّا كَانَ مَرْكَبًا يَنْبُو بِرَاكِبِهِ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي كُلِّ شِدَّةٍ كَالسِّيسَاءِ، وَهُوَ الْعَظَمُ النَّاتِئُ مِنْ ظَهْرِ الْحِمَارِ فَيُقَالُ: لِأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْكِفْلِ وَالسِّيسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ مَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةِ حَسَنَةٍ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ، وَمَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةٍ سَيِّئَةٍ يَنَلْهُ مِنْهَا شِدَّةٌ، وَقِيلَ: الْكِفْلُ الْكَفِيلُ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى شَرًّا فَلَهُ مِنْ فِعْلِهِ كَفِيلٌ يَسْأَلُهُ، كَمَا قِيلَ مَنْ ظَلَمَ فَقَدْ أَقَامَ كَفِيلًا بِظُلْمِهِ، تَنْبِيهًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ عُقُوبَتِهِ انْتَهَى. وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّفَاعَةَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ أُمِرَ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ وَحْدَهُ فَكَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْقِتَالِ مَعَهُ قَدْ تَصَدَّى لِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُ شَفِيعًا، وَاسْمُ الشَّرْطِ فِي مَنْ يَشْفَعْ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً، شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ عَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ شَافِعٍ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحُضُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ لِمَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْوَعِيدِ لِمَنْ أَبَى إِجَابَتَهُ - أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَثِّ عَلَى شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالَ مَنْ ذَكَرُوا أَنَّهَا فِي شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا أَوَّلَهَا، وَثَانِيَهَا أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقِتَالِ بِمَعْنَى الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ لَهُ أَجْرُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وِزْرٌ وَلَا عَيْبٌ. وَالثَّالِثَ: جَوَازُ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَشْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ فَنَهَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعَكْسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ صَحِيحٌ، وَكَانَ وَاقِعًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ اسْتِئْذَانَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، وَقَدْ يَسْتَأْذِنُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ وَيَشْفَعُ لَهُ كَمَا يَسْتَأْذِنُ لِنَفْسِهِ. وَالرَّابِعَ - مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ -: جَوَازُ أَنْ يَشْفَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ فِي إِعَانَةِ مَنْ لَا يَجِدُ أُهْبَةِ الْقِتَالِ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا، وَحَاصِلُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ الْقُعُودِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الشَّفَاعَةِ خَمْسَةَ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهَا تَحْرِيضُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ شَفْعًا لَهُمْ، وَذَكَرَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِتَسْمِيَةِ التَّحْرِيضِ شَفَاعَةً وَهِيَ أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بَلْ عَلَى الرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الشَّفَاعَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَوِ التَّوْجِيهُ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَيُقَرِّبُهُ. ثَانِيهَا: أَنَّهَا شَفَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ شَفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِعَانَةِ، وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ. ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هَاهُنَا هِيَ أَنْ يَشْفَعَ إِيمَانُهُ بِاللهِ بِقِتَالِ الْكَفَّارِ - أَيْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ - وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ كُفْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِلْكُفَّارِ وَتَرْكِ إِيذَائِهِمْ، أَقُولُ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَقِّ وَخِذْلَانِهِمْ. رَابِعُهَا: قَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ الدُّعَاءُ وَإِنَّ نَصِيبَ الشَّافِعِ مِنْهَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ بِالْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ السَّيِّئَةَ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِمْ: " السَّامُ عَلَيْكُمْ " أَيِّ الْمَوْتُ، أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ أَلْبَتَّةَ. خَامِسُهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ: إِنَّهَا شَفَاعَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَمَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ

سَيِّئَةٌ، ثُمَّ جَزَمَ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مَعْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي لَا يُنَافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ حَمْلَ الشَّفَاعَةِ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فِي شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْمَعَايِشِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يَذْهَبُ بِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْحَرَارَةِ وَيُخْرِجُهَا مِنَ السِّيَاقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَعَمُّ فَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَرْبِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَاتِ فِي الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَالَّذِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ ذَلِكَ ضُرُوبُ الِاعْتِذَارِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاعْتِذَارُ بِوَاسِطَةِ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يُرْجَى السَّمَاعُ لَهُمْ وَالْقَبُولُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَيْنُ الشَّفَاعَةِ، اهـ. ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا قِسْمَانِ: حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ، فَالْحَسَنَةُ أَنْ يَشْفَعَ الشَّافِعُ لِإِزَالَةِ ضَرَرٍ وَرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، لَيْسَ فِي جَرِّهَا إِلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا ضِرَارٌ، وَالسَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ، أَوْ هَضْمِ حَقٍّ، أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي عَمَلٍ، بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ، وَالضَّابِطُ الْعَامُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ، وَالسَّيِّئَةُ فِيمَا كَرِهَهُ أَوْ حَرَّمَهُ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنْ نَتَذَكَّرَ بِهَا أَنَّ الْحَاكِمَ الْعَادِلَ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ مَظْلَمَةِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا يَطْلُبُ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ الشَّافِعِ فِيمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَيُنَافِي الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَهُوَ الَّذِي تَرُوجُ عِنْدَهُ الشَّفَاعَاتُ ; لِأَنَّهُ يُحَابِي أَعْوَانَهُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْهُ لِيَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ فِي اسْتِبْدَادِهِ، فَيَثِقُ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى خِدْمَتِهِ وَإِخْلَاصِهِمْ لَهُ، وَمَا الذِّئَابُ الضَّارِيَةُ بِأَفْتَكَ مِنَ الْغَنَمِ مِنْ فَتْكِ الشَّفَاعَاتِ فِي إِفْسَادِ الْحُكُومَاتِ وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ الْحُكُومَةَ الَّتِي تَرُوجُ فِيهَا الشَّفَاعَاتُ يَعْتَمِدُ التَّابِعُونَ لَهَا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا لَا عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَتَضِيعُ فِيهَا الْحُقُوقُ، وَيَحُلُّ الظُّلْمُ مَحَلَّ الْعَدْلِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأُمَّةِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ عَامًّا. وَقَدْ نَشَأْنَا فِي بِلَادٍ هَذِهِ حَالُ أَهْلِهَا وَحَالُ حُكُومَتِهِمْ، يَعْتَقِدُ الْجَمَاهِيرُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى قَضَاءِ مَصْلَحَةٍ فِي الْحُكُومَةِ إِلَّا بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الرِّشْوَةِ، وَلَا يَقُومُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ حُكُومَتِنَا إِلَّا إِذَا زَالَ هَذَا الِاعْتِقَادُ، وَصَارَتِ الشَّفَاعَةُ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي لَا يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِهِ، وَظُهُورُ الْحَاجَةِ إِلَى شَفِيعٍ يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ

الْعَادِلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمَشْفُوعِ لَهُ لِكَذَا، أَوْ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ فِي كَذَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا هَذَا مِنَ النَّوَادِرِ الَّتِي لَا تَخْلُو حُكُومَةٌ مِنْهَا، مَهْمَا ارْتَقَتْ وَصَلُحَ حَالِهَا. وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا أَيْ: مُقْتَدِرًا أَوْ حَافِظًا أَوْ شَاهِدًا، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِالْحَفِيظِ وَالشَّهِيدِ، أَقْوَالُ: قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ قَائِمًا عَلَيْهِ يَحْفَظُهُ وَيَقِيتُهُ - يَعْنِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ وَهُوَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقِ مِنَ الرِّزْقِ وَتُحْفَظُ بِهِ الْحَيَاةَ - يُقَالُ: قَاتَهُ يَقُوتُهُ إِذَا أَطْعَمَهُ قُوتَهُ، وَأَقَاتَهُ يُقِيتُهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ مَا يَقُوتُهُ اهـ، وَمَنْ جَعَلَ لَكَ مَا يَقُوتُكَ دَائِمًا كَانَ قَائِمًا عَلَيْكَ بِالْحِفْظِ وَشَهِيدًا عَلَيْكَ لَا يَقُوتُهُ أَمْرُكَ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مَعْنَى الْقُدْرَةِ أَيْضًا بِاللُّزُومِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَوْنِ الْمُقِيتِ بِمَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنَ الْقُوتِ، كَقَوْلِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: وَذِي ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: تَجَلَّدْ وَلَا تَجْزَعْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ ... فَإِنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمَقِيتُ وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا مَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مُسْتَدِلًّا بِبَيْتِ الزُّبَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَقَاتَ عَلَى الشَّيْءِ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ الزُّبَيْرِ، وَعَزَاهُ أَوَّلًا إِلَى أَبِي قَيْسِ بْنِ رِفَاعَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لِلزُّبَيْرِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ الْفَرَّاءِ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ وَالْمُقَدِّرُ كَالَّذِي يُعْطَى كُلَّ شَيْءٍ قُوتَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُقِيتُ الْقَدِيرُ، وَقِيلَ: الْحَفِيظُ، قَالَ: وَهُوَ بِالْحَفِيظِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، يُقَالُ: قُتُّ الرَّجُلَ أَقُوتُهُ إِذَا حَفِظْتُ نَفْسَهُ بِمَا يَقُوتُهُ، وَالْقُوتُ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَحْفَظُ نَفْسَهُ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحِفْظِ، فَمَعْنَى الْمُقِيتِ الْحَفِيظُ الَّذِي يُعْطِي الشَّيْءَ قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ كَالَّذِي يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ قُوتَهُ، وَيُقَالُ: الْمُقِيتُ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَالشَّاهِدُ لَهُ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ لِلْسَمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا: رُبَّ شَتْمٍ سَمِعْتُهُ وَتَصَامَمْـ ... ـتُ وَغَيٍّ تَرَكْتُهُ فَكُفِيتُ لَيْتَ شِعْرِي وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو ... سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ أَيْ: أَعْرَفُ مَا عَمِلْتَ مِنَ السُّوءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، حَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، قَالَ: الصَّحِيحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى " رَبِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ " إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ وَمِنْهُ تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْمُقِيتِ فِي بَيْتِ السَّمَوْأَلِ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى الْحِسَابِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَكَانَ اللهُ وَمَا زَالَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا، أَيْ: مُقْتَدِرًا مُقَدَّرًا

86

فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّافِعَ نَصِيبًا أَوْ كِفْلًا مِنْ شَفَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِهَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَزَاءُ مُرْتَبِطًا بِالْعَمَلِ، أَوْ شَهِيدًا حَفِيظًا عَلَى الشُّفَعَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ فَهُوَ يُعْطِي الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ طَرِيقَةَ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ النَّاسِ، عَلَّمَهُمْ سُنَّةَ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمُ الضُّعَفَاءِ وَالْأَقْوِيَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَحُسْنَ الْأَدَبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ يَلْقَوْنَهُ فِي أَسْفَارِهِمْ فَقَالَ: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، وَهَذَا مَا يَرَاهُ الْأُسْتَاذُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِأَنْ يَرْضَوْا بِالْمُسَالَمَةِ إِذَا رَضِيَ الْأَعْدَاءُ بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (8: 61) . وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى سَلَامِهِ وَيَقْتُلُهُ، فَمَنَعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ وَأَمْرَهُمْ بِأَنْ يُقَابِلُوا كُلَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُكْرِمُهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ بِمِثْلِ مَا قَابَلَهُمْ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ. هَذَا مُلَخَّصُ قَوْلِهِ: وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّحِيَّةَ بِمَعْنَى السَّلَامِ وَالسِّلْمِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ التَّوَسُّعِ فِي التَّحِيَّةِ مَا فِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (4: 94) ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا أَدَبَ التَّحِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي وَمَا لَا يَنْبَغِي فِي الشَّفَاعَةِ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ التَّحِيَّةِ وَالشَّفَاعَةِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي حَالِ الْقِتَالِ، يَكُونُ بِهِ نَفْعُهُمَا أَوْ ضَرَرُهُمَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّحِيَّةِ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْحَيَاةِ. التَّحِيَّةُ: مَصْدَرُ حَيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهُ حَيَّاكَ اللهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ صَارَتِ التَّحِيَّةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْمَرْءُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ أَوْ يُقْبِلُ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ دُعَاءٍ أَوْ ثَنَاءٍ كَقَوْلِهِمْ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَأَنْعِمْ مَسَاءً، وَقَالُوا: عِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَجُعِلَتْ تَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ السَّلَامِ وَالْأَمَانِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ السِّلْمِ وَمُحِبُّو السَّلَامَةِ، وَمِنَ التَّحِيَّاتِ الشَّائِعَةِ فِي بِلَادِنَا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ، أَسْعَدَ اللهُ مَسَاءَكُمْ - وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً - وَنَهَارُكَ سَعِيدٌ، وَلَيْلَتُكَ سَعِيدَةٌ، وَهَذَا مُتَرْجَمٌ عَنِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نُجِيبَ مَنْ حَيَّانَا بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَوْ بِمِثْلِهَا أَوْ عَيْنِهَا، كَأَنْ نَقُولُ لَهُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يَقُولُهَا، وَهَذَا هُوَ رَدُّهَا، وَفَسَّرُوهُ بِأَنْ تَقُولَ لِمَنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِكَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا فِي تَحِيَّةٍ فَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهَكَذَا يَزِيدُ الْمُجِيبُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ كَلِمَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَقُولُ: قَدْ يَكُونُ أَحْسَنُ الْجَوَابِ بِمَعْنَاهُ أَوْ كَيْفِيَّةِ

أَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ بِالتَّحِيَّةِ، أَوْ مُسَاوِيَهُ فِي الْأَلْفَاظِ، أَوْ مَا هُوَ أَخْصَرُ مِنْهُ، فَمَنْ قَالَ لَكَ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ وَمَسَاءَكُمْ، فَقُلْتَ لَهُ: أَسْعَدَ اللهُ جَمِيعَ أَوْقَاتَكُمْ كَانَتْ تَحِيَّتُكَ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ، وَمَنْ قَالَ لَكَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ فَقُلْتَ لَهُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ بِصَوْتٍ أَرْفَعَ وَإِقْبَالٍ يُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ وَزِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَالتَّكْرِيمِ، كُنْتَ قَدْ حَيَّيْتَهُ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ فِي صِفَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِي لَفْظِهَا، وَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ فِي الْقِيَامِ لِلزَّائِرِينَ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِمَّةٍ تُشْعِرُ بِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ وَمَنْ يَقُومُ مُتَثَاقِلًا، وَمِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْعِنَايَةِ بِالْقِيَامِ إِظْهَارَ الِانْدِهَاشِ فَيَقُولُونَ: قَامَ لَهُ بِانْدِهَاشٍ، أَوْ قَامَ بِغَيْرِ انْدِهَاشٍ. عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ الْجَوَابُ عَنِ التَّحِيَّةِ لَهُ مَرْتَبَتَانِ: أَدْنَاهُمَا رَدُّهَا بِعِنَايَةٍ، وَأَعْلَاهُمَا الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَالْمُجِيبُ مُخَيَّرٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحْسَنَ لِكِرَامِ النَّاسِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، وَرَدُّ عَيْنِ التَّحِيَّةِ لِمَنْ دُونَهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ لِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَرَدَّهَا بِعَيْنِهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ لِلْكُفَّارِ عَامَّةً، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: فَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، أَقُولُ: وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَمُعَامَلَةِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ قَالَ لِخَصْمِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَدْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْوَفَاءُ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّاسِخَةِ ; وَلِذَلِكَ عَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ التَّحِيَّةِ مُنَاسِبًا لِلسِّيَاقِ بِكَوْنِهَا مِنْ وَسَائِلِ السَّلَامِ، وَلَمَّا صَارَ لَفْظُ السَّلَامِ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ صَارَتِ التَّحِيَّةُ بِهِ عُنْوَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (4: 94) . وَمِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ غَيْرُهُمْ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَدُّ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، أَيْ: يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْآدَابَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِذَا سَرَتْ فِي قَوْمٍ يَأْلَفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُونَ فَضْلَ دِينِهِمْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَجْذَبُ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةِ النُّورِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (24: 27) ، هَلِ السَّلَامُ فِيهِمَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَأَجَبْتُ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص 583 - 685) بِمَا نَصَّهُ: (ج) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَامٌّ وَمِنْ مَقَاصِدِهِ نَشْرُ آدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ فِي النَّاسِ وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ

وَجَذْبُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِيَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ إِخْوَةً، وَمِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ إِلَّا مَعَ الْمُحَارِبِينَ ; لِأَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ أَمَّنَهُ، فَإِذَا فَتَكَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَائِنًا نَاكِثًا لِلْعَهْدِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، حَتَّى كَانَ مِنْ بَعْضِ سُفَهَائِهِمْ تَحْرِيفُ السَّلَامِ بِلَفْظِ: " السَّامُ " أَيِّ الْمَوْتُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَعَلَيْكُمْ "، وَسَمِعَتْ عَائِشَةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: " السَّامُ عَلَيْكُمْ "، فَقَالَتْ لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَانْتَهَرَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُبَيِّنًا لَهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ فَاحِشًا وَلَا سَبَّابًا وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلذِّمِّيِّ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ سَلَّمَ عَلَيْهِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ - تَعَالَى -، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي رَحْمَةِ اللهِ يَعِيشُ "، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ تَعْرِفُ وَمَنْ لَا تَعْرِفُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ رُدُّوهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ يُقَالُ لِلْكِتَابِيِّ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَيْنُ مَا يَقُولُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ. هَذِهِ لُمَعَةٌ مِمَّا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ فَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَلَى الْحَاجَةِ أَيْ: لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَأَمَّا الرَّدُّ فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ وَاجِبٌ كَرَدِّ سَلَامِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِي الْخَانِيَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَلَوْ سَلَّمَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ فَلَا بَأْسَ بِالرَّدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ لَا وَاجِبٌ وَلَا مَسْنُونٌ مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ فِي الصَّحِيحِ. أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يُنَافِي حَقَّ غَيْرِهِ، فَالسَّلَامُ حَقٌّ عَامٌّ وَيُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ: مُطْلَقُ التَّحِيَّةِ، وَتَأْمِينُ مَنْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْإِيذَاءِ وَكُلِّ مَا يُسِيءُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي السَّلَامِ عَامَّةً، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا " الْمُسْلِمُ " كَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا غَيْرُهُ كَحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا. أَمَّا جَعْلُ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَامَّةً فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ: " وَعَلَيْكُمْ " حَتَّى لَا يَكُونُوا مَخْدُوعِينَ لِلْمُحَرِّفِينَ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ الشَّيْءَ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ

أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَهَى الْيَهُودَ عَنِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَحْظُرُوا عَلَى النَّاسِ آدَابَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُ حَتَّى مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى آيَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَصَوْنٌ لَهُ عَنِ الْمُخَالِفِينَ، وَكُلَّمَا زَادُوا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ زَادُوا إِيغَالًا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّهُمْ لَيُشَاهِدُونِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْتَهِدُونَ بِنَشْرِ دِينِهِمْ وَيُوَزِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِهِ عَلَى النَّاسِ مَجَّانًا، وَيُعَلِّمُونَ أَوْلَادَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَدَارِسِهِمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَحْوِيلِ النَّاسِ إِلَى عَادَاتِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ لِيَقَرِّبُوا مِنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُورُبِّيِّينَ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا عِنْدَمَا وَافَقَهُمْ خِدِيوِي مِصْرَ " إِسْمَاعِيلُ بَاشَا " عَلَى اسْتِبْدَالِ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِالتَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ وَعَدُّوا هَذَا مِنْ آيَاتِ الْفَتْحِ، وَتَرَى الْقَوْمَ الْآنَ يَسْعَوْنَ فِي جَعْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ عِيدًا أُسْبُوعِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ يُشَارِكُونَ فِيهِ النَّصَارَى بِالْبَطَالَةِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ يُحِبُّونَ مَنْعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْذِ بِآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَكَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا حَجْبَ هَذَا الدِّينِ عَنِ الْعَالَمِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَسَيَرْجِعُونَ عَنْهُ بَعْدَ حِينٍ اهـ. هَذَا مَا أَفْتَيْنَا بِهِ مُنْذُ بِضْعِ سِنِينَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَفْظِ: " وَعَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَرَوِيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَدَمَ ابْتِدَائِنَا إِيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَاهَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُرُوبِ وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِيهَا، رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ، فَيَظْهَرُ هُنَا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَبْدَءُوهُمْ لِأَنَّ السَّلَامَ تَأْمِينٌ، وَمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ آمِنٍ مِنْهُمْ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ غَدْرِهِمْ وَنَكْثِهِمْ لِلْعَهْدِ مَعَهُ ; فَكَانَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُوَاتَاةِ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَازَ ابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - قَالَ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هِدَايَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ تَبْلِيغُهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَالرَّأْيِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يَكُونَ دِينًا وَلَا هِدَايَةً عَامَّةً وَلَا أَنْ يُبَلَّغَ لِلنَّاسِ، فَتَوَقَّفُ فَهْمِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا أَظْهَرُ، وَالَّذِي

عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي نَعْرِفُهَا، أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِغَيْرِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ كِتَابَةِ هَذَا رَاجَعْتُ (زَادَ الْمَعَادِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ " قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ لَمَّا سَارُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ "، وَتَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ حُكْمًا عَامًّا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ خَاصًّا بِمَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ، وَذَكَرَ خِلَافَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُطْلَقِ فِي النَّهْيِ عَنِ الِابْتِدَاءِ. هَذَا وَإِنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ، وَأَمَّا رَدُّهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ رَدَّ كُلِّ تَحِيَّةٍ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِتَحِيَّةِ السَّلَامِ، وَيَكْفِي أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ وَأَنْ يَرُدَّ بَعْضُ مَنْ يُلْقَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لِتَضَامُنِهَا وَاتِّحَادِهَا يَقُومُ فِيهَا الْوَاحِدُ مَقَامَ الْجَمِيعِ. وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْقَادِمُ عَلَى مَنْ يَقْدِمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْكَبِيرُ فِي السِّنِّ أَوِ الْقَدْرِ بِالسَّلَامِ. وَمِنْ آدَابِ السَّلَامِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ "، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ سَلَامَ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَمُسْلِمٌ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ "، وَالتِّرْمِذِيُّ " أَنَّهُ مَرَّ بِنِسْوَةٍ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ "، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ الْمَحَارِمِ مُطْلَقًا وَالْعَجَائِزِ الْأَجْنَبِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَلَى الْقَوْمِ عِنْدَ الْمَجِيءِ وَعِنْدَ الِانْصِرَافِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ وَقَالَ: وَكَانَ يُسَلِّمُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُوَاجِهُهُ، وَيَحْمِلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُرِيدُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَائِبِينَ عَنْهُ، وَيَتَحَمَّلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَّغَهُ أَحَدٌ السَّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُبَلِّغِ بِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا لِعُذْرٍ مِثْلِ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَحَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ يُسْمِعُ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَرُدُّ بِيَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ وَلَا أُصْبُعِهِ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرُدُّ إِشَارَةً، ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهَا إِلَّا بِشَيْءٍ بَاطِلٍ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ أَشَارَ إِشَارَةً تُفْهَمُ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ) . وَوَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ وَكَوْنُهُ سَبَبَ الْحُبِّ بَيْنَهُمْ،

وَمِنْهَا حَدِيثُ: إِنَّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ وَصَحَّ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْبَرَاءِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عَمَّارٌ: " ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ "، فَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَالِي الَّذِي لَا يَكَادُ يَجْمَعُهُ غَيْرُهُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا الْحَسِيبُ الْمُحَاسِبُ عَلَى الْعَمَلِ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُكَافِئِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الْكَافِي مَنْ حَسِبَكَ كَذَا إِذَا كَانَ يَكْفِيكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَكُمْ بِالتَّحِيَّةِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَقُولُ: إِنَّ فِيهَا أَيْضًا إِشْعَارًا بِحَظْرِ تَرْكِ إِجَابَةِ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْنَا وَيُحَيِّينَا وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُنَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ هُمَا الرُّكْنَانِ الْأَوَّلَانِ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ يُبَلِّغُونَ النَّاسَ مَا يَجِبُ مِنْ إِقَامَتِهِمَا وَدَعْمِهِمَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُصَرِّحَ الْقُرْآنُ بِهِمَا مَعًا تَارَةً، وَبِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا تَارَةً أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِّ ذِكْرَهُمَا هُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ وَالْبَاعِثُ الْأَقْوَى عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ الْقِتَالِ الَّتِي يَبْذُلُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَحُرِّيَّةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ، وَتَأْمِينِ دُعَاتِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَلْ يَبْذُلُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ إِلَّا فِي مَرْضَاةِ مَنْ يَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلِّ مَا فِيهَا؟ فَالْمَعْنَى: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ، فَلَا تُقَصِّرُوا فِي طَاعَتِهِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ ; فَإِنَّ فِي طَاعَتِهِ شَرَفَكُمْ وَسَعَادَتَكُمْ، وَارْتِقَاءَ أَرْوَاحِكُمْ وَعُقُولِكُمْ، إِذْ حَرَّرَكُمْ بِذَلِكَ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لِمَا دُونَ الْبَشَرِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي ذَلَّ لَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَسَيَجْعَلُ لَكُمْ بِهَذَا الدِّينِ مُلْكًا عَظِيمًا وَيَجْعَلُكُمُ الْوَارِثِينَ، وَهَلْ هَذَا كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْمُحْسِنِينَ؟ كَلَّا إِنَّهُ - وَاللهِ - لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَيَحْشُرَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْأَوْفَى عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ وَهُوَ أَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا، أَيْ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى خَبَرِهِ، فَكَلَامُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَنْ عَمْدٍ وَعِلْمٍ، أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ سَهْوٍ، وَأَمَّا كَلَامُهُ تَعَالَى فَهُوَ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (20: 52) ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ غَيْرَ صَادِقٍ لِنَقْصٍ فِي الْعِلْمِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِغَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ دَلَّ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عَلَى كَوْنِهِ كَلَامَ

88

اللهِ - تَعَالَى -، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ لِمَنْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، إِذَا آثَرَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَقْوَالَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُقَلِّدِينَ الضَّالِّينَ. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا. ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْفَاءِ لِوَصْلِهَا بِمَا سَبَقَهَا، إِذِ السِّيَاقُ لَا يَزَالُ جَارِيًا فِي مَجْرَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، وَذِكْرِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالضُّعَفَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَتَخُونُهُ أَعْمَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصْرِ لَهُمْ وَهُمْ بَعْضُ

الْمُشْرِكِينَ - وَكَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي إِبَّانِ الْحَرْبِ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِيمَانِ فِي غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ كَانُوا خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ لَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ فَقَالَ: " مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي؟ "، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا ابْنَ مُعَاذٍ طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ مِنْكَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ عُبَادَةَ مُنَافِقٌ وَتُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ فِينَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَأْمُرُنَا فَنُنَفِّذُ أَمْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا فَأُرْكِسُوا وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُمْ: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ تَدْلِيسٌ وَانْقِطَاعٌ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِذِكْرِ الْمُهَاجَرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذِكْرِ سَنَدِهِ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَوْلُهُ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللهِ - أَوْ كَمَا قَالُوا - تَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِذَلِكَ؟ ! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ فَنَزَلَتْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ أَسْلَمُوا بِالْفِعْلِ كَمَا تُوهِمُهُ

عِبَارَةُ بَعْضِ النَّاقِلِينَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا، فَلَقُوهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَلَالٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَرَامٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُمْ نَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنْ نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ وَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَلَّاهُمْ نَاسٌ وَتَبَرَّأَ مِنْ وِلَايَتِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَسَمَّاهُمُ اللهُ مُنَافِقِينَ، وَبَرَّأَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَتَوَلَّوْهُمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رِوَايَاتِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا مُعْتَذِرِينَ بِالْمَرَضِ وَالتُّخَمَةَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ، ثُمَّ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ مَكَّةَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِذِكْرِ الْهِجْرَةِ فِي الْآيَةِ. وَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ وَنُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَقَائِعِ تَرَاخٍ وَزَمَنٌ طَوِيلٌ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَهَا كُلٌّ عَلَى وَاقِعَةٍ يَرَى أَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا التَّارِيخِ، وَلَكِنَّ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يَكُونُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي التَّارِيخِ وَتَعْيِينِ الْوَاقِعَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَنْقُولَةً بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ فَهْمٍ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَرَأَيٌ فِي تَفْسِيرِهَا يُخْطِئُ فِيهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، بَلْ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَدَّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي جَعْلِ الْمُرَادِ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فِئَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ اِلْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَأَيْتَ مِنْ ذِكْرِ الْمُهَاجِرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ بِمَا تَرَاهُ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي رَدِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا دُونَهَا فِي قُوَّةِ السَّنَدِ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ - أَيِ الَّتِي جَعَلَتِ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ - أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَعْمَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا فِي أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا بِشَرْطِهِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ صَدِّ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ عَنِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْآيَاتِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ خِدَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الْوَلَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي الدَّرْسِ:

الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ تُشْعِرُ بِارْتِبَاطِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَاءَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَرِعُ الْجَاهِلُ تَعْلِيلَاتٍ وَمَعَانِيَ لِمَا لَا يَفْهَمُهُ، وَقَدْ يَخْتَرِعُ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ إِذِ الْكَلَامُ السَّابِقُ كَانَ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ حَتَّى مَا وَرَدَ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَقَدْ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَخْ، أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرَهُ يُخْشَى وَيُخَافُ أَوْ يُرْجَى فَتُتْرَكُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ وَهِيَ تُفِيدُ تَفْرِيعَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِيهَا عَلَى مَا قَبْلُهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُبْطِئِينَ عَنْهُ وَالَّذِينَ تَمَنَّوْا تَأْخِيرَ كِتَابَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَيُتْرَكُ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ لِأَجْلِهِ فَمَا لَكُمْ تَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَنْقَسِمُونَ فِيهِمْ إِلَى فِئَتَيْنِ؟ قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ هُنَا غَيْرُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ آيَاتُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَلَاءَ لَهُمْ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يُظْهِرُونَ، ضَلْعُهُمْ مَعَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَاطُونَ فِي إِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ ضَعْفُهُمُ انْقَلَبُوا عَلَيْهِمْ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَدُّوا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَادِّينَ لَهُمْ جَهْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَامِلُوا كَمَا يُعَامِلُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْعَدَاوَةِ - وَعِبَارَتُهُ مِمَّنْ لَا يُنَافِقُ - فَأَنْكَرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَيْ: كَيْفَ تَتَفَرَّقُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْكَسَهُمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ نَظَرَ الْأَعْدَاءِ الْمُبْطِلِينَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الدَّرْسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ. أَقُولُ: الرَّكْسُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - مَصْدَرُ رَكَسَ الشَّيْءَ يُرْكُسُهُ - بِوَزْنِ نَصَرَ - إِذَا قَلَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ رَدَّ آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ، يُقَالُ: رَكَسَهُ وَأَرْكَسَهُ فَارْتَكَسَ، قَالَ فِي اللِّسَانِ بَعْدَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ، وَقَالَ شَمِرٌ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمَنْكُوسُ وَالْمَرْكُوسُ الْمُدْبِرُ عَنْ حَالِهِ، وَالرَّكْسُ رَدُّ الشَّيْءِ مَقْلُوبًا اهـ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرِّكْسِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ شَبِيهٌ بِالرَّجِيعِ، وَأُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الرَّوَثِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّكْسَ وَالْإِرْكَاسَ شَرُّ ضُرُوبِ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الشَّيْءُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ إِنْ كَانَ لَهُ رَأْسٌ، أَوْ مَقْلُوبًا مُتَحَوِّلًا عَنْ حَالَةٍ إِلَى أَرْدَأَ مِنْهَا كَتَحَوُّلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ إِلَى الرَّجِيعِ وَالرَّوَثِ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَحَوُّلُهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَالْقِتَالِ أَوْ إِلَى الشِّرْكِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي التَّحَوُّلِ وَالِانْقِلَابِ الْمَعْنَوِيِّ أَيْ: مِنْ إِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِظْهَارِ التَّحَيُّزِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ

شَرُّ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ الْمَعْنَوِيِّ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نُكِّسَ عَلَى رَأْسِهِ وَصَارَ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (67: 22) ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فِي ظُهُورِ ضَلَالَتِهِ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ الْحَقِّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ إِخْوَانِهِمْ فِي شَأْنِهِ. وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - فِعْلَ هَذَا الْإِرْكَاسِ إِلَيْهِ وَقَرَنَهُ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ كَسْبُ أُولَئِكَ الْمُرْكَسِينَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالدَّنَايَا مِنْ قَبْلُ حَتَّى فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَتُهُمْ فَأَوْغَلُوا فِي الضَّلَالِ وَبَعُدُوا عَنِ الْحَقِّ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِمْ وَلَا يَجُولُ فِي أَذْهَانِهِمْ إِلَّا الثَّبَاتُ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ وَمُقَاوَمَةُ مَا عَدَاهُ، مُقَاوَمَةً ظَاهِرَةً عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَخَفِيَّةً عِنْدَ الْعَجْزِ، هَذَا هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِمْ لِلسَّيِّئَاتِ فِي نُفُوسِهِمْ وَهُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبًا إِلَّا بِسُنَّتِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْعَامِلِينَ، أَوْ مَعْنَى أَرْكَسَهُمْ أَظْهَرَ رَكْسَهُمْ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ أَنْ تُغَيِّرُوا سُنَنَ اللهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَتَنَالُوا مِنْهَا ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مَنْ تَقْضِي سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، يَصِلُ بِسُلُوكِهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ لِلْحَقِّ سَبِيلًا وَاحِدَةً وَهِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِلْبَاطِلِ سُبُلًا كَثِيرَةً عَنْ يَمِينِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَشِمَالِهَا، كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلًا مِنْهَا بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِقِدْرِ إِيغَالِهِ فِي السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكَهَا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (6: 153) ، وَلَمَّا تَلَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ وَضَحَّ مَعْنَاهَا بِالْخُطُوطِ الْحِسِّيَّةِ فَخَطَّ فِي الْأَرْضِ خَطًّا جَعَلَهُ مِثَالًا لِسَبِيلِ اللهِ، وَخَطَّ عَلَى جَانِبَيْهِ خُطُوطًا لِسُبُلِ الشَّيْطَانِ، وَمِنَ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ الْأَقْيِسَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ أَنَّ غَايَةَ أَيُّ خَطٍّ مِنْ تِلْكَ الْخُطُوطِ لَا تَلْتَقِي بِغَايَةِ الْخَطِّ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: إِنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ هِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنْسَانُ عَقْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتَّبِعُ فِيهِ مَا يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ خَيْرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ وَكَمَالُهُ الْإِنْسَانِيُّ، عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ دَائِمًا وَيَطْلُبَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ وَالْغُرُورِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ وَأَكْمَلُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيَكُونُونَ أَتْبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ، وَيَسْلُكُونَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ السُّبُلِ وَإِنِ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمُ الِانْتِسَابَ إِلَى زَعِيمٍ وَاحِدٍ، وَشُبْهَتُهُمْ

عَلَى تَرْكِ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ أَنَّ عُقُولَهُمْ قَاصِرَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَنْ بَلَّغَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْدَرَ مِنْهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ، وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الزُّعَمَاءُ وَلَا شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الثِّقَةِ بِزُعَمَاءِ عَصْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ وَزُعَمَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَنْ قَطَعَ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَ النَّظَرِ، وَكَفَرَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ، لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، فَإِنَّ " سَبِيلًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ سَبِيلَ اللهِ وَهِيَ اتِّبَاعُ الْفِطْرَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا طُولَ حَيَاتِهِ إِذْ لَا تَجِدُ لَهُ سَبِيلًا أُخْرَى يَسْلُكُهَا فَيَهْتَدِيَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَرْجُونَ نَصْرَهُمْ لَكُمْ وَتَطْمَعُونَ فِي هِدَايَتِهِمْ لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ الْقَانِعِينَ بِكُفْرِهِمْ، الْغَافِلِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ كَكُفْرِهِمْ وَتَكُونُونَ مِثْلَهُمْ سَوَاءً، وَيُقْضَى عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَزُولُ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَنْصَارًا لِيَنْصُرُوكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَيَتَّحِدُوا بِكُمْ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَدَعُ النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عُرْضَةً لِلْخَطَرِ وَلَا يُهَاجِرُ إِلَيْهِمْ لِيَنْصُرَهُمْ إِلَّا لِلْعَجْزِ، فَتَرْكُ الْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى نِفَاقِ أُولَئِكَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمْ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُقَدِّرُ هُنَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُهَاجِرُوا، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ لُزُومًا بَيِّنًا مُطَّرِدًا ; فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إِيجَازًا، وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْمُهَاجَرَةَ هُنَا مِنْ بَابِ حَدِيثِ: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ وَهُوَ بَعِيدٌ جَدًا، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ الْكَامِلَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَيَرُدُّ مَا قَالُوهُ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْجُرُونَ مَا نَهَى الله عَنْهُ يُقْتَلُونَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَمَا سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ أَحَدًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِيمَانِ بِذَنْبِهِ، بَلْ كَانَ يَهِمُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِقَتْلِ الْمُنَافِقِ فَيَمْنَعُهُ وَإِنْ ظَهَرَ الْمُقْتَضَى لِئَلَّا يُقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْلِيلُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ يَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فِي الْوَلَاءِ فَالْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ أَظْهَرُ، فَقَدْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ فَيَفِي لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَغْدُرُونَ، وَيَسْتَقِيمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِمْ وَهُمْ يَنْكُثُونَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ تَكْرَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَفَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:

90

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (13: 20) ، وَأَكَّدَ حِفْظَ مِيثَاقِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ حَرَّمَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (8: 72) ، وَقَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَهُمْ وَأَحْكَامَ أَمْثَالِهِمْ مُفَصَّلَةً هُنَا وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عِلَّةِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَهِيَ غَدْرُهُمْ وَتَصَدِّيهِمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْعِلَّةَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَةِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَ نَهْيَهُ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ أَوْ نَصِيرٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إِلَخْ، ذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، قَالَ - كَمَا نَقَلَ عَنْهُ - الرَّازِيُّ: لَمَّا أَوْجَبَ اللهُ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ لِلْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَخَافُونَهُ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِإِمْكَانِ الْهِجْرَةِ وَاسْتَثْنَى أَيْضًا مَنْ صَارُوا إِلَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا فِيهِمْ أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ ; فَيَخَافُونَ أَنْ يَفْتِكُوا بِهِمْ إِذَا هُمْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَبْعَدَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي هَذَا إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِنَفْيِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّبِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَا لِامْتِنَانِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ عَلَيْهِمْ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - هُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ حَرْبًا لِلْمُؤْمِنِينَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَفِرُوا بِهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعُهُ أَحَدٌ، فَشَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُعَامَلَتَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الْأُسْتَاذِ فِي نِفَاقِهِمْ. وَنَقُولُ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الشِّرْكِ لَا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ نِفَاقُهُمْ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْوَلَاءِ وَالْعَهْدِ، وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ وَأَظْهَرَ نِفَاقَهُمْ وَشَدَّةَ حِرْصِهِمْ عَلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ كَفَّارًا مَثْلَهُمْ، وَأَذِنَ بِقَتْلِهِمْ أَيْنَمَا وُجِدُوا ; لِأَنَّهُمْ يَغْدُرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِلُوا وَيَنْتَهُوا إِلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُوا فِي عَهْدِهِمْ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِهِمْ، فَيُمْتَنَعُ قِتَالُهُمْ مِثْلُهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَجِيئُوا الْمُسْلِمِينَ مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَهُمْ، بَلْ يَكُونُونَ عَلَى الْحِيَادِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ، أَيْ: جَاءُوكُمْ قَدْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ فَلَا تَنْشَرِحُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا ظُهُورًا بَيِّنًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ نِفَاقَهُمْ كَانَ بِالْوَلَاءِ، فَهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ حِفْظًا لِلْعَهْدِ، وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَوْمُهُمْ، وَقَبُولُ عُذْرِ الْفَرِيقَيْنِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ

الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) ، فَيَا لِلَّهِ مَا أَعْدَلَ الْقُرْآنَ وَمَا أَكْرَمَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَفُّ عَنْ هَؤُلَاءِ مِمَّا قَدْ يَثْقُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُحَالِفِينَ وَتَكْلِيفِهِمْ قِتَالَ كُلِّ أَحَدٍ يُقَاتِلُ مُحَالِفِيهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ تَعَالَى مُخَفِّفًا ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمُؤَكِّدًا أَمْرَ مَنْعِ قِتَالِ الْمُسَالِمِينَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِكُمْ أَنْ كَفَّ عَنْكُمْ بَأْسَ هَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ لَسَلَّطَهُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَيُلْهِمَهُمْ مِنَ الْآرَاءِ مَا يُرَجِّحُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِتَوْفِيقِهِ وَنِظَامِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَسُنَنِهِ فِي الْأَفْرَادِ وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، جَعَلَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً: 1 - السَّلِيمُو الْفِطْرَةِ الْأَقْوِيَاءُ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ. 2 - الْمُتَوَسِّطُونَ، هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوا مُسَالَمَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ. 3 - الْمُوغِلُونَ فِي الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ وَالرَّاسِخُونَ فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ. وَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ الْمُسَالِمِينَ بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِهِ وَسُنَنِهِ فَلَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، أَيْ: فَإِنِ اعْتَزَلَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمُتُّونَ إِلَيْكُمْ بِإِحْدَى تَيْنِكَ الطَّرِيقَتَيْنِ فَلَمْ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ: أَعْطُوكُمْ زِمَامَ أَمْرِهِمْ فِي الْمُسَالَمَةِ، بِحَيْثُ وَثِقْتُمْ بِهَا وُثُوقَ الْمَرْءِ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ طَرِيقًا تَسْلُكُونَهَا إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَصْلَ شَرْعِهِ الَّذِي هَدَاكُمْ إِلَيْهِ أَلَّا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مَظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدُّوا أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ لَا يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ إِلَخْ، نَعَمْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِتَالَهُمْ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ ; فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ بِالْمَرَّةِ كَطَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ تَمِيمٍ وَهَوَازِنَ ; لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا صَارُوا إِلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبًا لِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُعَاهِدُوهُ عَلَى تَرْكِ

الْحَرْبِ، وَالَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ كَانُوا مُفَرِّقِينَ لِجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِ نَاثِرِينَ لِنِظَامِهِمْ، وَالرَّجُلُ الْوَاحِدُ إِذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا الْعُرَنِيُّونَ، فَفِيهِ أَنَّ قَتْلَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ لِمُخَادَعَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ رَاعِيَ الْإِبِلِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَمْثِيلُهُمْ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَا يَأْتِي فِيهِمُ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي الْآيَاتِ، وَلَكِنْ مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ؟ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: " لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ: دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوادِعَهُمُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا لَمْ تَخْشَ بِقُلُوبِ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِ خَالِدٍ فَقَالَ: " اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ " فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّاسِ كَانَ لَهُمْ مِثْلَ عَهْدِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: وَدُّوا حَتَّى بَلَغَ، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، فَكَأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ، وَعَزَا الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَعَزَا السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي اللُّبَابِ إِلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَقَصَدَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَّةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَلَّا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى صَحِيحَةُ السَّنَدِ وَضَعِيفَتُهُ، وَتُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُمُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْعَهْدِ وَالْوَلَاءِ. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَصَدُّوا إِلَى مُجَالَدَةِ أَهْلِهِ بِحَدِّ الْحُسَامِ، فَكَانُوا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ،

91

لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا سَلَامَةُ أَبْدَانِهِمْ، وَالْأَمْنُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَحَارِبَيْنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مَعَهُمْ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً فَيَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيَصْلُحُوا اهـ. وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لَهُ: " قُلْ هَذَا رَبِّي " لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: " يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ قَوْمَنَا "، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، يَقُولُ: كَمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ. وَنَزِيدُ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِالْعَهْدِ عَلَى السِّلْمِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَفْتِنُهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْإِرْكَاسُ فَيَرْتَكِسُونَ أَيْ: فَيَتَحَوَّلُونَ شَرَّ التَّحَوُّلِ مَعَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ وَالِارْتِكَاسِ مَرَّةً بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَيْ فَهُمْ قَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بِتَرْكِكُمْ وَشَأْنِكُمْ وَالْتِزَامِهِمُ الْحِيَادَ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ زِمَامَ الْمُسَالِمَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَثِقُونَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ زِمَامَهَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَنِ الدَّسَائِسِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِهِ غَدْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، إِذْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكُمْ جَعَلَنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: جَعَلَنَا لَكُمْ حُجَّةً وَاضِحَةً وَبُرْهَانًا ظَاهِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الْحُجَّةُ، وَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَنِ اعْتَزَلُوا وَأَلْقَوْا السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ تُؤَيَّدُ بِالْأُخْرَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِتَالِ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِي كُلِّ حَالٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

92

لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ (60: 8) ، وَقَوْلُهُ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) ، فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِمُقَابِلِ الْأَكْثَرِينَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِي الْآيَاتِ نَسْخًا، وَلَا يَظْهَرُ النَّسْخُ فِيهَا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، فَمَا وَجْهُ الْحِرْصِ عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؟ وَيَأْتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ أَنَّ " الْفَاءَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَكُونُونَ سَوَاءً لِلْعَطْفِ لَا لِلْجَوَابِ، كَقَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (68: 9) ، وَقَوْلُهُ: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ وَالتَّقْدِيرُ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَقُرِئَ فِي الشُّذُوذِ " حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ " وَعِنْدِي أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِالْحَالِ لَا قِرَاءَةً. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ " إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ " بِصِلَةِ النَّسَبِ وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُمْ بِنَسَبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْتَنِعْ قِتَالُهُمْ، بَلْ كَانَ أَشَدُّ الْقِتَالِ مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ قِتَالُ مَنِ اتَّصَلَ بِالْمُعَاهِدِينَ بِالنَّسَبِ؟ وَيُرِيدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَغْلَقَهُ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ سَرَى سُمُّهُ حَتَّى إِلَى بَعْضِ مَنْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ فَجَعَلَهُ بُشْرَى لِمَنْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهِ. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - أَحْكَامَ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ مُخَادَعَةً وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعِينُونَ أَهْلَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يُعَاهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السِّلْمِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ يَغْدُرُونَ وَيَكُونُونَ عَوْنًا لِأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَاهِدٍ وَذِمِّيٍّ وَمَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّفْيِ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا مِنْ خُلُقِهِ وَعَمِلِهِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْحَاكِمُ عَلَى إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفَةُ لِعَمَلِهِ - هُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَنْ يَجْتَرِحَهُ عَمْدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ خَطَأً فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَلَا وُجِدَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا خَطَأً، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، بِأَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا مُحَارِبًا، وَالْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ - غَيْرُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ - مَنْ إِذَا لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلَكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِكَ، أَوْ أَرَادَ رَمْيَ صَيْدٍ أَوْ غَرَضٍ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنَ، أَوْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ عَادَةً كَالصَّفْعِ بِالْيَدِ أَوِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَمَاتَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ قَتْلَهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَعَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ عَلَى عَدَمِ تَثَبُّتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ عِتْقُ رَقَبَةِ نَسْمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الرِّقِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْدَمَ نَفْسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ كَفَّارَتُهُ أَنْ يُوجِدَ نَفْسًا، وَالْعِتْقُ كَالْإِيجَادِ، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَالْعَدَمِ، عُبِّرَ بِالرَّقَبَةِ عَنِ الذَّاتِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَحْنِي رَقَبَتَهُ دَائِمًا لِمَوْلَاهُ، كُلَّمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، أَوْ يَكُونُ مُسَخَّرًا لَهُ كَالثَّوْرِ الَّذِي يُوضَعُ النِّيرُ عَلَى رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ الْحَرْثِ، وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَشَلِّ وَلَا الْمُقْعَدِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ مُسَخَّرَيْنِ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ الشَّدِيدَ فِي الْخِدْمَةِ الَّذِي يُحِبُّ الشَّارِعُ إِبْطَالَهُ وَتَكْرِيمَ الْبَشَرِ بِتَرْكِهِ، وَمَثْلَهُمَا الْأَعْمَى وَالْمَجْنُونُ الَّذِي قَلَّمَا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ وَقَلَّمَا يَشْعُرُ بِذُلِّ الرِّقِّ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَعْرَجِ الشَّدِيدِ الْعَرَجِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ كَالْأَعْوَرِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْحُرُّ الْعَتِيقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَرِيمُ الطِّبَاعِ، وَيَقُولُونَ: الْكَرَمُ فِي الْأَحْرَارِ وَاللُّؤْمُ فِي الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ لُؤَمَاءَ لِأَنَّهُمْ يُسَاسُونَ بِالظُّلْمِ، وَيُسَامُونَ الذُّلَّ، وَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْعَبْدِ حُرًّا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الْمُؤْمِنَةِ هُنَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَفُقَهَائِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُسْلِمُ دُونَ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمُنَاسِبُ لِزَمَنِهِمُ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَرِقَّاءُ النَّاشِئُونَ فِي الْإِسْلَامِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ

مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُعَذِّبُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَارِثُ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَهُ عِيَاشٌ بِالْحَرَّةِ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَرَأَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ لَهُ: " قُمْ فَحَرِّرْ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَتَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي سَرِيَّةٍ حَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَضَرَبَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ وَعَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَعَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ دِيَةٌ يَدْفَعُهَا إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ، فَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللهِ، وَالدِّيَةُ مَا يُعْطَى إِلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ أَوْ عَنْ حَقِّهِمْ فِيهِ، وَهِيَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَتِيلَ يَدِيَهُ وَدْيًا وَدِيَةً - كَعِدَةٍ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَزْنِ - وَيُعَرِّفُهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا، وَقَدْ أَطْلَقَ الْكِتَابُ الدِّيَةَ وَذَكَرَهَا نَكِرَةً فَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهَا مَا يُرْضِي أَهْلَ الْمَقْتُولِ وَهُمْ وَرَثَتُهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ وَحَدَّدَتْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا مَقْبُولًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ الْمَعْصُومِ - أَيِ الْمَعْصُومِ دَمُهُ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُ إِهْدَارَهُ - مِائَةُ بَعِيرٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي السِّنِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِبِلِ إِلَى قِيمَتِهَا، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْوَاعِهَا فِي السِّنِّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الدَّافِعِ وَالْمُسْتَحِقِّ، وَإِذَا فُقِدَتْ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ - وَمَثْلُهَا الْخُنْثَى - نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَفُوتُ أَهْلَ الرَّجُلِ بِفَقْدِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَفُوتُ بِفَقْدِ الْأُنْثَى فَقُدِّرَتْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: " أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ - إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوَدِ الْأَعْضَاءِ - وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِهَا الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِهِمْ، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ الدِّيَةَ مِنَ الذَّهَبِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالنَّقْدِ كَأَهْلِ الْمُدُنِ تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا قِيمَةَ لِلْإِبِلِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِبَحْثِ الدِّيَةِ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ، وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَمَوْصُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، وَاخْتَلَفَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَالِاعْتِبَاطُ: الْقَتْلُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، مَنِ اعْتَبَطَ النَّاقَةَ إِذَا ذَبَحَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَالْقَوَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْقِصَاصُ ; أَيْ: يُقْتَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، مَعْنَاهُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لِأَهْلِ الْمَقْتُولِ، أَلَّا أَنْ يَعْفُوا عَنْهَا وَيُسْقِطُوهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فَلَا تَجِبُ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا فُرِضَتْ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَعْوِيضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ وَإِرْضَاءً لِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا تَقَعَ

الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِالْعَفْوِ عَنْهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَانْتَفَى الْمَحْذُورُ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ أَصْحَابَ فَضْلٍ، وَيَرَى الْقَاتِلُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ لَا يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ حَمْلُهُ، كَمَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا حَمْلُ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّصَدُّقِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَعْدَائِكُمْ وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ مُؤْمِنٌ كَالْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ يُحَارِبُونَهُمْ، وَقَدْ آمَنَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ عَيَّاشٌ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مُهَاجِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَمَثْلُهُ كُلُّ مَنْ آمَنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ إِذَا قُتِلَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُحَارِبُونَ، فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ لَكُمْ عَلَى السِّلْمِ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تُقَاتِلُونَهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ الدُّوَلُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كُلُّهُمْ مُعَاهِدُونَ قَدْ أَعْطَى كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ مِيثَاقًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَحُقُوقِ الدُّوَلِ وَمَثْلُهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُمُومِ الْمِيثَاقِ أَوْ بِقِيَاسِ الْأُولَى فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ فَالْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ وَالذِّمِّيِّ هُوَ كَالْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ: دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ تَكُونُ عِوَضًا فِي حَقِّهِمْ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَفَّارَةٌ عَنْ حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي حَرَّمَ قَتْلَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ، كَمَا حَرَّمَ قَتْلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ نَكَّرَ الدِّيَةَ هُنَا كَمَا نَكَّرَهَا هُنَاكَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ كُلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي، وَأَنَّ لِلْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ فِي عَقْدِ الْمِيثَاقِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَكُونُ دِيَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ أَجْدَرُ بِالتَّرَاضِي وَأَقْطَعُ لِعِرْقِ النِّزَاعِ، وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الدِّيَةِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ حَقَّ اللهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَدَّمٌ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى هُنَالِكَ فِي أَمْرِ الدِّيَةِ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوَ وَالسَّمَاحَ، وَاللهُ يُرَغِّبُهُمْ فِيمَا يَلِيقُ بِكَرَامَتِهِمْ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ هُنَا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعَاهِدِينَ الْمُشَاحَّةَ وَالتَّشْدِيدَ فِي حُقُوقِهِمْ، وَلَيْسُوا مُذْعِنِينَ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ فَيُرَغِّبُهُمْ كِتَابُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَثَمَّ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ فِي سَمَاحِ الْمُعَاهِدِ لِلْمُؤْمِنِ بِالدِّيَةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِزَّةِ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابُ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ نَظْمِ الْكَلَامِ

وَتَأْلِيفِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَعْطُوفَ الَّذِي لَهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَمَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَكْثَرُ عَلَى مَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَقَلُّ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِتَأْخِيرِ ذِكْرِ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِذْ تَعَلَّقَ بِهَا الْوَصْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هُنَا فِي الدِّيَةِ " مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ "، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُوَصِّلَ الْهَدِيَّةَ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ أَلْبَتَّةَ وَهُمْ فِي غَيْرِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا لِطَلَبِهِ وَأَخْذِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ أَنْ تُعْطَى إِلَى رُؤَسَاءِ قَوْمِ الْمَقْتُولِ وَحُكَّامِهِمُ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ عَقْدَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، أَوْ إِلَى مَنْ يُنِيبُونَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَوَسَّعَ اللهُ فِي ذَلِكَ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ وَالْقُيُودِ وَنُكَتِهَا وَلَمْ أَرَ مِنْ بَيْنِهَا. هَذَا هُوَ الَّذِي تُعْطِيهِ الْآيَةُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا - وَنَاهِيكَ بِهِ عَدْلًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِيهِ، فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي لَفْظٍ: " قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الدِّيَةُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ دَارِ أَهْلِ الْمَقْتُولِ، وَلَفْظُ الْكَافِرِ فِي الْحَدِيثِ عَامٌ يَشْمَلُ الْكِتَابِيَّ وَغَيْرَهُ، وَرِوَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِهِ وَلَا لِتَقْيِيدِهِ فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: وَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ - الْفِضَّةِ - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا - أَيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ - وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرَةِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: " كَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَالْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ "، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْأَرْبَعَةُ الْآلَافٍ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثُلْثُهَا بِحَسَبِ تَعْدِيلِ عُمَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثُلْثَا عَشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَاحْتَجُّوا

بِأَثَرِ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا وَجَدْنَا لَهُ مَخْرَجًا إِلَّا فَهْمَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ حَتْمًا، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الدِّيَةِ اجْتِهَادِيٌّ وَمَدَارَهُ عَلَى التَّرَاضِي كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ ظَاهِرِ عِبَارَة الْآيَة. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ دِيَتَهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ إِنْ قُتِلَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَنَصْفُ دِيَّتِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمُسَاوَاةِ بِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الْمِيثَاقِ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَنُوزِعُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلُهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيُّ، وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَمْرٌو - بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ "، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَفِيِ زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَعْطَى أَهْلَ الْمَقْتُولِ النِّصْفَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالنِّصْفِ وَأَلْغَى مَا كَانَ جَعَلَ مُعَاوِيَةُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ وَهُوَ سَعِيدٌ الْمَرْزُبَانُ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ وَمَرَاسِيلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا ; لِأَنَّهُ - لِسِعَةِ حِفْظِهِ - لَا يُرْسِلُ إِلَّا لِعِلَّةٍ، عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الْمُعَاهِدِ، وَحَقُّ الذِّمِّيِّ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُعَاهِدِ لِخُضُوعِهِ لِأَحْكَامِنَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ أَمْرَ الدِّيَةِ مَنُوطٌ بِالْعُرْفِ وَبِالتَّرَاضِي، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي الْعَمَلِ كَانَ لِأَجْلِ هَذَا. هَذَا، وَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الدِّيَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ نَقْدًا، وَهُمْ عُصْبَتُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ - وَتُسَمَّى الْعَاقِلَةُ - الْآنَ - الْعَائِلَةَ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْعَامَّةِ - وَإِنَّمَا جَعَلَتِ السُّنَّةُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْقَاتِلِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ قَدْ يَتَكَرَّرُ فَيَذْهَبُ بِمَالِ الرَّجُلِ كُلِّهِ وَلِأَجْلِ تَقْرِيرِ التَّضَامُنِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ، وَإِذَا عَجَزَتِ الْعَاقِلَةُ مِنْ عُصْبَةِ النَّسَبِ ثُمَّ السَّبَبِ عَنْ دَفْعِهَا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، الرَّقَبَةَ الَّتِي يَعْتِقُهَا كَأَنِ انْقَطَعَ الرَّقِيقُ كَمَا هُوَ مَقْصِدُ الْإِسْلَامِ، - وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ - أَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا بِهِ مِنْ مَالِكِهَا لِيُحَرِّرَهَا مِنْ رِقِّهِ - وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَيْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ قَمَرِيَّيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِهِمَا إِفْطَارٌ فِي النَّهَارِ، فَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ اسْتَأْنَفَ وَكَانَ مَا صَامَهُ قَبْلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ إِطْعَامُ مِسْكِينًا كَمَا فَرَضَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقِيسُ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ

عَلَى تِلْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقِيسُ كَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ هَذَا فُرِضَ قَبْلَ ذَاكَ، فَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ نَزَلَ فِي عَهْدِهِمْ أَنَّ لِلصِّيَامِ بَدَلًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ وَهُوَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. تَوْبَةً مِنَ اللهِ، أَيْ شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مَا ذَكَرَ تَوْبَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ فَهُوَ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِتَتُوبُوا وَتَطْهُرَ نُفُوسُكُمْ مِنَ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ التَّحَرِّي الَّتِي تَفْضِي إِلَى قَتْلِ الْخَطَأِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ: عَلِيمًا بِأَحْوَالِ نُفُوسِكُمْ وَمَا يُصْلِحُهَا مِنَ التَّأْدِيبِ، حَكِيمًا فِيمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيَهْدِيكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُ فِيهِ صَلُحَتْ نُفُوسُكُمْ وَتَزَكَّتْ وَصَارَتْ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِرُوحِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لَا لِأَحْكَامِهَا وَمَدْلُولُ أَلْفَاظِهَا، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِشَرْحِ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ فِيهِ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ وَرَدَ مَا وَرَدَ فِي الْمُذَبْذَبِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللهُ بِقَتْلِهِمْ، إِلَّا مَنِ اسْتُثْنَى لِلتَّنَاسُبِ، وَتَتْمِيمِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ، فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَلَّا يَقْتُلَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَانِعٌ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ وَيَكْمُلُ إِذَا كَانَ يَشْعُرُ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ وَحُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، وَمِنْ حُدُودِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً لِمَا فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الْقَتْلِ، فَالْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ يَشْعُرُ بِهَذَا الْحَقِّ وَهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَخَلَّ بِحُقُوقِ الدِّمَاءِ فَقَدِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ، وَمَنِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْتَرِمْ أَكْبَرَ حُقُوقِهَا، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَطَرِ فَأَمْرُهُ مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ بِاعْتِدَائِهِ عَلَى مُؤْمِنٍ قَدْ هَدَمَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَحِزْبِهِ، وَذَلِكَ آيَةُ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَقِوَامِهِ، وَالْمُؤْمِنُ غَيُورٌ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (5: 32) . ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ كَأَمْرِ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنَ التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَمِثْلُ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْأَمْرِ النِّسْيَانُ، وَلَوْلَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُعَاقِبَ اللهُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَمَرَنَا - تَعَالَى - بِالدُّعَاءِ بِأَلَّا يُؤَاخِذَنَا عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (2: 286) ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ رَفَعَ عَنَّا الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ آدَمَ نَسِيَ وَمَعَ ذَلِكَ سُمِّيَتْ مُخَالَفَتُهُ مَعْصِيَةً وَعُوقِبَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ

93

وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ وَلَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّ عِقَابَ قَتْلِ الْخَطَأِ لَيْسَ هُوَ عِقَابُ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَهُوَ " النَّفْسُ بِالنَّفْسِ "، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا نَفْعَلُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ إِذَا نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَيُرْجَى أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ دُعَاءَنَا. أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَرَدَ هَكَذَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، وَلَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ: وَضَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثًا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْأَمْرُ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ وَثَّقُوا رُوَاتَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - حُكْمَ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ تَعَمُّدًا بِمَا يُوَافِقُ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ مُؤْمِنٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَفَّارَةً بَلْ جَعَلَ عِقَابَهُ أَشَدَّ عِقَابٍ تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَمِنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا فَرْعٌ عَنْ كَوْنِ الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْإِيمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي عِقَابِ الْقَتْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (4: 48) ، نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَهُ وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَشَاءُ، فِيهِ مَعَ تَغْلِيظِ أَمْرِ الشِّرْكِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُخَصِّصَ أَحَدًا بِالْمَغْفِرَةِ فَلَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا، فَآيَةُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، نَزَلَتْ تَرْغِيبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (8: 38) ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَقَالُوا: إِنَّ آيَةَ الْفَرْقَانِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّوْبَةُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِدَّةِ أَعْمَالٍ مِنْهَا الْقَتْلُ وَمِنْهَا الشِّرْكُ، أَقُولُ: وَيَعْنِي بِآيَةِ الْفَرْقَانِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (25: 70) ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ. (قَالَ) : وَقَدْ يُقَالُ: كَيْفَ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْمُشْرِكِ الْقَاتِلِ الزَّانِي، وَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي ارْتَكَبَ الْقَتْلَ وَحْدَهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ - مِنَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ - بِأَنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي تُحَرِّمُ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لَهُ صِدْقُ النُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ تَابَ وَأَنَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعَفْوِ وَإِنْ كَانَ فِي إِجْرَامِهِ السَّابِقِ مُقَصِّرًا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُوقِنُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَتَحْرِيمِ اللهِ لِلْقَتْلِ

وَجَعْلِهِ قَاتِلَ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ كَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا فَلَا عُذْرَ لَهُ، بَلْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يُرَجِّحَ هَوَاهُ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الشَّكِّ الِاضْطِرَارِيِّ مَا يَكُونُ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُؤَمِنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يُعَاقَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَخْلُدَ فِي النَّارِ، وَإِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَآمَنَ وَاهْتَدَى يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلًا مُرَتَّبًا عَلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَانَ خَطَأً مِنْهُ فَأَشْبَهَ قَتَلَهُ قَتْلَ الْخَطَأِ، وَمَثْلَهُ مَنْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِهِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فِيهِ، فَمَعْصِيَتُهُ لَمْ تَكُنْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ وَلَا دَلِيلًا عَلَى إِيثَارِهِ لِهَوَاهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ. أَمَّا الْقَاتِلُ الْمُؤْمِنُ فَأَمْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِيمَانُ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَخٌ لَهُ وَنَصِيرٌ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَعْمَدُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَحَلِّ مَا عَقَدَهُ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ دِينِهِ بِهَدْمِ أَرْكَانِ قُوَّتِهِ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَهِنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَضْعُفُوا وَيَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا؟ لَا جَرَمَ أَنَّ عِقَابَهُ يَكُونُ شَدِيدًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَمِنْ نَظَرَ إِلَى انْحِلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى سَفْكِ دَمِ بَعْضٍ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ هَذَا، وَأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُعْذَرُ بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَهُوَ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِ اللهِ، إِذْ لَا رَائِحَةَ لِلْعُذْرِ فِي عَمَلِهِ بَلْ هُوَ مُرَجِّحٌ لِلْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ عَلَى أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْ فَضَّلَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةَ الضَّارَّةَ عَلَى نَظَرِ اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مَا فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (3: 135) ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: يَعْلَمُونَ، وَلَوْ سَمَحَ اللهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ شَهْوَتَهُ أَوْ حَمِيَّتَهُ وَغَضَبَهُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَوَعَدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ وَلَا لِلشَّرْعِ حُرْمَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَثِيرَةٌ تُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ. هَذَا مَا عِنْدَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ مَا يُبَيَّنُ بِهِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَدِّدُونَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: " هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ غَلِيظٌ، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللهِ

فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ وَآخَرُ رَضِيَ بِالْمَغْرِبِ لَأُشْرِكَ فِي دَمِهِ، وَفِيهِ إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ، وَفِيهِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَنْعِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدْعُهُمْ أَشْعَبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ وَمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ، أَنْ يَطْمَعُوا فِي الْعَفْوِ عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (47: 24) ، اهـ. أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَكْبَرَ الْجُمْهُورُ خُلُودَ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِطُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُكْثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إِنْ جَازَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ يَعْفُو عَنْهُ فَلَا يُجَازِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ جَزَاءٍ أَنْ يَقَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَذِبِ الْوَعِيدِ كَالْوَعْدِ، وَأَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّجَاوُزَ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَسْبَابٍ يَعْلَمُهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ تَفَصٍّ مِنْ خُلُودِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ فِي النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَقَلِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِحْلَالِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، مُسْتَحِلًّا لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا إِلَخْ، وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَيْدُ، وَلَوْ أَرَادَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهَذَا أَضْعَفُ التَّأْوِيلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَلَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " مِنَ الشَّرْطَيَّةِ " جَاءَ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَقُلْ: " وَمَنْ قَتَلَ "، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ حَتْمٌ إِلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ هَذَا الْجَزَاءِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِخُلُودِ غَيْرِ التَّائِبِ الْمَقْبُولِ التَّوْبَةِ فِي النَّارِ، وَلَعَلَّ أَظْهَرَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْخُلُودِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ دَوَامًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَوْنُ حَيَاةِ الْآخِرَةِ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَحْدَهُ بَلْ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى. إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ شَيْخِنَا وَعِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَنْ

مُجَاهِدٍ وَهُوَ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، مِنْهَا رِوَايَةُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَقُولُ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قِبَلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ " وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَهَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَمَا جَاءَ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَلَا نَزَلْ كُتُبٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي النِّسَاءِ وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالَّتِي فِي الْفُرْقَانِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، إِلَى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (25: 68، 69) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلِمَ شَرَائِعَهُ وَأَمْرَهُ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَلَا تَوْبَةَ لَهُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللهِ، أَيْ: أَشْرَكْنَا - وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ: إِلَّا مَنْ تَابَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْفَرْقَانِ بِسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِثَمَانِي سِنِينَ وَهَذِهِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ سُورَةَ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا، وَسُورَةَ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَ أَكْثَرُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَمَا تَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً، وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُشْرِكِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْقُولٌ مَنْ وَجْهٍ وَغَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي حِكْمَةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَابِعٌ لِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَوْ تَدْسِيَتِهَا. نَعَمْ، إِنَّ إِقْدَامَ الْمَرْءِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةَ مَا عَظَّمَ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَمَا شَدَّدَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْقَتْلِ، يَكَادُ يَكُونُ رِدَّةً عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ

لَا يَزِنِّي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - فَإِنَّ الْقَتْلَ أَكْبَرُ إِثْمًا وَأَشَدُّ جُرْمًا مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِفَاعِلِهِ شُبْهَةُ عُذْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ قَدْ صَارَتْ بِالْقَتْلِ شَرَّ النُّفُوسِ وَأَشَدَّهَا رِجْسًا، وَأَبْعَدَهَا عَنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ صَلَاحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَا مُتَعَسِّرٌ. أَمَّا شُبْهَةُ الْعُذْرِ أَوْ شَبَهُهُ فَقَدْ يَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ حَدِيدَ الْمِزَاجِ، إِذَا رَأَى مِنْ خَصْمِهِ مَا يُثِيرُ غَضَبَهُ وَيُنْسِيهِ رَبَّهُ، فَقَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَمْلِكُ فِيهِ نَفْسَهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَمْدِ أَوِ التَّعَمُّدِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَمْدِ لِمَا فِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّرَبُّصِ أَوِ التَّرَوِّي فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ لَا يُسَمَّى عَمْدًا بَلْ شِبْهَ عَمْدٍ كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَإِنَّمَا الْعَمْدُ مَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ بِقَتْلٍ كَبُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِآلَاتِهِ الْجَدِيدَةِ كَالْبُنْدُقِيَّةِ وَالْمُسَدَّسِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ الرَّصَاصَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُصِيبَهُ فَيُصِيبُهُ بِدُونَ قَصْدٍ، وَلَفْظُ التَّعَمُّدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا آنِفًا. وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَصْلُحُ نَفْسُهُ وَتَتَزَكَّى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَلَا نَعْرِفُ نَفْسًا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصَّلَاحِ، إِلَّا نَفْسَ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَرَانَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَكْسِبُ مِنَ الْأَوْزَارِ، بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّكْرَارِ، إِذْ يَأْلَفُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَيَأْنَسُ بِهِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ نَفْسُهُ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ بِكَرَاهَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَقْتِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَتُوبُ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ. فَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ فَأَدْرَكَ عَقِبَهَا أَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبَاءَ بِغَضَبِهِ، وَتَهَوَّكَ فِي عَذَابِهِ الْعَظِيمِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ ذَنْبُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَنَدِمَ أَشُدَّ النَّدَمِ فَأَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ، وَوَاظَبَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَمَاتُ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ وَلَا شَكَّ فِي مَحَلِّ الرَّجَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يُخَلِّدَ مِثْلَهُ فِي النَّارِ. نَعَمْ إِنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ مَنْ يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَزُعَمَاءَ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مِنْ قَوَانِينِ جَمْعِيَّاتِهِمُ اغْتِيَالَ مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَكُبَرَاءَ اللُّصُوصِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِمَالِهِ، كُلَّ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، الَّذِينَ يَقْتُلُونَ

94

مَعَ التَّعَمُّدِ وَسَبْقِ الْإِصْرَارِ، جَدِيرُونَ بِأَنْ يَنَالُوا الْجَزَاءَ الَّذِي تَوَعَّدَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعَدُّونَ فِي كُتُبِ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَدَفَاتِرِ الْإِحْصَاءِ وَسِجِلَّاتِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِصِدْقِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ عَلَى الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي عَمَلٍ، وَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ عَلَى ذَنْبٍ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ التَّوْبَةَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ، إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ عَوَامَّ اللُّصُوصِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَكْذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ، الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِّيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ غَدًا؟ وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَمَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ

الْمَقْتُولِ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكَ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَاسْمُ الْقَاتِلِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ اسْمَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ، وَأَنَّ قَوْمَ مِرْدَاسٍ لَمَّا انْهَزَمُوا بَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ وَكَانَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ بِجَبَلٍ فَلَمَّا لَحِقُوهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ وَعَبْدٍ كَذَا - وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ - مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِرْدَاسٍ وَهُوَ شَاهِدٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ جُزْءِ ابْنِ الْحَدْرَجَانِ قَالَ: وَفَدَ أَخِي قَدَادٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَتْهُ سَرِيَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَقَتَلُوهُ فَبَلَغَنِي ذَلِكَ فَخَرَجَتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلْتُ. . . فَأَعْطَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ أَخِي، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَحَدِيثُ جُزْءٍ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ بِزِيَادَةِ تَفْصِيلٍ، وَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِ كُلِّ وَقْعَةٍ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِهَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّلَمَ وَيَعْتَزِلُونَ قِتَالَهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ، وَبَعْدَ هَذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ قَتْلِ الْخَطَأِ كَانَ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ عِنْدَ السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ قَدِ انْتَشَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَكَانٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ يَخْلُو مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَمِيلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِلِاتِّصَالِ بِأَهْلِهِ لِلدُّخُولِ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَأَمْرَهُمْ أَلَّا يَحْسَبُوا كُلَّ مَنْ يَجِدُونَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَنْ يَتَبَيَّنُوا فِيمَنْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ كَالشَّهَادَةِ أَوِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِئْمَانِ، وَأَلَّا يَحْمِلُوا مِثْلَ هَذَا عَلَى الْمُخَادَعَةِ إِذْ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ قَدْ طَافَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَأَلَمَّ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ فِيهَا، وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ قَتْلِ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ لِشُبْهَةِ التَّقِيَّةِ قَدْ مَضَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ بِإِنْزَالِهَا أَنْ يُعَدَّ مَا يَقَعُ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهَا مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ وَنَهَى عَنِ إِنْكَارِ إِسْلَامِ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِإِلْقَاءِ تَحِيَّتِهٍ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقَوِّيَ الشُّبْهَةَ فِي نَفْسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ التَّقِيَّةِ وَهُوَ ابْتِغَاءُ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهَدَى

الْمُؤْمِنَ بِهَذَا إِلَى أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ وَيُفَتِّشَ عَنْ قَلْبِهِ وَلَا يَبْنِيَ الظَّنَّ عَلَى مَيْلِهِ وَهَوَاهُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَقْبَلَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهُ اهـ. أَقُولُ: وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَامِ قَدْ يَكُونُ إِلْقَاءً لِلسِّلْمِ وَإِيذَانًا بِعَدَمِ الْحَرْبِ، وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ " السَّلَمَ " كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ الْقِتَالَ وَيَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ وَيُلْقُونَ السَّلَمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَتْلِ ; إِذْ لَيْسَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ، وَمَا كَانَ الْقِتَالُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا دِفَاعًا، حَتَّى فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الْمُهَاجِمَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا مُهَاجَمَةُ قَوْمٍ حَرْبٍ يُدْعَوْنَ إِلَى السِّلْمِ فَلَا يُجِيبُونَ، وَمَا رَضُوا بِالسِّلْمِ مَرَّةَ وَأَبَاهَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي ثَقُلَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يَأْبَاهَا وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (8: 61) ، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى هَذَا فَاشْتَرَطَ فِيمَنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ أَنْ يَكُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهَا نَعْتَمِدُ فِي جُلِّ تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ وَصَدَقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذَا سِرْتُمْ مَسِيرًا لِلَّهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ فَتَبَيَّنُوا، يَقُولُ: فَتَأَنُّوا فِي قَتْلِ مَنْ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ فَلَمْ تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ وَلَا كُفْرِهِ، وَلَا تُعَجِّلُوا فَتَقْتُلُوا مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى قَتْلِ مَنْ عَلِمْتُمُوهُ يَقِينًا حَرْبًا لَكُمْ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، يَقُولُ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنِ اسْتَسْلَمَ لَكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ مُظْهِرًا لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِكُمْ وَدَعْوَتِكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَتَقْتُلُوهُ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: طَلَبًا لِمَتَاعِهَا الَّذِي هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَمَا أَذِنَ اللهُ لَكُمْ فِي قِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ لِتَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي أَطْمَاعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، مِنْ رِزْقِهِ وَفَوَاضِلِ نِعَمِهِ، هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ذَكَرْنَاهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَسْتَ مُؤْمِنًا إِلَخْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ مَا وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " فَتَثَبَّتُوا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ التَّأَنِّي وَاجْتِنَابِ الْعَجَلَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " السَّلَمَ " بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُوَ كَالسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْبَاقِينَ " السَّلَامُ " بِالسِّلْمِ وَهُوَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبُهَا بِالْأَرْجُلِ فِي السَّفَرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْتَخْفُونَ بِدِينِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى بِدِينِهِ مِنْ قَوْمِهُ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ فَقَتَلْتُمُوهُ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِكُمْ، أَيْ: فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُخْفِي الْإِسْلَامَ بَيْنَهُمْ إِلَّا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَهُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْفُونَ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَحَمَلَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ، ثُمَّ كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَسْلَمَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِالْهِجْرَةِ وَالْقُوَّةِ حَتَّى أَظْهَرْتُمُ الْإِسْلَامَ وَنَصَرْتُمُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ كُفَّارًا مِثْلَ مَنْ قَتَلْتُمْ بِتُهْمَةِ الْكُفْرِ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ لِظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَقِيَّةً أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ عِنْدَمَا خَبِرَ الْإِسْلَامَ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى " مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ": أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الَّتِي كُنْتُمْ مِثْلَهُ فِيهَا فَتَبَيَّنُوا، أَيْ: اطْلُبُوا الْبَيَانَ أَوْ كُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخُذُوا بِالظَّنِّ وَلَا بِالظِّنَّةِ (التُّهْمَةِ) ، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بَعْدُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ، وَمِنَ الْمُرَجَّحِ لَهُ هَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَمِ ابْتِغَاءُ الْغَنِيمَةِ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ التَّنْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَجْلِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَعِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حُكْمٌ جَدِيدٌ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ يُعَدُّ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي نُفُوسِكُمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ابْتِغَاءُ حَظِّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَغْفُلُوا، بَلْ تَثَبَّتُوا وَتَبَيَّنُوا، وَحُكْمُ الْآيَةِ يُعْمَلُ بِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعَدُّ مُسْلِمًا وَلَا يُبْحَثُ عَنِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ. أَقُولُ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حِرْصِ مَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَلَا فِي عَمَلِهِمْ بِأَحْكَامِهِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ.

95

أَقُولُ هَذَا وَإِنَّ الْجَاهِلِينَ بِتَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا مَلُومِينَ فِي أَخْذِ الْغَنَائِمِ مِمَّنْ يَظْفَرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّ بَعْضَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ صَارَتْ أَرْقَى فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوَانِينَهَا فِي الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى النَّزَاهَةِ وَالْعَدْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَكَيْفَ هَذَا وَقَوَانِينُ الدُّوَلِ الْمُرْتَقِيَةِ كُلِّهَا تُبِيحُ أَخْذَ كُلِّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُحَارِبِينَ؟ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلَامٌ وَلَا دِينٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ قَتْلَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ يُلْقِي السَّلَمَ أَوِ السَّلَامَ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ إِمَّا عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَمَنِ اتَّصَلَ بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ الْمُعَاهِدِينَ، وَمَنِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ فَلَمْ يُسَاعِدْ فِيهِ قَوْمَهُ الْمُقَاتِلِينَ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رَغِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالْقِتَالِ ; لِيَكُونَ لِمَحْضِ رَفْعِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا هَمَّ لِجَمِيعِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ الْآنَ إِلَّا الرِّبْحَ وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مَعَ الضُّعَفَاءِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ حِفْظَ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ مَا شَدَّدَ الْإِسْلَامُ فِي حِفْظِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَهْدِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَيْنَ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ! ؟ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ بِمَا يُرَغِّبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيُنَشِّطُ عَلَيْهَا، وَيُحَفِّزُ الْهِمَمَ إِلَيْهَا، وَيُنَفِّرُ مِنَ الْقُعُودِ عَنْهَا، وَالتَّكَاسُلِ وَالتَّوَاكُلِ فِيهَا، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَاءَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ بَيْنَ آيَاتِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، فَهُمَا مُتَّصِلَتَانِ بِهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ.

قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَأْيِيدِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَصَدِّ غَارَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، الْعَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْقَاعِدُونَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ بُخْلًا بِهَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا، وَبِأَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ عَلَى التَّعَبِ وَرُكُوبِ الصِّعَابِ فِي الْقِتَالِ، مُسَاوِينَ لِلْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ; لِأَجْلِ مَنْعِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ; لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَحْمُونَ أُمَّتَهُمْ وَبِلَادَهُمْ، وَالْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ حَذْرَهُمْ، وَلَا يُعِدُّونَ لِلدِّفَاعِ عُدَّتَهُمْ، يَكُونُونَ عُرْضَةً لِفَتْكِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) ، بِغَلَبَةِ أَهْلِ الطَّاغُوتِ عَلَيْهَا، وَظُلْمِهِمْ لِأَهْلِهَا، وَإِهْلَاكِهِمْ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِيهَا. فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هَذَا بَيَانٌ لِمَفْهُومِ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَةً، وَهِيَ دَرَجَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى، أَيْ: وَوَعَدَ اللهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَجْزًا مِنْهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَقَامُوا بِهِ، فَإِنَّ إِيمَانَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَإِخْلَاصَهُ وَاحِدٌ، وَقَدَّمَ مَفْعُولَ وَعَدَ، الْأَوَّلَ وَهُوَ لَفْظُ كُلًّا، لِإِفَادَةِ حَصْرِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، الْمُتَفَاضِلَيْنِ فِي الْعَمَلِ، لِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَعَجْزِ الْآخَرِ، وَفَسَّرَ قَتَادَةَ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ. وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقَاعِدِينَ، مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: دَرَجَاتٌ مِنْهُ وَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِيهَا مِنْ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (17: 21) ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَرَجَاتِ الدُّنْيَا فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، لَا فِي الرِّزْقِ وَعَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدَّرَجَاتِ هُنَا عَلَى مَا يَكُونُ لِلْمُجَاهِدِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْجِهَادِ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقِتَالُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ اهـ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادَ هُنَا عِدَّةَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ

96

الشَّاقَّةِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الدَّرَجَاتُ هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " التَّوْبَةِ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (9: 120) ، يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ السَّبْعَةَ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُجَاهِدُونَ هِيَ الدَّرَجَاتُ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -، وَمَجْمُوعُهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْأَجْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهِيَ مُرْتَبَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَفْضُلُ الْمُجَاهِدُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ، وَأَهَمُّهُ مَصْدَرُهُ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَإِيثَارُ رِضَاهُ عَلَى الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَتَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِذُنُوبِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْحِسَابِ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي قَضَى عَدْلُ اللهِ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الْعِقَابِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ يَتَلَاشَى فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَتَلَاشَى الْوَسَخُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَالرَّحْمَةُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ الرَّحْمَنُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا خَوَّلَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالظَّفَرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ وَالثَّانِي مَا حَصُلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ ارْتِفَاعُ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْقَاعِدُونَ " الْأُولَى " الْأَضِرَّاءُ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ، وَالْآخِرُونَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، اهـ. وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَكَانَ شَأْنُ اللهِ وَصَفَتُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، رَحِيمٌ بِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ مَا فَضَّلَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا بِمَا اقْتَضَتْهُ صِفَاتُهُ، وَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِأَنْوَاعِهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ نَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءَا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ لِـ الْقَاعِدُونَ وَقُرِئَتْ بِالْجَرِّ شُذُوذًا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: أَجْرًا عَظِيمًا، نَصْبَ أَجْرًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَجَرَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ وَدَرَجَاتٍ، بَدَلٌ مِنْهُ. وَقَدْ تَرَكْتُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، نَزَلَ لِأَجْلِ ابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْجَدِيرَةِ بِالرَّدِّ مَهْمَا قَوَّوْا سَنَدَهَا، وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ.

97

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَسَمَّى مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ قَيْسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا الْقَيْسِ بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَكَرَ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ دَخْلَهُمْ شَكٌّ وَقَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (8: 49) ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَزَادَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ أَسْوَدَ، وَالُعَاصُ بْنُ مُنَبِّهٍ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بِمَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهُوا أَنْ يُهَاجِرُوا وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَخَرَجُوا، فَلَحِقَ

بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ (29: 10) ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا (16: 110) ، الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَهُ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. أَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ قِسْمَيْنِ: دَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَأْمَنِهِمْ، وَدَارُ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرًّا فِي دِينِهِ لَا يُفْتَنُ عَنْهُ، وَحُرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُسَافِرَ حَيْثُ شَاءَ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مُضْطَهَدًا فِي دِينِهِ يُفْتَنُ وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لِأَجْلِ هَذَا وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يُسْلِمُ لِيَكُونَ حُرًّا فِي دِينِهِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَلِيَكُونَ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يُهَاجِمُونَهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلِيَتَلَقَّى أَحْكَامَ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِهَا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِي إِسْلَامَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بِالطَّبْعِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ الَّذِي يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَهِجْرَتَهُ وَإِنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْمُقَاوَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ الْبَقَاءَ فِي وَطَنِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ يُؤْثِرُ مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْ مُرَاقَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَظُلْمِهِمْ، وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ حِيلَةٍ يَعْمَلُ وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْهِجْرَةَ لِضِعْفِ دِينِهِ وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَهَا، وَمَنْ يَتْرُكْهَا لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ وَظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَخْ، تَوَفَّى الشَّيْءَ أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَفْظُ تَوَفَّاهُمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ: تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ جَائِزٌ هُنَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيَكُونُ سَحْبُ حُكْمِهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَامًّا بِنَصِّ الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَافَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِرِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي الذُّلِّ وَالظُّلْمِ حَيْثُ لَا حُرِّيَّةَ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ تَوَفِّيهَا لَهُمْ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ - فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ؟

قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَا حَقِيقَةَ الِاسْتِعْلَامِ عَنْ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَلِهَذَا حَسُنَ فِي جَوَابِهِ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ تَقْصِيرِهِمُ الَّذِي وُبِّخُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِضْعَافِ، أَيْ: إِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَكُونَ فِي شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا لِاسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَنَا، فَرَدَّ الْمَلَائِكَةُ هُنَا الْعُذْرَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وَتُحَرِّرُوا أَنْفُسَكُمْ مَنْ رِقِّ الذُّلِّ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ؟ أَيْ إِنَّ اسْتِضْعَافَ الْقَوْمِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَانِعُ لَكُمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا مُهَاجِرِينَ إِلَى حَيْثُ تَكُونُونَ فِي حُرِّيَّةٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا فَأُولِئَكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: بَلْ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْخَبَرُ أَمْ لَا لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَارُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، أَيْ وَقَبُحَتْ جَهَنَّمُ مَأْوًى وَمَصِيرًا لِمَنْ يَصِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا يَسُوءُهُ لَا يَسُرُّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِجَهَنَّمَ كَمَا يَتَوَعَّدُ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لِلْقَادِرِ كَانَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَتَبَطَّنُوهُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْوًى مُؤَقَّتًا عَلَى قَدْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْإِقَامَةِ مَعَ الْكُفَّارِ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، وَمَا عَسَاهُمُ افْتَرَقُوا ثَمَّ مِنَ الْمَعَاصِي. قَالَ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهِ كَمَا يَجِبُ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِقِ عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَقُومُ بِحَقِّ اللهِ، وَأَدْوَمُ عَلَى الْعِبَادَةِ، حَقَّتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرَةُ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِدُعَاءٍ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَتِهِ كَمَا يَجِبُ. وَهَاكَ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَضْلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ لِغَيْرِ عَجْزٍ فَعَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ مَعْذُورٌ، وَمَعْنَى سَبِيلِ اللهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُرْضِيهِ وَيُقِيمُ دِينَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ قَوْمٍ أَخْلَدُوا إِلَى السُّكُونِ وَقَعَدُوا عَنْ نَصْرِ الدِّينِ بَلْ وَعَنْ إِقَامَتِهِ حَيْثُ هُوَ، وَعَذَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْكَفْرِ حَيْثُ اضْطَهَدَهُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، فَهُمْ بِحُبِّهِمْ لِبِلَادِهِمْ، وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسُكُونِهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ضُعَفَاءُ فِي الْحَقِّ لَا مُسْتَضْعَفُونَ، وَهُمْ بِضَعْفِهِمْ هَذَا قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ خَيْرِ

98

الْآخِرَةِ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ، فَظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ خَوْفًا مِنَ الْأَذَى، وَفَقْدُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ عُشَرَائِهِمُ الْمُبْطِلِينَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ هُوَ نَحْوٌ مِمَّا يَعْتَذِرُ بِهِ الَّذِينَ جَارَوْا أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ يَجُبُّونَ الْغَيْبَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُدَارُونَ الْمُبْطِلِينَ، وَهُوَ عُذْرٌ بَاطِلٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ احْتِمَالِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْهِجْرَةُ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْهِجْرَةِ، هَلْ وُجُوبُهَا مَضَى أَوْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ (قَالَ) : وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ مِنَ الْعَمَلِ بِدِينِهِ، أَوْ يُؤْذَى فِيهِ إِيذَاءً لَا يَقْدِرُ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي دَارِ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَلَا يُؤْذَى إِذَا هُوَ عَمِلَ بِدِينِهِ، بَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ بِلَا نَكِيرٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ، وَذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ لِهَذَا الْعَهْدِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ سَبَبًا لِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ اهـ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُقِيمُونَ هُنَالِكَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ يُعَرِّفُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُبَيِّنُونَهَا لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، دَلَّ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا عَنْ عَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ بِهِ هِجْرَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ صَادِقِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِضْعَافَ الْحَقِيقِيَّ عُذْرٌ صَحِيحٌ وَلِذَلِكَ اسْتُثْنِيَ أَهْلُهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرْنُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجَالِ الشُّيُوخُ الضُّعَفَاءُ وَالْعَجَزَةُ الَّذِينَ هُمْ كَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، أَيْ قَدْ ضَاقَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ كُلُّهَا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رُكُوبَ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ جَمِيعُهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا طَرِيقًا مِنْهَا، إِمَّا لِلزِّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْجَهْلِ بِمَسَالِكِ الْأَرْضِ وَأَخْرَاتِهَا وَمَضَايِقِهَا، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا هَلَكُوا، أَيْ: بِرُكُوبِ التَّعَاسِيفِ أَوْ قِلَّةِ الزَّادِ أَوْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوِلْدَانَ هُنَا بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُمُ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ سَبِيلًا، وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمُ الْوَعِيدُ فَيُحْتَاجُ إِلَى اسْتِثْنَائِهِمْ، وَأَجَابَ فِي الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرَاهِقِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَيَلْحَقُوا بِهِمْ فِي التَّكْلِيفِ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ ذُكِرُوا تَبَعًا لِوَالِدَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ

99

يُكَلَّفُونَ أَنْ يُهَاجِرُوا بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوِلْدَانُ عَاجِزِينَ عَنِ السَّيْرِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَالِدَانِ عَاجِزَيْنِ عَنْ حَمْلِهِمْ، كَانَ مِنْ عُذْرِهِمَا أَنْ يَتْرُكَا الْهِجْرَةَ مَا دَامَا عَاجِزَيْنِ وَلَا يُكَلَّفَانِ تَرْكَ أَوْلَادِهِمْ. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفَوَ عَنْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ مِمَّنْ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ، أَيْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لِلْعَجْزِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ وَالْحِيَلِ وَتَعْمِيَةِ السُّبُلِ يُرْجَى أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْوَعْدُ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى الرَّجَاءِ، أَطْمَعَهُمْ تَعَالَى بِالْعَفْوِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ أَمْرَ الْهِجْرَةِ مُضَيَّقٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ بِاسْتِعْمَالِ دَقَائِقِ الْحِيَلِ، وَالْبَحْثِ عَنْ مَضَايِقِ السُّبُلِ، حَتَّى لَا يُخْدَعَ مُحِبُّ وَطَنِهِ بِنَفْسِهِ وَيَعُدُّ مَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مَانِعًا، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ صِيغَةَ الرَّجَاءِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَعِلْمَ اللهِ بِتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ أَوْ عَدِمِهِ قَطْعِيٌّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالُوا: إِنَّ عَسَى فِي كَلَامِ اللهِ لِلتَّحْقِيقِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّهُ يَسْلُبُ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا فَكَأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَنَقُولُ فِيهَا مَا قُلْنَاهُ فِي " لَعَلَّ " وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِعْدَادُ وَالتَّهْيِئَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعِدُّهُمْ وَيُهَيِّؤُهُمْ لِعَفْوِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنِ التَّحْقِيقِ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَجِّي إِنْ صَحَّ هِيَ تَعْظِيمُ أَمْرِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَتَغْلِيظُ جُرْمِهِ. وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا أَيْ: وَكَانَ شَأْنُ اللهِ - تَعَالَى - الْعَفْوُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْذَارٌ صَحِيحَةٌ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا، وَمَغْفِرَتُهَا بِسَتْرِهَا فِي الْآخِرَةِ وَعَدَمِ فَضِيحَةِ صَاحِبِهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً، وَصَلَ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْهِجْرَةِ، وَتَنْشِيطِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَتَجْرِئَتِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لَهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَهَيَّبُ الْأَمْرَ الْمُخَالِفَ لِمَا اعْتَادَهُ وَأَنِسَ بِهِ، وَيَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ وَالْمَصَاعِبِ مَا لَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي خَيَالِهِ، فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَ التَّارِكَ الْمُقَصِّرَ، وَأَطْمَعَ التَّارِكَ الْمَعْذُورَ فِي الْعَفْوِ إِطْمَاعًا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَفْعَلَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عُسْرِ الْهِجْرَةِ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَأَنَّ عُسْرَهُ إِلَى يُسْرٍ، مَنْ يُهَاجِرْ بِالْفِعْلِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا، أَيْ: مُتَحَوَّلًا مِنَ الرِّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، أَوْ مَذْهَبًا فِي الْأَرْضِ يُرْغِمُ بِسُلُوكِهِ أُنُوفَ مَنْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ لَهُ، أَوْ مَكَانًا لِلْهِجْرَةِ وَمَأْوًى يُصِيبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالسَّعَةَ فَوْقَ النَّجَاةِ مِنَ الِاضْطِهَادِ

100

وَالذُّلِّ، فَيُرْغِمُ بِذَلِكَ أُنُوفَهُمْ، وَفِيهِ الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَسْهِيلِ السُّبُلِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُهَاجِرِ مِنْهَا إِرْضَاءَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَةِ دِينِهِ، كَمَا يَجِبُ، وَكَمَا يُحِبُّ - تَعَالَى -، وَنَصْرَ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى مَنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، الْمُهَاجِرُ كَسَائِرِ النَّاسِ عُرْضَةٌ لِلْمَوْتِ، وَلَمَّا وَعَدَ تَعَالَى مَنْ يُهَاجِرُ فَيَصِلُ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ بِالظَّفَرِ بِمَا يَنْبَغِي مِنْ وِجْدَانِ الْمُرَاغَمِ وَالسَّعَةِ، وَعَدَ مَنْ يَمُوتُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهَا بِأَجْرٍ عَظِيمٍ يَضْمَنُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ، فَمَتَى خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ أَيْ: حَيْثُ يُرْضِي اللهَ وَإِلَى نُصْرَةِ رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَمِثْلُهَا إِقَامَةُ سُنَنِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْأَجْرِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ عَتَبَةَ الْبَابِ، وَلَمْ يُصِبْ تَعَبًا وَلَا مَشَقَّةً، فَإِنَّ نِيَّةَ الْهِجْرَةِ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَافِيَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذَا الْأَجْرَ وَجَعَلَهُ حَقًّا وَاقِعًا عَلَيْهِ - تَبَارَكَ اسْمُهُ - لِلْإِيذَانِ بِعِظَمِ قَدْرِهِ، وَتَأْكِيدِ ثُبُوتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَالْوُجُوبُ وَالْوُقُوعُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا (22: 36) ، أَيْ: سَقَطَتْ جُنُوبُ الْبُدْنِ عِنْدَمَا تُنْحَرُ فِي النُّسُكِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ شَيْئًا إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ، فَأَيْنَ هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي تَأْكِيدِهِ، وَإِيجَابِهِ مِنْ وَعْدِ تَارِكِي الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ مِنْ جَعْلِهِ مَحَلَّ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَقَطْ؟ لَا يَسْتَوِيَانِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَكَانَ شَأْنُهُ الثَّابِتُ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، أَنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ مَا سَبَقَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ أَوْطَانِهِمْ وَمَعَاهِدِ أُنْسِهِمْ لِأَجْلِ إِقَامَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، رَحِيمًا بِهِمْ يَشْمَلُهُمْ بِعَطْفِهِ وَيَغْمُرُهُمْ بِإِحْسَانِهِ. هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا قُلْنَا، وَمَنْ شَمَلَهُ الْوَعْدُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، فَعَدُّوا خَبَرَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الشِّقِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا هُوَ بِسَبَبٍ إِلَّا فِي اصْطِلَاحِهِمُ الَّذِي يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا، رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: احْمِلُونِي فَأَخْرِجُونِي مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَنَزَلَ الْوَحْيُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ أَبُو ضَمْرَةَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الزُّرَقِيِّ، وَكَانَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، قَالَ: إِنِّي لَغَنِيٌّ وَإِنِّي لَذُو حِيلَةٍ، فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ آخَرُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي اللُّبَابِ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ وَسُمِّيَ فِي بَعْضِهَا ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ أَوِ الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ، وَفِي بَعْضِهَا جُنْدَبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ وَفِي بَعْضِهَا الضَّمْرِيُّ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حَرَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مَخْرَجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ، قَالَ: فَلْيَأْتِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ مَنْ أَنْتَ وَمَا أَنْتَ وَبِمَ جِئْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90) ، الْآيَةَ، فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُءُوسًا وَلَا تَكُونُوا أَذْنَابًا، فَرَكِبَ بِعِيرَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، مُرْسَلٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَكْثَمَ، قِيلَ: فَأَيْنَ اللَّيْثِيُّ؟ قَالَ: هَذَا قَبْلَ اللَّيْثِيِّ بِزَمَانٍ وَهِيَ خَاصَّةٌ عَامَّةٌ اهـ. وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ يُؤَيِّدُ رَأْيَنَا مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ لَا مُنْفَرِدَةً فَطَبَّقُوهَا عَلَى الْوَقَائِعِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَلَمْ تَنْزِلْ لِأَجْلِ وَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا.

حِكْمَةُ الْهِجْرَةِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهَا قَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْهِجْرَةَ شُرِعَتْ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ أَوْ حِكَمٍ، اثْنَانِ مِنْهَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَاعَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهَا ذَلِيلًا مُضْطَهَدًا فِي حُرِّيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يُفْتَنُ فِيهِ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ إِقَامَتِهِ فِيهِ كَمَا يَعْتَقِدُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ حُرًّا فِي تَصَرُّفِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ إِقَامَتُهُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْإِقَامَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَا قَالَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقِيمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ مُتَمَتِّعِينَ بِحُرِّيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ تَلَقِّي الدِّينِ وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصًّا بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِرْسَالُ الدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ مِنْ قِبَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرًا لِقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ عُلَمَاءُ يَعْرِفُونَ أَحْكَامَ الدِّينِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَلَقَّى الدِّينَ وَالْعِلْمَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ - الْمُتَعَلِّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ أَوْ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ تَنْشُرُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَتُقِيمُ أَحْكَامَهُ وَحُدُودَهُ، وَتَحْفَظُ بَيْضَتَهُ وَتَحْمِي دُعَاتَهُ وَأَهْلَهُ مِنْ بَغْيِ الْبَاغِينَ، وَعُدْوَانِ الْعَادِينَ وَظُلْمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الدَّوْلَةُ أَوِ الْحُكُومَةُ ضَعِيفَةً يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ إِغَارَةِ الْأَعْدَاءِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا وَحَيْثُمَا حَلُّوا أَنْ يَشُدُّوا أَزْرَهَا، حَتَّى تَقْوَى وَتَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى هِجْرَةِ الْبَعِيدِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ رَاضِيًا بِضَعْفِهَا وَمُعِينًا لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَخَفْضِ كَلِمَتِهِ. كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ مُتَحَقِّقَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الشِّرْكِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَصَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ أَهْلَهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَزَالَ سَبَبُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِأَجْلِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِلَّا نَادِرًا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِتَأْيِيدِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَى مَنْ كَانَ يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا

101

اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِمَّا لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجِبُ دَائِمًا بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يَجِبُ السَّفَرُ لِأَجْلِ الْجِهَادِ إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُ، وَأَقْوَى مُوجِبَاتِهِ اعْتِدَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا. صَلَاةُ السَّفَرِ وَالْخَوْفِ السِّيَاقُ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ فِيهِ حُكْمُ الْهِجْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ لَازِمٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ، وَلَا فِي أَثْنَاءِ الْهِجْرَةِ وَلَا غَيْرِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَيَّامِ السَّفَرِ، وَلَكِنْ قَدْ تَتَعَذَّرُ أَوْ تَتَعَسَّرُ فِي السَّفَرِ وَحَالِ الْحَرْبِ إِقَامَتُهَا فُرَادَى وَجَمَاعَةً كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -

أَنْ تُقَامَ فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَنَاسَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - مَا يُرِيدُ أَنْ يُرَخِّصَ لِعِبَادِهِ فِيهِ مِنَ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَقَالَ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ وَعَصَاهُ أَوْ بِقَوَائِمِ رَاحِلَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: طَرَقَ الْأَرْضَ إِذَا مَرَّ بِهَا، كَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالْمِطْرَقَةِ، وَمِنْهُ الطَّرِيقُ أَيْ: السَّبِيلُ الْمَطْرُوقُ، وَقَالَ هَاهُنَا: ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ (94) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلَامِ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ، فَهِيَ رُخْصَةٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الدِّينِ بِأَنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمُسَافِرُ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ، وَهِيَ لَهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ تَضْيِيقٌ وَلَا مَيْلٌ عَنْ مَحَجَّةِ دِينِ اللهِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فِي الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْجُنَاحُ فُسِّرَ بِالْإِثْمِ وَالتَّضْيِيقِ وَبِالْمَيْلِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ جَنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ جُنُوحَ السَّفِينَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهَا أَرْضًا رَقِيقَةً تَغْرِزُ فِيهَا وَيُمْتَنَعُ جَرْيُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسِبُ الْجُنَاحَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجُنُوحَ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ، وَهُوَ مِنَ الْجِنْحِ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْجُنَاحَ بِالتَّضْيِيقِ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ جُنِحَ الْبَعِيرُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِذَا انْكَسَرَتْ جَوَانِحُهُ - أَضْلَاعُهُ - لَثِقَلِ حِمْلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْقَصْرُ - بِالْفَتْحِ - مِنَ الْقِصَرِ - كَعِنَبٍ - ضِدُّ الطُّولِ، وَقَصَّرْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ قَصِيرًا. فَالْقَصْرُ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا تَكُونُ بِهِ قَصِيرَةً، وَيَصْدُقُ بِتَرْكِ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا، وَبِتَرْكِ بَعْضِ أَرْكَانِهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا تَرْكُ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا وَهِيَ صَلَاةُ السَّفَرِ الَّتِي تُقْصِرُ فِيهَا الرُّبَاعِيَّةُ فَقَطْ فَتُصَلَّى ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُطْلَقًا أَوْ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِهَا وَهِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا لَا مِنْ رَكَعَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْقَصْرُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ جَمِيعًا، وَجَمَعَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ بَيْنَ الْأَقْوَالِ فَقَالَ فِي فَصْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ أَبَاحَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَصْرَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِهَا إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ، وَقَصْرُ الْعَدَدِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ سَفَرٌ لَا خَوْفَ مَعَهُ، وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ خَوْفٌ لَا سَفَرَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ هَدْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَبِهِ يُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ، اهـ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةُ الْإِيذَاءُ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِيَارُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِيهَا حَمْلُهُمْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ سَاجِدُونَ حَتَّى يَقْتُلُوهُمْ أَوْ يَأْسِرُوهُمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا، وَيَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَةِ اللهِ وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ اهـ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِزَمَنِ الْحَرْبِ بَلْ إِذَا خَافَ الْمُصَلِّي قُطَّاعَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْقَصْرَ. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، تَعْلِيلٌ لِتَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُظْهِرُونَ لِلْعَدَاوَةِ بِالْقِتَالِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُمْ لَا يُضَيِّعُونَ فُرْصَةَ اشْتِغَالِكُمْ بِمُنَاجَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلَا يَخْشَوْنَهُ فِيكُمْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِيقَاعِ بِكُمْ إِذَا وَجَدُوكُمْ غَافِلِينَ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الْقَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُجْمَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تُبَيِّنُ لَنَا نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُفِيدَ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَعْنًى جَدِيدًا تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْقَصْرِ نَقْصَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورِ إِذْ قَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ الِاصْطِلَاحَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ بِدُونِ تَوْقِيفٍ، وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ أُفَسِّرَ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَذْكُرُ مُلَخَّصَ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَكَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الَّتِي وَرَدَتْ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْجِهَادِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحَثُّ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِهِ، وَإِيجَابِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ أَرْضٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ، وَالْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ السَّفَرَ، وَالْهِجْرَةُ سَفَرٌ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ سَافَرَ

لِلْجِهَادِ أَوْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ وَخَافَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْهَا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مِنْهَا وَأَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَتَهَا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ: وَالْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُنَا لَيْسَ هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ الْمُبَيَّنِ بِشُرُوطِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَالشَّرْطُ فِيهَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي أَغْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ، فَهَذَا الْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (2: 239) ، فَآيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَالرُّخْصَةُ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ صُورَتِهَا بِأَنْ يَكْتَفِيَ الرِّجَالُ الْمُشَاةُ وَالرُّكْبَانُ بِالْإِيمَاءِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْقَصْرِ الْمُرَادِ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فِي الْقَصْرِ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتٍ بِأَنْ تُصَلِّي طَائِفَةٌ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَمَّتْهَا جَاءَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ الْأُولَى، فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تُتِمُّ الصَّلَاةَ اهـ، مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مُلَخَّصًا. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَقَدْ لَخَّصَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ حَفْظِهِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ وَبَيَانِهِ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ، وَعِبَارَتُهُ فِيهِ مَا نَصُّهُ: " وَكَانَ يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّ الرُّبَاعِيَّةَ فِي سَفَرِهِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، فَلَا يَصِحُّ، وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ: هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَقَدْ رُوِيَ: كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ الْأَوَّلُ بِالْيَاءِ آخِرُ الْحُرُوفِ وَالثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ، وَكَذَلِكَ " يُفْطِرُ وَتَصُومُ " أَيْ: تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَةَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، مَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لِتُخَالِفَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلِّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ، وَالصَّحِيحُ عَنْهَا: أَنَّ اللهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُصَلَّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ؟ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ " قُلْتُ ": وَقَدْ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ دَائِمًا، فَرَكَّبَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا، وَقَالَ: فَكَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ هِيَ، فَغَلِطَ بَعْضُ

الرُّوَاةِ فَقَالَ: كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ، أَيْ: هُوَ. وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَتْهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ وَالسَّفَرِ فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ زَالَ سَبَبُ الْقَصْرِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرٌ صَحِيحٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ آمِنًا وَكَانَ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ، وَالْآيَةُ قَدْ أُشْكِلَتْ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَهُ بِالشِّفَاءِ وَأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ وَشَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ. وَكَانَ هَذَا بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الْمَفْهُومِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَنَّ الْجُنَاحَ مُرْتَفِعٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ عَنِ الْآمِنِ وَالْخَائِفِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعُ تَخْصِيصٍ لِلْمَفْهُومِ أَوْ رَفْعٌ لَهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ قَصْرًا يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَصْرَ الْعَدَدِ بِنُقْصَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُيِّدَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ أُبِيحَ الْقَصْرُ فَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً عَدَدَهَا وَأَرْكَانَهَا، وَإِنِ انْتَفَى الْأَمْرَانِ فَكَانُوا آمِنِينَ مُقِيمِينَ، انْتَفَى الْقَصْرَانِ فَيُصَلُّونَ صَلَاةً تَامَّةً، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَصْرُهُ وَحْدَهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْخَوْفُ وَالْإِقَامَةُ قُصِرَتِ الْأَرْكَانُ وَاسْتُوفِيَ الْعَدَدُ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ وُجِدَ السَّفَرُ وَالْأَمْنُ قَصَرَ الْعَدَدُ وَاسْتَوْفَى الْأَرْكَانَ وَسُمِّيَتْ صَلَاةَ الْأَمْنِ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ مَقْصُورَةً بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَقَدْ تُسَمَّى تَامَّةً بِاعْتِبَارِ إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَصْرِ الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الصَّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ عِنْدَهَا غَيْرُ مَقْصُورَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ كَذَلِكَ، وَأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، مُتَّفَقٌ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ وَالْعِيدُ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا صَدَقَةُ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَدِينُهُ أَلَيْسَ السَّمْحَ، عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَصْرَ الْعَدَدِ كَمَا فَهِمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ مُبَاحٌ، يُنْفَى عَنْهُ الْجُنَاحُ، فَإِنْ شَاءَ

الْمُصَلِّي فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ فِي أَسْفَارِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُرَبِّعْ قَطُّ إِلَّا شَيْئًا فَعَلَهُ فِي بَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَالَ أَنَسٌ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَالَ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلِيَتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَسْتَرْجِعَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، بَلِ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلٍ: وَإِنَّمَا اسْتَرْجَعَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ فِي السَّفَرِ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَعْنِي فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ، وَإِلَّا فَعُثْمَانُ قَدْ أَتَمَّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ لِفِعْلِهِ تَأْوِيلَاتٌ، انْتَهَى نَصُّ عِبَارَتِهِ. وَهَاهُنَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ سِتَّةَ تَأْوِيلَاتٍ لِإِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ وَرَدُّهَا أَقْوَى رَدٍّ إِلَّا السَّادِسَ مِنْهَا فَقَالَ: إِنَّهُ أَحْسُنُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوَّجَ فِيهِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَضْعِيفِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ لِأَجْلِ الزَّوَاجِ، ثُمَّ ذَكَرَ الِاعْتِذَارَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَعَادَ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ: إِنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ عَلَيْهَا. وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا، أَقُولُ: وَهُمَا ضَعِيفَانِ، ثُمَّ قَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِرِوَايَتَيْنِ لِلْدَارَقُطْنِيِّ. إِحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا، وَقِيلَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا وَحَسَّنَهَا، وَفِي الْعَلَاءِ مَقَالٌ يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، قِيلَ: مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ كَهَذَا الْحَدِيثِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ نَكَارَةً، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ حَدِيثٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مُعْتَمِرَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَكَانَ يَقْصُرُ، وَكَانَتْ تُتِمُّ ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَحْسَنْتِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْدَارَقُطْنِيِّ صَحَّحَهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ذِكْرُهَا عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَأَنَّهُ جَزَمَ بِغَلَطِ رَاوِيهَا، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: وَقَدِ اسْتَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِحَّتُهُ بَعِيدَةٌ إِلَخْ، وَقَدْ ضُبِطَ الْحَدِيثُ فِي التَّلْخِيصِ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْمَامِ وَالْفِطْرِ إِلَى عَائِشَةَ لَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ تَيْمِيَةَ جَزَمَ بِكَذِبِ الْحَدِيثَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ لَا رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ وَخُصُوصًا مَا يُخَالِفُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ عُثْمَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّاجِحُ وَهُوَ أَنَّهُ عَدَّ نَفْسَهُ بِالزَّوَاجِ مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ، وَأَمَّا تَأَوُّلُهَا الَّذِي رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا فَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ ; لِأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ لَمَّا سَأَلَهَا: " يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يُشَقُّ عَلَيَّ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيُعَارِضُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ كَوْنُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْهَا فَيَرْجَحُ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الثَّابِتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا مُتَأَوِّلَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِتْمَامَ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَصِحَّ، فَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ وُجُوبِ ذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهَلْ هُوَ أَصْلُ الْمَفْرُوضِ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَوْ قَصْرٌ؟ خِلَافٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ، يَعْنِي صَلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: يَا أَخِي إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ اهـ، أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، وَالْحَاذِقُ مَنْ عَرِفَ كَيْفَ يُطَبِّقُ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَبْيِينٌ لَهُ لَا يَعْدِلُهُ تِبْيَانٌ. مَسَافَةُ الْقَصْرِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ يُقَلِّدُهُمْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا جَمْعَهَا وَالْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، لَا يَكُونُ فِي كُلِّ سَفَرٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَأَقَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَرْحَلَتَانِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالذِّهَابِ، وَالْمَرْحَلَةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةً وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْأَقْدَامِ أَوِ الْأَثْقَالِ، أَيْ: الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا وَرْدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ فُقَهَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (2: 184) ، أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ يُبَاحُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَفَرًا

طَالَ أَوْ قَصُرَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ مَا يُقَيِّدُ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَيْضًا وَنَذْكُرُ مِنْهَا الْفَتْوَى الْآتِيَةَ نَقْلًا مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ وَهِيَ: (س 52) مِنْ م. ب. ع. فِي سمبس برنيو (جاوه) . حَضْرَةُ فَخْرِ الْأَنَامِ، سَعْدِ الْمِلَّةِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، سَيِّدِي الْأُسْتَاذُ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ رِضَا صَاحِبُ مِجَلَّةِ الْمَنَارِ الْغَرَّاءِ أَدَامَ اللهُ بِعَزِيزِ وَجُودِهِ النَّفْعَ، آمِينَ. وَبَعْدُ إِهْدَاءُ أَشْرَفِ التَّحِيَّةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَيَا سَيِّدِي وَعُمْدَتِي أَرْجُو مِنْكُمُ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَسْئِلَةِ لِتُجِيبُونِي عَنْهَا وَهِيَ - وَذَكَرَ أَسْئِلَةً - مِنْهَا: هَلْ تُحَدُّ مَسَافَةُ الْقَصْرِ بِحَدِيثٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَإِلَى الطَّائِفِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ أَرْبَعَةٌ الْبُرُدُ هِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةٌ؟ وَعَلَيْهِ فَكَمْ يَكُونُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ الْمُعْتَبِرَةِ شَرْعًا بِحِسَابِ كِيلُو مِتْرٍ؟ أَفْتُونَا فَتْوَى لَا نَعْمَلُ إِلَّا بِهَا وَلَا نُعَوِّلُ إِلَّا عَلَيْهَا فَلَا زِلْتُمْ مَشْكُورِينَ وَكُنَّا لَكُمْ ذَاكِرِينَ: ج: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ نَسَبَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَوَيَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَشُعْبَةُ هُوَ الشَّاكُّ فِي الْفَرَاسِخِ وَقَدْ يُقَالُ الْأَقَلُّ هُوَ الْمُتَيَقِّنُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا تَحْدِيدَ فِيهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ فِي الْأَقْوَالِ فَهَلْ يُعَدُّ حُجَّةً فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ؟ وَهُنَاكَ وَقَائِعُ أُخْرَى فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَافَةِ. فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِيلٌ وَاحِدٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ حَزْمٍ وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَدَمُ التَّحْدِيدِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي [ص 416 و649 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ] . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَصْلُ الْمِيلِ مَدُّ الْبَصَرِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَمِيلُ عَنْهُ فَلَا يُرَى، وَحُدُودُهُ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، الذِّرَاعُ 14 أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ حَبَّاتٍ مِنَ الشَّعِيرِ مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ بِقَدَمِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أَيِ الْفَرْسَخُ 5541 مِتْرًا اهـ.

102

هَذِهِ هِيَ الْفَتْوَى: وَأُزِيدُ الْآنَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَدِ اعْتَمَدُوا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى تَحْدِيدِ سَفَرِ الْقَصْرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنِ الثَّانِي كَانَ يُسَافِرُ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ، وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا قَصْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا دُونَ يَوْمَيْنِ، يَعْنِي لَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ كَمَا هِيَ قَاعِدَتُهُ - رَحِمَهُ اللهُ -: " إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي "، وَقَدْ بَلَغَ غَيْرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فِي هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ أَوْ أَمْيَالٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحُهُ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنِ الْقَصْرِ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَقَالَهُ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ الْأَمْيَالِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْفَرْسَخِ فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ الْعَمَلُ بِهِ كَكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ. كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ أَيْ: وَإِذَا كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي جَمَاعَتِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ إِمَامٍ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، إِقَامَةُ الصَّلَاةِ تُطْلَقُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِيهَا وَهُوَ نِصْفُ ذِكْرِ الْأَذَانِ وَزِيَادَةُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ كَلِمَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْأَذَانِ مَعَ زِيَادَةِ مَا ذُكِرَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا مُقَوَّمَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْآدَابِ، وَالظَّاهِرُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، لِتَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ ; وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَلْ هِيَ مَقْصُورٌ مِنْهَا، وَتُقَابِلُ صَلَاةَ الْخَوْفِ هُنَا صَلَاةُ الِاطْمِئْنَانِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، فَمَعْنَى أَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ دَعَوْتَهُمْ إِلَى أَدَائِهَا جَمَاعَةً، أَيْ: وَالْزَمَنُ زَمَنُ الْحَرْبِ وَفِتْنَةُ الْكُفَّارِ مُخَوِّفَةٌ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فِي الصَّلَاةِ يَقْتَدُونَ بِكَ وَيَبْقَى الْآخَرُونَ مُرَاقِبِينَ الْعَدُوَّ يَحْرُسُونَ الْمُصَلِّينَ خَوْفًا مِنَ اعْتِدَائِهِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، أَيْ: وَلِيَحْمِلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ أَسْلِحَتَهُمْ وَلَا يَدَعُوهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَضْطَرُّوا إِلَى الْمُكَافَحَةِ عَقِبَهَا مُبَاشَرَةً أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ أَيْ جُمْلَةٍ هُوَ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِقِيَامِهَا بِالْحِرَاسَةِ، وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا أَيْ وَلْيَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ انْقِسَامِهِمْ إِلَى طَائِفَتَيْنِ وَاحِدَةٍ تُصَلِّي وَوَاحِدَةٍ تُرَاقِبُ وَتَحْرُسُ - حَامِلِينَ لِلسِّلَاحِ لَا يَتْرُكُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجَمِيعِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَحْمِلُوا أَسْلِحَتَهُمْ إِلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا قِتَالٌ وَلَا نِزَالٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْأَمْرِ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَظَنَّةُ الْمَنْعِ أَوِ الِامْتِنَاعِ، وَالْأَسْلِحَةُ جَمْعُ سِلَاحٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ مِنْهُ فِي حَالِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ

التَّامَّةِ الْأَرْكَانِ مَا يَسْهُلُ حَمْلُهُ فِيهَا كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ وَالنِّبَالِ مِنْ أَسْلِحَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَمِثْلَ الْبُنْدُقِيَّةِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْمُسَدَّسِ فِي الْحِزَامِ أَوِ الْجَيْبِ مِنْ أَسْلِحَةِ هَذَا الْعَصْرِ فَإِذَا سَجَدُوا، أَيْ: فَإِذَا سَجَدَ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ أَيْ: فَلْيَكُنِ الْآخَرُونَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْمُصَلِّي لِلْحِرَاسَةِ سَاجِدًا ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى حِينَئِذٍ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، أَوْ عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ أَيْ: إِتْمَامُهَا ; لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِيَامِ مَقَامَهُمْ وَالصَّلَاةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَلُّوا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، أَيْ: وَلْتَأْتِ طَائِفَةُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْحِرَاسَةِ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كَمَا صَلَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَزَادَ هُنَا الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَهُوَ التَّيَقُّظُ وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ الْمَخْلُوفِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِيهَا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (71) ، قِيلَ: إِنَّ حِكْمَةَ الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، بَلْ يَظُنُّ إِذَا رَآهُمْ صَفًا أَنَّهُمْ قَدِ اصْطَفَوْا لِلْقِتَالِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فَإِذَا رَآهُمْ سَجَدُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ فِي صَلَاةٍ، فَيُخْشَى أَنْ يَمِيلَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَتَرَبَّصُ ذَلِكَ بِهِمْ عِنْدَ كُلِّ غَفْلَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - لَنَا هَذَا مُعَلِّلًا بِهِ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، أَيْ: تَمَنَّى أَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمُ الَّتِي بِهَا بَلَاغُكُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِأَنْ تَشْغَلَكُمْ صَلَاتُكُمْ عَنْهَا فَيَمِيلُونَ حِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَحْمِلُونَ عَلَيْكُمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَأَنْتُمْ مَشْغُولُونَ بِالصَّلَاةِ وَاضِعُونَ لِلسِّلَاحِ تَارِكُونَ حِمَايَةَ الْمَتَاعِ وَالزَّادِ، فَيُصِيبُونَ مِنْكُمْ غِرَّةً فَيَقْتُلُونَ مَنِ اسْتَطَاعُوا قَتْلَهُ، وَيَنْتَهِبُونَ مَا اسْتَطَاعُوا أَخْذَهُ، فَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْتَصُّ الطَّائِفَةَ الْحَارِسَةَ دُونَ الْمُصَلِّيَةِ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُحَارِبِينَ، وَكَانَ يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْعُذْرِ مَا يَشُقُّ مَعَهُ حَمْلُ السِّلَاحِ، عَقَّبَ عَلَى الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ لِصَاحِبِ الْعُذْرِ فَقَالَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ وَلَا إِثْمَ فِي وَضْعِ أَسْلِحَتِكُمْ إِذَا أَصَابَكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ تُمْطَرُونَهُ فَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُ السِّلَاحِ مَعَ ثِقَلِهِ فِي ثِيَابِكُمْ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ الْمَاءُ السِّلَاحَ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الصَّدَأِ، أَوْ إِذَا كُنْتُمْ مَرْضَى بِالْجِرَاحِ أَوْ غَيْرِ الْجِرَاحِ مِنَ الْعِلَلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَأْخُذُوا

حِذْرَكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ، فَإِنَّ عَدْوَكُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَلَا يَرْحَمُكُمْ، وَالضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، كَإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ، وَرَجَاءِ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرِّضْوَانِ وَالْأَجْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ ذَا الْإِهَانَةِ هُوَ عَذَابُ الْغَلَبِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ كَالْأَمْرِ بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ (4: 104) ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (9: 14) ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي مَا رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ يُشْعِرُ بِتَوَقُّعِ النَّصْرِ لِلْأَعْدَاءِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْآيَةِ لِلْمَرْضَى، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ جَرِيحًا، وَالْمَعْنَى عِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ قَدِ انْطَبَقَ حُكْمُهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ بِأَحْكَامٍ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ وَعَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظَّهْرَ فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غُرَّتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: يَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ; فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، الْحَدِيثَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرِبْنِ عَبْدِ اللهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. كَيْفِيَّاتُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي السُّنَّةِ (1) وَرَدَ فِي أَدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةً - كَيْفِيَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّ أُصُولَهَا سِتٌّ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي وَقَائِعِهَا وَاعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ كَيْفِيَّةٍ مِنْهَا صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَهَاكَ أُصُولُهَا الْمَشْهُورَةُ. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (وَفِي لَفْظٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) أَنَّ طَائِفَةً صُفَّتْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ - أَيْ تُجَاهَهُ مُرَاقَبَةً لَهُ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى

فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَسَلَّمَ بِهِمْ، وَغَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ هَذِهِ هِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ، لَقِيَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتُوَافَقُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَكِنَّ الْقِتَالَ كَانَ مُنْتَظَرًا، فَلِذَلِكَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَسُمِّيَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ ; لِأَنَّهَا نَقَبَتْ أَقْدَامَهُمْ فَلَفُّوا عَلَى أَرْجُلِهِمُ الرِّقَاعَ أَيِ الْخِرَقَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ حِجَارَةَ تِلْكَ الْأَرْضِ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ كَالرِّقَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْعَدْوِ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ السُّجُودِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَظَاهِرُهَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُصَلِّي رَكْعَةً وَاحِدَةً هِيَ فَرْضُهَا لَا تُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، لَا مَعَ الْإِمَامِ وَلَا وَحْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَفْقَهُ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا مِنْ فُقَهَاءِ آلِ الْبَيْتِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - الْقَاسِمُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاللهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ. (2) رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً. هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي حَالِ كَوْنِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى إِلَّا فِي قَضَاءِ كُلِّ فُرْقَةٍ رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لِيَتِمَّ لَهَا رَكْعَتَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا تَأْتِيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ لِأَجْلِ الْحِرَاسَةِ، وَأَمَّا فَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ الْأُولَى فَرَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْطَعَ صَلَاتَهَا بِالْحِرَاسَةِ، فَتَكُونُ رَكْعَتَاهَا مُتَّصِلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْأُولَى لَا تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْصَرِفَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاتِهَا إِلَى مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ وَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيْ: الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا، وَقَدْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَشْهَبُ وَرَجَّحَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى غَيْرِهَا بِقُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَمُوَافَقَتِهَا لِلْأُصُولِ فِي كَوْنِ الْمَأْمُومِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ. (3) رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعٌ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ ".

هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا، وَكَانَتْ كَاللَّتَيْنِ ذُكِرَتَا قَبْلَهَا فِي حَالِ وُجُودِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ، كَأَنَّ جَابِرًا قَالَ مَا قَالَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْقِصَّةَ وَكَوْنُ كُلِّ طَائِفَةٍ كَانَتْ تُرَاقِبُ الْعَدُوَّ فِي جِهَتِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ ذَكَرَ مِنْ مَعْنَى حَدِيثِهِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْجَمَاعَةِ وَأَرْبَعًا لِلْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِلْجَمَاعَةِ وَرَكْعَةً لِلْإِمَامِ، فَلَا فَرْقَ إِلَّا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَكَذَلِكَ الْأُولَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِيهَا أَيْضًا أَوْ فَي غَزْوَةٍ مِثْلَهَا كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَلَّى بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَكَانُوا فِي مَقَامِهِمْ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَصَارَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَقَدْ أَعَلُّوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ أَسْلَمَ بَعْدَ وُقُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِمُدَّةٍ وَأَجَابَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَمَّنْ صَلَّاهَا، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَكَوْنَهَا تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهَا - مُوَافَقَتُهَا لِلْآيَةِ فَضْلَ مُوَافِقَةٍ بِتَصْرِيحِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتَا لَهُ نَفْلًا وَلَهَا فَرْضًا. وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَحَكَوْهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إِذْ لَا دَلِيلَ لِنَسْخِهِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ إِعَادَةِ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ النَّفْلُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ أَنْ تُحْسَبَ الثَّانِيَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَمُوَافِقَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ زِيَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي سَفَرِهِ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ أَدَاءَ الرُّبَاعِيَّةِ تَامَّةً فِي السَّفَرِ قَالُوا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا نَفْلًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَلَّى الْأَرْبَعَ مَوْصُولَةً لَكَانَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ اطِّرَادِ ذَلِكَ النَّفْيِ. (4) رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ احْتَجَّ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ حَبَّانَ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِذِي قَرَدٍ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ مَاءٌ عَلَى مَسَافَةِ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَيْبَرَ، فَصَفَّ النَّاسَ صَفَّيْنِ ; صَفًّا خَلْفَهُ

وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ خَلْفَهُ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا، وَرَوَيَا مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ زَادِ الْمَعَادِ وَهُوَ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْقَوْلُ بِهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا. هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا ; إِذْ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا أَتَمَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَاتِ الْإِتْمَامِ: بِأَنَّ أَقَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْخَوْفِ مَعَ السَّفَرِ رَكْعَةٌ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ صَلَاةِ السَّفَرِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ صَلَاةَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا يَتَّجِهُ هَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِبَيَانِ أَنَّ الْخَوْفَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً بِكُلِّ طَائِفَةٍ وَلَمْ تَقْضِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَيْ لَمْ تُتِمَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْأَعْمَالُ لَا تُعَدُّ شُرُوطًا لَهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. (5) رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ فَقَامَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ، وَالَّذِينَ مُقَابِلُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَرَكَعَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوِّ فَقَابَلُوهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ فَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَانِ. هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تُشَارِكُ مَا قَبْلَهَا بِكَوْنِهَا مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَكَوْنُهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَكَانَتْ بِأَرْضِ غَطَفَانَ، وَهُنَاكَ مَكَانٌ يُسَمَّى بَطْنَ نَخْلٍ وَهُوَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتُخَالِفُهَا كُلُّهَا

كَمَا تُخَالِفُ مَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا لِلْقِيَامِ تُجَاهَ الْعَدُوِّ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَتُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَقْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ فَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ كَبَّرَ مَعَهُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ قَالَتْ: " كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرَتِ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَجَدُوا هُمْ لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى حَتَّى قَامُوا مِنْ وَرَائِهِمْ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَقَامُوا فَكَبَّرُوا ثُمَّ رَكَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَجَدُوا لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَامَتِ الطَّائِفَتَانِ جَمِيعًا فَصَلُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا جَمِيعًا ثُمَّ عَادَ فَسَجَدَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدُوا مَعَهُ سَرِيعًا كَأَسْرَعِ الْإِسْرَاعِ ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ شَارَكَهُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي عَنْعَنَتِهِ لَا فِي سَمَاعِهِ، وَهَذِهِ كَيْفِيَّةٌ أُخْرَى أَجْدَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ ذِكْرِ الْإِحْرَامِ مَعَ عِلْمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَجَابَتْ عَنْ تَرْكِ الْحِرَاسَةِ بِالْإِسْرَاعِ فِي السُّجُودِ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمَا أَرَى أَنَّ الشَّيْخَيْنِ تَرَكَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِيهِمَا لِأَجْلِ سَنَدَيْهِمَا فَقَطْ. (6) رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ خَلْفَهُ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَنَا جَمِيعًا ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي نَحْرِ الْعَدْوِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَفَعَنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا قَالَ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَقَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعُسْفَانَ وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ وَالْبُخَارِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: إِنَّ جَابِرًا صَلَّى

103

مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأُجِيبُ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ وَحُضُورِ جَابِرٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَعُسْفَانُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى نَصِّ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ كَانَ فِيهَا الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ فَاحْتِيجَ إِلَى وُقُوفِ طَائِفَةٍ تُجَاهَهُ لِحِرَاسَةِ الْمُصَلِّينَ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ الْخَامِسَةِ، وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاكْتُفِيَ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يَسْجُدَ الصَّفَّانِ مَعًا بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ ; لِأَنَّ حَالَ الْعَدُوِّ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي وَقْتِ السُّجُودِ. (7) رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (2: 239) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا - جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ مَا يُقَابِلُ الرَّاكِبَ - قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ مَالِكٌ قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَرْفُوعًا قَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَالَ: " فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا "، أَيْ: يُصَلِّي كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِيمَاءً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ صَلَاةُ النَّاسِ فُرَادَى عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارِ مِنَ الْخَوْفِ، لَا مِنَ الزَّحْفِ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ الْعَدُوِّ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ يَطْلُبُ الْعَدُوَّ وَمَنْ يَطْلُبُهُ الْعَدُوُّ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ يُومِئُ إِيمَاءً وَإِنْ كَانَ طَالِبًا نَزَلَ فَصَلَّى بِالْأَرْضِ. وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَخَافُ عَوْدَ الطَّلُوبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مُتَعَقَّبٌ بِكَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ طَالِبًا مِنْ مَطْلُوبٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ عَمَلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ لِيَقْتُلَهُ إِذْ كَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: " فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي وَأُومِئُ إِيمَاءً "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنَ الْآيَةِ التَّالِيَةِ كَمَا يَأْتِي. فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ، أَيْ: أَدَّيْتُمُوهَا وَأَتْمَمْتُمُوهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ كَمَا بَيَّنَّا لَكُمْ مِنَ الْقَصْرِ مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ (2: 200) ، فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ أَيْ: اذْكُرُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَذَكُّرِ وَعْدِهِ بِنَصْرِ مَنْ

يَنْصُرُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِعْدَادِ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَهُ مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِكِتَابِهِ، جَارِينَ عَلَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِأَلْسِنَتِكُمْ بِالْحَمْدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، اذْكُرُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَكُونُونَ عَلَيْهَا مِنْ قِيَامٍ فِي الْمُسَايَفَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودٍ لِلرَّمْيِ أَوِ الْمُصَارَعَةِ، وَاضْطِجَاعٍ مِنَ الْجِرَاحِ أَوِ الْمُخَادَعَةِ، لِتَقْوَى قُلُوبُكُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُكُمْ، وَتَحْتَقِرُوا مَتَاعِبَ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا فِي سَبِيلِهِ فَهَذَا مِمَّا يُرْجَى بِهِ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ، وَمَا يَعْقُبُهُمَا مِنَ الْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (8: 45) . وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْحَرْبِ كَمَا يُعْطِيهِ السِّيَاقُ، فَأَجْدَرُ بِنَا أَنْ نُؤْمَرَ بِذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ السِّلْمِ كَمَا يُعْطِيهِ الْإِطْلَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي حَرْبٍ دَائِمَةٍ وَجِهَادٍ مُسْتَمِرٍّ، تَارَةً يُجَاهِدُ الْأَعْدَاءَ، وَتَارَةً يُجَاهِدُ الْأَهْوَاءَ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْعُقَلَاءَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (3: 191) ، وَأَمَرَهُمْ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَذَكَرَ اللهُ أَعْوَانَ مَا يُعِينُ عَلَى تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْغَافِلُونَ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا يَفْرِضُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا جَزَاءً مَعْلُومًا ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ، غَيْرَ الذِّكْرِ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّقَمِ وَالصِّحَّةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ اهـ. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُكُمْ بِالْأَمْنِ وَزَالَ خَوْفُكُمْ مِنَ الْعَدُّوِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، أَيِ ائْتُوا بِهَا مَقُومَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالْحُدُودِ وَالْآدَابِ، لَا تُقَصِّرُوا مِنْ هَيْئَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْخَوْفِ، وَلَا مِنْ رَكَعَاتِهَا وَنِظَامِ جَمَاعَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ أُخْرَى مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاطْمِئْنَانِ الِاسْتِقْرَارُ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَظَنَّتُهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُقَابِلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ إِذَا عَرَضَ الْخَوْفُ، وَمِنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَالْمُرَادُ بِالِاطْمِئْنَانِ فِيهِ مَا يُقَابِلُ السَّفَرَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَا يُقَابِلُ الْقَصْرَ مِنْهَا بِنَوْعَيْهِ: الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَحُدُودِهَا، وَالْقَصْرُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ تُقَابِلُهُ الْإِقَامَةُ، وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا أَقَمْتُمْ، وَالْخَوْفُ يُقَابِلُهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (106: 4) ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا فَإِذَا أَمِنْتُمْ، وَمَعْنَى الِاطْمِئْنَانِ السُّكُونُ بَعْدَ اضْطِرَابٍ وَانْزِعَاجٍ فَهُوَ يُقَابِلُ كُلًّا مِنَ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ زَالَ خَوْفُهُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَنِ انْتَهَى سَفَرُهُ وَاسْتَقَرَّ فِي وَطَنِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا صَلَاةِ السَّفَرِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ قَدْ ثَبَتَ الْقَصْرُ فِيهَا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا شُرِعَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فَقَطْ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، وَمَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا جَامِعَتَانِ لِصَلَاةِ السَّفَرِ بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ فِيهِ، وَلِصَلَاةِ الْخَوْفِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ فَرِيضَةُ الْمَأْمُومِ فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْإِيمَاءِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ فِي اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَفْهُومًا أَوْ جَعَلَ مَفْهُومَهُ مَنْسُوخًا، وَمَنْ فَصَلَ فَجَعَلَ شَرْطَ السَّفَرِ خَاصًّا بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى ثِنْتَيْنِ وَشَرْطَ الْخَوْفِ خَاصًّا بِقَصْرِهَا إِلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَتِهَا وَأَرْكَانِهَا. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَجَعَلَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ فِيهَا عِبَارَةً عَنْ أَدَائِهَا، وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْقِتَالِ فَصَلُّوا قِيَامًا مُسَايِفِينَ وَمُقَارِعِينَ، وَقُعُودًا جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ مُرَامِينَ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ مُثْخَنِينَ بِالْجِرَاحِ، وَفَسَّرَ الِاطْمِئْنَانَ بِالْأَمْنِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ مَا صَلَّى بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، أَيِ الْقَضَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، وَجَعَلَ الْآيَةَ بِهَذَا حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي حَالِ الْقِتَالِ فِي الْمَعْرَكَةِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ ثُمَّ قَضَائَهَا فِي وَقْتِ الْأَمْنِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يُجِيزُ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَتَأْخِيرَهَا إِلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ، وَقَدْ خَرَجَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظَيِ الْقَضَاءِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ الدَّقِيقُ فِي فَهْمِ اللُّغَةِ وَتَفْسِيرِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِمَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَمِيمُهَا الْمَحْضُ، أُسْلُوبُهَا الْغَضُّ فَسُبْحَانَ الْمُنَزَّهِ عَنِ الذُّهُولِ وَالسَّهْوِ. إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا هَذَا تَذْيِيلٌ فِي تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى فِي وَقْتِ الْخَوْفِ وَلَوْ مَعَ الْقَصْرِ مِنْهَا، أَيْ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي هِدَايَةِ عِبَادِهِ كِتَابًا، أَيْ: فَرْضًا مُؤَكَّدًا ثَابِتًا ثُبُوتَ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ أَوِ الطِّرْسِ، مَوْقُوتًا، أَيْ: مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَقْصُورًا مِنْهَا بِشَرْطِهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْخِيرِهَا لِقَضَائِهَا تَامَّةً، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ حِكْمَةِ التَّوْقِيتِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ "، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ مَوْقُوتًا مُنَجَّمًا، كُلَّمَا مَضَى نَجْمٌ جَاءَ نَجْمٌ، قَالَ: يَقُولُ: كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ آخَرُ اهـ، يُقَالُ: وَقَتَ الْعَمَلَ يَقِتُهُ كَوَعَدَهُ يَعِدُهُ، وَوَقَّتَهُ تَوْقِيتًا إِذَا جَعَلَ لَهُ وَقْتًا يُؤَدَّى فِيهِ، وَيُقَالُ: أَقَّتَهُ أَيْضًا بِالْهَمْزَةِ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ، كَمَا يُقَالُ: وَكَّدْتُ الشَّيْءَ تَوْكِيدًا وَأَكَّدْتُهُ تَأْكِيدًا.

حُكْمُ تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ التَّشْكِيكُ شَنْشَنَةٌ لِأَهْلِ الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ مِنْ دُعَاةِ الْمِلَلِ، وَمُتَعَصِّبِي مُقَلَّدَةِ الْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ يَتَّخِذُونَهُ صِنَاعَةً وَحِرْفَةً كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفْنَاهُمْ فِي بِلَادِنَا، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ يُرَوَّجُ فِي سُوقِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنَ التَّفَصِّي مِنْ عُقُلِ الدِّينِ، وَمِنْ أَغْرَبِ ذَلِكَ اعْتِرَاضُهُمْ عَلَى تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهَا رُسُومًا صُورِيَّةً، وَعَادَاتٍ بَدَنِيَّةً، وَأَنَّ الْمَعْقُولَ أَنْ يُوَكَّلَ هَذَا إِلَى اخْتِيَارِ الْمُؤْمِنِ فَيَذْكُرُ رَبَّهُ وَيُنَاجِيهِ عِنْدَمَا يَجِدُ فَرَاغًا تَسْلَمُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الشَّوَاغِلِ، وَلَا تُوجَدُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ أَوِ الْقَوَانِينِ، وَلَا نَظَرِيَّةٌ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَلَا مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ وَالْآدَابِ، إِلَّا وَيُمْكِنُ الْجِدَالُ فِيهَا، وَالْمِرَاءُ فِي نَفْعِهَا أَوْ ضَرِّهَا، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 1328 هـ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَجَبْتُ عَنْهَا جَوَابًا وَجِيزًا مُسْتَعْجَلًا نُشِرَ فِي ص 579 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعَ أَسْئِلَةٍ أُخْرَى: " إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ مِنَ الصَّلَاةِ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِلْخَالِقِ بِالْقَلْبِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَرْقِيَةِ النُّفُوسِ، وَكَانَ مِنَ الْمُحَتَّمِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ صَلَاتَهُ بِمَوَاعِيدَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وَالنَّاسُ عَلَى مَا تَرَى، أَنَّ كُلَّ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ هِيَ بِإِخْلَاصٍ عِنْدَ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ؟ وَإِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْقَلِيلُ مِنْهَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدِّينِ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ فَلِمَاذَا لَا تُتْرَكُ الْحُرِّيَّةُ التَّامَّةُ لِلنَّاسِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاعِيدِ إِقَامَةِ صَلَوَاتِهِمْ؟ وَإِلَّا فَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِلَا إِخْلَاصٍ وَلَا مَيْلٍ حَقِيقِيٍّ لِلْعِبَادَةِ، بَلِ اتِّبَاعًا لِلْمَوَاعِيدِ، وَاحْتِرَامًا لِلتَّقَالِيدِ؟ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَتَّضِحُ لَكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ تَفَاوُتَ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَوْنَ الدِّينِ هِدَايَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ لَا خَاصًّا بِمَنْ كَانَ مِثْلَكُمْ قَوِيَّ الِاسْتِعْدَادِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَفِيهِ الْفَائِدَةُ وَالْخَيْرُ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ لَا يَتْرُكُ الْعِنَايَةَ بِتَكْمِيلِ إِيمَانِهِ، وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ وَالْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ يَنْتَقِدُونَ مَشْرُوعِيَّةَ تَوْقِيتِ الصَّلَوَاتِ وَالْوُضُوءِ وَقَرْنَ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ بِعِلَلٍ مُوجِبَةٍ وَعِلَلٍ غَيْرِ مُوجِبَةٍ عَلَى الْحَتْمِ، وَلَكِنْ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَرُبَّمَا انْتَقَدُوا أَيْضًا وُجُوبَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَجِبُ أَنْ تُتْرَكَ لِاجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ يَأْتِيهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَالْعَقْلُ يُحَدِّدُ ذَلِكَ وَيُوَقِّتُهُ! ! هَؤُلَاءِ تَرَبَّوْا عَلَى شَيْءٍ وَتَعَلَّمُوا فَائِدَتَهُ فَحَسِبُوا لِاعْتِيَادِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُمُ اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ وَلَمْ يَحْتَاجُوا فِيهِ إِلَى إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا فَرْضِ شَارِعٍ،

وَأَنَّ مَا جَازَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَكِلَا الْحُسْبَانَيْنِ خَطَأٌ، فَهُمْ قَدْ تَرَبَّوْا عَلَى أَعْمَالٍ مِنَ الطَّهَارَةِ - النَّظَافَةِ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَغَسْلِ الْأَطْرَافِ فِي الصَّبَاحِ - التُّوَالِيتْ - وَهُوَ مِثْلُ الْوُضُوءِ، أَوِ الْغُسْلِ الْعَامِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَتَعَلَّمُوا مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْفَائِدَةِ، فَقِيَاسُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ خَطَأٌ جَلِيٌّ. إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ فِي وَقْتِهِ إِذَا تُرِكَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَرَى الْبُيُوتَ الَّتِي لَا يَلْتَزِمُ أَصْحَابُهَا أَوْ خَدَمُهَا كَنْسَهَا وَتَنْفِيضَ فُرُشِهَا وَأَثَاثِهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ - عُرْضَةً لِلْأَوْسَاخِ، فَتَارَةً تَكُونُ نَظِيفَةً، وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ نَظِيفَةٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَكْنُسُونَهَا وَيَنْفُضُونَ فُرُشَهَا وَبُسُطَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لَمْ يُلِمَّ بِهَا أَذًى أَوْ غُبَارٌ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ نَظِيفَةً دَائِمًا ; فَإِذَا كَانَتِ الْفَلْسَفَةُ تَقْضِي بِأَنْ يُزَالَ الْوَسَخُ وَالْغُبَارُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَالتَّنْفِيضِ عِنْدَ حُدُوثِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ الْمَكَانُ أَوِ الْفِرَاشُ أَوِ الْبِسَاطُ عَلَى حَالِهِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَالتَّرْبِيَةُ التَّجْرِيبِيَّةُ تَقْضِي بِأَنْ تُتَعَهَّدَ الْأَمْكِنَةُ وَالْأَشْيَاءُ بِأَسْبَابِ النَّظَافَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعِينَةٍ لِيَكُونَ التَّنْظِيفُ خُلُقًا وَعَادَةً لَا تَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ حُدُوثِ أَسْبَابِهَا، فَمَنِ اعْتَادَ الْعَمَلَ لِدَفْعِ الْأَذَى قَبْلَ حُدُوثِهِ أَوْ قَبْلَ كَثْرَتِهِ فَلَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ أَوْلَى وَأَسْهَلُ. وَعِنْدِي أَنْ أَظْهَرَ حِكْمَةٍ لِلتَّيَمُّمِ هِيَ تَمْثِيلُ حَرَكَةِ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا مُقَرَّرًا فِي النَّفْسِ مُحَتَّمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ لِي " مِتْشِلْ أَنَسٍ " وَكِيلُ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ فِي عَهْدِ " كُرُومَرْ ": إِنَّهُ يُوجَدُ إِلَى الْآنَ فِي أُورُبَّةَ أُنَاسٌ لَا يَغْتَسِلُونَ مُطْلَقًا، وَإِنَّنَا نَحْنُ الْإِنْكِلِيزُ أَكْثَرُ الْأُورُبِّيِّينَ اسْتِحْمَامًا، وَإِنَّمَا اقْتَبَسْنَا عَادَةَ الِاسْتِحْمَامِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ، ثُمَّ سَبَقَنَا جَمِيعَ الْأُمَمِ فِيهَا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَقَابِلْهُ بِعَادَاتِ الْأُمَمِ فِي النَّظَافَةِ الَّتِي هِيَ الرَّكْنُ الْعَظِيمُ لِلصِّحَّةِ وَالْهَنَاءِ. وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَسْكَرِيَّةِ كَالْخِفَارَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَجَعَلَهَا مَرْتَبَةً مَوْقُوتَةً مَفْرُوضَةً بِنِظَامٍ غَيْرَ مَوْكُولَةٍ إِلَى غَيْرَةِ الْأَفْرَادِ وَاجْتِهَادِهِمْ. إِذَا تَدَبَّرْتَ مَا ذَكَرْنَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - شَرَعَ الدِّينَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ فِطْرَةِ النَّاسِ وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي يَعْتِقُهُمْ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِمْ، وَبِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَمَنْعِ الشَّرِّ، وَلَا عَمَلَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ وَيُغَذِّيهِ وَيَزَعُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيُحَبِّبُ إِلَيْهَا الْخَيْرَ وَيُرَغِّبُهَا فِيهِ - مِثْلُ ذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَيْ: تَذَكُّرُ كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَقَرُّبُ عَبْدِهِ إِلَيْهِ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا تَنْسَ أَنَّ الصَّلَاةَ شَامِلَةٌ لِعِدَّةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا بِحَقِّهَا قَوِيَتْ مُرَاقَبَتُةُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحُبُّهُ لَهُ، أَيْ: حُبُّهُ لِلْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَبِقَدْرِ ذَلِكَ تَنْفُرُ نَفْسُهُ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ، وَتَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، وَلَا يُحَافِظُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ

104

مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا مُعَيَّنًا وَكِتَابًا مَوْقُوتًا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ الْمُهَذِّبِ لِلنَّفْسِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ - تَرْبِيَةٌ عَمَلِيَّةٌ لِلْأُمَّةِ تُشْبِهُ الْوَظَائِفَ الْعَسْكَرِيَّةَ فِي وُجُوبِ اطِّرَادِهَا وَعُمُومِهَا وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الذَّكْرِ الْمُوَزَّعِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَنْسَى رَبَّهُ وَنَفْسَهُ، وَيَغْرَقَ فِي بَحْرٍ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَزَكَتْ نَفْسُهُ لَا يَرْضَى بِهَذَا الْقَلِيلِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنَ النَّافِلَةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَرِ الْأُخْرَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَزِيدَ، وَيَتَحَرَّى فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ الَّتِي يَرْجُو فِيهَا حُضُورَ قَلْبِهِ وَخُشُوعَهُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ السَّائِلُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِنَّمَا كَانَتْ مَوْقُوتَةً ; لِتَكُونَ مُذَكِّرَةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ; لِئَلَّا تَحْمِلَهُمُ الْغَفْلَةُ عَلَى الشَّرِّ أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْخَيْرِ، وَلِمُرِيدِي الْكَمَالِ فِي النَّوَافِلِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ أَنْ يَخْتَارُوا الْأَوْقَاتَ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَوْفَقَ بِحَالِهِمْ. وَإِذَا رَاجَعْتَ تَفْسِيرَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ (2: 238) ، فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا تَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا، وَبَيَانَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا وَاظَبَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَا تَحْضُرُ قُلُوبُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى تِكْرَارِهَا فَلَا صَلَاةَ لَهُمْ فَلْيُجَاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ. وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتَغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا نَزَلَ فِيهَا إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (3: 140) ، حِينَ بَاتُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ، أَقُولُ: وَقَبْلَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ هَذِهِ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 139) ، [رَاجِعْ ص 119 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ج 4 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ عِكْرِمَةَ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ (أُحُدٍ) رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنْ مُوَافَقَةِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لِآيَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِثْلَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ جَاءَ الْجَلَالُ فَنَقَلَ رَأْيَ عِكْرِمَةَ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ فَأَخْطَأَ فِي تَصْوِيرِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ " لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ فَشَكُوا الْجِرَاحَاتِ " وَقَدْ رَدَّ قَوْلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانُوا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ يَرْغَبُونَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى إِثْقَالِهِمْ بِالْجِرَاحِ، وَلَا حَاجَةَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ إِلَى مَا ذَكَرَ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِلْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ إِذِ الْقِصَّةُ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ تَامَّةً، وَهَذِهِ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامٍ أُخْرَى. ثُمَّ قَالَ: كَانَ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي شَأْنِ الْحَرْبِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا

وَمَا يُرَاعَى فِيهَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ مُتَأَهِّبًا لِلْحَرْبِ مِنَ الْيَقَظَةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي أَثْنَائِهَا، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ لَهُمْ وَتَرَبُّصِهِمْ غَفْلَتَهُمْ وَإِهْمَالَهُمْ لِيُوقِعُوا بِهِمْ، بَعْدَ هَذَا نَهَى عَنِ الضَّعْفِ فِي لِقَائِهِمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ أَجْدَرَ بِالْخَوْفِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ مَا فِي الْقِتَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْمَشَقَّةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَيَمْتَازُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِاللهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْكَافِرِ، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهُ النَّصْرَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ، وَيَرْجُو ثَوَابَ الْآخِرَةِ عَلَى جِهَادِهِ لِأَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقُوَّةُ الرَّجَاءِ تُخَفِّفُ كُلَّ أَلَمٍ وَرُبَّمَا تُذْهِلُ الْإِنْسَانَ عَنْهُ وَتُنْسِيهِ إِيَّاهُ اهـ. أَقُولُ: فَالْآيَةُ تُفَسَّرُ هَكَذَا وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، أَيْ: عَلَيْكُمْ بِالْعَزِيمَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ حَتَّى لَا يُلِمَّ بِكُمُ الْوَهْنُ - وَهُوَ الضَّعْفُ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْخَلْقِ أَوِ الْخُلُقِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَاصَبُوكُمُ الْعَدَاوَةَ أَيْ طَلَبِهِمْ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالْهُجُومِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ عِنْدَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَلْتَزِمُ الدِّفَاعَ فِي الْحَرْبِ تَضْعُفُ نَفْسُهُ وَتَهِنُ عَزِيمَتُهُ، وَالَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الْمُهَاجَمَةِ تَعْلُو هِمَّتُهُ، وَتَشْتَدُّ عَزِيمَتُهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ، وَأَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُضَادُّهُ، فَتَحُولُ دُونَ عُرُوضِهِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ; لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْوَجَعِ وَالْأَلَمِ مِثْلُ مَا يَعْرِضُ لَكُمْ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْأَجْسَامِ الْحَيَّةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَتَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَقَدْ وَعَدَكُمُ اللهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ النَّصْرَ أَوِ الْجَنَّةَ بِالشَّهَادَةِ إِذَا كُنْتُمْ لِلْحَقِّ تَنْصُرُونَ، وَعَنِ الْحَقِيقَةِ تُدَافِعُونَ، فَهَذَا التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَالْوَعْدِ مِنَ الرَّحْمَنِ هُمَا مَدْعَاةُ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، وَمَنْفَاةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، وَالرَّجَاءُ يَبْعَثُ الْقُوَّةَ، وَيُضَاعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَدْأَبُ صَاحِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالْيَأْسُ يُمِيتُ الْهِمَّةَ، وَيُضْعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَغْلِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْجَزِعُ وَالْفُتُورُ، فَإِذَا اسْتَوَيْتُمْ مَعَهُمْ فِي آلَامِ الْأَبْدَانِ، فَقَدْ فَضَلْتُمُوهُمْ بِقُوَّةِ الْوِجْدَانِ، وَجُرْأَةِ الْجَنَانِ، وَالثِّقَةِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَجْدَرُ بِالْمُهَاجَمَةِ، فَلَا تَهِنُوا بِالْتِزَامِ خُطَّةِ الْمُدَافَعَةِ، وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ الثَّابِتَةُ، بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَا دَامُوا بِهَدْيِهِ عَامِلِينَ، وَعَلَى سُنَنِهِ سَائِرِينَ ; لِأَنَّ أَقَلَّ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لِلْكُفَّارِ فِي عَدَدِ الْقِتَالِ وَأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ وَهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ بِالْقُوَى وَالْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، وَإِذَا أَقَامُوا الْإِسْلَامَ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُقَامَ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ لِلْقِتَالِ اسْتِعْدَادًا، وَأَحْسَنَ نِظَامًا وَسِلَاحًا. فَهَذِهِ الْآيَةُ بُرْهَانٌ عِلْمِيٌّ عَقْلِيٌّ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنْ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ، وَنَقَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَرْبِ الْإِنْكِلِيزِ لِأَهْلِ الْتِرَنْسِفَالِ

105

اعْتِرَافَ الْأُورُبِّيِّينَ بِكَوْنِ الْإِيمَانِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ، فَمَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ لَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ بِعَرْضِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِيمَانِ! ؟ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: قَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَابْتَاعَ عَمِّي رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ فِيهَا سِلَاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعَدَى عَلَيْهِ مِنْ تَحْتُ فَنَقَبْتُ الْمَشْرَبَةَ وَأَخَذَ الطَّعَامَ وَالسِّلَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رَفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا، فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ، فَقَالَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ، وَاللهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيَدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكُّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا وَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَبَيِّنَةٍ؟ فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، بَنِي أُبَيْرِقٍ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ، أَيْ: مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمًا فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ وَلَحِقَ بَشِيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (4: 115) ، إِلَى قَوْلِهِ: ضَلَالًا بَعِيدًا (4: 116) ، قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدِهِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: " عَدَا بَشِيرُ بْنُ الْحَارِثِ عَلَى عَلِيَّةِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ عَمِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَنَقَبَهَا مِنْ ظَهْرِهَا وَأَخَذَ طَعَامًا لَهُ وَدِرْعَيْنِ بِأَدَاتِهِمَا فَأَتَى قَتَادَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَدَعَا بَشِيرًا فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ وَرَمَى بِذَلِكَ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَا حَسَبٍ وَنَسَبٍ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَكْذِيبِ بَشِيرٍ وَبَرَاءَةِ لَبِيَدٍ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَاتِ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَرَوَى

107

ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَفِيمَا هَمَّ بِهِ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عُذْرِهِ، وَبَيِنَّ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، وَوَعَظَ نَبِيَّهُ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَكَانَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي ظَفَرٍ سَرَقَ دِرْعًا لِعَمِّهِ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ كَانَ يَغْشَاهُمْ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِيرِ، فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهْتِفُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ بَنُو ظَفَرٍ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيَعْذُرُوا صَاحِبَهُمْ، وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ هَمَّ بِعُذْرِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي شَأْنِهِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ: وَلَا تُجَادِلْ إِلَخْ، وَكَانَ طُعْمَةُ قَذَفَ بِهَا بَرِيئًا، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ نَافَقَ وَلَحِقَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ فَأَنْزِلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَسُرِقَتْ لِأَحَدِهِمْ دِرْعٌ فَأَظَنَّ بِهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ سَرَقَ دِرْعِي، فَأْتِ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنْ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ، وَإِنَّ سَارِقَ الدِّرْعِ فَلَانٌ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَرَّأَهُ أَوْ عَذَرَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، إِلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ وَطَرَحَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللهِ مَا سَرَقْتُهَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ طُرِحَتْ عَلَيَّ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَرَقَ جِيرَانٌ يُبَرِّئُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْيَهُودِيُّ الْخَبِيثُ يَكْفُرُ بِاللهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ: حَتَّى مَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَاتَبَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَذَكَرَ الْآيَاتِ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّجُلِ: وَيُقَالُ: هُوَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ. وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ دِرْعًا فَخَانَهُ فِيهَا وَأَخْفَاهَا فِي دَارِ أَبِي مَلِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَهَانَ طُعْمَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ الْيَهُودِيَّ لَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ دِرْعَهُ، وَجَادَلَتِ الْأَنْصَارُ عَنْ طُعْمَةَ، وَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يُجَادِلَ عَنْهُ إِلَخْ، وَقَدِ اخْتَارَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْخَائِنَ هُوَ طُعْمَةُ وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ هُوَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْحَقِّ. هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَأَمَّا وَجْهُ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ مَا نَصَّهُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ،

ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمْرُ الْمُحَارِبَةِ، وَاتَّصَلَ بِذِكْرِ الْمُحَارِبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَمِثْلُ بَيَانِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، رَجَعَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَحْمِلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ وَيَذْرَ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَلَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ بِإِنْزَالِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، طَلَبًا لِرِضَا قَوْمِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخِيَانَةُ مَعَهُمْ، وَلَا إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ بِالنَّظَرِ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَلَّا يَلْحَقَ الْكَافِرَ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يَرْضَى الْمُنَافِقُ بِذَلِكَ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ حَذَّرَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ طَمْسَهُ بِإِهْلَاكِ أَهْلِهِ، أَرَادَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِمَّا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَتَرْكِ حِفْظَهُ، فَإِنَّ إِهْمَالَ الْعِنَايَةِ بِالْحَقِّ أَشَدُّ الْخَطَرَيْنِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِفَقْدِ الْعَدْلِ أَوْ تَدَاعِي أَرْكَانِهِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الدِّينُ ; فَالْعَدُوُّ لَا يُمْكِنُهُ إِهْلَاكُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ وَإِعْدَامُهَا، وَلَكِنَّ تَرْكَ الْأُصُولِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْأُمَّةِ كَالْعَدْلِ، وَغَيْرِهِ يُهْلِكُ كُلَّ أُمَّةٍ تُهْمِلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ [وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُولَى] . أَقُولُ: أَمَّا اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً فَالْأَقْرَبُ فِيهَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَيُمْكِنُ بَيَانُهُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَيَسْتَعِدُّوا لِمُجَاهَدَتِهِمْ حِفْظًا لِلْحَقِّ أَنْ يُؤْتَى مِنَ الْخَارِجِ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْفَظُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُؤْتَى مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنْ يُقِيمُوهُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا يُحَارِبُوا فِيهِ أَحَدًا، وَأَمَّا اتِّصَالُهَا بِمَجْمُوعِ مَا قَبْلَهَا فَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْبُيُوتِ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هُنَا تَنَوَّعَتِ الْآيَاتُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْيَهُودِ، وَبَيَانِ حَالِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّعْيِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ كَالْيَهُودِ وَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا لِيُطَاعَ، وَالتَّرْغِيبُ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهِ، وَقَدْ عَادَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا إِلَى تَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ بَعْدَ مَا حَتَّمَ اللهُ التَّحَاكُمَ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِطَاعَتِهِ

فِيمَا يَحْكُمُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ فِي بَيَانِ وَاقِعَةٍ اشْتَرَكَ فِيهَا الْخِصَامُ بَيْنَ مَنْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ شَرْحُ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ أَيْ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَبَيَانِهِ لِأَجْلِ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا عَلَّمَكَ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَاحْكُمْ بِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، تُخَاصِمُ عَنْهُمْ وَتُنَاضِلُ دُونَهُمْ، وَهُمْ طُعْمَةُ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ سَرَقُوا الدِّرْعَ وَأَرَادُوا أَنْ يُلْصِقُوا جُرْمَهُمْ بِالْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السُّورَةِ الْآتِيَةِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (5: 49) ، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ يَهُودِيًا أَوْ مَجُوسِيًّا، أَوْ مُسْلِمًا حَنِيفِيًّا، قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ: بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يَعْنِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، يَقُولُ: وَلَا تَكُنْ لِمَنْ خَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ خَصِيمًا تُخَاصِمُ عَنْهُ وَتُدَافِعُ عَنْهُ مَنْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ الَّذِي خَانَهُ فِيهِ اهـ، وَتَسْمِيَةُ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ بِالْأَحْكَامِ إِرَاءَةٌ يَشْعُرُ بِأَنَّ عِلْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا يَقِينِيٌّ كَالْعِلْمِ بِمَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، فَعَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْحُكْمِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلَهَا لِارْتِبَاطِهِمَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَهَاوَنْ بِتَحَرِّي الْحَقِّ اغْتِرَارًا بِلَحْنِ الْخَائِنِينَ، وَقُوَّةِ صَلَابَتِهِمْ فِي الْخُصُومَةِ ; لِئَلَّا تَكُونَ خَصِيمًا لَهُمْ وَتَقَعَ فِي وَرْطَةِ الدِّفَاعِ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ حُكْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ فَقَطْ، أَوْ بِالْوَحْيِ تَارَةً وَبِالِاجْتِهَادِ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَرَاكَ اللهُ مَعْنَاهُ: أَعْلَمَكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا كَالرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا الْوَحْيُ الَّذِي يَفْهَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ مُرَادَ اللهِ فَهْمًا قَطْعِيًّا، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللهُ - تَعَالَى -، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا أَحَدُنَا فَرَأْيُهُ أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا عِلْمًا "، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ ثُمَّ قَالَ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ، ثُمَّ فَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَا كَانَ جَائِزًا لَهُ، وَإِنَّمَا

يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْقِيَاسِ، وَعَدَمَ جَوَازِهِ لَوْلَا أَنْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَيْضًا. وَقَالَ الْإِمَامُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِشَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ ": لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا نَصَّهُ لَكَ فِي الْكِتَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَرَاكَهُ بِوَاسِطَةِ نَظَرِكَ وَاجْتِهَادِكَ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدِهِ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. " حُجَّةُ مَنْ أَجَازَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ مَنْصِبُ كَمَالٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَوِّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ وَلَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهُ قَبْلَ قَتْلِهِ لَمْ أَقْتُلْهُ "، فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ. حُجَّةُ الْمَانِعِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى يَقِينِ الْوَحْيِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ لِجَوَازِهِ فِي حَقِّهِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ. " ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ لَهُ، هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْخَطَأُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ أَحَدُهُمَا: لَا، لِعِصْمَتِهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ بِشَرْطِ أَلَّا يُقِرَّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِنَحْوِ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (9: 43) ، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (8: 67) ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَسْأَلَةُ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى نَبِيٍّ حُكْمَ أُمَّةٍ بِأَنْ يَقُولَ: احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِاجْتِهَادِكَ وَمَا حَكَمْتَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، أَوْ وَأَنْتَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَقَرَّ بِهِمَا الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَضْمُونٍ لَهُ ذَلِكَ، جَازَ لَهُ الْحُكْمُ. أَوْ يُقَالُ: هَذَا التَّفْوِيضُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ. أَقُولُ: الْآيَةُ فِي الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ لَا فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا عَلَيْهِ أَيْضًا وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ; لِأَنَّ هَذَا فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحْيًا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، كَمَا كَانَ يُسْأَلُ أَحْيَانًا فَيُجِيبُ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِلْوَحْيِ. وَاسْتَغْفِرِ اللهَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " وَسَلْهُ أَنْ يَصْفَحَ لَكَ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِكَ فِي مُخَاصَمَتِكَ عَنِ

الْخَائِنِ "، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ: 1 - لَعَلَّهُ مَالَ إِلَى نُصْرَةِ (طُعْمَةَ) لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. 2 - لَعَلَّهُ هَمَّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ عَمَلًا بِشَهَادَةِ قَوْمِ طُعْمَةَ الَّتِي لَمْ يُكَذِّبْهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ لَوَقَعَ قَضَاؤُهُ خَطَأً لِبِنَائِهِ عَلَى كَذِبِ الْقَوْمِ وَزُورِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالذَّنَبُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. 3 - يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللهَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُظْهِرُوا بَرَاءَتَهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِمَّا يَعْرِضُ لَكَ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ مِنْ نَحْوِ مَيْلٍ إِلَى مَنْ تَرَاهُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، أَوِ الرُّكُونُ إِلَى مُسْلِمٍ لِأَجْلِ إِسْلَامِهِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ الِاشْتِبَاهَ، وَتَكُونُ صُورَةُ صَاحِبِهِ صُورَةَ مَنْ أَتَى الذَّنْبَ الَّذِي يُوجِبُ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلزَيْغِ عَنِ الْعَدْلِ، وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْخَصْمِ، فَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْحَقِّ، كَأَنَّ مُجَرَّدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِ الْمُخَادِعِ كَافٍ إِلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهِ. أَقُولُ: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ لِمَا كَانَ يَغْلُبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَعَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا إِلَّا مُنَافِقِينَ ; لِأَنَّ مِثْلَ عَمَلِ طُعْمَةَ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَيَّدَهُ فِيهِ لَا يَصْدُرُ عَمْدًا إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، وَتَبِعَ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَّ لَوْ يَكُونُ الْفَلْجُ بِالْحَقِّ فِي الْخُصُومَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَجَّحُ صِدْقُهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ انْتِظَارًا لِوَحْيِ اللهِ - تَعَالَى -، فَعَلَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَعَلَّمَنَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ الشَّخْصِيَّ، وَالْمَيْلَ الْفِطْرِيَّ وَالدِّينِيَّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ لَهُمَا أَثَرٌ مَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا أَنْ يُسَاعِدَ الْقَاضِي مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى تَأْيِيدِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يُفْضِي إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَيَكُونُ الْحَاكِمُ خَصِيمًا عَنْهُ لَوْ فَعَلَ، وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الِانْتِصَارِ لَهُمْ مِنَ الْخَائِنِينَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُوَجَّهُ بِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبْلَغُ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ وَلَا الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْحُكْمِ أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ مَا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ أَوْ مَا يَرَوْنَ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْكُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَأْيِيدٌ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي

أَمْرٍ بَيَّنَ لَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حَقِيقَةَ الْوَاقِعِ فِيهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي مُعَامَلَةِ ذَوِيهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِرَارًا. وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ: يَخُونُونَهَا، بَلْ يَتَعَلَّمُونَ وَيَتَكَلَّفُونَ مَا يُخَالِفُ الْفِطْرَةَ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّرَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهَذَا النَّهْيُ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَشْرِيعٌ وُجِّهَ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً ; وَفِي جَعْلِهِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لَهُ - وَهُوَ أَعْدَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ - مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْمَعْهُودَةِ مِنَ الْحُكَّامِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، أَيْ: مَنِ اعْتَادَ الْخِيَانَةَ وَأَلِفَ الْإِثْمَ فَلَمْ يَعُدْ يَنْفِرُ مِنْهُ، وَلَا يَخَافُ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ عَلَيْهِ، فَيُرَاقِبُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ أَهْلَ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ الْخَوَّانِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِثْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ ارْتِكَابِ خِيَانَتِهِمْ وَاجْتِرَاحِهِمُ الْإِثْمَ ; لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ ضُرَّهُمْ، وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُمْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، إِذِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَقَعُ الْخِيَانَةُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ لَا تَدُومُ وَلَا تَتَكَرَّرُ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا خَطِيئَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ مِنْهُ - تَعَالَى - فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَرَاهُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ فِي حَنَادِسِ الظُّلُمَاتِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ الذَّنْبَ وَالْخِيَانَةَ حَيَاءً مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ: وَهُوَ - تَعَالَى - شَاهِدُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُدَبِّرُونَ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، لِأَجْلِ تَبْرِئَةِ أَنْفُسِهِمْ وَرَمْيِ غَيْرِهِمْ بِخِيَانَتِهِمْ وَجَرِيمَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْيَهُودِيِّ جَمَاعَةٌ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجِدَالِ عَنْهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى هَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ بُدِئَ بِخِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، أَيْ: هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ وَحَاوَلْتُمْ تَبْرِئَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، يَوْمَ يَكُونُ الْخَصْمُ وَالْحَاكِمُ هُوَ اللهُ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ كَافَّةً؟ أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَادِلَ هُنَالِكَ أَحَدٌ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لَهُمْ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرَاقِبُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنَالَ الْفَلْجَ بِالْحُكْمِ لَهُ مِنْ قُضَاةِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَقٍّ، يُمْكِنُهُ كَذَلِكَ أَنْ يَظْفَرَ فِي الْآخِرَةِ،

110

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (82: 19) ، الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى الذَّرَّةِ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (21: 47) ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الدُّنْيَا لَا يُجِيزُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا هَذَا بَيَانٌ لِلْمَخْرَجِ مِنَ الذَّنْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْغَمُّ وَالْكَدَرُ وَفَسَّرُوهُ بِالذَّنْبِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ تَسُوءُ وَلَوْ عِنْدَ الْجَزَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتُكِبَتْ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ السِّيَاقُ بِسَبَبِهَا. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَحْذِيرٌ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ هَدْمَ رُكْنِهِمَا، وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا يُمْتَثَلُ هَذَا التَّحْذِيرُ بِالِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْخُصَمَاءِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ، وَالظُّلْمُ مَا كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا بِالْعَامِلِ كَتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا، وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَازِمَهُ وَهُوَ الشُّعُورُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَلِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - خُطْبَةً فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تُذِيبُ الشَّحْمَ وَتُفْنِي الْعَظْمَ، وَمَعْنَى وِجْدَانِهِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا أَنَّ اللهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ مِنْهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ. أَقُولُ: وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَاتِي عَنِ الدَّرْسِ عِنْدَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهِيَ: وَتَرَكْتُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لِي مِنَ النُّكْتَةِ ثُمَّ نَسِيتُهُ إِلَى الْآنَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِوِجْدَانِ اللهِ غَفُورًا رَحِيمًا هُوَ أَنَّ التَّائِبَ الْمُسْتَغْفِرَ يَجِدُ أَثَرَ الْمَغْفِرَةِ فِي نَفْسِهِ بِكَرَاهَةِ الذَّنْبِ وَذَهَابِ دَاعِيَتِهِ، وَيَجِدُ أَثَرَ الرَّحْمَةِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُطَهِّرُ النَّفْسَ وَتُزِيلُ ذَلِكَ الدَّرَنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ السُّوءُ أَوِ الظُّلْمُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ الْعَبْدُ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ ابْنِ عَطَاءِ اللهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا، خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، وَالْمُرَادُ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي يُورِثُ صَاحِبَهُ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ مَعَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ لِطُعْمَةَ وَأَنْصَارِهِ فِي التَّوْبَةِ. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلِ الْإِثْمَ عَنْ قَصْدٍ وَيَرَ أَنَّهُ قَدْ كَسَبَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، فَإِنَّمَا كَسْبُهُ هَذَا وَبَالٌ عَلَى نَفْسِهِ وَضَرَرٌ لَا نَفْعَ لَهُمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ لِجَهْلِهِ بِعَوَاقِبِ الْآثَامِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونَةِ فِي الدُّنْيَا فَضِيحَةُ الْآثِمِ وَمَهَانَتُهُ بِظُهُورِ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ وَلِلْحَاكِمِ الْعَادِلِ، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمُ الْآيَاتُ، وَسَتَرَى تَحْدِيدَ مَعْنَى الْإِثْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قَالَ الْأُسْتَاذُ

112

الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّدَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ حُدُودَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَضُرُّهُمْ تَجَاوُزُهَا، وَبِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لَهَا عِقَابًا يَضُرُّ الْمُتَجَاوِزَ لَهَا، فَهُوَ إِذَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللهَ شَيْئًا. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، أَقُولُ: يُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ الْخَطِيئَةَ وَالْإِثْمَ وَالذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا مَعْنًى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، أَيْ: مِثْلَ السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ ; لِأَنَّهُمَا يَشْغَلَانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (2: 219) ، وَأَمَّا الْخَطِيئَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنَ الْخَطَأِ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَصِيغَةُ فَعِيلَةُ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَيْضًا فَالْخَطِيئَةُ الْفِعْلَةُ الْعَرِيقَةُ فِي الْخَطَأِ لِظُهُورِهِ فِيهَا ظُهُورًا لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِجَهْلِهِ، وَالْخَطَأُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُخْطِئَ مَا يُرَادُ مِنْكَ، وَهُوَ مَا يُطَالِبُكَ بِهِ الشَّرْعُ وَيَفْرِضُهُ عَلَيْكَ الدِّينُ، أَوْ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالْعَهْدُ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مَا يُخْطِئُهُ الْفَاعِلُ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ: أَيْ يَتَجَاوَزُهُ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوا الْخَطِيئَةَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا بِالْخَطَأِ وَالْإِثْمِ بِالْعَمْدِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَطِيئَةُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الذَّنْبِ عَنِ الْفَاعِلِ خَطَأً، أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْإِثْمُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيَعْنِي بِالْمُلَاحَظَةِ تَذَكُّرَ ذَلِكَ وَتَصَوُّرَهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدَمَ الْمُلَاحَظَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ عِنْدَ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ تَمَكُّنَ دَاعِيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ وَوُصُولَهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَالْأَخْلَاقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْخَطِيئَةَ هُنَا بِالْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ أَيْ: يُحَيِّرُهُ وَيُدْهِشُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يُبْرِئْ نَفْسَهُ مِنْهُ أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ، وَيَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَيْ: يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ وَيَزْعُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَسَبَهُ، فَقَدِ احْتَمَلَ أَيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَ الْبُهْتَانِ بِافْتِرَائِهِ عَلَى الْبَرِيءِ وَاتِّهَامِهِ إِيَّاهُ، وَوِزْرُ: الْإِثْمُ الْبَيِّنُ الَّذِي كَسَبَهُ وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَعَ هَذَا يَنْسُبُ الْمَارِقُونَ ضَعْفَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ تَرْكُ هِدَايَتِهِ، فَالْحَادِثَةُ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْرَ وُقُوعِهَا كَانَتْ فَذَّةً فِي بَابِهَا، وَمَا زَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَرَقَ أَوْ خَانَ بَعْضُهُمْ، وَنَصَرَهُ آخَرُونَ وَبَهَتُوا الْيَهُودِيَّ بِرَمْيِهِ بِجُرْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، لَا يَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَكِنَّ مِثْلَهَا صَارَ الْيَوْمَ مَأْلُوفًا، بَلْ وُجِدَ فِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِجَوَازِ خِيَانَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلِمْنَا مِنْ وَاقِعَةِ حَالٍ اسْتُفْتِينَا فِيهَا وَنُشِرَتِ الْفَتْوَى فِي الْمَنَارِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ.

113

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ وَالْمَوَاعِظَ الْمُنْطَبِقَةَ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ لَهُ شَأْنٌ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، خَاطَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْعِصْمَةِ، وَرَحْمَتُهُ لَكَ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ بِمُسَاعَدَةِ الْخَائِنِ أَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضِيَّةِ فِي نَفْسِهَا، أَيْ: يُضِلُّوكَ بِقَوْلِ الزُّورِ وَتَزْكِيَةِ الْمُجْرِمِ وَبُهْتِ الْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالظَّوَاهِرِ، أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْمَيْلِ إِلَى إِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُبِيحُ تَرْجِيحَ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِهِ وَنَصْرَهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا كَمَا يَعْهَدُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَكِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ وَيَهُمُّوا بِهِ جَاءَكَ الْوَحْيُ بِبَيَانِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ أَرْكَانِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، إِذْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: جِئْنَا لِنُبَايِعُكَ عَلَى أَلَّا تَكْسِرَ أَصْنَامَنَا وَلَا تُعَشِّرْنَا، فَرَدَّهُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِانْحِرَافِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجَادِلْ عَنْهُمْ وَلَا أَطْمَعُهُمْ فِي التَّحَيُّزِ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْأَوْلَى. هَذَا مَا ظَهَرَ لِيَ الْآنَ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى مُذَكِّرَاتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا فِيهَا مَا نَصَّهُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمُخْتَانِينَ أَنْفُسَهُمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ زَحْزَحَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَوْجِيهِهَا إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا وَرَدَ مِنْ قِصَّةِ طُعْمَةَ ; لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ قَدْ هَمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِإِضْلَالِ النَّبِيِّ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ قَدْ صَرَفَ نُفُوسَ الْأَشْرَارِ عَنِ الطَّمَعِ فِي إِضْلَالِهِ وَالْهَمِّ بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرَارَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ وَهِمَمُهُمْ إِلَى التَّلْبِيسِ عَنْ شَخْصٍ وَمُخَادَعَتِهِ وَمُحَاوَلَةِ صَرْفِهِ عَنِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَشْغَلَ طَائِفَةً مِنْ وَقْتِهِ لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَكَشْفِ حِيَلِهِمْ وَتَمْيِيزِ تَلْبِيسِهِمْ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمَرْءَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَصَرْفِ وَقْتِ الْمُقَاوَمَةِ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ صَالِحٍ نَافِعٍ ; وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَحِمَهُ بِصَرْفِ كَيْدِ الْأَشْرَارِ عَنْهُ حَتَّى بَالِهِمْ بِغِشِّهِ وَزَحْزَحَتِهِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي أَقَامَهُ عَلَيْهِ اهـ.

وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ فِقْهُ مَقَاصِدِ الْكُتَّابِ وَأَسْرَارِهِ، وَوَجْهِ مُوَافَقَتِهَا لِلْفِطْرَةِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَاتِّحَادِهَا مَعَ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ (42: 52) ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَعْلِيمُهُ الْغَيْبَ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ الْكِتَابُ وَالشَّرِيعَةُ، وَخُصُوصًا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَخَاصَمَ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْيَهُودِيِّ. وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، إِذِ اخْتَصَّكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ شُكْرًا لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى أُمَّتِكَ مِثْلُ ذَلِكَ لِيَكُونُوا بِهَذَا الْفَضْلِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا أَقُولُ: تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ طُعْمَةَ الْخَائِنَ لَمْ يَكَدْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُ حَتَّى فَرَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرَ الشِّرْكَ وَالطَّعْنَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِيَتَّخِذَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ يُعِينُونَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْخِيَانَةِ بِالْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ لِيُبْطِلَ الْخِيَانَةَ وَالضَّلَالَ، وَيَمْحَقَ الْأَبَاطِيلَ، وَيُؤَيِّدَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ، أَفَلَا يَسْمَعُ هَذَا الْمُبْطِلُونَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يُقَلِّدُونَ قُسُوسَ قُرُونِهِمُ الْمُظْلِمَةِ مُثِيرِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ جَمْعِيَّةَ لُصُوصٍ وَقُطَّاعَ طُرُقٍ، أَلَا يَدُلُّونَنَا عَلَى حُكُومَةٍ مِنْ أَرْقَى حُكُومَاتِهِمْ أَوْصَلَهَا دِينُهَا وَمَدَنِيَّتُهَا وَعُلُومُهَا وَحَضَارَتُهَا إِلَى الرِّضَا بِمُسَاوَاةِ أَبْنَائِهَا وَأَوْلِيَائِهَا بِأَعْدَى أَعْدَائِهَا وَيُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ مِثْلَمَا شَدَّدَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَضِيَّةِ طُعْمَةَ مَعَ الْيَهُودِيِّ؟ كَيْفَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ فِي بِلَادِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الرَّجُلَ

114

مِنْ أَشْرَارِ جُنَاتِهِمْ وَتُحُوتِ صَعَالِيكِهِمْ قَدْ يَقْتُلُ الْوَاحِدُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فِي مِصْرَ فَيُحَاكِمُهُ قُنْصُلُ دَوْلَتِهِ كَمَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي لَوَّثَهَا بِدَمِ الْجِنَايَةِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ثُمَّ يَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ؟ فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ يَكُونُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا بَعْدَهُ نَزَلَ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ نَجْوَاهُمْ، يَعُودُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ يُبَيِّتُونَ فِي لَيْلِهِمْ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَا يُرْضِي رَبَّهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَالنَّجْوَى: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَمَعْنَاهُ الْمُسَارَّةُ بِالْحَدِيثِ قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ عَمَّا حَوْلَهُ بِحَيْثُ يَنْفَرِدُ مَنْ فِيهِ عَمَّنْ دُونَهُ، وَقِيلَ: مِنَ النَّجَاةِ، كَأَنَّهُ نَجَا بِسِرِّهِ مِمَّنْ يَحْذَرُ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: قَوْمٌ نَجْوَى وَرَجُلَانِ نَجْوَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى (17: 47) ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ (58: 7) ، وَقَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وَأَجَازَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَنْ تَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ أَيْ: الْمُتَسَارِّينَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاجِينَ الَّذِينَ يُسِرُّونَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةِ طُعْمَةَ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَتَهُ عَلَى اتِّهَامِ الْيَهُودِيِّ وَبَهْتِهِ وَمِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا عَلَى ظَاهِرِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّجْوَى هُنَا بِمَعْنَى التَّنَاجِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَنَاجِي هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي نَجْوَاهُ الْخَيْرُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ لِلْإِعْرَابِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ (2: 177) ، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَرَأَيُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِيهِ [فَلْيُرَاجَعْ فِي ص 90 وَمَا بَعْدَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ هُنَا: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ الشَّرُّ، فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي نَجْوَاهُمْ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ الْكَثِيرِ هُنَا هُوَ أَنَّ مِنَ النَّجْوَى مَا يَكُونُ فِي الشُّئُونِ الْخَاصَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ مَثَلًا فَلَا تُوصَفُ بِالشَّرِّ، وَلَا هِيَ مُرَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ،

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّجْوَى الْكَثِيرَةِ الْمَنْفِيِّ الْخَيْرُ عَنْهَا النَّجْوَى فِي شُئُونِ النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ اهـ. أَقُولُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْخَائِنِينَ فَنَفْيُ الْخَيْرِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْ نَجْوَاهُمْ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْحَكِيمَ يَجْعَلُ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الْإِثْمِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بُقُولِهِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (58: 9، 10) ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى، ثُمَّ هُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الشَّرِّ فِي الْأَكْثَرِ هِيَ أَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ وَسُنَّةَ الْفِطْرَةِ الْمُتَّبَعَةَ هِيَ اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ الْخَيْرِ وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ، وَأَنَّ الشَّرَّ وَالْإِثْمَ هُوَ الَّذِي يُخْفَى، وَيُذْكَرُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَقَلَّمَا يَكْتُمُ النَّاسُ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ فِي كِتْمَانِ بَعْضِ الْخَيْرِ وَإِسْرَارِهِ وَجَعْلِ الْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوًى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ خَيْرًا لِلْمُتَنَاجِينَ وَشَرًّا لِغَيْرِهِمْ أَوْ مُؤْذِيًا لَهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَأَسْرَارِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ الَّتِي يَتَوَخَّى بِهَا أَهْلُهَا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَضَرَرَ غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمُونَ أَخْبَارَهَا وَيَجْعَلُونَهَا نَجْوَى بَيْنِهِمْ لِئَلَّا تَصِلَ إِلَى خَصْمِهِمْ وَعَدُوِّهِمُ الَّذِي يَضُرُّهُ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَنْفَعُهُ مَا يُحْبِطُ عَمَلَهُمْ وَيُبْطِلُ كَيْدَهُمْ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مَا يَكُونُ بَيْنَ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طُلَّابِ الْكَسْبِ مِنَ التَّنَاجِي فِيمَا يَخَافُونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَيَسْبِقُهُمْ إِلَيْهِ أَوْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنَ الْكَسْبِ خَيْرٌ لَهُمْ وَشَرٌّ لَهُمْ. وَهُنَالِكَ أُمُورٌ مِنَ الْخَيْرِ تَتَوَقَّفُ خَيْرِيَّتُهَا أَوْ كَمَالُ الْخَيْرِ فِيهَا وَخُلُوُّهُ مِنَ الشَّوَائِبِ عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَعْلِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ سِرًّا وَالْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوَى، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَمَا اسْتَثْنَاهَا اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النَّجْوَى الَّتِي لَا خَيْرَ فِي أَكْثَرِهَا إِلَّا لِأَنَّهَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، وَإِنِّي لَمْ أَفْطِنْ لِهَذَا إِلَّا عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ نَقْلٌ، وَقَدْ عَجِبْتُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَيْفَ ذَهَبَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ مَا لَمْ أَعْجَبْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ أَبُو عُذْرَةِ هَذِهِ الدَّقَائِقُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ وَالْقُرْآنِ ; عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيَّ جَمِيعُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ لِأُرَاجِعَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِيهَا. أَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَا مِرْيَةَ فِيهَا، وَإِنَّ إِظْهَارَهَا قَدْ يُؤْذِي الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَيَضَعُ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْرُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا أَشَدَّ إِيذَاءً وَإِهَانَةً لَهُ مِنْ

إِيتَائِهِ إِيَّاهَا جَهْرًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; وَلِهَذَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 271) ، فَقَدْ مَدَحَهَا اللهُ - تَعَالَى - مُطْلَقًا، وَجَعَلَ إِخْفَاءَ مَا يُؤْتَاهُ الْفَقِيرُ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ إِظْهَارِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ يَتَأَذَّى بِالْإِظْهَارِ وَيَرَاهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِظْهَارِ لَحَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَوْجَبَ الْإِخْفَاءَ إِيجَابًا، فَلَمَّا ذَمَّ اللهُ - تَعَالَى - النَّجْوَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَلَّا يَتَنَاجَى الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْخَيْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْحَيَاءِ وَالْكَرَامَةِ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، اسْتَثْنَى الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّجْوَى حَتَّى لَا يَتَحَامَاهُ الْمُتَوَرِّعُونَ خَوْفًا أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، أَيْ: مَا تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّهُ النُّفُوسُ وَتَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْمَصَالِحِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْعُقُولِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ مِنَ الْعَرَبِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيِ الرَّجُلِ إِذَا عَرَفَ، وَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَأَعْرِفُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ الشَّرْعُ مُهَذِّبًا لِلنُّفُوسِ وَمُرْشِدًا لِلْعُقُولِ، وَمُقَوِّمًا لِمَا مَالَ وَانْآدَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِسُوءِ اجْتِهَادِ النَّاسِ صَارَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ أَوْ أَقَرَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَمَّهُ وَكَرِهَهُ، فَالَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَاءُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْآمِرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً ; لِأَنَّهُ يَرَى فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَاتِّهَامًا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ أَوِ الْجَهْلِ، وَإِشْرَافًا عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ، مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتِ النَّجْوَى بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيذَاءِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِمْضَاءِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، لِيَكُفَّ عَنْهُ مُحِبُّو الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يَتَأَثَّمُ بِهِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَائِدَةَ الْإِخْفَاءِ. وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِظْهَارِهِ وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ شَرٌّ كَبِيرٌ، وَضَرَرٌ مُسْتَطِيرٌ، فَيَنْقَلِبُ الْإِصْلَاحُ الْمَطْلُوبُ إِفْسَادًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ، وَاخْتَبَرَ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِصَامِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ وَالصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي بِسَعْيِ مُحِبِّي الْإِصْلَاحِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنَ الصُّلْحِ كَانَ بِأَمْرِ زَيْدٍ مِنَ النَّاسِ، لَا يَسْتَجِيبُ وَلَا يَقْبَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الرِّضَا بِذَلِكَ ذِكْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ بِسَعْيٍ وَتَوَاطُؤٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُصَالَحَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ ذَلِكَ، وَالْجَهْرُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ قَدْ يُبْطِلُ ذَلِكَ، فَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْكِتْمَانِ وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ وَالسَّعْيُ إِلَيْهِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِ بِالنَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ.

لَوْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّجْوَى لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَذَهَبَ اجْتِهَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَوَرِّعِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ فَيَتْرُكُونَ النَّجْوَى بِهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الْجَهْرَ بِالْأَمْرِ بِهَا فَيَفُوتُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا تَرْكَ الْأَمْرِ بِهَا أَلْبَتَّةَ، لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَى النَّفْعِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصَّدَقَةِ الضَّرَرُ، وَتَأْخُذُ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَيَتَحَوَّلُ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ إِلَى إِفْسَادٍ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي الْآنَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، بَغَى الشَّيْءَ طَلَبَهُ بِالْفِعْلِ، وَابْتَغَاهُ أَبْلَغُ مِنْ بَغَاهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالِاعْتِمَالِ لَهُ، وَإِنَّمَا تُنَالُ مَرْضَاةُ اللهِ - تَعَالَى - بِالشَّيْءِ إِذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ وَيَتِمُّ بِهِ النَّفْعُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لَهُ مُظْهِرًا لِرَحْمَتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ، مَعَ تَذَكُّرِ هَذَا عِنْدَ الْعَمَلِ وَالشُّعُورِ بِهِ ; وَبِهَذَا الْقَيْدِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَرْقَى مِنَ الْفَيْلَسُوفِ فِي عَمَلِهِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْغُرُورِ وَالدَّعْوَى فِيهِ، وَأَرْسَخَ قَدَمًا فِي الْإِخْلَاصِ، وَتَحَرِّي نَفْعَ النَّاسِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ مُزَاحَمَةِ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ لَهُ وَتَرْجِيحِهَا عَلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَأَخُصُّ مِنْهُمْ فَلَاسِفَةَ هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَيْرَ وَالْفَضِيلَةَ وَالْكَمَالَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَافِعٌ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَالْإِيمَانُ يَهْدِينَا إِلَى هَذَا وَإِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَهُوَ أَنْ نُشْعِرَ أَنْفُسَنَا عِنْدَ عَمَلِهِ أَنَّنَا مَظَاهِرُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَمَجَالِي لِحِكْمَتِهِ فِي إِصْلَاحِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ لَنَا بِذَلِكَ قُرْبًا مَعْنَوِيًّا مِنْ رَبِّنَا، وَأَنَّنَا نِلْنَا بِهِ مَرْضَاتَهُ عَنَّا، وَصِرْنَا بِهِ أَهْلًا لِلْجَزَاءِ الْأَوْفَى، فِي حَيَاةٍ أَشْرَفَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَرْقَى وَإِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَشْهَدُ اللهُ - تَعَالَى - بِعَظَمَتِهِ فِي كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ جَزَاءِ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ لِمَنْ يُحْسِنُ خِدْمَتَهُمْ، وَيَنَالُ مَرْضَاتَهُمْ، بَلْ هُوَ أَثَرٌ فِطْرِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِارْتِقَاءِ النَّفْسِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، إِلَى مَا يَزِيدُ اللهُ صَاحِبَهَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيهَ فِي دِينِهِ، الَّذِي هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، يَعْمَلُ الْخَيْرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، حَتَّى تَرْتَقِيَ رُوحُهُ ارْتِقَاءً تَصِلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْفَضْلِ، وَأَمَّا صَاحِبُ تِلْكَ النَّظَرِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ فَقَلَّمَا يَعْمَلُ بِهَا، وَإِنْ عَمِلَ بِهَا أَحْيَانًا فَقَلَّمَا يَكُونُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَ هَوَاهُ وَشَهْوَتُهُ مَعَ خَيْرِ غَيْرِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ نَفْسَهُ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ مِمَّا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ وَمُقَلِّدَتُهُمْ يُؤْثِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوْ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَمِيلُونَ فِي تَأْوِيلِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ مَعَ الْهَوَى، وَقَدْ جَرَى لِي حَدِيثٌ مَعَ بَعْضِ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي تَحْدِيدِ

مَعْنَى الْفَضِيلَةِ فَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى فَمَا هُوَ الْبَاعِثُ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؟ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ فَرْدٍ أَنَّ نَفْعَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ نَفَعٌ لَهُ فَإِذَا صَلُحَتْ عَاشَ فِيهَا سَعِيدًا، وَإِذَا فَسَدَتْ لَحِقَهُ شَيْءٌ مِنْ فَسَادِهَا فَكَانَ بِهِ شَقِيًّا، قُلْتُ: مَعْنَى الْفَضِيلَةِ إِذًا أَنْ يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ نَفْعَ نَفْسِهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، فَتَخْتَلِفُ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِي مَفْهُومِهَا الْكُلِّيِّ بِاخْتِلَافِ آرَاءِ أَفْرَادِ النَّاسِ فِيمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَفِيمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ تَعَارُضِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْرِقَ مَالَ رَجُلٍ أَوْ تَخُونَهُ فِيهِ إِذَا اسْتَوْدَعَكَ إِيَّاهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِكَ أَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ تُنْفِقُهُ فِيمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا، تَكُونُ بِهَذِهِ السَّرِقَةِ وَهَذِهِ الْخِيَانَةِ مُعْتَصِمًا بِعُرْوَةِ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِذَا قَدَرَ رَجُلٌ عَلَى أَنْ يَخُونَ آخَرَ فِي عِرْضِهِ وَيَزْنِيَ بِامْرَأَتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ فَلَا يُثِيرُ نِزَاعًا وَلَا خِصَامًا فَلَا يُنَافِي الْفَضِيلَةَ، أَوْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِأَنَّهُ بِإِيلَادِهَا وَلَدًا يَرِثُ مِنْ ذَكَائِهِ مَا يَكُونُ بِهِ خَيْرًا مِمَّنْ تَلِدُهُمْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا الشَّرْعِيِّ، أَوْ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عِنْدَهُ كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْفَضِيلَةِ الْمَحْدُودَةِ بِمَا ذَكَرْتُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ إِذَا كَانَ اعْتِقَادُ الْفَاعِلِ بِنَفْعِهِ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْقَانُونُ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ لَهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ إِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ، وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي. أَقُولُ: وَقِسْ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ جَمِيعَ الرَّذَائِلِ حَتَّى الْقَتْلَ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيفِ إِذَا ظَنَّ فَاعِلُهَا أَنَّهُ يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ كَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَرَى هُوَ فِي سِيَاسَتِهِ أَوِ اعْتِقَادِهِ أَوْ عَمَلِهِ ضَرَرًا وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَرَى ذَلِكَ نَافِعًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ هُوَ شَرُّ مَذْهَبٍ أُخْرِجَ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ الرَّذَائِلَ فِيهِ قَدْ تُسَمَّى عَقَائِلَ الْفَضَائِلِ، وَالْمَفَاسِدُ تُعَدُّ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْمَصَالِحِ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْهَوَى، وَلَوْلَا افْتِتَانُ ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ بِبَعْضِ مَنْ يَقُولُونَ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْكَى، وَكَانَ لِلْفَلَاسِفَةِ الْأَوَّلِينَ مَذَاهِبُ فِي الْفَضِيلَةِ مَعْقُولَةٌ، وَآرَاءٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِكَثِيرٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَكِنْ ثَمَرَاتُ عُقُولِهِمْ لَمْ تَكُنْ دَانِيَةَ الْقُطُوفِ، يَجْنِيهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا لِهِدَايَةِ الْوَحْيِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَالتَّأْثِيرِ السَّرِيعِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الدِّينُ أَنْفَعَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَسْنَدْتُهُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ

115

اللهِ: إِنَّهَا إِنَّمَا تُطْلَبُ بِالْإِخْلَاصِ، وَعَدَمِ إِرَادَةِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَفَاخِرُونَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ تَصَدَّقْنَا أَعْطَيْنَا مَنَحْنَا عَمِلْنَا وَعَمِلْنَا، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ الرِّبْحَ بِمَا يَبْذُلُونَ أَوْ يَعْمَلُونَ لَا مَرْضَاةً لِلَّهِ - تَعَالَى - ; وَلِذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا، وَأَنْ يُخْلِصُوا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ نَجِيًّا ; لِأَنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنْهُ بِجَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِمْ، وَتَسْخِيرِ النَّاسِ لِخِدْمَتِهِمْ، وَرَفْعِهِمْ لِمَكَانَتِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ، لِيَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ فِيهِمُ انْتَهَى بِبَسْطٍ وَإِيضَاحٍ. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَخْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدَهُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، اهـ. أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلَامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ " كَطُعْمَةَ " وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ، وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ ; لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ

نَافِعٌ لَهُمْ ; وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130) ، أَيْ: لَا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ: (الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلًا وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ، فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلَاهُ لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لَا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لَا يَفْعَلُهُ، أَيْ: لَا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ. (الصِّنْفُ الثَّانِي) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، لَا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ ; إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يُشَاقَّانِ مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي. (الصِّنْفُ الثَّالِثُ) : مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ، وَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ ; وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ. (الصِّنْفُ الرَّابِعُ) : مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى ; لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ، وَلَا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ، وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ

بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلَا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ. (الصِّنْفُ الْخَامِسُ) : كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَسْهَلُ وَكَذَلِكَ كَانَ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ. (الصِّنْفُ السَّادِسُ) : عُلَمَاءُ الْأَدْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا، الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِخْلَاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. (الصِّنْفُ السَّابِعُ) : الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلَانِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالْأَبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ " الْمُورْمُونِ " مَثَلًا. (الصِّنْفُ الثَّامِنُ) : مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلَا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا. (الصِّنْفُ التَّاسِعُ) : هُمْ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلَا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ

عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ. (الصِّنْفُ الْعَاشِرُ) : مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ. هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الْآنَ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَّا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (45: 23) ، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الِاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا ; لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا، كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13) ، فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لَا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لِأَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْأُورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الْأَفْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ تَعْمَلُ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلَهَا، وَأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بِهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ. قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلًّا مِنَ الْأَصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لَا يُصْلِي كُلًّا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا ; لِأَنَّ إِصْلَاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلَّاهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى. وَإِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ،

أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ، أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ، وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الْأَذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْعَمَلِ بِالِاخْتِيَارِ، فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا، أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلَا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ شَاءَ - تَعَالَى - لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْإِدْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْأَعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ، نَعَمْ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ، فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لَا؟ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا تُدْفَعُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَبُطْلَانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ، لَا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ. أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ

النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ، وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ، وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ، وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ، وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لِافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الْإِرَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لَا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لِأَجْلِ الْخَيْرِ الْآجِلِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لَا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الْآجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ، وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَصَارَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلَاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: " أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي خَيْرًا " وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ بِهَا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ مُخَالِفَهُ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ حُجِّيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَعْنُونَهُ هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي أَيِّ عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِهِ لَا بَعْدَ عَصْرِهِ، وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي بَيَّنْتُ عَدَمَ اتِّجَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ رَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَالْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِرْشَادِ الْفُحُولِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ الصَّحِيحِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (59) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَبَحْثُ الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَزِدْتُهُ بَيَانًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا مُتَمِّمَةً لِتَفْسِيرِهَا.

116

إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا. بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَصِيرُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيِّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ يَكُونُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِمِثْلِ مَا فَعَلَ طُعْمَةَ مِنْ تَرْكِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِ وَغَيْرِ عَصْرِهِ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فِيهَا فَتَرَكَهَا وَعَادَى أَهْلَهَا وَوَالَى أَعْدَاءَهُمْ، فَإِنَّ مُشَاقَّةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَاقَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُشَاقَّةٌ لِلرَّسُولِ وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ يُوَلِّيهِ اللهُ مَا تَوَلَّى، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى حَيْثُ تَوَّجَهُ بِكَسْبِهِ وَاجْتِهَادِهِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَكَّلَ أَمْرَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ.

وَبَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ وَمَا لَا يَغْفِرُهُ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا النَّصُّ بِعَيْنِهِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَانُونًا وَلَا كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا حَافِظُهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَثَانِيَ يُتْلَى لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ تَارَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُرْجَى الْهِدَايَةُ وَالْعِبْرَةُ بِإِيرَادِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ إِيدَاعُهَا فِي النُّفُوسِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ يُوَجِّهُ النُّفُوسَ إِلَيْهَا أَوْ بَعْدَهَا وَيُهَيِّئُهَا لِقَبُولِهَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَكَّنَ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ فِي النُّفُوسِ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفُوا سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقَهُمْ يُكَرِّرُونَ مَقَاصِدَهُمْ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ: إِنَّ نَشْرَ التُّجَّارِ لِلْإِعْلَانَاتِ الَّتِي يَمْدَحُونَ بِهَا سِلَعَهُمْ وَبَضَائِعَهُمْ وَيَدُلُّونَ النَّاسَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا هُوَ عَمَلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ إِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَدْحُ الشَّيْءِ وَلَوْ مِنَ الْمُتَّهَمِ فِي مَدْحِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَتَتِمَّتُهَا هُنَا: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (4: 48) ، وَقَدْ تَقَدَّمَهَا هُنَالِكَ إِثْبَاتُ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَمِنْهَا مَا تَغْلِبُ النُّفُوسَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَزَوَاتُ الشَّهْوَةِ وَثَوَرَاتُ الْغَضَبِ ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُهُ وَيَتُوبُ، فَهَذَا مِمَّا تَنَالُهُ الْمَغْفِرَةُ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ فَلَا يُغْفَرُ الْمَيْلُ عَنْهُ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرَكِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا كَالسِّيَاقِ هُنَاكَ فَأَعَادَهَا لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مُشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَمُخَالَفَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْوُقُوعِ فِي الشَّرَكِ ; لِأَنَّ التَّوْحِيدَ رُوحُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا تَقْتَضِي أَنْ يُعَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِعَادَةٌ تُنَادِي الْبَلَاغَةُ بِطَلَبِهَا وَلَا تُعَدُّ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ يُنَافِي الْبَلَاغَةَ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ فَهِمُوا مِنْكَ مَعْنَى تَمَامِ الْفَهْمِ كَمَا تُرِيدُ، ثُمَّ ذَكَرْتَهُ لَهُمْ بِعِبَارَةٍ لَا تَزِيدُهُمْ فَائِدَةً وَلَا تَأْثِيرًا جَدِيدًا وَلَا تَمْكِينًا لِلْمَعْنَى وَأَمَّا مَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يُوَجَّهُ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَتْلُونَهُ كُلَّهُ وَيَتَذَكَّرُونَ عِنْدَ كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا أَنْتَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْمَعُ هَذَا السِّيَاقَ الَّذِي

جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ السِّيَاقِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّكَ تَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التِّكْرَارِ الَّذِي يَفِرُّونَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّاعِرِ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فِي قَصِيدَتَيْنِ يَمْدَحُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلًا غَيْرَ الَّذِي يَمْدَحُهُ فِي الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ: إِنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تُكَأَتُهُمْ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ تِكْرَارٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ مُنْتَقِدًا وَمُخِلًّا بِالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ رُكْنُ الْبَلَاغَةِ الرَّكِينِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ مِنَ النَّفْسِ بِدُونِهِ. وَأَمَّا مَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلَا يَصُدُّنَا ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ شَيْئًا هُنَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا: أَكَّدَ اللهُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ شِرْكَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ أَنَّ عِقَابَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُذْنِبِينَ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ السُّكَّرَ يُحْدِثُ فِي الْبَدَنِ أَمْرَاضًا يَتَعَذَّبُ صَاحِبُهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا يُحَدِثُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَطَايَا أَمْرَاضًا فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ يَتَعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْآخِرَةِ وَكَمَا أَنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ وَصِحَّةَ الْمِزَاجِ تَغْلِبُ بَعْضَ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَأْثِيرٌ مُؤْلِمٌ يُعَذِّبُ صَاحِبَهُ كَذَلِكَ قُوَّةُ الرُّوحِ بِالتَّوْحِيدِ وَصِحَّةُ مِزَاجِهَا بِالْإِيمَانِ، وَالْفَضَائِلُ تَغْلِبُ بَعْضَ الْمَعَاصِي الَّتِي قَدْ يُلِمُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا مِنْ قَرِيبٍ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ لَا تَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ فَيَقْطَعُ نِيَاطَهُ أَوْ لِلدِّمَاغِ فَيُتْلِفُهُ، كَذَلِكَ الشِّرْكُ يُشْبِهُ فِي إِفْسَادِهِ لِلْأَرْوَاحِ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ أَوِ الدِّمَاغَ مِنْ سَهْمٍ نَافِذٍ أَوْ رَصَاصَةٍ قَاتِلَةٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ. ذَلِكَ بِأَنَّ الشِّرْكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ مُنْتَهَى فَسَادِ الْأَرْوَاحِ وَسَفَاهَةِ الْأَنْفُسِ وَضَلَالِ الْعُقُولِ فَكُلُّ حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ يُقَارِنُهُ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ شُرُورِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَالْعُرُوضِ إِلَى جِوَارِ اللهِ - تَعَالَى - بِرُوحِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقَةً بِشُرَكَاءَ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُلُوصِ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَالْمُذْنِبُ قَدْ يَكُونُ فِي إِيمَانِهِ وَسَرِيرَتِهِ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ وَحْدَهُ، فَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَعْصِي وَقَدْ يَأْبَقُ فَلَا الْعِصْيَانُ وَلَا الْإِبَاقُ يُخْرِجَانِهِ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ لَا قِنًّا وَلَا مُبْغِضًا ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39: 29) ،

بَلْ هُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا امْتِيَازَهُمْ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُلُوكِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَبِيدٌ أَمْثَالُهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَا فِي مَقَامِ الْعِبَادَةِ لَا بِدُعَاءٍ وَلَا نِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَكْبَرُوا خَلْقَهُ أَوْ نَفْعَهُ أَوْ ضَرَّهُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنَّارِ وَبَعْضِ الْأَنْهَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ (7: 194) ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ هُمْ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، الَّتِي تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَسِيحِ يَبْتَغِي هَذِهِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَإِنَّ أَعْرَفَهُمْ بِهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَتَجِدُ الْمَلَايِينَ مِنْهُمْ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَيُوَجِّهُونَ كُلَّ عِبَادَتِهِمْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ تَارَةً، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ مَعَ اسْمِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَتَجِدُ مَلَايِينَ مِنْ دُونِهِمْ يَدْعُونَ وَيُنَادُونَ مِنْ دُونِ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَصْمُدُونَ إِلَى قُبُورِهِمْ أَوْ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي اتَّخَذَهَا قُدَمَاءُ الْمَفْتُونِينَ بِهِمْ تِذْكَارًا لَهُمْ، وَإِنَّنِي أَكْتُبُ هَذَا فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ " دِهْلِي " مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْهِنْدِ وَأَنَا أَرَى أَصْنَافًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَجُولُونَ أَمَامِي فِي مَصَالِحِهِمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (43: 9) ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودَاتُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ وَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَشُفَعَاءٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (10: 18) ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَقْبَلُ الْعِبَادَةَ إِلَّا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ إِنَّا أَنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ (39: 2، 3) . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُوَحِّدِينَ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي اللُّغَةِ كَمَا يُفْسِدُونَ فِي الدِّينِ، فَلَا يُسَمُّونَ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ عِبَادَةً، وَقَدْ يُسَمُّونَهَا تَوَسُّلًا أَوْ شَفَاعَةً، وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ شُرَكَاءَ، وَلَكِنْ لَا يَأْبَوْنَ أَنْ يُسَمُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ، وَإِنَّمَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَقَائِقِ لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إِلَّا دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ وَنِدَاؤُهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، لَكَفَى ذَلِكَ عِبَادَةً لَهُ هُوَ وَشُرُكَاهُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَالْأُولَى تَفْقِدُ حَصْرَ الْعِبَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ حَصْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ لَا يُعَدُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ:

الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ: هُوَ الرُّكْنُ الْأَهَمُّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ عِنْدَ تَرْكِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَعْبِيرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جَدًا يَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُ مَنِ اخْتَبَرَ أَحْوَالَ الْبَشَرِ فِي عِبَادَاتِهِمْ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي يُثِيرُهَا الِاعْتِقَادُ الرَّاسِخُ مِنْ أَعْمَاقِ النَّفْسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَكُلَّهُ أَوْ جُلَّهُ تَعْلِيمِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ يُفْعَلُ بِالتَّكَلُّفِ وَالْقُدْوَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا مِنَ الشُّعُورِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ أَوِ الْعَمَلُ عِبَادَةً وَهُوَ الشُّعُورُ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءُ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَدْعِيَةَ التَّعْلِيمِيَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ دُعِيَ بِهَا اللهُ وَحْدَهُ أَوْ دُعِيَ بِهَا غَيْرُهُ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا الْأَدْعِيَةُ الرَّاتِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَوْقُوتَةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ لَهَا يُحَرِّكُ بِهَا لِسَانَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ جَدُّ الْعِبَادَةِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَفِيضُ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ سُوَيْدَاءِ الْقَلْبِ وَقُرَارَةِ النَّفْسِ، عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالشُّعُورِ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ، وَاسْتِعْصَاءِ الْوَسَائِلِ إِلَيْهِ، وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ دُونَهُ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، وَذَوِي الْكُرُبَاتِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمُلِمَّاتِ، وَفِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، وَلَدَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الْخَالِصُ الَّذِي يَغْشَاهُ جَلَالُ الْإِخْلَاصِ، وَيُمَثِّلُ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ مَعْنَى الْخُشُوعِ التَّامِّ وَنَاهِيكَ بِمَا يُفَجِّرُهُ هَذَا الْخُشُوعُ مِنْ يَنَابِيعِ الدُّمُوعِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي يَسْتَغِلُّهُ سَدَنَةُ الْهَيَاكِلِ وَيَسْتَثْمِرُهُ خَدَمَةُ الْمَقَابِرِ، وَيَضَنُّ بِهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ أَرْكَانِ رِيَاسَتِهِمْ عَلَى الْعَوَامِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَنُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِجُمْهُورِ الْجَاهِلِينَ غِنًى عَنْهُ، وَلَا يَرَى فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ اسْتِبْدَالَ التَّوْحِيدِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَعْلَى إِخْلَاصًا، وَأَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ وَخُشُوعًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (2: 165) . وَمِنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَيْ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا فَيَدْعُهُ مَعَهُ، وَيَذْكُرِ اسْمَهُ مَعَ اسْمِهِ، أَوْ يَدْعُهُ مِنْ دُونِهِ، مُلَاحِظًا فِي دُعَائِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ غَيْرَ مُلَاحِظٍ ذَلِكَ وَلَا مُتَذَكِّرٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذُكِّرَ بِهِ لَذَكَرَهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ فِي الْعِبَادَةِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي الدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَاهَا ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهِ يَكُونُ وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى النَّفْسِ مُسْتَعْبِدًا لَهَا، وَدُونَهُ الشِّرْكُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ الَّذِي يُحَاجُّكَ صَاحِبُهُ بِالشُّبَهَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ

الْمُذْنِبَ الْخَاطِئَ وَالضَّعِيفَ الْمُقَصِّرَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُخَاطِبَ الْإِلَهَ الْعَظِيمَ كِفَاحًا وَلَا أَنْ يَدْعُوَهُ مُبَاشَرَةً، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ وَلِيًّا يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا يَتَّخِذُ آحَادُ الرَّعِيَّةِ الْوَسَائِطَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ النَّظَرِيَّةِ مُقَلِّدًا فِيهَا بِالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ الَّذِي يُسَمِّيهِ حُجَّةً وَدَلِيلًا سَلِيمَ الْوِجْدَانِ مِنْ تَأْثِيرِهَا لِعَدَمِ التَّقْلِيدِ فِيهَا بِتَكْرَارِ الْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُلَابِسُهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ يُشْرِكْ فِي رُبُوبِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِاتِّخَاذِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ شَارِعِينَ يُحِلُّونَ لَهُ مَا يَرَوْنَ تَحْلِيلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ مَا يَرَوْنَ تَحْرِيمَهُ، فَيَتَّبِعُهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِاللهِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ فَقَدْ ضَلَّ عَنِ الْقَصْدِ، وَتَنَكَّبَ سَبِيلَ الرُّشْدِ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنْ صِرَاطِ الْهِدَايَةِ، مُوغِلًا فِي مَهَامِّهِ الْغَوَايَةَ ; لِأَنَّهُ ضَلَالٌ يُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُدَسِّي النَّفْسَ فَيَخْضَعُ صَاحِبُهُ وَيَسْتَخْذِي لِعَبْدٍ مِثْلِهِ، وَيَخْشَعُ وَيَضْرَعُ أَمَامَ مَخْلُوقٍ يُحَاكِيهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي عَجْزِهِ فَيُطِيعُ مَنْ لَا يُطَاعُ، وَيَرْجُو وَلَا مَوْضِعَ لِلرَّجَاءِ، وَيَخَافُ وَلَا مَوْطِنَ لِلْخَوْفِ، وَيَكُونُ عَبْدًا لِلْأَوْهَامِ، عُرْضَةً لِلْخُرَافَاتِ، لَا اسْتِقْلَالَ لِعَقْلِهِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَلَا لِإِرَادَتِهِ فِي عَمَلِهِ، بَلْ يَكُونُ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي تَصَرُّفِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا غَوَايَةً قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا غَوَايَةً وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ، فَهَذَا أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَيَّزَهُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ، وَهُوَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى دِينِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُسَيْطِرِينَ وَلَا جَبَّارِينَ، وَلَا آلِهَةً أَوْ أَرْبَابًا مَعْبُودِينَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (18: 110) . فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَةِ اللهِ لِلشِّرْكِ مَعَ جَوَازِ غُفْرَانِ غَيْرِهِ يُؤْخَذُ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ هُوَ بِسَلَامَةِ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتِهَا أَوْ هَلَاكِهَا وَشَقَاوَتِهَا، هُوَ تَابِعٌ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، وَدَرَجَةِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي يُلَازِمُهَا فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ، أَوْ فَسَادُ الْفِطْرَةِ، وَخَطَأُ الْعَقِيدَةِ، وَالتَّدَنُّسُ بِالرَّذِيلَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ لِمَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ دَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ، أَسْفَلُهَا وَأَخَسُّهَا

117

الشِّرْكُ، وَأَعْلَاهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٌ وَأَعْمَالٌ تُنَاسِبُهُمَا، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَغْفِرَ الشِّرْكَ فَتَكُونَ رُوحُ صَاحِبِهِ مَعَ أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، تَجُولُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي عِلِّيِّينَ، لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا أَوْ تَبْدِيلًا لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ النَّاسِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ بِطَبْعِهِ وَصِفَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ كَمَا يَكُونُ الْأَخَفُّ مِنَ الْغَازَاتِ وَالْمَائِعَاتِ فَوْقَ الْأَثْقَلِ بِطَبْعِهِ، سُنَّةَ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَغْيِيرَ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - بَعْضَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَتَفْرِيجِ كُرُوبِهِمْ، إِلَّا إِنَاثًا كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَكَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ صَنَمٌ يُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، أَوِ الْمُرَادُ أَسْمَاءُ مَعْبُودَاتِ وَآلِهَةٍ لَيْسَ لَهَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (12: 40) ، أَيْ: أَسْمَاءٌ مُؤَنَّثَةٌ فِي الْغَالِبِ، أَوِ الْمُرَادُ مَعْبُودَاتٌ ضَعِيفَةٌ أَوْ عَاجِزَةٌ كَالْإِنَاثِ لَا تَدْفَعُ عَدُوًّا وَلَا تُدْرِكُ ثَأْرًا، كَمَا وَصَفَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ الضَّعِيفَ بِالْأُنُوثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَعْفِ الْمَرْأَةِ بَلْ ضَعْفِ جَمِيعِ إِنَاثِ الْحَيَوَانِ عَنِ الذُّكُورِ، حَتَّى قَالُوا لِلْحَدِيدِ اللَّيِّنِ أَنِيثٌ، وَرَجَّحَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ أَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَةِ مَعْبُودَاتِهِمْ إِنَاثًا هُوَ كَوْنُهَا جَمَادَاتٍ مُنْفَعِلَةً لَا فِعْلَ لَهَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ، كَمَا وُصِفَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَيْسَ لَهَا أَيْدٍ تَبْطِشُ بِهَا وَلَا أَرْجُلٌ تَمْشِي بِهَا، كَأَنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ أُلُوهِيَّتِهَا بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِعِبَادَةِ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، وَقَدِ اسْتَبْعَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْإِنَاثِ بِالْأَصْنَامِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَبْعَدَ تَفْسِيرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ بَنَاتِ اللهِ، وَقَالَ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنَاثِ هُنَا الْمَوْتَى ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْإِنَاثِ لِضَعْفِهِمْ أَوْ يُقَالُ لِعَجْزِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَعْضَ الْمَوْتَى وَيَدْعُونَهَا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُسْلِمِي هَذِهِ الْقُرُونِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ ذَلِكَ التَّوَجُّهُ الْمَخْصُوصُ بِطَلَبِ الْمَعُونَةِ لِهَيْبَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا يَعْقِلُ الْإِنْسَانُ مَعْنَاهَا. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، أَيْ: وَمَا يَدْعُونَ بِدَعْوَتِهَا إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، قَالُوا: الشَّيْطَانُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَارِمِ الْخَبِيثِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَرِيدِ وَالْمَارِدِ الْمُتَعَرِّي مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرٌ أَمْرَدٌ إِذَا تَعَرَّى مِنَ الْوَرَقِ، وَمِنْهُ رَمْلَةٌ مَرْدَاءُ لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا،

118

أَوْ هُوَ مِنْ مَرَدَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا مُرِّنَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ يَأْتِيهِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (9: 101) ، أَيْ: شَيْطَانًا مَرَدَ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، أَوْ تَمَرَّدَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ وَصْفًا آخَرَ فَقَالَ: لَعَنَهُ اللهُ، وَاللَّعْنُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مَعَ السُّخْطِ وَالْإِهَانَةِ وَالْخِزْيِ، أَيْ: أَبْعَدَهُ اللهُ عَنْ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مَا يَدْعُونَ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ الْمَلْعُونَ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِمَا يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا إِلَخْ، النَّصِيبُ: الْحِصَّةُ وَالسَّهْمُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي قِلَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، وَقَدْ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِلَّةُ، وَالْمَفْرُوضُ: الْمُعَيَّنُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْضِ وَالْحَزِّ فِي الْخَشَبَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ الْفَرْضُ فِي الْعَطَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصِيبُ طَائِفَةَ الَّذِينَ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ نَفْسِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ، وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ لِلْبَاطِلِ وَالشَّرِّ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مَا لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلشَّرِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ النَّجْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (90: 10) ، فَهَذَا هُوَ عَوْنُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّاسِ حَتَّى الْمَعْصُومِينَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِذَا هُوَ زَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عَمَلِهِ، فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالشِّرْكِ فَبِالْمَعْصِيَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَارِئِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ التَّكْوِينِيَّةِ أَيِ الَّتِي يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ تَكْوِينِ الْعَالِمِ وَمَا خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (41: 11) ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - هَذَا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَوْلٌ تَكْوِينِيٌّ لَا تَكْلِيفِيٌّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ (36: 82) ، وَقَوْلُهُمَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، تَكْوِينِيٌّ أَيْضًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمَا وُجِدَتَا كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ تُوجَدَا عَلَيْهِ، كَمَا يُجِيبُ الْعَبْدُ الْعَاقِلُ نِدَاءَ مَوْلَاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ هَكَذَا فَدُعَاؤُهُ دُعَاءُ مُتَمَرِّدٍ عَلَى الْحَقِّ بَعِيدٍ عَنِ الْخَيْرِ، مُغْرَى بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمْ كَمَا عَبَّرَ عَنْ طَبْعِهِ وَسَجِيَّتِهِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أَيْ: لِأَتَّخِذَنَّ مِنْهُمْ نَصِيبًا وَلِأُضِلَّنَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَأَشْغَلَنَّهُمْ

119

بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، أَيْ: هَذَا شَأْنُهُ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ، وَالْأَمَانِيِّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَمَنِّي الشَّيْءِ، يُقَالُ: تَمَنَّى الشَّيْءَ إِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ لَهُ أَسْبَابَهُ، كَمَا يَتَمَنَّى الْمُقَامِرُ الثَّرْوَةَ بِالْمُقَامَرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْغِنَى بَلْ لَيْسَتْ مِنَ الْكَسْبِ الْمُعْتَادِ، وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: مَنَى لَكَ الْمَانِي أَيْ: قَدَّرَ لَكَ الْمُقَدِّرُ، وَالْمَصْدَرُ الْمَنَى بِالْفَتْحِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمِنْهُ الْمَنَّا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ فِيمَا قِيلَ، وَأَقُولُ: الْأَجْدَرُ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ الْجَامِدَةِ وَالْمُدْرَكَةِ بِالْحَوَاسِّ هِيَ أَصْلٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالتَّمَنِّي تَقْدِيرُ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ وَتَصْوِيرُهُ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَبِنَاءٍ عَلَى أَصْلٍ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُ عَنْ تَخْمِينٍ صَارَ الْكَذِبُ لَهُ أَمْلَكَ، فَأَكْثَرُهُ تَصَوُّرُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ إِضْلَالَهُ لِمَنْ يُضِلُّهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِهِمْ عَنِ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَأَمَّا التَّمْنِيَةُ فَهِيَ فِي الْأَعْمَالِ بِأَنْ يُزَيِّنَ لَهُمُ الِاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الْحَاضِرَةِ وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَلْ هَذَا اسْمٌ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ وَحْيِ الشَّيْطَانِ كُلِّهَا وَتَغْرِيرِهِ لِلنَّاسِ بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ الْبَتْكُ يُقَارِبُ الْبَتُّ فِي مَعْنَاهُ الْعَامُّ الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، فَالْبَتُّ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْحَبْلِ وَالْوَصْلِ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ، وَفِي الطَّلَاقِ يُقَالُ طَلَّقَهَا بَتَّةً أَيْ: طَلَاقًا بَائِنًا، وَالْبَتْكُ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَالشَّعْرِ وَنَتْفِ الرِّيشِ، وَبَتَكْتُ الشَّعْرَ تَنَاوَلْتُ بِتْكَةً مِنْهُ، وَهِيَ - بِالْكَسْرِ - الْقِطْعَةُ الْمُنْجَذِبَةُ جَمْعُهَا بِتَكٌ قَالَ الشَّاعِرُ: طَارَتْ وَفِي يَدِهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكٌ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَطْعِ آذَانِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ لِأَصْنَامِهِمْ كَالْبَحَائِرِ الَّتِي كَانُوا يَقْطَعُونَ أَوْ يَشُقُّونَ آذَانَهَا شَقًّا وَاسِعًا وَيَتْرُكُونَ الْحِمْلَ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ أَعْمَالِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ وَسَفَهِ عُقُولِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِهَذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللهِ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَامٌّ يَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْحِسِّيَّ كَالْخِصَاءِ، وَقَدْ رَوَوْا تَفْسِيرَهُ بِالْخِصَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا - فَلْيَعْتَبِرْ بِهِ مَنْ يَطْعَنُونَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ بِاتِّخَاذِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَائِهِمْ لِلْخِصْيَانِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ خَصْيِهِمْ جَائِزٌ فِي هَذَا الدِّينِ - وَيَشْمَلُ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّشْوِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بِالنَّاسِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ تَبْتِيكَ آذَانِ الْأَنْعَامِ فَكَيْفَ لَا يُحَرِّمُ سَمْلَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَصَلْمَ آذَانِهِمْ وَجَدْعَ أُنُوفِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ

وَلَا حُجَّةٍ، وَيَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِخَلْقِ اللهِ دِينُهُ ; لِأَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْخِلْقَةُ، قَالَ - تَعَالَى -: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (30: 30) ، وَرَوَى أَيْضًا تَفْسِيرَ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ بِوَشْمِ الْأَبْدَانِ وَوَشْرِ الْأَسْنَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَلَعَلَّ سَبَبَ التَّشْدِيدِ فِيهِ إِفْرَاطُهُمْ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ التَّشْوِيهِ بِجَعْلِ مُعْظَمِ الْبَدَنِ وَلَا سِيَّمَا الظَّاهِرُ مِنْهُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَزْرَقَ بِهَذَا النَّقْشِ الْقَبِيحِ وَكَانَ النَّاسُ وَلَا يَزَالُونَ يَجْعَلُونَ مِنْهُ صُوَرًا لِلْمَعْبُودَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَرْسِمُ النَّصَارَى بِهِ الصَّلِيبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَصُدُورِهِمْ، وَأَمَّا وَشْرُ الْأَسْنَانِ بِتَحْدِيدِهَا وَأَخْذِ قَلِيلٍ مِنْ طُولِهَا إِذَا كَانَتْ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ الْمُشَوِّهِ، بَلْ هُوَ إِلَى تَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَقْصِيرِ الشَّعْرِ أَقْرَبُ، وَلَوْلَا أَنَّ الشَّعْرَ وَالْأَظَافِرَ تَطُولُ دَائِمًا وَلَا تَطُولُ الْأَسْنَانُ لِمَا كَانَ ثَمَّ فَرْقٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّغْيِيرَ الصُّورِيَّ الَّذِي يَجْدُرُ بِالذَّمِّ يُعَدُّ مِنْ إِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيهٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَرَى قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَغْيِيرُ دِينِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى مَا يَشْمَلُهُمَا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِتَحْوِيلِ النَّفْسِ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى الْأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ، اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الدِّينِ ; لِأَنَّ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَغْيِيرُ الدِّينِ اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ آنِفًا، وَالدِّينُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ وَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، لَا مِمَّا خَلَقَهُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الدِّينَ الْفِطْرِيَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فُطِرَ عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَخْذِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْخَيْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِالْبَدَاهَةِ، وَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُسُسِهِ الْفِطْرِيَّةِ الْعُبُودِيَّةُ لِلسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ وَتَقِفُ دُونَ اكْتِنَاهِ حَقِيقَتِهَا الْعُقُولُ، أَيْ: لِمَصْدَرِ هَذِهِ السُّلْطَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَكَانَ أَكْبَرُ وَأَشَدُّ

مُفَسَّدَاتِ الْفِطْرَةِ حَصْرَ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَسْتَكْبِرُهَا الْإِنْسَانُ وَيَعِيَا فِي فَهْمِ حَقِيقَتِهَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ فَهْمُهَا وَعِلْمُهَا مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَوْ جَاءَهُ طَالِبُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4: 48) ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَيَتْلُو هَذَا الْفَسَادَ وَالْإِفْسَادَ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَمُدُّهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْعُقُولِ الَّتِي كَمَّلَ اللهُ بِهَا فِطْرَةَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ عَمَلِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَرْجِيحُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَتَى تَبَيَّنَا لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُمَا. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، أَيْ: مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لَهُ وَتِلْكَ حَالُهُ فِي التَّمَرُّدِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ وَإِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشُّرُورَ وَسُوءَ التَّصَرُّفِ فِي فِطْرَةِ اللهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهِ، بِأَنْ يُوَالِيَهُ وَيَتَّبِعَ وَسْوَسَتَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا بَيِّنًا ظَاهِرًا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ; إِذْ يَكُونُ أَسِيرَ الْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ، يَتَخَبَّطُ فِي عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ هُدًى فَيَفُوتُهُ الِانْتِفَاعُ التَّامُّ بِمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ الْعَقْلِ وَسَائِرِ الْقُوَى وَالْمَوَاهِبِ. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (2: 268) ، أَيْ: يَعِدُ النَّاسَ الْفَقْرَ إِذَا هُمْ أَنْفَقُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَا هُنَا حَذْفُ مَفْعُولِ الْوَعْدِ فَهُوَ يَشْمَلُ الْوَعْدَ بِالْفَقْرِ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ وُعُودِهِ الَّتِي يُوَسْوِسُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَعِدُ مَنْ يُرِيدُ التَّصَدُّقَ الْفَقْرَ وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ قَائِلًا: إِنْ مَالَكَ يَنْفَدُ أَوْ يِقِلُّ فَتَكُونُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ فِي الْوَسْوَسَةِ إِلَى مَنْ يُغْرِيهِ بِالْقِمَارِ مَسْلَكًا آخَرَ فَيَعِدُهُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةَ، وَكَذَلِكَ يَعِدُ مَنْ يُغْرِيهِ بِالتَّعَصُّبِ لِمَذْهَبِهِ وَإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْجَاهَ وَالشُّهْرَةَ وَبُعْدَ الصِّيتِ، وَيُؤَيِّدُ وُعُودَهُ الْبَاطِلَةَ بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ ; وَلِهَذَا أَعَادَ ذِكْرَ الْأُمْنِيَةِ فِي مَقَامِ بَيَانِ خُسْرَانِ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ لِسَانِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَتَمْنِيَتِهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُمْ قُرَنَاءُ السُّوءِ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَعِدُونَهُمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهَ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْلَا وُعُودُ الشَّيْطَانِ لَمَا عَنَى أَوْلِيَاؤُهُ بِنَشْرِ مَذَاهِبِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ وَأَضَالِيلِهِمْ، الَّتِي يَبْتَغُونَ بِهَا الرِّفْعَةَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ، وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيُعْرَفُونَ بِمَقَاصِدِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلُهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَوْلَهُ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أَيْ: إِلَّا بَاطِلًا يَغْتَرُّونَ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ مَا يُحِبُّونَ، وَأَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغُرُورَ بِأَنَّهُ إِظْهَارُ النَّفْعِ فِيمَا هُوَ ضَارٌّ، أَيْ: فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبَثُ بِهِمُ الشَّيْطَانُ

122

بِوَسْوَسَتِهِ أَوْ بِإِغْوَاءِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ لَا يَجِدُونَ مَعْدِلًا عَنْهَا يَفِرُّونَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ مُنْجَذِبُونَ إِلَيْهَا بِطَبْعِهِمْ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَتَهَافَتُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، هَؤُلَاءِ عِبَادُ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، ذَكَرَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ وَيَتَّبِعُونَ إِغْوَاءَهُ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا أَيْ: لَا قِيلَ أَصْدُقُ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا وَعْدَ أَحَقُّ مِنْ وَعْدِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاعُ لِقُدْرَتِهِ وَإِنَّمَا يُدَلِّي أَوْلِيَاءَهُ بِغُرُورٍ، فَوَعْدُهُ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَالْقِيلُ بِوَزْنِ الْفِعْلِ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ الْكَرِيمَ بِالْجَنَّاتِ وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَرْفَعُ النَّفْسَ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا مِرَارًا. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا. رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسَبُ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.

123

وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: احْتَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا الْآيَةَ، فَأَفْلَجَ اللهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَتِ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ وَنَبِيُّنَا بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَدِينُنَا بَعْدَ دِينِكُمْ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ إِلَخْ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ نَحْوُ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَكَلَّمَ كُلٌّ فِي تَفْضِيلِ دِينِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَيْسَ شَرَفُ الدِّينِ وَفَضْلُهُ وَلَا نَجَاةُ أَهْلِهِ بِهِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: إِنَّ دِينِي أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَحَقُّ وَأَثْبَتُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُوقِنًا بِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ، فَلَا أَمْرُ نَجَاتِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَلَا أَمْرُ نَجَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّهِمْ فِي دِينِهِمْ. فَإِنَّ الْأَدْيَانَ مَا شُرِعَتْ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي، وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَتُهَا بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّمَدُّحِ بِهَا بِلَوْكِ الْأَلْسِنَةِ وَالتَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ، بَلْ شُرِعَتْ لِلْعَمَلِ، قَالَ: وَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَمْ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانِيُّ الَّتِي كَانَ يَتَمَنَّاهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غُرُورًا بِدِينِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ وَيَدَّعُونَ ; وَإِنَّمَا سَرَى هَذَا الْغُرُورُ إِلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنِ اتِّكَالِهِمْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ فَضْلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْبِشْرِ بِمَنْ بُعِثَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِذَاتِهِمْ، فَهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ

يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَحَذَّرَنَا اللهُ أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمَانِيُّ قَدْ دَبَّتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ (57: 16) الْآيَةَ، فَهَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلِأَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ وَبِمَا آلَ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمَرْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمَانِيِّ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طُرُقَ الْغُرُورِ وَمَدَاخِلَ الشَّيْطَانِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِ الْحَسَنِ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَقَالَ الْحَسَنُ: " إِنَّ قَوْمًا غَرَّتْهُمُ الْمَغْفِرَةُ فَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ مَمْلُوءُونَ بِالذُّنُوبِ وَلَوْ صَدَقُوا لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ ". ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ هَذَا حَالَ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي غُرُورِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ وَمَدْحِ دِينِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ وَبَيَّنَ أَصْنَافَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا قَالَهُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مَضَتْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، أَيُّ دِينٍ أَصْلَحَ إِصْلَاحَهُ؟ أَيُّ دِينٍ أَرْشَدَ إِرْشَادَهُ؟ أَيُّ شَرْعٍ كَشَرْعِهِ فِي كَمَالِهِ؟ وَلَوْ سُئِلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: مَاذَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ وَبِمَاذَا يَمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ؟ لَا يُحِيرُ جَوَابًا وَإِذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَسُئِلَ كَشْفَهَا حَاصَ حَيْصَةَ الْحُمُرِ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ أَعُوذُ بِاللهِ، وَالضَّالُّ يَبْقَى عَلَى ضَلَالِهِ، وَالطَّاعِنُ فِي الدِّينِ يَتَمَادَى فِي طَعْنِهِ، وَالْمَغْرُورُ يَسْتَرْسِلُ فِي غُرُورِهِ، فَالْكَلَامُ كَثِيرٌ وَلَا عِلْمَ وَلَا عَمَلَ يَرْفَعُ شَأْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْجُمَلِ وَاخْتِصَارٍ فِي بَيَانِ ضُرُوبِ الْغُرُورِ وَأَصْنَافِ الْمُغْتَرِّينَ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَنُوطًا بِالْأَمَانِيِّ وَالتَّشْبِيهَاتِ وَغُرُورِ النَّاسِ بِدِينِهِمْ، كَانَ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا النَّفْيَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَشَوَّفَ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عَلَى حُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَيَجْعَلُهُ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ، فَبَيَّنَهُ عَزَّ وَجَلَّ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا يَلْقَى جَزَاءَهُ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ لَا يَتَخَلَّفُ فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْزِلُ بِغَيْرِهِمْ كَمَا يَتَوَهَّمُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ وَالظُّنُونِ فَعَلَى الصَّادِقِ فِي دِينِهِ الْمُخْلِصِ لِرَبِّهِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارَ سَعَادَتِهِ لَا كَوْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ، وَذَلِكَ الرَّسُولِ أَفْضَلَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ دِينُهُ أَكْمَلَ تَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي التَّقْصِيرِ أَقْوَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ هَذِهِ الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، رَاعَتْ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَخَافَتْهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا وَقَالَ: مَنْ يَنْجُ مَعَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَمَا تَحْزَنُ، أَمَا تَمْرَضُ، أَمَا يُصِيبُكَ الْبَلَاءُ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ وَأَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَحَادِيثَ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأَعْمَالِ وَجَعَلَهَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ وَبَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقٌ عَامٌّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْ كَمَلَتِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ، وَإِذَا طَبَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، عَلِمْنَا أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يُقَصِّرُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَطَلَبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّاتِ بِاجْتِنَابِ عِلَلِهَا وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (42: 30) ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ أَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ عَمَلُ السُّوءِ يُدَسِّي النَّفْسَ وَيُدَنِّسُ الرُّوحَ كَانَ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَكُونُ الْخَمْرُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْكَبِدِ وَالْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالْجِهَازِ التَّنَفُّسِيِّ، بَلْ وَالْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَهَلْ يَكُونُ الْمَرَضُ النَّاشِئُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ كَفَّارَةً لِلْجَزَاءِ عَلَى شُرْبِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى كَوْنِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَبْ بِمَرَضٍ وَلَا مُصِيبَةٍ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُحْرَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي بَدَنِهِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا؟ أَمِ الْمَصَائِبُ تَكُونُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنْهَا وَلِغَيْرِهَا مُطْلَقًا؟ وَكَيْفَ يَنْطَبِقُ هَذَا التَّكْفِيرُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ؟ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَثَّرَتْ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ تَأْثِيرًا صَالِحًا وَكَانَتْ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ تَرْكِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ لِظُهُورِ ضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، أَوِ الرَّغْبَةِ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ بِمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الْعِبْرَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ فَتَكُونَ مُرَبِّيَةً لِعَقْلِهِ وَنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِرَارًا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مُصِيبَةٍ كَفَّارَةً لِذَنْبٍ أَوْ لِعِدَّةِ ذُنُوبٍ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْمُصِيبَةُ سَبَبًا لِمُضَاعَفَةِ الذُّنُوبِ وَاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحْمِلُ أَهْلَ الْجَزَعِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ - دَعِ الْكُفْرَ - عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يَكُونُوا لِيَقْتَرِفُوهَا لَوْلَا الْمُصِيبَةُ، وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ بِالذَّاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَيَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ عَمَلِ السُّوءِ تَأْثِيرًا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ شَرًّا مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى (30: 10) ، لَا يَجِدُ لَهُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَدْفَعُ الْجَزَاءَ عَنْهُ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَفَاخَرَ وَيَتَفَاخَرُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ

124

الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ الْبَشَرِ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الْخَالِقَةُ، بَلْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا شَافِعَةٌ وَوَاسِطَةٌ، فَكُلُّ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ فِي الشُّفَعَاءِ كَأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، بَرْقٌ خُلَّبٌ وَسَحَابٌ جَهَامٌ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي النَّجَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، أَيْ: كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ مَا يَسْتَطِيعُ عَمَلَهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ - أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا النُّفُوسُ فِي أَخْلَاقِهَا وَآدَابِهَا وَأَحْوَالِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَشَرِ الَّذِينَ حَقَّرُوا شَأْنَ الْإِنَاثِ فَجَعَلُوهُنَّ فِي عِدَادِ الْعَجْمَاوَاتِ لَا فِي عِدَادِ النَّاسِ، مَنْ يَعْمَلْ مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْإِيمَانِ مُطَمْئِنٌ بِهِ، فَأُولَئِكَ الْعَامِلُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِزَكَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَطَهَارَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَكُونُونَ مَظْهَرَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، وَمَحَلَّ إِحْسَانِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَلَا يُظْلَمُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا مَا، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ النَّقِيرِ وَهُوَ النُّكْتَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَهِيَ ثُقْبَةٌ صَغِيرَةٌ وَتُسَمَّى نَقْرَةً كَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِنَقْرِ مِنْقَارٍ صَغِيرٍ، وَيُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا بَلْ يَزِيدُهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي بِمَعْنَاهَا حَدِيثُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ إِلَخْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَمَلِهِ تِلْكَ الْجَنَّةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، إِلَّا بِفَضْلِ اللهِ الَّذِي جَعَلَ الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَمَلِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي خِطَابِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ قَدْ قَصَّرُوا فِي الْأَعْمَالِ وَاغْتَرُّوا بِالْأَمَانِيِّ ظَانِّينَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إِلَى أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْكُتُبِ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ جَنَّةِ اللهِ، وَأَكْثَرُ الْآيَاتِ يُقَدَّمُ فِيهَا ذِكْرُ الْإِيمَانِ عَلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ لِوُرُودِهَا فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ، وَمُحَاجَّةِ الْكَافِرِينَ، وَالْإِيمَانُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ وَالْعَمَلُ أَثَرُهُ وَمُمِدُّهُ، وَمِنَ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. هَذَا وَإِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا يَدُكُّ صُرُوحَ الْأَمَانِيِّ وَمَعَاقِلَ الْغُرُورِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا وَيَتَحَصَّنُ فِيهَا الْكُسَالَى وَالْجُهَّالُ وَالْفُسَّاقُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ كَالْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ الْعَزِيزَ الْحَكِيمَ يُحَابِي مَنْ يُسَمِّي نَفْسَهُ مُسْلِمًا، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهَا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا بِمُجَرَّدِ اللَّقَبِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَتَى يَرْجِعُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَدْيِ كِتَابِهِمُ الَّذِي يَفْخَرُونَ بِهِ، وَيَبْنُونَ قُصُورَ أَمَانِيِّهِمْ عَلَى دَعْوَى اتِّبَاعِهِ؟ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَحَرَّمُوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُعَمَّمِينَ

125

سَمُّوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي أُقْفِلَ دُونَهُمْ بَابُهُ، وَانْقَرَضَ فِي حُكْمِهِمْ أَرْبَابُهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَئِمَّةً مُسْتَنْبِطِينَ، وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، فَيَا أَهْلَ الْقُرْآنِ! لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا الْقُرْآنَ، وَتَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَبْذُلُوا فِي سَبِيلِهِ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ وَإِلَّا فَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا حَلَّ بِكُمْ بَعْدَ تَرْكِ هِدَايَتِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَضَيَاعِ الْمُلْكِ وَسُوءِ الْحَالِ فَإِلَى مَتَى هَذَا الْغُرُورُ وَالْإِهْمَالُ، وَحَتَّامَ تَتَعَلَّلُونَ بِالْأَمَانِيِّ وَكَوَاذِبِ الْآمَالِ؟ هَذَا وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ الْبَصِيرَةِ فِي غُرُورِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَفِي نَشْرِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَ الْغُرُورِ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ وَلَوْلَا أَنَّنِي الْآنَ حِلْفُ أَسْفَارٍ، لَا يَقِرُّ لِي فِي بَلَدٍ قَرَارٌ، لَأَطَلْتُ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ الْغُرُورِ وَالْمُغْتَرِّينَ، وَالْأَمَانِيِّ وَالْمُتَمَنِّينَ، إِثَارَةً لِكَوَامِنِ الْعِبْرَةِ وَاسْتِدْرَارًا لِبَوَاخِلِ الْعِبْرَةِ، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ بَلِ السَّعَادَةِ مَنُوطٌ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ مَعًا، أَتْبَعُ ذَلِكَ بَيَانَ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ جَعَلَ قَلْبَهُ سَلَمًا خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي دُعَاءٍ وَلَا رَجَاءٍ، وَلَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْحُجَّابِ، بَلْ يَكُونُ مُوَحِّدًا صِرْفًا لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهَ وَآثَارَ صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَلَا يَأْتِي بُيُوتَ هَذِهِ الْخَزَائِنِ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا وَهِيَ السُّنَنُ وَالْأَسْبَابُ وَلَا يَدْعُو مَعَهُ وَلَا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا فِي تَيْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقِ وَتَذْلِيلِ الصِّعَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا الْإِيمَانِ الْخَالِصِ، وَالتَّوْحِيدِ الْكَامِلِ مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، مُتْقِنٌ لِكُلِّ مَا يَأْخُذُ بِهِ، مُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: وَاتَّبَعَ فِي دِينِهِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: اتَّبَعَهُ فِي حَنِيفِيَّتِهِ، الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَيْلُهُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَهْلِهَا وَتَبَرُّؤُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ مِنْهَا وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (43: 26 - 28) ، أَيْ: جَعَلَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِهِ وَتَقَالِيدِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَدْعُو إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ. الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَصْفُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَآيَاتِهِ، وَذِكْرُ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ وَإِشْغَالِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ الْخَادِعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ

الْآخِرَةِ لَيْسَ بِالْأَمَانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ اللهِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبْدِيلِ الْأَجْيَالِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا بَيَانًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا النَّاسُ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْخُشُوعِ وَالسُّرُورِ وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُظْهِرُ بَعْضُ النَّاسِ الْخُضُوعَ أَوِ الِاحْتِرَامَ لِلْآخَرِ بِإِشَارَةِ الْيَدِ، وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّلِ وَيُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ، وَمَا يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ هُوَ الْفِطْرِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَرَكَةِ، فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ تَرْكُهُ لَهُ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ إِحْسَانُ الْعَمَلِ - خِلَافًا لِلْجَلَالِ فِيهِمَا إِذَا عُكِسَ - وَاتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ يُرَادُ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (42: 13) ، فَإِقَامَةُ الدِّينِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّدَيُّنِ الْمُطْلَقِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَقُومُ بِنَاؤُهُ وَيَثْبُتُ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ أَهْلِهِ. وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، أَيْ: اصْطَفَاهُ لِتَوْحِيدِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فِي زَمَنٍ وَبِلَادٍ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْوَثَنِيَّةُ، وَقَوْمٍ أَفْسَدَ الشِّرْكُ عُقُولَهُمْ وَدَنَّسَ فِطْرَتَهُمْ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَالِصًا مُخْلِصًا لِلَّهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ اللهُ خَلِيلًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُكْرِمَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ الْخَلِيلِ فِي اسْتِعْمَالِنَا لَهُ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْخُلَّةَ بَيْنَ الْخَلِيْلَيْنِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ التَّخَلُّلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ اهـ. أَقُولُ: يُطْلَقُ الْخَلِيلُ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبِّ لِمَنْ يُحِبُّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ خَالِصَةً مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَوْضِعًا لِحُبٍّ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الْخُلَّةِ - بِالضَّمِّ - أَيِ الْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي تَتَخَلَّلُ النَّفْسَ وَتُمَازِجُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا وَاللهُ يُحِبُّ الْأَصْفِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَيُحِبُّونَهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَامِلَ الْحُبِّ لِلَّهِ ; وَلِذَلِكَ عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَجَمِيعَ النَّاسِ فِي حُبِّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَلِيلَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ - بِفَتْحِ الْخَاءِ - وَهِيَ الْحَاجَةُ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى قَالَ فِي الْحَاجَاتِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (26: 78، 79) ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْخُلَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ ; لِيَتَذَكَّرَ

126

الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَفَاخِرِينَ بِدِينِهِمُ الْمُتَبَجِّحِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا بِأَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَحْيِ وَالْفِنَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ ! وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ كَلِمَةٌ فِي اللُّغَةِ تُمَثِّلُ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ كَلِمَةِ الْخَلِيلِ، وَأَمَّا لَوَازِمُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِمْ فَيُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَيْءٍ مُحِيطًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: خُتِمَ هَذَا السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِفَوَائِدَ: (إِحْدَاهَا) التَّذْكِيرُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ أَكْرَمُ مَنْ وَعَدَ وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ، (ثَانِيهَا) : بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الْعَاقِلُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَيَتْرُكُ التَّوَجُّهَ إِلَى مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَلَوْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ؟ (ثَالِثُهَا) : نَفْيُ مَا رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ الْعَادِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كَأَنْ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الْمُقَارَبَةِ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ وَمِنْ خَلْقِهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا وَبِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا هِيَ نُسِبَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمَعْبُودُ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مَمْلُوكَةٌ عَابِدَةٌ لَهُ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إِحَاطَةَ قَهْرٍ وَتَصَرُّفٍ وَتَسْخِيرٍ، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ وَتَدْبِيرٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِحَاطَةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِحَاطَةَ وُجُودٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ وَجُودُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا هِيَ ابْتَدَعَتْ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا وُجُودُهَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الْأَعْلَى، فَالْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْلِصَ الْخَلْقُ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ. (يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ آخِرَ مَا فَسَّرَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَسَنَسْتَمِرُّ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا مَحْرُومِينَ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى عَقْلِهِ الْمُنِيرِ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الثَّلَاثِينَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ لَهُ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1323 هـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ شَهْرَ جُمَادَى الْأُولَى

127

مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَفَعَنَا بِهِ، وَكَتَبْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَدِينَةٍ بُمْبَى أَوْ (بُومْبَايْ) مِنْ ثُغُورِ الْهِنْدِ فِي غُرَّةِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ 1330 هـ وَاللهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ، إِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا. تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (4: 36) ، فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْقَرَابَةِ، وَمِنْ آيَةِ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَحْكَامٍ عَامَّةٍ أَكْثَرُهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْقِتَالِ، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِهَا هَا هُنَا تَأَخُّرُ نُزُولِهَا إِلَى أَنْ شَعَرَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِالْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْضِمُونَ حُقُوقَ الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآيَاتُ

مُرَاعَاتَهَا وَحِفْظَهَا وَبَيَّنَتْهَا لَهُمْ، وَجَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ حُقُوقًا ثَابِتَةً مُؤَكَّدَةً فِي الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ كَالرِّجَالِ وَحَرَّمَتْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْهُنَّ، مَعَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَحَدَّدَتِ الْعَدَدَ الَّذِي يَحِلُّ مِنْهُنَّ فِي حَالِ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الظُّلْمِ، فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَرَفَ النِّسَاءُ حُقُوقَهُنَّ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَنَعَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ أَنْ يَظْلِمُوهُنَّ، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَعْرِفَ الرِّجَالُ شِدَّةَ التَّبِعَةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَقَعَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، كَأَنْ تُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَحِلَّ لَهُ أَوْ لَا يَحِلَّ أَنْ يَمْنَعَ الْيَتِيمَةَ مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الْإِرْثِ وَهُوَ يَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَشْتَبِهُ بَعْضُهُمْ فِيمَا يُصَالِحُ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَيَضْطَرِبُ بَعْضُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ بَيْنَ النِّسَاءِ، هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَدْلُ فِي الْحُبِّ أَوْ فِي لَوَازِمِهِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْمَحْبُوبَةِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَمْ لَا؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ مِمَّا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ ; فَلِهَذَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ عَدَمَ جَمْعِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ الْهِدَايَةُ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عِظَةً وَذِكْرَى وَعِبْرَةً يُنَمَّى بِهَا الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَيُقَوَّي بِهَا شُعُورُ التَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ لَهُ، وَتَزِيدُ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَلَوْ طَالَ سَرْدُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا مَوْضُوعُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لَمَلَّ الْقَارِئُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ التَّفَكُّرُ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَوَقَائِعِهَا، فَيَفُوتُ بِذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ، وَالْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَحَسْبُ طُلَّابِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالسُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا يَجْعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلِلتَّعَبُّدِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا عَلِمْتَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، فَمَعْنَاهُ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي شَأْنِهِنَّ، وَبَيَانِ الْمُشْكَلِ وَالْغَامِضِ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِنَّ، مِنْ حَيْثُ الْحُقُولُ الْمَالِيَّةُ وَالزَّوَاجُ لِأَجْلِهَا وَالنُّشُوزُ وَالْخِصَامُ وَالصُّلْحُ وَالْعَدْلُ وَالْعِشْرَةُ وَالْفِرَاقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَوَابُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَغَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ " يَسْتَفْتُونَكَ فِي مِيرَاثِهِنَّ "، لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلَغَنَا أَنَّكَ تُعْطِي الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ وَإِنَّمَا كُنَّا نُوَرِّثُ مَنْ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَيَحُوزُ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِذَلِكَ أُمِرْتُ، فَيَا لَلَّهِ لِلْعَجَبِ! كَيْفَ يَغْفُلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ اسْتِفْتَاءٌ وَفَتْوَى فَيُقَطِّعُونَهَا إِرْبًا إِرْبًا، وَيَجْعَلُونَهَا جِذَاذًا وَأَفْلَاذًا لَا صِلَةَ بَيْنَهَا، وَلَا جَامِعَةَ تَضُمُّهَا؟ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنَاتٍ أُمِّ

كُحَّةَ وَمِيرَاثِهِنَّ عَنْ أَبِيهِنَّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَهُوَ وَلِيُّهَا فَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِذَا كَانَ مَرْغُوبًا عَنْهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا وَجِمَالِهَا تَرَكَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ وَقَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِدَمَامَتِهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَذْهَبَ بِمَالِهَا، فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، بِمَا يُنَزِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِنَّ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ فِي شَأْنِهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ فِي أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي جَرَتْ عَادَتُكُمْ أَلَّا تُعْطُوهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ مِنَ الْإِرْثِ إِذَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ لِوِلَايَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ، وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَالتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ، فَلَا تَنْكِحُونَهُنَّ، وَلَا تُنْكِحُونَهُنَّ لِغَيْرِكُمْ لِيَبْقَى مَالُهُنَّ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ لَا تُعْطُونَهُمْ حَقَّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا فِي آخِرِ آيَاتِ الْفَرَائِضِ يُذَكِّرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ أَنْ يَتَدَبَّرُوهَا وَيَتَأَمَّلُوا مَعَانِيَهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَتَغَافَلُوا عَنْ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ وَالْعِظَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِرْجَاعُهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، وَإِذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرَ قَطْعِيٍّ، وَأَنَّهُمْ بِالِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ رُبَّمَا يُفْتُونَ بِمَا فِيهِ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَمُوَافَقَةُ رَغْبَتِهِمْ، لَجَئُوا إِلَى ذَلِكَ وَاسْتَفْتَوْا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِفْتَاءِ بَيَانُ دَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَا يَخْفَى مِنْهَا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ فِيهِنَّ، الْمَجْرُورِ أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَسْتَفْتُونَ عَنْهَا الْآنَ، فَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّهَا أَحْكَامٌ مُحْكَمَةٌ لَا هَوَادَةَ فِيهَا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَظْلِمُوا النِّسَاءَ وَأَمْثَالَهُنَّ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِصِغَرِهِمْ. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى مِنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَالْوِلْدَانِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: أَنْ تَعْنُوا عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَحَرِّي الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَمِثْلُهُ إِقَامَةُ الشَّيْءِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنَ الْكَمَالِ أَنْ يُعَامَلَ الْيَتِيمُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ لِلْيَتَامَى بِتَرْجِيحِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَالزِّيَادَةِ فِي قِسْطِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَنْسَى الْإِثَابَةَ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ

128

فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَتَكْمِيلٌ لِبَيَانِ مَرَاتِبِ مُعَامَلَتِهِمْ وَهِيَ ثَلَاثٌ، أُولَاهَا: هَضْمُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ السُّفْلَى، وَالثَّانِيَةُ: الْقِيَامُ لَهُمْ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِأَلَّا يَظْلِمُوا مِنْ حُقُوقِهِمْ شَيْئًا وَهِيَ الْوَاجِبَةُ الْوُسْطَى، وَالثَّالِثَةُ: الزِّيَادَةُ فِي رِزْقِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَمَا لَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ، وَهِيَ الْمَنْدُوبَةُ الْفُضْلَى. وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْخَوْفُ: تَوَقُّعُ مَا يُكْرَهُ بِوُقُوعِ بَعْضِ أَسْبَابِهِ أَوْ ظُهُورِ بَعْضِ أَمَارَاتِهِ، وَالنُّشُوزُ التَّرَفُّعُ وَالْكِبْرُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِعْرَاضُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ: وَإِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا وَتَرَفُّعًا عَلَيْهَا، أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهَا، بِأَنْ ثَبَتَ لَهَا ذَلِكَ، وَتَحَقَّقَ وَلَمْ يَكُنْ وَهْمًا مُجَرَّدًا، أَوْ وِسْوَاسًا عَارِضًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُ فِعْلِ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ، مُفَسِّرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى أَسَاسِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَكْثُرُ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ زَوْجَهَا مَشْغُولًا بِأَكْبَرِ الْعَظَائِمِ الْمَالِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ حَلِّ أَعْوَصِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاكِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ، لَا تَعُدُّ ذَلِكَ عُذْرًا يُبِيحُ لَهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مُسَامَرَتِهَا أَوْ مُنَادَمَتِهَا، أَوِ الرَّغْبَةِ عَنْ مُنَاغَاتِهَا وَمُبَاعَلَتِهَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَبَيَّنَ وَتَتَثَبَّتَ فِيمَا تَرَاهُ مِنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ لَا لِكَرَاهَتِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْ مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْذُرَ الرَّجُلَ وَتَصْبِرَ عَلَى مَا لَا تُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِكَرَاهَتِهِ إِيَّاهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يُصْلِحَا بِوَزْنِ يُكْرِمَا مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالْبَاقُونَ " يَصَّالَحَا " بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، أَيْ: فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ الَّذِي يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا، كَأَنْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ حَقِّهَا عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوِ الْمَبِيتِ مَعَهَا أَوْ بِحَقِّهَا كُلِّهَا فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا لِتَبْقَى فِي عِصْمَتِهِ مُكَرَّمَةً أَوْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ الْمَهْرِ وَمُتْعَةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيُطَلِّقَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (2: 229) ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مَا تُعْطِيهِ مِنْ حَقِّهَا إِذَا كَانَ بِرِضَاهَا، لِاعْتِقَادِهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُلْجِئًا إِيَّاهَا إِلَيْهِ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ ظُلْمِهَا أَوْ إِهَانَتِهَا؛ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ يَكْرَهُهَا لِكِبَرِ سَنِّهَا أَوْ دَمَامَتِهَا وَيُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَيَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَدِيدَةِ فَيُكَاشِفُهَا بِذَلِكَ وَيُخَيِّرُهَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عِنْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ تُسْقِطَ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ، أَيْ حِصَّتُهَا مِنَ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا، وَمِثْلُهَا الرَّجُلُ الَّذِي عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ مَثَلًا يَكْرَهُ إِحْدَاهُمَا وَيُرِيدُ فِرَاقَهَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْمَبِيتِ، أَوْ يَعْجَزُ عَنِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا فَيُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ الْمَكْرُوهَةُ لِكِبَرِهَا أَوْ قُبْحِهَا إِلَّا بِحَقِّهَا

فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، وَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ إِيفَاؤُهَا حَقَّهَا وَأَلَّا يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُصَالِحَهَا بِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهَا بَدَلًا مِنْ لَيَالِيهَا، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ جَازَ لَهُمَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيهِ كَمَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صُوَرِ الصُّلْحِ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ هُوَ التَّرَاضِي وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، مِنَ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِحْسَانٍ وَأَدَاءِ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ وَحِفْظِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقِ ; لِأَنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الرَّوَابِطِ وَأَحَقِّهَا بِالْحِفْظِ، وَمِيثَاقَهَا مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ وَأَجْدَرِهَا بِالْوَفَاءِ، وَعُرُوضُ الْخِلَافِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ وَسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ لِمَنْ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، وَالشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ الرَّحِيمَةُ هِيَ الَّتِي تُرَاعَى فِيهَا السُّنَنُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالْوَقَائِعُ الْفِعْلِيَّةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْقِيَامَ بِرِيَاسَةِ الْأُسْرَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى بَدَنًا وَعَقْلًا وَأَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ قَالَ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228) ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (4: 34) ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ فِي هَذِهِ الرِّيَاسَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَرَاءَ النَّفَقَةِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يُحَصِّنَهَا وَيُعِفَّهَا وَيُحَصِّنَ نَفْسَهُ وَيُعِفَّهَا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا ضُرَّةً شَرِيكَةً فِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَزْمِنَةِ الْحُرُوبِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الرِّجَالُ، وَتَكْثُرُ النِّسَاءُ كَمَا بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَوْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا النُّفُورُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَالْمَعْرُوفَ، فَإِنْ خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَعَلَى الَّذِي يُرِيدُ مِنْهُمَا أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْآخَرِ أَنْ يَسْتَرْضِيَهُ، وَكَمَا جَعَلَ اللهُ الطَّلَاقَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَحْرَصُ عَلَى عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِمَا تَكَلَّفَهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ طَاعَةِ الِانْفِعَالِ الْعَارِضِ، جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّ الْفَسْخِ إِذَا لَمْ يَفِ بِحُقُوقِهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ خَيْرٌ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ خَيْرِيَّةِ الصُّلْحِ فِي نَفْسِهِ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ السَّبَبَ الَّذِي قَدْ يَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، لِأَجْلِ أَنْ نَتَّقِيَهُ وَنُجَاهِدَ أَنْفُسَنَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الشُّحُّ وَمَعْنَاهُ الْبُخْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْحِرْصِ، وَمَعْنَى إِحْضَارِهِ الْأَنْفُسَ أَنَّهَا عُرْضَةٌ لَهُ، فَإِذَا جَاءَ مُقْتَضَى الْبَذْلِ أَلَمَّ بِهَا وَنَهَاهَا أَنْ تَبْذُلَ مَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ لِأَجْلِ الصُّلْحِ وَإِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ ; فَالنِّسَاءُ حَرِيصَاتٌ عَلَى حُقُوقِهِنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ

شَحِيحَاتٍ بِهَا، وَالرِّجَالُ أَيْضًا حَرِيصُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَشِحَّةٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الَّذِي يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَأَنْ يُعَالِجَهُ فَلَا يَبْخَلُ بِمَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ وَالتَّسَامُحُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مِنْ أَقْبَحِ الْبُخْلِ أَنْ يَبْخَلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ الْآخَرِ، بَعْدَ أَنْ أَفْضَى بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ وَارْتَبَطَا بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّسَامُحُ بَيْنَهُمَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْآتِيَةُ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، أَيْ: وَإِنْ تُحْسِنُوا الْعِشْرَةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَتَتَرَاحَمُوا وَتَتَعَاطَفُوا وَيَعْذُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَتَّقُوا النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَنْعِ الْحُقُوقِ أَوِ الشِّقَاقِ، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبِيرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ فِيهِ، فَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْكُمْ بِالْحُسْنَى، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا بِالْعَاقِبَةِ الْفُضْلَى قَالَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى نِسَائِهِمْ وَعَدَمِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ، وَإِنْ كَرِهُوهُنَّ لِكِبَرِهِنَّ أَوْ دَمَامَتِهِنَّ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (4: 19) . وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذِهِ الْآيَةُ فَتْوَى أُخْرَى غَيْرُ الْفَتَاوَى الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُسْتَفْتُونَ عَنْهَا هُمُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ زَوْجَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (4: 3) ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ عَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاوِيًا الْعَدْلَ حَرِيصًا عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ وُعُورَةُ مَسْلَكِهِ، وَاشْتِبَاهُ أَعْلَامِهِ، وَالتَّحْدِيدُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ اخْتِيَارُهُ مِنْهُ، فَالْوَرِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُحَاوِلُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ، وَالْبَشَاشَةِ وَالْأُنْسِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَيَرَى أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ الْوِجْدَانُ النَّفْسِيُّ، وَالْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَا يَمْلِكُ آثَارَهُ الطَّبِيعِيَّةَ، وَلَوَازِمَهُ الْفِطْرِيَّةَ، فَخَفَّفَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَدْلَ الْكَامِلَ بَيْنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَهْمَا حَرَصْتُمْ عَلَى أَنْ تَجْعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ كَالْغِرَارَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْعَدْلِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ بِحِرْصِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ لَمَا قَدَرْتُمْ عَلَى إِرْضَائِهِمَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، إِلَى الْمَحْبُوبَةِ مِنْهُنَّ بِالطَّبْعِ، الْمَالِكَةِ لِمَا لَا تَمْلِكُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْقَلْبِ فَتُعْرِضُوا بِذَلِكَ عَنِ الْأُخْرَى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، كَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ وَغَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُغْفَرُ لَكُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالطَّبْعِ، هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ تَعَمُّدِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْإِهْمَالِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا لَهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَإِنْ تُصْلِحُوا فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا ظُلْمَهُنَّ وَتَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ

129

الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا دُونُ ذَلِكُ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالِاخْتِيَارِ، كَالْحُبِّ وَلَوَازِمِهِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ سُبْحَانَهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمُسْتَحِقِّهَا. يَظُنُّ بَعْضُ الْمَيَّالِينَ إِلَى مَنْعِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ (4: 3) ، أَنَّ التَّعَدُّدَ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّ مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَخَبَرُهُ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْعَدْلُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَعَدَمُ الْعَدْلِ صَارَ أَمْرًا يَقِينِيًّا، وَيَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّعَدُّدِ أَنْ يَخَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ بِأَنْ يَظُنَّهُ ظَنًّا فَكَيْفَ إِذَا اعْتَقَدَهُ يَقِينِيًّا؟ كَانَ يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ صَحِيحًا لَوْ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إِلَخْ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْعَدْلِ هُوَ الْعَدْلُ الْكَامِلُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَيْهِ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَإِنَّ الْعَدْلَ مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَشْتَبِهُ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ مِنْهَا بِمَا يُقَارِبُهُ مِنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَا يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّهِ وَالْإِحَاطَةِ بِجُزْئِيَّاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِجْدَانَاتِ النَّفْسِ كَالْحُبِّ وَالْكُرْهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ فَلَمَّا أُطْلِقَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدْلِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ أَنْ يُفَكِّرَ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ فِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَدْلِ وَجُزْئِيَّاتِهِ وَيَتَبَيَّنُوهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَدْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْفَرْدَ الْكَامِلَ الَّذِي يَعُمُّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ ; لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. نَعَمْ إِنَّ فِي الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ الْوَرِعِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا وَيَعْتَبِرُ بِهَا مِنْ عُبَّادِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْصِدُونَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ إِلَّا تَمْتِيعَ النَّفْسِ بِاللَّذَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَرْكَانِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) ، وَلَا مُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّسْلِ وَصَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ، أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الزَّوَاجِ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، يَتَزَوَّجُونَ الثَّانِيَةَ لِمَحْضِ الْمَلَلِ مِنَ الْأُولَى وَحُبِّ التَّنَقُّلِ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَمْرُ الْعَدْلِ، وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ لِإِحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ يَنْوِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَظْلِمَ الْأُولَى وَيَهْضِمَ حَقَّهَا، وَلَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ فِي ذَلِكَ إِثْمًا، وَلَا أَغْضَبَ اللهَ وَاسْتَهَانَ بِأَحْكَامِهِ، وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَمْرٌ سَهْلٌ فَيُقْدِمُونَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا

فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ وَمَاهِيَّتِهِ، أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الذَّوَّاقُونَ! أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الْمُتْرَفُونَ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي مِيثَاقِ الزَّوْجِيَّةِ الْغَلِيظِ! وَفِي حُقُوقِهَا الْمُؤَكَّدَةِ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ نَسْلِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِ ذُرِّيَّتِهِمْ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي حَالِ أُمَّتِهِمُ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى دَعَائِمِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالذُّرِّيَّةِ الَّتِي تَنْشَأُ بَيْنَ أُمَّهَاتٍ مُتَعَادِيَاتٍ وَزَوْجٍ شَهْوَانِيٍّ ظَالِمٍ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلْيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ لِيَعْلَمُوا هَلْ هُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ لِأَمْرِ نِسَائِهِمْ وَنِظَامِ بُيُوتِهِمْ أَمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَهَلْ هُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ اللهَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَمْ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ أَوِ الْفَاسِقِينَ؟ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أَيْ: وَإِنْ يَتَفَرَّقِ الزَّوْجَانِ اللَّذَانِ يَخَافَا كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ، كَالَّذِي يَكْرَهُ امْرَأَتَهُ لِدَمَامَتِهَا أَوْ كِبَرِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَمْ يَتَصَالَحْ مَعَهَا عَلَى شَيْءٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَكَالَّذِي عِنْدَهُ زَوْجَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَسْمَحُ لَهُ الْمَرْغُوبُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا بِمُقَابِلٍ وَلَا غَيْرِ مُقَابِلٍ، إِنْ يَتَفَرَّقَ هَذَانَ - عَلَى تَرْجِيحِ الطَّلَاقِ عَلَى دَوَامِ الزَّوْجِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا، وَعَدَمِ حِرْصِ أَحَدٍ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِرْضَاءِ الْآخَرِ وَصُلْحِهِ - يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سِعَتِهِ، يُغْنِي اللهُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ، فَقَدْ يُسَخِّرُ لِلْمَرْأَةِ رَجُلًا خَيْرًا مِنْهُ يَقُومُ لَهَا بِحُقُوقِهَا، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ أَوْ يَتَزَوَّجُهَا مَنْ تُحْصِنُهُ وَتُرْضِيهِ فَيَسْتَقِيمُ أَمْرُ بَيْتِهِ وَتَرْبِيَةُ أَوْلَادِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدِيرًا بِإِغْنَاءِ اللهِ إِيَّاهُ عَنِ الْآخَرِ بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْهُ، إِذَا الْتَزَمَا فِي التَّفَرُّقِ حُدُودَ اللهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الِاتِّفَاقِ وَالصُّلْحِ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَهُمَا بَعْدَ إِجَالَةِ الرَّأْيِ فِيهِ وَالتَّرَوِّي فِي أَسْبَابِهِ وَوَسَائِلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لَهُمَا، تَفَرَّقَا بِإِحْسَانٍ يَحْفَظُ كَرَامَتَهُمَا وَلَا يَكُونَانِ بِهِ مُضْغَةً فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَقُدْوَةً سَيِّئَةً لِفَاسِدِي الْأَخْلَاقِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، أَيْ كَانَ وَلَا يَزَالُ وَاسِعَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَقْدَارٍ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُسَبِّبَاتِ وَالْأَسْبَابِ، حَكِيمًا فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، جَاعِلًا لَهَا عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ النَّاسِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ الرَّغْبَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ حُسْنِ تَعَامُلِهِمَا فِي تَفَرُّقِهِمَا، وَالْتِزَامِهِمَا فِيهِ حِفْظَ كَرَامَتِهِمَا، وَإِنَّمَا قُلْتُ: " قَدْ يَكُونُ " لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَغِّبًا لِدَهْمَاءِ النَّاسِ وَتُحُوتِهِمْ، فَهُوَ أَكْبَرُ الْمُرَغِّبَاتِ لِكِرَامِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِيهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَفَتْ مَعَ بَعْلِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا الشَّرِيفَةَ لَمْ تَقْبَلْ أَنْ يَنْشُزَ أَوْ يُعْرِضَ عَنْهَا، أَوْ يَقْرِنَ بِهَا مَنْ لَا يَعْدِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تَخْدِشْ كَرَامَتَهُ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، وَإِنَّمَا أَحَبَّتْ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ عَادِلَةٍ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَتَفَرَّقَا بِأَدَبٍ وَإِحْسَانٍ حُفِظَ بِهِ شَرَفُهُمَا، وَحَسُنَ بِهِ ذِكْرُهُمَا، وَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي

131

أَسَاءَ إِلَيْهَا، لَا لِعَيْبٍ فِي أَخْلَاقِهَا وَلَا لِسُوءٍ فِي أَعْمَالِهِ، بَلْ لِتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ يَرَى فِيهَا أَفْضَلَ صِفَاتِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يَتَسَاهَلُ لِأَجْلِهَا فِيمَا عَدَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَتَاةً رَغِبَ فِيهَا الْفِتْيَانُ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَصَفًا رَغِبَ فِيهَا كَثِيرُونَ مِنْ أَمْثَالِهَا فِي السِّنِّ وَشَرَفِ الْأَدَبِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ رَغْبَةً فِي مِثْلِهَا مَنْ يَتَزَوَّجُونَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا لِمَحْضِ إِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ تَدُومَ لَهُمُ الْعِيشَةُ الْمَرْضِيَّةُ، كَذَلِكَ كَرَائِمُ النِّسَاءِ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ يَرْغَبُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ، وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى الطَّلَاقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي تَرْتِيبِ كِتَابِهِ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي شُئُونِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهَا بِآيَاتٍ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ تُذَكِّرُ الْمُخَاطَبِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ بِعَظَمَتِهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ لِيَزْدَادُوا بِتَدَبُّرِهَا إِيمَانًا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَاتُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا، فَبِأَمْرِهِ وَحْدَهُ قَامَ نِظَامُ الْأَكْوَانِ، وَلَهُ وَحْدَهُ التَّدْبِيرُ وَالتَّكْلِيفُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ، فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، فَبِإِقَامَةِ السُّنَنِ تَعْلُو مَعَارِفُكُمُ الْإِلَهِيَّةُ، وَتَرْتَقِي مَرَافِقُكُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَبِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، تَتَزَكَّى أَنْفُسُكُمْ وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحُكُمُ الْمَدَنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ وَإِنْ تَكْفُرُوا، نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ وَتَتْرُكُوا

تَقْوَاهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا يَنْقُصُ كُفْرُكُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الشُّكْرِ خَاصَّةٌ بِكُمْ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ وَمِنْهُ، مَحْمُودًا بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، مَحْمُودًا عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شُكْرِكُمْ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى حَمْدِكُمْ لِتَحْقِيقِ حَمْدِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (17: 44) ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اكْتَفَيْنَا مِنْهُ بِمَحَلِّ الشَّاهِدِ فِي مَوْضُوعِنَا. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِكَوْنِهِ مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا لِيَتَمَثَّلُوا عَظَمَتَهُ، وَيَسْتَحْضِرُوا الدَّلِيلَ عَلَى غِنَاهُ وَحَمْدِهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ بِإِغْنَاءِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَقَامَا حُدُودَهُ فِي تَفَرُّقِهِمَا فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ كُلِّ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ لَهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ الْوَكِيلُ بِمَعْنَى الْمُهَيْمِنِ وَالْمُسَيْطِرِ وَالرَّقِيبِ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُذْهِبَكُمْ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ بِكُمْ، أَوْ أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْكُمْ فَتَسْلُبُ اسْتِقْلَالَكُمْ حَتَّى تَجْعَلَكُمْ عَبِيدًا أَوْ كَالْعَبِيدِ لَهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَقُومُوا بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمُ الَّتِي بِهَا وِحْدَتُكُمْ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُكُمْ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، يَحُلُّونَ مَحَلَّهُمْ فِي الْوُجُودِ أَوِ الْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (14: 19، 20) ، وَفِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (47: 38) ، قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَتَوْجِيهٌ لِأَفْكَارِهِمْ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي سُنَنِهِ تَعَالَى بِحَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السُّنَنِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمَشِيئَةُ لَا مَرَدَّ لَهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ; لِأَنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ.

134

مَنْ كَانَ يُرِيدُ، مِنْكُمْ بِسَعْيِهِ وَكَدْحِهِ وَجِهَادِهِ فِي حَيَاتِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا، وَنَعِيمَهَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، جَمِيعًا وَقَدْ وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَهِدَايَةِ الْحَوَاسِ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالدِّينِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ نَيْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الثَّوَابَيْنِ جَمِيعًا وَلَا تَكْتَفُوا بِالْأَدْنَى الْفَانِي عَنِ الْأَعْلَى الْبَاقِي، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَيْسُورٌ لَكُمْ، وَمِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُكُمْ، فَمِنْ سَفَهِ النَّفْسَ، وَأَفَنِ الرَّأْيِ، أَنْ تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِي أَهْلَهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (2: 201) . وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، سَمِيعًا لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ، بَصِيرًا بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَذَلِكَ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَقِيمُ بِهَا أَمْرُ دُنْيَاهُمْ، وَيَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي آخِرَتِهِمْ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ مَكَانُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ إِلَخْ، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ خَاصَّةً بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، فَهُنَالِكَ خَصَّ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءَ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْتَاءِ فِيهِنَّ، وَلِأَنَّ حَقَّهُنَّ آكِدٌ وَظُلْمَهُنَّ مَعْهُودٌ، وَهَا هُنَا عَمَّمَ الْأَمْرَ

135

بِالْقِسْطِ لِأَنَّ الْعَدْلَ حِفَاظُ النِّظَامِ وَقِوَامُ أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَدَمُ مُحَابَاةِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ لِغِنَاهُ، أَوْ مُرَاعَاتِهِ لِفَقْرِهِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ وَالْحَقَّ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ مُحَابَاةُ الْأَقْرَبِينَ مَعْهُودَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُمْ قَائِمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَانَ يَنْصُرُ قَوْمَهُ وَأَهْلَ عَصَبِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَزُّ بِهِمْ، كَمَا يَظْلِمُ النِّسَاءَ وَالْيَتَامَى لِضِعْفِهِنَّ، وَعَدَمِ الِاعْتِزَازِ بِهِنَّ، فَحَظْرُ اللهِ مُحَابَاةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ أَهْلَهُ وَإِعْطَاءَهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُقَابِلُ حَظْرَ ظُلْمِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى هُنَاكَ وَهَضْمَ مَا لَهُنَّ مِنَ الْحَقِّ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ، ثُمَّ أَرْدَفَتْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ قِبَلَ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ فَيَلْوِي بِهَا لِسَانَهُ أَوْ يَكْتُمُهَا مِمَّا يَرَى مِنْ عُسْرَتِهِ حَتَّى يُوسَرَ فَيَقْضِيَ فَنَزَلَتْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَتَأَمَّلَ كَيْفَ بَقِيَ تَأْثِيرُ الْمُحَابَاةِ فِيهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ! . الْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا وَأَدُوَمِهَا فَإِنَّ قَوَّامِينَ، جَمْعُ قَوَّامٍ وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَالْقِيَامُ بِالشَّيْءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُسْتَوِيًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ، لِتَأْكِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلًا أَوْ نَاقِصًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَقَامَ الْبِنَاءَ أَوْ أَقَامَ الْجِدَارَ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ (18: 77) . وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْجِدَارُ إِلَى الْإِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَائِلًا مُتَدَاعِيًا لِلسُّقُوطِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَدْلِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ مُطْلَقًا يَكُونُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ تَقُولُ: اعْدِلُوا وَأَقْسِطُوا، وَتَقُولُ: كُونُوا عَادِلِينَ أَوْ مُقْسِطِينَ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الصِّفَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْقِسْطِ الَّذِي يَصْدُقُ بِمَرَّةٍ، وَتَقُولُ: أَقِيمُوا الْقِسْطَ وَأَبْلَغُ مِنْهُ: كُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: لِتَكُنِ الْمُبَالَغَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِقَامَةِ الْقِسْطِ عَلَى وَجْهِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِكُمْ بِأَنْ تَتَحَرَّوْهُ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْقِسْطُ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ كَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُوَلِّيهِ السُّلْطَانُ أَوْ يُحَكِّمُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَعْدَلَ الْأُمَمِ وَأَقْوَمَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا عِنْدَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَقَ عَلَى سَلَفِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (7: 181) ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ أُولَئِكَ السَّلَفِ خَلْفٌ نَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ جَمِيعُ الْأُمَمُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِظُلْمِ حُكَّامِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَتَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ بَلْ صَارَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ يَلْتَمِسُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْقِسْطَ، وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شُهَدَاءَ لِلَّهِ، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ بِوَزْنِ " فَعِيلٍ " وَالْأَصْلُ فِي صِيغَةِ " فَعِيلٍ " أَنْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الرَّاسِخَةِ كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ، فَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ بِالْعِنَايَةِ بِأَمْرِ الشَّهَادَةِ وَالرُّسُوخِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي تَفْسِيرِ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْحَقَّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَأْمُرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ وَلَا مُحَابَاةٍ لِأَحَدٍ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ بِالْحَقِّ لِوَجْهِ اللهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ بِهِ مَرْضَاتُهُ وَمَثُوبَتُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِأَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَقُّ عَلَيْكُمْ وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِظْهَارُ الْحَقِّ أَوْ عَلَى وَالِدَيْكُمْ وَأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ كَأَوْلَادِكُمْ وَإِخْوَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَلَا مِنْ صِلَةِ رَحِمِ الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُعَانُوا عَلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَيِّهَا وَالتَّحْرِيفِ فِيهَا لِأَجْلِهِمْ، وَإِنَّمَا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ فِي الْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَالَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الظُّلْمِ وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ يَتَعَاوَنُ النَّاسُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ أَسْبَابِ فُشُوِّ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ شَرَّهًا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَالْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مَفْسَدَةٌ ضَرَرُهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَتْ لِمَصْلَحَةٍ يُرِيدُ الْمُحَابِي بِهَا نَفْعَ أَهْلِهِ أَوِ الشَّفَقَةَ عَلَى فَقِيرٍ أَوِ الْعَصَبِيَّةَ لِغَنِيٍّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، أَيْ: إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، وَشَرْعُهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهِمَا فَلَا تُحَابُوا الْغَنِيَّ طَمَعًا فِي بِرِّهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ شَرِّهِ وَلَا الْفَقِيرَ عَطْفًا عَلَيْهِ وَرَحْمَةً بِهِ، فَمَرْضَاةُ الْفَقِيرِ لَيْسَتْ خَيْرًا لَكُمْ وَلَا لَهُ مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْتُمْ أَرْحَمُ بِالْفَقِيرِ وَأَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ وَإِقَامَةَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ هِيَ خَيْرٌ لِلشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا لَمَا شَرَعَ اللهُ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ فَكَانَ حِلْفُهُ مَعَ الْفَقِيرِ يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ اهـ. أَيْ: كَانَ مَيْلُهُ الْقَلْبِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى الْفَقِيرِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّى لِظُلْمِ الْغَنِيِّ، وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي تُظْهِرُهُ الْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ سَوَاءٌ أَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ وَنِعْمَ مَا قَالَ: هَذَا فِي الشَّهَادَةِ، فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ يَا ابْنَ آدَمَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ أَوِ الْوَالِدَيْنِ أَوِ الْأَقْرَبِينَ أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ وَأَشْرَافِ قَوْمِكَ، فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ اللهَ رَضِيَ بِالْعَدْلِ لِنَفْسِهِ وَالْإِقْسَاطِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، بِهِ يَرُدُّ اللهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ وَمِنَ الصَّادِقِ عَلَى الْكَاذِبِ، وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ،

وَبِالْعَدْلِ يُصَدَّقُ الصَّادِقُ وَيُكَذَّبُ الْكَاذِبُ، وَيَرُدُّ الْمُعْتَدِي وَيُوَبِّخُهُ تَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ، وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ، يَا ابْنَ آدَمَ! إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، يَقُولُ اللهُ: " أَنَا أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَلَا يَمْنَعُكُمْ غِنَى غَنِيٍّ، وَلَا فَقْرَ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ " اهـ. قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا، أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى وَمَيْلَ النَّفْسِ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ كُلِّفْتُمُ الْعَدْلَ فِيهِمْ، أَوِ الشَّهَادَةَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، بَلْ آثِرُوا الْعَدْلَ عَلَى الْهَوَى، فَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ فِي الْوَرَى، أَوْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِئَلَّا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَالْهَوَى مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كُتِبَتْ: تَلْوُوا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ تَلُوا، بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْوَاوِ مِنَ اللَّيِّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَإِنْ تَلُوا أَمْرَ الشَّهَادَةِ وَتُؤَدُّوهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ تَأْدِيَتِهَا وَتَكْتُمُوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ خَبِيرًا بِعَمَلِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ وَنِيَّتُكُمْ فِيهِ، وَعَلَى الثَّانِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَتُحَرِّفُوهَا، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَلَا تُؤَدُّوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعَمَلِكُمْ هَذَا خَبِيرًا فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ هُنَا بِكَوْنِهِ خَبِيرًا وَلَمْ يَقُلْ عَلِيمًا ; لِأَنَّ الْخِبْرَةَ هِيَ الْعِلْمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ النِّيَّاتُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْغِشُّ وَالِاحْتِيَالُ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَغُشَّ نَفْسَهُ وَيَلْتَمِسَ لَهَا الْعُذْرَ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوِ التَّحْرِيفِ فِيهَا، فَهَلْ يَتَدَبَّرُ الْمُسْلِمُونَ الْآيَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَيُقِيمُوا الْعَدْلَ وَالشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ، أَمْ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِ أَهْلِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ اتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ؟ ! يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَسَدٍ وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ قَيْسٍ وَسَلَامِ بْنِ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلَمَةَ بْنِ أَخِيهِ وَيَامِينَ بْنِ يَامِينَ إِذْ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: " يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ "، أَيْ: سِوَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ: بَلْ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ قَالَ: " فَآمَنُوا كُلُّهُمْ "، وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَهُ رُسُلًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ عِبَادَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي سُدًى، مَحْرُومِينَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفُوا أَعْيَانَ تِلْكَ الْكُتُبِ

136

وَلَا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مِنْهَا صَحِيحًا غَيْرَ مُحَرَّفٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ وَالْكِتَابِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ مَا قَبْلُهُ كَمَا قُلْنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ آمِنُوا، بِمَعْنَى اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِذَلِكَ كَمَا قَالُوا، فَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، سَوَاءٌ أَصَحَّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ. وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ هُوَ الرَّكْنُ الْأَوَّلُ، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّانِي، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّالِثُ وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَلَّغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْكُتُبَ فَبَلَّغُوهَا النَّاسَ هُوَ الرَّكْنُ الرَّابِعُ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا ذَكَرَ كُلٌّ بِحَسَبِ كِتَابِهِ إِلَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمَا بَعْدَهُ هُوَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى فِيهِ أَوْ لِلتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَأُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (2: 285) ، وَلَوْلَا التَّقْلِيدُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ وَعَمًى، أَوِ التَّعَصُّبُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، لَمَا كَانَ يُعْقَلُ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَيُؤْمِنُ بِمُوسَى وَعِيسَى عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَإِنَّ سِرَّ الرِّسَالَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ أَوْ بِمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِبَعْضِ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوِ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يُنَجِّي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَيُمَتِّعُهُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ بِجُحُودِ أَصْلِهِ وَإِنْكَارِهِ أَلْبَتَّةَ كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَوَانِيَّةً مَحْضَةً، لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يُعِدُّ رُوحَهُ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ كَفَرَ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَانَ كُفْرُهُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِيمَانًا صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَالْبَصِيرَةِ بِحِكْمَتِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ آنِفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَمَحَجَّةِ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُ عَنْهَا جَهْلُ صَاحِبِهِ لِوُجُودِهَا، وَمَنْ جَهَلَ وُجُودَ الشَّيْءِ لَا يَطْلُبُهُ بِالْبَحْثِ عَنْ بَيِّنَاتِهِ، وَطَلَبِ أَعْلَامِهِ وَآيَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ضَلَالُهُ قَرِيبًا، وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصْفَ وَأَعْلَاهُ، وَقَدْ وَحَّدَ لَفْظَ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيُنَاسِبَ لَفْظَ الرُّسُلِ الْمُفْرَدَ، وَجَمَعَهُ فِي آخِرِهَا لِيُنَاسِبَ جَمْعَ الرُّسُلِ.

137

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. بَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ نِفَاقًا أَوْ تَقْلِيدًا، وَكَانَ الْكُفْرُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ الْإِيمَانِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ، ثُمَّ وَعِيدُ الْمُنَافِقِينَ كَافَّةً وَبَيَانُ مُوَالَاتِهِمُ لِلْكَافِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ الَّذِي يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْوَعِيدِ وَتَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ ذَبْذَبَتِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَنَّهُ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيَّتِهِ وَمَزَايَاهُ، فَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِهِ، وَلَا أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دَنَّسَ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ ; لِأَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْرِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْهِدَايَةَ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ، وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُقْتَرِنَةٌ بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ كَسْبُ الْبَشَرِ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُؤَثِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ، فَمَنْ طَالَ

138

عَلَيْهِ أَمَدُ التَّقْلِيدِ، حُجِبَ عَقْلُهُ عَنْ نُورِ الدَّلِيلِ، حَتَّى لَا يَجِدَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ عَهْدُ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، حُجِبَ عَنْ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ، وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) ، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقَهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (40: 7) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الذَّنْبِ مِنَ النَّفْسِ بِتَأْثِيرِ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُضَادُّ أَثَرُهُ أَثَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (11: 114) ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ بَلْ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ الْأَوَّلَ كَانَ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعَجْلَ وَعِبَادَتِهِ، وَالثَّانِي كُفْرُهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَالثَّالِثَ الَّذِي ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا هُوَ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ قَدْ آمَنُوا، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَهُوَ يَظْهَرُ فِيمَنْ جَهَرُوا بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَظْهَرُ فِيمَنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ لِمِثْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ الْكُفْرَ أَلْصَقُ بِنُفُوسِهِمْ لِطُولِ أُنْسِهِمْ بِهِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْبِشَارَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، فَهِيَ إِذًا مَأْخُوذَةٌ مِنَ انْبِسَاطِ بَشْرَةِ الْوَجْهِ، كَمَا أَنَّ السُّرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ انْبِسَاطِ أَسَارِيرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَقُولُونَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَسُوءُ كَمَا هُنَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبِشَارَةَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسِرُّ وَفِيمَا يَسُوءُ اسْتِعْمَالًا حَقِيقِيًّا ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الْإِخْبَارُ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ فِي الِانْبِسَاطِ وَالتَّمَدُّدِ، أَوِ الِانْقِبَاضِ وَالتَّغَضُّنِ، وَالْأَلِيمُ: الشَّدِيدُ الْأَلَمِ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُبَشِّرِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءً وَأَنْصَارًا، مُتَجَاوِزِينَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَارِكِيهَا إِلَى وِلَايَتِهِمْ وَمُمَالَأَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّوْلَةَ سَتَكُونُ لَهُمْ فَيَجْعَلُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، إِنْ كَانُوا يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَهِيَ الْمَنَعَةُ وَالْغَلَبَةُ وَرِفْعَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوهَا مِنْهُ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ هِدَايَةِ وَحْيِهِ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إِلَى طُرُقِهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا، وَقَدْ آتَاهَا اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِاهْتِدَائِهِمْ بِكِتَابِهِ، وَسِيَرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ، وَلَمَّا أَعْرَضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي اعْتَزَّ بِهَا سَلَفُهُمْ ذُلُّوا وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَصَارَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ يُوَالُونَ الْكَفَّارَ دُونَهُمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَالشَّرَفَ وَمَا هُمْ لَهُمَا بِمُدْرِكِينَ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يُوَفِّقَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ فَيَعُودُوا إِلَى حَظِيرَةِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (63: 8) .

140

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، قَالُوا: الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مِنْ صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ، وَالَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ (6: 68) ، نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْكُفْرِ وَذَمِّ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ وَقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ فَعْلَيْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ لَهُمْ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ ذَلِكَ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا كَانَ يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَمَعْنَى سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، سَمِعْتُمُ الْكَلَامَ الَّذِي مَوْضُوعُهُ جَعْلُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيرُ وَالتَّنْفِيرُ، بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ وَقَوْلِ الزُّورِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مُحْدَثٍ فِي الدِّينِ وَكُلُّ مُبْتَدَعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ دَلِيلٌ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَوْقِفٍ يَخُوضُ فِيهِ أَهْلُهُ بِمَا يُفِيدُ التَّنَقُّصَ وَالِاسْتِهْزَاءَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا آرَاءَ الرِّجَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى قَالَ إِمَامُ مَذْهَبِنَا: كَذَا وَقَالَ فَلَانٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِكَذَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ أَوْ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى مَا قَالَهُ رَأْسًا أَوْ يُلْقُوا لَهُ بَالًا وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ، وَخَطْبٍ شَنِيعٍ، وَخَالَفَ مَذْهَبَ إِمَامِهِ الَّذِي نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مُعَلِّمِ الشَّرَائِعِ، بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا رَأْيَهُ الْفَائِلَ، وَاجْتِهَادَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ مَائِلٌ مُقَدَّمًا عَلَى اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا صَنَعَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَهْلِهَا وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ انْتَسَبَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ إِلَيْهِمْ بَرَاءٌ مِنْ فِعْلِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، كَمَا أَوْضَحَ الشَّوْكَانِيُّ ذَلِكَ فِي " الْقَوْلِ الْمُفِيدِ " وَ " أَدَبِ الطَّلَبِ " اهـ، وَيَا لَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ شُيُوخِهِمْ أَصْلًا لِلدِّينِ، وَالْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَرْعَيْنِ أَوْ مُهْمَلَيْنِ، يَتَّبِعُونَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَدْيَهُمْ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ شُيُوخَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ. إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ تُكُونُونَ مِثْلَهُمْ وَشُرَكَاءَ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ ; لِأَنَّكُمْ أَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيتُمُوهُ لَهُمْ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ وَإِقْرَارُ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ إِقْرَارَ الْكُفْرِ بِالِاخْتِيَارِ كُفْرٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُنْكَرِ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَنَّ إِنْكَارَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ فُشُوَّهُ

بَيْنَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ حَتْمًا، فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ، وَيَتَأَمَّلُوا كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرْنِجَةِ يَخُوضُونَ فِي آيَاتٍ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالدِّينِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْكُتُ لَهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ كُفْرِهِمْ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا، هَذَا وَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُسْتَهْزِئَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِمُقَرِّبِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِأَنَّهُمْ سَيَجْتَمِعُونَ فِي الْعِقَابِ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِثْمِ وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَسْرٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، هَذَا تَفْضِيلٌ لِلتَّرَبُّصِ أَيْ: فَإِنْ نَصَرَكُمُ اللهُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْكُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَكُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ يَسْتَحِقُّونَ مُشَارَكَتَكُمْ فِي نِعْمَتِكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ مِنَ الظَّفَرِ - لِأَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ - مَتُّوا إِلَيْهِمْ وَمَنُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَخْذِيلِهِمْ، وَالتَّوَانِي فِي الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَالِاسْتِحْوَاذُ يُفَسِّرُونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْحَوْذِ وَهُوَ السُّوقُ، سُمِّيَ حَوْذًا لِأَنَّ الْحَوْذِيَّ السَّائِقُ يَضْرِبُ حَاذِيَيِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْحَاذِيَانِ هُمَا جَانِبَا الْفَخْذَيْنِ مِنَ الْوَرَاءِ، وَالْحَاذِ الظَّهْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى جَانِبَيْهِ حَاذِيَيْنِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السُّوقِ يَسْتَوْلِي بِهِ الْحَوْذِيُّ عَلَى مَا يَسُوقُهُ، فَصَارُوا يُطْلِقُونَ الِاسْتِحْوَاذَ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ تَسْخِيرِهِ أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ إِنَّنَا قَدِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَتَمَكَّنَّا مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ، وَلَمْ نَفْعَلْ بَلْ مَنَعْنَاكُمْ أَيْ جَمَعْنَاكُمْ وَحَفِظْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ظَفَرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَتْحِ وَأَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَعَنْ ظَفَرِ الْكَافِرِينَ بِالنَّصِيبِ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْقِتَالِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَتْحُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا نَصِيبٌ مِنَ الظُّفَرِ لِلْكَافِرِينَ لَا يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَكُونَ فَتْحًا يَسْتَوْلُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) ، الْمُقَيَّدُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (47: 7، 8) ، وَإِنَّمَا نَصْرُ اللهِ أَنْ يَقْصِدَ بِالْحَرْبِ حِمَايَةَ الْحَقِّ وَتَأْيِيدَهُ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَآيَتُهُ مُرَاعَاةُ سُنَنِ اللهِ فِي أَخْذِ أُهْبَتِهِ، وَإِعْدَادِ عُدَّتِهِ، الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا كِتَابُهُ الْعَزِيزُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (8: 60) ، وَقَوْلِهِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (8: 45) ، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَوْنَ الْإِيمَانِ نَفْسِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِعْدَادَ وَأَخْذَ الْحَذَرِ، وَإِنَّمَا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ وَفَتَحَ الْكُفَّارُ بِلَادَهُمُ الَّتِي فَتَحُوهَا هُمْ مِنْ قَبْلُ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ; لِأَنَّهُمْ مَا عَادُوا يُقَاتِلُونَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ

141

وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَادُوا يَعُدُّونَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ كَمَا أَمَرَهُمُ الْقُرْآنُ، فَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْشِئُوا الْبَوَارِجَ الْمُدَرَّعَةَ، وَالْمَدَافِعَ الْمُدَمِّرَةَ وَيَتَعَلَّمُوا مَا يَلْزَمُ لَهَا وَلِلْحَرْبِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْمِيكَانِيكِيَّةِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ دِينِهِمْ ; لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ ذَلِكَ بَلْ صَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ فِيهِمْ يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَهُنَالِكَ لَا تَرُوجُ دَعْوَاهُمُ الَّتِي يَدَّعُونَهَا عِنْدَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أَيْ: إِنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ سَبِيلٌ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَيَتَّبِعُونَ هَدْيَهُ، وَكَلِمَةُ سَبِيلٍ هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ خَصَّهَا بِالْحُجَّةِ، وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ عَدَمُ فَهْمِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ النَّصْرِ مَضْمُونًا بِوَعْدِ اللهِ وَسُنَّتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْآخِرَةِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ عَامٌّ فَلَا سَبِيلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَمَا غَلَبَ الْكَافِرُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُرُوبِ وَالسِّيَاسَةِ وَأَسْبَابِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَارُوا أَعْلَمَ بِسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَمَ عَمَلًا بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَرَكُوا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْمُعْتَبِرُونَ. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا.

142

اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهَا تَتِمَّةُ الْكَلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ أَحْوَالِهِمْ هُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، وَبَاقِيهَا فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا وَمُحَاجَّتِهِمْ إِلَّا الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مُخَادَعَةِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَكِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُهُ الْآنَ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي السَّفَرِ وَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مَعِي فَأُرَاجِعَهُ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُسْنِدُ الْخِدَاعَ إِلَى الضَّبِّ، كَمَا اشْتَقَّتْ كَلِمَةَ النِّفَاقِ مِنْ جُحْرِهِ الَّذِي سُمِّيَ النَّافِقَاءَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَخْدَعُ طَالِبَهُ بِجُحْرِهِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بَابَيْنِ، إِذَا فُوجِئَ مِنْ أَحَدِهِمَا هَرَبَ مِنَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُعَدُّ عَقْرَبًا فَيَجْعَلُهَا فِي بَابِهِ لِتَلْدَغَ مَنْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعَقْرَبُ بَوَّابُ الضَّبِّ وَحَاجِبُهُ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ " أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ "، وَيَقُولُونَ: طَرِيقٌ خَادِعٌ وَخَيْدَعٌ أَيْ: مُضِلٌّ، كَأَنَّهُ يَخْدَعُ سَالِكَهُ فَيَحْسَبُهُ مُوصِلًا إِلَى غَايَتِهِ أَوْ قَرِيبًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِدَاعُ صِيغَةُ مُشَارَكَةٍ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ هُوَ إِيهَامُكَ أَنَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ عَلَى مَا تُحِبُّ أَوْ تُرِيدُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ مَا تُحِبُّ وَمَا تُرِيدُ، كَمَا يُوهِمُ جُحْرُ الضَّبِّ مَنْ يُرِيدُ صَيْدَهُ أَنَّهُ قَرِيبُ الْمَنَالِ لَيْسَ دُونَهُ مَانِعٌ، فَإِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَقْرَبٌ خَرَجَ الضَّبُّ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ وَرَجَعَ الصَّائِدُ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وَكَمَا يُوهِمُ الطَّرِيقُ الْخَيْدَعُ سَالِكَهُ فَيَضِلُّ دُونَ الْغَايَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: " الْخِدَاعُ إِنْزَالُ الْغَيْرِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ بِأَمْرٍ يُبْدِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا يُخْفِيهِ قَالَ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللهَ، أَيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُعَامَلَةَ الرَّسُولِ كَمُعَامَلَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ (48: 10) ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خِدَاعًا لَهُ تَفْظِيعًا لِفِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ الرَّسُولِ وَعِظَمِ أَوْلِيَائِهِ، وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِمِثْلِهِ فِي الْحَذْفِ لَا يَحْصُلُ لَوْ أَتَيَ بِالْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فَظَاعَةُ فِعْلِهِمْ فِيمَا تَحَرَّوْهُ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَأَنَّهُمْ بِمُخَادَعَتِهِمْ إِيَّاهُ يُخَادِعُونَ اللهَ، وَالثَّانِي: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْمَقْصُودِ بِالْخِدَاعِ وَأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كَمُعَامَلَةِ اللهِ وَأَعَادَ هُنَا الِاسْتِشْهَادَ بِآيَةِ الْمُبَايَعَةِ. أَقُولُ: فَسَّرَ مُخَادَعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمُخَادَعَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلِيَائِهِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ كَانَتْ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَهُمْ ; وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ لَا يَقْصِدُونَ مُخَادَعَتَهُ، وَالْمُعَطِّلِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ، وَالْمَعْدُومُ لَا تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (2: 8) ، وَقَدْ عَزَا إِلَيْهِمُ الْمُخَادَعَةَ هُنَالِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ

ذُكِرُوا ثُمَّتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْهُ مُخَادَعَةُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ الرِّبَا بِتَطْبِيقِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لِفُقَهَائِهِمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الرِّبَا، وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَإِعَانَةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَدَمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، أَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ غَيْرِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مُخَادَعَةَ اللهِ تَعَالَى قَصْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ فِي مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ. وَالْوَجْهُ الْمَعْقُولُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُخَادَعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَهُمْ فِيمَا يُقِيمُونَ بِهِ دِينَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ لَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غِشٌّ وَلَا ضَرَرٌ، وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا لِضَرَرِهِ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْمُخَادَعَةِ فِي شُئُونِ الْإِيمَانِ وَتَبْلِيغِ دِينِ اللهِ وَإِقَامَةِ كِتَابِهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ لَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَعْظِيمَ شَأْنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُخَادَعَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ (3: 54) ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ غَالِبًا أَوْ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ صَاحِبِهَا وَعَجْزِهِ وَغَلَبِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْخِدَاعَ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَلِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّرْعُ الْخِدَاعَ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْحَرْبَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَلِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يُحِبُّونَ وَمَا يُرِيدُونَ بِلَفْظٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْخَدِيعَةِ، كَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ خَادِعٍ يَضِلُّونَ فِيهِ مَطْلَبَهُمْ وَيَنْتَهُونَ إِلَى الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُونَ السَّلَامَةَ وَالْفَلَاحَ، وَهَذَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (2: 9) ، فَخِدَاعُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لَهَا هُوَ عَيْنُ خَدِيعَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ كَانَتْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَفْظُ خَادِعُهُمْ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، - وَهُوَ مَا تَضُمُّ عَيْنَ فِعْلِهِ الْمُضَارِعِ - أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَغْلِبُهُمْ فِي الْخَدِيعَةِ يَجْعَلُ خِدَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. هَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ، يُخَادِعُونَ وَيَكْذِبُونَ، وَيَكِيدُونَ وَيَغُشُّونَ، وَيَتَوَلَّوْنَ

أَعْدَاءَ أُمَّتِهِمْ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ، يَمُتُّونَ بِهَا إِلَيْهِمْ إِذَا دَالَتِ الدَّوْلَةُ لَهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بَيَانُ ذَبْذَبَتُهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ حَالُهُمْ. وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ فَهُمْ يَهْدِمُونَ بِنَاءَ الثِّقَةِ بِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَكَأَيِّنْ مِنْ مُنَافِقٍ كَانَتْ خِيَانَتُهُ لِأُمَّتِهِ وَمُسَاعَدَةُ أَعْدَائِهَا عَلَيْهَا سَبَبًا لِهَلَاكِهِ بِأَيْدِي أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ فِي هَذَا خَيْرٌ لَكَانَ قَوْمُهُ أَوْلَى بِخَيْرِهِ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَانَهُمْ فَسَتَكُونُ خِيَانَتُهُ لَنَا أَشَدَّ، وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَيَكْثُرُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي طَوْرِ ضِعْفِ الْأُمَّةِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهَا ; لِأَنَّهُمْ طُلَّابُ الْمَنَافِعِ وَلَوْ فِيمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ، وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ الْمَنَافِعُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَإِنِ اقْتَرَنَ الْتِمَاسُهَا بِالْعَارِ، وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى، أَيْ: مُتَثَاقِلِينَ لَا رَغْبَةَ تَبْعَثُهُمْ وَلَا نَشَاطَ ; لِأَنَّهُمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَا يَرْجُونَ فِيهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَبْتَغُونَ بِهَا تَرْبِيَةَ مَلَكَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ لِتَنْتَهِيَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَتَكُونَ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُمْ كُلْفَةٌ مُسْتَثْقَلَةٌ، فَإِذَا كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ تَرَكُوهَا، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُمْ سَايَرُوهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا يُرَاءُونَ النَّاسَ بِهَا، أَيْ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَرَاهُمُ النَّاسُ الْمُؤْمِنُونَ فَيَعُدُّوهُمْ مِنْهُمْ، فَالْكَسَلُ: التَّثَاقُلُ عَمَّا يَنْبَغِي النَّشَاطُ فِيهِ، وَالْمُرَاءَاةُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ الَّذِي يُرَائِيكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ كَمَا يَرَاكَ، فَهُوَ فِعْلُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا النَّاسُ كَالتَّكْبِيرَاتِ، وَقَوْلُ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالسَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا مِنَ الْمُرْتَابِينَ دُونَ الْجَاحِدِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ إِذَا أَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَرِيبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَقْوَاهَا، هَذِهِ حَالُ مُنَافِقِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَمُنَافِقُو هَذَا الْعَصْرِ الْأَخِيرِ شَرٌّ مِنْهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَرَوْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيمَةً فِي دُنْيَاهُمْ فَيُرَاءُوهُمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الرِّيَاءُ بِالصَّلَاةِ مِنْ بَعْضِهِمْ إِذَا صَارُوا وُزَرَاءَ وَحَضَرُوا مَعَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْمَوَاسِمِ الدِّينِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ، وَقَلَّمَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ غَيْرَ الْمَوَاسِمِ الْمُبْتَدَعَةِ كَلَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الذَّبْذَبَةُ حِكَايَةُ صَوْتِ الْحَرَكَةِ لِلشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ اضْطِرَابٍ وَحَرَكَةٍ، قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ: مُضْطَرِّينَ مَائِلِينَ تَارَةً إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَافِرِينَ "، وَقِيلَ: بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:

143

لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، أَيْ: لَا يَخْلُصُونَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ وَلَا يَدْرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، فَهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ تَارَةً وَإِلَى الشَّمَالِ أُخْرَى، فَمَتَى ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ التَّامَّةُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْهُ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَيْ: وَمَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنِ الْحَقِّ مُوغِلًا فِي الْبَاطِلِ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ سَبِيلًا لِلْهِدَايَةِ بِرَأْيِكَ وَاجْتِهَادِكَ، فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِضْلَالِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَّفِقُ بِهِ نُصُوصُ كِتَابِهِ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَظْهَرُ بِهِ حِكْمَتُهُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْشِئُ فِطْرَةَ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ، وَالْقَلْبِ فِي دَوْرَةِ الدَّمِ، كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا عِلْمَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ جُمْلَةَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُرَاءُونَ وَكَذَا مُذَبْذَبِينَ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِينَ، يُوَالُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ النَّصْرُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَنْ يُلْحَقُوا بِهِمْ، وَيَعُدُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ مُؤْمِنٍ، حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْذُوَ بَعْضُ ضُعَفَائِهِمْ حَذْوَ الْمُنَافِقِينَ فِي وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي خِلَافِ مَصْلَحَتِهِمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُمُ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِذْ كَتَبَ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِهِمْ ; لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ أَهْلًا وَمَالًا، فَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ مِنَ الْوِلَايَةِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ النُّصْرَةُ، وَأَمَّا الْوَلَايَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ تَوَلِّي الْأَمْرِ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ اللَّفْظَانِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فِيمَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (5: 51) ، إِلَخْ، وَإِنْ عَمَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَهَا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (5: 52) ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْخَوْفُ مِنْ إِصَابَةِ الدَّائِرَةِ، وَذِكْرُ الْفَتْحِ وَنَدَمِهِمْ إِذَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ النُّصْرَةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ لَا يَشْمَلُ مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ كَالذِّمِّيِّينَ إِذَا اسْتَخْدَمَتْهُمُ الدَّوْلَةُ، فِي أَعْمَالِهَا الْحَرْبِيَّةِ أَوِ الْإِدَارِيَّةِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ حُكْمٌ آخَرُ.

144

وَلَمَّا كُنْتُ فِي الْآسِتَانَةِ سَنَةَ 1328 هـ أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَ حَالَ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي دَارِ الْفُنُونِ الَّتِي هِيَ الْمَدْرَسَةُ الْجَامِعَةُ فِي عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتُ الْحُجْرَةَ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا التَّفْسِيرَ أَلْفَيْتُ الْمُدَرِّسَ يُفَسِّرُ آيَةَ الْمَائِدَةِ هَذِهِ وَعُمْدَتُهُ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَدَمِ مُعَاشَرَتِهِمْ مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ " وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ أَغْلَاطِهِ "، فَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُ بِالتُّرْكِيَّةِ قَامَ أَحَدُ الطَّلَبَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَنْ كَيْفَ جَعَلَتْهُمْ دَوْلَتُنَا فِي مَجْلِسَيِ الْمَبْعُوثِينَ وَالْأَعْيَانِ وَفِي هَيْئَةِ الْوُكَلَاءِ؟ أَيْ: وُزَرَاءُ الدَّوْلَةِ فَفَاجَأَ الْمُدَرِّسَ الْحَصْرُ وَخَرَجَ الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنَّ عَمَلَ الدَّوْلَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دِيوَانِ الْحَرْبِ الْعُرْفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَهَلْ لِلْمُقَلِّدِ إِلَّا نَقْلُ مَا يَرَاهُ فِي الْكِتَابِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنَّ أُجِيبَ هَذَا الطَّالِبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُمْتُ وَاقِفًا وَبَيَّنْتُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَكَيْفَ كَانَ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْقِيقُ كَوْنِ الْوِلَايَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْآيَةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَكَانُوا مُحَارِبِينَ، وَكَوْنُ اسْتِخْدَامِ الذِّمِّيِّينَ مِنْهُمْ فِي الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهَا بَلْ لَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى، وَالصَّحَابَةُ قَدِ اسْتَخْدَمُوهُمْ فِي الدَّوَاوِينِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ جَعَلُوا إِسْحَاقَ الصَّابِيَّ وَزِيرًا فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ، وَأَفْرَخَ رَوْعَ الْمُدَرِّسِ، وَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مُدِيرُ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ فِي دَارِ الْفُنُونِ اتَّخَذَهُ وَسِيلَةً لِإِصْدَارِ أَمْرٍ مِنْ نَاظِرِ الْمَعَارِفِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِ التَّفْسِيرِ وَكَذَا دَرْسِ الْحَدِيثِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي بَعْضِ السِّنِينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِجَعْلِي مُدَرِّسًا لِلتَّفْسِيرِ إِنْ أَقَمْتُ فِي الْآسِتَانَةِ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُجَّةً بَيِّنَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِكُمْ لِعَذَابِهِ إِذَا اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ، فَالسُّلْطَانُ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى السُّلْطَةِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنَّ وَصْفَ السُّلْطَانِ بِالْمُبِينِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيُسْتَعْمَلُ الْمُبِينُ بِمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ بَيَانِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، الدَّرْكُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَبِفَتْحِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّبَقَةِ أَوِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ مُتَدَارِكَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ دَارَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ ذَاتُ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْفَلُ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ دَرَجَاتُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (20: 75، 76) .

145

وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ شَرُّ أَهْلِهَا بِمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمُخَادَعَةِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغِشِّهِمْ، فَأَرْوَاحُهُمْ أَسْفَلُ الْأَرْوَاحِ وَأَنْفُسُهُمْ أَخَسُّ الْأَنْفُسِ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ قَدْ أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمُ التَّقْلِيدُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ، بِاتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ، وَوُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قِيَاسًا عَلَى مُعَامَلَةِ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأُمَرَائِهِمُ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ فِي الدِّينِ وَمُخَادَعَةَ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْغِشِّ، وَمُقَابَلَةِ هَذَا بِوَجْهٍ وَذَاكَ بِوَجْهٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَسْفَلَ النَّاسِ أَرْوَاحًا وَعُقُولًا كَانُوا أَجْدَرَ النَّاسِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهَا أَوْ يَرْفَعُهُمْ مِنَ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى إِلَى مَا فَوْقَهَا. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الشَّدِيدِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَنْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ مُقَارَفَتِهِ وَعَزَّزُوا هَذِهِ التَّوْبَةَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا) : الْإِصْلَاحُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَغْسِلُ مَا تَلَوَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَاقِ النِّفَاقِ، كَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ، وَالْوَفَاءِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: (ثَانِيَهَا) : الِاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ وَتَأَدُّبًا بِآدَابِهِ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِهِ، وَرَجَاءً فِي وَعْدِهِ وَخَوْفًا مِنْ وَعِيدِهِ، وَانْتِهَاءً عَنْ مُنْهِيَاتِهِ، وَائْتِمَارًا بِأَوَامِرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ (3: 103) ، وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بِرِهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلَنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (4: 174، 175) ، أَيْ: اعْتَصَمُوا بِهَذَا النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. (ثَالِثُهَا) : إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ، لَا لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا لِجَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ يُجْعَلُونَ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، بَلْ يَكُونُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ - وَأَعْظَمُهَا وَأَهَمُّ أَرْكَانِهَا الدُّعَاءُ - خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ، لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ اللِّسَانُ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَشَرِ بِمَنْ عَدَاهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هَذَا هُوَ أَهَمُّ مَا يُقَالُ فِي إِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ:

146

فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (39: 2، 3) ، فَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْهَاوِيَةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ. فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ عَامِلُونَ، يَكُونُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، يُؤْمِنُونَ إِيمَانَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ، وَهُوَ مَا عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، أَيْ: سَوْفَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ كُنْهَهُ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (32: 17) . مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ بَيَّنَ اللهُ لَنَا بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ تَشَفِّيًا مِنْهُ وَلَا انْتِقَامًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالْجَوَارِحِ، بِاسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا إِلَى تَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ بَعْضُهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبِكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُمْ، وَتَتَدَنَّسُ أَرْوَاحُهُمْ فَتَهْبِطُ بِهِمْ فِي دَرَكَاتِ الْهَاوِيَةِ وَيَكُونُونَ هُمُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ شَكَرُوا وَآمَنُوا فَطَهُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ عُقُولِهِمْ وَسَائِرُ قُوَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ لِمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَعَرَجَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْكَبِيرِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَقَدَّمَ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ النِّعَمِ وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا، يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ الْمُصْلِحِينَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، لَا أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (14: 7) سَمَّى ثَبَاتَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ شُكْرًا، وَهُمْ إِنَّمَا يُحْسِنُونَ بِشُكْرِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَعَنْ شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ، بِأَنْ يَكُونَ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ فِي النَّفْسِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ. وَأَنْ يَشْكُرَ لَنَا ذَلِكَ فِي الدَّارَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

تَمَّ الْجُزْءُ الْخَامِسُ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُشِرَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ. بَدَأَتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْجُزْءِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ 1328 هـ، فَفَاتَنِي تَصْحِيحُ مَا طُبِعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِي تِلْكَ، وَأَتْمَمْتُهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتَيْ هَذَا الْعَامِ (1330 هـ) إِلَى الْهِنْدِ فَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْمُدُنِ وَالطُّرُقِ بِالْهِنْدِ، وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي مَسْقَطَ وَالْكُوَيْتِ وَالْعِرَاقِ، وَقَدْ أَتْمَمْتُهُ فِي الْمَحْجَرِ الصِّحِّيِّ بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَنُشِرَ آخِرُهُ فِي جُزْءِ الْمَنَارِ الَّذِي صَدَرَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْتُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ أَيْضًا. وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْجُزْءِ انْتَهَتْ دُرُوسُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ، وَسَنَسِيرُ فِي تَتِمَّةِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَخَذْنَاهَا عَنْهُ وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.

148

الْجُزْءُ السَّادِسُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا. بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْمَاضِي مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا بِالْإِجْمَالِ، وَلِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُنَاسِبَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا وَمَا بَعْدَهُمَا وَإِنْ كَانَتَا كَالْغَرِيبَتَيْنِ فِي هَذَا السِّيَاقِ الشَّارِحِ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ وَمُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ عُيُوبِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ أَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (57: 16) ثُمَّ بَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ حُكْمَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَإِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَدِلَّ الْمُؤْمِنُونَ بِذِكْرِ عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَفْشُو ذَلِكَ فِيهِمْ، وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا تَرَى بَيَانَهُ فِيمَا يَلِي: قَالَ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يُنْسَبُ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ أَوِ الْكُرْهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْحُبَّ الرِّضَا وَالْإِثَابَةُ وَضِدَّهُ ضِدُّهُمَا، وَالْجَهْرُ يُقَابِلُ السِّرَّ وَالْإِخْفَاءَ وَالْكِتْمَانَ، وَالسُّوءُ مِنَ الْقَوْلِ: مَا يَسُوءُ مَنْ يُقَالُ فِيهِ، كَذِكْرِ عُيُوبِهِ وَمَسَاوِيهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَجْهَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْعُيُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ فِي هَذَا الْجَهْرِ مَفْسَدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مَجْلَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ مَنْ يَجْهَرُونَ بِالسُّوءِ وَمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ هَذَا السُّوءُ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ. ثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ بِذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَأْثِيرًا ضارًّا ; فَإِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَمَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يَذْكُرُ آخَرَ بِالسُّوءِ لِكُرْهِهِ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِيَائِهِ مِنْهُ يُقَلِّدُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِثْلُهُ، وَيَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ وُقُوعُهُ مِنْهُ، أَوْ يُقَلِّدُ فَاعِلَ السُّوءِ فِي عَمَلِهِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ، أَوْ مِنْ طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَتِهِ فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ يُقَلِّدُونَ خَوَاصَّهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُنْكَرَاتُ فِي الْخَوَاصِّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْشُوَ فِي الْعَوَامِّ، وَمَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَوْ فَاحِشَةٍ يَتَجَرَّأُ عَلَى ارْتِكَابِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا وَقُدْوَةً فِيهِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، بَلْ يُؤَثِّرُ سَمَاعُ الْقَوْلِ السُّوءِ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْكُهُولِ الْأَخْيَارِ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَوَامِّ وَالصِّغَارِ. فَسَمَاعُ السُّوءِ كَعَمَلِ السُّوءِ، ذَاكَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ، وَأَقَلُّ تَأْثِيرِهِ أَنَّهُ يُضْعِفُ فِي النَّفْسِ اسْتِبْشَاعَهُ وَاسْتِغْرَابَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَكَرَّرَ سَمَاعُ خَبَرِهِ أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَ التَّرْبِيَةِ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ كُتُبِ التَّعْلِيمِ غُفْلًا مِنَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ وَمِنَ الرَّفَثِ وَأَسْمَاءِ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الَّتِي يُرَاجِعُ فِيهَا طُلَّابُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ حِرْصًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ تَعْلَقَ بِهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ مِنْ كَلِمِ السُّوءِ تَقُودُهَا إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ تَفْتَحُ لِمَنْ تَعْلَقُ بِنَفْسِهِ بَابًا مِنَ الْفَسَادِ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْضًا. يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَبْلَغَ تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ; فَلَا يُنَزِّهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا أَسْمَاعَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا يَعْقِلُ كُنْهَ ذَلِكَ إِلَّا الْعَالِمُونَ الرَّاسِخُونَ، وَإِنَّ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةً شِعْرِيَّةً فِي الْمُبَالَغَةِ فِي تَمْثِيلِهِ لِلْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى الذِّهْنِ يَعُدُّهَا الْبَدِيعِيُّ مِنَ الْإِغْرَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ: إِنَّنِي إِذَا أَلْقَيْتُ كَلِمَةً فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ فِي حِنْدِسِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُصَادِفَ نَفْسًا مُسْتَعِدَّةً فَتُؤَثِّرَ فِيهَا. أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَمْرِيكَانِيِّينَ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ وَصَارُوا يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِأَخْذِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَحِكَمِهِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُهُمْ يَوْمًا وَإِذَا بِلِسَانِهِ قَدْ فَلَتَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ " الْيَأْسِ " وَكَانَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَتَاةٌ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ فَقَالَتْ لِلْأُسْتَاذِ: كَيْفَ يَنْطِقُ مِثْلُكَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ

مِنَ الْكَلِمَاتِ ذَاتِ الْمَدْلُولَاتِ الضَّارَّةِ؟ فَأُعْجِبَ الْأُسْتَاذُ بِذَكَائِهَا وَفَهْمِهَا، وَوَافَقَهَا عَلَى قَوْلِهَا، وَأَظُنُّ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِنَابُهُ عِنْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَمُلَتْ تَرْبِيَتُهُمْ، وَإِنَّمَا يُتَحَرَّى اجْتِنَابُ ذِكْرِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي خِطَابِ النَّشْءِ فِي الْمَدَارِسِ وَالْبُيُوتِ. وَتَكَلَّمَ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي كُلِّ سَامِعٍ. وَذَكَرَ كَلِمَتَهُ الَّتِي نَقَلْنَا آنِفًا، فَقَالَتْ لَهُ الْفَتَاةُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُفَسِّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِجْمَالِيًّا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَوْ فِي الْمَكَانِ الْخُلْوِ (أَوْ كَتَبَهُ) يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعَادَةُ ذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَحْسَنْتِ. لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْإِسْرَارَ بِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ نَهْيِهِ تَعَالَى عَنِ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَأَمْرِهِ بِالتَّنَاجِي بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَقَطْ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْجَهْرَ هُنَا بِالذِّكْرِ لِمُنَاسَبَةِ بَيَانِ مَفَاسِدِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ وَفَسَادَهُ يَفْشُو فِي جُمْهُورِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قُلْتُ يَوْمًا لِلْعَالِمِ اللُّغَوِيِّ الرَّاوِيَةِ الشَّهِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّد مَحْمُود بْنِ التَّلَامِيدِ التَّرْكَزِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ: إِنَّنِي أَنْكَرْتُ نَفْسِي فِي مِصْرَ فَإِنَّ كَثْرَةَ رُؤْيَتِي لِلْمُنْكَرَاتِ فِيهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى أَفَارِيزِ الطُّرُقَاتِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِي لِقَوْلِ السُّوءِ خَفَّفَ اسْتِبْشَاعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَضَعُفَ كُرْهُ أَصْحَابِهِ وَالنُّفُورُ مِنْهُمْ، فَإِنَّنِي كُنْتُ فِي بَلَدِي الْقَلَمُونِ الْمُجَاوِرَةِ لِطَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِذَا سَمِعْتُ بِأَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ فَاحِشَةً لَا أَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَلَا الْحَدِيثَ مَعَهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: وَأَنَا أَيْضًا أَنْكَرْتُ نَفَسِي مِثْلَكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا اخْتَرْتَ تَرْكَ وَطَنِكَ الَّذِي لَا تَرَى وَلَا تَسْمَعُ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ السُّوءِ مِثْلَ الَّذِي تَرَى وَتَسْمَعُ فِي مِصْرَ الَّتِي آثَرْتَهَا عَلَيْهِ؟ فَجَوَابِي: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَسْتَطِيعُ، وَأَنَا فِي وَطَنِي الْأَوَّلِ، أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَلَا أَنْ أَكْتُبَهُ، وَلَا أَنْ أَخْدِمَ الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِمَا خَدَمْتُهُمَا بِهِ فِي مِصْرَ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْخِدْمَةَ فَرْضٌ عَلَيَّ، وَقَدْ آذَتْنِي الْحُكُومَةُ الْحَمِيدِيَّةُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِي وَمَالِي وَأَنَا بَعِيدٌ عَنْ سُلْطَتِهَا، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَيَّ لَمَا اكْتَفَتْ بِمَنْعِي مِنْ هَذِهِ الْخِدْمَةِ بَلْ لَنَكَّلَتْ بِي تَنْكِيلًا. لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أَيْ لَكِنْ مَنْ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ فَجَهَرَ بِالشَّكْوَى مِنْ ظُلْمِهِ شَارِحًا ظُلَامَتَهُ لِلْحُكَّامِ أَوْ غَيْرِ الْحُكَّامِ مِمَّنْ تُرْجَى نَجْدَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى إِزَالَةِ الظُّلْمِ - فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْجَهْرِ، وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَمَّا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَسْكُتُوا عَلَى الظُّلْمِ وَيَخْضَعُوا لِلضَّيْمِ بَلْ يُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ أُبَاةً، فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةُ الْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ السُّوءِ، وَمَفْسَدَةُ السُّكُوتِ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ مَدْعَاةُ فُشُوِّهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَمِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، كَانَ

أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ مُقَاوَمَةَ الظُّلْمِ بِالْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنْهُ وَبِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا جَهْرَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّلْمُ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْجَهْرَ بِمَعْنَى الْمُجَاهِرِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ ; أَيْ لَا يُحِبُّ اللهُ الْمُجَاهِرِينَ بِالسُّوءِ إِلَّا الْمَظْلُومِينَ مِنْهُمْ إِذَا هَبُّوا لِمُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ، وَلَوْ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قُلْنَاهُ آنِفًا أَنَّ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ لِلْمَظْلُومِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتَهُ لَهُ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ ; لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَالضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِي الِاسْتِرْسَالِ وَالتَّمَادِي فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ، بِمَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي مَنْعِ الظُّلْمِ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ وَأَطْرِ الظَّالِمِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَنْتَهِي عَنِ الظُّلْمِ، وَأَرْجُو أَلَّا يُؤَاخِذَهُ اللهُ بِمَا يُحَرِّكُ بِهِ الْأَلَمُ لِسَانَهُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْحًا لِظُلَامَتِهِ، وَوَسِيلَةً لِلِانْتِصَافِ مِنْ ظَالِمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ; أَيْ كَانَ السَّمْعُ وَالْعِلْمُ وَلَا يَزَالَانِ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ فَلَا يَفُوتُهُ تَعَالَى قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ السَّبَبُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَلَا نِيَّاتِهِمْ فِيهِمَا، فَمَنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِضَرَرِهِ وَمَفْسَدَتِهِ فِيهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى جَهْرِهِ، وَرُبَّمَا أَثَابَهُ عَلَى مَا يَقْصِدُ مِنْ رَفْعِ الضَّيْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِرْجَاعِ الظَّالِمِ إِلَى رُشْدِهِ، وَإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ عَلَى ظُلْمِهِ إِيَّاهُ يَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ وَأَتْقِيَائِهِمُ الَّذِينَ لَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْهُمْ إِلَّا هَفَوَاتٍ. إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عُذْرِ الظُّلْمِ، بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا، وَحُكْمَ الْعَفْوِ عَنِ السُّوءِ وَعَدَمِ مُؤَاخَذَةِ فَاعِلِهِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ، جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْهِمْ يَجْزِيهِمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَيَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيُجْزِلُ مَثُوبَتَهُمْ، وَكَانَ شَأْنُهُ الْعَفْوَ وَهُوَ الْقَدِيرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ الثَّوَابُ الْكَثِيرُ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَإِذَا عَفَا فَإِنَّمَا يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْعِقَابِ، فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ (وَهِيَ كَلِمَةُ قَدِيرٍ) هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى إِجْزَالِ الْمَثُوبَةِ وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ

150

مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِلَّا كَانَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرَ مُتَّفِقٍ مَعَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا قَالَ مَلِكٌ أَوْ أَمِيرٌ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ أَوْ رِجَالِ دَوْلَتِهِ: إِنْ تَعْمَلْ كَذَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَرَضِيَّةِ فَإِنَّ عِنْدِي مَالًا كَثِيرًا، أَوْ بِيَدِي أَعْلَى الْأَوْسِمَةِ وَالرُّتَبِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْزِيَهُ عَلَى ذَلِكَ بِدُرَيْهِمَاتٍ يَرْضَخُ بِهَا لَهُ، أَوْ رُتْبَةٍ وَاطِئَةٍ يُوَجِّهُهَا إِلَيْهِ، أَوْ وِسَامٍ مِنَ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا يُحَلِّيهِ بِهِ، بَلْ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ يَكُونُ عَظِيمًا. وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ كَلِمَةَ " قَدِيرًا " قَدْ أَفَادَتْ بِوَضْعِهَا هُنَا الدَّلَالَةَ عَلَى عِظَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي رَغَّبَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَمْ نَقْصُرْهَا عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي وَحْدَهُ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ آيَةٍ أَوْ سِيَاقٍ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيءِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ خَاصًّا بِالْأَخِيرِ مِنْهَا. الْأَصْلُ فِي الشَّرِّ أَلَّا يُفْعَلَ - قَوْلًا كَانَ أَمْ عَمَلًا - إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِمَّنْ ظُلِمَ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى إِزَالَةِ الظُّلْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَيْرِ أَنْ يُفْعَلَ، قَوْلًا كَانَ أَمْ عَمَلًا. وَأَمَّا الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ فَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ وَالْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ وَأَثَرِ الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ لَهُ، فَمَنْ كَانَ كَامِلَ الْإِيمَانِ عَالِيَ الْأَخْلَاقِ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَهُوَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِنْيَةٍ صَالِحَةٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَجِّحَ الْإِخْفَاءَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ. وَمِنْ بَوَاعِثِ الْإِبْدَاءِ قَصْدُ الْقُدْوَةِ، وَمِنْ بَوَاعِثِ الْإِخْفَاءِ قَصْدُ السَّتْرِ وَحِفْظِ كَرَامَةِ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ الْخَيْرَ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَصْلَيِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ يُبْنَى عَلَيْهِمَا مَا عَدَاهُمَا وَكَوْنَهُمَا لَا يُقْبَلُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِدُونِ الثَّانِي، فَمَنِ ادَّعَاهُ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ، وَجَزَاءَ الْكَافِرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَزَاءَ مَنْ أَقَامَهُمَا كَمَا أَمَرَ اللهُ أَنْ يُقَامَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ تَفْسِيرٌ لِتَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ ; أَيْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِرُسُلِهِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ لِإِنْكَارِهِمُ الْوَحْيَ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَتَوْا بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرَائِعِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَدَّعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَقَوْلِ الْيَهُودِ: نُؤْمِنُ بِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُمَا رَسُولَيْنِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ بِفَصْلِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي حَكَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى أُولَئِكَ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ ; أَيْ أُولَئِكَ الْمُفَرِّقُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْكُفْرِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْحُكْمَ بِالْجُمْلَةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْءَيْنِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ: حَقًّا، وَأَيُّ حَقٍّ يَكُونُ أَثْبَتَ وَأَصَحَّ مِمَّا يُحِقُّهُ اللهُ تَعَالَى حَقًّا؟ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ؛ إِذْ قَالَ: لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ " لَهُمْ " عَذَابًا مُهِينًا أَيْ ذَا إِهَانَةٍ تَشْمَلُهُمْ فِيهِ الْمَذَلَّةُ وَالضَّعَةُ. أَمَّا سَبَبُ هَذَا الْحُكْمِ الشَّدِيدِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَهُوَ أَنَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ أَيْ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا وَلَا يُؤْمِنُ بِوَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ لَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِصِفَاتِهِ صَحِيحًا، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ سَبِيلًا، لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَلَا كَيْفَ يُزَكِّي نَفْسَهُ التَّزْكِيَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا دَارَ كَرَامَتِهِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ بِالرُّسُلِ مَادِّيِّينَ لَا تُهِمُّهُمْ إِلَّا شَهَوَاتُهُمْ، وَأَوْسَعُهُمْ عِلْمًا وَأَعْلَاهُمْ تَرْبِيَةً مَنْ يُرَاعِي فِي أَعْمَالِهِ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ بِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ بَيْنَ الطَّبَقَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا أَوِ اجْتِنَابِ إِظْهَارِهِ فَقَطْ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. كَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يُعَدُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَصُّبِ لِبَعْضِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِ الْمَأْثُورِ عَنْهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ إِيمَانًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا تِلْكَ تَقَالِيدٌ اعْتَادُوهَا، وَعَصَبِيَّةٌ جِنْسِيَّةٌ أَوْ سِيَاسِيَّةٌ جَرَوْا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُرْضِي اللهَ تَعَالَى هُوَ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَوَظَائِفِهِمْ وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِمْ، وَمِنْ فَهْمِ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَيَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَإِنَّ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ قَدْ ظَهَرَتْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْمَلِ مَا ظَهَرَتْ فِي غَيْرِهِ، وَالْهِدَايَةَ بِهِ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ بِمَنْ قَبْلَهُ، وَحُجَّتَهُ كَانَتْ أَنْهَضَ، وَطُرُقَ الْعِلْمِ بِهَا أَقْوَى، وَالشُّبْهَةَ عَلَيْهَا

152

أَضْعَفَ، فَقَدْ نَشَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ وَمَهْدِ الشَّرَائِعِ وَالْعِلْمِ، وَنَشَأَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمَّةٍ ذَاتِ شَرِيعَةٍ، وَدَوْلَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَبِلَادٍ انْتَشَرَتْ فِيهَا كُتُبُ الْآدَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَحْيًا إِلَهِيًّا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَنُقِلَ كِتَابُهُ وَأُصُولُ دِينِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ دُونَ دِينِهِمَا. وَأَمَّا جَعْلُ النَّصَارَى نَبِيَّهُمْ إِلَهًا فِي الشَّكْلِ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِيهِ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ الْوَثَنِيُّ وَخَلَفُهُ مِنَ الرُّومَانِيِّينَ فَذَلِكَ طَوْرٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمَسِيحُ وَحَوَارِيُّوهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَشْكِيلٌ لِدِينِهِمْ بِشَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ وَثَنِيَّتِهِمُ السَّابِقَةِ مُؤَلَّفٌ مِنْ تَقَالِيدِ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْأُورُبِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُقَابِلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ الْعَمَلَ إِلَّا بِشَرِيعَةِ الْأَخِيرِ مِنْهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى الْبِلَادِ، وَمَثِلِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا كَمَثَلِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تُصْدِرُ الْإِدَارَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِالْعَمَلِ بِهَا (وَلَا حَرَجَ فِي ضَرْبِ الْأَدْنَى مَثَلًا لِلْأَعْلَى) فَكُلُّ وَالٍ يُحْتَرَمُ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ، وَكُلُّ قَانُونٍ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ يَنْسَخُ مَا قَبْلُهُ، فَالتَّفْرِقَةُ إِمَّا مِنْ جَهْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَهْلُ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِمَّا مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَإِيثَارِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ الرُّسُلَ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَحَّ إِيمَانُهُمْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَكَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ وَلَازِمُهُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَمَلُ هُنَا كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْعَامَّةُ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ - بِلَا تَفْرِقَةٍ - بِالْكُفْرِ التَّامِّ، وَمُقَابَلَةِ وَعْدِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَؤُلَاءِ: إِنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا قَالَ فِي أُولَئِكَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ; لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ يُوجَدُ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ لَازِمُهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى كَثْرَةِ مَا يُنَافِيهِ وَيَرُدُّهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ وَصْفَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (8: 2 - 4) وَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَجِدْهُ عَظِيمًا ; فَإِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ

حَقًّا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، بِلَامِ الْمِلْكِ، جَزَاءً عَلَى مَا أَثْبَتَ لَهُمْ مِنْ أَصْلِ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهَا، وَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْأَصْلَ فَقَطْ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمْ فَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ أُجُورَهُمْ أَيْ: بِحَسْبَ حَالِهِمْ فِي الْعَمَلِ. قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ عَنْ قَالُونَ: " يُؤْتِيهِمْ " فِي الْآيَةِ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ. وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، غَفُورًا لِهَفَوَاتِ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ ; فَلَمْ يُشْرِكْ بِرَبِّهِ شَيْئًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، رَحِيمًا بِهِمْ يُعَامِلُهُمْ بِالْإِحْسَانِ لَا بِمَحْضِ الْعَدْلِ، وَقَدْ يَخْتَصُّ مَنْ شَاءَ بِضُرُوبٍ مِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا

153

تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ بَيَانُ حَالِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلِهِ ; فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ رِيَاسَةً وَعَصَبِيَّةً، لَا هِدَايَةً إِلَهِيَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنْهُمْ فِي تَعَنُّتِهِمْ، وَتَعْجِيزِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فَقَالَ: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا مُحَرَّرًا بِخَطٍّ سَمَاوِيٍّ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، أَوْ يَنْزِلَ بِاسْمِ جَمَاعَتِهِمْ، أَوْ أَسْمَاءِ أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ (أَقْوَالٌ) وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ شَرِيعَةِ هَذَا النَّبِيِّ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَالْأَلْوَاحِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ نَقُولُ: إِنَّنَا نَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِنَا أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ نَزَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الْيَهُودَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ شَرِيعَتَهُ كُلَّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالتَّوْرَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا كَانَ يَغُشُّ بِهِ الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ ; فَالْمَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً هُوَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ مَنْقُوشَةً فِي لَوْحَيْنِ، جَاءَ بِهِمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ الْمَصْنُوعَ مِنَ الْحُلِيِّ، فِي غَيْبَتِهِ غَضِبَ، وَأَلْقَى اللَّوْحَيْنِ، فَكَسَرَهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْحِتَ لَوْحَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الْحَجَرِ، وَكَتَبَ لَهُ فِيهِمَا تِلْكَ الْوَصَايَا (رَاجِعِ الْفَصْلَ 24 وَالْفَصْلَ 31 مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ) وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَتْ تُوحَى إِلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِ مَكْتُوبَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ، هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَالتَّعْجِيزِ، لَا بِقَصْدِ طَلَبِ الْحُجَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِنَاعِ، وَإِنْ تَعْجَبْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُؤَالِهِمْ، وَتَسْتَنْكِرْهُ وَتَسْتَكْبِرْهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً، سَأَلَهُ ذَلِكَ سَلَفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا الْخَلَفُ وَالسَّلَفُ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ تَرِثُ الْآبَاءَ، وَالْإِرْثَ يَكُونُ عَلَى أَشَدِّهِ وَأَتَمِّهِ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ مُصَاهَرَةَ الْغُرَبَاءِ، عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ، فِي مُخَاطَبَةِ الْأُمَمِ وَالْحِكَايَةِ عَنْهَا، مَعْرُوفَةٌ، مِمَّا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ كَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ لِتَكَافُلِهَا، وَتَوَارُثِهَا، وَاتِّبَاعِ خَلَفِهَا لِسَلَفِهَا تُعَدُّ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَيُنْسَبُ إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهَا مَا فَعَلَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَيُمْكِنُ جَرَيَانُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ ; وَذَلِكَ أَنْ كُلًّا مِنَ السُّؤَالَيْنِ مُسْنَدٌ إِلَى جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ عَيْنَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الثَّانِي.

إِنَّ سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - جَهْرَةً أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ مِنَ السُّؤَالَيْنِ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ أَوْ عِنَادِهِمْ، أَمَّا سُؤَالُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْآيَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُسْتَغْرَبَةِ ; كَحِيَلِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْعَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ لَهُمْ كُتُبُهُمْ أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يُعْرَفُ بِدَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، لَا بِمُجَرَّدِ آيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ يَعْمَلُهَا (كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ، وَغَيْرِهِ) وَإِمَّا أَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ يَقْتَرِحُونَ مَا يَقْتَرِحُونَ تَعْجِيزًا وَمُرَاوَغَةً. وَأَيًّا مَا قَصَدُوا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا سَأَلُوا ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (6: 7) . وَأَمَّا سُؤَالُهُمْ رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً ; أَيْ عِيَانًا، كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ جِسْمٌ مَحْدُودٌ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَتُحِيطُ بِهِ أَشِعَّةُ الْأَحْدَاقِ، وَقَدْ عُوقِبُوا عَلَى جَهْلِهِمْ هَذَا ; فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ إِذْ شَبَّهُوا رَبَّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَرَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى مَا فَوْقَ مَرْتَبَتِهَا، وَقَدْرِهَا وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ (6: 91) وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ جَوِّيَّةٌ، تَشْتَعِلُ بِاتِّحَادِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، رَاجِعْ آيَةَ 55 وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِيهَا التَّعْبِيرُ بِالنَّارِ بَدَلَ الصَّاعِقَةِ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهَا نَارٌ خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّهَا مِنَ الصَّوَاعِقِ الْمُعْتَادَةِ أَرْسَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ هَذَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَدَثَتْ بِأَسْبَابِهَا، وَاللهُ تَعَالَى يُوَفِّقُ أَقْدَارًا لِأَقْدَارٍ. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، الْمُثْبِتَةُ لِلتَّوْحِيدِ النَّافِيَةُ لِلشِّرْكِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (51 و92) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ، الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُ الْعَجَلِ حِينَ تَابُوا مِنْهُ تِلْكَ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ الَّتِي قَتَلُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ كَمَا بَيَّنَ اللهِ لَنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 51 - 54) فَرَاجِعْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا أَيْ سُلْطَةً ظَاهِرَةً بِمَا أَخْضَعْنَاهُمْ لَهُ عَلَى تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ حَتَّى فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ; أَيْ بِسَبَبِ مِيثَاقِهِمْ ; لِيَأْخُذُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِقُوَّةٍ، وَيَعْمَلُوا بِهِ مُخْلِصِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا أَيْضًا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

154

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ (2: 63) وَمِنْهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ آيَةً، مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا فِيهِ ; بِدَلِيلِ آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَرَاجِعْهُ. وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ; أَيِ ادْخُلُوا بَابَ الْقَرْيَةِ أَيِ: الْمَدِينَةِ خَاضِعِينَ لِلَّهِ، أَوْ مُطَامِنِي الرُّءُوسِ، مَائِلِي الْأَعْنَاقِ ; ذِلَّةً وَانْكِسَارًا لِعَظْمَةِ اللهِ، كَمَا يُقَالُ سَجَدَ الْبَعِيرُ: إِذَا طَامَنَ رَأْسَهُ لِرَاكِبِهِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: شَجَرَةٌ سَاجِدَةٌ لِلرِّيَاحِ: إِذَا كَانَتْ مَائِلَةً، وَالسَّفِينَةُ تَسْجُدُ لِلرِّيَاحِ ; أَيْ تُطِيعُهَا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْأَسَاسِ. قِيلَ: تِلْكَ الْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرِيحَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُخْتَارَ السُّكُوتُ عَنْ تَعْيِينِهَا، كَمَا سَكَتَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ. وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا حُدُودَ اللهِ فِيهِ بِالْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَنَّ بَعْضَهُمُ اعْتَدَى فِي السَّبْتِ، وَجَاءَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَيَانُ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ بِصَيْدِ السَّمَكِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُعْتَدِينَ، وَبَعْضَهُمْ سَكَتُوا، فَهُمْ قَدْ خَالَفُوا فِي السَّبْتِ، وَخَالَفُوا فِي دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا فَلَا تَسْتَغْرِبْ بَعْدَ هَذَا مُشَاغَبَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَانَدَتَهُمْ لَهُ. وَأَخْذنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ; أَيْ عَهْدًا مُؤَكَّدًا ; لَيَأْخُذُنَّ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، وَلَيَعْمَلُنَّ بِهَا، وَلَيُقِيمُنَّ حُدُودَ اللهِ فِيهَا، وَلَا يَعْتَدُونَهَا، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عِدَّةَ مَوَاثِيقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ كُلِّهَا بِقُوَّةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ ; مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ، أَوْ نَرَى بَقَايَاهُ إِلَى الْآنِ، فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ، وَهُوَ آخِرُ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ، فَهُوَ فِي ذِكْرِ مَوْتِ مُوسَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. افْتَتَحَ الْفَصْلَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: " 1 - هَذَا كَلَامُ الْعَهْدِ الَّذِي أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى بِأَنْ يَقْطَعَهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي أَرْضِ مُوآبَ، سِوَى الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ مَعَهُمْ فِي حُورِيبَ، وَسَمَّاهُ فِيهِ عَهْدًا وَقَسَمًا، وَتَوَعَّدَ عَلَى نَقْضِهِ فِيهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ وَالْغَضَبِ، وَجَمِيعِ اللَّعَنَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ ; وَمِنْهَا الِاسْتِئْصَالُ مِنْ أَرْضِهِمْ، كَمَا وَعَدَ عَلَى حِفْظِهِ بِأَعْظَمِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ. وَكَذَلِكَ عَظَّمَ أَمْرَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّلَاثِينَ، وَالْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ، وَمِمَّا جَاءَ فِي آخِرِهِ، وَنَعْتَمِدُ بِنَصِّهِ تَرْجَمَةَ الْيَسُوعِيِّينَ - لِأَنَّهَا أَفْصَحُ - قَوْلُهُ: " 24 وَلِمَا فَرَغَ مُوسَى مِنْ رَقْمِ كَلَامِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرٍ بِتَمَامِهَا 25 أَمَرَ مُوسَى اللَّاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ، وَقَالَ لَهُمْ: 26 خُذُوا سِفْرَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ، وَاجْعَلُوهَا إِلَى جَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ فَيَكُونُ ثَمَّ عَلَيْكُمْ شَاهِدًا 27 لِأَنِّي أَعْلَمُ تَمَرُّدَكُمْ، وَقَسَاوَةَ رِقَابِكُمْ ; فَإِنَّكُمْ وَأَنَا فِي

155

الْحَيَاةِ مَعَكُمُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَرَّدْتُمْ عَلَى الرَّبِّ فَكَيْفَ بَعْدَ مَوْتِي 28 اجْمَعُوا إِلَيَّ شُيُوخَ أَسْبَاطِكُمْ وَعُرَفَاءَكُمْ حَتَّى أَتْلُوَ عَلَى مَسَامِعِكُمْ هَذَا الْكَلَامَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ 29 فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي سَتُفْسِدُونَ وَتَعْدِلُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَنَنْتُهَا لَكُمْ فَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ إِذَا صَنَعْتُمُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَيْثُ تُسْخِطُونَهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ 30 وَتَلَا مُوسَى عَلَى مَسَامِعِ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ كَلَامَ هَذَا النَّشِيدِ إِلَى آخِرِهِ. أَمَّا النَّشِيدُ الَّذِي وَثَّقَ بِهِ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْجُمْلَةِ (43) مِنْهُ وَأَوَّلُهُ: " أَنْصِتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلَّمُ وَتَسْتَمِعُ الْأَرْضُ لِأَقْوَالِ فِيَّ " وَبَعْدَهَا أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَمُوتَ وَبَارَكَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ آخِرُ وَحْيِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: " 33:2 أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَاعِيرَ وَتَجَلَّى مِنْ جَبَلِ فَارَانَ (وَتَرْجَمَةُ الْبُرُونُسْتَانِ، وَتَلَأْلَأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ) وَأَتَى مِنْ رُبُوَاتِ الْقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ قَبَسُ نَارِ شَرِيعَةٍ لَهُمْ، وَفَارَانُ هِيَ مَكَّةُ كَمَا ذُكِرَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ، وَفِي الْفَصْلِ (21) مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَى هَاجَرَ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ وَلَدَهَا إِسْمَاعِيلَ (أُمَّةً عَظِيمَةً) وَأَنَّهُ " 21 سَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ سَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا هُوَ وَوَالِدُهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ، وَبِهِ تَكَوَّنَتْ مَكَّةُ، وَجَبَلُ فَارَانَ هُوَ أَبُو قُبَيْسٍ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ. فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ الْغَلِيظَ عَلَيْهِمْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ كَمَا تَنَبَّأَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ تَحْرِيفُ بِشَارَتِهِ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُشَاقَّتُهُمَا؟ قَالَ، تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمِيثَاقِهِمُ الَّذِي وَاثَقَهُمُ اللهُ بِهِ إِذْ نَكَثُوا فَتْلَهُ، وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّهُ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَرَاهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَرَهُ سِوَاهُمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ بُعِثُوا لِهِدَايَتِهِمْ، كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي يَذْكُرُ أَهَمَّ كَبَائِرِهَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ ; أَيْ بِسَبَبِ هَذَا كُلِّهِ فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنَ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَإِزَالَةِ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ قَدْ مَزَّقَتْ نَسِيجَ وَحْدَتِهِمْ، وَفَرَّقَتْ شَمْلَ أُمَّتِهِمْ، وَذَهَبَتْ بِرِيحِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَأَفْسَدَتْ جَمِيعَ أَخْلَاقِهِمْ، فَكُلُّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ هُوَ أَثَرُ ذَلِكَ النَّقْصِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي التَّارِيخِ وَالْعَيَانِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَلِمَةُ " مَا " الْفَاصِلَةُ بَيْنَ الْبَاءِ وَقَوْلِهِ: " نَقْضِهِمْ " تُفِيدُ التَّأْكِيدَ سَوَاءٌ كَانَتْ مَزِيدَةً فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً وَمَجْرُورَةً بِالْبَاءِ، وَ " نَقْضِهِمْ " بَدَلٌ مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ:

160

حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (4: 160) كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَبِكُفْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَبِظُلْمِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْكَامِهِمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ إِلَخْ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ إِذَا طَالَ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَهْتُ الْمَسِيحِ وَوَالِدَتِهِ الْعَذْرَاءِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ عِقَابٌ قَلِيلٌ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا. بَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَى أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَا دُونَ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ " غُلْفٌ " جَمْعُ " أَغْلَفٍ " وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ نُفُوذَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ أَيْ إِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; فَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (41: 5) . وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَمْعُ غِلَافٍ (كَكِتَابٍ، وَكُتُبٍ) وَسُكِّنَتِ اللَّامُ فِيهِ كَمَا تُسَكَّنُ فِي الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ وَغُلْفٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ; فَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ تَسْتَفِيدُهُ مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ هَذَا الزَّعْمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا وَصَفُوا بِهِ قُلُوبَهُمْ هُوَ الْحَقَّ الْوَاقِعَ. بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ; أَيْ كَانَ كُفْرُهُمُ الشَّدِيدُ وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الْقَبِيحِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، سَبَبًا لِلطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَيْ جَعْلِهَا كَالسَّكَّةِ الْمَطْبُوعَةِ، (الدَّرَاهِمِ مَثَلًا) فِي قَسْوَتِهَا، وَتَكَيُّفِهَا بِطَبْعَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ بِجُمُودِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ التَّقْلِيدِيِّ، وَلَوَازِمِهِ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ آخَرَ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ وَاعْتِبَارٍ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهِ تَأَمُّلَ الْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا اخْتِيَارُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يُبْصِرْ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ لَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ ; كَإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ إِيمَانٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا - كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرِينَةِ - الْكُفْرُ بِعِيسَى ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ

بَهْتَ أُمِّهِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَهُوَ قَذْفُهَا بِالْفَاحِشَةِ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ مَنْ يُقَالُ فِيهِ ; أَيْ يُدْهِشُهُ، وَيُحَيِّرُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَغَرَابَتِهِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: قَالَ فُلَانٌ الْبُهْتَانَ، وَقَوْلُهُ الْبُهْتَانُ، وَقَالَ الزُّورَ، وَفِي حَدِيثِ الْكَبَائِرِ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، كَمَا يَقُولُ فِي مُقَابِلِهِ: قَالَ الْحَقَّ. قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَصَفَ الْبُهْتَانَ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَيُّ بُهْتَانٍ تُبْهَتُ بِهِ الْعَذْرَاءُ التَّقِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَيْ: فَهَذَا الْكُفْرُ وَالْبُهْتَانُ مِنْ أَسْبَابِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَلَعْنَتِهِ، وَمِنْ تَوَابِعِهِ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلُهُ. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ أَيْ: وَبِسَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ يُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْجَرْأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالضَّرَاوَةِ بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَوَصْفُهُ هُنَا بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ لِلْإِيذَانِ بِتَهَكُّمِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِدَعْوَتِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فِيهِمْ، لَا الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى. عَلَى أَنَّ أَنَاجِيلَهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ - تَعَالَى - مُدَّعِيًا لِلرِّسَالَةِ ; كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (3:17 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولَ اللهِ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى فَظَاعَةِ عَمَلِهِمْ، وَدَرَجَةِ جَهْلِهِمْ، وَشَنَاعَةِ زَعْمِهِمْ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، كَمَا زَعَمُوا تَبَجُّحًا بِالْجَرِيمَةِ، وَمَا صَلَبُوهُ كَمَا ادَّعَوْا وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ وَقَعَ لَهُمُ الشُّبْهَةُ أَوِ الشَّبَهُ ; فَظَنُّوا أَنَّهُمْ صَلَبُوا عِيسَى، وَإِنَّمَا صَلَبُوا غَيْرَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّبَهِ أَوْ الِاشْتِبَاهِ يَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ ; أَيْ فِي حَيْرَةٍ، وَتَرَدُّدٍ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ثَابِتٍ قَطْعِيٍّ. لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ أَيِ الْقَرَائِنَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْآرَاءِ الْخِلَافِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ. فَالشَّكُّ الَّذِي هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ شَامِلٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، هَذَا إِذَا كَانَ كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا تَسَاوَى طَرَفَاهُ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ فِي أَمْرِهِ هُمْ أَفْرَادٌ رَجَّحُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ، بِالْقَرَائِنِ أَوْ بِالْهَوَى وَالْمَيْلِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ لِلشَّكِّ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِنْ مَعْنَى الْجَهْلِ، وَعَدَمِ اسْتِبَانَةِ مَا يَجُولُ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَمْرِ، قَالَ الرَّكَّاضُ الدَّبِيرِيُّ: يَشُكُّ عَلَيْكَ الْأَمْرُ مَا دَامَ مُقْبِلًا ... وَتَعْرِفُ مَا فِيهِ إِذَا هُوَ أَدْبَرَا فَجَعَلَ الْمَعْرِفَةَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَحْمَرِ: وَأَشْيَاءٌ مِمَّا يَعْطِفُ الْمَرْءَ ذَا النُّهَى ... تَشُكُّ عَلَى قَلْبِي فَمَا أَسْتَبِينُهَا وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّكَّ ضِدُّ الْيَقِينِ. فَهُوَ إذًا يَشْمَلُ الظَّنَّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ. فَالشَّكُّ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِيهِ، أَكَانَ هُوَ الْمَصْلُوبَ ،

أَمْ غَيْرُهُ! فَبَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكِّينَ فِيهِ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَمَا لِأَحَدٍ مِنْهُمَا عِلْمٌ يَقِينِيٌّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ. وَفِي الْأَنَاجِيلِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ النَّصَارَى، أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: (كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ، فِيَّ، فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ) أَيِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لِلْقَتْلِ (مَتَّى 26: 31 وَمُرْقُسُ 14: 27) . فَإِذَا كَانَتْ أَنَاجِيلُهُمْ لَا تَزَالُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ تَلَامِيذَهُ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِهِ يَشُكُّونَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ قَطْعًا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ اشْتِبَاهُ غَيْرِهِمْ وَشَكُّ مَنْ دُونَهُمْ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ صَارَتْ قِصَّتُهُ رِوَايَةً تَارِيخِيَّةً مُنْقَطِعَةَ الْإِسْنَادِ؟ ! وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أَيْ وَمَا قَتَلُوا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَتْلًا يَقِينًا، أَوْ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْمُعْتَمَدَةُ، عِنْدَ النَّصَارَى، تُصَرِّحُ بِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ إِلَى الْجُنْدِ هُوَ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيُّ، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً: أَنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِنْجِيلُ بِرْنَابَا فَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الْجُنُودَ أَخَذُوا يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنًّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ ; لِأَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ. فَالَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْجُنُودَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَ الْمَسِيحِ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا لِلْعِلْمِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَمَا قَتَلُوا الْعِلْمَ يَقِينًا وَتَثْبِيتًا بِهِ. بَلْ رَضُوا بِتِلْكَ الظُّنُونِ الَّتِي يَتَخَبَّطُونَ بِهَا، يُقَالُ: قَتَلْتُ الشَّيْءَ عِلْمًا وَخَبَرًا، كَمَا فِي الْأَسَاسِ، إِذَا أَحَطْتَ بِهِ وَاسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ ذِهْنَكَ مِنْهُ اضْطِرَابٌ وَلَا ارْتِيَابٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَّبِعُونَهُ قَالَ: (لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ; أَيْ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا غَيْرَ مُمَحَّصٍ، وَلَا مُوَفًّى أَسْبَابَ التَّرْجِيحِ وَالْحُكْمِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا النَّقْلُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ. وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ تَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ مَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ مُقَدَّمَاتِ الْقِصَّةِ ; كَجَمْعِ الْمَسِيحِ لِحَوَارِيِّيهِ (أَوْ تَلَامِيذِهِ) وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَغَسْلِهِ لِأَرْجُلِهِمْ، وَقَوْلِهِ لِبَعْضِهِمْ: إِنَّهُ يُنْكِرُهُ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ بَيْعِهِ بِدَلَالَةِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ، فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ قَلِيلٍ، وَكَوْنِ الدِّلَالَةِ عَلَيْهِ كَانَتْ بِتَقْبِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ شَبَهَهُ أُلْقِيَ عَلَى مَنْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بَلْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانُوا مَعَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَجَا مِنْ أَيْدِي مُرِيدِي قَتْلِهِ، فَقَتَلُوا آخَرَ ظَانِّينَ أَنَّهُ هُوَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (3: 55) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّوَفِّي هُنَا بِالْإِمَاتَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ تَفْسِيرُهَا بِأَصْلِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْقَبْضُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنَ الرَّفْعِ إِنْقَاذُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ " فَرَفْعُهُ إِيَّاهُ: تَوَفِّيهِ إِيَّاهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّفْعَ إِلَى السَّمَاءِ، لَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلَا بِالرُّوحِ فَقَطْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّوَفِّيَ: الْإِمَاتَةُ، لَا يَظْهَرُ لِلرَّفْعِ مَعْنًى إِلَّا رَفْعُ الرُّوحِ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ; إِذْ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ هُوَ وَابْنَ خَالَتِهِ يَحْيَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَدَلَّ أَيْضًا عَلَى رَفْعِ يَحْيَى وَسَائِرِ مَنْ رَآهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِي سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وُجُوهًا ; مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِ رَافِعُكَ إِلَيَّ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي (37: 99) وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ. وَقَدْ فَسَّرْنَا آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيهَا، وَفِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَبَيَانٍ، لَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَحَلٍّ لَهُ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتْ لَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا فَبِعِزَّتِهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، أَنْقَذَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْيَهُودِ الْمَاكِرِينَ وَالرُّومِ الْحَاكِمِينَ، وَبِحِكْمَتِهِ جَزَى كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَأَحَلَّ بِالْيَهُودِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ، وَسَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عِنْدَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا ; فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٍّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَلَا هُوَ إِلَهٌ، وَلَا ابْنُ اللهِ. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ (5: 117) وَقَدْ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ، فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّكْلِيفِ، بِإِيمَانِهِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ ;

لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (4: 41) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِيسَى لَمَّا يَمُتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَوَّلُوا قَوْلَهَ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (3: 55) وَهُمْ عَلَى هَذَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْوِيلِ النَّفْيِ الْعَامِّ هُنَا بِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ حَيًّا عِنْدَ نُزُولِهِ، فَيَقُولُونَ: الْمَعْنَى: وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَنْزِلُ الْمَسِيحُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَيَتْبَعَنَّهُ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى شَيْءٍ لَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يَكُونَ قَرِينَةً لَهُ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ لَمْ تَرِدْ مُفَسِّرَةً لِلْآيَةِ. أَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْبَلِيغِ، فَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنِ اطِّلَاعِ النَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ كَوْنِهِمْ يُبَشَّرُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، أَوْ بِعَذَابِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ، بِضَمِّ الْحَاءِ: أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَعَنْ عَائِشَةَ زِيَادَةٌ فِي حَدِيثِ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللهَ فَأَحَبَّ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ مَنْدَهْ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَا مِنْ نَفْسٍ تُفَارِقُ الدُّنْيَا حَتَّى تَرَى مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ " وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ; مِنْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تُخَاطِبُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ، بِحَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، مَعَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ النَّصُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَى تَصْرِيحِ فِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ. وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى كَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي مَبَاحِثَ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ) إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ وَأَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ يَقْتُلُونَ وَيَصْلُبُونَ، وَنَاهِيكَ بِالرُّومَانِيِّينَ وَقَسْوَتِهِمْ، وَالْيَهُودِ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَقَدْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ ; أَشْهَرُهُمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْفَائِدَةُ فِي إِثْبَاتِ التَّارِيخِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَا تَعْدُو الْعِبْرَةَ بِأَخْلَاقِ الْأُمَّةِ، وَدَرَجَةِ ضَلَالِهَا وَهِدَايَتِهَا، وَسِيرَةِ الْحُكَّامِ فِيهَا. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي عَصْرِ الْمَسِيحِ تَحْتَ سُلْطَانِ الرُّومِ (الرُّومَانِيِّينَ) وَالْحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ (بِيلَاطِسُ) لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ قَتْلَ الْمَسِيحِ، وَلَمْ يَحْفَلْ بِوِشَايَةِ الْيَهُودِ وَسِعَايَتِهِمْ فِيهِ، وَلَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا يُزِيلُ سُلْطَانَ الرُّومِ عَنْ قَوْمِهِ، هَكَذَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي كُتُبِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْيَهُودُ تُرِيدُ قَتْلَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي يُزَحْزِحُهُمْ عَنْ تَقَالِيدِهِمُ الْمَادِّيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ بِقَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى قَدْ أُصِيبُوا بِالضَّرَاوَةِ بِسَفْكِ دِمَاءِ النَّبِيِّينَ وَالْمُصْلِحِينَ، فَسَوَاءٌ صَحَّ خَبَرُ دَعْوَى قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا صِحَّتُهُ تُفِيدُنَا عِبْرَةً بِحَالِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً، وَلَا عَدَمُهَا يُنْقِصُ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِأَخْلَاقِهِمْ وَتَارِيخِ زَمَنِهِمْ. نَعَمْ إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُهْتَمُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ فِي كِتَابِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِأَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ قَتْلِ الْيَهُودِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، لَوْلَا أَنَّ النَّصَارَى جَعَلُوهَا أَسَاسَ الْعَقَائِدِ وَأَصْلَ الدِّينِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْإِيمَانُ بِهَا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ كَانَ هُوَ النَّاجِيَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاءِ مَعَ الْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ وَالْقِدِّيسِينَ. لِأَجْلِ هَذَا كَبُرَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ، وَهُمْ يُورِدُونَ فِي ذَلِكَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ ; لِهَذَا رَأَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ عِنْدَهُمْ، وَشُبُهَاتِهِمْ عَلَى نَفْيِهَا مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّةِ. عَقِيدَةُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالصَّلْبِ: نَرَى دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الْمُنْبَثِّينَ فِي بِلَادِنَا، قَدْ جَعَلُوا قَاعِدَةَ دَعْوَتِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَقِيدَةَ صَلْبِ الْمَسِيحِ فِدَاءً عَنِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَالتَّثْلِيثُ يَلِيهَا ; لِأَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ هُوَ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَيُجْعَلُ مَا عَدَاهُ تَابِعًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلَ وَالْأَسَاسَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَلِيهِ الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَدَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذُ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (3: 64) وَبِهَذَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى

فَكَانَ يَكْتَفِي فِي دَعْوَتِهِ الْأَوْلَى لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ شِرْكَهُمْ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، بِوَاسِطَتِهِمْ يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ، وَأَمَّا مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ مِثْلُ هَذَا الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، وَاتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِنْ حَوَارِيِّيهِ وَغَيْرِهِمْ، آلِهَةً بِالْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا. فَلَوْلَا أَنَّ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ أَصْلُ هَذِهِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، لَمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَمَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ دُعَاةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ، فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا لِلدَّعْوَةِ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَفِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ لَنَا حُضُورُهَا مَعَ بَعْضِهِمْ، فَهِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَى اللهَ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا صَارَ هُوَ وَجَمِيعُ أَفْرَادِ ذُرِّيَّتِهِ خُطَاةً مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، ثُمَّ إِنْ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ جَاءُوا خُطَاةً مُذْنِبِينَ فَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَيْضًا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ بِذَنْبِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفًا بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ جَمِيعًا، طَرَأَ عَلَيْهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) مُشْكِلٌ مُنْذُ عَصَى آدَمُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَاقَبَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِرَحْمَتِهِ فَلَا يَكُونُ رَحِيمًا! ! وَإِذَا لَمْ يُعَاقِبْهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعَدْلِهِ فَلَا يَكُونُ عَادِلًا! ! فَكَأَنَّهُ مُنْذُ عَصَى آدَمُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي وَسِيلَةٍ يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ (سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ ابْنُهُ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ هُوَ نَفْسُهُ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَيَتَّحِدُ بِجَنِينٍ فِي رَحِمِهَا، وَيُولَدُ مِنْهَا، فَيَكُونُ وَلَدُهَا إِنْسَانًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُهَا، وَإِلَهًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَابْنُ اللهِ هُوَ اللهُ، وَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعِيشَ زَمَنًا مَعَهُمْ يَأْكُلُ مِمَّا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَشْرَبُونَ، وَيَتَلَذَّذُ كَمَا يَتَلَذَّذُونَ وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُونَ، يُسَخِّرُ أَعْدَاءَهُ لِقَتْلِهِ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ قِتْلَةُ الصَّلْبِ الَّتِي لَعَنَ صَاحِبَهَا فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَيَحْتَمِلُ اللَّعْنَ وَالصَّلْبَ لِأَجْلِ فِدَاءِ الْبَشَرِ وَخَلَاصِهِمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى: وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا ; لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (37: 180) . كُنْتُ مَرَّةً مارًّا بِشَارِعِ مُحَمَّدِ عَلِيٍّ فِي الْقَاهِرَةِ، وَأَنَا قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ يَدْعُو كُلَّ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ تَفَضَّلُوا تَعَالَوُا اسْمَعُوا كَلَامَ اللهِ. وَلَمَّا خَصَّنِي بِالدَّعْوَةِ أَجَبْتُ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا بِنَاسٍ عَلَى مَقَاعِدَ مِنَ الْخَشَبِ فِي رَحْبَةِ

الْمَدْرَسَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجَمْعُ قَامَ أَحَدُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فَأَلْقَى نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنَ الْعَقِيدَةِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ وَحَثِّهِ النَّاسَ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَدَعَوَاهُ أَنْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ بِدُونِهِ، قُمْتُ فَقُلْتُ: إِذَا كُنْتُمْ قَدْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى هَذَا الْمَكَانِ لِتُبَلِّغُونَا الدَّعْوَةَ شَفَقَةً عَلَيْنَا وَرَحْمَةً بِنَا، فَأْذَنُوا لِي أَنْ أُبَيِّنَ لَكُمْ مَوْقِعَهَا مِنْ نَفْسِي. فَأَذِنَ لِي الْقَسُّ بِالْكَلَامِ فَوَقَفْتُ فِي مَوْقِفِ الْخَطَابَةِ، وَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْقَضَايَا الْمُتَنَاقِضَةِ، الَّتِي سَأُبَيِّنُهَا هُنَا، وَطَلَبْتُ الْجَوَابَ عَنْهَا. فَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ خَاصٌّ بِالْوَعْظِ وَالْكِرَازَةِ دُونَ الْجِدَالِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْجِدَالَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَمَوْضِعُهَا الْمَكْتَبَةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْحَاضِرُونَ هَذَا الْجَوَابَ صَاحُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. وَانْصَرَفُوا. أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَدُونَكَهُ بِالِاخْتِصَارِ: (مَا يَرِدُ عَلَى عَقِيدَةِ الصَّلْبِ) (1) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، وَفِي كُلِّ صُنْعِهِ حَكِيمًا ; لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَالْبَدَاءَ عَلَى الْبَارِئِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَحِينَ عَصَى مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ فِي شَأْنِهِ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ مَرَّتْ عَلَى خَلْقِهِ، كَانَ فِيهَا جَاهِلًا كَيْفَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَيْنَكِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَوَاقِعًا فِي وَرْطَةِ التَّنَاقُضِ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ قَدْ يَقْبَلُهَا مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَلَّا يَتَّفِقَ مَعَ الْعَقْلِ، وَأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُهُ بِكُلِّ مَا يُسْنَدُ إِلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ عَمَلُ الْعَجَائِبِ، وَيَقُولُ: آمَنْتُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نَفْسُهُ. وَمَنْ يَنْقُلُونَ فِي أَوَّلِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ (سِفْرِ التَّكْوِينِ) هَذِهِ الْجُمْلَةَ (6: 6 فَنَدِمَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ) تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. 2 - يَلْزَمُ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ مَا يُحِيلُهُ كُلُّ عَقْلٍ مُسْتَقِلٍّ، مِنْ أَنَّ خَالِقَ الْكَوْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إِلَى سَائِرِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ الذَّرَّةِ إِلَيْهَا وَإِلَى سَمَوَاتِهَا الَّتِي تُرَى مِنْهَا، ثُمَّ يَكُونُ بَشَرًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتْعَبُ، وَيَعْتَرِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْبَشَرَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَعْدَاؤُهُ بِالْقَهْرِ وَالْإِهَانَةِ، فَيَصْلُبُوهُ مَعَ اللُّصُوصِ، وَيَجْعَلُوهُ مَلْعُونًا بِمُقْتَضَى حُكْمِ كِتَابِهِ لِبَعْضِ رُسُلِهِ (تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا) . 3 - تَقْتَضِي هَذِهِ الْقِصَّةُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ أَرَادَ شَيْئًا بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِيهِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَخْلُصُوا وَيَنْجُوا بِوُقُوعِ الصَّلْبِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ خَلَاصَهُمْ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، لَنَا

أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَحَدٌ قَطُّ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقُ الْعَقْلِ وَجَزْمُهُ بِالشَّيْءِ، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ تَقْلِيدًا لِمَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ سَمَّيْنَا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِيمَانًا، نَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَا يَقُولُونَهُ. بَلْ يَرُدُّونَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهُ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، مِنْ دِينٍ ثَبَتَتْ أُصُولُهُ عِنْدَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِمِثْلِهَا لِآلِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا عَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ مَلَكُوتَهُ، كَمَا تَدَّعِي النَّصَارَى، لَا يَكُونُ رَحِيمًا عَلَى قَاعِدَةِ دُعَاةِ الصَّلْبِ وَالصَّلِيبِ، فَكَيْفَ جَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟ ! 4 - يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْ عَجْزِ الْخَالِقِ (تَعَالَى وَتَقَدَّسَ) عَنْ إِتْمَامِ مُرَادِهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُ عَذَّبَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ، فَتَعْذِيبُهُ بِالصَّلْبِ وَالطَّعْنِ بِالْحِرَابِ، عَلَى مَا زَعَمُوا، لَا يَصْدُرُ مِنْ عَادِلٍ، وَلَا مِنْ رَحِيمٍ بِالْأَحْرَى، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ غَيْرَ عَادِلٍ وَلَا رَحِيمٍ؟ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا رَحِيمًا فَيَخْلُقُ خَلْقًا يُوقِعُهُ فِي وَرْطَةِ الْوُقُوعِ فِي انْتِفَاءِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَيُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَيَفْقِدُهُمَا مَعًا؟ ! 5 - إِذَا كَانَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوِ الْقِصَّةِ يَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، كَيْفَمَا كَانَتْ أَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهَا إِبَاحِيِّينَ، وَأَنْ يَكُونَ الشِّرِّيرُ الْمُبْطِلُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، مِنْ أَهْلِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، لَا يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ، وَلَا يُجَازَى عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ هَوَاهُ، وَهُوَ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مُفْسِدًا لِلْبَشَرِ، وَإِذَا كَانَ يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الصَّلِيبِيِّينَ، فَمَا هِيَ مَزِيَّةُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ امْتِيَازٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي نَفْسِ الْجَزَاءِ، فَأَيْنَ الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ؟ 6 - مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، يَقُولُ: إِنَّ عَفْوَ الْإِنْسَانِ عَمَّنْ يُذْنِبُ إِلَيْهِ، أَوْ عَفْوَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَعْصِيهِ - يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْكَمَالَ، بَلْ يَعُدُّونَ الْعَفْوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِلِ، وَنَرَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَصِفُونَهُ بِالْعَفُوِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَهْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ، فَدَعْوَى الصَّلِيبِيِّينَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ مِمَّا يُنَافِي الْعَدْلَ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ.

(الْجَزَاءُ وَالْخَلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ) يَتَوَهَّمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي سَرَتْ إِلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ - أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالسَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَكُونُ بِمِثْلِ مَا يُسَمُّونَهُ الْفِدَاءَ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ. وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَادِي، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ الْمَسِيحُ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; وَلِذَلِكَ يُشَكِّكُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، بِمَا يَكْتُبُونَ مِنْ سَفْسَطَةِ الْجَدَلِ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَدَارُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا قَدْ أَذْنَبَ. وَالْمُذْنِبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ تَبِعَةِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ. أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا بِتَخْطِئَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَطْ، وَلَا بِتَعْجِيزِهِمْ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقْتَرِفْ خَطِيئَةً بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ هُنَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا فُرِضَ أَنَّ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُعَدُّ نَقْلُهُمْ تَوَاتُرًا صَحِيحًا، قَدْ لَازَمُوا الْمَسِيحَ فِي كُلِّ سَاعَاتِ حَيَاتِهِ وَدَقَائِقِهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ خَطِيئَةً فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا قَطُّ. أَوْ فَرْضُ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّونَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا يُعَدُّ عِنْدَنَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ - مِنْ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ اعْتِقَادَنَا يَنْقُضُ اعْتِقَادَهُمْ وَاعْتِقَادَهُمْ يَنْقُضُ اعْتِقَادَنَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا نَفَعَ فِي إِفْحَامِ الْخَصْمِ وَإِلْزَامِهِ، لَا يَنْفَعُ فِي إِقْنَاعِهِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِقْنَاعُ، لَا مُجَرَّدُ الْغَلَبِ فِي الْخِصَامِ. وَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشَاغَبَةُ بِمِثْلِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (48: 2) لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ الَّتِي نَنْفِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، هِيَ مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - بِارْتِكَابِ مَا نَهَى الله عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ. وَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ لَهُ تَبِعَةٌ لَا تَسُرُّ الْعَامِلَ وَلَا تُوَافِقُ غَرَضَهُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الْحَيَوَانِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِثَالُهُ مِنْ عَمَلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْنُهُ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا وَهُمْ كَارِهُونَ وَمُصِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ، كَمَا قَالَ، تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (9: 47) وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُعْتَذِرِينَ، وَعَلِمَ الْكَاذِبِينَ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا الْإِذْنُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ لَهُ عَاقِبَةً مُخَالِفَةً لِلْمَقْصِدِ أَوْ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ عَدَمُ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكَاذِبِينَ فِي الِاعْتِذَارِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانَ، مَا كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا، أَذِنَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا

الذَّنْبِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (9: 43) فَمِثْلُ هَذَا، وَإِنْ سُمِّيَ ذَنْبًا لُغَةً، لَا يُعَدُّ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَمَثُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَجْعَلُ شَفَاعَتَهُ مَرْدُودَةً. عَلَى أَنَّ فِي سِيرَةِ كَثِيرٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ خَطِيئَةٌ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي يَرْمِي الصَّلِيبِيُّونَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. لَا نَرُدُّ عَلَى قَاعِدَةِ هَؤُلَاءِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ لِأُسُسِهِمْ، وَالْهَوَادِمِ لِأَبْنِيَتِهِمْ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَنَا هِيَ مَوْضُوعَ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ فِيهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ شَيْئًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيهَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِهَا الْمُفَصَّلِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِيجَازِ ; لِأَنَّ شَرْحَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَقُولُ: إِنَّ مَدَارَ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَفَوْزَهُ بِالنَّعِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَطْهِيرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى تَكُونَ مُتَخَلِّيَةً عَنِ الْأَبَاطِيلِ وَالشُّرُورِ، مُتَحَلِّيَةً بِالْفَضَائِلِ وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَمَدَارُ الْهَلَاكِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (91: 7 - 10) فَاللهُ - تَعَالَى - جَعَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مُتَمَكِّنًا بِقُوَاهُ الْفِطْرِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ، وَمِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى وَالْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُزَكِّي نَفْسَهُ بِهَذِهِ، أَوْ يُدَسِّيهَا بِتِلْكَ. فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ صَلُحَتْ نَفْسُهُ وَزَكَتْ، وَكَانَتْ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ خُرَافِيَّةً بَاطِلَةً وَأَعْمَالُهُ سَيِّئَةً، فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُ وَخَبُثَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّفَ تَدْسِيَتَهَا وَدَهْوَرَتَهَا إِلَى هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ أَلَّا يُلِمَّ الْإِنْسَانُ بِخَطَأٍ، وَلَا تَقَعَ مِنْهُ سَيِّئَةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلِ الْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخُبْثِ وَسُوءِ النِّيَّةِ، بِحَيْثُ إِذَا غَلَبَهُ بَعْضُ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ فَأَلَمَّ بِذَنْبٍ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَلْجَأُ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَتَكْفِيرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ. فَيَكُونُ مَثَلُ نَفْسِهِ كَمَثَلِ بَيْتٍ تَتَعَاهَدُهُ رَبَّتُهُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ النَّظَافَةِ، فَإِذَا أَلَمَّ بِهِ غُبَارٌ أَوْ أَصَابَهُ دَنَسٌ بَادَرَتْ إِلَى إِزَالَتِهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّظَافَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ الْبُيُوتُ النَّظِيفَةُ عَادَةً مِنْ قَلِيلِ غُبَارٍ أَوْ وَسَخٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُزَالَ، فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّفْصِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (4: 123، 124)

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (4: 17، 18) وَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (4: 31) وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4: 48، 116) إِلَخْ. فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، كَانَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يُؤَاخِذُهُ - تَعَالَى - بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَحْرُومًا مِنْ رِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً لَوْ مَلَكَ الْفِدَاءَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدٍ لَمْ يُرْضِ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا الْحَقُّ وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِمَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (2: 255) وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (21: 28) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (2: 123) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ (2: 254) . وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَدْسِيَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ، مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، بِفَضْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (2: 261) وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (4: 173) . أَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتَحْفِزُهُ إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ بِإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ؟ أَلَيْسَتْ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ مِنْ الِاتِّكَالِ عَلَى تِلْكَ الْقِصَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ الْمَأْثُورِ مِثْلُهَا عَنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيِّينَ؟ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا عَقْلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهَا قَلْبٌ سَلِيمٌ، الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَنِظَامِ الْخِلْقَةِ، الَّتِي أَفْسَدَتِ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فِي الْمَمَالِكِ الصَّلِيبِيَّةِ مُنْذُ شَاعَتْ فِيهَا بِنُفُوذِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ الصَّلِيبِيِّ، إِلَى أَنْ عَتَقَتْ أُورُبَّةُ مِنْ رِقِّ الْكَنِيسَةِ، بِنُورِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْلَالِ اللَّذَيْنِ أَشْرَقَا عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. (وَلَكِنْ وَاأَسَفَا عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، ظَاهِرُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَبَاطِنُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَوَاشَوْقَاهُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَنْدَكُّ فِيهِ هَذَا السُّورُ الَّذِي حَجَبَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ) .

(عَقِيدَةُ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَثَنِيَّةٌ) اعْتَرَفَ أَمَامَنَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ نَصَارَى، بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ لَا تُعْقَلُ، وَأَنَّ الْعُمْدَةَ عِنْدَهُمُ النَّقْلُ عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَقْبَلُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، سَوَاءٌ عُقِلَ أَمْ لَمْ يُعْقَلْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ كُلَّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِيهِ عَقَائِدُ وَأَخْبَارٌ يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهَا، وَلَكِنَّهَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَخْبَارٌ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا ; لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَخْبَرَ بِهَا الْوَحْيُ، فَصَدَّقْنَاهُ، فَالْإِسْلَامُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِالْمُحَالِ. وَأَمَّا نَقْلُهُمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ عَنْ كُتُبِهِمْ (وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ) فَهُوَ مُعَارَضٌ بِنَقْلٍ مِثْلِهِ عَنْ كُتُبِ الْوَثَنِيِّينَ وَتَقَالِيدِهِمْ، فَهَذِهِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ سَرَتْ إِلَى النَّصَارَى مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَمُؤَرِّخُوهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْآثَارِ وَالْعَادِيَاتِ مِنْهُمْ فِي كُتُبِهِمْ. قَالَ (دُوَانُ) فِي كِتَابِهِ: " خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى " (. ص 181، 182) مَا تَرْجَمَتُهُ بِالتَّلْخِيصِ: " إِنَّ تَصَوُّرَ الْخَلَاصِ بِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْآلِهَةِ ذَبِيحَةَ فَدَاءٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، قَدِيمُ الْعَهْدِ جِدًّا عِنْدَ الْهُنُودِ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ " وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ: مِنْهَا قَوْلُهُ: يَعْتَقِدُ الْهُنُودُ أَنَّ كَرَشْنَا الْمَوْلُودَ الْبِكْرَ، الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِلَهِ فِشْنُو الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ - عَلَى رَأْيِهِمْ - تَحَرَّكَ حُنُوًّا كَيْ يُخَلِّصَ الْأَرْضَ مِنْ ثِقَلِ حِمْلِهَا، فَأَتَاهَا وَخَلَّصَ الْإِنْسَانَ بِتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً عَنْهُ. وَذَكَرَ أَنَّ (مِسْتَرْ مُورْ) قَدْ صَوَّرَ كَرَشْنَا مَصْلُوبًا، كَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ فِي كُتُبِ الْهُنُودِ، مَثْقُوبَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى قَمِيصِهِ صُورَةُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ مُعَلَّقًا. وَوَجَدْتُ لَهُ صُورَةً مَصْلُوبًا وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَالنَّصَارَى تَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ صُلِبَ وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الشَّوْكِ. وَقَالَ (هُوكْ) فِي ص 326 مِنَ الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ رِحْلَتِهِ: " وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِتَجَسُّدِ أَحَدِ الْآلِهَةِ، وَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً فِدَاءً لِلنَّاسِ مِنَ الْخَطِيئَةِ ". وَقَالَ (مورينورليمس) فِي ص 36 مِنْ كِتَابِهِ (الْهُنُودُ) : وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِالْخَطِيئَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ، وَتَوَسُّلَاتِهِمُ الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ بِهَا بَعْدَ " الْكِيَاتْرِي " وَهُوَ: إِنِّي مُذْنِبٌ، وَمُرْتَكِبُ الْخَطِيئَةِ، وَطَبِيعَتِي شِرِّيرَةٌ، وَحَمَلَتْنِي أُمِّي بِالْإِثْمِ، فَخَلِّصْنِي يَا ذَا الْعَيْنِ الْحَنْدُوقِيَّةِ، يَا مُخَلِّصَ الْخَاطِئِينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ ".

وَقَالَ الْقَسُّ جُورَكْ كُوكْسَ فِي كِتَابِهِ (الدِّيَانَاتُ الْقَدِيمَةُ) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْهُنُودِ: " وَيَصِفُونَ كَرَشْنَا بِالْبَطَلِ الْوَدِيعِ الْمَمْلُوءِ لَاهُوتًا لِأَنَّهُ قَدَّمَ شَخْصَهُ ذَبِيحَةً ". وَنَقَلَ هِيجِينْ عَنْ (أندرادا الْكروزويوس) وَهُوَ أَوَّلُ أُورُبِّيٍّ دَخَلَ بِلَادَ النِّيبَالِ وَالتِّبْتِ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) الَّذِي يَعْبُدُونَهُ: إِنَّهُ سُفِكَ دَمُهُ بِالصَّلْبِ وَثَقْبِ الْمَسَامِيرِ، لِكَيْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ صُورَةَ الصَّلِيبِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَفِي كِتَابِ جورجيوس الرَّاهِبِ صُورَةُ الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) هَذَا مَصْلُوبًا، وَهُوَ بِشَكْلِ صَلِيبٍ أَضْلَاعُهُ مُتَسَاوِيَةُ الْعَرْضِ مُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ، فَالرَّأْسِيُّ أَقْصَرُهَا (وَفِيهِ صُورَةُ وَجْهِهِ) وَالسُّفْلِيُّ أَطُولُهَا، وَلَوْلَا صُورَةُ الْوَجْهِ لَمَا خَطَرَ لِمَنْ يَرَى الصُّورَةَ أَنَّهَا تُمَثِّلُ شَخْصًا. هَذَا، وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْبُوذِيِّينَ فِي (بُوذَهْ) هُوَ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ النَّصَارَى عَنِ الْمَسِيحِ، مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. حَتَّى إِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ الْمَسِيحَ، وَالْمَوْلُودُ الْوَحِيدُ، وَمُخَلِّصَ الْعَالَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ كَامِلٌ، وَإِلَهٌ كَامِلٌ تَجَسَّدَ بِالنَّاسُوتِ، وَإِنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً ; لِيُكَفِّرَ ذُنُوبَ الْبَشَرِ، وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلَهُمْ وَارِثِينَ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. بَيَّنَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ، مِنْهُمْ (بِيلْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ بُوذَهْ) وَ (هُوكْ) فِي رِحْلَتِهِ وَ (مُولَرْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ الْآدَابِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ) وَغَيْرُهُمْ. وَمَنْ أَرَادَ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ إِلَهِ النَّصَارَى، وَآلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ الْأَوَّلِينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ فِي الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ هَدَاهُ اللهُ بِالْإِسْلَامِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالدِّينِ الْقَيِّمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَكْرِيمِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَحِبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَيَرْضَى لِنَفْسِهِ التَّخَبُّطَ فِي ظُلُمَاتِ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ؟ ! (شُبَهَاتُ النَّصَارَى عَلَى إِنْكَارِ الصَّلْبِ) (الشُّبْهَةُ الْأُولَى) : يَدَّعِي بَعْضُهُمْ فِيمَا يُمَوِّهُ بِهِ عَلَى عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَالْعِلْمُ بِهَا قَطْعِيٌّ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَنَّ دَعْوَى التَّوَاتُرِ مَمْنُوعَةٌ ; فَإِنَّ التَّوَاتُرَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْبَارِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ اتِّفَاقَهُمْ، وَتَوَاطُؤِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، بِشَيْءٍ قَدْ أَدْرَكُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِدْرَاكًا صَحِيحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَكَانَ خَبَرُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفِقًا لَا خِلَافَ فِيهِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ شَيْئًا (مَثَلًا) وَأَخْبَرُوا بِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَاتٍ كَانَ

مَا بَعْدَ الْأُولَى مُخْبِرًا عَنْهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَفْرَادُ كُلِّ طَبَقَةٍ لَا يُجَوِّزُ عَقْلُ عَاقِلٍ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ قَدْ سَمِعَ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمُ التَّوَاتُرُ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ. وَأَنْ يَتَّصِلَ السَّنَدُ هَكَذَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَنْعَقِدُ التَّوَاتُرُ. وَأَنَّى لِلنَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ؟ وَالَّذِينَ كَتَبُوا الْأَنَاجِيلَ، وَالرَّسَائِلَ الْمُعْتَمَدَةَ عِنْدَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، وَمَنْ تُنْقَلُ عَنْهُ الْمُشَاهَدَةُ كَبَعْضِ النِّسَاءِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْوَهْمُ. بَلْ قَالَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ: إِنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَهِيَ أَعْرِفُ النَّاسِ بِالْمَسِيحِ اشْتَبَهَتْ فِيهِ وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَاحِبَ آيَاتٍ، وَخَوَارِقَ عَادَاتٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَنْجُوَ بِالتَّشَكُّلِ بِصُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، كَمَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ " وَكَمَا قَالَ مُرْقُسْ: إِنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ لِلنَّصَارَى فِيهِ مُلْكٌ وَحُرِّيَّةٌ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا دِينَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ انْقِطَاعَ أَسَانِيدِ هَذِهِ الْكُتُبِ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا. (الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) : يَقُولُونَ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُتَوَاتِرَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، لَوُجِدَ، فِيهِمْ، مَنْ أَنْكَرَهَا، كَمَا وُجِدَتْ فِيهِمْ فِرَقٌ خَالَفَتِ الْجُمْهُورَ فِي أُصُولِ عَقَائِدِهِ ; كَالتَّثْلِيثِ، وَلَمْ تُخَالِفْهُ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَجْهَلُ تَارِيخَهُمْ، يَسِيرٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الصَّلْبَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ السِّيرِنِثِيِّينَ، وَالتَّاتْيَانُوسِيِّينَ أَتْبَاعُ تَاتْيَانُوسَ تِلْمِيذِ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدِ، وَقَالَ فُوتْيُوسُ: إِنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا يُسَمَّى: " رِحْلَةُ الرُّسُلِ " فِيهِ أَخْبَارُ بُطْرُسَ، وَيُوحَنَّا، وَأَنْدَرَاوِسْ، وَتُومَا، وَبُولُسْ، وَمِمَّا قَرَأَهُ فِيهِ: " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُصْلَبْ، وَلَكِنْ صُلِبَ غَيْرُهُ، وَقَدْ ضَحِكَ بِذَلِكَ مِنْ صَالِبِيهِ " هَذَا، وَإِنَّ مَجَامِعَهُمُ الْأُولَى قَدْ حَرَّمَتْ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الَّتِي تُخَالِفُ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ، وَالرَّسَائِلَ الَّتِي اعْتَمَدَتْهَا، فَصَارَ أَتْبَاعُهُمْ يَحْرِقُونَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَيُتْلِفُونَهَا، وَإِنَّنَا نَرَى مَا سَلِمَ بَعْضُ نُسَخِهِ، مِنْهَا، كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا يُنْكِرُ الصَّلْبَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ الَّتِي فُقِدَتْ كَانَتْ تُنْكِرُهُ أَيْضًا، فَنَحْنُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِاخْتِيَارِ الْمَجَامِعِ لِمَا اخْتَارَتْهُ، فَنَجْعَلُهُ حُجَّةً، وَنَعُدُّ مَا عَدَاهُ كَالْعَدَمِ. عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْمُنْكِرِينَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِمْ، وَعَدَمُ وُجُودِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ. (الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) : يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ، وَرَسَائِلَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ قَدْ أَثْبَتَتِ الصَّلْبَ، وَهِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ مَا أَثْبَتَتْهُ. وَنَقُولُ (أَوَّلًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَلَا عَلَى أَنَّ كَاتِبِيهَا كَانُوا مَعْصُومِينَ، وَ (ثَانِيًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ (ثَالِثًا) :

أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَمْثَالِهَا كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَتَرْجِيحُهُمْ إِيَّاهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي اعْتِمَادِهَا تِلْكَ الْمَجَامِعَ الَّتِي لَا ثِقَةَ لَنَا بِأَهْلِهَا، وَلَا كَانُوا مَعْصُومِينَ عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَنَا، وَ (رَابِعًا) : أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ، وَفِي غَيْرِهَا، وَ (خَامِسًا) : أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي ثَبَتَ نَقْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ، دُونَ غَيْرِهِ، فَقُصَارَى تِلْكَ الْكُتُبِ أَنْ تُفِيدَ الظَّنَّ بِالْقَرَائِنِ كَمَا قَالَ، تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَالْقُرْآنُ قَطْعِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ. إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُجَادِلِيهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ عَهْدِ الْمَسِيحِ إِلَى الْآنِ، وَأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِهِمْ، وَمَعْرُوفَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ. وَلَكِنْ مَنْ طَالَعَ كُتُبَهُمُ التَّارِيخِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ، يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ. وَإِنَّمَا يُصَدِّقُهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْجَاهِلُونَ ; لِتَوَهُّمِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ نَشَأَتْ كَالْإِسْلَامِ فِي مَهْدِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، فَأَمْكَنَ حِفْظُ كُتُبِهَا كَمَا أَمْكَنَ حِفْظُ الْقُرْآنِ. وَشَتَّانَ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ فِي نَشْأَتِهِمَا شَتَّانَ. وَإِلَيْكَ نَزْرًا مِنَ الْبَيَانِ، وَإِنْ شِئْتَ الْمَزِيدَ مِنْ مِثْلِهِ فَارْجِعْ إِلَى الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. الدَّلَائِلُ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِالْأَنَاجِيلِ: أَلَّفَ سَلْسُوسُ مِنْ عُلَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمِيلَادِ كِتَابًا فِي إِبْطَالِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ قَالَ فِيهِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ أَكْهَارِنْ مِنْ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَةَ مَا تَرْجَمَتُهُ: " بَدَّلَ النَّصَارَى أَنَاجِيلَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا تَبْدِيلًا ; كَأَنَّ مَضَامِينَهَا بُدِّلَتْ ". وَفِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْأَبْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمِيلَادِ كَانَتْ تُصَدِّقُ إِنْجِيلَ مَتَّى وَحْدَهُ وَتُنْكِرُ مَا عَدَاهُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْجِيلُ مُخَالِفًا لِإِنْجِيلِ مَتَّى الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ ظُهُورِ قُسْطَنْطِينَ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَارَسْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تَأْخُذُ بِإِنْجِيلِ لُوقَا، وَكَانَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي تُؤْمِنُ بِهَا مُخَالِفَةً لِلْمَوْجُودَةِ الْآنَ، وَكَانَتْ تُنْكِرُ سَائِرَ الْأَنَاجِيلِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ. وَفِي رِسَالَةِ بُولِسْ إِلَى أَهْلِ غِلَاطْيَةَ مَا نَصُّهُ (1: 6 إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ (7) لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ) هَكَذَا فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الْأَخِيرَةِ (يُحَوِّلُوا) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا كَثِيرُونَ " يُحَرِّفُوا " وَفِي تَرْجَمَةِ الْجِزْوِيتْ " يَقْلِبُوا " وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ بُولِسْ قَوْمٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى إِنْجِيلٍ غَيْرِ الَّذِي يَدْعُو هُوَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ غَيْرَهُ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ، أَوْ قَلَبُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ إِنْجِيلٌ آخَرُ، وَكَمَا اعْتَرَفَ بُولِسْ بِهَذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ فِي عَصْرِهِ رُسُلٌ كَذَّابُونَ غَدَّارُونَ

تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثِيوُسَ فَقَالَ: (11:13 لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ (14) وَلَا عَجَبَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ (15) فَلَيْسَ عَظِيمًا إِذَا كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ) . وَفِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ أَرْسَلُوا بُولِسْ وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ; لِتَحْذِيرِ إِخْوَانِهِمْ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يُوصُونَهُمْ بِالْخِتَانِ، وَحِفْظِ النَّامُوسِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (15) مِنْهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ حَصَلَتْ مُشَاجَرَةٌ هُنَالِكَ بَيْنَ بُولِسْ وَبِرْنَابَا وَافْتَرَقَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بُولِسْ كَانَ عَدُوَّ الْمَسِيحِيِّينَ، وَخَصْمَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْإِيمَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ جَمَاعَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْلَا أَنْ شَهِدَ لَهُ بِرْنَابَا لَمَا قَبِلُوهُ، وَبِرْنَابَا يَقُولُ فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِ: إِنَّ بُولِسْ نَفْسَهُ كَانَ مِنَ الَّذِينَ بَشَّرُوا بِتَعْلِيمٍ جَدِيدٍ غَيْرِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ. فَمَعَ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَثِقَ بِهَا؟ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْهَا: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَذَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ فِدَاءً وَكَفَّارَةً عَنِ الْبَشَرِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تُصَرِّحُ بِأَنَّهُ حَزِنَ وَاكْتَأَبَ عِنْدَمَا شَعَرَ بِقُرْبِ أَجَلِهِ، وَطَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ، فَفِي مَتَّى: (37:26) ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ، وَابْنَي زَبْدَى، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ (38) فَقَالَ لَهُمْ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هُنَا، وَاسْهَرُوا مَعِي (39) ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا. بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ. فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً، وَصَلَّى قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي لُوقَا: (22: 43 - 45) فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَسِيحُ هَذَا، وَهُوَ إِلَهٌ عِنْدَهُمْ؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَ مَا يُمْكِنُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَأَنْ يَطْلُبَ إِبْطَالَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَرَادَ الْآبُ - وَهُوَ هُوَ عِنْدَهُمْ - أَنْ يَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا مَسْأَلَةُ اللِّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَالُوا: إِنَّهُمَا صُلِبَا مَعَهُ، قَالَ مُرْقُسُ: (15: 27 وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ ; وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ (28) فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: " وَأَحْصَى مَعَ أَثَمَةٍ " إِلَى أَنْ قَالَ: وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَتَّى: (27:44) وَأَمَّا لُوقَا فَقَدْ سَمَّى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ صُلِبَا مَعَهُ: مُذْنِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (23: 39 وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ

الْمُعَلَّقَيْنِ مَعَهُ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا: " إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا (40) فَأَجَابَ الْآخَرُ وَانْتَهَرَهُ " إِلَخْ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَّرَ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَتْ نُبُوَّةُ الْكِتَابِ (الْمُرَادُ بِهِ أَشَعْيَا) أَنَّهُ يُصْلَبُ مَعَ أَثَمَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ كَانَ الْجَمْعُ اثْنَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَقُولُ اثْنَانِ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْمَعْصُومِينَ عَلَى رَأْيِهِمْ: إِنَّ الَّذِي عَيَّرَهُ وَأَهَانَهُ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرَانِ وَهُمَا مِثْلُهُ فِي عِصْمَتِهِ يَقُولَانِ: بَلْ كِلَاهُمَا عَيَّرَاهُ؟ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ أَظْهَرِهَا: مَسْأَلَةُ دَفْنِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَقِيَامِهِ مِنَ الْقَبْرِ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ الْأَحَدِ، مَعَ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَهِيَ مُدَّةُ يُونَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي جِئْنَ الْقَبْرَ، وَفِيهَا عِدَّةُ خِلَافَاتٍ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ، وَرُؤْيَةِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ وَرُؤْيَتِهِ هُوَ إِلَخْ. (الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُمْ: إِنَّ كُتُبَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ قَدْ بَشَّرَتْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ وَنَوَّهَتْ بِهَا تَنْوِيهًا. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ. بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَأَوَّلْتُمْ عِبَارَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَجَعَلْتُمُوهَا مُشِيرَةً إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَوْ كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: " إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا للْمَسِيحِ " كَمَا أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّ الذَّبَائِحَ الْوَثَنِيَّةَ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى صَلْبِ الْمَسِيحِ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ خُرَافَاتِ الْبَشَرِ وَعِبَادَاتِهِمْ حُجَجٌ لَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ هَذِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَى مِثْلِهَا. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ. (الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) : يَقُولُونَ: إِذَا جَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي الْمَسِيحِ وَيَجْهَلَ شَخْصَهُ الْجُنُودُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَالْحُكَّامُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا صَلْبَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي ذَلِكَ تَلَامِيذُهُ، وَمُرِيدُوهُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ؟ وَنَقُولُ: إِنَّ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ عُهِدَ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يُشْبِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَبَهًا تَامًّا بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ الْمُعَاشِرُونَ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا بَيْنَ الْغُرَبَاءِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ. وَلَعَلَّهُ يَقِلُّ فِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ وَيَتَقَلَّبُونَ بَيْنَ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَى رَجُلٍ غَرِيبٍ اشْتَبَهَ عَلَيَّ بِصَدِيقٍ لِي، ثُمَّ أَعْرِفُ بَعْدَ الْحَدِيثِ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّنَا لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ نُورِدُ قَلِيلًا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنِ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ يَثِقُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَنَا بِهِمْ مَا لَا يَثِقُونَ بِغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، أَوْ مُقَلِّدَتُهُمْ. قَالَ صَاحِبُ " كِتَابِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ " (أُمِيلُ الْقَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ) حِكَايَةً عَنْ كِتَابٍ كَتَبَتْهُ امْرَأَةُ الدُّكْتُورِ إِرَاسِمْ إِلَى زَوْجِهَا مَا نَصُّهُ: " لَقَدْ كَثُرَ مَا لَاحَظْتُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَالْمَوْطِنِ تَشَابُهٌ كَالَّذِي يُوجَدُ بَيْنَ أَفْرَادِ

أُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَتَدْرِي مَنْ هُوَ الَّذِي حَضَرَتْ صُورَتُهُ فِي ذِهْنِي عِنْدَ وُقُوعِ بَصَرِي عَلَى السَّيِّدَةِ وَارنجتُون؟ ذَلِكَ هُوَ صَدِيقُكَ يَعْقُوبُ نُقُولَا، خِلْتُنِي أَرَاهُ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ " اهـ. فَهَذَا مِثَالٌ لِرَأْيِ الْكَاتِبِ فِي تَشَابُهِ النَّاسِ. وَفِي رِسَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ (ص 368) : " وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ فِي بَابِ تَحْقِيقِ الشَّخْصِيَّاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَيَشْتَبِهُونَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ " جَاي " وَ " فرير " مُؤَلِّفَا (كِتَابِ أُصُولِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ) فِي اللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ حَادِثَةً اسْتُحْضِرَ فِيهَا (150) شَاهِدًا لِمَعْرِفَةِ شَخْصٍ يُدْعَى " مارتين جير " فَجَزَمَ أَرْبَعُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ هُوَ، وَقَالَ خَمْسُونَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْبَاقُونَ تَرَدَّدُوا جِدًّا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُبْدُوا رَأْيًا، ثُمَّ اتَّضَحَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ كَانَ غَيْرَ مَارتين جير، وَانْخَدَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودُ الْمُثْبِتُونَ، وَعَاشَ مَعَ زَوْجَةِ مَارتين مُحَاطًا بِأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَكُلُّهُمْ مُصَدِّقُونَ أَنَّهُ مَارتين، وَلَمَّا حَكَمَتِ الْمَحْكَمَةُ عَلَيْهِ ; لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ اسْتَأْنَفَ الْحُكْمَ فِي مَحْكَمَةٍ أُخْرَى، فَأُحْضِرَ ثَلَاثُونَ شَاهِدًا آخَرُونَ، فَأَقْسَمَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ مارتين، وَقَالَ سَبْعَةٌ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ 1539 م، فِي فَرَنْسَا، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ. " وَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَبَهِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِغَيْرِهِمْ أَنْ وُجِدَ فِيهِمْ بَعْضُ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُسُورِ أَوِ الْجُرُوحِ أَوْ آثَارِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَعَسَّرَ تَمْيِيزُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ; وَلِذَلِكَ جَدَّ الْأَطِبَّاءُ فِي وَضْعِ مُمَيِّزَاتٍ لِأَشْخَاصِ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفِينَ " اهـ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَغَيَّرَ شَكْلَهُ هُوَ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَفِي أَنَاجِيلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ جُمَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ تُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا مِنْ قَبْلُ (مِنْهَا) قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ يَوْمَئِذٍ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ يَتَشَكَّلُ بِغَيْرِ شَكْلِهِ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَعْبُرَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ أَيْ قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ إِنْ أَمْكَنَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْخَاضِعَةِ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ لِدُعَائِهِ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْ آخِرِ الْفَصْلِ 16 " وَلَكِنْ ثِقُوا أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ " قَالَ هَذَا بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِأَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَيَبْقَى وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يَكُونُ مَعَهُ ; أَيْ بِعَوْنِهِ وَحِفْظِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مَتَّى (26: 56 حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلَامِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا) وَقَوْلُ مُرْقُسَ (14:

فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ التَّلَامِيذَ كُلَّهُمْ هَرَبُوا حِينَ جَاءَ الْجُنْدُ لِيَقْبِضُوا عَلَى الْمَسِيحِ، فَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ هُنَالِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ دَعَوَتَهُ بِأَنْ يُنْقِذَهُ، وَيَعْبُرَ عَنْهُ تِلْكَ الْكَأْسَ، عِبَارَةُ الْمَزْمُورِ (109) الَّتِي يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَسِيحُ. وَهَذَا نَصُّهَا " 26 أَعِنِّي يَا رَبِّ، إِلَهِي، خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ 27، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ يَدُكَ، أَنْتَ يَا رَبِّ فَعَلَتْ هَذَا 28، أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ، قَامُوا وَخُزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ 29 لِيَلْبَسَ خُصَمَائِي خَجَلًا، وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ. أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ 31 لِأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمِسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ ". وَفِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْمَسِيحِ شَوَاهِدُ أُخْرَى بِمَعْنَى هَذَا. (الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ) يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ نَجَا مِنْ أَعْدَائِهِ بِعِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَأَيْنَ ذَهَبَ؟ وَلِمَاذَا لَمْ يَقِفْ لَهُ أَحَدٌ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ؟ . وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَوَفَّاهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، كَمَا رَفَعَ إِدْرِيسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: لَا غَرَابَةَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَخَاهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنْ قَوْمِهِ، الْخَاضِعِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ، وَمَاتَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ أَنْ يَفِرَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ قَوْمٍ أَعْدَاءٍ لَهُ، لَا وَلِيَّ لَهُ فِيهِمْ وَلَا نَصَيْرَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، قَدِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَقْتَ الشِّدَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ (بُطْرُسْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ لَا بِدْعَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مَكَانٍ مَجْهُولٍ، وَمَاتَ فِيهِ كَمَا مَاتَ مُوسَى (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَلَمْ يَعْرِفْ قَبْرَهُ أَحَدٌ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَبْرَ الْمَسِيحِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدِ اكْتُشِفَ فِي الْهِنْدِ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُ بَعْضِ النَّصَارَى بِعَدَمِ مَوْتِ الْمَسِيحِ بِالصَّلْبِ رَوَوْا أَنَّ الْقَبْرَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ وُجِدَ فِي صَبَاحِ الْأَحَدِ خَالِيًا وَاللَّفَائِفُ مُلْقَاةٌ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ لَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْجُثَّةَ سُرِقَتْ. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ وَكَذَا الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَسِيحِيِّينَ الْعَقْلِيِّينَ: أَنَّ الَّذِي صُلِبَ لَمْ يَمُتْ. بَلْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أُنْزِلَ وَلُفَّ بِاللَّفَائِفِ، وَوُضِعَ فِي ذَلِكَ، النَّاوُوسِ أَفَاقَ وَأَلْقَى اللَّفَائِفَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِينَ رَفَعُوا الْحَجَرَ لِافْتِقَادِهِ خَرَجَ وَاخْتَفَى عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ. وَمِمَّا أَوْرَدُوا مِنَ التَّقْرِيبِ عَلَى هَذَا، أَنَّ الْمَصْلُوبَ لَمْ يُجْرَحْ مِنْهُ إِلَّا كَفَّاهُ وَرِجْلَاهُ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَقَاتِلِ وَلَمْ يَمْكُثْ مُعَلَّقًا إِلَّا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَكَانَ يُمْكِنُ

أَنْ يَعِيشَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ بِالْحَرْبَةِ خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ وَمَاءٌ، وَالْمَيِّتُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَلْبًا تَامًّا كَالْمُعْتَادِ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ. وَمِنَ النُّقُولِ الصَّرِيحَةِ بِشُيُوعِ هَذَا الرَّأْيِ مَا جَاءَ فِي (ص 563 مِنْ كِتَابِ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ) وَهُوَ: " فَلِلْكَفَرَةِ وَالْجَاحِدِينَ فِي تَكْذِيبِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ مَذَاهِبُ شَتَّى. . . فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَفَزَّتْهُمْ مَعَ بهردواك وَبُولِسْ غتلب حَمَاقَةُ الْجَهْلِ وَوَسَاوِسُ الْكُفْرِ إِلَى أَنْ قَالُوا: إِنَّ يَسُوعَ نَزَلَ عَنِ الصَّلِيبِ حَيًّا وَدُفِنَ فِي الْقَبْرِ حَيًّا ". وَقَالَ (فِي ص 564 مِنْهُ) : إِنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمَسِيحِ وَدِينِهِ الْحَقِّ قَدْ تَوَغَّلُوا فِي بَيْدَاءِ الْهَذَيَانِ وَتَمَادَوْا فِي إِغْوَاءِ ضُلَّالِهِمْ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ تَلَامِيذَ يَسُوعَ رَفَعُوا جَسَدَهُ خِفْيَةً، وَعَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْحُرَّاسِ، وَبَثُّوا فِي الْقَوْمِ أَنَّهُ انْبَعَثَ حَيًّا، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَائِعًا عِنْدَ الْيَهُودِ حِينَ كَتَبَ الْقِدِّيسُ مَتَّى إِنْجِيلَهُ (عَدَدُ 15 مِنْ فَصْلِ 28 مِنْ مَتَّى) اهـ. (الْقَوْلُ بِهِجْرَةِ الْمَسِيحِ إِلَى الْهِنْدِ) وَمَوْتِهِ فِي بَلْدَةِ (سَرَى نَكْرَا) فِي كَشْمِيرَ يُوجَدُ فِي بَلْدَةِ سَرَى نَكْرَا وَ " نَقْرَ " (وَالْهُنُودُ تَكْتُبُ " نَكْرَ " بِالْكَافِ الْمُفَخَّمَةِ، وَهِيَ كَالْجِيمِ الْمِصْرِيَّةِ) مَقْبَرَةٌ فِيهَا مَقَامٌ عَظِيمٌ يُقَالُ هُنَاكَ: إِنَّهُ مَقَامُ نَبِيٍّ جَاءَ بِلَادَ كَشْمِيرَ مِنْ زُهَاءِ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ يُسَمَّى بوزآسف، وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَصْلِيُّ عِيسَى صَاحِبٌ (وَكَلِمَةُ صَاحِبٍ فِي الْهِنْدِ لَقَبُ تَعْظِيمٍ كَلَقَبِ أَفَنْدِيٍّ عِنْدَ التُّرْكِ وَمِسْتَرْ وَمِسْيُو عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ) وَإِنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ ابْنُ مَلِكٍ. وَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَتَنَاقَلُهُ أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ عَنْ سَلَفِهِمْ وَيُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، وَإِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ لِأَحَدِ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ أَوْ رُسُلِهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ غُلَامُ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْهُدَى وَالتَّبْصِرَةُ لِمَنْ يَرَى) وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ، وَأَنَّ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوجَدُ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ هُنَاكَ اسْمُهُ (إِكْمَالُ الدِّينِ) وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ هُوَ قَبْرُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَرَسَمَ صُورَةَ الْمَقْبَرَةِ بِالْقَلَمِ، وَأَمَّا قَبْرُ الْمَسِيحِ فَوَضَعَهُ فِي الْكِتَابِ بِالرَّسْمِ الشَّمْسِيِّ (الْفُوتُوغْرَافِيِّ) مَكْتُوبًا عَلَيْهِ (مَقْبَرَةُ عِيسَى صَاحِبٍ) . وَغُلَامُ أَحْمَدَ هَذَا يُفَسِّرُ الْإِيوَاءَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (23: 50)

بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْهِنْدِ وَاللُّجْأِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي كَشْمِيرَ، فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْإِنْقَاذِ وَالتَّنْجِيَةِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَخَاوِفِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (93: 6) وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ (8: 26) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ وَلَدِ نُوحٍ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (11: 43) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَبِلَادُ كَشْمِيرَ مِنْ أَعْلَى بِلَادِ الدُّنْيَا، وَهِيَ ذَاتُ قَرَارٍ مَكِينٍ، وَمَاءٍ مَعِينٍ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الرَّبْوَةَ هِيَ رَمْلَةُ فِلَسْطِينَ أَوْ دِمَشْقَ الشَّامِ، وَلَوْ آوَى اللهُ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إِلَيْهِمَا لَمَا خَفِيَ مَكَانُهُمَا فِيهِمَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَلَةِ صَلْبِهِ وَتَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِيوَاءِ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْإِنْقَاذِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (8: 72) وَفِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12: 69) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (12: 99) وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَبْلَ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ وَالسَّعْيِ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فِي مَخَافَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْإِيوَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، فَفِرَارُهُ إِلَى الْهِنْدِ وَمَوْتُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا. (الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِقَوْلِ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ بِالْمَوْضُوعِ، وَأَقْوَالِ مُبْتَدَعَةِ النَّصَارَى الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ يَهُوذَا هُوَ الَّذِي صُلِبَ لَا الْمَسِيحُ مَعَ أَنَّ يَهُوذَا قَدِ انْتَحَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْإِنْجِيلِ. وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: اتَّفَقَتِ النَّصَارَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَكَانَ يَهُوذَا رَجُلًا عَامِّيًّا مِنْ بَلْدَةٍ تُسَمَّى (خَرْيُوتَ) فِي أَرْضِ يَهُوذَا، تَبِعَ الْمَسِيحَ وَصَارَ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يُلَقِّبُونَهُمْ بِالتَّلَامِيذِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَهُ فِي الْمَلَكُوتِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا، وَيَدِينُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; أَيْ يُحَاسِبُونَهُمْ فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ يَهُوذَا كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ فِي خَلْقِهِ، كَمَا نَقَلَ (جُورْجُ سَايِلْ) الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِيمَا عَلَّقَهُ عَلَى سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى (السِّيرْتِثِيِّينَ وَالْكَرْبُوكْرَاتِيِّينَ) مِنْ أَقْدَمِ فِرَقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ هُوَ يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُهُ شَبَهًا تَامًّا. وَقَالُوا: إِنَّ يَهُوذَا أَسِفَ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْلَامِهِ الْمَسِيحَ إِلَى الْيَهُودِ حَتَّى حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى بَخْعِ نَفْسِهِ (الِانْتِحَارِ) فَذَهَبَ إِلَى حَقْلٍ، وَخَنَقَ نَفْسَهُ فِيهِ (مَتَّى 27: 3 -) 10) أَوْ عَلَّقَهَا (أَعْمَالٌ 1: 18) وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ يَهُوذَا فُقِدَ بَعْدَ حَادِثَةِ

الصَّلْبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا هُوَ قَتْلُ نَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَاخْتَلَفَ الرُّسُلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانُوا مَعْصُومِينَ (؟) وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا فُقِدَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي صُلِبَ، وَالْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي نَجَّاهُ اللهُ - تَعَالَى - وَرَفَعَهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ انْفِعَالُهُ وَأَلَمُ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ خَنْقًا أَوْ شَنْقًا لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَبْسُلَهَا بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، فَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ يَهُوذَا عِنْدَمَا دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى الْمَسِيحِ فِي اللَّيْلِ رَأَى بِعَيْنَيْهِ عِنَايَةَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِنْجَائِهِ وَإِنْقَاذِهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ (كَمَا أَنْجَى أَخَاهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَيْدِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَكَانُوا أَشَدَّ مَعْرِفَةً لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْيَهُودِ لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا بَذَلَتِ الْيَهُودُ ثَلَاثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ لِيَهُوذَا. فَخَرَجَ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ عِنْدَ دَارِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَلَمْ يُبْصِرُوهُ) فَلَمَّا رَأَى يَهُوذَا ذَلِكَ وَعَلِمَ دَرَجَةَ عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عَظُمَ ذَنْبُهُ فِي نَفْسِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُ ذَنْبَهُ كَمَا كَفَّرَ ذَنْبَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ مِنْ غَيْرِ مُقَاوِمَةٍ تُذْكَرُ. فَرِوَايَةُ الْإِنْجِيلِ وَسِفْرِ الْأَعْمَالِ عَنْ وِجْدَانِهِ مَخْنُوقًا أَوْ مَشْنُوقًا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، وَقَدْ تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فَتَسَاقَطَا، وَوَجَبَ اعْتِمَادُ قَوْلِ بِرْنَابَا الَّذِي أَخَذَ بِهِ بَعْضُ قُدَمَاءِ النَّصَارَى. وَإِذَا كَانَ إِيمَانُ يَهُوذَا قَوِيًّا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ - دَرَجَةِ الِانْتِحَارِ وَالْبَخْعِ مِنْ أَلَمِ الذَّنْبِ - فَلَيْتَ شِعْرِي لِمَاذَا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا، وَأَنَّ كُرْسِيَّهُ فِي الْمَلَكُوتِ سَيَبْقَى خَالِيًا، وَبِشَارَةُ الْمَسِيحِ لَهُ لَا تَكُونُ صَادِقَةً، وَلِمَاذَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ بُطْرُسَ الَّذِي أَنْكَرَ الْمَسِيحَ وَتَرَكَهُ، وَلَعَنَهُ الْمَسِيحُ فِي حَيَاتِهِ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ دُونَ تَوْبَةِ يَهُوذَا، وَمَا كَانَ يَهُوذَا إِلَّا مُتَمِّمًا لِذَرِيعَةِ الْفِدَاءِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ عِنْدَهُمْ؟ الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدَفْنِهِ وَظَهَرَ لِلنِّسَاءِ وَلِتَلَامِيذِهِ وَلِأُنَاسٍ آخَرِينَ، وَأَرَى بَعْضَهُمْ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي جَسَدِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى قِيَامِهِ جَمِيعُ الْأَنَاجِيلِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ غَيْرُهُ؟ وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّهُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِرِوَايَةِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَبَيَّنَّا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا بِالِاخْتِصَارِ، وَمِنْهَا تَعَارُضُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّطْوِيلِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ ثُمَّ تَوَسَّعَ الْقَوْمُ فِيهَا كَمَا هِيَ عَادَتُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الْعَجَائِبِ وَالْمُسْتَغْرَبَاتِ حَتَّى تَسَنَّى لَبِوُلِسَ وَمُرِيدِيهِ أَنْ يُفْرِغُوهَا فِي هَذَا الْقَالَبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَسَتَرَى بَيَانَ هَذَا قَرِيبًا. أَمَّا الْبَيَانُ الْأَوَّلُ: فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَمَرْيَمَ الْأُخْرَى (أَيْ أُمَّ يَعْقُوبَ) جَاءَتَا وَقْتَ الْفَجْرِ لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ فَوَجَدَتَا الْمَلَكَ قَدْ دَحْرَجَ الْحَجْرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُمَا

أَنَّ يَسُوعَ قَامَ مِنْهُ وَسَبَقَ تَلَامِيذَهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَهُ، فَذَهَبَتَا لِتُخْبِرَا التَّلَامِيذَ، فَلَاقَاهُمَا يَسُوعُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا كَمَا قَالَ الْمَلَكُ (رَاجِعْ 28 مَتَّى وَهُوَ الْفَصْلُ الْأَخِيرُ) . وَفِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْ مُرْقُسَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ ثَلَاثًا، الثَّالِثَةُ سَالُومَةُ، وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ الْقَبْرَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا وَلَمْ يَقُلْ كَمَتَّى: إِنَّ الْمَلَكَ كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ فِي الْقَبْرِ شَابًّا عَنِ الْيَمِينِ، وَإِنَّهُ قَالَ لَهُنَّ: " اذْهَبْنَ، وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ، وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " فَزَادَ عَطْفَ بُطَرُسَ عَلَى التَّلَامِيذِ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ هَرَبْنَ وَلَمْ يَقُلْنَ لِأَحَدٍ شَيْئًا ; إِذْ أَخَذَتْهُنَّ الرِّعْدَةُ وَالْحَيْرَةُ وَكُنَّ خَائِفَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ ظَهَرَ أَوَّلًا لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ (أَيْ دُونَ مَنْ كَانَ مَعَهَا خِلَافًا لِمَتَّى) فَذَهَبَتْ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَلَمْ يُصَدِّقُوا، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لِاثْنَيْنِ وَهُمَا مُنْطَلِقَانِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا (14) أَخِيرًا ظَهَرَ لِلْأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ، وَهَذَا مِمَّا زَادَهُ عَلَى مَتَّى. وَأَمَّا لُوقَا فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي جِئْنَ لِافْتِقَادِ الْقَبْرِ هُنَّ الثَّلَاثُ اللَّوَاتِي ذَكَرَهُنَّ مُرْقُسُ، وَلَا الثِّنْتَانِ اللَّتَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا مَتَّى، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُنَّ نِسَاءٌ كُنَّ جِئْنَ مِنَ الْجَلِيلِ مَعَ يُوسُفَ الَّذِي دَفَنَ يَسُوعَ، وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَالدَّفْنَ. وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ أَوَّلَ الْفَجْرِ، لَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَأَنَّهُنَّ وَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا فَدَخَلْنَ الْقَبْرَ، وَلَمْ يَجِدْنَ الْجَسَدَ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ شَابًّا فِيهِ عَنِ الْيَمِينِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَلَا الْمَلَكَ عَلَى الْحَجَرِ خَارِجَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى. بَلْ قَالَ إِنَّهُنَّ بَيْنَمَا كُنَّ مُتَحَيِّرَاتٍ إِذَا رَجُلَانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ، وَقَالَا لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ (وَهَذَا تَعْبِيرٌ قَدْ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَذَكَّرَهُنَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يُسَلَّمُ وَيُصْلَبُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ. وَلَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِإِخْبَارِ التَّلَامِيذِ بِأَنْ يَسْبِقُوهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَأَنَّهُمْ هُنَاكَ يَرَوْنَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى وَمُرْقُسُ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ رَجَعْنَ وَأَخْبَرْنَ الْأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ) فَخَالَفَ مُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُنَّ لَمْ يَقُلْنَ شَيْئًا. وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ هُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَبُونَا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ. وَإِنَّ التَّلَامِيذَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ لَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ ; إِذْ تَرَاءَى لَهُمْ كَلَامُهُنَّ كَالْهَذَيَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ (أَيْ يَسُوعُ) مَشَى مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى قَرْيَةِ عَمْوَاسَ، وَهِيَ عَلَى 60 غَلْوَةً مِنْ أُورْشَلِيمَ (خِلَافًا لِمُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: لِاثْنَيْنِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ) وَقَالَ: إِنَّ أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنَّهُمَا ذَكَرَا قِصَّتَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ " إِنْسَانًا نَبِيًّا " وَأَنَّهُ وَبَّخَهُمَا وَوَصَفَهُمَا بِالْغَبَاوَةِ وَبُطْءِ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمَا ضَيَّفَاهُ فِي الْقَرْيَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا

وَأَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَرَ وَنَاوَلَهُمَا، انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، فَعَرَفَاهُ، ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، وَأَنَّهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ رَجَعَا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَوَجَدَا الْأَحَدَ عَشَرَ (هَكَذَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْبَاقِي تِسْعَةً) مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ظَهَرَ لِسَمْعَانَ. فَأَخْبَرَاهُمْ خَبَرَهُمَا. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُمْ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ. وَأَمَّا يُوحَنَّا فَقَدْ خَالَفَ الثَّلَاثَةَ فَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (20) أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ جَاءَتْ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلَامُ بَاقٍ، فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا، فَرَكَضَتْ إِلَى سَمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ. فَرَكَضَا إِلَى الْقَبْرِ، وَدَخَلَا فِيهِ ; فَرَأَيَا الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَكَانَتْ مَرْيَمُ تَبْكِي خَارِجَ الْقَبْرِ، ثُمَّ انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ فَنَظَرَتْ مَلَكَيْنِ جَالِسَيْنِ ; وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ، وَالْآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، وَبَعْدَ الْكَلَامِ مَعَهُمَا عَنْ سَبَبِ بُكَائِهَا، الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفًا فَلَمْ تَعْرِفْهُ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تُخْبِرَ التَّلَامِيذَ بِقَوْلِهِ " إِنِّي صَاعِدٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ " فَأَخْبَرَتْهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّلَامِيذَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَشِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةً، خَوْفًا مِنَ الْيَهُودِ، فَجَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ تُومَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (21) أَنَّهُ أَظْهَرَ نَفْسَهُ لِلتَّلَامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ أَوَّلًا، ثُمَّ اصْطَادُوا سَمَكًا بِأَمْرِهِ وَحَضَرَ غَدَاءَهُمْ. هَذَا مُلَخَّصُ دَعْوَى قِيَامِ يَسُوعَ مِنَ الْقَبْرِ بِرِوَايَةِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَرَى الْمُتَأَمِّلُ فِيهَا أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْجَلِيلِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ وَعَنِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ. وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ فِي الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْ يُقَالَ: " تَعَادَلَا فَتَسَاقَطَا " وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْقَوْلِ بِهَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّعَارُضِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ - اتِّقَاءَ الْوُقُوعِ فِي التَّرْجِيحِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، نَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْأَرْبَعَةِ سَاقِطَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الْمَبْنِيُّ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ أَوْ أَصْلٌ بُنِيَ عَلَيْهِ ; فَبَيَانُهُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَاعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَبَعْضُ تَلَامِيذِهِ، وَاضْطَرَبَتِ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ كُلُّ مُؤَلِّفِ إِنْجِيلٍ مَا سَمِعَهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِشَاعَاتِ تَخَيُّلَ مَرْيَمَ الْمَجْدَلَانِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ الْمِزَاجِ (الَّتِي رَوَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ أَنَّ الْمَسِيحَ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ) أَنَّهَا رَأَتِ الْمَسِيحَ وَكَلَّمَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ الْخَيَالِيَّةُ اتَّفَقَتْ لِغَيْرِهَا أَيْضًا مِنَ التَّلَامِيذِ أَوْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوهَا مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بِالشَّوَاهِدِ.

وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَبَّخَهُمْ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ، وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَاشَرُوهُ زَمَنًا رَأَوْا فِيهِ مَا أَيَّدَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، أَوَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا. بَلْ يَتَّهِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، وَأَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ وَقْتَ الشِّدَّةِ، وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ، وَارْتَشَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الصَّيَّادِينَ وَالنِّسَاءِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ، وَطَالَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِانْفِعَالَاتِ الْعَصَبِيَّةِ لِلنَّاسِ، كَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالْعِشْقِ، يَتَرَاءَى لِلْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَخْصٌ يُكَلِّمُهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا يَحْصُلُ فِي الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ رَاجَتْ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى صَارُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ; وَلِذَلِكَ احْتَرَسَ عَنْهُ بَعْضُ مُؤَلِّفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُمْ خَافُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رُوحًا، فَنَفَى هُوَ ذَلِكَ. وَقَدْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِي زَمَنِ التَّحْصِيلِ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِيهِ: إِنَّ الصُّوفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ وَالرُّؤْيَةِ الْخَيَالِيَّةِ. وَمِمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: وَاقِعَةٌ جَرَتْ فِي بَلَدِهِمْ (فَاسَ) قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْجَزَّارِينَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ شَخْصُهُ فِي فِكْرِهِ حَتَّى إِنَّ عَقْلَهُ وَجَوَارِحَهُ كَانَتْ كُلُّهَا مَعَهُ، فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى بَابِ الْفُتُوحِ أَحَدِ أَبْوَابِ فَاسَ حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى لِشِرَاءِ الْغَنَمِ عَلَى عَادَةِ الْجَزَّارِينَ، فَجَالَ فِكْرُهُ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَجُولُ فِكْرُهُ فِيهِ إِذْ رَآهُ عِيَانًا وَهُوَ قَادِمٌ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِهِ. قَالَ فَكَلَّمْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: يَا وَلَدِي خُذْ هَذِهِ الشَّاةَ - لِشَاةٍ اشْتَرَيْتُهَا - حَتَّى أَشْتَرِيَ أُخْرَى، وَقَدْ حَصَلَتْ غَيْبَةٌ قَلِيلَةٌ عَنْ حِسِّي، فَلَمَّا سَمِعَنِي مَنْ كَانَ قَرِيبًا أَتَكَلَّمُ مَعَ الْوَلَدِ، قَالُوا: مَعَ مَنْ تَتَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَلَمَّا كَلَّمُونِي رَجَعْتُ إِلَى حِسِّي، وَغَابَ الْوَلَدُ عَنْ بَصَرِي، فَلَا يَدْرِي مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِي مِنَ الْوَجْدِ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. اهـ. وَمَا كُلُّ مَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةٌ خَيَالِيَّةٌ كَالرُّؤْيَةِ الْمَنَامِيَّةِ، وَإِنَّنِي أَعْرِفُ امْرَأَةً كَبِيرَةَ السِّنِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) كَانَتْ دَائِمًا تَرَى الْمَوْتَى، وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَأْنَسُ بِخِطَابِهِمْ تَارَةً، وَيَظْهَرُ عَلَيْهَا الِانْقِبَاضُ أُخْرَى. وَكَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِهَا مَعَ أَخٍ لَهَا مَاتَ غَرِيقًا. وَكُنْتُ أَجْزِمُ أَنَا، وَكُلُّ مَنْ عَرَفَهَا، بِأَنَّهَا غَيْرُ كَاذِبَةٍ وَلَا مُتَصَنِّعَةٍ. بَلْ كَانَتْ هَائِمَةً فِي ذَلِكَ، وَلَا تُبَالِي بِشَيْءٍ. وَلَا يَغُرَنَّ الْعَاقِلَ انْتِشَارُ أَمْثَالِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْهُودٌ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَالِمُ الِاجْتِمَاعِيُّ غوستاف لوبون

الْفَرَنْسِيُّ بَيَانًا عِلْمِيًّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاجْتِمَاعِ) وَمِمَّا قَالَهُ فِي بَيَانِ قَابِلِيَّةِ الْجَمَاعَاتِ لِلتَّأَثُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَانْخِدَاعِ الْفِكْرِ مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا: " إِنَّ سُرْعَةَ تَصْدِيقِ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ الْوَحِيدَ فِي اخْتِرَاعِ الْأَقَاصِيصِ الَّتِي تَنْتَشِرُ بَيْنَ النَّاسِ بِسُرْعَةٍ. بَلْ لِذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّشْوِيهُ الَّذِي يَعْتَوِرُ الْحَوَادِثَ فِي مُخَيِّلَةِ الْمُجْتَمِعِينَ ; إِذْ تَكُونُ الْوَاقِعَةُ بَسِيطَةً لِلْغَايَةِ فَتَنْقَلِبُ صُورَتُهَا فِي خَيَالِ الْجَمَاعَةِ بِلَا إِبْطَاءٍ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفَكِّرُ بِوَاسِطَةِ التَّخَيُّلَاتِ، وَكُلُّ تَخَيُّلٍ يَجُرُّ إِلَى تَخَيُّلَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَدْنَى عَلَاقَةٍ مَعْقُولَةٍ ". وَلَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَعَدُّدُ صُوَرِ التَّشْوِيشِ الَّتِي تُدْخِلُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى حَادِثَةٍ شَاهَدَتْهَا، وَتَنَوُّعُ تِلْكَ الصُّوَرِ ; لِأَنَّ أَمْزِجَةَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ هِيَ مِنْهُمْ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ، لَكِنَّ الْمُشَاهَدَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالتَّشْوِيشُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْكُلِّ بِعَامِلِ الْعَدْوَى ; لِأَنَّ أَوَّلَ تَشْوِيشٍ تَخَيَّلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ كَالْخَمِيرَةِ تَنْتَشِرُ مِنْهُ الْعَدْوَى إِلَى الْبَقِيَّةِ. فَقَبْلَ أَنْ يَرَى جَمِيعُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَانَ بِالطَّبْعِ قَدْ تَخَيَّلَهُ أَحَدُهُمْ أَوَّلًا فَمَا لَبِثَ التَّأَثُّرُ وَالْعَدْوَى أَنْ مَثَّلَاهُ لِلْبَقِيَّةِ جِسْمًا مَرْئِيًّا. هَكَذَا وَقَعَتْ جَمِيعُ التَّخَيُّلَاتِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي رَوَاهَا التَّارِيخُ، وَعَلَيْهَا كُلِّهَا مَسْحَةُ الْحَقِيقَةِ لِمُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ النَّاسِ. " وَلَا يَنْبَغِي فِي رَدِّ مَا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ وَالذَّكَاءِ الْوَافِرِ ; لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِتِلْكَ الصِّفَةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; إِذِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ وَالتَّمْيِيزِ مَا دَامُوا فِي الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّ مُعْتَرِضٍ يَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ سَفْسَطَةٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ بَيَانَهُ يَسْتَلْزِمُ سَرْدَ عَدَدٍ عَظِيمٍ مِنَ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ، وَلَا يَكْفِي لِهَذَا الْعَمَلِ عِدَّةُ مُجَلَّدَاتٍ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَ الْقَارِئَ أَمَامَ قَضَايَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ سَآتِي بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ أَنْقُلُهَا بِلَا انْتِقَاءٍ مِنْ بَيْنِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُمْكِنُ سَرْدُهَا. " وَأَبْدَأُ بِرِوَايَةِ وَاقِعَةٍ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ خَيَالٍ اعْتَقَدَتْهُ جَمَاعَةٌ ضَمَّتْ إِلَى صُفُوفِهَا مِنَ الْأَفْرَادِ صُفُوفًا وَأَنْوَاعًا مَا بَيْنَ جَاهِلٍ غَبِيٍّ، وَعَالَمٍ أَلْمَعِيٍّ، رَوَاهَا عَرَضًا رُبَّانُ السَّفِينَةِ (جُولْيَانُ فِيلِيكْسَ) فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي مَجَارِي مِيَاهِ الْبَحْرِ، وَسَبَقَ نَشْرُهَا فِي (الْمَجَلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ) قَالَ: " كَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ (بِيلْ بُولْ) تَبْحَثُ فِي الْبَحْرِ عَنْ بَاخِرَةٍ (بِيرْسُو) حَيْثُ كَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهَا بِعَاصِفَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ النَّهَارُ طَالِعًا، وَالشَّمْسُ صَافِيَةً، وَبَيْنَمَا هِيَ سَائِرَةٌ إِذَا بِالرَّائِدِ يُشِيرُ إِلَى زَوْرَقٍ يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَشَخَصَ رِجَالُ السَّفِينَةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، وَرَأَوْا جَمِيعًا مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ زَوْرَقًا مَشْحُونًا بِالْقَوْمِ، تَجُرُّهُ سُفُنٌ تَخْفِقُ عَلَيْهَا أَعْلَامُ الْيَأْسِ وَالشِّدَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ خَيَالًا، فَقَدْ أَنْفَذَ الرُّبَّانُ زَوْرَقًا صَارَ يَنْهَبُ الْبَحْرَ إِنْجَادًا لِلْبَائِسِينَ.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، رَأَى مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالضُّبَّاطِ أَكْدَاسًا مِنَ النَّاسِ يَمُوجُونَ وَيَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ، وَسَمِعُوا ضَجِيجًا مُبْهَمًا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهٍ عَدِيدَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْمَرْئِيَ وَجَدُوهُ أَغْصَانَ أَشْجَارٍ مُغَطَّاةٍ بِأَوْرَاقٍ قُطِعَتْ مِنَ الشَّاطِئِ الْقَرِيبِ. وَإِذْ تَجَلَّتِ الْحَقِيقَةُ غَابَ الْخَيَالُ. " هَذَا الْمِثَالُ يُوَضِّحُ لَنَا عَمَلَ الْخَيَالِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَالٍ لَا تَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وَلَا الْإِبْهَامَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. فَهُنَا جَمَاعَةٌ فِي حَالَةِ الِانْتِظَارِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَهُنَاكَ رَائِدٌ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَرْكَبٍ حَفَّهُ الْخَطَرُ وَسَطَ الْمَاءِ، فَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ سَرَتْ عَدْوَاهُ، فَتَلَقَّاهُ كُلُّ مَنْ فِي الْبَاخِرَةِ مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْخِدَاعِ يَقَعُ لِلْجَمَاعَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اخْتِصَاصِهِمُ الْعِلْمِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ: (قَالَ) : وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ لَنَا (مِسْيُو دَافِي) أَحَدُ عُلَمَاءِ النَّفْسِ الْمُحَقِّقِينَ وَقَدْ نَشَرَتْهُ حَدِيثًا مَجَلَّةُ (أَعْصُرُ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ) وَهُوَ: دَعَا (مِسْيُو دَافِي) جَمَاعَةً مِنْ كِبَارِ أَهْلِ النَّظَرِ ; مِنْهُمْ عَالِمٌ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ إِنْكِلْتِرَةَ وَهُوَ (مِسْتَرْ وَلَاسْ) وَقَدَّمَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمَسُوهَا بِأَيْدِيهِمْ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا خُتُومًا كَمَا شَاءُوا، ثُمَّ أَجْرَى أَمَامَهُمْ جَمِيعَ ظَوَاهِرِ فَنِّ اسْتِخْدَامِ الْأَرْوَاحِ: مِنْ تَجْسِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْأَلْوَاحِ، حَتَّى كَتَبُوا لَهُ شَهَادَاتٍ قَالُوا فِيهَا: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ أَمَامَهُمْ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِقُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّةِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الشَّهَادَاتُ فِي يَدِهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ شَعْوَذَةٌ بَسِيطَةٌ جِدًّا. قَالَ رَاوِي الْحَادِثَةِ: لَيْسَ الَّذِي يُوجِبُ الدَّهَشَ وَالِاسْتِغْرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ إِبْدَاعُ (دَافِي) وَمَهَارَتُهُ فِي الْحَرَكَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا. بَلْ هُوَ ضَعْفُ الشَّهَادَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ " ثُمَّ اسْتَنْتَجَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ انْخِدَاعُ الْعُلَمَاءِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَاقِعًا فَمَا أَسْهَلَ انْخِدَاعَ الْعَامَّةِ! . ثُمَّ ذَكَرَ حَادِثَةً وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ كِتَابَتِهِ لِهَذَا الْبَحْثِ، وَخَاضَتْ فِيهِ جَرَائِدُ بَارِيسَ، وَكَانَ مَنْشَأُ الِانْخِدَاعِ فِيهَا الشَّبَهَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ بَحْثِنَا، قَالَ (فِي ص 50 مِنَ النُّسْخَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَرْجَمَةِ) : " أَنَا أَكْتُبُ هَذِهِ السُّطُورَ، وَالْجَرَائِدُ مَلْأَى بِذِكْرِ غَرَقِ بِنْتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَإِخْرَاجِ جُثَّتَيْهِمَا مِنْ نَهْرِ (السِّينِ) عُرِضَتِ الْجُثَّتَانِ، فَعَرَفَهُمَا بِضْعَةُ عَشَرَ شَخْصًا مَعْرِفَةً مُؤَكَّدَةً، وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهَا اتِّفَاقًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَكٌّ فِي نَفْسِ قَاضِي التَّحْقِيقِ فَأَذِنَ بِدَفْنِهِمَا، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِذَلِكَ سَاقَ الْقَدْرُ الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا الشُّهُودُ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَهَرَ أَنَّهُمَا بَاقِيَتَانِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَفْقُودَتَيْنِ إِلَّا شَبَهٌ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا: تَخَيَّلَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْغَرِيقَتَيْنِ هُمَا فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَسَرَتْ عَدْوَى التَّأْثِيرِ إِلَى الْبَاقِي " اهـ. تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى تَخَيُّلِ بَعْضِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ تَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ

وَمَكَانٍ، وَيَنْخَدِعُ بِهَا الْعُلَمَاءُ كَالْعَوَامِّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ غُوسْتَافُ لُوبُونْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُجْهَلُ تَعْلِيلُهُ مِنَ الْفَلَتَاتِ وَالشَّوَاذِّ، وَإِنَّنَا بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِأَيَّامٍ جَاءَتْنَا مَجَلَّةُ الْمُقْتَطَفِ (الصَّادِرَةُ فِي 23 مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذَا الْعَامِ 1331) فَقَرَأْنَا فِي مَقَالَةٍ فِيهَا عُنْوَانُهَا (مُنَاجَاةُ الْأَرْوَاحِ وَالْبَحْثُ فِي النَّفْسِ) : أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْإِنْجِلِيزِ وَكِبَارِ عُقَلَائِهِمُ الثِّقَاتِ شَاهَدُوا وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِ مُسْتَحْضِرِي الْأَرْوَاحِ، احْتَاطُوا فِيهَا أَشَدَّ الِاحْتِيَاطِ ; لِئَلَّا تَكُونَ غِشًّا أَوْ شَعْوَذَةً، وَكَانَ الْوَسِيطُ فِيهَا - أَيِ الَّذِي يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ - رَجُلًا اسْمُهُ (مِسْتَرْ هُومْ) وَقَدْ شَهِدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا الرُّوحَ الْمُسْتَحْضَرَ فَخَاطَبَ كُلًّا مِنْهُمْ بِاسْمِهِ، وَأَجَابَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ وَأَنَّ أَحَدَهُمْ سَأَلَهُ: أَلَكَ جِسْمٌ حَقِيقِيٌّ أَمْ أَنْتَ خَيَالٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ جِسْمِي أَقْوَى مِنْ جِسْمِكَ، فَامْتَحَنَهُ بِوَضْعِ أُصْبُعِهِ فِي فِيهِ فَأَلْفَاهُ حَارًّا، وَأَسْنَانُهُ صُلْبَةٌ حَادَّةٌ، وَعَضَّهُ عَضَّةً صَرَخَ مِنْ أَلَمِهَا. قَالَ الْمُقْتَطَفُ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَاقِعَةِ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَعْوَذَةً مِنْ (مِسْتَرْ هُومْ) أَيْ وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ قَدْ رَبَطُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِأَسْلَاكٍ مِنَ النُّحَاسِ إِلَى كُرْسِيٍّ مُتَّصِلٍ بِالْمَوْقِدِ مُوَثَّقًا بِذَلِكَ الرِّبَاطِ، وَلَحَمُوا الْأَسْلَاكَ بِلِحَامٍ مَعْدِنِيٍّ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ أَنْ تُزِيحَهُ مِنْ مَكَانِهِ مَا لَمْ تُقْطَعِ الْأَسْلَاكُ الْمَعْدِنِيَّةُ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْوَاقِعَةِ كَمَا تَرَكُوهُ فِي قُيُودِهِ وَأَغْلَالِهِ. (ثُمَّ قَالَ الْمُقْتَطَفُ وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ) : " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ (هُومْ) قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُوكَسْ وَكْرُوكَسْ وَغِلْتُونْ قَدْ خُدِعُوا كُلُّهُمْ فَرَأَوْا مَا لَا يُرَى وَسَمِعُوا مَا لَا يُسْمَعُ ; لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضُ النَّاسِ أَفْعَالًا خَارِقَةً، لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُمْ فِعْلَهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَيْفَ لَا؟ وَالنَّائِمُ وَالْحَادِسُ يَرَيَانِ وَيَسْمَعَانِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ ". أَقُولُ: فَإِذَا جَازَ فِي رَأْيِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ أَنْ يَنْخَدِعَ الْعُلَمَاءُ الطَّبِيعِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ بِالتَّخَيُّلِ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْخَدِعَ بِهِ مِثْلُ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ (الْهِسْتِيرِيَّةِ) وَتُومَا وَإِخْوَانِهِ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ! وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَخَيَّلَ ضُبَّاطُ الْمُدَرَّعَةِ (بِيلْ بُولْ) وَعَسْكَرُهَا وَبَحَّارَتُهَا زَوْرَقًا يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَهُوَ مُكْتَظٌّ بِالْمُسْتَنْجِدِينَ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَيْدِيَهُمْ تُومِئُ وَتُشِيرُ، وَيَسْمَعُونَ جَلَبَتَهُمْ بِالصِّيَاحِ وَالضَّجِيجِ، وَإِذَا جَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَخَيَّلَ جَمَاهِيرُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ حَقِيقَةً، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا التَّخَيُّلِ فِي أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَسِيحَ بَعْدَ حَادِثَةِ الصَّلْبِ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَلَى انْقِطَاعِ سَنَدِهَا؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَجْزِمَ بِضْعَةُ عَشَرَ شَاهِدًا فِي الْبِنْتَيْنِ

اللَّتَيْنِ غَرِقَتَا فِي نَهْرِ السِّينِ جَزْمًا مَبْنِيًّا عَلَى مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ مَنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ؟ ! وَقَعَ فِي عَصْرِنَا هَذَا وَاقِعَتَانِ مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ، وَرُؤْيَةِ الْقِدِّيسِ جُورْجَ (إِحْدَاهُمَا) : وَقَعَتْ فِي الشَّامِ مُنْذُ سِنِينَ ; وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اسْمُهُ عَلِي رَاغِب اشْتَغَلَ بِالتَّصَوُّفِ وَالرِّيَاضَةِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَيَالَاتُ فَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَ شَيْئًا مُهِمًّا عِنْدَهُ يَتَمَثَّلُ لَهُ، كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ زَمَنًا بِقِرَاءَةِ الْأَنَاجِيلِ حَتَّى كَانَ يَحْفَظُ مِنْهَا مَا لَا يَكَادُ يَحْفَظُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ إِنَّهُ عَاشَرَ بَعْضَ النَّصَارَى فِي دِمَشْقَ حَتَّى كَانَ يَحْضُرُ كَنَائِسَهُمْ، فَكَثُرَ تَخَيُّلُهُ لِقِصَّةِ الصَّلْبِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الْأَنَاجِيلِ فَرَأَى الْمَسِيحَ مَرَّةً مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الصَّلْبِ، وَرَأَى أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي يَدَيْهِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ حِسِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِذَلِكَ، فَصَدَّقُوهُ وَقَالُوا إِنَّهُ قِدِّيسٌ، وَشَاعَتِ الْمَسْأَلَةُ وَلَغَطَ النَّاسُ بِهَا، ثُمَّ الْتَقَى الشَّيْخُ طَاهِرٌ الْجَزَائِرِيُّ بِالشَّيْخِ رَاغِبٍ هَذَا، وَتَحَدَّثَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَفْجَأْهُ الشَّيْخُ طَاهِرُ بِالتَّخْطِئَةِ، بَلْ شَغَلَ بَالَهُ وَخَيَالَهُ بِآيَاتِ الْمَسِيحِ، وَبِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الظُّهُورِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ (كَمَا ذَكَرُوا فِي الْإِنْجِيلِ) وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا إِلَى مَسْأَلَةِ إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى يَهُوذَا، وَمَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ التَّشْبِيهِ لَهُمْ، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُهُ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى ذَهَبَ، وَلِقِصَّةِ الصَّلْبِ فِي خَيَالِهِ صُورَةٌ أُخْرَى، فَرَأَى الْمَسِيحَ مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ، وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ وَلَا غَيْرِهَا أَثَرٌ لِلصَّلْبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ مَسْأَلَةِ الصَّلْبِ فَقَالَ لَهُ: أَلْقَيْتُ عَلَى يَهُوذَا صُورَةً مِنْ صُوَرِي فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ رَاغِبٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَنَبَذُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَجْنُونٌ. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ تُشْبِهُ رُؤْيَةَ تُومَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا الْوَاقِعَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمَتْبُولِيَّ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ الْمَعْرُوفِ بِجِوَارِ مَحَطَّةِ مِصْرَ، وَوَقَفَ عَلَى قُبَّتِهِ، ثُمَّ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَنَزَلَ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي يُنْشِئُهَا الْيُونَانِيُّونَ، وَلَمَّا شَاعَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْقَاهِرَةِ، اجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ عِنْدَ الْكَنِيسَةِ، وَصَارُوا يَهْتِفُونَ بِاسْمِ الْمَتْبُولِيِّ، فَفَرَّقَتْهُمُ الشُّرْطَةُ وَالشَّحْنَةُ بِالْقُوَّةِ، وَادَّعَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَتْبُولِيَّ فِيهَا. وَرَوَتْ بَعْضُ الْجَرَائِدِ الْيَوْمِيَّةِ أَنَّ مَجْذُوبًا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبْعِينَ قَالَ: أَنَا الْمَتْبُولِيُّ، فَصَدَّقَهُ النَّاسُ، وَصَارُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ. وَلَوْلَا حَزْمُ الْحُكُومَةِ لَحَدَثَ بَيْنَ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِيِّينَ مِنْ جَرَّاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِتَنٌ سُفِكَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَلَكِنَّ الْحُكُومَةَ تَدَارَكَتْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَتْ شَمْلَ الْجَمَاهِيرِ، وَقَبَضَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَبَسَتْهُمْ. هَذَا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُنَاجُونَ الْأَرْوَاحَ يَرَوْنَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَعَرَّفَ إِلَيَّ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَظَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ، يُخْفِي تَصَوُّفَهُ عَنْ أَقْرَانِهِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَرَى أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ عُلُومًا يَكْتُبُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَأَى عِيسَى وَمَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا

السَّلَامُ - مِرَارًا وَتَلَقَّى عَنْهُمَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ مَرْيَمَ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا وَنَفْخِهِ فِيهَا، فَأَجَابَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوُ مَا يَحْصُلُ بِالزَّوَاجِ مِنَ التَّلْقِيحِ، وَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَرْوَاحِ الَّذِي نَسْمَعُهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ، هَلْ هُوَ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُؤْثَرُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُ حِيَلٌ، وَبَعْضَهُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ مَا عِنْدَنَا وَأَبْعَدُ عَنْهُ بِمَرَاحِلَ. وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ هَذَا الرَّجُلَ بِالْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَتَّهِمُ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ خَيَالِيَّةً أَيْضًا كَرُؤْيَةِ الشَّيْخِ رَاغِبٍ فَهِيَ تُؤَكِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً - وَهِيَ وَلَا شَكَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ - فَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِخَبَرِ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ الْخَيَالِيَّةِ، الْمُقَرَّرِ مِثْلُهَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ. حَاصِلُ الْمَبَاحِثِ وَالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَسِيحِ: حَاصِلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ: أَنَّ قِصَّةَ الصَّلْبِ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَى الْأَفْرَادِ الَّذِينَ رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَأُولَئِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ رَوَوْهَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَأَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ الْآنَ هُوَ بُولِسِ الْيَهُودِيُّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَلَدَّ خُصُومِ أَتْبَاعِهِ خِصَامًا، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نِكَايَتِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ إِلَّا بِدُخُولِهِ فِيهِمْ، فَفَعَلَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الصَّلْبِ، وَرُؤْيَةِ الْمَسِيحِ بَعْدَهُ، فَالَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي تَصْوِيرِهِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ. وَلَا يَرُوعَنَّ الْقَارِئَ الْمُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ هَذِهِ الشُّهْرَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بِانْتِشَارِ النَّصَارَى فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي إِثْبَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ كَوْنَهُ فِي زَمَنِ وُقُوعِهَا، كَمَا ثَبَتَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ حِفْظًا وَكِتَابَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهْرَةَ الْمُنْتَشِرَةَ لِلْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَمْنَعْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ مِنَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ قِصَّتِهِ خَيَالِيَّةً، لَا حَادِثَ الصَّلْبِ وَالْقِيَامِ مِنْهَا فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ فِي بَعْضِ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ، وَفِي (هُومِيروُسَ) شَاعِرِ الْيُونَانِ الَّذِي تُضْرَبُ بِشِعْرِهِ الْأَمْثَالُ، فَهُوَ أَشْهَرُ رَجُلٍ فِي تَارِيخِ أُمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِ تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمَثَلُهُ فِي تَارِيخِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ قَيْسٌ الْعَامِرِيُّ الشَّهِيرُ بِمَجْنُونِ لَيْلَى. ذَكَرَ فِي (الْأَغَانِي) رِوَايَاتٍ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الشِّعْرَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ هُوَ لِبَعْضِ كُبَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، عَزَاهُ إِلَى مَجْهُولٍ تَسَتُّرًا بِعِشْقِهِ. مِثْلُ هَذَا فِي التَّارِيخِ كَثِيرٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عَقْلًا، وَلَكِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ لَا لِذِكْرِهِ فِي أَنَاجِيلِهِمْ، وَكُتُبِهِمْ، فَكَمْ فِي الْكُتُبِ مِنْ قِصَصٍ خَيَالِيَّةٍ مِثْلَ قِصَّتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ

أَثْبَتَ وُجُودَهُ وَنُبُوَّتَهُ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ عِنْدَنَا قَطْعًا، فَنُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ. وَإِنَّ لِي كَلِمَةً قَدِيمَةً أَذْكُرُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي لَمْ أَتَوَسَّعْ فِيهِ، إِلَّا لِرَدِّ هَجَمَاتِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ: إِنَّ إِثْبَاتَ الْقُرْآنِ لِلْمَسِيحِ هُوَ أَقْوَى حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرِي آيَاتِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقْوَى شُبْهَةٍ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يُورِدُهَا الْمَلَاحِدَةُ وَالْعَقْلِيُّونَ مِنَ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ كَوْنُ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ آيَةً، وَأَنَّ اللهَ آتَاهُ آيَاتٍ أُخْرَى - هِيَ أَقْوَى الشُّبَهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ رَدَّهَا سَهْلٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِيمَانِ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا يَشَاءُ. وَمِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - عَدَمُ مُوَافَقَتِهِ لِلنَّصَارَى فِي رِوَايَاتِهِمْ فِي الصَّلْبِ وَالتَّثْلِيثِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمَعْرُوفَةَ، عِنْدَ النَّصَارَى، دَفَعَتْ بَعْضَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقُرْآنِ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (4: 157) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّذِي كَانَ بِدُونِ كَسْرِ عَظْمٍ، وَلَا إِصَابَةِ عُضْوٍ رَئِيسِيٍّ، وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ صَلْبًا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (4: 157) وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ هُوَ الْأَقْرَبُ. وَمِمَّنْ وَلِعَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ الْبُولِسِيَّةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ قِسِّيسٌ مِنْ طَائِفَةِ الرُّومِ الْأُرْثُوذُكْسِ اسْمُهُ (خِرِيسْتُوفُورَسْ جُبَارَهْ) كَانَ بِرُتْبَةِ أَرَشْمِنْدِرِيتْ، وَكَادَ يَكُونُ مُطْرَانًا، فَخَلَعَ ثَوْبَ (الْكَهَنُوتِ) وَطَفِقَ يَدْعُو إِلَى التَّأْلِيفِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ بِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، وَيُؤَلِّفُ الْكُتُبَ فِي ذَلِكَ، يُثْبِتُ فِيهَا التَّوْحِيدَ وَصِدْقَ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ صِحَّةِ الْأَنَاجِيلِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُؤَلِّفَ حِزْبًا، وَإِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُحْسِنُ الظَّنَّ فِيهِ أَيْضًا، وَيَرَى أَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، وَتَمْهِيدٍ لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَظُهُورِ دِينِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ وَدِينُ الْمَسِيحِ وَدِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنَّ الْمُحَالَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ دِينِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَبَيْنَ الدِّيَانَةِ الْبُولِسِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً، وَالْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى عَقِيدَةِ

الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّثْلِيثِ، وَبَيْنَ عَقِيدَةِ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ وَسَعَادَتِهِ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَعَقِيدَةِ نَجَاتِهِ بِإِيمَانِهِ بِلَعْنِ رَبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهَا عَنْ عَبِيدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لِرَبِّهِ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْجَامِعُ الْمُؤَلِّفُ، وَلَكِنْ تَرَكَ دَعْوَتَهُ الْمُنْتَمُونَ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُ لَهُ الْمُخَالِفُ؟ فَدِينُ التَّوْحِيدِ وَالتَّأْلِيفِ لَا يَقُومُ بِدَعْوَتِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَحْمِي دُعَاتَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ أَحَدٌ، وَدِينُ التَّعْدِيدِ وَالْفِدَاءِ تُبْذَلُ لَهُ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَيُسْتَأْجَرُ لِدَعْوَتِهِ الْأُلُوفُ مِنَ الْمُجَادِلِينَ وَالْعَامِلِينَ، وَتَحْمِيهِمُ الدُّوَلُ الْقَوِيَّةُ بِالْمَدَافِعِ وَالْأَسَاطِيلِ. عَلَى أَنَّنَا لَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَكَمَا وَفَّقَ لِتَأْلِيفِ جَمَاعَةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، فَهُوَ الَّذِي يُوَفِّقُ لِمُسَاعَدَتِهَا مَنْ أَرَادَ، وَاللهُ خَلَقَنَا مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِظَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَيَتَنَبَّهُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَعْرِفُوا الْغَرَضَ مِنْ حِرْصِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَنْصِيرِهِمْ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَلَايَا دَعْوَتِهِمْ، وَمَا يَنْشُرُونَ مِنْ صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَيُنْشِئُونَ مِنْ مَدَارِسِهِمْ وَمُسْتَشْفَيَاتِهِمْ، هُوَ إِبْطَالُ ثِقَةِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ، وَحَلُّ الرَّابِطَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا طُعْمَةً لِلطَّامِعِينَ، بَلْ عَبِيدًا لِلطَّامِعِينَ، فَإِذَا انْتَبَهُوا وَفَقِهُوا عَرَفُوا كَيْفَ يَحْفَظُونَ أَنْفُسَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحِفْظِ دِينِهِمْ، وَتَوْثِيقِ رَابِطَتِهِ بَيْنَهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَمْعِيَّاتِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ الَّتِي تُنْشِئُهَا جَمْعِيَّاتُ التَّغْرِيرِ بِالتَّبْشِيرِ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ، بِإِنْشَاءِ خَيْرٍ مِنْهَا لِإِعْلَاءِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْعُمْرَانِ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَجْذِبُونَ إِلَيْهِ مَنْ فِي بِلَادِ أِمِرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ الْأَحْرَارِ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (بَهَاءُ اللهِ الْبَابِيُّ وَمَسِيحُ الْهِنْدِ الْقَادَيَانِيُّ) يَعْلَمُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّتِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَرْفَعُ الْجِزْيَةَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ، وَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحَالُ أَنْ نَذْكُرَ مِنْ ضَرَرِهَا أَنَّهَا - لِانْتِظَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَيَأْسِهِمْ مِنْ إِعَادَةِ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَمَجْدِهِ بِدُونِهَا - قَدْ كَانَتْ مَثَارَ فِتَنٍ عَظِيمَةٍ. فَقَدْ ظَهَرَ فِي بِلَادٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أُنَاسٌ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ السُّلْطَانِ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَغْرَارِ، فَتَجْرِي الدِّمَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جُنُودِ الْحُكَّامِ كَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَكُونُ النَّصْرُ وَالْغَلَبُ لِلْأَقْوِيَاءِ بِالْجُنْدِ وَالْمَالِ، عَلَى الْمُسْتَنْصِرِينَ بِتَوَهُّمِ

التَّأْيِيدِ السَّمَاوِيِّ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدِ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَةَ أَيْضًا أُنَاسٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَصَابَهُمْ هَوَسُ الْوِلَايَةِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْثِيرٌ يُذْكَرُ. كَانَتْ آخِرُ فِتْنَةٍ دَمَوِيَّةٍ مِنْ فِتَنِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِتْنَةُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَكَانَتْ قَبْلَهَا فِتْنَةُ (الْبَابِ) الَّذِي ظَهَرَ فِي بِلَادِ إِيرَانَ، وَأَمْرُهُ مَشْهُورٌ. وَقَدْ بَنَى بَعْضُ أَتْبَاعِهِ عَلَى أَسَاسِ دَعْوَتِهِ بِنَاءً مِنْ أَنْقَاضِ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَكْبَرَ مِنْهَا، ذَلِكَ الْمُدَّعِي هُوَ مِيرْزَا حُسَيْنٌ الْمُلَقَّبُ بِبَهَاءِ اللهِ، ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَبَثَّ دُعَاتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمَا، وَمِمَّا يَدْعُونَ بِهِ النَّصَارَى إِلَى دِينِهِمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَهَاءَ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِتْنَتَهُمْ فِي (الْمَنَارِ) وَرَدَدْنَا عَلَيْهِمْ مِرَارًا، وَظَهَرَ فِي الْهِنْدِ رَجُلٌ آخَرُ سِلْمِيٌّ (بِالطَّبْعِ) ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ (غُلَامٌ أَحْمَدُ الْقَادَيَانِيُّ) الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِ نَبَأَ الْتِجَاءِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى الْهِنْدِ، وَهُوَ إِنَّمَا عُنِيَ بِبَيَانِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ مِنْ مُقَدَّمَاتِ إِثْبَاتِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي نَقَلْتُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي يَدْعُو بِهَا إِلَى نَفْسِهِ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي (الْمَنَارِ) فَهَجَانِي فِي كِتَابٍ آخَرَ، وَتَوَعَّدَنِي بِقَوْلِهِ عَنِّي: " سَيُهْزَمُ فَلَا يُرَى " وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا نَبَأُ وَحْيٍ جَاءَهُ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ كَانَ هُوَ الَّذِي انْهَزَمَ وَمَاتَ. كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَسْتَدِلُّ بِمَوْتِ الْمَسِيحِ وَرَفْعِ رُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا رُفِعَتْ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدَوِيَّةِ مِنْ شِيعَةِ إِيرَانَ (كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ) فِي اسْتِنْبَاطِ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَهُ فِي تَفْسِيرِهَا كِتَابٌ فِي غَايَةِ السَّخَفِ يَدَّعِي أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَجَعَلَهَا مُبَشِّرَةً بِظُهُورِهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ مَسِيحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا فَتَحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذَا الْبَابَ الْغَرِيبَ مِنْ أَبْوَابِ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَتَحْرِيفِ أَلْفَاظِهِ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا إِلَى مَعَانٍ غَرِيبَةٍ لَا تُشْبِهُهَا وَلَا تُنَاسِبُهَا - أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةُ مِنَ الْمَجُوسِ وَأَعْوَانِهِمُ الَّذِينَ وَضَعُوا تَعَالِيمَ فِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَرَاجَتْ حَتَّى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَلِمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْكَلِمِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَالِ لُغَتِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ، وَهُوَ يَجِدُ مِنْ جَاهِلِي اللُّغَةِ وَفَاقِدِي الِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِيِّ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ دَعْوَى. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ يُثْبِتُ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَحْكُمُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ تُخَالِفُ دَعْوَى الْقَادْيَانِيِّ، فَإِنَّ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دِمَشْقَ لَا فِي الْهِنْدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ الَّذِي يَظْهَرُ قَبْلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْكُمُ وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَلَا يَزَالُ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ مَالِئًا الْأَرْضَ، وَنَاهِيكَ بِمَا هُوَ جَارٍ، مِنْهَا، فِي بِلَادِ الْبَلْقَانِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ دُوَلَ الْبَلْقَانِ النَّصْرَانِيَّةَ مَا ظَهَرُوا عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ فِي مَكَانٍ إِلَّا وَأَسْرَفُوا فِي قَتْلِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَنَسْفِ دِيَارِهِمْ بِالدِّينَامِيتِ، أَوْ إِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ،

بَعْدَ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَكُلُّ هَذَا يُعْمَلُ بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ، فَأَيْنَ هُوَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ كَسْرِ الْمَسِيحِ لِلصَّلِيبِ؟ وَمَا كَانَ الْقَادَيَانِيُّ إِلَّا خَاضِعًا لِدَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الصَّلِيبِ، وَلَكِنَّ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ أَنَّهُ لَا يَدْعُوهُمْ أَحَدٌ إِلَى شَيْءٍ مَهْمَا كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، إِلَّا وَيَجِدُ فِيهِمْ مَنْ يُصَدِّقُهُ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ التَّأْيِيدَ بِالْهِدَايَةِ، وَالْحِفْظِ مِنَ الْغِوَايَةِ، آمِينَ. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَالْكُفْرِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. . . . ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَا دُونُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَقَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أَيْ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِظُلْمِ مَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ نُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَلِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَّمْنَاهَا عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ ظُلْمِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَكْبَرَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَ رَبِّهِمْ، وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِالْمَسِيحِ وَبَهْتِهِمْ لِأُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ؟ فَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ بِظُلْمٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَبِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي عَطْفًا عَلَيْهِ زَائِدًا عَنْهُ، أَوْ بَيَانًا لَهُ - يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ الْعَظِيمِ وَالْخِزْيِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْأَكْبَرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الْمَحْذُوفُ لِقَوْلِهِ، تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. فَهُوَ قَدْ حَذَفَ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ، ثُمَّ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيمُ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ.

فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ الْمَحْذُوفَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَخَتَمَ الْآيَاتِ بِذِكْرِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا الطَّيِّبَاتُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (6: 146) الْآيَةَ، هَكَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجْزِمْ بِتَعْيِينِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَا نَكَّرَهُ الْكِتَابُ. وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ) تَفْصِيلُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ قَدْ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلَّ، وَبِإِحْلَالِهَا لِسَلَفِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (3: 93) فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ. وَتَقْدِيمُ فَبِظُلْمٍ عَلَى حَرَّمْنَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الظُّلْمِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، وَقَدْ أَبْهَمَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هُنَا ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السِّيَاقِ الْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا بَيَانُهُ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَبْهَمَ الظُّلْمَ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لَهُ ; لِيَعْلَمَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانًا لَهُ. وَالْعِقَابُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ سَيَأْتِي بَسْطُهَا، وَمِنَ الدُّنْيَوِيِّ: التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ الشَّاقَّةُ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، وَالْجَزَاءُ الْوَارِدُ فِيهَا عَلَى الْجَرَائِمِ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، وَمَا اقْتَضَتْهُ سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، مِنْ كَوْنِ الظُّلْمِ سَبَبًا لِضَعْفِ الْأُمَمِ، وَفَسَادِ عُمْرَانِهَا، وَاسْتِيلَاءِ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَى مُلْكِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُبَيِّنٌ لَهُ - أَيْ لِلظُّلْمِ - وَهُوَ حِينَئِذٍ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى عَامِلِهِ، يُنَافِي الْحَصْرَ إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُغَايِرًا لَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُبَيِّنًا لَهُ فَهُوَ عَيْنُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايَرَةٍ وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الظُّلْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ قُبْحِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَاقْتِضَائِهِ الْعِقَابَ لَا لِلْحَصْرِ، وَقِيلَ إِنَّ (بِصَدِّهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَبِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِلَخْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ أُخْرَى كَالْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا فِي حَادِثَةِ الْقَتِيلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ. وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَعْنَاهُ الْمَنْعُ أَيْ صُدُودُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِمَا كَانُوا يَعْصُونَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُعَانِدُونَهُ، أَوْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

161

بِسُوءِ الْقُدْوَةِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فِي الْإِشْكَالِ وَحَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَنَسُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غِنًى عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ حَتَّى عَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُشْكِلَاتِ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ سَبَبًا لَهَا، وَالسَّبَبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمُسَبِّبِ؟ وَيَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ بِجَعْلِ هَذَا الصَّدِّ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَسَاءَلَ بَعْضُهُمْ: مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَمَتَى كَانَ؟ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَفْهَامِ الضَّعِيفَةِ، وَتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، يُوَلِّدُونَ لَنَا شُبَهًا عَلَى الْقُرْآنِ وَأَصْلِ الدِّينِ، يَنْقُلُهَا الْكَافِرُونَ بِهِ عَنْهُمْ، وَيَطْعَنُونَ بِهَا فِي بَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ، وَالصَّوَابُ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ هُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ غَوَايَةً وَإِغْوَاءً، وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَبِسَبَبِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِنَّمَا تُصَرِّحُ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا مِنْ شَعْبِهِمْ، وَمِنْ إِخْوَتِهِمْ دُونَ الْأَجَانِبِ ; فَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (22: 35 إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا) وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ) (25: 35 وَإِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ، فَاعْضُدْهُ غَرِيبًا أَوْ مُسْتَوْطِنًا فَيَعِيشُ مَعَكَ 36 لَا تَأْخُذْ مِنْهُ رِبًا وَلَا مُرَابَحَةً. بَلِ اخْشَ إِلَهَكَ فَيَعِيشُ أَخُوكَ مَعَكَ 37 فِضَّتَكَ لَا تُعْطِهِ بِالرِّبَا، وَطَعَامَكَ لَا تُعْطِهِ بِالْمُرَابَحَةِ) وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (23: 19 لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا ; رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا 20 لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلَكِنْ لِأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا) . وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ نُسْخَةَ مُوسَى فُقِدَتْ بِإِجْمَاعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذِهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ، وَثَبَتَ تَحْرِيفُهَا بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ " لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا " قَدْ أَخَذَهَا الَّذِي كَتَبَ التَّوْرَاةَ - عِزْرَا أَوْ غَيْرُهُ - مِنْ مَفْهُومِ الْأَخِ ; لِأَنَّهُ كَتَبَ مَا حَفِظَ مِنْهَا بِالْمَعْنَى. وَهَذَا مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ قَدْ أَطْلَقُوا ذَمَّ الرِّبَا، وَالنَّهْيَ عَنْهُ إِطْلَاقًا، فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَا بِإِخْوَتِهِمْ ; كَقَوْلِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْمَزْمُورِ الْخَامِسِ عَشَرَ: وَهُوَ الرَّابِعُ عَشَرَ، فِي نُسْخَةِ الْجِزْوِيتْ: " وَفِضَّتُهُ لَا يُعْطِيهَا بِالرِّبَا وَلَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ مِنَ الْبَرِيءِ " وَكَقَوْلِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي سِفْرِ الْأَمْثَالِ: (28: 8 الْمُكْثِرُ مَالَهُ بِالرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ، فَلِمَنْ يَرْحَمُ الْفُقَرَاءَ يَجَمَعُهُ) وَقَوْلِ حَزْقِيَالَ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ الرَّبُّ فِي صِفَاتِ الْبَارِّ: (18: 7 بَذَلَ خُبْزَهُ لِلْجَوْعَانِ، وَكَسَا الْعُرْيَانَ ثَوْبًا، وَلَمْ يُعْطِ بِالرِّبَا،

وَلَمْ يَأْخُذْ مُرَابَحَةً) وَشَرِيعَةُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ التَّوْرَاةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا إِطْلَاقَ تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْهَا. وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ آخَرَ شَيْئًا بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَقَدْ أَكَلَهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِالْمُقَابِلِ إِذَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ بَذْلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذِهِ الذُّنُوبِ بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ جَزَائِهَا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا عَذَابَ النَّارِ الْمُؤْلِمِ أَعْتَدْهُ اللهُ: أَيْ هَيَّأَهُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِأَيِّ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنَ اللهُ حَالَهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ. لَمَّا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِ الْيَهُودِ وَكُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ مَا ذَكَرَ عَنْهُمْ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ، جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ عَقِبَهُ فِي بَيَانِ حَالِ خِيَارِهِمْ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبْ عَمَى التَّقْلِيدِ بِبَصِيرَتِهِمْ، وَهُوَ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَيْ: لَكِنْ أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِالدِّينِ مِنَ الْيَهُودِ، الْآخِذُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ دُونَ التَّقْلِيدِ، الرَّاسِخُونَ أَيْ: الثَّابِتُونَ فِيهِ ثَبَاتَ الْأَطْوَادِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ مِنْ أُمَّتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا إِيمَانَ دَعْوَى وَعَصَبِيَّةٍ وَجَدَلٍ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْمُقَلِّدَةِ فِي كُلِّ الْمِلَلِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي الْقُرْآنِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ: اسْتَثْنَى اللهُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّ اللهِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، حِينَ فَارَقُوا يَهُودَ وَأَسْلَمُوا. وَمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً تَامَّةً ظَاهِرٌ يُسِيغُهُ الْفَهْمُ بِغَيْرِ غُصَّةٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ الذِّهْنَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا كَبْوَةٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُونَ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لَا خَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ جُمْلَةُ " أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ " فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَاجَعْتُ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تِقَدَّمَ فَإِذَا هُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا هُوَ

162

يُفَسِّرُ الرَّاسِخِينَ بِالْمُسْتَدِلِّينَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْرَدَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هُمْ وَمُؤْمِنُو الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا قولُهُ، تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَ " الْمُقِيمِينَ " فِيهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الْمَدْحِ، عَلَى مَا قَالَهُ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُمْ أَجْدَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الْعِنَايَةِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَالنُّكْتَةُ هُنَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ مَزِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَوْنِ إِقَامَتِهَا آيَةَ كَمَالِ الْإِيمَانِ. عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَمْثَالِهَا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، وَيَهْدِي الْفِكْرَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ مَزِيَّتِهَا، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ، وَنَظِيرُهُ فِي النُّطْقِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُتَكَلِّمُ جَرَسَ صَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةَ أَدَائِهِ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَنْبِيهَ الْمُخَاطَبِ لَهَا ; كَرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ خَفْضِهِ أَوْ مَدِّهِ بِهَا، وَقَدْ عَدَّ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ أَوِ الْمُتَجَاهِلِينَ مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ (21: 73) أَيْ: إِقَامَتُهَا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (37: 165، 166) وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (21: 20) وَالْإِيمَانُ بِهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ كَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْلَغُ عِبَارَةً، وَإِنْ عَدَّهُ الْجَاهِلُ أَوِ الْمُتَجَاهِلُ غَلَطًا أَوْ لَحْنًا، وَرُوِيَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعَةٌ (وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَرَأَهَا مَرْفُوعَةً ; كَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ كَانَتْ قِرَاءَةً، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ السَّخَاوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَفِي سَنَدِهَا اضْطِرَابٌ وَانْقِطَاعٌ ; فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ مَا هُنَا مِنْ ذَلِكَ اللَّحْنِ ; لِأَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، رَاجَعْتُ الْكَشَّافَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَسَرَهُ سِيبَوَيْهَ عَلَى أَمْثِلَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْصُرُهُ فِي الْكِتَابِ أَيْ كِتَابِ سِيبَوَيْهَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ

وَمَا لَهُمْ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ الِافْتِنَانِ، وَغُبِّيَ عَلَيْهِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ. اهـ. وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَطْفًا عَلَى الرَّاسِخُونَ وَعَلَى ضَمِيرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أَوْ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِثْلَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِالتَّبَعِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتُزَكِّي نَفْسَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَالُهُ، وَقَدْ قَالَ، تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (70: 19 - 22) إِلَخْ. وَقَدْ يَرِدُ هَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَبْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الْإِيمَانَ غُفْلًا مُطْلَقًا، أَوْ ذُكِرَتْ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (18: 107) وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ وَكَقَوْلِهِ: إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (2: 62) وَالْجَوَابُ: أَنِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ ; الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ لَا الْأَهَمُّ فِي ذَاتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ الْمُفَاخِرِينَ بِدِينِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (4: 124) بَعْدَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَالسِّيَاقُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ، لَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْفَخْرِ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ بَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ الْمُهِمُّ أَوَّلًا بَيَانَ إِيمَانِ خِيَارِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الْإِيمَانِ إِذْعَانِيًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاكْتَفَى مِنْهُ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِوَصْفِهِمْ بِأَوَّلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ; أَيْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ سَنُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا، لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.

163

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَكَانَ أَوَّلُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِمْ، وَيُصَرِّحُونَ بِالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا عَيْنُ الْكَفْرِ، وَإِيمَانٌ يُتَّبَعُ فِيهِ الْهَوَى لَيْسَ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَعْنَى رِسَالَتِهِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ عِنَادِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَإِعْنَاتِهِمْ وَسُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَبَيَّنَ لَهُ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ شَاغَبُوا مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَبْلِهِ، وَسَأَلُوهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبَهَتُوا أُمَّهُ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ، فَلَيْسَ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ نَاشِئًا عَنْ عَدَمِ وُضُوحِ الدَّلِيلِ. بَلْ عَنْ عِنَادٍ أَصِيلٍ وَهَوًى دَخِيلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَمَا شَاغَبُوكَ بِهَذَا الْقَالِ وَالْقِيلِ ; لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ أَوْضَحُ دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا مِمَّا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِمِثْلِهِ مِمَّنْ قَبْلَكَ ; وَلِهَذَا نَاسَبَ أَنْ يَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ، وَيُمَهِّدَ لِلْكَلَامِ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى بِبَيَانِ أَنَّ الْوَحْيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَهْمِ وَالْبَصِيرَةِ لَمَا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْإِرَادَةِ

الْمُطْلَقَةِ اللَّائِقَةِ بِمَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، قَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، الَّذِينَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِمْ هَؤُلَاءِ النَّاسُ، وَلَمْ نُنَزِّلْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَمِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا سَأَلُوكَ لِلتَّعْجِيزِ وَالْعِنَادِ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْلَامِ السَّرِيعِ الْخَفِيِّ، وَمَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْحِسِّيِّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ رُوحِيٌّ، يُعِدُّ اللهُ لَهُ النَّبِيَّ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (42: 52) . الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (19: 11) وَعَلَى الْإِلْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (27: 7) وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ، تَعَالَى. وَعَلَى مَا يَكُونُ غَرِيزِيَّةً دَائِمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ (16: 68) وَعَلَى الْإِعْلَامِ فِي الْخَفَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُعْلِمَ إِنْسَانًا بِأَمْرٍ تُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ (6: 112) وَأُطْلِقَ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ ; لِمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ التَّخْصِيصِ. وَوَحْيُ اللهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ هُوَ: مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي يُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَعَدَّ أَرْوَاحَهُمْ لِتَلَقِّيهِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمَلِكِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَرَّفَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّهُ: " عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يَتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى؟ وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ ". ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ إِمْكَانِهِ وَوُقُوعَهُ فِي فَصْلَيْنِ لَمْ يَنْسِجْ أَحَدٌ عَلَى مِنْوَالِهِمَا. بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ (وَقِصَّةُ بَعْثَتِهِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّمَاتُهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ. ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِالذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَقَامِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ ; فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ الْكِرَامِ، فَمُجْمَعٌ عَلَى فَضْلِهِ وَنُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا، وَكُلُّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَاشْتُهِرَ بِلَقَبِ (إِسْرَائِيلَ) فَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيُسَمَّوْنَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ مِنْ نَسْلِ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَأَمَّا الْأَسْبَاطُ فَجَمْعُ سِبْطٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا، فَكُلُّ نَسْلٍ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةِ، وَوَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا (إِفْرَايِمْ وَمَنْسَى) يُسَمَّى سِبْطًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْأَسْبَاطَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةُ آبَاءُ الْأَسْبَاطِ الْأُخْرَى فَهُمْ: 1 - رُؤْبِينُ (بِالْهَمْزَةِ، وَيُخَفَّفُ فَيُقَالُ رُوبِينُ) وَتَصَرَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَالُوا رُوبِيلُ. 2 - شَمْعُونُ 3 - يَهُوذَا 4 - يَسَاكِرُ 5 - زَبُولُونُ 6 - بِنْيَامِينَ 7 - دَانَ 8 - نَفْتَالِي 9 - جَادُ 10 - أَشِيرُ. فَسُلَالَةُ هَؤُلَاءِ مَعَ سُلَالَةِ ابْنَي يُوسُفَ هُمُ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا. وَأَمَّا سُلَالَةُ (لَاوِي) الِابْنِ الثَّالِثِ لِيَعْقُوبَ فَلَمْ تُجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ نِيطَ بِهِمْ خِدْمَةٌ دِينِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَلَهُمْ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَسْبَاطِ: الْوَحْيُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهِمْ، وَخُصَّ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ أَشْهَرُ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ لَهُمْ كُتُبًا يُهْتَدَى بِهَا، وَمَا كُلُّ نَبِيٍّ يُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ مُرْسَلًا وَلَهُ كِتَابٌ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَسْبَاطَ هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلُوا الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَكَوْنَهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَعَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ كَيْدِهِمْ لِأَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَكَذِبِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّينَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَرْضَى هَذَا مِنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا. وَهُمْ يَقُولُونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ خَاصًّا بِالرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْأَسْبَاطِ عَلَى أَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ خَاصَّةً غَلَطٌ، وَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا حَاجَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ. وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا أَيْ وَكَمَا أَعْطَيْنَا دَاوُدَ كِتَابًا خَاصًّا مَزْبُورًا، أَيْ مَكْتُوبًا، فَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ، كَالرُّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الزَّايِ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَزْنُ مُفْرَدِهِ، وَوَزْنُهُ (كَعِرْقٍ وَعُرُوقٍ) أَوْ (فِلْسٍ وَفُلُوسٍ) وَقِيلَ جَمْعُ زَبُورٍ بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِمَعْنَى كِتَابٍ وَمَكْتُوبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَحْيِ، لِأَنَّ لِزَبُورِ دَاوُدَ شَأْنًا خَاصًّا فِي كُتُبِ الْوَحْيِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ مُوَافِقٌ لِنَسَقِ الْفَوَاصِلِ ; فَائْتَلَفَ بِهِ اللَّفْظُ مَعَ الْمَعْنَى، فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً وَحُسْنًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أَيْ وَأَرْسَلْنَا غَيْرَ هَؤُلَاءِ رُسُلًا آخَرِينَ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الْمَسْرُودَةُ أَسْمَاؤُهُمْ، أَوِ الْمُبَيَّنَةُ قِصَصُهُمْ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَأَجْمَعُ الْآيَاتِ لِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي

164

سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (6: 84 - 86) وَأَجْمَعُ السُّوَرِ لِقَصَصِهِمْ " هُودٌ " وَ " طسم الشُّعَرَاءُ " وَمِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أَيْ كَالْمُرْسَلِينَ إِلَى الْأُمَمِ الْمَجْهُولِ عِلْمُهَا وَتَارِيخُهَا، عِنْدَ قَوْمِكَ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِكَ، كَأُمَمِ الشَّرْقِ: الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَالْهِنْدِ، وَأُمَمِ بِلَادِ الشَّمَالِ: أُورُبَّةَ، وَأُمَمِ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ: أَمِرِيكَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُصَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ خَبَرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ ; لِأَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَفَوَائِدَ بَيَانِ قَصَصِهِمْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَتَحَقَّقُ بِقِصَصِ أُولَئِكَ الْمَجْهُولِ حَالُهُمْ وَحَالُ أُمَمِهِمْ، عِنْدَ قَوْمِهِ وَجِيرَانِ بَلَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ، تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (12: 111) وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (11: 120) وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطَّوْرِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (28: 44 - 46) فَالْعِبْرَةُ وَالتَّثْبِيتُ وَالذِّكْرَى وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي قَصَصِ مَنْ ذَكَرَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ دُونَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، وَحَسْبُنَا الْعِلْمُ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ الرُّسُلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، فَكَانَتْ رَحْمَتُهُ بِهِمْ عَامَّةً، لَا مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ مُعَيَّنٍ احْتَكَرَهَا لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ، غَيْرَ مُبَالِينَ بِكَوْنِهِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ وَلَا يَنْطَبِقُ عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (16: 36) وَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (35: 24) وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالدِّينِ السَّمَاوِيِّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُشَاغِبُوهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُقْتَبَسٌ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَلَكِنْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا نَخُوضُ فِي إِحْصَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ; فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ. وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا خَاصًّا مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ الْعَامِّ لِأُولَئِكَ

165

النَّبِيِّينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ التَّعْبِيرُ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِيتَاءِ دَاوُدَ الزَّبُورَ. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ تَكْلِيمًا، وَالتَّكْلِيمُ لَهُمْ وَحْيًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ (42: 51) وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ وَحْيًا فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (20: 13) إِلَخْ. أَمَّا حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّكْلِيمِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَخُوضَ فِيهِ ; لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَلَامِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَوَاءِ مُتَكَيِّفَةً بِهِ، وَهِيَ أَعَمُّ الْوَسَائِطِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا الْحِجَابُ فَحِكْمَتُهُ: حَصْرُ الْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ تَتَّحِدُ فِيهِ هُمُومُهَا وَأَهْوَاؤُهَا الْمُتَفَرِّقَةُ، كَمَا كَانَ شَأْنُ مُوسَى إِذْ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللهُ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هُنَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ (2: 253) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَلِمَةَ (تَكْلِيمًا) الْمُؤَكِّدَةَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ مَجَازِيًّا، فَإِنَّ الْفَرَّاءَ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا وَصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ مَا لَمْ يُؤَكَّدْ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا أُكِّدَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ نَفْسُهُ مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنِدَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ بِمِثْلِهِ إِلَى الْمُبَلِّغِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا يُبَلِّغُ عَنِ الْمَلِكِ حَاجِبُهُ أَوْ وَزِيرُهُ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ الْمُحَجَّبَةِ زَوْجُهَا أَوْ وَلَدُهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُ إِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى التُّرْجُمَانِ ; إِذِ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّكْلِيمِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ التُّرْجُمَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِسَالَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا. وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُمْ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ; كَقَوْلِ هِنْدِ بِنْتِ النُّعْمَانِ فِي زَوْجِهَا رُوحِ بْنِ زِنْبَاعَ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: بَكَى الْخَزُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِفُ فَأَكَّدَتْ " عَجَّتْ " مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْمَطَارِفَ جَمْعُ مِطْرَفٍ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَهُوَ رِدَاءٌ لَهُ خَزٌّ لَهُ أَعْلَامٌ لَا تَعِجُّ (وَالْعَجِيجُ: الصِّيَاحُ) . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ أَرْسَلْنَا أُولَئِكَ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ وَأَجْرَمَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا وَأَجْرَمُوا إِلَّا لِجَهْلِهِمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (20: 134)

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (28: 47) ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (28: 59) وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (17: 15) وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (6: 155 - 157) . الْمُتَبَادِرُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْأَخِيرُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ الْوَعِيدُ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، وَالتَّهْدِيدُ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (6: 158) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، أَوْ بِالْمَوْتِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَيَعْقُبُ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ قَطْعَ حُجَّةِ النَّاسِ وَاعْتِذَارِهِمْ بِالْجَهْلِ، عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَيَقْضِي بِعَذَابِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْلَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَكَانَ لِلنَّاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى عَذَابِهَا وَعَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي كَانَ أَصَابَهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ مُؤَاخَذَةِ اللهِ النَّاسَ وَتَعْذِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْهِدَايَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَكُلِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَلَمَّا كَانُوا شِيَعًا تَتَعَصَّبُ كُلُّ شِيعَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ يُنْسَبُ إِلَى عَمِيدٍ مِنْهُمْ قَدَّسُوهُ بِإِشْهَارِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ صَارَتْ كُلَّ شِيعَةٍ تَلْتَمِسُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤَيَّدُ مَذْهَبَهَا وَتُؤَوِّلُ مَا يَنْقُضُهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ آيَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا الْعَقْلُ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَلَا يَجِدُ أَبْرَعُ الْمُؤَوِّلِينَ وَالْمُحَرِّفِينَ مَنْفَذًا لِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الرُّسُلِ الْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ، الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ الْوَحْيِ، وَقَصَّ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ بَعْضَهُمْ، وَذَكَرَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْقَصَصِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ الْعَقْلُ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُهُ الَّذِي جُنَّ فِي مَذْهَبِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَمَا الْمَجَانِينُ فِي ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، وَكَيْفَ وَالتَّقْلِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِمَا يُعْزَى إِلَى الْمَذْهَبِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ تَعْجِزُ

عُقُولُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ عُلَمَائِهِمْ دُونَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ! . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ اتَّبَعَ النَّاسُ مَذَاهِبَهُمْ فِي التَّكْلِيفِ، هَلْ يَتَوَقَّفُ كُلُّهُ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِالْعَقْلِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ إِيمَانٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ كُفْرٌ وَلَا جُرْمٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ قَامَتْ بِهَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ فَحَسْبُ، وَلَا يُجَازَى إِلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لَا يَتَعَدَّى مَا جَاءُوا بِهِ لِمَنْ بَلَغَتْهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ بِعَقْلِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَقُبْحَهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ الْحَسَنَ وَيَتْرُكَ الْقَبِيحَ، وَاللهُ - تَعَالَى - يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ، كَمَا يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا: أَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهُدَى الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يُعَذِّبَ الْأُمَمَ التَّعْذِيبَ السَّمَاوِيَّ الْعَامَّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فُكَلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (29: 40) إِلَّا إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَكَذَّبُوهُ، وَسُنَّتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْذِيبِ مُبِيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَأْخُذُ بِهِ كُلَّ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، بَلْ مَنْ أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَتَمَادَوْا فِي عِنَادِ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَمَنْ أَخَذَ الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ، وَفَقِهَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الدِّينَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، بَلْ يُعْرَفُ بِالْوَحْيِ، وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي عَالَمِ الْقُدُسِ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ، يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّرْكِ جَزَاءٌ وَضْعِيٌّ يُحَدِّدُهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا الْجَزَاءُ خَاصٌّ بِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ تَدْسِيَتُهَا. وَتَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَهْدِي إِلَيْهِ تَأْثِيرٌ فِطْرِيٌّ ذَاتِيٌّ. فَكُلُّ مَنِ اهْتَدَى بِهَا زَكَتْ نَفْسُهُ بِقَدْرِ اهْتِدَائِهِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولًا جَاءَ بِهَا، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا، فَكُلُّ مَنْ تَلَوَّثَتْ بِهَا نَفْسُهُ فَسَدَتْ وَسَفُلَتَ، وَالْأَصْلُ فِي

166

هَذَا وَذَاكَ الْإِخْلَاصُ فِي إِيثَارِ مَا يَعْتَقِدُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِ، فَكَمَا دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُمْ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّتُهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَضْعِيٌّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الْوَضْعِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ تَدُلُّ آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، فَمَنْ دَسَّى نَفْسَهُ وَأَبْسَلَهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَسْلَمَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَاقِلٌ: إِنَّ نُفُوسَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَكُونُ سَوَاءً مَهْمَا اخْتَلَفَتْ عَقَائِدُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَإِدْرَاكِ الْحِسِّ، إِذْ لَمْ تُوجَدْ وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ إِلَّا وَفِيهَا الصَّالِحُونَ وَالطَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ، وَالَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهُدَى عَلَى دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْعَكْسُ. فَهَلْ يَكُونُ الْفَرِيقَانِ عِنْدَ الْحُكْمِ الْعَدْلِ سَوَاءً؟ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (5: 100) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (11: 24) . لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ شَهَادَتِهِمْ بِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِوُضُوحِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْمُبَاهَتَةَ وَالْمُكَابَرَةَ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِيمَانِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ يُثْبِتُ دَعْوَاهُ وَيَكُونُ شَاهِدًا لَهُ مُقْنِعًا لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ جَارٍ عَلَى شَنْشَنَتِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ وَحْيَهُ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ جِنْسِ وَحْيِهِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيَشْهَدُونَ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ فِي نَفْسِهِ، لَا يَشْهَدُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانُوا يَشْهَدُونَ لِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، لَكِنَّ اللهَ يَشْهَدُ لَكَ بِهِ، فَإِنَّهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَيْكَ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (42: 52) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (29: 48) فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، مِنْ مَزْجِ هَذِهِ الْعُلُومِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَزْجًا دَقِيقًا يُؤَلِّفُ بَيْنَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ مِنْهَا أَعْلَى الْمَوْضُوعَاتِ ; كَالْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَدْنَى كَشُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ آيَاتِهِ كَالْكَثِيرِ مِنْهَا مُؤَثِّرًا فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَغْذِيَتِهَا بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْأَرْوَاحِ بِهِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُقِ وَالتَّصَادُقِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، عَلَى كَثْرَةِ عُلُومِهِ وَتَشَعُّبِ

فُنُونِهِ، هُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا الْبَارِزَةِ فِي أَعْلَى حَالِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، مُثْبِتٌ لِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ وَبِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَصَائِصَ وَالْمَزَايَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ، فَضْلًا عَنْ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَوَصَلَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا مِمَّا دُونَهُ مِنْ مَظَاهِرِ فَصَاحَةِ قَوْمِهِ ; كَالشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَفُحُولِ الْبَلَاغَةِ الْمُقَرَّمِينَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: مَاذَا يَضُرُّكَ جُحُودُ الْيَهُودِ وَعَدَمُ شَهَادَتِهِمْ لَكَ، وَاللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ أَيَّدَ شَهَادَتَهُ لَكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ هَذَا الْقُرْآنَ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُثْبِتًا لِحَقِيَةِ نَفْسِهِ وَكَوْنِهِ أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، بِأَقْوَى مِنْ إِثْبَاتِ الدَّعَاوَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالشَّهَادَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَيُؤَيِّدُهَا كَذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِتَصْدِيقِ مَا أَنْزَلَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ لَكَ بِالْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَوَعِيدِ مَنْ عَادَوْكَ بِالْخِذْلَانِ وَالْخُسْرِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ إِلَيْكَ هُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْهُمْ، أَنْتَ تَرَاهُ وَتَتَلَقَّى عَنْهُ لَا رَيْبَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ يُؤَيِّدُكَ بِجُنْدٍ مِنْهُمْ يَنْفُخُونَ رُوحَ التَّثْبِيتِ وَالسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (8: 12) وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَثَبَتَتْ بِهِ شَهَادَةُ مَلَائِكَةِ اللهِ عِنْدَ نَبِيِّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْبَارِ اللهِ، وَبِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ صِدْقِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا فَشَهَادَتُهُ أَصْدَقُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (6: 19) . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.

167

لَقَدْ تَجَلَّتْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحُجَّةُ، وَتَضَاءَلَ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ الْيَهُودُ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شُبْهَةٍ، فَثَبَتَتْ هَذِهِ النُّبُوَّةُ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى صَدِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يُنْذِرُهُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، سُوءَ الْعَاقِبَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَصِيرَهُمْ مِنَ الْهَاوِيَةِ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَحَمَلُوا غَيْرَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ وَتَمْوِيهِ الشُّبْهَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا بِسَيْرِهِمْ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ سَيْرًا حَثِيثًا، بَعُدُوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بُعْدًا شَاسِعًا حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ مَا اتَّصَفَتْ بِهِ مِنَ الْوُضُوحِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى خَيْرِ الْعَاقِبَةِ وَمَرْسَى السَّلَامَةِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَقُبْحِ عَمَلِهِمْ، وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِإِغْوَائِهِمْ إِيَّاهُمْ بِزُخْرُفِ قَوْلِهِمْ وَسُوءِ سِيرَتِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يُؤَثِّرَانِ فِي النَّفْسِ وَيُكَيِّفَانِهَا بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الظُّلْمَةِ وَفَسَادِ الْفِطْرَةِ، لَا يَزُولَانِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَأْثِيرِ عَقَائِدِهَا وَأَعْمَالِهَا فِيهَا، إِلَّا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ وَيُطَهِّرُهَا فَتَنْشَأُ خَلْقًا جَدِيدًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ; أَيْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِمْ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَهِيَ تِلْكَ الْهَاوِيَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ يُدَسِّي نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَوْغَلُوا فِي السَّيْرِ فِيهَا طُولَ عُمُرِهِمْ، كَالَّذِي يَهْبِطُ الْوَادِيَ يَكُونُ مُنْتَهَى شَوْطِهِ قَرَارَةُ ذَلِكَ الْوَادِي لَا قِمَّةَ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلَاءِ، كَانْتِظَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَالنَّقِيضِ مِنَ النَّقِيضِ، أَوِ انْتِظَارِ إِبْطَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَنَقْضِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، لَا مَا يَزْعُمُهُ الْقَائِلُونَ بِالْجَبْرِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَقَطْ، وَلَا مَا يَزْعُمُهُ خُصُومُهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، عَلِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِلَّا وَجَبَ تَقْيِيدُ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِ طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَا حَمَلَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ إِلَّا غَفْلَتُهُمْ عَنْ كَوْنِ هَذَا هُوَ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ فِي

168

الْآخِرَةِ، وَظَنَّهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَخْ. هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، لِعَدَمِ تَطْبِيقِ مِثْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَاطِّرَادِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ. وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوهَا، قَالَ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ يَدْخُلُونَهَا وَيَذُوقُونَ عَذَابَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ أَبَدًا يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ الْخُلُودُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، أَمَّا مَعْنَى الْخُلُودِ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: بَقَاءُ الشَّيْءِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا تَغَيُّرٌ وَلَا فَسَادٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ (حِجَارَةِ الْمَوْقِدِ) خَوَالِدُ، قَالَ: (وَذَلِكَ لِطُولِ مُكْثِهَا، لَا لِدَوَامِ بَقَائِهَا) وَفَسَّرَ الْخُلْدَ فِي " اللِّسَانِ " بِدَوَامِ الْبَقَاءِ فِي دَارٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى الدَّائِمَةِ فِي الْعُرْفِ: مَا يُقَابِلُ السُّكْنَى الْمُؤَقَّتَةَ الْمُتَحَوِّلَةَ كَسُكْنَى الْبَادِيَةِ، فَالَّذِينَ لَهُمْ بُيُوتٌ فِي الْمُدُنِ يَسْكُنُونَهَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَخَلَدَ بِالْمَكَانِ يَخْلُدُ خُلُودًا، مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَأَخْلَدَ: أَقَامَ، وَخَلَدَ - كَضَرَبَ وَنَصَرَ - خُلْدًا وَخُلُودًا: أَبْطَأَ عَنْهُ الشَّيْبُ. وَمَنْ كَبِرَ وَلَمْ يَشِبْ أَوْ لَمْ تَسْقُطْ أَسْنَانُهُ يُقَالُ لَهُ الْمُخَلَّدُ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْغَرْقَدِ ... كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخَلَّدِ وَالْأَبَدُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا يَتَجَزَّأُ الزَّمَانُ، وَتَأَبَّدَ الشَّيْءُ: بَقِيَ أَبَدًا، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً " وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " الْأَبَدُ: الدَّهْرُ. وَفِيهِ تَسَاهُلٌ، وَقَالُوا فِي الْمَثَلِ: " طَالَ الْأَبَدُ عَلَى لُبَدٍ " يُضْرَبُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَا قَدُمَ، وَقَالُوا: أَبَدَ بِالْمَكَانِ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - أُبُودًا: أَقَامَ بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ بِمَعْنَى اللَّانِهَايَةِ يَدُورُ فِي كَلَامِهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ سَهْلًا عَلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَا يَسْتَعْصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ وَلَا مَفَرَّ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقِرٌّ. يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ نَادَى اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ النَّاسِ فِي سِيَاقِ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَبِالْأَوْلَى تَقُومُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَكِتَابِهِمْ، وَذَكَرَ الرَّسُولَ هَهُنَا مُعَرَّفًا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بُشِّرُوا بِهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ، بِعُنْوَانِ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْكَامِلُ، الَّذِي هُوَ الْمُتَمِّمُ الْخَاتَمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا

170

يَنْتَظِرُونَ مِنَ اللهِ مَسِيحًا وَنَبِيًّا بَشَّرَ بِهِمَا أَنْبِيَاؤُهُمْ، مَا جَاءَ فِي أَوَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بَعْضَ الْكَهَنَةِ وَاللَّاوِيِّينَ إِلَى يُوحَنَّا (يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِيَسْأَلُوهُ مَنْ هُوَ. وَكَانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ فَسَأَلُوهُ أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا. وَالشَّاهِدُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ النَّبِيَّ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ وَنَصَارَاهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ تَذْكُرُ مَجِيءَ الرَّسُولِ الْمُعَرَّفِ بِصِيغَةِ التَّحْقِيقِ، قَدْ فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ (وَهُوَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) وَعِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ (وَسَيَأْتِي شَاهِدٌ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ يَفْهَمْ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الرُّسُلِ لِظُهُورِ نُبُوَّتِهِ، وَنُصُوعِ حُجَّتِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ جَاءَ النَّاسَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِمْ: أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ بَيَانٍ لِلْحَقِّ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةَ لَهُ، وَاخْتِيَارُ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِيلُ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ نُفُوسِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَآمِنُوا، فَإِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ ; لِأَنَّهُ يُزَكِّيكُمْ وَيُطَهِّرُكُمْ مِنَ الْأَدْنَاسِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، هَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَتِلْمِيذُهُ سِيبَوَيْهِ فَيُقَدِّرَانِ: وَاقْصِدُوا بِالْإِيمَانِ خَيْرًا لَكُمْ، أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَآمِنُوا إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ كُفْرُكُمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ عَمَلِكُمْ ; لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَعَبِيدًا، وَكُلٌّ يَعْبُدُهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَمَّا عِبَادَةُ الْكَرْهِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَبِالْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى مَا لَيْسَ لَهُ إِدْرَاكٌ وَلَا عَقْلٌ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الِاخْتِيَارِ، فَخَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ جُنُودِ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ وَكَانَ شَأْنُهُ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ وَالْحِكْمَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي إِيمَانِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، وَلَا يَعْدُو حِكْمَتَهُ أَمْرُ جَزَائِكُمْ، وَحَاشَا عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ عَبَثًا، وَأَنْ يَتْرُكَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، كَلَّا إِنَّهُ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَطُوبَى لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

171

يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى خَاصَّةً بَعْدَ مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ غَلَتِ الْيَهُودُ فِي تَحْقِيرِ عِيسَى وَإِهَانَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَفَرَّطُوا كُلَّ التَّفْرِيطِ، فَغَلَتِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ وَتَقْدِيسِهِ فَأَفْرَطُوا كُلَّ الْإِفْرَاطِ، فَلَمَّا دَحَضَ - تَعَالَى - شُبُهَاتِ أُولَئِكَ قَفَّى بِدَحْضِ شُبُهَاتِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فَتَتَجَاوَزُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَكُمْ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، كِلَاهُمَا مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ وَضْعِهِ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيِ الثَّابِتَ الْمُتَحَقِّقَ فِي نَفْسِهِ، إِمَّا بِنَصٍّ دِينِيٍّ مُتَوَاتِرٍ، وَإِمَّا بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَزَاعِمِكُمْ فِي الْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْهُمَا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَعِبَادَةِ الْمَالِ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِ الْأَرْضِ عَلَى مَلَكُوتِ

السَّمَاءِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَبَشَّرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْأَرْوَاحِ وَحُقُوقِ الْأَجْسَادِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ وَهُوَ تَحْقِيقُ كَلِمَتِهِ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ وَمِصْدَاقُهَا، وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَشَّرَهَا بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا زَكِيًّا، فَاسْتَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَهِيَ عَذْرَاءُ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهَا: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3: 47) فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْوِينِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - عِنْدَ إِرَادَتِهِ خَلْقَ الشَّيْءِ وَإِيجَادَهُ، وَقَدْ خَلَقَ الْمَسِيحَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا وُجُوهٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 250 مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ) وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْكَلَامِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَتَاعِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ (16: 86، 87) وَمَعْنَاهُ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ، فَلَمَّا عَبَّرَ اللهُ عَنِ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِالْكَلِمَةِ حَسُنَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ أَوْصَلَهَا إِلَيْهَا وَبَلَّغَهَا إِيَّاهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (2: 253) وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (58: 22) . (وَثَانِيهِمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخٍ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أُمِّهِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا (21: 91) وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهَا: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (19: 17) كَمَا قَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ بَدْئِهِ مِنْ طِينٍ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (32: 8، 9) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا النَّفْخُ أَيْ نَفَخَ الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللهِ فِي مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى النَّفْخِ وَالنَّفَسِ الَّذِي يُنْفَخُ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي إِضْرَامِ النَّارِ: فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ وَاجْعَلْهَا لَهَا فَيْئَةً قَدْرَا وَالرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمِ الرِّيحِ (وَأَصْلُ الرِّيحِ رِوْحٌ بِالْكَسْرِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَ الْكَسْرَةَ، وَجَمْعُهُ أَرْوَاحٌ، وَأَصْلُ هَذَا رِوَاحٌ بِالْكَسْرِ) كَمَا أَنَّ اسْمَ النَّفْسِ بِسُكُونِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُوحٌ مِنْهُ الْأَمْرَانِ مَعًا ; أَيْ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخِ الْمَلَكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالرُّوحِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، فِي أُمِّهِ نَفْخًا كَانَ كَالتَّلْقِيحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَانَ

مُؤَيَّدًا بِهَذَا الرُّوحِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ; وَلِذَلِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَظَهَرَتْ آيَاتُ اللهِ فِيهِ زَمَنَ الطُّفُولِيَّةِ وَزَمَنَ الرُّجُولِيَّةِ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (5: 110) فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوحٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ وِلَادَتِهِ وَأَيَّدَهُ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، كَمَا يُقَالُ: " رَجُلٌ عَدْلٌ " عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ: ذُو عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا: الرَّحْمَةُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُؤْمِنِينَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (58: 22) وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا (19: 21) وَيُمْكِنُ إِدْخَالُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِهِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ الرُّوحَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ ; فَالْأُولَى: مَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُدْرِكُ وَيَتَفَكَّرُ وَيَتَذَكَّرُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا بِهِ يَكُونُ رَحِيمًا حَكِيمًا فَاضِلًا مُحِبًّا مَحْبُوبًا نَافِعًا لِلْخَلْقِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْوَحْيَ رُوحًا فَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (42: 52) وَقَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (16: 2) وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَآيَةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ عِيسَى بِكَلِمَتِهِ، وَجَعْلِهِ بَشَرًا سَوِيًّا بِمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَآيَتِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ بِكَلِمَتِهِ وَمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ; إِذْ كَانَ خَلْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذِكَرٍ وَأُنْثَى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3: 59) . وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، صِفَةٌ لِـ رُوحٍ أَيْ وَرُوحٍ كَائِنَةٍ مِنْهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّصَارَى أَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ طَبِيبًا نَصْرَانِيًّا لِلرَّشِيدِ نَاظَرَ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ الْوَاقِدَيَّ الْمَرْوَزِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فِي كِتَابِكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، جُزْءٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَ لَهُ الْوَاقِدِيُّ قَوْلَهُ، تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13) وَقَالَ: يَلْزَمُ إذًا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَجْزَاءً مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ بِإِسْلَامِهِ، وَوَصَلَ الْوَاقِدِيَّ بِصِلَةٍ فَاخِرَةٍ. أَمَّا أَنَاجِيلُ النَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ فَقَدِ اسْتَعْمَلَتْ لَفْظَ الرُّوحِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيحِ وَفِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَتَّى: (1: 18 أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا، لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ) وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا تَفْصِيلٌ لِظُهُورِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ لَهَا، وَتَبْشِيرِهِ إِيَّاهَا بِوَلَدٍ، وَمُحَاوَرَتِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: (53 الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ) فَرُوحُ

الْقُدُسِ لَيْسَ هُوَ اللهَ، وَمَنْ يُؤَيِّدُهُ اللهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، فَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَفْسِهِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ (الِيصَابَاتَ) أُمَّ يَحْيَى امْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (41) وَبِذَلِكَ حَمَلَتْ بِيَحْيَى وَكَانَتْ عَاقِرًا، وَأَنَّ زَكَرِيَّا أَبَاهُ امْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (67) وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ: " 25 وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورْشَلِيمَ اسْمُهُ سَمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ (26) وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ " وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ لَا حَاجَةَ لِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ بِكَثْرَةِ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ الَّذِينَ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَالْقُدْسُ: الطُّهْرُ، وَيُذْكَرُ فِي مُقَابِلِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ الرُّوحُ النَّجِسُ، أَيِ: الشَّيْطَانُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا كَمَا فَعَلَ الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ عِيسَى خُلِقَ بِوَاسِطَةِ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّ يَحْيَى خُلِقَ كَذَلِكَ وَكَانَ خَلْقُهُ آيَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، إِذْ كَانَ أَبُوهُ شَيْخًا كَبِيرًا وَأُمُّهُ عَاقِرًا، وَلَكِنَّ الْوَاسِطَةَ وَالسَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِرُوحِ الْقُدُسِ، أَيَّدَهُمُ اللهُ بِهِ نِسَاءً وَرِجَالًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَعَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَرُوحٌ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالتَّجَزُّؤِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِخَلْقِهِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا مُؤَيَّدِينَ بِرُوحِ الْقُدُسِ حَتَّى مَنْ طَرَدَهُ الْمَسِيحُ وَلَعَنَهُ مِنْهُمْ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، وَقَدْ أَيَّدَ بِهِ مَنْ كَانَ دُونَهُمْ أَيْضًا. عَلِمْنَا أَنَّ مُؤَلِّفِي الْأَنَاجِيلِ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ رُوحِ الْقُدُسِ اسْتِعْمَالًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّ يُوحَنَّا قَدِ انْفَرَدَ بِعِبَارَاتٍ يُمْكِنُ إِرْجَاعُهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ تَحْرِيفُهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا فَعَلُوا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّوحَ مُنْبَثِقٌ مِنَ الْآبِ وَإِنَّهُ عَيْنُ الْآبِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ: (15: 16 وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْآبِ رُوحِ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي) أَصْلُ الِانْبِثَاقِ: أَنْ يَكْسِرَ الْمَاءُ مَا أَمَامَهُ مِنْ سَدٍّ عَلَى الشَّطِّ، وَيَفِيضُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، وَفِي قِرَاءَةٍ أُخْرَى فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتُسْتَانْتِ " يَخْرُجُ " فَمِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اسْتَنْبَطُوا عَقِيدَةً وَثَنِيَّةً تَنْقُضُهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ فِي الْأَنَاجِيلِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَفَرْقٌ بَيْنَ يَنْبَثِقُ مِنْ عِنْدِهِ وَبَيْنَ انْبَثَقَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا أَيْضًا) وَهِيَ بِشَارَةٌ مِنَ الْمَسِيحِ بِمَنْ يُرْسِلُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ الَّذِي عَبَّرُوا عَنْهُ هُنَا بِالْمُعَزِّي، وَكَلِمَةُ الْمُعَزِّي تَرْجَمَةٌ لِلْبَارَقْلِيطِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا (مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ) وَتُقْرَأُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَبِالْإِمَالَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَحْرِيفِهَا عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي

قُلْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الْمُعَزِّي الَّذِي قَالُوهُ، إِلَّا إِلَى لَيِّ اللِّسَانِ بِهَا لَيًّا قَلِيلًا، وَقَدْ تُرْجِمَتْ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا (بِمُحَمَّدٍ) فَكَانَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَوْضِعَ الِاسْتِغْرَابِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظَانِّينَ أَنَّ بِرْنَابَا نَقَلَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَطَقَ بِتَرْجَمَتِهَا، وَمِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَرْجَمَةُ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ، عَلَى أَنَّ " رُوحَ الْحَقِّ " مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَرَى فِي أَسْمَائِهِ الْمَسْرُودَةِ فِي دَلَائِلَ الْخَيْرَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ تَفْصِيلًا عَنِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِبِشَارَتِهِ بِالْبَارَقْلِيطِ، مِنْهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يَذْهَبَ هُوَ مِنَ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ لَا يَأْتِي الْبَارَقْلِيطُ، وَأَنَّهُ مَتَى جَاءَ يُبَكِّتُ الْعَالِمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَعَلَى الْبِرِّ وَالْحِسَابِ (الدَّيْنُونَةِ) وَفَسَّرَ الْخَطِيئَةَ بِعَدِمِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَيِ الْمَسِيحُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ هُوَ - أَيِ الْمَسِيحُ - لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَعَدَمِ طَاقَتِهِمُ الِاحْتِمَالَ، قَالَ: وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ (14) ذَاكَ يُمَجِّدُنِي ; لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْمَسِيحِ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَبَّخَ النَّاسَ وَبَكَّتَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ وَعَلَى طَعْنِ بَعْضِهِمْ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ، وَعَلَى غُلُوِّ طَائِفَةٍ فِيهِمَا وَجَعْلِهِمَا إِلَهَيْنِ مَعَ اللهِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَخْبَرَ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ - لَمْ يَجِئْ أَحَدٌ بِكُلِّ هَذَا إِلَّا رُوحُ الْحَقِّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْبَثِقٌ مِنَ اللهِ أَيْ مُرْسَلٌ مِنْهُ لِإِحْيَاءِ النَّاسِ، كَمَا يُرْسِلُ اللهُ الْغَيْثَ لِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَبَّهَ بَعْثَتَهُ بِالْغَيْثِ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُ كُلُّ أَرْضٍ بِحَسْبَ اسْتِعْدَادِهَا. فَإِذَا كَانَتْ عِبَارَةُ يُوحَنَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَهُ تَدُلُّ بِلَفْظِ الِانْبِثَاقِ عَلَى مَا قَالُوا، فَلْيَجْعَلُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أَوْ أُقْنُومًا رَابِعًا، وَيَنْتَقِلُوا مِنَ التَّثْلِيثِ إِلَى التَّرْبِيعِ، لَا، لَا أَقُولُ لَهُمْ أَصِرُّوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، بَلْ أَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِلَى قَوْلِهِ، تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ إِلَخْ ; أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ النُّقُولُ، فَآمِنُوا بِاللهِ إِيمَانًا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، تَنَزَّهَ عَنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ، وَنِسْبَتِهَا إِلَيْهِ. وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَمَمْلُوكَةٌ وَهُوَ الْمَالِكُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي مَجْمُوعِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ حَبَّةِ رَمْلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ مِنْهَا، وَمِنْ نُقْطَةِ مَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِدٌّ وَكُفْءٌ فِيهَا، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَلَّ أَوِ اتَّحَدَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَآمِنُوا بِرُسُلِهِ كُلِّهِمْ، كَمَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَهُ خَصَّهُمْ بِضَرْبٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ " الْوَحْيِ " لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَشْكُرُونَهُ، وَكَيْفَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُصْلِحُونَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ

وَلَا تَقُولُوا: الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ: الْآبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، أَوْ: اللهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كُلٌّ مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، فَكُلٌّ مِنْهَا إِلَهٌ كَامِلٌ، وَمَجْمُوعُهَا إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَتُسَفِّهُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ الَّذِي هُوَ عَقِيدَةُ الْوَثَنِيِّينَ الطَّغَامِ، ثُمَّ تَدَّعُوَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّثْلِيثِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَفْهَامُ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيِ انْتَهَوْا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي دِينِ الْأَنْبِيَاءِ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمُ الْوَثَنِيِّينَ الْأَغْبِيَاءِ، يَكُنْ هَذَا الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ، أَوِ انْتَهُوا عَنْهُ وَانْتَحِلُوا قَوْلًا آخَرَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ حَتَّى الْمَسِيحِ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ إِلَهًا فَإِنَّ مِمَّا لَا تَزَالُونَ تَحْفَظُونَ عَنْهُ قَوْلَهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: (وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) . إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَلَا أَقَانِيمُ، وَلَا هُوَ مُرَكَّبٌ وَلَا مُتَّحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ ابْنُهُ وَإِنَّهُ هُوَ عَيْنُهُ، فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ جِنْسٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهُ زَوْجٌ يَقْتَرِنُ بِهَا فَتَلِدُ لَهُ ابْنًا، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْوَلَدِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، عَلَى لَفْظِ الِابْنِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ بِهِ، هِيَ بَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُرِيدُونَ الِابْنَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، أَيْ مَوْلُودًا مِنْ تَلْقِيحِ أَبِيهِ لِأُمِّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ ابْنٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً كَمَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَعَلَى صَانِعِي السَّلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْيَارِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِيَّةِ. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ خَاصٌّ مَوْلُودٌ مِنْهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى ابْنَهُ حَقِيقَةً، بَلْ لَهُ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ مِنْ جُمْلَتِهَا خَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ خَلْقًا، وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ مِنْهَا وَإِدْرَاكٍ يَفْتَخِرُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (19: 93) لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ الصَّالِحِينَ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ لِهَذِهِ، وَلَا بَيْنَ مَنْ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ كَالْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ، وَمَنْ خُلِقَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَحَوَّاءَ وَعِيسَى، وَمَنْ خُلِقَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - سَوَاءٌ، عَبِيدٌ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ مُحْتَاجُونَ دَائِمًا إِلَى فَضْلِهِ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا يَشَاءُ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَيْ بِهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ عَرَفَهُ وَعَرَفَ سُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِذَا وَكَّلُوا إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، وَلَمْ يُحَاوِلُوا الْخُرُوجَ عَنْ سُنَنِهِ وَشَرَائِعِهِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.

فَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَثَنِيَّةٌ نَقَلَهَا الْوَثَنِيُّونَ الْمُتَنَصِّرُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَفَسَّرُوا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي كُتُبِهِمُ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُمْ شُبْهَةً يَتَّكِئُونَ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّضْلِيلِ، وَأَرْغَمُوهَا عَلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، هَدَمُوا بِهِ آيَاتِ التَّوْحِيدِ الْقَوِيَّةِ الْبُنْيَانِ، الْعَالِيَةِ الْأَرْكَانِ ; أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنْيَةً، فَقَدْ بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَتَوْا عَلَيْهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ وَالتَّارِيخِ، وَإِنَّنَا نُشِيرُ إِلَى قَلِيلٍ مِنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ. 1 - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ: قَالَ مُورِيسْ فِي (ص 35 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ: الْآثَارُ الْهِنْدِيَّةُ الْقَدِيمَةُ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَائِدَةِ تَعَالِيمٌ دِينِيَّةٌ جَاءَ فِيهَا الْقَوْلُ بِاللَّاهُوتِ الثُّلَاثِيِّ، أَوِ الثَّالُوثِيِّ ". وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 366 مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى) إِذَا رَجَّعْنَا الْبَصَرَ إِلَى الْهِنْدِ نَرَى أَنَّ أَعْظَمَ وَأَشْهَرَ عِبَادَتِهِمُ اللَّاهُوتِيَّةِ هُوَ التَّثْلِيثُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا التَّعْلِيمَ بِلُغَتِهِمْ " تري مورتي " وَهِيَ عِبَارَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِلُغَتِهِمُ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ: (تري) وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَ (مورتي) وَمَعْنَاهَا هَيْئَاتٌ أَوْ أَقَانِيمُ، وَهِيَ بِرَهْمَا، وَفِشْنُو وَسِيفَا. ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ مُتَّحِدَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ ; فَهِيَ إِلَهٌ وَاحِدٌ (بِزَعْمِهِمْ) . وَقَدْ شَرَحَ الْمُؤَلِّفُ مَعْنَى هَذِهِ الْأُصُولِ أَوِ الْأَقَانِيمِ عِنْدَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ إِلَيْهَا بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهِيَ (أ. و. م) وَأَنَّهُمْ يَصِفُونَ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ فِي الْجَوْهَرِ وَلَا فِي الْفِعْلِ وَلَا فِي الِاتِّحَادِ، بِقَوْلِهِمْ: بِرَهْمَا الْمُمَثِّلُ لِمَبَادِئِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ، وَلَا يَزَالُ خَلَّاقًا إِلَهِيًّا، وَهُوَ (الْآبُ) وَفِشْنُو يُمَثِّلُ حِفْظَ الْأَشْيَاءِ الْمُكَوَّنَةِ (أَيْ مِنَ الزَّوَالِ وَالْفَسَادِ) وَهُوَ الِابْنُ الْمُنْبَثِقُ وَالْمُتَحَوِّلُ عَنِ اللَّاهُوتِيَّةِ، وَسِيفَا هُوَ الْمُهْلِكُ وَالْمُبِيدُ وَالْمُبْدِئُ وَالْمُعِيدُ (أَيِ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ وَالتَّحْوِيلُ فِي الْكَوْنِ) وَهُوَ (رُوحُ الْقُدُسِ) وَيَدْعُونَهُ (كِرِشْنَا) الرَّبُّ الْمُخَلِّصُ وَالرُّوحُ الْعَظِيمُ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ (فِشْنُو) الْإِلَهُ الَّذِي ظَهَرَ بِالنَّاسُوتِ عَلَى الْأَرْضِ لِيُخَلِّصَ النَّاسَ، فَهُوَ أَحَدُ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ لِلْأُقْنُومِ الثَّالِثِ بِصُورَةِ حَمَامَةٍ، وَهَذِهِ عَيْنُ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ عَقِيدَةٌ بُرْهُمِيَّةٌ وَثَنِيَّةٌ، أَخَذَهَا النَّصَارَى عَنِ الْبَرَاهِمَةِ وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ أَخِيرًا إِلَيْهَا. وَكَانَ مُنْتَهَى شَوْطِ أَحَدِ الْيَسُوعِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَالُوثَ الْبَرَاهِمَةِ وَأَمْثَالِهِمْ نَجِسٌ،

وَثَالُوثَ النَّصَارَى مُقَدَّسٌ! فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْوَثَنِيُّونَ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَارْجِعُوا إِلَى الْأَصْلِ وَدَعُوا الْمُبْتَدَعَ. فَبِمَاذَا يَحُجُّونَهُمْ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَصْلُ عَقِيدَةِ الْبَرَاهِمَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَصَفَ لَهُمُ الْإِلَهَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهِيَ (1) مَا بِهِ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَ (2) الْحِفْظُ وَالْإِمْدَادُ، وَ (3) التَّصَرُّفُ وَالتَّغْيِيرُ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَدَبَّتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ، جَعَلُوا لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إِلَهًا، وَجَعَلُوا أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ أَسْمَاءَ أَقَانِيمَ وَذَوَاتٍ، وَلَمَّا كَانُوا نَاقِلِينَ بِالتَّوَاتُرِ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ اللهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، قَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنُ الثَّلَاثَةِ. وَسَرَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ. وَلِلْهُنُودِ تَمَاثِيلُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّثْلِيثِ، رَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْهَا فِي دَارِ الْعَادِيَاتِ الَّتِي بَنَتْهَا الْحُكُومَةُ الْهِنْدِيَّةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ بَنَارِسْ (الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ) وَهُوَ تِمْثَالٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ. وَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ مُورِيسْ (فِي ص 372 مِنَ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ آثَارِ الْهِنْدِ الْقَدِيمَةِ) : لَقَدْ وَجَدْنَا فِي أَنْقَاضِ هَيْكَلٍ قَدِيمٍ قَوَّضَهُ مُرُورُ الْقُرُونِ صَنَمًا لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّمْزُ لِلثَّالُوثِ. 2 - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ: قَالَ مِسْتَرْ فابر فِي كِتَابِهِ (أَصْلُ الْوَثَنِيَّةِ) : كَمَا نَجِدُ عِنْدَ الْهُنُودِ ثَالُوثًا مُؤَلَّفًا مِنْ بِرَهْمَا وَفِشْنُو وَسِيفَا، نَجِدُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ ثَالُوثًا، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ (بُوذَهْ) إِلَهٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَكَذَلِكَ بُوذِيُّو (جِينِسْتَ) يَقُولُونَ: إِنَّ (جِيَفَا) مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ (قَالَ) : وَالصِّينِيُّونَ يَعْبُدُونَ بُوذَهْ وَيُسَمُّونَهُ (فُو) وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كَمَا تَقُولُ الْهُنُودُ. وَذَكَرَ رَمْزَهُمْ (أ. و. م) . وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 172 مِنْ كِتَابِهِ خُرَافَاتِ التَّوْرَاةِ إِلَخْ) : وَأَنْصَارُ لَاوْكُومِتْذَا الْفَيْلَسُوفِ الصِّينِيِّ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (604) يَدْعُونَ " شِيعَةَ تَاوُو " وَيَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ، وَأَسَاسُ فَلْسَفَتِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ أَنَّ " تَاوُو " وَهُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ انْبَثَقَ مِنْهُ وَاحِدٌ، وَمِنَ الثَّانِي انْبَثَقَ ثَالِثٌ، وَعَنْ هَذَا الثَّالِثِ انْبَثَقَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِالتَّوَلُّدِ وَالِانْبِثَاقِ أَدْهَشَ الْعَلَّامَةَ مُورِيسْ ; لِأَنَّ قَائِلَهُ وَثَنِيٌّ. 3 - التَّثْلِيثُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ: قَالَ دُوَانْ فِي ص 473 مِنْ كِتَابِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا: وَكَانَ قِسِّيسُو هَيْكَلِ مَنْفِيسَ بِمِصْرَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ لِلْمُبْتَدِئِينَ بِتَعَلُّمِ الدِّينِ، بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَوَّلَ خَلَقَ الثَّانِيَ، وَهُمَا خَلَقَا الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ تَمَّ الثَّالُوثُ الْمُقَدَّسُ. وَسَأَلَ تُولِيسُو مَلِكُ مِصْرَ الْكَاهِنَ تِنِيشُوكِي أَنْ يُخْبِرَهُ

هَلْ كَانَ قَبْلَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَلْ يَكُونُ بَعْدَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ؟ فَأَجَابَهُ الْكَاهِنُ: نَعَمْ، يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ اللهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ الْكَلِمَةُ، وَمَعَهُمَا رُوحُ الْقُدُسِ ; وَلِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُمْ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، وَعَنْهُمْ صَدَرَتِ الْقُوَّةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَاذْهَبْ يَا فَانِي، يَا صَاحِبَ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَا رَيْبَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأُقْنُومِ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ " كَلِمَةً " هُوَ مِنْ أَصْلٍ وَثَنِيٍّ مِصْرِيٍّ دَخَلَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الدِّيَانَاتِ كَالْمَسِيحِيَّةِ وَ " أَبُولُّو " الْمَدْفُونُ فِي (دِهْلِي) يُدْعَى " الْكَلِمَةَ " وَفِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ (بِلَاتُو) قَبْلَ الْمَسِيحِ بِسِنِينَ عَدِيدَةٍ: " الْكَلِمَةُ هِيَ الْإِلَهُ الثَّانِي " وَيُدْعَى أَيْضًا: ابْنُ اللهِ الْبِكْرُ. وَقَالَ بُونْوِيكُ (فِي ص 402 مِنْ كِتَابِهِ: عَقَائِدُ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ) : أَغْرَبُ عَقِيدَةٍ عَمَّ انْتِشَارُهَا فِي دِيَانَةِ الْمِصْرِيِّينَ هِيَ قَوْلُهُمْ بِلَاهُوتِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِوَاسِطَتِهَا، وَأَنَّهَا مُنْبَثِقَةٌ مِنَ اللهِ، وَأَنَّهَا هِيَ اللهُ، وَكَانَ بِلَاتُو عَارِفًا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِسِنِينَ - بَلْ بِقُرُونٍ - وَلَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَعْتَقِدُونَ هَذَا الِاعْتِقَادَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. اهـ. أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خُلِقَ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَسَرَتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ ظَنُّوا أَنَّ الْكَلِمَةَ ذَاتٌ تَفْعَلُ بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُرِيدُ خَلْقَهُ، وَمَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ كَانَ كَمَا أَرَادَ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (36: 82) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِلَّا بَيَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ضَلَّتْ بِهَا الْأُمَمُ مِنْ أَقْدَمِهَا - كَالْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ - إِلَى أَحْدَثِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى؛ لَكَفَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَالْأَصْلَ الْمَعْقُولَ الْمَقْبُولَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّوْحِيدِ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتَجَلَّى بِذَلِكَ دِينُ اللهِ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ نَقِيًّا مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ. 4 - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ آسِيَةَ: قَالَ هِيجِينْ (فِي ص 162 مِنْ كِتَابِهِ الْأَنْكِلُوسَكْسُونْ) : " كَانَ الْفُرْسُ يَدْعُونَ مِتْرُوسَا: الْكَلِمَةَ وَالْوَسِيطَ وَمُخَلِّصَ الْفُرْسِ اهـ. " وَقَالَ مِثْلَ هَذَا دُونْلَابُ وَبِنْصُونُ، وَقَالَ دُوَانْ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذُكِرَ غَيْرَ مَرَّةٍ: كَانَ الْفُرْسُ يَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ مِثْلَ الْهُنُودِ، وَيُسَمُّونَهَا: أُوزْمِرْدَ وَمِتْرَاتَ وَأَهْرِمَنْ، فَأُوزْمِرْدُ الْخَلَّاقُ، وَمِتْرَاتُ ابْنُ اللهِ الْمُخَلِّصُ وَالْوَسِيطُ، وَأَهْرِمَن الْمَلَكُ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَصْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَيْفَ سَرَى إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَالْمَشْهُورُ

عَنْ مَجُوسِ الْفُرْسِ التَّثْنِيَةُ دُونَ التَّثْلِيثِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ بِإِلَهٍ مَصْدَرِ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَإِلَهٍ مَصْدَرِ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ. وَنُقِلَ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفِينِيقِيِّينَ الْإِيمَانُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّهَا ذَاتٌ تُعْبَدُ، وَيُسَمِّيهَا الْكَلْدَانِيُّونَ (مِمْرَارُ) وَالْأَشُورِيُّونَ (مَرْدُوخُ) وَيَدْعُونَ مَرْدُوخَ ابْنَ اللهِ الْبِكْرَ، وَهَكَذَا الْأُمَمُ يَأْخُذُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ بِرْتِشِرْدُ (فِي ص 285 مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ الْمِصْرِيِّينَ الْوَثَنِيِّينَ) : " لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ الْأَبْحَاثِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ مَصَادِرَ شَرْقِيَّةٍ مِنْ ذِكْرِ أَحَدِ أَنْوَاعِ التَّثْلِيثِ أَوِ التَّوَلُّدِ الثُّلَاثِيِّ. وَنَقُولُ: إِنَّ أَدْيَانَ أَسْلَافِهِ الْغَرْبِيِّينَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْرَقَ فِي الْوَثَنِيَّةِ، فَهُمْ تَلَامِيذُ الشَّرْقِيِّينَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمِصْرِيِّينَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ شَوَّهُوا الدِّيَانَةَ الْمَسِيحِيَّةَ الشَّرْقِيَّةَ، فَنَقَلُوهَا مِنَ التَّوْحِيدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِلَى التَّثْلِيثِ الْوَثَنِيِّ. 5 - التَّثْلِيثُ عِنْدَ أَهْلِ أُورُبَّةَ: الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَغَيْرِهِمْ: جَاءَ فِي كِتَابِ (سُكَّانُ أُورُبَّةَ الْأَوَّلِينَ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ ذُو ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ ". وَجَاءَ فِي كِتَابِ " تَرَقِّي الْأَفْكَارِ الدِّينِيَّةِ " (ص 307 م ا) : إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ، وَإِذَا شَرَعَ قِسِّيسُوهُمْ بِتَقْدِيمِ الذَّبَائِحِ يَرُشُّونَ الْمَذْبَحَ بِالْمَاءِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِشَارَةً إِلَى الثَّالُوثِ وَيَرُشُّونَ الْمُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْمَذْبَحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَأْخُذُونَ الْبَخُورَ مِنَ الْمِبْخَرَةِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مُثَلَّثَةً، وَلَهُمُ اعْتِنَاءٌ بِهَذَا الْعَدَدِ فِي جَمِيعِ شَعَائِرِهِمُ الدِّينِيَّةِ. اهـ. أَقُولُ: وَقَدِ اقْتَبَسَتِ الْكَنِيسَةُ بَعْدَ دُخُولِ نَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ فِيهِمْ هَذِهِ الشَّعَائِرَ كُلَّهَا، وَنَسَخَتْ بِهَا شَرِيعَةَ الْمَسِيحِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَسِيحِيِّينَ وَيَعْمَلُونَ كُلَّ شَيْءٍ بَاسِمِ الْمَسِيحِ! فَهَلْ ظُلِمَ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ بِالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ كَمَا ظُلِمَ الْمَسِيحُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ لَا لَا. وَنَقَلَ دُوَانْ عَنْ أُورْفِيُوسْ أَحَدِ كُتَّابِ الْيُونَانِ وَشُعَرَائِهِمْ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ الْأَشْيَاءِ صَنَعَهَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ مُثَلَّثُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَقَانِيمِ ". وَقَالَ فِسْكُ فِي ص (205) مِنْ كِتَابِ (الْخُرَافَاتُ وَمُخْتَرِعُوهَا) : كَانَ الرُّومَانِيُّونَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، يُؤْمِنُونَ بِالتَّثْلِيثِ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْكَلِمَةِ، ثُمَّ بِالرُّوحِ. وَقَالَ بَارْخُورِسْتُ فِي الْقَامُوسِ الْعِبْرَانِيِّ كَانَ لِلْفِنْلَنْدِيِّينَ (الْبَرَابِرَةُ الَّذِينَ كَانُوا فِي شَمَالِ بِرُوسْيَةَ) إِلَهٌ اسْمُهُ (تِرِيكْلَافُ) وَقَدْ وُجِدَ لَهُ تِمْثَالٌ فِي (هِرْتُونْجِرْ بِرْجَ) لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ

عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ. أَقُولُ: تِرِيكْلَافُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ: تِرِي، وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَكَلِمَةِ: كِلَافَ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا إِلَهٌ. وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص 377 مِنْ كِتَابِهِ) : " كَانَ الْإِسْكِنْدِنَاوِيُّونَ يَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ يَدْعُونَهَا: أُودِينَ، وَتُورَا، وَفَرَى. وَيَقُولُونَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَقَانِيمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ وُجِدَ صَنَمٌ يُمَثِّلُ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ بِمَدِينَةِ (أُوبْسَالَ) مِنْ أَسُوجْ، وَكَانَ أَهْلُ أَسُوجْ وَنَرُوجْ وَالدِّنْمَارْكَ يُفَاخِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي بِنَاءِ الْهَيَاكِلِ لِهَذَا الثَّالُوثِ، وَكَانَتْ تَكُونُ جُدْرَانُ هَذِهِ الْهَيَاكِلِ مُصَفَّحَةً بِالذَّهَبِ، وَمُزَيَّنَةً بِتَمَاثِيلِ هَذَا الثَّالُوثِ، وَيُصَوِّرُونَ أُودِينَ بِيَدِهِ حُسَامٌ، وَتُورَا وَاقِفًا عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ بِيَدِهِ صَوْلَجَانُ، وَفِرِي وَاقِفًا عَنْ شِمَالِ تُورَا، وَفِيهِ عَلَامَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَيَدْعُونَ أَوَدِينَ الْآبَ، وَتُورَا الِابْنَ الْبِكْرَ أَيِ ابْنَ الْأَبِ أُودِينَ وَ " فِرِي " مَانِحُ الْبَرَكَةِ وَالنَّسْلِ وَالسَّلَامِ وَالْغِنَى. اهـ. أَقُولُ: فَهَلْ تَرَكَ الْأُورُبِّيُّونَ أَدْيَانَهُمُ الْوَثَنِيَّةَ إِلَى دِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، أَمْ ظَلُّوا عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا شَخْصَ الْمَسِيحِ، وَجَعَلُوهُ أَحَدَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ قَبْلُ. . .؟ إِنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَهَا، وَلَكِنَّ مُقَدَّسَهُمْ بُولِسْ نَقَضَهَا حَجَرًا حَجَرًا وَلَبِنَةً لَبِنَةً، إِلَّا ذَبِيحَةَ الْأَصْنَامِ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَالزِّنَا الَّذِي لَا عِقَابَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، فَأَرَاحَهُمْ وَمَهَّدَ لَهُمُ السَّبِيلَ لِتَأْسِيسِ دِينٍ جَدِيدٍ لَا يَتَّفِقُ مَعَ دِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي عَقَائِدِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، وَلَا فِي آدَابِهِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ بَذَلُوا الْمَلَايِينَ مِنَ الدَّنَانِيرِ لِتَنْصِيرِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْبَادُ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِإِزَالَةِ مُلْكِهِمْ وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ ; لِتَكُونَ جَمِيعُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا وَزِينَتُهَا وَعَظْمَتُهَا خَالِصَةً لَهُمْ، فَهَلْ جَاءَ الْمَسِيحُ لِهَذَا، وَبِهَذَا أَمَرَ أَمْ بِضِدِّهِ؟ وَاللهِ إِنَّنِي لَا أَرَى مِنْ عَجَائِبِ أَطْوَارِ الْبَشَرِ وَقَلْبِهِمْ لِلْحَقَائِقِ وَلَبْسِهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَعْجَبَ وَأَغْرَبَ مِنْ وُجُودِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْأَرْضِ! دِيَانَةٌ بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمَعْقُولِ، جَعَلُوهَا دِيَانَةً وَثَنِيَّةً بِتَثْلِيثٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ، أَخَذُوهُ مِنْ تَثْلِيثِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ الْمُقْتَبَسِ مِنْ تَثْلِيثِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ اقْتِبَاسًا مُشَوَّهًا. دِيَانَةُ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، نَسَخُوا شَرِيعَتَهَا بِرُمَّتِهَا وَأَبْطَلُوهَا، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا بِدَعًا وَتَقَالِيدَ غَرِيبَةً عَنْهَا. دِيَانَةُ زُهْدٍ وَتَوَاضُعٍ وَتَقَشُّفٍ وَإِيثَارٍ وَعُبُودِيَّةٍ، جَعَلُوهَا دِيَانَةَ طَمَعٍ وَجَشَعٍ وَكِبْرِيَاءٍ وَتَرَفٍ وَأَثَرَةٍ وَاسْتِعْبَادٍ لِلْبَشَرِ. دِيَانَةٌ أُصُولُهَا الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى، لَمْ تَرِدْ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَقِيدَتِهَا عَنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دِيَانَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ نَصٌّ مِنْ كَلَامِهِ فِي أُصُولِ عَقِيدَتِهَا الَّتِي هِيَ التَّثْلِيثُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ

عِنْدَهُمْ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِبْطَالِ التَّثْلِيثِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْآبِ وَالِابْنِ الَّذِي أُطْلِقَ لَفْظُهُ مَجَازًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْرَارِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَكْثَرِ بِابْنِ الْإِنْسَانِ. لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِلَّا مَا رَوَاهُ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ لَكَفَى، وَهُوَ قَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: (3 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) فَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَسُولُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسَ عَقِيدَتِهِمْ، يُرَدُّ إِلَيْهِ كُلُّ مَا يُوهِمُ خِلَافَهُ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، لِأَجْلِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ. وَنَقَلَ مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّ أَحَدَ الْكَتَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ أَوَّلِ الْوَصَايَا قَالَ: فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: أَوَّلُ الْوَصَايَا: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. إِلَخْ. . . 32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: جَيِّدًا يَا مُعْلِمُ بِالْحَقِّ قُلْتَ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. . . 34 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ هُوَ الْعَقِيدَةُ الْمَعْقُولَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ عَلَى ظَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَرَدَ مَا يُنَافِيهَا، وَجَبَ رَدُّهُ أَوْ إِرْجَاعُهُ إِلَيْهَا. وَرَوَى يُوحَنَّا عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ: (28 اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا الْأُولَى: (12 اللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَفِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ رِسَالَةِ بُولِسَ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ تيِمُوثَاوِسْ: (16 لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ) وَقَدْ رَأَى النَّاسُ الْمَسِيحَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ. وَرَوَى مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَصُّهُ: (32 وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الِابْنُ إِلَّا الْآبُ) فَلَوْ كَانَ الِابْنُ عَيْنَ الْآبِ لَكَانَ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْآبُ، وَقَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْقِيَامَةِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ خِطَابًا لِخَاتَمِ رُسُلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا عَلَمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ (7: 187) . وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَقْبَلُونَ نُصُوصَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا لَأَتَيْنَاهُمْ بِشَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى التَّوْحِيدِ مُؤَيَّدَةً بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَنْ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ بِدْعًا فِيهِمْ، وَنَاهِيكَ بِالْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالسِّتِّينَ مِنْهُ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمَسِيحُ بِمَا آتَى اللهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا تُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِالْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالتِّسْعِينَ الَّذِي يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِكَلِمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرَى وَلَا يُرَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَسِّدٍ وَغَيْرُ مُرَكَّبٍ وَغَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ، ثُمَّ قَالَ:

172

(19 فَإِنِّي بَشَرٌ مَنْظُورٌ، وَكُتْلَةٌ مِنْ طِينٍ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَفَانٍ كَسَائِرِ الْبَشَرِ 20، وَإِنَّهُ كَانَ لِي بِدَايَةٌ، وَسَيَكُونُ لِي نِهَايَةٌ، وَإِنِّي لَا أَقْتَدِرُ أَنْ أَبْتَدِعَ خَلْقَ ذُبَابَةٍ) . وَحَسْبُنَا مَا كَتَبْنَاهُ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الْآنَ، وَسَنُبْقِي بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهَا إِلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ الِاسْتِنْكَافُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ الشَّيْءِ أَنَفَةً وَانْقِبَاضًا مِنْهُ، قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ نَكَفَ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّاهُ عَنْ خَدِّهِ بِأُصْبُعِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَكَفَ مِنْهُ: أَنِفَ، وَأَنْكَفَهُ عَنْهُ: بَرَّأَهُ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَأْنَفَ الْمَسِيحُ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَلَا هُوَ بِالَّذِي يَتَرَفَّعُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَمِ خَلْقِ اللهِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ مَنْ خَلْقِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالشُّكْرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَفَاضَلُونَ بِهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ أَوْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ لَا يَسْتَنْكِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، (كُلُّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ صَحِيحٌ يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ) عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الْمَسِيحِ خَلْقًا وَأَفْعَالًا، وَمِنْهُمْ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي بِنَفْخَةٍ مِنْهُ خُلِقَ الْمَسِيحُ، وَبِتَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُ بِهِ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَلَوْلَا نَفْخَتُهُ وَتَأْيِيدُهُ لَمَا كَانَ لِلْمَسِيحِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ فَيُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُ التَّفْضِيلِ أَنَّ السِّيَاقَ فِي رَدِّ غُلُوِّ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ ; إِذِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَرَفَعُوهُ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَالْبَلَاغَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي التَّرَقِّيَ فِي الرَّدِّ مِنَ الرَّفِيعِ إِلَى الْأَرْفَعِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا التَّقِيَّ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ تَقْبِيلِ يَدِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْأَمِيرُ. فَإِذَا بَدَأْتَ بِذِكْرِ الْأَمِيرِ لَمْ يَعُدْ لِذِكْرِ الْوَزِيرِ مَزِيَّةٌ وَلَا فَائِدَةٌ، بَلْ يَكُونُ لَغْوًا ; لِأَنَّهُ يَنْدَمِجُ فِي الْأَوَّلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ فَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَانَ آخَرُ شَوْطِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنْ جَعَلَ غَايَةَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى الْكَشَّافِ بِرَدِّ طَرِيقَةِ التَّرَقِّي وَالتَّفَصِّي مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ عَادَ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِظَمِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الرَّدَّ عَلَى مَنِ اسْتَكْبَرُوا خَلْقَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَصُدُورَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَيَعْمَلُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ الْمَسِيحِ ; فَهُمْ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُنْصِفُ يَرَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا مِنَ الرَّجْمِ

بِالْغَيْبِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَا نَصَّ، وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ فِي إِيمَانٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْسِيعِ مَسَافَةِ التَّفَرُّقِ بِالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الِاسْتِكْبَارُ: أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَوْقَ مَا هِيَ؛ غُرُورًا وَإِعْجَابًا، فَيَحْمِلُهَا بِذَلِكَ عَلَى غَمْطِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ أَوْ لِخَلْقِهِ وَعَلَى احْتِقَارِ النَّاسِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَمَنْ يَتَرَفَّعْ عَنْ عِبَادَتِهِ أَنَفَةً وَيَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَيَجْعَلْ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَا التَّلَبُّسَ بِهَا فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا أَيْ فَسَيَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ لِلْجَزَاءِ، مُجْتَمِعِينَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُسْتَنْكِفِينَ، الَّذِينَ ذَكَرَ بَعْضَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَحْشُرُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ عَمَلَهُمْ، كَمَا يَجْزِي غَيْرَهُمْ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُعْطِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَافِيَةً تَامَّةً، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ مِنْ عَشْرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُضَاعَفَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ سَبَقَتِ الْغَضَبَ، فَهُوَ - تَعَالَى - يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَيُجَازِي الْمُسِيءَ بِالْعَدْلِ فَقَطْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا أَيْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَلِيًّا يَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (82: 19) . وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْإِعْرَابِ فِي الْآيَةِ: إِفْرَادُ فِعْلِ يَسْتَنْكِفُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَجَمْعُ فِعْلِ فَسَيَحْشُرُهُمْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ مُطَابَقَةِ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُفَصِّلِ الْمَذْكُورِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِ التَّفْصِيلَ لِلْمُجَازَاةِ لَا لِلْمَحْشُورِينَ الْمَجْزِيِّينَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُطَابَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَازِمٌ لِلْحَشْرِ ; فَبَيَّنَهُ عَقِبَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْبَيْضَاوِيُّ، وَرَدَّهُ السَّعْدُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ جَمَعَ الْإِمَامُ الْخَوَارِجَ، فَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِ كَسَاهُ وَحَمَلَهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَرْكَبُهُ، وَمَنْ خَرَجَ نَكَّلَ بِهِ. وَصِحَّةُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: أَنْ يُحْذَفَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي، كَمَا حُذِفَ أَحَدُهُمَا فِي التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ عَقِيبَ هَذَا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ.

174

وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِمَّا يَعُمُّهُمْ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيُعَذَّبُ بِالْحَسْرَةِ إِذَا رَأَى أُجُورَ الْعَامِلِينَ، وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ. اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى حَشْرِ الْمُسْتَنْكِفِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَمِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْعَامِلِينَ بِصِيغَةِ مُبْتَدَأٍ، يَكُونُ خَبَرُهُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَرْطًا كَمَا هُنَا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ كَلَامًا عَامًّا يُشِيرُ إِلَى الْخَبَرِ إِشَارَةً ضِمْنِيَّةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (8: 49) وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (57: 24) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْمُرَادُ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَجْزِيهِ إِذْ يَحْشُرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. لَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ عَلَى النَّصَارَى وَفِيمَا قَبْلَهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالنُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ، كَمَا قَامَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيهَا وَفِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ ظُهُورَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ; لِأَنَّ سُحُبَ الشُّبَهَاتِ قَدِ انْقَشَعَتْ بِالْحُجَجِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كُلَّ الِانْقِشَاعِ - نَادَى اللهُ - تَعَالَى - النَّاسَ كَافَّةً وَدَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ بُرْهَانِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ قِبَلِ رَبِّكُمْ، بِفَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِكُمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ، بُرْهَانٌ عَظِيمٌ أَوْ جَلِيٌّ يُبَيِّنُ لَكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، مُؤَيِّدًا لَكُمْ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْحِكَمِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ، الَّذِي يَظْهَرُ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَتَهُ فِي نَشْأَتِهِ، وَتَرْبِيَتَهُ وَحَالَهُ فِي بَعْثَتِهِ، وَسُنَّتَهُ، أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ: أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ قَطُّ، وَلَمْ يُعْنَ فِي طُفُولِيَّتِهِ، وَلَا فِي شَبَابِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُسَمَّى عِلْمًا عِنْدَ قَوْمِهِ الْأُمِّيِّينَ ; كَالشِّعْرِ وَالنَّسَبِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، قَامَ فِي كُهُولَتِهِ يُعَلِّمُ الْأُمِّيِّينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ حَقَائِقَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ،

وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَا يَجِبُ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، وَمَا تَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَيَكْشِفُ مَا اشْتَبَهَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ، وَمَا اضْطَرَبَ فِيهِ نُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ الْعُلْيَا مِنْ مَسَائِلِ فَلْسَفَتِهِمْ، وَيَرْفَعُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ عَلَى أَسَاسِ الْحُجَجِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي بَيَانِ الشَّرَائِعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْحِكْمَةِ الْأَدَبِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُسَمَّى هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا. وَهُوَ بُرْهَانٌ بِسِيرَتِهِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ بُرْهَانٌ فِي دَعْوَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ نَشَأَ يَتِيمًا لَمْ يُعْنَ بِتَرْبِيَتِهِ عَالِمٌ وَلَا حَكِيمٌ وَلَا سِيَاسِيٌّ، بَلْ تُرِكَ كَمَا كَانَ وِلْدَانُ الْمُشْرِكِينَ يُتْرَكُونَ وَشَأْنُهُمْ، وَكَانَ فِي سِنِّ التَّعْلِيمِ وَتَكَوُّنِ الْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ يَرْعَى الْغَنَمَ نَهَارًا وَيَنَامُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَا يَحْضُرُ سُمَّارَ قَوْمِهِ (مَوَاضِعَ السَّمَرِ فِي اللَّيْلِ) وَلَا مَعَاهِدَ لَهْوِهِمْ، وَاتَّجَرَ قَلِيلًا فِي شَبَابِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَتْرَابِهِ، فَهُوَ لَمْ يُصَادِفْ مِنَ التَّرْبِيَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْمَنْصِبِ الَّذِي تَصَدَّى لَهُ فِي كُهُولَتِهِ، وَهُوَ تَرْبِيَةُ الْأُمَمِ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً اجْتِمَاعِيَّةً سِيَاسِيَّةً حَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ قَامَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ أَكْمَلَ قِيَامٍ، وَمَا زَالَ يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِ مَا قَامَ بِهِ مَنْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ بِالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، فَكَانَ بِهَذَا بُرْهَانًا عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِهِ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ بِوَحْيِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ كِتَابًا مِنْ لَدُنَّا هُوَ كَالنُّورِ، بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِكُلِّ مَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ، تَنْجَلِي لَكُمُ الْحَقَائِقُ بِبَلَاغَتِهِ وَأَسَالِيبِ بَيَانِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَهُ وَعَقَلَ مَعَانِيَهُ، بَلْ تَثْبُتُ فِي عَقْلِهِ، وَتُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، وَتَكُونُ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُصْلِحَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، هُوَ أَثْبَتُ الْحَقَائِقِ، وَأَعْلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَأَفْضَلُ مَا تَتَزَكَّى بِهِ النُّفُوسُ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْعُقُولُ، وَقَدْ بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُو أُمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَسْتَجِيبُ النَّاسُ لَهُمْ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِفَهْمِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُشَوِّهُوهَا بَعْدَهُمْ بِالشِّرْكِ وَضُرُوبِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تَطْمِسُ الْعُقُولَ وَتُدَنِّسُ النُّفُوسَ، وَتَهْبِطُ بِالْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَوَجِ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ أَهْلًا لَهَا، إِلَى الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ بِالْخُضُوعِ وَالْخُنُوعِ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ أُخْرَى، فَضَّلَ اللهُ جِنْسَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَقْرَبُ الْأُمَمِ التَّارِيخِيَّةِ عَهْدًا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانُوا عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ لَا يَزَالُونَ يَحْفَظُونَ بَعْضَ وَصَايَا رُسُلِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا إِذْ يُلْبِسُونَهَا بِالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ كَاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، بَلِ اتِّخَاذِ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُقَدَّسِيهِمْ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ

وَبِالشَّرَكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّخَاذِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُشَرِّعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ. هَكَذَا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عَهْدِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْبَعُونَ أُنَاسًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَمُقَدَّسِيهِمْ فِي عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَشَرَائِعَ مَشُوبَةٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ، كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي أُمُورِ الدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَسَائِرِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَقِلُّونَ بِمَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ لَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَيِّنِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ صَدَقُوا لَمَا صَارَ دِينُهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَا كَانَا عَلَيْهِ هُمَا، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا فِي زَمَنِهِمَا، بِحَيْثُ لَوْ بُعِثَا ثَانِيَةً لَأَنْكَرَا كُلَّ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ أَوْ أَكْثَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِدِينِهِمَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ قَدْ زُلْزِلَ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَزَالَ مِنْ عِنْدِ النَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمَا هُوَ دِينَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؟ ! هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ فَمَا الَّذِي فَعَلَهُ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟ لَوْ لَمْ يَجِئْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ بِغَيْرِ عُنْوَانِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَمَا كَانَ كِتَابُهُ نُورًا مُبِينًا لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ كَالْهُنُودِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُصَرِّحُ بِمِثْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عِنْدَنَا أَوْ بِهَا نَفْسِهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْجَمَادِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِصِفَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي سِلْسِلَةِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُعْتَقَدَةِ تَوَجُّهَ الْعِبَادَةِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ فِي بَيَانِ الدَّيْنِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ إِلَى مَا يَضَعُهُ لَهُمْ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ - أَيْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ - أَوْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ النَّظَرِ التَّقْلِيدِيِّ فِيهِ لِدَعْمِهِ بِهِ، وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ تَغَلْغَلَتْ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْمَأْثُورَةِ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقَلَّدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا وَرِثُوهُ مِنْهَا، أَنْزَلَ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ هَذَا النُّورَ الْمُبِينَ - الْقُرْآنَ - فَكَانَ أَشَدَّ إِبَانَةً لِدَقَائِقِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَخَفَايَاهَا مِنْ نُورِ الْكَهْرَبَاءِ الْمُتَأَلِّقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَرَى فِيهِ السِّرَاجَ الْوَاحِدَ فِي قُوَّةِ مِئَاتٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنْ نُورِ الشَّمْعِ، فَبَيَّنَ لِمَنْ يَفْهَمُ لُغَتَهُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَضُرُوبِ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّجَارِبِ، وَكَشْفِ مَا رَانَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مِنْ شُبُهَاتِ الْمُضِلِّينَ وَأَوْهَامِ الضَّالِّينَ، الَّتِي مَزَجَتْهَا بِالشِّرْكِ مَزْجًا جَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ - بَلِ النَّقِيضَيْنِ - جَمْعًا، وَلَوَّنَ أَسَالِيبَ الْكَلَامِ فِيهَا، وَنَوَّعَهُ لِتَتَقَبَّلَ النَّفْسُ تَكْرَارَهُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَلَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ تَرْتِيلِ آيَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَلَلِ.

175

فَكَانَ بَيَانُهُ فِي تَشْيِيدِ صَرْحِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بِنَاءِ الْوَثَنِيَّةِ بَيَانًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي كَمَالِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي كِتَابٍ بَشَرِيٍّ وَلَا إِلَهِيٍّ. إِلَّا أَنَّ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا، وَالْعِلْمَ بِمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهَا، وَالْأَبَاطِيلِ الْمُتَخَلِّلَةِ فِيهَا، وَبِمَا لَهَا مِنَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا امْتِلَاخُهَا وَانْتِزَاعُهَا مِنْ فُنُونِ الْبَيَانِ، بِحَسْبَ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَحْوِيلِ الْأُمَمِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْعِلْمِ، وَلَا عَاشَرَ أَحَدًا عَارِفًا بِهِمَا، كَيْفَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فَوْقَ عُلُومِ الَّذِينَ صَرَفُوا كُلَّ حَيَاتِهِمْ فِي الدَّرْسِ وَالْقِرَاءَةِ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْبَيَانَ الْأَكْمَلَ لِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَاجْتِثَاثِ جُذُورِ الْوَثَنِيَّةِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا - لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَعْهُودًا مِنَ الْحُكَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَلَا مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، دَعْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ ; لِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْزِلَ لِهَذَا النُّورِ الْمُبِينِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (26: 192 - 195) . فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا قُلْنَاهُ بِإِنْصَافٍ ظَهَرَ لَهُ بِهِ عَلَى اخْتِصَارِهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُجَّةً قَطْعِيَّةً - عَلَى حَقِّيَةِ دِينِهِ، وَأَنَّ كِتَابَهُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أُنْزِلَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعِلْمِهِ الْكَسْبِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ نُورًا مُبِينًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَرَوْا بِتَدْبِيرِهِ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ الَّذِي يُسْعِدُونَ بِهِ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا، وَيَنَالُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ; وَلِذَلِكَ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ الِاعْتِصَامُ: الْأَخْذُ وَالتَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُ وَيَحْفَظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِصَامِ، وَهُوَ: الْحَبَلُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْقِرْبَةُ وَالْإِدَاوَةُ لِتُحْمَلَ بِهِ، وَالْأَعْصَمُ: الْوَعْلُ يَعْتَصِمُ فِي شِعَافِ الْجِبَالِ وَقِنَنِهَا، فَالَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُدْخِلُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لَا يُدْخِلُ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَفَضْلٍ خَاصٍّ لَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ تَنْكِيرُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَفَضْلُهُ غَيْرُ مَحْصُورَيْنِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ مَنْ يَشَاءُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِهِمَا، وَقَدْ فُسِّرَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا بِالْجَنَّةِ، وَالْفَضْلُ بِمَا يَزِيدُ اللهُ بِهِ أَهْلَهَا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ جَزَاءً وَزِيَادَةً، فَيَشْمَلَا مَا يَكُونُ لِأَهْلِ الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، إِذْ يَكُونُونَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ بِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، يُرْحَمُ النَّاسُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُحَمَاءَ بِالنَّاسِ، تَحْمِلُهُمْ رَحْمَتُهُمْ عَلَى

السَّعْيِ لِخَيْرِ النَّاسِ، وَبَذْلِ فَضْلِهِمْ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَمَالٍ لَهُمْ، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ بِرَحْمَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ: وَيَهْدِيهِمْ - تَعَالَى - هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ طَرِيقًا قَوِيمًا قَرِيبًا يَبْلُغُونَ بِهِ الْغَايَةَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِالسِّيَادَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْكَمَالِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ، فَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَيَا خَسَارَةَ الْمُعْرِضِينَ، وَيَا طُوبَى لِلْمُعْتَصِمِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلصَّادِقِينَ، فَفَازَ مَنِ اعْتَصَمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْآخِرِينَ، فَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِذَلِكَ الْمُنْتَمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى هَذَا الدِّينِ. وَقَدْ سَكَتَ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْمُقَابِلِ لِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَصِمِينَ؛ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَلِلْإِيذَانِ وَتَأَلُّقِ نُورِ الْبَيَانِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ، وَإِنْ وُجِدَ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لِأَنَّهُ كَالْعَدَمِ. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ، فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةً فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ. وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ هُنَا لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى عِنْدَ كَثِيرِينَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ: " أَحْسِنْ " قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: " أَحْسِنْ " ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: " إِنِّي لَا أَرَاكَ تَمُوتُ فِي وَجَعِكَ هَذَا، إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ وَبَيَّنَ مَا لِأَخَوَاتِكَ وَهُوَ الثُّلْثَانِ " فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ. وَأَخْرَجَ الْعَدَنِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ

176

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي، وَاللهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَبَدًا. أَقُولُ: وَيُفَسِّرُ قَوْلَهُ " فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي " مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ، وَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةَ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاللهِ إِنَّكَ لَعَاجِزٌ إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ إِمَارَتَكَ تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَكَ مَا لَمْ أُحَدِّثْكَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا، رَحِمَكَ اللهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 245 - 348 مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ) مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَاشْتِبَاهَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا، وَسُؤَالَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا بِنَفْسِهِ، وَبِوَاسِطَةِ بِنْتِهِ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ عَنِ الْكَلَالَةِ فَلَمْ يَفْهَمْهَا، فَكَلَّفَ حَفْصَةَ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا عِنْدَ مَا تَرَاهُ طَيِّبَةً نَفْسُهُ، وَرَوَى مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: " مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ " وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مِثْلَهُ، وَزَادَ: " فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا فَوَرَثَتْهُ كَلَالَةٌ " وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْزَلَ اللهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، لَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا، ثُمَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ، وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ فِي آيَةِ الشِّتَاءِ، فَأَحَالَ السَّائِلَ عَلَيْهَا ; لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا. اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ بَعْدَ بَيَانِ إِرْثِ الْوَالِدَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَحُلُّونَ مَحَلَّهَا عِنْدَ فَقْدِهَا، فَيَأْخُذُونَ مَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ، ثُمَّ عَرَضَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ إِخْوَةِ الْعَصَبِ عِنْدَ مَرَضِ جَابِرٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّفَرِ غَلَطٌ، سَبَبُهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا تَلَقَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَظُنُّ الصَّحَابِيُّ

عِنْدَ سَمَاعِهِ الْآيَةَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ حَادِثَةٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَ هَذَا سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنَ الْغَلَطِ عَلَى الْغَلَطِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ السَّفَرَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هُوَ سَفَرُ حُجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَرِوَايَةُ نُزُولِهَا بِسَبَبِ سُؤَالِ عُمَرَ لَا تَصِحُّ. ثُمَّ إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَهُ مَثَارٌ مِنَ اللُّغَةِ وَمَجَالٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الْكَلَالَةِ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّسَبِ لِحًا ; أَيْ لَاصِقًا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَا عَدَا الْوَلَدَ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ: وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ، وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ مِنَ الْعَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ. وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ ذُكِرَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْوَرَثَةِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ، وَقِيلَ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَجِّحُ الْقَرِينَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لُغَةً الَّذِي يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ، وَلَعَلَّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ كُلَّهُمْ لَزَالَ بِهِ كُلُّ خِلَافٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَجَالُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي ذُكِرَتْ بَيْنَ آيَاتِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ لَمْ تُفَسِّرِ الْكَلَالَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ إِرْثَ كَلَالَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ فِيهَا الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتْ فَرْضَ أَخَوَاتِ الْعَصَبِ كَلَالَةً، وَاشْتَرَطَتْ فِيهِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ كُلَّهَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى إِرْثَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ إِرْثَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِرْثَ الْأَزْوَاجِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى مَنْ يَرِثُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ يَرِثُ بِالْوَاسِطَةِ، فَيُعَدُّ كَلَالَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (4: 12) وَمَعْنَى يُورَثُ كَلَالَةً: يَمُوتُ فَيَرِثُهُ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَهْلِهِ إِرْثَ كَلَالَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ - أَيِ الْمَيِّتِ - كَلَالَةً ; أَيْ: لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنَ اللُّغَةِ لَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ إِرْثِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِهِمَا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَلَّا يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْكَلَالَةَ عَلَى النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْقَرِينَةُ قَاضِيَةً بِأَنْ يُقَالَ:

إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ هُنَا مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا زَوْجٌ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ ذُكِرَ فَرْضُهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَبْلَ ذِكْرِ الْكَلَالَةِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ أَصْحَابُ فَرْضٍ فِي الْكَلَالَةِ، وَأَنَّ فَرْضَهُمْ هُوَ فَرْضُ الْأُمِّ الَّتِي حَلُّوا مَحَلَّهَا فِي الْإِرْثِ، وَهُوَ مِنَ الْقَرَائِنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ، وَبَقِيَ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا أَوْ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ مَسْكُوتًا عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضٌ مِنَ الْأَقَارِبِ يَحُوزُ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ إِنْ كَانَ عَصَبَةً، عَلَى قَاعِدَةِ: (أَخْذِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَقْرَبِ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ. فَلَمَّا مَرِضَ جَابِرٌ وَلَهُ أَخَوَاتٌ مِنْ عَصَبَتِهِ، أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ لَهُنَّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ وَهُوَ كَلَالَةٌ، وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تُوَرِّثُ الْإِنَاثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، فَجَعَلَ لَهُنَّ فِيهَا فَرْضًا، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ; إِذْ نَفَتِ الْوَلَدَ، وَلَمْ تَنْفِ الْوَالِدَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ رَأْيَهُ فِي لَوْحٍ وَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللهَ مُدَّةً فِيهِ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ. حَتَّى إِذَا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمُحِيَ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِمَا، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَى عُمَرَ حِينَ طُعِنَ فَقَالَ: " احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَلَّا يُدْرِكَنِي النَّاسُ، أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ " وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَنْكَرَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدٌ لَهُ وَلَا وَالِدٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ. وَهَهُنَا عِبْرَةٌ يَجِبُ تَدَبُّرُهَا، وَهِيَ أَنَّنِي لَمْ أَرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَغْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا أَدَلَّ مِنْهَا عَلَى قُوَّةِ دِينِهِ، وَإِيمَانِهِ بِالْقُرْآنِ، وَحِرْصِهِ عَلَى بَيَانِ كُلِّ حُكْمٍ مِنَ الشَّرْعِ بِدَلِيلِهِ، وَوُقُوفِهِ إِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ فَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنِ الْكَلَالَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَأَنْ أَعْلَمَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ شَيْءٍ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ؟ " فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَالظَّاهِرُ - إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ - أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْكَامَ الْكَلَالَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَيَسْأَلُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ سُؤَالًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا، لَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ مِنْهُ، فَيَذْكُرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يَزِيدُهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ شَيْئًا، فَكَبُرَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَفْسِهِ، وَصَارَتْ إِذَا ذُكِرَتْ تَهُولُهُ، وَتُحْدِثُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا، فَلَا يَتَجَرَّأُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ

اجْتِهَادَهُ وَرَأْيَهُ فِي فَهْمِهَا. وَقَدْ عَهِدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ تَصَوُّرِ بَعْضِ الْأُمُورِ ; كَبَعْضِ أَرْقَامِ الْحِسَابِ مَثَلًا، وَيَكُونُ تَصَوُّرُهُمْ وَإِدْرَاكُهُمْ لِكُلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ صَحِيحًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَا تَخَافُهُ النَّفْسُ، وَيَضْطَرِبُ لَهُ الْعَصَبُ، كَالْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يُقَدِّمُونَ اجْتِهَادَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَ شُيُوخِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ كِتَابَ اللهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْوَارِثِينَ مَنْ كَلَّ وَأَعْيَا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ ; فَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِهِ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا النَّسَبُ الْمُتَّصِلُ بِالذَّاتِ - الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَا عَلَا مِنَ الْأُصُولِ وَسَفُلَ مِنَ الْفُرُوعِ - هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ، فَلَا يَكُونُ كَلَالَةً ; فَالْكَلَالَةً مِنَ الْوَارِثِينَ إذًا هُمُ الْحَوَاشِي الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةِ الْأَبَوَيْنِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا مِنَ الْأَطْرَافِ، وَالْكَلَالَةُ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ هُوَ الَّذِي يَرِثُهُ غَيْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَهَذَا مَا كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ ; لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا صِحَّةَ لِغَيْرِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ بَعْضُهُمْ إِلَّا لِنَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُمْ عَهِدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَالٍ مِنَ الْعَبَثِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فِي ذِكْرِ مَا يُثْبِتُهُ وَتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، وَهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ حَفِظُوا هَذَا الْقُرْآنَ أَكْمَلَ حِفْظٍ وَأَتَمَّهُ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ نَسُوا أَوْ تَرَكُوا ذِكْرَ نَفْيِ الْوَالِدِ مَعَ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْآيَةِ ; وَلِهَذَا أَغْلَظَ حُذَيْفَةُ الرَّدَّ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ ; إِذْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا شَيْئًا بِرَأْيِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلُّ الْإِشْكَالِ هُوَ نُكْتَةَ نَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ نَفْيِ الْوَالِدِ فِي الْآيَةِ، وَإِلَيْكَ تَفْسِيرُهَا مُتَضَمِّنًا لِهَذِهِ النُّكْتَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي مَنْ يُورَثُ كَلَالَةً ; كَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَلَهُ أَخَوَاتٌ مَنْ عَصَبَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ شَيْءٌ فِي التَّرِكَةِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَالثُّلُثُ لِمَا زَادَ عَنِ الْوَاحِدِ، شُرَكَاءَ فِيهِ مَهْمَا كَثُرُوا ; لِأَنَّهُ سَهْمُ أُمِّهِمْ لَيْسَ لَهَا سِوَاهُ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ هَلَكَ: مَاتَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُنْذُ قُرُونٍ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْقِيرِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ مُطْلَقًا، بِقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا (40: 34) وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صِفَةٌ (امْرُؤٌ) أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (هَلَكَ) وَالْمَعْنَى: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ عَادِمٌ لِلْوَلَدِ، أَوْ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ، وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ أُخْتًا مِنْ أَبَوَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ. وَالنُّكْتَةُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ، تَظْهَرُ بِوُجُوهٍ: (1) أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْكَلَالَةِ لُغَةً. (2) أَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ عَنْ تَرِكَةٍ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَالَ

الَّذِي يَتْرُكُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وِرَثَهُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اكْتَسَبَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَسْبُ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَالْكُهُولَةِ وَيَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَقَاءُ الْوَالِدَيْنِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِي الذِّكْرِ إِيجَازًا (3) وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ عَدَمَ إِرْثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْوَالِدِ الَّذِي يُدْلُونَ بِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ الَّتِي أُنْزِلَتْ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي بَيَانِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَيْضًا مِنَ الْقَاعِدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمِنْ قَاعِدَةِ حَجْبِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (4: 11) ; أَيْ: وَالْبَاقِي - وَهُوَ الثُّلْثَانِ - لِأَبِيهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (4: 11) لِأَنَّ أَوْلَادَهَا يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ ; فَيَكُونُ ثُلُثُهَا سُدُسًا، وَالسُّدُسُ الْآخَرُ يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلْأَبِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ وُجُودَهُمَا يُنْقِصُ فَرْضَهَا، وَلَمْ تَفْرِضْ لَهُمْ شَيْئًا، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ لَهُمْ فَرْضٌ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَخِيهِمْ إِلَّا بِهِ، وَمَا يَتْرُكُهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَغَيْرِهِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْأَبِ فَائِدَةٌ فَتُرِكَ إِيجَازًا ; لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَمِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالْقَوَاعِدِ الثَّابِتَةِ، وَكَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَبْنِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَالْمُبَيِّنُ لَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَلَيْسَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نَفْيِ الْوَالِدِ هُنَا مَعَ إِرَادَتِهِ، إِلَّا مِثْلَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْضُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دِينٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ ذِكْرِهِ، بَلْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِ نَفْيِ الْوَالِدِ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مِنَ اللَّفْظِ، وَكَوْنِ الْغَالِبِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، وَكَوْنِهِ إِنْ وُجِدَ يَكُونُ حَجْبُهُ لِأَوْلَادِهِ مَعْلُومًا قَطْعِيًّا ; لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ وَمَقِيسٌ، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَرَّرْتُ بَعْضَ الْمَعَانِي ; لِاضْطِرَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَلَالَةِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَيَانٍ تَامٍّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَبَيْنَ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلَدِ هُنَا هَلْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْبِنْتَ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالِابْنِ، كَمَا يُطْلَقُ أَحْيَانًا، وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأُخْتَ لَا تَرِثُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَتَرِثُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى هُنَا لَمْ يَرَ إِرْثَ الْأُخْتِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ مَانِعًا مِنِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ وُجُودِ الْبِنْتِ، لِإِرْثِهَا النِّصْفَ فَرْضًا ; لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ لَهَا هُنَا - وَهُوَ النِّصْفُ - يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ وُجُودِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ تَجْعَلُهَا عَصَبَةً تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ كُلِّ ذِي فَرْضٍ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْبَاقِي النِّصْفَ، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَارِثٌ إِلَّا الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ كَانَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ فَرْضًا، وَالْبَاقِي وَهُوَ

النِّصْفُ لِلْأُخْتِ تَعْصِيبًا لَا فَرْضًا، فَلَا يُنَافِي الْآيَةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الثُّمُنَ، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَتْ تَرِثُ النِّصْفَ فَرْضًا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ، وَوُجِدَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ لَعَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَكَانَ النَّقْصُ مِنَ السِّهَامِ لَاحِقًا بِكُلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَلَا تَقِلُّ سِهَامُ الْأُخْتِ عَنْ سِهَامِ الْبِنْتِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ هُنَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَيْ وَالْمَرْءَ يَرِثُ أُخْتَهُ إِذَا مَاتَتْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَلَا وَالِدٌ يَحْجُبُهُ عَنْ إِرْثِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ عَدَمَ ذِكْرِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ ; لِأَنَّهُ كَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَرِثَهَا وَحْدَهُ فَكَانَ لَهُ كُلُّ التَّرِكَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ ; لِأَنَّهُ مُقَابِلُ إِرْثِ الْأُخْتِ لِلنِّصْفِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْإِرْثَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النَّصِيبَ ; لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ هُوَ عَصَبَةٌ يَحُوزُ كُلَّ التَّرِكَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَرِثُ هُوَ مَعَهُ فَيَحُوزُ كَلَالَةَ جَمِيعِ مَا بَقِيَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَبِنْتُ الْأُخْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَهَا النِّصْفُ فَرْضًا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَهُوَ يَرِثُ مَعَهَا الْبَاقِيَ، وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَإِذَا مَاتَتْ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتٍ وَزَوْجٍ ; فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَخِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ. وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُدْخِلَ الصُّوَرَ الَّتِي يَرِثُ فِيهَا الْأَخُ مَعَ الْبِنْتِ الْأُخْتَ فِي مَفْهُومِ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفَسَّرُوا الْوَلَدَ بِالِابْنِ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إذًا ; لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحْجُبُهُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ إِرَادَةُ هَذِهِ الصُّوَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَحُكْمُهَا مَعْلُومٌ مِنَ النُّصُوصِ الْأُخْرَى. فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَيْ فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ أُخْتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَخُوهُمَا كَلَالَةً، وَكَذَا إِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ بِالْأَوْلَى ; كَأَخَوَاتِ جَابِرٍ، وَكُنَّ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا، وَالْبَاقِي لِمَنْ يُوجَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَالزَّوْجَةِ، وَإِلَّا أَخَذَ كُلُّ ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَعَبَّرَ بِالْعَدَدِ فَقَالَ: (اثْنَتَيْنِ) دُونَ (أُخْتَيْنِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِخْوَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْفَرْضِ بِالْعَدَدِ. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً أَيْ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُونَ بِالْأُخُوَّةِ كَلَالَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي كُلِّ صِنْفٍ اجْتَمَعَ مِنْهُ أَفْرَادٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي سُدُسِ أُمِّهِمْ لِحُلُولِهِمْ مَحَلَّهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا ;

لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ. يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أُمُورَ دِينِكُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِهَا، كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، أَوْ تَفَادِيًا مِنْهَا مِنْ أَنْ تَضِلُّوا، وَالْمُرَادُ لِتَتَّقُوا بِمَعْرِفَتِهَا وَالْإِذْعَانِ لَهَا الضَّلَالَ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمَشْهُورُ زِدْنَاهُ بَيَانًا بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقَدَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَيْهِ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالَ: " أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِكُمْ، إِذَا خُلِّيتُمْ وَطِبَاعَكُمْ لِتَحْتَرِزُوا عَنْهُ وَتَتَحَرَّوْا خِلَافَهُ " وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ صَاحِبِ النَّظْمِ أَنَّهُ قَالَ: " يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجْتَنِبُوهَا " اهـ. وَالْكُوفِيُّونَ يُقَدِّرُونَ حَرْفَ النَّفْيِ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَظْهَرُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " لَا يَدْعُو أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ " قِيلَ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الْبَصْرِيِّينَ: أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَفِي مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الْحَذَرُ وَالتَّفَادِي، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمَا شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَسِوَاهَا، إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ فِيهَا الْخَيْرَ لَكُمْ وَحِفْظَ مَصَالِحِكُمْ، وَصَلَاحَ ذَاتِ بَيْنَكُمْ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، كُلُّهَا مُوَافَقَةٌ لِلْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ السِّيَاقِ لَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي اللَّفْظِ حَتَّى فِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَفْظِ الْمَرْءِ فِي بَيَانِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ " وَهُوَ يَرِثُهَا " بَلْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَعْنَى: " وَهُوَ " أَيْ أَخُوهَا، يَرِثُهَا إِلَخْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا وَإِنْ كَانُوا. وَمِنْ مَبَاحِثِ تَارِيخِ الْقُرْآنِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ: مَا رُوِيَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ. رَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً " بَرَاءَةٌ " أَيِ التَّوْبَةُ، وَآخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَبِهَذَا لَا تُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: " مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِآيَةِ الرِّبَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (2: 278) الْآيَةَ. وَذَكَرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَوْ آخِرَ مَا نَزَلَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ (2: 281) الْآيَةَ، وَهِيَ بَعْدُ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوْ آخِرُهُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ وَثَمَانُونَ

يَوْمًا. وَرِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ: وَعَاشَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تِسْعَ لَيَالٍ، وَمَاتَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَحْثٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِآخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخَرَ مَا نَزَلَ قَطْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آخِرَهَا كُلِّهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. (خُلَاصَةُ السُّورَةِ) افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ النَّاسِ وَتَنَاسُلِهِمْ، ثُمَّ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبُيُوتِ: الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَحُقُوقِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، وَمِنْهَا فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ، وَإِرْثُ النِّسَاءِ وَعَضْلُهُنَّ، وَعِقَابِ مَنْ يَأْتِي الْفَاحِشَةَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَمُحَلَّلَاتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهَذَا نَسَقٌ وَاحِدٌ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً، تَتَخَلَّلُهَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ وَالْوَعْدُ عَلَيْهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ بِاللهِ وَتُزَكِّي النَّفْسَ. يَلِي ذَلِكَ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، مُمَهَّدًا لَهَا بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ، وَتَشْنِيعِ الْبُخْلِ وَكِتْمَانِ نِعَمِ اللهِ، وَوَعِيدِ الْكُفْرِ وَعِصْيَانِ الرَّسُولِ. وَذَلِكَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ، إِلَّا مَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ التَّيَمُّمِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَهَا بِحِكَايَةِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ ; لِيُعْلَمَ مِنْهُ سُنَّةُ اللهِ وَحُكْمُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وَتَكُونُ حَالُهُ كَحَالِهِمْ، كَمَا وَعَدَ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ 44 إِلَى الْآيَةِ 57. وَلَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ ذِكْرٌ لِحَالِهِمْ فِي الْمُلْكِ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَثَرَةُ وَحِرْمَانُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَقَلِّ مَنْفَعَةٍ، بَيَّنَ عَقِبَهُ مَا يَجِبُ أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْعَدْلِ بِلَا مُحَابَاةٍ، وَإِطَاعَةُ اللهِ فِيمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ بَيَانِهَا وَالْقَضَاءِ بِهَا أَوْ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيمَا يَضَعُونَ لِلنَّاسِ مِنَ النِّظَامِ الْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِحَسْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ مَا يَضَعُونَهُ مُطَاعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ

أَحْوَالُهُمْ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ ; وَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذُكِرَتْ أَحْكَامٌ وَحِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ وَالْهِجْرَةِ وَالْأَمَانِ، وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَمْرَ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهَذَا سِيَاقٌ بُدِئَ مِنَ الْآيَةِ (60) وَانْتَهَى إِلَى الْآيَةِ (104) . بَعْدَ هَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَاقِعَةٍ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحَابِيَ الرَّسُولُ فِيهَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَقَّبَهَا بِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعِيدِ، وَلَاسِيَّمَا وَعِيدُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، ثُمَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا عَدَا الشِّرْكَ يَتْبَعُهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، لَا بِالْأَمَانِيِّ وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ شَرِيفٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ. فَكَانَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَوَاعِظُهَا فِي شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، وَمَزَايَا الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِبَيَانِ حُسْنِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى فَضْلِهِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا، وَيَمْتَدُّ هَذَا السِّيَاقُ إِلَى الْآيَةِ (125) . تَلَا ذَلِكَ آيَاتٌ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَنُشُوزِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَتَفَرُّقِهِمْ، دُعِّمَتْ بِآيَاتٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا شَفَقَةٍ، وَذَلِكَ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَوَعِيدِ الَّذِينَ يَتَقَلَّبُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ فِيهِ، فَذَكَرَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْكَافِرِينَ وَسَبَبَهَا وَمَنْشَأَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَمُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ وَوَعِيدَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَجَزَاءَ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُمْ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ (147) وَهِيَ آخِرُ الْجُزْءِ الْخَامِسِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. فَافْتُتِحَ بِحُكْمِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ الْقُبْحُ وَالذَّمُّ، وَحُسْنُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَيْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ بِبَعْضٍ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَبَيَانُ عَرَاقَةِ هَذَا فِي الْكُفْرِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ مُشَاغَبَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُجَّتُهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمُعَانَدَةِ مُوسَى، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَنَقْضِ مِيثَاقِ اللهِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِيذَاءِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَالِافْتِخَارِ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَخَتْمِ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي نِصْفِ حِزْبٍ يَنْتَهِي بِالْآيَةِ (162) . بَعْدَ هَذَا أَقَامَ اللهُ حُجَّتَهُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ بِكَوْنِ وَحْيِهِ إِلَيْهِ كَوَحْيِهِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى كُلِّ الْأُمَمِ، أَيْ: فَلَمْ يَجْعَلْهُ خَاصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَوْنِهِ -

تَعَالَى - يَشْهَدُ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ ; إِذْ جَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ الْأَعْلَى، مُنَزَّلًا عَلَى الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَخَتَمَ هَذَا بِبَيَانِ حَالِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَغَايَتِهِ الَّتِي يَأُولُ إِلَيْهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. فَتَمَّ هَذَا السِّيَاقُ بِبِضْعِ آيَاتٍ. ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَإِبْطَالِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْمَسِيحُ، وَخَتْمِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ تَعَالَى بُرْهَانٌ، وَكِتَابَهُ نُورٌ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا، وَوَعْدِ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذَا الْكِتَابِ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ الْإِلَهِيَّيْنِ، وَهِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا هُوَ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ فِيهَا أُصُولَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَهَمَّ فَرَائِضِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْأَهْلِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقِتَالِ، وَشُئوُنِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ، فَهِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ الطِّوَالِ فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَحُجَجًا. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا، فَهِيَ ذَيْلٌ لِلسُّورَةِ فِي فَتْوَى مُتَمِّمَةٍ لِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ الْحِكْمَةَ فِي أُسْلُوبِ الْمَزْجِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَحْكَامِ أَوِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُجْعَلُ ذَيْلًا أَوْ مُلْحَقًا لِكِتَابٍ أَوْ قَانُونٍ ; فَهِيَ أَنَّ الذِّهْنَ يَتَنَبَّهُ إِلَيْهَا أَفْضَلَ تَنَبُّهٍ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا كَمَا يَغْفُلُ عَمَّا يَكُونُ مُنْدَمِجًا فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامٍ أَوْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَكَأَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدَةً عَلَى غَيْرِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ يُرَادُ بِهِ تَوْجِيهُ النُّفُوسِ إِلَيْهَا لِئَلَّا تَغْفُلَ عَنْهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ صَارَ مَأْلُوفًا هَذَا الْعَصْرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ، حَتَّى فِي الْمُرَاسَلَاتِ الْخَاصَّةِ يَجْعَلُونَ لِلرِّسَالَةِ ذَيْلًا يُسَمُّونَهُ حَاشِيَةً، كَمَا يَكُونُ مِمَّنْ نَسِيَ مَسْأَلَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّسَالَةِ وَإِمْضَائِهَا بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فِي آخِرِهَا، وَهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ كَثِيرًا ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَضِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. (يقولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ - تَعَالَى - لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ (1331هـ) وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ، وَيُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحِ الْحَقِّ) .

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (وهي السُّورَةُ الْخَامِسَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ " فِلُوجِلْ " وَمِائَةٌ وَثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ ; فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى فَاصِلَتَيْنِ فَقَطْ) . هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ فِي مَكَّةَ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3) إِلَخْ. نَزَلَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خَمٍّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَامِنِ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مَرْجِعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ أَوَّلَ الْمَائِدَةِ نَزَلَ بِمِنًى، أَيْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. أَمَّا التَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ قَالَ الْكَوَاشِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ آمِرًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِدَّةِ عُقُودٍ صَرِيحًا وَضِمْنًا ; فَالصَّرِيحُ عُقُودُ الْأَنْكِحَةِ، وَعَقْدُ الصَّدَاقِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْأَمَانِ، وَالضِّمْنِيُّ: عَقْدُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، الدَّاخِلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (4: 58) فَنَاسَبَ أَنْ تُعَقَّبَ بِسُورَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي فُرِغَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا عُقُودٌ. قَالَ: وَوُجِّهَ أَيْضًا تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَتَأْخِيرُ الْمَائِدَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ تِلْكَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (4: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَنْزِيلِ الْمَكِّيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (5: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ الْمَدَنِيِّ، وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ، أَيْ خِطَابُ النَّاسِ كَافَّةً وَشَبَهُ الْمَكِّيِّ أَنْسَبُ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي التَّلَازُمِ وَالِاتِّحَادِ نَظِيرُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَتَانِكَ اتَّحَدَتَا فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَاتَانِ فِي تَقْرِيرِ الْفُرُوعِ الْحُكْمِيَّةِ، وَقَدْ خُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِالْمُنْتَهَى مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكَأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى. اهـ. أَقُولُ: هَذَا أَجْمَعُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ الرَّازِيُّ وَلَا الْبَقَاعِيُّ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ، وَأَنْتَ

المائدة

تَرَى أَنَّ مُعْظَمَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَعَ شَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأُطِيلَ بِهِ فِي آخِرِهَا، فَهُوَ أَقْوَى الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَأَظْهَرُ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ، كَأَنَّ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُتَمِّمٌ وَمُكَمِّلٌ لِمَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَفِي كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمِنَ الْمُشْتَرَكِ مِنْهَا فِي السُّورَتَيْنِ: آيَتَا التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ، وَحُكْمُ حِلِّ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَزَادَ فِي الْمَائِدَةِ حِلُّ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ مُتَمِّمًا لِأَحْكَامِ النِّكَاحِ فِي النِّسَاءِ. وَمِنَ الْمُشْتَرَكِ فِي الْوَصَايَا الْعَامَّةِ: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةُ بِالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِأَحَدٍ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَمِنْ لَطَائِفِ التَّنَاسُبِ فِيهِمَا، أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ مَهَّدَتِ السَّبِيلَ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا أَلْبَتَّةَ، فَكَانَتْ مُتَمِّمَةً لِشَيْءٍ فِيمَا قَبْلَهَا، وَانْفَرَدَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِأَحْكَامٍ قَلِيلَةٍ فِي الطَّعَامِ وَالصَّيْدِ وَالْإِحْرَامِ، وَحُكْمِ الْبُغَاةِ الْمُفْسِدِينَ، وَحَدِّ السَّارِقِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ كَمَالِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَمَامِهَا، كَمَا انْفَرَدَتِ " النِّسَاءُ " بِأَحْكَامِهِنَّ وَأَحْكَامِ الْإِرْثِ وَالْقِتَالِ، وَهِيَ مِمَّا كَانَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِهَا. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَآئِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

الْوَفَاءُ وَالْإِيفَاءُ: هُوَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ (17: 35) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ (16: 91) وَيُقَالُ لِمَنْ لَمْ يُوفِ الْكَيْلَ: أَخْسَرَ الْكَيْلَ، وَكَذَا الْمِيزَانُ، وَلِمَنْ لَمْ يُوفِ الْعَهْدَ: غَدَرَ وَنَقَضَ، وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَوْضِعٌ، وَ (الْعُقُودُ) : جَمْعُ عَقْدٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا فَجُمِعَ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ الْحَلِّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَقْدُ: الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، أَيْ: وَرَبْطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ الصَّلْبَةِ ; كَعَقْدِ الْحَبْلِ وَعَقْدِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْمَعَانِي ; نَحْوَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْعَهْدِ وَغَيْرِهِمَا. اهـ. وَمِنْهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَفَسَّرُوهُ فِي الْآيَةِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مَا يُعْهَدُ إِلَيْكَ لِأَجْلِ حِفْظِهِ، وَيُطْلَبُ مِنْكَ الْقِيَامُ بِهِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْيَمِينَ وَعَقَدَ النِّكَاحَ: أَبْرَمَهُ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (4: 33) وَعَقَدَ الْبَيْعَ، وَعَقَدُوا الشَّرِكَةَ، وَيُقَالُ عَاقَدْتُهُ وَعَاهَدْتُهُ، وَتَعَاقَدْنَا وَتَعَاهَدْنَا. وَعَهْدُ اللهِ: كُلُّ مَا عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ حِفْظَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ أَوِ التَّلَبُّسَ بِهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ. وَمَا يَتَعَاقَدُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ: هُوَ أَوْثَقُهَا وَآكَدُهَا، فَالْعَقْدُ أَخَصُّ مِنَ الْعَهْدِ. وَ (الْبَهِيمَةُ) : مَا لَا نُطْقَ لَهُ، وَذَلِكَ لِمَا فِي صَوْتِهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ خُصَّ فِي التَّعَارُفِ بِمَا عَدَا السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ مُطْلَقًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَهِيمَةُ كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعِ قَوَائِمَ، وَلَوْ فِي الْمَاءِ، أَوْ كُلُّ حَيٍّ لَا يُمَيِّزُ، جَمْعُهُ بَهَائِمُ. اهـ. وَ (الْأَنْعَامُ) : هِيَ الْإِبِلُ (الْعِرَابُ) وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ. وَالْغَنَمُ: (الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ) وَإِضَافَةُ بَهِيمَةٍ إِلَى الْأَنْعَامِ لِلْبَيَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. " كَشَجَرِ الْأَرَاكِ " أَيْ: أُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الْبَهِيمَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ ; أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمُشَابِهَةُ لِلْأَنْعَامِ، قِيلَ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ هُوَ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي الْحِلِّ. وَ (الْحُرُمُ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ حَرَامٍ، وَهُوَ الْمُحَرَّمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَ (شَعَائِرُ اللهِ) مَعَالِمُ دِينِهِ وَمَظَاهِرُهُ، وَغَلَبَ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشُّعُورِ. وَ (الْهَدْيُ) : جَمْعُ هَدِيَّةٍ ; كَجَدْيٍ جَمْعُ جَدِيَّةٍ لِحَشِيَّةِ السَّرْجِ وَالرَّحْلِ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِيُذْبَحَ هُنَالِكَ، وَهُوَ مِنَ النُّسُكَ، وَ (الْقَلَائِدُ) جَمْعُ قِلَادَةٍ، وَهِيَ مَا يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ، وَكَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ مِنَ الْهَدْيِ بِنَعْلٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ لِحَاءِ شَجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ; لِيُعْرَفَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ أَحَدٌ، كَمَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ أَوْ عَادُوا مِنْهُ ; لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَ (يَجْرِمَنَّكُمْ) مِنْ جَرَّمَهُ الشَّيْءَ: أَيْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ يَجْرِمُهُ، أَيْ: يَكْسِبُهُ وَيَفْعَلُهُ، فَهُوَ كَكَسْبٍ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَصْلُ الْجَرْمِ قَطْعُ الثَّمَرَةِ عَنِ الشَّجَرَةِ، وَ (الشَّنَآنُ) : الْبُغْضُ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِي يَصْحَبُهُ التَّقَزُّزُ مِنَ الْمَبْغُوضِ، يُقَالُ شَنَأَهُ (بِوَزْنِ مَنَعَ وَسَمَعَ) شَنَأً (بِتَثْلِيثِ الشِّينِ) وَشَنَآنًا (بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِهَا) وَمَشْنَأً وَمَشْنَأَةً: أَبْغَضَهُ، وَشُنِئَ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَشْنُوءٌ أَيْ مُبْغَضٌ، وَإِنْ كَانَ جَمِيلًا، وَضِدُّهُ الْمُشْنَأُ (كَمُقْعَدٍ) وَهُوَ الْقَبِيحُ وَإِنْ كَانَ مُحَبَّبًا، وَالشَّنُوءَةُ: الْمُتَقَزِّزُ وَالتَّقَزُّزُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: شَنَئْتُهُ: تَقَزَّزْتُهُ ; بُغْضًا لَهُ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُقُودِ: عُهُودُ اللهِ الَّتِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ: " مَا أَحَلَّ اللهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا " وَعَنْ قَتَادَةَ: هِيَ عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ مَا كَانَ مِنَ الْحِلْفِ فِيهَا، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدَةَ: الْعُقُودُ الْخَمْسُ: عُقْدَةُ الْإِيمَانِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الْبَيْعِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الشَّرِكَةِ، وَعُقْدَةُ الْيَمِينِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي عَقَدَهَا عَلَيْنَا، وَالَّتِي نَتَعَاقَدُ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَنَا. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي عَنِ الرَّاغِبِ، قَالَ: الْعُقُودُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْقُودِ وَالْعَاقِدِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: عَقْدٌ بَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - وَبَيْنَ الْعَبْدِ، وَعَقْدٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَعَقْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ الْمُوجِبِ لَهُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ وَهُوَ مَا رَكَّزَ اللهُ - تَعَالَى - مَعْرِفَتَهُ فِي الْإِنْسَانِ فَيَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِمَّا بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَإِمَّا بِأَدْنَى نَظَرٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (7: 172) الْآيَةَ، وَضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ مَا دَلَّنَا عَلَيْهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ; إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ ابْتِدَاءً أَوْ يَلْزَمَ بِالْتِزَامِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ. وَالثَّانِي أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: فَالْأَوَّلُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ ; كَالنُّذُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرَبِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ إِنْ عَافَانِي اللهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ ; كَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ; فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَالرَّابِعُ وَاجِبٌ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا الْمُسْلِمَ. فَيَحْصُلُ مِنْ ضَرْبِ سِتَّةٍ فِي أَرْبَعَةٍ: أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضَرْبًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كُلَّ عَقْدٍ سِوَى مَا كَانَ تَرْكُهُ قُرْبَةً وَاجِبًا، فَافْهَمْ وَلَا تَغْفُلْ. اهـ. هَذَا أَجْمَعُ كَلَامٍ رَأَيْتُهُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ تَجَدَّدَ لِأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ تَبِعَهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُودِ، يَذْكُرُونَهَا فِي كُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُسْتَحْدَثَةِ ; مِنْهَا مَا يُجِيزُهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُدَوَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُجِيزُونَهُ ; لِمُخَالَفَتِهِ شُرُوطَهُمُ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا. كَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ قَوْلًا حَتَّى لَوْ كَتَبَ اثْنَانِ عَقْدًا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ قَوْلًا أَوْ كِتَابَةً نَحْوَ: " تَعَاقَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ بِكَذَا وَالثَّانِي بِكَذَا، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِالْقَوْلِ

وَأَمْضَيَا مَا كَتَبَاهُ بِتَوْقِيعِهِ أَوْ خَتْمِهِ، لَا يَعُدُّونَهُ عَقْدًا صَحِيحًا نَافِذًا، وَقَدْ يُصِيغُونَهُ بِصِيغَةِ الدِّينِ، فَيَجْعَلُونَ الْتِزَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمُبَاحٍ وَإِيفَاءَهُمَا بِهِ مُحَرَّمًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى ; لِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَيَشْتَرِطُونَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ شُرُوطًا: ; مِنْهَا مَا يَسْتَنِدُ عَلَى حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرِ صَحِيحٍ، صَرِيحِ الدَّلَالَةِ أَوْ خَفِيِّهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَنِدُ إِلَّا عَلَى اجْتِهَادِ مُشْتَرَطِهِ وَرَأْيِهِ، وَيُجِيزُونَ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَاقَدُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهَا حَتَّى بِالرَّأْيِ. وَأَسَاسُ الْعُقُودِ الثَّابِتُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ الْمُخْتَصَرَةُ الْمُفِيدَةُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَفِيَ بِمَا عَقَدَهُ وَارْتَبَطَ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْهُ، فَالتَّرَاضِي مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (4: 29) وَأَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، إِذِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً، وَالْإِشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ فِي حُصُولِ الْمَقْصِدِ مِنَ الْعَقْدِ ; كَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ الَّذِي مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ تَعَبُّدًا بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّةِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إِعْطَاءُ الثَّوْبِ لِلْغَسَّالِ أَوِ الصَّبَّاغِ أَوِ الْكَوَّاءِ، فَمَتَى أَخَذَهُ مِنْكَ كَانَ ذَلِكَ عَقْدَ إِجَارَةٍ بَيْنَكُمَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِمَنْ بِيَدِهِ تَذَاكِرُ السَّفَرِ فِي سِكَكِ الْحَدِيدِ، أَوِ الْبَوَاخِرِ وَأَخْذُ التَّذْكِرَةِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَرُكُوبُ سُفُنِ الْمَلَّاحِينَ وَمَرْكَبَاتِ الْحُوذِيَّةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ إِيصَالِ الرَّاكِبِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ. فَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَعُدُّهُ النَّاسُ عَقْدًا، فَهُوَ عَقْدٌ يَجِبُ أَنْ يُوفُوا بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَحْرِيمَ حَلَالٍ أَوْ تَحْلِيلَ حَرَامٍ مِمَّا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; كَالْعَقْدِ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ عَلَى إِحْرَاقِ دَارِ أَحَدٍ، أَوْ قَطْعِ شَجَرِ بُسْتَانِهِ أَوْ عَلَى الْفَاحِشَةِ، أَوْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ; كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ - الْقِمَارِ - وَالرِّشْوَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَيْسِرِ فِي كَوْنِهِ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ مِنَ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا، وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَدْخَلُوا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَالْغَرَرِ مَا لَا تُطِيقُهُ النُّصُوصُ مِنَ التَّشْدِيدِ، وَدَعَّمُوا تَشْدَيدَاتِهِمْ بِرِوَايَاتٍ لَا تَصِحُّ، وَأَشَدُّهُمْ تَضْيِيقًا فِي الْعُقُودِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَأَكْثَرُهُمُ اتِّسَاعًا وَسِعَةً الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَمِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُعْظَمَ تَشْدَيدَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ ذَهَابُ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْحَظْرُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا إِلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُخَالِفُ

مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَاطِلٌ. وَعَدُّوا مِنْ هَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِطْلَاقُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ، وَلَا سِيَّمَا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالْحَظْرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَيُؤَيِّدُ إِطْلَاقَ الْآيَةِ حَدِيثُ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ، بِزِيَادَةِ " إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ يَعْتَضِدُ - كَمَا قِيلَ - بِحَدِيثِ " النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتِ الْحَقَّ " رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ حَدِيثِ الصُّلْحِ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِدُونِ زِيَادَةِ " الشُّرُوطِ " وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ. وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بِرَيْرَةَ وَهُوَ: " مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هُنَا حَاصِلُ الْمَصْدَرِ ; أَعْنِي: الْمَشْرُوطَ لَا الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاطُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، وَأَذِنَ بِاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِمُكَاتَبِي بِرَيْرَةَ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ: مَا خَالَفَهُ. كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى الظَّاهِرِيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ فِي الْعُقُودِ شُرُوطًا لَا ذِكْرَ لَهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - شُرُوطٌ لِأَنْوَاعِ الْعُقُودِ فَيُكْتَفَى بِهَا وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَلَّا يَشْتَرِطَ أَحَدٌ شَرْطًا يُحِلُّ مَا حَرَّمَهُ كِتَابُ اللهِ أَوْ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّهُ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ؛ إِذْ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مَا أَبَاحَهُ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - بِالنَّصِّ أَوْ الِاقْتِضَاءِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَحْثٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ

وَالْعِتْقُ وَالْوَلَاءُ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَتْ: " وَجَاءَتْنِي بِرَيْرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بِرَيْرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ. . . " إِلَخْ. فَالْوَاقِعَةُ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ اشْتُرِطَ فِيهِ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ اللهِ فَكَانَ لَغْوًا، وَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ; فَالْأَصْلُ فِيهَا عُرْفُ النَّاسِ، وَتَرَاضِيهِمْ مَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ أَدِلَّةِ هَذَا الْأَصْلِ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا أَيَّدْنَاهَا بِهِ، حَدِيثُ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ، وَحَدِيثُ: مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. لِهَذَا تَجِدُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ تَصْحِيحًا لِلْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، عَلَى أَنَّهُ أَوْسَعُهُمْ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِمْسَاكًا بِهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عَلَى حَدِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، وَأَحْمَدُ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي شَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي إِبْطَالِ شُرُوطِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَتَرَى الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ - وَهُوَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الْعُرْفِ - لَا يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَلَّا تَنْتَقِلَ مِنْ بَلَدِهَا أَوْ مِنَ الدَّارِ، وَيُجِيزُ لَهَا فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدِ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّزَوُّجِ عَلَيْهَا، كَمَا يُجَوِّزُ لَهَا الْفَسْخَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُوبِ وَالتَّدْلِيسِ، وَأَجَازَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ، وَاشْتِرَاطَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ بِثَمَنِهَا إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا، وَلَكِنْ قَالَ لَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ، وَمَذْهَبُهُ هَذَا فِي الشُّرُوطِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُهُولَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْهَا. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَفَّى مَوْضُوعَ الْعُقُودِ حَقَّهُ مُؤَيَّدًا بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَوُجُوهِ الِاعْتِبَارِ فِي مَدَارِكِ الْقِيَاسِ - إِلَّا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ أَيْ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ أَكْلَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالِانْتِفَاعَ بِهَا، قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنَ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ - تَعَالَى - وَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيفَاءِ بِهَا، فَكَانَتْ كَالْعَقْدِ بِارْتِبَاطِهِمْ وَتَقَيُّدِهِمْ بِهَا، فَبَدَأَ بَعْدَ وَضْعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنَ الطَّعَامِ بِشَرْطِهِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الصَّيْدِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ إِلَخْ. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ حَالَ كَوْنِكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِأَلَّا تَجْعَلُوهُ حَلَالًا بِاصْطِيَادِهِ أَوِ الْأَكْلِ مِنْهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ دَاخِلُونَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ " مُحِلِّي الصَّيْدِ " فَلَا يَحِلُّ الصَّيْدُ لِمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَلَا لِلْمُحْرِمِ، أَيِ الدَّاخِلِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي خَارِجِ حُدُودِ الْحَرَمِ بِأَنْ نَوَى الدُّخُولَ فِي هَذَا النُّسُكِ، وَبَدَأَ بِأَعْمَالِهِ كَالتَّلْبِيَةِ وَلُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْقَيْدَ لِحَلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُرَجِّحًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا كَانَ مُشَابِهًا لِلْأَنْعَامِ مِنَ الْبَهَائِمِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُصَادَ ; كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهَا، وَأَمَّا حِلُّ الْأَنْعَامِ الْإِنْسِيَّةِ فَيُعْلَمُ مِنَ الْآيَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمِنْ غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ، بَلْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ جَارِيًا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ أَيْ يَمْنَعُ مَا أَرَادَ مَنْعَهُ، أَوْ يَجْعَلُهُ حُكْمًا وَقَضَاءً، وَالْحُكْمُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِرَادَتُهُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، فَلَا عَبَثَ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا جُزَافَ وَلَا خَلَلَ وَلَا ظُلْمَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَعَائِرَ دِينِ اللهِ حَلَالًا تَتَصَرَّفُونَ بِهَا كَمَا تَشَاءُونَ، وَهِيَ مَعَالِمُهُ الَّتِي جَعَلَهَا أَمَارَاتٍ تَعْلَمُونَ بِهَا الْهُدَى ; كَمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَسَائِرِ فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، بَلِ اعْمَلُوا فِيهَا بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا تُحِلُّوا الشَّهْرَ الْحَرَامَ بِاسْتِئْنَافِكُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا ذُو الْقَعْدَةِ، وَقِيلَ: رَجَبٌ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَيَدْخُلُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، وَهِيَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ (2: 217) فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ ; لِتَقِفَ عَلَى تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا تُحِلُّوا الْهَدْيَ الَّذِي يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللهِ مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى مَنْ هُنَاكَ مِنْ عَاكِفٍ وَبَادٍ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِمَنْعِ بُلُوغِهِ إِلَى مَحِلِّهِ مِنْ بَيْتِ اللهِ ; كَأَخْذِهِ لِذَبْحِهِ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً، أَوْ حَبْسُهُ عِنْدَ مَنْ أَخَذَهُ، وَلَا تُحِلُّوا الْقَلَائِدَ الَّتِي يُقَلَّدُ بِهَا هَذَا الْهَدْيُ، بِنَزْعِ الْقِلَادَةِ مِنْ عُنُقِ الْبَعِيرِ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ يَجْهَلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ ذَوَاتُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْهَدْيِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُحِلُّوا الْهَدْيَ

2

مُقَلَّدًا وَلَا غَيْرَ مُقَلَّدٍ، وَخُصَّ الْمُقَلَّدُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْهَدْيِ وَأَشْرَفُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْكَشَّافِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقَلِّدُونَ إِلَّا الْبُدُنَ (الْإِبِلَ) وَقِيلَ: الْهَدْيُ هُوَ مَا لَمْ يُقَلَّدْ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ (24: 31) : لَا يُبْدِينَ مَوَاضِعَ زِينَتِهِنَّ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ مَنْ يَتَقَلَّدُ مِنَ النَّاسِ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ مُحَرِمٌ، وَكَانَ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ يَرْجِعُ مِنْهُ، يَتَقَلَّدُ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِهِ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ، فَأَقَرَّ اللهُ تَأْمِينَ الْمُقَلَّدِ لِتَعْلَمَ الْعَرَبُ أَنَّ مَنْ تَقَلَّدَ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَانَ فِي جِوَارِ الْمُسْلِمِينَ وَحِمَايَتِهِمْ، وَبِهَذَا فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمَنْعُ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لِأَجْلِ التَّقَلُّدِ بِهِ عِنْدَ الْعَوْدَةِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنِ اسْتِحْلَالِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ أَوِ الْتِحَائِهِ، أَيْ: أَخْذِ قِشْرِ شَجَرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ تَحْرِيمُ التَّعَرُّضِ لِلْقَلَائِدِ نَفْسِهَا بِإِزَالَتِهَا، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُقَلَّدِ بِهَا مِنَ الْهَدْيِ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ إِحْلَالِ الْقَلَائِدِ حَقِيقَةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِحْلَالِ الْقَلَائِدِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ ذَوَاتِ الْقَلَائِدِ بِالْأَوْلَى، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ الْحَرَمَ لِلنُّسُكِ أَوْ غَيْرِ النُّسُكِ فَقَدْ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَيْ وَلَا تُحِلُّوا قِتَالَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، أَيْ قَاصِدِيهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَمَّهُ، وَيَمَّمَهُ، وَتَيَمَّمَهُ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَعَمَدَهُ، وَقَصَدَ إِلَيْهِ قَصْدًا مُسْتَقِيمًا لَا يَلْوِي إِلَى غَيْرِهِ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ بَيْتُ اللهِ الْمَعْرُوفُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ الَّذِي حَرَّمَهُ وَمَا حَوْلَهُ، أَيْ مَنَعَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهُ، وَأَنْ يُقْطَعَ شَجَرُهُ وَأَنْ يُخْتَلَى خَلَاهُ ; أَيْ يُؤْخَذَ نَبَاتُهُ وَحَشِيشُهُ، وَجَعَلَهُ آمِنًا لَا يُرَوَّعُ مَنْ دَخَلَهُ. رَاجِعْ وَمِنْ دَخْلِهِ كَانَ آمِنًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا أَيْ يَطْلُبُونَ بِأَمِّهِمُ الْبَيْتَ وَقَصْدِهِ التِّجَارَةَ وَالْحَجَّ مَعًا، أَوْ رِبْحًا فِي التِّجَارَةِ وَرِضَاءً مِنَ اللهِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَحُلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ، فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ يَلْتَمِسُونَ فَضْلَ اللهِ، وَرِضْوَانَهُ فِيمَا يُصْلِحُ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَالْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ الَّذِي يَبْتَغُونَ أَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ وَالتِّجَارَةَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَحُجُّ وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَتَاعًا " لَا بَأْسَ بِهِ " وَتَلَا الْآيَةَ. وَلَمْ يُرْوَ فِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " يَتَرَضَّوْنَ رَبَّهُمْ بِحَجِّهِمْ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ; أَنَّهُ فَسَّرَ الْفَضْلَ مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ، وَالرِّضْوَانَ بِالْحَجِّ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِنَ الْآيَةِ مَنْسُوخَةٌ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (9: 5)

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (9: 28) وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا زَالَ الْعَهْدُ بِسُورَةِ (بَرَاءَةٌ) زَالَ ذَلِكَ الْحَظْرُ. اهـ. أَيْ لَمْ يُنْسَخِ الْحُكْمُ، وَلَكِنْ زَالَ الْوَصْفُ الَّذِي نِيطَ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَحُكْمُهَا بَاقٍ فَلَمْ تُنْسَخْ وَلَمْ يَنْتَهِ حُكْمُهَا، وَمَنْ فَسَّرَ الْقَلَائِدَ بِمَنْ كَانَ يَتَقَلَّدُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ إِحْلَالِهَا مَنْسُوخٌ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَنْسُوخٌ. أَمَّا مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْمَأْثُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَكَوْنِهَا فِي الْمُشْرِكِينَ ; فَهُوَ كَمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْحَطْمَ بْنَ هِنْدِيٍّ الْبَكْرِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو؟ فَأَخْبَرَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: يَدْخُلُ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِيعَةَ، يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنْظُرُ وَلَعَلِّي أُسْلِمُ، وَلِي مَنْ أُشَاوِرُهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرَجَ بِعَقِبِ غَادِرٍ، فَمَرَّ بِسَرْحٍ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَسَاقَهُ. . . ثُمَّ أَقْبَلَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ حَاجًّا قَدْ قَلَّدَ وَأَهْدَى، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى بَلَغَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: " يَا رَسُولَ اللهِ، خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَلَّدَ. قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ الْحَطْمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَهُ يَحْمِلُ طَعَامًا، فَبَاعَهُ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَلَمَّا وَلَّى خَارِجًا نَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: " لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ فَاجِرٍ، وَوَلَّى بِقَفَا غَادِرٍ " فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَامَةَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجَ فِي عِيرٍ لَهُ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; لِيَقْطَعُوهُ فِي عِيرِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ فَانْتَهَى الْقَوْمُ (ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قَالَ: يَنْهَى عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَطْمَ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْتَادَ وَيَنْظُرَ، فَقَالَ: إِنِّي دَاعِيَةُ قَوْمٍ فَأَعْرِضْ عَلَيَّ مَا تَقُولُ، قَالَ لَهُ: " أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ أَنْ تَعْبُدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " قَالَ الْحَطْمُ: إِنَّ فِي أَمْرِكَ هَذَا غِلْظَةً فَأَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَذْكُرُ لَهُمْ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنْ قَبِلُوا أَقْبَلْتُ مَعَهُمْ وَإِنْ أَدْبَرُوا كُنْتُ مَعَهُمْ. قَالَ لَهُ: " ارْجِعْ " فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: " لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعُقْبَى غَادِرٍ، وَمَا الرَّجُلُ

بِمُسْلِمٍ " فَفَاتَهُمْ وَقَدِمَ الْيَمَامَةَ، وَحَضَرَ الْحَجُّ، فَجَهَّزَ خَارِجًا، وَكَانَ عَظِيمَ التِّجَارَةِ، فَاسْتَأْذَنُوا أَنْ يَتَلَقَّوْهُ وَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ إِلَخْ. وَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةً، وَسَوَاءٌ صَحَّتْ أَوْ لَمْ تَصِحَّ ; فَالْآيَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا وَعُمُومِهَا، وَالْمُفِيدُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَإِنَّهَا تُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ. وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا أَيْ وَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَمِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ فَاصْطَادُوا إِنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَقَطْ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ يَجِيءُ بَعْدَ حَظْرِهِ: أَنْ يَكُونَ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ رَفْعِ ذَلِكَ الْحَظْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ (62: 10) أَيْ بِالْبَيْعِ وَالْكَسْبِ الَّذِي جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (62: 9) وَمِنْهُ حَدِيثُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ بِالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ. وَمَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةَ قَدْ يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُحْظَرُ ; لِعَارِضٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَاصِمٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ " شَنْآنُ " بِسُكُونِ النُّونِ الْأَوْلَى، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: " إِنْ صَدُّوكُمْ " بِكَسْرِ " إِنْ " عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُشِيرُ إِلَى صَدِّ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَنْهَاهُمْ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ لِأَجْلِ اعْتِدَائِهِمُ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ وَعَدَاوَتُهُمْ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى أَعْدَائِهِمْ إِنْ صَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ عَنِ النُّسُكِ فِيهِ وَزِيَارَتِهِ، وَلَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ هَذَا قَدْ نَزَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ يُتَوَقَّعُ صَدٌّ مِنْ أَحَدٍ، وَبِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (2: 191) وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَى مَعْنَى الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ الْكَوْنِ، أَيْ: إِنْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وُرُودَ هَذَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تُبْنَى عَلَى الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ هَذَا الصَّدَّ قَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ فِي عَصْرِنَا مِنْ مَنْعِ بَعْضِ الْعَرَبِ كَأَهْلِ نَجْدٍ مِنَ الْحَجِّ لِأَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ ; كَأَخْذِ بَعْضِ أُمَرَاءِ نَجْدٍ الزَّكَاةَ مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَعُدُّهُمْ أُمَرَاءُ مَكَّةَ تَابِعِينَ لَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْطَادُوا دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ شَرْطِهِ،

وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الصَّيْدَ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ حُرُمًا يَحِلُّ لَكُمْ إِذَا حَلَلْتُمْ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَنْ تُبْغِضُونَهُمْ فَلَا يُبَاحُ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حِلٌّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَإِنْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بِالْمِثْلِ ; لِأَنَّهُ نُهِيَ عَنِ اسْتِئْنَافِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَامِ، فَإِنَّ مَنْ يَحْمِلُهُ الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُ يَكُونُ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْحَقِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُرَاعِي الْمُمَاثَلَةَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا وَلَا مَنْ حَرَّرَ هَذَا الْمَبْحَثَ، وَلَكِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَوْجِيهِ النَّهْيِ إِلَى الْمُسَبِّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ، كَقَوْلِهِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَهُنَا. فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ، وَجَعْلِهَا حَاكِمَةً عَلَى النَّفْسِ، حَامِلَةً لَهَا عَلَى الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ، وَلَا يَنْفِي هَذَا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ - كَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - جَزَاءٌ خَاصٌّ يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ. لَمَّا كَانَ اعْتِدَاءُ قَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ ; قَفَّى عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْبِرُّ: التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (وَالتَّقْوَى) : اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا (وَالْإِثْمُ) : فَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِأَنَّهُ كَالْأَثَامِ، اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبَطِّئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، وَجَمْعُهُ آثَامٌ، وَالْآثِمُ مُتَحَمِّلُ الْإِثْمِ وَفَاعِلُهُ، ثُمَّ صَارَ الْإِثْمُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَالْعُدْوَانُ تَجَاوُزُ حُدُودِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعَدْلِ فِيهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ النُّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَفِي رِوَايَةٍ " جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ " قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فِي نَفْسِهِ وَأَجَابَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " وَلَيْسَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْبِرِّ وَالْإِثْمِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَلَا اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا يَطْلُبُهُ السَّائِلُ مِنَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ مَا يَشْتَبِهُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ; فَيَشُكُّ الْإِنْسَانُ هَلْ هُوَ مِنْهُمَا أَمْ لَا، فَأَحَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَلَى ضَمِيرِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطَمْئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ خَالَفَ فَتْوَى الْمُفْتِينَ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الظَّوَاهِرَ دُونَ دَقَائِقِ الِاحْتِيَاطِ الْخَفِيَّةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُ كُلَّ سَائِلٍ بِحَسْبِ حَالَتِهِ.

كَانَ الصَّحَابَةُ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الْبِرِّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنَانِ لَهُمْ خِصَالَ الْبِرِّ وَأَعْمَالَهُ وَآيَاتِهِ، وَمَا قَدْ يَغْلَطُونَ فِي عَدِّهِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (2: 189) وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَ الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ، وَيَعُدُّونَ هَذَا مِنَ النُّسُكِ وَالْبِرِّ، وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (2: 177) فَهَذَا بَيَانٌ لِأَهَمِّ أَرْكَانِ الْبِرِّ فِي الدِّينِ ; مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتَنَاجُوا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى (58: 9) . فَمَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْبِرِّ مِصْدَاقٌ لِمَا فَسَّرَهُ بِهِ الرَّاغِبُ مِنْ أَنَّهُ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ (الْبَرِّ) بِالْفَتْحِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَحْرِ بِتَصَوُّرِ سِعَتِهِ، وَإِلَّا قُلْنَا: إِنَّ الْبِرَّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعَدُّ خَصْلَةً أَوْ شُعْبَةً مِنَ الْبِرِّ. أَمَّا الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْهِدَايَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى النَّاسِ إِيجَابًا دِينِيًّا أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ أَفْرَادًا وَأَقْوَامًا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى الَّتِي يَدْفَعُونَ بِهَا الْمَفَاسِدَ وَالْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّحْلِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ التَّحْلِيَةَ بِالْبِرِّ، وَأَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ ; وَهُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ بِالْمَعَاصِي وَكُلِّ مَا يَعُوقُ عَنِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَلَى الْعُدْوَانِ الَّذِي يُغْرِي النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَجْعَلُهُمْ أَعْدَاءً مُتَبَاغِضِينَ يَتَرَبَّصُ بَعْضُهُمُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ. كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً ; يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى عَنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ بِعَهْدٍ وَنِظَامٍ بَشَرِيٍّ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِيَّاتِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ كَانَ مُغْنِيًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (3: 110) وَلَمَّا انْتَثَرَ بِأَيْدِي الْخَلَفِ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَنُكِثَ ذَلِكَ الْعَهْدُ، صِرْنَا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ بِنِظَامٍ خَاصٍّ لِأَجْلِ جَمْعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ: التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي أَيِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ عَمَلٍ

مِنْ أَعْمَالِهِ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا فِي هَذَا الْعَصْرِ يُعِينُكَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْبِرِّ، مَا لَمْ يَكُنْ مُرْتَبِطًا مَعَكَ فِي جَمْعِيَّةٍ أُلِّفَتْ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لَا يَفِي لَكَ بِهَذَا كُلُّ مَنْ يُعَاهِدُكَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَهَلْ تَرْجُو أَنْ يُعِينَكَ عَلَى غَيْرِ مَا عَاهَدَكَ عَلَيْهِ؟ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَأْلِيفَ الْجَمْعِيَّاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِقَامَةُ هَذَا الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، إِذَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَحْيَا حَيَاةً عَزِيزَةً، فَعَلَى أَهْلِ الْغَيْرَةِ وَالنَّجْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْنَوْا بِهَذَا كُلَّ الْعِنَايَةِ، وَإِنْ رَأَوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ لَمْ تُعْنَ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهَا دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرِقِ وَأَقْصَدِهَا لِإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّنَا عُنِينَا بِتَأْلِيفِ جَمَاعَةٍ يُرَادُ بِهَا إِقَامَةُ جَمِيعِ مَا تُحِبُّ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ جَمَاعَةُ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، اللهُمَّ أَيِّدْ مَنْ أَيَّدَهَا وَأَعِنِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا، وَاخْذُلْ مَنْ ثَبَّطَ عَنْهَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَادِرُ، الْقَوِيُّ الْقَاهِرُ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي السَّرَائِرِ. وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أَيِ اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ فِي كِتَابِهِ وَفِي نِظَامِ خَلْقِهِ ; لِئَلَّا تَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ الَّذِي يُصِيبُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَتِهِ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، لَا هَوَادَةَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي عِقَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِشَيْءٍ، إِلَّا وَفِعْلُهُ نَافِعٌ وَتَرْكُهُ ضَارٌّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا وَفِعْلُهُ ضَارٌّ وَتَرْكُهُ نَافِعٌ، وَفِي مَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ كُلُّ مَا رَغَّبَ فِيهِ، وَفِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كُلُّ مَا رَغَّبَ عَنْهُ، فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ هِدَايَتِهِ مُفْضِيًا بِطَبْعِهِ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ، الَّتِي مِنْهَا فَسَادُ الْفِطْرَةِ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ، وَذَلِكَ إِبْسَالٌ لِلنَّفْسِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الدُّنْيَا وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَسَجَايَاهُ وَتَأْثِيرِ عَقَائِدِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي أَعْمَالِهِ، وَسُنَنِهِ فِي ارْتِقَاءِ الْإِنْسَانِ فِي أَفْرَادِهِ وَشُعُوبِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُوقِعُ الْإِنْسَانَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى شَرِّ عَاقِبَةٍ وَغَايَةٍ، وَإِنَّمَا يَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَلَا عَتَبَ لَهُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَالْعِقَابُ هُنَا يَشْمَلُ عِقَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ فِي عَذَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) وَوَضَعَ اسْمَ الْجَلَالَةِ الْمَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْإِضْمَارِ لِمَا لِذِكْرِ الِاسْمِ الْكَرِيمِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالتَّأْثِيرِ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ.

3

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ الثَّلَاثَةُ قَدْ ذُكِرَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ، تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوَفِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (6: 145) وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (16: 115) وَخَتَمَ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمِنَ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ نَاسِخَةً لِلْحَصْرِ فِيهِمَا بِزِيَادَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بَلْ هَذَا شَرْحٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْمَيْتَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، فَمُحَرَّمَاتُ الطَّعَامِ أَرْبَعَةٌ بِالْإِجْمَالِ، وَعَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا: الْأَوَّلُ: الْمَيْتَةُ، يُرَادُ بِالْمَيِّتِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَيْ بِدُونِ فِعْلِ فَاعِلٍ، وَالتَّأْنِيثُ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَخْ ; لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلشَّاةِ كَمَا قَالُوا، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْأَصْلِ لِلْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْبَهِيمَةَ بَدَلَ الشَّاةِ وَلَفْظُهَا أَعَمُّ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِمَا اسْتُثْنِيَ مِنْ حِلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ صَارَ الْمُنَاسِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ هُنَا صِفَةٌ لِلْبَهِيمَةِ ; أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمَيْتَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَيْتَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا مَاتَ وَلَمْ يُذَكِّهِ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ تَذْكِيَةً جَائِزَةً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ مَا يَأْتِي مَعَ اعْتِبَارِ قَاعِدَةِ: إِذَا قُوبِلَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِالْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْخَاصِّ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ ضَارًّا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ نِسْمَةٍ خَفِيَّةٍ مِمَّا يُسَمَّى الْآنَ بِالْمَيِكْرُوبِ انْحَلَّتْ بِهِ قُوَاهُ، أَوْ وَلَّدَ فِيهِ سُمُومًا، وَقَدْ يَعِيشُ مَيكْرُوبُ الْمَرَضِ فِي جُثَّةِ الْمَيِّتِ زَمَنًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ، وَتَعُدُّهُ خُبْثًا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّ سَبَبَ ضَرَرِ الْمَيْتَةِ احْتِبَاسُ الرُّطُوبَاتِ فِيهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّذْكِيَةِ. (الثاني: الدَّمُ) وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَسْفُوحُ، أَيِ الْمَائِعُ الَّذِي يُسْفَحُ وَيُرَاقُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ جَمُدَ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُتَجَمِّدِ فِي الطَّبِيعَةِ كَالطِّحَالِ وَالْكَبِدِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ اللَّحْمَ عَادَةً فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مَسْفُوحًا، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الدَّمِ الضَّرَرُ وَالِاسْتِقْذَارُ أَيْضًا كَمَا قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ، أَمَّا كَوْنُهُ خُبْثًا

مُسْتَقْذَرًا عِنْدَ النَّاسِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَارًّا ; فَلِأَنَّهُ عَسِرُ الْهَضْمِ جِدًّا وَيَحْمِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوَادِّ الْعَفِنَةِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي تَنْحَلُّ مِنَ الْجِسْمِ، وَهِيَ فَضَلَاتٌ لَفَظَتْهَا الطَّبِيعَةُ كَمَا تَلْفِظُ الْبُرَازَ، وَاسْتَعَاضَتْ عَنْهَا بِمَوَادَّ حَيَّةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الدَّمِ، فَالْعَوْدُ إِلَى التَّغَذِّي بِهَا يُشْبِهُ التَّغَذِّي بِالرَّجِيعِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الدَّمِ جَرَاثِيمُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ، وَهِيَ تَكُونُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا تَكُونُ فِي اللَّحْمِ، وَكَذَا اللَّبَنُ الَّذِي أَعَدَّهُ الْخَالِقُ الْحَكِيمُ فِي أَصْلِ الطَّبِيعَةِ لِلتَّغَذِّي بِهِ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الْأَطِبَّاءَ مُتَّفِقِينَ عَلَى وُجُوبِ غَلْيِ اللَّبَنِ ; لِأَجْلِ قَتْلِ مَا عَسَاهُ يُوجَدُ فِيهِ مِنْ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ، وَالدَّمُ لَا يُغْلَى كَمَا يُغْلَى اللَّبَنُ، بَلْ يَجْمُدُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْحَرَارَةِ، وَحِينَئِذٍ تَبْقَى جَرَاثِيمُ الْمَرَضِ فِيهِ حَيَّةً تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الَّذِي تَدْخُلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الدَّمَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْفَعَّالَةِ فِي الصِّحَّةِ ; فَإِذَا أَمْكَنَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضِيفَ دَمَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ إِلَى دَمِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا صِحَّةً وَقُوَّةً. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ شُرْبَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، أَوْ أَكْلَهُ بَعْدَ أَنْ يَجْمُدَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالطَّبْخِ، مُفِيدٌ لِلصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا أَنَّهُ يَزِيدُ الدَّمَ ; وَلِذَلِكَ لَا يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ مِعَدَ النَّاسِ تَقْوَى عَلَى هَضْمِهِ وَالتَّغَذِّي بِهِ بِسُهُولَةٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّدُ الدَّمُ مِمَّا يُهْضَمُ مِنَ الطَّعَامِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْقَنَ ضَعِيفُ الدَّمِ بِدَمِ حَيَوَانٍ سَلِيمٍ، فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ قُوَّةً، وَهَذَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. (الثَّالِثُ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْذَارُهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ يَتَذَكَّرُ مُلَازَمَتَهُ لِلْقَاذُورَاتِ وَرَغْبَتَهُ فِيهَا ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبِ لَبَنِهَا، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَالْجُلَّةَ، أَيِ الْبَعْرَ (وَالْجَلَّالَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهِيَ كَالْجُلَّةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ) فَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْهُمْ، كَمَا صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُرْبِ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ " وَرُوِيَ بِلَفْظِ: " وَعَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا " وَصَحَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَلَّالَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا ; كَالدَّجَاجِ وَالْأَوِزِّ، هَلِ الْعِبْرَةُ بِعَلَفِهَا قِلَّةً وَكَثْرَةً، أَمِ الْعِبْرَةُ بِرَائِحَةِ لَحْمِهَا؟ وَهَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَمْ لِلْكَرَاهَةِ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: لَا تُؤْكَلُ حَتَّى تُحْبَسَ عَنْ أَكْلِ الْقَذَرِ أَيَّامًا، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَرَ بِأَكْلِهَا بَأْسًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا، أَنَّ الْإِسْلَامَ طَيِّبٌ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَبَالَغَ فِي أَمْرِ النَّظَافَةِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا عَدَّ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ لِلْقَاذُورَاتِ عِلَّةً أَوْ حِكْمَةً مِنْ عِلَلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ أَوْ حِكَمِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، فَكَيْفَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ؟

وَأَمَّا كَوْنُ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ضَارًّا فَهُوَ مِمَّا يُثْبِتُهُ الطِّبُّ الْحَدِيثُ. وَجُلُّ ضَرَرِهِ نَاشِئٌ مِنْ أَكْلِهِ لِلْقَاذُورَاتِ، فَمِنْهُ أَنَّهُ يُوَلِّدُ الدِّيدَانَ الشَّرِيطِيَّةِ، كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا، وَسَبَبُ سَرَيَانِ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَكْلُ الْعَذِرَةِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يُوَلِّدُ دُودَةً أُخْرَى يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الشَّعْرَةَ الْحَلَزُونِيَّةَ، وَهِيَ تَسْرِي إِلَى الْخِنْزِيرِ مِنْ أَكْلِ الْفِيرَانِ الْمَيِّتَةِ ; وَمِنْهُ أَنَّ لَحْمَهُ أَعْسَرُ اللُّحُومِ هَضْمًا لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ فِي أَلْيَافِهِ الْعَضَلِيَّةِ، وَقَدْ تَحُولُ الْأَنْسِجَةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي فِيهِ دُونَ عَصِيرِ الْمَعِدَةِ، فَيَعْسُرُ هَضْمُ الْمَوَادِّ الزُّلَالِيَّةِ لِلْعَضَلَاتِ، فَتَتْعَبُ مَعِدَةُ آكِلِهِ، وَيَشْعُرُ بِثِقَلٍ فِي بَطْنِهِ وَاضْطِرَابٍ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَقَذَفَ هَذِهِ الْمَوَادَّ الْخَبِيثَةَ، وَإِلَّا تَهَيَّجَتِ الْأَمْعَاءُ وَأُصِيبَ بِالْإِسْهَالِ، وَلَوْلَا الْعَادَةُ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تَنَاوُلَ السُّمُومِ أَكْلًا وَشُرْبًا وَتَدْخِينًا، وَلَوْلَا مَا يُعَالِجُونَ بِهِ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ; لِتَخْفِيفِ ضَرَرِهِ - لَمَا أَمْكَنَ النَّاسَ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ كُنْهَ الضَّرَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا بَعْضَ التَّفْصِيلِ فَلْيُرَاجِعِ الْمُجَلَّدَ السَّادِسَ مِنَ الْمَنَارِ (ص 302 - 308) . فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ آيَةَ الْأَنْعَامِ عَلَّلَتْ تَحْرِيمَ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِكَوْنِهِ رِجْسًا، فَهَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَكْلُهُ لِلْقَذَرِ، أَمْ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ " الرِّجْسِ " يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ضَارِّ مُسْتَقْبَحٍ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، فَيُسَمَّى النَّجَسُ رِجْسًا، وَيُسَمَّى الضَّارُّ رِجْسًا، وَمِنَ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ (5: 90) فَتَعْلِيلُ آيَةِ الْأَنْعَامِ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مَعًا، فَهِيَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَصِلُ النَّاسُ إِلَى شَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ، إِلَّا بِاتِّسَاعِ دَائِرَةِ عُلُومِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ. (الرَّابِعُ: مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي حُرِّمَ لِسَبَبٍ دِينِيٍّ مَحْضٍ، لَا لِأَجْلِ الصِّحَّةِ وَالنَّظَافَةِ كَالثَّلَاثَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ عَلَى ذِكْرِ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يُعَظِّمُهَا النَّاسُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالذَّبَائِحِ. وَالْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ ; يُقَالُ أَهَلَّ فُلَانٌ بِالْحَجِّ: إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لَهُ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ: إِذَا صَرَخَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَصْنَامِهِمْ، فَيَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: بِاسْمِ اللَّاتِ أَوْ بِاسْمِ الْعُزَّى، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذَا أَنَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَالْأَكْلُ مِنْهُ مُشَارَكَةٌ لِأَهْلِهِ فِيهِ وَمُشَايَعَةٌ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ إِنْكَارُهُ لَا إِقْرَارُهُ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ لَيْسَ هُوَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَلَا شَرْطًا لَهُ، بَلْ هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ فِيمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ ذَبْحِهِ اسْمُ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ وَلِيٍّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَهَلَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ. (الْخَامِسُ: الْمُنْخَنِقَةُ) قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: " خَنَقَهُ خَنِقًا (كَكَتِفٍ) وَخَنْقًا فَهُوَ خَنِقٌ أَيْضًا (أَيْ: كَكَتِفٍ) وَخَنْقٌ وَمَخْنُوقٌ، كَخَنَقَهُ فَاخْتَنَقَ، وَانْخَنَقَتِ الشَّاةُ بِنَفْسِهَا "

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُنْخَنِقَةِ أَقْوَالًا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا الَّتِي تَدْخُلُ رَأْسُهَا بَيْنَ شُعْبَتَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الَّتِي تَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنْ قَتَادَةَ: الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: الشَّاةُ تُوثَقُ فَيَقْتُلُهَا خِنَاقُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ إِمَّا فِي وِثَاقِهَا، أَوْ بِإِدْخَالِ رَأْسِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ فَتَخْتَنِقُ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالِانْخِنَاقِ دُونَ خَنْقِ غَيْرِهَا لَهَا. وَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا لَقِيلَ: وَالْمَخْنُوقَةُ، حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالُوا. اهـ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ. وَيَغْلَطُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الِانْخِنَاقِ هُنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ، كَمَا قَالَ الصَّرْفِيُّونَ فِي مِثْلِ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا لِمَا كَانَ أَثَرًا لِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ; كَكَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ فَلْسَفَةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقِحَّ إِنَّمَا يَقُولُ: انْكَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ انْكَسَرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَجْهَلُ مَنْ كَسَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَعْبِيرٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَاصَى كَسْرُهُ عَلَى الْكَاسِرِينَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ، وَأَرَى ذَوْقِي يُوَافِقُ فِي مَادَّةِ الْخَنْقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ مُطَاوِعَ خَنَقَ هُوَ اخْتَنَقَ مِنَ الِافْتِعَالِ، وَأَنِ انْخَنَقَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ الْحَيَوَانِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ الَّذِي جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ: الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيْنَ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، فَالْمُنْخَنِقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِتَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ ; لِأَنَّ لِمَوْتِهَا سَبَبًا مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ بِالتَّذْكِيَةِ الَّتِي تَكُونُ بِقَصْدِ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَكُونَ وَاثِقًا مِنْ صِحَّةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي يُرِيدُ التَّغَذِّيَ بِهَا، وَلَوْ أَرَادَ - تَعَالَى - بِالْمُنْخَنِقَةِ: الْمَخْنُوقَةَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَخْنُوقَةِ أَوِ الْخَنِيقِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ أَنَّ الْخَنْقَ وَإِنْ كَانَ ضَرْبًا مِنَ التَّذْكِيَةِ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ لَا يَحِلُّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقِ بِالْأَوْلَى، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُنْخَنِقَةِ لَا تُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ إِلَّا الْإِشْعَارَ بِكَوْنِ الْمُنْخَنِقَةِ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ. (السَّادِسُ: الْمَوْقُوذَةُ) وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى انْحَلَّتْ قُوَاهَا وَمَاتَتْ. قَالَ فِي

الْقَامُوسِ: الْوَقْذُ: شِدَّةُ الضَّرْبِ، قَالَ شَارِحُهُ: وَفِي الْبَصَائِرِ لِلْمُصَنِّفِ الْمَوْقُوذَةُ: هِيَ الَّتِي تُقْتَلُ بِعَصًا أَوْ بِحِجَارَةٍ لَا حَدَّ لَهَا، فَتَمُوتُ بِلَا ذَكَاةٍ. اهـ. وَشَاةٌ وَقِيذٌ وَمَوْقُوذَةٌ، وَالْوَقْذُ أَيْضًا: الشَّدِيدُ الْمَرَضِ الْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ، وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَقْوَالِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مُوَافِقٌ لِهَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْوَقِيذَ مَا ضُرِبَ بِالْخَشَبِ أَوِ الْعَصَا، وَكَانُوا يَأْكُلُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْوَقْذُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَقَدْ قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. فَلَمَّا كَانَ الْوَقْذُ مُحَرَّمًا حُرِّمَ مَا قُتِلَ بِهِ، ثُمَّ إِنِ الْمَوْقُوذَةَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَسَّرْنَاهَا بِهِ أَخْذًا مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُذَكَّ تَذْكِيَةً شَرْعِيَّةً لِأَجْلِ الْأَكْلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ; فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا. اهـ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْبُنْدُقِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الطِّينِ فَيُرْمَى بِهِ بَعْدَ يُبْسِهِ فَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ وَالْخَذْفُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ: الرَّمْيُ بِالْحَصَا وَالْخَزَفِ وَكُلِّ يَابِسٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، سَوَاءٌ رُمِيَ بِالْيَدِ أَوِ الْمِخْذَفَةِ وَالْمِقْلَاعِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَقْذِ ; لِأَنَّهُ يُعَذِّبُ الْحَيَوَانَ وَيُؤْذِيهِ، وَلَا يَقْتُلُهُ، فَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ سَبَبًا مُطَّرِدًا وَلَا غَالِبًا فِي الْقَتْلِ بِخِلَافِ بُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الصَّيْدِ الْآنَ فَإِنَّهُ يَصِيدُ وَيَنْكَأُ ; وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِجَوَازِ الصَّيْدِ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - أَيِ الرَّازِيِّ -: وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ; فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَرْدُودٌ لِأَنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ سَبَبٌ لِحِلِّ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا، بِدَلِيلِ حِلِّ مَا صَادَتْهُ الْجَوَارِحُ فَجَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَجْرَحَهُ فِي نَصٍّ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ كَمَا سَيَأْتِي. (السَّابِعُ: الْمُتَرَدِّيَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ مُنْخَفِضٍ فَتَمُوتُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ تَرَدِّيًا مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَرَدِّيهَا رَمْيُهَا بِنَفْسِهَا مِنْ مَكَانٍ عَالٍ شَرِفٍ إِلَى أَسْفَلِهِ. اهـ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُدْخِلُ الْمُتَرَدِّيَةَ فِي الْمَيْتَةِ بِحَسْبِ مَعْنَاهَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ فِي إِمَاتَتِهَا وَلَا قَصْدٌ بِهِ إِلَى أَكْلِهَا. (الثَّامِنُ: النَّطِيحَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَتَمُوتُ مِنَ النِّطَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ فِي إِمَاتَتِهَا، كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَفِيهَا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَنْطُوحَةِ، وَصِيغَةُ " فَعِيلٍ " إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّاءِ، إِذْ تَقُولُ الْعَرَبُ: عَيْنٌ كَحِيلٌ، لَا: كَحِيلَةٌ، وَ: كَفٌّ خَضِيبٌ، لَا: خَضِيبَةٌ. وَقَدْ أَجَابَ

بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّاءَ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ: مِنِ اسْتِعْمَالِ " فَعِيلٍ " بِمَعْنَى " فَاعِلٍ " كَأَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاطِحَةُ الَّتِي تَمُوتُ بِالنِّطَاحِ ; أَيْ تَنْطَحُ غَيْرَهَا وَتَنْطَحُهَا فَتَمُوتُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ إِلْحَاقُ التَّاءِ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إِذَا كَانَ وَصْفًا لِمَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ، كَعَيْنٍ كَحِيلٍ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْبِقْ لِلْمَوْصُوفِ ذِكْرٌ فَلَا يَمْتَنِعُ. (التَّاسِعُ: مَا أَكَلَ السَّبُعُ) أَيْ: مَا قَتَلَهُ بَعْضُ سِبَاعِ الْوُحُوشِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ ; لِيَأْكُلَهُ، وَأَكْلُهُ مِنْهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلتَّحْرِيمِ، فَإِنَّ فَرْسَهُ إِيَّاهُ يُلْحِقُهُ بِالْمَيْتَةِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ بَعْضَ فَرَائِسِ السِّبَاعِ، وَهُوَ مِمَّا تَأْنَفُهُ أَكْثَرُ الطِّبَاعِ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَعُدُّونَ أَكْلَهُ ذِلَّةً وَمَهَانَةً، وَإِنْ كَانُوا لَا يَخْشَوْنَ مِنْهُ ضَرَرًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حِلُّهَا عَلَى تَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهَا، أَيْ إِمَاتَتِهَا إِمَاتَةً شَرْعِيَّةً لِأَجْلِ أَكْلِهَا، أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَخِيرِ، وَهُوَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ؟ أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّحْرِيمِ دُونَ الْمُحَرَّمَاتِ ; يُقْصَدُ بِهِ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذُكِرَ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ; أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَّيْتُمُوهُ بِفِعْلِكُمْ مِمَّا يُذَكَّى؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ الثَّالِثِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالثَّلَاثِ بَعْدَهَا ; لِأَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا شَأْنَ لِلتَّذْكِيَةِ فِيهِمَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ الصِّفَةَ الَّتِي هُوَ بِهَا قَبْلَ حَالِ مَوْتِهَا، فَيُقَالُ لِمَا قَرَّبَ الْمُشْرِكُونَ لِآلِهَتِهِمْ فَسَمَّوْهُ لَهُمْ: هُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَكَذَلِكَ الْمُنْخَنِقَةُ إِذَا انْخَنَقَتْ وَإِنْ لَمْ تَمُتْ فَهِيَ مُنْخَنِقَةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَا عَدَا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ الْمُحَلِّلَةِ دُونَ الْمَوْتِ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ بِهِ مَوْصُوفًا. اهـ. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ سُؤَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَكَ فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِهِ مَا كَرَّرَ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَسَائِرُ مَا عَدَّدَ تَحْرِيمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدِ افْتَتَحَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ شَامِلٌ كُلَّ مَيِّتٍ كَانَ مَوْتُهُ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ عِلَّةٍ بِهِ غَيْرَ جِنَايَةِ أَحَدٍ عَلَيْهِ؟ أَوْ كَانَ مَوْتُهُ مِنْ ضَرْبِ ضَارِبٍ إِيَّاهُ، أَوِ انْخِنَاقٍ مِنْهُ أَوِ انْتِطَاحٍ أَوْ فَرْسِ سَبُعٍ، وَهَلَّا كَانَ قَوْلُهُ - إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِالتَّحْرِيمِ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْمَيْتَةُ بِالِانْخِنَاقِ وَالنِّطَاحِ وَالْوَقْذِ وَأَكْلِ السَّبُعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ تَحْرِيمُهُ إِذَا تَرَدَّى

أَوِ انْخَنَقَ أَوْ فَرَسَهُ السَّبُعُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْهُ إِلَّا بِالْيَسِيرِ مِنَ الْحَيَاةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ - مُغْنِيًّا مِنْ تَكْرِيرِ مَا كَرَّرَ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ، وَتَعْدِيدِهِ مَا عَدَّدَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَكْرَارِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ إِذَا مَاتَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَوْصُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا لَا يَعُدُّونَ الْمَيْتَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مَا مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ بِهِ غَيْرَ الِانْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالِانْتِطَاحِ وَفَرْسِ السَّبُعِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللهُ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا مَاتَ مِنَ الْعِلَلِ الْعَارِضَةِ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ مَوْتَهَا مِنْ عِلَّةِ مَرَضٍ أَوْ أَذًى كَانَ بِهَا قَبْلَ هَلَاكِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ يَذْبَحْهَا مَنْ أَحَلَّ ذَبِيحَتَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَحَلَّهَا بِهِ. اهـ. وَقَدْ أَيَّدَ رَأْيَهُ هَذَا بِرِوَايَةٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، قَالَ: هَذَا حَرَامٌ لِأَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ، وَلَا يَعُدُّونَهُ مَيِّتًا، إِنَّمَا يَعُدُّونَ الْمَيِّتَ الَّذِي يَمُوتُ مِنَ الْوَجَعِ، فَحَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا ذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَدْرَكُوا ذَكَاتَهُ وَفِيهِ الرُّوحُ. اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سِيَاقِهِ هَذَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَبِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِلَفْظِ الذَّبْحِ بَدَلَ لَفْظِ التَّذْكِيَةِ الَّذِي هُوَ تَعْبِيرُ الْقُرْآنِ، وَالتَّذْكِيَةُ أَعَمُّ مِنَ الذَّبْحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَرَدِّيَةَ فِي بِئْرٍ إِذَا طُعِنَتْ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَمِّمَ لِمَوْتِهَا عُدَّ تَذْكِيَةً، وَحَلَّ أَكْلُهَا، وَمَا هُوَ بِالَّذِي يَجْهَلُ هَذَا، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْغَالِبَ يُنْسِي الْإِنْسَانَ غَيْرَهُ أَحْيَانًا فَيُعَبِّرُ بِهِ وَقَدْ يُرِيدُ بِهِ الْمِثَالَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ عِبَارَتِهِ هُوَ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْمَيْتَةِ لُغَةً، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعَافُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يَعَافُ مِنْهَا إِلَّا مَا جَهِلَ سَبَبَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا مَا عَرَفَ - كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ - فَلَمْ يَكُونُوا يَعَافُونَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحَلَّ أَكْلَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَائِرِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ: مَا دَبَّ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَا سَبَحَ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ. وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَذْبَحُ الْحَيَوَانَ عَلَى اسْمِ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ شِرْكٌ وَفِسْقٌ، وَبَعْضُهُمْ يَأْكُلُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمَيْتَةِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْكُلُ كُلَّ مَيْتَةٍ، سَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ وَفَقْرُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ

لِمَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللهُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ الضَّرَرِ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَهَانَةِ النَّفْسِ، جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - حِلَّ أَكْلِ الْمُسْلِمِ لِذَلِكَ مَنُوطًا بِأَنْ يَكُونَ إِتْمَامَ مَوْتِهِ وَالْإِجْهَازِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ هُوَ ; لِيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَى مَا بُدِئَ بِالْإِهْلَالِ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ عِنْدَ إِزْهَاقِ رُوحِهِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِ الشِّرْكِ، وَلِئَلَّا يَقَعَ فِي مَهَانَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَخِسَّةِ صَاحِبِهَا بِأَكْلِهِ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَفَرِيسَةِ السَّبُعِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي الْمَوْقُوذَةِ مِنْ إِقْرَارِ وَاقِذِهَا عَلَى قَسْوَتِهِ وَظُلْمِهِ لِلْحَيَوَانِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا. وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ إِدْرَاكِ ذَكَاةِ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَعَلَامَتُهَا انْفِجَارُ الدَّمِ وَالْحَرَكَةُ الْعَنِيفَةُ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيَانِ مَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: إِذَا طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ ضَرَبَتْ بِذَنَبِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عِنْدَهُ: إِذَا كَانَتِ الْمَوْقُوذَةُ تَطْرِفُ بِبَصَرِهَا أَوْ تَرْكُضُ - تَضْرِبُ - بِرِجْلِهَا أَوْ تَمْصَعُ بِذَنَبِهَا - تُحَرِّكُهُ - فَاذْبَحْ وَكُلْ. وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ قَالَ: فَكُلُّ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَهُنَا مَا خَلَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إِذَا أَدْرَكْتَ مِنْهُ عَيْنًا تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبًا يَتَحَرَّكُ أَوْ قَائِمَةً تَرْكُضُ فَذَكَّيْتَهُ فَقَدْ أَحَلَّ اللهُ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِذَا وَجَدْتَهَا تَطْرِفُ عَيْنَهَا أَوْ تُحَرِّكُ أُذُنَيْهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَهِيَ لَكَ حَلَالٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتَ ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا، فَكُلْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عِنْدَهُ أَيْضًا: إِذَا رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ حَرَّكَتْ ذَنَبَهَا فَقَدْ أَجْزَى. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ هَذَا فَحَرَّمَ اللهُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَا ذُكِّيَ مِنْهُ، فَمَا أُدْرِكَ فَتَحَرَّكَ مِنْهُ رِجْلٌ أَوْ ذَنَبٌ أَوْ طَرَفَ، فَذُكِّيَ فَهُوَ حَلَالٌ. وَرُوِيَ الْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ السَّبُعِ يَعْدُو عَلَى الْكَبْشِ، فَيَدُقُّ ظَهْرَهُ، أَتَرَى أَنْ يُذَكَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَيُؤْكَلَ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ بَلَغَ السَّحْرَ فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَصَابَ أَطْرَافَهُ، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: وَثَبَ عَلَيْهِ فَدَقَّ ظَهْرَهُ، قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُؤْكَلَ، هَذَا لَا يَعِيشُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: فَالذِّئْبُ يَعْدُو عَلَى الشَّاةِ فَيَشُقُّ بَطْنَهَا، وَلَا يَشُقُّ الْأَمْعَاءَ، قَالَ: إِذَا شَقَّ بَطْنَهَا، فَلَا أَرَى أَنْ تُؤْكَلَ، (قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُهُ، وَقَدْ نَقَلْنَا عِبَارَتَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ. أَمَّا الذَّكَاءُ وَالذَّكَاةُ وَالتَّذْكِيَةُ وَالْإِذْكَاءُ فَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِتْمَامُ فِعْلٍ خَاصٍّ أَوْ تَمَامُهُ، لَا مُجَرَّدَ إِيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ وُقُوعِهِ، يُقَالُ: ذَكَتِ النَّارُ تَذْكُو ذَكْوًا وَذَكًا وَذَكَاءً: إِذَا تَمَّ اشْتِعَالُهَا،

وَالشَّمْسُ إِذَا اشْتَدَّتْ حَرَارَتُهَا كَأَتَمِّ مَا يُعْتَادُ وَأَكْمَلِهِ، وَذَكَى الرَّجُلُ - كَرَمَى وَرَضَى - نَمَتْ فِطْنَتُهُ، وَأَذْكَى النَّارَ وَذَكَّاهَا تَذْكِيَةً. وَذَكَّى الْبَهِيمَةَ: إِذَا أَزْهَقَ رُوحَهَا، وَإِنْ بَدَأَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ، أَوْ عَرَضَتْ لَهَا عِلَّةٌ تُوجِبُهُ لَوْ تُرِكَتْ، إِذِ الْعِبْرَةُ بِالتَّمَامِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الذَّكَاءُ شِدَّةُ وَهَجِ النَّارِ، يُقَالُ: ذَكَّيْتُ النَّارَ: إِذَا أَتْمَمْتَ إِشْعَالَهَا وَرَفْعَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ذَبْحُهُ عَلَى التَّمَامِ، وَالذَّكَا تَمَامُ إِيقَادِ النَّارِ مَقْصُورٌ يَكْتُبُ بِالْأَلِفِ. اهـ. أَقُولُ: ذِكْرُ الذَّبْحِ مِثَالٌ، وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِمَّا تَتِمُّ بِهِ الْإِمَاتَةُ ; كَنَحْرِ الْبَعِيرِ وَطَعْنِ الْمُتَرَدِّيَةِ فِي الْبِئْرِ وَالْحُفْرَةِ، وَخَنْقِ الْجَارِحِ الصَّيْدَ. وَالذَّكَاءُ: السِّنُّ - الْعُمُرُ - أَيْضًا. يُقَالُ: بَلَغَتِ الدَّابَّةُ الذَّكَاءَ أَيِ السِّنَّ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَعْمَارَهَا بِرُؤْيَةِ أَسْنَانِهَا، وَمِنْهُ: " جَرْي الْمُذْكِيَاتِ غِلَابٌ " وَهِيَ الْخَيْلُ تَمَّتْ قُوَّتُهَا، وَأَشْرَفَتْ عَلَى النَّقْصِ ; فَهِيَ تُغَالِبُ الْجَرْيَ مُغَالَبَةً، وَذَكَّى الرَّجُلُ - بِالتَّشْدِيدِ - أَسَنَّ وَبَدِنَ. وَفِي السِّنِّ مَعْنَى التَّمَامِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَتَأْوِيلُ تَمَامِ السِّنِّ النِّهَايَةُ فِي الشَّبَابِ، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ زَادَ فَلَا يُقَالُ لَهُ الذَّكَاءُ، وَالذَّكَاءُ فِي الْفَهْمِ: أَنْ يَكُونَ فَهْمًا سَرِيعَ الْقَبُولِ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَكَاءِ الْفَهْمِ وَالذَّبْحِ: إِنَّهُ التَّمَامُ، وَإِنَّهُمَا مَمْدُودَانِ. اهـ. ثُمَّ نَقَلَ أَقْوَالًا عَنِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كَوْنِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ ذَكَاةً، وَذَكَرَ أَقْوَالَ بَعْضِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ: وَأَصْلُ الذَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ إِتْمَامُ الشَّيْءِ ; فَمِنْ ذَلِكَ: الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ وَالْفَهْمِ. اهـ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَزْقَ حَدِيدَةِ الْمِعْرَاضِ وَقَتْلَ الْكَلْبِ (وَنَحْوِهُ) لِلصَّيْدِ ذَكَاةً ; فَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ؛ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، قَالَ صَاحِبُ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ عِنْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْكَلْبُ جَرْحًا أَوْ خَنْقًا، وَالْمِعْرَاضُ - كَمَا فِي اللِّسَانِ - بِالْكَسْرِ: سَهْمٌ يُرْمَى بِهِ بِلَا رِيشٍ وَلَا نَصْلٍ يَمْضِي عَرْضًا ; فَيُصِيبُ بِعَرْضِ الْعُودِ لَا بِحَدِّهِ. اهـ. وَإِنَّمَا يُصِيبُ بِحَدِّهِ، أَيْ طَرَفِ الْعُودِ الدَّقِيقِ الَّذِي يَخْزِقُ، أَيْ يَخْدِشُ، إِذَا كَانَ الصَّيْدُ قَرِيبًا كَمَا فِي شَرْحِ الْقَامُوسِ. وَقِيلَ: هُوَ خَشَبَةٌ ثَقِيلَةٌ فِي آخِرِهَا عَصً مُحَدَّدٌ رَأْسُهَا، وَقَدْ لَا يُحَدَّدُ، وَقَوَّى هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمِعْرَاضُ: عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ يَرْمِي بِهَا الصَّائِدُ، فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَهُوَ ذَكِيٌّ فَيُؤْكَلُ، وَمَا أَصَابَ بِغَيْرِ حَدِّهِ فَهُوَ وَقِيذٌ. اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، وَلَعَلَّ لِلْمِعْرَاضِ أَنْوَاعًا. وَالشَّاهِدُ أَنَّ خَدْشَ الْمِعْرَاضِ وَقَتْلَ الْكَلْبِ يُعَدُّ تَذْكِيَةً لُغَةً وَشَرْعًا ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ

فِي قَصْدِ الْإِنْسَانِ إِلَى قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ لَا تَعْذِيبِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّذْكِيَةُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ لِصِغَارِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، هِيَ الذَّبْحُ - كَثُرَ التَّعْبِيرُ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ الْأَصْلَ وَظَنُّوا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ لِمَعْنًى فِيهِ، فَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ الذَّبْحِ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الدَّمَ مِنَ الْبَدَنِ الَّذِي يَضُرُّ بَقَاؤُهُ فِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِيهِ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِّيءِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تِلْكَ الشُّرُوطِ. وَإِنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فِي الطِّبِّ وَالشَّرْعِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَمَا أُحِلَّ الصَّيْدُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْجَارِحُ مَيِّتًا، وَصَيْدُ السَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ إِذَا خَزَقَ ; لِأَنَّ هَذَا الْخَزْقَ لَا يُخْرِجُ الدَّمَ الْكَثِيرَ كَمَا يُخْرِجُهُ الذَّبْحُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ كَانَ وَلَا يَزَالُ أَسْهَلَ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ; فَلِذَلِكَ اخْتَارُوهُ وَأَقَرَّهُمُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، كَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى صَيْدِ الْجَوَارِحِ وَالسَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اطَّلَعَ عَلَى طَرِيقَةٍ لِلتَّذْكِيَةِ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا ضَرَرَ فِيهَا - كَالتَّذْكِيَةِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ إِنْ صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ فِيهَا - لَفَضَّلَهَا عَلَى الذَّبْحِ، لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرِيعَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَمِنْهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ بِالْوَقْذِ وَنَحْوِهِ، وَأُمُورُ الْعَادَاتِ فِي الْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَعَبَّدُ اللهُ النَّاسَ تَعَبُّدًا بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحْكَامُ الْعِبَادَةِ بِنُصُوصٍ مِنَ الشَّارِعِ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مُرَادُ الشَّارِعِ وَحِكْمَتُهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ إِلَّا بِفَهْمِ كُلِّ مَا وَرَدَ فِيهَا بِجُمْلَتِهِ، وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُ النَّاسِ عَلَى الشَّيْءِ مِنَ الْعَادَاتِ أَوِ اسْتِئْنَافُ الشَّارِعِ لَهَا حُجَّةً عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا، لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَيْفِيَّةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ، بَلْ هُنَالِكَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْوُجُوبِ كَالْتِزَامِ صِفَةِ مَسْجِدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ فَرْشُهُ وَوَضْعُ السُّرُجِ وَالْمَصَابِيحِ فِيهِ. وَقَدْ تَأَمَّلْنَا مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي التَّذْكِيَةِ، فَفَقِهْنَا أَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ مِنْهَا اتِّقَاءُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَأَجَازَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَمَا مَرَاهُ أَوْ أَمْرَاهُ أَوْ أَمَرَّهُ، وَهُوَ دُونَ " أَنْهَرَهُ " فِي مَعْنَى إِخْرَاجِهِ أَوْ إِسَالَتِهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُحَدَّ الشِّفَارُ، وَأَلَّا يُقْطَعَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ، وَأَجَازَ النَّحْرَ وَالذَّبْحَ حَتَّى بِالظِّرَارِ ; أَيْ بِالْحِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَبِالْمَرْوِ، أَيِ الْحَجَرِ الْأَبْيَضِ، وَقِيلَ الَّذِي تُقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ، وَبِشَقِّ الْعَصَا، وَهَذَا دُونَ السِّكِّينِ غَيْرِ الْمُحَدَّدِ بِالشَّحْذِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مَا يُنَاسِبُهُمَا، فَإِذَا تَيَسَّرَ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ حَادٍّ لَا يَعْدِلُ إِلَى مَا دُونَهُ، وَإِذَا تَيَسَّرَ فِي الذَّبْحِ إِنْهَارُ الدَّمِ، يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَقَلَّ إِيلَامًا لَهُ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى مِثْلِ

طَعْنِ الْمُتَرَدِّيَةِ فِي ظَهْرِهَا أَوْ فَخْذِهَا، أَوْ خَزْقِ الْمِعْرَاضِ وَخَدْشِهِ لِأَيِّ عُضْوٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ لِلْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ ذِي الدَّمِ الْغَزِيرِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا، نَدَّ الْبَعِيرُ: نَفَرَ، وَحَبَسَهُ: أَثْبَتَهُ فِي مَكَانِهِ إِذَا مَاتَ فِيهِ بِرَمْيَةِ السَّهْمِ. وَاسْتَدَلَّ جُمْهُورُ السَّلَفِ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا رُمِيَ بِالسَّهْمِ فَجُرِحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَكِنِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ وَحَشِيًّا أَوْ مُتَوَحِّشًا أَوْ نَادًّا، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَشَيْخَهُ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثَ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، لَمْ يُجِيزُوا أَكْلَ الْمُتَوَحِّشِ إِلَّا بِتَذْكِيَتِهِ فِي حَلْقِهِ أَوْ لُبَتِّهِ أَيْ: نَحْرِهِ. (الْعَاشِرُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: نَصْبُ الشَّيْءِ: وَضْعُهُ وَضْعًا نَاتِئًا ; كَنَصْبِ الرُّمْحِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَجَرِ، وَالنَّصِيبُ الْحِجَارَةُ تُنْصَبُ عَلَى الشَّيْءِ، وَجَمْعُهُ نَصَائِبُ وَنُصُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَكَانَ لِلْعَرَبِ حِجَارَةٌ تَعْبُدُهَا وَتَذْبَحُ عَلَيْهَا، قَالَ: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (70: 43) . قَالَ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (5: 3) وَقَدْ يُقَالُ فِي جَمْعِهِ: أَنْصَابٌ. قَالَ: وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ (5: 90) . اهـ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالنَّصْبُ (بِالْفَتْحِ) وَالنُّصْبُ (بِالضَّمِّ) وَالنُّصُبُ (بِضَمَّتَيْنِ) : الدَّاءُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّرُّ، وَفِي التَّنْزِيلِ: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (38: 41) . وَالنَّصِيبَةُ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: كُلُّ مَا نُصِبَ فَجُعِلَ عَلَمًا. وَقِيلَ: النُّصُبُ جَمْعُ نَصِيبَةٍ كَسَفِينَةٍ وَسُفُنٍ، وَصَحِيفَةٍ وَصُحُفٍ. اللَّيْثُ: النُّصُبُ: جَمَاعَةُ النَّصِيبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (70: 43) قُرِئَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ: النَّصَبُ بِالْفَتْحِ: الْغَايَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ قَرَأَ " إِلَى نَصَبٍ " بِالْفَتْحِ ; فَمَعْنَاهُ: إِلَى عَلَمٍ مَنْصُوبٍ يَسْبِقُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ " إِلَى نُصُبٍ " بِضَمَّتَيْنِ ; فَمَعْنَاهُ: إِلَى أَصْنَامٍ ; كَقَوْلِهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَجَمْعُهُ الْأَنْصَابُ، وَالْيَنْصُوبُ: عَلَمٌ يُنْصَبُ فِي الْفَلَاةِ. وَالنَّصَبُ وَالنُّصُبُ: كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ: أَنْصَابٌ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ: مَا نُصِبَ، فَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ النُّصُبُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يُحَرَّكُ مِثْلَ عُسُرٍ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالنُّصُبُ: الْأَوْثَانُ مِنَ الْحِجَارَةِ، جَمَاعَةُ أَنْصَابٍ كَانَتْ تُجْمَعُ فِي الْمَوْضِعِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقَرِّبُونَ لَهَا، وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، وَكَانَ ابْنُ جَرِيجٍ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ، وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَيْهِ: النُّصُبُ لَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، الصَّنَمُ يُصَوَّرُ وَيُنْقَشُ، وَهَذِهِ حِجَارَةٌ

تُنْصَبُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الثَّلَاثُمِائَةٍ مِنْهَا بِخُزَاعَةَ، فَكَانُوا إِذَا ذَبَحُوا نَضَحُوا الدَّمَ عَلَى مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَشَرَحُوا اللَّحْمَ، وَجَعَلُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (22: 37) ثُمَّ أَيَّدَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ ابْنِ جُرَيْجٍ بِمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: النُّصُبُ: حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ تَذْبَحُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُبَدِّلُونَهَا إِذَا شَاءُوا بِحِجَارَةٍ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: وَالنُّصُبُ حِجَارَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا فَنَهَى الله عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْصَابٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ وَيُهِلُّونَ عَلَيْهَا. فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُذْبَحُ بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ قَدْ يَكُونُ لِصَنَمٍ مِنَ الْأَصْنَامِ بَعِيدًا عَنْهُ وَعَنِ النُّصُبِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا بُدَّ أَنْ يُذْبَحَ عَلَى تِلْكَ الْحِجَارَةِ أَوْ عِنْدَهَا وَيُنْشَرُ لَحْمُهُ عَلَيْهَا. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ عَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَرْبَعَةٌ بِالْإِجْمَالِ، وَكَمَا خَصَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَيْتَاتِ بِالذِّكْرِ بِسَبَبٍ خَاصٍّ مَعْرُوفٍ ; لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِاسْتِبَاحَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَهَا - خَصَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بِالذِّكْرِ لِإِزَالَةِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَحْوِهَا. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَهَا عَمَلًا آخَرَ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ ; فَقَالَ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا قُسِمَ لَكُمْ - أَوْ تَرْجِيحَ قِسْمٍ مِنْ مَطَالِبِكُمْ عَلَى قِسْمٍ - بِالْأَزْلَامِ كَمَا تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ كَمَا يَأْتِي، وَالزُّلَمُ - مُحَرَّكَةٌ - كَصُرَدٍ ; أَيْ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: قَدَحٌ لَا رِيشَ عَلَيْهِ وَسِهَامٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، جَمْعُهُ أَزْلَامٌ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا قِطَعٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السَّهْمِ إِلَّا أَنَّهَا لَا يُلْصَقُ عَلَيْهَا الرِّيشُ الَّذِي يُلْصَقُ عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ ; لِيَحْمِلَهُ الْهَوَاءُ، وَلَا يُرَكَّبُ فِيهَا النَّصْلُ الَّذِي يَجْرَحُ مَا يُرْمَى بِهِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتِ الْأَزْلَامُ ثَلَاثَةً مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا: " أَمَرَنِي رَبِّي " وَعَلَى الثَّانِي: " نَهَانِي رَبِّي " وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ زَوَاجًا أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَجَالَ هَذِهِ الْأَزْلَامَ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الزُلَمُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ " أَمَرَنِي رَبِّي " مَضَى لِمَا أَرَادَ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ " نَهَانِي رَبِّي " أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ (الْغُفْلُ الَّذِي لَا كِتَابَةَ عَلَيْهِ) : أَعَادَ الِاسْتِقْسَامَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ سَفَرًا

يَعْمِدُونَ إِلَى قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ، عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا مَكْتُوبٌ " اؤْمُرْنِي " وَعَلَى الْآخَرِ " انْهَنِي " وَيَتْرُكُونَ الْآخَرَ مُحَلِّلًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُجِيلُونَهَا فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ " اؤْمُرْنِي " مَضَوْا لِأَمْرِهِمْ، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ " انْهَنِي " كَفُّوا، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَعَادُوهَا. وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ فِي الْكِتَابَةِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَ الْكُهَّانِ ; فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ أَوْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يُحْدِثَ أَمْرًا أَتَى الْكَاهِنَ فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَضَرَبَ لَهُ بِهَا، فَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ يُعْجِبُهُ مِنْهَا أَمَرَهُ فَفَعَلَ، وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ نَهَاهُ فَانْتَهَى، كَمَا ضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى زَمْزَمَ، وَعَلَى عَبْدِ اللهِ وَالْإِبِلِ. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ هُبَلُ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ سَبْعَةُ أَقْدَاحٍ كُلُّ قَدَحٍ مِنْهَا فِيهِ كِتَابٌ، أَيْ: (كِتَابَةُ شَيْءٍ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قَدَحٌ فِيهِ الْعَقْلَ (أَيْ دِيَةُ الْقَتِيلِ) إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ؟ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السَّبْعَةِ، وَقَدَحٌ فِيهِ " نَعَمْ " لِلْأَمْرِ إِذَا أَرَادُوهُ، يَضْرِبُ بِهِ (أَيْ: يُجَالُ فِي سَائِرِ الْقِدَاحِ) فَإِنْ خَرَجَ قَدَحُ " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، أَوْ قَدَحٌ فِيهِ " لَا " فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا فِي الْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقَدَحُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَقَدَحٌ فِيهِ " مِنْكُمْ " وَقَدَحٌ فِيهِ " مُلْصَقٌ " وَقَدَحٌ فِيهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ " وَقَدَحٌ فِيهِ الْمِيَاهُ ; إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ وَفِيهَا تِلْكَ الْقَدَّاحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا، أَوْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْكَحًا، أَوْ أَنْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا، أَوْ يَشُكُّوا فِي نَسَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِجَزُورٍ - بَعِيرٍ يُجْزَرُ - فَأَعْطَاهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا صَاحِبَهُمُ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا إِلَهَنَا، هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ. فَيَضْرِبُ فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ " كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مُلْصَقٌ " كَانَ عَلَى مِيرَاثِهِ مِنْهُمْ، لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ، وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ سِوَى هَذَا مِمَّا يَعْمَلُونَ بِهِ: " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ " لَا " أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ مَرَّةُ أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَتْ بِهِ الْقَدَّاحُ. اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِ الْكَهَنَةِ أَزْلَامٌ غَيْرُ السَّبْعَةِ الَّتِي عِنْدَ هُبَلَ، الَّتِي يَفْصِلُ فِيهَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّفُونَ قِسْمَتَهُمْ وَحَظَّهُمْ، أَوْ يُرَجِّحُونَ مَطَالِبَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِبِ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْأَزْلَامَ: بِكِعَابِ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَقْمُرُونَ بِهَا، وَسِهَامَ الْعَرَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَزْلَامُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَافْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، وَقَدْ زُلِمَتْ وَسُوِّيَتْ وَوُضِعَتْ فِي الْكَعْبَةِ يَقُومُ بِهَا سَدَنَةُ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ سَفَرًا

أَوْ نِكَاحًا أَتَى السَّادِنَ وَقَالَ: أَخْرِجْ لِي زُلَمًا، فَيُخْرِجُهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ. إِلَخْ. قَالَ: وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ زُلَمَانِ وَضَعَهُمَا فِي قِرَابِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقْسَامَ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا. اهـ. وَهَذَا مَحِلُّ الشَّاهِدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَزْلَامَ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا النَّرْدُ وَالشَّطْرَنْجُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سِهَامَ الْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (2: 219) وَهِيَ عَشَرَةٌ، لَهَا أَسْمَاءٌ لِسَبْعَةٍ، مِنْهَا أَنْصِبَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ (ص 258 ج2 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ اسْتِقْسَامًا، وَقَدْ يُسْتَقْسَمُ بِهِ. أَمَّا سَبَبُ تَحْرِيمِ الِاسْتِقْسَامِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا كَانَ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَمَا لَمْ يَكُنْ ; كَالزُّلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْمِلُهُمَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي رَحْلِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ بِهَا عِلْمَ الْغَيْبِ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، عَلَى أَنَّ جَعْلَ هَذَا مُحَرَّمًا وَعِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِرَدِّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا افْتِرَاءً عَلَى اللهِ إِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ " أَمَرَنِي رَبِّي " اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَهْلًا وَشِرْكًا إِنْ أَرَادُوا بِهِ الصَّنَمَ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَزْلَامِ لَا عَنْ كُلِّهَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا قَدْ حُرِّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي لَا يَرْكَنُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا يَتْرُكُ عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أُلْعُوبَةً لِلْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ، وَيَتَفَاءَلُ وَيَتَشَاءَمُ بِمَا لَا فَأْلَ فِيهِ وَلَا شُؤْمَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ وَالْبُرْهَانِ، كَمَا أَبْطَلَ التَّطَيُّرَ وَالْكِهَانَةَ وَالْعِيَافَةَ وَالْعِرَافَةَ وَسَائِرَ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بِجَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَوْهَامِهَا. وَمِمَّا يَجِبُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ صِغَارَ الْعُقُولِ كِبَارُ الْأَوْهَامِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَعَلَى عَهْدِ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، يَسْتَنُّونَ بِسُنَّةِ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ اسْتَقْسَمُوا بِمَا هُوَ مِثْلُهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُسَمُّونَ عَمَلَهُمْ هَذَا اسْمًا حَسَنًا، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَصْرِنَا هَذَا بِالِاسْتِقْسَامِ بِالسِّبَحِ وَغَيْرِهَا، وَيُسَمُّونَهُ اسْتِخَارَةً وَمَا هُوَ مِنْ الِاسْتِخَارَةِ الَّتِي وَرَدَ الْإِذْنُ بِهَا فِي شَيْءٍ، وَقَدْ يُسَمُّونَهُ أَخْذَ الْفَأْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ طَائِفَةً مِنْ حَبِّ السِّبْحَةِ وَيُحَوِّلُونَهُ حَبَّةً بَعْدَ أُخْرَى، يَقُولُونَ " افْعَلْ " عَلَى وَاحِدَةٍ، وَ " لَا تَفْعَلْ " عَلَى أُخْرَى، وَيَكُونُ الْحُكْمُ الْفَصْلُ لِلْحَبَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ كَلِمَاتٍ أُخْرَى بِهَذَا الْمَعْنَى، تَخْتَلِفُ كَلِمَاتُهُمْ كَمَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ كَلِمَاتُ سَلَفِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى وَالْمَقْصِدُ وَاحِدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْسِمُ بِوَرَقِ اللَّعِبِ الَّذِي يُقَامِرُونَ بِهِ أَحْيَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْفَأْلَ بِفُصُوصِ النَّرْدِ - الطَّاوِلَةِ - وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَدَوَاتِ اللَّعِبِ، وَفُصُوصُ النَّرْدِ هَذِهِ هِيَ كِعَابُ الْفُرْسِ الَّتِي أَدْخَلَهَا مُجَاهِدٌ فِي الْأَزْلَامِ، وَجَعَلَهَا كَسِهَامِ الْعَرَبِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُؤَيِّدُ تَحْرِيمَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْسِمُ ،

أَوْ يَأْخُذُ الْفَأْلَ أَوْ الِاسْتِخَارَةَ - كَمَا يَقُولُونَ - بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; فَيَصْبُغُونَ عَمَلَهُمْ بِصِبْغَةِ الدِّينِ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّصِّ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَهَلْ يَحِلُّ عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ؟ وَيُلْبِسُ الْبَاطِلَ ثَوْبَ الْحَقِّ فَيَصِيرُ حَقًّا؟ اللهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَتَرَكَ قَوْمٌ الِاهْتِدَاءَ، وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاكْتَفَوْا مِمَّا يَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، بِالِاسْتِقْسَامِ بِهِ كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، أَوْ الِاسْتِشْفَاءِ بِمِدَادٍ تُكْتَبُ بِهِ آيَاتُهُ فِي كَاغِدٍ أَوْ جَامٍ، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ كَفَانَا مَا أَصَابَ الْأُمَّةَ بِضَلَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ، اللهُمَّ وَاجْعَلْ لَنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِنْ فِتْنَتِهِمْ وَفِتْنَةِ مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ كُلَّهُ اسْتِنْكَافًا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَخُرَافَاتِ أَمْثَالِهِمْ. وَلْيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ الْعَادَةَ وَالْإِلْفَ يَجْعَلَانِ الْبِدْعَةَ مَعْرُوفَةً كَالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةَ مُنْكَرَةً كَالْبِدْعَةِ، فَمَا حَاوَلَ أَحَدٌ إِمَاتَةَ بِدْعَةٍ أَوْ إِحْيَاءَ سُنَّةٍ، إِلَّا وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى بِدْعَةٍ، إِلَّا وَتَأَوَّلُوا لِفَاعِلِيهَا وَانْتَحَلُوا لَهَا مُسَوِّغًا مِنَ الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الِاسْتِقْسَامِ بِالسِّبَحِ وَغَيْرِهَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الْفَأْلِ الْحَسَنِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَمَا هُوَ مِنْهُ، إِنَّمَا الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيرَةِ الَّتِي نَفَتْهَا وَأَبْطَلَتْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسَانُ اسْمًا حَسَنًا أَوْ كَلِمَةَ خَيْرٍ، فَيَنْشَرِحَ لَهَا صَدْرُهُ وَيَنْشَطُ فِيمَا أَخَذَ فِيهِ، وَقِيلَ: يَكُونُ الْفَأْلُ فِي الْحَسَنِ وَالرَّدِيءِ. وَالطِّيَرَةُ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْقَامُوسِ، وَهِيَ مِنَ الطَّائِرِ ; إِذْ كَانُوا يَتَفَاءَلُونَ وَيَتَشَاءَمُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ حَتَّى صَارَ زَجْرُ الطَّيْرِ عِنْدَهُمْ صِنَاعَةً، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالطَّائِرُ الدِّمَاغُ، وَمَا تَيَمَّنْتَ بِهِ أَوْ تَشَاءَمْتَ. اهـ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طِيرَةَ " فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ يُبْطِلُ حَسَنَ الطِّيرَةِ وَرَدِيئَهَا ; لِأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا طَبْعًا، لَا فَرْقَ فِي التَّطَيُّرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَهَذِهِ الطِّيرَةُ قَدِيمَةُ الْعَهْدِ فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللهُ - تَعَالَى - قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ فِي مُجَادَلَتِهِ لِقَوْمِهِ (ثَمُودَ) فِي سُورَةِ النَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (27: 47) وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَوْ غَيْرِهَا شَرٌّ مِنَ التَّطَيُّرِ الَّذِي يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ عَرَضًا لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، أَوْ تَأَثُّرِهِ بِأَحْوَالِ مَنْ تَرَبَّى بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنْهَا، وَيَسْتَثِيرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَجْعَلُهُ حَاكِمًا عَلَى قَلْبِهِ، فَيَعْمَلُ

بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسَاهَلَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى التَّفَاؤُلِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلَمْ يَعُدَّ هَذَا مِنَ الطِّيرَةِ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَزَالَ تِلْكَ الْعَقَائِدَ الْوَهْمِيَّةَ الْبَاطِلَةَ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ تَبْقَ حَاجَةٌ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ - فَهَذَا التَّسَاهُلُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْسَامِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُحَرَّمِ قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ ; لِتَغَيُّرِ الْمُسْتَقْسَمِ بِهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الِاسْتِقْسَامِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ أَنَّهُ بِالْأَزْلَامِ، بَلْ إِنَّهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ خَشَبَاتِ الْأَزْلَامِ وَخَشَبَاتِ السِّبْحَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَبِّهَا؟ وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الِاسْتِقْسَامِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخَارَةِ ; إِذِ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ بِإِطْلَاقِ اسْمِهَا عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْقُرْعَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ قِيَاسِ الشَّيْطَانِ، وَالْحُكْمِ فِي دِينِ اللهِ بِالْهَوَى دُونَ بَيِّنَةٍ وَلَا سُلْطَانٍ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (2: 111) لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (8: 42) قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (6: 148) إِلَخْ. وَإِرْشَادُ الْقُرْآنِ، وَهَدْيُهُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْأَخْذِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ شُئُونَ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا كَانَتِ الدَّلَائِلُ وَالْبَيِّنَاتُ تَتَعَارَضُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهَا يَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَيُرِيدُ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَلَا يَسْتَبِينُ لَهُ: آلْإِقْدَامُ عَلَيْهِ خَيْرٌ أَمْ تَرْكُهُ؟ فَيَقَعُ فِي الْحَيْرَةِ - جَعَلَتْ لَهُ السُّنَّةُ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِخَارَةِ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَلَا تَطُولَ غُمَّتُهُ، وَذَلِكَ الْمَخْرَجُ هُوَ الِاسْتِخَارَةُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ بِأَنْ يُزِيلَ الْحَيْرَةَ وَيُهَيِّئَ وَيُيَسِّرَ لِلْمُسْتَخِيرِ الْخَيْرَ، وَجَدِيرٌ هَذَا بِأَنْ يَشْرَحَ الصَّدْرَ لِمَا هُوَ خَيْرُ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَنْ يَأْخُذُوا بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ، فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَى أَحَدِهِمْ أَمْرٌ الْتَجَأَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا شَرَحَ صَدْرَهُ لِشَيْءٍ أَمْضَاهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَيْرَتِهِ، وَالْقُرْعَةُ تُشْبِهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْرُهَا أَظْهَرُ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ قَطْعًا، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِلْزَامِ مَنْ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَأْخُذَ زَيْدٌ مِنْهُمَا هَذِهِ الْحِصَّةَ، وَعَمْرٌو الْأُخْرَى ; فَالْقُرْعَةُ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ عَادِلَةٌ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ. وَالَّذِي صَحَّ فِي الِاسْتِخَارَةِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ (أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ) مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي

وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَالْخِلَافُ فِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ قَلِيلٌ ; كَأَرْضِنِي بِهِ مِنَ الْإِرْضَاءِ، وَرَضِّنِي مِنَ التَّرْضِيَةِ. لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ إِشَارَةٌ مَا إِلَى مَعْنَى يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ وَلَا التَّفَاؤُلِ، بَلْ هِيَ أَمْرٌ بِعِبَادَةٍ وَدُعَاءٍ عِنْدَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَنْسَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ - تَعَالَى - عِنْدَ اهْتِمَامِهِ بِالشَّأْنِ مِنْ شُئوُنِ الدُّنْيَا، وَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ فِقْهِ الِاسْتِخَارَةِ وَحِكْمَتِهَا فِي بَدْءِ الْكَلَامِ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ مَعْنَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا صَحِيحًا فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ، فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخِيَرَةَ فِيهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ، لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا كَانَ لَهُ فِيهِ هَوًى قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ مَا عَزَى الْحَدِيثَ إِلَى ابْنِ السُّنِّيِّ: لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدَ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ وَاهٍ جِدًّا. اهـ. أَقُولُ: وَآفَتُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْبَرَاءِ، ضَعَّفُوهُ جِدًّا، بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ: شَيْخٌ كَانَ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيُحَدِّثُ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ، لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَدْحِ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ فِسْقٌ. ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ كُلُّ مُحَرَّمٍ مِنْهَا خُرُوجٌ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، وَرَغْبَةٌ عَنْ شَرْعِهِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. إِنَّنِي أَتَنَسَّمُ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْخَبَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَرْتِيبِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْهِ أَنَّ حِكْمَةَ الِاكْتِفَاءِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِذِكْرِ مُحْرِمَاتِ الطَّعَامِ الْأَرْبَعَةِ الْوَارِدَةِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَتَرْكِ تَفْصِيلِ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا مِمَّا كَرِهَهُ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ سَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ - هُوَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا، كَمَا كَانَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ; لِئَلَّا يَنْفِرَ الْعَرَبُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَرَوْنَ فِيهِ حَرَجًا عَلَيْهِمْ يَرْجُونَ بِهِ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. جَاءَ هَذَا التَّفْصِيلُ لِلْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْسِعَةِ اللهِ عَلَى أَهْلِهِ وَإِعْزَازِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ مِنْ نُفُورِ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَفِرَارِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِهِ، وَزَالَ طَمَعُهُمْ فِي الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةِ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرَ بِأَلَّا يُبَالُوا بِمُدَارَاتِهِمْ، وَلَا يَهْتَمُّوا بِمَا يُنَفِّرُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَلَّا يَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ

بِالْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَالزَّمَنِ، كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ بِالْأَمْسِ طِفْلًا أَوْ غُلَامًا، وَقَدْ صِرْتُ الْيَوْمَ رَجُلًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَبْطَلَ بِهَا الْإِسْلَامُ بَقَايَا مَهَانَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخَبَائِثِهَا وَأَوْهَامِهَا، وَالْمُبَشِّرَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ظُهُورًا تَامًّا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي زَوَالِهِ، وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مُدَارَاتِهِمْ أَوِ الْخَوْفِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَسَتَأْتِي الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ زَوَالِ دِينِهِمْ. وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ وَقَدْ بَدَّلَهُمْ بِضَعْفِهِمْ قُوَّةً وَبِخَوْفِهِمْ أَمْنًا وَبِفَقْرِهِمْ غِنًى، أَلَّا يَخْشَوْا غَيْرَ الَّذِي جَرَّبُوا فَضْلَهُ عَلَيْهِ، وَإِعْزَازَهُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا نَبْدَأُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ حَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، بِذِكْرِ صَفْوَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ مَعْنَاهَا وَزَمَنِ نُزُولِهَا وَمَكَانِهِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يَقُولُ: يَئِسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَبَدًا فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَاخْشَوْنِ: فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَ - أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: حَلَالَكُمْ وَحَرَامَكُمْ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ: مِنَّتِي فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَرَضِيتُ يَقُولُ: اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ - أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - قَالَ: أَخْبَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرِ الْيَهُودِ أُنْزِلَتْ ; لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالُوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَنَا عِيدًا وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي يَوْمُ النَّحْرِ، فَأَكْمَلَ اللهُ لَنَا الْأَمْرَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي انْتِقَاصٍ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِيسَى بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الدِّيوَانِ، فَقَالَ لَنَا نَصْرَانِيٌّ: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمْ آيَةٌ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَتِلْكَ السَّاعَةَ عِيدًا مَا بَقِيَ مِنَّا اثْنَانِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنَّا، فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْجَبَلِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْيَوْمُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِعَرَفَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَ مَا رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَابِ عُمَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ، فَقَالَ يَهُودِيٌّ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ ; يَوْمِ عِيدٍ وَيَوْمِ جُمُعَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْيَوْمَ لَيْسَ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ يَعْلَمُهُ النَّاسُ، وَرَجَّحَ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ فِي تَعْيِينِهِ بِصِحَّةِ سَنَدِهَا. وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ فَهُوَ خُلُوصُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَهُمْ، وَإِجْلَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ حَتَّى حَجَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمْ لَا يُخَالِطُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةِ إِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِكْمَالِ بِإِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا يُعَارِضُهُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فِي آيَةِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنَّهَا آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَنَقُولُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا آخِرُ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّرْجِيحِ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ قُبِضَ، وَكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَ تَتَابُعًا، وَجَعَلَ مِنْهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَمْنَعُونَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا يَمْنَعُونَ غَيْرَهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ فَرَائِضُ وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَبِهَذَا يُبْطِلُ تَرْجِيحُهُ إِثْبَاتَ نُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى نَفْيِهِ بِتَقْدِيمِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي. وَقَدْ كَانَ قَدَّمَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ; إِذْ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَرَائِضِي عَلَيْكُمْ وَحُدُودِي وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ وَنَهْيِي وحلَالِي وَحَرَامِي وَتَنْزِيلِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلْتُ مِنْهُ فِي كِتَابِي، وَتِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنْهُ بِوَحْيِي عَلَى لِسَانِ رَسُولِي، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبْتُهَا لَكُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا بِكُمُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، فَأَتْمَمْتُ لَكُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَلَا زِيَادَةَ فِيهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَارِيخَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ

وَالْحَرَامِ شَيْءٌ، وَأَيَّدَهُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَمَّا مُقَابِلُهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الدِّينِ بِالْحَجِّ خَاصَّةً فَأَيَّدَهُ بِالرِّوَايَةِ عَنْ قَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَنُبَيِّنُ رَأْيَنَا فِي رَدِّهِ. وَأَمَّا مُفَسِّرُو الْخَلَفِ فَقَدْ نَظَرُوا فِي الْآيَةِ نَظَرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ الظَّاهِرِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَكُلِّ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; فَأَرَادُوا دَفْعَ ذَلِكَ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ مَا فِي مَفْهُومِ الْإِكْمَالِ مِنْ سَبْقِ النَّقْصِ ; فَأَرَادُوا التَّفَصِّيَ مِنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى قَوْلٍ جَامِعٍ فِي الْأَمْرَيْنِ، تَبِعَهُ فِيهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَالرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِمْ، قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ كَفَيْتُكُمْ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ، وَجَعَلْتُ الْيَدَ الْعُلْيَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ وَكَمُلَ لَنَا مَا نُرِيدُ، إِذَا كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ وَوَصَلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكْلِيفِكُمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الشَّرَائِعِ وَقَوَانِينِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِفَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِهَا آمِنِينَ ظَاهِرِينَ، وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَأَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، أَوْ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ. اهـ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِهَادِ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَبِإِكْمَالِ الدِّينِ، أَوْ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ. اهـ. وَتَبِعَهُمَا فِي ذَلِكَ أَبُو السُّعُودِ بِاللَّفْظِ وَالْفَحْوَى، قَالَ: وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ تَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: دِينَكُمْ لِلْإِيذَانِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِأَنَّ الْإِكْمَالَ لِمَنْفَعَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (94: 1) وَشَرَحَ الرَّازِيُّ احْتِجَاجَ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ بِالْآيَةِ وَرَدَّ مُثْبِتِيهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ، وَاعْتَمَدَ فِي مَسْأَلَةِ إِكْمَالِ الدِّينِ مِنْ أَوَّلِهِ قَوْلَ الْقَفَّالِ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ فِي وَقْتٍ كَانَ كَافِيًا لِأَهْلِهِ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْإِكْمَالَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِكْمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى يَوْمِ السَّاعَةِ. (إِكْمَالُ الدِّينِ بِالْقُرْآنِ) لَمْ أَرَ لِعَالَمٍ مِنْ حُكَمَاءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى اللَّخْمِيِّ الشَّاطِبِيِّ الْغِرْنَاطِيِّ، فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ (الْمُوَافِقَاتِ) الَّذِي لَمْ يُؤَلَّفْ مِثْلَهُ فِي أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَحِكْمَتِهِ، وَمِنْ أَوْسَعِ كَلَامِهِ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ " الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَهُ هُنَا تَلْخِيصًا، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي (الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ) مِنْهُ: "

الْقُرْآنُ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْعَالِمُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، لَا يَعُوزُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ (مِنْهَا) النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (16: 89) وَقَوْلِهِ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (6: 38) وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (17: 9) يَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ، وَلَوْ لَمْ يُكْمِلْ فِيهِ جَمِيعَ مَعَانِيهَا - أَيِ الشَّرِيعَةِ - لَمَا صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَكُونُ شِفَاءً لِجَمِيعِ مَا فِي الصُّدُورِ إِلَّا وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. وَمِنْهَا مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُؤْذِنَةِ بِذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، إِلَخْ ; فَكَوْنُهُ حَبْلَ اللهِ بِإِطْلَاقٍ وَالشِّفَاءَ النَّافِعِ إِلَى تَمَامِهِ، دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ كُلَّ مُؤَدِّبٍ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى أُدُبَهُ، وَأَنَّ أُدُبَ اللهِ الْقُرْآنُ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَصِدْقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (68: 4) . ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ طَائِفَةً مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَأْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: " وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْقَوَاعِدِ غَيْرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي السُّنَّةِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ " وَهَذَا ذَمٌّ وَمَعْنَاهُ اعْتِمَادُ

السُّنَّةِ أَيْضًا، وَيُصَحِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ (4: 59) الْآيَةَ، قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الرَّدُّ إِلَى اللهِ: الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ - تَعَالَى - فَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ. وَمِثْلُهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا (33: 36) الْآيَةَ. يُقَالُ: إِنَّ السُّنَّةَ يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ لِكِتَابِ اللهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْكِتَابِ فَفِي أَحَدِ قِسْمَيْهَا ; فَالْقِسْمُ الْآخَرُ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابَ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ إِلَّا كِتَابُ اللهِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَصَّلْتَ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ بِحَوْلِ اللهِ. اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي (الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ) مِنْ مَسَائِلِ الدَّلِيلِ الثَّانِي (السُّنَّةُ) مَا نَصُّهُ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا وَعَدَ بِهِ: " رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ (أَحَدُهَا) : أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ. (وَالثَّانِي) : أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا كَانَ ثَانِيًا عَلَى الْمُبِينِ فِي الِاعْتِبَارِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبِينِ سُقُوطُ الْبَيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبِينِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَلَّا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ. (وَالثَّالِثُ) : مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ ; كَحَدِيثِ مُعَاذٍ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي " الْحَدِيثَ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ فَاقْضِ

بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ فِيهِ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ. بَيَّنَ مَعْنَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ عُرِضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ قَالَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ، وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِهِ. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ، وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ " وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ ". فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا، فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ ; فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ يَدِ كُلِّ سَارِقٍ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَابِ الْمُحَرَّزِ، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا ; فَخَصَّتْهُ السُّنَّةُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (4: 24) فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَتَقْدِيمٌ لِلسُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. " وَأَمَا ثَانِيًا: فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِذَا تَعَارَضَا، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ هَلْ يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ أَمْ بِالْعَكْسِ أَمْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ؟ وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تَضْعُفُ فِي الدَّلَالَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ مَعَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ ; وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ، وَتَأَوَّلُوا التَّقْدِيمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْبِدَايَةِ بِالْأَسْهَلِ الْأَقْرَبِ وَهُوَ الْكِتَابُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَلَا وَجْهَ لِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ بَلِ الْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ. "

فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ لَيْسَ بِمَعْنَى تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَإِطْرَاحِ الْكِتَابِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُعَبَّرَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ، فَكَأَنَّ السُّنَّةَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لِمَعَانِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) فَإِذَا حَصَلَ بَيَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (5: 38) بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ ; فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، لَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ دُونَ الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ مَالِكٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ، فَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّنَا عَمِلْنَا بِقَوْلِ الْمُفَسِّرِ الْفُلَانِيِّ، دُونَ أَنْ نَقُولَ عَمِلْنَا بِقَوْلِ اللهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَمَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ قَاضِيَةً عَلَى الْكِتَابِ ; أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ، فَلَا يُوقَفُ مَعَ إِجْمَالِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَقَدْ بَيَّنَتِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَا أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ. " وَأَمَّا خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ، فَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعَارُضُ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ. " وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَنِ الْوَاقِعَةِ، فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ ; فَهِيَ تَفْصِيلُ مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ مُشْكَلِهِ، وَبَسْطُ مُخْتَصَرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبُوعٌ لَهَا ; فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: وَإِنَّكَ لِعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (68: 4) وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (6: 38) وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3)

وَهُوَ يُرِيدُ: بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، فَالسُّنَّةُ إِذًا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ السُّنَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْ قَبُولِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ ". ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ الشُّبَهَاتِ عَلَى هَذَا مَعَ رَدِّهَا، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ أَوْجُهٍ: (1) الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْكِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَخْذِ مَا أَعْطَى وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، وَحَذَّرَ الْمُخَالِفَةَ عَنْ أَمْرِهِ. (2) الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ تَرْكِ السُّنَّةِ. (3) الِاسْتِقْرَاءُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ; كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. (4) " إِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ خَارِجِينَ عَنِ السُّنَّةِ ; إِذْ عَوَّلُوا عَلَى مَا بَنَيْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَطْرَحُوا أَحْكَامَ السُّنَّةِ، فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْخِلَاعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ. وَأَوْرَدَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَتَكَلَّمَ عَنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا. وَمُلَخَّصُ الْجَوَابِ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ تُطَاعُ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، فَطَاعَةُ اللهِ الْعَمَلُ بِكِتَابِهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ الْعَمَلُ بِمَا بَيَّنَ بِهِ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - قَوْلًا أَوْ عَمَلًا أَوْ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ بَيَانًا لَهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَا فِي السُّنَّةِ مِنَ التَّفْصِيلِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَإِنْ كَانَ تَتَرَاءَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْقُرْآنِ، الْمُفَصَّلَةِ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّنَا عَلِمْنَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ مُجْمَلَةً. وَمُلَخَّصُ الْجَوَابِ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ خُرُوجَ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ عَنِ السُّنَّةِ لِمَكَانِ اتِّبَاعِهِمُ الرَّأْيَ وَالْهَوَى، وَإِطْرَاحِهِمُ السُّنَنَ الْمُبَيِّنَةَ لِلْقُرْآنِ ; يَعْنِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَيَانَهُمْ لَهُ أَوْلَى مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ مُبَيِّنًا لَهُ. وَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلَا مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَحِينَئِذٍ، لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ لِكِتَابِ اللهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ; فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوَّلًا ; أَيْ فَهَذَا الْأَمْرُ الْجَائِزُ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ وُجُوبُ مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ عَرْضِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَطَالَ فِي تَأْيِيدِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَقَدْ عَقَدَ لَهُ مَسْأَلَةً خَاصَّةً (وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) اسْتَغْرَقَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةً مِنَ الْكِتَابِ، بَيَّنَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْثِلَةِ وَالشَّوَاهِدِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي السُّنَّةِ

حُكْمٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ لَهُ أَصْلٌ هُوَ بَيَانٌ لَهُ، فَلْيُرَاجِعْ ذَلِكَ مَنْ شَاءَ. أَمَّا الْمَسْلَكُ الَّذِي سَلَكَهُ (الشَّاطِبِيُّ) فِي إِرْجَاعِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ ; فَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْقُرْآنِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالتَّحْسِينَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي السُّنَّةِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَضَرَبَ الْأَمْثِلَةَ فِي الضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعَقْلِ وَالْعِرْضِ، وَقَالَ: " وَيُلْحَقُ بِهَا مُكَمِّلَاتُهَا وَالْحَاجَاتُ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا مُكَمِّلَاتُهَا، وَلَا زَائِدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ - أَيْ مِنْ كِتَابِهِ هَذَا - وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى السُّنَّةِ وَجَدْنَاهَا لَا تَزِيدُ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ ; فَالْكِتَابُ أَتَى بِهَا أُصُولًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ أَتَتْ بِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْكِتَابِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ مِنْهَا، فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا مَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَاتِ تَدُورُ عَلَى قُطْبِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ وَالرِّفْقِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ، وَأَنَّ التَّحْسِينَاتِ كَالْحَاجَاتِ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْآدَابِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَصْلُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهَا كَذَلِكَ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ، وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَبَيَّنَ مَسْلَكَ السُّنَّةِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ وَالْقِيَاسِ عَلَى أُصُولِهِ وَعِلَلِهِ ; لِحِفْظِ مَقَاصِدِهَا وَبَيَانِهَا لِلنَّاسِ وَأَخْذِ الْمَعْنَى الْعَامِّ مِنْ مَجْمُوعِ أَدِلَّتِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَفِقْهِ مَقَاصِدِهِ مِنْهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْثِلَةَ لَهُ، مِثَالٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ حِفْظِ الْمَالِ: وَلَهُ أَمْثِلَةٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، حَرَّمَ الرِّبَا وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ: " إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا " هُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُ الطَّالِبُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ. وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (2: 279) فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْعُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، أَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِهِ كُلَّ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ بَيْعِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَمْثِلَةِ كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِهِ. وَقَالَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: (فَصْلٌ) وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِي مَنْ يَطْرَحُ السُّنَّةَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا لَمْ نَدَّعِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ هُوَ رَأْيُ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ

عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَقَوْلُهُ: " أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ " صَحِيحٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، إِمَّا بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الدَّائِرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَآخِذِ الْمُتَقَدِّمَةِ. اهـ. أَقُولُ: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَ بَعْضَهُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ كُلِّهِ فِي الْحُجَجِ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى قَاعِدَتِهِ هُوَ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، بِلَفْظٍ: يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ ; فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، فِيهِ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِكَثْرَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا، وَتَكَلَّمُوا فِي أَحَادِيثَ لَهُ عَنْ سُفْيَانَ تُسْتَغْرَبُ، وَقَدْ تَرَكَهُ الشَّيْخَانِ لِذَلِكَ، وَاللَّفْظُ الْآخَرُ: لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي ; مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُبَاحَاتِ لِكَرَاهَتِهِ لَا لِتَحْرِيمِهِ، أَوْ لِلْمَنْعِ مِنْهُ مُؤَقَّتًا لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَيُوشِكُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ السِّبَاعِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَعَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ الْإِذْنِ بِأَكْلِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الثَّانِي، لَوْلَا مَا رُوِيَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَمِثَالُ الْعِلَّةِ الْعَارِضَةِ: قِلَّةُ الشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا تَنْهَى بَعْضُ الْحُكُومَاتِ أَحْيَانًا عَنْ بَيْعِ الْخَيْلِ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ، أَوْ عَنْ ذَبْحِ الْبَقَرِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْفِلَاحَةِ. وَقَدْ يَرِدُ الْحَدِيثُ بِلَفْظَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: لَفْظُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ: لَفْظٌ بِمَعْنَاهُ بِحَسْبِ فَهْمِ الرَّاوِي، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَوَى أَحَدَهُمَا بِالْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ الْمَرْوِيَّ بِالْمَعْنَى يَجُوزُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ مُعَارِضًا لِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا حَصَرَهَا فِيهِ الْقُرْآنُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مَا عَدَا الْبُخَارِيَّ، وَأَبَا دَاوُدَ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَلَعَلَّ مَالِكًا كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ هَذَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ قَوْلٌ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَوْلٌ بِإِبَاحَتِهَا، وَقَدْ فَاتَ هَذَا صَاحِبَ الْمُوَافِقَاتِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَةِ السِّبَاعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَكْمَلَ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ وَبَيَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَمَا صَحَّ مِنْ بَيَانِهِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا بَعْدَ سُنَّتِهِ نُورٌ يُهْتَدَى بِهِ فِي

فَهْمِ أَحْكَامِهِ لِلْعَالِمِ بِلُغَتِهِ مِثْلُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَمَلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ تَبِعَهُمْ فِي هُدَاهُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِمْ ضَلَّ وَغَوَى وَلَمْ يَسْلَمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَمَّا مَا تَوَسَّعَ فِيهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِدَعْوَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فَهُوَ يُنَافِي إِكْمَالَ الدِّينِ وَيُسْرَهُ، وَرَفْعَ الْحَرَجِ مِنْهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقِيَاسَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا عَدَا الْعِبَادَاتِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْحَلَّالُ وَالْحَرَامُ، عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ عِبَارَاتِ شُيُوخِهِمْ فَيَجْعَلُونَهَا كَنُصُوصِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تُضْبَطْ بِالرِّوَايَةِ كَمَا ضُبِطَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ، وَيَعُدُّونَ تَعْلِيلَاتِهِمْ كَتَعْلِيلَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَجْعَلُونَهَا دَلِيلًا عَلَى الْأَحْكَامِ وَمَدَارًا لِلِاسْتِنْبَاطِ، بَلْ صَارُوا يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا مِنْهُمَا جَعَلُوهُ دَلِيلًا لَهَا، وَمَا خَالَفَتْهُ مِنْهُمَا أَوْجَبُوا الْعَمَلَ بِهَا دُونَهُمَا، فَصَارَتْ أَحْكَامُ الدِّينِ الْمُسْتَنْبَطَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ، وَهُجِرَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لِأَجْلِهَا، فَهَلْ يَتَّفِقُ هَذَا مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ اللهَ أَكْمَلَ الدِّينَ بِكِتَابِهِ، وَبَيَّنَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَمَا نِيطَ مِنْهُ بِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ مَزِيدٌ فِي تَفْسِيرِ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (5: 101) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي إِكْمَالِ الدِّينِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ فِيهِ عَقَائِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَآدَابُهُ (الْعِبَادَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ، وَالْمُعَامَلَاتُ بِالْإِجْمَالِ وَنَوْطُهَا بِأُولِي الْأَمْرِ) وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ ; أَمْرِ الْقُوَّةِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ، قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ (5: 3) وَيَزِيدُهُ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا قَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (5: 3) وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ جُمْلَتُهُ وَمَجْمُوعُهُ لَمَا قَالَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (5: 3) . فَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ كَيْفَ أَذْهَلَهُ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ هَذَا النَّصِّ! . هَذَا وَإِنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ اللهَ أَكْمَلَهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، أَثْبَتُ وَأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النَّقْصُ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ الدِّينَ نَفْسَهُ، وَعُمَرَ أَرَادَ قُوَّةَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ ; إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ هُوَ مُرَادُ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ قُرْبَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ

أَيْضًا، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَعَنْ سَائِرِ الْآلِ وَالصَّحْبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، الَّذِينَ حَفِظُوا لَنَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ، هَذَا الدِّينَ، فَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَتِهِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي لَمَّ تُعْرَفْ إِلَّا بِجَرْيِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَا سَعَةَ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ، أَمَّا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ سُنَّةً مُتَّبَعَةً لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، فَهِيَ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ حَيْثُ صِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَتَحْقِيقِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ مِنْهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَقِيدَةً، وَلَا أَمْرًا كُلِّيًّا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ; إِذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ مُنَافِيًا لِمِنَّةِ اللهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِكْمَالُ وَالْإِتْمَامُ مُتَوَقِّفًا عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَّا الْآحَادُ مِنَ النَّاسِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي يَنْفَعُ الْعِلْمُ بِهَا وَلَا يَضُرُّ أَحَدًا فِي دِينِهِ أَنْ يَجْهَلَهَا ; وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِمَامَةِ فِي فَهْمِ الدِّينِ الْإِحَاطَةَ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ الِاضْطِرَارُ هُوَ دَفْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ إِلْجَاؤُهُ إِلَيْهِ ; فَهُوَ صِيغَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الضِّيقُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، فَالِاضْطِرَارُ تَكَلُّفُ مَا يَضُرُّ بِمُلْجِئٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا حَاصِلًا أَوْ مُتَوَقَّعًا يُلْجِئُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: " ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ " الثَّابِتَةِ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَفْسِهِ ; كَإِكْرَاهِ بَعْضِ الْأَقْوِيَاءِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ (2: 126) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرَرُ الْمُلْجِئُ فِيهِ هُوَ: الْمَخْمَصَةُ، أَيِ الْمَجَاعَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمْصِ الْبَطْنِ، أَيْ ضُمُورِهِ لِفَقْدِ الطَّعَامِ، فَالْجُوعُ ضَرَرٌ يَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى تَكَلُّفِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعَافُهَا طَبْعًا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا لَوْ تَكَلَّفَ أَكْلَهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا عِلَّةٌ أَمْ لَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَأَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ أَيُّ جُوعٍ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ مُطْلَقًا، بَلِ الْجُوعُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَعَهُ الْجَائِعُ شَيْئًا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ إِلَّا الْمُحَرَّمَ مِمَّا ذُكِرَ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ مِمَّا ذُكِرَ حَالَ كَوْنِهِ فِي مَجَاعَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، لَا يَجِدُ مَنْفَذًا مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ، وَحَالَ كَوْنِهِ: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ: غَيْرَ جَائِرٍ فِيهِ أَوْ مُتَمَايِلٍ إِلَيْهِ مُتَعَمِّدٍ لَهُ، فَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ، وَيَصْدُقُ بِالْمَيْلِ إِلَى الْأَكْلِ ابْتِدَاءً، وَبِالْجَوْرِ فِيهِ بِأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ:

4

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ (6: 145) أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ وَلَا مُتَعَدٍّ وَمُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ فِيهِ ; فَعِبَارَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَوْجَزُ، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلضَّرُورَةِ، فَيُشْتَرَطُ تَحَقُّقُهَا أَوَّلًا وَكَوْنُهَا هِيَ الْحَامِلَ عَلَى الْأَكْلِ، وَأَنْ تُقَدَّرَ بِقَدْرِهَا، فَيَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَعْدُوهُ إِلَى الشِّبَعِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْقُولٌ فِي حُكْمِ الضَّرُورَاتِ، فَهُوَ نَافِعٌ لِلْمُضْطَرِّ أَدَبًا وَطَبْعًا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى تَعَوُّدِ مَا فِيهِ مَهَانَةٌ لَهُ وَضَرَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يَخْتَارُ أَقَلَّهَا ضَرَرًا، وَقَدْ يَكُونُ أَشْهَاهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فَأَكَلَ مِنْهُ فِي مَجَاعَةٍ لَا يَجِدُ فِيهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَائِلٍ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ وَلَا جَائِرٌ فِيهِ مُتَجَاوِزٌ قَدْرَ الضَّرُورَةِ - فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ لِمِثْلِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ عَلَى ذَلِكَ، رَحِيمٌ بِهِ يَرْحَمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ. الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَآيَاتِ الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُظْهِرُونَ أَسْرَارَ خَلْقِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا يَضُرُّهُمْ. وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ الْفِطْرَةِ وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّةِ وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ دَأْبُهُمُ الْجِنَايَةُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ، وَالتَّصَدِّي أَحْيَانًا لِفِعْلِ مَا يَضُرُّهُمْ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ، وَحَرَّمَتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ بِأَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ ; كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِبَيَانِ مَا يُحِلُّهُ اللهُ مِمَّا حَرَّمُوهُ، بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ مِمَّا أَحَلُّوهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ إِلَخْ ; أَيْ يَسْأَلُكَ الْمُؤْمِنُونَ أَيُّهَا الرَّسُولُ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ اللُّحُومِ خَاصَّةً؟ وَالسُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَهُمْ لَا: " لَنَا " مُرَاعَاةً لِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي يَسْأَلُونَكَ وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ كَمَا هُنَا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، يَقُولُونَ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أَبَا رَافِعٍ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ النَّاسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ صَيْدِ الْكِلَابِ، وَأَكْلِ مَا أَمْسَكْنَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَزَيْدَ بْنَ مُهَلْهَلٍ الطَّائِيَّيْنِ، سَأَلَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ

عَنْ عَامِرٍ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، أَتَى رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَائِدَةِ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ بِلَفْظِهَا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ تَنْزِلْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَإِلَّا فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ الطَّيِّبُ: ضِدُّ الْخَبِيثِ، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (5: 100) وَقَدِ اسْتُعْمِلَا فِي الْأَنَاسِيِّ وَالْأَشْيَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ (34: 15) قَالَ الرَّاغِبُ: الْمُخْبَثُ وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَمْ مَعْقُولًا، وَأَصْلُهُ: الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الْجَارِي مَجْرَى خُبْثِ الْحَدِيدِ. اهـ. وَقَالَ فِي الْحَرْفِ الْآخَرِ: وَأَصْلُ الطَّيِّبِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ، وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ. اهـ. فَجَعَلَ الطَّيِّبَ أَخَصَّ مِنْ مُقَابِلِهِ فِي بَابِهِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ هِيَ مَا تَسْتَطِيبُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةُ الْمَعِيشَةِ، بِمُقْتَضَى طَبْعِهَا، فَتَأْكُلُهُ بِاشْتِهَاءٍ، وَمَا أَكَلَهُ الْإِنْسَانُ بِاشْتِهَاءٍ هُوَ الَّذِي يُسِيغُهُ وَيَهْضِمُهُ بِسُهُولَةٍ، فَيَتَغَذَّى بِهِ غِذَاءً صَالِحًا، وَمَا يَسْتَخْبِثُهُ وَيَعَافُهُ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ هَضْمُهُ، وَلَا يَنَالُ مِنْهُ غِذَاءً صَالِحًا، بَلْ يَضُرُّهُ غَالِبًا فَمَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ خَبِيثٌ بِشَهَادَةِ اللهِ الْمُوَافَقَةِ لِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَمَا زَالَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَعَافَوْنَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَمَا مِثْلُهَا مِنْ فَرَائِسِ السِّبَاعِ وَالْمُتَرَدِّيَاتِ وَالنَّطَائِحِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَأَمَّا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّمَا يَعَافُهُ مَنْ يَعْرِفُ ضَرَرَهُ وَانْهِمَاكَهُ فِي أَكْلِ الْأَقْذَارِ. وَ " الْجَوَارِحُ ": جَمْعُ جَارِحَةٍ، وَهِيَ الصَّائِدَةُ مِنَ الْكِلَابِ وَالْفُهُودِ وَالطُّيُورِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سُمِّيَتِ الصَّوَائِدُ جَوَارِحَ مِنَ الْجَرْحِ، بِمَعْنَى الْكَسْبِ ; فَهِيَ كَالْكَاسِبِ مِنَ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (6: 60) أَيْ: كَسَبْتُمْ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَرْحِ: بِمَعْنَى الْخَدْشِ، أَيْ إِنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْرَحَ مَا تَصِيدُهُ. وَ " مُكَلِّبِينَ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّكْلِيبِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ وَتَأْدِيبُهَا وَإِضْرَاؤُهَا بِالصَّيْدِ، وَأَصْلُهُ تَعْلِيمُ الْكِلَابِ، غُلِّبَ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَلَبِ بِالتَّحْرِيكِ، بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ: هُوَ كَلِبٌ - كَكَتِفٍ - بِكَذَا، إِذَا كَانَ ضَارِيًا بِهِ، وَمَوْضِعُ مُكَلِّبِينَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ، أَيْ: أَنْتُمْ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ، أَيْ مِمَّا أَلْهَمَكُمُ اللهُ إِيَّاهُ وَهَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَرْوِيضِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَعْلِيمِهَا، وَمَا أَلْهَمَكُمْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ إِلَّا وَهُوَ يُبِيحُهُ لَكُمْ، وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالِيَّةٌ مُرَاعَاةُ اسْتِمْرَارِ تَعَاهُدِ الْجَوَارِحِ بِالتَّعْلِيمِ ; لِأَنَّ إِغْفَالَهَا يُنْسِيهَا مَا تَعَلَّمَتْ، فَتَصْطَادُ لِنَفْسِهَا وَلَا تُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِمْسَاكُهَا عَلَيْهِ

شَرْطٌ لِحِلِّ صَيْدِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي أَلْهَمَنِيهِ اللهُ - تَعَالَى - أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا فَنُكْتَتُهَا تَذْكِيرُ النَّاسِ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيمِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ الْأَحْكَامِ بِمَا يُغَذِّي التَّوْحِيدَ وَيُنَمِّي الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ اللهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ. وَغَايَةُ تَعْلِيمِ الْجَارِحِ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ بِإِغْرَاءِ مُعَلِّمِهِ أَوِ الصَّائِدِ بِهِ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَيَنْزَجِرَ بِزَجْرِهِ، وَيُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كُلِّهَا، وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ بِشَرْطِهِ. أَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَظَاهِرُ الْحَصْرِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ طَيِّبٌ فَهُوَ حَلَالٌ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ مَا هُوَ خَبِيثٌ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ طَيِّبٌ حِلٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ ; كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْبَحْرُ فَكُلُّ حَيَوَانِهِ يُصَادُ، وَأَمَّا الْبَرُّ فَإِنَّمَا يُصَادُ مِنْهُ لِلْأَكْلِ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ الْغَالِبِ، مَا عَدَا سِبَاعَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَتَكُونُ هَذِهِ السِّبَاعُ حَرَامًا، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ فِي الْأَوَّلِ، وَأَبَا دَاوُدَ فِي الثَّانِي. وَمَنْ أَخَذَ بِالْحَصْرِ فِي الْآيَتَيْنِ جَعَلَ النَّهْيَ عَمَّا ذُكِرَ نَهْيَ كَرَاهَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ. وَالسَّبُعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: مَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ ; فَيَخْرُجُ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَعْدُوَانِ عَلَى النَّاسِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ مَا أَكَلَ اللَّحْمَ، قَالُوا: فَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالضَّبُّ وَالنَّمِرُ وَالْيَرْبُوعُ وَالْفِيلُ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَجَازَ أَكْلَ الضَّبِّ، كَمَا فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَادِيثَ أُخْرَى، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَعَافُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ. وَأَجَازَ أَكْلَ الضَّبُعِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَخْذِ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ مِنْ مَفْهُومِ الصَّيْدِ، وَنَصُّهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عِمَارَةَ، قَالَ: " قُلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ أَصِيدُ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا - لَوْلَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَصْرِ - أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى حِلِّهِ أَوْ عَلَى حُرْمَتِهِ قِسْمَانِ: طَيِّبٌ حَلَالٌ وَخَبِيثٌ حَرَامٌ، وَهَلِ الْعِبْرَةُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ذَوْقُ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، أَوْ يَعْمَلُ كُلُّ أُنَاسٍ بِحَسْبِ ذَوْقِهِمْ؟ كُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ،

وَالْمُوَافِقُ لِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ: الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ نَفْسُهُ وَتَعَافُهُ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ وَلَا يَصْلُحُ لِتَغْذِيَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا أَكَلْتَهُ وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ فَقَدْ أَكَلْتَهُ، وَمَا أَكَلْتَهُ وَأَنْتَ لَا تَشْتَهِيهِ فَقَدْ أَكَلَكَ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ ذَوْقُ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا أَوَّلًا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَ أَكْلَ الضَّبِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ، وَأَذِنَ لِغَيْرِهِ بِأَكْلِهِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُهُ، فَلَا يُحْكَمُ بِذَوْقِ قَوْمٍ عَلَى ذَوْقِ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا النَّصِّ أَوَّلًا، فَالْعِبْرَةُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ مِنْهُ، وَالنَّاسُ لَهُمْ فِيهِ تَبَعٌ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَذْوَاقِ وَالطِّبَاعِ، وَمَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ مَا يُسْتَطَابُ أَكْلُهُ وَيُشْتَهَى، دُونَ مَا يُسْتَخْبَثُ وَيُعَافُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْعِبْرَةُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ سَلِيمِي الطِّبَاعِ غَيْرِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الشَّاذَّةِ، أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ بَيْنَ الْأَقْوَامِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْتِنُ: أَيَحْرُمُ أَمْ يُكْرَهُ؟ وَهُوَ خَبِيثٌ لُغَةً وَعُرْفًا، وَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَصْرِ الْمَارِّ لِأَنَّ خُبْثَهُ عَارِضٌ، وَكُلُّ حَلَالٍ يَعْرِضُ لَهُ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ ضَارًّا يَحْرُمُ - كَاخْتِمَارِ الْعَصِيرِ - فَإِنْ زَالَ حَلَّ ; كَتَخَلُّلِ الْخَمْرِ. وَأَمَّا صَيْدُ الْجَوَارِحِ فَقَدْ قَيَّدَ النَّصُّ حِلَّهُ بِأَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ الَّذِي صَادَهُ مِمَّا أَدَّبَهُ النَّاسُ وَعَلَّمُوهُ الصَّيْدَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الصَّيْدُ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونَ قَتْلُ الْجَارِحِ لَهُ كَتَذْكِيَةِ مُرْسِلِهِ إِيَّاهُ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَرَائِسِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى الصَّائِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَكُلُوا مِنَ الصَّيْدِ مَا تُمْسِكُهُ الْجَوَارِحُ عَلَيْكُمْ، أَيْ تَصِيدُهُ لِأَجْلِكُمْ، فَتَحْبِسُهُ وَتَقِفُهُ عَلَيْكُمْ بِعَدَمِ أَكْلِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا فَضُلَ عَنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُ فَرِيسَةِ السَّبُعِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ هِيَ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْكِلَابَ وَنَحْوَهَا مِنَ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى السِّبَاعُ كِلَابًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ ; فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ " الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ عُمُومِ مِمَّا أَمْسَكْنَ فَقَالُوا: كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ، أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، فَهُوَ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلَهُ أَكْلُهُ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ نَحْوَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: وَإِنْ أَكَلَ ثُلُثَيْهِ، وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَكُلْ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الْكِلَابِ وَنَحْوِهَا مِنَ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ

كَالْبَازِيِّ ; فَأَبَاحُوا مَا أَكَلَ مِنْهُ الطَّيْرُ دُونَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فِي حَدِّ التَّعْلِيمِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ الْكِتَابُ فِي حِلِّ صَيْدِ الْجَوَارِحِ، وَأَكَّدَ اشْتِرَاطَهُ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلَ الْمُسْلِمُ الضَّعِيفُ النَّفْسِ فِي أَكْلِ فَضَلَاتِ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ، وَقَدِ اكْتَفَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ التَّعْلِيمِ بِطَاعَةِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ لِمُعَلِّمِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِالْعُرْفِ. وَحَقِيقَةُ التَّعْلِيمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَطْلُبَ الْكَلْبُ أَوِ الْبَازِيُّ أَوْ غَيْرُهُمَا الصَّيْدَ إِذَا أُغْرِيَ بِهِ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِشْلَاءً وَاسْتِشْلَاءً، وَلَا يَنْفِرُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَيْهِ، وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْإِمْسَاكِ الْمَنْصُوصِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَلَّا يَأْكُلَ الْجَارِحَةُ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ؟ أَمْ يُعَدُّ كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ إِمْسَاكًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَكَلَ بَعْضَهُ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ - تَعَالَى - فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْدِيُّ الدِّمَشْقِيُّ عَامِلُ وَاسِطٍ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ مُقَارِبٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَلَا أَرَى بِرِوَايَاتِهِ بَأْسًا، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ هُوَ شَيْخٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا رَدَّتْ يَدُكَ، مَا صِدْتَهُ بِيَدِكَ مُبَاشَرَةً، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ طُعِنَ فِي حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ وَكَلْبُكَ " زَادَ ابْنُ حَرْبٍ: الْمُعَلَّمُ وَيَدُكَ ; فَكُلْ ذَكِيًّا وَغَيْرَ ذَكِيٍّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَفْسِيرِ " ذَكِيٍّ وَغَيْرِ ذَكِيٍّ ": يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالذَّكِيِّ مَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ قَبْلَ زَهُوقِ نَفْسِهِ فَذَكَّاهُ فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ، وَغَيْرِ الذَّكِيِّ: مَا زَهَقَتْ نَفْسُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالذَّكِيِّ: مَا جَرَحَهُ الْكَلْبُ بِسِنِّهِ أَوْ مَخَالِبِهِ فَسَالَ دَمُهُ، وَغَيْرِ الذَّكِيِّ: مَا لَمْ يَجْرَحْهُ. اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةً كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حِلِّ مَا صَادَهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ فَمَاتَ بِأَخْذِهِ وَلَمْ يُذَكِّهِ ; لِأَنَّ مَوْتَهُ بِيَدِهِ لَيْسَ دُونَ مَوْتِهِ بِأَخْذِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنْ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً (كَمُعَلَّمَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى) فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ كَانَ لَكَ كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ قَالَ: ذَكِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي.

قَالَ: كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ قَالَ: ذَكِيًّا وَغَيْرَ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: " ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ " قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: " وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ، مَا لَمْ يَصِلْ - أَيْ: يُنْتِنْ - أَوْ يَتَغَيَّرْ أَوْ تَجِدُ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِ سَهْمِكَ " ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ آنِيَةِ الْمَجُوسِ، فَأَفْتَاهُ بِغَسْلِهَا وَالْأَكْلِ فِيهَا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلَهُمْ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، سَبَبُهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ كُلَّ مَا رَوَاهُ عَنْ جَدِّهِ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُ صَحِيفَةٌ مَكْتُوبَةٌ أَوْ كِتَابٌ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ " الْوِجَادَةَ " فَمِنْ هَهُنَا ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ ; لِمَا لَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِيهِ غَيْرِ ثِقَةِ الرَّاوِي، قَالَ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ وَعَلِيًّا، وَإِسْحَاقَ وَالْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُمْ؟ ! وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ: " لَسْنَا نَقُولُ إِنَّ حَدِيثَهُ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ ". فَإِذَا كَانَ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَلِمَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوسِرًا فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوْلَى، بِخِلَافِ أَبِي ثَعْلَبَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ أَعْرَابِيًّا فَقِيرًا، وَرَدُّوا هَذَا بِتَعْلِيلِ الْحَدِيثِ بِخَوْفِ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَفْهُومَ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَإِنْ أَكَلَ الْجَارِحُ قِطْعَةً مِنْهُ لِشِدَّةِ جُوعِهِ - مَثَلًا - كَمَا يَأْكُلُ مِنْ سَائِرِ طَعَامِ مُعَلِّمِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا صَادَ لِنَفْسِهِ وَأَمْسَكَ لَهَا لِعَدَمِ انْتِهَاءِ تَعْلِيمِهِ وَتَكْلِيبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ النَّهْيَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَالْخَوْفُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ تَرْجِيحٌ لَهُ. أَمَّا " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ مَا يُمْسِكُهُ الْجَارِحَةُ حَلَالٌ لَحْمُهُ حَرَامٌ فَرْثُهُ وَدَمُهُ، فَيُؤْكَلُ بَعْضُهُ وَهُوَ اللَّحْمُ. وَرَدَ قَوْلُ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَأَقُولُ: هِيَ هُنَا مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ (23: 51) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ (2: 60) كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (2: 168) كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ (6: 141) فَـ " مِنْ " فِي كُلِّ ذَلِكَ لِلِابْتِدَاءِ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ ; فَلِأَنَّهُ الْوَاقِعُ غَالِبًا، لَا لِإِفَادَةِ حِلِّ بَعْضِ مَا ذُكِرَ وَتَحْرِيمِ بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ: اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا أَمْسَكَتْ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الصَّيْدِ عِنْدَ أَكْلِهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ

وَنَحْوِهِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ، فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَكُلْ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ ; فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَهُوَ حُكْمٌ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَحْكَامَ تَثْبُتُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، أَوْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى كَظَاهِرِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ (6: 121) أَوْ يُقَالُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ سُنَّةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ ; إِذْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَيْهِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُنَا: إِذَا أَرْسَلْتَ جَوَارِحَكَ، فَقُلْ بِسْمِ اللهِ، وَإِنْ نَسِيتَ، فَلَا حَرَجَ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ سُنَّةٌ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ عَنْ طَاوُسٍ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: " سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا " قَالَ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ طَلَبُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْهُمْ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، لَا وَاجِبَةٌ وَلَا شَرْطٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: هِيَ وَاجِبَةٌ، وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا. وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ آيَةُ الْأَنْعَامِ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ (6: 121) فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْأَثَرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذَّبَائِحِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ عَنَى بِذَلِكَ: مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ، أَوْ مَا مَاتَ، أَوْ ذَبَحَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ فَنَسِيَ ذِكْرَ اسْمِ اللهِ - فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ ; لِشُذُوذِهِ، وَخُرُوجِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ مِنْ تَحْلِيلِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى فَسَادِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " لَطِيفُ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ " فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ لَفِسْقٌ. اهـ. وَخَصَّهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَجَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةً أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (6: 145) وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ بِأَنْ تَأْتَمِرُوا بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ بِأَنْ تَنْتَهُوا عَنْهُ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ أَنَّهُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يُضِيعُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ تُحَاسَبُونَ وَتُجَازَوْنَ

5

عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ يُحَاسِبُ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَأَجْدَرُ بِحِسَابِهِ أَنْ يَكُونَ سَرِيعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مُنَاسَبَةٌ غَيْرَ سَرْدِ أَحْكَامِ الطَّعَامِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ مَشْرُوعِيَّةِ التَّذْكِيَةِ التَّفَصِّي مِنْ أَكْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَيْتَةِ، وَسَبَبَ التَّشْدِيدِ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ مِنْ صَيْدٍ وَذَبِيحَةٍ هُوَ إِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْإِهْلَالِ بِهِ لِأَصْنَامِهِمْ، أَوْ وَضْعِهَا عَلَى النُّصُبِ وَاسْتِبْدَالِ اسْمِ اللهِ وَحْدَهُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ، مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، لِيُطَهِّرهُمْ مِنْ كُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ أَهْلَ تَوْحِيدٍ ثُمَّ سَرَتْ إِلَيْهِمْ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُشَدِّدُوا فِي الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَاضِيهِمْ، وَكَانَ هَذَا مَظِنَّةَ التَّشْدِيدِ فِي مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ، كَمَا شَدَّدَ فِي أَكْلِ ذَبَائِحِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَلَّا نُعَامِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ مُعَامَلَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ، فَأَحَلَّ لَنَا مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ، وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ عَرَفَةَ سَنَةَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّ حِلَّهَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا بِالْإِجْمَالِ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللهُ يَوْمَ إِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الْخَبَائِثِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَحِلُّهَا، وَنَفَى تَحْرِيمَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي مِنْ طَيِّبَاتِ الْأَنْعَامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُهَا - صَارَ حِلُّ الطَّيِّبَاتِ مُفَصَّلًا تَمَامَ التَّفْصِيلِ، وَحُكْمُهُ مُسْتَقِرًّا دَائِمًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالنَّصِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ. وَفَسَّرَ الْجُمْهُورُ الطَّعَامَ هُنَا بِالذَّبَائِحِ أَوِ اللُّحُومِ ; لِأَنَّ غَيْرَهَا حَلَالٌ بِقَاعِدَةِ أَصْلِ الْحِلِّ، وَلَمْ تَحْرُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُهَا، وَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ: الْحُبُوبُ أَوِ الْبُرُّ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذَا فِي مَجْلِسٍ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْهُمْ وَذَكَرْتُ الْآيَةَ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْغَالِبَ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ ; فَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَيِ الْمَائِدَةِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ (5: 96) وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إِنَّ الطَّعَامَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ الْبُرُّ أَوِ الْحُبُوبُ، وَقَالَ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (3: 93) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ هُنَا الْبُرُّ أَوِ الْحَبُّ مُطْلَقًا ; إِذْ لَمْ يَحْرُمْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا قِبَلَ التَّوْرَاةِ وَلَا بَعْدَهَا، فَالطَّعَامُ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا يُطْعَمُ ; أَيْ يُذَاقُ أَوْ يُؤْكَلُ، قَالَ - تَعَالَى - فِي مَاءِ النَّهْرِ حِكَايَةً عَنْ طَالُوتَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (2: 249) وَقَالَ: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (33: 53) أَيْ أَكَلْتُمْ وَلَيْسَ الْحَبُّ مَظِنَّةَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا اللَّحْمُ هُوَ الَّذِي يُعْرَضُ لَهُ ذَلِكَ ; لِوَصْفٍ حِسِّيٍّ كَمَوْتِ

الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ مَعْنَوِيٍّ كَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا (6: 145) الْآيَةَ، وَكُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي حَصْرِ التَّحْرِيمِ فِيمَا ذُكِرَ ; فَتَحْرِيمُ مَا عَدَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ، وَقَدْ شَدَّدَ اللهُ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; مِنْ أَكَلِ الْمَيْتَةِ بِأَنْوَاعِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ وَالذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ ; لِئَلَّا يَتَسَاهَلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ تَبَعًا لِلْعَادَةِ. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَبْعَدَ مِنْهُمْ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سِيَاسَةِ الدِّينِ التَّشْدِيدُ فِي مُعَامَلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَزِيرَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَخَفَّفَ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; اسْتِمَالَةً لَهُمْ حَتَّى إِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُمَا سُئِلَا عَمَّا ذَبَحُوهُ لِلْكَنَائِسِ، فَأَفْتَيَا بِأَكْلِهِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَحَلَّ اللهُ طَعَامَهُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَمَّا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَدْ سُئِلَ عَنْ كَبْشٍ ذُبِحَ لِكَنِيسَةٍ يُقَالُ لَهَا " جِرْجِسَ " أَهْدَوْهُ لَهَا: أَنَأْكُلُ مِنْهُ؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِلسَّائِلِ: اللهُمَّ عَفْوًا، إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ طَعَامُهُمْ حِلٌّ لَنَا، وَطَعَامُنَا حِلٌّ لَهُمْ، وَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (5: 5) قَالَ: ذَبَائِحُهُمْ. وَرَوَى مِثْلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى هَذَا، وَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّاةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ، وَوَضَعَتْ لَهُ السُّمَّ فِي ذِرَاعِهَا، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ بِغَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ، إِلَّا فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ انْتَسَبُوا إِلَى النَّصَارَى، وَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْ دِينِهِمْ شَيْئًا، فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا نِكَاحَ نِسَائِهِمْ ; مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَاكْتَفَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ بِانْتِمَائِهِمْ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (5: 51) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ. . . وَقَرَأَ الْآيَةَ. فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوَلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ ; أَيْ يَكْفِي فِي كَوْنِهِمْ مِنْهُمْ نَصْرُهُمْ لَهُمْ، وَتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرْبِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ التَّعَمُّقُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَحُبُّ التَّشْدِيدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ، اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسْأَلَةً جَعَلُوهَا مَحَلَّ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهِيَ: هَلِ الْعِبْرَةُ فِي حِلِّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ بِمَنْ كَانُوا يَدِينُونَ بِالْكِتَابِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَيْفَمَا كَانَ كِتَابُهُمْ وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ، أَمِ الْعِبْرَةُ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبِأَهْلِهِ الْأَصْلِيِّينَ ; كَالْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنَ الْيَهُودِ؟ الْمُتَبَادِرُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ وَمِنَ السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ

أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا مَحَلَّ ; فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَحَلَّ أَكْلَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ; وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ شُعُوبٍ شَتَّى، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كُتُبَهُمْ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ يَوْمَ اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (2: 256) أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مُحَاوَلَةُ بَعْضِ الْأَنْصَارِ إِكْرَاهَ أَوْلَادٍ لَهُمْ كَانُوا تَهَوَّدُوا، عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ عِلَّةً أُخْرَى لِتَحْرِيمِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، وَهِيَ إِسْنَادُ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (9: 31) مَعَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (2: 221) وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ الشِّيعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ. (أَوَّلًا) : بِأَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ، إِذَا كَانَ وَصْفًا أَوْ عُدَّ أَهْلُهُ صِنْفًا مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَلْ يُعَدُّونَ صِنْفًا آخَرَ مُغَايِرًا لِهَذَا الصِّنْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (98: 1) وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (22: 17) الْآيَةَ. (وَثَانِيًا) : بِأَنَّنَا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ " الْمُشْرِكِينَ " فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ عَامٌ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ خَصَّصَتْهُ، أَوْ نَسَخَتْهُ لِتَأَخُّرِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلِجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ مِنْ أَكْبَرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ قَدْ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ حِلٌّ لَكُمْ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَهَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْحَرَائِرُ أَوِ الْعَفِيفَاتُ - أَيْ غَيْرَ الزَّوَانِي - فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ؟ خِلَافٌ سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْكِتَابِيَّةَ بِالذِّمِّيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَامٌّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، مَنَعَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَوَّوْهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَمِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (4: 25) وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا

عُلِّقَ هُنَالِكَ عَلَى الْعَجْزِ عَنِ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَطْ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكُنْ أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ الْكِتَابِيَّاتِ وَقَدْ أَحَلَّهُنَّ هُنَا، فَصَارَتْ حَرَائِرُهُنَّ كَحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَإِمَاؤُهُنَّ كَإِمَائِهِنَّ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: اجْتَمَعَ فِي الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ نَقْصَانِ: الْكُفْرُ وَالرِّقُّ، لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِنَّمَا الْمُقْتَضِي لَهُ نَصُّ الشَّارِعِ ; كَكَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، وَهُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ وَالْخِلَافِ، وَأَيَّدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَمْرِ عُمَرَ بِتَزْوِيجِ مَنْ زَنَتْ وَكَادَتْ تَبْخَعُ نَفْسَهَا، فَأُنْقِذَتْ، وَبَعْدَ الْبُرْءِ اسْتُشِيرَ. وَرَوَى عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعِفَّةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُجِيزُ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مُرَادَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا خَرَجَتْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ كَوْنِهَا زَانِيَةً، وَالرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، فَفِي بَعْضِهَا: أَلَيْسَ قَدْ تَابَتْ؟ قَالَ السَّائِلُ: بَلَى، وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْأَةِ الْهَمَدَانِيَّةِ الَّتِي شَرَعَتْ فِي ذَبْحِ نَفْسِهَا فَأَدْرَكُوهَا، فَدَاوَوْهَا، فَبَرِئَتْ، قَالَ لَهُمْ: أَنْكِحُوهَا نِكَاحَ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَصَابَتْ أُخْتُهُ فَاحِشَةً فَأَمَرَّتِ الشَّفْرَةَ عَلَى أَوْدَاجِهَا فَأُدْرِكَتْ، فَدَاوَى جُرْحَهَا حَتَّى بَرِئَتْ، ثُمَّ إِنْ عَمَّهَا انْتَقَلَ بِأَهْلِهِ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَقَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَنَسَكَتْ حَتَّى كَانَتْ مَنْ أَنْسَكِ نِسَائِهِمْ، فَخُطِبَتْ إِلَى عَمِّهَا، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُدَلِّسَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُفْشِيَ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهِ، فَأَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْشَيْتَ عَلَيْهَا لَعَاقَبْتُكَ، إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ صَالِحٌ تَرْضَاهُ فَزَوِّجْهَا إِيَّاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَتَى رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِ ابْنَةً لِي كَانَتْ وُئِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاسْتَخْرَجْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ، فَأَدْرَكَتِ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا أَسْلَمَتْ أَصَابَتْ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللهِ فَعَمَدَتْ إِلَى الشَّفْرَةِ لِتَذْبَحَ نَفْسَهَا فَأَدْرَكْتُهَا، وَقَدْ قَطَعَتْ بَعْضَ أَوْدَاجِهَا فَدَاوَيْتُهَا حَتَّى بَرِئَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا أَقْبَلَتْ بِتَوْبَةٍ حَسَنَةٍ فَهِيَ تُخْطَبُ إِلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُخْبِرُ مِنْ شَأْنِهَا بِالَّذِي كَانَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَتُخْبِرُ بِشَأْنِهَا؟ تَعْمِدُ إِلَى مَا سَتَرَهُ اللهُ فَتُبْدِيهِ؟ وَاللهِ لَئِنْ أَخْبَرْتَ بِشَأْنِهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَأَجْعَلَنَّكَ نَكَالًا لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، بَلْ أَنْكِحْهَا بِنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَدَعَ أَحَدًا أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُحْصَنَةً، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا تَابَ. اهـ. وَالْإِبَاضِيَّةُ يُشَدِّدُونَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ الزِّنَا، لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَنْ تَابَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَمَّا كُنْتُ فِي " مَسْقَطَ " فِي الْعَامِ الْمَاضِي (1330 هـ) كَانَتْ قَدْ عُرِضَتْ وَاقِعَةٌ فِي ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ السَّيِّدِ فَيْصَلٍ فَسَأَلَنِي عَنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (24: 3) وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ تُبِيحُ نِكَاحَ الَّتِي آمَنَتْ وَإِنْكَاحَ الَّذِي آمَنَ، وَالشِّرْكُ أَقْوَى الْمَانِعِينَ وَالْإِبَاضِيَّةُ مُجْمِعُونَ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ يَنْبَغِي بِالْأَوْلَى أَنْ يُجِيزُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الزِّنَا، وَهُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ. رُوِيَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ

وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُنَّ الْعَفِيفَاتُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعَنْ سُفْيَانَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَامِرٌ: إِحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أَلَّا تَزْنِيَ وَأَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُفَسِّرِي السَّلَفِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنَاتِ هُنَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُنَّ الْحَرَائِرُ. وَجَمَاعَةٌ: هُنَّ الْعَفَائِفُ عَنِ الزِّنَا، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، فَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ. وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّوَانِي يُعْرَفُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَمَا هُنَا لَا يُنَافِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ الْعَجْزُ عَنِ الْحَرَائِرِ، كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، فَالْكِتَابِيَّاتُ بِالْأَوْلَى، وَالْحِلُّ هَنَا مُطْلَقٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنَسْخِ مَا اشْتُرِطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ هُنَالِكَ بِمَا هُنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِمَاءُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخِطَابِ الْأَحْرَارُ، وَالْحَرَائِرُ بِالرِّقِّ أَمْرٌ عَارِضٌ ; وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى نِكَاحِهِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْغَالِبُ فِيهِنَّ عَدَمُ الْعِفَّةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا - خِلَافًا لِمَنْ أَدْخَلَ الْإِمَاءَ فِي عُمُومِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْأَمَةَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْعَفِيفَاتِ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ اشْتِرَاطِ اسْتِطَاعَةِ عَدَمِ نِكَاحِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، إِمَّا بِقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الشَّرْطِ نَفْسِهِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْمُقَيِّدِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي حَالِ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ كَمَا هُنَا، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لِضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَالْأَمَةُ لَا تَأْخُذُ مَهْرَهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (4: 25) فَهُوَ عَيْنُ مَا هُنَا، وَقَدْ رَجَّحْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَهْرَ الْأَمَةِ حَقٌّ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، لَا لِمَوْلَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِمَاءَ لَا يُعْطَيْنَ مُهُورَهُنَّ، وَاللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ الْمُهُورُ؟ غَايَةُ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَثْنُونَ الْمَهْرَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْقِيَ لَهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَأْخُذُهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ عَلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ أَقْوَى مِمَّا ذُكِرَ ; إِذْ يَكُونُ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ عَيْنَ

الشَّرْطِ فِي النِّسَاءِ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ هُنَا حَالٌ، وَهِيَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا فَتُفِيدُ الشَّرْطِيَّةَ ; أَيْ هُنَّ حِلٌّ لَكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِعْلًا أَوْ فَرْضًا حَالَ كَوْنِكُمْ مُحْصَنِينَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنِينَ هُنَا الْأَعِفَّاءُ عَنِ الزِّنَا فِعْلًا أَوْ قَصْدًا دُونَ الْأَحْرَارِ ; لِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَيُطْلَقُ " الْمُحْصِنُ " بِكَسْرِ الصَّادِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَبِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَالزَّوَاجُ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُحْصَنًا، وَالْمَرْأَةُ مُحْصَنَةٌ يُعِفُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَيَجْعَلُهُ فِي حِصْنٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ جَهْرًا أَوْ عَلَى الشُّيُوعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُسَافَحَةِ، أَوْ سِرًّا، أَوِ اخْتِصَاصًا بِاتِّخَاذِ خِدْنٍ مِنَ الْأَخْدَانِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّاحِبِ وَالصَّاحِبَةِ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ صَاحِبٌ أَوْ خَلِيلٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا، وَلَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ - يَعْنِي نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَأَحَلَّ اللهُ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى عِلْمٍ. اهـ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ لَا مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَأَنَّ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْرَبَ بَعْضُهُمْ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَوَعَظُوهُمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ لِمَا أَحَلَّهُ اللهُ وَحَرَّمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ، وَخَسِرَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ تَفْسِيرَ (يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ) بِالْكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ " وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، بِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا ابْتَعَثَهُمْ بِهِ مِنْ دِينِهِ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَأْبَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَيَمْتَنِعْ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ - فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمَنْ أَبَى التَّصْدِيقَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْإِقْرَارَ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ. اهـ. وَوَجَّهَ الرَّازِيُّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَجَازٌ حَسَّنَهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَبُّ الْإِيمَانِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنِ اسْتَنْكَرُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ

مِنَ الْأَحْكَامِ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَا أَحَلَّ اللهُ وَحَرَّمَ، أَيْ كَمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمُجْمَلُ مَعْنَى الْآيَةِ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا بَحِيرَةَ وَلَا سَائِبَةَ وَلَا وَصِيلَةَ وَلَا حَامٍ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ قَطُّ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَلَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنَ اللُّحُومِ الَّتِي ذَكَّوْا حَيَوَانَهَا، أَوْ صَادُوهَا كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا تُذَكُّونَ وَتَصْطَادُونَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ لَا يَشْمَلُهُمْ وَصْفُهُمْ ; كَالْمَنْذُورِ عَلَى أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَمَا قَرَّرَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (4: 24) لَمْ يُحَرِّمْهُنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا وَجَبَ لَهُنَّ مَهْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا قَاصِدِينَ بِالزَّوَاجِ إِحْصَانَ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْفُسِهِنَّ، لَا الْفُجُورَ الْمُرَادُ بِهِ سَفْحُ الْمَاءِ جَهْرًا وَلَا سِرًّا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الِاحْتِيَاطُ وَبَحْثُ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إِنْشَاءٌ لِحِلِّهَا الْعَامِّ الدَّائِمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ بَلْ قَالَ: حِلٌّ لَكُمْ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَرِّرٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَسْأَلَةُ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ وَأُحِلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا بِتَحْرِيمٍ مِنَ اللهِ وَلَا بِتَحْرِيمِ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; كَمَا حَرَّمُوا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ. فَهَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ، وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ فِي نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كَلَامِهِمْ، وَحِكْمَةُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحِلِّ قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْغُلَاةِ أَنْ يُحَرِّمُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ مَعَ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَنَا حِلٌّ لَهُمْ دُونَ نِسَائِنَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُزَوِّجَهُمْ مِنَّا ; لِأَنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتَهُ لَا يَظْهَرَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِسُلْطَانِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ لِمَنْ يَفْهَمُ الْعِبَارَةَ مُجَرَّدًا مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ، فَمَنْ فَهِمَ مِثْلَ فَهْمِنَا، فَفَهْمُهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا نُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَنَا فِيهِ تَقْلِيدًا. (فَصْلٌ فِي طَعَامِ الْوَثَنِيِّينَ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ) أَخَذَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ مَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي اللَّقَبِ ; كَالدِّقَاقِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يُحَرِّمْ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ وَلَا طَعَامَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مُطْلَقًا كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ، بَلْ حَرَّمَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، كَمَا حَرَّمَ مَا كَانَ يَأْكُلُهُ بَعْضُهُمْ

مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، فَالصَّابِئُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوسُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ، وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَيُقَالُ: إِنِ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا أَهْلَ كِتَابٍ، فَفَقَدُوهُ بِطُولِ الْأَمَدِ. وَهَذَا مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى فِيهِ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِنَا وَعُلَمَاءِ الْمِلَلِ وَالتَّارِيخِ مِنَّا، وَذَكَرْتُهُ فِي الْمَنَارِ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ (الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) لِأَبِي مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيِّ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 429) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ: " إِنَّ الْمَجُوسَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ زَرَادُشْتَ، وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالصَّابِئِينَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ (هَرْمَسَ) وَ (وَالِيسْ) (وَدُورِيتُوسَ) وَ (أَفْلَاطُونَ) وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مُقِرُّونَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الَّذِينَ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ شَامِلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ عَنْ عَاقِبَةِ الْمَوْتِ، وَعَنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ يَكُونُ فِيهِمَا الْجَزَاءُ عَنِ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ سُؤَالًا مِنْ جَاوَهْ عَنْ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ كَالْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ، وَأَجَبْنَا عَنْهُ بِمَا نَصُّهُ (ص 261) . ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حِلِّ الزَّوَاجِ بِالْكِتَابِيَّةِ وَحُرْمَةِ الزَّوَاجِ بِالْمُشْرِكَةِ، وَيُرِيدُونَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ: الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَأَحَلَّ بَعْضُهُمُ الْمَجُوسِيَّةَ أَيْضًا، وَبِالْمُشْرِكَةِ: الْوَثَنِيَّةَ مُطْلَقًا، بَلْ عَدُّوا جَمِيعَ النَّاسِ وَثَنِيِّينَ مَا عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يَعُدُّ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا صِنْفًا، وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفًا آخَرَ يَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا الْمَجُوسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ، بَلْ كَانُوا أُمِّيِّينَ. وَالْأَصْلُ فِي الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ آيَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ; إِحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (2: 221) الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (5: 5) وَقَدْ زَعَمَ

مَنْ حَرَّمَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِتِلْكَ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، مُسْتَثْنِيَةً أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي جَوَازِ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ. وَقَدْ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي حُكْمِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوْ شُبْهَةُ كِتَابٍ ; كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، وَمِثْلُهُمُ الْبُوذِيُّونَ وَالْبَرَاهِمَةُ وَأَتْبَاعُ (كُونْفُوشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا الَّذِينَ حَرَصَ بَعْضُهُمْ عَلَى إِدْخَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي إِدْخَالِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفْرِقَةِ وَالْمُغَايَرَةِ، فَكَمَا غَايَرَ الْقُرْآنُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (98: 1) وَقَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (3: 186) وَذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقِسْمَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمُغَايَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (5: 82) الْآيَةَ، كَذَلِكَ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ وَعَدَّهُمْ صِنْفَيْنِ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (22: 17) فَهَذَا الْعَطْفُ فِي مَقَامِ تَعْدَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ طَائِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، لَيْسَتَا مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْكِتَابُ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ، وَلَكِنْ بُعْدُ الْعَهْدِ وَطُولُ الزَّمَانِ جَعَلَ أَصْلَهَا مَجْهُولًا لَنَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (35: 24) وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (13: 7) وَإِنَّمَا قَوِيَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِأَنْبِيَائِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (57: 16) وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالشِّرْكِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَسْلُبْهُمُ امْتِيَازَهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَّهُمْ صِنْفًا آخَرَ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَعْنِيهِمُ الْخُطَبَاءُ

عَلَى الْمَنَابِرِ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَيُطَبِّقُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ؟ " وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ حَاوَلُوا إِدْخَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَتَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ ; مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ اتِّخَاذِهِمْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ: سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (9: 31) فَإِنَّ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ صِنْفٍ آخَرَ لَهُ فِيهِ إِنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِثْلُ فِعْلِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (2: 221) لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ لَيْسَ هُوَ أَخَصَّ صِفَاتِهِ، وَلَيْسَ عَامًّا شَامِلًا لِأَفْرَادِهِ ; كَاتِّخَاذِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا يَتَّبِعُونَهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ وَصْفَهُمُ الْأَخَصَّ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ يُخَالِفُونَ رُؤَسَاءَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُمُ الْمُوَحِّدُونَ كَأَصْحَابِ (آرْيُوسَ) عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ الْقَائِلُونَ بِنُبُوَّةِ الْمَسِيحِ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي أُورُبَّةَ وَأَمِرِيكَةَ، وَكَانُوا قَلُّوا بِاضْطِهَادِ الْكَنِيسَةِ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْقَدِيمَةِ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرَاهِمَةَ وَالْبُوذِيِّينَ وَأَتْبَاعَ كُونْفُوشْيُوسَ ; لِأَنَّ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلًا ; لِمُجَاوَرَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْعِرَاقِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْحَلُونَ إِلَى الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ فَيَعْرِفُوا الْآخَرِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمِلَلِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِغْرَابِ بِذِكْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ فِي عَصْرِ التَّنَزُّلِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَيْضًا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَبِلُوهَا مِنَ الْمَجُوسِ فِي الْبَحْرَيْنِ وَهَجَرَ وَبِلَادِ فَارِسَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى أَخْذَ النَّبِيِّ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ شَهِدَ لِعُمَرَ بِذَلِكَ عِنْدَمَا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِ، وَرَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ " أَهْلِ الْكِتَابِ " عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ لِتَحَقُّقِ أَصْلِ كُتُبِهِمَا وَلِزِيَادَةِ خَصَائِصِهِمَا، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَهْلُ كِتَابٍ غَيْرَهُمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ

بِالْقِسْطِ. كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَقَبِ " الْعُلَمَاءِ " عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ لَهَا مَزَايَا مَخْصُوصَةٌ، لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْعِلْمِ فِيهِمْ وَسَلْبَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُنْتَقَى: " وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: (سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ " مَا نَصُّهُ: لَكِنْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ، كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَدْرُسُونَهُ وَعِلْمٍ يَقْرَءُونَهُ، فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلَادَهُ بَنَاتِهِ، فَأَطَاعُوهُ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، فَأُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ وَعَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى: لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِسَ قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا - أَيْ قَالَ لِلصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ وَالْفَرِيضَةُ اللَّازِمَةُ - فَقَالَ: إِنِ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَلَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَضَعَ الْأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ. فَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: لَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِعَ لِرَفْعِ حُكْمِهِ، لَمَا اسْتُثْنِيَ حِلُّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ تَبَعًا لِلْأَمْرِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُحْتَاطُ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. اهـ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِنَا، وَلَا جَمِيعَ مَنْ عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ، فَهَذَا نَقْلٌ صَحِيحٌ فِي الْمَجُوسِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا لِجَعْلِ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ خَاصًّا بِوَثَنِيِّي الْعَرَبِ، وَأَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِمْ مَنْ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهَا، وَلَكِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ ; كَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ قَتَادَةُ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فِي الْآيَةِ: الْعَرَبُ. كَمَا سَيَأْتِي. وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (2: 221) نَصًّا قَاطِعًا فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الصِّينِيَّاتِ الَّذِي أَكْثَرَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصِّينِ، وَانْتَقَلَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ إِلَى جَاوَهْ أَوْ كَادَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الصِّينِ، وَلَا أَدْرِي مَبْلَغَ أَثَرِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ (الْخِطَابُ لِلْمُسْتَفْتِي) وَبِنَفْيِ كَوْنِهِ نَصًّا قَاطِعًا فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْلَالُهُ كُفْرًا وَخُرُوجًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا لَسَاغَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِكُفْرِ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ مُسْلِمِي الصِّينِ.

هَذَا، وَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنَ النَّصِّ فِي الْحِلِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ نَقُلْ بِأَنَّ هَذَا يَدْخُلُ فِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ: " إِنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَرِدَ النَّصُّ بِحَظْرِهِ " فَإِنَّنَا نَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَنَسْمَعُهُ يَقُولُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (4: 23، 24) الْآيَةَ. فَنَقُولُ عَلَى أُصُولِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (4: 24) لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ بَعْدَمَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، وَفِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ نَزَلَ بَعْدَهُ صَحَّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ قَبْلَهُ يَكُونُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ نَسْخًا أَمْ لَا، كَمَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ; مِنْ مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبِنْتِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَوْ إِلْحَاقًا بِهِ، وَجَعْلِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ كَالَّذِي يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي الْأُصُولِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ أَحَلُّوا التَّزَوُّجَ بِالزَّانِيَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِنَّ كَالْمَجُوسِيَّاتِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ الْمُنْذِرِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ نَصِّ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَأَكَّدَ حِلَّ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ. وَخُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ جَائِزٌ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَنِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ مُحَرَّمٌ. وَكَوْنُ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ عَامًّا لِجَمِيعِ الْوَثَنِيَّاتِ، أَوْ خَاصًّا بِمُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ: " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرَادًا بِحُكْمِهَا مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ " وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا قَالَ: " مُشْرِكَاتُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ " وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ ابْنَ جَرِيرٍ مِنْ عَدِّهِ قَائِلًا بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ سَائِرِ رِوَايَاتِ الْخِلَافِ: " وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

مِنَ الْمُشْرِكَاتِ، وَأَنَّ الْآيَةَ عَامٌّ ظَاهِرُهَا خَاصٌّ بَاطِنُهَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُ دَاخِلَاتٍ فِيهَا " إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي بَيَانِ حِلِّ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ. هَذَا مَا يَظْهَرُ بِالْبَحْثِ فِي الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى قَوْلٍ صَرِيحٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّ التَّزَوُّجِ بِمَا عَدَا الْكِتَابِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِحِلِّ الْمَجُوسِيَّةِ الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ صَاحِبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي تَفَقَّهَ بِهِ حَتَّى صَارَ مُجْتَهِدًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَفَرُّدَهُ لَا يُعَدُّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ. وَلَا يَأْتِي فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ النِّكَاحَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْحِلِّ، فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُ مَا وُضِعَ لَهُ بِالنَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ، كَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ وَضْعَهُ لِلْمِلْكِ لَا لِلْحِلِّ بِدَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ غَيْرَ مُقْتَضٍ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ: إِنَّ نِكَاحَ الصِّينِيَّةِ يَقَعُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا. وَأَمَّا الْبَحْثُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي آيَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّنَاكُحِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ (2: 221) وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، فَيُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ (مِنْ ص 280 - 284 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ شُرِعَتْ مُوَادَّتُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِمُعَاشَرَتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنَّا بِالتَّخَلُّقِ وَالْعَمَلِ، يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ دِينَنَا هُوَ عَيْنُ دِينِهِمْ مَعَ مَزِيدِ بَيَانٍ وَإِصْلَاحٍ يَقْتَضِيهِ تَرَقِّي الْبَشَرِ، وَإِزَالَةِ بِدَعٍ وَأَوْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الدِّينِ، وَمَا هِيَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا صِلَةَ بَيْنَ دِينِنَا وَدِينِهِمْ قَطُّ ; وَلِذَلِكَ دَخَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْإِسْلَامِ مُخْتَارِينَ بَعْدَمَا انْتَشَرَ بَيْنَهُمْ، وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَوْ قُبِلَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا قُبِلَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَمَا قَامَتْ لِهَذَا الدِّينِ قَائِمَةٌ، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. ثُمَّ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً خَاصَّةً فِي الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ، وَهِيَ: أَنْ تَكُونَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ حَرَمَ الْإِسْلَامِ الْمَحْمِيَّ، وَقَلْبَهُ الَّذِي تَتَدَفَّقُ مِنْهُ مَادَّةُ الْحَيَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، وَمَوْئِلَهُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجِزْيَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُشْرِكٌ، بَلْ أَوْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْفَتْوَى الرَّابِعَةِ الْمَنْشُورَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي (ص 97) مِنَ الْمُجَلَّدِ (الثَّانِي عَشَرَ) وَتَدُلُّ

عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كَوْنِ الْإِسْلَامِ يَأْرِزُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْحِجَازِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ قَتَادَةَ " الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ " فِي الْآيَةِ. إِذَا كَانَ الِازْدِوَاجُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يُنَافِي هَذِهِ السِّيَاسَةَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمِينَ بِالصِّينِيَّاتِ مَدْعَاةً لِدُخُولِهِنَّ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي بِلَادِ الصِّينِ، فَلَا يَكُونُ تَعْلِيلُ الْآيَةِ لِلْحُرْمَةِ صَادِقًا عَلَيْهِنَّ، وَكَيْفَ يُعْطَى الضِّدُّ حُكْمَ الضِّدِّ؟ ! وَقَدْ حَذَّرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ إِذَا خُشِيَ أَنْ تَجْذِبَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى دِينِهَا ; لِعِلْمِهَا وَجَمَالِهَا، وَجَهْلِهِ وَضَعْفِ أَخْلَاقِهِ، كَمَا يَحْصُلُ كَثِيرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي تَزَوُّجِ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْأُورُبِّيَّاتِ، أَوْ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ، فَيُفْتَنُونَ بِهِنَّ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ وَاجِبٌ فِي الْإِسْلَامِ. اهـ. مُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ اللَّاتِي حَرَّمَ اللهُ نِكَاحَهُنَّ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي رَجَّحَهُ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَالصَّابِئِينَ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَأَمْثَالِهِمْ كَالْيَابَانِيِّينَ - أَهْلُ كُتُبٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى الْآنِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَمِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ بُعِثَ فِيهَا رُسُلٌ، وَأَنَّ كُتُبَهُمْ سَمَاوِيَّةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا التَّحْرِيفُ كَمَا طَرَأَ عَلَى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي هِيَ أَحْدَثُ عَهْدًا فِي التَّارِيخِ، وَأَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الْإِبَاحَةُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّصُّ بِمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (4: 24) يُفِيدُ حِلَّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ إِلَّا بِنَصٍّ نَاسِخٍ لِلْآيَةِ أَوْ مُخَصِّصٍ لِعُمُومِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هُنَا أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِمَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَخَصَّصُوا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، مَنَعَ الْجُمْهُورُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِي اللَّقَبِ، وَلَكِنْ جَرَى الْعَمَلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشُّعُورِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ، وَظُهُورِ انْحِطَاطِ جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ عَنْ أَهْلِهِ ; وَلِهَذَا مَالَ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ إِلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حِلِّهِ فِي آخِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ النَّصَّ بِأَنَّ مَعْنَى أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَمِلُوا بِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَانُوا بِهِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لَا يَصِحُّ لُغَةً، فَإِنَّ مَعْنَى أُوتُوهُ مِنْ قَبِلْنَا: أُعْطُوهُ ; أَيْ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَكَانٍ وَرَدَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا (6: 156) وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَمَسَ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ، فَوَجَدُوا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَنَعَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، مُتَأَوِّلًا لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمُ

مِنْ قَوْلِهَا أَنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَلَا عَلَيَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَآيَةَ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (2: 221) انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةَ الْبَقَرَةِ، فَهُوَ إِذَا صَحَّ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابِيِّ يُعْمَلُ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ، بَلْ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ مُطْلَقًا، وَمَنْ قَالَ بِهِ اشْتَرَطَ عَدَمَ النَّصِّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْجِيحًا بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ وَالِدُهُ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَةَ ". وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (60: 10) وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ اللَّوَاتِي أَسْلَمَ أَزْوَاجُهُنَّ وَبَقِينَ عَلَى شِرْكِهِنَّ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلِينَ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِلْظَةَ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الدِّينُ، وَتَعْلُو كَلِمَتُهُ، وَتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُنَفِّرَاتِ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (3: 159) وَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَّا بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ أَهْلِهِ لِمَنْ يُعَاشِرُونَهُمْ، وَيَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَوْلَا تَرْكُ الْخَلَفِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلِ الْإِسْلَامَ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ. نَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِبَيَانِ حِكْمَةِ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَا تَحَرُّجٍ مِنْ تَذْكِيَتِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ غَرَضِ الشَّارِعِ بِذَلِكَ تَأَلُّفِهِمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، فَقَدْ أَكْمَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِحَسْبِ سُنَّتِهِ فِي التَّرَقِّي الْبَشَرِيِّ وَالتَّدْرِيجِيِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ مُنَاسَبَاتِ جَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) : " الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْعِنَادِ، فَقَالَ لَهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (2: 111) وَعَنَّفَ الْمُنَازِعِينَ إِلَى الشِّقَاقِ عَلَى مَا زَعْزَعُوا مِنْ أُصُولِ الْيَقِينِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَغْيٌ وَخُرُوجٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَقِفْ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمَوْعِظَةِ بِالْكَلَامِ وَالنَّصِيحَةِ بِالْبَيَانِ، بَلْ شَرَعَ شَرِيعَةَ الْوِفَاقِ وَقَرَّرَهَا فِي الْعَمَلِ، فَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَوَّغَ

مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَأَوْصَى أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَاسَنَةَ هِيَ رَسُولُ الْمَحَبَّةِ وَعَقْدُ الْأُلْفَةِ، وَالْمُصَاهَرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ التَّحَابِّ بَيْنَ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَهُمَا بِرَوَابِطِ الِائْتِلَافِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهَا مَحَبَّةُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، هِيَ إِزَالَةُ الْجَفْوَةِ الَّتِي تَحْجُبُهُمْ عَنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ ; بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِهِ لَهُمْ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ - فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَسَالِكًا سَبِيلَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً صَالِحَةً لِامْرَأَتِهِ وَلِأَهْلِهَا فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالتُّرْكِ يَتَزَوَّجُونَ مِنْ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْتَدْبِرُونَ بِذَلِكَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ دُونَ امْرَأَتِهِ وَيَجْعَلُهَا قُدْوَةً لَهُ، وَلَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَحُ لَهَا بِتَنْصِيرِ أَوْلَادِهِ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، فَفِتْنَتُهُمْ بِالْكُفْرِ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَتِهِمْ بِالنِّسَاءِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. (تَتِمَّةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ فِي مَبَاحِثِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ وَالتَّذْكِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ) كَتَبْنَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُسْتَعِينِينَ عَلَى فَهْمِهَا بِبَيَانِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَرَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ وَبِأَسَالِيبِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ. ثُمَّ رَاجَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا كَتَبْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ، فَرَأَيْنَا مَا كَانَ مِنْهُ بِفَهْمِنَا وَاجْتِهَادِنَا مُوَافِقًا لِمَا هُنَا مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ لِحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَنُقُولٍ مِنْ كُتُبِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُلَخِّصَ مِنْهُ مَا يَأْتِي إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْمُضِلِّينَ الْجَاهِلِينَ سُلْطَانٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ يُضِلُّونَهُ بِهِ، كَمَا فَعَلَ أَشْيَاعُهُمْ مِنْ نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ ; إِذْ سُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمُفْتِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فِي التِّرِنْسِفَالِ) يَضْرِبُونَ رَأْسَ الثَّوْرِ بِالْبَلْطَةِ، ثُمَّ يَذْبَحُونَهُ وَلَا يُسَمُّونَ اللهَ، كَمَا يَذْبَحُونَ الشَّاةَ بِدُونِ تَسْمِيَةٍ، فَأَفْتَى بِحِلِّ ذَبِيحَتِهِمْ هَذِهِ، فَقَامَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ يُشَنِّعُ عَلَى هَذِهِ الْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ، وَيَعُدُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةَ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ وَيَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا، فَكَتَبْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ بَيَانَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَاءَتْنَا رَسَائِلُ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ مِصْرَ وَالْغَرْبِ، فَنَشَرْنَاهَا تَأْيِيدًا لِمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى، ثُمَّ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَلَّفُوا رِسَالَةً أَيَّدُوا بِهَا الْفَتْوَى بِنُصُوصِ مَذَاهِبِهِمْ، وَطَبَعَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَمِيدِ حَمْرُوشُ (مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَقُضَاةِ الشَّرْعِ لِهَذَا الْعَهْدِ) وَهَاكَ مَا رَأَيْنَا زِيَادَتَهُ الْآنَ:

(حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ) بَيَّنَّا (فِي ص 818 و819 م 6 الْمَنَارِ) حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ ثَلَاثِ وُجُوهٍ، أَوْ ذَكَرْنَا لَهُ ثَلَاثَ حِكَمٍ: (1) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا لِيَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِزْهَاقِ رُوحِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، وَلَهَا صُوَرٌ وَكَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ. (2) أَنَّ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ يَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِمَرَضٍ أَوْ أَكْلِ نَبَاتٍ سَامٍّ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ لَحْمُهُ ضَارًّا، وَكَذَا إِذَا مَاتَ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ وَانْحِلَالِ الطَّبِيعَةِ. (3) اسْتِقْذَارُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ لَهُ وَاسْتِخْبَاثُهُ وَعَدُّ أَكْلِهِ مَهَانَةً تُنَافِي عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا، ثُمَّ قُلْنَا هُنَالِكَ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ، فَيَظْهَرُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا حِكْمَةَ تَوَقِّي الضَّرَرِ فِي الْجِسْمِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ بَدَلُهَا تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْ تَعْرِيضِ الْبَهِيمَةِ لِلْمَوْتِ بِإِحْدَى هَذِهِ الْمِيتَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْهَى عَنْ تَعْذِيبِهِ، أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْذِيبِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ كَيْلَا يَتَهَاوَنَ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّعَاةَ يَغْضَبُونَ أَحْيَانًا عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَيَقْتُلُونَهُ بِالضَّرْبِ، وَيُحَرِّشُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ فَيُغْرُونَ الْكَبْشَيْنِ بِالتَّنَاطُحِ حَتَّى يَهْلَكَا أَوْ يَكَادَا، وَمَنْ كَانَ يَرْعَى أَنْعَامَ غَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا هَلَكَ بِتِلْكَ الْمِيتَاتِ حَلَالًا لَمَا بَعُدَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرُّعَاةُ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ التُّحُوتِ تَعْرِيضَ الْبَهَائِمِ لَهَا لِيَأْكُلُوهَا بِعُذْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ ; مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْحَذْفِ - وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا - وَالْبُنْدُقِ - الطِّينِ الْمَشْوِيِّ - لِذَلِكَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرْنَا (فِي ص 822 م 6) حِكْمَةً أُخْرَى فِي ضِمْنِ مَقَالَةٍ وَعْظِيَّةٍ لِعَالِمٍ مَغْرِبِيٍّ أَيَّدَ بِهَا فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَهَلْ عَرَفَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ حِكْمَةَ الذَّبْحِ الْمُعْتَادِ، وَشُيُوعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الصَّيْدِ وَالدَّابَّةِ الشَّارِدَةِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ بِحَسْبِ الْأَصْلِ مُوَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّ اللهَ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِنَا وَبِالْحَيَوَانِ، جَعَلَ بَيْنَنَا قِسْمَةً عَادِلَةً وَمِنَّةً عَامَّةً، فَحَرَّمَ عَلَيْنَا مَا قَتَلَهُ الْحَيَوَانُ، وَمَا مَاتَ فِي الْخَلَاءِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَّا، لِيَبْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْحَيَوَانِ يَأْكُلُهُ ; لِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا، وَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ أَنْ نَأْكُلَ مَا لَمْ نَقْصِدْهُ وَلَمْ نُفَكِّرْ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُذَكَّى وَالصَّيْدُ وَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ وَنَحْوُهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ. انْتَهَى. أَقُولُ: إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ فِي بَالِي تَذَكَّرْتُ أَنْ أُرَاجِعَ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ ; لَعَلِّي أَجِدُّ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَقْتَبِسُهُ فِي هَذَا الْمَقَالِ، فَرَأَيْتُهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ

حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مُرَاعِيًا فِيهَا الْمُعْتَمَدُ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِلَّا أَنَّهُمَا نَجِسَانِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ إِلَّا أَنَّهُ مُسِخَ بِصُورَتِهِ قَوْمٌ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: " فِي اخْتِيَارِ أَقْرَبِ طَرِيقٍ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ اتِّبَاعُ دَاعِيَةِ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ خَلَّةٌ يَرْضَى بِهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُقْطَعُ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ أَقُولُ: كَانُوا يُجِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلِيَّاتِ الْغَنَمِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ وَمُنَاقَضَةٌ لِمَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الذَّبْحِ، فَنُهِيَ عَنْهُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ قَتْلِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ يَذْبَحَهُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهُ فَيَرْمِيَ بِهِ أَقُولُ: هَهُنَا شَيْئَانِ مُشْتَبِهَانِ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، أَحَدُهُمَا: الذَّبْحُ لِلْحَاجَةِ وَاتِّبَاعِ إِقَامَةِ مَصْلَحَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالثَّانِي: السَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ، وَاتِّبَاعِ دَاعِيَةِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ. انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ وَمُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. (حِكْمَةُ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ) ذَهَبَ بَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَى أَنَّ تَذْكِيَةَ الْحَيَوَانِ وَصَيْدَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَبَاحَتْ أَكْلَ الْحَيَوَانِ كَالْمُوسَوِيَّةِ وَالْعِيسَوِيَّةِ وَالْمُحَمَّدِيَّةُ، وَمِمَّا يَطْعَنُ بِهِ النَّاسُ فِي أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ الْفَيْلَسُوفِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اسْتِقْبَاحًا لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّهُ تَوَحُّشًا، لَا أَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ بِطَبْعِهِ كَكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَرِضَ فَوَصَفَ لَهُ الطَّبِيبُ فَرُّوجًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ مَطْبُوخًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَضْعَفُوكَ فَوَصَفُوكَ، هَلَّا وَصَفُوا شِبْلَ الْأَسَدِ؟ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ لَوْ لَمْ تُبِحْ لِلنَّاسِ أَكْلَ الْحَيَوَانِ لَكَانَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَرِدُ عَلَى نِظَامِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَنِهِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ بَعْضًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْإِنْسَانُ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ الْحَيَوَانِ ; لِأَنَّ اللهَ فَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَسَخَّرَهَا لَهُ كَمَا سَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى ; لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ وَاللَّطَائِفِ وَالْمَحَاسِنِ. وَامْتِنَاعُ النَّاسِ عَنْ أَكْلِ مَا يَأْكُلُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَنْعَامِ لَا يَعْصِمُهَا مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ أَوِ التَّرَدِّي، أَوْ فَرْسِ السِّبَاعِ لَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُلُّ مِيتَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمِيتَاتِ أَهْوَنَ وَأَخَفَّ أَلَمًا مِنَ التَّذْكِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي كَتَبَ اللهُ فِيهَا الْإِحْسَانَ وَمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَنَحْنُ نَرَى الشَّاةَ إِذَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الذِّئْبِ أَوْ سَمِعَتْ عُوَاءَهُ تَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الدَّجَاجِ

مَعَ الثَّعْلَبِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْمُفْتَرِسَةِ مَعَ السِّبَاعِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَإِنَّمَا أَلَمُ الذَّبْحِ لَحْظَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ الْحَيَاةِ: إِنَّ إِحْسَاسَ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ بِالْأَلَمِ أَضْعَفُ مِنْ إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ بِهِ، فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْظُمُ أَلَمُهُمْ مِنَ الْجُرْحِ، فَرُبَّمَا يُقْطَعُ عُضْوُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِعِلَّةٍ بِهِ وَلَا يَتَأَوَّهُ، وَقَدْ يُغْمَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا إِذَا خُدِّرُوا تَخْدِيرًا لَا يَجِدُونَ مَعَهُ أَلَمًا وَلَا شُعُورًا. (مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ) جَاءَ فِي ص (97) مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ " الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ " لِابْنِ عَابِدِينَ الشَّهِيرِ، صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ الشَّهِيرَةِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مَا نَصُّهُ: " سُئِلَ فِي ذَبِيحَةِ الْعَرَبِيِّ الْكِتَابِيِّ هَلْ تَحِلُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا (الْجَوَابُ) تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَ الذَّابِحِ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ حَقِيقَةً كَالْمُسْلِمِ، أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ ; وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِكِتَابٍ مِنْ كُتِبِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ، فَصَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكِتَابِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا يَهُودِيًّا، حَرْبِيًّا أَوْ عَرَبِيًّا تَغْلِبِيًّا ; لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُرَادُ بِطَعَامِهِمْ: مُذَكَّاهُمْ، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ " وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّعَامِ غَيْرِ الْمُذَكَّى يَحِلُّ مِنْ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِالْمُذَكَّى، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكِتَابِيِّ أَنَّهُ سَمَّى غَيْرَ اللهِ ; كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ، وَأَمَّا لَوْ سَمِعَ فَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَهُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْيَهُودِيِّ أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَفِي النَّصْرَانِيِّ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ؟ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَبِهِ أَفْتَى " الْجَدُّ " فِي الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَشَرَطَ فِي " الْمُسْتَصْفَى " لِحِلِّ مُنَاكَحَتِهِمْ عَدَمَ اعْتِقَادِ النَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي " الْمَبْسُوطِ " فَإِنَّهُ قَالَ: " وَيَجِبُ أَلَّا يَأْكُلُوا ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ، وَأَنَّ عُزَيْرًا إِلَهٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُوا نِسَاءَهُمْ " لَكِنَّ فِي " مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ": وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَالَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَوْ لَا، وَمُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْآيَةِ: الْجَوَازُ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّمِرْتَاشِيُّ فِي فَتَاوَاهُ، وَالْأَوْلَى أَلَّا يَأْكُلَ ذَبِيحَتَهُمْ وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا حَقَّقَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ. " قَالَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِي رَسَائِلِهِ: قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ دَانَ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، أُكِلَ ذَبِيحَتُهُ وَحَلَّ نِسَاؤُهُ، وَحَكَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِمْ، أَوْ فِي أَحَدِهِمْ، فَكَتَبَ مِثْلَ مَا قُلْنَا، فَإِذَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ، فَلَا يَجُوزُ إِذَا جَمَعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَيْنَهُمْ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَبَعْضَهُمْ

يَحْرُمُ، إِلَّا بِخَبَرٍ مُلْزِمٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خَبَرًا، فَمَنْ جَمَعَتْهُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ فَحُكْمُهُ وَاحِدٌ " انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. انْتَهَى مَا فِي الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ بِحُرُوفِهِ، وَبِهَذِهِ الْفَتْوَى أَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الْفَتْوَى التِّرِنْسِفَالِيَّةِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. (حُكْمُ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بَيْرَمٌ الْخَامِسُ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (صَفْوَةُ الِاعْتِبَارِ) مَبْحَثًا طَوِيلًا فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ أُورُبَّةَ، وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِهِ أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ مُطْلَقًا، وَجَاءَ بِتَفْصِيلٍ فِي أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ فِي أُورُبَّةَ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَنْقِ، فَإِنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ شَكٍّ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ لِتَحَقُّقٍ فَلَمْ أَرَ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَنَا، وَقِيَاسُهَا عَلَى تَحْقِيقِ تَسْمِيَةِ غَيْرِ اللهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحِلَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعَيْنَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ ; فَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا يُفِيدُ الْحِلِّيَّةَ، حَيْثُ خُصِّصُوا بِآيَةِ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَآيَةِ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (6: 121) وَآيَةِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَكَذَلِكَ تَكُونُ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْمُنْخَنِقَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ خَاصًّا بِفِعْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِبَاحَةِ عَامَّةً فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَذَلِكَ الثَّانِي، وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ رِسَالَةً لِأَحَدِ أَفَاضِلِ الْمَالِكِيَّةِ نَصَّ فِيهَا عَلَى الْحِلِّ، وَجَلَبَ النُّصُوصَ مِنْ مَذْهَبِهِ بِمَا يَنْثَلِجُ بِهِ الصَّدْرُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَمَلُ الْخَنْقِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الذَّكَاةِ، كَمَا أَخْبَرَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: التَّوَصُّلُ إِلَى قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِأَسْهَلِ قِتْلَةٍ ; لِلتَّوَصُّلِ إِلَى أَكْلِهِ، بِدُونِ فَرْقٍ بَيْنَ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ، عَلَى زَعْمِهِمْ - فَلَا مِرْيَةَ فِي الْحِلِّيَّةِ عَلَى هَاتِهِ الْمَذَاهِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَسُوغُ تَقْلِيدُ الْحَنَفِيِّ لِغَيْرِ مَذْهَبِهِ؟ قُلْتُ: أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَقَلَّدَ الْحَنَفِيَّ عَنْ تَرْجِيحِ بُرْهَانٍ فَهَذَا رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَرْجِيحُ دَلِيلِ الْحِلِّ ثَانِيًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، كَمَا هُوَ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ مُفْتِيهِ، وَقَوْلُهُ: أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ ; كَقَوْلِ الْجَاهِلِ أَنَا نَحْوِيٌّ، لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ سِوَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ، فَبِأَيِّ الْعُلَمَاءِ اقْتَدَى فَهُوَ نَاجٍ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ مَبْسُوطٌ فِي ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ حَرَّرَ الْبَحْثَ أَبُو السُّعُودِ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةِ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمَكِّيُّ، فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى التَّفْصِيلِ. "

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ مُخَصَّصًا بِالْحِلِّيَّةِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى، أَيْ آيَةِ طَعَامِهِمْ، وَإِذَا جَعَلْتَ آيَةَ تَحْرِيمِهِ مُحْكَمَةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْمُنْخَنِقَةُ، وَلِمَاذَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ، وَأَيُّ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمَأْكُولَاتِ مِنْهَا مَا حُرِّمَ لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا مَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ ; فَالْخِنْزِيرُ وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُحَرَّمَةٌ لِعَيْنِهَا ; وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا وَحَالَاتِهَا، وَأَمَّا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ، أَوْ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَتَى فِيهِ لِعَارِضٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، ثُمَّ أَتَى نَصٌّ آخَرُ عَامٌّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ حَلَالٌ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِغَيْرِهِ ; وَهُوَ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ، فَبَقِيَتَا فِي مَحَلِّ الشَّكِّ ; لِتَجَاذُبِ كُلٍّ مِنْ نَصَّيِ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ لَهُمَا، فَوَجَدْنَا إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ - وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ طَعَامًا لَهُمْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ; لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا يَصِحُّ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ: الْمُسَاوَاةُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَجَالِ لِأَنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِيهِ كَثِيرٌ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. انْتَهَى ". (مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) جَاءَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) مَا نَصُّهُ " قُلْتُ: أَفَتَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصِبْيَانِهِمْ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِذَا حَلَّ ذَبَائِحُ رِجَالِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ إِذَا أَطَاقُوا الذَّبْحَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَتَأَوَّلَ مَالِكٌ فِيهِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (6: 145) وَكَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْغَنَمِ فَأَصَابُوهُ فَاسِدًا عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَهُ لِأَجْلِ الرِّئَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ، أَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ مَرَّةً يُجِيزُهُ فِيمَا بَلَغَنِي. انْتَهَى " وَ (الْمُدَوَّنَةُ) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَصْلُ الْمَذْهَبِ فَهِيَ كَالْأُمِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَجَاءَ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ الْخَزْرَجَيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 599 هـ مَا نَصُّهُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا حَلَالٌ لَنَا، وَأَمَّا سَائِرُ أَطْعِمَتِهِمْ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَاتِ فِيهِ ; كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ

ذَلِكَ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي أُحِلَّ لَنَا: ذَبَائِحُهُمْ، فَأَمَّا مَا خِيفَ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الطَّعَامَ يَتَنَاوَلُ ذَبَائِحَهُمْ بِاتِّفَاقٍ، فَهَلْ يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى عُمُومِهِ أَمْ لَا؟ فَالْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الطَّعَامِ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَا ذَبَحُوهُ، مِمَّا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ خَاصَّةً، وَأَمَّا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الطَّعَامِ ذَبَائِحُهُمْ جَمِيعًا، إِلَّا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، لَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ يُجَوِّزُ لَنَا أَكْلَ مَا لَا يُجَوِّزُ لَهُمْ أَكْلَهُ، اخْتَلَفُوا: هَلْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَنْعِ أَوِ الْكَرَاهَةِ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَوْ سَمَّوْا عَلَيْهِ اسْمَ الْمَسِيحِ، هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْإِبَاحَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُتَضَمِّنَةٌ تَحْلِيلَهُ، وَأَنَّ أَكْلَهُ جَائِزٌ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ. " الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَنْ هُمْ؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، هَلْ هُمْ مِمَّنْ أُوتِيَ كِتَابًا أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا يُخْتَلَفُ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِي كِتَابِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ) فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ - أَيْضًا - مَا نَصُّهُ: " هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ وَطَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَرْفَعَ بِهِ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَنِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَتُحْرِجُ إِلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ، وَلَقَدْ سُئِلْتُ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا، هَلْ تُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُ طَعَامًا؟ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ، فَقُلْتُ: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُمْ يُعْطُونَنَا نِسَاءَهُمْ أَزْوَاجًا، فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ، فَكَيْفَ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَالْأَكْلُ دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي نَوْعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ وَالتَّشْدِيدِ، إِذِ اعْتَبَرَ فِي طَعَامِهِمْ مَا يَأْكُلُهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ مُفْتِي مِصْرَ، فِي فَتْوَاهُ التِّرِنْسِفَالِيَّةِ. وَقَدْ أَفْتَى الْمَهْدِيُّ الْوَزَّانِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ فَاسَ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ مُفْتِي مِصْرَ، وَلَمَّا عَلِمَ بِمُشَاغَبَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي فَتْوَى مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَتَبَ رِسَالَةً فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى بِنُصُوصِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، نَشَرْنَاهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "

الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلصَّنَمِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَقَيَّدُوهُ بِمَا لَمْ يَأْكُلُوهُ، وَإِلَّا كَانَ حَلَالًا لَنَا. قَالَ الشَّيْخُ بَنَانِيُّ عَلَى قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ: " وَذَبْحٌ لِصَنَمٍ " مَا نَصُّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنَمِ كُلُّ مَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِحَيْثُ يَشْمَلُ الصَّنَمَ وَالصَّلِيبَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فِي أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ، كَمَا فِي التَّتَائِيِّ والزُّرْقَانِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَنَصُّهُ: كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ لِأَنَّهُ رَآهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ إِذْ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مُضَاهِيَةً لَهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا فِيمَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ مِمَّا لَا يَأْكُلُونَ، قَالَ: وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ. انْتَهَى. " وَقَالَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَشْهَبَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّا ذُبِحَ لِلْكَنَائِسِ، قَالَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. ابْنُ رُشْدٍ: " كَرِهَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَجَّهَ قَوْلَ أَشْهَبَ أَنَّ مَا ذَبَحُوا لِكَنَائِسِهِمْ، لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا لَنَا ; لِأَنَّ اللهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقُولُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُونَهُ، فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ". انْتَهَى. " فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَبْحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا قَصَدُوا بِهِ التَّقَرُّبَ لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهُ، فَهُوَ لَيْسَ طَعَامَهُمْ، وَلَمْ يَقْصِدُوا بِالذَّكَاةِ إِبَاحَتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنَ الْكَرَاهَةِ فِي ذَبْحِ الصَّلِيبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لَكِنْ سَمَّوْا عَلَيْهِ اسْمَ آلِهَتِهِمْ فَهَذَا يُؤْكَلُ بِكُرْهٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ " هَذَا الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ بُنَانِيٍّ، وَسَلَّمَهُ الرُّهُونِيُّ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ، فَهَذَا شَاهِدٌ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي ذَكَاتِنَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ فِي ذَكَاتِهِمْ، كَمَتْرُوكِ التَّذْكِيَةِ عَمْدًا ; فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِنَا وَتُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِهِمْ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. فإذًا الْمَدَارُ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ طَعَامِهِمْ لَا غَيْرَ، وَاللهُ أَعْلَمُ ". انْتَهَى الْمُرَادُ مِمَّا كَتَبَهُ الْمُفْتِي الْوَزَّانِيُّ. وَقَدْ أَطَالَ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفَتْوَى (التِّرِنْسِفَالِيَّةِ) وَالْقَوْلَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفَصَّلُوهُ فِي بِضْعِ فُصُولٍ. الْفَصْلُ السَّابِعُ مِنْهَا فِي بَيَانِ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (أَيْ مِنْ حِلِّ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقَصْدِ التَّذْكِيَةِ لِأَكْلِهِ) هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَاطِبَةً، وَالْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي رَدِّ الرُّهُونِيِّ بِرَأْيِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّاسِعُ فِي تَفْنِيدِ كَلَامِ الرُّهُونِيِّ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ، قَالُوا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّابِعِ مَا نَصُّهُ:

اعْلَمْ أَنَّهُ أَقَرَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْوَزَّانِيُّ وَصَاحِبُ الْمِعْيَارِ وَأَحْمَدُ بَابَا وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ كَالزَّيَّاتِيِّ، وَقَالَ: وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَإِنْ رَدَّهُ الرُّهُونِيُّ بِالْأَقْيِسَةِ، وَمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ كَلَامَيِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: " مَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ: مَيْتَةٌ حَرَامٌ، وَقَوْلِهِ: أَفْتَيْتُ بِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاةً عِنْدَنَا ; لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، دَفَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى عِنْدَهُمْ حِلٌّ لَنَا أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ، عِنْدَنَا ذَكَاةً، وَمَا لَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى لَا يَحِلُّ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَصْدِ تَذْكِيَتِهِ لِتَحْلِيلِهِ وَعَدَمِهِ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَائِيِّ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: " أَوْ مَجُوسِيًّا تَنَصَّرَ وَذَبَحَ لِنَفْسِهِ. . . إِلَخْ " وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْ عِبَارَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَذْهَبٌ لَهُ وَحْدَهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ جَمِيعًا، الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ طَعَامِهِمْ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا، سَوَاءٌ كَانَ يَحِلُّ لَنَا بِاعْتِبَارِ شَرِيعَتِنَا أَوْ لَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ مَا هُوَ حَلَالٌ لَهُمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِنَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ النُّصُوصُ وَالتَّعَالِيلُ الْآتِيَةُ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ. قَالَ الزَّيَّاتِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: " الرَّابِعُ: مَا ذُبِحَ لِلصَّلِيبِ، أَوْ لِعِيسَى، أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ يُكْرَهُ أَكْلُهُ. بَهْرَامُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: " وَمَا ذَبَحُوهُ وَسَمَّوْا عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ لُبَابَةَ: هُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ لِلْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ". انْتَهَى. " وَفِي الْقَلَشَانِيِّ أَنَّ أَشْهَبَ يَرَى - أَيْضًا - الْكَرَاهَةَ فِيمَا ذُبِحَ لِلْمَسِيحِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ: يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَقَدْ أَبَاحَ اللهُ ذَبَائِحَهُمْ لَنَا وَقَدْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ، وَذَكَرَ الْقَلَشَانِيُّ - أَيْضًا - فِيمَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ الْكَرَاهَةُ. وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ مَا ذُبِحَ لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. انْتَهَى. وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ عَنِ الرَّمَاصِيِّ: أَجَازَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسِيحِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالْإِبَاحَةَ لِابْنِ حَارِثٍ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَعَ رِوَايَةِ أَشْهَبَ. وَعَنْهُ أَبَاحَ اللهُ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ، وَعَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ ". انْتَهَى. وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يُكْرَهُ: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ أَوْ عِيسَى، وَلَيْسَ تَحْرِيمُ الْمَذْبُوحِ لِلصَّنَمِ لِكَوْنِهِ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ، قَالَ التُّونِسِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (6: 121) .

ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ; مِنْ حَيْثُ لَهُمْ دِينٌ وَشَرْعٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِلُّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فَالْمُرَادُ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَ (أُهِلَّ) مَعْنَاهُ: صِيحَ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِالصِّيَاحِ بِاسْمِ الْمَقْصُودِ بِالذَّبِيحَةِ، وَغَلَبَ فِي اسْتِعْمَالِهِ حَتَّى عُبِّرَ بِهِ عَنِ النِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ قَالَ: " وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ غَيْرِ اللهِ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَفِيهِ عَنِ الْبُنَانِيِّ، وَصَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ، مِنْ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، مَا نَصُّهُ: " كَرِهَ مَالِكٌ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ ; لِأَنَّهُ رَآهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ اللهِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ ; إِذْ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مُضَاهِيَةً لِقَوْلِ اللهِ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ. قَالَ: وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ كِتَابِ الضَّحَايَا. وَقَالَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَشْهَبَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّا ذُبِحَ لِلْكَنَائِسِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ". ابْنُ رُشْدٍ: " كَرِهَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَجَّهَ قَوْلَ أَشْهَبَ أَنَّ مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ، لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا ; لِأَنَّ اللهَ قَالَ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُونَهُ ; فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ". انْتَهَى. فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَبْحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنْ قَصَدُوا بِهِ التَّقَرُّبَ لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُؤْكَلُ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهُ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَكَاتِهِ إِبَاحَتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ. . . إِلَخْ. فَأَرَادَ بِهِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَسَمَّوْا عَلَيْهِ بِاسْمِ آلِهَتِهِمْ، فَهَذَا يُؤْكَلُ بِكُرْهٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. انْتَهَى. وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ التَّتَائِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ، جَوَازَ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِلصَّنَمِ. انْتَهَى. وَأَنْتَ لَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنْ مَا ذُبِحَ لِلصَّنَمِ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْأَجِلَّاءُ لِكَوْنِهِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَأَمَّلْهُ. وَقَالَ الْعَلَامَةُ التَّتَائِيُّ، عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ أَوْ لِعِيسَى: أَيْ يُكْرَهُ أَكْلُ مَذْبُوحٍ لِأَجْلِهِ، مُحَمَّدٌ وَابْنُ حَبِيبٍ: " هُوَ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمَا تَرَكَ مَالِكٌ الْعَزِيمَةَ بِتَحْرِيمِهِ، فِيمَا ظَنَنَّا، إِلَّا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فَأَحَلَّ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا طَعَامَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَهُ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا: كَرِهَ مَالِكٌ مَا ذَبَحُوهُ لِلْكَنَائِسِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِلصَّلِيبِ أَوْ مَا مَضَى مِنْ أَحْبَارِهِمْ، أَوْ لِجِبْرِيلَ أَوْ لِأَعْيَادِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ " انْتَهَى. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ قَصْدُهُمْ بِهِ تَعْظِيمَ شِرْكِهِمْ مَعَ قَصْدِ الذَّكَاةِ. انْتَهَى. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي بَهْرَامَ: وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِلصَّلِيبِ أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. انْتَهَى.

وَقَالَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ، عِنْدَ ذِكْرِ كَرَاهَةِ شَحْمِ الْيَهُودِيِّ: عِنْدَ الْبُنَانِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي شَحْمِ الْيَهُودِ: الْإِجَازَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْمَنْعُ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْأِجَازَةِ وَالْمَنْعِ ; لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ مِنْ قَبِيلِ الْإِجَازَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ هَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ ذَبَائِحُهُمْ، أَوْ مَا يَأْكُلُونَ؟ فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ أَجَازَ أَكْلَ شُحُومَهُمْ لِأَنَّهَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمُحَالٌ أَنْ تَقَعَ الذَّكَاةُ عَلَى بَعْضِ الشَّاةِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مَا يَأْكُلُونَ، لَمْ يُجِزْ أَكْلَ شُحُومِهِمْ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَأْكُلُونَ. وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ - أَيْضًا - بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى التَّسْمِيَةِ، مَا نَصُّهُ: وَقَالَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ: " لَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: لَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ إِلَى ذَكَاتِهَا ; لِأَنَّهَا فِسْقٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (6: 118) : كُلُوا مِمَّا قَصَدْتُمْ إِلَى ذَكَاتِهِ، فَكَنَّى عَنِ التَّذْكِيَةِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا كَنَّى عَنْ رَمْيِ الْجِمَارِ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (2: 203) انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ. وَقَالَ فِي كَبِيرِ الْخَرَشِيِّ: وَدَخَلَ فِي قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: " يُنَاكَحُ " أَيْ يَحِلُّ لَنَا وَطْءُ نِسَائِهِ فِي الْجُمْلَةِ، الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ، مُعَاهِدًا أَوْ حَرْبِيًّا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْآنَ وَمَنْ تَقَدَّمَ، خِلَافًا لِلطَّرْطُوشِيِّ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ بَدَّلُوا، فَلَا نَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ الذَّكَاةُ مِمَّا بَدَّلُوا، وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْهُمْ، فَهُمْ مُصَدَّقُونَ فِيهِ. انْتَهَى. وَمِثْلُهُ فِي التَّتَائِيِّ بِلَا فَرْقٍ. وَقَالَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَأَمَّا مَنْ يُذْكِي فَمَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا. . . إِلَخْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ قَدْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ عَلَى صِحَّةِ ذَكَاةِ الْكِتَابِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ لِيَصِيرَ كَلَامُهُ مُوَافِقًا لِلْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِنَّ كَانَ غَيْرَ كِتَابِيٍّ لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ مُمَيِّزًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا، فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَّاهُ مِمَّا يَسْتَحِلُّ أَكْلَهُ فَذَكَاتُهُ لَهُ صَحِيحَةٌ وَيَجُوزُ لَنَا الْأَكْلُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ قَدْ كَرِهَ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ طَعَامِهِمْ مَا يُذَكُّونَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَّاهُ مِمَّا لَا يَسْتَحِلُّهُ، بَلْ مِمَّا يَقُولُ: إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ: فَإِنْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ بِنَصِّ شَرِيعَتِنَا كَذِي الظُّفْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفْرٍ (6: 146) فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ بِشَرْعِنَا، بَلْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِمْ ; كَالَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالطَّرِيقَةِ - بِالطَّاءِ الْمُهْمِلَةِ - فَفِي جَوَازِ

أَكْلِنَا مِنْهُ وَكَرَاهَتِهِ قَوْلَانِ، وَهُمَا لِمَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: " وَثَبَتَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، وَاقْتَصَرَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ بَشِيرٍ بِاحْتِمَالِ صِدْقِ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْكِتَابِيُّ لَا يَسْتَبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَهَا فَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: فَإِنْ غَابَ الْكِتَابِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْمَيْتَةَ كَبَعْضِ النَّصَارَى، أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ نَأْكُلْ مَا غَابُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُذَكُّونَ أَكَلْنَاهُ ". انْتَهَى. وَأَمَّا مَا يَذْبَحُهُ الْكِتَابِيُّ لِعِيدِهِ أَوْ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَوْ لِجِبْرِيلَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَهَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَاسْتَخَفَّهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَالُوا: قَدْ أَحَلَّ لَنَا ذَلِكَ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ. انْتَهَى. وَأَمَّا مَا ذَبَحُوهُ لِلْأَصْنَامِ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: بِاتِّفَاقٍ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ. قَالَ اللَّخْمِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ، فِيمَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِعِيدِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَصُلْبَانِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: " الصَّحِيحُ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْأَصْنَامُ، وَهِيَ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ أَصْبَغُ فِي ثُمَانِيَّةِ أَبِي زَيْدٍ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا أَصْحَابَ أَصْنَامٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: إِنَّا لَا نَأْكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ لِأَنْصَابِكُمْ ; يَعْنِي الْأَصْنَامَ، وَأَمَّا مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - لَهُمْ حُرْمَةً، فَأَجَازَ مُنَاكَحَتَهُمْ وَذَبَائِحَهُمْ ; لِتَعَلُّقِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ مَا ذُبِحَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْكَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُسْأَلَ هَلْ سَمَّى عَلَيْهِ الْمَسِيحَ أَوْ ذَبَحَ لِلْكَنِيسَةِ؟ بَلْ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الْمَسِيحَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ كَيْفَ كَانَتْ. انْتَهَى. فَانْظُرْ كَيْفَ تَضَافَرَتْ كُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ كَبَاقِي نُصُوصِ جَمِيعِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى إِنَاطَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِكَوْنِهِ حَلَالًا عِنْدَهُمْ - أَيْ يَأْكُلُونَهُ - وَعَدَمِهِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْحَفَّارُ، وَقَالَ: أَهْلُ الْمَذْهَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ وَيُفْتُونَ بِحِلِّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَعْلَمُ أَنَّ الذَّبْحَ لِلصَّلِيبِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَسِيحِيَّةِ الْحَقَّةَ ; لِأَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَهَا، إِذْ مَنْشَؤُهُ حَادِثَةُ الصَّلْبِ الْمَشْهُورَةِ، فَكُلُّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَا هُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرِيعَتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ - أَيْضًا - مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَأَنَّهَا الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ ذَكَاتُهَا، كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْيِيدُ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا مَعَهَا بِمَا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، وَيَكُونُ هَذَا فِي الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا مَعَهَا، بِدَلِيلِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ كَمَا سَبَقَ، وَمِنْهُ يَتَّضِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَ الْكِتَابِيُّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَلَا تَأْكُلْ مَا غَابَ. . . إِلَخْ.

أَنَّهَا مَا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهَا ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الذَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَطَعَ رَقَبَةَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدِ تَجْرِيبِ السَّيْفِ أَوِ اللُّعَبِ، لَا يَحِلُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَيْتَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِيِّ هِيَ الْمَيْتَةُ عِنْدَهُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ ذَكَاتَهَا، لَا الْمَيْتَةُ عِنْدَنَا، وَيَتَبَيَّنُ مِنْهُ - أَيْضًا - أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ لِلْفُقَهَاءِ فِي الذَّبَائِحِ وَالذَّكَاةِ إِنَّمَا هِيَ بَيَانُ مَا يَلْزَمُ فِي الْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لَا لِغَيْرِهِ. انْتَهَى. (مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ مِنَ الْأُمِّ، مَا نَصُّهُ: (1) أَحَلَّ اللهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ طَعَامُهُمْ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: ذَبَائِحَهُمْ، وَكَانَتِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى إِحْلَالِ ذَبَائِحِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ يُسَمُّونَهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - فَهِيَ حَلَالٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ ذَبْحٌ آخَرُ يُسَمُّونَ عَلَيْهِ غَيْرَ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - مِثْلَ اسْمِ الْمَسِيحِ، أَوْ يَذْبَحُونَهُ بِاسْمٍ دُونَ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ يَحِلَّ هَذَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا أُثْبِتُ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ هَكَذَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ زَعَمْتَ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ صِنْفَانِ، وَقَدْ أُبِيحَتْ مُطْلَقَةً؟ قِيلَ: قَدْ يُبَاحُ الشَّيْءُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ نَسِيَ اسْمَ اللهِ - تَعَالَى - أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، وَهُوَ لَا يَدَعُهُ لِلشِّرْكِ، كَانَ مَنْ يَدَعُهُ عَلَى الشِّرْكِ أَوْلَى أَنْ تُتْرَكَ ذَبِيحَتُهُ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لُحُومَ الْبُدُنِ (الْإِبِلِ) مُطْلَقَةً، فَقَالَ: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا (22: 36) أَيْ إِذَا سَقَطَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا، وَوَجَدْنَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْبَدَنَةِ الَّتِي هِيَ نَذْرٌ، وَلَا جَزَاءُ صَيْدٍ، وَلَا فِدْيَةٌ. فَلَمَّا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَتَرَكْنَا الْجُمْلَةَ، لَا أَنَّهَا خِلَافٌ لِلْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ، وَمَعْقُولٌ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، لِأَنَّا إِذَا جَعَلْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمْ نَجْعَلْ عَلَيْهِ الْكُلَّ، إِنَّمَا جَعَلْنَا عَلَيْهِ الْبَعْضَ الَّذِي أَعْطَى، فَهَكَذَا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى شَبِيهِ مَا قُلْنَا. انْتَهَى بِحُرُوفِهِ (ص 196 ج 2 مِنَ الْأُمِّ) . أَقُولُ: إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - حَرَّمَ مَا ذَكَرُوا اسْمَ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ، بِأَقْيِسَةٍ عَلَى مَسَائِلَ خِلَافِيَّةٍ جَعَلَهَا نَظِيرًا لِلْمَسْأَلَةِ، وَقَيَّدَ بِهَا إِطْلَاقَ الْقُرْآنِ، وَمُخَالِفُوهُ فِي ذَلِكَ - كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ - لَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ الْآيَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي غَايَةُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ جَائِزٌ بِالدَّلِيلِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ تَهَاوُنًا وَاسْتِخْفَافًا، لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَإِذَا سَلَّمْنَاهُ جَدَلًا، نَمْنَعُ قِيَاسَ الْكِتَابِيِّ عَلَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِبَيَانِ الْمَنْعِ بِالتَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا ذَبَحُوهُ

لِغَيْرِ اللهِ، إِنْ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَهُ: فَهُوَ غَيْرُ حِلٍّ لِلْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ مِنْ طَعَامِهِمُ الَّذِي أَطْلَقَ اللهُ - تَعَالَى - حِلَّهُ وَهُوَ يُعْلَمُ مَا يَقُولُونَ وَمَا يَفْعَلُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُظْهِرُ لَنَا نُكْتَةَ التَّعْبِيرِ بِالطَّعَامِ دُونَ الْمَذْبُوحِ أَوِ الْمُذَكَّى ; لِأَنَّ مِنَ الْمُذَكَّى مَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُذَكُّونَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ. (2) ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ ذَبَائِحَ نَصَارَى الْعَرَبِ لَا تُؤْكَلُ، وَاحْتَجَّ بِأَثَرٍ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا نَصَارَى الْعَرَبِ بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَمَا تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُهُمْ، وَمَا أَنَا بِتَارِكِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ أَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ". وَبِقُولِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمَشْهُورِ فِي بَنِي تَغْلِبَ. فَأَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا لَهُ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعَرَبِ مُصَرِّحٌ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا نَصَارَى، وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ فِي الْأُمِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَذِبِهِ، وَمِمَّنْ طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ جَمَعَ أُصُولَ الْبِدَعِ: فَكَانَ قَدَرِيًّا جَهْمِيًّا مُعْتَزَلِيًّا رَافِضِيًّا، وَقَدْ سُئِلَ الرَّبِيعُ حِينَ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا: مَا حَمَلَ الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنْ رَوَى عَنْهُ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ كَانَ يُبَرِّئُهُ مِنَ الْكَذِبِ وَيَرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ فِي الْحَدِيثِ ; أَيْ وَالْعِبْرَةُ فِي الْحَدِيثِ بِالصِّدْقِ لَا بِالْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُ بِالْبِدْعَةِ وَبِالْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حَدَاثَتِهِ وَيَحْفَظُ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مِصْرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَخَذَ يُصَنِّفُ الْكُتُبَ احْتَاجَ إِلَى الْأَخْبَارِ، وَلَمْ تَكُنْ كُتُبُهُ مَعَهُ، فَأَكْثَرُ مَا أَوْدَعَ الْكُتُبَ مِنْ حِفْظِهِ، وَرُبَّمَا كَنَّى عَنِ اسْمِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَحْتَجُّ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى مِثْلَ الشَّافِعِيِّ، قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: وَفِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يَحْتَجُّ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى؟ . انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْأَثَرِ، عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ رَأَيُ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ فِيهِ الْجُمْهُورُ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ صَحَّ. (3) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ الذَّبِيحَةِ وَفِيهِ مَنْ يَجُوزُ ذَبْحُهُ (مِنَ الْأُمِّ ص 205 و206 ج2) : وَذَبْحُ كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنِ امْرَأَةٍ حَائِضٍ، وَصَبِيٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَبْحِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَكُلٌّ حَلَالُ الذَّبِيحَةُ، غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَ نُسُكِهِ ; أَيْ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ أَوْ غَيْرِهَا: احْضَرِي ذَبْحَ نَسِيكَتِكِ ; فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ ذَبَحَ النَّسِيكَةَ غَيْرُ مَالِكِهَا أَجْزَأَتْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِهِ وَنَحَرَ بَعْضَهُ غَيْرُهُ، وَأَهْدَى هَدْيًا فَإِنَّمَا نَحَرَهُ مَنْ أَهْدَاهُ مَعَهُ، غَيْرَ أَنِّي

أَكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَيْئًا مِنَ النِّسَائِكَ مُشْرِكٌ ; لِأَنْ يَكُونَ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللهِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ ذَبَحَهَا مُشْرِكٌ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَجْزَأَتْ، مَعَ كَرَاهَتِي لِمَا وَصَفْتُ. " وَنِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَطَقْنَ الذَّبْحَ كَرِجَالِهِمْ، وَمَا ذَبَحَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ أَوْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانُوا يُحْرَمُونَ مِنْهُ، شَحْمًا أَوْ حَوَايَا - أَيْ مَا يَحْوِي الطَّعَامَ كَالْأَمْعَاءِ - أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ فَلَا بَأْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْلِهِ ; لِأَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذْ أَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ذَبَائِحَهُمْ ; فَكُلُّ مَا ذَبَحُوا لَنَا فَفِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُحَرِّمُونَ، فَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا إِذَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ بِتَحْرِيمِهِمْ لَحُرِّمَ عَلَيْنَا إِذَا ذَبَحُوهُ لَنَا، وَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَإِنَّمَا أُحِلَّ لَنَا طَعَامُهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَسْتَحِلُّونَ، كَانُوا قَدْ يَسْتَحِلُّونَ مُحَرَّمًا عَلَيْنَا يُعِدُّونَهُ لَهُمْ طَعَامًا، فَكَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ ذَهَبْنَا هَذَا الْمَذْهَبَ أَنَّ نَأْكُلَهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمُ الْحَلَّالِ لَهُمْ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، مَعْنَاهَا مَا وَصَفْنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ ". هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ، فَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِمْ فِي الْآيَةِ، ذَبَائِحُهُمْ خَاصَّةً لَا عُمُومَ الطَّعَامِ، فَمَا ذَبَحُوهُ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَنَا كَذَبَائِحِنَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَمَا حَلَّ لَهُمْ، وَمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا لَا يَحِلُّ إِذَا كَانَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ، فِي هَذَا لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخَذَتْ بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعَدَّتْهَا كَالِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا، إِلَّا الْمَيْتَةَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ; فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ لِذَاتِهِمَا لَا لِمَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ أَوْ بِمَا يُذْكَرُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَدْ شَرَحَ كَوْنَ مَا أُحِلَّ لَنَا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، لَا يَحْرُمُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (ص 209 و210 مِنْهُ) وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْبَعَهُ فِي أُصُولِ شَرْعِهِ وَفُرُوعِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ صَارَ حِلًّا لَهُمْ بِشَرْعِهِ وَحِلًّا لَنَا بِالْأَوْلَى. (مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ: " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، دُونَ الْمَجُوسِ، وَالصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ، يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَصْلٍ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ، فَيَحْرُمُونَ كَالْمَجُوسِ، وَإِنْ كَانُوا يُجَامِعُونَهُمْ - أَيْ يُوَافِقُونَهُمْ - عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ، فَلَا يَحْرُمُونَ، فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالْمُسْلِمَةِ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ. انْتَهَى مِنْ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ (ص 282 ج 3 عَلَى هَامِشِ الْأُمِّ) وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمَجُوسَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا فِي نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.

(مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ) قَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللهِ بْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُقْنِعِ ص 531 ج2) مَا نَصُّهُ: " وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ ; أَحَدُهَا: أَهْلِيَّةُ الذَّابِحِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا ; فَتُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَعَنْهُ لَا تُبَاحُ ذَبِيحَةُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَلَا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرُ كِتَابِيٍّ ". وَذَكَرَ فِي حَاشِيَتِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ إِبَاحَةُ ذَبِيحَةِ بَنِي تَغْلِبَ، قَالَ: " وَأَمَّا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرُ كِتَابِيٍّ فَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا تُبَاحُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالثَّانِيَةُ لَا تُبَاحُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَالتَّحْرِيمَ، فَغُلِّبَ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ - أَيِ الصَّيْدَ - مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ ". انْتَهَى. أَقُولُ: " وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ، هُوَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَبِ، وَكَانَ اللَّائِقُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَشْرَفَ الْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ أَنْ يَجْعَلُوا ذَبْحَ الصَّغِيرِ كَذَبْحِ أَشْرَفِ وَالِدَيْهِ، وَأَمَّا الْبَالِغُ فَلَا وَجْهَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَبَوَيْهِ ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كِتَابِيًّا كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ (فِي ص 537) مِنْهُ: " وَإِذَا ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ; كَذِي الظُّفْرِ - أَيْ عِنْدَ الْيَهُودِ - لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا، وَإِنْ ذَبَحَ حَيَوَانًا غَيْرَهُ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْنَا الشُّحُومُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ شَحْمُ الثَّرْبِ، أَيِ الْكِرْشِ وَالْكُلْيَتَيْنِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَحَكَاهُ عَنِ الْخَرَقِيِّ فِي كَلَامٍ مُفْرَدٍ، وَاخْتَارَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَالْقَاضِي تَحْرِيمَهُ، وَإِنْ ذَبَحَ لِعِيدِهِ أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مَا يُعَظِّمُونَهُ، لَمْ يَحْرُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ " انْتَهَى، أَيْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِيهِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. وَقَالَ (فِي ص 535 مِنْهُ) : الرَّابِعُ، أَيْ مِنْ شُرُوطِ التَّذْكِيَةِ: أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، لَا يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا، إِلَّا الْأَخْرَسَ فَإِنَّهُ يُومِئُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لَمْ تُبَحْ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا أُبِيحَتْ، وَعَنْهُ تُبَاحُ فِي الْحَالَيْنِ، وَعَنْهُ لَا تُبَاحُ فِيهِمَا. قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ: " قَوْلُهُ فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا. . . إِلَخْ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا، وَذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ إِجْمَاعًا فِي سُقُوطِهَا سَهْوًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ، وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ تُبَاحُ فِي الْحَالَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ؟ فَقَالَ: :

اسْمُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ. رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى الْأَحْوَصُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. لَكِنَّ الْأَحْوَصَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تُبَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (6: 121) وَجَوَابُهُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا تَرَكَ اسْمَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (6: 121) وَالْأَكْلُ مِمَّا نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ انْتَهَى. أَقُولُ: مِنْ عَجَائِبِ انْتِصَارِ الْإِنْسَانِ لِمَا يَخْتَارُهُ جَعْلُ الْفِسْقِ هُنَا بِمَعْنَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَالظَّاهِرُ فِيهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفِي الْبَابِ مِنْ كِتَابِ بُلُوغِ الْمَرَامِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، مَا نَصُّهُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لْيَأْكُلْ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ رَاوٍ فِي حِفْظِهِ ضَعْفٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الْحِفْظِ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ بِلَفْظِ: ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اللهَ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَتْ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلَ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ مِنْ كِتَابِ (إِرْشَادُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ) الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي الذَّبِيحَةِ الَّتِي أَفْتَى بِهَا مُفْتِي مِصْرَ، قَالُوا: " ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حِلِّ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ، أَنْ تُذَكَّى وَفِيهَا حَيَاةٌ وَإِنْ قَلَّتْ كَالْمَرِيضَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسَّيِّدَيْنِ: الْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ، وَإِبْرَاهِيمَ وَطَاوُسٍ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ; فَيَحِلُّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ عَلَى رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تُشْتَرَطُ مِنْ مُسْلِمٍ لَا مِنْ كِتَابِيٍّ، وَعَنْهُ عَكْسُهَا، ثُمَّ أَيَّدُوا هَذِهِ الْخُلَاصَةَ بِنَقْلٍ مِنْ كِتَابِ (دَقَائِقِ أُولِي النُّهَى عَلَى مَتْنِ الْمُنْتَهَى) وَمِنْ غَيْرِهِ. (صَفْوَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُخْتَارُ مِنْهُ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) مَنْ تَأَمَّلَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَمَا تَخَلَّلَهُ وَسَبَقَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا، فِي دِينِنَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَا الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ

وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْكُلُهُ أَوْ يَشْرَبُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ كُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَهَا، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ اسْتَبَاحَهُ النَّصَارَى بِإِبَاحَةِ مُقَدَّسِهِمْ بُولِسْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَكُلُّ مَا أَكَلْنَاهُ مِمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ نَكُونُ مُوَافِقِينَ فِيهِ لِقَوْلِ بَعْضِ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ شَدَّدَ بَعْضُهُمْ وَخَفَّفَ بَعْضٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَشَدُّ الْفُقَهَاءِ تَشْدِيدًا فِي ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، الشَّافِعِيَّةُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ رَأَى أَنَّ أَظْهَرَهَا قَوْلُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَلَمْ يُخَصِّصُوهُ بِذَبَائِحِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَخْصِيصِهِ بِحُبُوبِهِمْ ; كَالشِّيعَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفْتِي مِصْرَ فِي الْفَتْوَى التِّرِنْسِفَالِيَّةِ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي غَيْرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، إِلَّا الثِّقَةَ بِأَنْ يَكُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ غَيْرَ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ نَسَخَتْ شَرِيعَتُنَا كُتُبَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرَهُ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (7: 157) وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُمْ مُوَافِقًا لِشَرِيعَتِنَا سَوَاءٌ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ غَيْرَ مُخَاطَبِينَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا كَانَ لِإِبَاحَةِ طَعَامِهِمْ فَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، مَا نَصُّهُ: " وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، مِنْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ شَرْعِهِمْ وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالَ: مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرٌ حَقٌّ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَتَعْمَلُ فِيهِ التَّذْكِيَةُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْحَقُّ أَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ فِي وَقْتِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بَاطِلٌ ; إِذْ كَانَتْ نَاسِخَةً لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ أَلَّا يُرَاعَى اعْتِقَادُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ فِي تَحْلِيلِ الذَّبَائِحِ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا اعْتِقَادَ شَرِيعَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِكَوْنِ اعْتِقَادِ شَرِيعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخًا، وَاعْتِقَادُ شَرِيعَتِنَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ خَصَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَذَبَائِحُهُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ، جَائِزَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا ارْتَفَعَ حُكْمُ آيَةِ التَّحْلِيلِ جُمْلَةً، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللهٌ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمُرَادُهُ بِذَبَائِحِهِمْ مُذَكَّاهُمْ كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّذْكِيَةِ وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِقَصْدِ أَكْلِهِ، وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَلِلَّهِ دَرُّ مَالِكٍ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُخَالِفِيهِمْ دَلِيلًا، وَأَلْيَقُ بِيُسْرِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ عُسْرًا لَا يُسْرًا وَحَرَجًا لَا سِعَةً، وَإِنْ هُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، فَمَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ، وَمَنْ شَدَّدَ عَلَى الْأُمَّةِ حَثَوْنَا التُّرَابَ فِي فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

(وَاقِعَةٌ فِي التَّشْدِيدِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَدْ عَلِمَ الْقُرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هَبُّوا مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ لِمُعَارَضَةِ فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي حِلِّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ أَطْلَعَنَا بَعْضُ تَلَامِيذِنَا الْقُوقَاسِيِّينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى كِتَابٍ لِبَعْضِ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ فِي الْقُوقَاسِ، يُشَنِّعُ فِيهِ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَعَلَى الْمَنَارِ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمَا بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا مِثْلُهُ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ حِلِّ طَعَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ مِنْ زُهَاءِ قَرْنٍ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ تَلَافَاهَا عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ، وَقَدْ نَشَرْنَاهَا (فِي ص 786 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ نَقْلًا عَنِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَارِيخِ الْجَبَرْتِيِّ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ 1236) قَالَ: " وَفِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ الشَّيْخَ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيرَ بِبَاشَا الْمَالِكِيَّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَرَّرَ فِي دَرْسِ الْفِقْهِ أَنَّ ذَبِيحَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرُوا وَيُبَدِّلُوا فِي كُتُبِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ فُقَهَاءُ الثَّغْرِ ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ وَاسْتَغْرَبُوهُ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا مَعَ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ وَعَارَضُوهُ، فَقَالَ: أَنَا لَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ بِفَهْمِي وَعِلْمِي، وَإِنَّمَا تَلَقَّيْتُ ذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْمَلِيلِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، وَهُوَ رَجُلٌ عَالِمٌ مُتَوَرِّعٌ وَمَوْثُوقٌ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ بِمِصْرَ يُعْلِمُهُ بِالْوَاقِعِ، فَأَلَّفَ رِسَالَةً فِي خُصُوصِ ذَلِكَ وَأَطْنَبَ فِيهَا، فَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمَشَايِخِ وَالْخِلَافَاتِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاعْتَمَدَ قَوْلَ الْإِمَامِ الطَّرْطُوشِيِّ فِي الْمَنْعِ وَعَدَمِ الْحِلِّ، وَحَشَا الرِّسَالَةَ بِالْحَطِّ عَلَى عُلَمَاءِ الْوَقْتِ وَحُكَّامِهِ، وَهِيَ نَحْوُ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ كُرَّاسَةً - كَذَا - وَأَرْسَلَهَا إِلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَالْإِنْكَارُ، خُصُوصًا وَأَهْلُ الْوَقْتِ أَكْثَرُهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْمِلَّةِ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْبَاشَا، فَكَتَبَ مَرْسُومًا إِلَى كَتُخْدَا بِيكْ بِمِصْرَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ مَشَايِخَ الْوَقْتِ لِتَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالرِّسَالَةِ الْمُصَنَّفَةِ، فَأَحْضَرَ كَتُخْدَا بِيكِ الْمَشَايِخَ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ، فَلَطَّفَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَرُوسِيُّ الْعِبَارَةَ، وَقَالَ: " الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَلِيلِيُّ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّى عَنْ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ، لَا يُنْكَرُ عِلْمُهُ وَفَضْلُهُ، وَهُوَ مُنْعَزِلٌ عَنْ خِلْطَةِ النَّاسِ، إِلَّا إِنَّهُ حَادُّ الْمِزَاجِ، وَبِعَقْلِهِ بَعْضُ خَلَلٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ نَجْتَمِعَ بِهِ وَنَتَذَاكَرَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِكُمْ، وَنُنْهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْكُمْ ". فَاجْتَمَعُوا فِي ثَانِي يَوْمٍ وَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّيْخِ عَلِيٍّ يَدْعُونَهُ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَأَبَى عَنِ الْحُضُورِ وَأَرْسَلَ الْجَوَابَ مَعَ شَخْصَيْنِ مِنْ مُجَاوِرِي الْمَغَارِبَةِ، يَقُولَانِ: إِنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَعَ الْغَوْغَاءِ، بَلْ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يَتَنَاظَرُ فِيهِ مَعَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَمِيرِ بِحَضْرَةِ الشَّيْخِ حَسَنٍ الْقُوَيْسِنِيِّ وَالشَّيْخِ حَسَنٍ الْعَطَّارِ فَقَطْ ; لِأَنَّ ابْنَ الْأَمِيرِ يُنَاقِشُهُ وَيَشُنُّ عَلَيْهِ الْغَارَةَ، فَلَمَّا قَالَا ذَلِكَ الْقَوْلَ تَغَيَّرَ ابْنُ الْأَمِيرِ وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ، وَتَشَاتَمَ بَعْضُ مَنْ بِالْمَجْلِسِ مَعَ الرُّسُلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرُوا بِحَبْسِهِمَا فِي بَيْتِ الْأَغَا، وَأَمَرُوا الْأَغَا بِالذَّهَابِ إِلَى بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ وَإِحْضَارِهِ بِالْمَجْلِسِ وَلَوْ قَهْرًا عَنْهُ، فَرَكِبَ

6

الْأَغَا وَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَذْكُورِ فَوَجَدَهُ قَدْ تَغَيَّبَ، فَأَخْرَجَ زَوْجَتَهُ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الْبَيْتِ وَسَمَّرَ الْبَيْتَ، فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِ بَعْضِ الْجِيرَانِ. ثُمَّ كَتَبُوا عَرَضًا مُحَضَّرًا وَذَكَرُوا فِيهِ بِأَنَّ الشَّيْخَ عَلِيًّا عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَبَى عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُنَاظَرَةَ مَعَهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَهَرَبَ وَاخْتَفَى ; لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ مَا اخْتَفَى وَلَا هَرَبَ، وَالرَّأْيُ لِحَضْرَةِ الْبَاشَا فِيهِ إِذَا ظَهَرَ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا السَّكَنْدَرِيِّ - كَذَا - وَتَمَّمُوا الْعَرْضَ وَأَمْضَوْهُ بِالْخُتُومِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى الْبَاشَا، وَبَعْدَ أَيَّامٍ أَطْلَقُوا الشَّخْصَيْنِ مِنْ حَبْسِ الْأَغَا وَرَفَعُوا الْخَتْمَ عَنْ بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ، وَرَجَعَ أَهْلُهُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ الْبَاشَا إِلَى مِصْرَ فِي أَوَائِلِ الشَّهْرِ وَرَسَمَ بِنَفْيِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا إِلَى بَنِي غَازِي، وَلَمْ يَظْهَرِ الشَّيْخُ مِنِ اخْتِفَائِهِ " انْتَهَى. (اسْتِدْرَاكٌ فِي حِكْمَةِ الذَّبْحِ وَتَحْرِيمِ الدَّمِ) قَالَ لَنَا أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الدَّمِ فِي الْمَنَارِ: إِنَّ تَجْرِبَةَ حَقْنِ الْإِنْسَانِ بِدَمِ الْحَيَوَانِ لَمْ تَنْجَحْ، فَهُوَ ضَارٌّ، وَإِنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ أَوْ نَحْرَهُ أَنْفَعُ ; لِأَنَّهُ يَنْهَرُ الدَّمَ الضَّارَّ، وَإِنَّ الْمَوَادَّ الْمَيِّتَةَ فِي الدَّمِ لَيْسَتْ عَفِنَةً، بَلْ سَامَّةً. انْتَهَى. قُلْتُ: مُرَادِي بِعَفِنَةٍ: الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لَا الطِّبِّيِّ أَيْ فَاسِدَةٌ ضَارَّةٌ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 6 وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

قَالَ الرَّازِّيُّ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ آيَةِ الْوُضُوءِ بِمَا قَبْلَهَا: " اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - افْتَتَحَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ طَلَبٌ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَفُوا بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهَنَا، الْعَهْدُ نَوْعَانِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْكَ، وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَّا، فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ تُقَدِّمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْكَرَمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: لَذَّاتِ الْمَطْعَمِ، وَلَذَّاتِ الْمَنْكَحِ، فَاسْتَقْصَى، سُبْحَانَهُ، فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَطْعُومِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَنْكُوحِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ بَيَانَ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَنْكُوحِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وَفَّيْتُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيمَا يُطْلَبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، الصَّلَاةُ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لَا جَرَمَ بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِذِكْرِ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ " (لَعَلَّ الْأَصْلَ فَرَائِضُ الْوُضُوءِ) . أَقُولُ: لَوْ جَعَلَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الِاتِّصَالِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مَعًا - وَقَدْ جَمَعْنَاهُمَا - لَكَانَ أَظْهَرَ، فَإِنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ يُذَكِّرُنَا بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ آيَةِ الْوُضُوءِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْحَدَثَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا سَبَبُ الطَّهَارَتَيْنِ هُمَا أَثَرُ الطَّعَامِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْلَا الطَّعَامُ لَمَا كَانَ الْغَائِطُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ، وَلَوْلَا النِّكَاحُ لَمَا كَانَتْ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ، وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ آيَةِ الْمِيثَاقِ وَمَا قَبْلَهَا فَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَنَا طَائِفَةً مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، ذَكَّرَنَا بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ عَلَيْنَا، وَمَا الْتَزَمْنَاهُ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِقَبُولِ دِينِهِ الْحَقِّ ; لِنَقُومَ بِهَا مُخْلِصِينَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ هُنَا إِرَادَتُهُ، أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (16: 98) أَيْ إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ، عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مُرِيدَ الصَّلَاةِ يَقُومُ إِلَيْهَا مِنْ قُعُودٍ أَوْ نَوْمٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْقِيَامِ إِلَى الشَّيْءِ عَلَى الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْقِيَامَ بِإِرَادَتِهِ حَاوَلَ أَنْ يُدْخِلَ فِي عُمُومِ مَنْطُوقِهِ صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا لِعُذْرٍ. وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ عُمُومُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ تَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَعَلَيْهِ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَلَكِنْ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُحْدِثًا، فَهُمْ يُقَيِّدُونَ الْقِيَامَ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِالطَّهَارَةِ بِالتَّلَبُّسِ بِالْحَدَثِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. . . إِلَخْ. وَالْعُمْدَةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّقْيِيدِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ

اللهِ، إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ: " عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ ". وَرُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مُتَّفِقَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ ". وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَهْدِهِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسَهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ " وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوقَظُونَ لِلصَّلَاةِ حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ لِأَحَدِهِمْ غَطِيطًا، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ". وَرَوَى أَحْمَدُ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَوْلَا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ تَعْلِيقًا، وَرَوَى نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ غَالِبًا، وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ أَمَامَ النَّاسِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فَنُسِخَ يَوْمئِذٍ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ لِنُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَالْمَنْقُولُ خِلَافُهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَزِيمَةٌ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ، وَآخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْحَدَثَيْنِ وَوُجُوبَ التَّيَمُّمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بَعْدَهُمَا، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَجَدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِهِ عَقِبَهُمَا، وَلَوْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمَا كَانَ لِهَذَا مَعْنًى، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْوَى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُحْدِثِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ الْغَسْلُ، بِالْفَتْحِ: إِسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِزَالَةُ مَا عَلَى الشَّيْءِ مِنْ وَسَخٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُرَادُ تَنْظِيفُهُ مِنْهُ، وَالْوُجُوهُ: جَمْعُ وَجْهٍ، وَحَدُّهُ مِنْ أَعْلَى تَسْطِيحِ الْجَبْهَةِ إِلَى أَسْفَلِ اللَّحْيَيْنِ طُولًا، وَمِنْ شَحْمَةِ الْأُذُنِ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ عَرْضًا، وَالْأَيْدِي: جَمْعُ يَدٍ، وَهِيَ الْجَارِحَةُ الَّتِي تَبْطِشُ وَتَعْمَلُ بِهَا، وَحَدُّهَا فِي الْوُضُوءِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَهُوَ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَبِالْعَكْسِ) وَأَعْلَى الذِّرَاعِ وَأَسْفَلِ الْعَضُدِ. فَالْفَرْضُ الْأَوَّلُ مِنْ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْوَجْهِ، وَهَلْ يُعَدُّ بَاطِنُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ مِنْهُ ;

فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالِاسْتِنْثَارِ، أَمْ لَيْسَا مِنْهُ، فَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَالْتِزَامَهُ إِيَّاهَا، عَلَى النَّدْبِ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ، إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ وَالْتِزَامِهِ، وَهُوَ سَبَبُ الْتِزَامِ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ، وَالْمَضْمَضَةُ: إِدَارَةُ الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهُ فِي الْفَمِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ: إِدْخَالُ الْمَاءِ فِي الْأَنْفِ، وَالِاسْتِنْثَارُ: إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِالنَّفَسِ، وَلَيْسَ لِلْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ مَا ذُكِرَ دَلِيلٌ بِهِ فِي مُعَارَضَةِ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ. قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: " وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ مَعَ صِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ، إِلَّا بِكَوْنِهِ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَهُ لَا يُعِيدُ، وَهَذَا دَلِيلٌ فِقْهِيٌّ ; فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، إِلَّا عَنْ عَطَاءٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى " انْتَهَى. أَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَصِحُّ جَعْلُ تَرْكِهِمْ حُجَّةً فِي هَذَا الْبَابِ، هُمُ الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَرْكُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى يُبْحَثَ فِي إِعَادَتِهِمَا، وَحَدِيثُ (الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ) . . . إِلَخِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، ضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي كَلَامِهِمْ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ، وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ جَعْلُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ أَظْهَرَ. وَالْفَرْضُ الثَّانِي مِنْ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ، وَهَلِ الْمَرْفِقَانِ مِمَّا يَجِبُ غَسْلُهُ، أَمْ هُوَ مَنْدُوبٌ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَنَقَلَهُ عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَقَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا زُفَرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ، فَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ جَعَلَ " إِلَى " فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى " مَعَ " وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ جَعَلَهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ غَايَةٍ حُدَّتْ بِـ (إِلَى) فَقَدْ تَحْتَمِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دُخُولَ الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ، وَخُرُوجَهَا مِنْهُ، قَالَ وَإِذَا احْتَمَلَ الْكَلَامُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الْقَضَاءُ بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهِ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ فِيمَا بَيَّنَ وَحَكَمَ، وَلَا حُكْمَ بِأَنَّ الْمَرَافِقَ دَاخِلَةٌ فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَنَا مِمَّنْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِحُكْمِهِ. انْتَهَى ". وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهَ، حَقَّقُوا أَنَّ مَا بَعْدَ (إِلَى) إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ، وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ الْمَرَافِقُ فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ ; لِأَنَّهَا مِنَ الْيَدِ، وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِيمَا يَجِبُ صَوْمُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (2: 187) لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ النَّهَارِ الَّذِي يَجِبُ صَوْمُهُ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَنَازَعَ آخَرُونَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَرْفِقَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ تَرَكَ غَسْلَهُمَا، وَالِالْتِزَامُ الْمُطَّرِدُ آيَةُ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ

أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ ; فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ " وَالْمُرَادُ بِإِطَالَةِ الْغُرَّةِ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ غَسْلُ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ، وَجُزْءٍ مِنَ الْعَضُدَيْنِ، وَجُزْءٍ مِنَ السَّاقَيْنِ مَعَ الرِّجْلَيْنِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِغُرَّةِ الْفَرَسِ وَتَحْجِيلِهِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ فِي جَبْهَتِهِ وَقَوَائِمِهِ، أَوِ التَّشْبِيهُ لِلنُّورِ الَّذِي يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: " إِنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَزِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَسْلِ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ ". الْفَرْضُ الثَّالِثُ: الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الرَّأْسُ مَعْرُوفٌ، وَيُمْسَحُ مَا عَدَا الْوَجْهَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْوَجْهَ شُرِعَ غَسْلُهُ لِسُهُولَتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ الْمُبَيَّنَةِ فِي السُّنَّةِ، أَنْ يَمْسَحَهُ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ إِذَا كَانَ مَكْشُوفًا، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ وَنَحْوُهَا يَمْسَحُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ، وَيُتِمُّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضُّمَرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، مَا عَدَا أَبَا دَاوُدَ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: مَسَحَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ، وَالْخِمَارُ: الثَّوْبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ النَّصِيفُ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ، وَفَسَّرَهُ النَّوَوِيُّ هُنَا بِالْعِمَامَةِ ; أَيْ لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الرَّأْسَ، وَخُمُرُ النِّسَاءِ مَعْرُوفَةٌ، وَرُوِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ أَوِ الْخِمَارِ أَوِ الْعِصَابَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَثَوْبَانِ وَأَبُو أُمَامَةَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو خُزَيْمَةَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمَسْحَ كَانَ يَكُونُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سَاتِرٍ وَحْدَهُ، وَالْأَخْذُ بِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَسٌ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ بِجَوَازِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ; مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِهِ أَقُولُ، وَقَدْ صَحَّ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لِلْمَسْحِ عَلَيْهَا لُبْسُهَا عَلَى طُهْرٍ، وَلَا التَّوْقِيتَ ; إِذْ لَمْ يُرْوَ فِيهِ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ قَاسَ الْمَسْحَ عَلَيْهَا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، فَاشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ وَوَقَّتَ، وَالْجُمْهُورُ الَّذِينَ لَمْ يُجِيزُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَحْدَهَا، قَالَ مَنْ بَلَغَتْهُ الْأَخْبَارُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَعَ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ ; كَالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ النَّاصِيَةِ.

وَمِنْ مَانِعِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِهَا قَالَ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْإِطْلَاقُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ ذِكْرُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَقَدْ كَانَ نَزْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَرِجًا وَعَسِرًا، فَفِي مَسْحِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَعَ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَعِلَّتِهِ الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَإِنَّ الْعُضْوَ الْمَسْتُورَ يَبْقَى نَظِيفًا، وَلَا حَرَجَ الْآنَ فِي رَفْعِ الْعَمَائِمِ فِي الْحِجَازِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَبِلَادِ التُّرْكِ عَلَى الرَّأْسِ لِأَجْلِ مَسْحِهِ مِنْ تَحْتِهَا فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّهَا تُوضَعُ عَلَى قَلَانِسَ تَرْفَعُ مَعَهَا بِسُهُولَةٍ، وَلَكِنْ يَعْسُرُ مَسْحُهُ كُلُّهُ بِالْيَدَيْنِ كِلْتَيْهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْهِنْدِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ يَحْتَنِكُونَ بِالْعِمَامَةِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ السَّلَفُ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ عَمَائِمِهِمْ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُظْهِرُوا نَاصِيَتَهُمْ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَيَمْسَحُوا بِهَا، وَيُتَمِّمُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ; لِيَكُونَ وُضُوءُهُمْ صَحِيحًا عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَمَنْ مَسَحَ شَيْئًا أَوْ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَسَحَ ذَلِكَ الشَّيْءَ، أَوْ بِهِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: وَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى صَدْرِي، لَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً، أَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأَصْلَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِدُونِ سَاتِرٍ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فَرْضِيَّتِهِ تَنْظِيفُهُ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ، وَهُوَ الْمُتَيَسِّرُ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " إِذَا مَسَحَ الرَّجُلُ بِأَيِّ رَأْسِهِ شَاءَ، إِنْ كَانَ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَبِأَيِّ شِعْرٍ شَاءَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْضِ أُصْبُعٍ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَمْسَحُ لَهُ - أَجْزَأَهُ ذَلِكَ " انْتَهَى. وَبَيَّنَ فِيهِ أَنْ أَظْهَرَ مَعْنَيَيِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَنَّ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَلَكِنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ; فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَحَدِيثًا مُرْسَلًا فِي مَعْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي، وَقَالَ: " الْجُزْءُ الْمَمْسُوحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهِ ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: " يَجْزِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَيَمْسَحُ الْمُقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ وَالْجِبَائِيُّ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " يَجِبُ مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ " وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْدِيدُ عَنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: إِنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ (الْبَاءُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِرُءُوسِكُمْ هَلْ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ ; فَيُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَمْ زَائِدَةٌ ; فَيَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ، أَمْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَاهَا؟ وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَ إِمَامِهِمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْمَسْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَهِيَ تَسْتَوْعِبُ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فِي الْغَالِبِ ; فَوَجَبَ تَعَيُّنُهُ، وَهَذَا أَشَدُّ الْأَقْوَالِ تَكَلُّفًا، وَلَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمَسْحُ بِمَجْمُوعِ الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، رُبُعَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ

أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَيْسَتِ الْيَدُ رُبُعَ الرَّأْسِ بِالتَّحْدِيدِ، وَقَدْ عَبَّرُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: غَالِبًا. وَلَوْ كَانَ مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْرَ الْيَدِ لَعَبَّرَ بِهِ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ نَصًّا فِي مَسْحِ جَمِيعِ النَّاصِيَةِ، فَالْخِلَافُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ يَجْرِي فِي مَسْحِ النَّاصِيَةِ ; فَالِاسْتِدْلَالُ بِمَسْحِهَا مُصَادَرَةٌ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِ الْبَاءِ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: اسْتِقْلَالًا، وَإِنَّمَا تُفِيدُهَا مَعَ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْبَاءِ الْإِلْصَاقُ، لَا التَّبْعِيضُ أَوِ الْآلَةُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ مِنْ: مَسَحَ بِكَذَا، وَمَسَحَ كَذَا ; فَهُوَ يَفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ: مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ: أَنَّهُ أَزَالَهُ بِإِمْرَارِ يَدِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِالطِّيبِ أَوِ الدُّهْنِ: أَنَّهُ أَمَرَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ مَسْحِ الشَّيْءِ بِالْمَاءِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهِ مَاءً قَلِيلًا لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ غُبَارٍ أَوْ أَذًى، وَمِنْ مَسْحِ يَدِهِ بِالْمِنْدِيلِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهَا الْمَنْدِيلَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهَا مَنْ بَلَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَسَحَ بِعُنُقِ الْفَرَسِ أَوْ سَاقِهِ أَوْ بِالرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ: أَنَّهُ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِمَجْمُوعِ الْكَفِّ الْمَاسِحِ، وَلَا بِكُلِّ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ أَوِ الْعُنُقِ أَوِ السَّاقِ أَوِ الرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ الْمَمْسُوحِ، فَهَذَا مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ مِمَّا ذُكِرَ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (38: 33) عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ، أَنَّ الْمَسْحَ بِالْيَدِ لَا بِالسَّيْفِ، وَمِنْ مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ وَالْأَقْرَبُ: أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْمَسْحِ، مَعَ مَفْهُومِ عِبَارَةِ الْآيَةِ، قِيلَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ مُجْمَلَةُ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَصَرَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَجَعَلَ الْمُطْلَقَ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، فَأَيُّهُمَا وَقَعَ حَصَلَ بِهِ الِامْتِثَالُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَكَانَ الصَّحِيحُ فِي بَيَانِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ يَكُونُ عَلَى الرَّأْسِ كُلِّهِ مَكْشُوفًا، وَعَلَى بَعْضِهِ مَعَ التَّكْمِيلِ عَلَى الْعِمَامَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ، وَلَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ بِمَسْحِ الْبَعْضِ، إِلَّا حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَطَرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّ أَبَا مَعْقِلٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: " إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ، أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ كَمَّلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَهَذَا مَقْصُودُ أَنَسٍ بِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْقُضْ عِمَامَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ مَسْحَ الشَّعْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَنْفِ التَّكْمِيلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَسُكُوتُ أَنَسٍ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ " انْتَهَى.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ الْمُرْسَلِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْبَعْضِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرُّبُعِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأَسِهِ، أَوْ قَالَ نَاصِيَتَهُ، وَهَذَا بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْخِلَافِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَقَدْ مَنَعَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الْمَكِّيِّ الْفَقِيهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً، وَضَعَّفَهُ أُخْرَى، كَمَا ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الرُّبُعِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ يَكْفِي فِي الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْعُضْوِ الْمَاسِحِ مُلْصَقًا بِالْمَمْسُوحِ، فَوَضْعُ الْيَدِ أَوِ الْأُصْبُعِ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى مَسْحًا، وَلَا يَكْفِي مَسْحُ الشَّعْرِ الْخَارِجِ عَنْ مُحَاذَاةِ الرَّأْسِ كَالضَّفِيرَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَمْسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ إِذَا كَانَ مَكْشُوفًا، وَبَعْضَهُ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا، وَيُكْمِلُ عَلَى السَّاتِرِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى السَّاتِرِ وَحْدَهُ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَمْسَحَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. الْفَرْضُ الرَّابِعُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ مَسْحِهِمَا، أَوْ مَسْحُهُمَا بَارِزَتَيْنِ أَوْ مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بِالْفَتْحِ ; أَيْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ: ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ، بِالْجَرِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الرَّأْسِ ; أَيْ وَامْسَحُوا بِأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا ; فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْغَسْلُ وَحْدَهُ، وَالشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ أَنَّهُ الْمَسْحُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ لِلْحَقِّ، مِنَ الزَّيْدِيَّةِ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَسَتَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ جَرِيرٍ الْجَمْعُ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ فَأَرَادُوا الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّعَارُضِ إِذَا أَمْكَنَ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ فَأَجَازُوا الْأَخْذَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ إِلَيْهَا، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، عِنْدَ ذِكْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا، إِلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ الْجَرِّ إِلَيْهَا، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. ،

وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الطَّهَارَةِ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمَسْحَ مَنْسُوخٌ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ عَمَلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقَوْلِيَّةِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: " تَخَلَّفَ عَنَّا، رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، قَالَ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " وَقَدْ يَتَجَاذَبُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّرَفَانِ، فَلِلْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ أَنْ يَقُولُوا إِنِ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَمْسَحُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ عَدَمَ مَسْحِ أَعْقَابِهِمْ، وَذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِسَبَبِ الْمَسْحِ، لَا بِسَبَبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الرِّجْلِ، ذَكَرَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَافِظُ، أَيِ ابْنُ حَجَرٍ: " وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا " وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ: " فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ بِيضٌ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ " فَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِإِجْزَاءِ الْمَسْحِ وَيَحْمِلُ الْإِنْكَارَ عَلَى تَرْكِ التَّعْمِيمِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَرْجَحُ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ: أَيْ مَاءُ الْغَسْلِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ ذَلِكَ " انْتَهَى. وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْمَسْحَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، قَالَ: " اغْسِلُوا الْأَقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: " قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَقَرَآ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَسَمِعَ عَلِيٌّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَرْجُلِكُمْ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ. أَمَّا وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَيَقُولُ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ; فَهَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَمْسَحُ لَمَا مَنَعَ الْمَسْحَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْغَسْلِ إِلَّا لِأَنَّهُ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَى الْقَوْلَ بِالْمَسْحِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ " وَعَنْ أَنَسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَالسُّنَّةُ الْغَسْلُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ سَوْقِ الرِّوَايَاتِ فِي الْقَوْلَيْنِ، مَا نَصُّهُ: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِعُمُومِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ، كَمَا أَمَرَ

بِعُمُومِ مَسْحِ الْوَجْهِ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمَا الْمُتَوَضِّئُ كَانَ مُسْتَحِقًّا اسْمَ مَاسِحٍ غَاسِلٍ ; لِأَنَّ غَسْلَهُمَا إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا أَوْ إِصَابَتُهُمَا بِالْمَاءِ، وَمَسْحُهُمَا إِمْرَارُ الْيَدِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمَا فَاعِلٌ فَهُوَ غَاسِلٌ مَاسِحٌ، وَكَذَلِكَ مِنِ احْتِمَالِ الْمَسْحِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مَسْحٌ بِبَعْضٍ، وَالْآخَرُ مَسْحٌ بِالْجَمِيعِ، وَاخْتَلَفَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ فَنَصَبَهَا بَعْضُهُمْ تَوْجِيهًا مِنْهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْغَسْلُ، وَإِنْكَارًا مِنْهُ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا مَعَ تَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُمُومِ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ، وَخَفَضَهَا بَعْضُهُمْ تَوْجِيهًا مِنْهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْمَسْحُ، وَلَمَّا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: إِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ عُمُومُ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ بِالْمَاءِ كَرِهَ مَنْ كَرِهَ، لِلْمُتَوَضِّئِ الِاجْتِزَاءَ بِإِدْخَالِ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ دُونَ مَسْحِهِمَا بِيَدِهِ، أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ؛ تَوْجِيهًا مِنْهُ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَى مَسْحِ جَمِيعِهِمَا عَامًّا بِالْيَدِ، أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ دُونَ بَعْضِهِمَا مَعَ غَسْلِهِمَا بِالْمَاءِ، وَهَهُنَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ فِي السَّفِينَةِ أَنْ يَغْمِسَ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ غَمْسًا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَخْفِضُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْحِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ وَصَفْنَا مِنْ عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِهِ بِالْمَاءِ، وَخُصُوصِ بَعْضِهِمَا بِهِ، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا بَعْدُ، أَنَّ مُرَادَ اللهِ مِنْ مَسْحِهِمَا الْعُمُومُ، وَكَانَ لِعُمُومِهِمَا بِذَلِكَ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ ; فَبَيِّنٌ صَوَابُ قِرَاءَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي النَّصْبَ فِي الْأَرْجُلِ وَالْخَفْضَ ; لِأَنَّ فِي عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِمَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ: غَسْلُهُمَا، وَفِي إِمْرَارِ الْيَدِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ عَلَيْهِمَا: مَسْحُهُمَا. فَوَجَّهَ صَوَابَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ نَصْبًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى عُمُومِهِمَا بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا، وَوَجَّهَ صَوَابَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ خَفْضًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ مَسْحًا بِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ كِلْتَاهُمَا حَسَنًا صَوَابًا، فَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ خَفْضًا ; لِمَا وَصَفْتُ مِنْ جَمْعِ الْمَسْحِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَالْعَطْفُ بِهِ عَلَى الرُّءُوسِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ أَوْلَى مِنَ الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْأَيْدِي، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ، الْعُمُومُ دُونَ أَنْ يَكُونَ خُصُوصًا، نَظِيرَ قَوْلِكَ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ؟ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَظَاهُرُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ " وَلَوْ كَانَ مَسْحُ بَعْضِ الْقَدَمِ مُجْزِيًا عَنْ عُمُومِهَا بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهَا الْوَيْلُ بِتَرْكِ مَا تُرِكَ مَسْحُهُ مِنْهَا بِالْمَاءِ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضًا ; لِأَنَّ مَنْ أَدَّى فَرْضَ اللهِ عَلَيْهِ فِي مَا لَزِمَهُ غَسْلُهُ مِنْهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَيْلَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَوُجُوبُ الْوَيْلِ لِعَقِبِ تَارِكِ غَسْلِ عَقِبِهِ فِي وُضُوئِهِ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْعُمُومِ بِمَسْحِ جَمِيعِ الْقَدَمِ بِالْمَاءِ وَصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَفَسَادِ مَا خَالَفَهُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَأْيُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، بِأَنْ يَغْسِلَ الْمُتَوَضِّئُ رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَهُمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ ; لِأَجْلِ اسْتِيعَابِ غَسْلِهِمَا عِنَايَةً بِنَظَافَتِهِمَا ;

لِأَنَّ الْوَسَخَ أَكْثَرُ عُرُوضًا لَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَمْسَحْهُ لَا يُؤَثِّرُ الْمَاءُ الَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِمَا التَّأْثِيرَ الْمَطْلُوبَ لِتَنْظِيفِهِمَا ; إِذْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمَا الْجَفَافُ وَالْوَسَخُ، وَبِمَسْحِهِمَا فِي الْغَسْلِ يَسْتَغْنِي بِقَلِيلِ الْمَاءِ عَنْ كَثِيرِهِ فِي تَنْظِيفِهِمَا، وَالِاقْتِصَادُ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ قَلِيلِي الْمَاءِ فِي الْحِجَازِ، وَقَدْ تَنَبَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ قِرَاءَةِ الْجَرِّ: " الْأَرْجُلُ مِنْ بَيْنِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَغْسُولَةِ، تُغْسَلُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ مَظِنَّةً لِلْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَعُطِفَتْ عَلَى الرَّابِعِ الْمَمْسُوحِ، لَا لِتُمْسَحَ، وَلَكِنْ لِيُنَبَّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَجِيءَ بِالْغَايَةِ إِمَاطَةً لِظَنِّ ظَانٍّ يَحْسَبُهَا مَمْسُوحَةً ; لِأَنَّ الْمَسْحَ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ غَايَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. انْتَهَى. وَالصَّوَابُ: لِتُمْسَحَ حِينَ تُغْسَلُ. وَقَدْ أَطْنَبَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَوْجِيهِ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ لِلْقِرَاءَتَيْنِ، وَتَحْوِيلِ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَرَجَّحَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنِ الشِّيعَةِ فَقَالَ: " بَقِيَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا أَقْنَعُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَسْلِ الْأَرْجُلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مِنْ خَارِجٍ مَا يُقَوِّي تَطْبِيقَ أَهْلِ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ كَلَامَهُمْ وَكَلَامَ الْإِمَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ، عَسَى أَنْ يَكُونَ فَرَسَيْ رِهَانٍ، قِيلَ لَهُ: " إِنَّ سُنَّةَ خَيْرِ الْوَرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارَ الْأَئِمَّةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، شَاهِدَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَهِيَ مِنْ طَرِيقِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ فَقَدْ رَوَى الْعَيَّاشِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ الْقَدَمَيْنِ، فَقَالَ: تُغْسَلَانِ غَسْلًا ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: إِذَا نَسِيتَ مَسْحَ رَأْسِكَ حَتَّى غَسَلْتَ رِجْلَيْكَ فَامْسَحْ رَأْسَكَ ثُمَّ اغْسِلْ رِجْلَيْكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْكَلْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ، بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهَا، وَلَا الْحَمْلُ عَلَى التَّقِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ شِيعِيٌّ خَاصٌّ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: جَلَسْتُ أَتَوَضَّأُ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا غَسَلْتُ قَدَمَيَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ خَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ. وَنَقَلَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، فِي نَهْجِ الْبَلَاغَةِ، حِكَايَةَ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ فِيهِ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمُ النَّسْخَ لِيَتَكَلَّفَ لِإِثْبَاتِهِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ لَا وُقُوفَ لَهُ، وَمَا يَزْعُمُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ نِسْبَةِ الْمَسْحِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ مَا رُوِيَ عَنْهُ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الْمَسْحَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ بِطَرِيقِ التَّعَجُّبِ: لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا الْمَسْحَ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا الْغَسْلَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ الَّتِي كَانَتْ قِرَاءَتَهُ، وَلَكِنَّ

الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا الْغَسْلَ، فَفِي كَلَامِهِ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ مُؤَوَّلَةٌ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ بِعَمَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَنِسْبَةُ جَوَازِ الْمَسْحِ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ زُورٌ وَبُهْتَانٌ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، أَوِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَمِثْلُهُ نِسْبَةُ التَّخْيِيرِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ وَالتَّفْسِيرِ الشَّهِيرِ، وَقَدْ نَشَرَ رُوَاةُ الشِّيعَةِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ الْمُخْتَلَقَةَ، وَرَوَاهَا بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يُمَيِّزِ الصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ مِنَ الْأَخْبَارِ بِلَا تَحَقُّقٍ وَلَا سَنَدٍ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَلَعَلَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الْقَائِلَ بِالتَّخْيِيرِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ رُسْتُمَ الشِّيعِيُّ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ لِلْمُسْتَرْشِدِ فِي الْإِمَامَةِ، لَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ غَالِبٍ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا هُوَ الْغَسْلُ فَقَطْ، لَا الْمَسْحُ وَلَا الْجَمْعُ وَلَا التَّخْيِيرُ الَّذِي نَسَبَهُ الشِّيعَةُ إِلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي دَعْوَى الْمَسْحِ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، أَنَّهُ مَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، وَشَرِبَ فَضْلَ طَهُورِهِ قَائِمًا وَقَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. وَهَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي وُضُوءِ الْمُحْدِثِ، لَا فِي مُجَرَّدِ التَّنْظِيفِ بِمَسْحِ الْأَطْرَافِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَسْحِ الْمَغْسُولِ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ، بِرِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحُفَّاظُ: شَاذٌّ مُنْكَرٌ، لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ مَعَ احْتِمَالِ حَمْلِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَوْ مَجَازًا، وَاحْتِمَالِ اشْتِبَاهِ الْقَدَمَيْنِ الْمُتَخَفِّفَيْنِ بِدُونِ الْمُتَخَفِّفَيْنِ مِنْ بَعِيدٍ. وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ الرُّوَاةِ، مَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَهْوَازِيُّ، عَنْ فُضَالَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ هُذَيْلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحَمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، كَيْفَ هُوَ؟ فَوَضَعَ بِكَفَّيْهِ عَلَى الْأَصَابِعِ ثُمَّ مَسَحَهُمَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ هَكَذَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ، أَيُجْزِئُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا بِكَفِّهِ كُلِّهَا. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَوَتْهُ الْإِمَامِيَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَحْوَالِ رُوَاتِهِمْ لَمْ يُعَوِّلْ عَلَى خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نُبْذَةً مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا (النَّفَحَاتُ الْقُدُسِيَّةُ فِي رَدِّ الْإِمَامِيَّةِ) عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ حُكْمَ اللهِ - تَعَالَى - الْمَسْحُ عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْآيَةِ فَالْغَسْلُ يَكْفِي عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْغَسْلَ لَا يَكْفِي الْمَسْحُ عَنْهُ، فَبِالْغَسْلِ يَلْزَمُ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ دُونَ الْمَسْحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَسْلَ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمَسْحِ مِنْ وُصُولِ الْبَلَلِ وَزِيَادَةٍ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ عَبَّرَ

بِأَنَّهُ مَسْحٌ وَزِيَادَةٌ، فَلَا يَرُدُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ مُتَضَادَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ; كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَأَيْضًا كَانَ يَلْزَمُ الشِّيعَةَ الْغَسْلُ ; لِأَنَّهُ الْأَنْسَبُ بِالْوَجْهِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْوُضُوءِ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّهُ الْأَحْوَطُ أَيْضًا لِكَوْنِ سَنَدِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لِلْفَرِيقَيْنِ، كَمَا سَمِعْتَ، دُونَ الْمَسْحِ ; لِلِاخْتِلَافِ فِي سَنَدِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: " قَدْ يَلْزَمُهُمْ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، أَنْ يُجَوِّزُوا الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ، وَلَا يَقْتَصِرُوا عَلَى الْمَسْحِ فَقَطْ " انْتَهَى كَلَامُ الْآَلُوسِيُّ. أَقُولُ: إِنَّ فِي كَلَامِهِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - تَحَامُلًا عَلَى الشِّيعَةِ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِي نَقْلٍ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ رِوَايَاتِهِ وَنَصَّ عِبَارَاتِهِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُ آنِفًا. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ فَرْضِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ يَتَّضِحُ بِأُمُورٍ: (1) أَنَّ ظَاهِرَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وُجُوبُ الْغَسْلِ، وَظَاهِرَ قِرَاءَةِ الْجَرِّ وُجُوبُ الْمَسْحِ. (2) أَنَّ مَجَالَ النَّحْوِ وَاسْعٌ لِمَنْ أَرَادَ رَدَّ كُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَرُبَّمَا كَانَ رَدُّ النَّصْبِ إِلَى الْجَرِّ أَوْجَهَ فِي فَنِّ الْإِعْرَابِ، وَكَذَلِكَ مَجَالُ التَّجَوُّزِ ; كَقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: " إِنَّ الْمُرَادَ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا ; لِأَنَّهُ وَرَدَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَسْحِ عَلَى الْوُضُوءِ " وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَأَقْوَى الْحُجَجِ اللَّفْظِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ جَعْلُ الْكَعْبَيْنِ غَايَةَ طَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاسْتِيعَابِهِمَا بِالْمَاءِ ; لِأَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيِ الرِّجْلِ، وَالْإِمَامِيَّةُ يَمْسَحُونَ ظَاهِرَ الْقَدَمِ إِلَى مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، عِنْدَ الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْكَعْبُ. فَفِي الرِّجْلِ كَعْبٌ وَاحِدٌ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ إِلَى الْكِعَابِ ; كَمَا قَالَ فِي الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرَافِقِ ; لِأَنَّ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا وَاحِدًا. (3) أَنَّ الْقَوْلَ بِكُلٍّ مِنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِالْغَسْلِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ وَاسْتَمَرَّ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ، إِلَّا مَسْحُ الْخُفَّيْنِ. (4) أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ جَوَازِ الْغَسْلِ أَبْعَدُ عَنِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمَسْحِ، وَإِنْ رُوِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا، أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَلِصِحَّةِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْغَسْلَ هُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ، أَيِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ الَّتِي شُرِعَ الْوُضُوءُ وَالْغَسْلُ لِأَجْلِهَا، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْعَكْسِ. (5) إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، وَالسُّنَنَ مُتَعَارِضَةٌ أَيْضًا، نَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بِمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الْمَسْحُ فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمَسْحَ هُوَ إِمْرَارُ مَا يُمْسَحُ بِهِ عَلَى مَا يَمْسَحُ وَإِلْصَاقُهُ بِهِ، وَصَبُّ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِهِ، وَالْآيَةُ لَمْ تَقُلْ: امْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ بِالْمَاءِ

وَلَا رُءُوسَكُمْ، وَالْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الْمَسْحِ أَمْرٌ بِإِمْرَارِ الْيَدِ بِغَيْرِ مَاءٍ ; كَمَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فِي سِيَاقِ الْوُضُوءِ عُلِمَ بِالْقَرِينَةِ وَبِبَاءِ الْإِلْصَاقِ، أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِبَلِّ الْيَدِ بِالْمَاءِ وَمَسْحِهَا بِالرَّأْسِ، وَلَمَّا قَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، وَلَمْ يَقُلْ: وَبِأَرْجُلِكُمْ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُغْسَلَ الرِّجْلَانِ وَيُمْسَحَا فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ بِإِدَارَةِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا كَانَ أَمْرًا بِإِمْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ الْمَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. (6) إِذَا أَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ أَحَدٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ بِالْبَدْءِ بِالْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ مُوجِبُو الْمَسْحِ، وَالتَّثْنِيَةِ بِالْغَسْلِ الْمَعْرُوفِ. (7) لَا يُعْقَلُ لِإِيجَابِ مَسْحِ ظَاهِرِ الْقَدَمِ بِالْيَدِ الْمُبَلَّلَةِ بِالْمَاءِ حِكْمَةٌ، بَلْ هُوَ خِلَافُ حِكْمَةِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ طُرُوءَ الرُّطُوبَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ غُبَارٌ، أَوْ وَسَخٌ يَزِيدُ وَسَاخَتَهُ وَيَنَالُ الْيَدَ الْمَاسِحَةَ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاخَةِ، وَلَوْلَا فِتْنَةُ الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَا تَشَعَّبَ هَذَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا ; كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا: وَرَدَ فِي الْمَسْحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " وَقَدْ رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنَ الصَّحَابَةِ " قَالَ الْحَسَنُ: " حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ " أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِّي: " وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتَهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ، مِنْهُمُ الْعَشْرَةُ ". وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْهُمْ إِنْكَارُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إِثْبَاتُهُ ". وَأَقْوَى الْأَحَادِيثِ حُجَّةً فِيهِ، حَدِيثُ جَرِيرٍ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ: " أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " قَالَ أَبُو دَاوُدَ: فَقَالَ جَرِيرٌ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ : " مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ الْمَائِدَةِ " وَفِي التِّرْمِذِيَّ مِثْلُ هَذَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ مُفَسِّرٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَأَوَّلَ مَسْحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ ; فَيَكُونُ مَنْسُوخًا " انْتَهَى. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، وَسَيَأْتِي. وَهَذَا التَّأَوُّلُ هُوَ سَبَبُ إِنْكَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِلْمَسْحِ بَعْدَ الْمَائِدَةِ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَفَاضَ بَيْنَهُمُ النَّقْلُ عَنْ مِثْلِ جَرِيرٍ وَالْمُغِيرَةِ رَجَعُوا عَنِ الْإِنْكَارِ، وَمَا رُوِيَ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ لَا يَصِحُّ، بَلْ صَحَّ الْمَسْحُ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَأَمَّا الْقِصَّةُ الَّتِي سَاقَهَا الْأَمِيرُ الْحُسَيْنُ فِي الشِّفَاءِ، وَفِيهَا الْمُرَاجَعَةُ الطَّوِيلَةُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، وَاسْتِشْهَادِ عَلِيٍّ لِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَشَهِدُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ فَقَالَ ابْنُ بَهْرَانَ، مِنْ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الزَّيْدِيَّةِ: " لَمْ أَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْإِمَامَ الْمَهْدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ فِي الْبَحْرِ إِلَى عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ " انْتَهَى. وَنَقُولُ: هَبْ أَنَّهَا صَحَّتْ، أَلَيْسَ قُصَارَاهَا إِثْبَاتَ الْمَسْحِ قَبْلَ الْمَائِدَةِ، وَنَفْيَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ أَوِ النَّصِّ؟ أَوَلَيْسَ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي؟ بَلَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ النَّقْلَ الثَّابِتَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْمَسْحُ، وَأَنَّ مَا رُوِيَ خِلَافُهُ لَا يُعَارِضُهُ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ سَبَبَهُ، إِمَّا عَدَمُ رُؤْيَةِ الْمَسْحِ، وَإِمَّا ظَنُّ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ، ثُمَّ عَرَفَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ. وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " لَا أَعْلَمُ مَنْ رَوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِنْكَارَهُ إِلَّا عَنْ مَالِكٍ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ مُصَرِّحَةٌ عَنْهُ بِإِثْبَاتِهِ " انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَسْحِ: فَأَمَّا الْجَوَازُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَشَذُّهَا، وَالْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الْوُضُوءِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمَسْحِ، مَعَ تَأَخُّرِ آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ; فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الْآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: " أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ". وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآثَارِ تَعَارُضٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ، وَالرُّخْصَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلَابِسِ الْخُفِّ، وَقِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ الْأَرْجُلِ بِالْخَفْضِ، هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْحِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

إِنَّمَا كَانَتْ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ السَّفَرَ مُشْعِرٌ بِالرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفَ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ ; فَإِنَّ نَزْعَهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ " انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ. وَيَرُدُّ حُجَّةَ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّوْقِيتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ وَمُوَافَقَةُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِمَسْحِ الْعِمَامَةِ وَلِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَيُؤَيِّدُهَا اشْتِرَاطُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَسَيَأْتِي. وَنَقَلَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ إِثْبَاتَ الْمَسْحِ فِي السُّنَّةِ، وَتَوَاتُرَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَاتِّفَاقَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ مُطْلَقًا، أَوْ لِلْمُسَافِرِ دُونَ الْمُقِيمِ، وَعَنِ ابْنِ نَافِعٍ فِي الْمَبْسُوطِ، أَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مَعَ إِفْتَائِهِ بِالْجَوَازِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَتِ الْعِتْرَةُ جَمِيعًا، وَالْإِمَامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبُقُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ عَلَّمَهُ: " وَاغْسِلْ رِجْلَكَ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسْحَ، وَقَوْلِهِ بَعْدَ غَسْلِهِمَا: " لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ بِدُونِهِ " قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخَةٌ بِالْمَائِدَةِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَجْوِبَةَ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحَ بَعْدَهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " وَاغْسِلْ رِجْلَكَ " فَغَايَةُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَصْرِ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مُخَصَّصًا بِأَحَادِيثِ الْمَسْحِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ بِدُونِهِ " فَلَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَجِدْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " فَهُوَ وَعِيدٌ لِمَنْ مَسَحَ رِجْلَيْهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُمَا، وَلَمْ يُرِدِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ عَامٌ فَلَا يُقْصَرُ عَلَى السَّبَبِ، قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ شُمُولَهُ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ; فَإِنَّهُ يَدَعُ رِجْلَهُ كُلَّهَا وَلَا يَدَعُ الْعَقِبَ فَقَطْ، سَلَّمْنَا. فَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُخَصِّصَةٌ لِلْمَاسِحِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ. وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ بِاعْتِبَارِ حَالَتَيْ لُبْسِ الْخُفِّ وَعَدَمِهِ، فَتَكُونُ أَحَادِيثُ الْخُفَّيْنِ مُخَصَّصَةً أَوْ مُقَيَّدَةً فَلَا نَسْخَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ رُجْحَانُ الْقَوْلِ بِبِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ فَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ تَأَخُّرِ الْآيَةِ، وَعَدَمِ وُقُوعِ الْمَسْحِ بَعْدَهَا، وَحَدِيثُ جَرِيرٍ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَالْقَدْحُ فِي جَرِيرٍ بِأَنَّهُ فَارَقَ عَلِيًّا مَمْنُوعٌ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ وَإِنَّمَا احْتُبِسَ عَنْهُ بَعْدَ إِرْسَالِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِأَعْذَارٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَزِيرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ فَاسِقِ التَّأْوِيلِ فِي عَوَاصِمِهِ وَقَوَاصِمِهِ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا مِنْ طُرُقِ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْآلِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْفِتْنَةِ وَبَعْدَهَا، فَالِاسْتِرْوَاحُ إِلَى الْخُلُوصِ عَنْ أَحَادِيثِ الْمَسْحِ، بِالْقَدْحِ فِي ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعِتْرَةِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَسَائِرِ عُلَمَاءِ

الْإِسْلَامِ، وَصَرَّحَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي، كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَتَبُوكُ مُتَأَخِّرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِأَنَّ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ سِتُّونَ رَجُلًا. " وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَقَامِ مَانِعًا مِنْ دَعْوَى النَّسْخِ، لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُ، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ ثَابِتٌ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَابِتًا قَبْلَ نُزُولِهَا فَوُرُودُهَا بِتَقْرِيرِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي الْغَسْلَ مَعَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ الْمَسْحُ - لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لَا سِيَّمَا إِذَا صَحَّ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ وَأَرْجُلَكُمْ مُرَادٌ بِهَا مَسَحُ الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْحُ غَيْرَ ثَابِتٍ قَبْلَ نُزُولِهَا فَلَا نَسْخَ بِالْقَطْعِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالنَّسْخِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ أَضْدَادِ الْغَسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنْ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ مَحَلُّ نِزَاعٍ وَاخْتِلَافٍ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ضِدُّ الْغَسْلِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا فِي إِبْطَالِ مِثْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي سَطَعَتْ أَنْوَارُ شُمُوسِهَا فِي سَمَاءِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ". " وَالْعَقَبَةُ الْكَئُودُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، نِسْبَةُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى جَمِيعِ الْعِتْرَةِ الْمُطَهَّرَةِ، كَمَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ، وَلَكِنَّهُ يُهَوِّنُ الْخَطْبَ بِأَنَّ إِمَامَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَيْضًا هُوَ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ بِأَنَّهَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَأَيْضًا فَالْحُجَّةُ إِجْمَاعُ جَمِيعِهِمْ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْبَسِيطَةِ، وَسَكَنُوا الْأَقَالِيمَ الْمُتَبَاعِدَةَ، وَتَمَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَمَعْرِفَةُ إِجْمَاعِهِمْ فِي جَانِبِ التَّعَذُّرِ، وَأَيْضًا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ مَا وَرَدَ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَنْتَهِضُ مَعَهَا لِلْحُجِّيَّةِ، بَعْدَ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ وَوُقُوعِهِ، وَانْتِفَاءُ حُجِّيَّةِ الْأَعَمِّ يَسْتَلْزِمُ حُجِّيَّةَ الْأَخَصِّ " انْتَهَى. أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الَّذِي أَشَارَ - كَمَا أَشَرْنَا - إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي، فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي بَابِ جَوَازِ الْمُعَاوِنَةِ عَلَى الْوُضُوءِ مِنَ الْمَتْنِ، وَعَزَاهُ إِلَى الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " قَالَ فِي الشَّرْحِ: الْحَدِيثُ اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِلَفْظِ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِي: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الْإِدَاوَةَ. فَأَخَذْتُهَا ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ، وَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. انْتَهَى.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا لَبِسَ الْجُبَّةَ الرُّومِيَّةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَهِيَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي بَابِ شَرْعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنَ الْمَتْنِ، وَعَزَاهُ إِلَى أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْسِيتَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ، بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ فِي الشَّرْحِ: الْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. انْتَهَى. أَقُولُ: لَعَلَّهُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ قِرَاءَةَ وَأَرْجُلَكُمْ بِالْجَرِّ مُرَادٌ بِهَا مَسْحُ الْخُفَّيْنِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. الْمَسْحُ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ كَالْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ: قَالَ فِي مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ: عَنْ بِلَالٍ قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَالْخِمَارِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ " وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: امْسَحُوا عَلَى النَّصِيفِ وَالْمُوقِ " وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ (أَيْ: أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ) إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. انْتَهَى. وَقَالَ شَارِحُهُ: إِنَّ حَدِيثَ بِلَالٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ أَيْضًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ حَرِيثٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ أَعَلُّوهَا، ثُمَّ قَالَ: " وَالْحَدِيثُ بِجَمِيعِ رِوَايَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ، وَهُمَا ضَرْبٌ مِنَ الْخِفَافِ، قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَالْأَزْهَرِيُّ، وَهُوَ مَقْطُوعُ السَّاقَيْنِ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُوقُ: الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، قِيلَ: وَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّصِيفِ، وَهُوَ أَيْضًا الْخِمَارُ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ، وَهُوَ لُفَافَةُ الرِّجْلِ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْقَامُوسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْخُفُّ الْكَبِيرُ، وَقَدْ قَالَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرَهُمْ أَبُو دَاوُدَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَزَادَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيَّ: عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى النَّعْلَيْنِ إِذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْجَوْرَبَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا بِنَعْلَيْنِ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِمَا " انْتَهَى. أَقُولُ: إِنَّمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ أَنْ يُلْبَسَا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ; لِأَنَّ نِعَالَهُمْ لَمْ تَكُنْ

تَسْتُرُ الرِّجْلَيْنِ، وَمَتَى كَانَتِ الرِّجْلُ مَكْشُوفَةً كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا وَجَبَ مَسْحُهَا، وَأَمَّا النِّعَالُ الْمُسْتَعْمَلَةُ الْآنَ، الَّتِي تَسْتُرُ الْقَدَمَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تُلْبَسَ عَلَى الْجَوَارِبِ عَلَى أَنَّهَا تُلْبَسُ عَلَيْهَا غَالِبًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَوَارِبَ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا عَامَّةُ الْمِصْرِيِّينَ (شَرَابَاتٍ) وَعَامَّةُ الشَّوَامِ (قَلَاشِينَ) وَكُلُّ مَا يَسْتُرُ الرِّجْلَيْنِ يُمْسَحُ عَلَيْهِ لَا عِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَجْنَاسِ، وَمَا دَامَ السَّاتِرُ يُلْبَسُ عَادَةً يُمْسَحُ عَلَيْهِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ حُدُوثُ الْخُرُوقِ فِيهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَمْسَحُونَ فِي الْأَسْفَارِ الطَّوِيلَةِ ; كَسَفَرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَخْلُوَ خِفَافُهُمْ مِنَ الْخُرُوقِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا نُهِيَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خُرُوقٌ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَتَوَافَرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَلَكِنْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعِيشُونَ فِي حَوَاضِرِ الْأَمْصَارِ ذَاتِ السِّعَةِ وَالْيَسَارِ ; كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ شَدَّدُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي فَتْوَى لَهُ: " وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدِ اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ (أَيْ: مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي أَوَّلِ الْفَتْوَى بَيَّنَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي الْمَسْحِ، وَلِلْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَلِلْقِيَاسِ) . (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُمْسَحْ، وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إِلَّا بِالشَّدِّ (كَالزُّرْبُولِ) الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَّا بِالشَّدِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، بَلِ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا، وَأَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعِ النَّعْلَيْنِ (أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَثْبُتَانِ بِأَنْفُسِهِمَا كَالْجَوَارِبِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) ". " فَإِذَا كَانَ أَحْمَدُ لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا، بَلْ إِذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، فَغَيْرُهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنِ الْجَوْرَبَيْنِ ; فَالزُّرْبُولُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِسَيْرٍ يَشُدُّهُ بِهِ، مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْرَبَيْنِ. وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ وَقُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مُسِحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفَ مِنَ الْبَرْدِ أَوْ خَوْفِ الْحَفَاءِ أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قِيلَ: فِي هَذَا وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيُّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنَ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ، فَإِنَّ اللَّفَائِفَ

إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ، وَفِي نَزْعِهَا ضَرَرٌ ; إِمَّا إِصَابَةُ الْبَرْدِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْحَفَاءِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْجُرْحِ. فَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ فَعَلَى اللَّفَائِفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَنِ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقِلَ الْمَنْعَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ، فَضْلًا عَنِ الْإِجْمَاعِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ فِي الْمَسْحِ، وَقَالَ: " فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ، فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا. وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا، فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَنَسٌ يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ هَذَا، وَهَذَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ " انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً ; لِأَنَّهَا يَعْسُرُ نَزْعُهَا، وَضَعَّفَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَحْنِيكِ الْعَمَائِمِ طَرْدُ الْخَيْلِ وَالْجِهَادُ ; لِئَلَّا تَسْقُطَ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَبِسُوا الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ، ثُمَّ كَانَ الْجُنْدُ يَرْبِطُونَ الْعَمَائِمَ بِالْكَلَالِيبِ أَوِ الْعَصَائِبِ. وَانْتَقَلَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْخُفِّ إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَكَوْنِهِ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِلَى نَظَائِرَ أُخْرَى لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهَا هُنَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الْمَسْحِ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّنَّةِ وَيُسْرِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ أَوْسَعُ فِي بَابِ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرَ فَهُوَ إِلَى الْحَقِّ أَقْرَبُ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2: 185) وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. شَرْطُ مَسْحِ الْخُفِّ لُبْسُهُ عَلَى طَهَارَةٍ: جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الْمُتَقَدِّمِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرَةٍ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهَوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا ; فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا ". وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، قَالَ: " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَمْسَحُ أَحَدُنَا عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا أَدْخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَاهُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: "

أَمَرَنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا، وَلَا نَخْلَعَهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ ". وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ الطَّهَارَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ ; فَاشْتَرَطُوا لِجَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يُلْبَسَ الْخُفُّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى وُضُوءٍ. وَذَهَبَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الطَّهَارَةُ اللُّغَوِيَّةُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَبِسَهُمَا وَرِجْلَاهُ نَظِيفَتَانِ، لَا قَذَرَ عَلَيْهِمَا وَلَا نَجَسَ. انْتَهَى. إِنَّمَا الْمَسْحُ عَلَى ظَهْرِ الْخُفِّ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ ". قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ "، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَسْحَ ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ كَافٍ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ، وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ وَالْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ. وَالْعُمْدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ. تَوْقِيتُ الْمَسْحِ: تَقَدَّمَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فِيهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: " سَأَلَتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنِّي، كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ". رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ: " وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا "، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي عِمَارَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ صَرِيحٌ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى السَّبْعِ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، وَمَا بَدَا لَكَ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَى التَّوْقِيتِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهُ

وَأَنَّ مَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ مَا بَدَا لَهُ ; الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ. ذَكَرَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَقَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. انْتَهَى. (تَرْتِيبُ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ) تِلْكَ فَرَائِضُ الْوُضُوءِ الْعَمَلِيَّةُ الْمَنْصُوصَةُ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ مُرَتَّبَةً مَعَ فَصْلِ الرِّجْلَيْنِ عَنِ الْيَدَيْنِ - وَفَرِيضَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْغَسْلُ - بِالرَّأْسِ الَّذِي فَرِيضَتُهُ الْمَسْحُ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيهَا، وَصَحَّ حَدِيثُ: " ابْدَأْ - وَفِي رِوَايَةٍ: ابْدَءُوا - بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ ". وَهُوَ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ خَاصًّا ; لِوُرُودِهِ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي الْتَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَيْفِيَّةً خَاصَّةً ; كَالصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ، وَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ الْمَأْثُورَ فِي كَيْفِيَّةِ وُضُوئِهِ الْمُطَّرِدَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الصَّلَاةِ ; كَعَدَدِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَرْتِيبِهِمَا. وَلَا يَظْهَرُ التَّعَبُّدُ وَالْإِذْعَانُ لِأَمْرِ الشَّارِعِ وَهَدْيِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي الْتِزَامِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الِالْتِزَامِ أَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَحَّدُ بِهَا شَخْصِيَّةُ الْأُمَّةِ، فَإِنَّمَا الْأُمَمُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِعَدِّ التَّرْتِيبِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا فَرْضٌ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ كَانَ الْخِلَافُ بِالْقَوْلِ لَا بِالْعَمَلِ، فَالْجَمِيعُ يُرَتِّبُونَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ كَمَا رَتَّبَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُنَّتِهِ، وَلَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِدَعْوَى الْجَوَازِ، فَتَوَضَّأَ كُلُّ أَهْلِ مَذْهَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ لَكَانَ عَمَلُهُمْ هَذَا مِنْ شَرِّ مَا تَفَرَّقُوا فِيهِ، فَتَفَرَّقَتْ قُلُوبُهُمْ، وَضَعُفَ مَجْمُوعُهُمْ. (النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ كَكُلِّ عِبَادَةٍ) رُوِيَ عَنْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَعَنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ; فَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَرْضِيَّتِهَا بِحَدِيثِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِآيَةِ الْوُضُوءِ نَفْسِهَا ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ

هَذِهِ الْأَعْمَالَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ عَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ بِأَنَّهَا قَصَدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، وَاشْتَرَطُوا لِتَحَقُّقِهَا وَصِحَّتِهَا عِدَّةَ شُرُوطٍ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفَعٍ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا، وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ ; لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللهِ، وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ، وَلَهُمْ فِي تَعْرِيفِهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا رَأَيْنَاهُ لَهُمْ فِيهَا ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْمَعْنَى الطَّبْعِيِّ، وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ. ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ نِيَّتَانِ: نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ - وَسَيَأْتِي مَعْنَاهَا - وَنِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ ; وَهِيَ الْقَصْدُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ فِعْلُ الْمُخْتَارِ الشَّاعِرِ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ وَالذَّاهِلِ الَّذِي تُشْبِهُ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ النَّائِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلنِّيَّةِ ضَرُورِيٌّ فِي تَحَقُّقِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ ; فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ وَافْتِرَاضِهِ، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقَوْلُ بَعْدَهُ شَرْطًا لِيُخْرِجَ بِهِ مَا يَقَعُ لِلْمُحْدِثِ مِنْ غَسْلِ أَطْرَافِهِ لِنَحْوِ الِابْتِرَادِ، وَنَاهِيكَ إِذَا غَسَلَهَا بِغَيْرِ التَّرْتِيبِ الْمَأْثُورِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَهَا ; لِأَنَّ عَمَلَهُ السَّابِقَ لَمْ يَكُنِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنَ النِّيَّةِ بِالْحَدِيثِ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَعْنَى الثَّانِي لِلنِّيَّةِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَهُوَ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، بِاتِّبَاعِ مَا شَرَعَهُ وَالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ، أَوْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ ; أَيْ جَعْلُ الْعِبَادَةِ خَالِصَةً مِنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، لَا غَرَضَ مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّحَقُّقِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. كُلُّ مَنْ يُهَاجِرُ يَقْصِدُ الْهِجْرَةَ قَصْدًا مُقْتَرِنًا بِالْفِعْلِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَضَّأُ يَقْصِدُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ يُصَلِّي يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِأَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَكُلُّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِمَنَاسِكِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَتَلَبَّسُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ يَقْصِدُ بِهَا مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ مِنْهَا ; كَنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ بِالْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ بِهِجْرَةِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، مِنْ مَكَانٍ لَا حُرِّيَّةَ لَهُ فِي دِينِهِ فِيهِ، إِلَى غَيْرِهِ، وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوُضُوءِ وَحِكْمَتِهِ، الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا، وَالصَّلَاةِ وَحِكْمَتِهَا، وَالْحَجِّ وَحِكْمَتِهِ، فَكَمَا يُهَاجِرُ بَعْضُ النَّاسِ لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ، وَلِأَجْلِ التِّجَارَةِ، أَوِ الزَّوَاجِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فِي الْبَاطِنِ، كَذَلِكَ يُسَافِرُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ ; لِأَجْلِ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَمِنْهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَإِذَا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يُصَلِّي رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي لِمُوَافَقَةِ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ، كَمَا يُوَافِقُهُمْ فِي الزِّيِّ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمُنَاجَاتِهِ وَذِكْرِهِ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ وَنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْوِي النِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ؛ وَهِيَ قَصْدُ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهَا ; إِذْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ.

فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ النِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ - الَّتِي هِيَ قَصْدُ الشَّيْءِ عِنْدَ فِعْلِهِ - ضَرُورِيَّةٌ، لَا مَعْنَى لِفَرْضِيَّتِهَا وَعَدِّهَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ النِّيَّةَ الْوَاجِبَةَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، هِيَ النِّيَّةُ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، وَيَنْتَفِي الرِّيَاءُ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْتِيهِ مِنْ صُورَةِ الْعِبَادَةِ لَا يَقْبَلُهُ اللهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ، وَلَا تَتَزَكَّى بِهِ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا الْجِسْمَانِيُّونَ الْجَامِدُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ، لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْقَلْبِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، فَتَرَاهُمْ مِنْ أَشَدِّ خَلْقِ اللهِ تَنَطُّعًا فِي ظَوَاهِرِ الْعِبَادَةِ، وَأَشَدِّهِمُ انْسِلَاخًا مِنْ رُوحِهَا وَسِرِّهَا وَحِكْمَتِهَا، وَجَعَلُوهَا حَرَجًا وَعُسْرًا، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى، يَتَنَطَّعُونَ فِي الطَّهَارَةِ، وَقَدْ عَلَا أَجْسَادَهُمْ وَثِيَابَهُمُ الْوَسَخُ وَالسَّنَاخَةُ، وَيَتَنَطَّعُونَ فِي تَجْوِيدِ الْقِرَاءَةِ وَحَرَكَاتِ الْأَعْضَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَنْتَهُونَ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ جَهِلُوا حَقِيقَةَ النِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الْمَحْضَةِ، وَابْتَدَعُوا كَلِمَاتٍ، يُسَمُّونَهَا النِّيَّةَ اللَّفْظِيَّةَ، لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا عُرِفَتْ فِي سُنَّةٍ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقَدْ غَلَوْا فِي التَّنَطُّعِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يُؤْذُونَ الْمُصَلِّينَ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَسْوِسُونَ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ: نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ، نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ. . . إِلَخْ! وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُوَسْوِسِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ دَقَّقَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ فِي فَلْسَفَةِ نِيَّتِهِمْ ; فَاشْتَرَطَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمُصَلِّي جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عِنْدَ الْبَدْءِ بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ النُّطْقِ بِـ (هَمْزَةِ) لَفْظِ الْجَلَالَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَ (رَاءِ) لَفْظِ (أَكْبَرِ) السَّاكِنَةِ مِنْ كَلِمَتِي (اللهُ أَكْبَرُ) لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى قَصْدِ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ كُلِّ ذِكْرٍ، تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ، فَإِذًا لَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَتَصَوَّرَ عِنْدَ التَّكْبِيرِ إِلَّا مَعْنَى التَّكْبِيرِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ: وَرَدَ فِي التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى وُجُوبِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: " الظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَهَا يُحْدِثُ مِنْهَا قُوَّةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَدَعَّمَهَا النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبَسْمِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ وَهُوَ مِثْلُهَا ". وَلَمَّا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَمْرًا حَسَنًا فِي نَفْسِهِ، وَمَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ تَسَاهَلَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَلِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَبَعْضُهُمْ بِسُنِّيَّتِهَا، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ، الْمُحَقِّقَ الشَّهِيرَ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) : " وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ

كَانَ يَقُولُ عَلَى وُضُوئِهِ شَيْئًا غَيْرَ التَّسْمِيَةِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ فِي أَذْكَارِ الْوُضُوءِ الَّذِي يُقَالُ عَلَيْهِ، فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ، لَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَا عَلَّمَهُ لِأُمَّتِهِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْهُ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِهِ، وَقَوْلُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فِي آخِرِهِ " انْتَهَى. أَقُولُ: أَمَّا الشَّهَادَتَانِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُمَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَالْعُمْدَةُ فِي صِحَّتِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الدُّعَاءِ فَهِيَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ، وَقَدْ قَالَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ: " وَفِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ كَثِيرُ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا الِاضْطِرَابِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، فَضَعَّفُوا الْمَرْفُوعَ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، عَلَى النَّوَوِيِّ تَضْعِيفَهُ، وَمِنْ هَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دُعَاءَ الْأَعْضَاءِ بَاطِلٌ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ: إِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: أَيْ لَا أَصْلَ لَهُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ، وَلَكِنَّهُ وَاهٍ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ. التَّيَامُنُ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ: فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطَهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ". التَّنَعُّلُ: لِبْسُ النَّعْلَيْنِ، وَالتَّرَجُّلُ: تَرْجِيلُ الشِّعْرِ ; أَيْ تَسْرِيحُهُ. وَالطَّهُورُ يَشْمَلُ الْوُضُوءَ، وَالْغُسْلَ، وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا لَبِسْتُمْ فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ ". جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَدْءَ بِالْيَمِينِ سُنَّةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ: لِيُخْرِجَ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَنَحْوَهُ. وَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ: وُجُوبُ التَّيَامُنِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: مَا أُبَالِي بَدَأْتُ بِيَمِينِي أَوْ بِشَمَالِي إِذَا أَكْمَلْتُ الْوُضُوءَ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ أَيْضًا، طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالتَّثْلِيثُ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَلَيْهَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَغْسِلَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى إِتْمَامِ مَا بَدَأَ بِهِ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ

عَارِضَةٍ، لَا يَطُولُ فِيهَا الْفَصْلُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَفْرِضُونَ وُقُوعَ مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ فِي الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ ; فَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى وُجُوبِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عَنْهُ إِلَى سُنِّيَّتِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ الْأَحَادِيثِ فِي مَنْ تَوَضَّأَ فَكَانَ فِي رِجْلِهِ لَمْعَةٌ، أَوْ مَوْضِعُ ظُفْرٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ فِي حَدِيثٍ، وَبِإِحْسَانِ الْوُضُوءِ فِي حَدِيثٍ أَصَحَّ، وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا تُتْرَكَ الْمُوَالَاةُ، وَالْعُمْدَةُ فِيهَا أَلَّا يَقْطَعَ الْمُتَوَضِّئُ وُضُوءَهُ بِعَمَلٍ أَجْنَبِيٍّ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ انْصِرَافًا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " إِذَا جَفَّ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ قَبْلَ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ، انْقَطَعَتِ الْمُوَالَاةُ "، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ يَجِفُّ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ بِسُرْعَةٍ فِي الْهَوَاءِ الْحَارِّ الْجَافِّ، وَلَا يُعَدُّ الْمُتَوَضِّئُ مُنْقَطِعًا عَنْ وُضُوئِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَ كُلَّ عُضْوٍ ثَلَاثًا، وَأَنْ يَمْسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ الْخُفُّ. غَسْلُ الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، وَمَسْحُ الْعُنُقِ: سَيَأْتِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ، فَهُوَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمُجَرَّدُ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مَرْفُوعًا إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ; فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَكَلِمَةُ (ثَلَاثًا) فِي مَا عَدَا رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَالْمُرَادُ لَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ تَنَاوُلَهُ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ بِالْإِزَارِ، وَلَا يَلْبَسُونَ السَّرَاوِيلَاتِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَانُوا - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - يَسْتَنْجُونَ بِالْحِجَارَةِ، وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ، فَلَا يَأْمَنُ النَّائِمُ أَنْ تَطُولَ يَدُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ، أَوْ عَلَى قَذَرٍ غَيْرِهِ ; فَالْأَمْرُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ لِمَنْ يُرِيدُ غَمْسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهِيَ حَالُ تَغْلِيبِ النَّجَاسَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُرَجَّحُ فِيهِ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي الْيَدِ الطَّهَارَةُ، وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ الْحَدِيثَ عَلَى إِفَادَةِ كَرَاهَةِ غَمْسِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا، وَنَدْبِ الْغُسْلِ قَبْلَهُ عَمَلًا بِالْأَصْلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ خَصَّهُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ رَوَاهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ "، قَالَ النَّوَوِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ: إِنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ قَامَ مَنْ نَوْمِ النَّهَارِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. (قَالَ) : وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ الشَّكُّ فِي نَجَاسَةِ الْيَدِ، فَمَنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا كُرِهَ لَهُ غَمْسُهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، أَوْ نَوْمِ النَّهَارِ، أَوْ شَكَّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي الْوُضُوءِ

فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا فِيهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ كَوْنُ غَسْلِهِمَا سُنَّةً مِنْ كَيْفِيَّةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآتِيَةِ. وَأَمَّا مَسْحُ الْعُنُقِ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: " إِنَّهُ بِدْعَةٌ ". وَابْنُ الْقَيِّمِ: " لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْحِ الْعُنُقِ حَدِيثٌ أَلْبَتَّةَ ". وَالصَّوَابُ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ وَمُرْسَلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِحُسْنِ بَعْضِهَا، وَلِذَلِكَ تَعَقَّبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْفُسُهُمْ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْبَغَوِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، قَالَ بِاسْتِحْبَابِهِ. صِفَةُ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ; أَيْ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا رَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالِاسْتِنْشَاقِ بَدَلَ الِاسْتِنْثَارِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِنْثَارُ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِنْشَاقَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْمَضْمَضَةِ. قِيلَ: إِنَّ (ثُمَّ) فِي الْحَدِيثِ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، لَا لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا كَانَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ، فَغَسَلَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ بَاطِنَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَا يُعَدَّانِ مِنَ الْوَجْهِ الْوَاجِبِ غَسْلُهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَصَحَّ الْأَمْرُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِغَيْرِ الصَّائِمِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ ذِكْرُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي حَيَّةَ، قَالَ: " رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَهُ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طَهُورُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَمَّا التَّثْلِيثُ فَهُوَ السُّنَةُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَغَيْرُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَصِحَّ مَسْحُ الرَّأْسِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.

وَمِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ الِاقْتِصَادُ فِي الْمَاءِ. صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ، وَيَغْتَسِلُ بِصَاعٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَحَدِيثِ سَفِينَةَ فِي مُسْلِمٍ، وَتَقْدِيرُ الْمُدِّ بِالدَّرَاهِمِ 128 مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ مَكْرُوهٌ شَرْعًا، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنَ الْبَحْرِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ الِاقْتِصَادَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اقْتِصَادِهِ فِي الْمَاءِ يُسْبِغُ الْوُضُوءَ وَيُتِمُّهُ، وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثِ السُّنَنِ تَعَاهُدُ مُوقَيِ الْعَيْنَيْنِ وَغُضُونِ الْوَجْهِ، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَاللِّحْيَةِ، وَتَحْرِيكُ الْخَاتَمِ، وَفِي أَسَانِيدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَلَامٌ ; فَهِيَ لَيْسَتْ فِي دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِهَا لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِسُنَّةِ الْإِسْبَاغِ، وَمُتَمِّمَةٌ لِلنَّظَافَةِ. السِّوَاكُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ: رَوَى الْجَمَاعَةُ (أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ " لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ ". وَلِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا " لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ ". قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ: " إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ ". وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، مَرْفُوعًا: " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِّ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ ". وَرُوِيَ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَاكُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَعِنْدَ دُخُولِ بَيْتِهِ. وَالسِّوَاكُ يُطْلَقُ عَلَى الْعُودِ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ، وَعَلَى الِاسْتِيَاكِ نَفْسِهِ، وَهُوَ دَلْكُ الْأَسْنَانِ بِذَلِكَ الْعُودِ، أَوْ بِشَيْءٍ آخَرَ خَشِنٍ تُنَظَّفُ بِهِ الْأَسْنَانُ، يُقَالُ: سَاكَ فَمَهُ يَسُوكُهُ سَوْكًا، وَيُقَالُ: اسْتَاكَ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ اسْتَاكَ فَمَهُ، وَخَيْرُ الْعِيدَانِ لِلِاسْتِيَاكِ، عُودُ الْأَرَاكِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْحِجَازِ ; لِأَنَّهُ إِذَا دُقَّ طَرَفُهُ قَلِيلًا يَصِيرُ خَيْرًا مِنَ السِّوَاكِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى " فُرْشَةُ الْأَسْنَانِ "، وَيُقَالُ إِنَّ مِنْ خَوَاصِّهِ شَدُّ اللِّثَةِ ; أَيْ أَنَّ فِيهِ مَادَّةً تَنْفَصِلُ مِنْهُ عِنْدَ الِاسْتِيَاكِ بِهَا تُشَدُّ اللِّثَةُ وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِالِاسْتِيَاكِ بِالْفُرْشَةِ، كَمَا تَحْصُلُ بِشَوْصِ الْأَسْنَانِ (دَلْكِهَا) بِكُلِّ خَشِنٍ يُزِيلُ الْقَلَحَ (صُفْرَةَ الْأَسْنَانِ) وَيُنَظِّفُ الْفَمَ. وَمَنْ يُوَاظِبُ عَلَى السِّوَاكِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ تُحْفَظُ لَهُ أَسْنَانُهُ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الصِّحَّةِ وَالْجَمَالِ، وَهِيَ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ قِيمَتَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْسِدَهَا السُّوسُ، وَيَضْطَرُّ إِلَى قَلْعِهَا بَعْدَ أَنْ يُقَاسِيَ مِنْ آلَامِهَا مَا يُقَاسِي. (طَهَارَةُ الْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَالْحَدَثَانِ الْأَصْغَرُ وَالْأَكْبَرُ) وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ بَيَّنَ طَهَارَةَ الْغُسْلِ، فَقَالَ: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا) أَيْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكُنْتُمْ جُنُبًا فَتَطَهَّرُوا لَهَا طَهُورًا كَامِلًا بِأَنْ تَغْتَسِلُوا، " فَاطَّهَرُوا " أَمْرٌ بِالْعِنَايَةِ بِالطَّهَارَةِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَسْلِ الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَةِ الْغُسْلِ

بِهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (4: 34) ، وَالْجَنَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّيَمُّمِ (ص 94 ج5 تَفْسِيرٌ مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ) أَنَّ لَفْظَ " جُنُبٍ " اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْمَصَادِرِ فِي الْوَصْفِيَّةِ ; فَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَأَنَّ الْمُخْتَارَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَنْبِ، بِالْفَتْحِ، بِمَعْنَى الْجَانِبِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَاجَعَةِ الْمُرَادِ بِهَا الْوِقَاعُ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَفِي مَعْنَى الْوِقَاعِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ، وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ عَادَةً ; فَهُوَ جَنَابَةٌ شَرْعًا، وَفِي الْحَدِيثِ: " إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ; أَيْ إِنَّمَا يَجِبُ مَاءُ الْغُسْلِ مِنَ الْمَاءِ الدَّافِقِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حِكْمَةِ الْغُسْلِ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوِقَاعِ بِدُونِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عُثْمَانَ النَّاطِقِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ إِلَّا الْوُضُوءُ، هُوَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ النَّاطِقِ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَصَرَّحَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِكَلِمَةِ " وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ " وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطَالَةِ الشَّرْحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; إِذِ لَا خِلَافَ فِيهَا الْيَوْمَ وَلَا أَهْوَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَنِيِّ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ; لِعِلَّةٍ مَا، فَإِذَا خَرَجَتْ بَقِيَّةٌ مِنْهُ بَعْدَ الْغُسْلِ، مِمَّا خَرَجَ شَهْوَةً، فَعَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهَا ظَاهِرٌ جِدًّا. وَلَمَّا بَيَّنَ وُجُوبَ الطَّهَارَتَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي الْغَالِبِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْغُسْلِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَوْ كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، أَوْ عِدَّةَ مِرَارٍ فِي الْغَالِبِ - بَيَّنَ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِهِمَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ أَوِ الْعَجْزِ ; لِأَنَّ الدِّينَ يُسْرٌ لَا حَرَجَ فِيهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) مَرَضًا جِلْدِيًّا ; كَالْجُدَرِيِّ، وَالْجَرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُوحِ وَالْجُرُوحِ، أَوْ أَيِّ مَرَضٍ يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ، فَالْعِبْرَةُ بِمَا يُسَمَّى سَفَرًا عُرْفًا، وَمِنْ شَأْنِ السَّفَرِ أَنْ يَشُقَّ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فِيهِ (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) الْغَائِطُ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَصَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي هَذَا الْحَدَثِ، وَعُرْفِيَّةً فِي الرَّجِيعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ. وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ: هِيَ الْمُبَاشَرَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَبَيْنَهُنَّ، كُلٌّ مِنَ التَّعْبِيرَيْنِ كِنَايَةٌ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي النَّزَاهَةِ ; كَالتَّعْبِيرِ بِالْجَنَابَةِ هُنَا، وَبِالْمُبَاشَرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادِ: أَوْ أَحْدَثْتُمُ الْحَدَثَ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا كَالطَّوَافِ - وَيُسَمَّى الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ أَوِ الْحَدَثَ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ، وَيُسَمَّى الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ - فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً تَتَطَهَّرُونَ بِهِ ; أَيْ إِذَا كُنْتُمْ عَلَى حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ: الْمَرَضُ، أَوِ السَّفَرُ

أَوْ فَقْدُ الْمَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِإِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أَيْ فَاقْصِدُوا تُرَابًا، أَوْ مَكَانًا مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ طَاهِرًا، لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهِ، فَاضْرِبُوا بِأَيْدِيكُمْ عَلَيْهِ، وَأَلْصِقُوهَا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، بِحَيْثُ يُصِيبُهَا أَثَرٌ مِنْهُ، وَقَدْ شَرَحْنَا آيَةَ التَّيَمُّمِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَفَّيْنَا عَلَى تَفْسِيرِهَا بِعَشْرِ مَسَائِلَ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّيَمُّمِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَمَحَلِّهِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَكَوْنِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَمَعْنَى الصَّعِيدِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ، وَكَوْنِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِيهِ سَوَاءً إِذَا فُقِدَ الْمَاءُ، وَكَوْنِ الصَّلَاةِ بِهِ مُجْزِئَةً لَا تَجِبْ إِعَادَتُهَا، وَبَحْثِ تَيَمُّمِ الْمُسَافِرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَبَحْثِ التَّيَمُّمِ مِنَ الْبَرْدِ وَالْجُرْحِ، وَكَوْنِهِ كَالْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ، وَفِي اسْتِبَاحَةِ عِدَّةِ صَلَوَاتٍ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 100 - 110 مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ) . نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ: وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَنَّ الْحَدَثَ، الَّذِي يَكُونُ فِي الْغَائِطِ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ; فَلَا تَحِلُّ الصَّلَاةُ، بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ تَوَضَّأَ، وَذَلِكَ الْحَدَثُ: هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ; الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي مَحَلِّ التَّخَلِّي (قَضَاءِ الْحَاجَّةِ) الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْغَائِطِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّيحُ وَالْمَذْيُ اللَّذَانِ يَخْرُجَانِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ نَقْضُ الْوُضُوءِ بِهِمَا، وَصَحَّ الْحَدِيثُ فِي أَنَّ الرِّيحَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ، يُعْتَبَرُ فِي نَقْضِهِ لِلْوُضُوءِ، أَنْ يُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ، أَوْ تُشَمَّ لَهُ رَائِحَةٌ. رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ " أَيْ رَائِحَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، فَمَا يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ لَا يَسْمَعُ لَهُ صَوَّتًا، وَلَا يَجِدُ لَهُ رَائِحَةً لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَدَ رِيحًا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " الرِّيحُ الثَّانِيَةُ: الرَّائِحَةُ، وَالْعُمْدَةُ: الْيَقِينُ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّقْضِ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنَ الْبَدَنِ بِجُرْحٍ، أَوْ حِجَامَةٍ، أَوْ رُعَافٍ. قِيلَ: يَنْقَضُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَنْقُضُ كَثِيرُهُ دُونَ قَلِيلِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ تَوفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يُجْرَحُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ، دَعِ الْحِجَامَةَ وَسَائِرَ الْجُرُوحِ وَالدَّمَامِلَ، بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ أُصِيبَ بِسِهَامٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَاسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ، وَلَمْ يَنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ، وَيَبْعُدُ أَلَّا يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ تَرْكَ الْوُضُوءَ مَنْ يَسِيرِ الدَّمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَيْءِ أَيْضًا قَالَتِ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: يَنْقُضُ إِذَا كَانَ دَفْعَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمَعِدَةِ تَمْلَأُ الْفَمَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا يَنْقُضُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي نَقْضِهِ حَدِيثٌ يُحْتَجُّ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوْمِ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ: (1) لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ. (2) يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. (3) يَنْقُضُ كَثِيرُهُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. (4) يَنْقُضُ إِذَا نَامَ مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الْمُصَلِّي، فِيمَا عَدَا الْقُعُودِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ. (5) يَنْقُضُ فِي الصَّلَاةِ، لَا فِي خَارِجِهَا، وَعَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. (6، 7) يَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، أَوِ السَّاجِدِ فَقَطْ، رُوِيَا عَنْ أَحْمَدَ. (8) أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ، فَمَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ بِحَالٍ، وَمَنْ نَامَ غَيْرَ مُمَكِّنٍ انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَمَلِ بِتَرْجِيحِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْبَرَاءَةُ، وَعَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سُمِعَ غَطِيطُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ اللَّيْلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالُوا: تِلْكَ مِنْ خَصَائِصِهِ بِقَرِينَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ عَيْنَيْهِ تَنَامَانِ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ صَلَاةَ اللَّيْلِ، قَالَ: " فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي "، وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ; أَيْ تَمِيلَ مِنَ النُّعَاسِ أَوِ النَّوْمِ، ثُمَّ يُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّئُونَ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ " حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ لِأَحَدِهِمْ غَطِيطًا "، وَحَمَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى نَوْمِ الْجَالِسِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مُنْتَظِرِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونُوا جُلُوسًا، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ " رَوَاهَا ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ وَكُلَّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ سُكْرٍ أَوْ دَوَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ ; أَيْ مَسِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا بِغَيْرِ حَائِلٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ يَنْقُضُ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَعَلَيْهِ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَنْقُضُ اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ فَقَطْ، وَقَاسُوا عَلَى هَذَا لَمْسَ الْأَمْرَدِ. اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُ وَالنَّافِي بِالْآيَةِ ; إِذْ حَمَلَ بَعْضُهُمِ الْمُلَامَسَةَ فِيهَا عَلَى الْجَسِّ، وَالْآخَرُونَ عَلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَاخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ ; فَأَمَّا النَّقْضُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، أَنَّهَا وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، وَحَدِيثُهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا، أَيْ فِي بَيْتِهَا، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْجِنَازَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ مَسَّهَا بِرِجْلِهِ ; أَيْ لِتُوَسِّعَ لَهُ الْمَكَانَ. قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِحَائِلٍ، وَهُوَ احْتِمَالٌ مُتَكَلَّفٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَرُوِيَ عَنْهَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَصْحِيحِهَا وَتَضْعِيفِهَا، وَأَقُولُ: لَوْ كَانَ لَمْسُ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الْفَرْجِ بِدُونِ حَائِلٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ تَعَارُضُ الْأَحَادِيثِ (فَمِنْهَا) فِي إِثْبَاتِ النَّقْضِ حَدِيثُ بُسْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ " رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ "، وَيَتَوَضَّأُ مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ "، قَالُوا: وَيَشْمَلُ ذَكَرَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا ; لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِي سَمَاعِ عُرْوَةَ مِنْ بُسْرَةَ. قِيلَ: سَمِعَ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِنْ مَرْوَانَ عَنْهَا، وَمَرْوَانُ مَطْعُونٌ فِيهِ، وَقِيلَ: أَرْسَلَ مَرْوَانُ رَجُلًا مِنْ حَرَسِهِ إِلَى بُسْرَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْهُ، وَعَادَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهَا قَالَتْهُ، وَالْحَرَسِيُّ مَجْهُولُ الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ لِمَا ذُكِرَ. وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو زُرْعَةَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ، لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرُوِيَ الْأَخْذُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللهِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعُمُومُ ; لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَعْنَاهُ الْوُصُولُ، وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ هَذَا مِنْ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْمَسَّ الِاخْتِيَارِيَّ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا يَكُونُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَظِنَّةَ إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ النَّقْضِ فِيمَا يَظْهَرُ، فَلَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا يُنْدَبُ مِنَ الْمَسِّ نَدْبًا، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ رِوَايَةَ الْفَرْجِ تَشْمَلُ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْجِ

الْقُبُلُ ; لِمُوَافَقَةِ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَنَّ شَرَجَ الدُّبُرِ لَا يُلْمَسُ عَادَةً، وَلَا هُوَ مَظِنَّةُ إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَالْعِتْرَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ فِي مُعَارَضَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ أَعَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَلَّاسِ، وَقَالَ: هُوَ عِنْدَنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ بُسْرَةَ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَقْوَى دَعَائِمَ ; لِمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ نَسْخَ حَدِيثِ طَلْقٍ ; لِأَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ النَّقْضِ بِلَفْظِ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَنْقُضُ الْمَسُّ إِذَا كَانَ بِلَذَّةٍ، وَرَأَى الشَّعَرَانِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي الْمِيزَانِ، أَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ عَزِيمَةٌ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَزَائِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَسْهُلُ فِيهَا الْوُضُوءُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَعَدَمُ النَّقْضِ رُخْصَةٌ رَخَّصَ بِهَا لِلسَّائِلِ، وَكَانَ بَدَوِيًّا، وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ يَرُدُّونَ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ بِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّقْضِ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ ; فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِهِ، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْقَوْلُ بِالنَّقْضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِنَسْخِهِ، وَلَا يُعْرَفُ حَدِيثٌ صَرِيحٌ مُثْبِتٌ لِلنَّسْخِ، وَلَكِنَّ عَمَلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا وَرَدَ فِي النَّقْضِ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمُحَدِّثُونَ حَدِيثِينَ فِيهِ؛ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَحَدِيثَ الْبَرَاءِ، فَغَيْرُ مَعْقُولٍ أَنْ يَعْرِفَ جَابِرٌ وَالْبَرَاءُ مَا يَجْهَلُهُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْخِلَافِ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ; أَيْ مِنْ أَكْلِ مَا طُبِخَ وَعُولِجَ بِالنَّارِ، قَالَ بَعْضُهُمْ يَنْقُضُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: " تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَمِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَالْعَبَادِلَةُ، إِلَّا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو لَمْ أَرَ عَنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ ; مِنْهَا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ: " أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ "، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. (حِكْمَةُ شَرْعِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ) وَلَمَّا بَيَّنَ فَرْضَ الْوُضُوءِ وَفَرْضَ الْغُسْلِ، وَمَا يَحُلُّ مَحَلَّهُمَا عِنْدَ تَعَذُّرِهِمَا أَوْ تَعَسُّرِهِمَا؛ تَذْكِيرًا بِهِمَا وَمُحَافَظَةً عَلَى مَعْنَى التَّعَبُّدِ فِيهِمَا، وَهُوَ التَّيَمُّمُ - بَيَّنَ حِكْمَةَ شَرْعِهِمَا لَنَا، مُبْتَدِئًا بِبَيَانِ قَاعِدَةٍ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ، فَقَالَ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أَيْ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا أَيْضًا حَرَجًا مَا ; أَيْ أَدْنَى ضِيقٍ وَأَقَلَّ مَشَقَّةٍ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْكُمْ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ بِكُمْ، فَهُوَ لَا يَشْرَعُ لَكُمْ إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لَكُمْ (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى، وَمِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ ; فَتَكُونُوا أَنْظَفَ النَّاسِ أَبْدَانًا، وَأَزْكَاهُمْ نُفُوسًا، وَأَصَحَّهُمْ أَجْسَامًا، وَأَرْقَاهُمْ أَرْوَاحًا (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَهَارَةِ الْأَرْوَاحِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَطَهَارَةِ الْأَجْسَادِ وَصِحَّتِهَا، فَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ، لَا تَكْمُلُ إِنْسَانِيَّتُهُ إِلَّا بِكَمَالِهِمَا مَعًا، فَالصَّلَاةُ تُطَهِّرُ الرُّوحَ، وَتُزَكِّي النَّفْسَ ; لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَتُرَبِّي فِي الْمُصَلِّي مَلَكَةَ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ لَدَى الْإِسَاءَةِ، وَحُبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِيهِ عِنْدَ الْإِحْسَانِ، وَتُذَكِّرُهُ دَائِمًا بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ، فَتُوَجِّهُ هِمَّتَهُ دَائِمًا إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: (حَافَظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) . (2: 238) فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ) . وَالطَّهَارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى شَرْطًا لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَمُقْدِمَةً لَهَا، تُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَتُنَشِّطُهُ ; فَيَسْهُلُ بِذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ عِبَادَةٍ وَغَيْرِ عِبَادَةٍ، فَمَا أَعْظَمَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَمَا أَجْدَرَ مَنْ هَدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ بِدَوَامِ الشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَيْ وَلِيُعِدَّكُم بِذَلِكَ لِدَوَامِ شُكْرِهِ ; فَتَكُونُوا أَهْلًا لَهُ، وَيَكُونَ مَرْجُوًّا مِنْكُمْ لِتَحَقُّقِ أَسْبَابِهِ، وَدَوَامِ الْمُذَكِّرَاتِ بِهِ، فَتَعْنَوْا بِالطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَتَقُومُوا بِشُكْرِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ " الطَّهَارَةِ " فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ الْبَدَنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ، فَمِنَ

الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (74: 4) وَقَوْلُهُ فِي النِّسَاءِ عِنْدَ الْحَيْضِ: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أَيْ مِنَ الدَّمِ (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) أَيِ اغْتَسَلْنَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (2: 222) وَالتَّطَهُّرُ فِيهِ شَامِلٌ لِلطَّهَارَتَيْنِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ ; أَيِ الْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَحْدَاثِ، وَمِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ; فَالسِّيَاقُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَذِكْرُ التَّوْبَةِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ أَتَى الْحَائِضَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ وَتَتَطَهَّرَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ. وَمِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي خَاصَّةً قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (5: 41) وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (27: 56) أَيْ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (2: 125) أَيْ طَهِّرَاهُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَشَعَائِرِهَا وَمَظَاهِرِهَا ; كَالْأَصْنَامِ، وَالتَّمَاثِيلِ، وَالصُّوَرِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتِ الطَّهَارَةُ فِيهَا بِمَعْنَيَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ) (9: 108) فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَرَفْتَ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ لِكَلِمَةِ الطَّهَارَةِ فِي مَعْنَيَيْهَا تَرَجَّحَ عِنْدَكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَذِكْرُ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ قَرِينَةُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالسِّيَاقُ الْعَامُّ وَذِكْرُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ بِغَيْرِ مُتَعَلِّقٍ، قَرِينَةُ الْمَعْنَى الثَّانِي مَضْمُومًا إِلَى الْأَوَّلِ. أَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي حِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَيَتَضَمَّنُ حِكْمَةَ مَا يَجِبُ مِنْ طَهَارَةِ كُلِّ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الْقَذَرِ، فَيَدْخُلُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ نُبَيِّنُ فِيهِمَا فَوَائِدَهُمَا الذَّاتِيَّةَ، وَفَوَائِدَهُمَا الدِّينِيَّةَ. الْفَوَائِدُ الذَّاتِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ: أَمَّا فَوَائِدُهُمَا الذَّاتِيَّةُ فَثَلَاثٌ (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ كَوْنِ غَسْلِ الْبَدَنِ كُلِّهِ وَغَسْلِ أَطْرَافِهِ، يُفِيدُ صَاحِبَهُ نَشَاطًا وَهِمَّةً، وَيُزِيلُ مَا يَعْرِضُ لِجَسَدِهِ مِنَ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْتَهِي بِمِثْلِ تَأْثِيرِهِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُقِيمَ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَيُعْطِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْسُرُ هَذَا فِي حَالِ الْفُتُورِ وَالْكَسَلِ، وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْمَلَلِ، أَوِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ عَقْلًا وَتَجْرِبَةً أَنَّ الطَّهَارَةَ دَوَاءٌ لِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ; فَهِيَ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ تُفِيدُ الْمَقْرُورَ حَرَارَةً، وَالْمَحْرُورَ ابْتِرَادًا، وَتُزِيلُ الْفُتُورَ الَّذِي يَعْقُبُ خُرُوجَ الْفَضَلَاتِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ اللَّذَيْنِ يَضُرُّ احْتِبَاسُهُمَا ; كَاحْتِبَاسِ الرِّيحِ فِي الْبَطْنِ، فَالْحَاقِنُ مِنَ الْبَوْلِ، وَالْحَاقِبُ مِنَ الْغَائِطِ، وَالْحَازِقُ مِنَ الرِّيحِ ; كَالْمَرِيضِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ تُكْرَهُ صَلَاتُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً،

فَمَتَى خَرَجَتْ هَذِهِ الْفَضَلَاتُ الضَّارُّ احْتِبَاسُهَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا وَأَلْقَاهُ، وَيَشْعُرُ عَقِبَ ذَلِكَ بِفُتُورٍ وَاسْتِرْخَاءٍ، فَإِذَا تَوَضَّأَ زَالَ ذَلِكَ، وَنَشَطَ وَانْتَعَشَ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَسَّ جَسَدَهَا بِغَيْرِ حَائِلٍ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ جَسَدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَحُدُوثُ اللَّذَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَبُّهٍ، أَوْ تَهَيُّجٍ فِي الْعَصَبِ، يَعْقُبُهُ فُتُورٌ مَا بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ، وَالْوُضُوءُ يُزِيلُ هَذَا الْفُتُورَ الَّذِي يَصْرِفُ النَّفْسَ بِاللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ عَنِ اللَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ بِلَذَّةٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ اللَّذَّةِ. أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ غَايَتَهَا بِالْوِقَاعِ أَوِ الْإِنْزَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْتَهَى تَهَيُّجِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يَعْقُبُهُ - بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ - أَشَدُّ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْكَسَلِ، وَضَعْفُ الِاسْتِعْدَادِ لِلَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَلَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا غَسْلُ الْبَدَنِ كُلِّهِ ; فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْغُسْلُ عَقِبَ ذَلِكَ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْإِنْزَالِ اللَّذَّةَ، وَيَحْصُلُ نَحْوُ هَذَا الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُمَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ ; فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ عَقِبَهُمَا كَمَا شُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالرَّجُلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ كُلُّهُ هُوَ مَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، وَخَصَّ مِنْهَا لَحْمَ الْإِبِلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُسْتَثْقَلُ عَلَى الْمَعِدَةِ، فَيَضْعُفُ النَّشَاطُ عَقِبَ أَكْلِهِ، ثُمَّ خَفَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَاكْتَفَى بِالْحَدَثِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْأَكْلِ عَنِ الْمَبْدَأِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ; كَالْإِغْمَاءِ، وَالسُّكْرِ، وَتَنَاوُلِ بَعْضِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ، لَا يَنْشَطُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ إِلَّا إِذَا أَمَسَّ الْمَاءَ بَدَنَهُ بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ، وَإِنَنِي أَرَى هَذَا الدُّخَانَ - التَّبْغَ وَالتِّنْبَاكَ - الَّذِي فُتِنَ بِهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الشَّارِعِ لَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ تَحْرِيمًا. وَيَقْرُبُ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهِ النَّوْمُ. وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ؛ هَلْ هُوَ لِذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِشَيْءٍ آخَرَ؟ وَهَلْ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، أَوْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ عَدَمُ تَمَكُّنِ الْمِقْعَدَةِ مِنَ الْأَرْضِ؟ فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَقِبَ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ تَحْصُلُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ حَتَّى مَا يُزِيلُ الْوَسَخَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ كَالْكُحُولِّ، فَلَا تَحْصُلُ عِبَادَةُ الْغُسْلِ بِغَيْرِهِ لِإِنْعَاشِهِ وَكَوْنِهِ أَصْلَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ الصُّوفِيَّةُ بِتَقْوِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) الْآيَةَ، وَلَا يُنَافِي رُوحَانِيَّةَ الْمَائِيَّةِ الْمَادَّةُ الْعَطِرَةُ الَّتِي تُقْطَرُ مِنَ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، بَلْ تَزِيدُ الْمُتَطَهِّرَ بِهِ طَهَارَةً وَطِيبًا وَرُوحَانِيَّةً، وَمَادَّةُ الْمَاءِ مَعْرُوفَةٌ.

(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ فَوَائِدِ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ) : مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا رُكْنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَسَخَ وَالْقَذَارَةَ مَجْلَبَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطِّبِّ ; وَلِذَلِكَ نَرَى الْأَطِبَّاءَ وَرِجَالَ الْحُكُومَاتِ الْحَضَرِيَّةِ، يُشَدِّدُونَ فِي أَيَّامِ الْأَوْبِئَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ - بِحَسَبَ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ - فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ، وَجَدِيرٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَصْلَحَ النَّاسِ أَجْسَادًا، وَأَقَلَّهُمْ أَدْوَاءً وَأَمْرَاضًا ; لِأَنَّ دِينَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَظَافَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ ; فَإِزَالَةُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ مِنْ فُرُوضِ دِينِهِمْ، وَزَادَ عَلَيْهَا إِيجَابَ تَعَهُّدِ أَطْرَافِهِمْ بِالْغَسْلِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا ; إِذْ نَاطَهُ الشَّارِعُ بِأَسْبَابٍ تَقَعُ كُلَّ يَوْمٍ، وَتَعَاهَدَ أَبْدَانَهُمْ كُلَّهَا بِالْغُسْلِ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ مَرَّةً، فَإِذَا هُمْ أَدَّوْا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، تَنْتَفِي أَسْبَابُ تَوَلُّدِ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَأْكِيدَ سُنَّةِ السِّوَاكِ، وَعَرَفَ مَا يُقَاسِيهِ الْأُلُوفُ وَالْمَلَايِينُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَمْرَاضِ الْأَسْنَانِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَمِنْ دَقَائِقِ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فِي الْوُضُوءِ لِقَوَانِينِ الصِّحَّةِ - غَيْرُ تَقْدِيمِ السِّوَاكِ عَلَيْهِ - تَأْكِيدُ الْبَدْءِ بِغَسْلِ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ وُضُوءٍ، فَهُوَ غَيْرُ الْأَمْرِ بِغَسْلِهِمَا لِمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَفَّيْنِ اللَّتَيْنِ تُزَاوَلُ بِهِمَا الْأَعْمَالُ يَعْلُقُ بِهِمَا مِنَ الْأَوْسَاخِ الضَّارَّةِ وَغَيْرِ الضَّارَّةِ مَا لَا يَعْلُقُ بِسِوَاهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَبْدَأْ بِغَسْلِهِمَا يَتَحَلَّلُ مَا يَعْلُقُ بِهِمَا فَيَقَعُ فِي الْمَاءِ الَّذِي بِهِ يَتَمَضْمَضُ الْمُتَوَضِّئُ وَيَسْتَنْشِقُ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَعَيْنَيْهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ مَعَ كَوْنِهِ يُنَافِي النَّظَافَةَ الْمَطْلُوبَةَ، وَمِنْ حِكْمَةِ تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَلَى غَسْلِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ اخْتِبَارُ طَعْمِ الْمَاءِ وَرِيحِهِ، فَقَدْ يَجِدُ فِيهِ تَغَيُّرًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْوُضُوءِ بِهِ. (الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ فَوَائِدِ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ) : تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ يَعِيشُ مَعَهُمْ، كَمَا يُكْرِمُهَا وَيُزَيِّنُهَا لِأَجْلِ غَشَيَانِ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى لِلْعِبَادَةِ، بِهِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (7: 31) وَمَنْ كَانَ نَظِيفَ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ كَانَ أَهْلًا لِحُضُورِ كُلِّ اجْتِمَاعٍ، وَلِلِقَاءِ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَشُرَفَائِهِمْ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ كَرَامَةٍ يُكْرَمُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَادُ الْوَسَخَ وَالْقَذَارَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْتَقَرًا عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ، لَا يَعُدُّونَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَلْقَاهُمْ وَيَحْضُرَ مَجَالِسَهُمْ، وَيَشْعُرُ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِالضَّعَةِ وَالْهَوَانِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي طَبَائِعِ النُّفُوسِ وَأَخْلَاقِ الْبَشَرِ رَأَى بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةِ الْبَاطِنِ، أَوْ طَهَارَةِ الْجَسَدِ وَاللِّبَاسِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ وَكَرَامَتِهَا، ارْتِبَاطًا وَتَلَازُمًا. وَالطَّهَارَةُ فِي الْآيَةِ تَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ عَوْنًا لِلْآخَرِ، كَمَا أَنَّ التَّنَطُّعَ وَالْإِسْرَافَ فِي أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَشْغَلُ عَنِ الْأُخْرَى. وَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ عِنَايَةِ بَعْضِ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ بِنَظَافَةِ الظَّاهِرِ، وَعَدَمِ عِنَايَةِ الْمُوَسْوَسِينَ الْمُتَنَطِّعِينَ فِي نَظَافَةِ الظَّاهِرِ بِنَظَافَةِ

الْبَاطِنِ، وَالْإِسْلَامُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، يَأْمُرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُمَا، وَإِنِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ حَتَّى هَوَّنُوا أَمْرَ نَظَافَةِ الظَّاهِرِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، مَعَ ذِكْرِهِمْ لِأَدِلَّتِهَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (2: 143) وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَلَهُ تَتِمَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ وَنَفْسٍ، وَكَمَالُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَظَافَةِ بَدَنِهِ، وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ ; فَالطَّهُورُ الْحِسِّيُّ هُوَ الشَّطْرُ الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِالْجَسَدِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ هُوَ الشَّطْرُ الثَّانِي، وَبِكِلْتَيْهِمَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِالْأَعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالطِّيبِ، وَلِبْسِ الثِّيَابِ النَّظِيفَةِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدِ الْأُسْبُوعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَيُطْلَبُ فِيهِ مَا يُطْلَبُ فِي عِيدَيِ السَّنَةِ، وَوَرَدَ فِي أَسْبَابِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ فِيهِ خَاصَّةً أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتْرُكُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قُبَيْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَتُشَمُّ رَائِحَةُ الْعَرَقِ مِنْهُمْ، وَلَا تَكُونُ أَبْدَانُهُمْ نَظِيفَةً، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، فَإِذَا عَرِقُوا عَلَتْ رَائِحَتُهُ حَتَّى شَمَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَهُوَ يَخْطُبُ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالثِّيَابِ النَّظِيفَةِ لِأَجْلِ هَذَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ "؛ أَيْ بَالِغٍ مُكَلَّفٍ. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ وَعَطَاءٍ وَكَعْبٍ وَالْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَالْوُجُوبُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَعَارَضَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ حَدِيثَ الْوُجُوبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَوَضَّأَ فَقَطْ، وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِلْيَوْمِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاتِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ وَمَسِّ الْفَرْجِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ. شُبَهَاتُ الْمَلَاحِدَةِ عَلَى جَعْلِ الطَّهَارَةِ عِبَادَةً: تِلْكَ فَوَائِدُ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ لَهَا الَّتِي شُعِرَتْ لِأَجْلِهَا، وَأَمَّا فَوَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَجَعْلُهَا عِبَادَةً وَدِينًا، فَإِنَّنَا قَبْلَ بَيَانِهَا نُنَبِّهُ أَذْهَانَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جَهَالَةِ بَعْضِ الْمُعَطِّلِينَ، الَّذِينَ يَنْتَقِدُونَ جَعْلَ الطَّهَارَةِ مِنَ الدِّينِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِحَقَائِقِ الْفَلْسَفَةِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا السَّفَهَ وَالتَّقْلِيدَ فِي الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عُذْرٍ: عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا

يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعُمْيَانُ الْمَنْكُوسُونَ وَالْأَغْبِيَاءُ الْمَرْكِسُونَ: إِنَّ الطَّهَارَةَ وَالْآدَابَ يَجِبُ أَنْ تُؤْتَى لِمَنْفَعَتِهَا وَفَائِدَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا ; لَا لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَى فِعْلِهَا وَيُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الدِّينَ يَحُولُ دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي ارْتَقَوْا إِلَيْهَا، وَيُفْسِدُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ بِتَخْوِيفِهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ - أَيْ حِجَابٌ - وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ هُمْ وَأَمْثَالُهُمْ، مِمَّنْ لَا دِينَ لَهُمْ، أَنْظَفُ ثِيَابًا وَأَبْدَانًا مِنْ جُمْهُورِ الْمُتَدَيِّنِينَ، حَتَّى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْهُمْ فِي الطَّهَارَةِ وَالْمُوَسْوِسِينَ، وَمَنْ يَعُدُّهُمُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ. وَنَقُولُ فِي كَشْفِ شُبْهَتِهِمْ وَإِظْهَارِ جَهَالَتِهِمْ: (أَوَّلًا) : إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ الذى لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ دِينٌ سَمَاوِيٌّ سِوَاهُ ثَابِتُ الْأَصْلِ، سَامِقُ الْفَرْعِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ دَفْعٌ لِضَرَرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ، أَوْ جَلْبٌ لِنَفْعٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، وَهُوَ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ مَعَ مَعْرِفَةِ حِكَمِهَا الْكَاشِفَةِ لَهُمْ عَنْ فَوَائِدِهَا وَمَنَافِعِهَا (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (2: 151) فَمَا يَتَبَجَّحُونَ بِهِ مِنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا، هُوَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ الذى عَظَّمَ أَمْرَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ. وَ (ثَانِيًا) : إِنَّ أَمْرَ الْأُمَمِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُفِيدُهَا فِي مَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمَنَافِعِ أَفْرَادِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وَنَهْيَهَا عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ الْأَفْرَادَ وَالْجُمْهُورَ لَا يُقْبَلَانِ وَيُمْتَثَلَانِ بِمُجَرَّدِ تَعْلِيلِهِمَا بِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ كَمَا يَزْعُمُونَ ; لِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ إِقْنَاعَكَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا بِضَرَرِ كُلِّ مَا تَرَاهُ ضَارًّا وَنَفْعِ كُلِّ مَا تَرَاهُ نَافِعًا مُتَعَذِّرٌ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ إِرْجَاعُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ عَمَلٍ ضَارٍّ، وَلَا حَمْلُهَا عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى نَفْعِ النَّافِعِ وَضَرَرِ الضَّارِّ، وَلَا تَرَى أُمَّةً وَلَا قَبِيلَةً مِنَ الْبَشَرِ مُتَّفِقَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبِ دَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ تَقَالِيدَ أَوْصَلَهُمْ إِلَيْهَا اخْتِبَارُهُمُ الْمُوَافِقُ لِطَبِيعَةِ مَعَاشِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ قَوْمٍ مُخْتَلَفًا فِيهَا عِنْدَ آخَرِينَ، أَوْ مُتَّفَقًا عَلَى ضَرَرِ مَا يَرَاهُ أُولَئِكَ نَافِعًا، وَنَفْعِ مَا يَرَوْنَهُ ضَارًّا. (ثَانِي الْأَمْرِ) : أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْنَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ بِضَرَرِ الضَّارِّ وَنَفْعِ النَّافِعِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا التَّرْكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ هَوَى النَّفْسِ وَلَذَّتُهَا فَيُرَجِّحُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ الْهَوَى عَلَى الْمَنْفَعَةِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ لِأُمَّتِهِمْ لَا لِأَشْخَاصِهِمْ، وَإِنَّنَا نَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ الْمَسَاكِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ضَارَّةٌ، وَقَدْ أَفْقَرَ الْقِمَارُ بُيُوتَ أَمْثَلِهِمْ وَأَشْهَرِهِمْ، وَأَذَلَّ مَنْ أَذَلَّ مِنْهُمْ بِالدَّيْنِ وَالْحَجْزِ عَلَى مَا يَمْلِكُ، وَبَيْعِهِ حَتَّى قِيلَ

إِنَّهُ أَمَاتَ بَعْضَهُمْ غَمًّا وَكَمَدًا، وَنَرَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَفْتُونِينَ بِهِ لَا يَتْرُكُونَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ أَرْقَاهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا وَأَدَبًا وَفَلْسَفَةً فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمُ الَّتِي ثَبَتَ لَهُمْ ضَرَرُهَا بِالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ بُرْهَانٌ؛ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَهْذِيبُ الْأُمَّةِ بِالْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَعَذُّرِهِ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ أَثَرِهِ؟ ! وَأَمَّا مَا يَعْنُونَ بِهِ مِنَ النَّظَافَةِ وَبَعْضِ الْآدَابِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ بِنَفْعِهِ، بَلْ قَلَّدُوا فِيهِ قَوْمًا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ، وَتَجَارِبَ وَاخْتِبَارَاتٍ عِدَّةَ قُرُونٍ. حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَرْقَى الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ أَخْلَاقًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا وَاسْتِقْلَالًا - وَهُوَ مِسْتَرْ مِتْشِل أَنَس الَّذِي كَانَ وَكِيلَ نِظَارَةِ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ - أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي أُورُبَّا مَنْ لَا يَغْتَسِلُ فِي سَنَتِهِ أَوْ فِي عُمْرِهِ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الشَّعْبَ الْإِنْكِلِيزِيَّ هُوَ أَشَدُّ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عِنَايَةً بِالنَّظَافَةِ، وَالْقُدْوَةُ لَهَا فِيهَا، كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الْبَوَاخِرِ الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ الْمُخْتَلِفِي الْأَجْنَاسِ، وَأَنَّ الْإِنْكِلِيزَ قَدْ تَعَلَّمُوا الِاسْتِحْمَامَ وَكَثْرَةَ الْغُسْلِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ. وَمِنْ دَلَائِلَ تَقْلِيدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَسَاكِينِ فِي النَّظَافَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ، أَنَّهُمْ فِي غَسْلِ الْأَطْرَافِ يَسْتَبْدِلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ " التُّوَالِيتَّ " بِالْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنَّ مَنْ يُعْنَى مِنْهُمْ بِأَسْنَانِهِ يَسْتَبْدِلُ فِي تَنْظِيفِهَا " الْفُرْشَةَ " بِمِسْوَاكِ الْأَرَاكِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْهَا بِشَهَادَةِ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِيِّينَ لِمَنْ أَوْصَاهُ بِأَسْنَانِهِ: " عَلَيْكَ بِشَجَرَةِ مُحَمَّدٍ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ (غَازِتَةِ بَارِيسَ الطِّبِّيَّةِ) تَحْتَ عُنْوَانِ " عِنَايَةِ الْعَرَبِ بِالْفَمِ ": " بِتَأْثِيرِ السِّوَاكِ تَصِيرُ الْأَسْنَانُ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ، وَاللِّثَةُ وَالشَّفَتَانِ جَمِيلَةَ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَإِنَّهُ لَيَسُوؤُنَا أَلَّا تَكُونَ عِنَايَتُنَا بِأَفْوَاهِنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ، كَعِنَايَةِ الْعَرَبِ بِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَا فِي عُودِ الْأَرَاكِ مِنَ الْمَادَّةِ الْعَفَصِيَّةِ الْعَطِرَةِ يَشُدُّ اللِّثَةَ، وَيَحُولُ دُونَ حَفْرِ الْأَسْنَانِ، وَإِنَّهُ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ عَلَى الْهَضْمِ، وَيَدِرُّ الْبَوْلَ، وَقَدْ فَاتَنَا أَنَّ نَذْكُرَ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى السِّوَاكِ. وَ (ثَالِثًا) : إِذَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ أَنَّ إِقْنَاعَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى تَرْكِ الضَّارِّ وَعَمَلِ النَّافِعِ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ نَافِعٌ، غَيْرُ كَافٍ فِي هِدَايَتِهَا، ثَبَتَ أَنَّ إِصْلَاحَ شَأْنِهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ، وَتَرْكِ الْمَضَارِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي سَبِيلِ الْمَنَافِعِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ آخَرَ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النَّفْسِ؛ وَهُوَ الدِّينُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِهَا طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤَهِّلُ الْعَامِلَ لِسَعَادَةِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُذْعِنَ لَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِأَحْكَامِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ حِكْمَةَ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَكُلِّ حُكْمٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ

أَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُذْعِنُ لِكُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ دِينُهُ، وَلَا يُهِمُّهُ الْبَحْثُ عَنْ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ اسْتِعْدَادَهُ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا قَبِلَ ذَلِكَ، بَادِئَ بَدْءٍ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عِنْدَمَا يَتَفَقَّهُ فِي دِينِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَهْمَا ضَعُفَ الدِّينُ فَهُوَ أَعَمُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ مُتَدَيِّنٌ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَمَا نَرَاهُ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الِاسْمُ، فَلَا تَعَلَّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا تَرَبَّوْا عَلَى تَزْكِيَتِهِ. وَ (رَابِعًا) : أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفَضَائِلَ، دِينًا هُوَ أَنَّ الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ يَأْمُرُنَا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَوَائِدِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَنْفَعُنَا، وَتَدْرَأُ الضُّرَّ عَنَّا، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى لَا نُدْرِكُهَا إِلَّا بِجَعْلِهَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَ (خَامِسًا) : - وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ، وَمَا قَبْلُهُ تَمْهِيدٌ وَمُقْدِمَاتٌ - أَنَّ الْفَوَائِدَ مِنْ جَعْلِ الطَّهَارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعِبَادَتِهِ أَرْبَعٌ، وَهِيَ كَمَا نَرَى: الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ: (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا كُلُّ مُذْعِنٍ لِهَذَا الدِّينِ ; مِنْ حَضَرِيٍّ وَبَدَوِيٍّ، وَذَكِيٍّ وَغَبِيٍّ، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ، وَعَالِمٍ بِحِكْمَتِهَا وَجَاهِلٍ لِمَنْفَعَتِهَا حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ فِيهَا الْآرَاءُ، وَلَا تَحُولَ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا الْأَهْوَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ مَا يَسْتَقِلُّونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. (الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُذَكِّرَاتِ لَهُمْ بِفَضْلِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، فَإِذَا تَذَكَّرُوا أَنَّهُ يُرْضِيهِ عَنْهُمْ أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ أَنَّ أَهَمَّ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ تَطْهِيرَ أَجْسَادِهِمْ هُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ نَظَرَ الرِّضَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، لَا إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، فَيَعْنُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ تَوَسُّلًا بِهِمَا إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (2: 201) . (الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنَّ مُجَرَّدَ مُلَاحَظَةِ الْمُؤْمِنِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ، مِمَّا يُغَذِّي الْإِيمَانَ بِهِ، وَيَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ طَهَارَةٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، الَّتِي شَرَحْنَا مَعْنَاهَا فِي بَحْثِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، جَذْبَةٌ إِلَى حَظِيرَةِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَتَعْلُو بِهَا هِمَّتُهُ، وَتَتَقَدَّسُ بِهَا رُوحُهُ، فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ عَمَلُهُ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ ; لِهَذَا كَانَ لِأُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، تِلْكَ الْأَعْمَالُ وَالْآثَارُ، وَالْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ

وَالْإِيثَارُ، الَّتِي لَمْ يَعْهَدِ الْبَشَرُ مِثْلَهَا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَجَلَّى بِهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا. (الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ) : اتِّفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الطَّهَارَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَسْبَابٍ وَاحِدَةٍ أَيْنَمَا كَانُوا وَمَهْمَا كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا، وَأَنَّ اتِّفَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ ; فَكُلَّمَا كَثُرَ مَا تَتَّفِقُ بِهِ كَانَ اتِّحَادُهَا أَقْوَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. ثُمَّ نَقُولُ (سَادِسًا) : إِنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْصِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي النَّظَافَةِ، وَيَعُدُّونَ الطَّهَارَةَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا، لَا يُنَافِي الْقَذَارَةَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ طَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ كَالْجِيفَةِ فِي وَسَخِهِ وَنَتَنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَظِيفًا تَامَّ النَّظَافَةِ، وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، وَيَعُدُّونَ كَثِيرًا مِنَ الطِّيبِ وَالْمَائِعَاتِ الْمُطَهِّرَةِ نَجِسَةً ; كَالْكُحُولِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ حُجَّةٌ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَيْهِ، إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ وَيَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، لَا عَنْ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمُعْتَرِضِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ أُصُولِهِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ شَيْئًا، إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعَمَّمِينَ مِنْهُمْ، بَلْ يَعُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ بَعْضِ أَعْدَائِهِ، وَيَقْرَءُونَهُ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَنَحْوُهَا مَا يَكْتُبُهُ رِجَالُ السِّيَاسَةِ ; لِأَنَّهُمْ يُتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَنْظُرُ إِلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مُلْتَمِسًا مِنْهَا مَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَعِيبَهُ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ ; فَهُوَ لَا يَطْلُبُ حَقِيقَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْرِكُهَا، وَلَا يَقُولُ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، بَلْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الطَّهَارَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَطُّعٍ، وَلَا وَسْوَسَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَلَا التَّرْتِيبُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلِ الْمُطَّرِدِ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ طَهَارَةَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَطْرَافِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوَسَخُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَأَكَّدَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى السِّوَاكِ وَالطِّيبِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ امْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِالنَّظَافَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، حَتَّى صَارَ هَذَا مَعْرُوفًا لَهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَسَمِعْتُ كَثِيرِينَ مِنْ أُدَبَاءِ النَّصَارَى يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَيُعَلِّلُونَهَا بِأَنَّ الْعَرَبَ

كَانَتْ قَلِيلَةَ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَافَةِ ; لِقِلَّةِ الْمَاءِ فِي بِلَادِهَا، وَلِقُرْبِ أَهْلِ الْحَضَرِ مِنْهَا مِنَ الْبَدْوِ فِي قِلَّةِ التَّأَنُّقِ وَالتَّرَفِ. نَفْيُ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ وَإِثْبَاتِ الْيُسْرِ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلٌ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ، تُبْنَى عَلَيْهِ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا نَفْيُ الْحَرِجِ، وَالْمُرَادُ بِهِ - أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ - مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآيَةِ، أَوْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَثَانِيًا - وَبِالتَّبَعِ - جَمِيعُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، مَثَلًا ; لِأَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ ; فَقَالَ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (23: 78) الْآيَةَ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدَهُ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ لَيْسَ مِنَ الْحَرَجِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقَّ الْجِهَادِ، وَهُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَكُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. وَلَا يَصْعَدُ الْإِنْسَانُ إِلَى مُسْتَوَى كَمَالِهِ إِلَّا بِبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ وَالْمَشَقَّةُ فِيمَا ضَرَرُهُ أَرْجَحُ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ ; كَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالِامْتِنَاعِ مَنْ سَدِّ الرَّمَقِ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْخَمْرِ لِمَنْ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَكَاسْتِعْمَالِ الْمَرِيضِ الْمَاءَ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مَعَ خَشْيَةِ ضَرَرِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَرْدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ غَرَضِ الشَّارِعِ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فِي وَقْتٍ آخَرَ ; كَالصِّيَامِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، بَعْدَ بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ، وَالرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ. وَقَدْ بَنَى الْعُلَمَاءُ عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَإِثْبَاتِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى الْيُسْرَ بِالْعِبَادِ فِي كُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ - عِدَّةَ قَوَاعِدَ وَأُصُولٍ، فَرَّعُوا عَلَيْهَا كَثِيرًا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، مِنْهَا: " إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ "، وَ " الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ "، وَ " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ "، وَ " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ". وَقَدْ نَاطَ الْفُقَهَاءُ مَعْرِفَةَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَتَكُونُ سَبَبَ التَّخْفِيفِ بِعُرْفِ النَّاسِ

7

فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَاسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ هَذَا الضَّابِطَ فِيمَا يَسْكُتُونَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَحْدِيدِهِ مِنَ الْعُرْفِ، وَقَالَ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَهِلْهُ إِلَّا الْعَوَامُّ الَّذِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا رَأْيِهِمْ فِي الدِّينِ (وَعِبَارَتُهُ: لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِي الدِّينِ) وَرَأَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يَتَعَيَّنُ تَقْرِيبُهُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ أَدْنَى مَشَاقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيُحَقِّقُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ، مِثْلَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، جَعَلَهُ مُسْقِطًا، وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْهَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْقِطًا، مِثَالُهُ: التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ فِي الْحَجِّ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَأَيُّ مَرَضٍ آذَى مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ; فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ الْأَنْصَارِيُّ. وَأَقُولُ: فِيمَا اسْتَشْكَلَهُ مِنْ نَوْطِ مَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ بِالْعُرْفِ، نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ نَاطُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ بِالْعُرْفِ إِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ أَوِ التَّصْنِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ كُلُّ فَرْدِ مِنْهُمُ الْعُرْفَ الْعَامَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَمَا اجْتَمَعَ عُلَمَاءُ عَصْرٍ أَوْ قُطْرٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عُرْفِ النَّاسِ فِي أَمْرٍ وَمُحَاوَلَةِ ضَبْطِهِ وَتَحْدِيدِهِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَالُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ. إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَقِيرَ الْبَائِسَ، وَالضَّعِيفَ الْمُنَّةِ (الْمُنَّةُ، بِالضَّمِّ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ) وَالْغَنِيَّ الْمُتْرَفَ وَالْقَوِيَّ الْجَلَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَيَسْهُلُ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الْجُمْهُورِ ; فَالرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَتَعَرُّفِ شُئُونِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَتِ الدَّوَاهِي فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ: " الْفَقِيهُ هُوَ الْمُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ الْعَارِفُ بِأَهْلِ زَمَانِهِ "، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مِنَ التَّقْرِيبِ مَحَلُّهُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا عُرْفَ مِمَّا يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ فَيَسْتَفْتُونَ فِيهِ، وَأَمَّا نَوْطُ كُلِّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِآرَاءِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَيَفِرُّونَ مِنْ حَظِيرَتِهِ زُرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَاسْتَبْدَلَ حُكَّامُهُمْ بِشَرْعِهِ قَوَانِينَ الْأَجَانِبِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَنَسْخَ مَا شَاءُوا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَقَاعِدَةَ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّتِي تَمَّ بِهَا الْإِنْعَامُ، ذَكَّرَنَا بِمَا إِنْ ذَكَرْنَاهُ نَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ، وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، فَقَالَ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أَيْ تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ; إِذْ كُنْتُمْ كُفَّارًا مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَاذْكُرُوا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ; أَيْ عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ حِينَ بَايَعْتُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمُكْرَهِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ; إِذْ قُلْتُمْ لَهُ سَمِعْنَا مَا أَمَرْتَنَا بِهِ وَنَهَيْتَنَا

عَنْهُ، وَأَطَعْنَاكَ فِيهِ، فَلَا نَعْصِيكَ فِي مَعْرُوفٍ، وَكُلُّ مَا جِئْتَنَا فَهُوَ مَعْرُوفٌ. أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَهْدَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى عَهْدَ النِّسَاءِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَهْدَ الرِّجَالِ، وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِهَا، وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ فِي قَوْمٍ أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ اللهِ تَعَالَى بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ كَمَا تَرَى، مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ، وَمُجَرَّدُ قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ يُعَدُّ عَهْدًا وَمِيثَاقًا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ قَبِلَ الْإِسْلَامَ وَمَنْ نَشَأَ فِيهِ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجِبُ أَنْ نَعُدَّ هَذَا التَّذْكِيرَ خِطَابًا لَنَا كَمَا كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَعُدُّونَهُ خِطَابًا لَهُمْ. (وَاتَّقُوا اللهَ) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَنْقُضُوا عَهْدَهُ بِمُخَالَفَةِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ أَنْ تَزِيدُوا فِيمَا بَلَّغَكُمْ رَسُولُكُمْ مِنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ، أَوْ تَنْقُضُوا مِنْهُ، أَوْ أَنْ تُقَصِّرُوا فِي حِفْظِهِ، أَوْ تُحَرِّفُوا كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَتَكُونُوا كَالَّذِينِ أَخَذَ اللهَ مِيثَاقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَزَادُوا فِي دِينِهِمْ بِرَأْيِهِمْ، وَنَقَصُوا مِنْهُ، كَمَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَعِقَابِهِ لَهُمْ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا أَضْمَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ، مِنَ الْوَفَاءِ أَوْ عَدَمِ الْوَفَاءِ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرِيرَةُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِخْلَاصِ أَوِ الرِّيَاءِ، وَسَيَرَوْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

8

نَادَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ عَامَّةً، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَهُمْ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَمَا حَرَّمَ مِنَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَنَادَاهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، بَلِ الثَّالِثَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَأَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ فِيهَا أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَشَدِّهِمَا، وَأَحَلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَصَيْدَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَاتِ، وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنِسَاءَهُمْ إِذَا كُنَّ مُحْصَنَاتٍ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، وَنَادَاهُمْ ثَالِثًا فَأَمَرَهُمْ بِالطَّهَارَةِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا تَرَى. وَإِذَا رَاجَعْتَ سَائِرَ السُّورَةِ تَجِدُ النِّدَاءَ فِيهَا كَثِيرًا، مِنْهُ نِدَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْهُمْ، وَنِدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، وَنِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِرَارًا أَيْضًا، هَذَا أُسْلُوبٌ فِي الْخِطَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِدَاءٍ مِنْهُ مَبْدَأَ مَوْضُوعٍ مُسْتَقِلٍّ، لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا بِمِيثَاقِهِ أَمَرَنَا بِأَنْ نَكُونَ قَوَّامِينَ لَهُ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ; لِأَنَّنَا بِذَلِكَ يُرْجَى أَنْ نَفِيَ بِمِيثَاقِهِ وَلَا نَنْقُضَهُ، كَمَا نَقَضَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَظْهَرُ لَكَ هَذَا الِاتِّصَالُ وَالتَّنَاسُبُ مِمَّا يَلِي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) الْقَوَّامُ: هُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ، وَقَدْ حَذَفَ هُنَا مَا أَمَرَنَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، فَكَانَ عَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا أَخَذَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ حَتَّى الْمُبَاحَاتِ ; أَيْ كُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ، وَأَهْلِ الْإِيقَانِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ أَوْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِ الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ ; بِأَنْ يُرِيدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ الْخَيْرَ وَالْتِزَامَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ شَائِبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَقِّ أَحَدٍ، أَوْ إِيقَاعِ ضَرَرٍ بِهِ. وَالشَّهَادَةُ بِالْقِسْطِ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ مُحَابَاةِ مَشْهُودٍ لَهُ وَلَا مَشْهُودٍ عَلَيْهِ ; لَا لِقَرَابَتِهِ وَوَلَائِهِ، وَلَا لِمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَلَا لِفَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ. فَالشَّهَادَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِلْحَاكِمِ ; لِيَحْكُمَ بِهِ، أَوْ إِظْهَارِهِ هُوَ إِيَّاهُ بِالْحُكْمِ بِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ لِصَاحِبِهِ. وَ (الْقِسْطُ) : هُوَ مِيزَانُ الْحُقُوقِ، مَتَى وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ وَالْجَوْرُ - لِأَيِّ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ - زَالَتِ الثِّقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَانْتَشَرَتِ الْمَفَاسِدُ وَضُرُوبُ الْعُدْوَانِ بَيْنَهُمْ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَعْضَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ مِنْهُمْ، فَيُزِيلُونَ اسْتِقْلَالَهُمْ، وَيُذِيقُونَهُمْ وَبَالَهُمْ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ الَّتِي شَهِدْنَاهَا فِي الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، وَشَهِدَ بِهَا تَارِيخُ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ ; فَأَنَّى يَعْتَبِرُونَ وَيَتَّعِظُونَ؟ ! (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) أَيْ وَلَا يَكْسِبَنَّكُمْ وَيَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ

وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ، أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ، عَلَى عَدَمِ الْعَدْلِ فِي أَمْرِهِمْ بِالشَّهَادَةِ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ إِذَا كَانُوا أَصْحَابَ الْحَقِّ، وَمِثْلُهَا هُنَا الْحُكْمُ لَهُمْ بِهِ، فَلَا عُذْرَ لِمُؤْمِنٍ فِي تَرْكِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ إِيثَارِهِ عَلَى الْجَوْرِ وَالْمُحَابَاةِ، بَلْ عَلَيْهِ جَعْلُهُ فَوْقَ الْأَهْوَاءِ وَحُظُوظِ النَّفْسِ، وَفَوْقَ الْمَحَبَّةِ وَالْعَدَاوَةِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُمَا، فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الْعَدْلَ فِي الشَّهَادَةِ لِلْكَافِرِ، أَوِ الْحُكْمُ لَهُ بِحَقِّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ وَالنِّيَّةُ فِيهِ، بَلْ أَكَّدَ أَمْرَهُ بِقَوْلِهِ (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أَيْ قَدْ فَرَضْتُ عَلَيْكُمُ الْعَدْلَ فَرْضًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، اعْدِلُوا هُوَ - أَيِ الْعَدْلُ الْمَفْهُومُ مِنْ " اعْدِلُوا " - أَقْرَبُ لِتَقْوَى اللهِ ; أَيْ لِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ وَسُخْطِهِ بِاتِّقَاءِ مَعْصِيَتِهِ، وَهِيَ الْجَوْرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَاصِي ; لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . الْخِبْرَةُ: الْعِلْمُ الدَّقِيقُ الَّذِي يُؤَيِّدُهُ الِاخْتِبَارُ ; أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَلَا مِنْ نِيَّاتِكُمْ وَحِيَلِكُمْ فِيهَا، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ فَاحْذَرُوا أَنْ يُخْزِيَكُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى تَرْكِكُمُ الْعَدْلَ، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ الْعَادِلَةُ فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ جَزَاءَ تَرْكِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الدُّنْيَا هُوَ ذُلُّ الْأُمَّةِ وَهَوَانُهَا، وَاعْتِدَاءُ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، وَلَجَزَاءُ الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى، وَأَشَدُّ وَأَبْقَى، قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا ظُلِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَوْلَةَ الْعَدُوِّ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (4: 135) (فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 270 - 373 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْخَامِسِ ط الْهَيْئَةِ) وَمَا أَطَلْنَا بِهِ هُنَاكَ يُغْنِينَا عَنِ الْإِطَالَةِ هُنَا، عَلَى أَنَّ مَا هُنَا أَبْلَغُ، وَإِنْ كَانَ أَخْصَرَ ; لِأَنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ " قَوَّامِينَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْقِسْطُ وَغَيْرُهُ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَالشَّهَادَةُ لَهُمْ بِهِ يُفِيدُ وُجُوبَهُ مَعَ غَيْرِهِمْ بِالْأَوْلَى. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مِمَّا حَتَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ أَقْرَبُ مَا يُتَّقَى بِهِ عِقَابُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ قِوَامُ الصَّلَاحِ لِلْأَفْرَادِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَقْوَامِ، وَلَمَّا عَلَّلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِدَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ يُشِيرُ إِلَى جَزَاءِ الْعَامِلِينَ الْمُتَّقِينَ وَغَيْرِ الْمُتَّقِينَ - قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَيَانِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَيِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَمْرُ الْعِبَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي رَوَابِطِهِمْ، وَمَرَافِقِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ أُسُسِهَا: الْعَدْلُ الْعَامُّ التَّامُّ، وَالتَّقْوَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمَاذَا وَعَدَهُمْ؟ أَوْ مَاذَا فِي وَعْدِهِ لَهُمْ، وَالْوَعْدُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ؟ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا هَذَا

9

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) . وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوَعْدِ بِالْمَوْعُودِ نَفْسِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْفَتْحِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (48: 29) لِأَنَّ مَا هُنَالِكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، لَا تَأْكِيدَ فِيهِ، وَلَا زِيَادَةَ عِنَايَةٍ بِتَقْرِيرِهِ، وَمَا هُنَا خَبَرٌ فِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ أَوْ تَقْرِيرٍ لِلْوَعْدِ ; فَقَدْ وَعَدَ وَعَدًا مُجَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تَتَوَجَّهَ النَّفْسُ لِلسُّؤَالِ عَنْ بَيَانِهِ، فَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ بِخَبَرٍ آخَرَ أَثْبَتَ فِيهِ أَنَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ وَعَدَهُمْ وَعْدًا حَسَنًا، أَوْ جَزَاءً حَسَنًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ مَفْعُولٌ، وَأَنْ لِهَؤُلَاءِ الْمَوْعُودِينَ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا. هَذَا إِذَا جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، وَهُوَ التَّقْدِيرُ الْمُتَقَدِّمُ الْمُخْتَارُ، وَكَذَلِكَ إِذَا جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ بَابِ مَقُولِ الْقَوْلِ تَتَضَمَّنُ زِيَادَةَ التَّقْرِيرِ لِلْمَوْعُودِ بِهِ، وَالتَّأْكِيدِ لِوُقُوعِهِ. وَمَعْنَى الْمَغْفِرَةِ: أَنَّ إِيمَانَهُمْ وَعَمَلَهُمُ الصَّالِحَ يَسْتُرُ أَوْ يَمْحُو مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ السَّابِقَةِ، فَيَغْلِبُ فِيهَا حُبُّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَكُونُ صَالِحَةً لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، الْمُضَاعَفُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمَّا بَيَّنَ الْوَعْدَ اقْتَضَى أَنْ يُبَيِّنَ الْوَعِيدَ، كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، فَقَالَ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا: الْكُفْرُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْكُفْرِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ وَالْإِيمَانِ بِبَعْضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ بِأَيِّ رَسُولٍ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ - مِمَّنْ يَعْقِلُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ - إِلَّا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ. وَآيَاتُ اللهِ تَعَالَى قِسْمَانِ: آيَاتُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى رَسُولِهِ، وَآيَاتُهُ الَّتِي أَقَامَهَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَعَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ; أَيْ دَارِ الْعَذَابِ. وَالْجَحِيمُ: النَّارُ الْعَظِيمَةُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وَمَعْلُومٌ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي هَذَا الْبُنْيَانِ نَارًا عَظِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عَمَلٌ، فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِلْأَرْوَاحِ وَتَدْسِيَتَهُ لِلنُّفُوسِ لَا يَمْحُوهَا عَمَلٌ آخَرُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ (وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ هَمَّ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ قَوْمُهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ بِيَدِهِ السَّيْفُ، وَلَيْسَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحٌ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا. وَأَقْوَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ

مِنْ مُحَارِبٍ، وَاسْمُهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ (قَالَ) : قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: اللهُ. فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: (تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟) قَالَ: أُعَاهِدُكَ أَلَّا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّيْفَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ الْأَعْرَابِيِّ كَانَ سَيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَهُ فِي شَجَرَةٍ وَقْتَ الرَّاحَةِ، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ، وَجَعَلَ يَهُزُّهُ، وَيَهُمُّ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكْبِتُهُ اللهُ تَعَالَى. وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ ; إِذْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الْإِعَانَةَ عَلَى دِيَةِ قَتْلِ الرَّجُلَيْنِ الْكِلَابِيَّيْنِ، اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَقَوْمُهُمَا مُحَارِبُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَأَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الدِّيَاتِ ; فَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ بَيْنُهُمْ أَظْهَرُوا لَهُ الْقَبُولَ، وَقَالُوا اقْعُدْ حَتَّى نَجْمَعَ لَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتَسْأَلَنَا حَاجَةً، اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ الَّذِي تَسْأَلُنَا. فَلَمَّا جَلَسَ بِجَانِبِ جِدَارِ دَارٍ لَهُمْ وَجَدُوا أَنَّ الْفُرْصَةَ قَدْ سَنَحَتْ لِلْغَدْرِ بِهِ، وَقَالَ لَهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ: لَا تَرَوْنَهُ أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، اطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَرَوْنَ شَرًّا أَبَدًا! فَهَمُّوا أَنْ يَطْرَحُوا عَلَيْهِ صَخْرَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: رَحًى عَظِيمَةً، وَإِنَّمَا اعْتَلُّوا بِصُنْعِ الطَّعَامِ ; لِيَكُونَ لَهُمْ فِيهِ وَقْتٌ يَنْقُلُونَ الصَّخْرَةَ، أَوِ الرَّحَى إِلَى سَطْحِ الدَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ مَنْ مَعَهُ أَيْضًا، وَقِيلَ كَانَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا، وَقَدْ أَعْلَمَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَانْطَلَقَ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُذَكِّرَةً بِهَذِهِ الْقِصَّةِ ; فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ وَبِحَادِثَةِ الْمُحَارِبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ وَقَائِعِ الِاعْتِدَاءِ الَّتِي كَانَتْ كَثِيرَةً حَتَّى بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامَ بِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، دَعْ مَا كَانَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِيذَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَعُدْوَانِهِمْ ; فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُذَكِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْمِنَّةُ لَهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى مَنْ وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَقَائِعُ مِنَ النَّبِيِّ، صَلَّى الله عَلَيْهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ،

11

بَلْ هِيَ مِنَّةٌ عَامَّةٌ، يَجِبُ أَنْ يَشْكُرَهَا لَهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كُلُّ مُؤْمِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّ حِفْظَهُ لِأُولَئِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ هُوَ عَيْنُ حِفْظِهِ لِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَأَصْحَابُهُ هُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنْهُ بِالْقَبُولِ، وَأَدَّوْهَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا التَّذْكِيرِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَرْغِيبُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِسَلَفِهِمْ فِي الْقِيَامِ بِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاحْتِمَالِ الْجُهْدِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ; أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِعِنَايَتِهِ بِكُمْ ; إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ; أَيْ شَارَفُوا أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَنْفِيذَ مَا هَمُّوا بِهِ وَكَادُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ. وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَرَاكُمْ قُدْرَتَهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَقْتَ ضَعْفِكُمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَقَدْ أَرَاكُمْ عِنَايَتَهُ بِمَنْ يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ مُرَاعَاةِ سُنَنِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَيْهَا فِي اتِّقَاءِ كُلِّ مَا يُخْشَى ضُرُّهُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بِقُدْرَتِهِ وَعِنَايَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْفُسِهَا، وَلَا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَغْدِرُونَ كَمَا غَدَرَ بَنُو النَّضِيرِ وَغَيْرُهُمْ ; وَلِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ قَدْ يَكْثُرُ عَلَيْهَا الْأَعْدَاءُ، وَتَتَقَطَّعُ بِهَا الْأَسْبَابُ، فَتَقَعُ بَيْنَ أَمْوَاجِ الْحَيْرَةِ وَالِاضْطِرَابِ، حَتَّى تَفْقِدَ الْبَأْسَ، وَتُجِيبَ دَاعِيَ الْيَأْسِ، وَلَا يَقَعُ هَذَا لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ إِذَا هَمَّ أَنْ يَيْئَسَ مِنْ نَفْسِهِ بِتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، وَتَغْلِيقِ الْأَبْوَابِ، وَتَغَلُّبِ الْأَعْدَاءِ، وَتَقَلُّبِ الْأَوْلِيَاءِ، يَتَذَكَّرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيرُ، وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، فَتَتَجَدَّدُ قُوَّتُهُ، وَتَنْفَتِقُ حِيلَتُهُ، فَيَفِرُّ مِنْهُ الْيَأْسُ، وَيَتَجَدَّدُ عَنْهُ مَا اخْلَوْلَقَ مِنَ الْبَأْسِ، فَيَنْصُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا يَسْتَفِيدُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالذِّكْرَى وَالتَّوَكُّلِ، وَمَا يَخْذُلُ بِهِ عَدُوَّهُ وَيُلْقِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الرُّعْبِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ عِنَايَتِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الَّتِي رَآهَا كُلُّ مُتَوَكِّلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَمَلَةِ، مَعَ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَتَأَلُّبِ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى ثُمَّ بِالتَّوَكُّلِ؛ وَإِنَّمَا التَّقْوَى بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَكُلِّ شَرٍّ وَمِنْ مَبَادِئِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ. وَلَا تَحْصُلُ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ; لِأَنَّ مَنْ يُوكَلُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ. وَمَنْ تَنَكَّبَ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ عَمِلٍ نَافِعٍ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ عَمِلَ ضَارٍّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَاثِقًا بِهِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ التَّوَكُّلِ وَالْأَسْبَابِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ (رَاجَعْ ص 168 - 175 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ، ط الْهَيْئَةِ) .

12

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) . إِنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْذِ اللهِ الْمِيثَاقَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ ; فَكَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ فِيهَا الرُّسُلَ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ، فَلَمَّا ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمِيثَاقِهِ، الَّذِي وَاثَقَنَا بِهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ، ذَكَرَ لَنَا أَخْذَهُ مِثْلَ هَذَا الْمِيثَاقِ عَلَى أَقْرَبِ الْأُمَمِ إِلَيْنَا وَطَنًا وَتَارِيخًا، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُ، وَمِنْ عِقَابِهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَنْتَظِرُونَ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ - وَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى - لِنَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ حَذْوَ مِثَالِهِمْ، وَلِيُبَيِّنَ لَنَا عِلَّةَ كُفْرِهِمْ بِنَبِيِّنَا، وَتَصَدِّيهِمْ لِإِيذَائِهِ وَعَدَاوَةِ أُمَّتِهِ ; وَلِيُقِيمَ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَرَاهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ. فَهَذَا مَبْدَأُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى:

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يُقْسِمُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الْعَهْدَ الْمُوَثَّقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَعْمَلُنَّ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ ; لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ هَذَا الْأَمْرِ وَتَحْقِيقِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِمَا رَتَّبَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَوْرَاتِهِمْ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَارِيخِهِمْ. وَلَا يَزَالُ هَذَا الْمِيثَاقُ فِي آخِرِ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ " وَأَخْذِنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا " (4: 154) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ) . (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) النَّقِيبُ فِي الْقَوْمِ: مَنْ يُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَبْحَثُ عَنْ شُئُونِهِمْ، مِنْ نَقَبَ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا بَحَثَ أَوْ فَحَصَ فَحْصًا بَلِيغًا، وَأَصْلُهُ الْخَرْقُ فِي الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ ; كَالنَّقْبِ فِي الْخَشَبِ وَمَا شَابَهَهُ، وَيُقَالُ نَقَبَ عَلَيْهِمْ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلِمَ) نِقَابَةً ; أَيْ صَارَ نَقِيبًا عَلَيْهِمْ، عُدِّيَ بِاللَّامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّوْلِيَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَنُقَبَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ زُعَمَاءُ أَسْبَاطِهِمُ الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمْ: إِرْسَالُهُمْ لِمُقَاتَلَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ يَجِيءُ خَبَرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا أُخِذَ بِهِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْثَهُمْ مِنْهُمْ هُوَ جَعْلُهُمْ رُؤَسَاءَ فِيهِمْ (وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى مِيثَاقِي، قَالَ اللهُ هَذَا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ بَلَّغَهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَيُجَدِّدُهُ رُسُلُهُمْ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ نَحْوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِهِ عَلَيْهِمْ، إِذَا هُمْ نَقَضُوهُ (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) أَيْ وَأَقْسَمَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِمَا مَضْمُونُهُ: لَئِنْ أَدَّيْتُمُ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَعْطَيْتُمْ مَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَتَتَطَهَّرُ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أَيْ بِرُسُلِي الَّذِينَ أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ بَعْدَ مُوسَى ; كَدَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ تَأْخِيرِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - وَهُوَ مِنْ أَصُولُ الْعَقَائِدِ - عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهُمَا مِنْ فُرُوعِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي بَلَّغَهُمْ ذَلِكَ. " وَالتَّعْزِيرُ ": النُّصْرَةُ مَعَ التَّعْظِيمِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَسُمِّيَ مَا دُونَ الْحَدِّ مِنَ التَّأْدِيبِ الشَّرْعِيِّ تَعْزِيرًا ; لِأَنَّهُ نُصْرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَمْعٌ لِلْمُعَزَّرِ عَمَّا يَضُرُّ وَمَنَعٌ لَهُ أَنْ يُقَارِفَهُ. فَالتَّعْزِيرُ قِسْمَانِ: أَنْ تَرُدَّ عَنِ الْمَرْءِ مَا يَضُرُّهُ، أَوْ تَرُدَّهُ هُوَ عَمَّا يَضُرُّهُ مُطْلَقًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ تَعْزِيرُ النَّاسِ لِلرُّسُلِ (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أَيْ وَبَذَلْتُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْمَعْرُوفِ فَوْقَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَفَرَضَهُ عَلَيْكُمْ بِالنَّصِّ ; فَكُنْتُمْ بِذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَنْ أَقْرَضَ مَالَهُ لِغَنِيٍّ مَلِيٍّ وَفِيٍّ ; فَهُوَ لَا يَضِيعُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَجِدُهُ أَمَامَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا فِي هَذَا التَّعْبِيرِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (2: 245) فِي ص 366 - 372 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي ط الْهَيْئَةِ. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ ; أَيْ لَأُزِيلَنَّ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ الْخَمْسِ - الصَّلَاةِ ،

وَالزَّكَاةِ، وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَالْإِقْرَاضِ الْحَسَنِ - تَأْثِيرَ سَيِّئَاتِكُمُ الْمَاضِيَةِ مِنْ نُفُوسِكُمْ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا خُبْثٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَذَلِكَ بِحَسَبَ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِذْهَابِ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ، كَمَا يَغْسِلُ الْمَاءُ الْقَاذُورَاتِ (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ طَاهِرَ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِرَارًا، وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ حَالِ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّهِ، فَقَالَ: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلَ) أَيْ ضَلَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَالسَّبِيلَ السَّوِيَّ، الَّذِي يُوَصِّلُ سَالِكَهُ إِلَى إِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ، وَانْحَرَفَ عَنْ وَسَطِهِ فَخَرَجَ عَنْهُ بِسُلُوكِ إِحْدَى سُبُلِ الْبَاطِلِ الْمُفْسِدَةِ لِلْفِطْرَةِ، وَالْمُدَسِّيَةِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يَنْتَهِي سَالِكُهَا إِلَى دَارِ الْجَحِيمِ وَالْخِزْيِ الْمُقِيمِ. (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَنَا الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَوَاثَقْنَاهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِمَنْ نُرْسِلُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ وَنَصْرُهُمْ، وَتَعْزِيرُهُمْ، اسْتَحَقُّوا لَعْنَتَنَا وَالْبُعْدَ مِنْ رَحْمَتِنَا ; لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ قَدْ دَنَّسَ نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ، وَقَسَّى قُلُوبَهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَافْتَرَوْا عَلَى مَرْيَمَ وَبَهَتُوهَا، وَأَهَانُوا وَلَدَهَا الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ، وَافْتَخَرُوا بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشُّبْهَةِ، فَمَعْنَى لَعْنِهِمْ وَجَعْلِ قُلُوبِهِمْ قَاسِيَةً أَنَّ نَقْصَ الْمِيثَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ كَانَ بِحَسَبَ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، مُبْعِدًا لَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ رَحْمَةَ اللهِ وَفَضْلَهُ، وَمُقَسِّيًا لِقُلُوبِهِمْ حَتَّى لَمْ تَعُدْ تُؤَثِّرُ فِيهَا حُجَّةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ، فَهَذَا مَعْنَى إِسْنَادِ اللَّعْنَةِ وَتَقْسِيَةِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ شَيْءٌ خَلَقَهُ اللهُ ابْتِدَاءً، وَعَاقَبَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسَبَّبًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ، وَلَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ الْإِلَهِيِّ ; إِذْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْجَزَاءِ الْوَضْعِيِّ الْمُرَتَّبِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الطِّبِّ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ وَلِحِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، وَجَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَوْ خَلَقَ اللهُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِهِمُ ابْتِدَاءً فَلَمْ تَكُنْ أَثَرًا لِأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ السَّيِّئَةِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَذُمَّهُمْ بِهَا، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " قَسِيَّةً " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ " فَعِيلَةً "، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ " قَاسِيَةً " وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَلِأَجَلِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ كُتِبَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ: إِنَّ " قَسِيَّةً " بِمَعْنَى " رَدِيئَةً فَاسِدَةً "، مِنْ قَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ قَسِيٌّ، عَلَى وَزْنِ " شَقِيٌّ ": أَيْ " فَاسِدٌ مَغْشُوشٌ "، وَقَدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْقَسْوَةِ بِمَعْنَى الصَّلَابَةِ ; لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، فَإِذَا غُشَّا بِإِدْخَالِ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فِيهِمَا كَالنُّحَاسِ أَفَادَهُمَا ذَلِكَ قَسْوَةً وَصَلَابَةً.

13

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) التَّحْرِيفُ: إِمَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَرْفِ، وَهُوَ الطَّرَفُ وَالْجَانِبُ، وَالْكَلِمُ جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْمُرَكَّبَةِ ذَاتِ الْمَعْنَى التَّامِّ الْمُفِيدِ ; كَقَوْلِكَ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَتَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ يَصْدُقُ بِتَحْرِيفِ الْأَلْفَاظِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِتَحْرِيفِ الْمَعَانِي بِحَمْلِ الْأَلْفَاظِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، وَقَدِ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَلْفَاظِ كِتَابٍ مُتَوَاتِرٍ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِيَارِ وَالتَّعْلِيلِ عَدَمُ وُقُوفِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَدَمُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَقِيَاسُ تَوَاتُرِهَا عَلَى الْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَرَفُوا تَارِيخَ الْقَوْمِ وَاطَّلَعُوا عَلَى كُتُبِهِمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ وَغَيْرِهَا (وَكَذَا كُتُبُ النَّصَارَى) هُوَ أَنَّ التَّحْرِيفَ اللَّفْظِيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ كِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَأَنَّهَا كُتُبٌ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، فَالتَّوْرَاةُ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخَذَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا - كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ - قَدْ فُقِدَتْ قَطْعًا، بِاتِّفَاقِ مُؤَرِّخِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ نُسْخَةٌ سِوَاهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَحْفَظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، كَمَا حَفِظَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إِلَى مُوسَى فِيهَا خَبَرُ كِتَابَتِهِ التَّوْرَاةَ، وَأَخْذِهِ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ بِحِفْظِهَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا قَطْعًا، وَفِيهَا خَبَرُ مَوْتِهِ وَكَوْنِهِ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِثْلُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ; أَيِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهَذَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي كَوْنِ الْكَاتِبِ كَانَ بَعْدَ مُوسَى بِزَمَنٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ طَوِيلٌ، وَكَوْنِ مَا ذُكِرَ لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي شَيْءٍ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا فُقِدَتْ عِنْدَ سَبْيِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْكَلِمِ الْبَابِلِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ. فَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ نَقْلُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ الْإِسْنَادُ فِي طَبَقَةٍ مَا؟ وَالْمَرْجِعُ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْرَاةَ الْمَوْجُودَةَ كُتِبَتْ بَعْدَ مُوسَى بِبِضْعَةِ قُرُونٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ عِزْرَا الْكَاهِنُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ أَرْتَحْشِشْتَا الَّذِي أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ ; إِذْ أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَنَزِيدُهَا بَيَانًا. (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " نَسُوا الْكِتَابَ "، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: " نَسُوا كِتَابَ اللهِ ; إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ "، وَمُرَادُهُمَا الْحَظُّ مِنْهُ ; أَيْ نَسُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْلِ الْكِتَابِ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرَ الْآيَةِ: " إِنِّي لَأَحْسَبُ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا ; يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ مِنْ نِسْيَانِهِمْ لِبَعْضِ مَا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ ". وَفَسَّرَ النِّسْيَانَ بَعْضُ

14

الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا نِسْيَانَ شَيْءٍ مِنْ أَصْلِ كِتَابِ الْقَوْمِ، وَإِضَاعَتَهُ ; لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاتِرًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ أَضَاعُوا كِتَابَهُمْ وَفَقَدُوهُ عِنْدَمَا أَحْرَقَ الْبَابِلِيُّونَ هَيْكَلَهُمْ، وَخَرَّبُوا عَاصِمَتَهُمْ، وَسَبَوْا مَنْ أَبْقَى عَلَيْهِ السَّيْفُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِمُ الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ جَمَعُوا مَا كَانُوا حَفِظُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَوَعَوْهُ بِالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ ذَكَرُوهُ فِي بَعْضِ مَكْتُوبَاتِهِمْ لِنَحْوِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِ، وَنَسُوا الْبَاقِيَ. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، وَكَذَا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (3: 23، 4: 44، و51) وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ " فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " وَتِلْكَ الْجُمْلَةَ " أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ " لَمِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، الَّتِي أَثْبَتَهَا التَّارِيخُ لَنَا بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِدَّةِ قُرُونٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ وَهُمْ أُمِّيُّونَ أَنَّ الْيَهُودَ فَقَدُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَهُ لَهُمْ كَاتِبٌ مِنْهُمْ نَشَأَ فِي السَّبْيِ وَالْأَسْرِ بَيْنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ، فَنَقَصَ مِنْهُ وَزَادَ فِيهِ، وَلَمْ تُعْرَفِ الْمَصَادِرُ الَّتِي جَمَعَ مِنْهَا مَا كَتَبَهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، بَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا خَفِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عِدَّةَ قُرُونٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعِلْمِ فِيهِمْ. أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ كِتَابِهِمْ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَفِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ (3: 23، و4: 44، و51) أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي (4: 46) أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: (أُوتُوا نَصِيبًا) أَنَّهُمْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ؛ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَنْسِيَّ هُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانُ صِفَاتِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ نَسَوْهَا كُلَّهَا لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ فِي عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُمْ (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (2: 146) وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ لَازِمِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ عِنْدَ امْتِنَاعِ إِرَادَتِهَا، وَلَا امْتِنَاعَ هُنَا، وَمِنْ دَلَائِلِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ آيَةُ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) فَمَعْنَى مَا هُنَاكَ وَمَا هُنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ فَصَاعِدًا إِلَى زَمَنِ السَّبْيِ وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي فُقِدَتْ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ وَإِلَى مَا شَاءَ اللهُ - أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَنَسُوا نَصِيبًا مِنْهُ بِسَبَبِ فَقْدِ الْكِتَابِ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ لَهُ كُلِّهِ فِي الصُّدُورِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي أُوتُوهُ مِنْهُ وَبَقِيَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ كَمَا يَجِبُ، وَلَا يُقِيمُونَ مَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي، بَلْ كَانُوا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِاللَّيِّ وَالتَّأْوِيلِ، عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مُحَرَّفًا لَفْظُهُ ; لِأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ قَرَاطِيسَ وَصُحُفٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا ثِقَةَ بِأَهْلِهَا، وَلَا بِضَبْطِ مَا فِيهَا، وَسَنَذْكُرُ تَتِمَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْكَلَامِ عَنْ نِسْيَانِ النَّصَارَى حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) الْخَائِنَةُ هُنَا: الْخِيَانَةُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ. وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ

بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَصْدَرِ أَحْيَانًا، كَمَا تَعْكِسُ فَاسْتَعْمَلَتْ " الْقَائِلَةَ " بِمَعْنَى " الْقَيْلُولَةِ " وَالْخَاطِئَةَ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، أَوْ هِيَ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ ; إِمَّا مُذَكَّرٌ - وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا قَالُوا رَاوِيَةً لِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ، وَدَاعِيَّةً لِمَنْ تَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الشَّيْءِ - وَإِمَّا مُؤَنَّثٌ بِتَقْدِيرِ نَفْسٍ أَوْ فِعْلَةٍ أَوْ فِرْقَةٍ خَائِنَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَكَ عَلَى خِيَانَةٍ بَعْدَ خِيَانَةٍ مَا دَامُوا مُجَاوِرِينَ أَوْ مُعَامِلِينَ لَكَ فِي الْحِجَازِ، فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ مَكْرَهُمْ وَكَيْدَهُمْ بِتَأْمِينِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا وَفَاءَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ، وَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُمُ الْوَفَاءُ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّقْضِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَإِخْوَانِهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ; فَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِي إِسْلَامِهِمْ، لَا يَقْصِدُونَ خِيَانَةً وَلَا خِدَاعًا (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَلِيلِ، وَاصْفَحْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَعَامِلْهُمْ بِالْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَحَرِّي مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ. أَوْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إِيثَارًا لِلْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا أَمْرًا مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ التَّوْبَةِ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (9: 29) الْآيَةَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَيَرُدُّهُ قِتَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنُ آيَةِ التَّوِيَةِ نَزَلَتْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، فَإِنَّهُمْ بِخِيَانَتِهِمْ صَارُوا حَرْبِيِّينَ، وَاسْتَحَقُّوا أَنْ يُقْتَلُوا، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ يُعَدُّ عَفْوًا وَصَفْحًا عَنْ قَتْلِهِمْ، وَإِحْسَانًا لَهُمْ. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْخِيَانَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، لَا عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي يَصِيرُونَ بِهِ مُحَارِبِينَ لَا يُؤْمَنُ جِوَارُهُمْ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَاهَدُوا، أَوِ الْتَزَمُوا الْجِزْيَةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا يُقَالُ فِي رَأْيِ الْجُمْهُورِ. وَلَوْلَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَهُودِ مِنَ الْقِتَالِ، وَعَنْ نُزُولِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، لَقُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَمِثْلُهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ بِقَرِينَةِ مَا جَاءَ قَبْلَ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ خَبَرِ مُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدْرًا مِنْهُمْ وَخِيَانَةً، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ تَرْكَ قَتْلِهِمْ، وَالرِّضَاءَ مِنْهُمْ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ. ثَبْتَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغِبَ - عِنْدَمَا آوَى إِلَى الْمَدِينَةِ - فِي مُصَالَحَةِ الْيَهُودِ وَمُوَادَعَتِهِمْ، فَعَقَدَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا مَنْ يُحَارِبُهُ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا لَهُ، وَأَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ ; فَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ وَتَصَدَّى لِحَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّهُمْ بَأْسًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ وَسَأَلَهُ

عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ وَهَبَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ لِلْخَزْرَجِ، وَكَانَ هُوَ يَتَوَلَّاهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَنْصُرُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَطَاعَ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ أَيْضًا، وَهَمُّوا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَّ لَهُ قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ السِّلْمَ، وَأَنْ يَكْتَفِيَ أَمْرَهُمْ بِطَرْدِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ " أَنِ اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا، فَمَنْ وَجَدْتُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، " فَأَقَامُوا يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامًا، ثُمَّ ثَنَاهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ; إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَلَّا تَخْرُجُوا، فَإِنَّ مَعِي أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ، فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ، وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَطْمَعَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْغَدْرِ بِهِ، فَغَرَّهُ قَوْلُ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا لَا نَخْرُجُ، فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، وَهَذَا إِعْلَانٌ لِلْحَرْبِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، يَحْمِلُ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ أَقَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ يَرْمُونَ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَخَانَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَلَمْ تَنْصُرْهُمْ قُرَيْظَةُ وَغَطَفَانُ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَاَرُ رَضُوا بِالْخُرُوجِ سَالِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ وَاكْتِفَاءَ شَرِّهِمْ بِإِبْعَادِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بِنُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَمَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى خَيْبَرَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ عَظِيمٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ; لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ، وَلَمْ يُعَاقِبِ الْيَهُودَ عَلَى خِيَانَةٍ وَلَا غَدْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِإِجْلَائِهِمْ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَعْدَهُ. وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى نَقْضَ الْيَهُودِ لِمِيثَاقِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ وَكَذَلِكَ أَخَذْنَا مِيثَاقَ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ وَنَصَرُوهُ، وَقَدْ صَارُوا طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمْ، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ; أَيْ فَكَانَ نِسْيَانُ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ كِتَابِهِمْ سَبَبًا لِوُقُوعِهِمْ فِي الْأَهْوَاءِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْبَشَرِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَالْإِغْرَاءُ: التَّحْرِيشُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ سَبَبًا وَمُسَبَّبًا ; لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. فَهَذَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يُنَبِّئُهُمُ بِحَقِيقَةِ ضَلَالِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

بَيَّنَ اللهُ لَنَا أَنَّ النَّصَارَى نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَالْيَهُودِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكْتُبْ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَوْحِيدِ اللهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالْإِرْشَادِ لِعِبَادَتِهِ، وَكَانَ مَنِ اتَّبَعُوهُ مِنَ الْعَوَامِّ، وَأَمْثَلُهُمْ حَوَارِيِّوهُ وَهُمْ مِنَ الصَّيَّادِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ الْيَهُودُ فِي عَدَاوَتِهِمْ وَمُطَارَدَتِهِمْ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ ذَاتُ قُوَّةٍ وَعِلْمٍ تُدَوِّنُ مَا حَفِظُوهُ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ وَتَحْفَظُهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَبُثُّونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي عَصْرِهِمْ تَعَالِيمَ بَاطِلَةً عَنِ الْمَسِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ كَتَبُوا كُتُبًا سَمَّوْهَا الْأَنَاجِيلَ كَثِيرُونَ جِدًّا، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَتَوَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، وَمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَهُمُ الْآنَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ عِنْدَمَا صَارَ لِلنَّصَارَى دَوْلَةٌ بِدُخُولِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِدْخَالِهِ إِيَّاهَا فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ نَاقِصٍ لِلْمَسِيحِ، وَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ مَجْهُولَةُ الْأَصْلِ وَالتَّارِيخِ، بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مُؤَلِّفِيهَا وَاللُّغَاتِ الَّتِي أَلَّفُوهَا بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " حَقِيقَةَ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَكَوْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ لَمْ تَحْوِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، كَمَا تَحْتَوِي السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ عِنْدَنَا عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْإِنْجِيلِ قَدْ دَخَلَهُ التَّنَاقُضُ وَالتَّحْرِيفُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) الْمَشْهُورِ، مِائَةَ شَاهِدٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، نَقَلْتُ بَعْضَهَا عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (4: 46) وَمِنْهَا مَا عَجَزَ مُفَسِّرُو التَّوْرَاةِ عَنْ تَمَحُّلِ الْجَوَابِ عَنْهُ، وَجَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا كَتَبَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَاجِعْهُ فِي (ص 113 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْخَامِسِ، ط الْهَيْئَةِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ " نَصِيبًا وَحَظًّا " لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ أَنَّ مَا نَسُوهُ وَأَضَاعُوهُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَا أُوتُوهُ وَحَفِظُوهُ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَلَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ مَا فَسَدَتْ حَالُهُمْ، وَلَا عَظُمَ خِزْيُهُمْ وَنَكَالُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي حَالِ عَدَمِ حِفْظِ الْأَصْلِ بِنَصِّهِ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّنَا نَسِينَا وَأَضَعْنَا مِنْ حَدِيثِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَظًّا عَظِيمًا ; لِعَدَمِ كِتَابَةِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كُلَّ مَا سَمِعُوهُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ مَا هُوَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ مُودَعَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنَةٌ فِي السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمَا دُوِّنَ مِنَ الْحَدِيثِ مَزِيدُ هِدَايَةٍ وَبَيَانٍ. هَذَا، وَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةَ حِفْظٍ، وَدَوَّنُوا الْحَدِيثَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَعُنُوا بِحِفْظِهِ وَضَبْطِ مُتُونِهِ وَأَسَانِيدِهِ عِنَايَةً شَارَكَهُمْ فِيهَا كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.

لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ضَيَاعِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ، وَفِي وُقُوعِ التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَفِي إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَمِنَ التَّارِيخِ الدِّينِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُنَاظَرَاتٌ دِينِيَّةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ النَّصَارَى أَقَامُوا بِنَاءَ دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْعَهْدَ الْجَدِيدَ) عَلَى أَسَاسِ كُتُبِ الْيَهُودِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْعَهْدَ الْعَتِيقَ) لَمَا زِدْنَا فِي الْكَلَامِ عَنْ كُتُبِ الْيَهُودِ عَلَى مَا نُثْبِتُ بِهِ مَا وَصَفَهَا بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ بِالْإِجْمَالِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ تَدْفَعُنَا إِلَى بَعْضِ التَّفْصِيلِ فِي إِثْبَاتِ نِسْيَانِ النَّصَارَى وَإِضَاعَتِهِمْ حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي التَّعَدِّي عَلَى الْإِسْلَامِ وَالطَّعْنِ فِيهِ، فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ بَنَى بَيْتًا مِنَ الزُّجَاجِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنَ الرَّمْلِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَنْصِبَ فِيهِ الْمَدَافِعَ ; لِيَهْدِمَ حِصْنًا حَصِينًا مَبْنِيًّا عَلَى جَبَلٍ رَاسِخٍ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (9: 109) . وَقَدْ قَامَتْ مَجَلَّتُنَا - الْمَنَارُ - بِمَا يَجِبُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَدَفْعِ مَا بَدَأَ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَسَبَقَ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا نُشِرَ فِي الْمَنَارِ، وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْمَسَائِلِ فِي ذَلِكَ بِالْإِيجَازِ: (فَصْلٌ فِي ضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَتَحْرِيفِ كُتُبِ النَّصَارَى الْمُقَدَّسَةِ) أَوَّلًا: إِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ تَارِيخٌ مُخْتَصَرٌ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ يُوحَنَّا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ: " هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا، وَكَتَبَ هَذَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ، وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ، آمِينَ ". هَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِي كُتِبَ عَنِ الْمَسِيحِ لَا يَبْلُغُ عُشْرَ مِعْشَارِ تَارِيخِهِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ، وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَعِنْدَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَثِيرًا. فَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ضَاعَ وَنُسِيَ، وَحَسْبُنَا هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وَحُجَّةً عَلَى بَعْضِ عُلَمَائِنَا الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ كُتُبَهُمْ حُفِظَتْ وَتَوَاتَرَتْ. قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: " إِنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يَسْتَغْرِقُ كُلَّ أَعْمَالِ الْمَسِيحِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ كُلَّ أَقْوَالِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ". ثَانِيًا: الْإِنْجِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا كَانَ يَدُورُ ذِكْرُهُ عَلَى أَلْسِنَةِ كُتَّابِ تِلْكَ التَّوَارِيخِ

الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ وَعَنْ أَلْسِنَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ مَتَّى حِكَايَةً عَنْهُ: (26: 13 الْحُقُّ أَقُولُ لَكُمْ حَيْثُمَا يُكْرَزُ بِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبِرُ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تِذْكَارًا لَهَا) أَيْ مَا فَعَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَكَبَتْ قَارُورَةَ الطِّيبِ عَلَى رَأْسِهِ. أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْبِرُوا كُلَّ مَنْ يُبَلِّغُونَهُمُ الْإِنْجِيلَ فِي عَالَمِ الْيَهُودِيَّةِ كُلِّهَا بِمَا فَعَلَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ، فَخَبَرُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ مِنَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي جَاءَ فِي كَلَامِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي تِلْكَ التَّوَارِيخِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ. وَسُمِّيَتْ تِلْكَ التَّوَارِيخُ أَنَاجِيلَ لِأَنَّهَا تَتَكَلَّمُ عَنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَتَجِيءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ مُرْقُسُ تَارِيخَهُ بِقَوْلِهِ: " بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ "، ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ: (1: 15 فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ) فَالْإِنْجِيلُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَيْسَ هُوَ أَحَدَ هَذِهِ التَّوَارِيخِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مَجْمُوعَهَا، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بُولَسُ فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ تِسَالُونِيكِي " الْإِنْجِيلَ الْمُطْلَقَ " (2: 4) وَإِنْجِيلَ اللهِ (2: 8 و9) وَإِنْجِيلَ الْمَسِيحِ (3: 2) وَالْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ يُضَافُ إِلَى اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْحَاهُ، وَإِلَى النَّبِيِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ جَاءَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ تَوْرَاةُ مُوسَى. ثَالِثًا: كَانَتِ الْأَنَاجِيلُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ كَثِيرَةً جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا بَلَغَتْ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا، وَقَالَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْكَنِيسَةِ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ الْكَاذِبَةَ كَانَتْ 35 إِنْجِيلًا، وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ كِتَابِ (ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ) الْمَارُونِيُّ الْقَوْلَ بِكَثْرَتِهَا، وَقَالَ إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ أَسْمَاءَ، وَقَالَ: إِنَّ الْخَمْسَةَ وَالثَّلَاثِينَ لَا تَكَادُ تَبْلُغُ الْعِشْرِينَ، وَعَدَّهَا كُلَّهَا، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهَا مُكَرَّرُ الِاسْمِ، وَذَكَرَ مِنْهَا إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ بِرْنَابَا، وَذَكَرَ أَنَّ جَاحِدِي الْوَحْيِ طَعَنُوا فِي الْأَنَاجِيلِ أَرْبَعَةَ مَطَاعِنَ: (1) : أَنَّ الْآبَاءَ الَّذِينَ سَبَقُوا الْقِدِّيسَ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا أَنَاجِيلَ كَاذِبَةً وَمَدْخُولَةً. (2) : لَا سَبِيلَ إِلَى إِظْهَارِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّتِي خَطَّهَا مُؤَلِّفُوهَا. (3) : قَدْ فَاتَ الْجَمِيعَ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ وَالْعَهْدِ اللَّذَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا. (4) أَنْ كُورِنْتِسَ وَكِرْبُوكِرَاتُوسَ قَدْ نَبَذَا ظِهْرِيًّا مُنْذُ أَوَائِلِ الْكَنِيسَةِ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ لُوقَا، وَالْأَلُوغِيِّينَ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يَرُدَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ رَدًّا مَقْبُولًا عِنْدَ مُسْتَقِلَّيِ الْفِكْرِ. وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ الْبُرُوتِسْتَانِيُّ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: إِنَّ نَقْصَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِرُوحِ الْمُخَلِّصِ وَحَيَاتِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْجِيلُ بِرْنَابَا، فَوَجَدْنَاهُ أَكْمَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَقْدِيسِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا بُرْهَانَهَمْ، عَلَى رَدِّ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ الْكَثِيرَةِ، وَإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ بُرْهَانٌ يُثْبِتُ صِحَّةَ إِنْجِيلِ بَرْنَابَا قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ دُونَ غَيْرِهِ. رَابِعًا: بُدِئَ تَحْرِيفُ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، قَالَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غِلَاطِيةَ: (1: 6 إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ. لَا لَيْسَ هُوَ آخَرُ غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ) .

فَالْمَسِيحُ كَانَ لَهُ إِنْجِيلٌ وَاحِدٌ، وَبَيَّنَ بُولِسُ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أُنَاسٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَيْنِ إِلَى إِنْجِيلٍ غَيْرِهِ بِالتَّحْوِيلِ ; أَيِ التَّحْرِيفِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي تَرْجَمَةِ الْجِزْوِيتِ (يَقْلِبُوا) بَدَلَ (يُحَوِّلُوا) وَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبَيَّنَ بُولِسُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ سَرِيعًا إِلَى دُعَاةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ الْمُحَرَّفِ الْمُحَوَّلِ عَنْ أَصْلِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ. وَقَدْ بَيَّنَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورْنِثْيُونَ: (11: 15 - 16) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ " رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ "، وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ تَدُلُّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَرُسُلِ الْمَسِيحِ، وَيَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ كَمَا يَتَشَبَّهُ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَائِكَةِ ; إِذْ " يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ "، وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الْمَشَايِخَ وَالرُّسُلَ أَرْسَلُوا بِرْنَابَا وَبُولِسَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ; لِيُحَذِّرُوا أَهْلَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَلِّمِينَ الْكَاذِبِينَ، وَأَنَّ بُولِسَ وَبِرْنَابَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا هُنَالِكَ، وَهُمَا مَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا إِلَّا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي حَقِيقَةِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ ; فَبِرْنَابَا يَذْكُرُ فِي مُقَدِّمَةِ إِنْجِيلِهِ أَنَّ بُولَسَ كَانَ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا الْمَسِيحَ فِي تَعْلِيمِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ بِرْنَابَا أَجْدَرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ بُولَسَ ; لِأَنَّهُ تَلَقَّى عَنِ الْمَسِيحِ مُبَاشَرَةً، وَكَانَ بُولَسُ عَدُوًّا لِلْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيِّينَ، وَلَوْلَا أَنْ قَدَّمَهُ بِرْنَابَا لِلرُّسُلِ لَمَا وَثِقُوا بِدَعْوَاهُ التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى رَفَضُوا إِنْجِيلَ بِرْنَابَا الْمَمْلُوءَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَبِالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ رَسَائِلَ بُولَسَ وَأَنَاجِيلَ تَلَامِيذِهِ لُوقَا وَمُرْقُسَ، وَكَذَا يُوحَنَّا، كَمَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا ; لِأَنَّ تَعَالِيمَ بُولَسَ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى عَقَائِدِ الرُّومَانِيِّينَ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوهَا، وَرَفَضُوا مَا عَدَاهَا ; إِذْ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ السُّلْطَةِ الْأُولَى فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَوَّنُوهَا بِهَذَا الشَّكْلِ. خَامِسًا: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَنِيسَةِ وَعُلَمَاءُ التَّارِيخِ فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اعْتَمَدُوهَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ: مَنْ هُمُ الَّذِينَ كَتَبُوهَا؟ وَمَتَى كَتَبُوهَا؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ؟ وَكَيْفَ فُقِدَتْ نُسَخُهَا الْأَصْلِيَّةُ؟ كَمَا تَرَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْكُبْرَى، وَفِي غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ الدِّينِ وَالتَّارِيخِ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مِنْ كُتِبِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهَا: قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) : " إِنَّ مَتَّى بِمُوجِبِ اعْتِقَادِ جُمْهُورِ الْمَسِيحِيِّينَ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ قَبْلَ مُرْقُسَ وَلُوقَا وَيُوحَنَّا، وَمُرْقُسُ وَلُوقَا كَتَبَا إِنْجِيلَهُمَا قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ فِي أَيَّةِ سَنَةٍ كَتَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بَعْدَ صُعُودِ الْمُخَلِّصِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَصٌّ إِلَهِيٌّ عَلَى ذَلِكَ ". (إِنْجِيلُ مَتَّى) : قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: إِنَّ الْقِدِّيسَ مَتَّى كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ 41 لِلْمَسِيحِ. . . بِاللُّغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ يَوْمَئِذٍ فِي فِلَسْطِينَ، وَهِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السِّيرُوكِلْدَانِيَّةُ (ثُمَّ قَالَ) :

ثُمَّ مَا عَتَمَ هَذَا الْإِنْجِيلُ أَنْ تُرْجِمَ إِلَى الْيُونَانِيَّةِ، ثُمَّ تَغَلَّبَ اسْتِعْمَالُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَعِبَتْ بِهِ أَيْدِي النُّسَّاخِ الْأَبُونِيِّينَ وَمَسَخَتْهُ بِحَيْثُ أَضْحَى ذَلِكَ الْأَصْلُ هَامِلًا، بَلْ فَقِيدًا، وَذَلِكَ مُنْذُ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ، انْتَهَى. أَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هُوَ الَّذِي تَرْجَمَ إِنْجِيلَ مَتَّى بِالْيُونَانِيَّةِ؟ وَمَنْ عَارَضَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ النُّسَّاخُ، وَيَمْسَخُوهُ؟ اللهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: " يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي نَفْسِ أُورْشَلِيمَ "، وَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةٌ جَدَلِيَّةٌ عَنِ الْمَسِيحِ، لَا تَرْجَمَةُ حَيَاتِهِ ". (وَقَالَ) : إِنَّ الْبُرُوتِسْتَانْتَ الْمُتَأَخِّرِينَ امْتَرَوْا وَشَكُّوا فِي كَوْنِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْهُ لِمَتَّى. وَقَالَ الدُّكْتُورُ (بوستُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ بِخُصُوصِ لُغَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; هَلْ هِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السُّرْيَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لُغَةَ فِلَسْطِينَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؟ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كُتِبَ بِالْيُونَانِيَّةِ كَمَا هُوَ الْآنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي شُبْهَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ; وَهِيَ أَنَّ شَوَاهِدَهُ فِي الْعِظَاتِ مِنَ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ مِنَ التَّرْجَمَاتِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَرَاءَى لَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ (بوستُ) أَنَّهُ أُلِّفَ بِالْيُونَانِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ رُؤَسَاءِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَثَبَتَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِتَارِيخِهِ وَلَا لُغَتِهِ، " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ". ثُمَّ قَالَ: " وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَدْ كُتِبَ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ إِنْجِيلَنَا الْحَالِيَّ كُتِبَ بَيْنَ سَنَةِ 60، وَسَنَةِ 65 "، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَاحِبَ الذَّخِيرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ 41، وَإِنْ هِيَ إِلَّا ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ، يُنَاطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَمَّا عُلَمَاءُ النَّصَارَى الْأَقْدَمُونَ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ أَنَّ مَتَّى لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ بَعْضَ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَالنَّصَارَى يَحْتَجُّونَ الْآنَ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، الَّتِي لَا سَنَدَ لَهَا لَفْظِيًّا وَلَا كِتَابِيًّا، كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ الْأَوْلَى بِأَقْوَالٍ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنَارِ بَيَانُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَقْدَمُ شَهَادَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ (بَابِيَاسَ) أُسْقُفِ هِيرَا بُولِيسَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي ; فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ (أُوسَابْيُوسُ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 340 مَا تَرْجَمَتُهُ: " إِنَّ مَتَى كَتَبَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْجُمَلِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ تَرْجَمَهَا كُلٌّ بِحَسَبَ طَاقَتِهِ ". وَيَمْتَازُ إِنْجِيلُ مَتَّى بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنَاجِيلِ. (إِنْجِيلُ مُرْقُسَ) ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مُرْقُسَ كَانَ عِبْرَانِيًّا مِلَّةً (أَيْ: نَسَبًا)

وَأَنَّهُ كَانَ تِلْمِيذًا لِبُطْرُسَ، وَتَبَنَّاهُ بُطْرُسُ، وَأَنَّهُ اقْتَبَسَ إِنْجِيلَهُ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَمِنْ خُطَبِ بُطْرُسَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ إِنْجِيلٌ سَابِقٌ لِإِنْجِيلَيْ مَتَّى وَمُرْقُسَ، أَخَذَا عَنْهُ إِنْجِيلَيْهِمَا، وَأَنَّ بَعْضَ الْبُرُوتِسْتَانْتِ شَكُّوا فِي الْأَعْدَادِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَصْلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي النُّسَخِ الْخَطِّيَّةِ الْقَدِيمَةِ. وَقَالَ (بوستُ) : " مُرْقُسُ لَقَبُ يُوحَنَّا، يَهُودِيٌّ، يُرَجَّحُ أَنَّهُ وُلِدَ فِي أُورْشَلِيمَ. (قَالَ) : وَتَوَجَّهَ مُرْقُسُ مَعَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا خَالِهِ فِي رِحْلَتِهِمُ التَّبْشِيرِيَّةِ الْأَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ فَارَقَهُمَا فِي (بُرْجَهْ) فَصَارَ عِلَّةَ مُشَاجَرَةٍ قَوِيَّةٍ بَيْنَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَصَافَحَ مَعَ بُولَسَ، فَرَافَقَهُ إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانَ مَعَ بُطْرُسَ لَمَّا كَتَبَ رِسَالَتَهُ الْأُولَى (1 بط 5: 13) ثُمَّ مَعَ تِيمُوثَاوُسَ فِي (أَفْسَسَ) وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ حَقِيقِيٌّ عَنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ". ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَشَرَحَ فِيهِ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ اللَّاتِينِيَّةِ ; فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي رُومِيَّةٍ (قَالَ) : إِنَّمَا الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ إِنْجِيلَيِّ مَتَّى وَمُرْقُسَ، حَمَلَتْ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الثَّانِي مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَارِيخَ كِتَابَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ إِيرْنِياوُسَ أَنَّهُ كَتَبَهُ بَعْدَ مَوْتِ بُطْرُسَ وَبُولَسَ، فَلَمْ يَطَّلِعَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ نَثِقُ بِأَنَّهُ وَعَى مَا سَمِعَهُ مَنْ بُطْرُس، وَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ؟ ! هَذَا إِذَا صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، وَلَنْ تَصِحَّ. (إِنْجِيلُ لُوقَا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إِنَّ لُوقَا كَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، وَمِنَ الشُّرَّاحِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِغْرِيقِيٌّ مُتَهَوِّدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ إِلَّا نَقْلًا عَنِ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ، " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ وَثَنِيٌّ هَادَ إِلَى الْحَقِّ وَارْتَدَّ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ " وَقَالَ: " لُوقَا كَانَ تِلْمِيذًا وَمُعَاوِنًا لَبُولَسَ ". ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " قَدْ أَغْفَلَ مَتَّى وَمُرْقُسُ بَعْضَ حَوَادِثَ وَأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِسِيرَةِ الْمَسِيحِ، وَقَامَ بَعْضُ الْكَتَبَةِ وَاخْتَلَقُوا تَرْجَمَةً مُمَوَّهَةً لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَكَثِيرًا مَا فَاتَهُمْ فِيهَا الرِّوَايَةُ وَالتَّدْقِيقُ ; فَبَعَثَ ذَلِكَ بِلُوقَا عَلَى وَضْعِ إِنْجِيلِهِ ضَنًّا بِالْحَقِّ، فَكَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَجَاءَ كَلَامُهُ أَصَحَّ وَأَفْصَحَ وَأَشَدَّ انْسِجَامًا مِنْ كَلَامِ بَاقِي مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ 53 لِلْمَسِيحِ، وَقِيلَ بَلْ سَنَةَ 51 ". ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَتَبَهُ فِيهِ، وَبَيَّنَ غَرَضَهُ مِنْهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: " وَأَنْ يَكْشِفَ النِّقَابَ عَنِ الْأَغْلَاطِ الْمَدْخُولَةِ فِي تَرَاجِمِ حَيَاةِ الْمَسِيحِ الْمُمَوَّهَةِ ; أَيِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي رَدَّتْهَا الْكَنِيسَةُ بَعْدُ، وَيَنْفِيَ كُلَّ رُكُونِ إِلَيْهَا "، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ إِنْجِيلَيْ مَتَّى وَمُرْقُسَ، وَأَنَّهُ اقْتَبَسَ مِنْهُمَا مَا وَافَقَهُمَا فِيهِ، ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ عَلَى مَا حَذَفُوهُ وَأَسْقَطُوهُ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَسِيحِ، أَوْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ فِي قَامُوسِهِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ - أَيْ لُوقَا - مَوْلُودٌ فِي أَنْطَاكِيَةَ،

إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَاتِجٌ مَنِ اشْتِبَاهِهِ بِلُوكْيُوسَ. (قَالَ) : " وَمِنْ تَغْيِيرِ صِيغَةِ الْغَائِبِ إِلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُسْتَدَلُّ أَنَّ لُوقَا اجْتَمَعَ مَعَ بُولَسَ فِي تِرْوَاسَ (أَعِ 16: 1) وَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى فِيلْبِي فِي سَفَرِهِ الثَّانِي، ثُمَّ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَانِيَةً فِي فِيلْبِي بَعْدَ عِدَّةِ سِنِينَ (أَعِ 20: 5 و6) وَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنْ أُسِرَ وَأُخِذَ إِلَى رُومِيَّةَ (أَعِ 28: 30) وَلَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ تَارِيخَهُ مِنْ أُسْلُوبِ عِبَارَتِهِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِمْ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، لَا صَحِيحَ وَلَا ضَعِيفَ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ إِيطَالِيًّا لَا فِلَسْطِينِيًّا مِنْ كَلَامِهِ عَنِ الْقُطْرَيْنِ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَقْلٌ يَعْرِفُونَ بِهِ شَيْئًا عَنْ مُؤَسِّسِي دِينِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: " وَظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ لَفْظَةَ (إِنْجِيلَيْ) الْوَارِدَةَ فِي (2: تِي 2: 8) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُولَسَ أَلَّفَ إِنْجِيلَ لُوقَا، وَأَنَّ لُوقَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَاتِبًا ". ثُمَّ قَالَ: " وَقَدْ كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ وَقَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَيُرَجَّحُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قَيْصَرِيَّةَ فِي فِلَسْطِينَ مُدَّةَ أَسْرِ بُولَسَ سَنَةَ 58 - 60م، غَيْرَ أَنَّ الْبَعْضَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كُتِبَ قَبْلَ ذَلِكَ " انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ التَّرْجِيحِ وَالظَّنِّ، وَمِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ سَنَةِ 51 و53، كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ و58 و60، كَمَا أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (2: 78) وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ بُولَسَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا الْإِنْجِيلَ هُمُ الْمُصِيبُونَ ; لِمُشَابِهَةِ أُسْلُوبِهِ لِأُسْلُوبِ رَسَائِلِهِ، بِاعْتِرَافِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُ بِتَحْرِيفِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَتَحْرِيفِهَا، وَتَجِدُ فِيهِ مِثْلَ مَا تَجِدُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ وَضْعِ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَاجِيلَ كَاذِبَةٍ، وَمَنْ لَنَا بِدَلِيلٍ يُثْبِتُ لَنَا صِدْقَهُ هُوَ؟ وَأَنَّى لَنَا بِتَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَمَعْرِفَةِ صَادِقِهَا مَنْ كَاذِبِهَا؟ (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا) تَقُولُ النَّصَارَى: إِنَّ يُوحَنَّا هَذَا هُوَ تِلْمِيذُ الْمَسِيحِ ابْنُ زُبْدَى وَسَالُومَهْ، وَيَقُولُ أَحْرَارُ الْمُؤَرِّخِينَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ. وَيُرَجِّحُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ تَلَامِيذِ بُولَسَ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهِ، وَهِيَ 64 و94 و97، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ لِيُثْبِتَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَيَسُدَّ النَّقْصَ الَّذِي فِي الْأَنَاجِيلِ الثَّلَاثَةِ " إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَكْثَرِ الْأَسَاقِفَةِ وَنُوَّابِ كَنَائِسِ آسْيَا، وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مِنْ بَعْدِهِ ذِكْرًا مُخَلَّدًا "، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الْإِلْحَاحُ لَمْ يَكْتُبْ مَا كَتَبَ، وَإِذًا لَبَقِيَتْ أَنَاجِيلُهُمْ نَاقِصَةً، وَخَلَوْا مِنْ شُبْهَةٍ عَلَى عَقِيدَتِهِمُ الْمُعَقَّدَةِ الَّتِي لَا تُعْقَلُ ; إِذْ لَا تَجِدُ الشُّبْهَةَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ الْأَنَاجِيلِ تَنَاقُضًا، وَنَاهِيكَ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَوْلِهِ عَنِ الْمَسِيحِ إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَوْلِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ لَيْسَتْ حَقًّا، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ: " وَيُظَنُّ أَنَّهُ كُتِبَ فِي أَفْسَسَ بَيْنَ سَنَةِ 70 و95 ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْأَحْرَارِ مَا نَصُّهُ: " وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْكُفَّارِ قَانُونِيَّةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; لِكَرَاهَتِهِمْ تَعْلِيمَهُ الرُّوحِيَّ، وَلَا سِيَّمَا تَصْرِيحَهُ الْوَاضِحَ بِلَاهُوتِ الْمَسِيحِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِصِحَّتِهِ كَافِيَةٌ، فَإِنَّ بُطْرُسَ يُشِيرُ إِلَى آيَةٍ مِنْهُ (2 بط 1: 14 قابل يو 21: 18) وَأَغْنَاطْيُوسَ وَبُولِيكْرِيسَ يَقْتَطِفَانِ مِنْ رُوحِهِ وَفَحْوَاهُ، وَكَذَلِكَ الرِّسَالَةُ إِلَى دِيُوكْنِيتْسَ، وَبَاسِيلِدْسَ وَجُوسْتِينِسَ الشَّهِيدِ وَتَانْيَانْسَ. وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ يَرْجِعُ بِنَا زَمَانُهَا إِلَى مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى نَفْسِ كِتَابَتِهِ الَّذِي يُوَافِقُ مَا نَعْلَمُهُ مِنْ سِيرَةِ يُوحَنَّا، نَحْكُمُ أَنَّهُ مِنْ قَلَمِهِ، وَإِلَّا فَكَاتِبُهُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ تَصْدِيقُهُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا، وَلَا يَتَّصِلُ إِلَى عُلُوِّ وَعُمْقِ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِذَا قَابَلْنَاهُ بِمُؤَلَّفَاتِ الْآبَاءِ رَأَيْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَوْنًا عَظِيمًا، حَتَّى نَضْطَرَّ لِلْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَأْلِيفٍ كَهَذَا، بَلْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ التَّلَامِيذِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا يُوحَنَّا، وَيُوحَنَّا ذَاتُهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَأْلِيفَهُ بِدُونِ إِلْهَامٍ مِنْ رَبِّهِ " انْتَهَى. أَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَجَائِبِ الْبَشَرِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ يَنْقُلَهُ مُتَعَمِّدًا لَهُ، عَالَمٌ طَبِيبٌ كَالدُّكْتُورِ بوستَ! فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَهَافُتُهُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَلَا أَعْقِلُ لَهُ تَعْلِيلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا وَغِشًّا ; لِإِرْضَاءِ عَامَّةِ النَّصَارَى، لَا لِإِرْضَاءِ اعْتِقَادِهِ وَوِجْدَانِهِ، أَوْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الدِّينِيُّ مِنَ الصِّغَرِ قَدْ رَانَ عَلَى قَلْبِ الْكَاتِبِ، فَسَلَبَهُ عَقْلَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ وَفَهْمَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ دِينِهِ. وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ بِالْإِيجَازِ: إِنَّ الدُّكْتُورَ بوستَ مِنْ أَعْلَمِ الْأُورُوبِّيِّينَ الَّذِينَ خَدَمُوا دِينَهُمْ فِي سُورِيَّةَ، وَأَوْسَعِهِمُ اطِّلَاعًا، وَهُوَ يُلَخِّصُ فِي قَامُوسِهِ هَذَا أَقْوَى مَا بَسَطَهُ عُلَمَاءُ اللَّاهُوتِ فِي إِثْبَاتِ دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَرَدِّ اعْتِرَاضَاتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا. فَإِذَا كَانَ هَذَا مُنْتَهَى شَوْطِهِمْ فِي إِثْبَاتِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي عَقِيدَةِ تَأْلِيهِ الْمَسِيحِ ; فَمَا هُوَ الظَّنُّ بِكَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ الْأَحْرَارِ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْإِنْجِيلِ؟ ! ابْتَدَأَ رَدَّهُ عَلَى مُنْكِرِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنَّ بُطْرُسَ أَشَارَ إِلَى آيَةٍ مِنْهُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ، فَهَذَا أَقْوَى بُرْهَانٍ عِنْدَهُمْ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْإِنْجِيلِ كُتِبَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. فَأَوَّلُ مَا تَقُولُهُ فِي رَدِّ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَهْمِيِّ أَنَّ رِسَالَةَ بُطْرُسَ الثَّانِيَةَ كُتِبَتْ فِي بَابِلَ سَنَةَ 64 و68 كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) وَإِنْجِيلُ يُوحَنَّا كُتِبَ سَنَةَ 95 أَوْ 98 عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ بوستُ وَصَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ طَائِفَتِهِمُ (الْبُرُوتِسْتَانْتِ) فَهُوَ قَدْ أُلِّفَ بَعْدَ كِتَابَةِ رِسَالَةِ بُطْرُسَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَإِذَا وَافَقَهَا فِي شَيْءٍ فَأَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْهَا، وَإِنْ أُلِّفَ بَعْدَهَا بِعِدَّةِ

قُرُونٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ إِلَّا احْتِمَالُ نَقْلِ الْمُتَأَخِّرِ - وَهُوَ مُؤَلِّفُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا - عَنِ الْمُتَقَدِّمِ - وَهُوَ بُطْرُسُ - لَكَفَى، وَهُمْ جَازِمُونَ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَارِيخٌ صَحِيحٌ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، بَلْ تَارِيخُ وِلَادَةِ إِلَهِهِمْ وَرَبِّهِمُ الَّذِي يُؤَرِّخُونَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَأٌ، كَمَا حَقَّقَهُ يَعْقُوبُ بَاشَا أَرْتِينَ وَغَيْرُهُ. وَنَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّنَا قَابَلْنَا بَيْنَ (2 بط 1: 14) وَبَيْنَ (يو 21: 18) فَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ بُطْرُسَ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ إِشَارَةً وَاضِحَةً إِلَى مَا ذَكَرَهُ يُوحَنَّا، فَعِبَارَةُ بُطْرُسَ الَّتِي سَمَّوْهَا شَهَادَةً لَهُ، هِيَ قَوْلُهُ: " عَالِمًا أَنَّ خَلْعَ سَكَنِي قَرِيبٌ، كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضًا "، وَعِبَارَةُ يُوحَنَّا الْمَشْهُودُ لَهَا هِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَبُطْرُسَ " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ، وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ، وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَكَ، وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لَا تَشَاءُ ". فَمَعْنَى عِبَارَةِ بُطْرُسَ أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ مَسْكَنَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَرْحَلُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ، وَمَعْنَى عِبَارَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ إِذَا شَاخَ وَهَرِمَ يَقُودُهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، وَيَشُدُّ لَهُ مِنْطَقَتَهُ. فَإِنْ فَرْضَنَا أَنَّ بُطْرُسَ كَتَبَ هَذَا بَعْدَ يُوحَنَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَدْنَى شُبْهَةٍ عَلَى تَصْدِيقِ يُوحَنَّا فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ، فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِهِ فِي كُلِّ إِنْجِيلِهِ. فَمَا أَوْهَى دِينًا هَذِهِ أُسُسُهُ وَدَعَائِمَهُ! ذَكَّرَنِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَادِرَةً رُوِيَتْ لِي عَنْ رَجُلٍ هَرِمٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ (وَلَا أَذْكُرُ هَذَا الْوَصْفَ تَعْرِيضًا بِتَلَامِيذِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ) قَالَ: إِنَّ رَجُلًا غَرِيبًا مِنَ الدَّرَاوِيشِ عَلَّمَهُ سُورَةً لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ سِوَاهُمَا، إِلَّا أَنَّ خَطِيبَ الْبَلَدِ يَحْفَظُ مِنْهَا كَلِمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَصْلِهَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السَّخَافَةِ، الَّتِي سَمَّاهَا سُورَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِينَ الْمَدَدَا، عِنْدَ النَّبِيِّ أَشْهَدَا، نَبِيُّنَا مُحَمَّدَا، فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدَا، إِجَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَا، بِنْتُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى، آلَتْ لَوْ يَا بَابَتِي يَا بَابَتِي عَلَّمَنِي كَلِمَتَيْنِ. . . إِلَخْ. وَالْكَلِمَتَانِ اللَّتَانِ يَحْفَظُهُمَا الْخَطِيبُ مِنْهُمَا هُمَا " فَاطِمَةُ الزَّهْرَا " وَ " خَدِيجَةُ الْكُبْرَى " عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، بَعْدَ التَّرَضِّي عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ أُمِّهِمَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَا، وَعَنْ جَدَّتِهِمَا خَدِيجَةَ الْكُبْرَى ". وَلَا يَخْفَى عَلَى الْقَارِئِ، أَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْجَاعِ الْعَامِّيَّةِ، وَخُطْبَةِ خَطِيبِ الْبَلَدِ فِي تَيْنَكَ الْكَلِمَتَيْنِ أَظْهَرُ مِنْ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ رِسَالَةِ بُطْرُسَ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا، بَلْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةِ اتِّفَاقٌ مَا فِيمَا زَعَمُوهُ تَكَلُّفًا وَتَحْرِيفًا لِلْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَاهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاقْتِطَافِ أَغْنَاطْيُوسَ، وَبُولِيكْرِيسَ مِنْ رُوحِ هَذَا الْإِنْجِيلِ فَهُوَ مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِ بِشَهَادَةِ بُطْرُسَ لَهُ، بَلْ أَضْعَفُ ; إِذْ مَعْنَى هَذَا الِاقْتِطَافِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شَيْءٌ يَتَّفِقُ مَعَ بَعْضِ مَعَانِي هَذَا الْإِنْجِيلِ. فَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فَهُوَ لَا يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِهِمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ، وَلَمْ يَعْزُوَا إِلَيْهِ شَيْئًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى، إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كَالِاتِّفَاقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُطْرُسَ، مُقْتَبَسًا مِنْ كِتَابٍ آخَرَ، كَانَ مُتَدَاوَلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عِنْدَ بَعْضِ شُعُوبِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ (الْكَلِمَةِ) وَالْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) (4: 171) أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَهَذَا اللَّفْظَ مِمَّا أُثِرَ عَنِ الْيُونَانِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَبَحَثَ فِيهَا أَيْضًا (فِيلُو) الْفَيْلَسُوفُ الْيَهُودِيُّ الْمُعَاصِرُ لِلْمَسِيحِ. فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ (أَغْنَاطْيُوسَ) اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ وَذَكَرَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لَا يَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى نَقْلِهَا عَنْ يُوحَنَّا، وَعَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا وَرِسَالَتَهُ وَرُؤْيَاهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْقَرْنِ الثَّانِي ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَدِينُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ قَبْلَ يُوحَنَّا وَقَبْلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ يُوحَنَّا عَنْ غَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَ؛ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعَانِي الْأُخْرَى، الَّتِي لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا يُوحَنَّا؟ . فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْوَجِيزِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بوستُ وَسَمَّاهُ كَغَيْرِهِ شَهَادَةً لِإِنْجِيلِ يُوحَنَّا لَيْسَ شَهَادَةً. وَإِنَّ مَا سَمَّيْنَاهُ شَهَادَةً فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا شَهَادَةُ زُورٍ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ كِتَابَةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ تُوَافِقُ سِيرَةَ يُوحَنَّا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهُوَ تَمْوِيهٌ، نَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا بِالْإِلْهَامِ ; إِذْ كُلُّ مُلْهَمٍ يَقْدِرُ بِإِقْدَارِ اللهِ الَّذِي أَلْهَمَهُ، وَلَيْسَ لِيُوحَنَّا عِنْدَهُمْ سِيرَةٌ تُثْبَتُ أَوْ تُنْفَى. بَقِيَ اسْتِدْلَالُهُ الْأَخِيرُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَلَمِ يُوحَنَّا لَكَانَ الْكَاتِبُ لَهُ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ ; قَالَ: " وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ تَصْدِيقُهُ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا ". . . إِلَخْ. فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُنْبِئُ بِسَذَاجَةِ مَنِ اخْتَرَعَهُ وَنَقَلَهُ وَغَرَارَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِغَبَاوَتِهِمْ، أَوْ قَصْدِهِمْ مُخَادَعَةَ النَّاسِ. وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ لِلْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رُوحِيًّا، وَالْكَاتِبَ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا. وَقَدْ كَانَ فِي مِصْرَ كَاتِبٌ مَنْ أَبْلَغِ كُتَّابِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمَعَ هَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ عَارِفِيهِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ حُرُوفَ الْفَضِيلَةِ تَتَأَلَّمُ مِنْ لَوْكِهَا بِفَمِهِ، وَوَخْزِهَا بِسِنِّ قَلَمِهِ ". وَإِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيسِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَمِنَ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ، لَهُوَ أَعْلَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ

مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَيَزْعُمُونَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غِشَّ النَّاسِ وَتَحْوِيلَهُمْ عَنِ التَّثْلِيثِ وَالشَّرَكِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ! إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَخِيرَ الَّذِي سَلَكَهُ بوستُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ نِسْبَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا إِلَيْهِ يَقْبَلُهُ الْمُقَلِّدُونَ لِعُلَمَاءِ اللَّاهُوتِ عِنْدَهُمْ، بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ، وَالنَّاظِرُ الْمُسْتَقِلُّ يَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ ; لِأَسْبَابٍ، أَهَمُّهَا ثَلَاثَةٌ: (1) أَنَّهُ جَاءَ بِعَقِيدَةٍ وَثَنِيَّةٍ نَقَضَتْ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُقَرَّرَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَجَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ، بَلْ لِيُتَمِّمَهُ، وَأَصْلُ النَّامُوسِ وَأَسَاسُهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْبِنَاءِ، وَصِيَّةُ التَّوْحِيدِ. (2) مُخَالَفَتُهُ فِي عَقِيدَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ لِكُلِّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَتِهِ وَقَوْمِهِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ. (3) مُخَالَفَتُهُ لِلْأَنَاجِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ قَبْلَهُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا تَحَامِيهِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، مِمَّا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ ; كَتَجْرِبَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَخَوْفِهِ مَنْ فَتْكِ الْيَهُودِ بِهِ، وَتَضَرُّعِهِ إِلَى اللهِ خَائِفًا مُتَأَلِّمًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيُنْقِذَهُ مِنْهُمْ، وَصُرَاخِهِ وَقْتَ الصَّلْبِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسَالِيبَ الْأَنَاجِيلِ وَفَحْوَاهَا يَرَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا غَرِيبٌ عَنْهَا، وَيَجْزِمُ بِأَنَّ كَاتِبَهُ مُتَأَخِّرٌ، سَرَتْ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْوَثَنِيِّينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُلَقِّحَ بِهَا الْمَسِيحِيِّينَ. وَنَقُولُ ثَالِثًا: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُوَافَقَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي لِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي رُوحِ مَعْنَاهُ يُعَدُّ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي؛ فَأَيْنَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِمَّا بَعْدَهُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ لَنَا مَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اقْتَطَفُوا مِنْ رُوحِهِ؟ ! بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (إِظْهَارَ الْحَقِّ) فَرَأَيْتُهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، بِعِدَّةِ أُمُورٍ: (مِنْهَا) أُسْلُوبُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَكْتُبْ مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ، بَلْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ. (وَمِنْهَا) آخِرُ فَقْرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ عَنْ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَقْوَالِهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا يُوحَنَّا بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ وَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَالَّذِي يَنْقُلُ هَذَا عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَقُصَارَاهُ أَنَّهُ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ، فَحَكَاهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ فِي ضِمْنِ إِنْجِيلِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْأَصْلُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ يُوحَنَّا كَتَبَهُ وَشَهِدَ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَثِقُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ عِنْدَ مُحَدِّثِي الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَلْبَتَّةَ! (وَمِنْهَا) أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ النَّاسَ أَنْكَرُوا كَوْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِيُوحَنَّا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى

عَهْدِ (أَرِينْيُوسَ) تِلْمِيذِ (بُولِيكَارْبَ) الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَرِينْيُوسُ بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بُولِيكَارْبَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ يُوحَنَّا هُوَ الْكَاتِبُ لَهُ. (وَمِنْهَا) نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا نَصُّهُ " كَتَبَ (إِسْتَادِلْنُ) فِي كِتَابِهِ: " إِنَّ كَافَّةَ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا تَصْنِيفُ طَالِبٍ مِنْ طَلَبةِ مَدْرَسَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ ". (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (بَرْطَشِنِيدَرَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كُلَّهُ، وَكَذَا رَسَائِلُ يُوحَنَّا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِهِ، بَلْ صَنَّفَهَا أَحَدٌ (كَذَا) فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (كُرُوتِيسَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ عِشْرِينَ بَابًا، فَأَلْحَقَتْ كَنِيسَةُ أَفَسَاسَ الْبَابَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ مَوْتِ يُوحَنَّا. (وَمِنْهَا) أَنَّ جُمْهُورَ عُلَمَائِهِمْ رَدُّوا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ. . . إِلَخْ. سَادِسًا: عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّصَارَى لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُنْقَطِعَةٌ لِكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ؛ وَإِنَّمَا بَحَثُوا وَنَقَّبُوا فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَفَلَّوْهَا فَلِيًّا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا صَرِيحًا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا وَجَدُوا كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةً أَوْ مُبْهَمَةً، فَسَّرُوهَا كَمَا شَاءَتْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَسَمَّوْهَا شَهَادَاتٍ، وَنَظَمُوهَا فِي سِلْكِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَيْرَ مَنْقُولَةٍ عَنِ الثِّقَاتِ، ثُمَّ اسْتَنْبَطُوا مِنْ فَحْوَاهَا وَمَضَامِينِهَا مَسَائِلَ مُتَشَابِهَةً، زَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يُؤَيِّدُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ضَعْفِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ. فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ صِدْقُ قَوْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (5: 14) وَثَبَتَ بِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ ; إِذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اهْتَدَى إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ وَنَظَرِهِ، كَيْفَ وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ ; لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَارِيخِ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِعِلْمِهِمْ وَاخْتِبَارِهِمْ إِلَى أَرْفَعِ الْمَنَاصِبِ، سَأَلَنِي مَرَّةً: كَيْفَ نَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لِلنَّصَارَى كِتَابًا وَاحِدًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى عِيسَى، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، مَعَ أَنَّ النَّصَارَى أَنْفُسَهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةُ أَنَاجِيلَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَسِيرَتِهِ؟ فَأَجَبْتُهُ: إِنَّ الْإِنْجِيلَ الَّذِي نَنْسُبُهُ إِلَى الْمَسِيحِ وَنَقُولُ إِنَّهُ هُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُذَكَرُ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ عَنْ لِسَانِ الْمَسِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، إِلَى آخِرِ مَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) (5: 14) فَأَنْتَ تَرَى مِصْدَاقَ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، وَبَيْنَ دُوَلِهِمْ، لَمْ يَنْقَطِعْ زَمَنًا.

15

سَابِعًا: أَنَّ أَحَدَ فَلَاسِفَةِ الْهُنُودِ دَرَسَ تَارِيخَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَبَحَثَ فِيهَا بَحْثَ مُسْتَقِلٍّ مُنْصِفٍ، وَأَطَالَ الْبَحْثَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ لِمَا لِلدُّوَلِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا مِنَ الْمُلْكِ وَسَعَةِ السُّلْطَانِ وَالتَّبْرِيزِ فِي الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْإِسْلَامِ فَعَرَفَ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ فَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، سَمَّاهُ (لِمَاذَا أَسْلَمْتُ) بَيَّنَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَكَانَ أَهَمَّهَا عِنْدَهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَهُ تَارِيخٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ، فَالْآخِذُ بِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ، الْمَدْفُونُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مَثَارِ الْعَجَبِ عِنْدَهُ أَنْ تَرْضَى أُورُبَّةُ لِنَفْسِهَا دِينًا، تَرْفَعُ مَنْ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ فَتَجْعَلُهُ إِلَهًا، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ مِنْ تَارِيخِهِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ أَصْلِهَا، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِتَارِيخِهَا وَمُؤَلِّفِيهَا، لَا تَذْكُرُ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ إِلَّا وَقَائِعَ قَلِيلَةً حَدَثَتْ - كَمَا تَقُولُ - فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ. وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ نَشْأَةِ هَذَا الرَّجُلِ وَتَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَيَّامِ صِبَاهُ وَشَبَابِهِ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ. (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَخَذَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْآنَ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ، وَأَضَاعُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا مَا حَفِظُوهُ مِنْهُ. وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ. ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ إِخْفَاءِ الْيَهُودِ حُكْمَ رَجْمِ الزَّانِي حِينَ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى

إِطْلَاقِهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَسَائِلِ، الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا حُكْمُ رَجْمِ الزَّانِي، وَهُوَ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ (كَمَا تَرَاهُ فِي 22: 20 - 24 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَلَمْ يَلْتَزِمُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْكَرُوهُ أَمَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْسَمَ عَلَى عَالِمِهِمُ ابْنِ صُورِيَا وَنَاشَدَهُ اللهَ حَتَّى اعْتَرَفَ بِهِ. فَهَذَا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَهُ عِنْدَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ أَوِ الْفَتْوَى، وَكَذَلِكَ أَخْفَوْا صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبِشَارَاتِ بِهِ، وَحَرَّفُوهَا بِالْحَمْلِ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَهَذَا النَّوْعُ غَيْرُ مَا أَضَاعُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ وَنَسُوهُ أَلْبَتَّةَ ; كَنِسْيَانِ الْيَهُودِ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ خَبَرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا أَظْهَرَهُ لَهُمُ الرَّسُولُ مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَهُ عَنْهُ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ - كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَقَوَى ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِمْ ; وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الْمُنْصِفِينَ، وَاعْتَرَفُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَصِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَهُ، فَلَا يَفْضَحُكُمْ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا النَّصُّ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُخْفُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ عَامَّتِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ إِذْ هُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ، كَدَأْبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ؛ يَكْتُمُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَاشِفًا عَنْ سُوءِ حَالِهِمْ، أَوْ يُحَرِّفُونَهُ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) فِي الْمُرَادِ بِالنُّورِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ نُورًا هُوَ أَنَّهَا لِلْبَصِيرَةِ كَالنُّورِ لِلْبَصَرِ، فَلَوْلَا النُّورُ لَمَا أَدْرَكَ الْبَصَرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ، وَلَوْلَا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ لَمَا أَدْرَكَ ذُو الْبَصِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ، وَحَقِيقَةَ مَا طَرَأَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِهِ وَعَبَثِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لَا يُبْصِرُونَ. وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَوْلَا عَطْفُهُ عَلَى النُّورِ لَمَا فَسَّرُوا النُّورَ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَرِدُ لِلتَّفْسِيرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ هُنَا لِتُوَافِقَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (4: 174، 175) وَقَدْ قَالَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النُّورِ:

16

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فَبَيَّنَ مَزِيَّةَ النُّورِ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: (يَهْدِي بِهِ) وَلَمْ يَقُلْ " بِهِمَا "، فَكَانَ هَذَا مُرَجِّحًا لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَثَمَّ شَوَاهِدُ أُخْرَى تُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ غَيْرُ آيَتَيِ النِّسَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُهْتَدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (7: 157) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (64: 8) عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَغَيَّرُ إِذَا قُلْنَا: إِنِ النُّورَ هُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَظْهَرُ الْأَكْمَلُ لِلْقُرْآنِ بِبَيَانِهِ لَهُ، وَتَخَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ "، وَلَا نُعْدَمُ لِذَلِكَ شَاهِدًا مِنْ آيَاتِهِ، فَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (33: 46) . وَلْيَرْجِعِ الْقَارِئُ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِآيَتَيِ النِّسَاءِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُبِينًا بِمَا يَنْفَعُهُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ هُنَا لِهَذَا النُّورِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ. (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنَّهُ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ; أَيْ إِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ مَا يُرْضِيهِ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهَذَا النُّورِ يَهْدِيهِ - هِدَايَةَ دَلَالَةٍ تَصْحَبُهَا الْعِنَايَةُ وَالْإِعَانَةُ - الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِيهِ وَيُشْقِيهِ، فَيَقُومُ فِي الدُّنْيَا بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالطَّيِّبَاتِ مُجْتَنِبًا لِلْخَبَائِثِ، تَقِيًّا مُخْلِصًا، صَالِحًا مُصْلِحًا، وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا مُنَعَّمًا، جَامِعًا بَيْنَ النَّعِيمِ الْحِسِّيِّ الْجَسَدِيِّ وَالنَّعِيمِ الرُّوحِيِّ الْعَقْلِيِّ. وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ يَتْبَعُ دِينًا يَجِدُ فِيهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا تَسْلَمُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ دِينُ السَّلَامِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، دِينُ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ. (الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : الْإِخْرَاجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَاسْتَعْبَدُوا أَهْلَهَا إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُحَرِّرُ صَاحِبَهُ مِنْ رِقِّ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخَلْقِ حُرًّا كَرِيمًا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ عَبْدًا خَاضِعًا. وَقَوْلُهُ: (بِإِذْنِهِ) فَسَّرُوهُ بِمَشِيئَتِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ. وَالْإِذْنُ الْعِلْمُ. يُقَالُ أَذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَآذَنْتُهُ بِهِ: أَعْلَمْتُهُ فَأَذِنَ، وَيُقَالُ أَذَّنَ - بِالتَّشْدِيدِ - وَتَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: أَذِنَ لَهُ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَبَاحَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ أَذَنًا: اسْتَمَعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ ; أَيْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِعِلْمِهِ الَّذِي جَعَلَ بِهِ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبًا لِانْقِشَاعِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنْ نَفْسِ

17

مَنْ يَهْتَدِي بِهِ، وَاسْتِبْدَالِ نُورِ الْحَقِّ بِهَا، بِنَسْخِهِ وَإِزَالَتِهِ لَهَا ; فَهُوَ إِخْرَاجٌ يَجْرِي عَلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي النُّفُوسِ، وَإِصْلَاحِهَا إِيَّاهَا، لَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَاسْتِئْنَافِ التَّكْوِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ. (الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالْغَايَةِ مِنَ الدِّينِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ ; لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، فَيُبْطِئُ سَالِكُهُ أَوْ يَضِلُّ فِي سَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِصَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ وَالتَّأْوِيلِ ; بِأَنْ تَكُونَ عَقَائِدُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ مُؤَثِّرَةً فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبَ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ. (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَافَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ مَا كَفَرَ بِهِ النَّصَارَى خَاصَّةً، فَقَالَ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ

مِنْهُمْ، وَقِيلَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ فِيهِ لَاهُوتًا، وَقَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ، لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَسِيحَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ ; تَوْضِيحًا لِجَهْلِهِمْ، وَتَفْضِيحًا لِمُعْتَقَدِهِمْ "، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَأَنَّهُ لَازِمُ مَذْهَبِ النَّصَارَى، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقُولُونَهُ، أَوْ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَذْهَبُ الْيَعْقُوبِيَّةِ مِنْهُمْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ ذَكَرُوا أَنَّ النَّصَارَى ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالْمِلْكَانِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَعْرِفُونَ عَنِ النَّصَارَى ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا كُتُبَهُمْ، وَلَمْ يُنَاظِرُوهُمْ فِيهَا وَفِي عَقَائِدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ مَا فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ قَضَايَا مُسَلَّمَةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِيهَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ بِأَنَّهَا الْوُجُودُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ ; فَالْقَوْلُ بِهَا لَا يُنَافِي وَحْدَانِيَّةَ الْخَالِقِ، وَكَانَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ النَّصَارَى لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا، كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ الْآنَ فِي نَصَارَى أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ نَبِيٌّ رَسُولٌ لَا إِلَهٌ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي النَّصَارَى مَنْ يَقُولُ بِتِلْكَ الْفَلْسَفَةِ ; لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُغَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ مَا شَاءُوا أَنْ يُغَيِّرُوا فِي فَلْسَفَتِهِ وَغَيْرِ فَلْسَفَتِهِ، وَكَانَ أَكْبَرُ تَغْيِيرِ حَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبَ (الْبُرُوتِسْتَانْتِ) أَيْ إِصْلَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ ; حَدَثَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ، وَصَارَ هُوَ السَّائِدَ فِي أَعْظَمِ الْأُمَمِ مَدَنِيَّةً وَارْتِقَاءً ; كَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ وَأَلْمَانْيَةَ. نَسَفَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَكْثَرَ التَّقَالِيدِ وَالْخُرَافَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، ثُمَّ اسْتَبْدَلَ بِهَا تَقَالِيدَ أُخْرَى، فَصَارَ عِدَّةَ مَذَاهِبَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَعَ هَذَا تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعَادُوا النَّصْرَانِيَّةَ إِلَى أَصْلِهَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُرْجِعُوهَا إِلَى التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُسُلِ اللهِ أَجْمَعِينَ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَبِالتَّثْلِيثِ، وَيَعُدُّونَ الْمُوَحِّدَ غَيْرَ مَسِيحِيٍّ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْفِرْقَتَانِ الْكَبِيرَتَانِ الْأُخْرَيَانِ مِنْ فِرَقِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهُمُ الْكَاثُولِيكُ وَالْأُرْثُوذُكْسُ، فَجَمِيعُ فِرَقِ نَصَارَى هَذَا الْعَصْرِ تَقُولُ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ هُوَ اللهُ، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّصَارَى الْقُدَمَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُونَا. قَالَ (الدُّكْتُورُ بوستُ) فِي تَارِيخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ مَا نَصُّهُ: " طَبِيعَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ: اللهُ الْآبُ، وَاللهُ الِابْنُ، وَاللهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، فَإِلَى الْآبِ يَنْتَمِي الْخَلْقُ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ، وَإِلَى الِابْنِ الْمُفَدَّى وَإِلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ التَّطْهِيرُ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَانِيمَ تَتَقَاسَمُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ. أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّثْلِيثِ فَغَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا هِيَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا فِي (تك ص1) حَيْثُ ذُكِرَ " اللهُ " وَ " رُوحُ اللهِ ". . . إِلَخْ (قابل مز 33: ويو 16: 10 و3) وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُشَخِّصَةُ فِي (أم ص 8)

تُقَابِلُ الْكَلِمَةَ فِي (يو ص 1) وَرُبَّمَا تُشِيرُ إِلَى الْأُقْنُومِ الثَّانِي، وَتُطْلَقُ نُعُوتُ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ أُقْنُومٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حِدَتِهِ " انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَهْدَ الْقَدِيمَ ; أَيْ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْمَسِيحِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ ; لِأَنَّهَا عَقِيدَةٌ وَتَثْنِيَةٌ مَحْضَةٌ. وَمِنْ أَغْرَبِ التَّكَلُّفِ تَفْسِيرُ " الْحِكْمَةِ " فِي أَمْثَالِ سُلَيْمَانَ، بِـ " الْكَلِمَةِ " بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ سُلَيْمَانَ وَلَا الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَسَتَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي كَلَامِ يُوحَنَّا، وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَحِّدِينَ، أَعْدَاءً لِلْوَثَنِيَّةِ وَالْوَثَنِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ التَّوْحِيدَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَيْضًا، وَالتَّثْلِيثَ فِيهِ هُوَ الْخَفِيُّ ; فَإِنَّ الْعَقِيدَةَ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَالتَّثْلِيثِ لَا تُفْهَمُ كُلُّهَا مِنَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، بَلْ هُنَالِكَ عِبَارَاتٌ يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِهَا وَشَرْحِهَا كَمَا يَهْوَوْنَ عَلَى خِلَافٍ شَهِيرٍ فِيهَا بَيْنَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. وَالْعُمْدَةُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلُ عِبَارَةٍ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهِيَ: " فِي الْبَدْءِ كَانَتِ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ " وَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَصَارَ مَعْنَى الْفِقْرَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ عِبَارَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: وَاللهُ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا عَيْنُ مَا أَسْنَدَهُ الْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالرَّازِيُّ إِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ لَازِمَ مَذْهَبِهِمْ؟ ! قَالَ بوستُ فِي قَامُوسِهِ: " يُقْصَدُ بِالْكَلِمَةِ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مُؤَلَّفَاتِ يُوحَنَّا (1: 1 - 14، و1 يو 1: 1، ورؤ 19: 13) وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفَيْلَسُوفُ (فِيلُو) لَفْظَةَ " الْكَلِمَةِ " غَيْرَ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا غَيْرَ مَا قَصَدَ يُوحَنَّا " اهـ. أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرٍ (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا مَا كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، إِلَّا إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ مَنْ أَلَحُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، فَلَوْلَا هَذَا الِاقْتِرَاحُ وَالْإِلْحَاحُ لَمَا كَتَبَ، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَمْ تُعْرَفْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا دَعَا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ الَّذِينَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِنْجِيلِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ إِلَّا فِي الْعُشْرِ الْعَاشِرِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ يُوحَنَّا إِنْجِيلَهُ. هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ يُوحَنَّا الْحَوَارِيَّ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ - وَلَنْ يَصِحَّ - وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَسْكُتَ الْمَسِيحُ وَجَمِيعُ تَلَامِيذِهِ عَنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِذَا كَانَتْ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى، بَلِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ الدَّوَاعِي أَنْ يُقَرِّرَهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَيَجْعَلَهَا تَلَامِيذُهُ أَوَّلَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيُكَرِّرُونَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ. وَلَا يَغُرَنَّكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ (بوستُ) مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا وَرُؤْيَاهُ، فَتَظُنَّ أَنَّ هُنَالِكَ

نَصًّا أَوْ نُصُوصًا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَلَّا إِنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ رِسَالَتِهِ الْأُولَى هُوَ: " الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ "، فَكَلِمَةُ الْحَيَاةِ لَا تُفِيدُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ إِلَّا بِتَحَكُّمِهِمْ. وَأَمَّا الشَّاهِدُ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى الرُّؤْيَا ; فَهُوَ: " 11 ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ 12، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبٍ مِنْ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ 13 وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ 14، وَالْأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لَابِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ نَقِيًّا 15 وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ ; لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الْأُمَمَ، وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ "، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى الْمَسِيحِ، وَإِنَّمَا تَنْطَبِقُ عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمِنْ أَسْمَائِهِ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ، وَبِالْعَدْلِ كَانَ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. . . إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ وَلَمْ يُحَارِبْ وَلَمْ يَرْعَ الْأُمَمَ. وَلَفْظُ " كَلِمَةِ اللهِ " هُنَا لَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 36: 82) . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنِيَّةً فَهُوَ يَظْهَرُ لَكَ جَلِيًّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْجُزْءِ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) (4: 171) وَذَلِكَ أَنَّ زَعْمَهُمْ " أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " جُزْءٌ مِنْ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ وَثَنِيِّي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا هُنَالِكَ مِنْ شَوَاهِدِ كُتُبِ التَّارِيخِ وَآثَارِ الْأَوَّلِينَ مَا عُلِمَ بِهِ قَطْعًا أَنَّ النَّصَارَى أَخَذُوا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عَنْهُمْ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (5: 73) . قَالَ تَعَالَى فِي تَبْكِيتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَرَدِّ زَعْمِهِمْ: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أَيْ قُلْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ بِهَذَا الزَّعْمِ الْبَاطِلِ: مَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْئًا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ وَالْإِعْدَامَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَعَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنْ أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيُبِيدَهُمْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ ; أَيْ إِنَّ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ التى هِيَ قَابِلَةٌ لِطُرُوءِ الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ عَلَيْهَا كَسَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُهْلِكَهُمَا وَيُهْلِكَ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا، لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ إِرَادَتَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِأَمْرِ الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ عَمَلٍ

يُرِيدُهُ أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُرِيدُهُ، أَوْ يَسْتَقِلَّ بِعَمَلٍ دُونَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: مَلَكَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ أَمْرَهُ: إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، فَصَارَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرًا وَلَا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا بِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي وَصْفِ الْخَمْرَةِ التى لَمْ يَكْسِرِ الْمَزْجُ حِدَّتَهَا، وَلَمْ تُبْطِلِ النَّارُ تَأْثِيرَهَا: لَمْ يَمْلِكِ الْمَاءُ عَلَيْهَا أَمْرَهَا وَلَمْ يُدَنِّسْهَا الضِّرَامُ الْمُحْتَضَى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَبْلَغُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ بَعْضَ أَمْرِهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ مِلْكِ أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ أَمْرَهُ، أَوْ يُحَوِّلَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَوِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ ; إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَاهُ، فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِذَا كَانَ الْمَسِيحُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوْ عَنْ وَالِدَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِنْزَالَهُ بِهِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ اللهَ الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَمِنْ غَرِيبِ تَهَافُتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ شَرَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِهْلَاكِ، وَهُوَ الصَّلْبُ نَزَلَ بِالْمَسِيحِ - الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ بِزَعْمِهِمْ - وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ خَائِفًا وَجِلًا ضَارِعًا خَاضِعًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْكَأْسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ! وَهُمْ يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي دَفْعِ هَذَا التَّهَافُتِ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ طَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ ; ثِنْتَانِ مِنْهُمَا إِلَهِيَّتَانِ، وَثِنْتَانِ بَشَرِيَّتَانِ، وَلَيْتَ شِعْرِي، إِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا؛ فَهَلْ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَجْهَلَ الْمَسِيحُ بِطَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ طَبِيعَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (37: 46 إِلَهَيْ إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَيَسْتَنْجِدُهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يُمْكِنُ وَمَا لَا يُمْكِنُ لَهَا بِمِثْلِ مَا قَالُوهُ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (26: 39 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ) إِلَى أَنْ قَالَ: (42 فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ) وَهَذَا أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ مُصَدِّقَةٍ لِحُجَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللهِ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ. ثُمَّ إِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتِ الْبَشَرَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهَا ; لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَلَا يُوثَقُ بِتَعْلِيمِهَا؛ فَكَيْفَ تُجْعَلُ مَعَ الطَّبِيعَةِ الْأُخْرَى شَيْئًا وَاحِدًا يُسَمَّى رَبًّا وَإِلَهًا وَيُعْبَدُ؟ وَالنَّاسُ مَا رَأَوْا إِلَّا الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَلَا عَرَفُوا غَيْرَهَا، وَلَا سَمِعُوا إِلَّا كَلَامَهَا، وَلَا رَأَوْا إِلَّا أَفْعَالَهَا، وَالنُّكْتَةُ فِي عَطْفِ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) عَلَى الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَاجِيلُهُمْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ كَغَيْرِهِ فِي الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ 5: 75) الْآيَةَ.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ ; أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالتَّصَرُّفِ الِاسْتِقْلَالِيِّ الْكَامِلِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ; أَيْ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَالَمَيْنِ ; الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ. وَهَذَا الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ مِمَّا تَعْتَرِفُ بِهِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّهُمْ زَعْمُوا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَالْكَمَالِ الْأَعْلَى قَدْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ - الَّذِي نَدِمَ وَتَأَسَّفَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ - أَمْرٌ عَظِيمٌ ; وَهُوَ أَنَّ آدَمَ عَصَاهُ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُ، فَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَخْرَجًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِلَّا أَنْ يَحُلَّ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَيَتَكَوَّنَ جَنِينًا فِيهِ ; فَتَلِدُهُ إِنْسَانًا كَامِلًا وَإِلَهًا كَامِلًا، ثُمَّ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِشَرِّ قِتْلَةٍ، لُعِنَ صَاحِبُهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَهِيَ الصَّلْبُ ; فِدَاءً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَجَمْعًا بَيْنَ عَدْلِهِ بِتَعْذِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ وَحْدَهُ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ، وَرَحْمَةِ الْآخَرِينَ إِنْ آمَنُوا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَهُ بِهِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِدَاءً لَهُمْ؟ وَهَلْ هَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟ وَلَمَّا كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْمَسِيحِ بَشَرًا إِلَهًا، وَإِنْسَانًا رَبًّا، هِيَ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ عَمِلَ أَعْمَالًا غَرِيبَةً لَا تَصْدُرُ عَنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ، قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: (يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أَيْ لَمَّا كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ تَابِعًا لِمَشِيئَتِهِ، فَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ مَادَّةٍ لَا تُوصَفُ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ كَأُصُولِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا أَبُو الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضهَا مِنْ ذَكَرٍ فَقَطْ، أَوْ أُنْثَى فَقَطْ، وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَهَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا يَدُلُّ شَكْلُ الْخَلْقِ وَلَا سَبَبُهُ وَلَا امْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَالْكَهْرَبَاءِ - عَلَى بَعْضِ أُلُوهِيَّتِهَا أَوْ حُلُولِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ فِيهَا، بَلْ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُمْكِنُ. فَامْتِيَازُ الْأَرْضِ عَلَى عُطَارِدَ أَوْ زُحَلَ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ إِلَهًا لِذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي فَضَلَتْهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، كَذَلِكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِ الْمَسِيحِ وَمَزَايَاهُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا لِمَنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَزَايَا ; لِأَنَّ الْمَزَايَا فِي الْخَلْقِ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهَا الْمَخْلُوقُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، نِسْبَتُهُ إِلَى خَالِقِهِ كَنِسْبَةِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الِامْتِيَازُ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَهُوَ مَعْهُودٌ مِنَ الْبَشَرِ أَيْضًا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَقَدِ ادَّعَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ لِأَصْحَابِهَا الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، وَأَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى

تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَسَمَّوْا تِلْكَ الْغَرَائِبَ بِالْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنِ اللهَ تَعَالَى قَدْ يُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَلِمَاذَا خَرَجْتُمْ أَيُّهَا النَّصَارَى عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاتَّبَعْتُمْ سُنَّةَ الْوَثَنِيِّينَ، كَقُدَمَاءِ الْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا غَرَابَةَ خَلْقِ مُقَدَّسِيهِمْ وَغَرَابَةَ بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ وَرُبُوبِيَّتِهِمْ؟ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَكُلُّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ يَنْفُذُ بِقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ بَعْضُ خَلْقِهِ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْبَشَرِ النَّاقِصِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ غَرَابَةُ بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ عَنْ عِلْمٍ كَسْبِيٍّ يَجْهَلُهُ غَيْرُهُمْ، أَوْ قُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهَا سِوَاهُمْ، أَوْ تَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ لَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا تَأْثِيرَ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُبَيٍّ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ، فَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ؟ نَحْنُ وَاللهِ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمَنْ قَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَى فِيهَا لَقَبَ " ابْنِ اللهِ " قَدْ أُطْلِقَ عَلَى آدَمَ. (انْظُرْ إِنْجِيلَ لُوقَا 3: 38) وَعَلَى يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ مَعَ لَقَبِ الْبِكْرِ (انْظُرْ سِفْرَ الْخُرُوجِ 4: 22 و23 وَالْمَزْمُورَ 98: 26 و27) وَكَذَا عَلَى إِفْرَامَ (انْظُرْ نُبُوَّةَ أَرْمِيَاءَ 31: 9) وَعَلَى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَكِنْ مَعَ لَقَبِ الْحَبِيبِ ; فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِكَلِمَةِ ابْنٍ، وَأُطْلِقَ مَجْمُوعًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ مَتَّى فِي وَعْظِ الْمَسِيحِ عَلَى الْجَبَلِ (5: 9 طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ يُدْعَوْنَ) وَقَالَ بُولَسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلٍ رُومِيَّةَ (8: 14 لِأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ) وَجَاءَ فِي سِيَاقِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، مَا نَصُّهُ: (8: 41 أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا، لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ 42 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، إِلَى أَنْ قَالَ - 44 أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ، هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتُ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى، مِنْ رِسَالَتَيْ يُوحَنَّا (3: 9 كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لَا يَفْعَلُ خَطِيئَةً ; لِأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ ; لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ 10 بِهَذَا أَوْلَادُ اللهِ ظَاهِرُونَ، وَأَوْلَادُ إِبْلِيسَ) فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهَا أَنَّ لَفْظَ " ابْنِ اللهِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ بِمَعْنَى حَبِيبِ اللهِ الَّذِي يُعَامِلُهُ اللهُ مُعَامَلَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّكْرِيمِ، فَعَطَفَ أَحِبَّاءَ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ اللهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالْإِيضَاحِ؛ وَإِنَّمَا تَحَكَّمَ النَّصَارَى بِهَذَا اللَّقَبِ فَجَعَلُوهُ بِمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، وَبِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ تَلْقِيحِ الرَّجُلِ بِمَائِهِ لِبَعْضِ

18

مَا فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْبَيْضِ، فَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مُتَعَيِّنٌ كَمَا تَرَى، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي تَفْسِيرِ (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (9: 30) وَلَمَّا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مُؤَيَّدًا بِالشَّوَاهِدِ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لِأُولَئِكَ الْمُتَبَجِّحِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَسُنَ رَدُّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِكُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ تَارِيخِكُمُ الْمَاضِي، وَكَمَا تَرَوْنَ فِي تَارِيخِكُمُ الْحَاضِرِ، وَمِنْ هَذَا الْعَذَابِ لِلْيَهُودِ مَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ الْوَثَنِيِّينَ لِمَسْجِدِهِمُ الْأَكْبَرِ وَلِبَلَدِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمِنْ إِزَالَةِ مُلْكِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِلنَّصَارَى مَا اضْطَهَدَهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَمَا نَكَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ تَنْكِيلِهِمْ وَتَنْكِيلِ الْوَثَنِيِّينَ بِالْيَهُودِ ; أَيْ أَنَّ الْأَبَ لَا يُعَذِّبُ ابْنَهُ، وَالْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ، فَلَسْتُمْ إِذًا أَبْنَاءَ اللهِ وَلَا أَحِبَّاءَهُ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَغْفِرَةِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ، فَهُوَ يَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كَمَا يَجْزِي سَائِرَ الْبَشَرِ أَمْثَالَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنْ غُرُورِكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ وَسَلَفِكُمْ وَكُتُبِكُمْ ; فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، لَا بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ مَا أَثْبَتَ فِي الَّتِي مِنْ قَبْلِهَا، مِنْ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَ أَجْرَامِهِمَا وَأَجْزَائِهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَتَمَ تِلْكَ بِكَوْنِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْغَرَابَةِ فِي الْخَلْقِ، وَامْتِيَازِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَخَتَمَ هَذِهِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْمَرْجِعِ وَالْمَصِيرِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَنْ فِيهِمَا وَبَيْنَ عَالَمَيْهِمَا نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الرَّبُّ، ذُو التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَمْلُوكَةُ، وَجَمِيعُ مَنْ يَعْقِلُ فِيهَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَبِيدٌ لَهُ لَا أَبْنَاءٌ وَلَا بَنَاتٌ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) وَفِي خَتْمِهَا بِقَوْلِهِ: " وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ وَالْغُرُورِ، وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، فَيَعْلَمُونَ عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ آبِقُونَ يُجَازَوْنَ، لَا أَبْنَاءٌ وَلَا أَحِبَّاءٌ يُحَابَوْنَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ تَعْذِيبِهِمْ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا، أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي ادِّعَائِهِمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا كَالَّذِي حَصَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَقَتْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ

الَّذِينَ ابْتُلُوا بِهَذِهِ الْمِحَنِ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى. وَأَجَابَ الرَّازِيُّ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ ; حَاصِلُ الْأَوَّلِ: أَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارَ أُمَّتِهِ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا نَدَّعِي أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ تَعَالَى. وَحَاصِلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهِ الْيَهُودُ ; إِذْ قَالُوا: " لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ". وَحَاصِلُ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْخُ الَّذِي وَقَعَ لِبَعْضِ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أُضِيفَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ شَرْحِ الْأَجْوِبَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: وَهَذَا الْجَوَابُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ قَوِيًّا مَتِينًا، انْتَهَى. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَضْعَفُهَا، وَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَيْضًا، وَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَا فِي الثَّانِي عَلَى النَّصَارَى ; فَيَكُونُ تَسْلِيمًا لَهُمْ، أَوْ إِقْرَارًا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيَتَبَجَّحُونَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ (يُعَذِّبُكُمْ) يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْذِيبًا خَاصًّا بِطَائِفَةٍ وَقَعَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَقْوَى أَجْوِبَتِهِ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْطِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ بَيَانًا تَامًّا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّرْ أَصْلَ الدَّعْوَى ; فَيَهْتَدِي إِلَى تَحْرِيرِ الْجَوَابِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَا يَرِدُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَضَاءَلُ بِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي خَبَرِ كَانَ. كَانَ الْيَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، مَيَّزَهُمْ لِذَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ ; فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ شَعْبٌ آخَرُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ مِنْهُمْ إِيمَانًا وَأَصْلَحَ عَمَلًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ تَابِعِينَ لِغَيْرِهِمْ فِي الدِّينِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، لَا إِسْرَائِيلِيٌّ، وَالْفَاضِلُ لَا يَتْبَعُ الْمَفْضُولَ بِزَعْمِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ الْمَحْبُوبُ، فَهُوَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا مُعَامَلَةَ الْوَالِدِ لِأَبْنَائِهِ الْأَعِزَّاءِ، وَالْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ الْخَاصِّ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ أَرْبَوْا عَلَيْهِمْ فِي الْغُرُورِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ قَدْ جَاهَدَ غُرُورَ الْيَهُودِ جِهَادًا عَظِيمًا، فَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ فَدَاهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ بِوِلَادَةِ الرُّوحِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُهُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُخَاطَبُونَ اللهَ تَعَالَى دَائِمًا بِلَقَبِ الْأَبِ. وَقَدْ كَانَتْ جَمِيعُ فِرَقِهِمْ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ مِنَ الْيَهُودِ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَفِسْقًا وَفُجُورًا، وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِشَهَادَةِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ كُلِّهَا، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى إِصْلَاحٍ فِي دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ ; وَلِهَذَا رَفَضُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْفَضَائِلِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَدُّوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ كَوْنِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَمَثُوبَتِهِ لَا تُنَالَانِ إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ.

هَذَا حَاصِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَبِأَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا هَدْيَهُمْ وَضَلُّوا طَرِيقَهُمْ، وَقَدْ عَبَّرَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِغَيْرِكُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْبَشَرِ، امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ خَاصٌّ، وَلَا نِسْبَةٌ ذَاتِيَّةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَقَدْ مَضَّتْ سُنَّتُهُ فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَيَعْفُوَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَغْفِرَهَا فَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِحَسَبَ مَشِيئَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِعِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِذَا كَانَ لَكُمُ امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ، عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَلِمَ يُعَذِّبْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، كَمَا يُعَذِّبُ غَيْرَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا عِلْمَ الْيَقِينِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَمِنْ تَارِيخِكُمْ. وَالْمُضَارِعُ " يُعَذِّبُكُمْ " هُنَا لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ; فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مَتَى وَقَعَ سَبَبُهُ وَوُجِدَتْ عِلَّتُهُ، وَالْكَلَامُ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَتَارِيخُهُمْ فِيهِ كَتَارِيخِ غَيْرِهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَفِي زَمَنِهَا وَبَعْدَهَا: مَا عُذِّبَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِشَيْءٍ إِلَّا وَعُذِّبُوا بِمِثْلِهِ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللهِ وَأَحِبَّاءَهُ، وَلَوْ مَجَازًا، بِحَسَبَ مَا بَيَّنَّاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ، لَمَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا كَمَا قَالَ يُوحَنَّا (1 يو 3: 9) . إِذَا فَقِهْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِشْكَالَ الرَّازِيِّ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَإِبْطَالِ دَعْوَى أَنْ يَكُونَ شَعْبٌ مِنْهَا مُمْتَازًا عِنْدَ اللهِ بِذَاتِهِ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِ سُنَّتُهُ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّ أُمَّتَهُ لَهَا مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ اللهِ وَلَا مِنْ أَحِبَّائِهِ، مَهْمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ; فَيُقَالُ: لِمَ غُلِبُوا إِذًا فِي غَزْوَةِ " أُحُدٍ "؟ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ بِأُحُدٍ الْمُنَافِقُينَ، وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ؟ يُثْبِتُ لَكَ هَذَا مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْآيَاتِ ; فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِذُنُوبِ بَعْضِهِمْ ; إِذْ خَالَفَ الرُّمَاةُ أَمْرَ نَبِيِّهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَتَنَازَعُوا وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِالْحَوَادِثِ، فَلَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (3: 137 - 141) ثُمَّ قَالَ: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (3: 152) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ 155، ثُمَّ قَالَ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (3: 165) . . . إِلَخْ.

19

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْوُجُودُ، وَتَشْهَدُ بِهِ تَوَارِيخُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَجْيَالِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ أَنْ يَكُونُوا أَعْرَفَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ; فَتَكُونَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي يُعَاقَبُونَ بِهَا مَوْعِظَةً يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَتَمْحِيصًا يُكْمِلُ نُفُوسَهُمْ بِالْعِبَرِ، وَيُعْلِي شَأْنَهَا، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ لِكُلِّ مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِلْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ ; كَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَالتَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْغُرُورِ وَعَدَمِ النِّظَامِ، وَبِهَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَحِبَّاءِ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ قَبِيلِ تَرْبِيَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى تَعْذِيبًا ; لِأَنَّ مَرَارَةَ الدَّوَاءِ الَّذِي يَشْفِيكَ مِنَ السَّقَمِ، لَيْسَ كَالسَّوْطِ الَّذِي لَا يُصِيبُكَ مِنْهُ إِلَّا الْأَلَمُ. وَمَنْ رَاجِعِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ تَمَامَ التَّجَلِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِهَذَا الْبَيَانِ ; فَيَتَّقُوا غُرُورَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلِ اتَّبَعُوا سُنَّتَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى ضِدِّ مَا كَانَ، فَتَرَكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ذَلِكَ الْغُرُورَ بِدِينِهِمْ، وَاهْتَدَوْا بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُمْ، فَسَارُوا عَلَيْهَا فِي سِيَاسَةِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ آخَرُ حَوَادِثِ غُرُورِ دُوَلِهِمُ الْكُبْرَى غُرُورَ دَوْلَةِ الرُّوسِيَّةِ فِي حَرْبِهَا مَعَ دَوْلَةِ الْيَابَانِ الْوَثَنِيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرُورًا دِينِيًّا مَحْضًا، بَلْ كَانَ مَمْزُوجًا بِالِاسْتِعْدَادِ الدُّنْيَوِيِّ مَزْجًا، وَبَقِي مَنِ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَابِتِينَ عَلَى تَقْلِيدِ أُولَئِكَ الْمَخْذُولِينَ، وَفُتِنَ بَعْضُهُمْ بِالْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مَا احْتَذَوْا مِثَالَهُمْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا رَجَعُوا فِي مِثْلِهِ إِلَى هَدْيِ الدِّينِ (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (40: 13) . أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي غَرَّتْهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى غُرُورِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَقَالَ: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِكُمْ، الْمُنْتَظَرُ فِي اعْتِقَادِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ أَخْبَرَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَنَّهُ سَيُقِيمُ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِخْوَتِكُمْ، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِأَنْ سَيَجِيءَ بَعْدَهُ الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِكُمْ، وَإِنْ حَرَّفْتُمُوهَا بِسُوءِ فَهْمٍ أَوْ بِسُوءِ قَصْدٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْكَامِلُ الْمَعْهُودُ الَّذِي سَأَلَ أَجْدَادُكُمْ عَنْهُ يَحْيَى (يُوحَنَّا) عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَفِي أَوَائِلِ الْإِنْجِيلِ الرَّابِعِ أَنَّ الْيَهُودَ أَرْسَلُوا كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ فَسَأَلُوا يُوحَنَّا: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ إِيلِيَا؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا هُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا - وَهُوَ يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ - أَيِ انْقِطَاعٍ -

مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ عَهْدٍ عَلَى الْوَحْيِ - جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ دُنْيَاكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقِّ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا عَلَيْكُمْ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقُ وَالْآدَابُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا عَلَيْكُمُ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ وَالْأَحْكَامُ، الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أُمُورُكُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ؛ فَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِمَفْعُولِ (يُبَيِّنُ لَكُمْ) لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ; لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَمَا عَرَفَ هَذَا وَلَا ذَاكَ، مِمَّا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ أَحْبَارِكُمْ وَرُهْبَانِكُمْ وَحُكَمَائِكُمْ وَسَاسَتِكُمْ، جَاءَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ يُبَيِّنُ لَكُمْ كُلَّ هَذَا ; لِيَقْطَعَ مَعْذِرَتَكُمْ، وَيَمْنَعَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) يُبَشِّرُنَا بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرُنَا وَيُخَوِّفُنَا سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُفْسِدِينَ الضَّالِّينَ الْمَغْرُورِينَ. (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يَبِينُ لَكُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي دَارِ الْقَرَارِ لَيْسَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمُ التى تَتَمَنَّوْنَهَا، وَأَوْهَامِكُمُ التى تَغْتَرُّونَ بِهَا، بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحَابِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 123 124) (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُرِيَكُمْ صِدْقَ نَبِيِّهِ بِنَصْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِتَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ - إِنْ عَقَلْتُمْ - مَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى. رَوَى أَبْنَاءُ إِسْحَاقَ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَحَذَّرَهُمْ ; فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ لَتَعْلَمُونِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: إِنَّا مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ ; أَيْ أَنْزَلَهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، مُتَضَمِّنَةً لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنْ " الْفَتْرَةَ " مِنْ فَتَرَ الشَّيْءُ: إِذَا سَكَنَ أَوْ زَالَتْ حِدَّتُهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الْفُتُورُ " سُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ، وَلِينٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، وَضَعْفٌ بَعْدَ قُوَّةٍ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ وَظُهُورِ الرُّسُلِ عِدَّةَ قُرُونٍ، وَقَوْلُهُ (أَنْ تَقُولُوا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (4: 176) فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ

20

وَجْهُ إِعْرَابِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّرُ لَهُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا، وَمِثْلُهُ اتِّقَاءَ أَنْ تَقُولُوا، بَلْ هَذَا أَحْسَنُ، وَبَعْضُهُمْ يُقَدِّرُ النَّفْيَ فَيَقُولُ: لِئَلَّا تَقُولُوا، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ مَنْعِهِمْ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَقَطْعِ طَرِيقِهِ عَلَيْهِمْ. (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ رِسَالَةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ وَشَأْنِ كُتُبِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ وَنِسْيَانِ حَظٍّ مِنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَكَوْنِ

مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي فِي الْبَشَرِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ وَإِبْطَالِ دَعَاوِيهِمْ، وَبَيَانِ مَنَاشِئِ غُرُورِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي أَخْرَجَهُمُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَمِلْكِ أَمْرِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يُخَالِفُونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، حَتَّى فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ ; لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ بِهَذَا أَنَّ مُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَمُعَانَدَةَ الرُّسُلِ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ سَلَفِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَزِيدَ عِرْفَانٍ بِطَبَائِعِ الْأُمَمِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ لَاحِقِهِ بِسَابِقِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) أَيْ وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ ; إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّاعَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ، وَتَرْكَهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَلَفْظُ " نِعْمَةَ " يُفِيدُ الْعُمُومَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى مُرَادَهُ بِهَذَا الْعُمُومِ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ بَعْدَ نِعْمَةِ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالسَّلْبِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْحَاصِلَةُ الْمَشْهُودَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ النِّعَمِ وَمَجَامِعِهَا الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا: (الْأَوَّلُ) - وَهُوَ أَشْرَفُهَا -: جَعْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِوُجُودِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ، وَوُجُودِ أَخِيهِ هَارُونَ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمَا، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتُشْعِرُ الْعِبَارَةُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّعْمَةَ أَوْسَعُ، وَأَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ، أَوْ سَيَكُونُ كَثِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَعْلِ بَيَانُ الشَّأْنِ لَا مُجَرَّدُ الْحُصُولِ بِالْفِعْلِ فِي الزَّمَنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ كَثِيرًا فِي عَهْدِ مُوسَى، حَتَّى حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِيَصْعَدُوا مَعَهُ الْجَبَلَ إِذْ يَصْعَدُهُ لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، صَارُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْإِخْبَارُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنَى إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُؤَيِّدِينَ لِلتَّوْرَاةِ، عَامِلِينَ وَحَاكِمِينَ بِهَا، حَتَّى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلِلنَّصَارَى تَحَكُّمٌ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَنَفْيِهَا عَمَّنْ شَاءُوا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ نَبِيًّا! ! بَلْ حَكِيمًا ; أَيْ فَيْلَسُوفًا

عَلَى أَنَّ كُتُبَهُ هِيَ أَعْلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ عِلْمًا وَحِكْمَةً ; فَهِيَ أَعْلَى مِنْ حِكَمِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْتَقِدُهُ عَامَّتُهُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ كَنِيسَتِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ الْأَذْكِيَاءِ اللُّبْنَانِيِّينَ: إِنَّ الْكَنِيسَةَ لَمْ تَعْتَرِفْ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ ; لِيَكُونَ مُنْتَهَى مُبَالَغَةِ الْمُعْجَبِينَ بِحَكَمِهِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ أَنْ يَرْفَعُوهُ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، فَيَبْقَى دُونَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ كَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْمَسِيحِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذَا هُمُ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ فَضَّلُوا الْمَسِيحَ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَهُوَ عِنْدُهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي أَوَاخِرَ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. (الثَّانِي) : جَعْلُهُمْ مُلُوكًا، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ وَمُلُوكٍ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا ; لِأَنَّهُ قَالَ: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ " كُلٍّ " الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ ; أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ ; فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا "، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: " مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِلَفْظِ " زَوْجَةٍ وَمَسْكَنٍ وَخَادِمٍ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى سَتَأْتِي بِنَصِّهَا، وَقَدْ صَحَّحُوا سَنَدَهَا، وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا: الِاسْتِقْلَالُ الذَّاتِيُّ، وَالتَّمَتُّعُ بِنَحْوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ وَسِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ مَا عَرَفْنَا مِنْ بِلَادِهِمْ، يَقُولُونَ لِمَنْ كَانَ مُهَنَّئًا فِي مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسْكَنِهِ، مَخْدُومًا مَعَ أَهْلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَوْ مَلِكُ زَمَانِهِ ; أَيْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ، وَتَرَى مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا، قَالَ: (1: 6 وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً) . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا آتَاهُمْ

مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي يَرْتَقُونَ بِهَا فِي مَرَاقِي الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّ مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَجْمُوعِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعِيشَةَ الْمَنْزِلِيَّةَ الرَّاضِيَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِهَذِهِ الْعِيشَةِ الثَّانِيَةِ، عِيشَةِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا نِظَامُ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ لَا تَكُونُ أُمَمًا عَزِيزَةً قَوِيَّةً ; فَهِيَ إِذَا كَانَ لَهَا مُلْكٌ تُضَيِّعُهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ أَهْلًا لِتَأْسِيسِ مُلْكٍ جَدِيدٍ؟ ! فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا، وَلْيَنْظُرُوا أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِيشَةِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا. (الْأَمْرُ الثَّالِثُ) : إِيتَاؤُهُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ; أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَشُعُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْبَدَةً لِلْمُلُوكِ الْعُتَاةِ الطُّغَاةِ ; كَالْقِبْطِ وَالْبَابِلِيِّينَ، رَوَى الْفِرْيَابِيُّ وَابْنَا جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فِي الْأَخِيرِ أَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَرَوَى هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ الْغَمَامِ الَّذِي ظَلَّلَهُمْ فِي التِّيهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمِ الْحَجَرَ الَّذِي انْبَجَسَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْخَصَائِصِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ. (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، لِمَا بَعَثَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ " الْمُقَدَّسَةَ ": بِالْمُبَارَكَةِ، وَيَصْدُقُ بِالْبَرَكَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: مَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا الشَّامُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلَيْنِ الْقُطْرُ السُّورِيُّ فِي عُرْفِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لِسُورِيَّةَ قَدِيمٌ، وَحَسْبُنَا أَنَّهُ مِنْ عُرْفِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى وَلَا أَحَقَّ وَلَا أَعْدَلَ مِنْ قِسْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ سُورِيَّةَ هِيَ الْقِسْمُ الشَّمَالِيُّ الشَّرْقِيُّ مِنْ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْبَاقِي يُسَمُّونَهُ فِلَسْطِينَ أَوْ بِلَادَ الْمَقْدِسِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا هِيَ " الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ "، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكُوا سُورِيَّةَ، فَسُورِيَّةُ وَفِلَسْطِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُسَمُّونَ الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ أَرْضَ الْمِيعَادِ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ الْحِجَازُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ; لِيُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا مِنْ عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ وَالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ مَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ الَّتِي هِيَ أَرْضُ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ.

21

قَالَ الدُّكْتُورُ بُوسْتُ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: اخْتُصَّ اسْمُ فِلَسْطِينَ أَوَّلًا بِأَرْضِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ غَرْبِيَّ الْأُرْدُنِّ، فَكَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا فِي الْأَصْلِ اسْمُ كَنْعَانَ، وَكَانَتْ فِلَسْطِينُ مَعْرُوفَةً أَيْضًا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَرْضِ إِسْرَائِيلَ، وَأَرْضِ الْمَوْعِدِ، وَالْيَهُودِيَّةِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى الشَّاطِئِ الشَّرْقِيِّ لِلْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ سُهُولِ النَّهْرَيْنِ (الدَّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ) وَالْبَحْرِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ مُلْتَقَى قَارَّتَيْ آسِيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ أَشُورَ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْيُونَانِ وَالْفُرْسِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَعْسُرُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ حُدُودِ فِلَسْطِينَ، فَإِنَّهُ مَعَ دِقَّةِ الشَّرْحِ عَنِ التُّخُومِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ سِبْطٍ وَآخَرَ لَمْ يُشْرَحْ لَنَا فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ شَرْحًا مُسْتَوْفًى، تَتَمَيَّزُ بِهِ تُخُومُ فِلَسْطِينَ عَنْ تُخُومِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ التُّخُومَ كَانَتْ تَتَغَيَّرُ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ، أَمَّا الْأَرْضُ الْمَوْعُودُ بِهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَالْمَوْصُوفَةُ فِي كِتَابَاتِ مُوسَى فَكَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ جَبَلِ هُورٍ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاهْ، وَمِنْ نَهْرِ مِصْرَ الْعَرِيشِ " إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ " (تك 15: 18 وعد 34: 2 - 12 وتث 1: 17) وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَرَاضِي كَانَتْ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ، فَكَانَ التَّخْمُ الشَّمَالِيُّ حِينَئِذٍ سُورِيَّةَ، وَالشَّرْقِيُّ الْفُرَاتَ وَالْبَرِّيَّةَ السُّورِيَّةَ، وَالْجَنُوبِيُّ بَرِّيَّةَ التِّيهِ وَأَدُومَ، وَالْغَرْبِيُّ الْبَحْرَ الْمُتَوَسِّطَ. انْتَهَى بِنَصِّهِ، مَعَ اخْتِصَارٍ حُذِفَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّوَاهِدِ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا بِغَيْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يُرِيدُ بِهِ مُوسَى مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي: كَتَبَ لَهُمُ الْحَقَّ فِي سُكْنَى تِلْكَ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، بِحَسَبِ ذَلِكَ الْوَعْدِ، أَوْ فِي عِلْمِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا كُلُّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ دَائِمًا، أَوْ لَا يُزَاحِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ ; لِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. فَاسْتِنْبَاطُ الْيَهُودِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ لَهُمُ الْمُلْكُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَحْسُنُ هُنَا أَنْ نَذْكُرَ نَصَّ التَّوْرَاةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ فِي هَذَا الْوَعْدِ. جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ ظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ (12: 7 وَقَالَ لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ) وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ (15: 18 فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ إِبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ) وَهَذَا الْوَعْدُ ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ قَبْلَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَاءَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ لَهُ، وَوَعْدِ اللهِ بِتَكْثِيرٍ نَسْلِهِ، وَبِكَوْنِهِمْ يَسْكُنُونَ أَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِمْ (17: 8 وَأُعْطِي لَكَ، وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَأَكُونُ إِلَهَهُمْ) فَهَذَا وَذَاكَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَوْلَى أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَهُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْوَفَاءُ الْأَبَدِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِهِ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كُلُّهَا عَرَبِيَّةً مَحْضَةً. وَلَيْسَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْحَاقَ وَعْدٌ لِإِبْرَاهِيمَ مِثْلُ هَذَا بِبِلَادٍ وَلَا بِأَرْضٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ يُقِيمُ مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَهْدَ لِإِسْحَاقَ دُونَ إِسْمَاعِيلَ، فَمَا هَذَا الْعَهْدُ؟

إِنْ كَانَ عَهْدَ النُّبُوَّةِ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَبَدِيَّةً فِي نَسْلِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ بِالْفِعْلِ مِنْهُمْ مَنْ زُهَاءِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنْ كَانَ عَهْدَ امْتِلَاكِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ أَبَدِيًّا فِيهِمْ ; لِأَنَّهَا نُزِعَتْ مِنْهُمْ قَبْلَ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَخَذَهَا الْعَرَبُ، وَصَارَتْ لَهُمْ بِالِامْتِلَاكِ السِّيَاسِيِّ، ثُمَّ بِالِامْتِلَاكِ الطَّبِيعِيِّ؛ إِذْ غَلَبُوا عَلَى سَائِرِ الْعَنَاصِرِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَأَدْغَمُوهَا فِي عُنْصُرِهِمُ الْمُبَارَكِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُبَارِكَهُ وَيُثَمِّرَهُ، وَيُكَثِّرَهُ جِدًّا جِدًّا، وَيَجْعَلَهُ أُمَّةً كَبِيرَةً (رَاجِعْ 17: 18 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) . نَعَمْ إِنَّ الْفَصْلَ الرَّابِعَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ صَرِيحٌ فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَاقْتِسَامِهَا بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا حَقٌّ قَدْ وَقَعَ، فَلَا مِرَاءَ فِيهِ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُمْ حَظٌّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، وَلَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ، بَلْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَوْلَى كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ مَفْعُولًا. يُوَضِّحُ هَذَا مَا نَقَلَهُ كَاتِبُ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (1: 6 الرَّبُّ إِلَهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلًا: كَفَاكُمْ قُعُودًا فِي هَذَا الْجَبَلِ 7 تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا، وَادْخُلُوا جَبَلَ الْأَمُورِيِّينَ، وَكُلَّ مَا يَلِيهُ مِنَ الْعَرَبَةِ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْيَسُوعِيَّةِ الْقَفْرِ) وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّ، وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ 80 انْظُرُوا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الْأَرْضَ، ادْخُلُوا وَتَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لِآبَائِكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ) وَأَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهَذَا الْوَعْدِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا السِّفْرِ، وَهَذَا النَّصُّ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ نَسْلُ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا ذِكْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هُنَا ; فَلِأَنَّ الرَّبَّ ذَكَّرَهُمَا بِوَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمَا، وَأَكَّدَهُ لَهُمَا وَلِنَسْلِهِمَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّأْيِيدِ (تَك 26 و28) كَمَا سَبَقَ فِي وَعْدٍ لِإِبْرَاهِيمَ، فَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُؤَبَّدُ إِنَّمَا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَصْدُقْ إِلَّا بِمَجْمُوعِ نَسْلِهِ، وَهُمُ الْعَرَبُ وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَ الرَّبِّ لِإِسْحَاقَ مَا وَعَدَ بِهِ أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِعْطَاءِ نَسْلِهِ تِلْكَ الْبِلَادَ مُعَلَّلٌ بِحِفْظِ أَوَامِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَشَرَائِعِهِ (تك 26: 5 وخر 13) وَهُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِيَعْقُوبَ فِي الْمَنَامِ فِي الْفَصْلِ الْـ 28، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ هُنَالِكَ التَّعْدِيلُ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ يُذِلُّهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَدِينَتِهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، وَيُتَبِّرُوا مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْهُمَا تَتْبِيرًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا 17: 8) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَدْ عَادُوا، وَعَادَ انْتِقَامُ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ مِنْهُمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرُّومَ قَبْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَدُلُّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ،، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ آيَةُ (عَسَى رَبُّكُمْ) أَرْجَى الْآيَاتِ لَهُمْ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْإِصْلَاحِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ مَا فُقِدَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا وَاتَّحَدُوا بِبَنِي عَمِّهِمُ الْعَرَبِ يَمْلِكُونَ كُلَّ هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِي هَذَا بِعِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ شَدِيدُو التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ فِي جِنْسِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَهَذَا الْعَصْرُ عَصْرُ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّونَ رَابِطَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ لِأَجْلِ شَدِّ عُرْوَةَ الرَّابِطَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ لُغَاتٌ ذَاتُ آثَارٍ يُحْرَصُ عَلَيْهَا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّفُونَ تَدْوِينَ لُغَاتِهِمْ وَتَأْسِيسَهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لُغَاتِ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا غَالِبٌ فِيهِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَالْيَهُودُ يُرِيدُونَ أَنْ يُعِيدُوا مُلْكَهُمْ لِهَذِهِ الْبِلَادِ بِتَكْوِينٍ وَتَأْسِيسٍ جَدِيدٍ، وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَطُرُقِ الْعُمْرَانِ الْحَدِيثَةِ. فَيَا دَارُهَا بِالْخِيفِ إِنَّ مَزَارَهَا قَرِيبٌ وَلَكِنْ دُونُ ذَلِكَ أَهْوَالُ فَإِنَّ الشُّعُوبَ النَّصْرَانِيَّةَ وَدُوَلَهَا الْقَوِيَّةَ تُعَارِضُهُمْ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَالْعَرَبُ أَصْحَابُ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَا يَتْرُكُونَهَا لَهُمْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْوَسَائِلُ الرَّسْمِيَّةُ وَالْمُكَايَدَةُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُغْنِي وَيُقْنِي هُوَ الِاتِّفَاقُ مَعَ الْعَرَبِ عَلَى الْعُمْرَانِ ; فَإِنَّ الْبِلَادَ تَسَعُ مِنَ السُّكَّانِ أَضْعَافَ مَنْ فِيهَا الْآنَ. وَيُؤَيِّدُ التَّعْلِيلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَخِيرًا هَذَا النَّهْيُ الَّذِي عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ: لَا تَرْجِعُوا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْهُدَى إِلَى الْوَثَنِيَّةِ أَوِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ; فَيَكُونَ هَذَا الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ انْقِلَابَ خُسْرَانٍ تَخْسَرُونَ فِيهِ هَذِهِ النِّعَمَ، وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي سَتُعْطَوْنَهَا جَزَاءً عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا، فَتَعُودُ الدَّوْلَةُ فِيهَا لِأَعْدَائِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ شُكْرَ النِّعَمِ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ مِنْهَا، وَكُفْرَهَا مَدْعَاةُ سَلْبِهَا وَزَوَالِهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الِارْتِدَادِ عَلَى الْأَدْبَارِ النُّكُوصُ عَنْ دُخُولِهَا، وَالْجُبْنُ عَنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ قِتَالَهُمْ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى هَذَا قِيلَ هُوَ

خُسْرَانُ ثَوَابِ الْجِهَادِ، وَخَيْبَةُ الْأَمَلِ فِي امْتِلَاكِ الْبِلَادِ، وَالَّذِي أَجْزِمُ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ تَحْرِيمُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَحِرْمَانُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِهَا الَّتِي وَرَدَ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَنَّهَا " تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا "، وَعِقَابُهُمْ بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَنْقَرِضُ فِيهَا الْمُرْتَدُّونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْخُسْرَانَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَبَيَّنَهُ اللهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُ اللهِ تَعَالَى كَتَبَهَا لَهُمْ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِشَعْبِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ الَّذِي يُوَجَّهُ إِلَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ مَعْهُودٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَلُغَاتِهِمْ، يُسْنَدُ إِلَى الْحَاضِرِينَ الْمُخَاطَبِينَ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ سَلَفِهِمِ الْغَابِرِينَ، وَيُبَشَّرُونَ أَوْ يُوعَدُونَ بِمَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَلَفِهِمُ الْآتِينَ، كَبِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَى جُمْهُورِ الَّذِينَ خَالَفُوا وَعَصَوْا أَمْرَ مُوسَى بِدُخُولِهَا، وَلَمَّا دَخَلُوهَا بَعْدَ التِّيهِ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِأَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُمْ بَقِيَّةٌ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ كَوْنَهَا كُتِبَتْ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيَانِهِمْ يَصْدُقُ بِهَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَلَكِنَّ الْأُسْلُوبَ الْفَصِيحَ يَأْبَى هَذَا التَّوْجِيهَ اللَّفْظِيَّ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ هُنَا الْأَمْرُ، فَمَعْنَى " كَتَبَ اللهُ لَكُمْ " أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى آبَائِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوَاقِعُ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى كَتَبَ لَكُمْ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ ; أَيْ أَثْبَتَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. (قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) كَانَ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَذَلَّهُمْ وَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُمْ، وَكَانَ بَنُو عَنَاقٍ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَمَامَهُمْ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانُوا كِبَارَ الْأَجْسَامِ، طِوَالَ الْقَامَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ ". فَالْجَبَّارُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الطَّوِيلِ الْقَوِيِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْقَتَّالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ، وَالَّذِي يَجْبُرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَالْقَاهِرِ الْمُتَسَلِّطِ، وَالْمَلِكِ الْعَاتِي، وَكُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ ; أَيْ طَوِيلَةٌ، لَا يُنَالُ ثَمَرُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِنْ عَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ فِي أَسَاسِهِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الشَّيْءِ ; كَأَجْبَرَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَلْفَاظِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْأَجْسَامِ وَلِمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا مَا وُضِعَ لِلْمَعَانِي، وَمَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ جَزْمِي بِمَا ذَكَرْتُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُ مِثْلَهُ وَمَا يُؤَيِّدُهُ. ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَرَادَ الطُّولَ وَالْقُوَّةَ وَالْعِظَمَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ مِنَ النَّخِيلِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الَّذِي فَاتَ يَدَ التَّنَاوُلِ، وَيُقَالُ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ. انْتَهَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ:

أَصْلُ الْجَبْرِ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ بِضَرْبٍ مِنَ الْقَهْرِ، يُقَالُ جَبَرْتُهُ فَانْجَبَرَ وَاجْتَبَرَ، وَقَدْ جَبَرْتُهُ فَجُبِرَ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجُبِرْ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَبَّارُ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ يُقَالُ لِمَنْ يَجْبُرُ نَقِيصَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّعَالِي لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ فِيهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلِتَصَوُّرِ الْقَهْرِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْأَقْرَانِ قِيلَ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ وَنَاقَةٌ جَبَّارَةٌ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لِمَادَّةِ الْجَبْرِ، مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْقُوَّةِ وَمَعْنَى جَبْرِ الْكَسْرِ وَجَبْرِ الْجُرْحِ وَتَجْبِيرِهِ وَمَا أُخِذَ مِنْهُ ; كَجَبْرِ الْمُصِيبَةِ بِالتَّعْوِيضِ عَمَّا فُقِدَ، وَجَبْرِ الْفَقِيرِ بِإِغْنَائِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَدْخُلُ فِي مَعْنَى جَبَّارِ النَّخْلِ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَالنَّمَاءُ وَالطُّولُ. وَالْجَبَّارُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَوْنُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ بِتَأْثِيرٍ مَا، وَمَعْنَى جَبْرِ الْقَلْبِ الْكَسِيرِ، وَإِغْنَاءِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَمَعْنَى جَبْرِ الْخَلْقِ بِمَا وَضَعَهُ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ وَالْمَقَادِيرِ الْمُنْتَظِمَةِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَهُوَ مِثْلُ اسْمِ الْمُتَكَبِّرِ مَدْحٌ لِلْخَالِقِ، وَذَمٌّ لِلْمَخْلُوقِ ; إِذْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي مَعْنَى الْجَبْرِ؛ وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَالْعُلُوُّ وَالِامْتِنَاعُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ بِأَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ كَبِيرُ الشَّأْنِ، وَلَوْ بِالْحَقِّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ! فَإِنَّ الْكَبِيرَ بِالْفِعْلِ لَا يَتَعَمَّدُ وَيَتَكَلَّفُ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَبِيرٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيَتَوَخَّاهُ مَنْ يَشْعُرُ بِصَغَارِ نَفْسِهِ فِي بَاطِنِ سِرِّهِ، فَيَحْمِلُهُ حُبُّ الْعُلُوِّ عَلَى تَكَلُّفِ إِخْفَاءِ هَذَا الصَّغَارِ، بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ إِظْهَارِ كِبْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْ خُلُقِهِ أَلَّا يَخْضَعَ لِلْحَقِّ، وَلَا يُقَدِّرُ النَّاسَ قَدْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنَ الْحَقِّ وَمِنَ النَّاسِ، فَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونُوا فَوْقَهُ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ النَّقْصِ وَسَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ، فَقَالَ: " الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا تَكَبُّرُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إِظْهَارُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ لِعِبَادِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ تَرْبِيَةً وَتَغْذِيَةً لِإِيمَانِهِمْ، يُوَجِّهُ قُلُوبَهُمْ إِلَى الْكَمَالِ الْأَعْلَى ; فَيَقْوَى اسْتِعْدَادُهُمْ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَعِرْفَانِهِمْ بِهَا، فَيَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا يَرْفَعُوهَا عَنْ مَكَانِهَا بِالْبَاطِلِ وَلَا يُسَفِّهُوهَا فَيَرْضَوْا لَهَا بِالْخَسَائِسِ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ " وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى اسْمِ الْجَبَّارِ وَالْمُتَكَبِّرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى ; لِمَا نَعْلَمُهُ مِنْ ضَلَالِ بَعْضِ النَّاسِ فِي فَهْمِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ. أَمَّا مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ وَصْفِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ، فَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَبُثُّهَا الْيَهُودُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَرَوَوْهَا مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ إِلَيْهِمْ ; كَقَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُيُونَ

22

الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى إِلَى مَا وَرَاءَ الْأُرْدُنِّ ; لِيَتَجَسَّسُوا وَيُخْبِرُوهُ بِحَالِ تِلْكَ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا قَوْمُهُ، رَآهُمْ أَحَدُ الْجَبَّارِينَ فَوَضَعَهُمْ كُلَّهُمْ فِي كِسَائِهِ، أَوْ فِي حُجْزَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَحَدُهُمْ يَجْنِي الْفَاكِهَةَ، فَكَانَ كُلَّمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُيُونِ وَضَعَهُ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِ مُوسَى اسْتَظَلُّوا فِي ظِلِّ خُفِّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَالِيقِ. وَأَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ وَأَصْدَقُهُ قَوْلُ قَتَادَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) قَالَ: هُمْ أَطْوَلُ مِنَّا أَجْسَامًا، وَأَشَدُّ قُوَّةً، وَأَفْرَطُوا فِي وَصْفِ فَاكِهَتِهِمْ، كَمَا أَفْرَطُوا فِي وَصْفِهِمْ ; فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (5: 12) الَّذِي مَرَّ تَفْسِيرُهُ: أَرْسَلَهُمْ مُوسَى إِلَى الْجَبَّارِينَ، فَوَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمُ اثْنَانِ مِنْكُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عُنْقُودَ عِنَبِهِمْ إِلَّا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ بَيْنَهُمْ فِي خَشَبَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ السِّفْرُ الرَّابِعُ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَفِي أَوَّلِهِمَا أَنَّ الْجَوَاسِيسَ تَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ كَمَا أُمِرُوا، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوا فِي عَوْدَتِهِمْ زَرْجُونَةً فِيهَا عُنْقُودُ عِنَبٍ وَاحِدٌ، حَمَلُوهُ بِعَتَلَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَقَالُوا لِمُوسَى وَهُوَ فِي مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (12: 29 قَدْ صِرْنَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَعَثْتَنَا إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ تُدِرُّ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَهَذَا ثَمَرُهَا 30 غَيْرَ أَنَّ الشَّعَبَ السَّاكِنِينَ فِيهَا أَقْوِيَاءُ، وَالْمُدُنَ حَصِينَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَرَأَيْنَا ثَمَّ أَيْضًا بَنِي عَنَاقٍ - إِلَى أَنْ قَالَ الْكَاتِبُ - 31 وَكَانَ كَالِبٌ يُسْكِتُ الشَّعْبَ عَنْ مُوسَى قَائِلًا: نَصْعَدُ وَنَرِثُ الْأَرْضَ فَإِنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهَا 32 وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ صَعِدُوا مَعَهُ (أَيْ لِلتَّجَسُّسِ) فَقَالُوا: لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصْعَدَ إِلَى الشَّعْبِ ; لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَّا 33، وَشَنَّعُوا عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَجَسَّسُوهَا، وَقَالُوا:. . . هِيَ أَرْضٌ تَأْكُلُ أَهْلَهَا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ فِيهَا طِوَالُ الْقَامَاتِ 34، وَقَدْ رَأَيْنَا ثَمَّ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، جَبَابِرَةِ بَنِي عَنَاقٍ، فَصِرْنَا فِي عُيُونِنَا كَالْجَرَادِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا فِي عُيُونِهِمْ) هَذَا آخَرُ الْفَصْلِ، وَذُكِرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ تَذَمُّرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى لَهُمْ بِدُخُولِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ بَكَوْا وَتَمَنَّوْا لَوْ أَنَّهُمْ مَاتُوا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَقَالُوا (14: 3 لِمَاذَا أَتَى الرَّبُّ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ؟ حَتَّى نَسْقُطَ تَحْتَ السَّيْفِ وَتَصِيرَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً؟ أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى مِصْرَ؟) . . . إِلَخْ! ! فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْخُرَافَاتُ الَّتِي بَثُّوهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُمْ لِخَوْفِهِمْ وَرُعْبِهِمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ احْتَقَرُوا

أَنْفُسَهُمْ، حَتَّى رَأَوْهَا كَالْجَرَادِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْجَبَّارِينَ رَأَوْهُمْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا حَمْلُ زَرْجُونِ الْعِنَبِ وَالْفَاكِهَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مُبَالَغَةٍ كَبِيرَةٍ فِي عِظَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ حِفْظَهَا لِطُولِ الْمَسَافَةِ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي رَاجَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ، وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِبُطْلَانِهَا أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُعْتَمَدَةِ لِيَقِفُوا عَلَى الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِيهَا؛ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ هِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، لَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ نَحْوَ مَا يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ غَشَّهُمُ الْيَهُودُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِهِمْ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ حِكَايَتِهِمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَبَيْنَ كَذِبِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ فِي مِثْلِ مَكَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا يَهُودُ وَلَا كُتُبٌ، وَأَكْثَرُ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَمُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَرُبَ بِقَوْمِهِ مِنْ حُدُودِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الْعَامِرَةِ الْآهِلَةِ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِهَا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مَنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالذُّلِّ بِاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاهُمْ أَبَوْا وَتَمَرَّدُوا وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِهِمْ، وَقُوَّةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَحَاوَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى مِصْرَ (كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَبِيدِ يَرْجِعُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى خِدْمَةِ سَادَتِهِمْ فِي أَمِرِيكَةَ، بَعْدَ تَحْرِيرِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْعِ الِاسْتِرْقَاقِ بِقُوَّةِ الْحُكُومَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا تِلْكَ الْخِدْمَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، وَصَارَتِ الْعِيشَةُ الِاسْتِقْلَالِيَّةُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ) وَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَ هَذِهِ الْأَرْضَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارُونَ فِيهَا، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا بِقُوَّةِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ ; لِتَكُونَ غَنِيمَةً بَارِدَةً لَهُمْ، وَجَهِلُوا أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْقُوا دَائِمًا عَلَى ضَعْفِهِمْ وَجُبْنِهِمْ، وَأَنْ يَعِيشُوا بِالْخَوَارِقِ وَالْعَجَائِبِ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا، لَا يَسْتَعْمِلُونَ قُوَاهُمُ الْبَدَنِيَّةَ وَلَا الْعَقْلِيَّةَ فِي دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا فِي جَلْبِ الْخَيْرِ لَهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ أَكْفَرَ الْخَلْقِ بِنِعَمِ اللهِ، فَكَيْفَ يُؤَيِّدُهُمْ بِآيَاتِهِ طُولَ الْحَيَاةِ! وَالْحِكْمَةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْيِيدِ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ أَصْفِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَقَّتًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ ; فَهُوَ كَالدَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغِذَاءِ. وَقَوْلُهُمْ (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) تَأْكِيدٌ لِمَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لَامْتِنَاعِهِمْ إِلَّا مَا ذَكَرُوهُ. (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يَفُنَةَ ; وِفَاقًا لِرِوَايَةِ التَّوْرَاةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ ; فَهُمَا

23

اللَّذَانِ كَانَا يَحُثَّانِ الْقَوْمَ عَلَى الطَّاعَةِ وَدُخُولِ أَوَّلِ بَلَدٍ لِلْجَبَّارِينَ ; ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: (يَخَافُونَ) مَعْنَاهُ يَخَافُونَ اللهَ تَعَالَى، وَقِيلَ يَخَافُونَ الْجَبَّارِينَ، وَمَعْنَى النِّعْمَةِ هُنَا نِعْمَةُ الطَّاعَةِ وَالتَّوْفِيقِ حَتَّى فِي حَالِ الْخَوْفِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِفِينَ طَبْعًا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أَيْ بَابَ الْمَدِينَةِ (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) بِنَصْرِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكُمْ إِذَا أَطَعْتُمْ أَمْرَهُ، وَصَدَّقْتُمْ وَعْدَهُ (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ وَعَلَيْكُمْ، بَعْدَ أَنْ تَعْمَلُوا مَا يَدْخُلُ فِي طَاقَتِكُمْ مِنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ، أَنْ تَكِلُوا أَمْرَكُمْ إِلَيْهِ وَتَثِقُوا بِهِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بَذْلِ الْوُسْعِ فِي مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ حَقٌّ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ لَكُمْ بِوَعْدِهِ، إِذَا أَنْتُمْ قُمْتُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ وَالْوَفَاءِ بِمِيثَاقِهِ وَعَهْدِهِ. (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أَيْ لَمْ تَنْفَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْعِظَةُ الرَّجُلَيْنِ، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَكَّدُوا لِمُوسَى بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ تِلْكَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَّارُونَ أَبَدًا - أَيْ مُدَّةَ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ - مَا دَامُوا فِيهَا ; لِأَنَّ دُخُولَهَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ وَالْحَرْبَ، وَلَيْسُوا لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى مَا مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ أَخْرَجْتَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِأَمْرِ رَبِّكَ ; لِنَسْكُنَ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِتَالِ وَأَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ الَّذِي أَمَرَكَ بِذَلِكَ، فَقَاتِلَا الْجَبَّارِينَ، وَاسْتَأْصِلَا شَأْفَتَهُمْ، أَوِ اهْزِمَاهُمْ وَأَخْرِجَاهُمْ مِنْهَا، إِنَّا هَاهُنَا مُنْتَظِرُونَ وَمُتَوَقِّفُونَ، أَوْ قَاعِدُونَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالى: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ 9: 46) وَقَوْلِهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ) (4: 95) الْآيَةَ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ هَذَا الْقَوْلِ السَّمِجِ الْخَارِجِ مِنْ حُدُودِ الْآدَابِ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَلِيقُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ ; كَكَوْنِ الْمُرَادِ بِذَهَابِ الرَّبِّ إِعَانَتَهُ وَنَصْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَكَانَ مِنْ فَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، تَارَةً بِالْإِجْمَالِ، وَتَارَةً بِأَوْسَعِ التَّفْصِيلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ صَفْوَةَ الْوَقَائِعِ، وَمَحَلَّ الْعِبْرَةِ فِيهَا، لَا تَرْجَمَةَ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ بِحُرُوفِهَا، وَشَرْحَ الْأَعْمَالِ بِبَيَانِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَمَا يَقُصُّهُ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ الْوَاقِعُ وَرُوحُ مَا صَحَّ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ تَصْحِيحُ مَا حُرِّفَ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى التَّمَرُّدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَالْجَفَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْوِيلِهَا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ. (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُورَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ إِنْشَاءٌ، فَهُوَ مِنْ بَثِّ الْحُزْنِ وَالشَّكْوَى إِلَى اللهِ، وَالِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْ

25

فِسْقِ قَوْمِهِ عَنْ أَمْرِهِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ أَمْرَ أَحَدٍ أَحْمِلُهُ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا أَمْرَ نَفْسِي وَأَمْرَ أَخِي، وَلَا أَثِقُ بِغَيْرِنَا أَنْ يُطِيعَكَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِنُ بِثَبَاتِ يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ إِذَا أَمَرَ اللهُ مُوسَى بِأَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْجَبَّارِينَ، وَيَتَصَدَّى لِقِتَالِهِمْ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَجْرُؤُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ، يَجُوزُ أَلَّا يَجْرُؤَ عَلَيْهِ مَعَ النَّفَرِ الْقَلِيلِ. وَأَمَّا ثِقَتُهُ بِأَخِيهِ فَلِعِلْمِهِ الْيَقِينِيِّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِمِثْلِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا بِإِعْلَامِ اللهِ وَوَحْيِهِ، وَمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوِجْدَانِ الضَّرُورِيِّ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ بَلَاؤُهُ مَعَهُ فِي مُقَاوَمَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ فِي سِيَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، وَفِي حَالِ انْصِرَافِهِ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ مَا يَكْفِي لِلثِّقَةِ التَّامَّةِ، فَلَفْظُ " أَخِي " مَعْطُوفٌ عَلَى " نَفْسِي " وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي " إِنِّي " أَيْ وَأَخِي كَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ. (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) الْفَرْقُ: الْفَلْقُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ قِسْمَانِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ هُنَا: فَافْصِلْ بَيْنَنَا - يَعْنِي نَفْسَهُ وَأَخَاهُ - وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِقَضَاءٍ تَقْضِيهِ بَيْنَنَا، إِذْ صِرْنَا خَصْمًا لَهُمْ وَصَارُوا خَصْمًا لَنَا، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: إِذَا أَخَذْتَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى فُسُوقِهِمْ، فَلَا تُعَاقِبْنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ قَالَ اللهُ لِمُوسَى مُجِيبًا لِدُعَائِهِ إِجَابَةً مُتَّصِلَةً بِهِ: فَإِنَّهَا - أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ - مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا فِعْلِيًّا، لَا تَكْلِيفِيًّا شَرْعِيًّا، مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ يَسِيرُونَ فِي بَرِّيَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، تَائِهِينَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَنْتَهُونَ فِي سَيْرِهِمْ، فَالتِّيهُ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ، وَيَتُوهُ لُغَةٌ، وَيُقَالُ: مَفَازَةٌ تَيْهَاءُ: إِذَا كَانَ سَالِكُوهَا يَتَحَيَّرُونَ فِيهَا لِعَدَمِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا. وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ. (فَلَا تَأَسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا وَحِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَحَقِيقَتُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ الْغَمَّ، يُقَالُ: أَسِيتُ عَلَيْهِ أَسًى، وَأَسِيتُ لَهُ. ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا أَمْرَ رَبِّهِمْ سَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وُجُوهِهِمَا أَمَامَهُمْ، وَأَنَّ يُوشَعَ وَكَالَبَ مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَنَهَيَا الشَّعْبَ عَنِ التَّمَرُّدِ، وَعَنِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَّارِينَ لِيُطِيعَ، فَهَمَّ الشَّعْبُ بِرَجْمِهِمَا، وَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ لِمُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ (11 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟

وَحَتَّى مَتَى لَا يُصَدِّقُونَنِي بِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي عَمِلْتُ فِي وَسَطِهِمْ؟ 12 إِنِّي أَضْرِبُهُمْ بِالْوَبَاءِ وَأُبِيدُهُمْ، وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ) فَشَفَعَ مُوسَى فِيهِمْ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمِصْرِيُّونَ وَبِهِ، فَقَبِلَ الرَّبُّ شَفَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ (22 إِنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي الَّتِي عَمِلْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي الْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي الْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلِي 23 لَنْ يَرَوُا الْأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتُ لِآبَائِهِمْ، وَجَمِيعُ الَّذِينَ أَهَانُونِي لَا يَرَوْنَهَا) وَاسْتَثْنَى الرَّبُّ كَالِبَ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ (27 حَتَّى مَتَى أَغْفِرُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَذَمِّرَةِ عَلَيَّ؟ قَدْ سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي يَتَذَمَّرُونَهُ عَلَيَّ 28 قُلْ لَهُمْ " حَيٌّ أَنَا " يَقُولُ الرَّبُّ لَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنِي 29 فِي هَذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ. جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ 30 لَنْ تَدْخُلُوا الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لَأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ 31 وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الْأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا 32 فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هَذَا الْقَفْرِ 33، وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي الْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي الْقَفْرِ 34 كَعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ ; أَيْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي 35 أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ لَأَفْعَلَنَّ هَذَا بِكُلِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ، فِي هَذَا الْقَفْرِ يَفْنَوْنَ، وَفِيهِ يَمُوتُونَ) . لَا نَبْحَثُ هُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي أَثْبَتْنَاهَا، وَلَا فِي تَرْكِ مَا تَرَكْنَاهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَاتِبِ هَذِهِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَإِنَّمَا نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ شَاهِدًا، وَنَقُولُ كَلِمَةً فِي حِكْمَةِ هَذَا الْعِقَابِ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهِيَ: إِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي تَنْشَأُ فِي مَهْدِ الِاسْتِبْدَادِ، وَتُسَاسُ بِالظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا، وَتَذِلُّ نُفُوسُهَا، وَيَذْهَبُ بِأْسُهَا، وَتُضْرَبُ عَلَيْهَا الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَتَأْلَفُ الْخُضُوعَ، وَتَأْنَسُ بِالْمَهَانَةِ وَالْخُنُوعِ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا أَمَدُ الظُّلْمِ تَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مَوْرُوثَةً وَمُكْتَسَبَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالطَّبَائِعِ الْخِلْقِيَّةِ. إِذَا أَخْرَجْتَ صَاحِبَهَا مِنْ بِيئَتِهَا وَرَفَعْتَ عَنْ رَقَبَتِهِ نِيرَهَا، أَلْفَيْتَهُ يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، وَيَتَفَلَّتُ مِنْكَ لِيَتَقَحَّمَ فِيهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ مَا يَأْلَفُونَهُ، وَيَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِهِدَايَتِهِ وَضَلَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ " مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ

يَقَعْنَ فِيهَا، وَيَجْعَلُ يَحْجِزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. أَفْسَدَ ظُلْمُ الْفَرَاعِنَةِ فِطْرَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا طَابَعَ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَقَدْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُرِ أَحَدًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْعَذَابِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَالْعِزِّ وَالنَّعِيمِ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُمْ نَصَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ كُلِّفُوا أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَيَتَمَلْمَلُونَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مِصْرَ وَيَحِنُّونَ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، وَلَمَّا غَابَ عَنْهُمْ أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، اتَّخَذُوا لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَعَبَدُوهُ، لِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِكْبَارِ سَادَتِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِعْظَامِ مَعْبُودِهِمُ الْعِجْلِ (أَبِيسَ) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا تُطِيعُهُمْ نُفُوسُهُمُ الْمَهِينَةُ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ وَعْدَهُ تَعَالَى لِأَجْدَادِهِمْ إِنَّمَا يِتِمُّ عَلَى وِفْقِ سُنَّتِهِ فِي طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، إِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي الْوَثَنِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَنَشَأَ بَعْدَهُ جِيلٌ جَدِيدٌ فِي حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَعَدْلِ الشَّرِيعَةِ وَنُورِ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ قَوْمًا بِذُنُوبِهِمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ عَجَائِبَ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا آخَرِينَ، جَعَلَهُمْ هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ بِهِمَمِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُوَافِقَةِ لِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ ; فَهَذَا بَيَانُ حِكْمَةِ عِصْيَانِهِمْ لِمُوسَى بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَحِكْمَةِ حِرْمَانِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْجِيلِ مِنْهُمْ مَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. فِعْلَيْنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.

27

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) جَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَأْنِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَصَوْا رَبَّهُمْ فِيمَا كَلَّفَهُمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَبَيَّنَ مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنْ جَزَاءِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَيُهَدِّدُونَ الْأَمْنَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ عِقَابِ السَّرِقَةِ. فَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِلسِّيَاقِ فِي جُمْلَتِهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَسَدِ الَّذِي صَرَفَ الْيَهُودَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ عَرِيقًا فِي الْآدَمِيِّينَ وَأَثَرًا مِنْ آثَارِ

سَلَفِهِمْ، كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ، وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِزَالَةَ اسْتِغْرَابِهِمْ إِعْرَاضَ هَذَا الشَّعْبِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى وُضُوحِ بُرْهَانِهِ وَكَثْرَةِ آيَاتِهِ. وَأَمَّا مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً ; فَهُوَ بَيَانُ حِكْمَةِ اللهِ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ وَالْقَوْدَ عَلَى مَا شَدَّدَ فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْأُمَمِ وَقَتْلُ الْحُكُومَاتِ لِلْأَفْرَادِ، أَوْ تَعْذِيبُهُمْ بِقَطْعِ الْأَطْرَافِ، كُلُّ ذَلِكَ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، كَانَ مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِدَرْءِ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهُ وَأَضَرُّ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا حِكْمَةَ ذَلِكَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اعْتِدَاءَ بَعْضِ الْبَشَرِ عَلَى بَعْضٍ - حَتَّى بِالْقَتْلِ - هُوَ أَصِيلٌ فِيهِمْ، وَقَعَ بَيْنَ أَبْنَاءِ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَعَدُّدِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، حَسَبَ إِرَادَتِهِمُ التَّابِعَةِ لِعِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ، وَكَوْنِ عُلُومِهِمْ وَظُنُونِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَكَوْنِهَا لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْإِحَاطَةِ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَكَذَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ حَسَدِ النَّاقِصِ لِمَنْ يَفُوقُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْحَاسِدِ يَبْغِي إِنْ قَدَرَ، مَا لَمْ يَزَعْهُ الدِّينُ أَوْ يَمْنَعْهُ الْقَدْرُ، وَهُوَ لَا يَبْغِي وَلَا يَقْتُلُ إِلَّا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنْوَهُ بِقَدْرِهِ وَأَرْفَعُ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ لَا يَزُولُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَحَاطَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ عِلْمًا بِكُلِّ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَارْتِبَاطِ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ بِمَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَامُوا الدِّينَ الْقَيِّمَ كُلُّهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ تَأْبَاهُ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ بِأَنْوَاعِهَا يَخْتَلِفُ، وَمَا يَتَّحِدُ مِنْهُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; فَالِاخْتِلَافُ فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ طَبِيعِيٌّ فِيهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ النَّافِعَةِ اشْتِغَالُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ، وَبِذَلِكَ يُظْهِرُونَ أَسْرَارَ اللهِ وَحِكَمِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الضَّارَّةِ التَّخَاصُمُ وَالتَّقَاتُلُ. لِأَجْلِ هَذَا صَارُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالشَّرَائِعِ. وَكَانَ مِنْ عَدْلِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَبْنِيَ أَحْكَامَ قَتْلِ الْأَفْرَادِ وَقِتَالِ الشُّعُوبِ عَلَى قَوَاعِدَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (2: 251) فَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) (5: 11) الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ) (5: 18) الْآيَةَ، وَمَا قُلْنَاهُ أَكْمَلُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، قَالَ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الْأَصْلُ لِمَعْنَى مَادَّةِ (ت ل و) التَّبَعُ ; فَالتِّلْوُ - بِالْكَسْرِ - وَلَدُ النَّاقَةِ وَالشَّاةِ إِذَا فُطِمَ وَصَارَ يَتْبَعُهَا، وَكُلُّ مَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ يُقَالُ: هُوَ تِلْوُهُ. وَيُقَالُ

مَا زِلْتُ أَتْلُوهُ حَتَّى أَتْلَيْتُهُ: أَيْ غَلَبْتُهُ فَسَبَقْتُهُ وَجَعَلْتُهُ تِلْوِي، وَتَلَا فُلَانٌ: اشْتَرَى تَلْوًا ; أَيْ بَغْلًا صَغِيرًا أَوْ جَحْشًا، وَالتُّلَاوَةِ - بِالضَّمِّ - وَالتَّلِيَّةِ - بِالْفَتْحِ - بَقِيَّةُ الشَّيْءِ ; لِأَنَّهُ يَتْلُو مَا قَبْلَهُ، يُقَالُ ذَهَبَتْ تَلِيَّةُ الشَّبَابِ، وَالتِّلَاوَةُ - بِالْكَسْرِ - الْقِرَاءَةُ، وَلَمْ تَكَدْ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ إِنَّ بَعْضَهُمْ عَمَّ بِهِ كُلَّ كَلَامٍ. وَلَعَلَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سُمِّيَتْ تِلَاوَةً لِأَنَّهُ مَثَانِي، كُلَّمَا قُرِئَ مِنْهُ شَيْءٌ يُتْبَعُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ أَوْ بِإِعَادَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُقْرَأَ لِيُتْبَعَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَعَبَّرَ الْقُرْآنُ بِالتِّلَاوَةِ عَنْ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللهِ وَآيَاتِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) (2: 121) يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْجَدَارَةِ بِالِاهْتِمَامِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَاتْلُ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ النَّاسِ، ذَلِكَ النَّبَأَ الْعَظِيمَ، نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ، تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ مُظْهِرَةً لَهُ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ كَمَا وَقَعَ، مُبَيِّنًا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْكَشْفِ عَنْ غَرِيزَةِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّحَاسُدِ وَالْبَغْيِ وَالْقَتْلِ ; لِيَعْلَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِيمَا شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِقَابِ الْبَاغِينَ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَكَوْنَ هَذَا الْبَغْيِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، فَهُمْ فِي هَذَا كَابْنَيْ آدَمَ ; إِذْ حَسَدَ شَرُّهُمَا خَيْرَهُمَا، فَبَغَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ مَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الِابْنَيْنِ هُمَا ابْنَا آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُمَا أَوَّلُ أَوْلَادِ آدَمَ، اسْمُ أَحَدِهِمَا قَايِنُ أَوْ قَايِينُ، وَهُوَ الْبِكْرُ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ مِنَّا: قَابِيلُ - وَهُوَ الْقَاتِلُ - وَاسْمُ الثَّانِي هَابِيلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ غَرِيبَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ مِثْلُهَا إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَهِيَ لَمْ تُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ ; وَمِنْهَا أَنَّ آدَمَ رَثَى هَابِيلَ بِشِعْرٍ عَرَبِيٍّ، فَنُعْرِضُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَصِحُّ وَلَا تُفِيدُ، وَوَصْفُ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَقِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا يَلُوكُهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِمَّا سِوَاهُ بَاطِلٌ. (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) أَيِ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَهُمَا؛ أَيْ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا الْقُرْبَانَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا، وَغَلَبَ عِنْدَنَا فِي ذَبَائِحِ النُّسُكِ ; كَالْأَضَاحِي، وَكَانَتِ الْقَرَابِينُ عِنْدَ الْيَهُودِ أَنْوَاعًا (مِنْهَا) : الْمُحَرَّقَاتُ لِلتَّكْفِيرِ عَنِ الْخَطَايَا، وَهِيَ ذُكُورُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ السَّالِمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ. وَالذَّبَائِحُ عَنِ الْخَطَايَا: عَنِ الْخَطَايَا الْعَامَّةِ وَالْخَطَايَا الْخَاصَّةِ (وَمِنْهَا) : ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ لِشُكْرِ الرَّبِّ تَعَالَى (وَمِنْهَا) : التَّقَدِمَاتُ مِنَ الدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ وَاللُّبَانِ (وَمِنْهَا) تَقْدِمَةُ التَّرْدِيدِ مِنْ بَاكُورَةِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْقُرْبَانُ عِنْدَ النَّصَارَى فَهُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْكَاهِنُ مِنَ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ، فَيَتَحَوَّلُ فِي اعْتِقَادِهِمْ

إِلَى لَحْمِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. وَالْقُرْبَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَرُبَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ قُرْبًا وَقُرْبَانًا ; فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرَّبَ قُرْبَانًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قَدْ قَرَّبَا قُرْبَانًا وَاحِدًا، كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) أَيْ فَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قُرْبَانَهُ أَوْ تَقْرِيبَهُ الْقُرْبَانَ ; لِتَقْوَاهُ وَإِخْلَاصِهِ فِيهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ بِهِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّقَبُّلُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ تَرَقٍّ فِيهِ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالْمَقْبُولِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ عَلِمَا أَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ لِأَبِيهِمَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ وِفَاقًا لِسِفْرِ التَّكْوِينِ، أَوْ لِنَبِيِّ زَمَانِهِمَا، عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ وَزَرْعٍ، وَالْآخَرَ صَاحِبُ غَنَمٍ، وَأَنَّ هَذَا قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَصَاحِبُ الزَّرْعِ قَرَّبَ شَرَّ مَا عِنْدَهُ وَأَرْدَأَهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهِ نَفْسُهُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقُرْبَانَ الْمَقْبُولَ كَانَتْ تَجِيءُ النَّارُ فَتَأْكُلُهُ وَلَا تَأْكُلُ غَيْرَ الْمَقْبُولِ، وَهَذِهِ أَخْبَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهَا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، بَعْضُهَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَبَعْضُهَا يُخَالِفُهُ. وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أَيْ إِنَّ مَنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تَوَعَّدَ أَخَاهُ وَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّهُ، فَأَجَابَهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ وَأَنْفَعَهُ: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أَيْ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبُولَ الْمَقْرُونَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِلَّا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى، فَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ مَعَ الِاعْتِذَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَمْ أُذْنِبْ إِلَيْكَ ذَنْبًا تَقْتُلُنِي بِهِ، فَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ، فَحَاسِبْهَا عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ; أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْأَصْغَرَ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالشُّحُّ وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ، فَاحْمِلْ نَفْسَكَ عَلَى تَقْوَى اللهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ تَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِالطَّيِّبَاتِ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَاللهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (3: 92) فَلْيَتَّعِظْ بِهَذَا أَهْلُ الْغُرُورِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا النَّفَقَاتُ الَّتِي يُرَاءُونَ بِهَا النَّاسَ، وَيَبْغُونَ بِهَا الصِّيتَ وَالثَّنَاءَ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَقِّ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، بَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَا يَجِبُ لِلنَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا الْإِخْوَةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنِ احْتِرَامِ الدِّمَاءِ وَحِفْظِ الْأَنْفُسِ، فَقَالَ: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أَيْ بَيَّنَ لَهُ حَالَهُ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَدَمِ مُقَابَلَتِهِ عَلَى جِنَايَتِهِ بِمِثْلِهَا، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ، وَبِجُمْلَةِ النَّفْيِ الِاسْمِيَّةِ

28

الْمَقْرُونِ خَبَرُهَا بِالْبَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ بَسَطَ يَدَهُ - أَيْ مَدَّهَا - لِيَقْتُلَهُ بِهَا لَا يَجْزِيهِ بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا تَأْتِي مِنْهُ وَلَا تَتَّفِقُ مَعَ صِفَاتِهِ وَشَمَائِلِهِ ; ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمَنْفِيِّ، كَمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي الْمُثْبَتِ عَنْ عَمَلِ أَخِيهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، بَلْ قَالَ (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أَيْ لَسْتُ بِالَّذِي يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ الْمُنَافِيَةِ لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الصِّفَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَعْدِ بِالتَّرْكِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَعْدٍ مُؤَكَّدٍ بِبَيَانِ سَبَبِهِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ تَأْكِيدًا آخَرَ بِبَيَانِ عِلَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أَنْ يَرَانِي بَاسِطًا يَدِيَ إِلَى الْإِجْرَامِ وَسَفْكِ الدَّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْخِطُهُ، وَيَكُونُ سَبَبَ عِقَابِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يُغَذِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَيُرَبِّيهِمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ; فَالِاعْتِدَاءُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ أَعْظَمُ مُفْسِدٍ لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَمُعَارِضٍ لَهَا فِي بُلُوغِ غَايَةِ اسْتِعْدَادِهَا، وَمَنْ يَخَافُ اللهَ لَا يَعْتَدِي هَذَا الِاعْتِدَاءَ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْأَخِ التَّقِيِّ يَتَضَمَّنُ أَبْلَغَ الْمَوْعِظَةِ وَأَلْطَفَ الِاسْتِعْطَافِ لِأَخِيهِ الْعَازِمِ عَلَى الْجِنَايَةِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ بِقَتْلِ الصَّائِلِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ شَرْعَ آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُبِيحُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَالدِّفَاعُ قَدْ يَكُونُ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ; فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّأْمِينِ وَالْوَعْظِ الْبَلِيغِ لَا يُؤَثِّرُ فِي كُلِّ نَفْسٍ قَفَّى عَلَيْهِ هَذَا الْأَخُ الْبَارُّ بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أَيْ إِنِّي أُرِيدُ بِمَا ذَكَرْتُ مِنِ اتِّقَاءِ مُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ بِمِثْلِهَا أَنْ تَرْجِعَ أَنْتَ إِنْ فَعَلْتَهَا مُتَلَبِّسًا بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ; أَيْ إِثْمِ قَتْلِكَ إِيَّايَ وَإِثْمِكَ الْخَاصِّ بِكَ، الَّذِي كَانَ مِنْ شُؤْمِهِ عَدَمُ قَبُولِ قُرْبَانِكَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْقَاتِلِ يَحْمِلُ فِي الْآخِرَةِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَهُ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ ; لِأَنَّ الذُّنُوبَ وَالْآثَامَ الَّتِي فِيهَا حُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، لَا يَغْفِرُ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يَأْخُذَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ مَا يُسَاوِي حَقَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي ذَلِكَ، أَوْ يَحْمِلُ الظَّالِمُ مِنْ آثَامِ الْمَظْلُومِ وَأَوْزَارِهِ مَا يُوَازِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ أَوْ أَوْزَارٌ، وَمَا نَقَصَ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ يُسْتَعَاضُ عَنْهُ بِمَا يُوَازِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَفِي ذِكْرِ الْمُتَكَلِّمِ إِثْمَهُ وَإِثْمَ أَخِيهِ تَوَاضُعٌ وَهَضْمٌ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْإِثْمِ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَتَذْكِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي هَذَا الظُّلْمَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) أَيْ تَكُونَ بِمَا حَمَلْتَ مِنَ الْإِثْمَيْنِ مِنْ

30

أَهْلِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّكَ تَكُونُ ظَالِمًا، وَالنَّارُ جَزَاءُ كُلِّ ظَالِمٍ، فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا حَتْمًا. تَرَقَّى فِي صَرْفِهِ عَنْ عَزْمِهِ مِنَ التَّبَرُّؤِ إِلَيْهِ مِنْ سَبَبِ حِرْمَانِهِ مِنْ قَبُولِ قُرْبَانِهِ بِبَيَانِ سَبَبِ التَّقَبُّلِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّقْوَى، إِلَى تَنْزِيهِ نَفْسِهِ مِنْ جَزَائِهِ عَلَى جِنَايَتِهِ بِمِثْلِهَا، إِلَى تَذْكِيرِهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا يُرْضِيهِ مِمَّنْ وَهَبَهُمُ الْعَقْلَ وَالِاخْتِيَارَ إِلَّا أَنْ يَتَحَرَّوْا إِقَامَةَ سُنَنِهِ فِي تَرْبِيَةِ الْعَالَمِ وَإِبْلَاغِ كُلِّ حَيٍّ يَقْبَلُ الْكَمَالَ إِلَى كَمَالِهِ، إِلَى تَذْكِيرِهِ بِأَنَّ الْمُعْتَدِيَ يَحْمِلُ إِثْمَ نَفْسِهِ وَإِثْمَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْقِصَاصِ وَالْجَزَاءِ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِعَذَابِ النَّارِ وَكَوْنِهَا مَثْوًى لِلظَّالِمِينَ الْفُجَّارِ، فَمَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْحَاسِدِ الظَّالِمِ؟ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) فَسَّرُوا طَوَّعَتْ بِشَجَّعَتْ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَبِوَسَّعَتْ وَسَهَّلَتْ وَزَيَّنَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَى حَاصِلِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا شَرَحَ بَلَاغَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِبَعْضِ مَا أَجِدُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِي، وَإِنَّهَا لَبِمَكَانٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ يُحِيطُ بِالْقَلْبِ وَيَضْغَطُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (50: 1) إِنَّنِي أَكْتُبُ الْآنَ، وَقَلْبِي يَشْغَلُنِي عَنِ الْكِتَابَةِ بِمَا أَجِدُ لَهَا فِيهِ مِنَ الْأَثَرِ وَالِانْفِعَالِ. إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى تَدْرِيجٍ وَتَكْرَارٍ فِي حَمْلِ الْفِطْرَةِ عَلَى طَاعَةِ الْحَسَدِ الدَّاعِي إِلَى الْقَتْلِ ; كَتَذْلِيلِ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تُمَثِّلُ - لِمَنْ يَفْهَمُهَا - وَلَدَ آدَمَ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ حَسَدُهُ لِأَخِيهِ قَتْلَهُ، وَهُوَ بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، يُفَكِّرُ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ أَخِيهِ الْحِكَمِيَّةِ، فَيَجِدُ فِي كُلٍّ مِنْهَا صَارِفًا لَهُ عَنِ الْجَرِيمَةِ، يُدَعِّمُ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ صَوَارِفِ الْعَقْلِ وَالْقَرَابَةِ وَالْهَيْبَةِ، فَكَرَّ الْحَسَدُ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ عَلَى كُلِّ صَارِفٍ فِي نَفْسِهِ اللَّوَّامَةِ، فَلَا يَزَالَانِ يَتَنَازَعَانِ وَيَتَجَاذَبَانِ حَتَّى يَغْلِبَ الْحَسَدُ كُلًّا مِنْهَا وَيَجْذِبَهُ إِلَى الطاعَةِ، فَإِطَاعَةُ صَوَارِفِ الْفِطْرَةِ وَصَوَارِفِ الْمَوْعِظَةِ لِدَاعِي الْحَسَدِ هُوَ التَّطَوُّعُ الَّذِي عَنَاهُ اللهُ تَعَالَى. فَلَمَّا تَمَّ كُلُّ ذَلِكَ قَتَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِمُقْتَضٍ، فَنَحْنُ نَرَى مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِ الْقُضَاةِ لِلْجُنَاةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِقَتْلِ أَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ (آدَمَ) يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ صَارِفًا، أَوْ عِدَّةَ صَوَارِفَ تَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَيَتَعَارَضُ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي فِي نَفْسِهِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، حَتَّى تُطَوِّعَ لَهُ نَفْسُهُ الْقَتْلَ بِتَرْجِيحِ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ عَلَى الْمَوَانِعِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْتُلُ إِنْ قَدَرَ. فَالتَّطْوِيعُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ كَتَذْلِيلِ الْحَيَوَانِ الصَّعْبِ، وَتَعْلِيمِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْرَارُ لِأَجْلِ إِطَاعَةِ مَانِعٍ أَوْ صَارِفٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِطَاعَةِ عِدَّةِ صَوَارِفَ وَمَوَانِعَ، وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي قِيلَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى

كَلِمَةُ " التَّشْجِيعِ " الْمَأْثُورَةُ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَهَابُ قَتْلَ أَخِيهِ، وَتَجْبُنُ فِطْرَتُهُ دُونَهُ، فَمَا زَالَتْ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ تُشَجِّعُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَجَرَّأَ وَقَتَلَ عَقِبَ التَّطْوِيعِ بِلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ لِلْعَاقِبَةِ (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، بِإِفْسَادِ فِطْرَتِهَا، وَخَسِرُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَخُ الصَّالِحُ التَّقِيُّ، وَخَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ ; إِذْ لَمْ يَعُودُوا أَهْلًا لَهَا ; لِأَنَّهَا دَارُ الْمُتَّقِينَ. (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَتْلُ أَوَّلَ قَتْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْقِ - أَيِ الْإِنْسَانِ - مَوْكُولًا إِلَى كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي عَامَّةِ أَعْمَالِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ كَيْفَ يُوَارِي جُثَّةَ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، الَّتِي يَسُوؤُهُ أَنْ يَرَاهَا بَارِزَةً - فَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ ظُهُورُهُ، وَرُؤْيَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَقْتُولُ، يَسُوءُ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُوحِشُهُ - وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَتُلْهَمُ عَمَلَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلْهَامًا فِي الْأَكْثَرِ، وَقَلَّمَا يَتَعَلَّمُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ شَيْئًا. وَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ تَعَلَّمَ دَفْنَ أَخِيهِ مِنَ الْغُرَابِ، وَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَانَ فِي مُنْتَهَى السَّذَاجَةِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَانَ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَاخْتِبَارًا وَيَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ غُرَابًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَبَحَثَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ حَفَرَ بِرِجْلَيْهِ فِيهَا، يُفَتِّشُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الطَّيْرَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْغُرَابَ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَالَ " يَبْحَثُ " وَلَمْ يَقُلْ بَحَثَ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ، فَلَمَّا أَطَالَ الْبَحْثَ أَحْدَثَ حُفْرَةً فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْحُفْرَةَ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِ مُوَارَاةِ سَوْءَةِ أَخِيهِ، زَالَتِ الْحَيْرَةُ، وَاهْتَدَى إِلَى مَا يَطْلُبُ، وَهُوَ دَفْنُ أَخِيهِ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ، فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنِ اللهَ بَعَثَ غُرَابَيْنِ لَا وَاحِدًا، وَإِنَّهُمَا اقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ حُفْرَةً أَلْقَاهُ فِيهَا، وَمَا جَاءَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي مَصْدَرُهَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ، عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْغُرَابِ وَالدَّفْنِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، لَا فَائِدَةَ لَهَا وَلَا صِحَّةَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرِيَهُ) لِلتَّعْلِيلِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللهِ تَعَالَى ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْغُرَابَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ ابْنُ آدَمَ مِنْهُ الدَّفْنَ، وَلِلصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ ; أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ بَحْثِهِ مَا ذُكِرَ. وَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْغُرَابَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الدَّفْنِ، وَظَهَرَ لَهُ مِنْ ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ (قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " يَاوَيْلَتَا " كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ

32

وَإِنَّهَا تُقَالُ عِنْدَ حُلُولِ الدَّوَاهِي وَالْعَظَائِمِ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَالْوَيْلَةُ: الْفَضِيحَةُ وَالْبَلِيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ تَفَجُّعٌ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: يَا وَيْلَتَاهُ! فَإِنَّمَا يَعْنِي وَافَضِيحَتَاهُ! وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ (يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ) (18: 49) انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَالْأَلِفُ فِي الْكَلِمَةِ بَدَلُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ; إِذِ الْأَصْلُ يَا وَيْلَتِي، وَالنِّدَاءُ لِلْوَيْلَةِ ; لِإِفَادَةِ حُلُولِ سَبَبِهَا الَّذِي تَحِلُّ لِأَجْلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ دَعَاهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْبِلِي فَقَدْ آنَ أَوَانُ مَجِيئِكِ، فَهَلْ بَلَغَ مِنْ عَجْزِي أَنْ كُنْتُ دُونَ الْغُرَابِ عِلْمًا وَتَصَرُّفًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِقْرَارِ وَالتَّحَسُّرِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الَّذِي نَدِمَهُ فَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَقِبَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي فِعْلِ فِعْلِهِ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ شَرًّا لَهُ لَا خَيْرًا، وَقَدْ يَكُونُ النَّدَمُ تَوْبَةً إِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّمَ مَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَقَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ وَحْدَهُ تَوْبَةً، وَالتَّوْبَةُ مِنْ إِحْدَاثِ الْبِدْعَةِ لَا تُنْجِي مُبْتَدِعَهَا مِنْ سُوءِ أَثَرِهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ (نَصِيبٌ) مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ". (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ: وَقَوْلُ الْعَرَبِ فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَأَجْلَ كَذَا (بِفَتْحِ اللَّامِ) وَمِنْ أَجْلَاكَ (وَتُكْسَرُ الْهَمْزَةُ فِيهِمَا) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: " وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ: أَجَلَ عَلَيْهِمْ أَجَلًا ; أَيْ جَنَى وَجَرَّ " ثُمَّ قَالَ: وَأَجَلَ عَلَيْهِمْ شَرًّا يَأْجُلُهُ (بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا) أَجَلًا: جَنَاهُ وَهَيَّجَهُ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنَ الشِّعْرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَجَلْتُ عَلَيْهِمْ آجُلُ أَجَلًا ; أَيْ جَرَرْتُ جَرِيرَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ: جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ وَجَرَرْتُ وَأَجَلْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; أَيْ جَنَيْتُ، وَأَجَلَ لِأَهْلِهِ بِأَجَلٍ: كَسَبَ وَجَمَعَ وَاحْتَالَ، انْتَهَى. وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ قَيْدًا فِي تَعْرِيفِ الْأَجَلِ، فَقَالَ: الْأَجَلُ: الْجِنَايَةُ الَّتِي يَخَافُ مِنْهَا آجِلًا، فَكُلُّ أَجَلٍ جِنَايَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ أَجَلًا، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ مِنْ جَرَّائِهِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَيْدِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ كُلِّ جِنَايَةٍ أَنْ يُخَافَ آجِلُهَا وَتُحْذَرَ عَاقِبَتُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّوَاهِدَ وَالْأَقْوَالَ يُرَجِّحُ مَعِي أَنَّ الْأَجَلَ هُوَ جَلْبُ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ أَوْ ثَمَرَةٌ، وَكَسْبُهُ أَوْ تَهْيِيجُهُ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ حَسَنَةً كَقَوْلِهِمْ: أَجَلَ لِأَهْلِهِ، وَغَلَبَ الْفِعْلُ فِي الرَّدِيءِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِاللَّامِ كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الْعَيْسِيِّ: فَإِنْ تَكُ أُمُّ ابْنِي زَمِيلَةُ أَثْكَلَتْ ... فَيَا رُبَّ أُخْرَى قَدْ أَجَلْتَ لَهَا ثَكْلَا

ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْلِيلِ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ أَجْلَ أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ الْبَيْتَ، وَهُوَ بِغَيْرِ مِنْ. وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُرْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي أَحَلَّهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَبْنَا وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى (كَتَبْنَا) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي تَشْنِيعِ الْقَتْلِ كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ عُرْضَةٌ لِلْبَغْيِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا لَمْ يَرْدَعْهُمُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، أَوْ خَوْفُ الْعِقَابِ الْعَتِيدِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْحَسَنُ قَوْلَهُ: إِنَّ وَلَدَيْ آدَمَ هَذَيْنِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِمَا كَانَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْبَغْيِ، وَمِنْهُ قَتْلُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِغَيْرِ حَقٍّ. وَأَمَّا هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْقِصَاصِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (5: 45) أَيْ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا جَزَاءً وِفَاقًا (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) أَوْ غَيْرِ سَبَبِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ بِسَلْبِ الْأَمْنِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْعِصَابَاتُ الْمُسَلَّحَةُ لِقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، أَوْ إِفْسَادِ الْأَمْرِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ الْمُقِيمِ لِحُدُودِ اللهِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) (5: 33) الْآيَةَ. (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُمَثِّلُ النَّوْعَ فِي جُمْلَتِهِ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْتَحِلُّ دَمَ كُلِّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، فَتَكُونُ نَفْسُهُ ضَارِبَةً بِالْبَغْيِ لَا وَازِعَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وَلَا مِنَ الدِّينِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) أَيْ وَمَنْ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ كَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِنْقَاذِ الْوَاحِدَةِ - وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَمَعْرِفَةُ قِيمَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَاحْتِرَامُهَا، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ فِي حُقُوقِهَا - تَنْدَغِمُ فِيهِ جَمِيعُ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُنْقِذَهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ هَلَكَةٍ يَرَاهُمْ مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَنِي فِي ذَلِكَ وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَصِّرُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانُوا عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ بِالْقَتْلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَوْ كَانُوا مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً احْتِرَامًا لَهَا وَقِيَامًا بِحُقُوقِهَا لَامْتَنَعَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَاشَ النَّاسُ مُتَعَاوِنِينَ، بَلْ إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ، فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا مَا يَجِبُ مِنْ وَحْدَةِ الْبَشَرِ وَحِرْصِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى حَيَاةِ

الْجَمِيعِ، وَاتِّقَائِهِ ضَرَرَ كُلِّ فَرْدٍ ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْفَرْدِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْجَمِيعِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُضْوٌ مِنَ النَّوْعِ، وَمَا قَرَّرَ لَهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسَاوَاةِ فِي الشَّرْعِ، قِيَامٌ بِحَقِّ الْجَمِيعِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِي مَنْ جَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الْآيَةِ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْرِيجِ وَالتَّأْوِيلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَهْدِينَا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَوُجُوبِ تَكَافُلِهَا، بِمِثْلِ إِسْنَادِ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهَا إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَوَضْعِ اسْمِ الْأُمَّةِ أَوْ ضَمِيرِهَا فِي مَقَامِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْخِطَابِ لِبَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (4: 29) فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ - بَعْدَ إِيرَادِ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا - مَا نَصُّهُ: بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ فَقَطْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ الْقِصَاصُ، فَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً كَمَنْ قَتَلَ كُلَّ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِالْوَاحِدَةِ وَبِالْكَثِيرِ؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ الْقَتْلِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْإِحْيَاءِ ". وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِيهِ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَاتِلِ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَقِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْقَتْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ إِثْمَ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِثْمِ قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَجَزَاؤُهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ بُيِّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (ص37 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَإِحْيَاؤُهَا نَصْرُهُ وَشَدُّ عَضُدِهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَتْلَ الْمُصْلِحِ أَوْ إِنْقَاذَهُ وَنَصْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَأْبَاهُ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَ نَفْسٍ بِدُونِ حَقٍّ حَيَى النَّاسُ جَمِيعًا مِنْهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا كَانَ قَتْلُهَا كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَنْقَذَهَا مِنَ الْقَتْلِ كَانَ عِنْدَ الْمُنْقَذِ كَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاخْتَارَ مِنْهَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ فِي الْقَتْلِ هُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ سَلَامَةُ النَّاسِ مِمَّنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا أَوْضَحُ وَأَجْمَعُ لِلْمَعَانِي. وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الْعَالِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ ; إِذْ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ كَتَبُوا مَا بَقِيَ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَأَمَّا قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فَهِيَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَدَّمَ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ قُرْبَانًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ دُونَ أَخِيهِ اغْتَاظَ

قَايِينُ وَقَتَلَ هَابِيلَ، فَسَأَلَهُ الرَّبُّ عَنْهُ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَجَابَ: لَا أَعْلَمُ، وَهَلْ أَنَا حَارِسٌ لِأَخِي؟ فَلَعَنَهُ الرَّبُّ وَطَرَدَهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ! فَنَدِمَ، وَاسْتَرْحَمَ الرَّبَّ، وَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (15 - فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةُ أَضْعَافٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (! !) فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نَوْدٍ شَرْقِيَّ عَدَنَ! !) وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْهُ أَنَّ نُوحًا قَالَ لِبَنِيهِ (6 سَافِكُ دَمِ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ ; لِأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الْإِنْسَانَ) وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا عَمْدًا يُقْتَلُ، وَمَنْ بَغَى عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ " فَمِنْ عِنْدَ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ " وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ شَتَمَهُمَا، أَوْ سَرَقَ إِنْسَانًا وَبَاعَهُ أَوْ وُجِدَ فِي يَدِهِ يُقْتَلُ، فَأَسْبَابُ الْقَتْلِ عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشِّدَّةُ رَادِعَةً لَهُمْ عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتَّى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَلْ يَكْثُرُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى غَدْرًا؟ لَا، لَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ بَيِّنَاتُ الرُّسُلِ، وَلَا هَذَّبَتْ نُفُوسَهُمْ، بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ، وَمِنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، يُسْرِفُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْبَغْيِ. أَكَّدَ إِثْبَاتَ وَصْفِ الْإِسْرَافِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِأَنَّ تَشْدِيدَ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرَارَ بَيِّنَاتِ الرُّسُلِ، كَانَتْ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَلِكَ أَوْ نُدُورَهُ. وَالْحُكْمُ عَلَى الْكَثِيرِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا الرُّسُوخُ فِي الْإِسْرَافِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ، وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ وَصْفَ الْكَثِيرِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْغَالِبِ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعَمَلِ ; أَيْ حَدِّ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ شَرْعٌ. وَكُلُّ مَا يُتَجَاوَزُ فِي الْحَدِّ يُفْسِدُ. وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْإِفْسَادُ، فَهُوَ مِنَ السُّرَقَةِ، وَهِيَ بِالضَّمِّ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَالْخَشَبَ، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ يَجْعَلُهُ شَرًّا ; كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْمَالِ كُلِّهِ، فَتُفْسِدُ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْرَ مَعَاشِهِ. فَمَا بَالُكَ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَتَجَاوُزُ مَا اعْتَادَهُ الْأَشْرَارُ فِيهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (17: 33) فَهُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ الْقِصَاصِ إِلَى قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ تَعْذِيبِ الْقَاتِلِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ. وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ أَقْدَمُ قِصَّةٍ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ كَانَ مَثَارَ أَوَّلِ جِنَايَةٍ فِي الشَّرِّ، وَلَا يَزَالُ هُوَ الَّذِي يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ اجْتِمَاعِهِمْ، مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَشِيرَةِ

33

فِي الدَّارِ إِلَى اجْتِمَاعِ الْقَبِيلَةِ إِلَى اجْتِمَاعِ الدَّوْلَةِ. فَتَرَى الْحَاسِدَ تَثْقُلُ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَخِيهِ فِي النَّسَبِ أَوِ الْجِنْسِ أَوِ الدِّينِ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمِثْلِهَا لِيَنَالَهَا، فَيَبْغِي عَلَى أَخِيهِ، وَلَوْ بِمَا فِيهِ شَقَاؤُهُ هُوَ. وَأَكْبَرُ الْمَوَانِعِ لِارْتِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ هُوَ الْحَسَدُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ أَهْلِهِ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْأُمَمَ لَا تَرْتَقِي إِلَّا بِنُهُوضِ الْمُصْلِحِينَ بِهَا، وَكُلَّمَا قَامَ فِينَا مُصْلِحٌ تَصَدَّى الْحَاسِدُونَ لِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ. مَنْ قَرَأَ الْآيَةَ وَفَهِمَ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَكَوْنِ هَذَا الْحَقِّ لَا يَعْدُو الْقِصَاصَ وَمَنْعَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، يَتَوَجَّهُ ذِهْنُهُ لِاسْتِبَانَةِ الْعِقَابِ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ الْمُفْسِدُونَ، حَتَّى لَا يَتَجَرَّأَ غَيْرُهُمْ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . اخْتَلَفَ نَقَلَةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنِ اتِّصَالِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَلْيَشْرَبُوا

مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ. زَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَتَادَةَ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ (أَيْ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ أَيْدِيَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الْآيَةَ، وَفِي الْقِصَّةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى مُفَصَّلَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ إِبِلَ الصَّدَقَةِ كُلَّهَا فِي غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ) وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَخَيَّرَ اللهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ عِتَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَمْلِ أَعْيُنِ الْعُرَنِيِّينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَتَرْكِهَا بِدُونِ حَسْمٍ ; فَكَانَتِ الْآيَةُ تَحْرِيمًا لِلْمُثْلَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَ بَسْمَلِ أَعْيُنِهِمْ وَقَطْعِهِمْ كَمَا فَعَلُوا بِالرَّاعِي الْمُسْلِمِ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " الرُّعَاةِ " بِالْجَمْعِ - فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِمِثْلِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِينَ غَدَرُوا مِنَ الْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ خَدَعُوا النَّبِيَّ وَالْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنَ الْإِفْسَادِ بِالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَأَظْهَرُوا شِرْكَهُمْ

مَعَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِمَا أَظْهَرَهُ الْعُرَنِيُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَرَوَوْا عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي تَطْبِيقِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ، بَلْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ - أَنَّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ جَعَلُوهَا خَاصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ: إِنَّ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ مَعْرُوفَةٌ بِالنُّصُوصِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الدَّرَجَاتُ فِي الْعِقَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُرَنِيِّينَ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُتَّبَعَ فِي حَرْبِ كُلِّ مَنْ حَارَبَنَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ هَذَا الْإِفْسَادِ هِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ. وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ خَدِيعَةً لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، ثُمَّ قَتَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى الْأَعْرَاضِ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ ; عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (42: 40) وَقَوْلِهِ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) (2: 194) إِنْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ عِقَابِهِمْ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُمْ كَعَادَتِهِ ; لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ عَلَى مِثْلِ فَعْلَتِهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْقِصَاصَ وَسَدَّ الذَّرِيعَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْآيَةَ بِهَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْعِقَابِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِفْسَادِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ؛ وَهِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنَّهُ حَرَّمَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمُثْلَةَ؛ وَهِيَ تَشْوِيهُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ سَلْبِ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ النَّاطِقَةِ وَالصَّامِتَةِ. فَرُبَّ عُصْبَةٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَسْلُبُ الْأَمَانَ وَالِاطْمِئْنَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةٍ كَبِيرَةٍ، وَرُبَّ عُصْبَةٍ مُفْسِدَةٍ تُعَاقَبُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ فَتَطْهُرُ الْأَرْضُ مِنْ أَمْثَالِهَا زَمَنًا طَوِيلًا. وَالتَّشْدِيدُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السِّيَاسَةِ، لَا تَزَالُ جَمِيعُ الدُّوَلِ تُحَافِظُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَكِّمُ الْوَهْمَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْإِدِّ مَا اجْتَرَحَتْهُ إِنْكِلْتِرَةُ فِي مِصْرَ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةِ (دِنْشُوَايْ) مُنْذُ سِنِينَ قَلِيلَةٍ أَفْرَادٌ مِنْ جُنْدِ الْإِنْكِلِيزِ، كَانُوا يَصِيدُونَ الْحَمَامَ عِنْدَ بَيْدَرِهَا، فَتَخَاصَمُوا مَعَ أَصْحَابِ الْحَمَامِ وَتَضَارَبُوا، فَعَظُمَ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ

تَجَرُّؤُ الْفَلَّاحِ الْمِصْرِيِّ عَلَى ضَرْبِ الْجُنْدِيِّ الْإِنْكِلِيزِيِّ، فَعَقَدُوا الْمَحْكَمَةَ الْعُرْفِيَّةَ لِمُحَاكَمَةِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِرِيَاسَةِ بُطْرُسَ بَاشَا غَالِي، فَحَكَمَتْ عَلَى بَعْضِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِأَنْ يُصْلَبُوا وَيُعَذَّبُوا بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ (الْكَرَابِيجِ) ذَاتِ الْعُقَدِ، حَتَّى تَتَنَاثَرَ لُحُومُهُمْ، وَأَنْ يَبْقَوْا مَصْلُوبِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَعْيُنِ أَهْلِيهِمْ وَأَعْيُنِ النَّاسِ، وَنُفِّذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَسْوَةَ وَاسْتَفْظَعَهَا النَّاسُ، حَتَّى بَعْضُ أَحْرَارِ الْإِنْكِلِيزِ فِي بِلَادِهِمْ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهَا فِي الْجَرَائِدِ وَفِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ، وَلَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ قَصَدَ الْإِنْكِلِيزُ بِالْقَسْوَةِ فِيهَا أَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى مُقَاوَمَةِ جُنْدِيٍّ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَإِنِ اعْتَدَى، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَاوَى خَلِيفَتُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ ابْنِ فَاتِحِ مِصْرَ وَقَائِدِ جَيْشِهَا وَحَاكِمِهَا الْعَامِّ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وَبَيْنَ غُلَامٍ قِبْطِيٍّ ; إِذْ تَسَابَقَا، فَسَبَقَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْحَاكِمِ، فَصَفَعَهُ هَذَا وَقَالَ: أَتَسْبِقُنِي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْرَمَيْنِ؟ فَلَمَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَصْفَعَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْفَاتِحِ الْحَاكِمِ كَمَا صَفَعَهُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو كَلِمَتَهُ الذَّهَبِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ: يَا عَمْرُو مُنْذُ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَرَكُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَمِمَّنْ دُونَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يُعَلِّمُوهُمُ الْعَدْلَ وَقَوَانِينَهُ! ! . أَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَرَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أَيْ إِنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مَحْصُورٌ فِيمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ وَالتَّوْزِيعِ عَلَى جِنَايَاتِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ، لِكُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَالْمُحَارَبَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَرْبِ، وَهِيَ ضِدُّ السِّلْمِ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ ; أَيِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَالْآفَاتِ، وَالْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ الْحَرْبِ التَّعَدِّي وَسَلْبُ الْمَالِ. لِسَانُ الْعَرَبِ: الْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ، أَنْ يُسْلَبَ الرَّجُلُ مَالَهُ، حَرَبَهُ يَحْرُبُهُ (بِوَزْنِ طَلَبَ، وَكَذَا بِوَزْنِ تَعِبَ) إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ، مِنْ قَوْمٍ حَرْبَى وَحُرَبَاءَ، ثُمَّ قَالَ: حَرِيبَةُ الرَّجُلِ مَالُهُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ، وَالْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَخْذُ الْحَرِيبَةِ ; فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ وَيَتْرُكَهُ بِلَا شَيْءٍ يَعِيشُ بِهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَرْبَ وَالْمُحَارَبَةَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهَا الِاعْتِدَاءُ وَالسَّلْبُ وَإِزَالَةُ الْأَمْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِقَتْلٍ وَقِتَالٍ، وَبِدُونِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ فِي الْقُرْآنِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ. وَأَمَّا الْمُحَارَبَةُ فَلَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ عِلَّةِ بِنَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ: (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) (9: 107) . قَالَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَيْ تَرَقُّبًا وَانْتِظَارًا لِلَّذِي حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ ;

فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَوَعَدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يَذْهَبَ وَيَأْتِيَهُمْ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ لِلْإِيقَاعِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمُحَارَبَةُ هَذَا الرَّاهِبِ مِنْ قَبْلُ كَانَتْ بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، لَا بِالْقِتَالِ وَالنِّزَالِ، وَأَمَّا لَفْظُ " الْحَرْبِ " فَقَدْ ذُكِرَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ أَرْبَعِ سُوَرٍ ; مِنْهَا إِعْلَامُ الْمُصِرِّينَ عَلَى الرِّبَا بِأَنَّهُمْ فِي حَرْبٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ ضِدُّ السِّلْمِ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي - وَلَا يَزَالُونَ - يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَجْلِ السَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَقَدْ جَعَلَ الْفُقَهَاءُ كِتَابَ الْمُحَارَبَةِ - وَيَقُولُونَ الْحَرَابَةُ أَيْضًا - غَيْرَ كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ. وَجَعَلُوا الْأَصْلَ فِيهَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَعَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا إِشْهَارُ السِّلَاحِ وَقَطْعُ السَّبِيلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ. (كَالَّذِينِ يُؤَلِّفُونَ الْعِصَابَاتِ الْمُسَلَّحَةَ لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَقَتْلِ مَنْ يُعَارِضُهُمْ، أَوْ لِمُقَاوَمَةِ السُّلْطَةِ ; ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ) وَاشْتَرَطُوا فِيهَا شُرُوطًا سَنُشِيرُ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا. أَمَّا كَوْنُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعُدْوَانِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَلِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَرِيعَةِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ. فَمُحَارَبَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ هِيَ عَدَمُ الْإِذْعَانِ لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (2: 279) وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فَمَنْ لَمْ يُذْعِنُوا لِلشَّرْعِ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُعَدُّونَ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي يُقِيمُ الْعَدْلَ وَيَحْفَظُ النِّظَامَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَانِعِي الزَّكَاةِ، حَتَّى يَفِيئُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَمَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُفُّ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا امْتَنَعُوا عَلَى إِمَامِ الْعَدْلِ الْمُقِيمِ لِلشَّرْعِ، وَعَثَوْا إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ ; أَيْ يَسْعَوْنَ فِيهَا سَعْيَ فُسَّادٍ أَوْ مُفْسِدِينَ فِي سَعْيِهِمْ لِمَا صَلَحَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَأَسْبَابِ الْمَعَاشِ. وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، فَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَنْ وَضْعِهِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ صَالِحًا نَافِعًا، يُقَالُ إِنَّهُ قَدْ فَسَدَ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا كَانَ سَبَبًا لِفَسَادِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْسَدَهُ، فَإِزَالَةُ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْأَعْرَاضِ، وَمُعَارَضَةُ تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ وَإِقَامَتِهَا، كُلُّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْفَسَادَ هُنَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَالْمَفَاسِدَ لَهَا عُقُوبَاتٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ، فَلِلزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ حُدُودٌ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، وَيَضْمَنُهُ

38

الْفَاعِلُ وَيُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَفَاتَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ أَنَّ الْعِقَابَ الْمَنْصُوصَ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ يُكَاثِرُونَ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُذْعِنُونَ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَتِلْكَ الْحُدُودُ إِنَّمَا هِيَ لِلسَّارِقِينَ وَالزُّنَاةِ أَفْرَادًا، الْخَاضِعِينَ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فِعْلًا، وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُمْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (5: 38) وَ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (24: 2) وَهُمْ يَسْتَخْفُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وَلَا يَجْهَرُونَ بِالْفَسَادِ حَتَّى يَنْتَشِرَ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ، وَلَا يُؤَلِّفُونَ لَهُ الْعَصَائِبَ لِيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّرْعِ بِالْقُوَّةِ، فَلِهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمُفْسِدُونَ، وَالْحُكْمُ هُنَا مَنُوطٌ بِالْوَصْفَيْنِ مَعًا، وَإِذَا أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمُحَارِبِينَ فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ الْمَحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ ; لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ مُتَلَازِمَانِ. وَلَا تَتَحَقَّقُ مُحَارَبَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ بِمُحَارَبَةِ الشَّرْعِ، وَمُقَاوَمَةِ تَنْفِيذِهِ وَإِفْسَادِ النِّظَامِ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَأَحْكَامُهُمْ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، لَا فِي كِتَابِ الْمُحَارَبَةِ أَوِ الْحَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ فَطِنَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَمَامَ الِاتِّضَاحِ، فَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَارِبُونَ الْمُفْسِدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ إِفْسَادُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَا فَصْلَ حِينَئِذٍ فِيهِمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ ذِمِّيِّينَ أَوْ مُعَاهِدِينَ أَوْ حَرْبِيِّينَ. كُلُّ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْهُمْ نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْمُحَارِبِينَ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ أَوْ خَلَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ ثَائِرَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَلَا دَخَلَ وَلَا عَدَاوَةَ، قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالدِّيَارِ، مُخْتَفِيًا لَهُمْ بِسِلَاحِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ، لَيْسَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِيهِ عَفْوٌ وَلَا قَوْدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْمُحَارَبَةِ فِي الْمِصْرِ عَنْ مَالِكٍ فَأَثْبَتَهَا مَرَّةً وَنَفَاهَا أُخْرَى. نَقُولُ: وَالصَّوَابُ الْإِثْبَاتُ ; لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ انْتِفَاءَ الْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ ; لِيَتَحَقَّقَ كَوْنُ ذَلِكَ مُحَارَبَةً لِلشَّرْعِ وَمُقَاوَمَةً لِلسُّلْطَةِ الَّتِي تُنَفِّذُهُ، وَفِي حَاشِيَةِ الْمُقْنِعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ تَلْخِيصٌ لِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، هَذَا نَصُّهُ: " يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِينَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: (1) أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ فَلَيْسُوا مُحَارِبِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنْ عَرَضُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسُوا مُحَارِبِينَ.

(2) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْبُنْيَانِ لَمْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلِأَنَّ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُ الْغَوْثُ غَالِبًا، فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ، وَالْمُخْتَلِسُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حُكْمُهُمْ فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ بِعُمُومِهَا كُلَّ مُحَارِبٍ ; وَلِأَنَّهُ فِي الْمِصْرِ أَعْظَمُ ضَرَرًا فَكَانَ أَوْلَى. (3) أَنْ يَأْتُوا مُجَاهَرَةً وَيَأْخُذُوا الْمَالَ قَهْرًا، فَأَمَّا إِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنِ اخْتَطَفُوهُ وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ، وَإِنْ خَرَجُوا عَلَى عَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ " انْتَهَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِالْفَهْمِ: إِنَّ أَكْثَرَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يُوجَدُ لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوْ إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ - أَوْ مِنْهُ - الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأَعْرَاضِ إِذَا كَانُوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِقُوَّةٍ يَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنَ الْإِذْعَانِ وَالْخُضُوعِ لِشَرْعِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا حَيْثُ يُقَامُ شَرْعُهُ الْعَادِلُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. فَمَنِ اشْتَرَطَ حَمْلَهُمُ السِّلَاحَ أَخَذَ شَرْطَهُ مِنْ كَوْنِ الْقُوَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَانِكَ الْأَمْرَانِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ السِّلَاحِ، وَهُوَ لَوْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ يُوجَدُ أَوْ سَيُوجَدُ مَوَادُّ تَفْعَلُ فِي الْإِفْسَادِ وَالْإِعْدَامِ وَتَخْرِيبِ الدُّورِ، وَكَذَا فِي الْحِمَايَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ أَشَدَّ مِمَّا يَفْعَلُ السِّلَاحُ - كَالدِّينَامِيتِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ - أَلَا تَرَاهُ فِي حُكْمِ السِّلَاحِ؟ يَقُولُ: بَلَى، وَمَنِ اشْتَرَطَ خَارِجَ الْمِصْرِ رَاعَى الْأَغْلَبَ، أَوْ أَخَذَ مِنْ حَالِ زَمَنِهِ أَنَّ الْمِصْرَ لَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ. وَمَا اشْتَرَطَ أَحَدٌ شَرْطًا غَيْرَ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرَ مُطَّرِدٍ إِلَّا وَلَهُ وَجْهٌ انْتَزَعَهُ مِنْهُ. أَمَّا ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُعَاقَبُ بِهِ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) . التَّقْتِيلُ: هُوَ التَّكْثِيرُ، أَوِ التَّكْرَارُ، أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَتْلِ، فَأَمَّا مَعْنَى التَّكْرَارِ أَوِ التَّكْثِيرِ فَلَا يَظْهَرُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلَّمَا ظَفِرْتُمْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فَتَظْهَرُ بِكَوْنِ الْقَتْلِ حَتْمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا عَفْوَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ إِذَا قَدَرْنَا عَلَى الْقَاتِلِ مِنْهُمْ نَقْتُلُهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الدَّمِ أَوْ رَضِيَ بِالدِّيَةِ. وَالتَّصْلِيبُ: التَّكْرَارُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي الصَّلْبِ، فَيُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي التَّقْتِيلِ، وَيُمْكِنُ تَكْرَارُ صَلْبِ الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ

مَنْ قَالَ: إِنِ الصَّلْبَ يَكُونُ بَعْدَ الْقَتْلِ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ، فَيُصْلَبُ الْمُجْرِمُ فِي النَّهَارِ، وَتُحْفَظُ جُثَّتُهُ لَيْلًا، ثُمَّ يُصْلَبُ فِي النَّهَارِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُصْلَبُونَ أَحْيَاءَ لِيَمُوتُوا بِالصَّلْبِ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الصَّلْبُ عُقُوبَةً ثَانِيَةً، وَأَصْلُ مَعْنَى الصَّلَبِ بِالتَّحْرِيكِ وَالصَّلِيبِ فِي اللُّغَةِ: الْوَدَكُ (الدُّهْنُ) أَوْ وَدَكُ الْعِظَامِ الَّتِي يُعَدُّ صُلْبُ الظَّهْرِ جِذْعَ شَجَرَتِهَا، وَالصَّدِيدُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالصَّلْبُ مَصْدَرُ صَلَبَهُ يَصْلِبُهُ - بِكَسْرِ اللَّامِ - صَلْبًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلِيبِ، وَهُوَ الْوَدَكُ أَوِ الصَّدِيدُ، وَالصَّلْبُ هَذِهِ الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ صَلْبًا، وَصَلَّبَهُ شُدِّدَ لِلتَّكْثِيرِ. . . وَالصَّلِيبُ: الْمَصْلُوبُ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْقِتْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يُرْبَطَ الشَّخْصُ عَلَى خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ مَمْدُودَ الْيَدَيْنِ حَتَّى يَمُوتَ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ الْمَصْلُوبَ لِيُعَجِّلُوا مَوْتَهُ، وَالشَّكْلُ الَّذِي يُشْبِهُ الْمَصْلُوبَ يُسَمَّى صَلِيبًا. وَأَمَّا تَقْطِيعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، فَمَعْنَاهُ إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى تُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَفِي هَذَا نَوْعٌ مَا مِنَ التَّكْرَارِ، فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ فِيهِ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَمَا قُطِعَ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ يُحْسَمُ فِي الْحَالِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَالْحَسْمُ: كَيُّ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ بِالنَّارِ أَوْ بِالزَّيْتِ وَهُوَ يَغْلِي ; لِكَيْلَا يَسْتَنْزِفَ الدَّمُ وَيَمُوتَ صَاحِبُهُ، وَفِي مَعْنَى الْحَسْمِ كُلُّ عِلَاجٍ يَحْصُلُ بِهِ الْمُرَادُ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَفْضَلُ مَا كَانَ أَسْرَعَ تَأْثِيرًا وَأَقَلَّ إِيلَامًا وَأَسْلَمَ عَاقِبَةً، عَمَلًا بِحَدِيثِ " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. وَأَمَّا النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَحْتَمِلُ لَفْظُ الْآيَةِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَأَنْ يَكُونَ " أَوْ " بِمَعْنَى " إِلَّا أَنْ " أَيْ جَزَاؤُهُمْ مَا ذُكِرَ قَبْلُ، إِلَّا أَنْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بِالْمُطَارَدَةِ، وَيُخْرَجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا حُكْمَ وَلَا سُلْطَانَ لِلْإِسْلَامِ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَعَنِ السُّدِّيِّ وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُمْ يُطْلَبُونَ حَتَّى يُؤْخَذُوا أَوْ يَضْطَرُّهُمُ الطَّلَبُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَالْحَرْبِ إِذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُضْطَرُّ إِلَى الدُّخُولِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُخْتَارِ أَنْ يُنْفَى الْمُحَارِبُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ أَوْ قُطْرِهِمُ الَّذِي أَفْسَدُوا فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ; أَيْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانُوا كُفَّارًا جَازَ نَفْيُهُمْ إِلَى بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَإِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْضِ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَكُونَ لِمَا وَقَعَ فِيهِ الْفَسَادُ مِنْهَا. وَحِكْمَةُ نَفْيِهِمْ إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ وَرَاءَ كَوْنِ النَّفْيِ عِقَابًا ظَاهِرَةٌ ; وَهِيَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَفْسَدُوا فِيهَا يُذَكِّرُهُمْ، وَيُذَكِّرُ أَهْلَهَا دَائِمًا بِمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَهِيَ

ذِكْرَى سَيِّئَةٌ قَدْ تَعْقُبُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا التَّفْسِيرَ لِلنَّفْيِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: يُنْفَى إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَيُسْجَنُ فِيهِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنِ النَّفْيَ هُوَ السَّجْنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَغْرَبُ الْأَقْوَالِ، فَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ النَّفْيِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَرْضِ، تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ بَيَانِ حُدُودِ اللهِ، لَا التَّعْزِيرُ الْمُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي بَيَانِ اللهِ لِنَبِيِّهِ مَا كَانَ يَكِيدُ لَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (8: 30) رَوَى أَصْحَابُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ سَأَلَهُ: هَلْ تَدْرِي مَا ائْتَمَرُوا بِكَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي ". هَذِهِ أَرْبَعُ عُقُوبَاتٍ لِلْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي كَيْفِيَّةِ تَنْفِيذِهَا ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ لِلتَّخْيِيرِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا لِتَفْصِيلِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، جَعَلَ اللهُ لِهَذَا الْإِفْسَادِ دَرَجَاتٍ مِنَ الْعِقَابِ ; لِأَنَّ إِفْسَادَهُمْ مُتَفَاوِتٌ ; مِنْهُ الْقَتْلُ، وَمِنْهُ السَّلْبُ، وَمِنْهُ هَتْكُ الْأَعْرَاضِ، وَمِنْهُ إِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ ; أَيْ قَطْعُ الشَّجَرِ، وَقَطْعُ الزَّرْعِ، وَقَتْلُ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ جَرِيمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، فَلَيْسَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي مُعَاقَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَاقِبَ كُلًّا بِقَدْرِ جُرْمِهِ وَدَرَجَةِ إِفْسَادِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ الْجَرَائِمِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَجَاءُوا فِيهِ بِفُرُوعٍ كَثِيرَةٍ تَرْجِعُ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّقْدِيرِ وَمُرَاعَاةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْحُدُودِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ وَقَطْعِ آخِذِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ كَالسَّارِقِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَالنَّفْيِ لِمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا تَنْفِيهِ ; فَهُوَ اجْتِهَادٌ حَسَنٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ ; لِأَنَّ لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ أَعْمَالًا أُخْرَى أَشَرْنَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا آنِفًا، فَإِذَا قَامَتْ عِصَابَةٌ مُسَلَّحَةٌ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ بِخَطْفِ الْعَذَارَى أَوِ الْمُحْصَنَاتِ لِأَجْلِ الْفُجُورِ بِهِنَّ، أَوْ بِخَطْفِ الْأَوْلَادِ لِأَجْلِ بَيْعِهِمْ أَوْ فِدْيَتِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُعَدُّ مِنَ الْمُخَرِّبِينَ الْمُفْسِدِينَ، فَمَا حُكْمُ اللهِ فِيهِمْ؟ إِنَّ الْآيَةَ حَدَّدَتْ لِعِقَابِ الْمُفْسِدِينَ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَتَرَكَتْ لِأُولِي الْأَمْرِ الِاجْتِهَادَ فِي تَقْدِيرِهَا بِقَدْرِ جَرَائِمِهِمْ، فَلَا هِيَ خَيَّرَتِ الْإِمَامَ بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ مِنْهَا عَلَى مَنْ شَاءَ بِحَسَبِ هَوَاهُ، وَلَا هِيَ جَعَلَتْ لِكُلِّ مَفْسَدَةٍ عُقُوبَةً مُعَيَّنَةً مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَعْيِينِ الْآيَةِ وَتَفْصِيلِهَا لِلْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ هِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ كَثِيرَةٌ

وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَضَرَرُهَا يَخْتَلِفُ كَذَلِكَ، وَالْفُرُوعُ تَكْثُرُ فِيهَا، حَتَّى إِنَّ تَفْصِيلَهَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي صُحُفٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كِتَابُ هِدَايَةٍ رُوحِيَّةٍ، لَيْسَ لِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْهُ إِلَّا الْحَظُّ الْقَلِيلُ ; إِذْ وَكَلَ أَكْثَرَهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَّنَ بِإِيجَازِهِ الْمُعْجِزِ الضَّرُورِيَّ مِنْهَا بِعِبَارَةٍ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا مَا يَمْلَأُ عِدَّةَ صُحُفٍ، كَهَذِهِ الْآيَةِ وَآيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي الْإِسْلَامِ: أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِخُصُوصِهِ يَسْتَنْبِطُ أُولُو الْأَمْرِ حُكْمَهُ مِنَ النُّصُوصِ وَالْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ. وَالْعُلَمَاءُ الْمُسْتَقِلُّونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، فَلِهَذَا بَيَّنُوا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ ; لِيُسَهِّلُوا عَلَى الْحُكَّامِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ فَهْمَ النُّصُوصِ، وَيُمَهِّدُوا لَهُمْ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ، وَلَوْ كَانَ مُسْلِمُو هَذَا الْعَصْرِ كَمُسْلِمِي السَّلَفِ لَفَعَلَ أَئِمَّتُهُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ مِنْ جَمْعِ أُولِي الْأَمْرِ (أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَكُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ) لِلتَّشَاوُرِ فِي كُلِّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا سُنَّةً مُتَّبَعَةً، وَلَاسْتَشَارُوهُمْ فِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ تَأْثِيرِ الْمَفَاسِدِ وَضَرَرِهَا، وَأَنْفَذُوا مَا يَتَقَرَّرُ بَعْدَ الشُّورَى فِي كُلِّ مَا حَدَثَ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) (ص146 - 180 ج5 ط الْهَيْئَةِ) . وَعُلِمَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ قَالَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لَهُ وَجْهٌ، وَإِنْ رَدَّ بَعْضُهُمْ قَوْلَ بَعْضٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فَوَجْهُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِأَوْ، لَا يَعْنِي بِالتَّخْيِيرِ أَنَّ لَهُ الْحُكْمَ بِالْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، بَلْ بِالِاجْتِهَادِ وَمُرَاعَاةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ وَتَقُومُ الْمَصْلَحَةُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْمُشَاوَرَةَ فِي الْأَمْرِ، كَيْفَ وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْحُكْمِ؟ وَمَنْ وَضَعَ كُلَّ عُقُوبَةٍ بِإِزَاءِ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّمَا بَيَّنَ رَأْيَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَدْرَأُ الْمَفْسَدَةَ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا يُبَيِّنُونَ فَهْمَهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَلَا يُوجِبُونَ، بَلْ لَا يُجِيزُونَ لِأَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَّخِذَ فَهْمَهُمْ أَوْ رَأْيَهُمْ دِينًا يُتَّبَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ إِعَانَةٌ لِلْبَاحِثِ وَالنَّاظِرِ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمُسْتَقِلَّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِذَا نَظَرَ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَعْرِفْ لِغَيْرِهِ رَأَيًا فِيهَا يَكُونُ مَجَالُ نَظَرِهِ أَضْيَقَ مِنْ مَجَالِ مَنْ عَرَفَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ، وَكَمْ مِنْ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ قَالَ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ وُقُوفِهِ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ; إِمَّا إِلَى رَأْيِهِمْ، وَإِمَّا إِلَى رَأْيٍ جَدِيدٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَانَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ وَمَذْهَبٌ جَدِيدٌ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِنَّ أَكْثَرَ مَا قَالُوهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَهَاكَ أَشْهَرُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ صَاحِبُ (الْمُقْنِعِ) مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: وَإِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ ; فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ، وَأَخَذَ

الْمَالَ قُتِلَ حَتْمًا، وَصُلِبَ حَتَّى يَشْتَهِرَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ (مِنْ فُقَهَائِهِمْ) : " يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلْبِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ. وَإِنْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ، فَهَلْ يُقْتَلُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ " إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي عَزَوْنَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ تَفْصِيلٍ وَذِكْرِ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَالَ مُحَشِّيهِ مَا نَصُّهُ: " قَوْلُهُ وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. . . إِلَخْ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ ; لِأَنَّ (أَوْ) تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو الزِّنَادِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ فَرَآهُ الْإِمَامُ جَلْدًا ذَا رَأْيٍ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَا رَأْيَ لَهُ قَطَعَهُ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِعْلُهُ " انْتَهَى. أَيْ إِنَّ مَالِكًا يَعْتَبِرُ حَالَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي الْعِقَابِ، لَا عَمَلُهُ وَحْدَهُ، وَالْجَلْدُ: الْقَوِيُّ صَاحِبُ الثَّبَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْقُوَّةُ مَعَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ كَانَ الْفَسَادُ أَقْوَى، وَالْعَاقِبَةُ شَرًّا. وَذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ; مِنْهَا أَقْوَالُ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ، فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ شَاءَ. قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْعِقَابِ خِزْيٌ لِأُولَئِكَ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ ; أَيْ ذُلٌّ وَفَضِيحَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَقَالَ: (لَهُمْ خِزْيٌ) وَلَمْ يَقُلْ " خِزْيٌ لَهُمْ " ; لِيُفِيدَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِمْ، دُونَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ، وَمُغْتَرِّينَ بِالْقُوَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ عَظِيمًا بِقَدْرِ تَأْثِيرِ إِفْسَادِهِمْ فِي تَدْنِيسِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَا لَهُ مِنْ تَأْثِيرٍ! . (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، الَّذِينَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَشَدِّ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ، مَنْ يَتُوبُونَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَمَكُّنِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ عِقَابِهِمْ ; فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ، وَهُمْ فِي قُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ تَوْبَةً نَصُوحًا، مَنْشَؤُهَا الْعِلْمُ بِقُبْحِ عَمَلِهِمْ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، لَا الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا، وَهَبْ أَنَّهُ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا، أَلَيْسُوا قَدْ تَرَكُوا الْإِفْسَادَ وَمُحَارَبَةَ شَرْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَصَارُوا كَسَائِرِ النَّاسِ؟ بَلَى! وَإِذًا لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ أَشَدِّ عِقَابِ الشَّرْعِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ ; وَلِذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِهَذِهِ التَّوْبَةِ أَهْلًا لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَقَالَ: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ، وَيَرْحَمُهُمْ بِرَفْعِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ، وَهَلِ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنْهُمْ عِقَابُ الْآخِرَةِ فَقَطْ كَمَا قَالُوا فِي تَوْبَةِ السَّارِقِ؟ (وَسَيَأْتِي حَدُّهُ وَحُكْمُهُ بَعْدَ ثَلَاثِ آيَاتٍ) أَمْ يَرْتَفِعُ عَنْهُمْ

حَقُّ اللهِ كُلُّهُ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ إِلَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ؟ وَإِذًا يَكُونُ لِمَنْ سَلَبَ التَّائِبُ أَمْوَالَهُمْ أَيَّامَ إِفْسَادِهِ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِهَا، وَلِمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَنْ يُطَالِبُوهُ بِدَمِهِ، وَلَهُمُ الْخِيَارُ كَغَيْرِهِمْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ، أَمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُقُوقُ اللهِ كُلُّهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ كُلُّهَا أَيْضًا؟ احْتِمَالَاتٌ آخِرُهَا أَضْعَفُهَا، وَأَوْسَطُهَا أَقْوَاهَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ عَمَّنْ تَابَ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا تَقَاضَى التَّائِبَ حَقًّا، وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ الْإِمَامُ. وَإِذَا جَازَ إِسْقَاطُ الْحَدِّ مُطْلَقًا عَنِ التَّائِبِ فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَالِ عَنْهُ مُطْلَقًا؛ بَلْ يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا إِذَا أَعَادَ الْأَمْوَالَ الْمَسْلُوبَةَ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِذَا رَأَى أُولُو الْأَمْرِ إِسْقَاطَ حَقٍّ مَالِيٍّ عَنِ الْمُفْسِدِينَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنُوهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ، فَقِيلَ إِنَّهُمُ الْمُحَارِبُونَ الْمُفْسِدُونَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْحَرْبِ وَالْفَسَادِ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَهُمُ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ كُلُّ حَقٍّ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ مُطْلَقًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ كَانَ مُحَارِبًا فِي عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فَطَلَبَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ مِنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، أَنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ عَلِيًّا، فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَتَى سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ فَقَبِلَهُ. (قَالَ الرَّاوِي) : فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ الْغَدَاةَ أَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَرَأَ عَلِيٌّ الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ، قَالَ: فَهَذَا حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ جَاءَ تَائِبًا، فَهُوَ آمِنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَجَاءَ بِهِ فَبَايَعَهُ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ حُقُوقِ النَّاسِ. وَقَدِ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي التَّائِبِ أَنْ يَسْتَأْمِنَ الْإِمَامَ فَيُؤَمِّنَهُ، كَمَا فَعَلَ حَارِثَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْبَلَ كُلَّ تَائِبٍ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ وَاقِعَةَ مُحَارِبٍ جَاءَ أَبَا مُوسَى تَائِبًا، وَكَانَ عَامِلَ عُثْمَانَ عَلَى الْكُوفَةِ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَوَاقِعَةَ عَلِيٍّ الْأَسَدِيِّ الَّذِي حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَصَابَ الدَّمَ، ثُمَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (39: 53) الْآيَةَ، فَاسْتَعَادَهَا، فَأَعَادَهَا الْقَارِئُ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، وَجَاءَ الْمَدِينَةَ تَائِبًا بَعْدَ أَنْ عَجَزَتِ الْحُكُومَةُ وَالنَّاسُ عَنْهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَاءَ بِهِ إِلَى وَالِي الْمَدِينَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَقَالَ لَهُ: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا قَتْلَ، فَتُرِكَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

(خُلَاصَةُ الْآيَتَيْنِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ وَطَاعَةُ الْأَئِمَّةِ) قَدْ عُلِمَ مِنَ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ خَاصَّتَانِ بِعِقَابِ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ; أَيِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَعْمَالًا مُخِلَّةً بِالْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، مُعْتَصِمِينَ فِي ذَلِكَ بِقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ مُذْعِنِينَ لِلشَّرِيعَةِ بِاخْتِيَارِهِمْ. فَيَجِبُ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْحُكَّامِ أَنْ يُطَارِدُوهُمْ وَيَتْبَعُوهُمْ، فَإِذَا قَدَرُوا عَلَيْهِمْ عَاقَبُوهُمْ بِتِلْكَ الْعُقُوبَاتِ، بَعْدَ تَقْدِيرِ كُلِّ مَفْسَدَةٍ بِقَدْرِهَا، وَمُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَا يُعَاقَبُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ النَّاسِ. وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْخَوَارِجِ، وَأَوْرَدُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُنْبِئَةِ بِصِفَاتِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي عَهْدِ خِلَافَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ قَاتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَوَارِجَ بِرَأْيِ مَنْ مَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ بِعُقُوبَاتِ آيَةِ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمُ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَخْرِيبَ الْعُمْرَانِ وَإِزَالَةَ الْأَمْنِ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ بَعْدَ الْبَيْعَةِ مُتَأَوِّلِينَ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ زَلَّ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ، وَتَجَاوَزَ تَحْكِيمَ الشَّرْعِ إِلَى الرَّأْيِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَحُكْمِ مَنْ يَخْرُجُ ; لِاخْتِلَافِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّبْرِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَمُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَلَمْ أَرَ قَوْلًا لِأَحَدٍ جَمَعَ بِهِ بَيْنَ كُلِّ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَضَعَ كُلًّا مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَبَبُ وُرُودِهِ، مُرَاعِيًا اخْتِلَافَ الْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ، مُبَيِّنًا مَفْهُومَاتِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ دُونَ مَا بَعْدَهُ. مِثَالُ هَذَا لَفْظُ " الْجَمَاعَةِ " إِنَّمَا كَانَ يُرَادُ بِهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تُقِيمُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ بِإِقَامَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ صَارَتْ كُلُّ دَوْلَةٍ أَوْ إِمَارَةٍ مِنْ دُوَلِ الْمُسْلِمِينَ تَحْمِلُ كَلِمَةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ هَدَمَتِ السُّنَّةَ وَأَقَامَتِ الْبِدْعَةَ وَعَطَّلَتِ الْحُدُودَ وَأَبَاحَتِ الْفُجُورَ، وَمِثَالُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ تَعَدُّدُ الدُّوَلِ؛ فَأَيُّهَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالْوَفَاءُ بِبَيْعَتِهِ؟ وَإِذَا قَاتَلَ أَحَدُهَا الْآخَرَ؛ فَأَيُّهَا يُعَدُّ الْبَاغِيَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ؟ كُلُّ قَوْمٍ يُطَبِّقُونَ النُّصُوصَ عَلَى أَهْوَائِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ ظَاهِرَةً. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، " وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ "، وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ إِبَاحَةَ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ; كَالزِّنَا وَالسُّكْرِ وَاسْتِبَاحَةِ إِبْطَالِ الْحُدُودِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُفْرٌ

وَرِدَّةٌ، وَأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا حُكُومَةٌ عَادِلَةٌ تُقِيمُ الشَّرْعَ وَحُكُومَةٌ جَائِرَةٌ تُعَطِّلُهُ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرُ الْأُولَى مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنَّهُ إِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أُخْرَى، وَجَرَّدَتْ عَلَيْهَا السَّيْفَ، وَتَعَذَّرَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ الْبَاغِيَةِ الْمُعْتَدِيَةِ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَمَا وَرَدَ فِي الصَّبْرِ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ - إِلَّا إِذَا كَفَرُوا - مَعَارَضٌ بِنُصُوصٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِهِ اتِّقَاءُ الْفِتْنَةِ وَتَفْرِيقُ الْكَلِمَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ: " وَأَلَّا تُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا ". قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُنَازَعَةَ الْإِمَامِ الْحَقِّ فِي إِمَامَتِهِ لِنَزْعِهَا مِنْهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا كَفَرَ كُفْرًا ظَاهِرًا، وَكَذَا عُمَّالُهُ وَوُلَاتُهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ وَالْمَعَاصِي فَيَجِبُ إِرْجَاعُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَاءِ إِمَامَتِهِ وَطَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ دُونَ الْمُنْكَرِ، وَإِلَّا خُلِعَ وَنُصِّبَ غَيْرُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ خُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ سِبْطِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِمَامِ الْجَوْرِ وَالْبَغْيِ الَّذِي وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُوَّةِ وَالْمَكْرِ، يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ خَذَلَهُ اللهُ وَخَذَلَ مَنِ انْتَصَرَ لَهُ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَالنَّوَاصِبِ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يَسْتَحِبُّونَ عِبَادَةَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ عَلَى مُجَاهَدَتِهِمْ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ. وَقَدْ صَارَ رَأْيُ الْأُمَمِ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْعَصْرِ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْمُفْسِدِينَ، وَقَدْ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ عَلَى سُلْطَانِهَا عَبْدِ الْحَمِيدِ خَانْ، فَسَلَبَتِ السُّلْطَةَ مِنْهُ وَخَلَعَتْهُ بِفَتْوَى مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمُصَنَّفٍ خَاصٍّ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَرَجَّحَ الْحَقَّ عَلَى الْهَوَى. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) . ذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا، يَرْجِعُ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ السِّيَاقِ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ هَمُّوا بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَى الرَّسُولِ وَبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسُّوءِ وَقَصْدِ الِاغْتِيَالَ، لِمَا

كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعُتُوِّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَشِدَّةِ الْإِيذَاءِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا هُمْ وَالنَّصَارَى مَغْرُورِينَ بِدِينِهِمْ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَأَرْشَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّقُوهُ وَيَبْتَغُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ الْوَسِيلَةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَكُونُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي افْتِتَانِهِمْ وَغُرُورِهِمْ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ، وَالْوَجْهُ فِي التَّنَاسُبِ عِنْدِي أَنْ يُبْنَى عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَثَانِيَ لِلْهِدَايَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ، لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ، وَلَا تُمَلُّ قِرَاءَتُهُ، وَالرَّكْنُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الْأُسْلُوبِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، تَتَخَلَّلُهُ أَسْمَاءُ اللهِ وَصِفَاتُهُ، وَالتَّذْكِيرُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ تَقْوَاهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَبِالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْجَزَاءِ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَالِ، فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ قَفَّى اللهُ تَعَالَى عَلَى قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ وَمَا نَاسَبَهَا مِنْ بَيَانِ حُدُودِ الَّذِينَ يَبْغُونَ عَلَى النَّاسِ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَمِنْهَا اتِّقَاءُ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، رَجَاءَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ، وَبِوَعِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَتَّقُونَ اللهَ وَلَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اتِّقَاءُ اللهِ هُوَ اتِّقَاءُ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ. وَسَخَطُهُ وَعِقَابُهُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِمُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمُخَالَفَةِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ الَّذِي يَعْرُجُ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى سَمَاءِ الْكَمَالِ. وَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ هِيَ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ ; أَيْ مَا يَجْرِي أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمَثُوبَةِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِتَعْرِيفِهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِهَذَا التَّعْرِيفِ بِوَحْيِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسِيلَةُ التَّوَصُّلُ إِلَى الشَّيْءِ بِرَغْبَةٍ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْوَصِيلَةِ ; لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الرَّغْبَةِ. . . وَحَقِيقَةُ الْوَسِيلَةِ إِلَى اللهِ مُرَاعَاةُ سَبِيلِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَتَحَرِّي مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ كَالْقُرْبَةِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الْوَسِيلَةِ بِالْقُرْبَةِ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَرَوَى هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَفْسِيرُهَا بِالْمَحَبَّةِ، قَالَ: أَيْ تَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (17: 57) وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَسْأَلَةُ وَالْقُرْبَةُ، وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْوَسِيلَةِ فَقَالَ: الْحَاجَةُ، قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ عَنْتَرَةَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي وَلَمْ يَرْوِ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِالْبَيْتِ عَلَى تَفْسِيرِ الْوَسِيلَةِ بِالْقُرْبَةِ، وَإِرَادَةُ الْقُرْبَةِ مِنَ الْبَيْتِ أَظْهَرُ مِنْ إِرَادَةِ الْحَاجَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ تَفْسِيرُهَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ

طَلَبَ الْحَاجَةِ مِنَ اللهِ وَمَحَبَّةَ اللهِ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ الْوَسِيلَةِ بِمَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ أَعَمُّ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلُّغَةِ. قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْوَسِيلَةُ فِي الْأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ، وَيُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ الْوَسِيلَةَ بِالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمَلِكِ وَبِالْقُرْبَةِ، وَقَالَ: وَوَسَلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً، إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَالْوَاسِلُ الرَّاغِبُ، قَالَ لَبِيدٌ: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... بَلَى كُلُّ ذِي رَأْيٍ إِلَى اللهِ وَاسِلُ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ مَعَانِيهَا الْوَصْلَةَ وَالْقُرْبَى. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَصْلُ الْمَعْنَى، وَيُرَجَّحُ بِهِ بَعْضُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى بَعْضٍ. وَلِلْوَسِيلَةِ مَعْنًى فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ مَعْنَاهَا هُنَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ، أَيِ الْأَذَانَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ "، وَتَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَسِيلَةِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ الْخَاصَّةَ هِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ، فَمَنْ دَعَا اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، وَهِيَ دُعَاءٌ أَيْضًا، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَالْوَسِيلَةُ فِي الْحَدِيثِ اسْمٌ لِمَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ مُعَيَّنَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ. (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أَيْ جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِكَفِّهَا عَنِ الْأَهْوَاءِ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَجَاهِدُوا أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ وَهِدَايَتَهُ لِلنَّاسِ ; فَالْجِهَادُ مِنَ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ ; فَكُلُّ جَهْدٍ يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ، أَوْ فِي تَقْرِيرِهَا وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا، فَهُوَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيِ اتَّقُوا مَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَابْتَغَوْا مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَرْضَاةِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَاحْتَمِلُوا الْجَهْدَ وَالْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِهِ رَجَاءَ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

(فَصَلٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ) بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ، وَمَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيٍّ وَلَا أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَوْ عَامَّتِهِمْ أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى تُبْتَغَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، إِلَّا كَلِمَةً رُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ مَا يُنَافِيهَا، وَقَدْ حَدَثَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى التَّوَسُّلُ بِأَشْخَاصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ ; أَيْ تَسْمِيَتُهُمْ وَسَائِلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ بِهِمْ، وَطَلَبُ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ مِنْهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَوْ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْهَا، وَشَاعَ هَذَا وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسُ يَدْعُونَ أَصْحَابَ الْقُبُورِ فِي حَاجَاتِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) وَيَقُولُ: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (7: 194) وَيَقُولُ: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (35: 13، 14) لَكِنَّ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ زَعَمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَسْتَجِيبُونَ لِلدَّاعِي، وَالْعَوَامُّ يَأْخُذُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى؛ لِعُمُومِ الْجَهْلِ. وَمِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مَنْ يَتَأَوَّلُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ بِهِمْ، وَقَدْ حَقَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ الْمَوْضُوعَ بِجَمِيعِ فُرُوعِهِ، فَكَانَ مَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا حَافِلًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ (قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ) وَقَدْ طَبَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ: " وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ، فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ، كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ. " وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ، فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا "؛ أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أَيِ الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ، قَالَ تَعَالَى:

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) (4: 80) . فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ، وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ عُلِمَ أَنَّ مَا يَفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ ; فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا. " فَلَفَظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ (أَحَدُهَا) : التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ، فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ (وَالثَّانِي) : التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ (وَالثَّالِثُ) : التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللهِ بِذَاتِهِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. " وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَنَهَوْا عَنْهُ ; حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِيِّ فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، أَوْ بِحَقِّ خَلْقِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ، هُوَ اللهُ، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الْمَسْأَلَةُ بِحَقِّهِ لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ ; فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا. " وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، لَهُ مَعْنَيَانِ (أَحَدُهُمَا) : هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ إِذَا مُنِعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقٍ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا بِخِلَافِ إِقْسَامِهِ، سُبْحَانَهُ، بِمَخْلُوقَاتِهِ ; كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِقْسَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ". وَقَدْ

صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي لَفْظٍ " فَقَدْ كَفَرَ "، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ "، وَقَالَ: " لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَإِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ "، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ". وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ، أَوْ بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ ; كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ، وَالْمُلُوكِ وَسُيُوفِ الْمُجَاهِدِينَ، وَقُرْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِيمَانِ السَّدْقِ وَسَرَاوِيلِ الْفُتُوَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ. " وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: لَأَنْ أَحَلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ صَادِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ: (إِحْدَاهُمَا) لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. (وَالثَّانِيَةُ) يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ، وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ، مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ، فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ، هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. " وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ، لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. (أَحَدُهُمَا) : الْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. (وَالثَّانِي) السُّؤَالُ بِهِ، فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، كُلُّهُ ضَعِيفٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: " أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ". " وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَشَفَاعَتِهِ، وَهُوَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: " اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ " وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ يَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ. " وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَوْلُهُ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنِ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إِلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ، وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ ; لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا ; فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ، وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ، وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبِرُّ قَسَمَهُ، فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا إِجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ، فَإِنَّ اللهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَنْ نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ " (ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) . " وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ، بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوِ السُّؤَالِ بِهِ، فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ إِنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنْقُصٌ بِهِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي سَيِّدِي! وَقَالَ: قُلْ كَمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ: " يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا كَرِيمُ "، وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: يَا حَنَّانُ، يَا مَنَّانُ! فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ بِمَخْلُوقٍ، نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللهَ بِمَخْلُوقٍ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ قَالَ عُمَرُ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا "، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَجْدَبُوا إِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ،

لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ، لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، لَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا غَيْرِهِ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَقَالُوا لِعُمَرَ: إِنِ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنَ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلِمَ نَعْدِلُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ، إِلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ؟ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَعُدُولٌ عَنِ الْأَفْضَلِ، وَسُؤَالُ اللهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا، وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ، وَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَتَوَسَّلُوا بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ، كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ. " وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُسْأَلُ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ ; لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ. " وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَالِكٍ ; كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا - فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا، وَيَسْتَنِدُ إِلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنِ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا، بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا، وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا فَلْيَقْرَأْ كِتَابَ (قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ) كُلَّهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ الْجَامِعُ فَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ مَا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَرْجُو أَنْ تَصِلَ بِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ لَكَ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ؛ إِذْ جَعَلَ مَدَارَ الْفَلَاحِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا. وَالتَّوَسُّلُ هُوَ ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا ; أَيِ الْعَمَلُ بِالْمَشْرُوعِ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (53: 39 - 41) (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) (20: 15) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (27: 90) . نَعَمْ، دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يَنْفَعُهُ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا اللهَ وَسَأَلَهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (28: 56) وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا، فَمَا عَدَاهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ; وَلِذَلِكَ خَبَّأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوْتَهُ لِيَشْفَعَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَعْلَمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِكَ لَكَ لَا يَطَّرِدُ نَفْعُهُ مَهْمَا كَانَ الدَّاعِي صَالِحًا، فَهَلْ يَكُونُ شَخْصٌ غَيْرُكَ وَسِيلَةً وَقُرْبَةً لَكَ إِلَى اللهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ لَكَ؟ هَذَا شَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا عَقْلٌ إِنْ جَازَ أَنْ يُحَكَّمَ الْعَقْلُ فِي قُرُبَاتِ الشَّرْعِ. فَالْعُمْدَةُ فِي تَقَرُّبِ الْإِنْسَانِ إِلَى اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ هُوَ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ لِنَفْسِكَ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَكَ وَجَعَلَهُ سَبَبَ فَلَاحِكَ، وَلَمْ يَدْعُ لَكَ غَيْرُكَ بِذَلِكَ؛ فَكَيْفَ تَكُونُ قَدِ ابْتَغَيْتَ إِلَى اللهِ الْوَسِيلَةَ؟ وَهَلْ تَسْمِيَتُكَ بَعْضَ عِبَادِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ وَسِيلَةٌ؟ أَوْ طَلَبُكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ - أَيْ يَدْعُو لَكَ - يُعَدُّ امْتِثَالًا مِنْكَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ؟ كَلَّا! إِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ كَانَ مَقْبُولًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُولٍ! فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ الْغَيْبِيِّ، " وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " وَحْدَهُ، وَمِنْهُ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ لَا تُنَالُ بِالسُّؤَالِ هُنَا، وَإِنَّمَا تُفَوَّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (39: 44) (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) . فَسُنَّةُ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ وَالِدُهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ أَوْ أَحَدُ الصَّالِحِينَ، وَلَا يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ إِذَا تَرَكَ الدَّوَاءَ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ تَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِ أَخْلَاقُ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ أَوِ الْوَلِيُّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ جَوَادًا سَخِيًّا شُجَاعًا أَمِينًا، لَا يَبْذُلُ هُوَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّخَاءِ، وَلَا النَّفْسَ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ، وَلَا يُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِتِلْكَ الْأَمَانَةِ ; لِأَنَّ أَعْمَالَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَخْلَاقِهِ، لَا عَنْ أَخْلَاقِ الرَّسُولِ أَوِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَلَّا تَعِيشَ بِأَخْلَاقِ غَيْرِكَ، وَلَا بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ دَارُ الْكَسْبِ وَالتَّعَاوُنِ، فَكَيْفَ يَنْفَعُكَ إِيمَانُ غَيْرِكَ وَصَلَاحُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) ؟ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ مَدَارِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا، كَمَا يَتَوَهَّمُ الْكُفَّارُ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَبَذَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيَكُونَ فِدَاءً لَهُمْ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَقَبَّلُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَلَا يُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ

إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ خَارِجَهَا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 9، 10) وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَمَا اسْتَتْبَعَهُ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ ; اتِّكَالًا مِنْهُمْ عَلَى الْفِدْيَةِ وَالشُّفَعَاءِ، وَهَذَا فَرْقٌ جَوْهَرِيٌّ وَاضِحٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ ; فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَسُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ الْبَدَنِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ ; فَالنَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ خَلَاصَهُمْ وَنَجَاتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ فِدْيَةً لَهُمْ يَفْتَدِيهِمْ بِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ حَالُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى الْمَسِيحِ الرُّسُلَ وَالْقِدِّيسِينَ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اللهَ يَحِلُّ مَا يَحِلُّونَهُ، وَيَعْقِدُ مَا يَعْقِدُونَهُ، وَأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ; فَبِذَلِكَ تَصْلُحُ نُفُوسُهُمْ، وَتَكُونُ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ وَالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءٌ، وَلَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ. (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) يُرِيدُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ دَارِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ بِالْبَاءِ، ثُمَّ أَكَّدَ مَضْمُونَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لَهُمْ، وَالْمُقِيمُ هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يُظْعِنُ، وَالْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ ; إِذْ مِنْ شَأْنِ مَنْ سَمْعِ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ تَسْتَشْرِفَ نَفْسُهُ لِلسُّؤَالِ عَنْ حَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ مَهْمَا جَلَّ وَعَظُمَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْجَوَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الْمُحَارِبُونَ: الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ جَهْرَةً، وَيَنْتَزِعُونَهَا مِنْهُمْ

عَنْوَةً، وَاللُّصُوصُ يَأْكُلُونَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا خِفْيَةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عِقَابَ أُولَئِكَ، وَأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْإِيمَانُ، وَتَتَهَذَّبُ بِهَا النُّفُوسُ حَتَّى تَنْفِرَ مِنَ الْحَرَامِ - بَيَّنَ عِقَابَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا، جَمْعًا بَيْنَ الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ، وَالْوَازِعِ الْخَارِجِيِّ ; وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أَيْ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُهُمَا، وَيُبَيَّنُ لَكُمْ حَدُّهُمَا، كَمَا بُيِّنَ لَكُمْ حَدُّ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ مِثْلِهِمَا، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. أَوِ التَّقْدِيرُ: وَكُلٌّ مِنَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، كَمَا تَقْطَعُونَ أَيْدِيَ الْمُحَارِبِينَ إِذَا سَلَبَا الْمَالَ مِثْلَهُمَا، وَالْمُرَادُ قَطْعُ يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا ; أَيْ إِذَا سَرَقَ الذَّكَرُ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَإِذَا سَرَقَتِ الْأُنْثَى تُقْطَعُ يَدُهَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْيَدَ، وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا ; لِأَنَّ فُصَحَاءَ الْعَرَبِ يَسْتَثْقِلُونَ إِضَافَةَ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ; أَيِ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (66: 4) . وَالْوَصْفُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، فَقَرَنَ خَبَرَهُ بِالْفَاءِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّنْبَيْنِ يَقَعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَرَادَ اللهُ زَجْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَتَغْلِيبِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَضَمَائِرِهَا فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهِ الرِّجَالَ ; كَالْإِمَامَةِ وَالْقِتَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْيَدِ أَنَّهَا الْكَفُّ إِلَى الرُّسْغِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: (وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (5: 6) وَإِنَّمَا تَقَعُ السَّرِقَةُ بِالْكَفِّ مُبَاشَرَةً، وَالسَّاعِدُ وَالْعَضُدُ يَحْمِلَانِ الْكَفَّ كَمَا يَحْمِلُهُمَا مَعَهَا الْبَدَنُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ الْيَدَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِيقَاعُ الْعَذَابِ عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَاشِرِ لِلْجَرِيمَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ; لِأَنَّ التَّنَاوُلَ يَكُونُ بِهَا إِلَّا مَا شَذَّ. (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْحَدِّ ; أَيِ اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً لَهُمَا بِعَمَلِهِمَا وَكَسْبِهِمَا السَّيِّئِ، وَنَكَالًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمَا ; فَالنَّكَالُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّكْلِ، وَهُوَ بِالْكَسْرِ قَيْدُ الدَّابَّةِ، وَنَكَلَ عَنِ الشَّيْءِ: عَجَزَ أَوِ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ صَرَفَهُ عَنْهُ، فَالنَّكَالُ هُنَا: مَا يُنَكِّلُ النَّاسَ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَسْرِقُوا. وَلَعَمْرِ الْحَقِّ إِنَّ قَطْعَ الْيَدِ الَّذِي يَفْضَحُ صَاحِبَهُ طُولَ حَيَاتِهِ، وَيَسِمُهُ بِمَيْسَمِ الذُّلِّ وَالْعَارِ هُوَ أَجْدَرُ الْعُقُوبَاتِ بِمَنْعِ السَّرِقَةِ وَتَأْمِينِ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ كَثِيرًا مَا تَتْبَعُ الْأَمْوَالَ إِذَا قَاوَمَ أَهْلُهَا السُّرَّاقَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمْ (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَهُوَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي صُنْعِهِ وَفِي شَرْعِهِ، فَهُوَ يَضَعُ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ بِحَسَبَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ مِنَ السَّرِقَةِ، فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ; عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ " لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ الْخَوَارِجُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي سَرِقَةِ رُبُعِ دِينَارٍ (أَيْ رُبُعِ مِثْقَالٍ مِنَ الذَّهَبِ) أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَ رُبُعَ الدِّينَارِ هُوَ الْأَصْلَ فِي تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْرُوقَةِ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى - قِيلَ إِنَّهَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ - أَنَّ التَّقْوِيمَ بِدَرَاهِمِ الْفِضَّةِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنِ الْعُرُوضَ تُقَوَّمُ بِمَا كَانَ غَالِبًا فِي نُقُودِ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ وَفِي هَذَا الْخِلَافِ فِي التَّقْدِيرِ، حَدِيثُ عَائِشَةَ " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ مَرْفُوعًا " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبُعُ دِينَارٍ "، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الثَّلَاثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ " وَفِي رِوَايَةٍ " قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ " وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنِ الْأَعْمَشَ رَاوِيَهُ فَسَّرَ الْبَيْضَةَ بِبَيْضَةِ الْحَدِيدِ الَّتِي تُلْبَسُ لِلْحَرْبِ، وَهِيَ كَالْمِجَنِّ (التُّرْسِ) وَقَدْ يَكُونُ ثَمَنُهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّصَابَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَكْثَرُ، وَلَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي تَقْدِيرِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَجَّحُوهَا عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ بِإِدْخَالِهَا فِي عُمُومِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ مُعَنْعَنًا، فَكَيْفَ يُعَارِضُ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ، بَلِ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ؟ وَهُنَالِكَ مَذَاهِبُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ فِي قَدْرِ النِّصَابِ، لَا نَذْكُرُهَا لِضَعْفِ أَدِلَّتِهَا، بَلْ بَعْضُهَا لَا يُعْرَفُ لَهُ دَلِيلٌ. وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَنَّ الثَّمَرَ وَالْكَثَرَ (وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ: جُمَّارُ النَّخْلِ) لَا قَطْعَ فِيهَا، وَأَمَّا الثَّمَرُ بَعْدَ إِحْرَازِهِ فَكَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ فِيهِ، وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ فِي الْقَطْعِ أَنْ يُسْرَقَ الشَّيْءُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا مَحْفُوظًا فَلَا قَطْعَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَشُرُوحِهَا. وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِالْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ قَبْلَ رَفْعِ أَمْرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (الْحَاكِمِ) وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ، وَوَرَدَ

39

النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْغَزْوِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحِلِّهِ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهَا فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنِ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَمَنْ تَابَ مِنَ السُّرَّاقِ وَرَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَاصِي رُجُوعَ نَدَمٍ وَعَزْمٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ بِامْتِهَانِهَا وَسَفَهِهَا، وَلِلنَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ وَزَكَّاهَا بِالصَّدَقَةِ الْمُضَادَّةِ لِلسَّرِقَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ - فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالرِّضَاءِ وَالْإِثَابَةِ، وَيَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ وَاسْمِهِ الرَّحِيمِ. وَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ التَّائِبِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِذَا قِيسَتِ السَّرِقَةُ عَلَى الْحَرَابَةِ وَالْإِفْسَادِ فَالْقَوْلُ بِسُقُوطِ الْحَدِّ ظَاهِرٌ إِنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، بَلْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ إِنْ بَقِيَ، وَإِلَّا دَفَعَ قِيمَتَهُ إِنْ قَدَرَ، وَلَا يَظْهَرُ لَنَا وَجْهٌ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِّ وَغَرَامَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ; فَإِنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللهِ تَعَالَى لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ عَامَّةً، وَالْمَالَ حَقُّ مَنْ سُرِقَ مِنْهُ خَاصَّةً. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ذَيْلًا لِهَذَا السِّيَاقِ بَيَّنَ فِيهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ الْقُلُوبَ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَرِ وَالْأَحْكَامِ، فَقَالَ مَا حَاصِلُ الْمُرَادِ مِنْهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا السَّامِعُ لِهَذَا الْخِطَابِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَكَانَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ اسْمِهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَنْ وَضَعَ هَذَا الْعِقَابَ لِكُلِّ مَنْ يَسْرِقُ مَا يُعَدُّ بِهِ سَارِقًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كَمَا وَضَعَ ذَلِكَ الْعِقَابَ لِلْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَمِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ أَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَرْحَمَهُ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوْبَةِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ ; فَهُوَ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ تَعْذِيبَهُ مِنَ الْجُنَاةِ؛ تَرْبِيَةً لَهُ وَتَأْمِينًا لِعِبَادِهِ مِنْ شَرِّهِ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ التَّائِبِينَ وَالْمُصْلِحِينَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ؛ تَرْغِيبًا لِعِبَادِهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهُمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالرَّحْمَةِ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ ; أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ هَذَا فَتَذَكَّرْهُ، وَذَكِّرْ بِهِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا، وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمُ الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ الَّذِي انْتَهَى بِبَيَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ كَانَ فِي مُحَاجَّتِهِمْ، وَمِنْهَا إِبْطَالُ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ، وَمَالِكُهُمِ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ

فَكَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَرَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ وَضْعِ اللهِ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَبَيَانِ مَا أَعَدَّهُ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ فِي الْآخِرَةِ، يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ الدَّلَائِلِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، يُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِالشَّرْعِ وَبِالْفِعْلِ كَمَا يُعَذِّبُ غَيْرَهُمْ، كَمَا يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ. وَتَشْهَدُ بِذَلِكَ شَرِيعَتُهُمْ ذَاتُ الْعُقُوبَاتِ الْقَاسِيَةِ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ، أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْأَمْرَاضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَذَابِ عَلَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ، خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْعَذَابِ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي رَدَّ اللهُ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ زَعْمَهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; إِذْ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (5: 18) وَحِكْمَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ هُنَا تَرْتِيبُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ بَيَانِ عِقَابِ السَّارِقِ أَوَّلًا، وَذِكْرِ تَوْبَتِهِ ثَانِيًا. فَهِيَ لَا تُنَافِي كَوْنَ الرَّحْمَةِ الْمُطْلَقَةِ سَابِقَةً وَمُقَدَّمَةً عَلَى الْعَذَابِ الْمُطْلَقِ. وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ وَأَمْثَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ التَّائِبِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَرْحَمَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَاطَ التَّعْذِيبَ وَالرَّحْمَةَ بِالْمَشِيئَةِ، وَرَتَّبَهُ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَ الْمُلْكِ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ، وَمَا حَسَّنَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَاسْتِنْبَاطَ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ لَهُ إِلَّا تَوَجُّهُ ذَكَائِهِمْ وَفَهْمِهِمْ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ; أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِعِبَادِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بِنَصِّهِ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَقَلِيلُ الْأَدَبِ ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنْ هُنَالِكَ سُلْطَانًا فَوْقَ سُلْطَانِ اللهِ، سُبْحَانَهُ، يُوجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْكِرُوا وَلَا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَشَاءُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِيًا لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَا لِتَقْيِيدِ مَشِيئَتِهِ بِسُلْطَةِ سِوَاهُ، وَلَا هُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعَطِّلَةً لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذًا لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُلْكِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَالِكُ حَسَنًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ ; إِذِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَمْلِكُ عِدَّةَ عَبِيدٍ، فَيَظْلِمُ الْمُحْسِنَ مِنْهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهُ، وَيُحْسِنُ إِلَى الْفَاسِقِ الْمُسِيءِ الْمُفْسِدِ فِي دَارِهِ وَمُلْكِهِ، يُعَدُّ ظَالِمًا مَذْمُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلُغَةً وَعُرْفًا، وَأَمَّا كَوْنُ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ وَحَسَنٌ، فَلَيْسَ سَبَبُهُ أَنَّهُ الْمَالِكُ، وَكَوْنُ الْمَالِكِ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي مُلْكِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالنَّقْصِ، مُتَّصِفٌ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَتَقْدِيسُهُ وَتَنْزِيهُهُ وَكَمَالُهُ يَتَجَلَّى فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا لَا فِي اسْمِ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ وَالْمُرِيدِ فَحَسْبُ.

41

وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ - بَدْوُهَا وَحَضَرُهَا - تَفْهَمُ مِنْ وَضْعِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَمْثَالُ الرَّازِيِّ عَلَى إِمَامَتِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ السَّرِقَةِ، قَالَ: " قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ أَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَمَعِي أَعْرَابِيٌّ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ ; فَقُلْتُ: " وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " سَهْوًا، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: كَلَامُ اللهِ، قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَدْتُ: " وَاللهٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ "، ثُمَّ تَنَبَّهْتُ، فَقُلْتُ: (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَقَالَ: الْآنَ أَصَبْتَ، فَقُلْتُ: كَيْفَ عَرَفْتَ؟ قَالَ: يَا هَذَا (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ، فَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لَمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ. انْتَهَى. فَقَدْ فَهِمَ الْأَعْرَابِيُّ الْأُمِّيُّ أَنَّ مُقْتَضَى الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ غَيْرُ مُقْتَضَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَضَعُ كُلَّ اسْمٍ مَوْضِعَهُ مِنْ كِتَابِهِ ; لِيَدُلَّ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَمْ يَتَأَمَّلِ الرَّازِيُّ فِي كَلَامِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ مِنْ وَجْهِ بَلَاغَةِ الْمُنَاسَبَاتِ فَقَطْ. وَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَغْفُلُ وَلَا يَذْهَلُ، وَلَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى. (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) .

أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " إِنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَيُخْزَيَانِ. قَالَ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (3: 93) فَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ، وَجَاءُوا بِقَارِئٍ لَهُمْ - وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ زِيَادَةُ: " أَعْوَرَ " يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَا - فَقَرَأَ حَتَّى إِذَا أَتَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا هِيَ تَلُوحُ (أَيْ آيَةُ الرَّجْمِ) فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ فِيهَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَتَكَاتَمُهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجْنَأُ عَلَيْهَا (أَيْ يَنْحَنِي) يَقِيهَا الْحِجَارَةَ بِنَفَسِهِ " وَلَفْظُ مُسْلِمٍ " نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا " (وَهُوَ بِمَعْنَى التَّسْخِيمِ هُنَا وَالتَّحْمِيمِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ; فَالْأَوَّلُ مِنَ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ، وَالثَّانِي مِنَ الْحُمَّةِ وَهِيَ الْفَحْمَةُ) وَنَحْمِلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا ; أَيْ نُرْكِبُهُمَا وَنَجْعَلُ وُجُوهَهُمَا إِلَى مُؤَخَّرِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ ; أَيِ الْفَضِيحَةِ. وَفِيهَا أَنَّ الَّذِي أَمَرَ الْقَارِئَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: اللهُمَّ لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ "، وَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (5: 44) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5: 45) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (5: 47) . قَالَ: هِيَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا. هَذَا أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَهَاكَ تَفْسِيرُهَا: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الْخِطَابُ بِوَصْفِ الرَّسُولِ تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي، وَمِثْلُهُ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (66: 1) وَوَرَدَ فِي بِضْعِ سُوَرٍ. وَفِي هَذَا التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ

تَعْلِيمٌ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ بِاسْمِهِ وَالْأَمْرَ بِأَنْ يُخَاطِبُوهُ بِوَصْفِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَجَهِلَ هَذَا الْأَدَبَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ ; لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَذَاجَةِ الْبَادِيَةِ وَخُشُونَتِهَا، فَكَانُوا يُنَادُونَهُ بِاسْمِهِ " يَا مُحَمَّدُ " حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) (24: 63) فَلَمْ يَعُدْ إِلَى دُعَائِهِ بِاسْمِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفَلُونَ عَنْ هَذَا، فَيُكَرِّرُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَلِمَةَ " يَا مُحَمَّدُ " عِنْدَ تَفْسِيرِهِمْ لِخِطَابِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِمِثْلِ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (108: 1) وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَأَخَذَهُ عَنْهُمْ قُرَّاءُ التَّفْسِيرِ، فَيَكَادُونَ يَقُولُونَهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ خِطَابٍ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ النِّدَاءُ فِي الْكِتَابِ. وَالْحُزْنُ ضِدَّ السُّرُورِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ آلَامِ النَّفْسِ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ فَوْتِ مَا يُحِبُّهُ، وَيُسْتَعْمَلُ الْفِعْلُ الثُّلَاثِيُّ مِنْهُ مُتَعَدِّيًا بِـ " عَلَى " كَحَزِنَ فُلَانٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَمُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ ; كَحَزَنَهُ الْأَمْرُ، وَهَذِهِ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَتَمِيمٌ تُعَدِّيهِ بِالْهَمْزَةِ فَتَقُولُ: أَحْزَنَهُ مَوْتُ وَلَدِهِ، وَالْحُزْنُ مَذْمُومٌ طَبْعًا وَشَرْعًا مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ ; وَلِهَذَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَجَعَلَ التَّجَرُّدَ مِنْهُ وَمِنْ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ فَرَحُ الْبَطَرِ وَالْخِفَّةِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ، غَايَةً لِكَمَالِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (57: 23) . وَأَمَّا الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالْحَقِّ وَالْفَضْلِ، دُونَ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَهُوَ مَحْمُودٌ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (10: 58) كَمَا أَنَّ حُزْنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ عَنْ مَوْتِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْفِطْرِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، لَا مَا تَكَلَّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ لَوَازِمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحُزْنَ أَلَمٌ طَبِيعِيٌّ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ فَوْتِ مَا يُحِبُّهُ، وَلَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا؛ فَكَيْفَ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحُزْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُخْتَارِينَ، فَتَكُونُ مُحَرِّكَةً لِذَلِكَ الْأَلَمِ وَمُجَدِّدَةً لَهُ وَمُبْعِدَةً أَمَدَ السَّلْوَى، وَالْأَمْرُ بِضِدِّهَا مِنْ تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَشْغَلُ النَّفْسَ وَتَصْرِفُهَا عَنِ التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا حَزِنَتْ لِأَجْلِهِ احْتِسَابًا وَرِضَاءً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ تَكُونُ بَدَنِيَّةً نَفْسِيَّةً، وَتَكُونُ نَفْسِيَّةً فَقَطْ أَوْ بَدَنِيَّةً فَقَطْ، وَفَسَّرُوهُ هُنَا بِقَوْلِهِمْ: أَيْ لَا تَهْتَمَّ، وَلَا تُبَالِ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ; أَيْ فِي إِظْهَارِهِ بِالتَّحَيُّزِ إِلَى أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ عِنْدَمَا تَسْنَحُ لَهُمُ الْفُرْصَةُ، وَيَجِدُونَ قُوَّةً يَعْتَصِمُونَ بِهَا مِنَ التَّبِعَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَكْفِيكَ شَرَّهُمْ، وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ يَتَشَيَّعُونَ لَهُمْ. وَلِلنَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ عَادَاتٌ رَدِيئَةٌ، وَأَعْمَالٌ سَخِيفَةٌ ضَارَّةٌ، تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْبَشَرِ وَالسُّخْطِ عَلَى الْقَدَرِ، وَمُعْظَمُ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَذُمُّونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الدِّينُ، وَقَدْ قُلْتُ فِي مَرْثِيَّةٍ نَظَمْتُهَا فِي أَيَّامِ طَلَبِ الْعِلْمِ، نَاهِيًا ذَامًّا مَا اعْتِيدَ مِنْ شَعَائِرَ الْحُزْنِ:

أَطَبِيعَةٌ ذَا الْحُزْنِ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ ... نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْدَعَتْهُ شَرَائِعُ الْـ ... أَدْيَانِ مِنْ هَدْيٍ لَنَا وَرَشَادِ أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى ... كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ كَلَّا فَلَيْسَ الْأَمْرُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ ... لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ فَاخْلَعْ جَلَابِيبَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ ... لَيْسَتْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ يُقَالُ: سَارِعْ إِلَى الشَّيْءِ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (3: 133) وَسَارِعْ فِي الشَّيْءِ (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (33: 61) فَالْمُسَارِعُ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسْرِعُ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، وَالْمُسَارِعُ فِي الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسْرِعُ فِي أَعْمَالِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ انْتِقَالًا بِسُرْعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، بَلْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي ظَرْفِ الْكُفْرِ، مُحِيطًا بِهِمْ سُرَادِقُهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلُوا سِرَاعًا مِنْ حَيِّزِ الْإِخْفَاءِ لَهُ وَالْكِتْمَانِ إِلَى حَيِّزِ الْمُصَارَحَةِ وَالْإِعْلَانِ، كَالَّذِي يَنْتَقِلُ فِي الْبَيْتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَقْفِ هُنَا، هَلْ يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلُوبُهُمْ) أَمْ قَوْلِهِ: (هَادُوا) ؟ أَمَّا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَقْدِيرُهَا: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا (أَيِ الْيَهُودِ) قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. . . إِلَخْ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ عَلَى الثَّانِي فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ ; أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. . . إِلَخْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا مُنَافِقُو الْيَهُودِ ; فَيَكُونُ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَامَّةً، الَّذِينَ أَظْهَرُو الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَالَّذِينَ ظَلُّوا عَلَى دِينِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوَّلِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ عَلَى قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هَلْ هُوَ وَصْفٌ لِلْفَرِيقَيْنِ أَمْ لِأَحَدِهِمَا؟ أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (سَمَّاعُونَ) . . . إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِلْكَذِبِ) فِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهَا لِلتَّقْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ كَثِيرًا سَمَاعَ قَبُولٍ، أَوْ يَقْبَلُونَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَذِبِ: مَا يَقُولُهُ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَحْكَامِ الدِّينِ الَّتِي يَتَلَاعَبُونَ فِيهَا بِأَهْوَائِهِمْ. (وَثَانِيهَا) : أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَثِيرُو الِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ

لِأَجْلِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيفِ وَاسْتِنْبَاطِ الشُّبُهَاتِ، فَهُمْ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُبَلِّغُونَ رُؤَسَاءَهُمْ وَسَائِرَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ كُلَّ مَا يَقِفُونَ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ مَقْبُولًا ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وَقَائِعَ وَمَسَائِلَ وَاقِعَةٍ يَزِيدُونَ فِي رِوَايَاتِهَا وَيُنْقِصُونَ، وَيُحَرِّفُونَ مِنْهَا مَا يُحَرِّفُونَ، وَمَنْ يَكْذِبُ عَلَيْكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنْ أَمْرِكَ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَ كَذِبَهُ مَرْجُوَّ الْقَبُولِ كَمَنْ يَعْرِفُ، بَلْ يَظْهَرُ اخْتِلَاقُهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلِهَذَا تَرَى الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْرَءُونَ بَعْضَ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَبْنُوا أَكَاذِيبَهُمْ عَلَى مَسَائِلَ مَعْرُوفَةٍ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ فِيهَا عَنْ مَوَاضِعِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي وَصْفِ هَؤُلَاءِ، كَالَّذِي افْتَرَوْهُ فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْوَقَائِعِ وَالْأَخْبَارِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أَيْ لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَذَوِي الْكَيْدِ فِيهِمْ، أَوْ مِنْ أَعْدَائِكَ مُطْلَقًا، لَمْ يَأْتُوكَ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ بِآذَانِهِمْ ; إِمَّا كِبْرًا وَتَمَرُّدًا، وَإِمَّا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مُعْلِنُونَ لِلْعَدَاوَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (وَمِنَ الَّذِينَ هَادَوْا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قَالَ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ. (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) الْجَلْدَ (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الرَّجْمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) فَمَعْنَاهُ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِ وَضْعِهِ فِي مَوَاضِعِهِ ; إِمَّا تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ، أَوْ بِإِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَإِمَّا تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أَيْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَرْسَلُوهُمْ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا مِنْهُمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَابُوهُمَا بِعَدَمِ رَجْمِهِمَا: إِنْ أُعْطِيتُمْ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدٍ رُخْصَةً بِالْجَلْدِ عِوَضًا عَنِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ وَارْضَوْا بِهِ، وَإِنْ لَمْ تُعْطَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِأَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ فَاحْذَرُوا قَبُولَ ذَلِكَ وَالرِّضَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزُّنَاةِ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، وَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَ كَذِبُهُمْ وَعَبَثُهُمْ بِكِتَابِ شَرِيعَتِهِمْ. وَالْإِيتَاءُ وَالْإِعْطَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي كَغَيْرِهَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْعَابِثِينَ بِدِينِهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَيْ وَمَنْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُخْتَبَرَ فِي دِينِهِ فَيُظْهِرَ الِاخْتِبَارُ كُفْرَهُ وَضَلَالَهُ، كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ وَالزَّغَلِ، فَلَنْ تَمْلِكَ

أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالرُّشْدِ، كَمَا أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُحَوِّلَ النُّحَاسَ إِلَى الذَّهَبِ ; لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَبَدَّلُ فِي مَعَادِنِ النَّاسِ، وَلَا فِي مَعَادِنِ الْأَرْضِ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُجَاحِدُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ أَظْهَرَتْ لَكَ فِتْنَةُ اللهِ وَاخْتِبَارُهُ إِيَّاهُمْ دَرَجَةَ فَسَادِهِمْ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ دُونَ الْحَقِّ، وَأَنَّ إِظْهَارَ بَعْضِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَرُؤْيَتَهُمْ لِحُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَلَاحِهِمْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَرَأَيْتَ كَيْفَ طَوَّعَتْ لِلْآخَرِينَ أَنْفُسُهُمُ التَّحْرِيفَ وَالْكِتْمَانَ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ ; اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَمَرْضَاةً لِأَغْنِيَائِهِمْ. فَلَا تَحْزُنْكَ بَعْدَ هَذَا مُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَلَا تَطْمَعْ فِي جَذْبِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ ; فَإِنَّكَ لَا تَمْلِكُ لِأَحَدٍ هِدَايَةً وَلَا نَفْعًا، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (3: 128) وَلَا تَخَفْ عَاقِبَةَ نِفَاقِهِمْ؛ فَإِنَّمَا الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَهُمُ الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنَّ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَتْ مِنْهُمُ الْفِتْنَةُ هَذَا الْحَدَّ هُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَعَلَّقْ إِرَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ; لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ وَسُنَنُهُ الْعَادِلَةُ، وَمِنْ سُنَنِهِ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ وَأَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا إِذَا جَرَتْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَنَشَأَتْ عَلَى الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ، وَاعْتَادَتِ اتِّخَاذَ دِينِهَا شَبَكَةً لِشَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا، وَمَرَدَتْ عَلَى الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ، وَأَلِفَتْ عَصَبِيَّةَ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ مَلَكَاتِهَا الثَّابِتَةِ وَأَخْلَاقِهَا الْمَوْرُوثَةِ الثَّابِتَةِ، تُحِيطُ بِهَا خَطِيئَتُهَا، وَتُطْبِقُ عَلَيْهَا ظُلْمَتُهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى لِنُورِ الْحَقِّ مَنْفَذٌ يَنْفُذُ مِنْهُ إِلَيْهَا ; فَتَفْقِدُ قَابِلِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِبْصَارِ فِي تَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ، وَهَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءُ وَأَعْوَانُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ صُبُّوا فِي قَوَالِبَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ صَبًّا، فَلَا تَقْبَلُ طَبَائِعُهُمْ سِوَاهَا قَطْعًا، فَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا طَبَعَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَطْهِيرَ قُلُوبِهِمْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، إِبْطَالٌ لِلْقَدَرِ، وَتَبْدِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنَ السُّنَنِ، وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، لَا أَمْرًا أُنُفًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَبْدِيلًا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمَخْذُولِينَ وَجَزَاءَهُمْ، فَقَالَ: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فَأَمَّا الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ فَأَمْرُهُ مَعْلُومٌ، وَكُنْهُهُ مَجْهُولٌ، وَأَمَّا خِزْيُ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْفَضِيحَةِ وَهَوَانِ الْخَيْبَةِ عِنْدَ مَا يَنْكَشِفُ نِفَاقُهُمْ وَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُمْ، وَيَعْلُو الْحَقُّ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ وَعِيدُ اللهِ تَعَالَى بِهَذَا الْخِزْيِ عَلَى يَهُودِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ، كَمَا يَصْدُقُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى مَنْ يُفْسِدُونَ كَفَسَادِهِمْ، فَيَفْشُو فِيهِمُ الْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ، وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ فَسَادُ الْأَخْلَاقِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ الِانْتِسَابُ إِلَى نَبِيٍّ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِكِتَابٍ لَمْ يُقِيمُوهُ ; فَإِنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لَمْ يُوَجَّهْ إِلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ لِذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ ; فَذَوَاتُهُمْ كَسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَلَا لِنَسَبِهِمْ

42

وَأَرُومَتِهِمْ ; فَنَسَبُهُمْ أَشْرَفُ الْأَنْسَابِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ عَلَى فَسَادِ الْقُلُوبِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ فَسَادُ الْأَعْمَالِ، فَمَا بَالُ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ أَوِ السِّيَاسِيِّينَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِمَا كَانَ مِنْ خِزْيِ الْيَهُودِ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ سُنَّةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَبِمَا حَلَّ مِنْ وَعِيدِ اللهِ بِهِمْ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ حِرْصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِصْدَاقَهُ بِأَعْيُنِهِمْ، أَفَلَا يُقِيمُونَ الْقُرْآنَ بِالِاعْتِبَارِ بِنُذُرِهِ، وَالْحَذَرِ مِمَّا حَذَّرَ مِنْهُ؟ ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِهِمْ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أَعَادَ وَصْفَهُمْ بِكَثْرَةِ سَمَاعِ الْكَذِبِ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ وَالتَّمْهِيدِ لِمَا بَعْدَهُ - كَمَا قَالُوا - وَالْإِعَادَةُ لِلتَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْمَعْنَى وَإِفَادَةِ اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، مِمَّا يَنْبَعِثُ عَنِ الْغَرِيزَةِ، وَيُعْرَفُ التَّأْثِيرُ وَالتَّأَثُّرُ بِهِ مِنَ الطَّبِيعَةِ، وَلَعَلَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْبَشَرِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ " اللَّامَ " فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّقْوِيَةِ يَنْتَفِي التَّكْرَارُ ; إِذِ الْمَعْنَى هُنَاكَ: يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَجِدُوا مَجَالًا لِلْكَذِبِ، يُنَفِّرُونَ النَّاسَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهُمْ يَسْمَعُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ سَمَاعَ قَبُولٍ، فَهُمْ يَكْذِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَكْذِبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَقْبَلُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمْرُهُمْ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ شَرُّ الرَّذَائِلِ وَأَضَرُّ الْمَفَاسِدِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ، تَلُوذُ بِالْكَذِبِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَتَرَى أَنَّهَا تَدْرَأُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا مَا تَتَوَقَّعُ مِنْ ضُرٍّ. وَكَذَلِكَ يَفْشُو فِيهَا أَكْلُ السُّحْتِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ بِالْمُحَابَاةِ، وَتَأْلَفُ الدَّنَاءَةَ، وَتُؤْثِرُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ. فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّحْتَ بِالرِّشْوَةِ فِي الدِّينِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَعَلِيٌّ بِالرِّشْوَةِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْكُفْرُ، وَقَالَ عُمَرُ: بَابَانِ مِنَ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ ; الرِّشَا فِي الْحُكْمِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ ; فَأَفَادَ أَنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالرِّشْوَةِ الْمُطْلَقَةِ أَوِ الْمُقَيَّدَةِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ نُزُولِهَا فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، لَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْعَامُّ. وَقِيلَ: السُّحْتُ: الْحَرَامُ مُطْلَقًا، أَوِ الرِّبَا، أَوِ الْحَرَامُ الَّذِي فِيهِ عَارٌ وَدَنَاءَةٌ كَالرِّشْوَةِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الَّذِي اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَحَتَهُ، وَأَسْحَتَهُ بِمَعْنَى اسْتَأْصَلَهُ بِالْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ) (20: 61) . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالسُّحْتِ مَا يُسْحِتُ الدِّينَ وَالشَّرَفَ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، أَوْ لِسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَثَرِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ: شِدَّةُ الْجُوعِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ: إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يَكَادُ يُرَى إِلَّا جَائِعًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَامَ، أَوِ الْكَسْبَ الدَّنِيءَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الشَّرَهُ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: " السُّحَتِ "، بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا مَعًا. لِسَانُ الْعَرَبِ: السُّحْتُ وَالسُّحُتُ: كُلُّ حَرَامٍ قَبِيحُ الذِّكْرِ، وَقِيلَ :

مَا خَبُثَ مِنَ الْمَكَاسِبِ وَحَرُمَ، فَلَزِمَ عَنْهُ الْعَارُ وَقَبِيحُ الذِّكْرِ، كَثَمَنِ الْكَلْبِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَسَحَتَ الشَّيْءَ يَسْحَتُهُ، كَفَتَحَ يَفْتَحُ، قَشَرَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَسَحَتُّ الشَّحْمَ عَنِ اللَّحْمِ: قَشَرْتُهُ عَنْهُ مِثْلُ سَحَفْتُهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: سَحَتَ رَأْسَهُ سَحْتًا وَأَسْحَتَهُ: اسْتَأْصَلَهُ حَلْقًا. وَأَسْحَتَ مَالَهُ: اسْتَأْصَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالسَّحْتُ - بِالْفَتْحِ - شِدَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَرَجُلُ سُحْتٌ - بِالضَّمِّ - وَسَحِيتٌ وَمَسْحُوتٌ: رَغِيبٌ وَاسِعُ الْجَوْفِ، لَا يَشْبَعُ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنَ اللِّسَانِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى السُّحْتِ: إِزَالَةُ الْقِشْرِ عَنِ الْعُودِ بِالتَّدْرِيجِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَقُولُ: أَسْحَتُّ الشَّيْءَ، إِلَّا إِذَا اسْتَأْصَلَهُ بِالْقِشْرِ، وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ مَعْنَى عَدَمِ الشِّبَعِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ; كَأَنَّ الْمَعِدَةَ لِسُرْعَةِ هَضْمِهَا تَسْتَأْصِلُ الطَّعَامَ. وَسُمِّيَ الْكَسْبُ الْخَسِيسُ وَالْحَرَامُ سُحْتًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَأْصِلُ الْمُرُوءَةَ أَوِ الدِّينَ، وَالرِّشْوَةُ تَسْتَأْصِلُ الثَّرْوَةَ، وَتُفْسِدُ أَمْرَ الْمُعَامَلَةِ، وَتَسْتَبْدِلُ الطَّمَعَ بِالْعِفَّةِ، وَكَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَذَّابِينَ أَكَّالِينَ لِلسُّحْتِ مِنَ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَسَائِسِ، كَدَأْبِ سَائِرِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا، وَقَدْ صَارَتْ حَالُهُمُ الْآنَ أَحْسَنَ مَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَعِيبُونَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ. وَمِنْ عَجَائِبَ غَفْلَةِ الْبَشَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَعِيبَكَ أَحَدُهُمْ بِنَقِيصَةٍ يَنْسِبُهَا إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِكَ الْغَابِرِينَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّكَ عَارٍ عَنْهَا، أَوْ مُتَّصِفٌ بِالْمَحْمَدَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِنَقِيصَةِ جَدِّكَ الَّتِي يَعِيبُكَ بِهَا! ! فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَعُدُّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيهِمْ، وَكَثِيرًا مِنْ حُكَّامِهِمُ الشَّرْعِيِّينَ وَالسِّيَاسِيِّينَ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا، وَيَقْبَلُونَ الْكَذِبَ، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ; لِيَشْهَدُوا لَهُمْ زُورًا بِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَيُعْطُونَهُمْ مَا يُسَمُّونَهُ " شَهَادَةَ الْعَالِمِيَّةِ " كَمَا يَمْنَحُهُمْ حُكَّامُهُمُ الرُّتَبَ الْعِلْمِيَّةَ، وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ مَرَّةً عَلَى شَيْخِنَا الْإِمَامِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ جُنَيْهًا ; لِيُسَاعِدَهُ فِي امْتِحَانِ شَهَادَةِ الْعَالِمِيَّةِ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلِامْتِحَانِ وَلَا أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْأُسْتَاذُ نَفْسَهُ مِنْ الِانْفِعَالِ أَنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَقَالَ: أَتَطْلُبُ مِنِّي فِي هَذِهِ السِّنِّ أَنْ أَغُشَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ لِتُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ بِجَهْلِكَ، بِهَذِهِ الْجُنَيْهَاتِ الْحَقِيرَةِ فِي نَظَرِي الْعَظِيمَةِ فِي نَظَرِكَ، وَأَنَا الَّذِي لَمْ أَتَدَنَّسْ فِي عُمْرِي، حَتَّى وَلَا بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ أَنْقَذْتُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ؟ ! وَلَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَتَسَاهَلُ فِي هَذَا لَكُنْتُ مِنْ أَوْسَعِ النَّاسِ ثَرْوَةً. أَوْ مَا هَذَا مُؤَدَّاهُ. (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أَيْ فَإِنْ جَاءُوكَ مُتَحَاكِمِينَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهِمْ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّخْيِيرِ أَهْوَ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ - وَهِيَ حَدُّ الزِّنَا: هَلْ هُوَ الْجَلْدُ أَوِ الرَّجْمُ، أَوْ دِيَةُ

الْقَتِيلِ؛ إِذْ كَانَ بَنُو النَّضِيرِ يَأْخُذُونَ دِيَةً كَامِلَةً عَلَى قَتْلَاهُمْ لِقُوَّتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ يَأْخُذُونَ نِصْفَ دِيَةٍ لِضَعْفِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً - أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ ; إِذْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ مُعَاهَدِينَ، أَمِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْقَضَايَا مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ الْمُرَجَّحُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ هُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ مُخَيَّرُونَ، يُرَجِّحُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مِنْ زَعْمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْ عُمُومِهَا التَّخْيِيرُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّخْيِيرَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) (5: 49) وَنَقُولُ: لَا يُعْقَلُ أَنْ تَنْزِلَ آيَاتٌ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَيَكُونُ بَعْضُهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْآيَةُ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقِسْطِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. (وَإِنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرَضْتَ، وَلَمْ تَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَإِنْ سَاءَتْهُمُ الْخَيْبَةُ وَفَاتَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنْ خِفَّةِ الْحُكْمِ وَسُهُولَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلتَّخْيِيرِ. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ; أَيِ الْعَدْلِ، لَا بِمَا يَبْغُونَ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَبَيَّنَّا مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 135 مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (ص370 - 373 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص226 - 227 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُقْسِطُونَ هُمُ الْمُقِيمُونَ لِلْقِسْطِ بِالْحُكْمِ بِهِ أَوِ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ فِي تَفْسِيرِ (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (4: 58) فَيُرَاجَعُ فِي الْمَنَارِ (ص139 - 145 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) . (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِبَيَانِ حَالٍ مَنْ أَغْرَبِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَيَتَحَاكَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; أَيْ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ فِي قَضِيَّةٍ كَقَضِيَّةِ الزَّانِيَيْنِ، أَوْ قَضِيَّةِ الدِّيَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ، الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُمْ، فِيهَا حُكْمُ اللهِ فِيمَا يُحَكِّمُونَكَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ أَنْ رَضُوا بِهِ، وَآثَرُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ ; لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا؟ أَيْ إِذَا فَكَّرْتَ فِي هَذَا رَأَيْتَهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِمَّنْ جَاءَ فِيهِمْ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ) (45: 23)

فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ بِشَرْعٍ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا آمَنَ بِأَنَّ مَا رَغِبَ إِلَيْهِ شَرْعٌ مِنَ اللهِ أَيْضًا أَيَّدَ بِهِ الْأَوَّلَ، أَوْ نَسَخَهُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ عِبَادِهِ. وَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهَا وَاتِّبَاعَهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ، وَجَاءُوكَ يَطْلُبُونَ حُكْمَكَ رَجَاءَ أَنْ يُوَافِقَ هَوَاهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وَيُعْرِضُونَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ. فَمَا هُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَلَا بِمَنْ أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى التَّوْرَاةَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَقَدْ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَقَدْ يَظُنُّونَ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ يَقِينًا فِي الْقَلْبِ، يَتْبَعُهُ الْإِذْعَانُ بِالْفِعْلِ، وَيُتَرْجِمُ عَنْهُ اللِّسَانُ بِالْقَوْلِ، وَلَكِنَّ اللِّسَانَ قَدْ يَكْذِبُ عَنْ عِلْمٍ وَعَنْ جَهْلٍ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَذْعَنَ، وَمَنْ أَذْعَنَ عَمِلَ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِذْعَانِيُّ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمُصَرِّفَةُ لِلْجَوَارِحِ فِي الْأَعْمَالِ. أَمَّا حُكْمُ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الزُّنَاةِ، قَالَ فِي الْفَصْلِ 22 سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ عَذْرَاءَ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا تُرْجَمُ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا: (22 إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، الرَّجُلُ الْمُضْطَجِعُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ 23 إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَارْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا، الْفَتَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَصْرُخْ فِي الْمَدِينَةِ، وَالرَّجُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ) ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامًا أُخْرَى فِي الزِّنَا، مِنْهَا قَتْلُ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ، وَمِنْهَا دَفْعُ غَرَامَةٍ، وَالتَّزْوِيجُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا. وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى كَوْنِ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْيَهُودِ، هِيَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى، لَمْ يَعْرِضْ لَهَا تَغْيِيرٌ وَلَا تَحْرِيفٌ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَأُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَرُدُّونَ مَا يُخَالِفُهَا جَدَلًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، فَالْكِتَابُ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ ; أَيِ الشَّرِيعَةُ، وَأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَبَيَّنَ لَنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؛ إِذْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ وَأَضَاعُوهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَمَّا خَرَجَتْ أُمَّةُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، وَعَرَفُوا تَارِيخَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ; كَالْبَابِلِيِّينَ، ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ; إِذْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ فَقَدُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوهَا، وَإِنَّمَا كَتَبَ لَهُمْ بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ مَا حَفِظُوهُ مِنْهَا، مَمْزُوجًا بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُثْبِتُ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمِنْهُ تَفْسِيرُ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَفْسِيرُ الْآيَاتِ 13 - 15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

44

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ سِيَاقِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهَا بَيَانُ كَوْنِ التَّوْرَاةِ كَانَتْ هِدَايَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْرَضُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا ; لِمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَبَيَانُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ ذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَمَزِيَّتِهِ وَحِكْمَةِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالِاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَهْلَ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يُقِيمُوهُ ; إِذْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ هِدَايَتِهِ وَنُورِهِ إِلَّا بِإِقَامَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ إِيثَارَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى هِدَايَةِ دِينِهِمْ هُوَ الَّذِي أَعْمَاهُمْ عَنْ نُورِ الْقُرْآنِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) أَيْ إِنَّا نَحْنُ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مُشْتَمِلَةً عَلَى هُدًى فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، خَرَجَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ وَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيِّينَ وَضَلَالِهِمْ، وَعَلَى نُورٍ أَبْصَرُوا

بِهِ طَرِيقَ الِاسْتِقْلَالِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا) أَنْزَلْنَاهَا قَانُونًا لِلْأَحْكَامِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ - مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - طَائِفَةً مِنَ الزَّمَانِ، انْتَهَتْ بِبَعْثَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْجَمِيعِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْدَثَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ أَسْبَابِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مُبِينٌ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينِ هَادُوا - أَيِ الْيَهُودِ خَاصَّةً - لِأَنَّهَا شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ لَا عَامَّةٌ ; وَلِذَلِكَ قَالَ آخِرُهُمْ عِيسَى: لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى مِنْ دُونِهَا شَرِيعَةٌ (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) أَيْ وَيَحْكُمُ بِهَا الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ فِي الْأَزْمِنَةِ أَوِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَنْبِيَاءُ أَوْ مَعَهُمْ بِإِذْنِهِمْ، وَالرَّبَّانِيُّونَ هُمُ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى الرَّبِّ، إِمَّا بِمَعْنَى الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لِأَمْرِ الْمُلْكِ ; لِأَنَّهُمْ يُعْنَوْنَ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّهْذِيبِ الرُّوحَانِيِّ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَصْدَرِ رَبَّهَ يَرُبُّهُ؛ أَيْ رَبَّاهُ ; لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَنْفُسَهُمْ ثُمَّ غَيْرَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَأَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَهُمْ كِبَارُ كَهَنَتِهِمْ مِنَ اللَّاوِيِّينَ الصَّالِحِينَ. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ الْعَالِمُ. وَمَادَّةُ حَبَرَ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَسُرُّ النَّاسَ، وَشِعْرٌ مُحَبَّرٌ: مُزَيَّنٌ بِنُكَتِ الْبَلَاغَةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَثَوْبٌ مُحَبَّرٌ: مُزَيَّنٌ بِالنُّقُوشِ أَوِ الْوَشْيِ الْجَمِيلِ. وَمِنْهُ بُرْدٌ حِبَرَةٌ (بِالْكَسْرِ) وَحَبِيرٌ، وَهُوَ ثَوْبٌ ذُو خُطُوطٍ بِيضٍ وَسُودٍ أَوْ حُمْرٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحَبْرِ عَلَى الْعَالِمِ مَأْخُوذًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحِبْرُ - بِالْكَسْرِ - الْأَثَرُ الْمُسْتَحْسَنُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَبْرُ الْعَالِمُ، وَجَمْعُهُ أَحْبَارٌ ; لِمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ عُلُومِهِمْ، اهـ. وَأُطْلِقَ لَقَبُ حَبْرُ الْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الرَّبَّانِيِّ عَلَى عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي عِنْدَ ذِكْرِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ عِنْدَنَا، وَالْأَحْبَارَ عِنْدَهُمْ كَعُلَمَاءِ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرَّبَّانِيُّونَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ الْبُصَرَاءُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ. وَأَمَّا الْأَحْبَارُ فَإِنَّهُمْ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمُحْكِمُ لِلشَّيْءِ. وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ، وَهُوَ إِلَى اللُّغَةِ أَقْرَبُ. وَالتَّوْرَاةُ مُؤَنَّثَةُ اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهَا الشَّرِيعَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِهَا بِسَبَبِ مَا أُودِعُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، وَطُلِبَ مِنْهُمْ حِفْظُهُ ; أَيْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ - مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُ - أَنْ يَحْفَظُوهُ وَلَا يُضَيِّعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَنَاهِيكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى بِأَمْرِ اللهِ عَلَى شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ أَنْ يَحْفَظُوهَا وَلَا يَتَحَوَّلُوا عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَاقِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَأَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ، وَلَمْ يُوفُوا بِهِ،

وَقَدْ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: إِنَّهُمُ اسْتُحْفِظُوا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ حَفِظُوا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أَيْ كَانَ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُونَ رُقَبَاءَ عَلَى الْكِتَابِ، وَعَلَى مَنْ يُرِيدُ الْعَبَثَ بِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ، أَوْ شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ شَرْعُ اللهِ تَعَالَى لَا كَمَا فَعَلَ خَلْفُهُمْ مِنْ كِتْمَانِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ ; اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، أَوْ خَوْفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِنْ أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُدُودَهُ، وَطَمَعًا فِي بِرِّهِمْ إِذَا حَابَوْهُمْ فِيهَا، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كِتْمَانُهُمْ صِفَةَ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَالْبِشَارَةَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ: وَكَانُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ الْمُوَافِقِ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ فِي حَدِّ الزِّنَا شُهَدَاءَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ - إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ - أَنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ صِفَاتِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الصَّالِحِينَ ; تَعْرِيضًا بِجُمْهُورِ الْخَلَفِ الصَّالِحِينَ، وَلِذَلِكَ شَهِدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ - وَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ خِيَارِهِمْ - وَكَذَا غَيْرُهُ بِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ رَجْمُ الزَّانِي ; تَصْدِيقًا وَتَأْيِيدًا لِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَصَّهُ مِنْ سِيرَةِ سَلَفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الصَّالِحِ، بَعْدَ بَيَانِ سُوءِ سِيرَةِ الْخَلَفِ الَّذِينَ خَلَفُوا بَعْدَهُمْ، مُخَاطِبًا رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، لَا يَخَافُونَ اللهَ فِي الْكِتْمَانِ وَالتَّبْدِيلِ. (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَا لَا تُنْكِرُونَهُ كَمَا تُنْكِرُونَ غَيْرَهُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ سِيرَةِ سَلَفِكُمْ، فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْكِتَابِ خَوْفًا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَرَجَاءً فِي بَعْضٍ، وَاخْشَوْنِي وَحْدِي، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِي (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أَيْ لَا تَتْرُكُوا بَيَانَهَا، وَالْعَمَلَ وَالْإِفْتَاءَ وَالْحُكْمَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أَيْ وَكُلُّ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِهَوَاهُ أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْإِذْعَانَ، وَالْإِذْعَانُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ وَيُنَافِي الِاسْتِقْبَاحَ وَالتَّرْكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَمُؤَيِّدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثُمَّ جَاءَ بِمِثَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَقَالَ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) أَيْ وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ أَوْ تُقْتَلُ بِالنَّفْسِ إِذَا قَتَلَتْ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَّرَ الْجُمْهُورُ مَقْتُولَةٌ أَوْ مُقْتَصَّةٌ بِهَا، وَالْعَيْنَ تُفْقَأُ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ يُجْدَعُ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ تُصْلَمُ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ تُقْلَعُ بِالسِّنِّ ; أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ الْمُتَمَاثِلَةَ هِيَ كَالنَّفْسِ فِي كَوْنِ جَزَاءِ الْمُعْتَدِي عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ ;

45

لِأَنَّهُ هُوَ الْعَدْلُ. وَقَدْ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ وَالسِّنُّ بِالرَّفْعِ ; أَيْ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ. . . إِلَخْ. وَلَهُمْ فِي إِعْرَابِهَا عِدَّةُ وُجُوهٍ. وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى النَّفْسِ. (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْجُرُوحُ بِالرَّفْعِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ ; أَيْ ذَوَاتَ قِصَاصٍ، تُعْتَبَرُ فِي جَزَائِهَا الْمُسَاوَاةُ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أَيْ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ حَقِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ عَفَا عَنِ الْجَانِي فَهَذَا التَّصَدُّقُ كَفَّارَةٌ لَهُ يُكَفِّرُ اللهُ بِهَا ذُنُوبَهُ وَيَعْفُو عَنْهُ كَمَا عَفَا عَنْ أَخِيهِ. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِصَدَدِ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ فَأَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقِصَاصِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَكَمَ بِهَوَاهُ أَوْ بِحُكْمٍ غَيْرِ حُكْمِ اللهِ فَضَّلَهُ عَلَيْهِ - فَهُوَ مِنَ الظَّالِمِينَ حَتْمًا؛ إِذِ الْخُرُوجُ عَنِ الْقِصَاصِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَفْضِيلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَضْمِ حَقِّ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَظُلْمِهِ. أَمَّا مِصْدَاقُ هَذَا الْقِصَاصِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي الْأَيْدِي، فَهُوَ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَفِيهِ بَعْدَ عِدَّةِ ذُنُوبٍ تُوجِبُ الْقَتْلَ مَا نَصُّهُ: (23 وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْسًا بِنَفْسٍ 24 وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَرِجْلًا بِرِجْلٍ 25، وَكَيًّا بِكَيٍّ، وَجُرْحًا بِجُرْحٍ، وَرَضًّا بِرَضٍّ) يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ (24) مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (17 وَإِذَا أَمَاتَ أَحَدٌ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ 18، وَمَنْ أَمَاتَ بَهِيمَةً يُعَوِّضُ عَنْهَا نَفْسًا بِنَفْسٍ 19 وَإِذَا أَحْدَثَ إِنْسَانٌ فِي قَرِيبِهِ عَيْبًا فَكَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ 20 كَسْرٌ بِكَسْرٍ، وَعَيْنٌ بِعَيْنٍ، وَسِنٌّ بِسِنٍّ، كَمَا أَحْدَثَ عَيْبًا فِي الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ يُحْدَثُ فِيهِ) فَصَرَّحَ بِعُمُومِ الْقِصَاصِ بِالْمِثْلِ فَدَخَلَ فِيهِ الْأُذُنُ وَالْأَنْفُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَلَا أَذْكُرُ لَهُ نَقْلًا عَنِ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي وَعْظِ الْمَسِيحِ عَلَى الْجَبَلِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، أَنَّهُ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَالسِّنِّ بِالسِّنِّ، وَوَصَّى بِأَلَّا يُقَاوَمَ الشَّرُّ بِالشَّرِّ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْعَفْوِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ هُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْأَرْضِ انْتِقَامًا وَمُقَاوَمَةً لِلشَّرِّ بِأَضْعَافِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أَخْفَاهُمُ الزَّمَانُ فِي زَوَايَا بَعْضِ الْبِلَادِ. (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أَيْ وَبَعَثْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بَعْدَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ، مُتَّبِعًا أَثَرَهُمْ، جَارِيًا عَلَى سُنَنِهِمْ، مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَوْ بِحَالِهِ، وَلَفْظُ قَفَّى مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَفَا، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، يُقَالُ: قَفَاهُ، وَقَفَا إِثْرَهُ يَقِفُوهُ، وَاقْتَفَاهُ: إِذَا اتَّبَعَهُ وَسَارَ وَرَاءَهُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَقَفَّاهُ بِهِ تَقْفِيَةً جَعَلَهُ يَقْفُوهُ، أَوْ يَقْفُو أَثَرَهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ 2: 87) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَقَفَّيْتُهُ وَقَفَيْتُهُ بِهِ وَقَفَّيْتُ بِهِ عَلَى أَثَرِهِ: إِذَا أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ قُفْيَةُ آبَائِهِ، وَقِفِيُّ أَشْيَاخِهِ، تِلْوَهُمْ. انْتَهَى. أَيْ يَتْلُوهُمْ، وَيَسِيرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ. وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَرِيعَتُهُ هِيَ التَّوْرَاةُ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى نَسَخُوهَا وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا اتِّبَاعًا لَبُولَسَ. عَلَى أَنَّهُمْ

46

يَنْقُلُونَ عَنْهُ فِي أَنَاجِيلِهِمْ، أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ (أَيْ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ) وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَ ; أَيْ لِيَزِيدَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَزِيدَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ وَالْمَوَاعِظِ الرُّوحِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ أَعْطَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ مُشْتَمِلًا عَلَى هُدًى مِنَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ ; كَالتَّوْحِيدِ النَّافِي لِلْوَثَنِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ، وَنُورٌ يُبْصِرُ بِهِ طَالِبُ الْحَقِّ طَرِيقَهُ الْمُوَصِّلَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ، وَمُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ ; أَيْ مُشْتَمِلًا عَلَى النَّصِّ بِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا غَيْرُ تَصْدِيقِ الْمَسِيحِ لَهَا بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ، وَصَفَهُ بِمِثْلِ مَا وَصَفَ بِهِ التَّوْرَاةَ، وَبِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لَهَا، ثُمَّ زَادَ فِي وَصْفِهِ عَطْفًا عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَجَعَلَهُ نَفْسَهُ هُدًى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلَعَلَّهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَدَبِيَّةِ، وَزَلْزَلَةِ ذَلِكَ الْجُمُودِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الْمَادِّيِّ، وَزَعْزَعَةِ ذَلِكَ الْغُرُورِ الَّذِي كَانَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِيسِيُّونَ مِنَ الْيَهُودِ مَفْتُونِينَ بِهِ. وَخُصَّ هَذَا النَّوْعُ بِالْمُتَّقِينَ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ ; إِذْ لَا يَفُوتُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْكِتَابِ لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ وَعِنَايَتِهِمْ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ فِقْهُ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَمَعْرِفَةُ حِكْمَتِهَا وَالْمَقْصِدِ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ وَرَاءَ تِلْكَ التَّوْرَاةِ وَهَذَا الْإِنْجِيلِ هِدَايَةً أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَدِينًا أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ النَّبِيُّ الْأَخِيرُ (الْبَارَقْلِيطُ) الْأَعْظَمُ، وَلَوْلَا زِلْزَالُ الْإِنْجِيلِ فِي جُمْلَتِهِ لِتِلْكَ التَّقَالِيدِ، وَزَعْزَعَتُهُ لِذَلِكَ الْغُرُورِ، وَأُنْسُ النَّاسِ بِمَا حُفِظَ مِنْ تَعَالِيمِهِ عِدَّةَ قُرُونٍ، لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورِيَّةَ وَمِصْرَ وَبَيْنَ النَّهْرَيْنِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ. (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " وَلْيَحْكُمْ " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَهُوَ حِكَايَةٌ حُذِفَ مِنْهَا لَفْظُ الْقَوْلِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ وَقُلْنَا: لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) كَذَا وَكَذَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ " وَلِيَحْكُمَ " بِكَسْرِ اللَّامِ ; أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً) مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَعَطْفُ " وَلِيَحْكُمَ " عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِ اللَّامِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَمَا قَرَأْتَ وَفَسَّرْتَ لَا تَجِدُ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّصَارَى فِي الْقُرْآنِ بِالْحُكْمِ بِالْإِنْجِيلِ، كَمَا يَزْعُمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ بِمَا يُغَالِطُونَ بِهِ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِنْجِيلِ، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوهُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ تَتِمَّةٌ. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أَيْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، الَّذِينَ لَا يُعَدُّونَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، أَوِ الْخَارِجُونَ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، الْمُتَجَاوِزُونَ لِأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ، أَنَّ قَوْلَهُ: (فَأُولَئِكَ هُمْ) . . . إِلَخْ، رَاجِعٌ إِلَى " وَمَنْ " بِحَسَبَ مَعْنَاهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَأَمَّا فِعْلُ " يَحْكُمُ " فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِهَا، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، يُرَاعِي اللَّفْظَ فِي الْأَوَّلِ لِقُرْبِهِ، وَيُرَاعِي الْمَعْنَى فِيمَا بَعْدَهُ. (بَحْثٌ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَكَوْنِهِ كُفْرًا وَظُلْمًا وَفِسْقًا) الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ وَالْفِسْقُ كَلِمَاتٌ تَتَوَارَدُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرِدُ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرٍ (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 2: 254) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَا يُنَافِي دِينَ اللهِ الْحَقَّ، دُونَ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِنْكَارُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَيْسَ كُفْرًا فِي عُرْفِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ "، وَلَا إِطْلَاقِهِ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ فِي عُرْفِهِمْ، وَمَا كُلُّ ظُلْمٍ أَوْ فِسْقٍ يُعَدُّ كُفْرًا عِنْدَهُمْ، بَلْ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ ظُلْمًا أَوْ فِسْقًا ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْحُكْمُ الْقَاطِعُ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مَحَلًّا لِلْبَحْثِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَ مَنْ يُوَفِّقُ بَيْنَ عُرْفِهِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ نَرَاهُمْ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْوَالًا، مِنْهَا قَوْلُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَنَالَ هَذَا الْوَعِيدُ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَّا مِثْلَهُمْ، وَأَعْرَضَ عَنْ كِتَابِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَالْقُرْآنُ عِبْرَةٌ يَعْبُرُ بِهِ الْعَقْلُ مِنْ فَهْمِ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ حُذَيْفَةُ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ; أَنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، كَلَّا وَاللهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ (أَيْ سَيْرَ النَّعْلِ) عَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ. (قَالَ) : وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ ; إِنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُلْوٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرٍّ فَهُوَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ. . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ. . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ "، قَالَ: فَقُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا، قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ: لَا بَلْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا، ثُمَّ لَقِيتُ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا، قَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَزَلَ عَلَيْنَا، وَمَا نَزَلَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَهُوَ لَنَا وَلَهُمْ. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَسَأَلْتُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ سَعِيدٌ وَمِقْسَمٌ، قَالَ:

قَالَ: صَدَقَ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ لَيْسَ كَكُفْرِ الشِّرْكِ، وَظُلْمٌ لَيْسَ كَظُلْمِ الشِّرْكِ، وَفِسْقٌ لَيْسَ كَفِسْقِ الشِّرْكِ، فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِابْنِهِ: كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ فَضْلًا عَظِيمًا عَلَيْكَ وَعَلَى مِقْسَمٍ "، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ أَوْ تَرْكَهُ إِلَى غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمُرَادُ - لَا يُعَدُّ كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ، بَلْ بِمَعْنَى أَكْبَرِ الْمَعَاصِي. وَأَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ خَوَاتِمِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمْ، لَا أَنَّهَا فِي كِتَابِهِمْ ; إِذْ لَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ، وَالْأُولَيَانِ مِنْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى النَّصَارَى، لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهَا عَامَّةٌ، لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ الْكُفْرِ الْأَكْبَرِ فِي الْأُولَى، وَكَذَا الْأُخْرَيَانِ، إِذَا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ نَاشِئًا عَنِ اسْتِقْبَاحِهِ وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ فِي الْأُولَى بِمَعُونَةِ سَبَبِ النُّزُولِ كَمَا رَأَيْتَ فِي تَصْوِيرِنَا لِلْمَعْنَى. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ أَدْنَى تَأَمُّلٍ، تَظْهَرُ لَكَ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الْكُفْرِ فِي الْأُولَى، وَبِوَصْفِ الظُّلْمِ فِي الثَّانِيَةِ، وَبِوَصْفِ الْفُسُوقِ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْأَلْفَاظُ وَرَدَتْ بِمَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مُوَافِقَةً لِاصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ. فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى كَانَ الْكَلَامُ فِي التَّشْرِيعِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْتِزَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ الْعَمَلَ وَالْحُكْمَ بِهِ، وَالْوَصِيَّةَ بِحِفْظِهِ. وَخُتِمَ الْكَلَامُ بِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ مُعْرِضٍ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، رَغْبَةً عَنْ هِدَايَتِهِ وَنُورِهِ، مُؤْثِرًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْكَافِرُ بِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ عَنْ جَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْعَاصِي بِتَرْكِ الْحُكْمِ، الَّذِي يَتَحَامَى أَهْلُ السُّنَّةِ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْإِيمَانِ وَتُرْجُمَانُ الدِّينِ، بَلْ فِي عِقَابِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَعْضَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ الظَّالِمُ فِي حُكْمِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ فِي بَيَانِ هِدَايَةِ الْإِنْجِيلِ، وَأَكْثَرُهَا مَوَاعِظُ وَآدَابٌ وَتَرْغِيبٌ فِي إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُطَابِقُ مُرَادَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ، لَا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، مِمَّنْ خُوطِبُوا بِهَا، فَهُمُ الْفَاسِقُونَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مُحِيطِ تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدِ اسْتَحْدَثَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ نَحْوَ مَا اسْتَحْدَثَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَتَرَكُوا بِالْحُكْمِ بِهَا بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ

مِنَ الْأَحْكَامِ، مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحُكْمِ بِحَدِّ السَّرِقَةِ أَوِ الْقَذْفِ أَوِ الزِّنَا غَيْرَ مُذْعِنٍ لَهُ ; لِاسْتِقْبَاحِهِ إِيَّاهُ، وَتَفْضِيلِ غَيْرِهِ مِنْ أَوْضَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى فَهُوَ ظَالِمٌ، إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِضَاعَةُ الْحَقِّ، أَوْ تَرْكُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ فَقَطْ ; إِذْ لَفَظُ الْفِسْقِ أَعَمُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَكُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ ظَالِمٍ فَاسِقٌ، وَلَا عَكْسَ، وَحُكْمُ اللهِ الْعَامُّ - الْمُطْلَقُ الشَّامِلُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَلِغَيْرِهِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ هُوَ الْعَدْلُ، فَحَيْثُمَا وُجِدَ الْعَدْلُ فَهُنَاكَ حُكْمُ اللهِ كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ. وَلَكِنْ مَتَى وُجِدَ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ اقْتَضَى تَرْجِيحَهُ عَلَيْهِ كَنَصِّ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي بَابِ الضَّرُورَاتِ. وَقَدْ كَانَ مَوْلَوِيُّ نُورُ الدِّينِ مُفْتِي بِنْجَابَ مِنَ الْهِنْدِ، سَأَلَ شَيْخَنَا الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَسْئِلَةٍ، مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، فَحَوَّلَهَا إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ لِأُجِيبَ عَنْهَا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي أَمْثَالِهَا أَحْيَانًا، وَهَذَا نَصُّ جَوَابِي عَنْ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ، وَهُوَ الْفَتْوَى الْـ 77 مِنْ فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ. (الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ) (س 77) وَمِنْهُ: أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَخْدَمِ عِنْدَ الْإِنْكِلِيزِ الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِيهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؟ (ج) إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ مِنْ أَكْبَرِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْعَصْرِ؛ كَحُكْمِ الْمُؤَلِّفِينَ لِلْقَوَانِينِ وَوَاضِعِيهَا لِحُكُومَاتِهِمْ، وَحُكْمِ الْحَاكِمَيْنِ بِهَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَدَيِّنِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قُضَاةَ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالْقَانُونِ كُفَّارٌ ; أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وَيَسْتَلْزِمُ الْحُكْمُ بِتَكْفِيرِ الْقَاضِي الْحَاكِمِ بِالْقَانُونِ تَكْفِيرَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ الْوَاضِعِينَ لِلْقَوَانِينِ ; فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَلَّفُوهَا بِمَعَارِفِهِمْ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ بِإِذْنِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُوَلُّونَ الْحُكَّامَ لِيَحْكُمُوا بِهَا، وَيَقُولُ الْحَاكِمُ مِنْ هَؤُلَاءِ: أَحْكُمُ بِاسْمِ الْأَمِيرِ فُلَانٍ ; لِأَنَّنِي نَائِبٌ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْأَمِيرِ لَفْظَ (الشَّارِعِ) . أَمَّا ظَاهِرُ الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْمَشْهُورِينَ، بَلْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ، فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُطْلَقًا؛ سَوَاءٌ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى أَمْ لَا، وَهَذَا لَا يُكَفِّرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْفُسَّاقَ بِالْمَعَاصِي، وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْآيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْيَهُودِ، وَهُوَ

مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا أَنْزَلَ اللهُ " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَالظَّالِمُونَ، وَالْفَاسِقُونَ " فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الثَّلَاثُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ". . . إِلَخْ لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ، هِيَ فِي الْكُفَّارِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى الَّتِي فِيهَا الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ الَّتِي فِيهَا الْحُكْمُ بِالظُّلْمِ لِلْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ الَّتِي فِيهَا الْحُكْمُ بِالْفِسْقِ لِلنَّصَارَى، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْعُمُومِ فِيهَا كُلِّهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ حُذَيْفَةَ لِمَنْ قَالَ إِنَّهَا كُلَّهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ; أَنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، كَلَّا وَاللهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَأَوَّلَ هَذَا الْفَرِيقُ الْآيَةَ بِتَأْوِيلَيْنِ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُنَا وَرَدَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ لِلتَّغْلِيظِ لَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكُفْرِ الْوَاقِعِ فِي إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ مَعْرُوفٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُنْكِرًا لَهُ أَوْ رَاغِبًا عَنْهُ لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُجَامِعُ الْإِيمَانَ وَالْإِذْعَانَ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْأُمَرَاءِ الْوَاضِعِينَ لِلْقَوَانِينِ أَشَدُّ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمْ أَعْسَرُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِي حَقِّهِمْ لَا يَظْهَرُ، وَإِنَّ الْعَقْلَ لَيَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ مُؤْمِنًا مُذْعِنًا لِدِينِ اللهِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كِتَابَهُ يَفْرِضُ عَلَيْهِ حُكْمًا، ثُمَّ هُوَ يُغَيِّرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَسْتَبْدِلُ بِهِ حُكْمًا آخَرَ بِإِرَادَتِهِ ; إِعْرَاضًا عَنْهُ، وَتَفْضِيلًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَيُعْتَدُّ مَعَ ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ وَإِسْلَامِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْحَاكِمِ، أَنْ يُلْزِمُوهُ بِإِبْطَالِ مَا وَضَعَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللهِ، وَلَا يَكْتَفُوا بِعَدَمِ مُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ، وَمُشَايَعَتِهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَالدَّارُ لَا تُعْتَبَرُ دَارَ إِسْلَامٍ فِيمَا يَظْهَرُ، وَلِلْأَحْكَامِ فِيهَا حُكْمٌ آخَرُ، وَهَاهُنَا يَجِيءُ سُؤَالُ السَّائِلِ. وَقَبْلَ الْجَوَابِ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةٍ يَشْتَبِهُ الصَّوَابُ فِيهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ: إِذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ؛ فَهَلِ الصَّوَابُ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَتَوَلَّوْا لَهُ عَمَلًا أَمْ لَا؟ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَمَلَ لِلْكَافِرِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ الْمُسْلِمَ إِلَّا الْمُسْلِمُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِشَرِيعَتِهِ، وَقَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا الْعَادِلَةِ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِإِقَامَةِ مَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَحُولَ دُونَ تَحَكُّمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا الْقَصْدِ يَجُوزُ لَهُ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِلَّا إِذَا

عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ يَضُرُّ الْمَسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ يَكُونُ نَفْعُهُ مَحْصُورًا فِي غَيْرِهِمْ، وَمُعِينًا لِلْمُتَغَلِّبِ عَلَى الْإِجْهَازِ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا هُوَ تَوَلَّى لَهُمُ الْعَمَلَ وَكُلِّفَ الْحُكْمَ بِقَوَانِينِهِمْ فَمَاذَا يَفْعَلُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؟ أَقُولُ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُنَزَّلَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ نَفْسِهِ ; كَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهَا بِحَالٍ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا ; كَالْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْمُنَزَّلُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَأَهَمُّ الْمُنَزَّلِ وَآكَدُهُ الْحُدُودُ فِي الْعُقُوبَاتِ - وَسَائِرُ الْعُقُوبَاتِ تَعْزِيرٌ مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ - وَالرِّبَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الرِّبَا فِيهَا، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ جَائِزَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمُنَاحَبَةِ (مُرَاهَنَةِ) أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ عَلَى أَنَّ الرُّومَ يَغْلِبُونَ الْفُرْسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَإِجَازَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ أُتِيَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَأَةَ بِرَجُلٍ مِنَ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ مِجَنَّةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِيَ فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْتُكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى النَّاسِ أَلَّا يَجْلِدُوا أَمِيرَ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ، وَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا، وَهُوَ غَازٍ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا ; لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرْكَ سَعْدٍ إِقَامَةَ حَدِّ السُّكْرِ عَلَى أَبِي مِحْجَنٍ فِي وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ عَلَّلَهُ تَعْلِيلًا آخَرَ، لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهِ، وَانْظُرْ تَعْلِيلَ عُمَرَ تَجِدْهُ يَصِحُّ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْقَضَائِيَّةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا قِيلَ فِي إِقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحُدُودُ لَا تُقَامُ هُنَاكَ فَقَدْ عَادَتْ أَحْكَامُ الْعُقُوبَاتِ كُلُّهَا إِلَى التَّعْزِيرِ الَّذِي يُفَوَّضُ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَالْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ أَيْضًا، وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فِيهَا عَنِ الشَّارِعِ قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَإِذَا رَجَعَتِ الْأَحْكَامُ هُنَاكَ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَجَزْنَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عِنْدَ الْحَرْبِيِّ فِي بِلَادِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ مِنَ الْحُكْمِ بِقَانُونِهِ لِأَجْلِ

مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَانُونُ ضَارًّا بِالْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا لَهُمْ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِوَاضِعِهِ إِعَانَةً لَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلًّا لِإِقَامَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ يُؤْمَنُ مَعَهَا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى مَنْ أَقَامَ أَنْ يَخْدِمَ الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيُقَوِّيَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِتَقْوِيَةِ نُفُوذِ الْإِسْلَامِ وَحِفْظِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ تَقَلُّدِ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ مُتَسَاهِلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَالْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ قَوَانِينَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَقْرَبُ إِلَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تُفَوِّضُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ إِلَى اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِي الْهِنْدِ بِصِحَّةِ قَصْدٍ وَحُسْنِ نِيَّةٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَخْدُمَ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً جَلِيلَةً، وَظَاهِرٌ أَنَّ تَرْكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْغَيْرَةِ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ ; تَأَثُّمًا مِنَ الْعَمَلِ بِقَوَانِينِهَا، يُضَيِّعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُعْظَمَ مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا نُكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِنْدِ وَنَحْوِهَا وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْوَثَنِيِّينَ إِلَّا بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَنَا الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْأُورُبِّيُّونَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ يَتَوَسَّلُونَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى تَقَلُّدِ الْأَحْكَامِ، وَمَتَى تَقَلَّدُوهَا حَافَظُوا عَلَى مَصَالِحِ أَبْنَاءِ مِلَّتِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ صَارُوا أَصْحَابَ السِّيَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِيهَا، وَصَارَ حُكَّامُهَا الْأَوَّلُونَ آلَاتٍ فِي أَيْدِيهِمْ. وَالظَّاهِرُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْلِمِ لِلْعَمَلِ فِي الْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ (وَمِثْلِهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ) وَحُكْمَهُ بِقَانُونِهَا هُوَ رُخْصَةٌ تَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَزِيمَةً يُقْصَدُ بِهَا تَأْيِيدُ الْإِسْلَامِ وَحِفْظُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. ذَلِكَ أَنْ تَعُدَّهُ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نُفِّذَ بِهَا حُكْمُ الْإِمَامِ الَّذِي فَقَدَ أَكْثَرَ شُرُوطَ الْإِمَامَةِ، وَالْقَاضِيَ الَّذِي فَقَدَ أَهَمَّ شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ حُكَّامُ ضَرُورَةٍ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ تَقَلَّدَ الْعَمَلَ لِلْحَرْبِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَعِيشَ بِرَاتِبِهِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : دَارُ الْحَرْبِ بِلَادُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُحَارِبُوا. وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعَاهِدْنَا عَلَى السِّلْمِ يُعَدُّ مُحَارِبًا.

48

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ؛ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى شَأْنُهُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ ثُمَّ الْإِنْجِيلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِيهَا مِنْ هُدًى وَنُورٍ، وَمَا حَتَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِقَامَتِهِمَا، وَمَا شَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِثْمِ تَرْكِ الْحُكْمِ بِهِمَا فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْزَالَهُ الْقُرْآنَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَكَانَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَكَوْنَ حِكْمَتِهِ تَعَالَى اقْتَضَتْ تَعَدُّدَ الشَّرَائِعِ وَمَنَاهِجِ الْهِدَايَةِ، فَتِلْكَ مُقَدِّمَاتٌ وَوَسِيلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ وَالنَّتِيجَةُ، قَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ الْكَامِلَ الَّذِي أَكْمَلْنَا بِهِ الدِّينَ، فَكَانَ هُوَ الْجَدِيرَ بِأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَيْهِ مَعْنَى الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، هَذِهِ حِكْمَةُ التَّعْبِيرِ بِالْكِتَابِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ عَنْ كِتَابِ مُوسَى بِاسْمِهِ الْخَاصِّ (التَّوْرَاةِ) وَعَنْ كِتَابِ عِيسَى بِاسْمِهِ الْخَاصِّ (الْإِنْجِيلِ) وَمِثْلُ هَذَا إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّبِيِّ، حَتَّى فِي كُتُبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: (بِالْحَقِّ) . . . إِلَخْ، مَعْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، مُؤَيَّدًا بِهِ، مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ، مُقَرِّرًا لَهُ، بِحَيْثُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ،

مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ; كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ; أَيْ نَاطِقًا بِتَصْدِيقِ كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَا لَمْ يَفْتَرُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى جِنْسِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْهَا وَشَهِيدٌ، بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ حَالِهَا فِي أَصْلِ إِنْزَالِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ خُوطِبُوا بِهَا، مِنْ نِسْيَانِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا وَإِضَاعَتِهِ، وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا وَتَأْوِيلِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا، فَهُوَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهَا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) يَعْنِي أَمِينًا عَلَيْهِ، يَحْكُمُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيِّ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: شَهِيدًا عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. لِسَانُ الْعَرَبِ: وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " قَالَ: الْمُهَيْمِنُ (أَيْ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ) : الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنْشَدَ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ (قَالَ) مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ. (قَالَ) وَفِي الْمُهَيْمِنِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمَنُ. وَقَالَ الْكَسَائِيُّ: الْمُهَيْمِنُ: الشَّهِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّقِيبُ، يُقَالُ هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً: إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ، وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ وَقَبَّانًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: وَقَائِمًا عَلَى الْكُتُبِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِهِ، وَيَكُونُ لَهُ حَقُّ مُرَاقَبَتِهِ وَالْحُكْمُ فِي أَمْرِهِ بِحَقٍّ، كَمَا وَصَفَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ خِلَافَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْمُرَاقَبَةَ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ. وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ فَهِمَ مِنْ هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهَا بِالْحِفْظِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُهَيْمِنِ: الشَّهِيدَ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَحَكَّمُوا فِي شَهَادَتِهِ كَمَا يَشَاءُونَ؟ أَمِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا قَالَهُ فِي شَأْنِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَأَهْلِهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ نَصُّ شَهَادَتِهِ لَهَا وَلَهُمْ أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ؟ وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَحَسْبُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا فِي كُلٍّ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَبْلَهَا إِنَّهُمْ " أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ "، وَقَالَ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) (2: 136) الْآيَةَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَنْ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِمْ وَقَبُولِ كَلَامِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. يُوَضِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ - وَاللَّفْظُ لَهُ - مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ، وَوَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ; فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي " وَوَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ سُؤَالِهِمُ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الِاهْتِدَاءِ وَتَلَقِّي مَا يَرْوُونَهُ بِالْقَبُولِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ أَوْ لِتَفْصِيلِ بَعْضِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ. وَسَبَبُهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِنِسْيَانِهِمْ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَحْرِيفِهِمْ لِبَعْضِهِ، بَطَلَتِ الثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِمْ، فَالْمُصَدِّقُ لَهَا عُرْضَةٌ لِتَصْدِيقِ الْبَاطِلِ، وَالْمُكَذِّبُ لَهَا عُرْضَةٌ لِتَكْذِيبِ الْحَقِّ، إِذْ لَا يَتَيَسَّرُ لَنَا أَنْ نُمَيِّزَ فِيمَا عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمَحْفُوظِ السَّالِمِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَغَيْرِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا نُصَدِّقَهُمْ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ إِلَّا إِذَا رَوَوْا شَيْئًا يُصَدِّقُهُ الْقُرْآنُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنَّا نُصَدِّقُ مَا صَدَّقَهُ، وَنُكَذِّبُ مَا كَذَّبَهُ ; لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ، وَشَهِيدٌ عَلَيْهَا، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بِالْحَقِّ، وَحَفِظَهُ اللهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ بِتَوْفِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِحِفْظِهِ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ، وَسَيَحْفَظُهُ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (15: 9) وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَمْرٍ مُتَوَاتِرٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْقُرْآنِ وَمَنْزِلَتَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدَهَا، وَرَقِيبٌ وَشَهِيدٌ عَلَيْهَا، فَاحْكُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، دُونَ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ شَرْعَكَ نَاسِخٌ لِشَرَائِعِهِمْ (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أَيْ وَلَا تَتَّبِعْ مَا يَهْوُونَ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ وَيَخِفُّ احْتِمَالُهُ، مَائِلًا بِذَلِكَ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا رَيْبَ، وَلَوْ إِلَى مَا صَحَّ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ بِمَا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَبْلَهَا ; أَيْ لِكُلِّ رَسُولٍ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ أَوْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا شَرِيعَةً أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ إِقَامَةَ أَحْكَامِهَا، وَطَرِيقًا لِلْهِدَايَةِ فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ سُلُوكَهُ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِهَا ; لِأَنَّ الشَّرَائِعَ الْعَمَلِيَّةَ وَطُرُقَ التَّزْكِيَةِ الْأَدَبِيَّةِ تَخْتَلِفُ

بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ وَاسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ؛ وَإِنَّمَا اتَّفَقَ جَمِيعُ الرُّسُلِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ. وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ مَوْرِدُ الْمَاءِ مِنَ النَّهْرِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى الْآنَ، وَهِيَ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكُلُّ مَا شَرَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ شَرِيعَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِشَرِيعَةِ الْمَاءِ شَرِيعَةٌ ; لِأَنَّهُ يَشْرَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ شَرَائِعَ ; لِشُرُوعِ أَهْلِهِ فِيهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَوْمِ إِذَا تَسَاوَوْا فِي الشَّيْءِ: هُمْ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الْمِنْهَاجُ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الطَّرِيقُ الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ مِنْهُ: هُوَ طَرِيقٌ نَهْجٌ وَمَنْهَجٌ بَيِّنٌ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: مَنْ يَكُ فِي شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ مَاءٌ رِوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَتِ الشَّرِيعَةُ شَرِيعَةً تَشْبِيهًا بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ شَرَعَ فِيهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ رُوِيَ وَتَطَهَّرَ، وَالْمُرَادُ الرِّيُّ الْمَعْنَوِيُّ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْمَاءَ سَبَبَ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ سَبَبَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. أَخْرَجَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) يَقُولُ سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ ; كَيْ يَعْلَمَ اللهُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَلَكِنَّ الدِّينَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الدِّينُ وَاحِدٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ " شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " سُنَّةً وَسَبِيلًا، وَظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَخَصُّ مِنَ الدِّينِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَايِنَةً لَهُ، وَأَنَّهَا الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرُّسُلِ، وَيَنْسَخُ لَاحِقُهَا سَابِقَهَا، وَأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا يُوَافِقُ أَوْ يُقَارِبُ عُرْفَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمَ، لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا عَلَى الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، بَلْ يَخُصُّونَهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، وَمَا يُتَخَاصَمُ فِيهِ إِلَى الْحُكَّامِ، دُونَ مَا يُدَانُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَلَا تَجِدُ هَذَا الْحَرْفَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّورَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (42: 13) وَقَوْلُهُ مِنْهَا: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (42: 21) وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (45: 18) فَأَمَّا شَرْعُ الدِّينِ فَهُوَ وَضْعُهُ وَإِنْزَالُهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْرَعَ ; فَآيَتَا الشُّورَى تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ

وَضْعَ اللهِ تَعَالَى لِلدِّينِ وَمُخَاطَبَةَ النَّاسِ بِهِ يُسَمَّى شَرْعًا بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا آيَةُ الْجَاثِيَةِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: الشَّرِيعَةُ: الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهُوَ نَصٌّ فِيمَا ذَكَرْنَا مَنْ قَصْرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعَقَائِدِ وَالْحِكَمِ وَالْعِبَرِ الَّتِي يَشْتَمِلُهَا الدِّينُ، وَالْمَشْهُورُ فِي عُرْفِ فُقَهَائِنَا وَعَامَّتِنَا أَنَّ الدِّينَ وَالشَّرْعَ أَوِ الشَّرِيعَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَكِنْ - مَعَ ذَلِكَ - تَرَى اسْتِعْمَالَ عِلْمِ الشَّرْعِ وَعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَكُتُبِ الشَّرِيعَةِ أَلْصَقَ بِالْفِقْهِ وَكُتُبِهِ وَعُلَمَائِهِ مِنْهَا بِعِلْمِ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَعُلَمَائِهَا وَكُتُبِهَا، وَتَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: يَجُوزُ هَذَا دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِلْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْ كَلِمَةِ (الدِّينِ) وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الدِّينِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَامِلَ بِهَا يَدِينُ اللهَ تَعَالَى بِعَمَلِهِ وَيَخْضَعُ لَهُ وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ ; مُبْتَغِيًا مَرْضَاتَهُ وَثَوَابَهُ بِإِذْنِهِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا، لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا) لِلِاخْتِصَاصِ الْحَصْرِيِّ أَمْ لَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (42: 13) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (6: 90) الْآيَةَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَقَدْ بَيَّنَ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ التَّوْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (42: 13) فَهَذِهِ وَصِيَّةُ اللهِ إِلَى الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ ; فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ شَرَائِعِهِمْ، بَلْ حَظْرِ الِاخْتِلَافَ فِي الدِّينِ ; لِأَنَّ الدِّينَ نَزَلَ لِإِزَالَةِ الْخِلَافِ الضَّارِّ وَإِصْلَاحِ الْأُمَّةِ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يَجْعَلُ الْإِصْلَاحَ إِفْسَادًا وَالدَّوَاءَ دَاءً ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (98: 4) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3: 105) وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ لَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا هُوَ عَيْنُ مَا شَرَعَهُ لِنُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا أَنَّنَا مُخَاطَبُونَ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لِقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَكَوْنُ مَا شَرَعَهُ لَنَا هُوَ عَيْنَ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) وَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ لِقَوْمِ نُوحٍ هُوَ شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرِيعَتِنَا مَا يَنْسَخُهُ؟ وَهُوَ خَبَرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ إِذْ لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا شَرَعَهُ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ، وَكَلَامُ اللهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) فَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ هِدَايَتِهِ تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَمَلُ بِشَرَائِعِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ ; لِعَدَمِ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَ، وَلِاخْتِلَافِهَا وَنَسْخِ بَعْضِهَا بَعْضًا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ ; لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ

تَقْلِيدٌ، وَالْعَقَائِدُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَوِ السَّمْعِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّقْلِيدَ فِي كِتَابِهِ، فَلَا يَقْبَلُهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ، الَّذِي هُوَ مَقَامُ حَقِّ الْيَقِينِ؟ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ عَالِمًا بِالْعَقَائِدِ دَاعِيًا إِلَيْهَا، وَلَا مَعْنًى لِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالِاقْتِدَاءِ أَمْرًا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِدَاءِ هُنَا مُوَافَقَةُ سُنَّتِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ فِي دَعْوَةِ أَقْوَامِهِمْ إِلَى الدِّينِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَلَائِقِهِمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سِيرَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (11: 120) وَقَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (46: 35) أَيْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لِقَوْمِكَ الْعَذَابَ، كَمَا اسْتَعْجَلَ بَعْضُهُمْ، وَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (1: 6) أَيْضًا، وَلَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِأَنْ نَتَّبِعَ مَنْ دُونِ النَّبِيِّينَ مِنَ الصَّدِيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ شَرَائِعِهِمْ، وَجُزْئِيَّاتِ أَعْمَالِهِمْ. كَلَّا، إِنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هِدَايَةُ الْقُلُوبِ بِمَا وَفَّقَهَا اللهُ لَهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَحُبِّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَحَرِّيهِمَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى ; فَهُمْ بِهَذَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، وَهَذَا هُدَاهُمْ وَصِرَاطُهُمْ، لَا أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا مَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ. لَعَمْرِي إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحٌ كَالصُّبْحِ، بَلْ هُوَ أَوْضَحُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقَلِّدِينَ جَرَوْا عَلَى سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ قَضَايَا مُسَلَّمَةً، وَيَلْتَمِسُونَ الدَّلَائِلَ لِإِثْبَاتِهَا وَإِبْطَالِ مَا خَالَفَهَا دَلِيلًا وَمَدْلُولًا، وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ وَالتَّأَوُّلِ وَالِاحْتِمَالِ ; فَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُمْ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، فَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ الْمُسَلَّمَ عِنْدَهُمْ وَلَوْ بَادِيَ الرَّأْيِ قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَهُ وَأَبْطَلَهُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، أَوْ حَرَّفُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِدِينِنَا، وَخَتَمَ النَّبِيِّينَ بِنَبِيِّنَا، وَأَرْسَلَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ قَبْلَهُ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، وَشَرِيعَتُهُ هِيَ الشَّرِيعَةُ الدَّائِمَةُ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَلَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ السَّمْحَةَ صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، وَحِكْمَةُ نَسْخِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ عَدَمُ صَلَاحِيَتِهَا لِغَيْرِ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلدَّوَامِ فِي أَهْلِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِإِقَامَتِهِمَا ; فَشِدَّةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْقِتَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْمَلَ بِهِ أُمَّةٌ، وَلِشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا، وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ وَكُلِّ مُعْتَدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّرَائِعُ الْخَاصَّةُ الْمَوْقُوتَةُ، الَّتِي نَسَخَتْهَا شَرِيعَتُنَا لِإِكْمَالِ

الدِّينِ بِمَا يُنَاسِبُ ارْتِقَاءَ الْبَشَرِ، شَرِيعَةً دَائِمَةً لَنَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهَا، وَأَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا مِنْ أُصُولِنَا؟ يَا ضَيْعَةَ الْوَقْتِ الَّذِي نَصْرِفُهُ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ يَا ضَيْعَةَ الْحِبْرِ وَالْوَرَقِ الَّذِي يُصْرَفُ فِي سَبِيلِهِ، لَوْلَا أَنَّهُ صَارَ ضَرُورِيًّا بِتِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ ; كَالسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَأَضْرَابِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ وَتَنْزِيهُهُ وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمُوَافَقَتِهِ لِبَعْضِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِشَرْعِهَا لَنَا، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعًا، فَإِنَّمَا كُنَّا مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِنُزُولِهَا عَلَيْنَا، لَا بِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِمَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ بَعْدَ نُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ، حَتَّى فِي عَمَلِ الْبِرِّ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ شَرِيعَتِنَا وَشَرِيعَتِهِمْ ; كَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ; إِذْ كَانَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُعَظِّمُونَهُ، أَوِ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ، قَالَ: " لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ، اجْتِهَادًا قَبْلَ نُزُولِ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي مَكَّةَ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ الْفَرْقُ - كَمَا قَالَ قَتَادَةَ - وَعَرَفْتَ تَفْصِيلَهُ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) فَإِنَّ اللهَ سَمَّى الْإِسْلَامَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَامْتَنَّ عَلَى الْعَرَبِ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمِلَّةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (3: 95) وَقَالَ: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (4: 125) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (6: 161 - 163) فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنِ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (16: 120 - 123) فَهَذِهِ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمَنْ قَبْلَهُ أَيْضًا، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنِ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (2: 130 - 133) يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (12: 37، 38) فَهَذِهِ الْآيَاتُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ، وَكُلُّهَا بُرْهَانٌ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (22: 78) . فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ " مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ " مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ ; أَيِ الْزَمُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ لَفْظَ الْمِلَّةِ يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ، دُونَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ: الْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ شَرَائِعَ الْكُفَّارِ مُخْتَلِفَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أَيْ وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي سُلُوكِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، لَفَعَلَ بِأَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ، وَأَلْزَمَكُمْ حَالَةً وَاحِدَةً فِي أَخْلَاقِكُمْ وَأَطْوَارِ مَعِيشَتِكُمْ، بِحَيْثُ تَصْلُحُ لَهَا شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُونَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ الَّتِي يَقِفُ اسْتِعْدَادُهَا عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ ; كَالطَّيْرِ أَوِ النَّمْلِ أَوِ النَّحْلِ. (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ) أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، بَلْ جَعَلَكُمْ نَوْعًا مُمْتَازًا يَرْتَقِي فِي أَطْوَارِ الْحَيَاةِ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، فَلَا تَصْلُحُ لَهُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَامِهِ وَجَمَاعَاتِهِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ فِي الْفَهْمِ وَالْهِدَايَةِ فِي طَوْرِ طُفُولِيَّةِ النَّوْعِ وَغَلَبَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَفِي طَوْرِ تَمْيِيزِهِ وَغَلَبَةِ الْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ النَّوْعُ سِنَّ الرُّشْدِ وَمُسْتَوَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَامِ بِالْقُوَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفِعْلِ، خَتَمَ لَهُ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاهِجَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَجَعَلَ أَمْرَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ شُورَى بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ (لِيَبْلُوَكُمْ) أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ بِذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِاسْتِعْدَادِكُمْ (فِيمَا آتَاكُمْ) أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ، فَتَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي تَمْيِيزِكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فِي أَرْضِكُمْ، وَهُوَ كَوْنُكُمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ.

يَظْهَرُ مِثَالُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الْأَخِيرَةِ: الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ، فَالْيَهُودِيَّةُ شَرِيعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشِّدَّةِ فِي تَرْبِيَةِ قَوْمٍ أَلِفُوا الْعُبُودِيَّةَ وَالذُّلَّ، وَفَقَدُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي الْإِرَادَةِ وَالرَّأْيِ ; فَهِيَ مَادِّيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ شَدِيدَةٌ لَيْسَ لِأَهْلِهَا فِيهَا رَأْيٌ وَلَا اجْتِهَادٌ، فَالْقَائِمُ بِتَنْفِيذِهَا كَالْمُرَبِّي لِلطِّفْلِ الْعَارِمِ الشَّكِسِ. وَالْمَسِيحِيَّةُ يَهُودِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَرُوحَانِيَّةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهِيَ تَأْمُرُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُسَلِّمُوا أُمُورَهُمُ الْجَسَدِيَّةَ وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ لِلْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلْطَةِ وَالْحُكْمِ، مَهْمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَأَنْ يَقْبَلُوا كُلَّ مَا يُسَامُونَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ، وَيَجْعَلُوا عِنَايَتَهُمْ كُلَّهَا بِالْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ الْعَوَاطِفِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ ; فَهِيَ تَرْبِيَةٌ لِلنَّوْعِ فِي طَوْرِ التَّمْيِيزِ عِنْدَمَا كَانَ كَالْغُلَامِ الْيَافِعِ الَّذِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ الْخَطَابِيَّاتُ وَالشِّعْرِيَّاتُ. وَأَمَّا الْإِسْلَامِيَّةُ فَهِيَ الْقَائِمَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الْمُحَقِّقَةُ لِمَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (2: 143) وَقَوْلُهُ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (3: 110) فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسِ الِاسْتِقْلَالِ الْبَشَرِيِّ اللَّائِقِ بِسِنِّ الرُّشْدِ وَطَوْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتَابِهَا قَلِيلَةً، وَفُرِضَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ ; لِأَنَّ الرَّاشِدَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ، فَلَا يُقَيَّدُ إِلَّا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْقِلَهُ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِ الْمِلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَنْ أَحَبَّ زِيَادَةَ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعْثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) (2: 213) الْآيَةَ (رَاجِعْ ص22 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) (43: 33) فِي (ص827 م 15 مِنَ الْمَنَارِ) وَإِلَى فَصْلِ (الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَوِ الْإِسْلَامِ) مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَمِنْ فِقْهِ مَا حَقَّقْنَاهُ عُلِمَ أَنَّ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى بِإِكْمَالِ اللهِ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ، وَخَتْمِهِ النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلِ شَرِيعَتِهِ عَامَّةً دَائِمَةً، لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِبِنَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَسَاسِ الِاجْتِهَادِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، الَّذِينَ هُمْ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ فَقَدْ مَنَعَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى وَأَبْطَلَ مَزِيَّةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَجَعَلَهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَا أَشَدُّ جِنَايَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ عَلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا أَنْ تَبْتَدِرُوا الْخَيْرَاتِ وَتُسَارِعُوا إِلَيْهَا ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَاهِجِ الدِّينِ، فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَنْظُرُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ

49

إِلَى مَا بِهِ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ، دُونَ حِكْمَةِ الْخِلَافِ، وَمَقْصِدِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ، أَلَيْسَ هَذَا هُوَ تَرْكَ الْهُدَى وَاتِّبَاعَ سُبُلِ الْهَوَى؟ فَاسْتِبَاقُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ تَرْجَعُونَ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ ; فَيُنَبِّئُكُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِحَقِيقَةِ مَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَيَجْزِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا الشَّرَائِعَ سَبَبًا لِلتَّنَافُسِ فِي الْخَيْرَاتِ، لَا سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ بِتَنَافُسِ الْعَصَبِيَّاتِ. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فِيهِ حُكْمُ اللهِ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فِيهِ: أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ لِبَعْضِهِمْ وَقَبُولِ كَلَامِهِ، وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي ذَلِكَ وَرَاءَ الْحُكْمِ ; كَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَجَذْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ ; أَيْ يَسْتَزِلُّوكَ بِاخْتِبَارِهِمْ إِيَّاكَ، وَيُنْزِلُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ لِتَحَكُمَ بِغَيْرِهِ. أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ " مِنَ الْيَهُودِ ": اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ ; فَأَبَى ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) إِلَى قَوْلِهِ: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) . انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لَهُمْ، وَأَمْرُهُ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامِ حُكْمِ اللهِ وَعَدَمِ الِانْخِدَاعِ لِلْيَهُودِ، وَتَسْجِيلِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فِتْنَتَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُوا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ تَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَاضْطِرَابُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَاسْتِثْقَالُهُمْ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَتَحَاكُمُهُمْ إِلَيْكَ رَجَاءَ أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِمُخَادَعَتِكَ وَفِتْنَتِكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ، كُلُّ هَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَرَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ لَا بُدَّ أَنْ تُنْتِجَ وُقُوعَ عَذَابٍ بِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ هُنَا مَا حَلَّ بِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بِغَدْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا، إِذَا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُ هَذَا السِّيَاقِ كُلِّهِ قَبْلَ نُزُولِ أَوَائِلَ السُّورَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمْ عَذَابٌ فِي

عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ إِجْلَاءَ عُمَرَ مَنْ أَجْلَاهُمْ مِنْهُمْ فِي خِلَافَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الذُّنُوبِ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَهَا يُوبِقُهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِقَابُ عَلَى جَمِيعِهَا؟ وَهُوَ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) أَيْ لَا يَرُعْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مَا تَرَاهُ مِنْ فُسُوقِهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى دِينِكَ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ صَارَ الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالتَّمَرُّدُ مِنْ صِفَاتِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " يَبْغُونَ " بِفِعْلِ الْغَيْبَةِ ; لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ " تَبْغُونَ " عَلَى الِالْتِفَاتِ لِمُخَاطَبَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ ; أَيْ أَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْهَوَى، وَتَرْجِيحَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ؟ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي خُصُومَةٍ مِمَّا كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ جَعْلِ دِيَةَ الْقُرَيْظِيِّ ضِعْفَيْ دِيَةِ النَّضِيرِيِّ لِمَكَانِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بِدِينِهِ، وَيُذْعِنُونَ لِشَرْعِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَجْمَعُ الْحُسْنَيَيْنِ؛ مُنْتَهَى الْعَدْلِ وَالْتِزَامِ الْحَقِّ مِنَ الْحَاكِمِ، وَمُنْتَهَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا تَفْضُلُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْقَوَانِينَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّ " اللَّامَ " هُنَا بِمَعْنَى " عِنْدَ " أَوْ لِلْبَيَانِ ; أَيْ إِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْمُوقِنِينَ، وَفِي نَظَرِهِمْ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَمَضْمُونُ الْآيَةِ أَنَّ مِمَّا يَنْبَغِي التَّعَجُّبُ مِنْهُ مِنْ مُنَكَرَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَائِرِ، وَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى حُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ، وَالْحَالُ أَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْعَدْلُ، الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَفْضِيلُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، الَّذِي يُمَكِّنُ الظَّالِمِينَ الْأَقْوِيَاءَ مِنِ اسْتِذْلَالِ أَوِ اسْتِئْصَالِ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ شَرُّ الْأَحْكَامِ الْمُخَرِّبُ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْسِدُ لِلنِّظَامِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنْ يُوجَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْبَشَرِ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ خَيْرٌ مِنْ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ شَرْعِ اللهِ وَلَا قَوَاعِدَهُ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرُ مَا فِيهَا مِنْ آرَاءِ أَفْرَادٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، فَهُمْ يَنْتَقِدُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِمَصَالِحِ النَّاسِ تَارَةً، وَلِأَهْوَائِهِمْ تَارَةً أُخْرَى، يَحْتَجُّونَ بِضَرْبٍ مِنَ الْجَهْلِ عَلَى ضَرْبٍ آخَرَ.

51

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) مِنَ الْمَعْلُومِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ الْيَهُودَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَحُقُوقِ الْقَبَائِلِ وَالْبُطُونِ، وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: " وَأَنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ " وَمِنْهُ فِي حُقُوقِ الْحِلْفِ وَالْوَلَاءِ فِي الْحَرْبِ: " وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ (أَيْ يُهْلِكُ) إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ " ثُمَّ أَعْطَى مِثْلَ مَا لِبَنِي عَوْفٍ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ وَسَاعِدَةَ وَجُشَمَ وَالْأَوْسِ وَثَعْلَبَةَ - وَمِنْهُمْ جَفْنَةُ - وَالشَّطَنَةُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: " وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَارَ الْكُفَّارُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ صَالَحَهُمْ وَوَادَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ آمِنُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقِسْمٌ حَارَبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَقِسْمٌ تَارِكُوهُ فَلَمْ يُصَالِحُوهُ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ، بَلِ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَعْدَائِهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ وَانْتِصَارَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ،

وَهُوَ مَعَ عَدْوِّهِ فِي الْبَاطِنِ؛ لِيَأْمَنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَعَامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَصَالَحَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابُ أَمْنٍ. وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ; بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَارَبَتْهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَأَظْهَرُوا الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ "، ثُمَّ قَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ: " ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو النَّضِيرِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ " وَبَيَّنَ كَيْفَ تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) (5: 11) إِذْ وَرَدَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي فَصْلٍ آخَرَ أَنَّ قُرَيْظَةَ كَانَتْ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا صُلْحَهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَبَيَّنَ كَيْفَ حَارَبَ كُلَّ طَائِفَةٍ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهَا. فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْعَامُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَكَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَكَذَا الرُّومُ بِالطَّبْعِ، حَرْبًا لَهُ كَالْيَهُودِ. وَأَمَّا السَّبَبُ الْخَاصُّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهَاكَ مُلَخَّصُهُ: أَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ (زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ) وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَلَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " أَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ "، قَالَ: وَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللهِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَوَالِيَ مِنَ الْيَهُودِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ، وَأَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ: " يَا أَبَا الْحُبَابِ! أَرَأَيْتَ الَّذِي نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ " قَالَ: إِذَنْ أَقْبَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) إِلَى أَنْ بَلَغَ (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (5: 67) . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ؛

إِذْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ يَدْعُونَهُ وَقُرَيْشًا لِيُدْخِلُوهُمْ حُصُونَهُمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَيْهِمْ يَسْتَنْزِلُهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَلَمَّا أَطَاعُوا لَهُ بِالنُّزُولِ أَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِالذَّبْحِ، وَفِيهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكَاتِبُونَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَاتِبُ يَهُودَ الْمَدِينَةِ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَنُّونَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِمَا لَهُمْ وَلَوْ بِالْقَرْضِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمَّا خَافُوا أَنْ يُدَالَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَيَتَهَوَّدَ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ فَيَتَنَصَّرَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوهُ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ، وَأَنَّ مَعْنَى جَعْلِهَا أَسْبَابًا لِنُزُولِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَظِمُهَا، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ النَّصْرِ وَالْمُظَاهَرَةِ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ ; إِذْ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلْ إِلَّا مَنْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ كَالْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ بِالْوِلَايَةِ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ دُونَ جُمْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَغَيْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ لَهُمُ الْيَدَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَثَبَاتِ أَهْلِهِ. وَلَوْلَا هَذَا لَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، لَا لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَلَّا يُحَالِفَ أَهْلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ. كَيْفَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ؟ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي حَنَقٍ شَدِيدٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَسَدٍ لِلْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَا يُوثَقُ بِوَفَائِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ أَنْ يُوَالِيَ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الْمُعَادِينَ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُعَاهِدُونَهُمْ عَلَى التَّنَاصُرِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ إِذَا خُذِلَ الْمُسْلِمُونَ وَغُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ أَنَّ مُعَادَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانَتْ بِحَسَبِ جِنْسِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ، لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كِتَابَهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (60: 1) . . . إِلَخْ. وَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمَّا كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَرْبِهِمْ ;

لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ مَالًا وَأَهْلًا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا ; لِأَجْلِ حِمَايَةِ أَهْلِهِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِمْ، وَلَا يُنَافِي زَوَالَ النَّهْيِ بِزَوَالِ سَبَبِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ " الْمُمْتَحَنَةِ ": (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (60: 7 - 9) فَهَذِهِ الْآيَاتُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ، وَكَوْنِ الْقَوْمِ حَرْبًا، لَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِي الدِّينِ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَالَفَ الْيَهُودَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ " لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ " كَمَا أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَقُولَ لِجَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ) (109: 6) . وَقَدْ جَعَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا - الْوِلَايَةَ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، وَدَعَّمُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِعَزْلِ كَاتِبِهِ النَّصْرَانِيِّ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَاوَلَ الْمُتَقَدِّمُونَ جَعْلَ النَّهْيِ خَاصًّا بِمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ مَعَ جَعْلِ الْوِلَايَةِ وِلَايَةَ النُّصْرَةِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلَّيَا مَنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي التَّخْرِيبِ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ اللَّحَاقَ بِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَالْآخَرُ بِنَصْرَانِيٍّ بِالشَّامِ، وَلَمْ يَصِحَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّتُهُ، فَيَسْلَمَ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ، وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِخِلَافِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودَ أَوْ نَصَارَى جَزَعًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ " اهـ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ: فَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا تُعَاشِرُوهُمْ

مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ ; أَيْ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى خِلَافِكُمْ، يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِاتِّحَادِهِمْ فِي الدِّينِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُضَادَّتِكُمْ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أَيْ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهَذَا التَّشْدِيدُ فِي وُجُوبِ مُجَانَبَتِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، أَوْ لِأَنَّ الْمُوَالِينَ لَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ. اهـ. هَكَذَا خَصَّ الْبَيْضَاوِيُّ الْوِلَايَةَ بِمُعَاشَرَةِ الْمَحَبَّةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَشْخَاصِ فِي الْأُمُورِ، وَهُوَ خَطَأٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهُ لُغَةُ الْآيَةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَسِيَاقِهَا، كَمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَالْحَالَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَسَبَبُ وُقُوعِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ، اعْتِمَادُهُ عَلَى مِثْلِ الْكَشَّافِ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى تَفَاسِيرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرْسَخُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ قَدَمًا، وَأَدَقُّ فَهْمًا وَذَوْقًا ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ: " تَنْصُرُونَهُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونَهُمْ " وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَأَخَذَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَعْنَى الثَّانِي بِعِبَارَةٍ تَسْتَحِقُّ مِنَ النَّقْدِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ عِبَارَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَأَخْطَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إِيرَادِ حَدِيثِ " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ; فَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، أَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيرًا ; أَيْ رَوَوْهُ مُرْسَلًا، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا، وَقَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحُ الْمُرْسَلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ (أَيِ الدِّيَةِ) وَقَالَ: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، فَجَعَلَ لَهُمْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَسْقَطُوا نِصْفَ حَقِّهِمْ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَدَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَنْ نَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (8: 72) فَنَفَى تَعَالَى وِلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ ; إِذْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ يَنْفِيَ وِلَايَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَقَدْ كَانُوا مُحَارِبِينَ أَيْضًا - أَوْلَى. فَذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ وَضْعُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، إِنَّمَا يُنَاسِبُهُ مَا قُلْنَا آنِفًا، فَهُوَ لَا يَدُلُّ - إِذَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ

مُعَاشَرَةِ الْكِتَابِيِّ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ لَا خَوْفَ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُ وَلَا خَطَرَ، وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يُقِيمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ، حَتَّى إِنَّ عَلِيًّا الْمُرْتَضَى لَمَّا تَحَاكَمَ مَعَ يَهُودِيٍّ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَخَاطَبَهُ عُمَرُ أَمَامَ خَصْمِهِ الْيَهُودِيِّ بِالْكُنْيَةِ (يَا أَبَا الْحَسَنِ) غَضِبَ وَعَاتَبَ عُمَرَ ; أَنَّهُ عَظَّمَهُ أَمَامَ خَصْمِهِ، وَعُمَرُ لَمْ يَقْصِدْ تَمْيِيزَهُ عَلَى خَصْمِهِ، وَإِنَّمَا جَرَى لِسَانُهُ بِذَلِكَ ; لِتَعَوُّدِهِ تَكْرِيمَ عَلِيٍّ بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْكُنْيَةِ. عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ، لَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجَ بِنِسَائِهِمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَقُولُ فِي حِكْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسِرِّهَا: (وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (30: 21) . وَقَدْ جَرَى الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَصْنِيفًا وَتَدْرِيسًا عَلَى آثَارِ الْبَيْضَاوِيِّ ; إِذْ هُوَ الَّذِي يُدَرَّسُ الْآنَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّنِي لَمَّا زُرْتُ مَدِينَةَ دَارِ الْفُنُونِ فِي الْآسِتَانَةِ سَنَةَ 1328، وَطُفْتُ عَلَى حُجُرَاتِ الْمُدَرِّسِينَ أَلْفَيْتُ مُدَرِّسَ التَّفْسِيرِ يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا قَرَّرَ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ قَامَ أَحَدُ طُلَّابِ الْعِلْمِ مِنَ التُّرْكِ وَقَالَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَاذَا جَعَلَتِ الدَّوْلَةُ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَالْمَبْعُوثِينَ وَالْمُوَظَّفِينَ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ؟ فَأُرْتِجَ عَلَى الْمُدَرِّسِ، وَعَرِقَ جَبِينُهُ، وَنَاهِيكَ بِعِقَابِ الْحُكُومَةِ الْعُرْفِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ هُنَالِكَ لِمَنْ يَطْعَنُ فِي دُسْتُورِهَا، فَقُلْتُ لِلْمُدَرِّسِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُجِيبَ هَذَا السَّائِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُمْتُ، فَبَيَّنْتُ لَهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي الْآيَةِ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْتُهُ هُنَا، وَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الدَّوْلَةِ لِغَيْرِ الْمُحَارِبِينَ لَنَا، وَلَا هِيَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي شَيْءٍ، فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ وَالسَّامِعُ، وَسُرَّ الْأُسْتَاذُ، وَسُرِّيَ عَنْهُ، وَكَانَ لِهَذَا الْجَوَابِ أَحْسَنُ الْوَقْعِ عِنْدَ مُدِيرِ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَبَلَّغَهُ نَاظِرَ الْمَعَارِفِ فَارْتَاحَ إِلَيْهِ وَأَعْجَبَهُ، فَاقْتَرَحَ الْمُدِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَرِّرَ جَعْلَ تَدْرِيسِ التَّفْسِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثِ؛ رَجَاءَ أَنْ يُعْهَدَ إِلَيَّ بِهِ إِنْ أَقَمْتُ فِي الْآسِتَانَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ سِيقَ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ كَمَا قَالُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ، وَالنَّصَارَى بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ، لَا أَنَّ الْيَهُودَ أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مَنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ; إِذْ كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَقَضُوا مَا عَقَدَهُ الرَّسُولُ مَعَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ ; فَصَارَ الْجَمِيعُ حَرْبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِعُدْوَانٍ وَلَا قِتَالٍ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ السَّابِقَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) . . . إِلَخْ. فَهُوَ وَعِيدٌ لِمَنْ يُخَالِفُ النَّهْيَ ; أَيْ وَمَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ إِلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ لَا مِنْكُمْ ; لِأَنَّهُ مَعَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ مُؤْمِنٍ صَادِقٍ ; فَهُوَ إِمَّا مُوَافِقٌ لِمَنْ وَالَاهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ، أَوْ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِمَنْ وَالَاهُمْ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ، وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَنْ خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ انْتَهَى. وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ عَدُّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ) بَنِي تَغْلِبَ مِنَ النَّصَارَى لِمُوَالَاتِهِمْ لَهُمْ، وَأَجَازُوا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ لِعَدِّهِمْ مِنَ النَّصَارَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ أَمْرِهِ بِأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَزَوَاجِ نِسَائِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْآيَةِ: لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ قَيَّدَ ابْنُ جَرِيرٍ الْوِلَايَةَ بِكَوْنِهَا لِأَجْلِ الدِّينِ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ; إِذْ قَامَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُعَادُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُوَالَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ لِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ، فَإِذَا حَالَفَ الْمُسْلِمُونَ أُمَّةً غَيْرَ مُسْلِمَةٍ عَلَى أُمَّةٍ مِثْلِهَا ; لِاتِّفَاقِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَصْلَحَتِهَا، فَهَذِهِ الْمُحَالَفَةُ لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ. (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ، وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُوَالِي أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَصَبُوا لَهُمُ الْحَرْبَ، وَيَنْصُرُهُمْ أَوْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ فَهُوَ ظَالِمٌ بِوَضْعِهِ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَلَنْ يَهْتَدِيَ مِثْلُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ أَبَدًا. (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ ; فَهُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ; أَيْ إِيمَانُهُمْ مُعْتَلٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ لَمْ يَصِلُوا فِيهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْيَقِينِ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ - زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ - ذَا ضِلْعٍ مَعَ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَمُتُّونَ إِلَى الْيَهُودِ بِالْوَلَاءِ وَالْعُهُودِ، وَيُسَارِعُونَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكُوهَا. كُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِتَوْثِيقِ وَلَائِهِمْ وَتَأْكِيدِهِ ابْتَدَرُوهَا، فَهُمْ يُسَارِعُونَ فِي أَعْمَالِ مُوَالَاتِهِمْ مُسَارَعَةَ الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ، الثَّابِتِ عَلَيْهِ، الرَّاغِبِ فِيمَا يُزِيدُهُ تَمَكُّنًا وَثَبَاتًا ; وَلِهَذَا قَالَ: (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) وَلَمْ يَقُلْ يُسَارِعُونَ إِلَيْهِمْ، فَمَا عَذَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرَدِّدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) أَيْ نَخْشَى أَنْ تَقَعَ بِنَا مُصِيبَةٌ كَبِيرَةٌ مِمَّا يَدُورُ بِهِ الزَّمَانُ، أَوْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالدَّوَاهِي الَّتِي تُحِيطُ بِالْمَرْءِ إِحَاطَةَ الدَّائِرَةِ بِمَا فِيهَا. فَنَحْتَاجُ إِلَى نُصْرَتِهِمْ لَنَا، فَنَحْنُ نَتَّخِذُ لَنَا يَدًا عِنْدَهُمْ

52

فِي السَّرَّاءِ؛ نَنْتَفِعُ بِهَا إِذَا مَسَّتِ الضَّرَّاءُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ تَدُولَ الدَّوْلَةُ لِلْيَهُودِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ عَوْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ظَهَرَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ وَالْأَحْزَابِ، فَيَحِلَّ بِهِمْ مَا يَحِلُّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّقْمَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّتِهِ، لَمْ يُوقِنُوا بِصِدْقِهَا وَلَا بِكَذِبِهَا، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْهَا بِإِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ بِهَا، وَأَنْ يَتَّخِذُوا لَهُمْ يَدًا عَلَيْهَا لِأَعْدَائِهَا ; لِيَكُونُوا مَعَهُمْ إِذَا دَالَتِ الدَّوْلَةُ لَهُمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ كَثِيرًا مِنْ وُزَرَاءِ بَعْضِ الدُّوَلِ مُنْذُ قَرْنٍ أَوْ قَرْنَيْنِ مَا بَيْنَ رُوسِيٍّ وَإِنْكِلِيزِيٍّ وَأَلْمَانِيٍّ فِي سِيَاسَتِهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ لَهُ يَدًا عِنْدَ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِذَا أَصَابَتْهُ دَائِرَةٌ، حَتَّى تَغَلْغَلَ نُفُوذُ هَذِهِ الدُّوَلِ فِي أَحْشَاءِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، فَأَضْعَفْنَ اسْتِقْلَالَهَا فِي بِلَادِهَا، وَيُخْشَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ خَطَرِ نُفُوذِهِنَّ فِيهَا، وَحَتَّى صَارَ بَعْضُ رِجَالِهَا الصَّادِقِينَ لَهَا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مُضْطَرِّينَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِنُفُوذِ بَعْضِ هَذِهِ الدُّوَلِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَعْمَرَ الْأَجَانِبُ بِلَادَهُمْ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِعْمَارَ، وَأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَأَمْرُ مُنَافِقِيهِمْ أَظْهَرُ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْأَجَانِبِ بِمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ، حَتَّى فِيمَا لَمْ يُكَلِّفُوهُمْ إِيَّاهُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا تَأْمِينًا لِمُسْتَقْبَلِهِمْ، وَاحْتِيَاطًا لِمَعِيشَتِهِمْ، وَلَوِ الْتَزَمُوا الصِّدْقَ فِي أَمْرِهِمْ كُلِّهِ، فَلَمْ يَلْقَوْا أُمَّتَهُمْ بِوَجْهٍ وَالْأَجَانِبَ بِوَجْهٍ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْرَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْبِلَادِ وَمُدَارَاةِ الْأَجَانِبِ، وَلَكِنَّهُ النِّفَاقُ يَخْدَعُ صَاحِبَهُ بِمَا يَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَخْدَعُ بِهِ غَيْرَهُ وَيَسْلُكُ سَبِيلَ الْحَزْمِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِنِينَ عَلَى نَهْبِ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَإِيدَاعِهِ فِي مَصَارِفِ أُورُبَّةَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِهِ، إِذَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى دَوْلَتِهِمْ. قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مُنَافِقِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ: (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) أَيْ فَالرَّجَاءُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَصِدْقِهِ مَا وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يُعَادِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ; كَفَضِيحَتِهِمْ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى مَا كَتَمُوهُ وَأَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَوَقُّعِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِفَتْحِ الْبِلَادِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) (7: 89) وَقَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) (32: 28) وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَتْحُ مَكَّةَ، الَّذِي كَانَ بِهِ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَالثِّقَةُ بِقُوَّتِهِ، وَإِنْجَازُ اللهِ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ أَوَائِلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحَ بِلَادِ الْيَهُودِ فِي الْحِجَازِ كَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمِ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ بِالْجِزْيَةِ تُضْرَبُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَنْقَطِعُ أَمَلُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَيَنْدَمُوا

53

عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْرَارِهِمْ بِالْوَلَاءِ لَهُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِيقَاعِ بِالْيَهُودِ وَإِجْلَائِهِمْ عَنْ مَوْطِنِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَصَيَاصِيهِمْ، إِمَّا بِالْقَهْرِ وَالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ (كَبَنِي قُرَيْظَةَ) وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ (كَبَنِي النَّضِيرِ) . (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " وَيَقُولُ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطَفَ الْجُمَلِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ، عَطَفَا عَلَى " يَأْتِي "؛ أَيْ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، مُجْتَهِدِينَ فِي تَوْكِيدِهَا، إِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى دِينِكُمْ، وَمَعَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسِلْمِكُمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ " الَّتِي فَضَحَتْهُمْ: (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لِمَنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (9: 56) أَيْ فَهُمْ لِفَرَقِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (9: 57) أَيْ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعَ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ ; فِرَارًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتَوَارِيًا عَنْهُمْ، وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِمُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَوَدَّتِهِمُ السِّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا عَهْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوهُ ; يَجِدُونَ مِنْهُمْ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، أَوْ يُوقِعُونَ الْفَشَلَ وَالتَّخْذِيلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) (59: 11، 12) . . . إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَتَكَلَّفُونَهَا نِفَاقًا ; لِيُقْنِعُوكُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ ; كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْجِهَادِ مَعَكُمْ، فَخَسِرُوا مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، لَوْ صَلَحَ حَالُهُمْ وَقَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ! وَمَا أَخْسَرَهَا! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْقِيبًا عَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; إِذْ كَانَتْ تَقِيَّةً، لَا تَقْوَى فِيهَا وَلَا إِخْلَاصَ، وَبِخُسْرَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ مَا هُوَ صَرِيحٌ، وَفِي " عَسَى " هُنَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصْرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ

54

جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَخَذَلَ اللهُ الْكَافِرِينَ، وَفَضَحَ الْمُنَافِقِينَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ الْآيَتَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَفْقًا لِقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وَفِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بِالنُّبُوَّاتِ، وَهِيَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُكَابِرُونَ فِي نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيُمَارُونَ فِي (نُبُوَّاتِهِ) الظَّاهِرَةِ الصَّرِيحَةِ الثَّابِتَةِ بِالسَّنَدِ وَالدَّلِيلِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ (بِنُبُوَّاتٍ) رَمْزِيَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا وُجُوهُ التَّأْوِيلِ (يَرُونَا السُّهَى فَنُرِيهِمُ الْقَمَرَ) بَلْ نُرِيهِمْ مَا هُوَ أَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ وَأَظْهَرُ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (24: 40) . (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ تَتِمَّةِ السِّيَاقِ السَّابِقِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَدُّ مِنْهُمْ كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ مُرْتَدِّينَ بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَخْفَوْا ذَلِكَ فَإِظْهَارُهُمْ لِلْإِيمَانِ نِفَاقٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ حَالَهُمْ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةً يَدْعَمُهَا بِخَبَرٍ مِنَ الْغَيْبِ، يُظْهِرُهُ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ ; وَهِيَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَرْضَى الْقُلُوبِ لَا غَنَاءَ فِيهِمْ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي نَصْرِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ اللهُ الدِّينَ وَيُؤَيِّدُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ، فَيَزِيدُهُمْ رُسُوخًا فِي الْحَقِّ، وَقُوَّةً عَلَى إِقَامَتِهِ، وَيُحِبُّونَهُ فَيُؤْثِرُونَ مَا يُحِبُّهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِ وَالْعَدْلِ وَإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى سَائِرِ مَحْبُوبَاتِهِمْ مَنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، وَأَهْلٍ وَوَلَدٍ.

هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ، وَأَمَّا خَبَرُ الْغَيْبِ فَهُوَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ بَعْضُ الَّذِينَ آمَنُوا عَنِ الْإِسْلَامِ جَهْرًا، فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَخِّرُ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُجَاهِدُ لِحِفْظِهِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ " يَرْتَدِدْ " بِدَالَيْنِ، وَالْبَاقُونَ " يَرْتَدَّ " بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ ; فَلُغَةُ إِظْهَارِ الدَّالَيْنِ هِيَ الْأَصْلُ، وَلُغَةُ الْإِدْغَامِ تَشْدِيدٌ يُرَادُ بِهِ التَّخْفِيفُ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ يَا جَمَاعَةَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ عَنْ دِينِهِ لِعَدَمِ رُسُوخِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ مَكَانَهُمْ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُمْ بِقَوْمٍ رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. . . إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. أَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ قَتَادَةَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ - أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالُوا (أَيِ الْمُرْتَدُّونَ) : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، وَاللهِ لَا نُغْصَبُ أَمْوَالَنَا، فَكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا لِهَذَا أَعْطَوْهَا وَزَادُوهَا، فَقَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُ، وَلَوْ مَنَعُوا عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللهُ وَرَسُولَهُ لَقَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ اللهُ عِصَابَةً مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَاتَلَ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَبَى وَقَتَلَ وَحَرَقَ بِالنِّيرَانِ أُنَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ - وَهِيَ الزَّكَاةُ - صَغَرَةً أَقْمِيَاءَ، فَأَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ حِطَّةٍ مُخْزِيَةٍ أَوْ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ ; فَاخْتَارُوا الْحِطَّةَ الْمُخْزِيَةَ، وَكَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا، أَنَّ قَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَالْقَوْمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى هَذَا هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَرَوَوْا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الْفُرْسُ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي مَنَاقِبِ سَلْمَانَ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَ فِي خَيْبَرَ بِأَنْ يُعْطِيَ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّهُ اللهُ، ثُمَّ أَعْطَاهَا عَلِيًّا، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ، وَلَفْظُ الْقَوْمِ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْجَمَاعَةِ، وَغُلَاةُ

الرَّافِضَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ شَايَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ، فَقَلَبُوا الْمَوْضُوعَ، وَلَكِنَّ عَلِيًّا كَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ، هَذِهِ دَسِيسَةٌ مِنْ زَنَادِقَةِ الْفُرْسِ وَسَاسَتِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ الِانْتِقَامَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ; لِفَتْحِهِمَا بِلَادَهُمْ، وَإِزَالَتِهِمَا لِمُلْكِهِمْ، وَخِيَارُ مُسْلِمِي الْفُرْسِ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ إِذَا جُعِلَتْ لِعُمُومِ مَنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ. وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ: " إِنَّهُمْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ "، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: هُمْ أَهْلُ سَبَأٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ، ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ، ثُمَّ التُّجِيبِ ". وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، لِلْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: اللهُ تَعَالَى وَعَدَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْمُرْتَدِّينَ، وَرَأَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْوَعْدِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَلَوْ غَيْرَ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْأَشْعَرِيِّينَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ كَانَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ تَصْدُقُ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِهَا، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ هُمْ أَهْلُهَا بِالْأَوْلَى. أَمَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ فَكَثِيرُونَ، وَقَاتَلَهُمْ كَثِيرُونَ، فَكَانَ كُلُّ مُفَسِّرٍ يَذْكُرُ قَوْمًا مِمَّنْ حَارَبُوا الْمُرْتَدِينَ، وَيَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ لِمُرَجِّحٍ مَا، فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ أَنَّهُ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِرْقَةً ; ثَلَاثٌ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأُولَى) : بَنُو مُدْلِجٍ، وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْخِمَارِ ; وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، كَانَ كَاهِنًا تَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا عُمَّالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَإِلَى سَادَاتِ الْيَمَنِ، فَأَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ ; بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ، فَسُّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ، وَأَتَى خَبَرُهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. (الثَّانِيَةُ) : بَنُو حَنِيفَةَ قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بْنِ حَبِيبٍ، تَنَبَّأَ وَكَتَبَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ. سَلَامٌ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَانِ لَهُ بِذَلِكَ، فَحِينَ قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

كِتَابَهُ قَالَ لَهُمَا: " فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ " قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللهَ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا "، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَحَارَبَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: قَتَلْتُ فِي جَاهِلِيَّتِي خَيْرَ النَّاسِ، وَفِي إِسْلَامِي شَرَّ النَّاسِ. وَقِيلَ: اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ هُوَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ؛ طَعَنَهُ وَحْشِيٌّ، وَضَرْبَهُ عَبْدُ اللهِ بِسَيْفِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي أَبْيَاتٍ: يُسَائِلُنِي النَّاسُ عَنْ قَتْلِهِ ... فَقُلْتُ ضَرَبْتُ وَهَذَا طَعَنَ (الثَّالِثَةُ) : بَنُو أَسَدٍ ; قَوْمُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، تَنَبَّأَ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَيْهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَانْهَزَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ إِلَى الشَّامِ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَارْتَدَّتْ سَبْعُ فِرَقٍ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ (1) : فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ. (2) غَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ. (3) بَنُو سُلَيْمٍ قَوْمُ الْفُجَاءَةِ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ. (4) بَنُو يَرْبُوعَ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ. (5) بَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ قَوْمُ سِجَاحَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الْكَاهِنَةِ، تَنَبَّأَتْ، وَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ فِي قِصَّةٍ شَهِيرَةٍ، وَصَحَّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا. (6) كِنْدَةُ قَوْمُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ. (7) بَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِالْبَحْرَيْنِ، قَوْمُ الْحَطَمِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَفَى اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَارْتَدَّتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُمْ غَسَّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، تَنَصَّرَ وَلَحِقَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ، وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَحْبَارِ الشَّامِ لَمَّا لَحِقَ بِهِمْ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّ جَبَلَةَ وَرَدَ إِلَيَّ فِي سَرَاةِ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ، فَأَكْرَمْتُهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَطَافَ، فَوَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَلَطَمَهُ جَبَلَةَ فَهَشَّمَ أَنْفَهُ وَكَسَرَ ثَنَايَاهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: قَلَعَ عَيْنَهُ - فَاسْتَعْدَى الْفَزَارِيُّ عَلَى جَبَلَةَ إِلَيَّ، فَحَكَمْتُ إِمَّا بِالْعَفْوِ وَإِمَّا بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ: أَتَقْتَصُّ مِنِّي وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ؟ فَقُلْتُ: شَمَلَكَ وَإِيَّاهُ الْإِسْلَامُ، فَمَا تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالْعَافِيَةِ. فَسَأَلَ جَبَلَةُ التَّأْخِيرَ إِلَى الْغَدِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ رَكِبَ مَعَ بَنِي عَمِّهِ، وَلَحِقَ بِالشَّامِ مُرْتَدًّا، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَأَنْشَدَ: تَنَصَّرْتُ بَعْدَ الْحَقِّ عَارًا لِلَطْمَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ فَأَدْرَكَنِي مِنْهَا لِجَاجَ حَمِيَّةٍ ... فَبِعْتُ لَهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي ... صَبَرْتُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ

فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ أَحَدٌ. وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ جَمَاهِيرَ الْمُرْتَدِّينَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَهُمُ الَّذِينَ تَصْدُقُ عَلَيْهِمْ صِفَاتُ الْآيَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ. وَصَفَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْكَمَلَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسِتِّ صِفَاتٍ: (الصِّفَةُ الْأُولَى) : أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّهُمْ ; فَالْحُبُّ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي أُسْنِدَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَهُوَ تَعَالَى يُحِبُّ وَيُبْغِضُ كَمَا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ، وَلَا يُشْبِهُ حُبُّهُ حُبَّ الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْبَشَرَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (42: 11) وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ لَا يُشْبِهُ عِلْمَ الْبَشَرِ، وَلَا قُدْرَتُهُ تُشْبِهُ قُدْرَتَهُمْ، وَلَا نَتَأَوَّلُ حُبَّهُ بِالْإِثَابَةِ وَحُسْنِ الْجَزَاءِ، كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ فِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّنْزِيهِ ; إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَتَنْزِيهِ الذَّاتِ، وَإِلَّا لَاحْتَجْنَا إِلَى تَأْوِيلِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَهُمْ لَا يَتَأَوَّلُونَهَا، وَلَا يُخْرِجُونَ مَعَانِيَهَا عَنْ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا ; فَمَحَبَّتُهُ تَعَالَى لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْ عِبَادِهِ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ، لَا نَبْحَثُ عَنْ كُنْهِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَحُسْنُ الْجَزَاءِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْإِثَابَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ آثَارِهَا، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (3: 31) فَجَعَلَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّبِعِينَ وَلِلْمَغْفِرَةِ. فَكُلٌّ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ جَزَاءٌ مُسْتَقِلٌّ ; إِذِ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. (الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ تَعَالَى، وَحُبُّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ فِي آيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (2: 165) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (9: 24) . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ " وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهَمْ بِذَلِكَ ". وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحُبَّ بَعْضُ النَّاسِ أَيْضًا ; قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الطَّاعَةِ ; إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِبَّ الْإِنْسَانُ إِلَّا مَا يُجَانِسُهُ، وَيَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ 6 364)

فَإِنَّهُ جَعَلَ الْجِهَادَ غَيْرَ الْحُبِّ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورُ آنِفًا، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُبِّ وَالْعَمَلِ، وَجَعَلَ عُدَّتَهُ لِلسَّاعَةِ الْحُبَّ دُونَ كَثْرَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. نَعَمْ، إِنَّ الْحُبَّ يَسْتَلْزِمُ الطَّاعَةَ وَيَقْتَضِيهَا بِسُنَّةِ الْفِطْرَةِ، كَمَا قِيلَ: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ هَذَا لَعَمْرُكَ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَقَدْ أَطَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْمَحَبَّةِ مِنَ " الْإِحْيَاءِ " فِي بَيَانِ مَحَبَّةِ اللهِ لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّةِ عِبَادِهِ لَهُ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ الْمَحْرُومِينَ، فَجَاءَ بِمَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَتَسْكُنُ لَهُ النَّفْسُ، وَيَنْثَلِجُ بِهِ الصَّدْرُ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ هُوَ أَدَقُّ تَحْرِيرًا، وَأَشَدُّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْطِبَاقًا، وَلِسِيرَةِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مُوَافَقَةً. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنَ التَّفْسِيرِ قَدْ طَالَ جِدًّا لَحَرَّرْتُ هَذَا الْمَوْضُوعَ هُنَا، وَأَتَيْتُ بِخُلَاصَةِ أَقْوَالِ النُّفَاةِ الْمُعْتَرِضِينَ، وَصَفْوَةِ أَقْوَالِ الْمُثْبِتِينَ، وَلَكِنَّنَا نُرْجِئُ هَذَا إِلَى تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى كَآيَةِ التَّوْبَةِ (9: 24) وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى حُبِّ اللهِ مِنْ قَبْلُ فِي تَفْسِيرٍ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (2: 165) فَحَسْبُكَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ الْآنَ (رَاجِعْ ص55 وَمَا بَعْدَهَا ج2 ط الْهَيْئَةِ) . (الصِّفَتَانِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ) : الذِّلَّةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْعِزَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْمَرْوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (48: 29) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " أَذِلَّةٍ " جَمْعُ ذَلِيلٍ، وَأَمَّا " ذَلُولٌ " فَجَمْعُهُ ذُلُلٌ كَكُتُبٍ) وَوَجْهُ قَوْلِهِ: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) دُونَ " أَذِلَّةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ " بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ الذُّلَّ مَعْنَى الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ ; كَأَنَّهُ قَالَ: عَاطِفِينَ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مَعَ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ طَبَقَتِهِمْ، وَفَضْلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَافِضُونَ لَهُمْ أَجْنِحَتَهُمْ. (الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَأَصْلُ الْجِهَادِ احْتِمَالُ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ، وَسَبِيلُ اللهِ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ الْجِهَادِ بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَكْبَرُ آيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (9: 47) وَضِعَافُ الْإِيمَانِ قَدْ يُجَاهِدُونَ، وَلَكِنْ فِي سَبِيلِ مَنْفَعَتِهِمْ، دُونَ سَبِيلِ اللهِ، فَإِنْ رَأَوْا ظَفْرًا وَغَنِيمَةً ثَبَتُوا، وَإِنْ رَأَوْا شِدَّةً وَخَسَارَةً انْهَزَمُوا، وَهَلِ الْمُرَادُ بِهَذَا الْجِهَادِ هُنَا قِتَالُ الْمُرْتَدِّينَ، أَمْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي، وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مُقَاتِلِي الْمُرْتَدِّينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، أَوَّلًا وَبِالْأَوْلَى. (الصِّفَةُ السَّادِسَةُ) : كَوْنُهُمْ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَجُمْلَةُ هَذَا الْوَصْفِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْمُجَاهِدِينَ، وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَ لَوْمَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ

الْيَهُودِ لَهُمْ إِذَا هُمْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَبْلَغُ أَنْ تَكُونَ لِلْوَصْفِ الْمُطْلَقِ ; أَيْ إِنَّهُمْ لِتَمَكُّنِهِمْ فِي الدِّينِ، وَرُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةً مَا مِنْ أَفْرَادِ اللَّوْمِ أَوْ أَنْوَاعِهِ مِنْ لَائِمٍ مَا كَائِنًا مَنْ كَانَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ رَغْبَةً فِي جَزَاءٍ أَوْ ثَنَاءٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُمْ مِنْهُمْ ; فَيَخَافُونَ لَوْمَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ، وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَقْرِيرِ الْمَعْرُوفِ، وَإِزَالَةِ الْمُنْكِرِ ; ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَرْقِيَتِهَا. (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ السِّتِّ فَضْلُ اللهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَفْضُلُونَ غَيْرَهُمْ بِهِ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ مَشِيئَتَهُ، سُبْحَانَهُ، لِمِثْلِ هَذَا الْفَضْلِ، تَجْرِي بِحَسَبِ سُنَّتِهِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا أَمْرَ النِّظَامِ فِي خَلْقِهِ، فَمِنْهُمُ الْكَسْبُ وَالْعَمَلُ النَّفْسِيُّ وَالْبَدَنِيُّ، وَمِنْهُ سُبْحَانَهُ آلَاتُ الْكَسْبِ وَالْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَالتَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ، وَاللُّطْفُ وَالْمَعُونَةُ (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ شُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَنْ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ تَوَلِّي مَنْ تَجِبُ مُعَادَاتُهُمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ لَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَاصِرٌ يَنْصُرُكُمْ إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، وَأَنْفُسُكُمْ بَعْضُكُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَهُوَ نَفْيٌ لِنَصْرِ مَنْ يُسَارِعُ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ فِي تَوَلِّي الْكُفَّارِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِثْبَاتٌ لِنَصْرِ اللهِ وَوِلَايَتِهِ، وَلِنَصْرِ مَنْ يُقِيمُ دِينَهُ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَمَّا كَانَ لَقَبُ " الَّذِينَ آمَنُوا " يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ فِي الظَّاهِرِ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) أَيْ دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا آمِنًا بِأَفْوَاهِهِمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ دُونَ رُوحِهَا وَمَعْنَاهَا، فَإِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا. فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحَقِّ الْوِلَايَةِ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ إِقَامَةً كَامِلَةً بِالْآدَابِ الظَّاهِرَةِ، وَالْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ، وَالَّذِينَ يُعْطُونَ الزَّكَاةَ مُسْتَحِقِّيهَا، وَهُمْ خَاضِعُونَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى طَيِّبَةً نُفُوسُهُمْ بِأَمْرِهِ، لَا خَوْفًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، أَوْ يُعْطُونَهَا، وَهُمْ فِي ضَعْفٍ وَوَهْنٍ لَا يَأْمَنُونَ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ، فَاسْتَعْمَلَ الرُّكُوعَ فِي الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ لَا الْحِسِّيِّ، وَهُوَ التَّطَامُنُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ، أَوِ الضَّعْفُ وَانْحِطَاطُ الْقُوَى. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الرُّكُوعِ مِنَ الْأَسَاسِ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَلَمْ يَعْبُدِ الْأَوْثَانَ رَاكِعًا، وَيَقُولُونَ: " رَكَعَ إِلَى اللهِ "؛ أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ خَالِصًا، قَالَ النَّابِغَةُ: سَيَبْلُغُ عُذْرًا أَوْ نَجَاحًا مِنِ امْرِئٍ إِلَى رَبِّهِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ رَاكِعُ

56

فَهَذَا هُوَ الشَّاهِدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ فِي مَجَازِ الرُّكُوعِ: وَرَكَعَ الرَّجُلُ: انْحَطَّتْ حَالُهُ وَافْتَقَرَ، قَالَ: لَا تُهِينُ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ تَرَكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِرُكُوعِ الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ فِيهَا، وَرَوَوْا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ؛ إِذْ مَرَّ بِهِ سَائِرٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، لَكِنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمُفْرِدِ " بِالَّذِينِ آمَنُوا " وَعَنْ إِعْطَاءِ الْخَاتَمِ " بِـ " يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " مِمَّا لَا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ يَقَعُ فِي الْمُعْجِزِ مِنْ كَلَامِ اللهِ عَلَى عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِلسِّيَاقِ؟ أَمَّا إِفْرَادُ " وَلِيُّكُمْ " مَعَ إِسْنَادِ الْجَمْعِ إِلَيْهِ فَهُوَ لِبَيَانِ أَنَّ الْوَلِيَّ النَّاصِرَ بِالذَّاتِ هُوَ اللهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (2: 257) وَأَنَّ وِلَايَةَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَبَعٌ لِوِلَايَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: " إِنَّ أَوْلِيَاءَكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا " لَمَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَسْتَوِي الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، وَالرَّبُّ وَالْمَالِكُ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ؟ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) أَيْ إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ، وَكَانَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَوْلِيَاءَ لَكُمْ بِالتَّبَعِ لِوَلَايَتِهِ فَهُمْ بِذَلِكَ حِزْبُ اللهِ تَعَالَى وَاللهُ نَاصِرٌ لَهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَيَتَوَلَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَشَدِّ أَزْرِهِمْ، وَبِالِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ دُونَ أَعْدَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ، فَلَا يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ حِزْبُ اللهِ تَعَالَى، فَفِيهِ وَضْعُ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَنُكْتَتُهُ بَيَانُ عِلَّةِ كَوْنِهِمْ هُمُ الْغَالِبِينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الشِّيعَةُ بِالْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ إِمَامَةِ عَلِيٍّ بِالنَّصِّ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ فِيهِ، وَجَعَلُوا الْوَلِيَّ فِيهَا بِمَعْنَى الْمُتَصَرِّفَ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ. وَعَلِمْنَا مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْوِلَايَةَ هَاهُنَا وِلَايَةُ النَّصْرِ، لَا وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ وَالْحُكْمِ ; إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمُ الرَّازِيُّ، وَغَيْرُهُ بِوُجُوهٍ، وَهَذِهِ الْمُجَادَلَاتُ ضَارَّةٌ غَيْرُ نَافِعَةٍ، فَهِيَ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ وَأَضْعَفَتْهَا، فَلَا نَخُوضُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَى الْإِمَامَةِ لَمَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ; أَوْ لَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ.

57

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; مُعَلِّلًا لَهُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، لَا يُوَالِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا يُوَالِيهِمْ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا مَرْضَى الْقُلُوبِ، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعَادَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَاصِفًا إِيَّاهُمْ بِوَصْفٍ آخَرَ مِمَّا كَانُوا يُؤْذُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُقَاوِمُونَ دِينَهُمْ، وَعَطَفَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فَقَالَ:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) قَرَأَ أَبُو عُمَرَ، وَالْكِسَائِيُّ: " الْكُفَّارِ " بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى " الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ "، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى " الَّذِينَ اتَّخَذُوا "، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ تُفِيدُ أَنَّ الْكُفَّارَ؛ أَيِ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَ الْمُسْلِمِينَ هُزُوًا وَلَعِبًا، لَا تُبَاحُ وِلَايَتَهُمْ، وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ يُتَّخَذُونَ أَوْلِيَاءَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِوَصْفٍ فِيهِمْ يُنَافِي الْمُوَالَاةَ، كَاتِّخَاذِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ هُزُوًا وَلَعِبًا ; أَيْ شَيْئًا يُمْزَحُ بِهِ وَيُسْخَرُ مِنْهُ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى، وَحِكْمَةُ قِرَاءَةِ الْجَرِّ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَهْزَأُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَيَعْبَثُ بِهِ، فَقِرَاءَةُ الْجَرِّ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ هَؤُلَاءِ لِوَصْفِهِمْ هَذَا، وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ ; لِإِفَادَةِ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ مُوَالَاةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِمْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، تَكُونُ قُوَّةً لَهُمْ، وَإِقْرَارًا عَلَى شِرْكِهِمُ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِمَحْوِهِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَسِيَاسَةُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ غَيْرُ سِيَاسَتِهِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ مِنْ آخَرَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ، وَشَرَعَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَإِقْرَارَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَنَهَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَفِي الْآيَةِ تَمْيِيزُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِطْلَاقِ اللَّقَبِ ; إِذْ خَصَّهُمْ فِي الْمُقَابَلَةِ بِلَقَبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَقَّبَ الْمُشْرِكِينَ بِالْكُفَّارِ، كَمَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِالْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ; لِأَنَّهُمْ لِوَثَنِيَّتِهِمْ عَرِيقُونَ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَأُصَلَاءُ فِيهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَكَانَ قَدْ عَرَضَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ لِلْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ عَرُوضًا، وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ازْدَادَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ كُفْرًا بِجُحُودِ نُبُوَّتِهِ، وَإِيذَائِهِ. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِ الْمُوَالَاةِ، فَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَيَنْقَلِبُ الْغَرَضُ إِلَى ضِدِّهِ، فَتَكُونُ وَهْنًا لَكُمْ، لَا نَصْرًا، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صَادِقِينَ فِي إِيمَانِكُمْ، تَحْفَظُونَ كَرَامَتَهُ، وَتَتَجَنَّبُونَ مَهَانَتَهُ. (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) أَيْ وَإِذَا أَذَّنَ مُؤَذِّنُكُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، جَعَلَهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُمْ عَنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَهْزَءُونَ وَيَلْعَبُونَ بِهَا، وَيَسْخَرُونَ مِنْ أَهْلِهَا (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) حَقِيقَةَ الدِّينِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَلَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ ذَلِكَ لَخَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ كُلَّمَا سُمِعُوا مُؤَذِّنَكُمْ يُكَبِّرُ اللهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُهُ بِصَوْتِهِ النَّدِيِّ، وَيَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ لَهُ وَالْفَلَّاحِ بِمُنَاجَاتِهِ وَذِكْرِهِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى شَرْعِ الْأَذَانِ، فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعًا، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ حَدِيثُ الْأَذَانِ.

59

رَوَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ النَّصَارَى الْمُعْتَدِلِينَ فِي بِلَادِنَا كَلِمَاتِ الثَّنَاءِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِشَعِيرَةِ الْأَذَانِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَتَفْضِيلَهَا عَلَى الْأَجْرَاسِ وَالنَّوَاقِيسِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ بُيُوتَاتِ نَصَارَى طَرَابُلُسَ مُصْطَافِينَ فِي بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) فَكَانَ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي النَّوَافِذِ عِنْدَ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ، وَلَا سِيَّمَا أَذَانُ الصُّبْحِ ; لِيَسْمَعُوا أَذَانَهُ، وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ نَدِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَهُ. وَاتَّفَقَ أَنْ غَابَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمًا، فَأَذَّنَ رَجُلٌ قَبِيحُ الصَّوْتِ، فَلَقِيَ وَالِدَيْ رَبَّ بَيْتٍ مِنْ تِلْكَ الْبُيُوتَاتِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُؤَذِّنَكُمُ الْيَوْمَ يَسْتَحِقُّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيَّ؟ قَالَ الْوَالِدُ: بِمَاذَا؟ قَالَ بِأَنَّهُ أَرْجَعَ أَهْلَ بَيْتِنَا إِلَى دِينِهِمْ، بَعْدَ أَنْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِأَذَانِ الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ. وَأَنَا أَتَذَكَّرُ أَنَّ بَعْضَ صِبْيَانِهِمْ حَفِظَ الْأَذَانَ، وَصَارَ يُقَلِّدُهُ تَقْلِيدَ اسْتِحْسَانٍ، فَتَغْضَبُ وَالِدَتُهُ مِنْهُ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْأَذَانِ، وَأَمَّا وَالِدُهُ فَكَانَ يَضْحَكُ، وَيُسَرُّ لِأَذَانِ وَلَدِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَسِعَةِ صَدْرٍ، وَلَا يَدِينِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ. فَالْأَذَانُ ذِكْرٌ مُؤَثِّرٌ، لَا تَخْفَى مَحَاسِنُهُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ الدِّينَ، وَيُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ " قَالَ: أُحْرِقَ الْكَاذِبُ (دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْحَرِيقِ) فَدَخَلَتْ خَادِمَتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَوُجُودُ النَّصَارَى فِي الْمَدِينَةِ كَانَ نَادِرًا، وَأَكْثَرُ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ كَانَ يَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ، كَمَا يَعْلَمُ مِنْ رَدِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّبْكِيتِ ; أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا وَمُحْتَجًّا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا شَيْئًا ; أَيْ هَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ تُنْكِرُونَهُ وَتَعِيبُونَهُ عَلَيْنَا، وَتَكْرَهُونَنَا لِأَجْلِهِ لِمُضَادَّتِكُمْ إِيَّانَا فِيهِ، إِلَّا إِيمَانُنَا الصَّادِقُ بِاللهِ، وَتَوْحِيدُهُ وَتَنْزِيهُهُ، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، وَإِيمَانُنَا بِمَا أَنْزَلَهُ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى رُسُلِهِ؟ أَيْ مَا عِنْدَنَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُعَابُ وَلَا يُنْقَمُ، بَلْ يُمْدَحُ صَاحِبُهُ وَيُكْرَمُ، وَإِلَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ; أَيْ خَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ هَذَا الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْبَاطِلَةُ؟ فَلِذَلِكَ تَعِيبُونَ الْحُسْنَ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَرْضَوْنَ الْقَبِيحَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. يُقَالُ: نَقَمَ مِنْهُ كَذَا يَنْقِمُ (كَضَرَبَ يَضْرِبُ) إِذَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَعَابَهُ بِهِ، وَكَرِهَهُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ النِّقْمَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ السُّخْطِ وَالْعِقَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، وَيُقَالُ: نَقِمَ يَنْقَمُ (بِوَزْنِ عِلِمَ يَعْلَمُ) وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ الْأَوَّلُ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَارِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَخَالِدٌ، وَإِزَارُ بْنُ أَبِي إِزَارٍ، وَوَاسِعٌ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: " آمَنَّا بِاللهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 6 370 "

فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا لَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) . . . إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَتَعُمُّ كُلَّ نَاقِمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) مَا نَبَّهَنَا عَلَى مِثْلِهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ ; إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، وَمَا عَمَّ إِلَّا وَاسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ وَلَا يَزَالُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أُنَاسٌ لَا يَزَالُونَ مُعْتَصِمِينَ بِأُصُولِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَحُبِّ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ إِذَا عَرَفُوهُ بِقَدْرِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ جَوْهَرِ الدِّينِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا كَانَ مِنْ طُرُوءِ التَّحْرِيفِ عَلَى دِينِهِمْ، وَنِسْيَانِ حَظٍّ وَنَصِيبٍ مِمَّا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) الْمَثُوبَةُ كَالْمَقُولَةِ مِنْ ثَابَ الشَّيْءُ يَثُوبُ، وَثَابَ إِلَيْهِ، إِذَا رَجَعَ ; فَهِيَ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَزَاءِ الْحَسَنِ أَكْثَرُ، وَقِيلَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَزَاءِ السَّيِّئِ تَهَكُّمٌ، وَالْمَعْنَى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِنَا وَأَذَانِنَا بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِكُمْ هَذَا ثَوَابًا وَجَزَاءً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يَسْتَلْزِمُ سُؤَالًا مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أَيْ إِنَّ الَّذِي هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ ثَوَابًا وَجَزَاءً عِنْدَ اللهِ، هُوَ عَمَلُ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، أَوْ جَزَاءُ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ. . . إِلَخْ. فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) (2: 189) وَقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الْبَرَّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ) (2: 177) وَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ. . . إِلَخْ. كَمَا تَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنِ اتَّقَى. انْتَقَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَبْكِيتِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى هُزُئِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ تَبْكِيتًا وَتَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ، بِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِسُوءِ حَالِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى فِسْقِهِمْ، وَتَمَرُّدِهِمْ بِأَشَدِّ مَا جَازَى اللهُ تَعَالَى بِهِ الْفَاسِقِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اللَّعْنُ وَالْغَضَبُ، وَالْمَسْخُ الصُّورِيُّ أَوِ الْمَعْنَوِيُّ، وَعِبَادَةُ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ عَظُمَ شَأْنُ هَذَا الْمَعْنَى بِتَقْدِيمِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ، الْمُشَوِّقِ إِلَى الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُنْبِأِ عَنْهُ. أَمَّا لَعْنُ اللهِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ مَعَ سَبَبِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَكَذَا هَذِهِ السُّورَةُ (الْمَائِدَةُ) فَسَيَأْتِي فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، خَبَرُ لَعْنِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَبَعْضُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مُطْلَقٌ، وَبَعْضُهُ مُقَيَّدٌ بِأَعْمَالٍ لَهُمْ ; كَنَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَالْفِرْيَةِ عَلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَتَرْكِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ.

60

وَمِنْهُ لَعْنُ أَصْحَابِ السَّبْتِ ; أَيِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِيهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُجْمَلًا، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُفَصَّلًا. وَالْغَضَبُ الْإِلَهِيُّ يَلْزَمُ اللَّعْنَةَ وَتَلْزَمُهُ، بَلِ اللَّعْنَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْتَهَى الْمُؤَاخَذَةِ لِمَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَأَمَّا جَعْلُهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ فَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (2: 65) وَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ مِنَ الثَّانِيَةِ: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (7: 166) وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُسِخُوا فَكَانُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ حَقِيقَةً، وَانْقَرَضُوا ; لِأَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ كَمَا وَرَدَ. وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ " أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَهُمْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا " ; فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ صَارُوا كَالْقِرْدَةِ فِي نَزَوَاتِهَا، وَالْخَنَازِيرِ فِي اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ. قَالَ: " مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا " وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ ابْنِ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ هَذَا، وَتَرْجِيحِهِ الْقَوْلَ الْآخَرَ فَذَلِكَ اجْتِهَادُهُ، وَكَثِيرًا مَا يَرِدُ بِهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ. وَلَيْسَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ بِالْبَعِيدِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ ; فَمِنْ فَصِيحِ اللُّغَةِ أَنْ تَقُولَ: رَبَّى فَلَانٌ الْمَلِكُ قَوْمَهُ أَوْ جَيْشَهُ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْغَزْوِ، فَجَعَلَ مِنْهُمُ الْأُسُودَ الضَّوَارِي، وَكَانَ لَهُ مِنْهُمُ الذِّئَابُ الْمُفْتَرِسَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ، وَعِدَّةُ قِرَاءَاتٍ شَاذَّةٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ " عَبَدَ " بِالتَّحْرِيكِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَ " الطَّاغُوتَ " بِالنَّصْبِ مَفْعُولُهُ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَعَنَهُ اللهُ) أَيْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ هُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ. . . إِلَخْ، وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَعَبُدَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَضَمِّ الْبَاءِ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي (عَبْدٍ) بِوَزْنِ (بَحْرٍ) وَاحِدِ الْعَبِيدِ، وَقَرَأَ (الطَّاغُوتِ) بِالْجَرِّ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى (الْقِرَدَةِ) أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ عَبِيدَ الطَّاغُوتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَبْدًا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ لَا الْوَاحِدُ، كَمَا تَقُولُ: كَاتِبُ السُّلْطَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ اسْمٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ مِنَ الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْرُوفِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْمُنْكَرِ ; فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَصَادِرِ طُغْيَانِهِمْ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمُخَازِي

61

وَالشَّنَائِعِ شَرٌّ مَكَانًا ; إِذْ لَا مَكَانَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْبَاتِ الشَّرِّ لِمَكَانِهِمْ إِثْبَاتُهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، الَّذِي هُوَ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ، وَأَضَلُّ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ الْحَقِّ وَوَسَطِهِ الَّذِي لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيطَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَاتِّخَاذِهَا هُزُؤًا وَلَعِبًا إِلَّا الْجَهْلُ وَعَمَى الْقَلْبِ. (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمِنًا) الْكَلَامُ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا ; أَيْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْكُمْ، وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ وَلَكُمْ: إِنَّنَا آمَنَّا بِالرَّسُولِ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أَيْ وَالْحَالُ الْوَاقِعَةُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْكُفْرِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَرَجُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهِ ; فَحَالُهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ هِيَ حَالُهُمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ، لَمْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِالرَّسُولِ، وَمَا نَزَلْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ يُخَادِعُونَكُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) (2: 76) الْآيَةَ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) عِنْدَ دُخُولِهِمْ مِنْ قَصْدِ تَسَقُّطِ الْأَخْبَارِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالنِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْكَذِبِ الَّذِي يَلْقَوْنَهُ إِلَى الْبُعَدَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) وَنُكْتَةُ قَوْلِهِ: (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) هِيَ تَأْكِيدُ كَوْنِ حَالِهِمْ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ كَحَالِهِمْ فِي وَقْتِ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ هَذَا لِلتَّأْكِيدِ لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ يُجَالِسُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَسْمَعُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَيَرَى مِنَ الْفَضَائِلِ مَا يَكْبُرُ فِي صَدْرِهِ، وَيُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ سَيِّئَ الظَّنِّ رَجَعَ عَنْ سُوءِ ظَنِّهِ، وَأَمَّا سَيِّئُ الْقَصْدِ فَلَا عِلَاجَ لَهُ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الرَّجُلُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَإِذَا رَآهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي أَيَّدَتْهُ التَّجْرِبَةُ، وَإِنَّمَا شَذَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ ; لِأَنَّ سُوءَ نِيَّتِهِمْ وَفَسَادَ طَوِيَّتِهِمْ قَدْ صَرَفَا قُلُوبَهُمْ عَنِ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَوَجَّهَا كُلَّ قُوَاهُمْ إِلَى الْكَيْدِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّجَسُّسِ وَمَا يُرَادُ بِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ مَا يَعْقِلُونَ بِهِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَيَفْهَمُونَ مَغْزَى الْحِكَمِ وَالْآدَابِ. (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (33: 4) . (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أَيْ وَتَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَ الْحَقِّ هُزُؤًا وَلَعِبًا، يُسَارِعُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْإِثْمِ وَعَمَلِهِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَضُرُّ قَائِلَهُ وَفَاعِلَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي الْعُدْوَانِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَتَجَاوَزُ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ، وَفِي أَكْلِ السُّحْتِ وَهُوَ الدَّنِيءُ مِنَ الْمُحَرَّمِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَمْ يَقُلْ: يُسَارِعُونَ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُسَارِعَ إِلَى الشَّيْءِ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، وَهَؤُلَاءِ غَارِقُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا

62

يُسَارِعُونَ فِي جُزْئِيَّاتِ وَقَائِعِهِمَا، كُلَّمَا قَدَرُوا عَلَى إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ ابْتَدَرُوهُ، وَلَمْ يَنُوا فِيهِ (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) تَقْبِيحٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الْمَعَاصِي الْمُفْسِدَةِ لِأَخْلَاقِهِمْ، وَلِلْأُمَّةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا إِنْ لَمْ تَنْهَهُمْ وَتَزْجُرْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَمْ يَكُنْ يَقُومُ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، لَا الْعُلَمَاءُ وَلَا الْعِبَادُ ; إِذْ كَانَ الْفَسَادُ قَدْ عَمَّ الْجَمِيعَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) أَيْ هَلَّا يَنْهَى هَؤُلَاءِ الْمُسَارِعِينَ فِيمَا ذَكَرَ أَئِمَّتُهُمْ فِي التَّرْبِيَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَعُلَمَاءُ الشَّرْعِ وَالْفَتْوَى فِيهِمْ عَنْ قَوْلِ الْإِثْمِ كَالْكَذِبِ، وَأَكْلِ السُّحْتِ كَالرِّشْوَةِ! لَبِئْسَ مَا كَانَ يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ مِنَ الرِّضَا بِهَذِهِ الْأَوْزَارِ، وَتَرْكِ فَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ; أَيْ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ إِذَا قَصَّرُوا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا كَانَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ هَذَا، فَمَا قَوْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدِّينَ وَأَفْسَدُوا الْأُمَّةَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ؟ وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّنَا نَقْرَأُ تَوْبِيخَ الْقُرْآنِ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ عَلَى ذَلِكَ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً، ثُمَّ لَا نَعْتَبِرُ بِإِهْمَالِ عُلَمَائِنَا لِأَمْرِ دِينِنَا، وَعِنَايَةِ عُلَمَائِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي التَّعْبِيرِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ " يَعْمَلُونَ "، وَ " يَصْنَعُونَ " قَالَ الرَّاغِبُ: الصُّنْعُ: إِجَادَةُ الْفِعْلِ ; فَكُلُّ صُنْعٍ فِعْلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ صُنْعًا، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ كَمَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الصُّنْعُ أَخَصُّ مِنَ الْعَمَلِ ; فَهُوَ مَا صَارَ مَلَكَةً مِنْهُ، وَالْعَمَلُ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ بِقَصْدٍ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا " آثِمٌ " مِنْ مُرْتَكِبِي الْمَنَاكِيرِ ; لِأَنَّ كُلَّ عَامِلٍ لَا يُسَمَّى صَانِعًا، وَلَا كُلَّ عَمَلٍ يُسَمَّى صِنَاعَةً حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِيهِ وَيَتَدَرَّبَ وَيَنْسُبَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِعَ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَيْهَا وَتَحْمِلُهُ عَلَى ارْتِكَابِهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَنْهَاهُ فَلَا شَهْوَةَ مَعَهُ فِي فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا فَرَّطَ فِي الْإِنْكَارِ كَانَ أَشَدَّ إِثْمًا مِنَ الْمُوَاقِعِ، انْتَهَى. وَالَّذِي أَفْهَمَهُ أَنَّ مَعَاصِيَ الْعَوَامِّ مِنْ قَبِيلِ مَا يَحْصُلُ بِالطَّبْعِ ; لِأَنَّهُ انْدِفَاعٌ مَعَ الشَّهْوَةِ بِلَا بَصِيرَةٍ، وَمَعْصِيَةُ الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ ; لِفَائِدَةٍ لِلصَّانِعِ فِيهَا يَلْتَمِسُهَا مِمَّنْ يَصْنَعُ لَهُ، وَمَا تَرَكَ الْعُلَمَاءُ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا أَخَذَ اللهَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، إِلَّا تَكَلُّفًا لِإِرْضَاءِ النَّاسِ، وَتَحَامِيًا لِتَنْفِيرِهِمْ مِنْهُمْ، فَهُوَ إِيثَارٌ لِرِضَاهُمْ عَلَى رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصُّنْعِ، لَا مِنَ الصِّنَاعَةِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ يُرْضِيهِ بِهِ.

64

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) . لَمَّا أَسْرَفَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا فَضَّلَهُمْ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مَخَازِيهِمُ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا تَارِيخُهُمْ وَكُتُبُ دِينِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي أَخْلَاقِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ وَأَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ هُنَا قَوْلًا فَظِيعًا، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، يَدُلُّ عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِمُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ تَرْكِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) هَذَا الْقَوْلُ الْفَظِيعُ مِنْ شَوَاهِدَ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، الَّذِي أَثْبَتَهُ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ عُزِيَ إِلَيْهِمْ - وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ - لِأَنَّهُ أَثَرُ مَا فَشَا فِيهِمْ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ وَتَرْكِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَالْمُقِرُّ لِلْمُنْكَرِ شَرِيكُ الْفَاعِلِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ

مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ النَّبَّاشُ بْنُ قَيْسٍ: إِنْ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ) الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ رَأْسِ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَقَدْ يُجْهِدُنَا اللهُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى جَعَلَ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، أَوْ حَتَّى إِنَّ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ كَأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِهَذَا عَنْ إِنْفَاقٍ كَانَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ، أَوْ فِي حَالِ جَدْبٍ أَصَابَهُمْ. قِيلَ: كَانُوا أَغْنَى النَّاسِ، فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ بَعْدَ مُقَاوَمَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِمْ وَمُرَادِهِمْ، قَالُوا: إِنَّ اللهَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَلَا يَبْسُطُهَا حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْنَا مُلْكَنَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللهِ مُوَثَّقَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ. تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَجَعَلَ الْعِبَارَةَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ الْآيَةَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ ; لِأَنَّ يَهُودَ عَصْرِهِ يُنْكِرُونَ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ ; وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُ عَقَائِدَهُمْ، وَمُقْتَضَى دِينِهِمْ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفُهُ لَهُ) (2: 245) قَالُوا: مَنِ احْتَاجَ إِلَى الْقَرْضِ كَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ. بَلْ قَالُوا مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِمْ، وَالْخَرْصِ فِي بَيَانِ مُرَادِهِمْ مِنْهُ. وَمَا هَذَا إِلَّا غَفْلَةٌ عَنْ جُرْأَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْبَعِيدِ عَنِ الْأَدَبِ بُعْدَ صَاحِبِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْقِشْرِيَّةُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صُدُورِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُجَازِفِينَ مِنَ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقِينَ فَاسِدِينَ، وَطَالَمَا سَمِعْنَا مِمَّنْ يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِنَا مِثْلَهُ فِي الشَّكْوَى مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ عِنْدَ الضِّيقِ وَفِي إِبَّانِ الْمَصَائِبِ. وَعِبَارَةُ الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، حَتَّى يَجْعَلَ إِنْكَارَ بَعْضِهِمْ لَهُ فِي بَعْضِ الْعُصُورِ وَجْهًا لِلْإِشْكَالِ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا عَزَاهُ إِلَى جِنْسِهِمْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَعْزُونَ إِلَى الْأُمَّةِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ لَا يُنْكَرُ فِيهِمْ. وَالْقُرْآنُ يُسْنِدُ إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ مَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ سَلَفُهُمْ مُنْذُ قُرُونٍ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَكَوْنِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَمِثْلُ هَذَا الْأُسْلُوبِ مَأْلُوفٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَيْضًا. وَالْيَدُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ. يَقُولُ أَهْلُ الْبَيَانِ: إِنَّ بَعْضَهَا حَقِيقَةٌ، وَبَعْضَهَا مِنَ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ، فَتُطْلَقُ عَلَى الْجَارِحَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. رَأَى أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا ; لِأَنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللهِ

تَعَالَى. وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْوِيضِ: بَلْ نُثْبِتُ لَهُ الْيَدَ، وَنُنَزِّهُهُ عَنْ لَوَازِمَ هَذَا الْإِطْلَاقِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّاسِ. وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلْفِ لِلْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْخَلْفِ وَالسَّلَفِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْوِيضِ ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ غِلِّ الْيَدِ فِي الْبُخْلِ وَبَسْطَهَا فِي الْجُودِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ مَأْلُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطُهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (17: 29) وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ يَفْهَمُ اللُّغَةَ: إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (غُلَّتَ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، يُنَاسِبُ جُرْمَهُمْ هَذَا، وَجَزَاءٌ لَهُمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ ; لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْتَشْرِفُ لَهُ النُّفُوسُ، وَتَتَسَاءَلُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى " غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ": أَمْسَكَتْ أَيْدِيهِمْ وَانْقَبَضَتْ عَنِ الْعَطَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ، وَمَا زَالُوا أَبْخَلَ الْأُمَمِ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَبْذُلُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ يَرَى أَنَّ لَهُ مِنْ وَرَائِهِ رِبْحًا، وَقَدْ حَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَارْتَقَتْ مَعَارِفُهُمْ وَحَضَارَتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَتَرَبَّوْا فِي أُمَمٍ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، صَارَ مِنْ تَقَالِيدِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بَذْلُ الْمَالِ لِمَعَاهِدِ الْعِلْمِ وَالْمَلَاجِئِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ، وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ أَغْنَى هَذِهِ الْأُمَمِ وَمُضْطَرُّونَ لِمُجَارَاتِهَا لَا يَبْذُلُونَ إِلَّا دُونَ مَا يَبْذُلُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِعَانَاتِ الْخَيْرِيَّةِ، بَلْ هُمْ عَلَى شِدَّةِ تَكَافُلِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِالْعَصَبِيَّةِ الْمِلِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَلَّمَا يُسَاعِدُ أَغْنِيَاؤُهُمْ فُقَرَاءَهُمْ بِالصَّدَقَةِ الْخَالِصَةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَحُبًّا فِي الْخَيْرِ، بَلْ يَتَّجِرُونَ وَيُرَابُونَ بِالْإِعَانَاتِ ; فَيُعْطُونَ الْفُقَرَاءَ مَالًا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ رِبًا قَلِيلٍ فِي الْغَالِبِ. وَقِيلَ: إِنِ الْمُرَادَ بِغِلِّ الْأَيْدِي رَبْطُهَا إِلَى الْأَعْنَاقِ بِالْأَغْلَالِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي النَّارِ أَوْ فِيهِمَا. نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْغِلِّ: يُغَلُّونَ فِي الدُّنْيَا أُسَارَى، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبِينَ بِأَغْلَالِ جَهَنَّمَ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّعْنَةِ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجِزْيَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. حَكَاهُ عَنْهُ نِظَامُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَوْرَدَ وَاقِعَةً بِهَذَا الْمَعْنَى حَدَثَتْ فِي زَمَنِهِ، قَالَ: وَمِمَّا وَقَعَ فِي عَصْرِنَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا حُكِيَ أَنَّ مُتَغَلِّبًا مِنَ الْيَهُودِ مُسَمَّى بِسَعْدِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْقَى النَّاسِ، كَانَ سَمِعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وَدَعَا بِمُصْحَفٍ كَانَ مَكْتُوبًا بِأَحْسَنِ خَطٍّ وَأَشْهَرِهِ مِنْ خُطُوطِ الْكُتَّابِ الْمَاضِينَ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْعَصْرِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتَابَةِ مِثْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ هَذِهِ الْآيَةُ؟ يَعْنِي قَوْلُهُ: " غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " فَأَرَوْهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهَا. فَلَمْ يَمْضِ إِلَّا أُسْبُوعٌ إِلَّا وَقَدْ سَخِطَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ، وَأَمْرَ بَغْلِّ يَدَيْهِ فَغَلُّوهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، اهـ.

وَالْمُرَادُ أَنَّ السُّلْطَانَ غَضِبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاوَتِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا، لَا بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِ وَتَشْوِيهِهِ لِلْمُصْحَفِ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَلِأَجْلِ هَذَا عَدَّ الْمُصَنِّفُ الْإِيقَاعَ بِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا عَجِبْنَا نَحْنُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ تَسَاهُلِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ الْحُكُومَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ كَيْفَ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ ; رَجُلٌ مِنْ أَشْقِيَاءِ الْيَهُودِ أَهْلِ النُّفُوذِ، يَجِيءُ بَغْدَادَ، فَيَنْزِلُ فِي مَدْرَسَةٍ مِنْ أَشْهَرَ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيَكُونُ لَهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَالْعَبَثِ بِكُتُبِهَا مَا يُمَكِّنُهُ مَنْ تَشْوِيهِ مُصْحَفٍ أَثَرِيٍّ، كَانَ أَحْسَنَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي حَفِظَهَا التَّارِيخُ فِي بَغْدَادَ؟ ! فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا التَّسَامُحِ الْمُعْتَبِرُونَ. ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أَيْ بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْجُودِ الْكَامِلِ، وَالْعَطَاءِ الشَّامِلِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِبَسْطِ الْيَدَيْنِ ; لِأَنَّ الْجَوَّادَ السَّخِيَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْعَطَاءِ جَهْدَ اسْتِطَاعَتِهِ يُعْطِي بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَصَفُوهُ بِغَايَةِ الْبُخْلِ وَالْإِمْسَاكِ، فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ غَايَةَ الْجُودِ وَسِعَةَ الْعَطَاءِ. وَلَا غَرْوَ، فَكُلُّ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ هُوَ سِجِلٌّ مِنْ ذَلِكَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ. وَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: " كَيْفَ يَشَاءُ " بَيَانُ أَنَّ تَقْتِيرَ الرَّزَّاقِ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادِ، الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ لَا يُنَافِي سِعَةَ الْجُودِ وَسَرَيَانِهِ فِي كُلِّ الْوُجُودِ، فَإِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بِحَسَبَ السُّنَنِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلْقِ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ: كَيْفَ صَوَّرَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْيَدِ هُنَا أَحْسَنَ تَصْوِيرٍ، ثُمَّ خَفِيَتْ عَنْهُ نُكْتَةُ تَثْنِيَتِهِ ; فَجَعَلَهَا حُجَّةَ الْمُفَوِّضَةِ عَلَى أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَحْنُ مَعَهُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، نَنْعَى عَلَى الْمُؤَوِّلِينَ النُّفَاةَ، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ أَنْ نَفْهَمَ نُكْتَةَ تَثْنِيَةَ الْيَدِ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِهَا الْمُفْرَدِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ تَفْسِيرِ غَلِّ الْيَدِ بِالْإِمْسَاكِ وَحَبْسِ الْعَطَاءِ عَنِ الِاتِّسَاعِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا وَصَفَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - الْيَدَ بِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْعَطَاءُ ; لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ وَبَذْلَ مَعْرُوفِهِمُ الْغَالِبُ بِأَيْدِيهِمْ، فَجَرَى اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي وَصْفِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِذَا وَصَفُوهُ بِجُودٍ وَكَرَمٍ، أَوْ بِبُخْلٍ وَشُحٍّ وَضِيقٍ، بِإِضَافَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى يَدَيْهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي مَدْحِ رَجُلٍ: يَدَاكَ يَدَا جُودٍ فَكَفٌّ مُقَيَّدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ فَأَضَافَ مَا كَانَ صِفَةَ صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَإِفَادَةٍ إِلَى الْيَدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، فَخَاطَبَهُمُ اللهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ أَوْ يَتَحَاوَرُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي كَلَامِهِمْ، انْتَهَى. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنَّ يَدَ اللهِ نِعْمَتُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ مُلْكُهُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ يَدَ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ

بَنِي آدَمَ، رَدَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ الثَّانِي بِتَثْنِيَةِ الْيَدِ وَعَدَمِ إِفْرَادِهَا، وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. نَعَمْ، إِنَّ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ (وَالْيَدَ وَالْيَدَيْنِ) لَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِهِمَا النِّعْمَةَ وَلَا الْقُوَّةَ وَلَا الْمِلْكَ؛ وَإِنَّمَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَنُكْتَةُ التَّثْنِيَةِ إِفَادَةُ سِعَةِ الْعَطَاءِ وَمُنْتَهَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْوِيلٌ وَلَا نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْبَارِئُ لِنَفْسِهِ مِنْ صِفَةِ الْيَدِ وَالْيَدَيْنِ وَالْأَيْدِي فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَا سَبَبُ ذُهُولِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ نُكْتَةِ التَّثْنِيَةِ إِلَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَدَلِ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي كَانُوا قَدِ انْتَحَلُوهُ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ، وَمَتَى وَجَّهَ الْإِنْسَانُ هَمَّهُ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ مِنْهُ حِجَابٌ مَا عَنْ غَيْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْحَقِيقَةِ لِذَاتِهَا غَيْرُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُعَدُّونَ مِنْ خُصُومِهَا (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (33: 4) وَلِهَذَا غَلَطَ كَثِيرٌ مِنْ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي مَسَائِلَ خَالَفُوا فِيهَا الْمَذْهَبَ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُونَ تَأْيِيدَهُ، وَهَذِهِ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ وَمِنْ أَحْوَالِ سَلَفِهِمْ وَشُئُونِ كُتُبِهِمْ وَحَقَائِقِ تَارِيخِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ عَلَى نُبُوَّتِكَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْذِبَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ ; لِأَنَّكَ لَوْلَا النُّبُوَّةُ وَالْوَحْيُ لَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ; لَا مِنْ مَاضِيهِ ; لِأَنَّكَ أُمِّيٌّ لَمْ تَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَمَا كُلُّ مَنْ قَرَأَهَا يَعْلَمُ كُلَّ مَا جِئْتَ بِهِ عَنْهُمْ، وَلَا مِنْ حَاضِرِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَفَايَا مَكْرِهِمْ وَأَسْرَارِ كَيْدِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لِتَجَاوُزِهِمُ الْحُدُودَ فِي الْكُفْرِ وَالْحَسَدِ لِلْعَرَبِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، لَا يَجْذِبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَوَاللهِ لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ طُغْيَانًا فِي بُغْضِكَ وَعَدَاوَتِكَ، وَكُفْرًا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى أَنْ تَرَكُوا الْقُرْآنَ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَدِينِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ زِيَادَةَ طُغْيَانِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ ; فَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ الَّذِي تُفِيدُهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (وَلِيَزِيدَنَّ) . (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بَيْنَهُمْ) يَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَزَاهُ غَيْرُهُ إِلَى الْحَسَنِ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ، فَلَا نَعْرِفُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ غَيْرَهُ، وَفِي تَفَاسِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَحْدَهُمْ. وَيُرَادُ بِالْمُلْقَى حِينَئِذٍ عَدَاوَةُ الْمَذَاهِبِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْقَطِعُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ فَائِدَةٌ لِتَخْصِيصِ

الْيَهُودِيَّةِ، وَهُمُ الْآنَ مِنْ أَشَدِّ الْأُمَمِ تَعَاطُفًا وَتَعَاضُدًا وَائْتِلَافًا، وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى فَلَمْ تَنْقَطِعْ، وَهِيَ عَلَى أَشُدِّهَا الْآنَ فِي بِلَادِ رُوسِيَّةَ، وَعَلَى أَقَلِّهَا فِي إِنْكِلْتِرَةَ وَفَرَنْسَةَ وَأَلْمَانِيَّةَ ; لِمَا فِي هَذِهِ الْمَمَالِكِ مِنَ الْقَوَانِينِ الْحُرَّةِ، وَالْحُكُومَاتِ الْمُنْتَظِمَةِ، وَلِمَا لِلْمَالِ وَأَهْلِهِ فِيهَا مِنَ النُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ فِي السِّيَاسَةِ، وَسَائِرِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَالْيَهُودُ أَغْنَى أَهْلِهَا، وَالْمُدِيرُونَ لِأَرْحِيَةِ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَهُمْ، عَلَى مَكَانَتِهِمْ هَذِهِ، مَبْغُوضُونَ مِنْ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى، وَكَمْ أُلِّفَتْ كُتُبٌ فِي فَرَنْسَةَ وَغَيْرِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَلْمَانِيٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ الْيَهُودِيَّ فِي بِلَادِهِ مِنْهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ: هَذَا يَهُودِيٌّ، وَهَذَا أَلْمَانِيٌّ. وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّصَارَى فَهِيَ أَشَدُّ، وَإِنَّ دُوَلَهُمُ الْكُبْرَى تَسْتَعِدُّ دَائِمًا لِحَرْبٍ يَسْحَقُ بِهَا بَعْضُهَا بَعْضًا. (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) الْحَرْبُ ضِدَّ السِّلْمِ، وَلَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقِتَالِ، بَلْ أَعَمَّ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحَارِبَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهُوَ يَصْدُقُ بِالْإِخْلَالِ بِالْأَمْنِ، وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، وَلَوْ بِغَيْرِ قَتْلٍ، وَيَصْدُقُ بِتَهْيِيجِ الْفِتَنِ، وَالْإِغْرَاءِ بِالْقِتَالِ. خَصَّ مُجَاهِدٌ الْحَرْبَ هُنَا بِحَرْبِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَسَنُ: بِاجْتِمَاعِ السِّفْلَةِ مِنَ الْأَقْوَامِ عَلَى قَتْلِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللهُ وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَفَسَّرَهُ الرَّبِيعُ بِمَا كَانَ مِنْ مَفَاسِدِهِمُ الْمَاضِيَةِ الَّتِي أَغْرَتْ بِهَا الْبَابِلِيِّينَ وَالرُّومَ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ إِيقَادَهُمْ لِنَارِ الْحَرْبِ هُوَ تَلَبُّسُهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوهَا بِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْذُلُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَخِيبُوا، وَلَا يَتِمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّحْرِيضِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ عَامًّا، عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: كُلَّمَا أَرَادُوا مُحَارَبَةَ أَحَدٍ غُلِبُوا وَقُهِرُوا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ نَصْرٌ مِنَ اللهِ عَلَى أَحَدٍ قَطُّ - ثُمَّ قَالَ - وَقِيلَ كُلَّمَا حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرَ عَلَيْهِمْ، انْتَهَى. وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ. وَمِنَ الْمَفْصَّلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُغْرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَعَى لِتَحْرِيضِ الرُّومِ عَلَى غَزْوِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُئْوِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُسَاعِدُهُمْ ; كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ سَبَبُهُ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ، وَتَوَقَّعَ الْأَحْبَارُ وَالرُّؤَسَاءُ إِزَالَةَ الْإِسْلَامِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ، مِنْ مَكَانَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ; إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْتَرِمُونَهُمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَإِنْ

لَمْ يَدِينُوا بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةً سِيَاسِيَّةً جِنْسِيَّةً، لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَةِ الدِّينِ وَلَا مِنْ رُوحِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ ضَلَعُ الْيَهُودِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ لِمَا رَأَوْا عِنْدَ مُسْلِمِي الْعَرَبِ مِنَ الْعَدْلِ الْمُزِيلِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرُّومُ وَالْقُوطُ مِنَ الْجَوْرِ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَدَاوَةُ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسِيَّةً ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ (الرُّومَانِ) الْمُسْتَعْمِرِينَ لِلْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْحِجَازِ ; كَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَكَانَ نَصَارَى الْبِلَادِ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيْلِ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا وَثِقُوا بِعَدْلِهِمْ لِمَا كَانُوا يُقَاسُونَ مِنْ ظُلْمِ الرُّومِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَهَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ أَبَدًا؛ يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ مَصَالِحَهُمْ وَمَنَافِعَهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَا ذُكِرَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُمْ أَوْ لِدِينِهِمْ، وَلْيَنْتَظِرَ الْقَارِئُ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لِلنَّصَارَى بِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ آيَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَتَحَتَّمَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ مِنَ السِّيَاسَةِ لَا مِنَ الدِّينِ. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِيمَا يَأْتُونَهُ، أَوْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِيقَادِ نِيرَانِ الْحَرْبِ وَالْفِتَنِ وَالْقِتَالِ، مُصْلِحِينَ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، أَوْ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، بَلْ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ سَعْيَ فَسَادٍ، أَوْ لِأَجْلِ الْفَسَادِ، بِمُحَاوَلَةِ مَنْعِ اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَثَنِيَّةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبِالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ ; حَسَدًا لَهُمْ، وَحُبًّا فِي دَوَامِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَصْلُحُ عَمَلُهُمْ، وَلَا يَنْجَحُ سَعْيُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُضَادُّونَ لِحِكْمَتِهِ فِي صَلَاحِ النَّاسِ وَعُمْرَانِ الْبِلَادِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ اللهَ أَبْطَلَ كُلَّ مَا كَادَهُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهَا، وَصَلُحَتْ حَالُهَا بِالْإِسْلَامِ أَصْلَحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَمَّرُوا الْأَرْضَ فِي كُلِّ بِلَادٍ كَانَ لَهُمْ فِيهَا سُلْطَانٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَكَانُوا مُفْسِدِينَ بِالظُّلْمِ، وَمُخَرِّبِينَ لِلْبِلَادِ. فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَهُوَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، فَلَمَّا قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُهَا مُفْسِدِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ; لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُمَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، تَرَكُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، وَقِسْ جَزَاءَ الْآخِرَةِ عَلَى جَزَاءِ الدُّنْيَا، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُرَتَّبٌ بِحَسَبَ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى صَلَاحِ النُّفُوسِ، وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَعْمَالِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاتَّقَوُا بِاتِّبَاعِهِ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا،

66

لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْوَى الَّتِي تَتْبَعُهُ تُزَكِّي النَّفْسَ وَتُطَهِّرُهَا مِنْ تَأْثِيرِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَيُمْحَى أَثَرُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهَا، فَيَسْتَحِقُّونَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي لَا بُؤْسَ فِيهَا. (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: الْعَمَلُ بِهِمَا عَلَى أَقْوَمِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا؛ سَوَاءٌ فِيهِ عَمَلُ النَّفْسِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِذْعَانُ - وَعَمَلُ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ ; أَيْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ قَبْلُ بِنُورِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ، الْمُبَشِّرَيْنِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ أَبْنَاءِ أَخِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ ; كَمَا قَالَ مُوسَى: وَالْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; كَمَا قَالَ عِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) . وَأَقَامُوا، بَعْدَ ذَلِكَ، مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَهُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، لَوْ أَقَامُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللهِ وَكُتُبِهِ، لَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ مَا يُهِمُّهُمْ مِنْ مَوَارِدِ الرِّزْقِ ; فَأَكَلُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الَّتِي تَنْتِجُ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ وَنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّبِيَّ وَأُمَّتَهُ مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ سَائِرَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ وَالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الْأَخِيرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَحِكَمِ سُلَيْمَانَ، وَكُتُبِ دَانْيَالَ وَأَشْعَيَا وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِي مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ بَيَانٌ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، وَإِقَامَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا عَزَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْفَسَادِ، وَلَمَا عَانَدُوا النَّبِيَّ - الْمُبَشِّرَةُ بِهِ - ذَلِكَ الْعِنَادَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا، وَلَا تَدَبَّرُوهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، وَبِدَعًا وَتَقَالِيدَ يَتَوَارَثُونَهَا ; فَهُمْ بَيْنَ غُلُوٍّ وَتَقْصِيرٍ، وَإِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ دَهْمَاءَهُمْ وَسَوَادَهُمُ الْأَعْظَمَ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَوَارِيخِهِمْ وَتَوَارِيخِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَعَدْلِهِ تَمْحِيصُ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ. لَا تَغْلُو بِالْإِفْرَاطِ، وَلَا تُهْمِلُ بِالتَّقْصِيرِ. قِيلَ: هُمُ الْعُدُولُ فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ، وَالْمُعْتَدِلُونَ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي طَوْرِ صَلَاحِ الْأُمَّةِ وَارْتِقَائِهَا، وَيَقِلُّونَ فِي طَوْرِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا - وَهَلْ تَهْلَكُ الْأُمَمُ إِلَّا بِكَثْرَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَقِلَّةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مَنَّ الْأَخْيَارِ - وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي الْأُمَمِ هُمُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ يَقُومُ بِهِ الْمُجَدِّدُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَمِنَ الْحُكَمَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِصْلَاحُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ

لِلتَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ، وَالْمُحْيِينَ لِلْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْعُمْرَانِ؛ فَهَلْ يَعْتَبِرُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ الْآنِ وَيَعُودُونَ إِلَى إِقَامَةِ الْقُرْآنِ، وَأَخْذِ الْحِكْمَةِ مِنْ حَيْثُ يَجِدُونَهَا، وَعُدَدِ الْإِصْلَاحِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ يَرَوْنَهَا، أَمْ يَفْتَئُونَ يَسْلُكُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مَنْ طَوْرِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَمِنْهُ الْغُرُورُ بِدِينِهِمْ مَعَ عَدَمِ إِقَامَةِ كِتَابِهِ، وَالتَّبَجُّحِ بِفَضَائِلِ نَبِيِّهِمْ عَلَى تَرْكِهِمْ لِسُنَنِهِ وَآدَابِهِ؟ ! رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ " قُلْتُ: كَيْفَ، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟ فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ نُفَيْرٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ؟ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: " وَذَلِكَ عِنْدَ ذَهَابِ الْعِلْمِ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ! إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ " انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالشَّاهِدُ فِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِدَايَتِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبْعَدَ مَا كَانُوا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ، مَعَ شِدَّةِ عَصَبِيَّتِهِمُ الْجِنْسِيَّةِ لَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، عَلَى أَنَّ عَصَبِيَّتَهُمُ الْجِنْسِيَّةَ لَهُ قَدْ ضَعُفَتْ أَيْضًا، وَاسْتَبْدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِهَا جِنْسِيَّةَ اللُّغَةِ أَوِ الْوَطَنِ. وَلَا يَمْنَعُنَا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَانْقِطَاعِ السَّنَدِ، وَالْقَلْبِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِأَنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ نُثْبِتَ بِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا سِوَاهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ; لِأَنَّهُمَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، يَشْتَمِلَانِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنَّ أَهْلَهُمَا لَا يُقِيمُونَ ذَلِكَ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا قَائِمَةٌ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَثْبُتُ بِهِ الْعِبْرَةُ، وَلَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَدْ أَشَارَ الْحَافِظُ فِي تَرْجَمَةِ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ مِنَ الْإِصَابَةِ إِلَى مُخْرِجِيهِ، وَعَلَّلَهُ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قُصُورُ مَا اكْتَفَى بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. (تَنْبِيهٌ) : إِنَّ الشَّهَادَةَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَهُ نَظَائِرُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (7: 159) وَقَوْلِهِ:

67

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (3: 75) الْآيَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ لَمَا وُجِدَتْ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا كَانَ عَادِلًا فَاضِلًا، لَا يَرَى الْفَضِيلَةَ الْمُسْتَتِرَةَ فِي خُصُومِهِ الَّذِينَ يُنَاوِءُونَهُ وَيُحَارِبُونَهُ ; فَيَشْهَدُ لَهُمْ بِهَا، بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَعْمَى عَنْ مَحَاسِنَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَإِنْ رَأَى شَيْئًا مِنْهَا يَظُنُّ أَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ، قَالَ شَاعِرُنَا الْحَكِيمُ: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلَيْلَةٍ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمُسَاوَيَا وَمِنْ شَوَاهِدَ الْعِبْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَلِمَةٌ قَالَتْهَا امْرَأَةٌ كَبِيرَةُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ، مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ فِي سِوِيسْرَةَ، لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، قَالَتْ لَهُ: " إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ قَبْلَ مَعْرِفَتِكَ أَظُنُّ أَنَّ الْقَدَاسَةَ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيِّينَ "، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْوَاسِعَةُ الْعِلْمِ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ، الَّتِي لَهَا عِدَّةُ مُؤَلَّفَاتٍ فِي عُلُومِ التَّرْبِيَةِ، تَظُنُّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي عَرَفَ الْبَشَرُ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْبُعْدَاءِ عَنْهُمْ وَتَارِيخِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْ مِثْلَهُ سَلَفُهُمْ فِي عَصْرٍ مَا، فَهَلْ يُظَنُّ أَنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فِي الْحِجَازِ يَهْتَدِي بِغَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا؟ (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) تَقَدَّمَ أَنَّ نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا ثَانِيهُمَا، وَكِلَاهُمَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحُسْنِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْءِ الْعَهْدِ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ، وَكَأَنَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُضِعَتْ فِي آخِرِ سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَوَّلِ الْعَهْدِ بِالدَّعْوَةِ فِي آخِرِ الْعَهْدِ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَرَوَتِ الشِّيعَةُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ النَّصُّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَشَجَّعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِوِلَايَةِ عَلِيٍّ فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقُولُوا: حَابَى ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ "، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ وَأَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوَالَاةِ عَلِيٍّ شَاعَ وَطَارَ فِي الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيَّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَكَانَ بِالْأَبْطَحِ، فَنَزَلَ وَعَقَلَ نَاقَتَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَرْتَنَا عَنِ اللهِ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَقَبِلْنَا مِنْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِهَذَا حَتَّى مَدَدْتَ بِضَبْعَيِ ابْنِ عَمِّكَ وَفَضَّلْتُهُ عَلَيْنَا وَقُلْتَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ " فَهَذَا مِنْكَ أَمْ مِنَ اللهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هُوَ أَمْرُ اللهِ "، فَوَلَّى الْحَارِثُ يُرِيدُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطَرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (8: 32) فَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ عَلَى هَامَتِهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ) (70: 1، 2) . . . إِلَخْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَوْضُوعَةٌ، وَسُورَةُ الْمَعَارِجِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ (اللهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ) كَانَ تَذْكِيرًا بِقَوْلٍ قَالُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِبِضْعِ سِنِينَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ هَذَا كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الصَّحَابَةِ، وَالْأَبْطَحُ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَدِيرِ خُمٍّ إِلَى مَكَّةَ، بَلْ نَزَلَ فِيهِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَدِينَةِ. أَمَّا حَدِيثُ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِّيٌّ مَوْلَاهُ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ،

وَبُرَيْدَةَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالضِّيَاءِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ، وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَثَّقَ أَيْضًا سَنَدُ مَنْ زَادَ فِيهِ: " اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". . . إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَذَكَرَ أُصُولَ الدِّينِ وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: " إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخْلِفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، اللهُ مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ "، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ لَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا لَكَ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَهُ تَبْرِئَةُ عَلِيٍّ مِمَّا كَانَ قَالَهُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَمَنِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ إِلَيْهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ قَدْ وَجَّهَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَجَّلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدْرِكَ مَعَهُ الْحَجَّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَسَا ذَلِكَ الرَّجُلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَوَجَدَ عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَانْتَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شَكْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ جَفْوَةً فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْكُو عَلِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلُ إِلَّا مَا يُرْضِي الْحَقَّ، خَطَبَ النَّاسَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، وَأَظْهَرَ رِضَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَوِلَايَتَهُ لَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاتِهِ. وَغَدِيرُ خُمٍّ: مَكَانٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، قَرِيبٌ مِنْ رَابِغٍ، عَلَى بُعْدِ مِيلَيْنِ مِنَ الْجُحْفَةِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ النَّاسَ فِيهِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدِ اتَّخَذَتْهُ الشِّيعَةُ عِيدًا عَلَى عَهْدِ بَنِي بُوَيْهِ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ. وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وِلَايَةِ السُّلْطَةِ، الَّتِي هِيَ الْإِمَامَةُ أَوِ الْخِلَافَةُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوِلَايَةِ فِيهِ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَوَدَّةِ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا فِي كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (5: 51) وَمَعْنَاهُ مَنْ كُنْتُ نَاصِرًا وَمُوَالِيًا لَهُ فَعَلِيٌّ نَاصِرُهُ وَمُوَالِيهِ، أَوْ مَنْ وَالَانِي وَنَصَرَنِي فَلْيُوَالِ عَلِيًّا وَيَنْصُرْهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْفُو أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ نَصَرَ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَوَالَاهُمْ. فَالْحَدِيثُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَاهُمْ مِثْلُهُ، بَلْ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَى مُعَاوِيَةَ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِمَامَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَصْرِهِ إِمَامًا وَمَأْمُومًا. وَلَوْ دَلَّ عَلَى الْإِمَامَةِ عِنْدَ الْخِطَابِ لَكَانَ إِمَامًا مَعَ وُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّيعَةُ لَا تَقُولُ بِذَلِكَ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ، لَا نُحِبُّ اسْتِقْصَاءَهَا وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهَا ; لِأَنَّهَا مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ

وَالْبَغْضَاءَ، وَمَا دَامَتْ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ غَالِبَةً عَلَى الْجَمَاهِيرِ فَلَا رَجَاءَ فِي تَحَرِّيهِمُ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَا فِي تَجَنُّبِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعَدَاءِ، وَلَوْ زَالَتْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةُ، وَنَبَذَهَا الْجُمْهُورُ لَمَا ضَرَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ ثُبُوتُ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ ذَاكَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ حِينَئِذٍ إِلَّا بِمِرْآةِ الْإِنْصَافِ وَالِاعْتِبَارِ، فَيَحْمَدُونَ الْمُحِقِّينَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُخْطِئِينَ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (59: 10) . ثُمَّ إِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِمَامَةِ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ لَتَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ، وَلَتَصَدَّى عَلِيٌّ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِالنَّصِّ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَحْسُنُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَا احْتَجَّ بِالْآيَةِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَأَنْصَارِهِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَلَا يَوْمَ الشُّورَى بَعْدَ عُمَرَ، وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي كَانَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّقِيَّةَ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ؛ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُضِعَتْ لَهَا الرِّوَايَاتُ، وَاسْتُنْبِطَتِ الدَّلَائِلُ بَعْدَ تَكَوُّنِ الْفِرَقِ، وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِلَافَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مِمَّا لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ عَلَى خَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَبْلِيغِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، لَقَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى تَبْلِيغِهِ فَشَهِدُوا، وَأَشْهَدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. دَعْ سِيَاقَ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ نَفْسَهَا لَا تَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّبْلِيغِ فِيهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ إِمَارَةَ عَلِيٍّ، فَإِنَّ جُمْلَةَ " وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ " الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي بَعْدَ جُمْلَةِ " بَلِّغْ " الْأَمْرِيَّةِ، وَجُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْعِصْمَةِ، وَجُمْلَةَ التَّذْيِيلِ التَّعْلِيلِيِّ بِنَفْيِ هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ، لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ مَسْأَلَةَ الْإِمَارَةِ، فَتَأَمَّلِ الْآيَةَ فِي ذَاتِهَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَهْتَدِي بِهِ، نُوَالِي عَلِيًّا الْمُرْتَضَى، وَنُوَالِي مَنْ وَالَاهُمْ، وَنُعَادِي مَنْ عَادَاهُمْ، وَنَعُدُّ ذَلِكَ كَمُوَالَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ عِتْرَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالْعِتْرَةَ خَلِيفَتَا الرَّسُولِ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ قِصَّةِ الْغَدِيرِ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ قَبِلْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي أَمْرٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ. وَأَمَّا الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَلَوْلَاهُ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَبْلِيغَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ

68

كَأَنَّهُ قَالَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاذْكُرْ لَهُمْ مَا يَكُونُ فَصْلَ الْخِطَابِ. فَإِنْ سَأَلْتَ عَنْ ذَلِكَ، فَهَاكَ الْجَوَابُ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) إِلَى آخِرِ مَا سَيَأْتِي، وَإِذَا صَحَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ لَا يُبْقِي لِلِاحْتِمَالِ مَجَالٌ، قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ آيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ أُنْزِلَتْ أَشَدُّ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ بِمِنًى أَيَّامَ مَوْسِمٍ، وَاجْتَمَعَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَفْنَاءُ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ، فَنَزَلَ عَلِيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) الْآيَةَ - قَالَ - فَقُمْتُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ; فَقُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يَنْصُرُنِي عَلَى أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَكُمُ الْجَنَّةُ؟ أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ تُفْلِحُوا وَتَنْجَحُوا، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَا بَقِيَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا أَمَةٌ وَلَا صَبِيٌّ إِلَّا يَرْمُونَ عَلَيَّ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، وَيَقُولُونَ: كَذَّابٌ صَابِئٌ. فَعَرَضَ عَلَيَّ عَارِضٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَانْصُرْنِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُجِيبُونِي إِلَى طَاعَتِكَ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ "، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ تَأْكِيدٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كُلُّهُ - وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - أَوِ الْخَاصِّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الِاحْتِمَالِ - بِأَنْ كَتَمْتَهُ، وَلَوْ مُؤَقَّتًا ; خَوْفًا مِنَ الْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أَيْ فَحَسْبُكَ جُرْمًا أَنَّكَ مَا بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ، وَلَا قُمْتَ بِمَا بُعِثْتَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ تَبْلِيغُ النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (42: 48) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بِأَنْ كَتَمْتَ بَعْضَهُ، فَكَأَنَّكَ لَمْ تُبَلِّغْ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ ; لِأَنَّ كِتْمَانَ الْبَعْضِ كَكِتْمَانِ الْجَمِيعِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (5: 32) وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ: " رِسَالَاتِهِ " بِالْجَمْعِ. فَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِفَادَةُ اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْوَحْيِ، الَّذِي كُلِّفَ الرَّسُولُ تَبْلِيغَهُ، لَكِنْ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْوَاقِعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ كُنْتَ كَأَنَّكَ مَا بَلَّغْتَ شَيْئًا مَا مِنْ مَسَائِلِ الرِّسَالَةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ. وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ تَرْكَ تَبْلِيغِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ تَرْكٌ لِتَبْلِيغِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَارِكُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ كَتَارِكِ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا يُعَارِضُ مَا

لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِمَا يَتَجَزَّأُ كَالْعِبَادَاتِ وَالْمَعَاصِي. وَتَرْكُ التَّبْلِيغِ لَوْ جَازَ وُقُوعُهُ كُفْرٌ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَظِيرٌ يُؤَيِّدُهُ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ بِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بَعْضَ الرُّسُلِ كَانَ كَمَنْ كَذَّبَهُمْ كُلَّهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) (4: 150، 151) بَلْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْآخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ تَشْبِيهُ قَاتَلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا، وَتَقَدَّمَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَعْنَى قِرَاءَةِ الْآخَرِينَ " رِسَالَتَهُ " بِالْإِفْرَادِ فَهُوَ نَفْيُ الْقِيَامِ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ تَبْلِيغِ الرِّسَالَاتِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ بَعْدَ قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبٍ: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ) (33: 39) هَكَذَا قَرَأَ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ " رِسَالَاتِ " بِالْجَمْعِ، وَإِنَّمَا قُرِئَ بِالْإِفْرَادِ فِي الشَّوَاذِّ، وَجَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، وَالِاسْتِشْهَادُ بِآيَةِ الْأَحْزَابِ أَنْسَبُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ هُوَ أَشَدُّ مَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَلِّقًا بِشَخْصِهِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (33: 37) حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: " لَوْ كَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ ". فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَصَمَ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ كِتْمَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَتْ حِكْمَةُ الرِّسَالَةِ بِعَدَمِ ثِقَةِ النَّاسِ بِالتَّبْلِيغِ، فَمَا حِكْمَةُ التَّصْرِيحِ مَعَ هَذَا بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَتَأْكِيدِهِ بِجَعْلِ كِتْمَانِ بَعْضِهِ كَكِتْمَانِهِ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: حِكْمَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَامُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّ التَّبْلِيغَ حَتْمٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ، وَلَوْ مُؤَقَّتًا بِتَأْخِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ عَنْ وَقْتِهِ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ ; إِذْ كَانَ يَجُوزُ - لَوْلَا هَذَا النَّصُّ - أَنْ يَكُونَ مِنِ اجْتِهَادِ الرَّسُولِ تَأْخِيرُ بَعْضِ الْوَحْيِ إِلَى أَنْ يَقْوَى اسْتِعْدَادُ النَّاسِ لِقَبُولِهِ، وَلَا يَحْمِلَهُمْ سَمَاعُهُ عَلَى رَدِّهِ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ لِأَجْلِهِ، وَحِكْمَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَعْرِفُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالنَّصِّ، فَلَا يُعْذَرُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا بِاخْتِلَافِ الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُؤَيِّدُهُ تَأْخِيرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِذْنَ لِمَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بِتَطْلِيقِ زَيْنَبَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا قَضَى بِتَزْوِيجِهَا لَهُ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ طِبَاعَهُمَا لَا تَتَّفِقُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى طَلَاقِهَا - إِلَّا لِيَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيُبْطِلُ بِذَلِكَ جَرِيمَةَ التَّبَنِّي، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبَاطِلِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابْنِهِ ; لِأَنَّهُ تَبَنَّى زَيْدًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَلَمَّا لَمْ يُؤَقِّتِ اللهُ تَعَالَى وَقْتًا لِتَطْلِيقِ

زَيْدِ لِزَيْنَبَ، وَلِتَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَافَقَ اجْتِهَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَبْعَهُ الْبَشَرِيَّ وَالْعَمَلَ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ بِنَاءً عَلَى هَذَا يَقُولُ لِزَيْدٍ كُلَّمَا شَكَا إِلَيْهِ عِشْرَةَ زَيْنَبَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ "، وَيُخْفِي فِي نَفْسِهِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَلَاقِ زِيدٍ لَهَا، وَتَزَوُّجِهِ هُوَ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُحِبُّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ هَوَادَةٌ لِجَازَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْوَحْيِ مِثْلُ هَذَا التَّأْخِيرِ بِالِاجْتِهَادِ ; وَلِأَجْلِ هَذَا الشَّبَهِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ تَنْفِيذِ مَا أَرَادَ اللهُ مِنْ إِبْطَالِ التَّبَنِّي وَلَوَازِمِهِ بِزَوَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ، بَعْدَ تَطْلِيقِ زِيدٍ لَهَا، وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَكَوْنِهِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ خَشْيَةً مِنْ قَوْلِ النَّاسِ أَوْ فِعْلِهِمْ ; لِأَجْلِ هَذَا بَيَّنَ اللهُ عَقِبَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ سُنَّتَهُ فِي عَدَمِ الْحَرَجِ عَلَى الرُّسُلِ، وَفِي تَبْلِيغِهِمْ رِسَالَاتِ اللهِ، وَكَوْنِهِمْ يَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا سِوَاهُ (رَاجِعْ آيَةَ 38 و39 مِنْهَا) . وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ - فَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ فِي جَوَازِ كِتْمَانِ بَعْضِ الْوَحْيِ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ غَيْرِ الْوَحْيِ عَنْ كُلِّ النَّاسِ أَوْ عَنْ جُمْهُورِهِمْ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ثَبَتَ فِي مَعْنَاهَا تَأْوِيلًا يَتَّفِقُ مَعَ آرَائِهِمْ، فَكَيْفَ لَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ سُؤَالِ بَعْضِ النَّاسِ عَلِيًّا الْمُرْتَضَى: هَلْ خَصَّهُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ؟ يَعْنِي أَهْلَ الْبَيْتِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ أَبِي جُحَيْفَةَ لَعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ عَلِيٌّ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. (قَالَ السَّائِلُ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَلَّا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنَ الْوَحْيِ، وَكَذَا مَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَهُوَ الْعَقْلُ ; أَيْ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ. . . إِلَخْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ سَبَبَ سُؤَالِ عَلِيٍّ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ غُلَاةِ الشِّيعَةِ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، أَوْ يَبُثُّونَ فِي النَّاسِ أَنَّ عِنْدَ عَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ مِنَ الْوَحْيِ، مَا خَصَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ النَّاسِ. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازُ الْكِتْمَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا يُوحِيهِ اللهُ لِلرُّسُلِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ، لَا يَأْذَنُهُمْ بِتَبْلِيغِهِ لِأَحَدٍ، وَمِنْهُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِتَبْلِيغِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِنْهُ مَا يَخُصُّ بِهِ مَنْ يَرَاهُمْ أَهْلًا لَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ قِسْمَانِ: ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ ; فَالظَّاهِرُ عَامٌ، وَالْبَاطِنُ خَاصٌّ. وَلِبَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ سَبَحٌ طَوِيلٌ فِي بَحْرِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ.

فَأَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَأَئِمَّتُهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ زَنَادِقَةٌ تَعَمَّدُوا هَدْمَ الْإِسْلَامِ بِالشُّبَهَاتِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الْمُشَكِّكَاتِ. وَأَمَّا الْمُتَصَوِّفَةُ فَقَدْ رَاجَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضَ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ; لِضَعْفِهِمْ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَاسْتَمْسَكُوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَأَخَذُوا بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيِّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ ; فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ " يُشِيرُ إِلَى عُنُقِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ يَنْقَطِعُ بُلْعُومُهُ ; وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ، فَجَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا فِي الْوِعَاءِ الْآخَرِ مِنْ وِعَاءَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ لِشُيُوخِهِمْ سَنَدًا فِي تَلَقِّي عِلْمِ الْبَاطِنِ، يَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَعْنِي بِمَا كَتَمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَحَادِيثَ الْفِتَنِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى أَيْدِي أُغَيْلِمَةٍ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، وَقَدْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَفِي سَنَةِ سِتِّينَ وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَعَلِمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنْ إِمَارَتِهِ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يَرَ أَيَّامَهَا السُّودَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أُغَيْلِمَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ لَفَعَلْتُ "، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ; كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَخْبَارَ الْفِتَنِ وَأُمَرَاءِ الْجَوْرِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَكْتُمُهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، خَوْفًا مِنِ انْتِقَامِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَمَّا كِتْمَانُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَيْفَ يَكْتُمُهُ؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) (2: 159) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحِيمُ) وَقَوْلَهُ: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ 3: 187) . . . إِلَخْ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ "، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ حَسَنَةٌ وَصَحِيحَةٌ، وَالْوَعِيدُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عَلَى الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا. وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَهُ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنْ عَلْمِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَازُ أَحَدٌ فِي عَلَمِ الدِّينِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ كَسْبِيٌّ يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بَعْدَ السُّنَّةِ وَآثَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ

وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا، وَكَذَا بِعُلُومِ الْكَوْنِ وَشُئُونِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْمُكْتَسَبَةَ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ هِيَ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَنَوْعٌ وَهْبِيٌّ ; وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى بِالْفَهْمِ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَا بِهِ يَفْضُلُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْوَهْبِيِّ ; لِأَنَّ الْكَسْبِيَّ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُثْمِرُ الْعِلْمَ الْوَهْبِيَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ الْعَالِمِ بِفَهْمِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدِ اشْتَرَطَ الْعُلَمَاءُ لِكُلِّ فَهْمٍ جَدِيدٍ فِي الْقُرْآنِ شَرْطَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوَافِقَ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَثَانِيهُمَا: أَلَّا يُخَالِفَ أُصُولَ الدِّينِ الْقَطْعِيَّةَ، فَسَقَطَتْ بِذَلِكَ ضَلَالَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ مَنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يَعْبَثُونَ بِكِتَابِ اللهِ بِأَهْوَائِهِمْ ; كَالدَّجَّالِ عُبَيْدِ اللهِ الَّذِي صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَصَانِيفَ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ، حَرَّفَ فِيهَا الْقُرْآنَ أَبْعَدَ تَحْرِيفٍ، بِحَيْثُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلَا فُرُوعِهِ ; مِنْهَا كِتَابُ (قَوْمٌ جَدِيدٌ) وَكِتَابُ (صوك جواب) أَيِ الْجَوَابُ الْأَخِيرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ تَنْفِيرُ التُّرْكِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَحْوِيلُهُمْ عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لَهُ وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّقْلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْبَيَانِ. وَمَنْ أَجْدَرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَهْمِ الْوَهْبِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْهِ، وَبِبَيَانِهِ لِلنَّاسِ؟ وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكَابِرَ الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يَنْبُوعَ عُلُومِ الدِّينِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ يَنْبُوعَ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ كُلِّهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فَنُوَفِّيهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَمَا فِي مَعْنَاهُ. (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ بِضْعَةِ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ فِي مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَرَكَ الْحَرَسَ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ أَوَّلَ النَّاسِ اهْتِمَامًا بِحِرَاسَتِهِ، وَحَرَسَهُ الْعَبَّاسُ أَيْضًا، وَمِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ، وَكَانَ يُرْسِلُ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي، لَا حَاجَةَ لِي إِلَى مَنْ

تَبْعَثُ "، " وَمَعْنَى " يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ": يَمْنَعُكَ مِنْ فَتْكِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِصَامِ الْقِرْبَةِ؛ وَهُوَ مَا تُوكَأُ بِهِ ; أَيْ مَا يُرْبَطُ بِهِ فَمُهَا مِنْ سَيْرِ جِلْدٍ أَوْ خَيْطٍ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ بَيَانَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهُمْ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِيذَاءِ ; لِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَصَدَّوْنَ لِإِيذَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَائْتَمَرُوا بِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَّرُوا قَتْلَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْيَهُودُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عُرْضَةً لِإِيذَائِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَصَمَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَلِتُذَكِّرَ بِمَا كَانَ مِنْ إِيذَاءِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) فَهُوَ تَذْيِيلٌ تَعْلِيلِيٌّ لِلْعِصْمَةِ ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ النَّاسَ، الَّذِينَ هُمْ بِصَدَدِ إِيذَائِكَ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، إِلَى مَا يَهُمُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُونَ خَائِبِينَ، وَتَتِمُّ كَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى حَتَّى يَكْمُلَ بِهَا الدِّينُ. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ (قُلْ) لِأَهْلِ الْكِتَابِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) فِيمَا دُعِيَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِيمَا بَشَّرَا بِهِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمَسِيحُ بِرُوحِ الْحَقِّ، وَبِالْبَارَقْلِيطِ (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ بِالتَّدْرِيجِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مَا أُنْزِلَ عَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي آيَةِ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَلَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ فَنُعِيدُهُ، إِلَّا أَنَّ ذَاكَ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْحَالِ الْحَاضِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَنَيْنِ قَائِمَةٌ ; فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِتِلْكَ الْكُتُبِ قَبْلَ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَا فِي وَقْتِهِ، وَلَا كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُقِيمُوهَا فِي عَهْدِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُقِيمُوهَا الْآنَ، فَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَفْنِيدٌ لِدَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ السَّابِقِينَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنَ التَّحْرِيفِ. وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ الْآنَ لِدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْأَمْرِيكَانِ وَالْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ: يَا أَيُّهَا الدَّاعُونَ لَنَا إِلَى اتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِكُمْ، وَلَا نَرَى أَنَّكُمْ عَلَى إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِدِينِكُمْ، وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ فِي

دَعْوَتِكُمْ، حَتَّى تُقِيمُوا أَنْتُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِكُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ اللَّذَيْنِ فِي أَيْدِيكُمْ، فَتُحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَتُبَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، وَتُعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَتَخْضَعُوا لِكُلِّ سُلْطَةٍ ; لِأَنَّهَا مِنَ اللهِ، وَإِذَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فَلَا تَعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، بَلْ أَدِيرُوا لَهُ الْخَدَّ الْأَيْسَرَ إِذَا ضَرَبَكُمْ عَلَى الْخَدِّ الْأَيْمَنِ، وَاتْرُكُوا التَّنَافُسَ فِي إِعْدَادِ آلَاتِ الْفَتْكِ الْجُهَنَّمِيَّةِ ; لِيَكُونَ لِلنَّاسِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ، وَاخْرُجُوا مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ ; لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَلَا تَهْتَمُّوا بِرِزْقِ الْغَدِ. . . إِلَخْ. وَنَحْنُ نَرَاكُمْ عَلَى نَقِيضِ كُلِّ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ ; فَأَنْتُمْ لَا تَخْضَعُونَ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مَيَّزْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَاسْتَعْلَيْتُمْ عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْحُكَّامِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَإِذَا اعْتُدِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ تُجَرِّدُونَ سُيُوفَ دَوْلَتِكُمْ، وَتُصَوِّبُونَ مَدَافِعَهَا عَلَى بِلَادِ الْمُعْتَدِي وَدَوْلَتِهِ، لَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ ; حَتَّى تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِأَضْعَافِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَا هَمَّ لِأُمَمِكُمْ وَدُوَلِكُمْ إِلَّا امْتِلَاكُ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ وَزَيَّنَتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَتَسْخِيرِ غَيْرِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ لِخِدْمَتِكُمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَحْقِ مَنْ يُنَافِسُكُمْ فِي مَجْدِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي ; لِعَدَمِ اهْتِمَامِكُمْ بِمَجْدِ الْمَلَكُوتِ الْبَاقِي. فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُ بِأَنَّكُمْ تَدِينُونَ اللهَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهَا، حَتَّى تُقِيمُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَهَلْ يَعُدُّ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُمُ اعْتِرَافًا مِنَّا بِسَلَامَةِ كُتُبِهِمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؟ أَمْ يَفْهَمُونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَجْلِ الْإِلْزَامِ؟ نَعَمْ، يَفْهَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَهَادَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ التَّحْرِيفِ! (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي أَوَّلِهَا، تُثْبِتُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِلَّا طُغْيَانًا فِي فَسَادِهِمْ وَكُفْرًا عَلَى كُفْرِهِمْ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ بِاللهِ وَلَا بِالرُّسُلِ، وَلَا عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مِمَّا تَهْدِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْكُتُبُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى تَقَالِيدَ وَثَنِيَّةٍ، وَعَصَبِيَّةٍ جِنْسِيَّةٍ، وَعَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ رَدِيَّةٍ، فَهُمْ لِهَذَا لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْقُرْآنِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمُ الْحَقِّ مَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ ; فَمَا سَبَقَ بَدْءٌ وَهَذَا إِتْمَامٌ، بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْعُدْوَانِ، وَهَذَا سَبَبُ زِيَادَةِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْكَثِيرِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تَحْجُبْهُمْ عَنْ نُورِ الْحَقِّ تِلْكَ التَّقَالِيدُ، فَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ ; فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ النَّبِيُّ الْأَخِيرُ، الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ، فَيُسَارِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، عَلَى حَسَبِ حَظِّهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْوِجْدَانِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ نِسْبَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَى الرَّسُولِ هُنَا، وَنِسْبَةِ إِنْزَالِهِ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ (عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) هُوَ أَنَّ خِطَابَهُمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِمْ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهِ، وَمَدْعُوُّونَ إِلَيْهِ، وَمِثْلُهُ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) (2: 136) وَأَمَّا إِسْنَادُ إِنْزَالِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ فَقَطْ، بَلْ يُشْعِرُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ سَبَبٌ لِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا بِهِ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمْ لِعَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ وَشَرَائِعِهِ أَوِ اسْتِقْبَاحِهِمْ، بَلْ لِعَدَاوَةِ الرَّسُولِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَعَدَاوَةِ قَوْمِهِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ إِنَّهُ يُفِيدُ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ فِيهِ. (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ، وَصَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ، وَهَذِهِ نُكْتَةُ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَحَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ مُؤْمِنِي قَوْمِكَ وَمِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَأَصْلُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ بِالْغَمِّ. وَالْعِبْرَةُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْآيَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حَتَّى يُقِيمُوا الْقُرْآنَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فِيهِ، وَيَهْتَدُوا بِهِدَايَتِهِ ; فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا تِلْكَ التَّقَالِيدَ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا كَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَأَلَّا يَقْبَلَ مِنَّا مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِنَا أَوْلَى. وَالنَّاسُ عَنْ هَذَا غَافِلُونَ، وَبِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمَذَاهِبِ رَاضُونَ، وَبِهَدْيِ أَئِمَّتِهَا لَا يَقْتَدُونَ، وَإِلَى حِكْمَةِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ لَا يَنْظُرُونَ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (58: 18) وَلَمَّا كَانَ الِانْتِسَابُ إِلَى الدِّينِ لَا يُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِإِقَامَةِ كِتَابِ الدِّينِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَّةِ، أُصُولَ الدِّينِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ إِقَامَةِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، فَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُقِيمُوا دِينَ اللهِ، وَمَا كَلَّفَهُمُ اللهُ إِيَّاهُ، لَا وَسَائِلَهُ وَلَا مَقَاصِدَهُ، فَلَا هُمْ حَفِظُوا نُصُوصَ الْكُتُبِ كُلَّهَا، وَلَا هُمْ تَرَكُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلَا هُمْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمِ الصَّالِحُ، وَلَا هُمْ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، كَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، اللهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَانَ مَخْبُوءًا فِي طَيَّاتِ الزَّمَانِ، أَوْ شِعَافِ الْجِبَالِ وَزَوَايَا الْبُلْدَانِ، كَانُوا يُعَذَّبُونَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُرْمَوْنَ بِالزَّنْدَقَةِ أَوِ الْهَرْطَقَةِ لِرَفْضِهِمْ

تَقَالِيدَ الْكَنَائِسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُهَا فِي الْمُفَصَّلِ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ لَيْسَ فِي تِلْكَ، وَهُوَ رَفْعُ كَلِمَةِ " الصَّابِئِينَ " وَتَقْدِيمُهَا عَلَى كَلِمَةِ النَّصَارَى ; فَأَمَّا الرَّفْعُ فَفِي إِعْرَابِهِ وُجُوهٌ ; أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: " وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ " أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، وَقَدْ أَجَازَ كُوفُيُّو النَّحْوِيِّينَ هَذَا، وَعَدُّوهُ مِنَ الْفَصِيحِ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ مَبْنِيًّا، كَمَا هُوَ هُنَا، وَكَقَوْلِكَ: إِنَّكَ وَزَيْدٌ صَدِيقَانِ. وَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ وَالْإِعْرَابُ صِنَاعَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ضَبْطِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَفَهْمِهِ، وَالْعُمْدَةُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا السَّمَاعُ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسَّمَاعِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَصِيحٌ، وَلَكِنْ مَا نُكْتَتُهُ؟ النُّكْتَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا رَفْعُ الصَّابِئِينَ فَصِيحًا هَاهُنَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَسَقَ عَطْفِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَنْصُوبِ هِيَ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ إِلَى أَنَّ الصَّابِئِينَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَعْلِيقِ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّحِيحِ، اللَّذَيْنِ تَتَزَكَّى بِهِمَا النُّفُوسُ، وَتَسْتَعِدُّ لِإِرْثِ الْفِرْدَوْسِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصَّابِئُونَ غَيْرَ مَظِنَّةٍ لِإِشْرَاكِهِمْ فِي الْحُكْمِ مَعَ أَهْلِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، حَسُنَ فِي شَرْعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُنَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ. فَمِثْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ لَا يُعَدُّ فَصِيحًا إِلَّا فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِمَا تَغَيَّرَ إِعْرَابُهُ وَأُخْرِجَ عَمَّا يُمَاثِلُهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ تُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا. فَإِذَا قُلْتَ: " إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا - وَكَذَا بَكْرٌ - أَوْ بَكْرٌ كَذَلِكَ - قَادِرُونَ عَلَى مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ " لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَلِيغًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَكْرٌ فِي مَظِنَّةِ الْعَجْزِ عَنْ مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ، وَأَرَدْتَ أَنْ تُنَبِّهَ عَلَى خَطَأِ هَذَا الظَّنِّ، وَعَلَى كَوْنِ بَكْرٍ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، تَدْخُلُ فِي بَلَاغَةِ النُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ؛ وَهِيَ أَنَّ مَا يُرَادُ تَنْبِيهُ السَّمْعِ أَوِ اللَّحْظِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْجُمَلِ يُمَيَّزُ عَلَى غَيْرِهِ، إِمَّا بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ فِي مِثْلِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مُطْلَقًا، وَإِمَّا بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْخَطَابَةِ، وَإِمَّا بِكِبَرِ الْحُرُوفِ، أَوْ تَغْيِيرِ لَوْنِ الْحِبْرِ، أَوْ وَضْعِ الْخُطُوطِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمُتُونَ الْمَشْرُوحَةَ بِحِبْرٍ أَحْمَرَ، وَفِي الطَّبْعِ يَضَعُونَ الْخُطُوطَ فَوْقَ الْكَلَامِ الَّذِي يُمَيِّزُونَهُ ; كَآيَاتِ

الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ صَارَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْخُطُوطِ تَحْتَ الْكَلَامِ الَّذِي يُرِيدُونَ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ بِتَمْيِيزِهِ. وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعْوَى وُجُودِ الْغَلَطِ النَّحْوِيِّ فِي الْقُرْآنِ! وَعَدَّ رَفْعَ الصَّابِئِينَ هُنَا مِنْ هَذَا الْغَلَطِ! وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ السَّخْفِ وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُرْأَةُ مِنَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ مَعَ جَهْلٍ أَوْ تَجَاهُلِ أَنَّ النَّحْوَ اسْتُنْبِطَ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَمْ تُسْتَنْبَطِ اللُّغَةُ مِنْهُ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ إِذَا قَصُرَتْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ مَا ثَبَتَ عَنِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِيهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ عَنِ الْعَرَبِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْعَرَبِ الْغَلَطُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنْ قَدْ يَغْلَطُونَ فِي الْمَعَانِي، وَلَمْ تُوجَدْ لُغَةٌ مِنْ لُغَاتِ الْبَشَرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَتَرَقَّى اللُّغَاتُ وَتَتَّسِعُ بِالتَّدْرِيجِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّجْدِيدُ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَمُرَكَّبَاتِهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِهَا وَمُشْتَقَّاتِهَا بِالتَّشَاوُرِ وَالتَّوَاطُؤِ بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ مِنْهَا - إِلَّا مَا يَحْصُلُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَإِنَّمَا كَانَ التَّصَرُّفُ وَالتَّجْدِيدُ مِنْ عَمَلِ الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَشْتَهِرُونَ بِالْفَصَاحَةِ ; كَالْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ ضَعِيفَ الْعَقْلِ أَوْ قَوِيَّ التَّعَصُّبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَنَهَاهُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ رِوَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعَرَبُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِحْسَانِ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِقْرَارِ الْأَنْدِيَةِ الْأَدَبِيَّةِ (الْأَكَادِمِيَّاتِ) الْآنَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْهَاهُ مِثْلُ ذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ أَيِّ بَدَوِيٍّ مِنْ صَعَالِيكِ الْعَرَبِ، وَلَوْ بِرِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يُعِدُّ ذَلِكَ الْمُتَعَصِّبُ الْأَعْمَى مُبْتَكَرَاتِ مِثْلِ شِكْسِبِيرَ فِي الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَفِيكْتُورْ هِيغُو بِالْفَرَنْسِيَّةِ مِنَ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ فِيهَا؟ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّابِئِينَ هُنَا عَلَى النَّصَارَى فَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا هُنَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يَرَى أَنَّ نُكْتَتَهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِالتَّرَقِّي مِنَ الْجَدِيرِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ - إِذَا صَحَّ إِيمَانُهُ وَدُعِّمَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ - إِلَى الْأَجْدَرِ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلُ النَّصَارَى أَقْرَبَهَا إِلَى الْقَبُولِ، وَيَلِيهِمْ عِنْدَهُ الصَّابِئُونَ فَالْيَهُودُ فَالْمُنَافِقُونَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ النُّكْتَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

70

(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) بَدَأَ اللهُ تَعَالَى السِّيَاقَ الطَّوِيلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعَثَ النُّقَبَاءَ فِيهِمْ، ثُمَّ أَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهِ فِي أَوَاخِرِهِ هُنَا، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ مَعَهُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ لَهُمْ فَقَالَ: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمِيثَاقَ هُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ، وَأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فَرَاجِعِ الْآيَةَ الْـ 13 (ص232 ج 6 ط الْهَيْئَةِ) . وَقَدْ نَقَضُوا الْمِيثَاقَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَوَاخِرِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُعَامَلَتُهُمْ لِلرُّسُلِ

فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى إِجْمَالَهُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِشَيْءٍ لَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِأَشْيَاءَ يُوَافِقُ فِيهَا الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ، عَامَلُوهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّكْذِيبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِعْرَاضِ وَالْعِصْيَانِ، أَوِ الْقَتْلِ وَسَفْكِ الدَّمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، لَا صِفَةٌ لِرُسُلٍ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَجَعْلُ الرُّسُلِ فَرِيقَيْنِ فِي الْمُعَامَلَةِ، بَعْدَ ذِكْرِ لَفْظِ الرَّسُولِ مُفْرَدًا فِي اللَّفْظِ، جَائِزٌ ; لِأَنَّ وُقُوعَهُ مُفْرَدًا إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ (كُلَّمَا) الْمُفِيدَةِ لِلتَّكْرَارِ وَالتَّعَدُّدِ، وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ " كُلَّمَا " مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: اسْتَكْبَرُوا وَأَعْرَضُوا، وَجَعَلَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، مُفَصِّلًا لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ وَعَدَمِ قَبُولِ هِدَايَةِ الرُّسُلِ. وَهُوَ حَسَنٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (2: 87) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْقَتْلِ بِالْمُضَارِعِ مَعَ كَوْنِهِ كَالتَّكْذِيبِ وَقَعَ فِي الْمَاضِي نُكْتَتُهُ تَصْوِيرُ جُرْمِ الْقَتْلِ الشَّنِيعِ وَاسْتِحْضَارُ هَيْئَتِهِ الْمُنْكَرَةِ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّعْيِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ. فَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الْفَسَادِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ أَخْشَنَ مَرْكَبٍ وَأَشَدَّهُ تَقَحُّمًا بِهِمْ فِي الضَّلَالِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُؤْثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ وَعْظُ الرُّسُلِ وَهَدْيُهُمْ، بَلْ صَارَ يُغْرِيهِمْ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَقَتْلِ أُولَئِكَ الْهُدَاةِ الْأَخْيَارِ. (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أَيْ وَظَنُّوا ظَنًّا تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ كَالْعِلْمِ فِي قُوَّتِهِ أَنَّهُ لَا تُوجَدُ وَلَا تَقَعُ لَهُمْ فِتْنَةٌ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ. وَالْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ بِالشَّدَائِدِ ; كَتَسَلُّطِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالِاضْطِهَادِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْقَحْطُ وَالْجَوَائِحُ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُجْمِلَ هُنَا هُوَ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، الَّتِي تُسَمَّى سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (17: 4) إِلَى قَوْلِهِ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) الْآيَةَ. فَالْفَسَادُ مَرَّتَيْنِ هُنَاكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أَيْ فَعَمُوا عَنِ آيَاتِ اللهِ فِي كُتُبِهِ، الدَّالَّةِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلْأُمَمِ الْمُفْسِدَةِ الظَّالِمَةِ، وَعَنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الْمُصَدِّقَةِ لَهَا، وَصَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الرُّسُلُ وَأَنْذَرُوهُمْ بِهَا عِقَابَ اللهِ لِمَنْ نَقَضَ مِيثَاقَهُ، وَخَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ، فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ، فَلَمَّا عَمُوا وَصَمُّوا، وَانْهَمَكُوا فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، سَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْبَابِلِيِّينَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَأَحْرَقُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى

71

وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَسَبَوُا الْأُمَّةَ وَسَلَبُوهَا الْمُلْكَ وَالِاسْتِقْلَالَ، ثُمَّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَتَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى، وَعَادُوا إِلَى ظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَسَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْفُرْسَ، ثُمَّ الرُّومَ (الرُّومَانِيِّينَ) فَأَزَالُوا مُلْكَهُمْ وَاسْتِقْلَالَهُمْ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ " عَمُوا وَصَمُّوا " أَوْ هُوَ الْفَاعِلُ وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَزْدِ الَّتِي يُعَبِّرُ النُّحَاةُ بِكَلِمَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ " أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ "، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَى الْبَصِيرَةِ وَالْخَتْمَ عَلَى السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا مُسْتَغْرِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الْكَثِيرُ الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) بَيَانُ حِكْمَةِ هَذَا التَّدْقِيقِ فِي الْقُرْآنِ بِنِسْبَةِ الْفَسَادِ لِلْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ فِي الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ اللهُ الْأُمَمَ بِالذُّنُوبِ إِذَا كَثُرَتْ وَشَاعَتْ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَالِبِ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الصَّلَاحِ أَوِ الْفَسَادِ الْعَامِّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَعِلَّتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَتُهُ بَاهِرَةٌ. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) الْآنَ مِنَ الْكَيْدِ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ ; فَاتِّبَاعُ الْهَوَى قَدْ أَعْمَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَتَرَكَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِهِ، وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَسَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَجَعَلُوا (يَعْمَلُونَ) بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِهِ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَاضِيهِمْ، وَتَمْثِيلُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ، كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وَمَا قُلْنَاهُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ الْمُهِمِّ الَّذِي يُرَادُ التَّذْكِيرُ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِجَعْلِ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ مِرْآةً لِلزَّمَنِ الْغَابِرِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْحُسْنُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُطَلَقَةِ الْمُبْهَمَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ وَيَعْقُوبَ قَرَءُوا " أَنْ لَا تَكُونَ "، وَالْأَصْلُ حِينَئِذٍ: وَحَسِبُوا أَنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ ; فَخُفِّفَتْ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ، وَحُذِفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُتَّصِلِ، وَأُشْرِبَ الْحُسْبَانُ مَعْنَى الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ إِلَى بَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أَكَّدَ تَعَالَى بِالْقَسَمِ كُفْرَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ النَّصَارَى ; إِذْ غَلَوْا فِي إِطْرَاءِ نَبِيِّهِمُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غُلُوًّا ضَاهَوْا بِهِ غُلُوَّ الْيَهُودِ فِي الْكُفْرِ بِهِ وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ الصِّدِّيقَةِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، ثُمَّ صَارَ هُوَ الْعَقِيدَةَ الشَّائِعَةَ فِيهِمْ،

72

وَمِنْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى التَّوْحِيدِ يُعَدُّ مَارِقًا مِنْ دِينِهِمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِلَهَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ يُسَمُّونَهَا " أَقَانِيمَ "، وَهِيَ: الْآبُ، وَالِابْنُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الِابْنُ، وَاللهَ هُوَ الْآبُ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَيْنُ الْآخَرِينَ، فَيُنْتِجُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللهُ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْـ 17 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (رَاجِعْ ص254 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ ضِدَّ مَا يَقُولُونَ ; أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، فَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ، وَلَا يَزَالُ أَمْرُهُ هَذَا مَحْفُوظًا عِنْدَهُمْ فِيمَا حَفِظُوا مِنْ إِنْجِيلِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، الَّتِي كُتِبَتْ لِبَيَانِ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَتَارِيخِهِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ ; فَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا مِنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَصُّهُ: " 7: 3 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ ; أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ "، فَدِينُ الْمَسِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (5: 117) . (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، بِبَيَانِ أَنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ الثَّابِتَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مَا مِنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نِدًّا لَهُ، أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ، أَوْ يَدْعُوهُ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ زُلْفًى، فَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا، زَاعِمًا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عِلْمِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَخَصَّصَتْهُ إِرَادَتُهُ فِي الْأَزَلِ، مَنْ يُشْرِكُ هَذَا الشِّرْكَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّ اللهَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَبِمُقْتَضَى دِينِهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَأْوَى وَلَا مَلْجَأُ يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا النَّارُ، دَارُ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ مِنْ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُنْقِذُهُمْ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ 21: 28) فَالنَّافِعُ رِضَاهُ (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) (39: 7) وَشَرُّ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ. وَنُكْتَةُ جَمْعِ الْأَنْصَارِ مَعَ كَوْنِ النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ هِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ النَّصَارَى كَانُوا يَتَّكِلُونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ وَالْقِدِّيسِينَ ; إِذْ كَانَتْ وَثَنِيَّةُ الشَّفَاعَةِ قَدْ فَشَتْ فِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ.

73

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) أَكَّدَ تَعَالَى بِالْقَسَمِ أَيْضًا كُفْرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ الَّذِي هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، ثَالِثُ أَقَانِيمَ ثَلَاثَةٍ ; وَهِيَ: الْآبُ، وَالِابْنُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ كَانَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ النَّصَارَى قَبْلَ افْتِرَاقِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ، كَانُوا فِيمَا بَلَغْنَا يَقُولُونَ: الْإِلَهُ الْقَدِيمُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ ; أَبًا وَالِدًا غَيْرَ مَوْلُودٍ، وَابْنًا مَوْلُودًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَزَوْجًا مُتَتَبِّعَةً بَيْنَهُمَا اهـ. فَكَانَ هُوَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ يَرَوْنَ - بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَالِ نَصَارَى زَمَنِهِمْ، وَمَا يَرْوُونَ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ - أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِنَ النَّصَارَى أَنَّ إِلَهَهُمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُمْ غَيْرُ الْفِرْقَةِ الَّتِي تَقُولُ مِنْهُمْ: إِنِ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّ ثَمَّ فَرِقَّةٌ ثَالِثَةٌ تَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ اللهَ، وَلَا ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا النَّصَارَى الْمُتَأَخِّرُونَ فَالَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْهُمْ وَعَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالثَّلَاثَةِ الْأَقَانِيمِ، وَبِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، فَالْآبُ عَيْنُ الِابْنِ، وَعَيْنُ رُوحِ الْقُدُسِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ الِابْنُ كَانَ عَيْنُ الْآبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ أَيْضًا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ يَنْقُلُونَ أَقْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَيُقِرُّونَهَا وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَالِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَلَا يَشْرَحُونَ حَقِيقَةَ عَقِيدَتِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَكَوْنِ النَّصَارَى أَخَذُوهَا عَنْ قُدَمَاءَ الْوَثَنِيِّينَ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) (4: 171) فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، رَاجِعْ (ص71 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا قُبَيْلَهَا عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ، رَاجِعْ (ص20 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) ثُمَّ بَيَّنَّا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 17 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص253 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) . قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) أَيْ قَالُوا هَذَا بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَلَا اثْنَانِ، وَلَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لَا يُوجَدُ إِلَهٌ مَا إِلَّا إِلَهٌ مُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَهُوَ " اللهُ " الَّذِي لَا تَرْكِيبَ فِي ذَاتِهِ، وَلَا تَعَدُّدَ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَشَدُّ تَأْكِيدًا لِنَفْيِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ مِنْ عِبَارَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ (مِنْ) بَعْدَ (مَا) تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ النَّفْيِ وَشُمُولِهِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُتَعَدِّدِ وَكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَلَيْسَ ثَمَّ تَعْدَادُ ذَوَاتٍ وَأَعْيَانٍ، وَلَا تَعَدُّدُ أَجْنَاسٍ أَوْ أَنْوَاعٍ، وَلَا تَعَدُّدَ جُزْئِيَّاتٍ أَوْ أَجْزَاءٍ، وَالنَّصَارَى قَدِ اقْتَبَسُوا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوهَا، وَعُقَلَاؤُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّفَصِّي مِنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرُوهَا، بَعْدَ هَذِهِ الشُّهْرَةِ تَبْطُلُ ثِقَةُ الْعَامَّةِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهَا. كَمَا قَالَ أَحَدُ عُقَلَاءِ الْقُسُوسِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ مِنَ الشُّبَّانِ السُّورِيِّينَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لَا تُعْقَلُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَاوِلُ تَأْنِيسَ النُّفُوسِ بِهَا، بِضَرْبِ أَمْثِلَةٍ لَا تَصْدُقُ عَلَيْهَا ; كَكَوْنِ الشَّمْسِ مُرَكَّبَةً مِنَ الْجِرْمِ الْمُشْتَعِلِ وَالنُّورِ وَالْحَرَارَةِ، قَالَ الشَّيْخُ نَاصِيفٌ الْيَازِجِيُّ:

نَحْنُ النَّصَارَى آلَ عِيسَى الْمُنْتَمِي حَسَبَ التَّأَنُّسِ لِلْبَتُولَةِ (؟) مَرْيَمِ فَهُوَ الْإِلَهُ ابْنُ الْإِلَهِ وَرُوحُهُ فَثَلَاثَةٌ فِي وَاحِدٍ لَمْ تُقْسَمِ لِلْآبِ لَاهُوتُ ابْنِهِ وَكَذَا ابْنُهُ وَكَذَا هُمَا وَالرُّوحُ تَحْتَ تَقَنُّمِ كَالشَّمْسِ يَظْهَرُ جِرْمُهَا بِشُعَاعِهَا وَبِحَرِّهَا وَالْكُلُّ شَمْسٌ فَاعْلَمِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ رَبَّهُمْ جَوْهَرٌ لَهُ أَعْرَاضٌ كَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ، وَلَكِنَّ الْعَرَضَ لَيْسَ عَيْنَ الذَّاتِ، فَحَرَارَةُ الشَّمْسِ لَيْسَتْ شَمْسًا، وَلَا هِيَ عَيْنَ الْجِرْمِ، وَلَا عَيْنَ الضَّوْءِ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ عَيْنَ الْآبِ! وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ إِظْهَارِ الْحَقِّ الْحِكَايَةَ الْآتِيَةَ فِي بَيَانِ تَخَبُّطِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ: " نُقِلَ أَنَّهُ تَنَصَّرَ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَعَلَّمَهُمْ بَعْضُ الْقِسِّيسِينَ الْعَقَائِدَ الضَّرُورِيَّةَ، سِيَّمَا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ. وَكَانُوا فِي خِدْمَتِهِ، فَجَاءَ مُحِبٌّ مِنْ أَحِبَّاءِ هَذَا الْقِسِّيسِ، وَسَأَلَهُ عَمَّنْ تَنَصَّرَ، فَقَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ تَنَصَّرُوا، فَسَأَلَهُ هَذَا الْمُحِبُّ: هَلْ تَعَلَّمُوا شَيْئًا مِنَ الْعَقَائِدِ الضَّرُورِيَّةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَطَلَبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُرِيَ مُحِبَّهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَقَالَ: إِنَّكَ عَلَّمْتَنِي أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ ; أَحَدُهُمُ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ، وَالثَّانِي الَّذِي تُوُلِّدَ مِنْ بَطْنِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَالثَّالِثُ الَّذِي نَزَلَ فِي صُورَةِ الْحَمَامَةِ عَلَى الْإِلَهِ الثَّانِي بَعْدَ مَا صَارَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَغَضِبَ الْقِسِّيسُ وَطَرَدَهُ، وَقَالَ هَذَا مَجْهُولٌ، ثُمَّ طَلَبَ الْآخَرَ مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ عَلَّمْتَنِي أَنَّ الْآلِهَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَصُلِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ; فَالْبَاقِي إِلَهَانِ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْقِسِّيسُ أَيْضًا وَطَرْدَهُ، ثُمَّ طَلَبَ الثَّالِثَ، وَكَانَ ذَكِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَحَرِيصًا فِي حِفْظِ الْعَقَائِدِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ حَفِظْتُ مَا عَلَّمْتَنِي حِفْظًا جَيِّدًا، وَفَهِمْتُ فَهْمًا كَامِلًا بِفَضْلِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ أَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَالثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَصُلِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَمَاتَ ; فَمَاتَ الْكُلُّ لِأَجْلِ الِاتِّحَادِ، وَلَا إِلَهَ الْآنَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ نَفْيُ الِاتِّحَادَ. أَقُولُ: لَا تَقْصِيرَ لِلْمَسْئُولِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ يَخْبِطُ فِيهَا الْجُهَلَاءُ هَكَذَا، وَيَتَحَيَّرُ عُلَمَاؤُهُمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّا نَعْتَقِدُ وَلَا نَفْهَمُ، وَيَعْجَزُونَ عَنْ تَصْوِيرِهَا وَبَيَانِهَا اهـ. (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لِيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ وَيَتْرُكُوهُ، وَيَعْتَصِمُوا بِعُرْوَةِ التَّوْحِيدِ الْوُثْقَى وَيَعْتَقِدُوهُ، فَوَاللهِ لَيُصِيبَنَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ، فَوَضَعَ (الَّذِينَ كَفَرُوا) مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ; لِيُثْبِتَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَأَنَّ الْكُفْرَ سَبَبُ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَا يَمَسُّ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً بِالتَّثْلِيثِ أَوْ غَيْرِهِ، دُونَ مَنْ تَابَ وَأَنَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; إِذْ لَيْسَ عَذَابُ الْآخِرَةِ كَعَذَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذْنِبُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ.

74

(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فِي تَثْلِيثِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الْمُبْطِلَةُ لَهُ، وَالنُّذُرُ بِالْعَذَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ. وَالْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، عُطِفَ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيَسْمَعُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْنِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَظِيمُ الْمَغْفِرَةِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ، إِذَا هُمْ آمَنُوا وَأَحْسَنُوا فِيمَا بَقِيَ؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، أَوْ: أَيُصِرُّونَ عَلَى مَا ذُكِرَ، بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَدَحْضِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَتُوبُونَ؟ إِلَخْ. (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) قَدْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ إِذَا سَمِعَ مَا تَقَدَّمَ: إِذَا كَانَ التَّثْلِيثُ أَمْرًا بَاطِلًا، لَا حَقِّيَّةَ لَهُ، وَكَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، وَلَا تَرْكِيبَ مِنْ أُصُولٍ وَلَا أَقَانِيمَ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ بِذَاتٍ وَلَا صِفَةٍ، فَمَا بَالُ الْمَسِيحِ، وَمَا شَأْنُهُ؟ هَلْ يُعَدُّ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَمْتَازُ عَلَيْهَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالصِّفَاتِ؟ وَهَلْ تُعَدُّ أُمُّهُ كَسَائِرِ النِّسَاءِ؟ أَجَابَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، الَّتِي يُورِدُهَا مَنْ أَكْبَرُوا الْمَسِيحَ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا ; فَبَدَأَ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّتِهِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، ثُمَّ ثَنَّى بِبَيَانِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي يُشَارِكُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ. أَمَّا الْخُصُوصِيَّةُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مَنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى مِثْلَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ. فَبِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ امْتَازَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ الرُّسُلُ عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَهِيَ صِدِّيقَةٌ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ، فَمَرْتَبَتُهَا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُمَا الشَّخْصِيَّةُ وَالنَّوْعِيَّةُ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِحَقِيقَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِهِمَا وَجِنْسِهِمَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، وَكُلُّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَا يُقِيمُ بِنْيَتَهُ وَيَمُدُّ حَيَاتَهُ ; لِئَلَّا يَنْحَلَّ بَدَنُهُ وَتَضْعُفَ قُوَاهُ، فَيَهْلَكَ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ أَكْلُ الطَّعَامِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْفَضَلَاتِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ، مُسَاوٍ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَةِ فِي حَاجَتِهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَبًّا مَعْبُودًا، وَأَنَّ مِنْ سَفَهِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَاحْتِقَارِهِ لِجِنْسِهِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ بِمَزِيَّةٍ عَرَضِيَّةٍ لَهَا، فَيَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا عَبْدًا، وَيُسَمِّيَ مَا يُفْتَتَنُ بِخُصُوصِيَّتِهِ مِنْهَا إِلَهًا أَوْ رَبًّا. (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيِ انْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، نَظَرَ عَقْلٍ وَفِكْرٍ، كَيْفَ نُبَيِّنُ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ فِي الْمَسِيحِ

76

ثُمَّ انْظُرْ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ بِهَا، وَالِانْتِقَالِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا إِلَى نَتَائِجِهَا، كَأَنَّ عُقُولَهُمْ قَدْ فَقَدَتْ بِالتَّقْلِيدِ وَظِيفَتَهَا؟ ! (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْبُرْهَانَ مِنْ حَالِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ عَلَى بُطْلَانِ كَوْنِهِ إِلَهًا، وَبَيَّنَ مَا يُشَارِكَانِ بِهِ أَشْرَفَ الْبَشَرِ مِنَ الْمَزِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَمَا يُشَارِكَانِ بِهِ سَائِرَ الْبَشَرِ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْعَامَّةِ. وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ بُعْدِ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ قُوَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي حَجَّهُمْ بِهَا، وَشِدَّةِ انْصِرَافِهِمْ عَنْهَا، ثُمَّ لَقَّنَ نَبِيَهُ حُجَّةً أُخْرَى يُورِدُهَا فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْكِيتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا فَائِدَةَ فِي عِبَادَتِهِ، فَقَالَ: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ، أَتَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ - أَيْ مُتَجَاوِزِينَ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ - مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا تَخْشَوْنَ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ بِهِ إِذَا تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ، وَتَرْجُونَ أَنْ يَدْفَعَهُ

عَنْكُمْ إِذَا أَنْتُمْ عَبَدْتُمُوهُ، وَلَا يَمْلِكُ لَكُمْ نَفْعًا تَرْجُونَ أَنْ يَجْزِيَكُمْ بِهِ، إِذَا عَبَدْتُمُوهُ، وَتَخَافُونَ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْكُمْ إِذَا كَفَرْتُمُوهُ؟ ! (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ السَّمِيعُ لِأَدْعِيَتِكُمْ وَسَائِرِ أَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِحَاجَاتِكُمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِكُمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَدْعُوا غَيْرَهُ، وَلَا أَنْ تَعْبُدُوا سِوَاهُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَشَدِّ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ بِتَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ فَوْقَ مَا يَجِبُ، وَكَانَ إِيذَاءُ الْيَهُودِ لَهُ وَسَعْيُهُمْ لِقَتْلِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْجُمُودِ عَلَى تَقَالِيدِ الدِّينِ الصُّورِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الْغُلُوُّ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) . الْغُلُوُّ: الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْأَمْرِ - فَإِذَا كَانَ فِي الدِّينِ، فَهُوَ تُجَاوِزُ حَدِّ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَى مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ; كَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَرْبَابًا يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَهُمْ، فَوْقَ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الْكَسْبِيَّةِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فَيُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ اللهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، أَمْ لَا، وَكَشَرْعِ عِبَادَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ ; كَالطَّيِّبَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْقُسُوسُ وَالرُّهْبَانُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ ; مُبَالَغَةً فِي التَّنَسُّكِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللهِ، أَمْ كَانَ رِيَاءً وَسُمْعَةً - نَهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ عَنْ هَذَا الْغُلُوِّ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَعَنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ ضَلَالَتِهِمْ. فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ سُنَّةَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا مُفْرِطِينَ وَلَا مُفَرِّطِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا لِلشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مُنْكِرِينَ، فَهَذَا التَّثْلِيثُ، وَهَذِهِ الطُّقُوسُ الْكَنِيسِيَّةُ الشَّدِيدَةُ الْمُسْتَحْدَثَةُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ابْتَدَعَهَا قَوْمٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَضَلُّوا بِهَا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَأَمَّا الضَّلَالُ الثَّانِي، الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ، فَقَدْ فُسِّرَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فُسِّرَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ هُوَ سَوَاءُ السَّبِيلِ ; أَيْ وَسَطُهُ الَّذِي لَا غُلُوَّ فِيهِ، وَلَا تَفْرِيطَ ; لِتَحْتِيمِهِ الِاتِّبَاعَ، وَتَحْرِيمِهِ الِابْتِدَاعَ وَالتَّقْلِيدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ ضَلَالَ الِابْتِدَاعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ، وَالضَّلَالُ الثَّانِي جَهْلَ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ، وَكَوْنَهُ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافٍ مَذْمُومَةٍ؛ كَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ بَيْنَ الِابْتِدَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالسَّخَاءِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ. . . إِلَخْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ غَلَبَ عَلَى غُلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَآثَرَ أَكْثَرُهُمْ

78

اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَبِمَاذَا آخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) اللَّعْنُ: أَشَدُّ مَا يُعَبِّرُ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ مَقْتِهِ وَغَضَبِهِ ; فَالْمَلْعُونُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ لُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ، الْبَعِيدُ عَنْ هُبُوطِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ، أَوِ الْعَاصِينَ الْمُعْتَدِينَ عَامَّةً، وَالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مِنَ اللهِ الَّذِي اسْتَمَرَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ عِصْيَانَهُمْ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعْتِدَاءَهُمُ الْمُمْتَدُّ الْمُسْتَمِرُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) . وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - ذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَسَبَبَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ مُنْكَرٍ مَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مَهْمَا اشْتَدَّ قُبْحُهَا وَعَظُمَ ضَرَرُهَا، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الدِّينِ وَسِيَاجُ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا تُرِكَ تَجَرَّأَ الْفُسَّاقُ عَلَى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَمَتَى صَارَ الدَّهْمَاءُ يَرَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَسْمَعُونَهَا بِآذَانِهِمْ، تَزُولُ وَحْشَتُهَا وَقُبْحُهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يَتَجَرَّأُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. فَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِهِمْ إِخْبَارٌ بِفُشُوِّ الْمُنْكَرَاتِ فِيهِمْ، وَانْتِشَارِ مَفَاسِدِهَا بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْلُولِ، وَلَوْلَا اسْتِمْرَارُ وُقُوعِ الْمُنْكَرَاتِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّنَاهِي شَأْنًا مِنْ شُئُونِ الْقَوْمِ، وَدَأْبًا مِنْ دُءُوبِهِمْ. (وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي تَفْسِيرِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ 3: 104) الْآيَةَ، فَلْيُرَاجِعْ فِي (ص22 ج4 ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى) . (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) هَذَا تَأْكِيدٌ قَسَمِيٌّ لِذَمِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مِنِ اقْتِرَافِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهَا، وَالرِّضَاءِ بِهَا، وَكَفَى بِذَلِكَ إِفْسَادًا. ذَلِكَ شَأْنُهُمْ وَدَأْبُهُمِ الَّذِي مَرَدُوا وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ، بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ; عِبْرَةً لَهُمْ، حَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَيَحِلَّ بِهِمْ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرْبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ

80

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا وَاللهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ لَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ "، وَوَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِرٍ أَوْ مُدَّكِرٍ؟ ! بَلْ رَأَيْنَا مِنْ آثَارِ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى مِثْلَمَا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَرَّفَنَا سَبَبَهُ وَلَمْ نَتْرُكْهُ، وَنَرَاهُ يَزْدَادُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَا نَتُوبُ، وَلَا نَتَذَكَّرُ! ! فَإِلَى مَتَى؟ إِلَى مَتَى؟ ! ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ السِّيرَةِ الرَّاسِخَةِ، فَقَالَ: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ تَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ، كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَأَنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِّسَالَةِ، وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ لَا يُوَحِّدُونَ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ، وَلَا بِرُسُلِهِ مِثْلُكَ، فَكَيْفَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَيْكَ، لَوْلَا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ، وَسَخَطُ اللهِ عَلَيْهِمْ؟ (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هَذَا ذَمٌّ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِعَمَلِ الْيَهُودِ الَّذِي قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ; لِيَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي أَوْجَبَ سَخَطِ اللهِ عَلَيْهِمْ. فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ ذَلِكَ السَّخَطُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ، وَلَيْسَ أَمَامَهُمْ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَبِئْسَ شَيْئًا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، فَسَيُجْزَوْنَ بِهِ شَرَّ الْجَزَاءِ (وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) فَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ، لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا ; لِأَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِنَّمَا تَكُونُ بِرِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا مَا أَوْجَبَ سَخَطَهُ. (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) أَيْ وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْكَافِرِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَهُوَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، لَمَا اتَّخَذُوا أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ وَأَنْصَارًا ; لِأَنَّ الْعَقِيدَةَ الدِّينِيَّةَ كَانَتْ تُبْعِدُهُمْ عَنْهُمْ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ. وَفِي الْعِبَارَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: لَوْ كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، مَا اتَّخَذَهُمُ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ ; أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّوْجِيهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِلَّةٌ إِلَّا اتِّفَاقَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى حَرْبِ الرَّسُولِ وَإِبْطَالِ دَعْوَتِهِ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ تَوَلَّاهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ

81

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، كَمَا يَدَّعُونَ، مَا اتَّخَذَهُمُ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَتَوَلِّيهُمْ إِيَّاهُمْ دَلِيلُ كَوْنِهِمْ يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ نِفَاقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا مَضَى مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا الْعَهْدُ بِهِ بِبَعِيدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ. فَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا ; لِلِاشْتِرَاكِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أَيْ خَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، مُنْسَلُّونَ مِنْهُ انْسِلَالَ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَالْقَلِيلُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي سِيرَةِ الْأُمَّةِ وَأَعْمَالِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

82

الْجُزْءُ السَّابِعُ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) . خَتَمَ اللهُ هَذَا السِّيَاقَ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ شَأْنِهِمْ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا حَالَتَهُمُ النَّفْسِيَّةَ فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَدَرَجَةِ قُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُمْ، وَكَذَا حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) الْعَدَاوَةُ: بَغْضَاءُ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْمَوَدَّةُ: مَحَبَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِالْمَحَبَّةِ مُطْلَقًا، وَفِي

كَلِمَةِ " لَتَجِدَنَّ " تَأْكِيدَانِ: لَامُ الْقَسَمِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي آخِرِهَا، وَفِي الْخِطَابِ بِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لِكُلِّ مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، وَفِي " النَّاسِ " الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَهُودُ الْحِجَازِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ مَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا صِدْقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا لَاقَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ قَدْ كَانَ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَا سِيَّمَا مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَرَ مِنَ الْعَدَاوَةِ مِثْلَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ، بَلْ رَأَى مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ أَحْسَنَ الْمَوَدَّةِ بِحِمَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُشْرِكِيهَا الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ; لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الشُّعُوبِ، كَانَ النَّصَارَى مِنْهُمْ أَحْسَنَهُمْ رَدًّا; فَهِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ فِي الشَّامِ حَاوَلَ إِقْنَاعَ رَعِيَّتِهِ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمَّ يَقْبَلُوا لِجُمُودِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ الْجَدِيدِ، اكْتَفَى بِالرَّدِّ الْحَسَنِ، وَالْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ رَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا، وَأَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً حَسَنَةً، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ وَالشَّامُ عَرَفَ أَهْلُهَا مَزِيَّةَ الْإِسْلَامِ، دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَكَانَ الْقِبْطُ أَسْرَعَ لَهُ قَبُولًا. وَقَدْ كَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى 79: 25) فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلَا يَعْتَبِرُ بِكَ غَيْرُكَ، فَقَالَ (الْمُقَوْقِسُ) : إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَقَالَ حَاطِبٌ: نَدْعُوكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَافِي بِهِ اللهُ فَقْدَ سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الْإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ أُمُّتُهُ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنَّا نَأْمُرُكَ بِهِ (أَيْ هُوَ الْإِسْلَامُ عَيْنُهُ) فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا

النَّبِيِّ فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسَّاحِرِ الضَّالِّ وَلَا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ، وَوَجَدْتُ مَعَهُ آيَةَ النُّبُوَّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ، وَالْإِخْبَارِ بِالنَّجْوَى، وَسَأَنْظُرُ إِلَخْ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَسُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ عُمَانَ جَيْفَرِ بْنِ الْجُلَنْدَى وَأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ الْجُلَنْدَى، فَإِنَّ عَمْرًا عَمَدَ أَوَّلًا إِلَى عَبْدٍ ; لِأَنَّهُ أَحْلُمُ الرَّجُلَيْنِ وَأَمْيَلُهُمَا خُلُقًا، فَبَلَّغَهُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدٌ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ؟ (قَالَ عَمْرٌو) قُلْتُ: مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ: فَمَتَى تَبِعْتَهُ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَسَأَلَنِي: أَيْنَ كَانَ إِسْلَامُكَ؟ قُلْتُ: عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ؟ فَقُلْتُ: أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ، قَالَ: وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ تَبِعُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: انْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحُ مِنَ الْكَذِبِ، قُلْتُ: مَا كَذَبْتُ وَمَا نَسْتَحِلُّهُ فِي دِينِنَا، قَالَ: مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ النَّجَاشِيِّ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّجَاشِيُّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا وَاللهِ لَوْ سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتُهُ، فَبَلَغَ هِرَقْلَ قَوْلُهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَنَّاقُ أَخُوهُ: أَتَدَعُ عَبْدَكَ لَا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا وَيَدِينُ بِدِينِ غَيْرِكَ دِينًا مُحْدَثًا؟ قَالَ هِرَقْلُ: رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ وَاللهِ لَوْلَا الضَّنُّ بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو، قُلْتُ: وَاللهِ صَدَقْتُكَ، قَالَ عَبْدٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَعَنِ الزِّنَا وَعَنِ الْخَمْرِ وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَنُصَدِّقَ بِهِ، وَلَكِنَّ أَخِي يَضِنُّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ ذَنَبًا، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ (وَقَدْ أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ بَعْدُ) . فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ كَانُوا فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَقْرَبَ قَبُولًا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ مُلُوكِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَمَا كَانَ تَوَقُّفُهُ إِلَّا ضَنَّا بِمُلْكِهِ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ (أَصْحَمَةَ) مَلِكَ الْحَبَشَةِ قَدْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ بِطَانَتُهُ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْحَبَشَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْنِ الْمُسْلِمُونَ بِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كَمَا فَعَلُوا فِي مِصْرَ وَالشَّامِ مَثَلًا وَهَذَا بَحْثٌ تَارِيخِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا، وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " عَزَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى أَبِي

دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِهِ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُلَخَّصُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ وَهُوَ يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِلَادَ كِسْرَى فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِأَنْ يَفْتَحَهَا لِأُمَّتِهِ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ مُلْكَ قَيْصَرَ وَدِيَارَ الشَّامِ فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَهَا لَهُمْ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ الْحَبَشَةَ، وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ الدُّعَاءَ بِفَتْحِهَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأَوْا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوَدَّةِ النَّصَارَى وَقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا رَأَوْا مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ بُعْدُ النَّصَارَى عَنْهُمْ، وَقُرْبُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعًا، وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَبَى تَرْكَ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَعْنِي بِعَدَاوَةِ أَهْلِهَا وَمُقَاوَمَتِهِمْ كَمَا يُعْنَى الْقَرِيبُ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ مُوَاجَهَةً وَمُشَافَهَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ يَعْطِفُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفَتْحِ وَيَرْغَبُونَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى نَصَارَى الرُّومِ وَالْقُوطِ، ثُمَّ صَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْحُرُوبِ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ; لِسَلَفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَالْقَاعِدَةُ لِهَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْمَوَدَّةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ أَثَرَ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالسِّيَادَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَلَا دَخْلَ لِطَبِيعَةِ الدِّينِ فِيهَا، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِمَا يُثِيرُهُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمَا بَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْنِ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ مُسْلِمِي الْهِنْدِ وَمُشْرِكِيهَا; لِتَعَارُضِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ فِيهَا، فَعِلَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ خَارِجِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا جِنْسِيَّةٌ. هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي جُمْلَتِهِ لَا تَفْصِيلِهِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمُتَّفِقِينَ فِيهِ، فَقَدْ حَارَبَ نَصَارَى الْبَلْقَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا حَارَبُوا الْعُثْمَانِيِّينَ، بَلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّصَارَى يُحَارِبُ الْآنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; كَالْإِنْجِلِيزِ وَالْأَلْمَانِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ هُنَا مَعْنًى أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَعَمَّ لَا خَاصًّا بِالتَّنَازُعِ. وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَاوَةِ الْمُعَادِينَ وَمَوَدَّةِ الْمُوَادِّينَ هِيَ الْحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَتَرْبِيَتِهِمُ الْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ سَبَبِ مَوَدَّةِ النَّصَارَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَرْكِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْيَهُودِ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ.

كَانَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي اقْتَضَتْ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ; فَمِنْهَا الْكِبْرُ، وَالْعُتُوُّ، وَالْبَغْيُ، وَحُبُّ الْعُلُوِّ، وَمِنْهَا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ، وَالْحَمِيَّةُ الْقَوْمِيَّةُ، وَمِنْهَا غَلَبَةُ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمِنْهَا الْأَثَرَةُ، وَالْقَسْوَةُ، وَضَعْفُ عَاطِفَةِ الْحَنَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ الْيَهُودِ قُلُوبًا، وَأَكْثَرَ سَخَاءً وَإِيثَارًا، وَأَشَدَّ حُرِّيَّةً فِي الْفِكْرِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَمَا قَدَّمَ اللهُ ذِكْرَ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ إِلَّا لِإِفَادَةِ أَصَالَتِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ، وَتَبْرِيزِهِمْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيذَاءِ بَعْضٍ، وَاسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ضَلْعِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَفَيُّؤِ ظِلِّ عَدْلِهِمْ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ اضْطِهَادِ نَصَارَى تِلْكَ الْبِلَادِ لَهُمْ، فَهُمْ لَمْ يَعُدُّوا فِي ذَلِكَ فِي عَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عُرِفَ مِنْ شِنْشِتَهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا إِلَّا لِمَصْلَحَتِهِمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْخَوْفَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا: الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا. فَتِلْكَ كَانَتْ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ الْغَالِبَةَ لَا أَخْلَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّتَيْنِ كَافَّةً، فَفِي كُلِّ قَوْمٍ خَبِيثُونَ وَطَيِّبُونَ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (7: 159) وَلَكِنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ نَفْسَهَا تُرَبِّي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَةَ الْجِنْسِيَّةَ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ أَحْكَامِهَا وَنُصُوصِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ: وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: الْمُرَادُ مِنْهَا تَرْبِيَةُ أَمَةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ إِنْقَاذِهَا مِنَ اسْتِعْبَادِ أَشَدِّ الْوَثَنِيِّينَ بَطْشًا، وَأَضَرِّهُمْ بِالِاسْتِبْدَادِ وَهِيَ أُمَّةُ الْفَرَاعِنَةِ وَلَوْ أَذِنَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ يُخَالِطُوا الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ

فِيهَا، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُمْ عَامَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى قَوَاعِدِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَغَلَبَتْ تَعَالِيمَ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ، وَشُرُورِهِمْ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِمُ الْوِرَاثِيِّ لِقَبُولِ تَقَالِيدِ غَيْرِهِمْ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَلَّا يُبْقُوا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ نَسْمَةً مَا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا قَبْلَهُمْ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ مِنْ مَفَاسِدَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ بِتَرْبِيَةِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى فِي أَخْلَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَفَاسِدِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْيَهُودِ إِلَى الْآنِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اضْطِهَادِ الْأُمَمِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَدَمِ نَفْعِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُمْ، إِلَّا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ دَفْعَ ضَرَرٍ، وَتَجَرُّدُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ عَنْ إِيثَارِ أَحَدٍ غَرِيبٌ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ لَكَفَى، وَكَانَ شُبْهَةً عَظِيمَةً عَلَى كَوْنِ دِينِهِمْ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (2: 105) . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ سَهْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً لَا دَائِمَةً، فَكَانَتْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى تَكْوِينِ أُمَّةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَانَ الْمُصْلِحُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَاهَدُونَ أَهْلَهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ بِالْإِصْلَاحِ الْمَعْنَوِيِّ، كَإِلَهِيَّاتِ زَبُورِ دَاوُدَ، وَأَدَبِيَّاتِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ; حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَى الْقَوْمِ الْمَادِّيَّةُ وَتُفْسِدَهُمُ الْأَثَرَةُ، ثُمَّ جَاءَ مُصْلِحُ إِسْرَائِيلَ الْأَعْظَمُ عِيسَى الْمَسِيحُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، فَقَابَلَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْمَادِّيَّةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الرُّوحَانِيَّةِ، وَمُبَالَغَتَهُمْ فِي الْأَثَرَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيثَارِ الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ النَّصَارَى بِإِنْكَارِ الذَّاتِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَقَاصِدِهَا، فَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ السِّيَادَةَ وَالْغِنَى، وَذَمَّ التَّمَتُّعَ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، وَأَمَرَ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيذَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْهِيدًا لِإِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى دِينَهُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَجْمَعُ لِلْبَشَرِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لَا بِالْإِحْسَانِ فَقَطْ. فَمَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ إِصْلَاحُ الْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ ظَلُّوا عَلَى جُمُودِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ عَدَاوَةً لِهَذَا النَّبِيِّ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِمَّنْ أَثَّرَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ وَكَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ، فَكَانُوا أَقْرَبَ مَوَدَّةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَسْرَعَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (7: 157)

وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْإِصْرُ وَالْأَغْلَالُ إِلَّا شِدَّةَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ، وَشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَإِذْلَالِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِطَبِيعَةِ دِينِ كُلٍّ مِنْهُمَا - وِفَاقًا لِتَعْلِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثْرَةُ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ النَّصَارَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِلَّةِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَلَوْلَا إِهْمَالُهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِبْرَازَهُ بِصُورَتِهِ الصَّحِيحَةِ لِلْأَنَامِ، وَلَوْلَا فَسَادُ حُكُومَاتِهِمْ وَعَجْزُ رِجَالِهِمْ فِي السِّيَاسَةِ، وَتَخَلُّفُهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ، وَلَوْلَا بُلُوغُ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيهِ أَوْجَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَسَبْقُ أُمَمِهِمْ فِي حَلَبَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالثَّرْوَةِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ لِنَصَارَى الشَّرْقِ وَجَذْبُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَاعْتِزَازُ هَؤُلَاءِ بِهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ أَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ عَنْهُمْ، وَجَعْلُ الدِّينِ فِيهَا مِنَ الْمُقَوِّمَاتِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ تُرَبَّى عَلَى أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهَا كَمَا تُحَافِظُ عَلَى لُغَتِهَا، فَلَا تَسْتَبْدِلُ بِهَا غَيْرَهَا وَإِنَّ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَسَالِيبِهَا وَلَوْلَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ الدُّنْيَوِيِّ بَيْنَ دُوَلِنَا وَدُوَلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَكَانَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَتَمَّ وَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَعَمَّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِصْلَاحٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إِصْلَاحٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَادَوُا النَّصْرَانِيَّةَ كَانُوا أَحْذَرَ مِمَّنْ صَلَحُوا بِهَا بِعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ جَرَى مَعَ الْبَشَرِ عَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ سِنَّ الْكَمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ سَبَبَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ تَعَالِيمُ دِينِهِمْ وَتَقَالِيدُهُ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيهِمْ، وَإِنْ نَزَلَ فِي طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ فَبِمَاذَا تُجِيبُ عَنِ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ الَّتِي أَوْقَدَ النَّصَارَى نَارَهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى؟ فَإِنَّ عِنْدِي جَوَابَيْنِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَوْ جَوَابًا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدِّينِ الْقَرِيبِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، بَلِ الَّذِي هُوَ إِصْلَاحٌ فِيهَا وَإِكْمَالٌ لَهَا كَمَا قَرَّرْنَا، لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّلِيبِينَ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ صُورَةً فِي مُخَيِّلَاتِهِمْ غَيْرَ صُورَتِهِمُ الصَّحِيحَةِ الَّتِي طَبَعَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، صُورَةً وَثَنِيَّةً وَحْشِيَّةً مُشَوَّهَةً أَقْبَحَ التَّشْوِيهِ، مُنْعَكِسَةً عَنِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنْشِئُهَا بُطْرُسُ الرَّاهِبُ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَوْمٌ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مُثِيرُو الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَدَعَوْا إِلَى قِتَالِهِمْ لَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا.

(ثَانِيهُمَا) أَنَّ مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ رُوحِ السَّلَامِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ، وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ سُلْطَانٍ، لَمْ يَنْتَصِرْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى رُوحِ الْحَرْبِ وَالْأَثَرَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَحُبِّ السِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ فِي عَهْدِ السُّلْطَةِ الرُّومَانِيَّةِ أَشُدَّهَا، وَكَانَتْ سَبَبَ إِبَادَةِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ أُورُبَّةَ كُلِّهَا، ثُمَّ سَبَبَ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَمُحَاوَلَةَ إِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ أَوِ الشَّرْقِ كُلِّهِ، بَلْ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ سَبَبَ الْحُرُوبِ الْقَاسِيَةِ بَيْنَ النَّصَارَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، أَوِ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَمَالِكِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَعَالِيمِ رُوحِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ تَأْثِيرِ تَعْلِيمِ رُوحِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَيْفًا. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ عَدَاءٍ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ بُعْدُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ، أَوْ جَهَالَةٍ وَسُوءِ فَهْمٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا، وَأَمْرُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ دُوَلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَلَا يَنْسُبُهُ إِلَى طَبِيعَةِ دِينِهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُكَابِرٌ، فَالدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ كَانَتْ قَدْ فَتَحَتْ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، فَلَمَّا دَالَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ تَأَثَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ السَّاسَةُ الْبَلْقَانِيُّونَ قَدْ هَاجُوا شُعُوبَهُمْ عَلَى قِتَالِهَا بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَالْمَسِيحِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ كَذَّبَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمُ الْمَسِيحِيَّةَ بِإِيقَادِهِمْ نَارَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، فَمَا زَالَ أَئِمَّةُ السِّيَاسَةِ الْمُضِلُّونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَتَّخِذُونَ الدِّينَ أُخْدُوعَةً يَخْدَعُونَ بِهَا الْعَامَّةَ لِتَأْيِيدِ سِيَاسَتِهِمْ، حَتَّى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودِيَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّهَا دِيَانَةُ تَوْحِيدٍ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ تَثْلِيثٍ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَلِذَلِكَ يَغْفِرُ اللهُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الشِّرْكَ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ الدَّخِيلَةَ فِي الْمَسِيحِيَّةِ لَمَّا كَانَتْ لَا تُفْهَمُ وَلَا تُعْقَلُ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا بِبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ الْأَعْظَمُ فِي تَقْرِيبِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْ ضِدِّهِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ. وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مَا لَا نَرَى مِثْلَهُ بَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَمَا ضَعُفَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ فِي بَلَدٍ إِلَّا بِفِتَنِ السِّيَاسَةِ، وَعَصَبِيَّاتِ أَهْلِ الرِّيَاسَةِ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مُثِيرِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، أَوْ إِرْضَاءً لِرُؤَسَائِهِمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الرُّهْبَانَ جَمْعُ رَاهِبٍ (كَرُكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ) وَهُوَ الْمُتَبَتِّلُ الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ وَحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ التَّنَعُّمِ بِالزَّوجِ وَالْوَلَدِ

83

وَلَذَّاتِ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ، فَهُوَ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، أَوْ مِنْ رَهَبِ الْإِبِلِ وَهُوَ هُزَالُهَا وَكَلَالُهَا مِنْ طُولِ السَّيْرِ، وَأَنَّ الْقِسِّيسِينَ جَمْعُ قِسِّيسٍ وَمِثْلُهَا قَسٌّ وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ وَهُوَ رَئِيسٌ دِينِيٌّ فِي عُرْفِ الْكَنِيسَةِ فَوْقَ الشَّمَّاسِ وَدُونَ الْأَسْقُفِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَسَّ الْإِبِلَ يَقُسُّهَا مِنْ بَابِ نَصَرَ قَسًّا (بِتَثْلِيثِ الْقَافِ) إِذَا أَحْسَنَ رَعْيَهَا وَسَقْيَهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْقِسِّيسِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُعَاةٌ وَمُفْتُونَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَوْنُ الرَّهْبَانِيَّةِ بِدْعَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُنَافِي تَأْثِيرَهَا فِي تَقْرِيبِ النَّصَارَى مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى فِي عَهْدِهِ كَالْحَوَارِيِّينَ وَقَوْلًا آخَرَ: الْمُرَادُ بِهِمْ جَمَاعَةُ النَّجَاشِيِّ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرَ الْجُزْءِ السَّادِسِ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ لَا تُرَاعَى فِيهَا الْمَعَانِي، وَيَبْدَأُ الْجُزْءُ السَّابِعُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أَيْ وَإِذَا سَمِعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُكْمِلَ بِهِ الدِّينُ، وَبُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، تَرَى أَيُّهَا النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، أَيْ تَمْتَلِئُ دَمْعًا حَتَّى يَتَدَفَّقَ الدَّمْعُ مِنْ جَوَانِبِهَا لِكَثْرَتِهِ، أَوْ حَتَّى كَأَنَّ الْأَعْيُنَ ذَابَتْ وَصَارَتْ دَمْعًا جَارِيًا، ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَا مَنَعَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، قَوْلُهُ: (مِنَ الْحَقِّ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مِمَّا عَرَفُوا) (وِقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ إِنَّ أَعْيُنَهُمْ فَاضَتْ عَبْرَةً وَدُمُوعًا، عِبْرَةً مِنْهُمْ وَخُشُوعًا، لِمَعْرِفَتِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ، إِذْ سَمِعُوا بَعْضَ الْآيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا الْحَقَّ كُلَّهُ بِسَمَاعِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْبَيَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالَّذِي يَسْمَعُ فِي النَّجَاشِيِّ وَجَمَاعَتِهِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَهُوَ بَيَانُ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ وَالِاسْتِعْبَارُ، وَالدُّمُوعُ الْغِزَارُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ مَقَالِهِمْ، بَعْدَ بَيَانِ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِمْ فَقَالَ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أَيْ: يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ يُرِيدُونَ بِهِ إِنْشَاءَ الْإِيمَانِ، وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ وَيَكْتُبَهُمْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَالرُّسُلِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ مِمَّا يَتَنَاقَلُونَهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، أَنَّ النَّبِيَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُكْمِلُ اللهُ بِهِ الدِّينَ يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكْتَبُونَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَذَكَرَ اللهُ الْأُمَّةَ

84

بِأَشْرَفِ أَوْصَافِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّ الشَّاهِدِينَ هُنَا هُمُ الشُّهَدَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (2: 143) ورُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمُّتُهُ، أَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: " قَدْ بَلَّغْتُ " كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّهَادَةَ لِلرُّسُلِ تَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِلَّا كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ غَيْرَ ظَاهِرٍ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَرْءِ ضِدُّ الشَّهَادَةِ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُبْطِلِينَ لِكَوْنِهَا مَظْهَرًا لِلدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَحَدُوهُ أَوْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الشُّهَدَاءِ فِي تَفْسِيرِ (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (2: 143) فِي (ص 5ج 3ط الْهَيْئَةِ) (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) (4: 69) فِي (ص 197 ج5 ط الْهَيْئَةِ) . (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) . هَذَا تَتِمَّةُ قَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَبِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ هَذَا الرَّسُولِ، بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَالْحَالُ أَنَّنَا نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الَّذِينَ رَأَيْنَا أَثَرَ صَلَاحِهِمْ بِأَعْيُنِنَا بَعْدَ مَا كَانَ فَسَادُهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مَا كَانَ؟ أَيْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ بَعْدَ تَحْقِيقِ مُوجِبِهِ، وَقِيَامِ سَبَبِهِ، فَسَرُّوا الْقَوْمَ الصَّالِحِينَ بِأَصْحَابِ الرَّسُولِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ آمَنَ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَكُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ يُعَدُّ مِنْهُمْ وَيُحْشَرُ مَعَهُمْ. (فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِمُ الَّذِي عَبَّرُوا بِهِ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ فِي دَارِ النَّعِيمِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، فَلَا هِيَ تُسْلَبُ مِنْهُمْ وَلَا هُمْ يَرْغَبُونَ عَنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا، وَذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ الثَّوَابِ جَزَاءُ جَمِيعِ الْمُحْسِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ، الدُّورَ وَالْقُصُورَ وَالنَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ وَالرِّضْوَانَ الْإِلَهِيَّ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ الْكَلَامُ وَيُحِيطَ بِهِ الْوَصْفُ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الْعَالَمِ فِي حَقِيقَتِهِ وَخَوَاصِّهِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (32: 17) . وَهُنَاكَ مَا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرِ: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) قَالَ: هُمُ الْوَفْدُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مَنْ أَرْضَ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللهُ بِهِ النَّصَارَى قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ آمَنُوا إِذْ جَاءَتْهُمْ مُهَاجِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالُوا: " بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيَّ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ فَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ فِيهِمْ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) إِلَى قَوْلِهِ: (مَعَ الشَّاهِدِينَ) . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) قَالَ: هُمْ رُسُلُ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ أَرْسَلَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا اخْتَارَهُمْ مَنْ قَوْمِهِ الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ فِي الْفِقْهِ وَالسِّنِّ، وَفِي لَفْظٍ: بَعَثَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ " يس " فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَيْضًا: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (28: 52) إِلَى قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (28: 54) . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ، كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا بَرَّايِينَ يَعْنِي مَلَّاحِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ آمَنُوا وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَرْضِكُمُ انْتَقَلْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ " فَقَالُوا: لَنْ نَنْقَلِبَ عَنْ دِينِنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) .

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ أَقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرٍ مَنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ جَعْفَرٌ لَحِقَ بِالْحَبَشَةِ هُوَ وَأَرْبَعُونَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَمْسُونَ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنْ عَكٍّ أَكْبَرُهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْغَرُهُمْ عَامِرٌ، فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا فِي طَلَبِهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَأَتَوُا النَّجَاشِيَّ فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَفْسَدُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَجَاءُوا فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: بَعَثَ اللهُ فِينَا نَبِيًّا كَمَا بَعَثَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا يَدْعُونَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَيَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَأْمُرُنَا بِالصِّلَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْقَطِيعَةِ، وَيَأْمُرُنَا بِالْوَفَاءِ وَيَنْهَانَا عَنِ النَّكْثِ، وَإِنَّ قَوْمَنَا بَغَوْا عَلَيْنَا وَأَخْرَجُونَا حِينَ صَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، فَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا نَلْجَأُ إِلَيْهِ غَيْرَكَ، فَقَالَ مَعْرُوفًا، فَقَالَ عَمْرٌو وَصَاحِبُهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، قَالَ: وَمَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ وَلَدَتْهُ عَذْرَاءُ بَتُولٌ، قَالَ: مَا أَخْطَأْتُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَصَاحِبِهِ: لَوْلَا أَنَّكُمَا أَقْبَلْتُمَا فِي جِوَارِي لَفَعَلْتُ بِكُمَا، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ إِذْ أَقْبَلُوا جَاءَ أُولَئِكَ مَعَهُمْ فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَدْ رَجَعُوا إِلَى أَرْضِهِمْ لَحِقُوا بِدِينِهِمْ، فَحَدَّثَنَا أَنَّهُ قَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ سَبْعُونَ مِنْهُمْ فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةٌ قِسِّيسِينَ وَخَمْسَةٌ رُهْبَانًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ فَلَمَّا لَقُوهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بَكَوْا وَآمَنُوا وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَخَافُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَبَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي رَهْطٍ مِنْهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ فِينَا رَجُلٌ سَفَّهَ عُقُولَ قُرَيْشٍ وَأَحْلَامَهَا زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْكَ رَهْطًا لِيُفْسِدُوا عَلَيْكَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، قَالَ: إِنْ جَاءُونِي نَظَرْتُ فِيمَا يَقُولُونَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا إِلَى بَابِ النَّجَاشِيِّ قَالُوا: اسْتَأْذِنْ لِأَوْلِيَاءِ اللهِ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، فَمَرْحَبًا بِأَوْلِيَاءِ اللهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَلَّمُوا، فَقَالَ الرَّهْطُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَمْ تَرَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّا صَدَقْنَاكَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُحَيُّوكَ بِتَحِيَّتِكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِي؟ قَالُوا: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ

86

بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا يَقُولُ صَاحِبكُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ؟ قَالُوا: يَقُولُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَيَقُولُ فِي مَرْيَمَ: إِنَّهَا الْعَذْرَاءُ الطَّيِّبَةُ الْبَتُولُ، قَالَ فَأَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا زَادَ عِيسَى وَأُمُّهُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ هَذَا الْعُودَ، فَكَرِهُ الْمُشْرِكُونَ قَوْلَهُ وَتَغَيَّرَتْ لَهُ وُجُوهُهُمْ فَقَالَ: هَلْ تَقْرَءُونَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاقْرَءُوا وَحَوْلَهُ الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ وَسَائِرُ النَّصَارَى فَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ كُلَّمَا قَرَءُوا آيَةً انْحَدَرَتْ دُمُوعُهُمْ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) . هَذَا وَإِنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا كَانَ أَقْوَى سَنَدًا. ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرَةً وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مُطَوَّلَةً عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سَبَبِ إِسْلَامِهِ، مُلَخَّصُهَا أَنَّهُ كَانَ مَجُوسِيًّا وَظَفِرَ بِبَعْضِ عُبَّادِ النَّصَارَى الْمُنْقَطِعِينَ فِي بَعْضِ الْجِبَالِ وَسَافَرَ مَعَهُمْ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُنَاكَ اتَّصَلُوا بِعُبَّادٍ مِثْلِهُمْ وَلَقُوا رَجُلًا كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْعِبَادَةِ فِي كَهْفٍ عَظَّمُوهُ كَثِيرًا، وَوَعَظَهُمْ هُوَ وَعْظًا بَلِيغًا، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ رَسُولًا لِلَّهِ وَعَبْدًا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْكَهْفِ إِلَّا يَوْمَ الْأَحَدِ، ثُمَّ سَافَرَ الْعَابِدُ وَسَافَرَ مَعَهُ سَلْمَانُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُنَاكَ شَفَى الله عَلَى يَدِهِ مُقْعَدًا، وَقَدْ وَعَظَ سَلْمَانَ قَبْلَ فِرَاقِهِ فَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَبِعْثَةَ نَبِيٍّ مِنْ تِهَامَةَ صِفَاتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ وَأَوْصَاهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِدْرَاكَهُ، فَلَقِيَ رَكْبًا مِنَ الْحِجَازِ حَمَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعُوهُ فِيهَا، وَلَمَّا لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى الْعَلَامَاتِ فِيهِ آمَنَ وَكَاتَبَ وَسَاعَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَالِ عَلَى شِرَاءِ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ صَحِبَهُمْ، وَالرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ وَحَمْلُ الْآيَاتِ عَلَيْهَا بِعِيدٌ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) . بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ مَا أَثَابَ بِهِ أُولَئِكَ النَّصَارَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ جَزَاءُ جَمِيعِ الْمُحْسِنِينَ عِنْدَهُ الَّذِينَ آمَنُوا كَإِيمَانِهِمْ

وَخَشَعُوا لِلْحَقِّ كَخُشُوعِهِمْ، عَقَّبَ عَلَيْهِ بِجَزَاءِ السَّيِّئِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَقَالَ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ رَسُولِنَا فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنَّا (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ النَّارِ الْعَظِيمَةِ الْمُلَازِمُونَ لَهَا، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوَى سِوَاهَا أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) . بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ، وَمِنْهَا حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْهُمْ، وَأَحْكَامُ الطَّهَارَةِ وَالْعَدْلُ، وَلَوْ فِي الْأَعْدَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ الطَّوِيلِ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، فَكَانَ أَوْفَى وَأَتَمَّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَالْوُعُودِ وَالْعِظَاتِ بَيَّنَّا مُنَاسَبَتُهَا لَهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ عَوْدٌ إِلَى أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ الَّتِي بُدِئَتْ بِهَا السُّورَةُ، وَيَتْلُوهَا الْعَوْدُ إِلَى مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَجْمُوعُ آيَاتِ السُّورَةِ، فِي هَذَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ آيَاتُ الْأَحْكَامِ كُلُّهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتُجْعَلُ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي بَاقِيهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكْمَةِ مَزْجِ الْمَسَائِلِ وَالْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَثَانِي تُتْلَى دَائِمًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، لَا كِتَابًا فَنِّيًّا وَلَا قَانُونًا يُتَّخَذُ لِأَجْلِ مُرَاجَعَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَعَانِي فِي بَابٍ مُعَيَّنٍ. عَلَى أَنَّ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِ آيِهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا يُدْهِشُ أَصْحَابَ الْأَفْهَامِ الدَّقِيقَةِ بِحُسْنِهِ وَتَنَاسُقِهِ، كَمَا تَرَى فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً، زَائِدًا عَلَى مَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُنَاسَبَتِهَا لِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا. ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَذَكَرَ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَرْغَبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ وَيَظُنَّ الْمَيَّالُونَ لِلتَّقَشُّفِ وَالزُّهْدِ أَنَّهَا مَرْتَبَةُ كَمَالِ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِتَحْرِيمِ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ طَبْعًا مِنَ اللُّحُومِ وَالْأَدْهَانِ وَالنِّسَاءِ، إِمَّا دَائِمًا كَامْتِنَاعِ الرُّهْبَانِ مِنْ

87

الزَّوَاجِ الْبَتَّةَ، وَإِمَّا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَنْوَاعِ الصِّيَامِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الظَّنَّ، وَقَطَعَ طَرِيقَ تِلْكَ الرَّغْبَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) أَيْ لَا تُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ بِأَنْ تَتَعَمَّدُوا تَرْكَ التَّمَتُّعِ بِهَا تَنَسُّكًا وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، وَلَا تَعْتَدُوا فِيهَا بِتَجَاوُزِ حَدِّ الِاعْتِدَالِ إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ بِالْجَسَدِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ وَالرَّيِّ فَهُوَ تَفْرِيطٌ، أَوْ تَجَاوُزُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ، كَجَعْلِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا أَكْبَرَ هَمِّكُمْ، أَوْ شَاغِلًا لَكُمْ عَنْ مَعَانِي الْأُمُورِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لَكُمْ وَلِأُمَّتِكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (7: 31) أَوْ وَلَا تَعْتَدُوهَا هِيَ أَيِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، بِتَجَاوُزِهَا إِلَى الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ، فَالِاعْتِدَاءُ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ: الِاعْتِدَاءُ فِي الشَّيْءِ نَفْسِهِ، وَاعْتِدَاءٌ هُوَ يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ فَلَا تَعْتَدُوا فِيهَا أَوْ فَلَا تَعْتَدُوهَا كَمَا قَالَ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) (2: 229) لِيَشْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، اعْتِدَاءُ الطَّيِّبَاتِ نَفْسِهَا إِلَى الْخَبَائِثِ، وَالِاعْتِدَاءُ فِيهَا بِالْإِسْرَافِ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ بِمَا يُنَفِّرُ عَنْهُ فَقَالَ:. (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ شَرِيعَتِهِ، وَسُنَنِ فِطْرَتِهِ وَلَوْ بِقَصْدِ عِبَادَتِهِ، وَتَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتُ الْمُحَلَّلَةُ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ بِيَمِينٍ وَلَا نَذْرٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْتِزَامٍ وَكَلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَالِالْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ رِيَاضَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا بِالْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِرْضَاءِ بَادِرَةِ غَضَبٍ، بِإِغَاظَةِ زَوْجَةٍ أَوْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ، كَمَنْ يَحْلِفُ بِاللهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ (وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ) أَوْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْحَلِفِ وَالنَّذْرِ مِنَ الْمُؤَكَّدَاتِ، وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَفِي الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَمَّا تَرْكُ الطَّيِّبَاتِ الْبَتَّةَ كَمَا تُتْرَكُ الْمُحَرَّمَاتُ وَلَوْ بِغَيْرِ نَذْرٍ وَلَا يَمِينٍ تَنَسُّكًا وَتَعَبُّدًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا، فَهُوَ مَحَلُّ شُبْهَةٍ فُتِنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فَكَانَ مِنْ بِدَعِهِمُ التَّرْكِيَّةِ، الَّتِي تُضَاهِي بِدَعَهُمُ الْعَمَلِيَّةَ، وَقَدِ اتَّبَعُوا فِيهَا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ; كَعِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُهْبَانِ النَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوهَا عَنْ بَعْضِ الْوَثَنِيِّينَ; كَالْبَرَاهِمَةِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ جَمِيعَ اللُّحُومِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّفْسَ لَا تَزْكُو وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا بِحِرْمَانِ الْجَسَدِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَقَهْرِ الْإِرَادَةِ بِمَشَاقِّ الرِّيَاضَاتِ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الزِّينَةَ كَمَا يُحَرِّمُونَ النِّعْمَةَ، فَيَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ وَلَا يَسْتَعْلِمُونَ الْأَوَانِيَ لِأَطْعِمَتِهِمْ;

بَلْ يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا بِوَرَقِ الشَّجَرِ، وَقَدْ أَرْجَعَهُمُ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْهِنْدِ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَا يَزَالُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ عُرَاةً لَيْسَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ إِلَّا مَا يَسْتُرُ السَّوْءَتَيْنِ فَقَطْ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ " السَّبِيلَيْنِ " الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا كَمَا يَظْهَرُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجْبِرُونَهُمْ عَلَى سَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُدُّ فِي وَسَطِهِ إِزَارًا بِكَيْفِيَّةٍ يُرَى بِهَا بَاطِنُ فَخْذِهِ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي قِلَّةِ السَّتْرِ سَوَاءٌ، فَتَرَى النِّسَاءَ فِي أَسْوَاقِ الْمُدُنِ مَكْشُوفَاتِ الْبُطُونِ وَالظُّهُورِ وَالسُّوقِ وَالْأَفْخَاذِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَضَعُ عَلَى عَاتِقِهَا مِلْحَفَةً تَسْتُرُ شَطْرَ بَدَنِهَا الْأَعْلَى وَيَبْقَى الْجَانِبُ الْآخَرُ مَكْشُوفًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ وَتَعْذِيبَ النَّفْسِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ قُدَمَاءَ الْهُنُودِ فَالْيُونَانِ، وَقَلَّدَهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ عَلَى تَفَصِّيهِمْ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الشَّدِيدَةِ الْوَطْأَةِ، وَعَلَى إِبَاحَةِ مُقَدَّسِهِمْ وَإِمَامِهِمْ بُولَسَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا يُؤْكَلُ وَمَا يُشْرَبُ، إِلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَمَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، قَدْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهَا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الْكُتُبُ الْمُقَدَّسَةُ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ. ثُمَّ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ بِالْإِصْلَاحِ الْأَعْظَمِ، فَأَبَاحَ لِلْبَشَرِ عَلَى لِسَانِهِ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْبَدَنِ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ الْبَشَرِيُّ، فَكَانَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِذَلِكَ أُمَّةً وَسَطًا صَالِحَةً لِلشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَأَنْ تَكُونَ حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالْبَحْثِ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِ، وَتَسْخِيرِهِ قُوَى الْأَرْضِ وَالْجَوَّ لِلتَّمَتُّعِ بِنِعَمِ اللهِ فِيهَا مَعَ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا قَصَّرَتْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ انْقَطَعَتْ مِنَ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ سَلَفُهَا شَرْطًا وَاسِعًا فِيهِ. وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْمُبَالَغَةِ وَالْغُلُوِّ فِي دَأْبِ الْبَشَرِ وَشِنْشِنَتِهِمْ فِي كُلِّ شُئُونِهِمْ، مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُوجَدُ مَنْ يَمِيلُ إِلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ، كَمَا يُوجَدُ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّفْرِيطِ، اسْتَشَارَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَالنِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَرَكَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ، اشْتِغَالًا عَنْهَا بِصِيَامِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فِي تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَالْمِنَّةِ بِحِلِّ الطَّيِّبَاتِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَحْسَنَ الْبَيَانِ. وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْغُلُوِّ فِي هَذَا الدِّينِ، الَّذِينَ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ السَّمْحَةَ إِلَى تَشْدِيدِ الْغَابِرِينَ، وَصَارُوا يَعُدُّونَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الزِّرْقِ خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، حَتَّى كَأَنَّ الْمُشَارِكَ لَهُمْ فِيهَا خَارِجٌ

عَنْ هُدَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَاكَ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا مَا يَزِيدُكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ والطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي اللَّحْمَ ". فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قَالَ: " نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا تَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) . قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالنِّسَاءَ وَهَمَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْطَعَ ذَكَرَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ وَأَقُومُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ

وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: أَرَادَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، فَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَزَهَّدُوا، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَضُوا النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا الصَّوَامِعَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ النِّسَاءِ وَاللَّحْمِ وَلَا اتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ " وَخُبِّرْنَا: " أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ لَا أَنَامُ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ النَّهَارَ فَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمُ اتَّفَقْتُمْ عَلَى كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ قَالَ: لَكِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآتِيَ النِّسَاءَ; فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَكَانَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ فَلَيْسَ مَنْ أُمَّتِكَ وَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ".

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا آمُرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: " إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ يَوْمًا فَذَكَّرَ النَّاسَ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى التَّخْوِيفِ، فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا عَشْرَةً; مِنْهُمْ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: مَا حَقُّنَا إِنْ لَمْ نُحْدِثْ عَمَلًا؟ فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَنَحْنُ نُحَرِّمُ، فَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ وَأَنْ يَأْكُلَ بِالنَّهَارِ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النَّوْمَ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النِّسَاءَ، فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَكَانَ لَا يَدْنُو مِنْ أَهْلِهِ وَلَا يَدْنُونَ مِنْهُ، فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ عَائِشَةَ وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْحَوْلَاءُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكِ يَا حَوْلَاءُ مُتَغَيِّرَةَ اللَّوْنِ لَا تَمْتَشِطِينَ وَلَا تَتَطَيَّبِينَ؟ فَقَالَتْ: وَكَيْفَ أَتَطَيَّبُ وَأَمْتَشِطُ وَمَا وَقَعَ عَلَيَّ زَوْجِي، وَلَا رَفَعَ عَنِّي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلْنَ يَضْحَكْنَ مِنْ كَلَامِهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ يَضْحَكْنَ فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكُنَّ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ الْحَوْلَاءُ سَأَلْتُهَا عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنِّي زَوْجِي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا بَالُكَ يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ لِلَّهِ لِكَيْ أَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا رَجَعْتَ فَوَاقَعْتَ أَهْلَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: أَفْطِرْ قَالَ فَأَفْطَرَ وَأَتَى أَهْلَهُ، فَرَجَعَتِ الْحَوْلَاءُ إِلَى عَائِشَةَ وَقَدِ اكْتَحَلَتْ وَامْتَشَطَتْ وَتَطَيَّبَتْ فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: مَا بَالُكِ يَا حَوْلَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَتَاهَا أَمْسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالنَّوْمَ؟ أَلَا إِنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأُفْطِرُ وَأَصُومُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، فَنَزَلَتْ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) يَقُولُ لِعُثْمَانَ: " لَا تَجُبَّ نَفْسَكَ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ " وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكَفِّرُوا أَيْمَانَهُمْ فَقَالَ: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَادَ رِجَالٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَتَبَتَّلُوا وَيُخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَعَلِيَّ بْنَ

أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأُسُودِ وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَقُدَامَةَ تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ حَقًّا وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكُمْ حَقًّا، فَصَلُّوا وَنَامُوا، وَصُومُوا وَأَفْطِرُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا، فَقَالُوا: اللهُمَّ صَدَّقْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلْتَ مَعَ الرَّسُولِ ". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ " أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعِمُوا ضَيْفَهُمُ انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي؟ هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ، قَالَ الضَّيْفُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهُ وَقَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَصَبْتَ " فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: " آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَرَأْي أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ; صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ قُلْتُ:

88

إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ؟ قَالَ: نِصْفُ الدَّهْرِ ". نَقَلْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَرَكْنَا بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي مَعْنَاهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْمَوْقُوفُ وَالْمَرْفُوعُ وَالصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ، وَمَجْمُوعُهَا حُجَّةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: عَنِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ التَّقَشُّفِ، وَتَعَمُّدِ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَكَذَا اللِّبَاسِ الْحَسَنِ، فَكَيْفَ تَرَكُوا مَا زَعَمْتَ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مِنْ إِعْطَاءِ الْبَدَنِ حَقَّهُ كَإِعْطَاءِ الرُّوحِ حَقَّهَا بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْ أَهْلِ الْيَسَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَهْلُ الْإِقْفَارِ حَالُهُمْ مَعْلُومٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) (65: 7) الْآيَةَ. وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ فَكَانُوا يَتَعَمَّدُونَ التَّقَشُّفَ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِعُمَّالِهِمْ وَلِسَائِرِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْمَفْرُوضُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ الْمَفْرُوضِ لِأَوْسَاطِ الْمُهَاجِرِينَ، لَا لِأَعْلَامِهِمْ، كَآلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِأَدْنَاهُمْ كَالْمَوَالِي وَلَا حُجَّةَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَالصُّوفِيَّةُ وَالزُّهَّادُ يَتَّبِعُونَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُقْتَضَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْ يَكُنِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ السَّعَةِ وَالتَّرَفِ يَجْمَعُونَ مَا نُقِلَ عَنْ مُوسِرِي السَّلَفِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً لِإِسْرَافِهِمْ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (2: 143) وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْوَسَطُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (25: 67) . (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ بِضِدِّ مُقْتَضَى النَّهْيِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ حَلَالًا فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ دَاخِلٍ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ بِأَنْوَاعِهَا وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَحَلَالًا فِي طَرِيقَةِ كَسْبِهِ وَتَنَاوُلِهِ، بِأَلَّا يَكُونَ رِبًا أَوْ سُحْتًا أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الرِّزْقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا مُلِكَ مِلْكًا صَحِيحًا، لَا كُلَّ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ وَحَالُ كَوْنِهِ مُسْتَلَذًّا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِفَسَادٍ طَرَأَ عَلَيْهِ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ التَّمَتُّعُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشُّرْبُ مِمَّا كَانَ حَلَالًا غَيْرَ مُسْكِرٍ وَلَا ضَارٍّ، طَيِّبًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِفَسَادِهِ أَوْ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ

كَمَا عَبَّرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (4: 29) وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ وَمَتَاعٍ وَمَأْوَى وَكَثِيرًا مَا تُطْلِقُ الْعَرَبُ الْخَاصَّ فَتُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ وَمَا تُطْلِقُ الْعَامَّ فَتُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ. الْأَمْرُ هَهُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ الْمُفِيدِ لِلْإِبَاحَةِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (5: 2) وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ امْتِثَالَ النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِعْلًا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَحْرِيمَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا عَمْدًا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا، أَوْ إِضْعَافِهَا لِلْجَسَدِ تَوَهُّمًا أَنَّ إِضْعَافَهُ يُقَوِّي الرُّوحَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ; كَمَنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِنَذْرِ لَجَاجٍ أَوْ يَمِينٍ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا لَا يَزَالُ يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، دَعْ مَا كَانَتْ تُحَرِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ أَوْ نَسْلِهَا تَكْرِيمًا لَهَا لِكَثْرَةِ نِتَاجِهَا، أَوْ تَعْظِيمًا لِصَنَمٍ تُسَيِّبُهَا لَهُ، كَمَا تَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَقْبَلُوا نِعَمَهُ وَيَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا أَنْعَمَ بِهَا لِأَجْلِهِ وَيَشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يَجْنُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَيَمْنَعُوهَا حُقُوقَهَا، وَأَنْ يَجْنُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ فَغَلَوْا فِيهَا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، كَمَا يَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّطُوا فِيهَا بِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ أَوْ تَرْكِ مَا فَرَضَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (2: 172) وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ قَارَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ خِطَابِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (23: 51) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (2: 172) " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ مِنَ الْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْرِيضٌ بِالْعُبَّادِ وَأَهْلِ السِّيَاحَةِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ رُوحَ الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفُ وَالشُّعُوثَةُ، حَتَّى إِنَّهُمْ عَلَى تَقَشُّفِهِمْ مَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الْحَلَالَ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ التَّقَشُّفَ وَتَعْذِيبَ النَّفْسِ يُبِيحَانِ لَهُمْ مَا عَدَاهُمَا فَيَكُونُونَ أَهْلًا لِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالُ مَيْلًا إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الْبَرْهَمِيِّ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَرَنَتِ الْحَلَالَ بِالطَّيِّبِ فَجَعَلُوا الطَّيِّبَ تَأْكِيدًا لِلْحَلَالِ.

فَامْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ وَذَلِكَ النَّهْيِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّمَتُّعِ بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِعْلًا بِلَا تَأَثُّمٍ وَلَا حَرَجٍ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ، مُلَاحِظًا أَنَّهُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ، وَمِنْ أَسْبَابِ مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَأَنَّ مَرْضَاتَهُ وَمَثُوبَتَهُ عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ شُهُودِ الْمُنْتَفِعِ لِلنِّعَمِ وَشُكْرِهِ لِلْمُنْعِمِ، وَأَعْنِي بِالشُّهُودِ أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَهُ أَنَّهُ عَامِلٌ بِشَرْعِ اللهِ وَمُقِيمٌ لِسُّنَّةِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْكُرَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاعْتِرَافِ وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ كَمَا شَكَرَهُ بِالِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ. فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ امْتِنَاعَ امْرِئٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي رَزَقَهُ إِيَّاهَا مَعَ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِثْمٌ يَجْنِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ عِقَابَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ بِزِيَادَتِهِ فِي دِينِ اللهِ قُرُبَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِضَاعَةِ بَعْضِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِ اللهِ كَإِضَاعَةِ حُقُوقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِيَالِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا انْتَصَبَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، فَكَانَ سَبَبًا لِغُلُوِّ بَعْضِ النَّاسِ فِي الدِّينِ وَتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ مَا أَحَلَّهُ اللهُ تَعَالَى. وَالتَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ تَشْرِيعٌ: وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ أَوْ كَالْمُدَّعِي لَهَا، وَمَنِ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ رَبًّا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي التَّفْسِيرِ. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، فَلَا تَفْتَاتُوا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ، وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ فِيمَا أَحَلَّ وَلَا فِيمَا حَرَّمَ، فَإِنَّ اتِّقَاءَ سَخَطِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إِيمَانِكُمْ بِهِ، وَمِنَ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ الْإِسْرَافُ فِيهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (7: 31) فَمَنْ جَعَلَ شَهْوَةَ بَطْنِهِ أَكْبَرَ هَمِّهِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ بَالَغَ فِي الشِّبَعِ وَعَرَّضَ مَعِدَتَهُ وَأَمْعَاءَهُ لِلتُّخَمِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ أَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِذُلِّ الدَّيْنِ أَوْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَا كَانَ الْمُسْرِفُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْسَعُ مَعْنًى وَأَعَمُّ فَائِدَةً مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الرُّوحِ وَحُقُوقِ الْجَسَدِ، وَبِهِ يُدْفَعُ إِشْكَالُ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ يُنَافِي التَّزْكِيَةَ وَإِنِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ، وَكَمْ أَفْضَى التَّوَسُّعُ فِي الْمُبَاحَاتِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ لِأَهْلِ النَّارِ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (46: 20) فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَطْلُوبًا شَرْعًا؟ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَمْرِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِاقْتِضَاءِ الطَّبْعِ؟

وَبَيَانُ الدَّفْعِ: أَنَّ تَزْكِيَةَ الْأَنْفُسِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِيقَافِهَا عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَاجْتِذَابِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنْ رُوحٍ مَلَكِيَّةٍ وَجَسَدٍ حَيَوَانِيٍّ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَلَكًا مَحْضًا، وَلَا حَيَوَانًا مَحْضًا، وَسَخَّرَ لَهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ جَمِيعَ مَا فِي عَالَمِهِ الَّذِينَ يَعِيشُ فِيهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى وَالْأَحْيَاءِ، وَجَعَلَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ تَكُونُ سَلَامَةُ الْبَدَنِ وَصِحَّتُهُ مِنْ أَسْبَابِ سَلَامَةِ الْعَقْلِ وَسَائِرِ قُوَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ بِجَسَدِهِ، كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ بِرُوحِهِ وَعَقْلِهِ، وَمَنْ ضَعُفَ جَسَدُهُ، عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْكَسْبِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَعَلَى مَصَالِحِ أُمَّتِهِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا كُلِّهَا، عَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا، أَوْ مِنَ الْكَمَالِ فِيهَا غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ يَقِلُّ نَسْلُهُ وَيَجِيءُ قَمِيئًا ضَعِيفًا أَوْ يَنْقَطِعُ الْبَتَّةَ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُسِيئًا إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْأُمَّةِ، وَالتَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ لِحُدُودِ اللهِ وَسُنَنِ فِطْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يُؤَدَّى بِهِ حَقُّ الْجَسَدِ وَحَقُّ الرُّوحِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ التَّقْوَى فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ تَتِمُّ التَّزْكِيَةُ الْمَطْلُوبَةُ. لَا نُنْكِرُ مَعَ هَذَا أَنَّ مَنْعَ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ أَحْيَانًا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ، وَحَسْبُنَا مِنْهُ مَا شَرَعَ اللهُ لَنَا مِنَ الصِّيَامِ، وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ التَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الصِّيَامِ وَسَبَبَ شَرْعِهِ كَوْنُهُ مَرْجُوًّا لِتَحْصِيلِ مَلَكَةَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2: 183) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَالصِّيَامُ رِيَاضَةٌ بَدَنِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا بِقَصْدِ التَّرْبِيَةِ، وَبَيْنَ تَمَتُّعِهَا بِهَا تَوَسُّلًا إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ، أَمَّا مَا قِيلَ مِنَ اسْتِغْنَاءِ النَّاسِ بِدَاعِيَةِ الطَّبْعِ عَنْ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ، فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِمَا أَحْدَثَهُ حُبُّ الْغُلُوِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأُمَمِهِمْ بِتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا التَّمَتُّعَ الْجَسَدِيَّ وَلَوْ بِالْحَرَامِ، فَلَمْ يُعْطُوا إِنْسَانِيَّتَهُمْ حَقَّهَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْوَى اللهِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (47: 12) . فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ فِي الطَّيِّبَاتِ أَيِ الْمُسْتَلَذَّاتِ هُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا مَعَ الِاعْتِدَالِ وَالْتِزَامِ الْحَلَالِ، كَهَدْيهِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْرِفُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُقَصِّرُ بَعْضٌ، وَالِاعْتِدَالُ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ

الَّذِي يَقِلُّ سَالِكُهُ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ يَنْكَبُّونَ عَنْهُ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ وَالْإِسْرَافِ، فَيَكُونُونَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ لِمَا يَجْنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَحْفِرُونَ قُبُورَهُمْ بِأَسْنَانِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لِإِسْرَافِهِمْ فِي الطَّعَامِ يُصَابُونَ بِأَمْرَاضٍ تَكُونُ سَبَبًا لِقِصَرِ آجَالِهِمْ، وَإِسْرَاعِ الْهَرَمِ فِيهِمْ، وَالْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ يَنْحَرِفُونَ عَنْهُ إِلَى جَانِبِ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ، إِمَّا اضْطِرَارًا كَالْمُقَتِّرِينَ الْبَائِسِينَ، وَإِمَّا اخْتِيَارًا كَالزُّهَّادِ الْمُتَقَشِّفِينَ، وَالْتِزَامُ صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ الْمُسْتَقِيمِ أَعْسَرُ وَأَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَدَلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْعَقْلِ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْمُسْرِفِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مُتَّبِعُ هَدْيِ الدِّينِ فِي إِسْرَافِهِ، وَقُصَارَى مَا يَعْتَذِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا عُذِلَ وَعِيبَ عَلَيْهِ إِسْرَافُهُ شَرْعًا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ حَدَّ مَا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُعْتَدِلُ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ جَسَدِهِ وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَشَكَرَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ بِاسْتِعْمَالِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَقَلَّمَا يَفْطُنُ النَّاسُ لِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعُدُّهُ بِهِ كَامِلَ الدِّينِ مُعْتَصِمًا بِالْفَضِيلَةِ، فَهِيَ فَضِيلَةٌ لَا رِيَاءٌ فِيهَا وَلَا سُمْعَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُفْرِطُونَ بِتَعَمُّدِ التَّقَشُّفِ هُمُ الَّذِينَ كَثِيرًا مَا يَغْتَرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِهِمْ، فَهُمْ عَلَى انْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الدِّينِ يَدَّعُونَ أَوْ يُدَّعَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ. أَعْوَزَ هَؤُلَاءِ النَّصَّ عَلَى دَعْوَى كَوْنِ الْغُلُوِّ فِي التَّقَشُّفِ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَلَّقُوا بِبَعْضِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مِنْ سِيرَةِ فُقَرَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي السُّنَّةِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهَا لِإِجْمَالِهَا وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ وَقَائِعُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا يَفْعَلُهُ؟ عَقَدَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ كِتَابًا سَمَّاهُ (كِتَابَ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ) شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ، وَطَرِيقَتُهُ أَنْ يَبْدَأَ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ فَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَنَرَاهُ لَمْ يَجِدْ آيَةً يَبْدَأُ بِهَا مَوْضُوعَ (بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجُوعِ وَذَمِّ التَّشَبُّعِ) فَبَدَأَهُ بِأَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا لَا يَعْرِفُ الْمُحَدِّثُونَ لَهُ أَصْلًا قَطُّ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ فَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا نَذْكُرُهُ غَيْرَ مُسْنَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: (1) جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مَنْ جُوعٍ وَعَطَشٍ، (2) لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ. (3) قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ قَلَّ مَطْعَمُهُ وَضَحِكُهُ وَرَضِيَ بِمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ. (4) سَيِّدُ الْأَعْمَالِ الْجُوعُ، وَذُلُّ النَّفْسِ لِبْسُ الصُّوفِ، (5) الْبَسُوا وَاشْرَبُوا وَكُلُوا فِي أَنْصَافِ الْبُطُونِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. (6) الْفِكْرُ نِصْفُ الْعِبَادَةِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ هِيَ الْعِبَادَةُ، (7) أَفْضَلُكُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُكُمْ جُوعًا وَتَفَكُّرًا،

وَأَبْغَضُكُمْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ نَئُومٍ وَشَرُوبٍ، (8) لَا تُمِيتُوا الْقَلْبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ الْقَلْبَ كَالزَّرْعِ يَمُوتُ إِذَا كَثُرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ. قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ: عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا، وَأَقَرَّهُ الْمُرْتَضَى الزُّبَيْدِيُّ شَارِحُ الْإِحْيَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَمِمَّا أَوْرَدَهُ مِنَ الْمَرْوِيَّاتِ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الطَّوِيلُ فِي وَصْفِ الزُّهَّادِ الَّذِي أَوَّلَهُ عِنْدَهُ: " إِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ طَالَ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ وَحُزْنُهُ فِي الدُّنْيَا، الْأَحْفِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ (وَمِنْهُ) أَكَلُوا الْعَلَقَ، وَلَبِسُوا الْخِرَقَ، شُعْثًا غُبْرًا، يَرَاهُمُ النَّاسُ فَيَظُنُّونَ أَنَّ بِهِمْ دَاءً، وَمَا بِهِمْ دَاءٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ خُولِطُوا فَذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ وَمَا ذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ، (وِفِي آخِرِهِ) وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَأْتِيَكَ بِالْمَوْتِ وَبَطْنُكُ جَائِعٌ وَكَبِدُكَ ظَمْآنُ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تُدْرِكُ أَشْرَفَ الْمَنَازِلِ وَتَحِلُّ مَعَ النَّبِيِّينَ " إِلَخْ، فَهَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِي إِسْنَادِهِ حَبَّانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَكْثَرُ رِجَالِهِ مَجْهُولُونَ، وَأُسْلُوبُهُ بَعِيدٌ مِنْ أُسْلُوبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْكُتُبِ أَطْوَلُ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَفِي الْأَوْصَافِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَمْ يُورَدْ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا مِنَ الصِّحَاحِ إِلَّا حَدِيثُ " الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ " هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ " إِلَخْ، وَلَهُ قِصَّةٌ حَمَلَتِ الطَّحَاوِيَّ وَابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِكَافِرٍ وَاحِدٍ لَا عَامٌّ، وَلِغَيْرِهِمَا فِيهِ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ، مِنْهَا أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَمِّ الْكَافِرِ بِالتَّمَتُّعِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ " مَا شَبِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا " وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، فَتَارَةً يَأْكُلُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ كَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَالدَّجَاجِ، وَتَارَةً يَأْكُلُ أَخْشَنَهُ كَخُبْزِ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ أَوْ بِالزَّيْتِ أَوِ الْخَلِّ، وَتَارَةً يَجُوعُ وَتَارَةً يَشْبَعُ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ يَهُمُّهُ أَمْرُ الطَّعَامِ، إِنَّمَا كَانَ يَعْنِي بِأَمْرِ الشَّرَابِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ " كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ " وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: " أَنَّهُ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا (بِضَمِّ السِّينِ) عَيْنٌ أَوْ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ الْقُرَاحُ وَالْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالْعَسَلِ أَوْ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ.

89

(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. . . قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا، فَقَرَأْتُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ تُحَرِّمَ هَذَا الَّذِي أَحَلَّ اللهُ لَكَ وَأَشْبَاهَهُ، تُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِكَ وَلَا تُحَرِّمُهُ، فَهَذَا اللَّغْوُ الَّذِي لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، فَإِنْ مِتَّ عَلَيْهِ أُوخِذْتَ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) أَنْ تَتْرُكَهُ وَتُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِكَ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) قَالَ: مَا أَقَمْتَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) (قَالَ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ يَقُولُ أَحَدَهُمَا: وَاللهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللهِ لَا أَشْتَرِيهِ بِكَذَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ كَلَامَهُ بِالْحَلِفِ: وَاللهِ لَتَجِيئَنَّ وَاللهِ لَتَأْكُلَنَّ، وَاللهِ لَتَشْرَبَنَّ وَنَحْوَ هَذَا، لَا يُرِيدُ بِهِ يَمِينًا لَا يَتَعَمَّدُ بِهِ حَلِفًا، فَهُوَ لَغْوُ الْيَمِينِ لَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ. أَوْرَدَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحَيْهِمَا والْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ وَأَشْهَرِ مُصَنَّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وَكَلَّا وَاللهِ

زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَصِلُ بِهَا كَلَامَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْهَا: هُوَ الْقَوْمُ يَتَدَارَءُونَ فِي الْأَمْرِ، يَقُولُ لِهَذَا: لَا وَاللهِ، وَيَقُولُ هَذَا: كَلَّا وَاللهِ، يَتَدَارَءُونَ فِي الْأَمْرِ، لَا تَعْقِدُ عَلَيْهِ قُلُوبَهُمْ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى عِدَّةَ رِوَايَاتٍ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيحُ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ اللُّغَةُ فِي تَفْسِيرِ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ جَرَيْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْأَقْوَالَ الْمَأْثُورَةَ فِي اللَّغْوِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَبَدَأَ بِالْقَوْلِ الرَّاجِحِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، (قَالَ) : وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ وَهُوَ فِي الْهَزْلِ: وَفِي الْمَعْصِيَةِ: وَقِيلَ: عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَقِيلَ: فِي النِّسْيَانِ، وَقِيلَ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) . قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) أَيْ بِمَا صَمَّمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْهَا وَقَصَدْتُمُوهُ، انْتَهَى، فَهُوَ قَدْ صَحَّحَ مَا صَحَّحَهُ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ إِذَا تُرِكَتِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ وَنُظِرَ إِلَى الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَاللَّغْوُ فِي الْأَقْوَالِ كَالْعَبَثِ فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ بِقَصْدٍ مِنَ الْقَائِلِ أَوِ الْفَاعِلِ إِلَى غَرَضٍ لَهُ مِنْهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّغْوُ، الْكَلَامُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُورَدُ لَا عَنْ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ، فَيَجْرِي مَجْرَى اللَّغَا، وَهُوَ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ وَنَحْوَهَا مِنَ الطُّيُورِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْهُ اللَّغْوُ فِي الْأَيْمَانِ، أَيْ مَا لَا عَقْدٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَا يَجْرِي وَصْلًا لِلْكَلَامِ بِضَرْبٍ مِنَ الْعَادَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ الْآيَةِ وَبَيْتَ الْفَرَزْدَقِ الْآتِي: وَقَالَ فِي مَادَّةِ (عَقَدَ) : الْعَقْدُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ كَعُقْدَةِ الْحَبْلِ وَعَقْدِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْمَعَانِي نَحْوَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْعَهْدِ وَغَيْرِهِمَا، فَيُقَالُ عَاقَدْتُهُ وَعَقَدْتُهُ، وَتَعَاقَدْنَا وَعَقَدَتْ يَمِينُهُ، قَالَ: (عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وَقُرِئَ (عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وَقَالَ: (بِمَا عَقَدْتُمُ الْأَيْمَانَ) وَقُرِئَ (بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) اه. وَأَقُولُ: التَّشْدِيدُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَالتَّخْفِيفُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ (عَاقَدْتُمْ) مِنَ الْمُعَاقَدَةِ، وَكِتَابَةُ الْكُلِّ فِي الْمُصْحَفِ وَاحِدٌ وَهَكَذَا " عَقَدْتُمْ " بِدُونِ أَلِفٍ. وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ " بِمَا عَقَدْتُمْ " مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَعْقِيدِكُمُ الْأَيْمَانَ وَهُوَ تَوْثِيقُهَا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَكَانَ عِنْدَهُ الْفَرَزْدَقُ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ دَعْنِي أُجِبْ عَنْكَ فَقَالَ: وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِقَوْلٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ.

ثُمَّ أَقُولُ: إِنْ مَا فَسَّرَ بِهِ الرَّاغِبُ الْعَقْدَ لَمْ يُوَضِّحْهُ، فَلَيْسَ كُلُّ جَمْعٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ عَقْدًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الْأَطْرَافِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: نَقِيضُ الْحَلِّ، فَعَقْدُ الْأَيْمَانِ تَوْكِيدُهَا بِالْقَصْدِ وَالْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَتَعْقِيدُهَا الْمُبَالَغَةُ فِي تَوْكِيدِهَا، فَهُوَ كَعَقْدِ الشَّيْءِ لِشَدِّهِ، أَوْ مَا يُعْقَدُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ خَيْطٍ أَوْ حَبْلٍ لِيَحْفَظَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) إِلَى أَنْ قَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) (16: 91، 92) فَاسْتَعْمَلَ فِي الْأَيْمَانِ النَّقْضَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِبْرَامِ، وَهُمَا فِي الْأَصْلِ الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ، وَكَذَلِكَ النَّكْثُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَتْلِ فِيهَا، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ مِنَ الْحَلِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْدِ، فَمَجْمُوعُ الْآيَاتِ فِي الْمَائِدَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْأَيْمَانِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُؤَكَّدِ الْمُوَثَّقِ مِنْهَا بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ وَالنِّيَّةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّغْوِ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (2: 225) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ الْيَمِينَ وَيَنْقُضَهَا بِتَعَمُّدِ الْحِنْثِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا بِمَا يُشْبِهُ الْعَقْدَ وَالْإِبْرَامِ، وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُ الْعَوَامِّ فِي بَلَدِنَا يَقُولُونَ فِي الْحَلِفِ " وَاللهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَعَقْدِ الْيَمِينِ " لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا يَمِينٌ مُتَعَمَّدَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلَيْسَ لَغْوًا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، وَهُمْ لَا يُحَرِّكُونَ بِهِ الْهَاءَ بَلْ يَنْطِقُونَ بِهَا سَاكِنَةً، فَهَذِهِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَأْثَمُ مَنْ يَحْنَثُ بِهَا وَيَحْتَاجُ إِلَى الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الْكَفَّارَةُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، ثُمَّ صَارَتْ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ اسْمًا لِأَعْمَالٍ تُكَفِّرُ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ، أَيْ تُغَطِّيهَا وَتُخْفِيهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي يُكَفِّرُ عَقْدَ الْيَمِينِ إِذَا نُقِضَ أَوْ أُرِيدَ نَقْضُهُ بِالْحِنْثِ بِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْمَبَرَّاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَأَدْنَاهَا إِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَجْبَةً وَاحِدَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ غَالِبِ الطَّعَامِ الَّذِي تُطْعِمُونَ بِهِ أَهْلَ بَيْتِكُمْ لَا مِنْ أَدْنَاهُ الَّذِي تَتَقَشَّفُونَ بِهِ أَحْيَانًا، وَلَا مِنْ أَعْلَاهُ الَّذِي تَتَوَسَّعُونَ بِهِ أَحْيَانًا كَطَعَامِ الْعِيدِ وَمَا تُكْرِمُونَ بِهِ مَنْ تَدْعُونَ أَوْ تُضَيِّفُونَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ كَكَثْرَةِ الْأَلْوَانِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَقَبَةِ (الْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ) فَمَنْ كَانَ أَكْثَرُ طَعَامِ أَهْلِهِ خُبْزَ الْبُرِّ وَأَكْثَرُ إِدَامِهِ اللَّحْمَ بِالْخُضَرِ أَوْ دُونَهُ فَلَا يُجْزِئُهُ مَا دَوْنَهُ مِمَّا يَأْكُلُونَهُ قَلِيلًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِذْ طَسِيَتْ أَنْفُسُهُمْ (أَيْ قَرِفَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِ الدَّسَمِ) لِيَعُودَ إِلَيْهَا نَشَاطُهَا وَلَكِنَّ الْأَعْلَى يُجْزِئُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسَطِ وَزِيَادَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْأَوْسَطِ، أَيَّ نَوْعٍ يَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ طَعَامِ أَهْلِيكُمْ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْأَوْسَطَ بِالْأَمْثَلِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ بِالْأَعْدَلِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: مِنْ عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ:

الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، وَالْخُبْزُ وَاللَّبَنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالْخَلُّ، وَفِي رَاوِيَةٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بَدَلَ الْخَلِّ التَّمْرَ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْأَوْسَطَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِ الْبَلَدِ إِلَى طَعَامِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْكَفَّارَةُ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتَ دُونٍ وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أَيِ الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْأَوْسَطَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الثَّرِيدُ بِالْمَرَقِ وَقَلِيلٌ مِنَ اللَّحْمِ، أَوِ الْخُبْزُ مَعَ الْمُلُوخِيَّةِ أَوِ الرُّزُّ أَوِ الْعَدَسُ مِنْ أَوْسَطِ الطَّعَامِ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ لِهَذَا الْعَهْدِ، وَكَانَ التَّمْرُ أَوْسَطَ طَعَامِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِهِ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ وَاجِبٌ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ إِطْعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَهِيَ اللِّبَاسُ، وَهِيَ فَوْقَ الْإِطْعَامِ وَدُونَ الْعِتْقِ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مِمَّا تَكْسُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ مِنْ أَوْسَطِهِ، فَيُجْزِئُ إِذَنْ كُلُّ مَا يُسَمَّى كِسْوَةً وَأَدْنَاهُ مَا يَلْبَسُهُ الْمَسَاكِينُ عَادَةً هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ كَالطَّعَامِ، فَيُجْزِئُ فِي مِصْرَ الْقَمِيصُ السَّابِغُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (الْجَلَابِيَّةَ) مَعَ السَّرَاوِيلِ أَوْ بِدُونِهِ، فَهُوَ كَالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ أَوِ الْعَبَاءَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْعَبَاءَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَا يُجْزِئُ مَا يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ كُمَّةٍ أَوْ طَرْبُوشٍ أَوْ عِمَامَةٍ، وَلَا مَا يَلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ مِنَ الْأَحْذِيَةِ وَالْجَوَارِبِ، وَلَا نَحْوَ مِنْدِيلٍ أَوْ مِشْنَقَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِجْرَاءِ كُلِّ مَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِيهِ كِسَاءَ كَذَا، أَوْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْكِسْوَةِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قَالَ: لَوْ أَنَّ وَفْدًا قَدِمُوا عَلَى أَمِيرِكُمْ وَكَسَاهُمْ قَلَنْسُوَةً قَلَنْسُوَةً قُلْتُمْ: قَدْ كُسُوا، وَلَكِنَّ هَذَا أَثَرٌ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ مَتْرُوكٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ إِضَافَةَ الْكِسْوَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ كَإِضَافَةِ الْإِطْعَامِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَكْفِي فِي الْإِطْعَامِ تَمْرَةٌ أَوْ تُفَّاحَةٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ لُغَةً: أَطْعَمُهُ تَمْرَةً أَوْ تُفَّاحَةً يَكْفِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْكِسْوَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي مِثْلُهُ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ الْكِسْوَةِ هَلْ هُوَ مَصْدَرٌ كَالْإِطْعَامِ أَوِ اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، وَالْمُرَادُ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي خَيَّرَ اللهُ النَّاسَ فِيهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، فَالْإِطْعَامُ أَدْنَاهَا وَالْكِسْوَةُ أَوْسَطُهَا وَالْإِعْتَاقُ أَعْلَاهَا كَمَا قُلْنَا وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَلَوْ أُرِيدَ مِنَ الْكِسْوَةِ مَا يَشْتَمِلُ الْقَلَنْسُوَةَ وَالْعِمَامَةَ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرَقِّي وَلَمْ يَظْهَرْ لِجَعْلِ الْكِسْوَةِ بَعْدَ الْإِطْعَامِ وَقَبْلَ الْإِعْتَاقِ نُكْتَةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْوَاجِبَ ثَوْبَانِ، وَرُوِيَ الثَّانِي عَنْ أَبِي مُوسَى

أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ وَعَبَاءَةٌ يَلْتَحِفُ بِهَا، وَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي مَالِكٍ وَالْحَسَنِ فِي رَاوِيَةٍ عَنْهُ ثَوْبٌ ثَوْبٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ: ثَوْبٌ جَامِعٌ كَالْمِلْحَفَةِ وَالرِّدَاءِ، وَكَانَ لَا يَرَى الدِّرْعَ وَالْقَمِيصَ وَالْخِمَارَ وَنَحْوَهَا جَامِعًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَعْلَاهُ ثَوْبٌ وَأَدْنَاهُ مَا شِئْتَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَبَاءَةٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ أَوْ شَمْلَةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يُدْفَعُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَا صَحَّ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ إِنْ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً كُلٌّ بِحَسْبِهِ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا اخْتَرْنَاهُ، لِأَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ عَادَةً بِثِيَابِهِمُ الَّتِي يَلْقُونَ بِهَا النَّاسَ، وَكَذَا مَا قَبْلَهُ إِلَّا قَوْلَ مُجَاهِدٍ. وَأَمَّا تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ أَعْلَى الثَّلَاثَةِ فَمَعْنَاهُ إِعْتَاقُ الرَّقِيقِ، فَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْقِنَّ حُرًّا، وَالرَّقَبَةُ فِي الْأَصْلِ: الْعُضْوُ الَّذِي بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الرَّأْسِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَغَلَبَ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ، وَبِلَفْظِ الظَّهْرِ عَنِ الْمَرْكُوبِ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ الرَّقَبَةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْأَسِيرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْعِ فِي مَقَامِ التَّحْرِيرِ (الْعِتْقِ) وَفَكِّ الْأَسْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُّ رَقَبَةٍ) (90: 13) وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ سَبَبَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَالْأَسِيرِ بِكَلِمَةِ الرَّقَبَةِ هُوَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْخُضُوعِ، فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّيِّدِ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ عَادَةً، وَإِنَّمَا تَنْكِيسُهُ بِحَرَكَةِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ مَعَ مَنْ يَأْسِرُهُ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الْأَسْرَى، وَإِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ يَحْنِي رَقَبَتَهُ إِذْعَانًا لِأَمْرِهِ، وَيُقَالُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: فُلَانٌ لَا يَرْفَعُ بِهَذَا الْأَمْرِ رَأْسًا، أَوْ لَا يَرْفَعُ زَيْدٌ رَأَسَهُ أَمَامَ عَمْرٍو، وَلَوْ أُطْلِقَ لَفْظُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْحُرِّ الْمُطْلَقِ لَقُلْتُ: إِنَّ وَجْهَهُ كَوْنُ قَطْعِ الرَّقَبَةِ يُزِيلُ الْحَيَاةَ فَعَبَّرَ بِهَا عَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِقَطْعِهَا، وَعَلَّلَ الِاسْتِعْمَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِشَرَفِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الْمُجْزِئَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يُشْتَرَطُ فَيُجْزِئُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، إِذْ قَالَ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (4: 92) كَمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (2: 282) عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (65: 2) وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِأَهْلِ عِبَادَتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَالِ الزَّكَاةِ وَذَبَائِحِ النُّسُكِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ الْمَسَاكِينُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ نَعَمْ إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ حَتَّى عَلَى الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ مُسْتَحَبَّةٌ،

وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْدُودَةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَتَكْفِيرُ الذَّنْبِ إِنَّمَا يُرْجَى بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ إِعَانَةِ الْعَتِيقِ عَلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ بِإِجْرَاءِ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ لَا يُنْكِرُ الِاحْتِيَاطَ بِتَقْدِيمِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ الْمُتَيَقَّنِ إِجْزَاؤُهُ عَلَى الْمَظْنُونِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إِنْ وُجِدَا، وَلَكِنَّهُ يَرَى أَلَّا يَصُومَ إِذَا اسْتَطَاعَ عِتْقَ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتَهُمْ أَوْ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَكَفِّرُ بِهِ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا لِمَرَضٍ نَوَى الصِّيَامَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رُجِيَ لَهُ عَفْوُ اللهِ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَطِيعَ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَعُولُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ: مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ: مَنْ عِنْدَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: مَنْ عِنْدَهُ دِرْهَمَانِ وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مُتَتَابِعَةً لِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ فِي الْآيَةِ، وَأَجَازَ غَيْرَهُمُ التَّفَرُّقَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَيْسَ قُرْآنًا، وَلَمْ تَصِحَّ هُنَا حَدِيثًا فَيُقَالُ إِنَّهَا كَتَفْسِيرٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ. (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) بِاللهِ أَوْ بِأَحَدِ أَسْمَائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ فَحَنِثْتُمْ أَوْ أَرَدْتُمُ الْحِنْثَ وَقِيلَ: (إِذَا) هُنَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهَا جَوَابٌ، وَتَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ جَائِزٌ وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ. (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) فَلَا تَبْذُلُوهَا فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَلَا تُكْثِرُوا مِنَ الْأَيْمَانِ الصَّادِقَةِ فَضْلًا عَنِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) (2: 224) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذَا حَلَفْتُمْ فَلَا تَنْسَوْا مَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَحْنَثُوا فِيهِ إِلَّا لضَّرُورَةٍ عَارِضَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَدِيعِ، وَعَلَى نَحْوِهِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَأَعْلَامَ دِينِهِ لِيَعِدَكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِذَلِكَ إِلَى شُكْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ عَنْهُ. مَبَاحِثٌ فِي الْأَيْمَانِ. (لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وِصِفَاتِهِ) . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَيَا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ " أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ (أي تَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ وَتَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ

وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ، أَيْ لِبَيَانِ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الرَّبِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْخِطَابِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعٌ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ لِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ " فَقَدْ أَشْرَكَ " وَرَوَى بِهِمَا وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كَانَ أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، قَالُوا وَمُرَادُهُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ، إِذِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَقِيلَ: حَرَامٌ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، بَلْ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ " فَقَدْ كَفَرَ " كَالَّذِينِ يَحْلِفُونَ بِمَنْ يَعْتَقِدُونَ عَظَمَتَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَيَلْتَزِمُونَ الْبِرَّ بِقَسَمِهِمْ بِهِمْ وَيُخَالِفُونَ عَاقِبَةَ الْحِنْثِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا وَلَا يَحْلِفُ بِالْبَدَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَوَلِّي وَأَمْثَالِهِمَا كَاذِبًا، وَالثَّانِي حَرَامٌ، وَالثَّالِثُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ مَا فِيهِ شِبْهُ تَعْظِيمٍ دِينِيٍّ، وَمِنْهُ الْمُبَاحُ وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ وَقَدْ سُئِلْنَا عَنْ حُكْمِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ فَأَفْتَيْنَا بِمَا نَصُّهُ (ص858 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ) . صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَا يَشْمَلُ التَّحْرِيمَ وَالْكَرَاهَةَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فَقَالُوا: إِذَا تَضَمَّنَ الْحَلِفُ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا يُعَظَّمُ اللهُ تَعَالَى كَانَ حَرَامًا وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، أَقُولُ: وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ حَلِفًا يَلْتَزِمُ بِهِ فِعْلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْبِرَّ بِهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ هَذَا الِالْتِزَامَ خَاصًّا بِالْحَلِفِ بِهِ أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ شَارِعًا لِشَيْءٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَبِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْحَقِيقِيِّ وَبَيْنَ مَا يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ مِنْ تَأْكِيدِ الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالُوا بِمِثْلِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ " فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ عِدَّةَ أَجْوِبَةٍ مِنْهَا نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَحْتَوِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ دُونِ قَصْدٍ لِلْقَسَمِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ الْحَلِفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا:

الْجَوَابُ: إِنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْقَسَمَ كَانَ يَجْرِي فِي كَلَامِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّأْكِيدِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْأَوَّلِ وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا عِنْدِي بِمَعْنَى قَوْلِ الْبَيْهَقِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نُسِخَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَدُّوهُمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حَلِفِ قُرَيْشٍ بِآبَائِهِمْ كَانَ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ وَالْتِزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ، وَإِلَّا فَلِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ غَالِبًا. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ "، وَفِي لَفْظٍ " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ: " لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ، عَنْهُ أَيْضًا " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَصْرٌ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ والْبَيْهَقِيِّ مَرْفُوعًا: " لَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ". فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَلَا سِيَّمَا مَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ مِنْهَا صَرَيْحَةٌ فِي حَظْرِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمُومِ " غَيْرِ اللهِ تَعَالَى " وَالْكَعْبَةِ وَسَائِرِ مَا هُوَ مُعَظَّمٌ شَرْعًا تَعْظِيمًا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَظَّمَ شَيْءٌ كَمَا يُعَظَّمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا سِيَّمَا التَّعْظِيمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَقَدْ كَانَ غُلُوُّ النَّاسِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ سَبَبًا لِهَدْمِ الدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ وَاسْتِبْدَالِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ الِاعْتِدَالَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. (2 جَوَازُ الْحِنْثِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالتَّكْفِيرِ قَبْلَهُ) . رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ " وَفِي لَفْظٍ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا هُوَ مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِمْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي بَعْضِهَا تَأْخِيرُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " نَصٌّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ بَلْ ظَاهِرُهَا وُجُوبُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَةِ لَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَمَنْ أَرَادَ الْحِنْثَ اخْتِيَارًا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ مُطْلَقًا وَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ كَانَ بِشُرُوعِهِ فِي الْحِنْثِ غَيْرَ شَارِعٍ فِي إِثْمٍ، لِأَنَّهُ بِتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ صَارَ مُبَاحًا لَهُ، وَمَنْ قَدَّمَ الْحِنْثَ كَانَ شَارِعًا فِي مَعْصِيَةٍ وَقَدْ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَلَعَلَّ هَذِهِ هِيَ حِكْمَةُ إِرْشَادِ الْحَدِيثِ إِلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ، وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ تَبْطُلُ الْفَلْسَفَةُ الْمُتَكَلِّفَةُ الَّتِي تَعَلَّلَ بِهَا مَانِعُو التَّقْدِيمِ. وَيَنْقَسِمُ الْحَلِفُ بِاعْتِبَارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى أَقْسَامٍ: (1) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكٍ حَرَامٍ، فَهَذِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا كَلَّفَهُ اللهُ إِيَّاهُ فَيَحْرُمُ الْحِنْثُ وَيَكُونُ إِثْمُهُ مُضَاعَفًا. (2) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعْصِيَةٌ، وَمِنْهُ الْحَلِفُ عَلَى إِيذَاءِ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقِهِمَا أَوْ مَنْعِ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ الْوَاجِبَ لَهُ. (3) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلٍ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكٍ مَكْرُوهٍ، فَهَذَا طَاعَةٌ فَيُنْدُبُ لَهُ الْوَفَاءُ وَيُكْرَهُ الْحِنْثُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ كَمَا قَالُوا فِي النَّذْرِ. (4) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْحِنْثُ وَيُكْرَهُ التَّمَادِي كَذَا قَالُوا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَالْحِنْثِ مُطْلَقًا أَوْ بِالتَّفْصِيلِ الْآتِي فِيمَا بَعْدُ. (5) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ مُبَاحٍ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فَإِنْ كَانَ يَتَجَاذَبُهُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَيِّبًا وَلَا يَلْبَسُ نَاعِمًا فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّمَادِيَ أَوْلَى (أَيْ مِنَ الْحِنْثِ) لِأَنَّهُ قَالَ أَيْ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " إِلَخِ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ نَهْيِ الْقُرْآنِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ آيَةَ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَرَدَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحِنْثَ وَاجِبٌ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ جِنْسٍ مِنَ الْمُبَاحِ كَالطَّيِّبِ مِنَ الطَّعَامِ، دُونَ مَا إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ كَالطَّعَامِ الَّذِي فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ مَثَلًا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْرِيعِ بِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ كَمَا فَعَلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ، وَكُفْرٍ بِنِعَمِ اللهِ، وَالثَّانِي أَمْرٌ عَارِضٌ لَا يُشْبِهُ التَّشْرِيعَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحِنْثِ فَائِدَةٌ كَمُجَامَلَةِ الضَّيْفِ أَوْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْأَهْلِ فَالظَّاهِرُ الْمُسْتَجَابُ الْحِنْثُ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي تَحْرِيمِهِ الطَّعَامَ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لِأَجْلِ الضَّيْفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ لَهُ فِي وَاقِعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ فَرَضَ لَهُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ يُسَمَّى يَمِينًا وَمِثْلُهُ النَّذْرُ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِهِ فِعْلَ شَيْءٍ، أَوْ تَرْكَهُ.

(3 أَقْسَامُ الْأَيْمَانِ بِحَسَبِ صِيغَتِهَا وَأَحْكَامِهَا) . رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا مَبَاحِثَ وَقَوَاعِدَ فِي الْأَيْمَانِ مُفَصَّلَةً أَحْسَنَ تَفْصِيلٍ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَمِنْ أَخْصَرِهَا قَوْلُهُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي (ص85) :. " قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنَ الْأَيْمَانِ فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (الْأَوَّلُ) مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ". (وَالثَّانِي) الْيَمِينُ بِاللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. (وَالثَّالِثُ) أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاللهِ، مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمُ الْخَالِقِ لَا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوِ الْحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللهِ، أَوِ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ، أَوْ إِنْ فَعَلْتُهُ فَنِسَائِي طَوَالِقٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: إِذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يُجْزِئُهُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يُلْزِمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) وَقَالَ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (66: 2) وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلِفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فَإِذَا قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ، أَوْ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، إِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جَرْيَةً مِنَ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ، مِثْلَ أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ

أَوَاقٍ أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ وَيُطْعِمَ مَعَ ذَلِكَ إِدَامَهَا كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إِعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا، وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ مِثْلَ أَنْ يُنْجِزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَلِذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إِذَا فَعَلَتْ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَيَقُولُ لَهَا: إِنْ فَعَلْتِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِذَا فَعَلَتْهُ، فَهَذَا مُطْلَقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ (لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ) أَنْ يُطَلِّقَهَا بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ، لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ لِمَنْعِهَا عَنِ الْفِعْلِ لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ إِنْ فَعَلَتْهُ فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ " اه. (4 مَدَارِكُ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ الْكَفَّارَةِ مِنَ الطَّعَامِ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَعَلَ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرًا بِالشَّرْعِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ مُقَدَّرًا بِالْعُرْفِ، وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ يُقَدَّرُ بِالشَّرْعِ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مَنْ بُرٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ: يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ رُبْعَ صَاعِ بُرٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: يَكْفِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ. أَقُولُ: وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ (وَالْمُدُّ حَفْنَةٌ مِنْ كَفَّيْ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ) فَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا يُوجِبُ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ شَرْعِيٌّ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتُ، وَإِنَّمَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْآثَارِ وَالْعَمَلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. قَالَ: " وَالْقَوْلُ الثَّانِي مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ، فَيُطْعِمُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ يُجْزِئُ فِي الْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ: أَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَّفِرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا. " وَالْمَنْقُولُ مِنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ: خُبْزٌ وَلَبَنٌ، خُبْزٌ وَسَمْنٌ، وَخُبْزٌ وَتَمْرٌ، وَالْأَعْلَى: خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالِاعْتِبَارُ، وَهُوَ

قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ، فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) فَإِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُقَدِّرْ طَعَامَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ وَلَا الْمَمْلُوكِ وَلَا يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ الْمُسْتَخْدَمِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يُقَدِّرُ الْجِزْيَةَ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا الْخَرَاجَ. . . إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْإِدَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الرِّخَصِ وَالْغَلَاءِ وَالْإِعْسَارِ وَالْإِيسَارِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ خَبْزًا أَوْ أُدُمًا مَنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ وَلَمْ يُوجِبِ التَّمْلِيكَ وَرَدَّ مَا احْتُجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّمْلِيكِ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ لَا التَّمْلِيكَ وَلَا التَّصَرُّفَ وَلَمْ يُقَدِّرْ لِلْمِسْكِينِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا فَيُقَالُ إِنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي عَشَائِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللهُ التَّمْلِيكَ فِي صَدَقَةِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِلَامِ الْمِلْكِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِذَا مَلَكَ الْمِسْكِينُ مُدًّا مِنَ الْبُرِّ أَوْ غَيْرِهِ فَرُبَّمَا بَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ شَيْئًا لَا يُؤْكَلُ فَلَا يَكُونُ الْمُكَفِّرُ مُطْعِمًا لَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى انْتَهَى ". بِالْمَعْنَى. (5 أَمْرُ الْأَيْمَانِ يُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ وَالنِّيَّةِ) . أَمْرُ الْأَيْمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ بَيْنَ النَّاسِ بِالْإِجْمَاعِ لَا عَلَى مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ وَاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللهُ لَحْمًا طَرِيًّا إِلَّا إِنْ نَوَاهُ أَوْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّحْمِ فِي عُرْفِ قَوْمِهِ، وَمِنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَنَوَى مَعْنًى مَجَازِيًّا غَيْرَ الظَّاهِرِ فَالْعِبْرَةُ بِنِيَّتِهِ لَا بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَحْلِفُهُ غَيْرُهُ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ فَالْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْحَلِفِ لَا الْحَالِفِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَيْمَانِ فِي الْقَاضِي فَائِدَةٌ. رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ " الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلَفِ " وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِ الْمُحَلِّفُ هُوَ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُ " صَاحِبِكَ " فِي الْحَدِيثِ يَرُدُّ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَاكِمُ أَوِ الْغَرِيمُ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ حَقٌّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ حَلَفَ مُتَبِرِّعًا أَوْ بِاسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ لَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْحُقُوقِ

90

الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحْلِفَ الظَّالِمَ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُ إِذَا أَكْرَهَ امْرَأً عَلَى الْحَلِفِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ عَلَى ظُلْمِهِ وَوَرَّى الْحَالِفُ وَنَوَى غَيْرَ الظَّاهِرِ فَلَهُ الْعَمَلُ بِنِيَّتِهِ فَاسْمُ اللهِ لَا يُجْعَلُ وَسِيلَةً لِلظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، وَلَا مَانِعًا مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ. وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَالصَّابِرَةُ وَالَّتِي يُهْضَمُ بِهَا الْحَقُّ أَوْ يُقْصَدُ بِهَا الْخِيَانَةُ وَالْغِشُّ لَا يُكَفِّرُهَا عِتْقٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صِيَامٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالِاسْتِقَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (16: 94) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا قَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: أَوْ مَالَ ذِمِّيٍّ وَنَحْوُهُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْإِطْلَاقِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي الشَّيْخِ " خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ ". (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (2: 219) أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ بِالتَّدْرِيجِ، وَصَدَّرْنَا الْكَلَامَ هُنَاكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ

فِي ذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مُخْتَصَرًا، وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ (رَضِي اللهُ عَنْهُ) قَالَ: " فِيَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا فَدَعَانَا فَأَتَاهُ نَاسٌ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى انْتَشَوْا مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَفَاخَرُوا فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: الْأَنْصَارُ خَيْرٌ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قُرَيْشٌ خَيْرٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ بِلَحْيِ جَزُورٍ فَضَرَبَ عَلَى أَنْفِي فَفَزَرَهُ فَكَانَ سَعْدٌ مَفْزُورَ الْأَنْفِ قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الْآيَةَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّحَّاسِ فِي نَاسِخِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ " أَنَّهُ نَادَمَ رَجُلًا فَعَارَضَهُ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ فَشَجَّهُ فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحَوْا جَعَلَ يَرَى الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ بِي هَذَا أَخِي فُلَانٌ وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ وَاللهِ لَوْ كَانَ رَءُوفًا رَحِيمًا مَا صَنَعَ بِي هَذَا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إِلَى قَوْلِهِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الْآيَةَ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى: " اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَلَّ عَلَى دُعَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ النِّسَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ دُعِيَ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا ". وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِهَا حَتَّى إِنَّهَا لَوْ حُرِّمَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ تَحْرِيمُهَا صَارِفًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُدْمِنِينَ لَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ فَيَرَوْنَهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ الْجَمِيلَةِ، فَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَبَالَغِ حِكْمَتِهِ أَنْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فِيهَا مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ، لِيَتْرُكَهَا مَنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ فِتْنَتُهَا مِنْ نَفْسِهِ،

(رَاجِعْ ص255 270ج2ط الْهَيْئَةِ) ، وَذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، إِذْ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُصِرِّ عَلَى شُرْبِهَا إِلَّا الِاغْتِبَاقُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَضَرَرُهُ قَلِيلٌ، وَكَذَا الصَّبُوحُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَنْ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا يَخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ سُكْرُهُ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَكَانَ شَيْخُنَا يَرَى أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَرَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ زَمَنًا قَوِيَ فِيهِ الدِّينُ، وَرَسَخَ الْيَقِينُ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ الَّتِي ظَهَرَ لَهُمْ بِهَا إِثْمُ الْخَمْرِ وَضَرَرُهَا، وَمِنْهُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِمَا نَزَلَتْ فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (2: 219) شَرِبَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وَتَرَكَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: (إِثْمٌ كَبِيرٌ) مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (4: 43) فَتَرَكَهَا قَوْمٌ وَشَرِبَهَا قَوْمٌ يَتْرُكُونَهَا بِالنَّهَارِ حِينَ الصَّلَاةِ وَيَشْرَبُونَهَا بِاللَّيْلِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الْآيَةَ قَالَ عُمَرُ: " أَقُرِنَتَ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَتَرَكَهَا النَّاسُ، وَوَقَعَ فِي صُدُورِ أُنَاسٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهَا، فَجَعَلَ قَوْمٌ يَمُرُّ بِالرِّوَايَةِ مِنَ الْخَمْرِ فَتُخْرَقُ فَيَمُرُّ بِهَا أَصْحَابُهَا فَيَقُولُونَ: قَدْ كُنَّا نُكْرِمُكِ عَنْ هَذَا الْمَصْرَعِ، وَقَالُوا: مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْخَمْرِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَلْقَى صَاحَبَهُ فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي شَيْئًا، فَيَقُولُ صَاحِبُهُ: لَعَلَّكَ تَذْكُرُ الْخَمْرَ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي مِثْلَ مَا فِي نَفْسِكَ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ قَومٌ وَاجْتَمَعُوا فِيهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَكَلَّمُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ (أَيْ حَاضِرٌ) وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ (أَيْ قُرَآنٌ) فَأَتَوْا رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعَدُّوا لَهُ حُجَّةً فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ أَلَيْسُوا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: أَلَيْسُوا قَدْ مَضَوْا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَحُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَهُ؟ فَقَالَ: قَدْ سَمِعَ اللهُ مَا قُلْتُمْ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا، وَنَزَلَ فِي الَّذِينَ ذَكَرُوا حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهُ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الْآيَةَ، وَلِأَصْحَابِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَمَا كَانَ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمِنْهُ حَدِيثٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَآثَارٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) الْخَمْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: شَرْعِيَّةٌ فَقَطْ

وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْخَمْرَ مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْعَصْرِ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا مِنَ الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ (رَاجِعْ ص 257 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ) . وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رَدَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ وَأَخْصَرِهِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مَنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِلصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا يُسْكِرُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا وَلَمْ يَشْكُلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى إِتْلَافِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَنِ الْإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَفْصِلُوا وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرٌ وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرٌ، وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرٌ وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرٌ وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرٌ " وَرَوَى أَيْضًا " أَنَّهُ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ (أَيْ عُمَرَ) مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ اهـ. وَقَدْ تَعَقَّبَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لَا اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا التَّعْقِيبُ ضَعِيفٌ لَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْكِرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ شَرْعًا، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَيْسَ اسْمًا لِعَمَلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ الشَّرْعِ فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةً مِنَ اللُّغَةِ تَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الشَّرَابِ يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بِالْإِسْكَارِ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَعْرُوفَةٌ عَنْهُمْ قَبْلَ نُزُولِ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ سَأَلُوهُ عَنِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَلَا الْخَلَفِ وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدٍ أَنَّهُ سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَمْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً وَأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ بِأَنَّ فِيهَا إِثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا أُلْحِقَ بِهَا فِي التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ لِلْخَمْرِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ كَمَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَوَدُّ لَوْ يَجِدُ مَخْرَجًا مِنْ تَحْرِيمِهَا كَمَا وُجِدَ الْمَخْرَجُ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا إِثْمًا مَعَ تَصْرِيحِ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْإِثْمِ،

وَلِأَجْلِهِ تَرَكَهَا بَعْضُهُمْ وَتَفَصَّى مِنْهُ آخَرُونَ بِتَخْصِيصِ الْإِثْمِ بِمَا كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَالنَّصُّ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَنَافِعَ، وَقَدْ أَهْرَقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَمْرِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا تَرَى بَعْدُ، وَقَلَّمَا كَانَ يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ، فَلَوْ كَانَ مُسَمَّى الْخَمْرِ فِي لُغَتِهِمْ مَا كَانَ سُكْرًا مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَقَطْ لَمَا بَادَرُوا إِلَى إِهْرَاقِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا مِنْ شَرَابِ الْعِنَبِ شَيْءٌ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ (هو زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ) حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ فَقَالُوا: حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ، فَقَالُوا: يَا أَنَسُ اسْكُبْ مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ، فَوَاللهِ مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْبُسْرُ، وَهِيَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ " هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَزَادَ أَنَسٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " أَبَا دُجَانَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ " وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمُ الْفَضِيخَ، وَهُوَ شَرَابُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ يُفْضَخَانِ أَيْ يُشْدَخَانِ وَيُنْبَذَانِ فِي الْمَاءِ، فَإِذَا اشْتَدَّ وَاخْتَمَرَ كَانَ خَمْرًا وَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ خَمْرِ الْمَدِينَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَنَسٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ " كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الْفَضِيخَ - الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ - فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَهَرَقْتُهَا " الْحَدِيثَ. نَعَمْ قَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ عِلَلَهُ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُسْكِرَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا بِالنَّصِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْبُسْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِسْكَارُ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يُخَمَّرْ، وَهُوَ مَا يُنْبَذُ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فِي الْمَاءِ حَتَّى يَنْضَحَ وَيَحْلُوَ مَاؤُهُ فَشُرْبُهُ حَلَالٌ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِذَةَ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الِاخْتِمَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَالْحَارَّةِ

وَبَعْضِ الْأَوَانِي: كَالْقَرْعِ وَالْمُزَفَّتِ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْكَرُ بِهَا عِنْدَ أَدْنَى تَغَيُّرٍ يَعْرِضُ لَهَا، أَوْ إِذَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَمِرْ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّبِيذِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ يُسْكِرُ الْكَثِيرُ مِنْهُ فَشُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا لِسَدِّ ذَرِيعَةِ السُّكْرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَلَوْ بِحُمُوضَةٍ قَلِيلَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ حِينَئِذٍ إِلَّا الْمِقْدَارُ الْمُسْكِرُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا فَيَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ، فَإِذَا كَانَ مَا يُشْرَبُ مِنْهُ لَمْ يُسْكِرْ فَلَا وَجْهَ لِقِيَاسِهِ عَلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ يُسْكِرُ فَهُوَ خَمْرٌ لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْآيَةِ، وَمِنْ تَعْلِيلِ عُمَرَ فِي خُطْبَتِهِ لِتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ بِأَنَّهَا مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، أَوْ شَرْعًا فَقَطْ وَدَلَالَةُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ ". وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ سِيدَهْ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعَيْنِ: الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي زَمَنِ تَدْوِينِ اللُّغَةِ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لِكَثْرَتِهَا وَجَوْدَتِهَا، وَنَقْلُ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ بَيَانَ مَعْنَى الْخَمْرِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصَحُّ مِنْ نَقْلِ جَمِيعِ اللُّغَوِيِّينَ لِلُّغَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنِ اطَّلَعَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَنَحْوِهَا تَفَصِّيًا مِنْهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الْكَثِيرِ مِنْهَا حَمَلُوا إِطْلَاقَ لِفَظِ الْخَمْرِ فِيهَا عَلَى الْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ عَلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُبْهَمَةٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ قَالَهَا وَبِأَيِّ مُنَاسَبَةٍ قَالَهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ ذَكَرَ خَمْرَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خُمُورُ أَهْلِهَا مِنَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ فِي الْغَالِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ بِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَعْضُهَا حَتَّى عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَإِلَّا كَانَتْ مُتَعَارِضَةً، وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةً لِعِدَّةِ وُجُوهٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَا قَالُوهُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَارَضَهَا بِحَمْلِ مَا خَالَفَهَا عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِ عُمَرَ فِي خُطْبَتِهِ: " وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ خَمْرَةِ الْعِنَبِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ إِلَخْ؟ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ مَا يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي

الْإِسْكَارِ وَهُوَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ مَا لَا يُجِيزُهُ الْحَنَفِيَّةُ. أَطَلْنَا هَذِهِ الْإِطَالَةَ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي النَّاسِ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِصْدَاقُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنِ اسْتِحْلَالِ أُنَاسٍ لِشُرْبِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَقَدِ اخْتَرَعَ النَّاسُ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْخُمُورِ أَشَدَّ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ ضَرَرًا فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، وَأَشَدَّ إِيقَاعًا فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَدًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا قَطْعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ فَقَطْ يُجَرِّئُ النَّاسَ عَلَى شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ السُّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقَلِيلُ يَدْعُو إِلَى الْكَثِيرِ، فَالْإِدْمَانِ فَالْإِهْلَاكِ، فَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَيْسَ فِي تَضْعِيفِهِ وَتَرْجِيحِ قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ وَسَدُّ ذَرَائِعِ شُرُورٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقِمَارُ بِالْقِدَاحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا نَقَلَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ غَلَبَ فِي كُلِّ مُقَامَرَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَقْوَالَ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ مَعْنَى الْقِدَاحِ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَهِيَ الْأَزْلَامُ وَالْأَقْلَامُ وَالسِّهَامُ، وَلِذَلِكَ عُدْنَا إِلَى بَيَانِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِدَاحِ الْعَشْرِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ لِلتَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (ص 122 وَمَا بَعْدَهَا ج6ط الْهَيْئَةِ) . كُلُّ قِمَارٍ مَيْسِرٌ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ إِلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْمُرَاهَنَةِ فِي السِّبَاقِ وَالرِّمَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ورُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ، وَرُوِيَ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: " حَتَّى الْكِعَابُ وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ (أَيْ مِنْ مَيْسِرِهِمْ) ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ " اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَرْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ " وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ الْكِعَابَ بِالنَّرْدِ، وَأَقُولُ:

الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، وَعَلِيٌّ هَذَا ضَعِيفٌ وَضَعَّفُوا عُثْمَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ " " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَشْبِيهِ اللَّعِبِ بِهِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُقَامَرَةَ بِهِ كَالْمُقَامَرَةِ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا عَلَى لَحْمِ الْأَنْعَامِ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَامِرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ " وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فِي الشِّطْرَنْجِ إِنَّهُ مِنَ النَّرْدِ وَأَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَيْسِرِ قَالَ: وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: أَقُولُ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا وَجْهَ مَا وَرَدَ فِي النَّرْدِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِالطَّاوِلَةِ) مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ لَعِبِ الْقِمَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ الشِّطْرَنْجَ حَرَّمَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قِمَارًا، وَمَنْ كَرِهَهُ لِكَوْنِهِ مَدْعَاةَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ لَاعِبِيهِ يُفْرِطُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (ص121، 123 ج6ط الْهَيْئَةِ) . وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ قِدَاحٌ أَيْ قِطَعٌ رَقِيقَةٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السِّهَامِ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ التَّفَاؤُلِ أَوِ التَّشَاؤُمِ، وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهَا وَطَرِيقَةَ الِاسْتِقْسَامِ بِهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ (ص122 127 ج6ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ خُرَافَةِ الِاسْتِقْسَامِ وَسُنَّةِ الِاسْتِخَارَةِ فَيُرَاجَعُ هُنَالِكَ. وَأَمَّا الرِّجْسُ فَهُوَ الْمُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا اسْتُقْذِرَ مِنْ عَمَلٍ، فَبَالَغَ اللهُ فِي ذَمِّ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَسَمَّاهَا رِجْسًا أَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي تِسْعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْقَذَارَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) 6: 145) قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَيْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ رِجْسٌ، وَمِثْلُهُ: (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ 36: 34، 35) ;

أَيْ مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ، وَاسْتَشْهَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْأَخِيرِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ. وَذُكِرَ أَنَّ رُؤْبَةَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْسِ أَنَّهُ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ ضَارًّا وَمُحْتَقَرًا تَعَافُهُ الْأَنْفُسُ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بِالْمَأْثَمِ وَهُوَ مَا كَانَ ضَارًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَرَرَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرِّجْسُ الشَّيْءُ الْقَذِرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَجِسٌ، وَرِجَالٌ أَرْجَاسٌ، قَالَ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَالرِّجْسُ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِمَّا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تَعَافُ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَالرِّجْسُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ رِجْسٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (2: 219) لِأَنَّ كُلَّ مَا يُوَفَّى إِثْمُهُ عَلَى نَفْعِهِ فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ رِجْسًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشِّرْكَ بِالْعَقْلِ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (9: 125) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) نَصٌّ فِي كَوْنِ الرِّجْسِ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (22: 30) وَكَانَتِ الْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوْثَانِ وَأَمَّا رِجْسُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَبَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ نَجِسَةَ الْعَيْنِ فَتَكَلَّفُوا كُلَّ التَّكَلُّفِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَخَبَرُ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ هَذَا لَمَا كَانَ مُفِيدًا لِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ نَجَاسَةً حِسِّيَّةً، فَإِنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ مَا كَانَ شَدِيدَ الْقَذَارَةِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ قَذِرَةَ الْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ كَمَا قُلْنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) وَأَمَّا إِفْرَادُهُ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ فَلِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (9: 28) أَوْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا تَقْدِيرُهُ أَنَّ تَعَاطِيَ مَا ذَكَرَهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ رِجْسًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا مِنَ الْأَعْمَالِ

الَّتِي زَيَّنَ لِأَعْدَائِهِ بَنِي آدَمَ ابْتِدَاعَهَا وَإِيجَادَهَا، ثُمَّ هُوَ يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْكُفُوا عَلَيْهَا، وَيُزَيِّنُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ بِهِمْ. (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ كُلَّهُ أَوْ فَاجْتَنِبُوا مَا ذُكِرَ كُلَّهُ، أَيِ ابْعُدُوا عَنْهُ وَكُونُوا فِي جَانِبٍ غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا وَتَفُوزُوا بِمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِكُمْ، وَتَحْلِيَتِهَا، بِذِكْرِ رَبِّكِمْ، وَمُرَاعَاةِ سَلَامَةِ أَبْدَانِكُمْ وَالتَّوَادِّ وَالتَّآخِي فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَتَعَاطِي مَا ذَكَرَ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَيَحُولُ دُونَهُ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بَيَّنَ حَظَّ الشَّيْطَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ دُونَ مَا قَرَنَ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، لِأَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْهَا) تَحْرِيمُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَكَوْنُ ذَلِكَ فِسْقًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَرَكُوهُمَا; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ طَهَّرَهُمُ التَّوْحِيدُ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ: " أَقُرِنْتِ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ وَهُمَا مِنَ الْخُرَافَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَزِمَهُمَا مَعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُمَا مِنَ الرَّذَائِلِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ رِجْسِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِأَهْلِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَالْعَدَاوَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّجَاوُزِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ (عَدَا يَعْدُو) وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَقِّ إِلَى الْإِيذَاءِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْعَادِي الظَّالِمُ، يُقَالُ: لَا أَشْمَتَ اللهُ بِكَ عَادِيكَ، أَيْ عَدُّوَكَ الظَّالِمَ لَكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ عَدُوُّ فُلَانٍ: مَعْنَاهُ فُلَانٌ يَعْدُو عَلَى فُلَانٍ بِالْمَكْرُوهِ وَيَظْلِمُهُ اهـ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْعَدُوُّ ضِدُّ الصَّدِيقِ وَضِدُّ الْوَلِيِّ أَيِ الْمُوَالِي، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ سَيِّئَةٌ عَمَلِيَّةٌ، وَالْبَغْضَاءَ انْفِعَالٌ فِي الْقَلْبِ وَأَثَرٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ، فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ يَجْتَمِعَانِ وَيُوجَدُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. أَمَّا كَوْنُ الْخَمْرِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى الْأَصْدِقَاءِ مِنْهُمْ فَمَعْرُوفٌ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يَسْكَرُ فَيَفْقِدُ الْعَقْلَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِنْسَانَ أَيْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي تَسُوءُ النَّاسَ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حُبُّ الْفَخْرِ الْكَاذِبِ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِ الْغَضَبُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ مُحِبِّي الْخَمْرِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِلشُّرْبِ، فَقَلَّمَا تَكُونُ رَذَائِلُهُمْ قَاصِرَةً عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَنْ يَشْرَبُ

مَعَهُمْ كَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، وَالْخُلَطَاءِ وَالْعُشَرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ بَعْضُ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ أَغْرَبِ أَخْبَارِ شُذُوذِ السُّكْرِ الَّذِي يُفْضِي مِثْلُهُ عَادَةً إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْهَرْجِ وَالْقِتَالِ، حَدِيثُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مَعَ عَمِّهِ حَمْزَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) وَمُلَخَّصُهُ " أَنَّهُ كَانَ لَهُ شَارِفَانِ (نَاقَتَانِ مُسِنَّتَانِ) أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمَا الْإِذْخِرَ (نَبَاتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ) مَعَ صَائِغٍ يَهُودِيٍّ وَيَبِيعَهُ لِلصَّوَّاغِينَ لِيَسْتَعِينَ بِثَمَنِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْبِنَاءِ بِهَا، وَكَانَ عَمُّهُ حَمْزَةُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَعَ بَعْضِ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ قَيْنَةٌ تُغَنِّيهِ فَأَنْشَدَتْ شِعْرًا حَثَّتْهُ بِهِ عَلَى نَحْرِ النَّاقَتَيْنِ وَأَخْذِ أَطَايِبِهِمَا لِيَأْكُلَ مِنْهَا الشَّرَبَ، فَثَارَ حَمْزَةُ وَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَأَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ تَأَلَّمَ، وَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَيْهِ وَشَكَا حَمْزَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ عَلَى حَمْزَةَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَطَفِقَ يَلُومُهُ، وَكَانَ حَمْزَةُ ثَمِلًا قَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِلٌ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ " وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَوْلَا حِلْمُ الرَّسُولِ وَعِصْمَتُهُ وَعَقْلُهُ وَأَدَبُ عَلِيٍّ وَفَضْلُهُ، وَبَلَاءُ حَمْزَةَ فِي إِقَامَةِ الْإِسْلَامِ وَقُرْبُهُ لَمَا وَقَفَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ عِنْدَ الْحَدِّ الَّذِي وَقَفَتْ عِنْدَهُ. وَإِنَّ حَوَادِثَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ الَّتِي يُثِيرُهَا السُّكْرُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْعُدْوَانِ وَالسَّلْبِ، وَالْفِسْقِ وَالْفُحْشِ، وَمِنْ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ، وَخِيَانَةِ الْحُكُومَاتِ وَالْأَوْطَانِ، قَدْ سَارَتْ بِأَخْبَارِهَا الرُّكْبَانُ، وَمَا زَالَتْ حَدِيثَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ مَثَارٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَيْضًا وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُتَقَامِرِينَ، فَإِنْ تَعَدَّاهُمْ فَإِلَى الشَّامِتِينَ وَالْعَائِبِينَ، وَمَنْ تَضِيعُ عَلَيْهِمْ حُقُوقُهُمْ مِنَ الدَّائِنِينَ وَغَيْرِ الدَّائِنِينَ، وَإِنَّ الْمُقَامِرَ لَيُفَرِّطُ فِي حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى يُوشِكَ أَنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ أَحَدٍ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ بِإِزَاءِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي الْقِمَارِ مَرَّةً دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّجَاجِ فِيهِ عَنْ رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَلَّا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَى أَنْ يُقَامِرَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ! ! وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ فَقِيرًا مِسْكِينًا وَيَصِيرُ مِنْ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا غَالِبِينَ لَهُ، اهـ. وَأَمَّا كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَفْسَدَتُهَا الدِّينِيَّةُ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِهِمَا مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ مَفْسَدَتُهَا الِاجْتِمَاعِيَّةُ لِأَنَّ كُلَّ سَكْرَةٍ مِنْ سَكَرَاتِ الْخَمْرِ، وَكُلَّ مَرَّةٍ مِنْ لَعِبِ الْقِمَارِ، تَصُدُّ السَّكْرَانَ وَاللَّاعِبَ وَتَصْرِفُهُ

عَنْ ذِكْرِ اللهِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، إِذِ السَّكْرَانُ لَا عَقْلَ لَهُ يَذْكُرُ بِهِ آلَاءَ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ يُقِيمُ بِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ اللهِ، وَزِيَادَةُ أَعْمَالٍ تُؤَدِّي بِنِظَامٍ لِغَرَضٍ وَقَصْدٍ، وَلَوْ ذَكَرَ السَّكْرَانُ رَبَّهُ، وَحَاوَلَ الصَّلَاةَ لَمْ تَصِحَّ لَهُ، وَالْمُقَامِرُ تَتَوَجَّهُ جَمِيعُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى اللَّعِبِ الَّذِي يَرْجُو مِنْهُ الرِّبْحَ وَيَخْشَى الْخَسَارَةَ فَلَا يَبْقَى لَهُ مِنْ نَفْسِهِ بَقِيَّةٌ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى بِهَا، أَوْ يَتَذَكَّرُ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَيَحْصُرُ هَمَّهُ فِيهِ مِثْلَ هَذَا الْقِمَارِ، حَتَّى إِنَّ الْمُقَامِرَ لَيَقَعُ الْحَرِيقُ فِي دَارِهِ وَتَنْزِلُ الْمَصَائِبُ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَيُسْتَصْرَخُ وَيُسْتَغَاثُ فَلَا يُصْرِخُ وَلَا يُغِيثُ، بَلْ يَمْضِي فِي لَعِبِهِ، وَيَكِلُ أَمْرَ الْحَرِيقِ إِلَى جُنْدِ الْإِطْفَاءِ، وَأَمْرَ الْمُصَابِينَ مِنَ الْأَهْلِ إِلَى الْمُوَاسِينَ أَوِ الْأَطِبَّاءِ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَنَاقَلُونَ النَّوَادِرَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْمُقَامِرِينَ، مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْمُعَاصِرِينَ. عَلَى أَنَّ الْمُقَامِرَ إِذَا تَذَكَّرَ الصَّلَاةَ أَوْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ بِهَا، وَتَرَكَ اللَّعِبَ لِأَجْلِ أَدَائِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُؤَدِّي مِنْهَا إِلَّا الْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةَ بِدُونِ أَدْنَى تَدَبُّرٍ أَوْ خُشُوعٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّعِبِ، نَعَمْ إِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ تَامَّةً فَيَفْضُلُ السَّكْرَانَ بِهَذَا إِذْ لَا يَكَادُ يَأْتِي مِنْهُ ضَبْطُ أَفْعَالِهَا، وَلَكِنَّ السَّكْرَانَ قَدْ يَفْضُلُهُ بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، فَكَمْ مِنْ سَكْرَانٍ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى وَيَذْكُرُ ذُنُوبَهُ حَتَّى سُكْرَهُ وَيَبْكِي، وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، لَقِيتُ مَرَّةً سَكْرَانًا فِي أَحَدِ شَوَارِعِ الْقَاهِرَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ يُقَبِّلُ يَدِي وَيَبْكِي وَيَقُولُ: ادْعُ اللهَ لِي أَنْ يَتُوبَ عَلَيَّ مِنَ السُّكْرِ وَيَغْفِرَ لِي، أَنْتَ ابْنُ الرَّسُولِ، وَدُعَاؤُكَ مَقْبُولٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ، فَهُوَ بِالْأَوْلَى لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ الْمُقَامِرِ الَّذِي يَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَدَبَّرُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَخْشَعُ لِلرَّحْمَنِ، وَهُوَ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ قَادِرٌ عَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ، وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ وَلَا يُفِيدُ مِثْلَ هَذَا الْمُصَلِّي السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ إِفْتَاءُ الْفُقَهَاءِ بِصِحَّتِهَا، إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُهَا وَفُرُوضُهَا، فَمَا كُلُّ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرُّسُومِ بِمَقْبُولٍ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (107: 4، 5) . قَدْ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِلَّتَيْنِ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِحْدَاهُمَا اجْتِمَاعِيَّةٌ وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ تَصْدُقُ عَلَى الْأَلْعَابِ الَّتِي اشْتَدَّ وُلُوعُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِهَا; كَالشِّطْرَنْجِ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُعَدَّ بِذَلِكَ مُحَرَّمَةً كَالْمَيْسِرِ; لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ؟ قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ تَفْسِيرِهِ (رُوحِ الْمَعَانِي) : وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِمَّنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ اللَّجَاجِ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ وَالْغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى

91

وَمَا يَنْفِرُ مِنْهُ الْفِيلُ، وَتَكْبُو لَهُ الْفَرَسُ وَيَصْحُو مِنْ هُمُومِهِ الرُّخُّ بَلْ يَتَسَاقَطُ رِيشُهُ، وَيَحَارُ لِشَنَاعَتِهِ بَيْذَقُ الْفَهْمِ، وَيَضْطَرِبُ فِرْزِينُ الْعَقْلِ، وَيَمُوتُ شَاهُ الْقَلْبِ، وَتَسْوَدُّ رُقْعَةُ الْأَعْمَالِ، اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ إِذَا كَانَ عَلَى مَالٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْسِرِ وَكَانَ مُحَرَّمًا بِالنَّصِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ كَوْنُهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، مُوقِعًا فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، صَادًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، بِأَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَ مَنْ يَلْعَبُ بِهِ دَائِمًا أَوْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا وَإِنَّنَا نَعْرِفُ مِنْ لَاعِبِي الشِّطْرَنْجِ مَنْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَيُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ الْبَاطِلِ، وَأَمَّا الْغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الشِّطْرَنْجِ وَحْدَهُ، بَلْ كُلِّ لَعِبٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَهُوَ يَشْغَلُ صَاحِبَهُ فِي أَثْنَائِهِ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِيمَا عَدَاهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ، كَلَعِبِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمِمَّا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ اللَّعِبُ; لَعِبُ الْحَبَشَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنَّمَا عِيبَ الشِّطْرَنْجُ مِنْ أَنَّهُ أَشَدُّ الْأَلْعَابِ إِغْرَاءً بِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ، وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَهُ لِأَجْلِ هَذَا، وَنَحْمَدُ اللهَ الَّذِي عَافَانَا مِنَ اللَّعِبِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَمَا نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا أَنْ عَافَانَا مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ. وَلَمَّا بَيَّنَ جَلَّ جَلَالُهُ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَحِكْمَتَهُ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالِانْتِهَاءِ، قَالَ الْكَشَّافُ: مِنْ أَبْلَغِ مَا يَنْهَى بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ قَبْلُ قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالْمَوَانِعِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ مُنْتَهُونَ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنْ لَمْ تُوعَظُوا وَلَمْ تُزْجَرُوا؟ . قَالَ هَذَا بَعْدَ بَيَانِ مَا أَكَّدَ اللهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ سَبْعَةِ وُجُوهٍ وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ الْمُؤَكِّدَاتِ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنُوهَا بِهِ وَأَوْسَعَ فَنَقُولُ: (أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ رِجْسًا، وَكَلِمَةُ الرِّجْسِ تَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى الْقُبْحِ وَالْخُبْثِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْأَوْثَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ أَسْوَأُ مَفْهُومًا مِنْ كَلِمَةِ الْخَبِيثِ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: " الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ " وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ " إِلَخْ، وَلَيْسَ فِيهِ تَرَكُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ عَلَّمَ السُّيُوطِيُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي جَامِعِهِ بِالصِّحَّةِ.

(ثَانِيهَا) أَنَّهُ صَدَّرَ الْجُمْلَةَ: بِـ (إِنَّمَا) الدَّالَّةِ عَلَى الْحَصْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَتِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَّا رِجْسًا فَلَا خَيْرَ فِيهَا الْبَتَّةَ. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْوَثَنِيَّةِ وَخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا حَدِيثَ " مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ، ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ. (رَابِعُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الشُّرُورِ وَالطُّغْيَانُ وَهَلْ يَكُونُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا مُوجِبًا لِسَخَطِ الرَّحْمَنِ. (خَامِسُهَا) أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِتَرْكِهِمَا مِنْ مَادَّةِ الِاجْتِنَابِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّرْكِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالتَّرْكِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَتْرُوكِ بِأَنْ يَكُونَ التَّارِكُ فِي جَانِبٍ بَعِيدٍ عَنْ جَانِبِ الْمَتْرُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ نَرَى الْقُرْآنَ لَمْ يُعَبِّرْ بِالِاجْتِنَابِ إِلَّا عَنْ تَرْكِ الشِّرْكِ وَالطَّاغُوتِ الَّذِي يَشْمَلُ الشِّرْكَ وَالْأَوْثَانَ وَسَائِرَ مَصَادِرِ الطُّغْيَانِ، وَتَرْكِ الْكَبَائِرِ عَامَّةً، وَقَوْلِ الزُّورِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِهَا، قَالَ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (22: 30) وَقَالَ: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (16: 36) كَمَا قَالَ: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) (39: 17) وَقَالَ: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (53: 32) . (سَادِسُهَا) أَنَّهُ جَعَلَ اجْتِنَابَهُمَا مَعَدًّا لِلْفَلَاحِ، وَمَرْجَاةً لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَهُمَا مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْخَيْبَةِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (سَابِعُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهُمَا شَرُّ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَنْفُسِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ وَأُمَّ الْفَوَاحِشِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ امْرَأَةً فَاسِقَةً رَاوَدَتْ رَجُلًا صَالِحًا عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فَسَقَتْهُ الْخَمْرَ فَزَنَى بِهَا، وَأَغْرَتْهُ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ، حَكَوْا هَذِهِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُسَّاقِ فِي مِصْرَ: إِنَّهُ لَوْلَا السُّكْرُ لَقَلَّ أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْبَغَايَا الْعُمُومِيَّاتِ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ هَاتَيْنِ مَفْسَدَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ، لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ غَيْرُ الْبَغْضَاءِ فَيَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ. (تَاسِعُهَا وَعَاشِرُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا صَادَّيْنِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهُمَا رُوحُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ، وَزَادُ الْمُؤْمِنِ وَعَتَادُهُ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الصَّدَّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ غَيْرُ الصَّدِّ عَنِ الصَّلَاةِ. (حَادِي عَشَرَهَا) الْأَمْرُ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَقْرُونِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَهَلْ

92

يَصِحُّ الْفَصْلُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ؟ وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثُ مُؤَكِّدَاتٍ أُخْرَى نُورِدُهَا مَعْدُودَةً مَعَ مَا قَبْلَهَا: (ثَانِي عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أَيْ أَطِيعُوا اللهَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ اجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا تَجْتَنِبُونَ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ أَوْ أَشَدَّ اجْتِنَابًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. (ثَالِثَ عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاحْذَرُوا) أَيِ احْذَرُوا عِصْيَانَهُمَا أَوْ مَا يُصِيبُكُمْ إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُمَا مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا يَضُرُّكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، قَالَ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (24: 63) . (رَابِعَ عَشَرَهَا) الْإِنْذَارُ وَالتَّهْدِيدُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) أَيْ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ دِينَنَا وَشَرْعَنَا، وَقَدْ بَلَّغَهُ وَأَبَانَهُ وَقَرَنَ حُكْمَهُ بِأَحْكَامِهِ وَعَلَيْنَا نَحْنُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ وَسَتَرَوْنَهُ فِي إِبَّانِهِ، كَمَا قَالَ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (13: 40) وَإِنَّمَا الْحِسَابُ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ. لَمْ يُؤَكَّدْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا قَرِيبًا مِنْهُ، وَحِكْمَتُهُ شِدَّةُ افْتِتَانِ النَّاسِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا الْمَيْسِرُ، وَتَأَوُّلُهُمْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي تُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، كَمَا أَوَّلَتِ الْيَهُودُ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَكَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ شُرْبَ بَعْضِ الْخُمُورِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، إِذْ قَالُوا هَذَا نَبِيذٌ لَا يُسْكِرُ إِلَّا الْكَثِيرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَحَلَّ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ خَمْرٌ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ شُرْبِهِ إِلَّا السُّكْرُ. بَلْ تَجَرَّأَ بَعْضُ غُلَاةِ الْفُسَّاقِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ اللهَ قَالَ: (فَاجْتَنِبُوهُ) وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّمْتُهُ فَاتْرُكُوهُ، وَقَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وَلَمْ يَقُلْ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَنَا هَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ فَقُلْنَا: لَا، ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا وَيَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) (7: 51) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغُلُوَّ قَلَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ فَمَا قَالَهُ تَعَالَى أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِهِ مِمَّا قَالُوا. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ قَالُوا انْتَهَيْنَا رَبَّنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: انْتَهَيْنَا أَكَّدُوا الِاسْتِجَابَةَ وَالطَّاعَةَ كَمَا أَكَّدَ عَلَيْهِمُ التَّحْرِيمَ، وَكَانَ فِيهِمُ الْمُدْمِنُونَ لِلْخَمْرِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُهَا،

فَكَانَ أَشَدَّ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَانُوا قَدِ اجْتَهَدُوا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ فِيهَا ظَنِّيَّةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْحَقُّ الْيَقِينُ وَالتَّحْرِيمُ الْجَازِمُ انْتَهَوْا وَأَهْرَقُوا جَمِيعَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخُمُورِ فِي الشَّوَارِعِ وَالْأَزِقَّةِ حَتَّى ظَلَّ أَثَرُهَا وَرِيحُهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَقَدْ قَدَحَ بَعْضُ أَذْكِيَائِهِمْ زِنَادَ الْفِكْرِ عَسَى أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى شَيْءٍ يَجِدُونَ فِيهِ بَعْضَ الرُّخْصَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنَّ مَنْ قَدْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، كَسَيِّدِ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ عَمِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مَاتُوا وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى شُرْبِهَا، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ شَيْئًا، لِأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ الْعَمَلَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِهَا وَهَاكَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ زَائِدًا عَلَى مَا أَوْرَدْنَا مِنْ قَبْلُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَامَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ اللهَ يُعَرِّضُ عَنِ الْخَمْرِ تَعْرِيضًا لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ سَيَنْزِلُ فِيهَا أَمْرٌ " أَيْ قَاطِعٌ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَنْزَلَ إِلَيَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْهَا ". وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِ اللهَ عَرَّضَ بِالْخَمْرِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلِيَنْتَفِعْ بِهِ، فَلَمْ نَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ، قَالَ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فَسَفَكُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبَّكُمْ يُقَدِّمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ النِّسَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ رَبَّكُمْ يُقَرِّبُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ " ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) (2: 219) الْآيَةَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا وَقَالَ آخَرُونَ: لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ فِيهِ إِثْمٌ ثُمَّ نَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (4: 34) الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَشْرَبُهَا وَنَجْلِسُ فِي بُيُوتِنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الْآيَةَ، فَنَهَاهُمْ فَانْتَهَوْا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " إِنَّ اللهَ قَدْ

تَقَرَّبَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حَرَّمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَعُلِمَ أَنَّهَا تُسَفِّهُ الْأَحْلَامَ وَتُجْهِدُ الْأَمْوَالَ وَتَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ الْآيَاتِ، وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَقَالَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا، أَيْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأُولَى تَحْرِيمٌ ظَنِيٌّ، وَالثَّانِيةَ تَحْرِيمٌ قَطْعِيٌّ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، وَالثَّالِثَةَ قَطْعِيٌّ مُسْتَغْرِقٌ لِكُلِّ زَمَنٍ ". فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَغَيْرُهَا فِي التَّصْرِيحِ بِالْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصُّحْبَةَ كَافَّةً فَهِمُوا مِنْ آيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ تَحْرِيمًا بَاتًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْكِرَ شَارِبَهُ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِيهَا بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ تَعْرِيضًا، فَجَعَلَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ تَصْرِيحًا أَوْ أَنَّ آيَتِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ كَانَتَا مُقَدِّمَةً لِتَحْرِيمِهَا أَوْ مُفِيدَتَيْنِ لَهُ إِفَادَةً ظَنِّيَّةً، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْرَقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخُمُورِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا مِنْ خَمْرِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ بِتَأَوُّلٍ وَلَا رُخْصَةٍ. نَعَمْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، وَقَدْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حُكْمُهَا إِذَا صَارَ يُسْكِرُ كَثِيرُهَا أَوْ مُطْلَقًا، قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعِ وَهُوَ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرِ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنِ الْجِعَةِ " رَوَاهُ دَاوُدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَالْجِعَةُ بِكَسْرٍ فَفَتَحٍ نَبِيذُ الشَّعِيرِ وَتُسَمَّى بِالْإِفْرِنْجِيَّةِ " بِيرَا ". وَالْأَصْلُ فِي النَّبِيذِ أَنْ يُنْقَعَ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَنْضَحَ، فَيُشْرَبَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يُتْرَكَ لِيَخْتَمِرَ وَيَصِيرَ سَكَرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

نَهَى عَنِ النَّبْذِ فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُسْرِعُ إِلَيْهَا الِاخْتِمَارُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَوَاءِ فِيهَا كَالْحَنْتَمِ، أَيْ جِرَارِ الْفَخَّارِ الْمَطْلِيَّةِ، وَالنَّقِيرِ أَيْ جُذُوعِ النَّخْلِ الْمَنْقُورِ، وَالْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ أَيِ الْمَطْلِيُّ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ، وَالدُّبَّاءُ، وَهُوَ الْقَرْعُ الْكَبِيرُ ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحَلُّ وَلَا تُحَرَّمُ، وَأَذِنَ بِالنَّبْذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيَسْقِي الْخَادِمَ أَوْ يُهَرَاقُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، أَيْ يَصِيرُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَظِنَّةَ الْإِسْكَارِ، فَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا النَّبِيذُ غَالِبًا وَفِي آخِرِهَا كَانَ يَحْتَاطُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَشْرَبُهُ، بَلْ وَلَا يَسْقِيهِ الْخَادِمَ أَوْ يُرِيقُهُ لِئَلَّا يَخْتَمِرَ وَيَشْتَدَّ فَيَصِيرَ خَمْرًا، وَالْعِبْرَةُ بِالْإِسْكَارِ وَعَدَمِهِ. (فَائِدَةٌ تَتْبَعُهَا قَاعِدَةٌ) عُلِمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَتَرَكَهَا، وَلَكِنَّ عُشَّاقَهَا وَجَدُوا مِنْهَا مَخْرَجًا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْذُرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا فِيهِ، وَقَدْ يُجِيزُهُ لَهُ إِذَا كَانَ قَاصِرًا عَلَيْهِ " أَجْنَبَ رَجُلٌ فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَبْتَ " وَ " أَجْنَبَ آخَرُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَهُ لَهُ كَالْأَوَّلِ، قَالَ لَهُ مَا قَالَ لِلْأَوَّلِ: أَصَبْتَ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَجَازَ عَمَلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِذْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ وَصَلَّى إِمَامًا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (2: 195) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ بِالْجَنَابَةِ وَفَقْدِ الْمَاءَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِنْ تِلْكَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي كَلَّفَهُ جَمِيعَ النَّاسِ هُوَ مَا كَانَ نَصًّا صَرِيحًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِرَاقَةَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ الصَّرِيحَةُ بِذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعْرِيضِ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ التَّصْرِيحِ، إِلَّا أَنَّ التَّعْرِيضَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَهِمَهُ خَاصَّةً، وَالتَّصْرِيحُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ سَبَبَ مَا كَانَ مِنْ تَسَاهُلِ السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَعَدَمِ تَضْلِيلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِهِ، وَتَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِهِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ لَا يُعَدُّ شَرْعًا يُعَامَلُ النَّاسُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ مَنْ ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ مِنْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَإِنَّ فِي تَعْرِيضِ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثُ تَتِمَّةً فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101)

93

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وَرَدَ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ اسْتَشْكَلُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ حَالَ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ غَزْوَتَيْ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَكَانَ أَمْرُ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتُوا وَعَنِ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ آيَةُ الْقَطْعِ بِالتَّحْرِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَتْمًا لِلسِّيَاقِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ مَنْ بُدِئَ بِهِمْ وَالرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ عَلَى الْأَوَّلِ. الطَّعَامُ مَا يُؤْكَلُ، وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ) مَا يُدْرَكُ بِذَوْقِ الْفَمِ مِنْ حَلَاوَةٍ وَمَرَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ: طَعِمَ (كَعَلِمَ وَغَنِمَ) فُلَانٌ بِمَعْنَى أَكَلَ الطَّعَامَ وَطَعِمَ الشَّيْءَ يَطْعَمُهُ ذَاقَ طَعْمَهُ أَوْ ذَاقَهُ فَوَجَدَ طَعْمَهُ مِنْهُ، اسْتُعْمِلَ فِي ذَوْقِ طَعَامِ الشَّيْءِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ يُؤْخَذُ قَلِيلٌ مِنْهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) (33: 53) أَيْ أَكَلْتُمْ، وَمِنَ الثَّانِي: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (2: 249) أَيْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ مَائِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الطَّعْمُ بِالْفَتْحِ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ، يُقَالُ: طَعْمُهُ مُرٌّ أَوْ حُلْوٌ، وَقَالَ طَعِمَ يَطْعَمُ طُعْمًا (بِالضَّمِّ) فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ أَوْ ذَاقَ مِثْلَ غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فَهُوَ غَانِمٌ فَالطُّعْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: فَأَمَّا بَنُو عَامِرٍ بِالنِّسَارِ ... غَدَاةَ لَقُونَا فَكَانُوا نَعَامًا نَعَامًا بِخَطْمَةِ صُعْرِ الْخُدُو ... دِ، لَا تَطْعَمُ الْمَاءَ إِلَّا صِيَامًا شَبَّهَهُمْ بِالنَّعَامِ الَّتِي لَا تَرِدُ الْمَاءَ وَلَا تَذُوقُهُ، وَصَرَّحَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِأَنَّ طَعِمَ بِمَعْنَى أَكَلَ الطَّعَامَ، وَأَنَّهُ إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى الذَّوْقِ جَازَ فِيمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَاسْتَشْهَدَ الْمُفَسِّرُونَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا. النُّقَاخُ بِالضَّمِّ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَالْبَرْدُ النَّوْمُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَا تَرَى كَيْفَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْبَرْدَ وَهُوَ النَّوْمُ، وَيُقَالُ: مَا ذُقْتُ غِمَاضًا. اه. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ (أَيْ طَعِمَ الْمَاءَ) بِمَعْنَى شَرِبَهُ وَاتَّخَذَهُ طَعَامًا فَقَبِيحٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْمَقَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: " زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ " فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَذِّي بِخِلَافِ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَلَا يَخْدِشُ هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ

الْكُوفَةِ وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَطْعِمُونِي مَاءً، فَعَابَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ ذَلِكَ وَهَجَوْهُ بِهِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى شِدَّةِ جَزَعِهِ، وَقِيلَ فِيهِ: بَلَّ الْمَنَابِرَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ وَهَلٍ ... وَاسْتَطْعَمَ الْمَاءَ لَمَّا جَدَّ فِي الْهَرَبِ وَأَلْحَنُ النَّاسِ كُلِّ النَّاسِ قَاطِبَةً ... وَكَانَ يُولَعُ بِالتَّشْدِيقِ فِي الْخُطَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا عِيبَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ جَزَعٍ، فكَانَ مَظِنَّةَ الْوَهْمِ وَعَدَمَ قَصْدِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا فَوَقَعَ مَثَلُهُ فِي كَلَامِهِمْ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ: اه. أَقُولُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَلَى تَشْبِيهِ مَائِهَا بِالْغِذَاءِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا كَلَامُ خَالِدٍ فَهُوَ لَحْنٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَذِيقُونِي طَعْمَ الْمَاءِ مُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ أَوْ إِرَادَةِ تَرْطِيبِ اللِّسَانِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُجَفِّفُ الرِّيقَ، لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " طَعِمَ " فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الشُّرْبِ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِالتَّبَعِ لِمَعْنَى الْأَكْلِ تَغْلِيبًا لَهُ، فَيُجْعَلَ " طَعِمُوا " هُنَا بِمَعْنَى أَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، كَتَغْلِيبِ الْأَكْلِ فِي كُلِّ اسْتِعْمَالٍ فِي مِثْلِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا هُدِيَ إِلَى هَذَا الْإِيضَاحِ بِهَذَا التَّدْقِيقِ. وَالْجُنَاحُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ مُؤَاخَذَةٌ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا ... جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مَنْ تِرْبِهَا قَبْلُ. وَقَالَ ابْنُ حِلِّزَةَ: أَعَلَينَا جُنَاحُ كِندَةَ أَنْ يَغْـ ... نَمَ غَازِيهُمُ وَمِنَّا الْجَزَاءُ وَيُفَسِّرُونَهُ غَالِبًا بِالْإِثْمِ وَهُوَ مَا فِيهِ الضَّرَرُ، وَالضَّرَرُ يَكُونُ دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمُؤَاخَذَةِ. وَمَعْنَى الْآيِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ وَالشَّاهِدِينَ وَالْغَائِبِينَ (جُنَاحٌ) إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ (فِيمَا طَعِمُوا) أَكَلُوا مِنَ الْمَيْسِرِ أَوْ شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ فِيمَا مَضَى قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ثُمَّ حُرِّمَ (إِذَا مَا اتَّقَوْا) أَيْ إِذَا هُمُ اتَّقَوْا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَمِنْهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الْمُبَاحِ (وَآمَنُوا) بِمَا كَانَ قَدْ نَزَّلَهُ اللهُ تَعَالَى (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الَّتِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ (ثُمَّ اتَّقَوْا) مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ (وَآمَنُوا) بِمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (9: 124، 125)

وَكَمَا قَالَ: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) (74: 31) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، (ثُمَّ اتَّقَوْا) أَيِ ارْتَقَوْا عَنْ ذَلِكَ فَاتَّقُوا الشُّبَهَاتِ تَوَرُّعًا وَابْتِعَادًا عَنِ الْحَرَامِ، (وَأَحْسَنُوا) أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ بِأَنْ أَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرَائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ أَثَرًا مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مِنَ الْإِيقَاعِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا صِقَالُ الْقُلُوبِ وَزَيْتُهَا الَّذِي يَمُدُّ نُورَ الْإِيمَانِ. وَطَالَمَا اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ اشْتِرَاطَ مَا اشْتَرَطَتْهُ الْآيَةُ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ مِنَ التَّقْوَى الْمُثَلَّثَةِ وَالْإِيمَانِ الْمُثَنَّى وَالْإِحْسَانِ الْمُوَحَّدِ، وَطَالَمَا ضَرَبُوا فِي بَيْدَاءِ التَّأْوِيلِ وَاسْتِنْبَاطِ الْآرَاءِ، وَطَالَمَا رَدَّ بَعْضُهُمْ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدًا بِعَمَلٍ عَمِلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) فَقِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ بِشَرْطِ رَفْعِ الْجُنَاحِ، بَلْ لِبَيَانِ حَالِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، أَمَّا تَكْرَارُ التَّقْوَى فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ أَوْ لِلْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مَنْ يُتَّقَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، أَوْ بَعْضُهَا لِلثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ. وَغَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْهَا، وَبَيَانُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَازِمَةٌ لَهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُطَّرِدَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَهِيَ مُطَّرِدَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَنْقُصُ مِنْ دِينِ مَنْ صَدَّ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ وَمَنَاطُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِنَارَةِ الْقَلْبِ. (ثَانِيهُمَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَرَّضَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ بِمَا يُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَاللَّبِيبُ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ مُقَصِّرًا فِي اجْتِهَادِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِيثَارِ الْهَوَى أَوِ الشَّهْوَةِ. هَذَا وَجْهُ الشَّبَهِ، وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ عَنْهَا: أَنَّ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ، وَصَالِحُ عَمَلِهِ، وَعَمِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِحَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِي الظَّنِّيَّةِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ارْتَقَى إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ فَلَا يَحُولُ دُونَ تَزْكِيَةِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَصَقْلِهِ لِقَلْبِهِ،

مَا كَانَ قَدْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِثْمِ مَا حُرِّمَ بَعْدُ لِأَجْلِهِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الدِّينِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ أَحْيَانًا، إِذْ يَكْفِي التَّحْرِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَارًّا فِي الْغَالِبِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ الضَّرَرُ فِي الْجِسْمِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ ضَرَرِهِ بِقُوَّةِ مِزَاجِهِ إِذَا هُوَ لَمْ يُسْرِفْ فِيهِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ نَقْصُ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِهِ الذَّاتِيِّ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَكَثْرَةِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الضَّرَرُ كَنُقْطَةٍ مِنَ الْقَذَرِ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْإِيمَانِ وَرُسُوخَ الدِّينِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ يُنَافِي الْإِقْدَامَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنَ اللَّمَمِ وَالْهَفَوَاتِ الَّتِي لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، فَالْجُنَاحُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَرُ الْكَبِيرُ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهَا لَيْسَ فِيمَا عَسَاهُ يُصِيبُ مُرْتَكِبُهَا مِنْ ضَرَرِهَا الذَّاتِيِّ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَتَخَلَّفُ أَوْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَوْ مَغْلُوبًا، بَلِ الْجُنَاحُ وَالْخَطَرُ الدِّينِيُّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى تَرْجِيحُ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ حَفِظَ اللهُ مِنْهُ مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، بَلْ حَفِظَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ الِاجْتِمَاعِيِّ الدُّنْيَوِيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْرِفُوا فِيهَا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُبْقِي لَهُمْ إِلَّا وَقْتًا ضَيِّقًا لِشُرْبِهَا، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَنْفَسَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ الصَّحَابَةِ عَامَّةً: كَانَ يَكَادُ الشِّقَاقُ يَقَعُ بَيْنَهُمْ كَمَا مَرَّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَغْلِبَهُ الْإِيمَانُ، فَكَانُوا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) فَالْمَعْصِيَةُ لَا تُفْسِدُ الرُّوحَ إِلَّا إِذَا كَانَ فَاعِلُهَا غَيْرَ مَيَّالٍ بِحُرْمَةِ الشَّرْعِ، وَلَا يَكُونُ تَأْثِيرُهَا الذَّاتِيُّ قَوِيًّا إِلَّا بِالْإِسْرَافِ فِيهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا. وَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَفَلْسَفَةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَنِ السَّبَبِ فِي سُوءِ تَأْثِيرِ الزِّنَا فِي إِفْسَادِ أَخْلَاقِ فُسَّاقِ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِذْلَالِ أَنْفُسِهِمْ وَإِضْعَافِ بَأْسِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي الْيَابَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا التَّأْثِيرِ، فَأَجَبْتُهُ عَلَى الْفَوْرِ: إِنَّ الْيَابَانِيِّينَ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِحُرْمَةِ الزِّنَا كَالْمِصْرِيِّينَ، فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ بَدَنِيٌّ، وَأَقَلُّهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ ضَرَرٌ رُوحِيٌّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ رُوحِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُونَ دِينًا وَعُرْفًا بِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ، فَهُمْ بِذَلِكَ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى دَنِيئَةِ الْفُحْشِ،

وَالِاتِّصَافِ بِالْقُبْحِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَهَانَةِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ فَأُعْجِبَ بِالْجَوَابِ وَأَذْعَنَ لَهُ. (شُبْهَةٌ لِعُشَّاقِ الْخَمْرِ وَدَحْضُهَا) . قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَمَا تَكُونُ مُوقِعَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ قَالُوا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ عَمِلُوا " كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (2: 143) لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) وَلَا شَكَّ أَنَّ (إِذَا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأَئِمَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: عَنْ كَلِمَةِ " إِذَا " لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي، فَجَوَابُهُ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ؟ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا "؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (الْصَوَابُ الْآيَةَ) وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمَّ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ: انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِحُرُوفِهِ. وَأَقُولُ إِنَّ جَوَابَهُ ضَعِيفٌ فِيمَا أَقَرَّهُ وَفِيمَا رَدَّهُ إِلَّا نَقْلَ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ غَيْرَ دَقِيقٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ حَتَّى إِنَّ عِبَارَتَهُ نَفْسَهَا ضَعِيفَةٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى احْتِجَاجِ أَصْحَابِ هَذَا التَّحْرِيفِ: (أَوْلًا) إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) إِلَخْ، لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمُ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عَهْدِهِمْ وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَهَمُّ فَائِدَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ خَاصَّةً. (ثَانِيًا) إِنَّ قَوْلَ الْمُشْتَبِهِينَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الَّذِينَ مَاتُوا لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا " بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ لَا عَلَى نَفْيِ

حَدِيثٍ مَضَى، فَمَعْنَاهُ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مِنْ قَبْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَنَقَلْنَاهُ عَنِ الْكَشَّافِ فَهُوَ يَعُمُّ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلَ وَمِثَالُهُ: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) (12: 38) وَيُشْبِهُ الْعِبَارَةَ الَّتِي قَالُوهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) (33: 38) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهَا لِنَفْيِ الْحَرَجِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بَلْ تَعُمُّ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا. (ثَالِثًا) لَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَأَخَذَ بِهِ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَهُمْ. نَعَمْ إِنَّهُ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لَكَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ تَضْيِيقٌ وَإِعْنَاتٌ فِيمَا أَكَلُوا (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ أَوْ شَرِبُوا) مِنَ اللَّذَائِذِ كَمَا تَوَهَّمَ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي النُّسُكِ إِذَا كَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِعُرَى التَّقْوَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ مُتَحَلِّينَ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مُحْسِنِينَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ; كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إِنَّمَا الْجُنَاحُ الْحَرَجُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يُسْرِفُونَ فِيهِمَا، وَيَجْعَلُونَهَا أَكْبَرَ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَلَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُمَا، فَالْعِبْرَةُ فِي الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ فَذَلِكَ هُوَ النُّسُكُ كُلُّهُ، لَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَعْذِيبِ النُّفُوسِ وَإِرْهَاقِهَا، وَلَعَلَّ شَيْخَنَا لَوْ فَسَّرَ الْآيَةَ لَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَأَنَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا إِذَا صَحَّ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي الدِّينِ هُوَ التَّقْوَى لَا أَمْرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُحَرَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا لِضَرَرِهِ. وَإِذَا لَمْ يُرَاعَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِثْمٌ فِيمَا يَشْرَبُونَ مِنَ الْخَمْرِ " بَعْدَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا وَتَأْكِيدِهِ بِمَا فِي سِيَاقِ آيَاتِ التَّحْرِيمِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (طَعِمُوا) لَا مَدْلُولَ لَهُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فِي الْمَاضِي أَوْ تَذَوُّقُ كُلِّ مَا لَهُ طَعْمٌ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ يُقَدَّمُ لِلْفَمِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَيْضًا، وَلَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ مُتَّصِلًا بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَكَّدِ، أَوْ تَخْصِيصًا لَهُ بِغَيْرِ أَهْلِ التَّقْوَى الْكَامِلَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ إِذَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ تُفِيدُ التَّكْرَارَ الَّذِي يَعُمُّ الْمُسْتَقْبَلَ، بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّمَا وَقَعَ كَانَ حُكْمُهُ كَذَا فَلِمَ

لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ رَفْعَ الْحَرَجِ وَالْمُؤَاخَذَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِ إِذَا شَرِبَ قَلِيلًا مِنَ الْخَمْرِ بِالشُّرُوطِ الشَّدِيدَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِيهَا، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ التَّقْوَى مِنْهَا أَلَّا يُسْكِرَ وَلَا يَكُونَ بِحَيْثُ تُوقِعُ الْخَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بُغْضًا وَلَا عَدَاوَةً، وَلَا بِحَيْثُ تَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ؟ قُلْتُ: إِنَّ الطُّعْمَ فِي اللُّغَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ الْقَلِيلِ وَلَا الْكَثِيرِ بَلْ عَلَى ذَوْقِ الْمَشْرُوبِ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، أَوْ إِدْرَاكِ طَعْمِهِ مِنْ ذَوْقِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا حَرَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَرَى الْفَرْقَ الْجَلِيَّ بَيْنَ الشُّرْبِ الْكَثِيرِ وَالشُّرْبِ الْقَلِيلِ وَبَيْنَ طَعَامِ الْمَاءِ بِتَذَوُّقِهِ فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: (قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) (2: 249) فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: الْأُولَى الْبَرَاءَةُ مِمَّنْ شَرِبَ حَتَّى رَوِيَ وَالثَّانِيَةُ الِاتِّحَادُ التَّامُّ بِمَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَهُ الْبَتَّةَ، وَالثَّالِثَةُ بَيْنَ بَيْنَ، وَهِيَ لِمَنْ أَخَذَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَكَسَرَ بِهَا سُورَ الظَّمَأِ وَلَمْ يَكْرَعْ فَيَرْوِهِ، هَذَا مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص: 386 وَمَا بَعْدَهَا ج 2ط الْهَيْئَةِ) وَهُوَ مَا تُغَطِّيهِ اللُّغَةُ وَجَرَى عَلَيْهِ جَهَابِذَتُهَا فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَالرَّازِيُّ والْآلُوسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) اسْتَثْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ خَلَطَ، وَأَدْخَلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا، تَبَعًا لِلرِّوَايَاتِ أَوْ لِاصْطِلَاحَاتِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ مَنْ حَلِفَ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ مَعْنَى طَعِمُوا فَلَا فَائِدَةَ مِنْ إِبَاحَةِ تَذَوُّقِ طَعْمِ الْخَمْرِ بِمُقَدِّمِ الْفَمِ لِأَحَدٍ، فَيَكُونُ لَغْوًا يُنَزَّهُ كِتَابُ اللهِ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ نَصُّهَا: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ أَوْ مَا لَا يُسْكِرُ وَلَا يَضُرُّ مِنَ الْخَمْرِ إِذْ مَا اتَّقَوْا إِلَخْ، وَلَكِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِفَهْمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ بَلْ صَحَّ عَنْهُمْ ضِدُّهُ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ " الْفَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَقِيلَ: إِنَّ سَاكِنَ الرَّاءِ مِكْيَالٌ آخَرُ يَسَعُ 120 رَطْلًا، وَرُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا أَبُو عُثْمَانَ عُمَرُ أَوْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ قَاضِي مَرْوٍ التَّابِعِيُّ، فَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ، وَنُقِلَ فِي أَصْلِهِ تَوْثِيقُهُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حِبَّانَ.

وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " وَرَوَى مِثْلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، فِي إِسْنَادِهِ دَاوُدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ لَيْسَ بِالْمَتِينِ، وَسُئِلَ عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ فَقَالَ: ثِقَةٌ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ " وَأَكْثَرُ رِجَالِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدِ احْتَجَّ بِهِمُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمُ الضِّحَاكُ بْنُ عُثْمَانَ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَيْخُ النَّسَائِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمَّارٍ نَزِيلُ الْمَوْصِلِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ: ثِقَةٌ حَافِظٌ فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعُونٌ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ مِثْلِ الْعَيْنِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَحْرِيمُ قَلِيلِ كُلِّ مُسْكِرٍ وَكَثِيرِهِ صَحَّ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْحَافِظُ النَّسَائِيُّ بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ سَعْدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُخَادِعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَحْلِيلِهِمْ آخِرَ الشَّرْبَةِ وَتَحْلِيلِهِمْ مَا تَقَدَّمَهَا الَّذِي يُشْرَبُ فِي الْفَرَقِ قَبْلَهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ السُّكْرَ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَحْدُثُ عَنِ الشَّرْبَةِ الْآخِرَةِ دُونَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ بَعْدَهَا وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ اه. أَيْ أَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا يَشْرَبُ لَا مِنَ الشَّرْبَةِ الَّتِي تَعْقُبُهَا النَّشْوَةُ. (شُبْهَةٌ أُخْرَى عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَعِلَّةِ تَحْرِيمِهِ) . وَيُعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَسَادُ قَوْلِهِ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَمَتَى فُقِدَتِ الْعِلَّةُ كَانَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ: أَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ وَأَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ ذَرَائِعَ الْفَسَادِ الثَّابِتَةِ فِي الشَّرِيعَةِ تَقْتَضِي مَنْعَ قَلِيلٍ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِكَثِيرِهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا مَا يُشَابِهُهُمَا فِي ذَلِكَ. بَيِّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ التَّعْلِيلَ لِكَوْنِ قَلِيلِ الْخَمْرِ يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهَا كَذَلِكَ الْمَيْسِرِ وَكَونِ مُتَعَاطِيهِمَا قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِمَا (ص267 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ) وَلِهَذَا يَقِلُّ أَنْ يَتُوبَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ وَازِعِ الدِّينِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ يُعَارِضُهُ تَأْثِيرُ سُمِّ الْخَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى لُغَةً " الْغَوْلَ " بِالْفَتْحِ وَاصْطِلَاحًا الْكُحُولَ فِي الْعَصَبِ الدَّاعِي بِطَبْعٍ إِلَى مُعَاوَدَةِ الشُّرْبِ، وَهُوَ أَلَمٌ يَسْكُنُ بِالشُّرْبِ مُؤَقَّتًا ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ أَوْ أَشَدَّ.

وَمَتَى تَعَارَضَتِ الِاعْتِقَادَاتُ وَالْوُجْدَانَاتُ الْمُؤْلِمَةُ أَوِ الْمُسْتَلَذَّةُ فِي النَّفْسِ رُجِّحَتْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى، وَإِنَّمَا يُرَجَّحُ الِاعْتِقَادُ عِنْدَ الْخَوَاصِّ وَهُمْ أَصْحَابُ الدَّيْنِ الْقَوِيِّ وَالْإِيمَانِ الرَّاسِخِ، وَأَصْحَابُ الْحِكْمَةِ وَالْعَزِيمَةِ الْقَوِيَّةِ، وَهَذَا الْأَلَمُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَدْ ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّجْرِبَةِ فِي أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ: وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا. وَإِنَّنَا نَرَى جَمِيعَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَدَنِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَأَكْثَرَ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تُنْشَرُ فِيهَا الْجَرَائِدُ وَالْمَجَلَّاتُ الْعِلْمِيَّةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْخَمْرَ شَدِيدَةُ الضَّرَرِ فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَآدَابِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَمْ نَرَ هَذَا الِاعْتِقَادَ بَاعِثًا عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنْهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْأَطِبَّاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَضَارِّهِمْ كَثِيرًا مَا يُعَاقِرُونَهَا وَيُدْمِنُونَهَا، وَإِذَا عُذِلُوا فِي ذَلِكَ أَجَابُوا بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ لِسَانِ الْمَقَالِ بِمَا أَجَابَ بِهِ طَبِيبٌ عَذَلَهُ خَطِيبٌ عَلَى أَكْلِهِ طَعَامًا غَلِيظًا كَانَ يَنْهَى عَنْ أَكْلِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ الْعَمَلِ فَكَمَا أَنَّكَ أَيُّهَا الْخَطِيبُ تَسْرُدُ عَلَى الْمِنْبَرِ خُطْبَةً طَوِيلَةً فِي تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالْخَوْضِ فِي الْأَعْرَاضِ ثُمَّ يَكُونُ جُلُّ سَمَرِكَ فِي سَهَرِكَ اغْتِيَابَ النَّاسِ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ الطَّبِيبُ فِي نَهْيِهِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَنْتَهِي عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسْتَلِذُّهُ وَأَنْكَرْتَ ذَلِكَ عَلَى طَبِيبٍ فَقَالَ: لَأَنْ أَعِيشَ عَشْرَ سِنِينَ مُنَعَّمًا آثَرُ عِنْدِي مِنْ عِشْرِينَ، قُلْتُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى قَوَاعِدِكُمْ وَتَجَارِبِكُمْ لِأَنَّ السُّكْرَ يُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ وَالْأَدْوَاءَ وَقَدْ يَعِيشُ صَاحِبُهَا طَوِيلًا وَصَحَّ قَوْلِي هَذَا فِيهِ. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ تَكُونَ قُوَّةُ تَأْثِيرِ الدِّينِ عَلَى أَشُدِّهَا وَأَكْمَلِهَا فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (57: 16) وَلِهَذَا تَرَكَ جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَمْرَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَلَكِنْ بَقِيَ مِنَ الْمُدْمِنِينَ مَنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى احْتِمَالِ آلَامِ الْخِمَارِ وَمَا يَعْتَرِي الشَّارِبَ بَعْدَ تَنَبُّهِ الْعَصَبِ بِنَشْوَةِ السُّكْرِ، مِنَ الْفُتُورِ وَالْخُمُودِ الدَّاعِي إِلَى طَلَبِ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ، فَكَانَ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ فَيُجْلَدُونَ وَيُضْرَبُونَ بِالْجَرِيدِ وَكَذَا بِالنِّعَالِ، ثُمَّ يَعُودُونَ رَاضِينَ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدُّ الَّذِي يُحَدُّونَهُ، أَوِ التَّعْزِيرُ الَّذِي يُعَزَّرُونَهُ، مُطَهِّرًا مِنَ الذَّنْبِ الدِّينِيِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لَا يُبَالُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَحَمَّلُوا فِي سَبِيلِ الْخَمْرِ مِنْ إِيذَاءٍ وَإِهَانَةٍ. وَقَدْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدْمِنِينَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمَّا أَبْلَى فِي وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ مَا أَبْلَى، وَكَانَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدِهِ، وَتَرَكَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِقَامَةَ الْحَدِّ

عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدِ اعْتَقَلَهُ لِسُكْرِهِ، تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَلَّلَ تَوْبَتَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ عَالِمًا أَنَّ الْعِقَابَ الشَّرْعِيَّ يُطَهِّرُهُ، وَإِذْ حَابَوْهُ بِهِ كَمَا ظَنَّ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سَعْدٌ عِقَابَهُ مُحَابَاةً كَمَا ظَنَّ بَلْ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي حَالِ الْغَزْوِ، وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالتَّعْزِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عِقَابَ السُّكْرِ تَعْزِيرٌ وَأَنَّ سَعْدًا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْكِ تَعْزِيرِ أَبِي مِحْجَنٍ بَعْدَ أَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ مَا أَبْلَى، وَلَا مُطَهِّرَ مِنَ الذَّنْبِ أَقْوَى مِنْ هَذَا. وَهَلْ يُوجَدُ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشَابِهُونَ أَبَا مَحْجَنٍ فِي قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَقُوَّةِ عَزِيمَتِهِ فِي دِينِهِ؟ (بَعْضُ الْعِبَرِ فِي الْخَمْرِ) . مِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ الَّذِي يَسْتَبِيحُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ دِينًا، وَيَسْتَحْسِنُونَهُ أَدَبًا وَمَدَنِيَّةً، وَيَصْنَعُونَ مِنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً يَرْبَحُونَ مِنْهُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّاتٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخُمُورِ وَالسَّعْيِ لِإِبْطَالِهَا، وَأَقْوَى هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ نُفُوذًا وَتَأْثِيرًا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ وَمِنْ عَجَائِبِ وَقَائِعِ تَقْلِيدِ مُتَفَرْنِجِي الْمُسْلِمِينَ لِلْإِفْرِنْجِ مَيْلُ بَعْضِهِمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ وَتَأْلِيفِ الْفُرُوعِ لَهَا فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا، وَمَا أَجْدَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْمَتْبُوعِينَ. وَمِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ فِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعُدُّونَ مِنْ مَنَافِعَ الْخَمْرِ الْحَمَاسَةَ فِي الْحَرْبِ وَقُوَّةَ الْإِقْدَامِ فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ السُّكْرَ يُضْعِفُ الْجُنُودَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْحَرْبِ وَاحْتِمَالِ أَثْقَالِهَا، فَقَرَّرَتْ بَعْضُ الدُّوَلِ إِبْطَالَ الْخُمُورِ الْوَطَنِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الرَّوَاجِ فِي بِلَادِهَا - وَأَكْثَرُ انْتِفَاعِهَا الْمَالِيِّ مِنْهَا - مُدَّةَ الْحَرْبِ، وَلَعَلَّ الدُّوَلَ كُلَّهَا تُجْمِعُ عَلَى هَذَا بَعْدُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَزَالُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ يَتَمَلْمَلُونَ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْخَمْرِ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) . (اسْتِدْرَاكَانِ) الِاسْتِدْرَاكُ الْأَوَّلُ: الْخَمْرُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يُخَمَّرُ تَخْمِيرًا، وَنَوْعٌ يُقَطَّرُ تَقْطِيرًا، وَأَقْوَى الْخُمُورِ سُمًّا وَأَشَدُّهَا ضَرَرًا مَا كَانَتْ مُقَطَّرَةً، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْأَشْرِبَةِ الرُّوحِيَّةِ وَهَذَا مِنْ مُرَجِّحَاتِ اخْتِيَارِنَا لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ مُخَامَرَتُهَا الْعَقْلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص257 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُرَجِّحُ الثَّانِي كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ لِإِمَامٍ مِنْ أَفْصَحِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مِمَّا اسْتَنْبَطَهُ الْمُوَلَّدُونَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ نَقْلَهُ أَصَحُّ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ وَكُتُبِ السُّنَنِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ مِمَّا يُعْصَرُ، أَيْ لَا مِمَّا يُنْبَذُ وَيُقَطَّرُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَحَدِ صَاحِبَيْ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّجْنِ (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) (12: 36) وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ وَسَخِيفٌ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنَ الْعَصِيرِ لَا يُنَافِي اتِّخَاذَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، دَعْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ حِكَايَةٌ عَنْ أَعْجَمِيٍّ فِي بَيَانٍ رَآهُ فِي نَوْمِهِ مِمَّا هُوَ مَعْهُودٌ فِي بِلَادِهِ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا صِنَاعَتِهِمْ وَصِنَاعَةِ غَيْرِهِمْ لِلْخَمْرِ، وَبِالْأَوْلَى لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ. وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا طُبِخَ مِنَ الْعَصِيرِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ أَوْ بَعْدَهُ، هَلْ يُسَمَّى خَمْرًا أَمْ لَا؟ كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى الْكَثِيرِينَ أَمْرُ النَّبِيذِ، مِنَ الْمَطْبُوخِ الطِّلَاءِ وَهُوَ الدِّبْسُ، وَيُسَمَّى الْمُثَلَّثُ إِذِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَغْلِيَ الْعَصِيرُ حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ، وَمِنْهُ الْبَاذَقُ وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخٍ حَتَّى صَارَ شَدِيدًا، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ وَسَمَّاهُ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَإِنَّهُ مُسْكِرٌ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الطَّبْخِ مُسْكِرٌ فَلَا يُزِيلُ الطَّبْخُ الْقَلِيلُ إِسْكَارَهُ، أَوْ يَتْرُكُ فِيهِ الْمَاءَ بَعْدَ طَبْخِهِ فَيَخْتَمِرُ كَمَا يَخْتَمِرُ الْعَسَلُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالدِّبْسِ، وَلَوْ جَاءَ الْإِسْكَارُ مِنْ طَرِيقَةِ الطَّبْخِ لَكَانَ نَوْعًا ثَالِثًا مِنَ الْخَمْرِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْبَاذَقِ فَقَالَ: " سَبَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ " أَيْ إِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا يُسْكِرُ مِنَ الشَّرَابِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ، فَالْعَسَلُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ يُمْزَجُ بِالْمَاءِ وَيُتْرَكُ حَتَّى يَخْتَمِرَ وَيُسْكِرَ فَيَصِيرَ خَمْرًا وَكُلٌّ مِنْ عَصْرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ الزَّبِيبِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ، فَإِذَا اخْتَمَرَ وَصَارَ مُسْكِرًا حَرُمَ قَطْعًا وَسُمِّيَ خَمْرًا، لَا عَصِيرًا وَلَا نَبِيذًا، وَمَتَى عُلِمَ أَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا حَرُمَ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: " إِنَّ الْخَمْرَ هُوَ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ " إِطْلَاقًا لِمَا هُوَ الْغَالِبُ أَوِ الْأَهَمُّ فِي عَصْرِ تَدْوِينِ اللُّغَةِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ وَلَا تَسْمِيَتُهُمْ لِبَعْضِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهَا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى أَنْ يُطْلِقُوا اسْمَ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا ابْنُ سِيدَهْ نَقَلَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقَ فِي الْمُخَصَّصِ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الْعَيْنِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ بِحَسَبِ صِفَاتِهَا، ثُمَّ عَقَدَ بَابًا لِلْأَنْبِذَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْحَبِّ وَالْعَسَلِ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: " أَبُو حَنِيفَةَ (أَيِ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ) : فَأَمَّا خُمُورُ الْحُبُوبِ فَمَا اتُّخِذَ مِنَ الْحِنْطَةِ فَهُوَ الْمِزْرُ، وَمَا اتُّخِذَ مِنَ الشَّعِيرِ فَهُوَ الْجِعَةُ، وَمِنَ الذُّرَةِ السُّكْرُكَةُ والسُّقْرُقَةُ عَجَمِيٌّ، أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُبَيْرَاءُ السُّكْرُكَةُ إِلَى أَنْ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْبِتْعُ ضَرْبٌ مِنْ شَرَابِ الْعَسَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا " أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي بَابِ الْخَمْرِ: " أَبُو عَلِيٍّ عَنِ الْعَسْكَرِيِّ: الْبِتْعُ: الْخَمْرُ يَمَانِيَةٌ، وَقَدْ بَتَعْنَا بَتْعًا خَمَّرْنَا خَمْرًا، الْبَتَّاعُ الْخَمَّارُ " اه.

(فَائِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ) ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ أَنَّ أَهْلَ بِلَادِ الشَّامِ يُسَمَّوْنَ النَّبِيذَ، نَقُوعًا " وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ نَقِيعٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْمُخَصَّصِ نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ: النَّقُوعُ وَالنَّقِيعُ (بِفَتْحِ النُّونِ فِيهَا) شَيْءٌ يُنْقَعُ فِيهِ الزَّبِيبُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ يُصَفَّى مَاؤُهُ وَيُشْرَبُ. (الِاسْتِدْرَاكُ الثَّانِي) يَحْتَجُّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ هِيَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ تُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ مُسَلَّمَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ، وَفِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ (مِنَ الْكُوفِيِّينَ) لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ الَّذِينَ لَا خِلَافَ فِي إِجْمَاعِهِمْ هُمُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ كِبَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِهِمْ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَمْرِ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، أَيْ خَالَطَهُ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِ إِدْرَاكَهُ وَحُكْمَهُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْمُخَامِرُ، وَمَنْ قَالَ: خَامَرَهُ غَطَّاهُ; فَقَدْ رَاعَى أَصْلَ مَعْنَى خَمَرَ الشَّيْءَ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ قَوْلَهَ هَذَا، وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَفْسِيرٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ بِرَأْيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ بِاعْتِبَارِ فَهْمِهِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قُلْنَا: إِذَا كَانَ هَذَا مَا فَهِمَهُ هَذَا الْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِيهِ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ لِنَصٍّ شَرْعِيٍّ تَفْسِيرًا أَصَحَّ وَأَقْوَى مِنْ تَفْسِيرٍ يُصَرِّحُ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِنْبَرِ الرَّسُولِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَعَامَّتِهِمْ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعٌ مُسْتَنِدٌ أَىْ دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ؟ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ خَمْرًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُقِرِّينَ بِدَلِيلِهِ وَبِالْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذِ السُّكُوتِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ مُجْتَهَدِي عَصْرِهِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُمْ مُوَافَقَةٌ لَهُ وَلَا إِنْكَارٌ وَإِنَّ إِقْرَارَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ الْقَوْلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْقَلَ وَيَشِيعَ، وَأَنْ يُرَاجِعَهُ فِيهِ الْبَعِيدُ إِذَا بَلَغَهُ كَالْقَرِيبِ، وَلَوْ رَاجَعَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ لَعَادَ إِلَى ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ مَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مَا كَانَ أَرَادَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَحْدِيدِ الْمَهْرِ، ثُمَّ إِنَّ إِجْمَاعَهُمُ الْعَمَلِيَّ عَلَى تَرْكِ جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ مُنْذُ نَزَلَتِ الْآيَةُ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا إِجْمَاعًا فَلَا سَبِيلَ إِلَى ثَبَاتِ إِجْمَاعِ قَوْلِيٍّ قَطُّ.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْخَمْرِ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، بَلْ هُوَ مَنْ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَيْنَ الْمَدْلُولِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُخَالِفُ وَحْدَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ دَعْوَاهُ الْخِلَافَ حُجَّةً لِخِلَافِهِ؟ هَذِهِ مُصَادَرَةٌ بَدِيهِيَّةٌ، نَعَمْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ عَرَضَتْ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّقْلُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِيهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَهُ النَّقْلُ، فَمَتَى بَلَغَهُ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِالْحُجَّةِ. وَأَمَّا مِنْ جَاءَ بَعْدَ الْمُخَالِفِ الْأَوَّلِ وَبَلَغَهُ خِلَافُهُ فَشَبْهَتُهُ أَقْوَى عِنْدَ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، فَالْكَلَامُ مَعَهُمْ لَغْوٌ مَا لَمْ يُحْكِمُوا الدَّلِيلَ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (4: 59) الْآيَةَ، فَإِنْ رَضُوا بِهِ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا صَحَّ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِمْ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " وَلَفْظُ الْمُسْكِرِ اسْمُ جِنْسٍ. (تَشْدِيدُ السُّنَّةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ) . رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ " زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا ". قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَشْرَبُهُ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا يَشْرَبُهَا فِيهَا وَإِنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَدَخَلَهَا، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ شَيْئًا فَجُوزِيَ بِحِرْمَانِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِشُرْبِهَا، لِأَنَّهُ رَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ غَيْرُ مُذْعِنٍ لَهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا " ظَاهِرَةٌ فِي رَدِّهِ. ورُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " وَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ وَلَفْظُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ " وَهَذَا يَرُدُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ حِكَايَتِهِ كَغَيْرِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُقَدَّمُ الْخَمْرُ عَلَى السَّرِقَةِ، قِيلَ: هَذَا فِي الْمُسْتَحَلِّ، وَقِيلَ: النَّفْيُ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ: وَقِيلَ: وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ مُرْتَكِبَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ مُدَّةَ مُلَابَسَتِهِ لَهَا وَقَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا، وَحَقَّقَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ مُرْتَكِبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ

حَالَ ارْتِكَابِهِ مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ اجْتِنَابَ الْعِصْيَانِ. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْقِيَهَا " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جِبْرِيلَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَى لَهُ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. (حِكْمَةُ تَشْدِيدِ الْإِسْلَامِ فِي الْخَمْرِ دُونَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ) . (وَرَدُّ شُبْهَةٍ عَلَى تَحْرِيمِهَا) . إِذَا قِيلَ: إِنَّ دِينَ اللهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْحِكْمَةِ مِنْهُ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الرُّسُلِ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بَعْضُ الشَّرَائِعِ فِي أَمْرَيْنِ أَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَحْوَالِ الشُّعُوبِ وَالْأَجْيَالِ، (وَثَانِيهُمَا) : مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ سَيْرِ أُمُورِ الْبَشَرِ كُلِّهَا عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي التَّدْرِيجِيِّ الَّذِي مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبِلَهُ، بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى دِينَهُ الْعَامَّ، بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قُلْتُ: إِنَّ فِي الْخَمْرِ مِنَ الضَّرَرِ الذَّاتِيِّ، مَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا وَمَا ذَكَرْتُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا هَذِهِ شُبْهَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحَدَّثَ بِهَا الْمُحِبُّونَ لَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى حِلِّ مَا دُونُ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِمَّا سِوَى خَمْرَةِ الْعِنَبِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ قَاصِرًا عَلَيْهَا تَعَبُّدًا، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَقْدِ الْفَرِيدِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِتَدْوِينِ أَخْبَارِ الْفُسَّاقِ وَالْمُجَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَلَا يَدْفَعُهَا جَوَابُكَ عَنْهَا، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهُ فَلَمْ يَسْكَرْ بِهِ، فَمَا قَوْلُكَ فِي ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ نَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ حَاوَلَ إِثْبَاتَ أَنَّ شُرْبَ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنَ الْخُمُورِ كُلِّهَا حَلَالٌ إِلَّا مَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ

الْعِنَبِ وَهُوَ أَقَلُّهَا ضُرًّا وَشَرًّا مَعَ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالتَّوَاتُرِ، وَحِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِضَبْطٍ وَإِتْقَانٍ لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فِي نَقْلِ دِينِهَا أَوْ تَارِيخِهَا، فَهَلْ يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعِصْمَتِهِمْ؟ (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّنَا إِذَا سَلَّمْنَا مَا يَنْقُلُونَهُ فِي الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّ الْخَمْرِ وَعَدَمِ التَّشْدِيدِ إِلَّا فِي السُّكْرِ، نَقُولُ (أَوَّلًا) إِنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَهَّدَ الْأَنْبِيَاءُ لَهُ مِنْ قَبْلُ بِتَقْبِيحِ السُّكْرِ وَذَمِّهِ، وَلَمْ يُشَدِّدُوا فِي سَدِّ ذَرِيعَتِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ لِمَا كَانَ مِنَ افْتِتَانِ الْبَشَرِ بِهَا وَمَنَافِعِهِمْ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ عَهْدِهِ. (وَثَانِيًا) إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا أَكْمَلَ دِينَهُ الْعَامَّ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ سَيَدْخُلُونَ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ تَتَضَاعَفُ فِيهِ مَفَاسِدُ السُّكْرِ، وَأَنَّ مَصْلَحَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ أَنْ يَتَسَلَّحَ الْمُؤْمِنُونَ بِأَقْوَى السِّلَاحِ الْأَدَبِيِّ لِاتِّقَاءِ شُرُورِ مَا يُسْتَحْدَثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ الْفَتْكِ بِالْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ فِي صُوَرِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهَا. وَهَاكَ بَعْضُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ كُتُبِهِمْ فِي ذَمِّهَا: جَاءَ فِي نُبُوَّةِ أَشْعَيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ (5: 11 وَيْلٌ لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحًا يَتَّبِعُونَ الْمُسْكِرَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْقِمَّةِ تُلْهِبُهُمُ الْخَمْرُ 12 وَصَارَ الْعُودُ وَالرَّبَابُ وَالدُّفُّ وَالنَّاسُ وَالْخَمْرُ وَلَائِمَهُمْ، وَإِلَى فِعْلِ الرَّبِّ يَنْظُرُونَ، وَعَمَلِ يَدَيْهِ لَا يَرَوْنَ 13 لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ وَعَامَّتُهُ يَابِسَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ 14 لِذَلِكَ وَسَعَّتِ الْهَاوِيَةُ نَفْسَهَا وَفَغَرَتْ فَاهَهَا بِلَا حَدٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ تِلْكَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ (28: 1 وَيْلٌ لِإِكْلِيلِ فَخْرِ سُكَارَى أَفْرَايِمْ وَلِلزَّهْرِ الذَّابِلِ جَمَالُ بَهَائِهِ الَّذِي عَلَى رَأْسِ وَادِي سَمَائِنِ الْمَضْرُوبِينَ بِالْخَمْرِ إِلَى أَنْ قَالَ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ ضَلُّوا بِالْخَمْرِ وَتَاهُوا بِالْمُسْكِرِ، الْكَاهِنُ وَالنَّبِيُّ تَرَنَّحَا بِالْمُسْكِرِ، ابْتَلَعَتْهُمَا الْخَمْرُ، تَاهَا مِنَ الْمُسْكِرِ، ضَلَّا فِي الرُّؤْيَا) وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُوحًى إِلَيْهِ. وَمِنْ شَوَاهِدَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بُولُسَ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ أَفْسِسْ (5: 18 وَلَا تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلَاعَةُ) وَنَهْيُهُ عَنْ مُخَالَطَةِ السِّكِّيرِ (1 كو 5: 11) وَجَزَاهُ بِأَنَّ السِّكِّيرِينَ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ (غلاه: 21و 1 كو 6: 9، 10) .

نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ: أَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا الْإِسْلَامِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي سِيرَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَبَعْدَهُ، فَإِذَا اشْتَبَهَ فِي وَصْلِهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَامًا وَقَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَفَلَا أَبِيعُهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا: قَالَ: أَفَلَا أُكَارِمُ بِهَا الْيَهُودَ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ أَنْ يُكَارِمَ بِهَا الْيَهُودَ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: شِنَّهَا عَلَى الْبَطْحَاءِ " وَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ لَهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحُّ هَكَذَا، وَلَكِنَّ لَهُ أَصْلًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ (أَيِ الرَّجُلُ) إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا سَارَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنِ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ فَفَتَحَ الْمَزَادَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا " وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ صَاحِبَ الْمُنْتَقَى أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الشَّوْكَانِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى سَنَدِهِ. وَمَا رُوِيَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ وَمِنْ كَوْنِهِ شَمَّهُ أَوَّلًا (وَقِيلَ ذَاقَهُ) فَقَطَّبَ وَأَمَرَ بِأَنْ يُزَادَ فِيهِ الْمَاءُ فَهُوَ إِنْ صَحَّ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ مُسْكِرًا وَلَا عَلَى كَوْنِهِ شَرِبَ مِنْهُ كَانَ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْمَفْتُونِينَ بِالنَّبِيذِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الرِّوَايَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَعَلَى إِسْقَائِهِ لِلْحُجَّاجِ جَهْرًا فِي الْحَرَمِ وَهَذَا زَعْمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ مَنْقُوصٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا رُبَّمَا تَوَاتَرَ مِنْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْدَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّمَا يُفَسِّرُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَذِنَ لَهُمْ بِالِانْتِبَاذِ فِي الْأَسْقِيَةِ (أَيْ قِرَبِ الْجِلْدِ) قَالَ: " فَإِنِ اشْتَدَّ فَاكْسَرُوهُ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَأَهْرِيقُوهُ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ إِذَا اشْتَدَّ فِي الْأَسْقِيَةِ فَقَالَ: " صُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: أَهْرِيقُوهُ. . . الْحَدِيثَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ يُفَسِّرُ لَنَا أَمْرَهُ بِكَسْرِ مَا فِي سِقَايَةِ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ إِذْ شَمَّهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ بَدَا فِيهِ التَّغَيُّرُ وَقَرُبَ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إِدَاوَةِ عُمَرَ فَسَكِرَ، فَجَلَدَهُ وَقَالَ: جَلَدْنَاكَ لِلسُّكْرِ، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ.

وَيَقُولُ بَعْضُ النَّصَارَى: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ بَعْضَ مَنْ سَكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَتَلَ الرَّاهِبَ بِسَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَمْرِ وَهَذَا قَوْلٌ مُخْتَلَقٌ لَا أَصْلَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يُرْوَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا مَوْضُوعٍ، وَبَحِيرَا الرَّاهِبُ لَمْ يَجِئِ الْحِجَازَ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تُجَّارِ مَكَّةَ فِي بُصْرَى بِالشَّامِ وَلَمَّا اخْتَبَرَ حَالَهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) وَأَوْصَى بِهِ عَمَّهُ وَحَذَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَكِيدُوا لَهُ، وَكَانَتْ سِنُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ بَحِيرَا أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ، وَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ الْخَمْرَ كَمَا حَرَّمَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ وَخَلَّاهَا: بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ تَدْرِيجِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. (التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ) . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ لِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوِيدٍ الْجُعْفِيِّ فِي الْخَمْرِ سَيَأْتِي وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ يَعْنِي السُّمَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الشَّامِيِّينَ كَمَا هُنَا، ضَعِيفٌ فِي الْحِجَازِيِّينَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعُرَنِيِّينَ بِالتَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ دَوَاءٍ مِنَ الْحَلَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَامِ، وَقَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّد عَبْده: يُشْتَرَطُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ أَلَّا يَقْصِدَ الْمُتَدَاوِي بِهَا اللَّذَّةَ وَالنَّشْوَةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ مَا يُحَدِّدُهُ الطَّبِيبُ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الْآتِيَيْنِ: (السُّؤَالُ) هَلْ يَحِلُّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِذَا ظُنَّ نَفْعُهَا بِخَبَرِ طَبِيبٍ أَخْذًا مِنْ آيَةِ (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (22: 78) وَمِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ؟ وَإِذَا جَوَّزْتُمْ فَمَاذَا تَرَوْنَ فِي حَدِيثِ " إِنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَ بِدَوَاءٍ " أَوْ كَمَا وَرَدَ؟ (الْجَوَابُ) التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ لِمَنْ ظَنَّ نَفْعَهَا شَيْءٌ وَالِاضْطِرَارُ إِلَى شُرْبِهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (6: 119) يَنْفِي الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ (أَيْ كَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَكَادَ يَخْتَنِقُ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ سِوَى الْخَمْرِ وَمِثْلُهُ مَنْ دَنَقَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَادَ يَهْلِكُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ بَرْدًا سِوَى جَرْعَةٍ أَوْ كُوبٍ مِنْ خَمْرٍ.

وَمِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ مَنْ أَصَابَتْهُ نَوْبَةُ أَلَمٍ فِي قَلْبِهِ كَادَتْ تَقْضِي عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ أَوْ أَخْبَرَهُ الطَّبِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْخَطَرَ سِوَى شُرْبِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْخَمْرِ الْقَوِيَّةِ كَالنَّوْعِ الْإِفْرِنْجِيِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (كُونْيَاكَ) فَإِنَّنَا نَسْمَعُ مِنَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِعِلَاجِ مَا يَعْرِضُ مِنْ مَرَضِ الْقَلْبِ وَدَفْعِ الْخَطَرِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلَاجِ لَا يَكَادُ يَكُونُ شُرْبًا لِلْخَمْرِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُقَطٌ قَلِيلَةً لَا تُسْكِرُ، وَأَمَّا التَّدَاوِي الْمُعْتَادُ بِالْخَمْرِ لِمَنْ يَظُنُّ نَفْعَهَا وَلَوْ بِإِخْبَارِ الطَّبِيبِ كَتَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ أَوِ الدَّمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نَسْمَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِلُ " إِنَّهُ لَيْسَ بِدَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَبَبُهُ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ عَنِ الْخَمْرِ وَكَانَ يَصْنَعُهَا فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَهُ، وَقَوْلُهُ: " وَلَكِنَّهُ دَاءٌ " وَهُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ الْمُسْكِرَةَ مِنَ الْخَمْرِ سُمٌّ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَمُوتُ بِهَا فِي كُلِّ عَامٍ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَالسُّمُومُ قَدْ تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّدَاوِي بِهَا لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي أَعْصَابِهِمْ سُمُّهَا، فَتَصِيرَ مَطْلُوبَةً عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ التَّدَاوِي بِهَا، فَيَتَضَرَّرُونَ بِسُمِّهَا، فَلَا يَغْتَرَّنَّ مُسْلِمٌ بِأَمْرِ أَحَدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّدَاوِي بِهَا لِمِثْلِ مَا يَصِفُونَهَا لَهُ عَادَةً وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اه. هَذَا مَا أَجْبَنَا بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَنَزِيدُ فِي إِيضَاحِهِ بِالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَاعْتِبَارِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ إِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، أَيْ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنْوَاعَهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتْوَى آنِفًا، (وَلَيْسَ مِنْهُ مِثْلُ الزِّنَا كَمَا لَا يَخْفَى) وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِهِمْ: " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ " وَإِذَا وَصَلَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ إِلَيْهِ بِشَهَادَةِ الثِّقَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ قَاعِدَةُ " الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقُولُ الطَّبِيبُ حَتَّى إِذَا حَدَّدَهُ بِالنُّقَطِ امْتَنَعَ زِيَادَةُ نُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَقَدْ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ كَرُؤْيَةِ الطَّبِيبِ لِعَوْرَاتِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي فَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَى هَذَا جَائِزٌ مُطْلَقًا أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدُ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَتَدَاوِي الْعُرَنِيِّينَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَجِسٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَوَاءً فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَاعِدَةِ وَلَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ مُبَاشَرَةً لِغَيْرِ اضْطِرَارٍ، أَمَّا دُخُولُ نُقَطٍ مِنَ الْخَمْرِ فِي عِلَاجٍ مُرَكَّبٍ تَكُونُ أَجْزَاءُ الْخَمْرِ فِيهِ مَغْلُوبَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُسْكِرَ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَالْقَلِيلِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ.

(أَسْبَابُ تَرْجِيحِ شُرْبِ الْخَمْرِ الضَّارِّ عَلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ) . ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْإِحْصَاءِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ الْإِفْرِنْجُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُبْتَلَوْنَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِهَا إِلَّا بِإِغْرَاءِ الْقُرَنَاءِ وَالْمُعَاشِرِينَ وَالْأَصْحَابِ، وَأَنَّهُمْ يَحْتَسُونَهَا فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ إِلَّا كُرْهًا، لِبَشَاعَةِ طَعْمِهَا وَلِاعْتِقَادِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى عَمَلٍ مُنْكَرٍ أَوْ ضَارٍّ وَلَكِنَّ غَرِيزَةَ التَّقْلِيدِ فِي الْإِنْسَانِ وَضَعْفَ إِرَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْعُشَرَاءِ وَالْخِلَّانِ، هُمَا اللَّذَانِ يُمَهِّدَانِ السَّبِيلَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ. أَمَّا الشُّبْهَةُ الَّتِي يُرَجِّحُ بِهِ الْعَالِمُونَ بِضَرَرِ الْخَمْرِ دَاعِيَتَيِ التَّقْلِيدِ وَمُوَاتَاةِ الْعُشَرَاءِ أَوَّلًا وَطَاعَةِ غُولِ الْخَمْرِ آخِرًا عَلَى دَاعِيَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ، فَهِيَ ظَنُّهُ أَنَّ الضَّرَرَ الْمُتَيَقَّنَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ فِي الشُّرْبِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي السُّكْرِ، وَأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ إِمَّا أَنْ يَنْفَعَ وَإِمَّا أَلَّا يَضُرَّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ النَّشْوَةِ وَالذُّهُولِ عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ وَمِنْ مُجَامَلَةِ الْإِخْوَانِ، لِتَوَهُّمِ ضَرَرٍ نَجَا مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَلَوْ سَأَلَ هَؤُلَاءِ الْمَخْدُوعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَأَسْرَفُوا فِي السُّكْرِ حَتَّى أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ صِحَّتَهُمْ وَعِفَّتَهُمْ وَبَيْتَهُمْ وَثَرْوَتَهُمْ: هَلْ كُنْتُمْ يَوْمًا بَدَأْتُمْ بِشُرْبِ الْإِثْمِ تَنْوُونَ الْإِسْرَافَ فِيهِ وَإِدْمَانِهِ؟ لَأَجَابَهُمْ جَمِيعُ مَنْ سَأَلُوهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا لَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَنْوِي أَنْ نَشْرَبَ الْقَلِيلَ، وَمَا كُنَّا لِنَعْلَمَ أَنَّ الْقَلِيلَ يَقْسِرُنَا عَلَى الْكَبِيرِ، وَيَرْمِينَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّاءِ الْوَبِيلِ حَتَّى لَا نَجِدَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ سَبِيلٍ; وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَعَلُّلِ شُرْبِ بَعْضِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْأَطِبَّاءِ لِلْخَمْرِ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ وَالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَهُمْ شُبَهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ لِذَاتِهَا وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْحُسْوَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي تَعْقُبُهَا نَشْوَةُ الْمُسْكِرِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الشَّرَابِ بِالْفِعْلِ هُوَ الْحَرَامُ وَقَدْ بَيَّنَّا رَدَّ هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَأَنَّ لَفْظَ مُسْكِرٍ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَقْرُونًا بِكُلٍّ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كُلُّ مِقْدَارٍ مُسْكِرٍ بِالْفِعْلِ يُسَمَّى خَمْرًا، كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ شَمَّةٌ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَكَمَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَاقُضِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ لِزَيْدٍ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُسْكِرًا لِعَمْرٍو، وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يَبْحَثُ عَنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ حَتَّى الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْكِرِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنْ كَانَتْ وَقَائِعَ أَحْوَالٍ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَخْرَجًا عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَعَمَلِ أَهْلِ الدِّينِ مِنَ السَّلَفِ

وَالْخَلَفِ، قَدْ تَقَدَّمَ تَفْنِيدُ الْمَزَاعِمِ وَدَحْضُ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَأَمْثَالُهِمْ كَالَّذِينِ زَعَمُوا أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ قَدْ نُسِخَ، نَعَمْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي حَدِيثِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي تُسْكِرُ، وَحَجَّاجٌ هَذَا ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ وَمَا زَعَمَهُ مَرْدُودٌ لُغَةً فَلَا يَقُولُهُ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُشِيرَ إِلَى تَعِلَّاتِ مَنْ يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ لِأَجْلِ السُّكْرِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَفَقَدَ فَاتَ زَمَنُ الَّذِينَ كَانُوا يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ بِتَرْكِ النَّبِيذِ الَّذِي هُوَ نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِمَا زَمَنًا يُسْكِرُ فِيهِ كَثِيرُهُ ثُمَّ قَلِيلُهُ وَيَشْرَبُونَهُ عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنْ سَكِرُوا أَحَالُوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْكَثْرَةِ أَوْ عَلَى جَوْرِ السُّقَاةِ عَلَيْهِمْ وَكَابَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ السُّكْرَ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُتْرَفِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، حَتَّى عُزِيَ إِلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَبَعْضِ رِجَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. مَنِ اخْتَبَرَ حَالَ الْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الْآخِرَةِ، يَرَى بَيْنَهُمَا شَبَهًا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْوِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ يُذْكَرُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَيَكُونُ اطْمِئْنَانُهُمْ أَشَدَّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ وَيُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَمِنْهُمُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَالْمُتَفَقِّهَةُ يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا بِمَسْأَلَةِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ فِيمَا سَبَقَ، وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عَفْوِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ التَّعَوُّدِ وَالْإِدْمَانِ، كَمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ هُمْ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بَعْدَهُ عِنْدَمَا يَعْلَمُونَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَمَلِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ يُفْضِي إِلَى كَثِيرِهَا، وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْغَمَسَتْ فِي شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا. فَالتُّكَأَةُ الْأَخِيرَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ أَهْلِ الدِّينِ هِيَ تُكَأَةُ أَكْثَرِ الْمُرْتَكِبِينَ لِسَائِرِ الْمَعَاصِي وَهِيَ الْغُرُورُ بِكَرَمِ اللهِ وَعَفْوِهِ، إِمَّا بِضَمِيمَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا سِيَّمَا مَا يُسَمَّى مِنْهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ، أَوْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَإِمَّا بِدُونِ ضَمِيمَةٍ، وَمِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ وَمِنْهَا مَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَمَا لَهُ أَصْلٌ قَيَّدُوهُ بِالصَّغَائِرِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ التَّوْبَةِ لَهُ، وَقَدْ فَنَّدْنَا جَهْلَ هَؤُلَاءِ وَغُرُورِهِمْ فِي مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ) : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (4: 17) (رَاجِعْ ص268 وَمَا بَعْدَهَا ج4ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (4: 31)

(فِي ص 39 وَمَا بَعْدَهَا ج5 ط الْهَيْئَةِ) وَهَذَا الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ يَرْسَخُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ، بِمَا نَظَمَهُ وَيَنْظِمُهُ لَهُمْ فُسَّاقُ الشُّعَرَاءِ، كَقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ الشَّهِيرِ بِالسُّكْرِ وَالْفُجُورِ: تَكَثَّرْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الْمَعَاصِي ... فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُورا تَعُضُّ نَدامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا ... تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا وَقَوْلُهُ مِنْ قَصِيدَةٍ يَذْكُرُ بِهَا اسْتِعَانَتَهُ بِالْخَمْرِ عَلَى الْفُجُورِ بِغُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى دَيْرٍ وَتَرَهَّبَ فِيهِ: وَرَجَوْتُ عَفْوَ اللهِ مُعْتَمِدًا ... عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ مُحَمَّدِ الْمَبْعُوثِ. لَوْ صَحَّ مَا يَهْذِي بِهِ هَؤُلَاءِ الْفُجَّارُ، لَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لَغْوًا وَعَبَثًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَحَاشَا لِلَّهِ. (تَوْضِيحٌ وَاسْتِدْرَاكٌ وَتَصْحِيحٌ) . فِي بَحْثِ عَدَمِ شُرْبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْرَ. حَدِيثُ إِهْدَاءِ الْخَمْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْزُوُّ إِلَى الْحُمَيْدِيِّ فِي (ص74) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَذَا الْبَغَوِيُّ عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ نَافِعِ بْنِ كَيْسَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي جِئْتُكَ (في الْإِصَابَةِ: جِئْتُ) بِشَرَابٍ جَيِّدٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا كَيْسَانُ إِنَّهَا حُرِّمَتْ بَعْدَكَ، قَالَ: أَفَأَبِيعُهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا حُرِّمَتْ وَحُرِّمَ ثَمَنُهَا " وَفِي تَوْثِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ وَتَضْعِيفُهُمَا مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَلَمَّا كَانَ عَامَ حُرِّمَتْ جَاءَ بِرَاوِيَةٍ فَقَالَ: " أَشَعَرْتَ أَنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَنَهَاهُ ". ذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْفَتْحِ وَقَالَ أَوَّلًا: إِنَّ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ الْأَوَّلِ

أَنَّ الْمُهْدِيَّ كَانَ مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ دَوْسٍ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ كَيْسَانَ تَسْمِيَةُ الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَيِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيٌّ أَقُولُ: وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي عَزَاهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى إِلَى الْحُمَيْدِيِّ) وَمِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ تَأْيِيدُ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ إِسْلَامَ تَمِيمٍ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ. اه. وَأَقُولُ: قَدِ اتَّضَحَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ تَمِيمًا هُوَ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُ كَانَ يَهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فِي كُلِّ عَامٍ دُونَ كَيْسَانَ، وَتَمِيمٌ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْفَتْحِ، فَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً كَانَتِ الْخَمْرُ مُحَرَّمَةً فِيهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، فَإِهْدَاؤُهُ الرَّاوِيَةَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَا قِيلَ مُتَعَذَّرٌ فَهَذَا حَدِيثٌ يَنْقُضُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، عَلَى فَرْضِ قُوَّةِ سَنَدِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَتْنًا وَسَنَدًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ لَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقْتَنُونَ الْخَمْرَ وَلَا يَدِينُونَ اللهَ بِحُرْمَتِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْرَبُونَهَا، وَقَدْ يَشْرَبُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَيُقَدِّمُونَهَا لِلضُّيُوفِ، فَالِاقْتِنَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ. وَأَمَّا حَدِيثُ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي ص74 يَعْزُوهُ إِلَى الْمُسْنَدِ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: " عَطَشَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَاسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَصَبَّ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا " وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ رَاوِيَاهُ بِضَعْفِهِ، لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ النَّسَائِيُّ: وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لِسُوءِ حَفِظَهُ وَكَثْرَةِ خَطَئِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدَيٍّ: عَامَّةٌ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُهُ مَحْفُوظٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ إِلَّا أَنَّهُ يُخْطِئُ وَيُشَبَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَ سَرِيعَ الْحِفْظِ سَرِيعَ النِّسْيَانِ، كَانَ يَحْفَظُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ خَمْسَمِائَةِ حَدِيثٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ يَنْفَرِدُ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ يَرْفَعُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي مَعْنَى حَدِيثِ السِّقَايَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ " رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ وَهُوَ عِنْدُ الرُّكْنِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَدْحَ فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا فَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَحْرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدْحَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَقَطَّبَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ أَيْضًا فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ

طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ وَقَالَ فِيهِ: لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَ حِكَايَتِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: " اجْتَنَبَ كُلَّ شَيٍّ يَنِشُّ " وَقَالَ: " الْمُسْكِرُ قَلِيلُهُ حَرَامٌ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ " وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَجْهُولٌ مَرَّةَ وَخَبَرُهُ مُنْكَرٌ. أَقُولُ: طَالَمَا دَسَّ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالرِّوَايَاتِ أَسْمَاءَ الْمَجْهُولِينَ فِي الْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ لِيُرَوِّجُوا بِهَا مَا يَفْتَرُونَهُ فَأَبْطَلَ رِجَالُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دَسِيسَتَهُمْ وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لِجَازَ الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ قَدْ بَدَأَ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ فَكَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْكِرًا وَلَا يُمْكِنُ مُوَافَقَتُهُ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذَا. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ نَحْوًا مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: " تَلَقَّتْ ثَقِيفٌ عُمَرَ بِشَرَابٍ فَدَعَا بِهِ فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَى فِيهِ كَرِهَهُ فَدَعَا بِهِ فَكَسَرَهُ بِالْمَاءِ فَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا " ثُمَّ رَوَى عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي قَدْ شَرِبَهُ عُمَرُ قَدْ تَخَلَّلَ (أَيْ صَارَ خَلًّا) وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْأَثَرَ فِي الْفَتْحِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَفِيهِ أَنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ " وَقَالَ: قَالَ نَافِعٌ: وَاللهِ مَا قَطَّبَ عُمَرَ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِسْكَارِ حِينَ ذَاقَهُ، وَلَكِنَّهُ تَخَلَّلَ، وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ عُمَرُ قَدْ تَخَلَّلَ وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَنِ الْعُمَرِيِّ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِشِدَّةِ حَلَاوَتِهِ، ثُمَّ جَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالَتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَطَّبَ كَانَ لِحُمُوضَتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يُقَطِّبُ كَانَ لِحَلَاوَتِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ كَسْرِ النَّبِيذِ بِالْمَاءِ يَدُلُّ مَجْمُوعُهُ عَلَى أَنْ يُكْسَرَ إِذَا أَخَذَ فِي الِاشْتِدَادِ وَالتَّغَيُّرِ خَشْيَةَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا، فَأَمَّا إِذَا صَارَ مُسْكِرًا فَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا إِرَاقَتُهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، إِذْ لَا يُبَاحُ حِينَئِذٍ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ، وَلَوْ أُزِيلَ تَأْثِيرُهُ بِالْمَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِدَادِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ اشْتِدَادُ الْحُمُوضَةِ أَوِ الْحَلَاوَةِ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِثْلُهُ الِاغْتِلَامُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا خَشِيتُمْ مِنْ نَبِيذٍ شِدَّتَهُ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَشْتَدَّ " انْتَهَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الِاشْتِدَادِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّغَيُّرِ بِالْفِعْلِ عَنْ قُرْبِ وُقُوعِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَمِنَ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ " اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَسْكَرُوا " قَالَ النَّسَائِيُّ هَذِهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَلَطَ فِيهِ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ سِمَاكٍ تَابَعَهُ عَلَيْهِ وَسِمَاكٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَكَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ وَخَطَّأَهُ فِيهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.

وَمَثَلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا " قَالَ النَّسَائِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا، وَقَالَ فِي قِرْصَافَةَ رَاوِيَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ لَا يُدْرَى مَنْ هِيَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ عَائِشَةَ خِلَافُ مَا رَوَتْهُ عَنْهَا قِرْصَافَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْهَا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهَا: " لَا أُحِلُّ مُسْكِرًا وَإِنْ كَانَ خُبْزًا وَإِنْ كَانَ مَاءً " وَقَوْلِهَا لِلنِّسَاءِ: " وَإِنْ أَسْكَرَكُنَّ مَاءُ حُبِّكُنَّ فَلَا تَشْرَبْنَهُ " أَقُولُ: كَذَبُوا عَلَى عَائِشَةَ كَمَا كَذَبُوا عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِخِلَافِ مَا صَحَّ عَنْهُمَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ مَعْنَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ سَائِرَ النُّصُوصِ وَهُوَ الْإِذْنُ بِشُرْبِ النَّبِيذِ (النَّقِيعِ) إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَمِرْ فَيَصِيرُ مُسْكِرًا لِئَلَّا يُكْسَرَ بِهِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ وَفِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا عَلَى الْمُسْكِرِ بِالْفِعْلِ فَهُوَ تَحْرِيفٌ لِلُّغَةِ وَإِفْسَادٍ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ بِأَنْ يَشْرَبُوا مِنَ الْمُسْكِرِ وَأَلَّا يَسْكَرُوا، هَلْ يَتَيَسَّرُ لِوَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَشْرَبَ مِنَ الْمُسْكِرِ وَلَا يَسْكَرَ؟ (عُقُوبَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ) . ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ " أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالشَّارِبِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُضْرَبُ بِالْأَيْدِي وَالْجَرِيدِ وَالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ " وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجُلِدَ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ " مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدَّا فَيَمُوتُ وَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ (أَيْ دَفَعْتُ دِيَتَهُ) وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " أَنَّ عُثْمَانَ أَتَى بِالْوَلِيدِ وَقَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخِرٌ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا، وَأَمَرَ بِجِلْدِهِ، فَجَلَدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ " أَقُولُ: يَعْنِي الْأَرْبَعِينَ الَّذِي أَمَرَ بِهَا، وَقَوْلُهُ: " وَكُلٌّ سُنَّةٌ " مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ حَدَّ الْخَمْرِ; " لِأَنَّ ضَرْبَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُعَدُّ سُنَّةً مَحْدُودَةً لَهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا صَارَ سُنَّةً عَمَلِيَّةً لِجَرْيِ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعِقَابِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ الضَّرْبُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِهَانَةُ الشَّارِبِ وَتَنْفِيرُ النَّاسِ مِنَ الشُّرْبِ، وَإِنَّ ضَرْبَ الشَّارِبِ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ كَانَ اجْتِهَادًا مِنَ الْخُلَفَاءِ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا وَقَعَ

بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ وَاخْتَارَ عُمَرُ الثَّمَانِينَ بِمُوَافَقَتِهِ لِاجْتِهَادِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِتَشْبِيهِهِ بِحَدِّ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الِاجْتِهَادَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، قَالَ: " إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذِيَ وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً " وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ بِرِوَايَاتٍ فِيهَا مَقَالَاتٌ تُرَاجَعُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لِأَهْلِهِ، فَمِنْهَا يُعْرَفُ الصَّحِيحُ وَغَيْرُ الصَّحِيحِ لَا مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي يُورِدُ أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا مِمَّا يُقَوِّي مَذْهَبَهُ، وَيُضَعِّفُ مَذْهَبَ غَيْرِهِمْ. (فَائِدَةٌ فِي الْمَشْرُوعِ مِنَ الْمُسَابَقَةِ وَالرِّمَايَةِ) . ذَكَرْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَيْسِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ فِي الْمُسَابَقَةِ جَائِزٌ شَرْعًا، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْهُ أَنَّ مُسَابَقَةَ الْخَيْلِ فِي مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْجَائِزِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا الْجَائِزُ شَرْعًا فَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ السَّبَقُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاءِ وَهُوَ الْجُعْلُ الَّذِي يَكُونُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ السَّابِقِ إِمَّا عَنِ الْإِمَامِ (أَيِ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ) وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِمَّا مِنْ أَحَدِ الْمُتَسَابِقِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالُ السَّبَقِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِذَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا، وَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ، وَمَا اشْتَرَطَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ كَوْنِ الْمُسَابَقَةِ مَعْرُوفَةَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَكَوْنِ الْجُعْلِ وَالْمَسَافَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا مَعْلُومَيْنِ وَكَوْنِ الْفَرَسَيْنِ أَوِ الْأَفْرَاسِ مُعَيَّنَةً، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِطُهُ الْمُقَامِرُونَ أَيْضًا وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ. رَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ بِالْخَيْلِ وَرَاهَنَ " وَفِي لَفْظٍ: " سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَأَعْطَى السَّابِقَ " وَرَوَى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: أَكُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاهِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللهِ لَقَدْ رَاهَنَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةُ فَسَبَقَ النَّاسَ فَبَهَشَ لِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمُ عَنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ " وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مَاجَهْ " أَوْ نَصْلٍ " صَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ السِّهَامُ، وَعَبَّرَ عَنِ السَّهْمِ بِحَدِيدَتِهِ الْجَارِحَةِ، يُقَاسُ عَلَى الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ الرَّمْيُ بِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ وَقَذَائِفِ الْمَدَافِعِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ الْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا مِنَ الرِّيَاضَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْأَبْدَانِ عَلَى الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ.

94

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) . بَيِّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (90) أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الطَّعَامِ وَأَحْكَامِ النُّسُكِ (وَمِنْهَا الصَّيْدُ فِي أَرْضِ الْحَرَامِ أَوْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ) وَتَلَاهَا سِيَاقٌ طَوِيلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَخْ، وَنَقُولُ الْآنَ إِنَّ اللهَ جَلَّتْ آلَاؤُهُ نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الْحَلَّالِ وَالطَّيِّبِ، وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الْمُبَالِغِينَ فِي النُّسُكِ قَدْ حَلَفُوا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ بَيَّنَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ، فَكَانَ هَذَا وَذَاكَ مُتَمِّمًا لِمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنَاسَبَ أَنْ يُتَمِّمَ أَحْكَامَ الصَّيْدِ فِي الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ أَيْضًا فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ مَا نَصُّهُ: وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (5: 87) ثُمَّ اسْتَثْنَى الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مِنْ تِلْكَ فَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّيْدِ عَنِ الْمُحَلَّلَاتِ وَبَيَّنَ دُخُولَهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى وَمَا قُلْنَاهُ خَيْرٌ

مِنْهُ وَأَصَحُّ، وَلَيْسَ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَيُسْتَثْنَيَانِ مِنْهَا بَلْ هُمَا رِجْسٌ خَبِيثٌ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) الِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَالصَّيْدُ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُصْطَادُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا وَمِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ الْوَحْشِيَّةِ لِتُؤْكَلَ، وَقِيلَ مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ الْمَأْكُولِ لَحْمَهُ إِلَّا مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَمَا يَأْتِي وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي الصَّيْدِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ الْخِلَافُ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ الْمُحْرِمُ عَنْ صَيْدِهِ وَوَصْفُ الصَّيْدِ بِكَوْنِهِ تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالرِّمَاحُ يُرَادُ بِهِ كَثْرَتُهُ وَسُهُولَةُ أَخْذِهِ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِخْفَاءِ بِالتَّمَتُّعِ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ مَا يُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي صِغَارُهُ وَفِرَاخُهُ وَبِالرِّمَاحِ كِبَارُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَوَجْهُ الِابْتِلَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ أَلَذُّ الطَّعَامِ وَأَطْيَبُهُ، وَنَاهِيكَ بِاسْتِطَابَتِهِ وَبِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ كَالسَّفَرِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَسُهُولَةِ تَنَاوُلِ اللَّذِيذِ تُغْرِي بِهِ، فَتَرْكُ مَا لَا يُنَالُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَالْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا يُنَالُ بِسُهُولَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا نَجِدَ، وَهَلْ يُعَدُّ تَرْكُ الزِّنَا مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسَعْيٍ وَبَذْلِ مَالٍ وَتَوَقُّعِ فَضِيحَةٍ كَتَرْكِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لَهُ إِذْ غَلَّقَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْأَبْوَابَ دُونَهُ وَقَالَتْ: هَيْتَ لَكَ؟ وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِأَنَّهُ سَيَخْتَبِرُكُمْ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّيْدِ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ أَخْذُ بَعْضِهِ بِأَيْدِيكُمْ وَبَعْضِهِ بِرِمَاحِكُمْ (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) أَيْ يَبْتَلِيكُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَخَافُهُ غَائِبًا عَنْ نَظَرِ النَّاسِ غَيْرَ مُرَاءٍ وَلَا خَائِفٍ مِنْ إِنْكَارِهِمْ، فَيَتْرُكُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وَيَخْتَارُ شَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى لَذَّةِ اللَّحْمِ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةً لَهُ فِي سِرِّهِ، أَوْ يَخَافُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يَقْتَضِي الطَّاعَةَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِلْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَاقِعِ الثَّابِتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ رِضَاهُ عَنْكُمْ وَإِثْبَاتُكُمْ عَلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ حَالَ مَنْ يَعْتَدِي فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَهُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْ جَزَاءِ مَنْ يَخَافُهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ وَإِنْ كَانَ عَلَّامَ الْغُيُوبِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضُرُوبِ تَرْبِيَتِهِ لَكُمْ وَعِنَايَتِهِ بِتَزْكِيَتِكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى (رَاجِعْ ص7 ج2 وص142 ج4 وَمَا بَعْدَهُمَا ط الْهَيْئَةِ) . (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ فَمَنِ اعْتَدَى بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ الَّذِي أَخْبَرَكُمُ اللهُ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَلَهُ عَذَابٌ شَدِيدٌ الْأَلَمِ فِي

95

الْآخِرَةِ قِيلَ: وَفِي الدُّنْيَا بِالتَّعْزِيرِ وَالضَّرْبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِاخْتِبَارِ اللهِ لَهُ، بَلْ سَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ اللهَ تَعَالَى بِالْغَيْبِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخَافُ لَوْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْزِيرَهمْ إِذْ هُوَ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ بِمَرْأَى مِنْهُمْ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، لَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْأَبْرَارَ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) هَذَا النِّدَاءُ تَوْطِئَةٌ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُعْتَدِي فِي الصَّيْدِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا، سَبَقَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمَرَةٍ وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أَعَادَهُ هُنَا لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ الْحُرُمَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حَرَامٍ وَهُوَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ. (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أَيْ وَمَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ فَجَزَاؤُهُ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِنَ الْأَنْعَامِ مُمَاثِلٌ لِمَا قَتَلَهُ فِي هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ إِنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَفِي قِيمَتِهِ، وَقِيلَ: فِي قِيمَتِهِ مُطْلَقًا وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " فَجَزَاءٌ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَ " مِثْلُ " الرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ جَزَاءٍ إِلَى مِثْلِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ عَيْنُهُ، عَلَى حَدِّ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ خَاتَمِ فِضَّةٍ أَيْ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الَّذِي قَتَلَهُ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ " فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ " بِنَصْبِ مِثْلٍ بِمَعْنَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ ثُمَّ أُضِيفَ كَمَا نَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدًا، ثُمَّ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ اه. قَتْلُ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ الصَّيْدَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لِنَصِّ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ أَكْلَ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ مَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقِيلَ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا عَمَلًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، وَحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ عَنْ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ أَكَلُوا مِمَّا أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ مِنْ لَحْمِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الَّذِي صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ الَّذِي نَهَتِ الْآيَةُ عَنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كُلُّ حَيَوَانٍ وَحْشِيٍّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَا جَزَاءَ فِي قَتْلِ الْأَهْلِيِّ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَمِنْهَا الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي وَرَدَ الْإِذْنُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِقَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَهِيَ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.

وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا عَنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ أَيُّوبُ: قُلْتُ لِنَافِعٍ فَالْحَيَّةُ: قَالَ: الْحَيَّةُ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا يُخْتَلَفُ فِي قَتْلِهَا، وَأَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبَ وَالسَّبُعَ وَالنَّمِرَ وَالْفَهْدَ لِأَنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ يَشْمَلُ هَذَا السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ كُلَّهَا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ كُلِّ حَيَوَانٍ إِلَّا الْفَوَاسِقَ الْخَمْسَ، وَجَعَلَ الذِّئْبَ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَلْبٌ بَرِّيٌّ، وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الْأَبْقَعُ الضَّارُّ لَا الْأَسْحَمُ الَّذِي يُؤْكَلُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ، الْحَاصِلُ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الضَّارَّةَ الَّتِي تَقِلُّ اتِّقَاءُ ضَرَرِهَا، لَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَهَا، طَلَبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: لَا يَقْتُلُ الْغُرَابَ إِلَّا إِذَا صَالَ عَلَيْهِ وَآذَاهُ، وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ وَطَائِفَةٌ: لَا يَقْتُلُهُ بَلْ يَرْمِيهِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ " الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفُوَيْسِقَةُ (أَيِ الْفَأْرَةُ) وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحِدَأَةُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ حَسَّنَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّعَمُّدِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَمُّدُ وَقَالُوا: إِنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى جَزَاءِ الْمُتَعَمِّدِ وَسَكَتَ عَنْ جَزَاءِ الْمُخْطِئِ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ أَيْضًا، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ وَالْقَاصِدَ لِقَتْلِهِ مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ وَعِلْمِهِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَا يَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ نِسْيَانَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ نَرَ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يَدُلُّ عَلَى تَغْرِيمِ الْمُخْطِئِ، وَلَا رِوَايَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، إِلَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعِينَ يُغَرِّمُونَ فِي الْخَطَأِ، وَمَا قَالَهُ الزَّهْرِيُّ أَصْرَحُ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ مِثْلُ هَذِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَتْلِ الْخَطَأِ لَا بِالرِّوَايَاتِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ حِكَايَةً لِلْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، فَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كُلِّهِمْ صَرَّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْعَمْدِ وَعِبَارَةُ طَاوُسٍ: لَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَصَابَ صَيْدًا خَطَأً، إِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ عَمْدًا، وَاللهِ مَا قَالَ اللهُ إِلَّا " وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ اشْتِرَاطُ الْعَمْدِ لِلْقَتْلِ مَعَ نِسْيَانِ الْإِحْرَامِ، وَالرِّوَايَاتُ فِي الْخِلَافِ مُفَصَّلَةٌ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَغَيْرِهِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمْدِ مَذْهَبُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَقَدْ شَرَحَ الرَّازِيُّ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَةِ شَرْحًا يُؤْذِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَهُ.

ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِسَبَبِ الْخِلَافِ لَوْلَا إِجْمَالٌ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا وَلَكِنْ غَلَّظَ عَلَيْهِمْ فِي الْخَطَأِ كَيْ يَتَّقُوا، وَانْتَهَى وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ أَيْنَ جَاءَ التَّغْلِيظُ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَالْعِنْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اجْتِهَادًا مِنْهُ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ لِسَدِّهِ ذَرِيعَةِ صَيْدِ الْعَمْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، كَمَا فَعَلَ فِي إِمْضَاءِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْهُ ثُمَّ يَتْبَعُهُ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا وَذَاكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَمُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَرَادَهَا وَعَدَمِ تَعَدِّيهَا، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ خِلَافَتِهِ يَقُولُ: إِنَّ اجْتِهَادَهُ لَيْسَ شَرْعًا وَلَا دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يُؤْخَذُ عَلَى عِلَّاتِهِ فِيمَا كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْقُرْآنِ أَوِ الَّتِي مَضَتْ فِيهَا السُّنَّةُ قَبْلَهُ وَفِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ كَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؟ هَذَا مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ كَانَ يُخْطِئُ فَيَرْجِعُ فَيَعْتَرِفُ بِخَطَئِهِ وَيَرْجِعُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُجْتَهِدِينَ قَدِ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ لِإِقْرَارِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِمْ لَهُ كَعَادَتِهِمْ فِيمَا يَرَوْنَهُ خَطَأً قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ عَرَضَ مَسْأَلَةَ تَغْرِيمِ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً عَنِ الصَّحَابَةِ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ الْحَكَمُ: " إِنَّهُ كَتَبَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ كَتَبَ " وَالظَّاهِرُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَنَصُّ كِتَابِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْحَكَمُ الَّذِي رَوَى هَذَا الْأَثَرَ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِهِ وَهُوَ عَلَى تَوْثِيقِ الْجَمَاعَةِ لَهُ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ مَعْنَى حَدِيثِهِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى رِجَالِ السَّنَدِ إِلَيْهِ عِنْدَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَثَرَ عَنْهُ وَهُمُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِنَعْرِفَ دَرَجَةَ رِوَايَتِهِمْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَسَيَأْتِي مَا صَحَّ مِنْ حُكْمِ عُمَرَ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ تَفْسِيرَ شَيْخِ الْمُفَسِّرِينَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، فَإِذَا بِهِ قَدْ أَوْرَدَ فِي رِوَايَتِهِ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعَمُّدِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَمْدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ مَعَ نِسْيَانِ قَاتِلِهِ لِإِحْرَامِهِ حَالَ قَتْلِهِ إِيَّاهُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُ الْعَمْدُ لِقَتْلِهِ مَعَ ذِكْرِ قَاتِلِهِ لِإِحْرَامِهِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَ مَنْ قَالُوا بِالْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ بِالْكِتَابِ وَفِي الْخَطَأِ بِالسُّنَّةِ أَوْ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ وَحِفْظِ حُرُمَاتِ اللهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ قَالَ: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَ صَيْدِ الْبَرِّ عَلَى كُلِّ مُحْرِمٍ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ مَا دَامَ حَرَامًا بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ قَتَلَ مَا قَتَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ وَلَمْ

يُخَصَّصِ الْمُتَعَمِّدَ قَتْلَهُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ إِحْرَامَهُ، وَلَا الْمُخْطِئَ فِي قَتْلِهِ فِي حَالِ ذِكْرِهِ إِحْرَامَهُ بَلْ عَمَّ فِي إِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى كُلِّ قَاتِلِ صَيْدٍ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ مُتَعَمِّدًا، وَغَيْرُ جَائِزٍ إِحَالَةُ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِلَى بَاطِنٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ وَلَا خَبَرٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِجْمَاعٍ عَنِ الْأُمَّةِ وَلَا دَلَالَةَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَوَاءٌ كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ عَامِدًا قَتْلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ، أَمْ عَامِدًا قَتْلَهُ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، أَوْ قَاصِدًا غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ، فَإِنَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ مَا قَالَ رَبُّنَا تَعَالَى وَهُوَ: (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) إِلَخْ. أَقُولُ: هَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ الْمُبَيِّنُ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ دُخُولُ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " أَوْ قَاصِدًا غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ " ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ لَا الْعَمْدِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ صُورَةً مُعَيَّنَةً وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ صَيْدٍ غَيْرِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِإِحْرَامِهِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّهُ مُنْتَهِكٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا إِذَا قَصَدَ رَمْيَهُ لِجَرْحِهِ لَا لِقَتْلِهِ، وَأَمَّا إِذَا رَمَى غَرَضًا لَا حَيَوَانًا أَوْ حَيَوَانًا يُبَاحُ قَتْلُهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَأَصَابَ سَهْمُهُ أَوْ رَصَاصُهُ صَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ مَثَلًا فَلَا جَزَاءَ فِيهِ فِي هَذَا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ أَشْرَكَ فِيهِ الْعَمْدَ بِالْخَطَأِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ بِالْخَطَأِ قَاتِلُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِنَا (كِتَابُ لَطِيفِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ) بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ ذِكْرِهِ لِأَنَّ قَصْدَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْإِبَانَةُ عَنْ تَأْوِيلِ التَّنْزِيلِ، وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ لِلْخَطَأِ ذِكْرٌ فَنَذْكُرُ أَحْكَامَهُ. اه. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِثْلِ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ مِثْلِ الْمَقْتُولِ فِي خَلْقِهِ كَصُورَتِهِ وَفِعْلِهِ وَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَتَبِعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوَّلُ مُؤَيَّدٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُكْمِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، رَوَى أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبْعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ " ; أَيْ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْأَجْلَحِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي الضَّبْعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، قَالَ: الْجَفْرَةُ الَّتِي قَدِ ارْتَعَتْ، وَالْأَجْلَحُ هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: صَدُوقٌ، قَالَ الْحَافِظُ

فِي تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ: صَدُوقٌ شِيعِيٌّ مِنَ السَّابِعَةِ، فَاعْتَمَدَ تَوْثِيقَهُ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَقَالَا: عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ، وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ وَكَذَلِكَ الْحَكَمُ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ وَصَحَّحَ وَقْفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الضَّبْعُ صَيْدٌ فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءٌ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَتُؤْكَلُ ". أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ السِّنِّ فِي الْمُمَاثَلَةِ فَالْعَنَزُ بِالتَّحْرِيكِ أُنْثَى الْمَعِزِ كَالنَّعْجَةِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالْعَنَاقُ بِالْفَتْحِ الْأُنْثَى مَنْ وَلَدَ الْمَعِزِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا السَّنَةَ وَالْجَفْرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ الَّتِي بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أَيْ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ وَكَوْنِهُ مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى حُكْمِ الْعَدْلَيْنِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ النَّعَمِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ بِأَنْوَاعِهَا وَبَيْنَ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ، مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَوَجْهُ حُكْمِ الْعَدْلَيْنِ إِذَا أَرَادَا أَنْ يَحْكُمَا بِمِثْلِ الْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ يَسْتَوْصِفَاهُ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَ ظَبْيًا صَغِيرًا حَكَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَهُ فِي السِّنِّ وَالْجِسْمِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ كَبِيرًا حَكَمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّأْنِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ حَكَمَا عَلَيْهِ بِبَقَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ كَبِيرًا فَكَبِيرٌ مِنَ الْبَقَرِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَصَغِيرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذَكَرًا فَمِثْلُهُ مِنْ ذُكُورِ الْبَقَرِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَمِثْلُهُ مِنَ الْبَقَرِ أُنْثَى، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عَمْرٌو وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى اللَّذَيْنِ قَتَلَا الظَّبْيَ، وَقَدْ رَوَاهَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً، وَقَدْ حَكَمَا بِشَاةٍ، وَسَيَأْتِي. وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ فَيَحْكُمُ الْعَدْلَانِ فِيهِ بِالْقِيمَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ " فَجَزَاؤُهُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ " وَفِي قَوْلِهِ: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ) لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي مِثْلِ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ

رَحِمَهُ اللهُ حَيْثُ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ مِثْلِيًّا أَوْ غَيْرَ مِثْلِيٍّ، قَالَ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهِ هَدْيًا، وَالَّذِي حَكَمَ بِهِ الصَّحَابَةُ فِي الْمَثَلِ لَأَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ بِبَقَرَةٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنَزٍ وَذِكْرُ قَضَايَا الصَّحَابَةِ وَأَسَانِيدِهَا مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّيْدُ مِثْلِيًّا فَقَدْ حَكَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ بِثَمَنِهِ يُحْمَلُ إِلَى مَكَّةَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ فِي غَيْرِ الْمِثْلِ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَاتِلِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، (وَالثَّانِي) نَعَمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: قَتَلْتُ صَيْدًا وَأَنَا مُحْرِمٌ فَمَا تَرَى عَلَيَّ مِنَ الْجَزَاءِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: مَا تَرَى فِيمَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ وَأَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ وَأَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا تُنْكِرُ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) شَاوَرْتُ صَاحِبِي إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَمْرٍ أَمَرْنَاكَ بِهِ " وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَيْمُونٍ وَالصِّدِّيقِ، وَمِثْلُهُ يُحْتَمَلُ هَهُنَا فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ الْحُكْمَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ لَمَّا رَآهُ أَعْرَابِيًّا جَاهِلًا، وَإِنَّمَا دَوَاءُ الْجَهْلِ التَّعَلُّمُ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُعْتَرِضُ مَنْسُوبًا إِلَى الْعِلْمِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَأَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَكُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أَقَدْنَا رَوَاحِلَنَا فَنَتَمَاشَى نَتَحَدَّثُ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ غَدَاةٍ إِذْ سَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ أَوْ بَرِحَ، رَمَاهُ رَجُلٌ كَانَ مَعَنَا بِحَجَرٍ فَمَا أَخْطَأَ حَشَاهُ، فَرَكِبَ وَوَدَّعَهُ مَيِّتًا، قَالَ: فَعَظَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ خَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، قَالَ: وَإِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ، يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَالْتَفَتَ عُمَرُ إِلَى صَاحِبِهِ فَكَلَّمَهُ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ تَعَمَّدْتُ رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا أَشْرَكْتَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، اعْمِدْ إِلَى شَاةٍ فَاذْبَحْهَا وَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَانْتَفَعْ بِإِهَابِهَا، قَالَ: فَقُمْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَيُّهَا الرَّجُلُ عَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَمَا دَرَى

أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُفْتِيكَ حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ، اعْمَدْ إِلَى نَاقَتِكَ فَانْحَرْهَا فَلَعَلَّ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنْ يُجْزِيَ عَنْكَ، قَالَ قَبِيصَةُ: وَلَا أَذْكُرُ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فَبَلَغَ عُمَرَ مَقَالَتِي فَلَمْ يُفَاجِأْنَا مِنْهُ إِلَّا وَمَعَهُ الدِّرَّةُ قَالَ: فِعْلا صَاحِبَيَّ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ أَقْبَلْتَ فِي الْحَرَمِ وَسَفَّهْتَ فِي الْحُكْمِ قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيَّ، فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا أَحِلُّ الْيَوْمَ شَيْئًا يَحْرُمُ عَلَيْكَ مِنِّي، فَقَالَ: يَا قَبِيصَةُ بْنَ جَابِرٍ إِنِّي أَرَاكَ شَابَّ السِّنِّ فَسِيحَ الصَّدْرِ بَيِّنَ اللِّسَانِ، وَإِنَّ الشَّابَّ يَكُونُ فِيهِ تِسْعَةُ أَخْلَاقٍ حَسِنَةٍ وَخُلُقٌ سَيِّئٌ فَيُفْسِدُ الْخُلُقُ السَّيِّئُ الْأَخْلَاقَ الْحَسِنَةَ، فَإِيَّاكَ وَعَثَرَاتَ الشَّبَابِ ". ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ طُرُقًا أُخْرَى لِأَثَرِ قَبِيصَةَ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الْبَجَلِيَّ قَالَ أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِكَ فَلْيَحْكُمَا عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَعْدًا فَحَكَمَا عَلِيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا رَمَى ظَبْيًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَتَى عُمَرَ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: احْكُمْ مَعِي فَحَكَمَا فِيهِ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. (ثُمَّ قَالَ) : وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَأْنَفُ الْحُكُومَةُ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ذَوَا عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ مَنْ قَبْلِهِ الصَّحَابَةُ؟ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عَدْلَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرْدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ لِلصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْكِيمِ الْعَدْلَيْنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ الْقِيمَةَ، قَالُوا لِأَنَّ التَّقْوِيمَ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ الْمُمَاثَلَةِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قِيَمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي دَقَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَطِبَاعِهَا وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ عَلَى قِلَّتِهَا وَتَقَارُبِ صِفَاتِهَا، وَمَالَ الْآلُوسِيُّ إِلَى جَعْلِ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُحْتَاجًا إِلَى هَذَا الِاجْتِهَادِ مِنَ الْحَكَمَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ مَذْهَبِهِ الْأَوَّلِ وَمَذْهَبِهِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ صَارَ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْوَاجِبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا يَصِلُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيُذْبَحُ هُنَاكَ أَيْ فِي جِوَارِهَا حَيْثُ تُؤَدَّى الْمَنَاسِكُ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ عَلَى مَسَاكِينَ الْحَرَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ أَنَّ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْعَامِ، فَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجَزَاءِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الصِّفَاتِ وَالْهَيْئَاتِ وَكَلِمَةُ (هَدْيًا) حَالٌ مِنْ (جَزَاءٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (يَحْكُمُ بِهِ) أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يَهْدِي هَدْيًا. (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ (كَفَّارَةُ) إِلَى (طَعَامٍ) أَيْ كَفَّارَةُ طَعَامٍ لَا كَفَّارَةُ هَدْيٍ وَلَا صِيَامٍ، وَالْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ (كَفَّارَةٌ) ، أَيْ فَعَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مُتَعَمِّدٌ جَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مُمَاثِلٌ لَهُ أَوْ كَفَارَّةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ مَا يُعَادِلُ ذَلِكَ الطَّعَامَ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ الْمُعَادِلُ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي لَهُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ كَالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَبِالْكَسْرِ الْمُعَادِلُ وَالْمُسَاوِي مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ كَالْغِرَارَتَيْنِ مِنَ الْأَحْمَالِ عَلَى جَانِبَيِ الْبَعِيرِ يُسَمَّى كُلٌّ مِنْهَا عِدْلًا، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ بِالْكَسْرِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ مَا عَادَلَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَعِدْلَهُ مَا عَدَلَ بِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَمِنْهُ عِدْلَا الْحِمْلِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عِدْلٌ بِالْآخَرِ حَتَّى اعْتَدَلَا، كَأَنَّ الْمَفْتُوحَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَكْسُورِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَالذَّبْحِ وَنَحْوِهِ، وَنَحْوِهِمَا الْحَمْلُ وَالْحِمْلُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (2: 196) فَالنُّسُكُ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْهَدْيِ هُنَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ لَمَّا آذَتْهُ الْقَمْلُ، وَأَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ يَهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يَعْدِلُ إِطْعَامَ مِسْكِينَيْنِ، وَأَنَّ إِطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَصِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَعْدِلُ ذَبْحَ شَاةٍ فِي النُّسُكِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِجَعْلِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُعَادَلَةً لِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قُلْنَا: إِنَّ الصِّيَامَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يُجْعَلْ مُسَاوِيًا لِلْإِطْعَامِ بَلْ تَخْفِيفًا عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطَعِ الْإِطْعَامَ وَإِلَّا لَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّ صِيَامَ شَهْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، إِذْ فُرِضَ الْإِطْعَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ جَعَلَ كَفَّارَةَ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَافِقٌ لِمَا

أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ فِي الْمُعَادَلَةِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ هُنَا عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ بِالتَّرْتِيبِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَهُوَ يَرْوِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ، فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنَّ قَتْلَ نَعَامَةٍ أَوْ حِمَارِ وَحْشٍ أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالطَّعَامُ مَدٌّ مَدٌّ يُشْبِعُهُمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ مِنَ النِّعَمِ، فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ فَتصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءَهُ قُوِّمَ الْجَزَاءُ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ صَاعٍ يَوْمًا. ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً قُوِّمَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ طَعَامًا ثُمَّ صَامَ لِكُلِّ صَاعٍ يَوْمَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ صِيَامِ يَوْمٍ عَنْ كُلِّ صَاعٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ أَيْ مُدَّيْنِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ تِلْمِيذِهِ مُجَاهِدٍ وَأَنَّ رِوَايَةَ صِيَامِ يَوْمَيْنِ عَنْ كُلِّ صَاعٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا كَمَا سَبَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ كُلَّ مِسْكِينٍ يُطْعَمُ مُدًّا، وَعَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْحِجَازِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يُوجِبُونَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَمُدَّانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَطَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَتَكَلَّمَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَأَثْبَتَ بِدَقَائِقِ الْقِيَاسِ الَّتِي لَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا مِثْلُهُ أَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ يَعْدِلُ طَعَامَ مُدٍّ، وَقَدْ عَقَدَ الرَّبِيعُ بَابًا خَاصًّا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأُمِّ كَمَا أَطَالَ فِي جَمِيعِ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَقْرُونَةً بِالشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّقْوِيمَ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الصَّيْدُ، وَقِيلَ: بَلْ يَقُومُ بِمَكَّةَ حَيْثُ تَكُونُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا هُوَ قَاتِلُ الصَّيْدِ، وَقِيلَ: بَلِ التَّخْيِيرُ لِلْحَكَمَيْنِ، وَحَكَى هَذَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ الْإِطْعَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَكَانُهُ مَكَانُ الْهَدِيِ أَيْ مَكَّةَ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ. (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ، وَفُسِّرَ الْوَبَالُ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ هُوَ مِنَ الْوَبْلِ وَالْوَابِلُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ الثَّقِيلُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَلِمُرَاعَاةِ الثِّقَلِ، قِيلَ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُخَافُ ضَرَرُهُ وَبَالٌ، وَيُقَالُ: طَعَامٌ وَبِيلٌ، وَالذَّوْقُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِدْرَاكِ الْعَامِّ، غَيْرُ خَاصٍّ بِإِدْرَاكِ اللِّسَانِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي إِدْرَاكِ أَلَمِ الْعَذَابِ وَالْوَبَالِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي إِدْرَاكِ الطُّعُومِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) (7: 22) وَفِي قَوْلِهِ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) (78: 24، 25) وَكُلُّ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُكْرَهُ وَيُذَمُّ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ وَالْعُقُوبَةَ مِنْ أَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا عَلَى النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَالِيَّةً أَوْ بَدَنِيَّةً. (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِمَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوْ قَبْلَ الْجَزَاءِ، وَقِيلَ: عَمَّا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَيُطَهِّرُ نَفْسَ صَاحِبِهِ مِنَ الْأَدْرَانِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُبْقِي لَهَا أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ. (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ عَادَ إِلَى قَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَزْجُرْهُ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ " وَاللهُ عَزِيزٌ " أَيْ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا يَغْلِبُهُ الْعَاصِي، " ذُو انْتِقَامٍ " مِمَّنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، وَالِانْتِقَامُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَمْنَعُ الْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الذَّنْبُ، فَإِنْ تَكَرَّرَ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ، بِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الِانْتِقَامَ هُنَا هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ خَطَأً وَهُوَ مُحْرِمٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ، فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا يُحْكَمُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَ يُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللهُ مِنْكَ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عُقُوبَتَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

96

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) الْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْمُسْتَبْحِرُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ السَّمَكُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي تُصَادُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَنْهَارُ وَالْآبَارُ وَالْبِرَكُ وَنَحْوُهَا، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يُصَادُ مِنْهُ مِمَّا يَعِيشُ فِيهِ عَادَةً وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَعِيشَ خَارِجَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَالسَّرَطَانِ وَالسُّلَحْفَاةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِيهِ، وَطَيْرُ الْمَاءِ لَيْسَ مِنْهُ فِيمَا يَظْهَرُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَائِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُلَازِمُ الْمَاءَ لِصَيْدِ طَعَامِهِ مِنْهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْبَحْرِ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: وَمَنْ خُوطِبَ بِإِحْلَالِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَطَعَامِهِ عَقَلَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُ مَا يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَحَلَّ كُلَّ مَا يَعِيشُ فِي مَائِهِ لِأَنَّ صَيْدَهُ، وَطَعَامَهُ عِنْدَنَا مَا أُلْقِيَ وَطَفَا عَلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلَا أَعْلَمُ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ يَكُونُ طَعَامُهُ مِنْ دَوَابَّ تَعِيشُ فِيهِ فَتُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَتَكَلُّفِ صَيْدِهِ فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا فِي ظَاهِرِ جُمْلَةِ الْآيَةِ وَاللهُ أَعْلَمُ اه. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ وَقَالَ: " مَا لَفَظَهُ مَيِّتًا فَهُوَ طَعَامُهُ " وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَذَفَ بِهِ مَيِّتًا، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: مَا حُسِرَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ: مَا لَفَظَ الْبَحْرُ فَهُوَ طَعَامُهُ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ فِي الْآيَةِ مَا لَا عَمَلَ لِلْإِنْسَانِ وَلَا كُلْفَةَ فِي اصْطِيَادِهِ كَالَّذِي يَطْفُو عَلَى وَجْهِهِ وَالَّذِي يُقْذَفُ بِهِ إِلَى السَّاحِلِ وَالَّذِي يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ فِي وَقْتِ الْجَزَاءِ أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى، لَا فَرْقَ بَيْنَ حَيِّهِ وَمَيِّتِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: صَيْدُ الطَّرِيِّ وَطَعَامُهُ الْمَالِحُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَأَخَذَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَكَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ عِنْدِي: أَحَلَّ لَكُمْ أَنْ تَصْطَادُوا مِنَ الْبَحْرِ وَأَنْ تَأْكُلُوا الطَّعَامَ الْمُتَّخَذَ مِنْ حَيَوَانِهِ سَوَاءٌ صِدْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ صَادَهُ لَكُمْ غَيْرُكُمْ أَوْ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ إِلَيْكُمْ. وَسَوَاءٌ كُنْتُمْ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (مَتَاعًا) فَمَعْنَاهُ لِأَجْلِ تَمَتُّعِكُمْ بِهِ أَوْ مَتَّعَكُمُ اللهُ بِهِ مَتَاعًا حَسَنًا، وَالسَّيَّارَةُ جَمَاعَةُ الْمُسَافِرِينَ وَيَتَزَوَّدُونَ مِنْهُ، فَهُوَ مَتَاعٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ. (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) هَذَا أَعَمُّ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، وَقِيلَ: يَشْمَلُ أَكْلَهُ وَإِنْ صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ فَمَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِإِعَانَتِهِ أَوْ إِذْنِهِ لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَثَلِهِ ثُمَّ أَهْدَى مِنْهُ الْمُحْرِمَ فَهُوَ حِلٌّ لَهُ، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِنَّ هَذَا مَا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْكِتَابِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَلِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ فِيهِ لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: " كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: وَاللهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ " هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوهُ " وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَحَدٌ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " وَرِوَايَةُ التَّأْنِيثِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ كَانَ أَتَانًا لَا حِمَارًا، فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا ". . . إِلَخْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ مُتَعَدِّدَةً خَلَطَ الرُّوَاةُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ " وَأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنِّي إِنَّمَا صِدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ " وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَقَدِ اسْتَغْرَبُوا هَذَهِ الزِّيَادَةَ وَشَكُّوا فِي كَوْنِهَا مَحْفُوظَةً، لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْجَمْعَ بِكَوْنِهِ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَادَهُ لَهُ وَامْتَنَعَ بِهِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَظْهَرُ الْجَمْعُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَوِ احْتَمَلَ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شُذُوذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: " خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارًا فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَأَنِّي إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ " وَاسْتَشْكَلُوهُ بِأَنَّهُ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ وَهُوَ مَعَهُمْ، وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَجْهُهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْرِ مَخَافَةَ الْعَدْوِ، فَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِتَعْبِيرِهِ عَنْ خُرُوجِهِ وَعَدَمِ إِحْرَامِهِ هُنَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ " أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ كِلَاهُمَا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " وَلَهُ طُرُقٌ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ عِلَّةٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فَلَا تُحِلُّوا مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ يَوْمَ تُحْشَرُونَ إِلَيْهِ، أَيْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْحِسَابِ. (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ السَّابِقِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَأُرِيدَ بِالْكَعْبَةِ هُنَالِكَ حَرَمُهَا وَجِوَارُهَا الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْمَنَاسِكُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَعْبَةَ وَأَرَادَ بِهَا عَيْنَهَا وَلِذَلِكَ بَيَّنَهَا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْهَدْيَ أَيْضًا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الِاصْطِيَادَ عَلَى الْمُحْرِمِ، فَبَيَّنَ أَيْ هُنَا أَنَّ الْحَرَمَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِأَمْنِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ فَكَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لِأَمْنِ النَّاسِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اه. (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) الْجَعْلُ هُنَا إِمَّا خِلْقِيٌّ تَكْوِينِيٌّ وَهُوَ التَّصْيِيرُ، وَإِمَّا أَمْرِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كُلٍّ مِنْهَا، (وَالْكَعْبَةُ) فِي اللُّغَةِ الْبَيْتُ الْمُكَعَّبُ أَيِ الْمُرَبَّعُ، وَقِيلَ: الْمُرْتَفِعُ مِنْ كَعْبِ الرُّمْحِ وَهُوَ طَرَفُ الْأُنْبُوبِ النَّاشِزِ، أَوْ كَعْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ النَّاتِئُ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ، وَمِنْهُ كَعَّبَتِ الْجَارِيَةُ (الْبِنْتُ) وَكَعَّبَ ثَدْيُهَا يُكَعِّبُ إِذَا نَتَأَ وَارْتَفَعَ فَهِيَ كَاعِبٌ وَكَعَابٌ، وَثَدْيٌ كَاعِبٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ غَلَبَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج1) وَتَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ (ج4) قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِتَرْبِيعِهَا، وَ (الْقِيَامُ) أَصْلُهُ الْقِوَامُ بِالْوَاوِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ

يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا كَالْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ وَيَتَحَقَّقُ أَوْ يَسْتَقِيمُ وَيَصْلُحُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " قِيَمًا " بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَى " قِيَامًا " وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) ذُو الْحِجَّةِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي تِلْكَ الْمَعَاهِدِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي كَانُوا يَتْرُكُونَ فِيهَا الْقِتَالَ، (وَالْهَدْيَ) مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى فُقَرَائِهِ، (وَالْقَلَائِدَ) هُنَا ذَاتُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْهَدْيِ وَهِيَ الْأَنْعَامُ الَّتِي كَانُوا يُقَلِّدُونَهَا إِذَا سَاقُوهَا هَدْيًا، خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا يُقَلَّدُ بِهِ الْهَدْيُ مِنَ النَّبَاتِ، وَكَذَا مَا كَانَ يَتَقَلَّدُ بِهِ مُرِيدُو الْحَجِّ وَالرَّاجِعُونَ مِنْهُ إِلَى بِلَادِهِمْ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْجَعْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ الَّتِي هِيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ قِيَامًا لِلنَّاسِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِجِوَارِهَا وَالَّذِينَ يَحُجُّونَهَا، أَيْ سَبَبًا لِقِيَامِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ بِإِيدَاعِ تَعْظِيمِهَا فِي الْقُلُوبِ، وَجَذْبِ الْأَفْئِدَةِ إِلَيْهَا، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ فِيهَا وَعَلَى مُجَاوَرِيهَا وَحُجَّابِهَا، وَتَسْخِيرِهِمْ لِجَلْبِ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْجَعْلُ الْخِلْقِيُّ التَّكْوِينِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (14: 37) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (28: 57) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ 29: 67) . وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمُ الْمُهَذِّبِ لِأَخْلَاقِهِمُ الْمُزَكِّي لِأَنْفُسِهِمْ، بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ رُوحِيَّةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِ حِكَمِهِ وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيدٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَمَا شَرَعَ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ الَّتِي تُطَهِّرُ فَاعِلَهَا مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَتُحَبِّبُ إِلَيْهِ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَيَتَّسِعُ بِهَا رِزْقُ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهَذَا هُوَ الْجَعْلُ الْأَمْرِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، دَعْ مَا تَسْتَلْزِمُهُ كَثْرَةُ النَّاسِ هُنَاكَ مِنْ جَلْبِ الْأَرْزَاقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا أُمُورُ الْمَعِيشَةِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِيَامَ هُنَا بِقَوْلِهِ: قِيَامًا لِدِينِهِمْ وَمَعَالِمَ لِحَجِّهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: قِيَامُهَا أَنْ يَأْمَنَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا.

97

ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِيهِ ثَلَاثُ أَقْوَالٍ: (1) صَلَاحٌ لِدِينِهِمْ (2) شِدَّةٌ لِدِينِهِمْ (3) عِصْمَةٌ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، فَهَذِهِ أَقْوَالُ مَنْ جَعَلَ الْقِيَامَ دِينًا فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُوَ دِينِيٌّ دُنْيَوِيٌّ، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ وَحُجَّاجَهُ مَا كَانُوا لِيَجِدُوا فِيهِ مَا يَعِيشُونَهُ بِهِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَمَا يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْهَلَاكَ، لَوْلَا أَنْ جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ، كَمَا جَعَلَهَا قِيَامًا لِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَكِنْ خَصَّ بَعْضُهُمُ الْقِيَامَ الدُّنْيَوِيَّ بِزَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِيهِمْ مُلُوكٌ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ مُلُوكٌ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِهِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللهُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْقَلَائِدِ، وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنَ عَمِّهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ نُسِخَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَعَلَ اللهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، لَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حِينَ يَلْقَوْنَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) قَالَ: حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُقْرَبْ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ الْهَدْيَ مُقَلَّدًا وَهُوَ يَأْكُلُ الْعَصَبَ مِنَ الْجُوعِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْبَيْتَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ فَأَحْمَتْهُ وَمَنَعَتْهُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا نَفَرَ (أَيْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ) تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنَ الْخَزِّ أَوْ مِنَ السَّمَرِ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اه. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ جَعْلَ اللهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قِيَامًا لِلنَّاسِ هُوَ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ مَعًا، وَهُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لِمَا تَقُومُ بِهِ وَتَتَحَقَّقُ مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَشَامِلٌ لِزَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْعَهْدَيْنِ صُورَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ فَفِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ التَّكْوِينِيُّ أَظْهَرَ وَالتَّشْرِيعِيُّ أَخْفَى، لِأَنَّهُمْ عَلَى إِضَاعَتِهِمْ لِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مَزَجُوهَا بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ الْوَضْعِيَّةِ، وَكَانَتْ آيَاتُ اللهِ تَعَالَى

التَّكْوِينِيَّةُ ظَاهِرَةً فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَسَبَقَ مَا فِي مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَأَمَّا فِي عَهْدِ الْإِسْلَامِ فَالتَّشْرِيعِيُّ أَظْهَرُ. (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا مِنْهُ إِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ جَاهِلِيَّتِهَا وَغَفْلَتِهَا وَتَفَانِيهَا فِي الْغَزْوِ وَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْمَكَانِ، وَلِلْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ فِيهِ، وَلِلزَّمَنِ الَّذِي فِيهِ تُؤَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالُ هُنَالِكَ، مَنَعَهُمْ مِنَ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَانَ سَبَبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَقَدْ عَجَزَتْ جَمِيعُ أُمَمِهِمْ عَنِ الْحَضَارَةِ وَالْمَدَنِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ بَلْهَ أُمَمِ الْبَدَاوَةِ عَنْ تَأْمِينِ النَّاسِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَزَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِمَا قِتَالٌ وَلَا قَتْلٌ وَلَا عُدْوَانٌ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ أَعْظَمَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مِنْ حُكْمِ الْحَجِّ بِالتَّفْصِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَالْفَوَائِدُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ قِيَامِ أَمْرِ النَّاسِ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، فَدَلَّ مَا ذَكَرَ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ قِيَامًا لِلنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ عِلْمٍ بِخَفَايَا الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَنِظَامِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، عَلَى أَنَّ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ مِنْ جَعْلِهِ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ سَبَبًا لِدَفْعِ الشَّقَاوَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَجَلْبَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْفَلَكِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهِمَا بِحُسْبَانٍ، وَفِي عِلْمِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، لَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الشُّبَهَاتِ مَا يَعْتَرِي السُّنَنَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَغْفَلُونَ عَنْهَا. (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .

98

أَرْشَدَنَا جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِلَى بَعْضِ آيَاتِ عِلْمِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَرْشَدَنَا فِي هَذِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَلِيمَ بِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي ظَهَرَتْ آيَاتُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي جَعْلِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِيَامًا لِلنَّاسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ، كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَلِمُوا الصَّالِحَاتِ، وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ، وَالْمَظْلُومِ وَالظَّالِمِ، فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنَ الْجَزَاءِ بِالْحَقِّ، وَلَا يَمْلُكُ الْجَزَاءَ إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْعِقَابِ الشَّدِيدِ، وَعَلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِذَلِكَ قَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ دَنَّسَ نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا سَلَفَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَلَا بِمَا يَعْمَلُهُ مِنَ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ إِذَا بَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا بِاللَّمَمِ، إِلَّا اجْتِنَابَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، بَلْ يَسْتُرُ ذَنْبَهُ وَيَمْحُوهُ فَيَضْمَحِلُّ فِي إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، كَمَا يَسْتُرُ الْقَذَرَ الْقَلِيلَ، وَيَضْمَحِلُّ بِمَا يَغْمُرُهُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَيَخُصُّهُ فَوْقَ ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ. فَالْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَهِيَ وَعِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ، وَوَعْدٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْعِقَابِ وَتَأْخِيرِ ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِقَابَ قَدْ يَنْتَهِي بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يَدُومُ، لِأَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ غَضَبَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ يَغْفِرُ كَثِيرًا مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) وَأَعَادَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ ثَابِتَانِ لَهُ بِالْأَصَالَةِ. (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي إِثْرِ بَيَانِ كَوْنِ الْجَزَاءِ بِيَدِ اللهِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولُ اللهِ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا تَبْلِيغُ رِسَالَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ، فَهُوَ لَا يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يُبْدِيهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَمَا يَكْتُمُونَهُ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَهْلًا لِحِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ اللهُ وَحْدَهُ، وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَالرَّجَاءِ فِيهَا، وَالْتِمَاسِ الْخَلَاصِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهَا، فَهُوَ يَقُولُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: " مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، فَبِذَلِكَ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، وَيَكُونُ مَنْ بَلَّغَهُمْ هُمُ الْمَسْئُولُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ مِنْ عَقَائِدِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، بِحَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ مِنْهَا، فَيَكُونُ جَزَاءَهُ حَقًّا وَعَدْلًا وَيَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ كَرَمًا مِنْهُ وَفَضْلًا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) .

100

فَلَا تَطْلُبُوا سَعَادَتَكُمْ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَخَافُوا عَلَيْهَا إِلَّا مِنْهَا. وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَنَا هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (13: 40) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (6: 48 51) . وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَا تُنَاقِضُ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ فِي الْآخِرَةِ يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ بِحَسَبِ مَا فِي كِتَابِهِ تَكْرِيمًا لِلدَّاعِي الشَّفِيعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي عِلْمِ اللهِ وَلَا فِي إِرَادَتِهِ لِأَنَّ الْحَادِثَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَدِيمِ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (57: 3) . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْجَزَاءَ وَكَوْنَهُ مَنُوطًا بِالْأَعْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ مِنْ وَصْفِ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا، فَأَثْبَتَ وُجُودَ حَقِيقَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَهُمَا حَقِيقَةُ الطَّيِّبِ وَحَقِيقَةُ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ: لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ وَالْفَاسِدِ وَالصَّالِحِ، وَالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَلَا مِنَ النَّاسِ كَالظَّالِمِ وَالْعَادِلِ وَالْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ وَالْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ يَلِيقُ بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ جَزَاءٌ وَمَكَانٌ يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ صِفَتِهِ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (6: 139) يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ الْخَبِيثِ فِي الذِّكْرِ كَوْنُ السِّيَاقِ لِلْإِهْتِمَامِ بِإِزَالَةِ شُبْهَةِ الْمُغْتَرِّينَ بِكَثْرَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الْخِطَابُ مِنَ الرَّسُولِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ بَلَغَتْهُ دَعَوْتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ مِنَ النَّاسِ وَجَاهِهِمْ، أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَأَكْلِ الرِّبَا وَالرَّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالْخِيَانَةِ، أَوْ لِدَعْوَى أَصْحَابِهَا أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى

حَبِّ اللهِ لَهُمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ إِذْ فَضَّلَهُمْ بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) . أَيْ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَا عِنْدَ اللهِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ كَثْرَةَ الْخَبِيثِ أَعْجَبَتْكَ وَغَرَّتْكَ فَصِرْتَ بَعِيدًا عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ كَرَاتِبِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ وَرِبْحِ التَّاجِرِ الصَّادِقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْحَرَامِ كَالرَّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ، بِاعْتِبَارِ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْقَلِيلَ الْجَيِّدَ مِنَ الْغِذَاءِ أَوِ الْمَتَاعِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ وَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ، بَلْ رُبَّمَا يَضُرُّ آكِلَهُ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ مَعِدَتَهُ. كَذَلِكَ الْقَلِيلُ الطَّيِّبُ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْخَبِيثِ، فَالْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِيمَانِ تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ ذَوِي الْجُبْنِ وَالتَّخَاذُلِ وَالشِّرْكِ، وَإِنَّ أَفْرَادًا مَنْ أُولِي الْبَصِيرَةِ وَالرَّأْيِ، لَيَأْتُونَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْجَمَاعَاتُ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْخَرَقِ، وَالْعَالَمُ الْحَكِيمُ يُسَخَّرُ لِخِدْمَتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (39: 9) . كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْخَرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَتِهِمْ وَيَعْتَزُّونَ بِهَا (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) (34: 35) فَضَرَبَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلَ الْكَافِرِ الَّذِي فَاخَرَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِهِ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (18: 34) وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا وَقَالَ لَهُمْ: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (8: 19) ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتًا لَهُمْ حَتَّى لَا تُرَوِّعَهُمْ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) (8: 26) وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ لَا بِعَدَدِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِزَّةُ بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الصِّفَاتِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ وَالْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ مُطْلَقًا، قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَفْضِيلِ الطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ وَإِنْ كَثُرَ الْخَبِيثُ: (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَلَا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَلَا بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ مِنَ الْخَبِيثِينَ، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى هِيَ الَّتِي تَنْظِمُكُمْ فِي سِلْكِ الطَّيِّبِينَ، فَيُرْجَى لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ فَائِزِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالذِّكْرِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ بَعْدَ مُخَاطَبَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي صَدْرِهَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّوِيَّةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا، بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا، فَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الْغُرُورِ بِكَثْرَةِ الْخَبِيثِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، وَأَمَّا الْأَغْرَارُ وَالْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يُمَرِّنُوا عُقُولَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فِي النَّظَرِ

وَالِاعْتِبَارِ بِالتَّجَارِبِ وَالْحِكَمِ، فَلَا يُفِيدُهُمْ وَعْظُ وَاعِظٍ وَلَا تَذْكِيرُ مُذَكِّرٍ، بَلْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَرَوْنَ بِأَعْيُنِهِمْ وَيَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ مِنْ حَوَادِثِ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمُ الْكَثِيرَةُ الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ الَّتِي اضْمَحَلَّتْ كَثْرَتُهَا الْعَاطِلَةُ مِنْ فَضِيلَتَيِ الْعِلْمِ وَالنِّظَامِ، وَكَيْفَ وَرِثَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مَنْ كَانُوا أَقَلَّ مَالًا وَرِجَالًا، إِذْ كَانُوا أَفْضَلَ أَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) . ورُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبِيثِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ وَبِالطَّيِّبِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَدِرْهَمٌ حَلَالٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَرَامٍ فَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا كِتَابَ اللهِ: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْضُ عُمَّالِهِ يَذْكُرُ أَنَّ الْخَرَاجَ قَدِ انْكَسَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: " إِنَّ اللهَ يَقُولُ: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْإِحْسَانِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فِي الظُّلْمِ وَالْفُجُورِ وَالْعُدْوَانِ فَافْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) . فَهَذِهِ الْآيَةُ قَاعِدَةٌ فِي التَّشْرِيعِ وَبُرْهَانٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَأَصْلٌ لِلْأَدَبِ وَالتَّهْذِيبِ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) . قَالَ الرَّازِيُّ: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) صَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَخُذُوهُ وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ، وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ خُضْتُمْ فِيمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكُمْ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا يَثْقُلُ وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ. (الثَّانِي) أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) وَهَذَا ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِلرِّسَالَةِ ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ بِمُعْجِزَاتٍ أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَمَا

قَالَ حَاكِيًا عَنْهُمْ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا 17: 90) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا 17: 93) وَالْمَعْنَى أَنِّي رَسُولٌ أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَيْكُمْ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ فِي الرِّسَالَةِ بِإِظْهَارِ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِي، وَلَعَلَّ إِظْهَارَهَا يُوجِبُ مَا يَسُوؤُكُمْ، مِثْلُ أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا الْكَفَّارَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى ظُهُورِهَا فَعَرَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ ظُهُورُهَا يُوجِبُ مَا يَسُوؤُهُمْ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَحْوَالٍ مَخْفِيَّةٍ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِنَصِّهِ وَضَعْفِ عِبَارَتِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ مُنَاسَبَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لِآيَةِ تَبْلِيغِ الرَّسُولِ لِلرِّسَالَةِ مُنَاسِبَةٌ خَاصَّةٌ قَرِيبَةٌ وَلَهُمَا مَوْقِعٌ مِنْ مَجْمُوعِ السُّورَةِ يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ: ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ آخَرُ مَا نَزَلْ مِنَ السُّوَرِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَسُورَةُ النَّصْرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ اللهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِهَا بِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُصَرِّحَ فِيهَا بِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْبَلَاغِ الَّذِي كَمُلَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُكْثِرُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّؤَالِ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يَشُقُّ عَلَى الْأُمَّةِ احْتِمَالُهَا، فَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ أَنْ يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفُسُوقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ كِتْمَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِتَبْلِيغِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَا النَّهْيِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ؟ قُلْتُ: تِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ مَسَائِلِ الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَخْبَارٍ وَأَحْكَامٍ وَغَيْرِهِمَا لِمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَهَاكَ أَقْوَى مَا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ: رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ وَقَالَ فِيهَا: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

101

(لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَةَ، قَالَ فَحَدَّثَنَا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: " لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَأَشْفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، فَجَعَلْتُ لَا أَلْتَفِتُ لَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إِلَّا وَجَدْتُ كُلَّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ يُلَاحَى فَيُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ عُمَرُ أَوْ فَأَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا عَائِذًا بِاللهِ أَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ أَرَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ " أَخْرَجَاهُ (أَيِ الشَّيْخَانِ) مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ: (مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ، قَالَتْ: أَكُنْتَ تَأْمَنُ أَنَّ أُمَّكَ قَدْ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ) . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا، قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَةَ " إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جُمْلَتِهِ وَزَادَ كَلَامَ عُمَرَ " فَاعْفُ عَنَّا عَفَا اللهُ عَنْكَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ: فَيَوْمَئِذٍ قَالَ: وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " (ثُمَّ قَالَ) قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ الْأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (3: 97) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، قَالَ ثُمَّ قَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَةَ " وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ وَرْدَانَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا. اهـ. أَقُولُ: مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ ثِقَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ التَّابِعِيُّ ثِقَةٌ فِيهِ تَشَيُّعٌ، رَوَى عَنِ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنْ مَرَاسِيلُهُ ضَعِيفَةٌ. وَقَدْ عَزَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا إِلَى أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمِ - قَالَ: وَصَحَّحَهُ - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَذُكِرَ مِثْلُهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ مِنْ تَخْرِيجِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَفِيهِ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " إِلَخْ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " وَلَفَظُ مُسْلِمٍ " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافُهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". قَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ تَبَعًا لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ (أَقُولُ: وَكَذَا النَّسَائِيُّ) مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمُ " الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُخْتَصَرًا فَزَادَ فِيهِ: فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) انْتَهَى وَأَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ هَذَا ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ. وَنَصُّ سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثَةً فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ;

فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِشَيْءٍ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ " رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَأَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: " كُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ ثُمَّ إِذَنْ لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تُطِيعُونَ وَلَكِنَّهُ حِجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ نَقَلَ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْحَجِّ كَانَ يَوْمَ خَطَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ ". وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثْنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) قَالَ: " هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ كَذَا وَلَا كَذَا " قَالَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْآيَاتِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) ، قَالَ فَقَالَتْ: قَدْ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ بِخِلَافِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا لَكَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: هِيهْ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ إِكْثَارِ السَّائِلِينَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، كَمَسْأَلَةِ ابْنِ حُذَافَةَ إِيَّاهُ مَنْ أَبَوْهُ، وَمَسْأَلَةِ سَائِلِهِ إِذَا قَالَ " إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ " أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَعَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَغَيْرُ بَعِيدٍ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَظَاهِرَةَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِخِلَافِهِ، ذَكَرَ هُنَا الْقَوْلَ بِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي كَانَتْ فِيمَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنَ الَمَسَائِلِ الَّتِي كَرِهَ اللهُ لَهُمُ السُّؤَالَ عَنْهَا إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَفِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ صِحَاحٌ فَوَجَبَ تَرْجِيحُهَا، وَيُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ سَنَدِ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ ; لِأَنَّ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاوِيهَا عَنْهُ قَدْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تُكُلِّمَ فِي سُوءِ حِفْظِهِ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ: مَرَّةً صَالِحٌ وَمَرَّةً ثِقَةٌ. وَالطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النُّهَى فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَكُلَّ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَانَ سَبَبًا حَقِيقِيًّا، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَيَشْمَلُهُ عُمُومُهَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الرُّوَاةِ بِمَعْنَاهُ فَيَجِيءُ مَنْطُوقُهُ مُتَعَارِضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا، وَأَبْعَدُ مَا قِيلَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ

عَنِ الشَّيْءِ امْتِحَانًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ صَرِيحٍ أَوْ مُنَافِقٍ، وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُمْكِنُ نَهْيًا لَهُمْ عَنْ سُؤَالٍ لِامْتِحَانٍ أَوِ اسْتِهْزَاءٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ: " فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: سَلُونِي " فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ لِهَذَا الْإِحْفَاءِ وَالْإِغْضَابِ الَّذِي آذَوْا بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ مَا شَرَطَ فِي النَّهْيِ وَمَا عَلَّلَ بِهِ يُنَافِي ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ لِلرِّوَايَاتِ وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا يَأْتِي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (أَشْيَاءَ) اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعٌ لِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَهِيَ أَهَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَشْمَلُ السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهَا ذِكْرُ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَدَقَائِقِ التَّكَالِيفِ، يَلِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ أَوِ الْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَغْرَاضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُهَا سَبَبًا لِلْمَسَاءَةِ، إِمَّا بِشِدَّةِ التَّكَالِيفِ وَكَثْرَتِهَا، وَإِمَّا بِظُهُورِ حَقَائِقَ تَفْضَحُ أَهْلَهَا، وَلَكِنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ " تَسْأَلُوا " يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ وَلَا تَسْأَلُوا غَيْرَ الرَّسُولِ عَنْ أَشْيَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُهَا مَسَاءَتَكُمْ، فَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الْفُضُولِ وَمَا لَا يُغْنِي الْمُؤْمِنَ. وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ شَرْطَ " إِنْ " مِمَّا لَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ، وَالْجَزَاءُ تَابِعٌ لِلشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) دُونَ " إِذَا أُبْدِيَتْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " دَالًّا عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ إِبْدَائِهَا وَكَوْنَهُ يَسُوءُ كَافٍ فِي وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا. وَبِهَذَا سَقَطَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَمْثِلَةَ الْمَائِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْوَارِدَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ إِبْدَائِهَا يَسُوءُ السَّائِلِينَ عَنْهَا، بَلْ يَحْتَمِلُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسُرُّ، وَقَدْ كَانَ جَوَابُ مَنْ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ سَارًّا لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ إِذْ كَانَ جَوَابُهُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَعَنِ الْأُمَّةِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا فِي كُلِّ عَامٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سَائِلٍ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَلَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ،

بِهَذَا الشَّرْطِ، كُلُّ هَذَا يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُصَدَّرَةِ: بِـ " إِنْ " عَلَى احْتِمَالِ وُقُوعِ شَرْطِهَا لَا عَلَى الْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ " وَيْحَكَ مَاذَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ؟ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ " إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ: " وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ، أَلَا إِنَّهُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَئِمَّةُ الْحَرَجِ " فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ احْتِمَالِ قَوْلِهِ: " نَعَمْ " كَانَ كَافِيًا فِي جَوَابِ تَرْكِ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي سُؤَالِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ عَنْ أَبِيهِ قَوْلُهُ لَهُ: " مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ، أَتَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ؟ " وَسَيَأْتِي رَأْيُنَا فِي جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ حُذَافَةَ. (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُهَا مِمَّا يَسُوؤُكُمْ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِهَا أَوْ حُكْمِهَا لِأَجْلِ فَهْمِ مَا نُزِّلَ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ يُبْدِيهِ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَبِنَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ تَفْسِيرِ صَدْرِ الْآيَةِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا نَصُّهُ: " يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِينِ نَهَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ فَرَائِضَ لَمْ يَفْرِضْهَا عَلَيْهِمْ، وَتَحْلِيلِ أُمُورٍ لَمْ يُحَلِّلْهَا لَهُمْ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ لَمْ يَحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ السَّائِلُونَ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ رَسُولِي مِمَّا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ كِتَابًا وَلَا وَحْيًا لَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَكُمْ تِبْيَانٌ بِوَحْيٍ وَتَنْزِيلٍ سَاءَكُمْ; لِأَنَّ التَّنْزِيلَ بِذَلِكَ إِذَا جَاءَكُمْ فَإِنَّمَا يَجِيئُكُمْ بِمَا فِيهِ امْتِحَانُكُمْ وَاخْتِبَارُكُمْ، إِمَّا بِإِيجَابِ عَمَلٍ عَلَيْكُمْ، وَلُزُومِ فَرْضٍ لَكُمْ، وَفِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشَقَّةٌ، وَلَوْمٌ وَمُؤْنَةٌ وَكُلْفَةٌ، وَإِمَّا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يَأْتِ بِتَحْرِيمِهِ وَحْيٌ كُنْتُمْ مِنَ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ فِي فُسْحَةٍ وَسَعَةٍ، وَإِمَّا بِتَحْلِيلِ مَا تَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ، وَفِي ذَلِكَ لَكُمْ مَسَاءَةٌ لِنَقْلِكُمْ عَمَّا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ حَقًّا إِلَى مَا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ بَاطِلًا، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْهَا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَبَعْدَ ابْتِدَائِكُمْ شَأْنَ أَمْرِهَا فِي كِتَابِي إِلَى رَسُولِي إِلَيْكُمْ بَيَّنَ عَلَيْكُمْ مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ كِتَابِي وَتَأْوِيلِ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي. " وَذَلِكَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا، ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ

مِثْلَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنِ انْتَظَرُوا فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي ثَعْلَبَةَ وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ: " أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأْنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ يَنْزِلُ بِسُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مُجْمَلَةً فَسَأَلْتُمْ عَنْ بَيَانِهَا بُيِّنَتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهَا (عَفَا اللهُ عَنْهَا) أَيْ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ فَاسْكُتُوا أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا سَكَتَ عَنْهَا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا ". أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ: " دَعُونِي " فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَبَبُهُ السُّؤَالُ عَنِ الْحَجِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ فَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَلَا أَشَارَ إِلَى مَنْ خَرَّجَهُ، وَهُوَ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَوْرَدَهُ صَاحِبُ مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ: وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا ". وَرُوِّينَاهُ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا " قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَثَمَّ وَجْهٌ ثَانٍ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَعَهْدِ التَّشْرِيعِ يُظْهِرْهَا اللهُ لَكُمْ إِنْ كَانَتِ اعْتِقَادِيَّةً بِبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فِيهَا،

وَإِنْ كَانَتْ عَمَلِيَّةً بِبَيَانِ حُكْمِهَا، لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حُكْمًا يَلِيقُ بِهِ فِي عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ بِنَصِّ الْخِطَابِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ لِصَلَاحِ أَمْرَيْ مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَبِفَحْوَى الْخِطَابِ أَوِ الْإِشَارَةِ مَا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابُ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِأُمُورِ مَصَالِحِهِمْ، فَيَعْمَلُ كُلُّ فَرْدٍ أَوْ هَيْئَةٍ حَاكِمَةٍ مِنْهُمْ بِمَا ظَهَرَ أَنَّهُ الْحَقُّ وَالْمَصْلَحَةُ، وَيَنْتَهِي عَمَّا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الْبَاطِلُ وَالْمُفْسِدُ، فَيَكُونُ الْوَازِعُ لِلْفَرْدِ فِي الْمَسَائِلِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ نَفْسِهِ بِحَسَبِ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلِلْمَجْمُوعِ فِي الْأَحْكَامِ وَالسِّيَاسَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِتَشَاوُرِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مُنْتَهَى السَّعَةِ وَالْيُسْرِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُتْرَكَ أَمْرُ التَّشْرِيعِ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أَحْكَامُهَا تَسُؤْكُمْ وَتُحْرِجْكُمْ، وَمَتَى سَأَلْتُمْ عَنْهَا فِي عَهْدِ التَّشْرِيعِ لَا بُدَّ أَنْ تُجَابُوا وَتُبَيَّنَ لَكُمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْبَيَانَ قَدْ يَسُدُّ فِي وُجُوهِكُمْ بَابَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ إِلَيْكُمْ، وَيُقَيِّدُكُمْ بِقُيُودٍ أَنْتُمْ فِي غِنًى عَنْهَا وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا الْمَبْحَثِ قَرِيبًا عَقِبَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. فَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِبْدَاءَهَا لَكُمْ، وَإِبْدَاؤُهَا يَقْتَضِي مَسَاءَتَكُمْ، فَيَجِبُ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ إِبْدَائِهَا أَنْ يَسُوءَ السَّائِلِينَ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِي شَأْنِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهِ إِجْمَالٌ وَأَرَدْتُمُ السُّؤَالَ عَنْ بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ لَكُمْ ظُهُورًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، كَمَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَقَدَّمَ بَيَانَهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا جَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ تِلْكَ بِشَرْطِهِ لَا عَلَى وُجُوبِهِ، فَالسُّؤَالُ عَمَّا ذُكِرَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بِإِطْلَاقٍ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا تَشْرِيعًا جَدِيدًا، وَأَحْكَامًا تَزِيدُ فِي مَشَقَّةِ التَّكَالِيفِ، وَلَا يَظْهَرُ أَلْبَتَّةَ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِمَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ إِجَابَةِ مُقْتَرَحِي الْآيَاتِ لِعِنَادِهِمْ وَمُشَاغَبَتِهِمْ، وَكَوْنِ الْإِجَابَةِ تَقْتَضِي هَلَاكَهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، كَمَا هِيَ سُنَّةٌ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّمَا هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الِاقْتِرَاحَاتُ مِنَ الْكَافِرِينَ (قُلْنَا) : لَوْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ إِلَى مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْآيَاتِ لَوُجِدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقْتَرِحُ ذَلِكَ لِمَا لِلنُّفُوسِ مِنَ الشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَةِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا إِخْبَارًا عَنْ أَسْرَارٍ خَفِيَّةٍ وَأُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ، فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ كُلٌّ مِنَ الْجَوَابَيْنِ مِثْلَ ظُهُورِهِ فِي طَلَبِ الْأَحْكَامِ، وَلَا سِيَّمَا الْأَشْيَاءُ الشَّخْصِيَّةُ كَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ عَنْ أَبِيهِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ فَوَجْهُهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ زَمَنَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ زَمَنُ بَيَانِ الْمُغَيَّبَاتِ وَإِظْهَارِهَا،

لِلرَّسُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَمِنْهُ وَقْتُ السُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهَا يُخْبِرْهُ اللهُ بِهَا مَزِيدًا فِي إِثْبَاتِ ثُبُوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، كَمَا أَخْبَرَهُ بِالْجَوَابِ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، حِينَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْهَا، وَعِنْدِي أَنَّ جَوَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ جَوَابٌ شَرْعِيٌّ لَا غَيْبِيٌّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَبُوكَ الشَّرْعِيُّ مَنْ وُلِدْتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ السُّؤَالِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (2: 189) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج2) . وَهَذَهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَقَدْ غَفَلَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِهِ كَالْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْأَحْكَامُ. وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ - دَعْ تَرْكَهُ وَعَدَمَهُ - يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الْمُرَادِ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِهِ تَرْكُهُ الِاجْتِهَادَ لِلنَّاسِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ كَسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ نَاقَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ غَايَةً فِي خَفَاءِ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ فَحِكْمَتُهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ إِبْدَاءِ الْجَوَابِ لِلسَّائِلِ الْمُؤْمِنِ رُبَّمَا كَانَ مُشَكِّكًا لَهُ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ أَبُو السُّعُودِ مَذْهَبًا غَرِيبًا فِي الْآيَةِ وَتَعْلِيلِ إِبْدَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا بِمَا يُوجِبُ الْمَسَاءَةَ فِي كُلِّ نَوْعَيْهَا، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَغُمُّهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لَا يُطِيقُونَهَا، وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَفْتَضِحُونَ بِظُهُورِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِبْدَائِهَا، كَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنِ التَّكَالِيفِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّشْدِيدِ لِإِسَاءَتِهِمُ الْأَدَبَ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ، وَتَجَاوُزِهِمْ عَمَّا يَلِيقُ بِشَأْنِهِمْ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ فِيهِ وَلَا تَعَرُّضٍ لِكَيْفِيَّتِهِ وَكِمِّيَّتِهِ. اهـ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ إِيرَادَاتٍ وَأَجَابَ عَنْهَا فَقَالَ: (إِنْ قُلْتَ) : تِلْكَ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمَسَاءَةِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِإِيجَابِ الْمَسَرَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِيجَابَهَا لِلْأُولَى إِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ وَجُودُهَا فَهِيَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُهَا مُوجِبَةٌ لِلْأُخْرَى قَطْعًا، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الْحَيْثِيَّتَيْنِ مُحَقَّقَةً عِنْدَ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ مِنَ السُّؤَالِ ظُهُورُهَا كَيْفَ كَانَتْ، بَلْ ظُهُورُهَا بِإِيجَابِهَا لِلْمَسَاءَةِ؟

(قُلْتُ) : لِتَحْقِيقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا سَنَعْرِفُهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ وَتَشْدِيدِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلِانْتِهَاءِ وَالْإِنْزِجَارِ لَا حَيْثِيَّةَ إِيجَابِهَا لِلْمَسَرَّةِ، وَلَا حَيْثِيَّةَ تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْإِيجَابَيْنِ. (إِنْ قِيلَ) : الشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَسَاءَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْدَائِهَا أَلْبَتَّةَ كَمَا مَرَّ، فَلِمَ تَخَلَّفَ الْإِبْدَاءُ عَنِ السُّؤَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجِّ حَيْثُ لَمْ يُفْرَضْ فِي كُلِّ عَامٍ؟ (قُلْنَا) : لِوُقُوعِ السُّؤَالِ وَوُرُودِ النَّهْيِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الشَّرْطِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ السُّؤَالُ الْوَاقِعُ بَعْدَ وُرُودِهِ، إِذْ هُوَ الْمُوجِبُ لِلتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلَا تَخَلُّفَ فِيهِ. (إِنْ قِيلَ) : مَا ذَكَرْتَهُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ كَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَهُ فَلَا يَكَادُ يَتَمَشَّى؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْدَاءُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ السُّؤَالُ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَاقِعُ مَا يُوجِبُ الْمَسَرَّةَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، فَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْدَاءُ لَا غَيْرُهُ، فَيَتَعَيَّنُ التَّخَلُّفُ حَتْمًا. (قُلْنَا) : لَا احْتِمَالَ لِلتَّخَلُّفِ فَضْلًا عَنِ التَّعَيُّنِ، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ السُّؤَالُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَسَاءَةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَبْلَ السُّؤَالِ، كَسُؤَالِ مَنْ قَالَ: أَيْنَ أَبِي؟ لَا عَمَّا يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاقِعٍ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِلْوُقُوعِ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْوُقُوعِ، اهـ. وَحَاصِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ يَسُوؤُهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ دُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُرُّهُمْ أَوْ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْمَسَرَّةِ وَالْمَسَاءَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ السُّؤَالِ قَلَّمَا يَقَعُ مِنْ أَحَدٍ وَأَنَّ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّشْدِيدِ، عُقُوبَةً لَهُ وَلِجَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى إِسَاءَةِ أَدَبِهِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، غَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ وَيُسْرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ غَفَلَ قَائِلُهُ عَفَا اللهُ عَنْهُ عِنْدَ كِتَابَتِهِ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُفَكِّرْ إِلَّا فِي ظَوَاهِرِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَلَا نَتَوَسَّعُ فِي بَسْطِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَقْرِيرِ الصَّوَابِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) : مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ، وَنَقَلْنَا مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَهَيْتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا هِيَ مِمَّا عَفَا اللهُ عَنْهُ بِسُكُوتِهِ

عَنْهُ فِي كِتَابِهِ وَعَدَمِ تَكْلِيفِكُمْ إِيَّاهُ فَاسْكُتُوا عَنْهُ أَيْضًا، وَأَيَّدُوا هَذَا الْقَوْلَ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ إِذْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا " وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ النَّهْيِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ كَوْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّشْرِيعِ. (ثَانِيهُمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ عَفَا اللهُ عَمَّا كَانَ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ قَبْلَ النَّهْيِ فَلَا يُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ وَحِلْمِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِيمَا يُشَابِهُ هَذَا السِّيَاقَ: (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) (5: 95) وَقَوْلِهِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (4: 22، 23) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا يَمْنَعُنَا مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، فَإِنَّ كُلَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ وَالْكِنَائِيَّةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهَا مُجْتَمِعَةً تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ مُنْفَرِدَةً مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَانِي مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مُرَادَةً بَلْ يُرَجَّحُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِطُرُقِ التَّرْجِيحِ مِنْ لَفْظِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أَيْ قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْهَا أَوْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ أَيْ أَمْثَالَهَا قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ إِبْدَائِهَا لَهُمْ كَافِرِينَ بِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أَكْثَرُوا السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا بُيِّنَ لَهُمْ مِنْهَا بَلْ فَسَقَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَرَكُوا شَرْعَهُ لِاسْتِثْقَالِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى اسْتِنْكَارِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ أَوْ إِلَى جُحُودِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَالَّذِينَ سَأَلُوا الْآيَاتِ كَقَوْمِ صَالِحٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا بَلْ كَفَرُوا وَاسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ كَالْآيَاتِ أَوْ مِنْهَا، وَقَدِ اقْتَصَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلُوهَا وَكَفَرُوا بِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَرَّرْنَاهُمَا آنِفًا وَاسْتَشْهَدَ لِلْأَوَّلِ بِمَسْأَلَةِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةً لِمَا قَبْلَهَا وَبَيَانًا لِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهْيِ الْجَامِعِ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ مِنْ كَوْنِ فَرْضِهِ كُلَّ عَامٍ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا وَبَيَّنَاهُ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا لَمْ نَرَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَسَّعُوا بِأَقْيِسَتِهِمْ دَائِرَةَ التَّكَالِيفِ وَانْتَهَوْا بِهَا إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكُومَاتِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ بِجُمْلَتِهَا، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ انْتِقَادِهَا وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا، فَاتَّبَعُوا بِذَلِكَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ عَقْدِ فَصْلٍ خَاصٍّ فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ.

(عِلَاوَةٌ فِي بَيَانٍ) كَوْنُ كَثْرَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ وَالتَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُخِلًّا بِيُسْرِ الْإِسْلَامِ وَمُنَافِيًا لِمَقْصِدِهِ. نَفْتَتِحُ هَذَا الْفَصْلَ بِمُقْدِمَاتٍ مِنَ الْمَسَائِلِ أَكْثَرُهُنَّ مَقَاصِدُ لَا وَسَائِلُ، يَتَجَلَّى بِهِنَّ الْمُرَادُ وَيَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. (1) إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ دِينَهُ وَأَتَمَّ بِهِ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ وَبِمَا قَامَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ الْقِيَامِ مِنْ بَيَانِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَنْزِيلِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَطْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفَصِّي الْقَوْلِ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (2) إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ قَدْ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ الْحَرَجَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سِيَاقِ آيَاتِ الصِّيَامِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّصَّيْنِ، وَسَيَأْتِي نَصٌّ آخَرُ فِي مَعْنَى نَصِّ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (87: 8) أَيِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَفْضُلَ غَيْرَهَا بِالْيُسْرِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: " لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا " وَجَعَلَ الدِّينَ عَيْنَ الْيُسْرِ مُبَالِغَةً فِي يُسْرِهِ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ " إِلَخْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحَبُّ الدِّينِ وَفِي لَفْظٍ: الْأَدْيَانِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ أَحَدِ أَبْوَابِ الصَّحِيحِ تَعْلِيقًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ: (لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ. (3) إِنَّ الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَقَالَ: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (16: 89) وَأَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ وَالْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا جَاءَ فِيهِ مُجْمَلًا، قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (42: 48) وَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) وَقَالَ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (4: 105) .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، هَلْ هِيَ مِنْ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ؟ أَمْ بِوَحْيٍ آخَرَ غَيْرِ الْقُرْآنِ؟ أَمْ أَذِنَ اللهُ لَهُ بِاسْتِئْنَافِ التَّشْرِيعِ؟ وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَيَقُولُ: " لَا أَدْرِي " أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (4: 105) وَيَلِيهِ فِي (بِابِ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ) . وَنَقُولُ: لَا يَتَّجِهُ الْخِلَافُ إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْمَدَنِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ فَقَدْ أُمِرَ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهَا، وَكَانَ يَرَى الرَّأْيَ فَيَرْجِعُ عَنْهُ لِرَأْيِ أَصْحَابِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلَهَا بِرَأْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَتَبُوكَ، وَلَا يَتَأَتَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ بِوَحْيٍ. (4) الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيمَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فَتَرَكَهُ بَعْضُهُمْ لِظَنِّهِ فَخَسِرَ مَوْسِمَهُ: " إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " وَقَالَ أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " وَقَالَ أَيْضًا: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (5) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ فَوَّضَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أُمُورَ دُنْيَاهُمُ الْفَرْدِيَّةَ وَالْمُشْتَرِكَةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، بِشَرْطِ أَلَّا تَجْنِيَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَهَدْيِ شَرِيعَتِهِمْ فَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (45: 13) وَجَعَلَ أُمُورَ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحُكُومَتِهَا شُورَى، إِذْ قَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (42: 38) وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالُ الشُّورَى بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْشَدَ إِلَى رَدِّ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) وَتَفْسِيرَ: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (4: 83)

وَآتَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمِيزَانَ مَعَ الْقُرْآنِ كَمَا آتَاهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلُ، وَالْمِيزَانُ: مَا يَقُومُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي يَسْتَخْرِجُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْأَقْضِيَةِ عَلَى النَّصِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَأَمَّا أَدِلَّةُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فَأَعْظَمُهَا وَأَظْهَرُهَا سِيرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالسِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ بِمُشَاوَرَةِ أُولِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ وَالْمَكَانَةِ الْمُحْتَرَمَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا إِذْنُهُ لِمُعَاذٍ عِنْدَ إِرْسَالِهِ إِلَى الْيَمَنِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقَضَاءِ، وَحَدِيثُ: " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ تَابَعَاهُ عَلَيْهِ. (6) إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ لِتَكْمِيلِ الْبَشَرِ، فِي أُمُورِهِمُ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُورُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَتَمَّهَا اللهُ تَعَالَى وَأَكْمَلَهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهَا النُّصُوصُ، فَلَيْسَ لِبَشَرٍ بَعْدَ الرَّسُولِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا. وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بَيَّنَ الْإِسْلَامُ أَهَمَّ أُصُولِهَا، وَمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ فُرُوعِهَا، وَكَانَ مِنْ إِعْجَازِ هَذَا الدِّينِ وَكَمَالِهِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ ذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَهْدِي أُولِي الْأَمْرِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ، بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّورَى وَالِاجْتِهَادِ. (7) مَنْ تَدَبَّرَ مَا تَقَدَّمَ تَظْهَرْ لَهُ حِكْمَةُ مَا كَانَ مِنْ كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَنِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا كَثْرَةَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّشْدِيدَ فِي الدِّينِ، أَوْ بَيَانَ أَحْكَامٍ دُنْيَوِيَّةٍ رُبَّمَا تُوَافِقُ ذَلِكَ الْعَصْرَ وَلَا تُوَافِقُ مَصَالِحَ الْبَشَرِ بَعْدَهُ، وَقَدْ

تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ، وَسَنُورِدُ قَرِيبًا أَحَادِيثَ أُخْرَى وَآثَارًا فِي مَعْنَى مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِهِمَا. (8) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَذُمُّونَ الْإِحْدَاثَ وَالِابْتِدَاعَ، وَيُوصُونَ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الرَّأْيِ وَالْقِيَامِ فِي الدِّينِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى وَيَتَحَامَوْنَهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا سُئِلُوا عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنْ بَعْضُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَأَكْثَرُوا مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا، فَجَاءَ بَعْضُ الْفُرُوعِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ مُخَالَفَةً بَيِّنَةً، وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ وَلَا مُخَالِفٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَسَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ رَحْمَةً لَا نِسْيَانًا كَمَا وَرَدَ، وَقَدْ وَضَعُوا لِلِاسْتِنْبَاطِ أُصُولًا وَقَوَاعِدَ مِنْهَا الصَّحِيحُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَمِنْهَا مَا لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ تِلْكَ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَوْلِهِ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ بَدَدًا، وَسَلَكُوا إِلَيْهِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَكَثُرَتِ التَّكَالِيفُ حَتَّى تَعَسَّرَ تَعَلُّمُهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي عُسْرِ الْعَمَلِ بِهَا؟ فَتَسَلَّلَ مِنْهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَنَقَصَتْ مِنْ عَقْلِهَا الْحُكُومَاتُ، وَكَثُرَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَا الشُّبَهَاتُ، وَكَانَتْ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَصْعَبُ الْعَقَبَاتِ، وَلَوْ سَلَكَ الْمُتَأَخِّرُونَ طَرِيقَ السَّلَفِ حَتَّى أَئِمَّةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ إِلَى صَحِيحِ الْمَأْثُورِ، وَرَدِّ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَاهُ. (9) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ تَوْحِيدٍ وَاجْتِمَاعٍ، وَقَدْ نَهَى أَشَدَّ النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ قَالَ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (3: 103) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (3: 105) وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (6: 159) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (30: 31، 32) وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهَا مِنْهُ وَمِنَ السُّنَّةِ بِرَادِعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ التَّفَرُّقُ إِلَّا مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى دَخَلُوا جُحْرَ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلُوهُ قَبْلَهُمْ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلِّدُونَ وَأَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسْبِيهَا فَقَالُوا بِالرَّأْي فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " وَقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ بِالْحُسْنِ، وَنَقَلَ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرْفُوعٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

وَلِمَا كَثُرَ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ قَامَ أَهْلُ الْأَثَرِ يَرُدُّونَ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ وَيُنَفِّرُونَ النَّاسَ مِنْهُمْ، فَكَانَ عُلَمَاءُ الْأَحْكَامِ قِسْمَيْنِ: أَهْلَ الْأَثَرِ وَالْحَدِيثِ، وَأَهْلَ الرَّأْيِ، وَكَانَ أَئِمَّةُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ، النَّاهِينَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الْمَذَاهِبُ، وَبِدْعَةُ تَعَصُّبِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ لِلْوَاحِدِ، وَفَشَا بِذَلِكَ التَّقْلِيدُ بَيْنَ النَّاسِ، فَضَاعَ الْعِلْمُ مِنَ الْجُمْهُورِ بِتَرْكِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ كُلِّ شَقَاءٍ وَبَلَاءٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا. (10) مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ قَطُّ، أَمَّا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَفْتَتِنْ بِالْبِدَعِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي عَصْرِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَكَانَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَلَى الْحَقِّ، وَلَمَّا ضَعُفَ الْحَقُّ وَارْتَفَعَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ فِي الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَفُشُوِّ الْجَهْلِ بِتَقْلِيدِ الْجَمَاهِيرِ حَتَّى لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، كَانَ يُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ مُقِيمَةٌ لِلسُّنَّةِ خَاذِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَلِغُرْبَةِ الْإِسْلَامِ صَارَ هَؤُلَاءِ غُرَبَاءَ فِي النَّاسِ، وَكَانُوا فِي اعْتِصَامِهِمْ بِالْحَقِّ وَفِي غُرْبَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِصْدَاقًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ خَلَتِ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَانْفَرَدَ بِتَعْلِيمِ الدِّينِ وَالتَّصْنِيفِ فِيهِ الْمُقَلِّدُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْمَذَاهِبِ، الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ مُقَلِّدِيهِمْ أَصْلًا فِي الدِّينِ، يَرُدُّونَ إِلَيْهِ أَوْ لِأَجْلِهِ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَيُضَعِّفُونَ الصَّحِيحَ وَيُصَحِّحُونَ السَّقِيمَ، لَعَمِيَتِ السَّبِيلَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى دِينِ اللهِ الْقَوِيمِ. إِنَّمَا أَعْنِي بِأَهْلِ الْحَقِّ وَأَنْصَارِ السُّنَّةِ مَنْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَدَعَوْا إِلَيْهِ وَأَنْكَرُوا عَلَى مُخَالِفِيهِ وَقَرَّرُوهُ بِالتَّدْرِيسِ وَالتَّأْلِيفِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ "، وَفِي لَفْظٍ: " حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ " وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ زِيَادَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَبَاءِ وَهِيَ: " الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي " وَقَدْ وُجِدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَرَفُوا الْحَقَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَا أَنْكَرُوا عَلَى مُخَالِفِيهِ لِضَعْفٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، أَوْ خَوْفٍ عَلَى جَاهِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ بَعْضَ الْحَقِّ وَلَمْ يُوَفَّقْ لِتَمْحِيصِهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا خَلَطُوا فِيهَا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَنْصَارَ السُّنَّةِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ، مِنْهُمُ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ وَلَيِّنُ الْقَوْلِ وَخَشِنُهُ، وَالْمُبَالِغُ وَالْمُقْتَصِدُ، وَقَدْ فَضُلَتِ الْأَنْدَلُسُ الشَّرْقَ بَعْدَ خَيْرِ الْقُرُونِ بِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْهُمْ قَوِيِّ الْعَارِضَةِ شَدِيدِ الْمُعَارَضَةِ، بَلِيغِ الْعِبَارَةِ، بَالِغِ الْحُجَّةِ أَلَا وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ مُجَدِّدُ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ، أَلَّفَ كُتُبًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، هَدَمَ بِهَا الْقِيَاسَ، وَبَيَّنَ إِحَاطَةَ النُّصُوصِ بِالْأَحْكَامِ أَبْلَغَ بَيَانٍ،

وَأَنْحَى بِهَا عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ أَشَدَّ الْإِنْحَاءِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ الَّذِي تَمَكَّنَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ الْقِيَاسِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، بِتَقْلِيدِ الْجَمَاهِيرِ وَتَأْيِيدِ الْحُكُومَاتِ لَهَا وَمَا حُبِسَ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْأَوْقَافِ، حَتَّى صَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا يُقَدِّمُونَ قَوْلَ كُلِّ مُؤَلِّفٍ مُنْتَسِبٍ إِلَيْهَا، عَلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ الَّتِي اتَّفَقَ نَقَلَةُ الدِّينَ عَلَى صِحَّتِهَا، فَمَا اسْتَفَادَ مِنْ كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ إِلَّا الْأَقَلُّونَ. وَعِنْدِي أَنَّ الصَّارِفَ الْأَكْبَرَ لِلنَّاسِ عَنْ كُتُبِهِ هُوَ شِدَّةُ عِبَارَتِهِ فِي تَجْهِيلِ فُقَهَاءِ الْقِيَاسِ حَتَّى الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْهُمْ وَقَدْ كَانَ أَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ فِي كُلٍّ يَسْتَفِيدُونَ مِنْ كُتُبِهِ وَيَنْسَخُونَهَا بِأَقْلَامِهِمْ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا، وَلَكِنْ قَلَّمَا كَانُوا يَنْقُلُونَ عَنْهَا إِلَّا مَا يَجِدُونَهُ مِنْ هَفْوَةٍ يَرُدُّونَ عَلَيْهَا; وَلِذَلِكَ بَعُدَ مِنْ مَنَاقِبِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الَّذِي اعْتَرَفُوا لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَلُقِّبَ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ، قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ خَيْرِ كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْإِسْلَامِ (الْمُحَلَّى) لِابْنِ حَزْمٍ، وَ (الْمُغْنِي) لِلشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ. وَفِي دَارِ الْكُتُبِ الْكُبْرَى بِمِصْرَ نُسْخَةٌ مِنْ كِتَابِ (الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ) لِابْنِ حَزْمٍ مِنْ خَطِّ عَلَّامَةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي عَصْرِهِ ابْنِ أَبِي شَامَةَ، فَهَذَا الْأَثَرُ وَذَلِكَ الْقَوْلُ يَدُلَّانِ عَلَى عِنَايَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِكُتُبِ ابْنِ حَزْمِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا. لَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ مَنْ يُسَامِيهِ أَوْ يُسَاوِيهِ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَقُوَّةِ حُجَّتِهِ وَطُولِ بَاعِهِ وَحِفْظِهِ لِلسُّنَّةِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُجَدِّدُ الْقَرْنِ السَّابِعِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَدِ اسْتَفَادَ مَنْ كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا وَحَرَّرَ مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِيهَا، وَكَانَ عَلَى شِدَّتِهِ فِي الْحَقِّ مِثْلَهُ أَنْزَهَ مِنْهُ قَلَّمَا أَوْ أَكْثَرَ أَدَبًا مَعَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلنُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لَهَا بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَيِّمِ وَارِثَ عِلْمِ أُسْتَاذِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمُوَضِّحَهُ، وَكَانَ أَقْرَبَ مِنْ أُسْتَاذِهِ إِلَى اللِّينِ وَالرِّفْقِ بِالْمُبْطِلِينَ وَالْمُخْطِئِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَصَانِيفُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ، وَلَمْ يَلْقَ مِنَ الْمُقَاوَمَةِ وَالِاضْطِهَادِ مَا لَقِيَ أُسْتَاذُهُ بِتَعَصُّبِ مُقَلِّدَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، وَجَهْلِ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ. وَإِنَّ أَنْفَعَ مَا كُتِبَ بَعْدَهُمْ لِأَنْصَارِ السُّنَّةِ كِتَابُ (فَتْحِ الْبَارِي) شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لِقَامُوسِ السُّنَّةِ الْمُحِيطِ الْحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ شَيْخِ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ بِمِصْرَ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ يَخْدِمُ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ وَزُبْدَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْآدَابِ، وَمِنْ أَنْفَعِهَا فِي كُتُبِ فِقْهِ الْحَدِيثِ كِتَابُ (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) شَرْحِ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ، وَمِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِتَابُ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) كِلَاهُمَا لِلْإِمَامِ

الْجَلِيلِ الْمُجَدِّدِ مُجْتَهِدِ الْيَمَنِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ: مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُمُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِمْ أَجْمَعِينَ. فَهَؤُلَاءِ أَشْهَرُ أَعْلَامِ الْمُصْلِحِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الَّذِينَ تُعَدُّ كُتُبُهُمْ أَعْظَمَ مَادَّةٍ لِلْإِصْلَاحِ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَمِنْ دُونِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ قُطْرٍ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا بِذِكْرِ مَنِ اعْتَمَدْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي هَذَا الْبَحْثِ وَهِيَ أَمْتَعُ الْكُتُبِ فِيهِ، وَإِنَّ حُسْنَ اخْتِيَارِ الْكُتُبِ نِصْفُ الْعِلْمِ. إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَإِنَّنَا نَنْقُلُ لِلْقُرَّاءِ بَعْدَهُ مُلَخَّصَ مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي مَسْأَلَةِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ أَشْهَرِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا. ثُمَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْقِيَاسِ، ثُمَّ خُلَاصَةَ مَا حَرَّرَهُ الْعَلَامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ كَلَامِ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. ثُمَّ مَا اعْتَمَدَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِيهَا. ثُمَّ نَأْتِي بِخُلَاصَةِ الْخُلَاصَةِ الَّتِي عَقَدْنَا لَهَا هَذَا الْفَصْلَ. (أَحَادِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي كَرَاهَةِ السُّؤَالِ) . عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ عُنْوَانُهُ: بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَمِنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أَوْرَدَ فِيهِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ: (أَوَّلُهَا) : حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا: " إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: " إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا " إِلَخْ. (الثَّانِي) : حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَفَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ. فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ ". (الثَّالِثُ) : حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ وَهُوَ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنْسٍ فِي ذَلِكَ، (ص 110 ط الْهَيْئَةِ) . (الرَّابِعُ) : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ مَا

سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ". (الْخَامِسُ) : قَوْلُ عُمَرَ: " نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ " فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَسَبَبُهُ كَمَا أَخْرَجَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) (80: 31) فَقَالَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: " مَا بُيِّنَ لَكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِهِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ " وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْأَبَّ عِنْدَ عُمَرَ بِمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ أَيْ مِنَ النَّبَاتِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْهَا عُمَرُ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، كَمَا رُوِيَ بِسَنَدَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ قُرَشِيَّةٍ أَوْ غَيْرُ حِجَازِيَّةٍ. وَلِذَلِكَ عَرَّفَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. (السَّادِسُ وَالسَّابِعُ) : حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَبَبِ نُزُولِ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) الْآيَةَ. (ص 107) . (الثَّامِنُ) : حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " وَرَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ فِي بَابِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ قَفَّى الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْبَابِ بَابَ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَابَ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ، فَبَابَ إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، أَيْ مُبْتَدِعًا، فَبَابَ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ. خُلَاصَةُ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ. أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبَابِ الَّذِي سَرَدْنَا أَحَادِيثَ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مَا نَصُّهُ: " وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى حَدِيثِ سَعْدٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: " مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ يَنْسَى شَيْئًا " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (19: 64) . " وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ لَا تَبْحَثُوا عَنْهَا "،

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. " وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْغَافِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَمَضَى فِي قِصَّةِ اللَّعَّانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا. " وَلِمُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: " أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا فَاسْتَمَرَّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لِيُحَصِّلَ الْمَسَائِلَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صِفَةِ الْوَفْدِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْإِقَامَةِ فَيَصِيرَ مُهَاجِرًا، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ غَيْرُ الْأَعْرَابِ وُفُودًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ. " وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) الْآيَةَ. كُنَّا قَدِ اتَّقَيْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا فَرَشَوْنَاهُ بِرِدَاءٍ وَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". " وَلِأَبِي يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ " أَنْ كَانَ لَتَأْتِي عَلِيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّيْءِ فَأتَهَيَّبَ، وَإِنْ كُنَّا لِنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ؛ أَيْ قُدُومَهُمْ لِيَسْأَلُوا فَيَسْمَعُوا هُمْ أَجْوِبَةَ سُؤَالَاتِ الْأَعْرَابِ فَيَسْتَفِيدُوهَا ". " وَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَسْئِلَةِ الصَّحَابَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ أَوْ مَا لَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ رَاهِنَةٌ، كَالسُّؤَالِ عَنِ الذَّبْحِ بِالْقَصَبِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ إِذَا أَمَرُوا بِغَيْرِ الطَّاعَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَالْأَسْئِلَةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، كَسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَلَالَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْيَتَامَى وَالْمَحِيضِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالْآيَةِ فِي كَرَاهِيَةِ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ فَحَقُّهَا أَنْ تُجْتَنَبَ. " وَقَدْ عَقَدَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ فِي أَوَائِلِ مُسْنَدِهِ لِذَلِكَ بَابًا، وَأَوْرَدَ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ

السَّائِلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَعَنْ عُمَرَ: " أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغْلًا " وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: " كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ " وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنْ عَمَّارٍ نَحْوُ ذَلِكَ. " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ رَفَعَهُ: " لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا لَمْ يَزَلْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ " وَهُمَا مُرْسَلَانِ يُقَوِّي بَعْضٌ بَعْضًا. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ أَشْيَاخِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا عَمَّا لَمْ يُنَزَّلْ " الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. " قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَلَى قَسْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَهَذَا مَطْلُوبٌ لَا مَكْرُوهٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. (ثَانِيهُمَا) : أَنْ يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ، فَيُفَرِّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا، فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَرَأَوْا أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ جِدًّا. فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا كَانَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى، وَلَا سِيَّمَا إِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِغْفَالُ التَّوَسُّعِ فِي بَيَانِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ. " وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ الْبَحْثُ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مَعَ تَرْكِ كَيْفِيَّتِهَا. وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ، وَالْكَثِيرُ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا تُوُقِّعَ كَثْرَةُ الْبَحْثِ عَنْهُ فِي الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " وَهُوَ ثَامِنُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ. " وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مِثَالُ التَّنَطُّعِ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ بَعْدَ أَنْ يُفْتِيَ بِالْإِذْنِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ السِّلَعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ، هَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ قَبْلِ الْبَحْثِ عَنْ مَصِيرِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَيُجِيبُهُ بِالْجَوَازِ، فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ قَدْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ،

فَيَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَهُ بِالْمَنْعِ، وَيُقَيِّدَ ذَلِكَ. إِنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَّمَ، وَإِنْ تَرَدَّدَ كَرِهَ أَوْ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَلَوْ سَكَتَ السَّائِلُ عَنْ هَذَا التَّنَطُّعِ لَمْ يَزِدِ الْمُفْتِي عَلَى جَوَابِهِ بِالْجَوَازِ. " وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ يَسُدُّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى يَفُوتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا، فَإِنَّهُ يَقِلُّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهُ أَوْ يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَاهَاةَ وَالْمُغَالَبَةَ فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ، وَهُوَ عَيْنُ الَّذِي كَرِهَهُ السَّلَفُ. " وَمَنْ أَمْعَنَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللهِ مُحَافِظًا عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَصَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَعَنْ مَعَانِي السُّنَّةِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ. " وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى حَدَّثَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَعَارَضَتْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَتَوَلَّدَتِ الْبَغْضَاءُ وَتَسَمُّوا خُصُومًا وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْوَسَطُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي " فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ " فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يَجُرُّ إِلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ. وَأَمَّا الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى. وَالْإِنْصَافُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْفَهْمِ وَالتَّحْرِيرِ، فَتَشَاغُلُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَتَشَاغُلُهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدَّى، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُصُورًا، فَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى ; لِعُسْرِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْعِلْمَ، لَأَوْشَكَ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِإِعْرَاضِهِ. وَالثَّانِي لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعِبَادَةَ فَاتَهُ الْأَمْرَانِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْأَوَّلِ لَهُ وَإِعْرَاضِهِ بِهِ عَنِ الثَّانِي وَاللهُ الْمُوَفِّقُ " انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ. أَقُولُ: لِلَّهِ دَرُّ الْحَافِظِ، فَإِنَّهُ أَتَى بِخُلَاصَةِ الْآثَارِ وَصَفْوَةِ مَا فَسَّرَهَا بِهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْلَا عُمُومُ افْتِتَانِ الْجَمَاهِيرِ بِالْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَلْأَى بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْلِهَا، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِهَا لَاكْتَفَيْنَا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَا حَرَّرَهُ الْحَافِظُ فِي الشَّرْحِ، وَقُلْنَا فِيهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ جُمُودِ الْجَمَاهِيرِ عَلَى التَّقْلِيدِ، لَا يُزَلْزِلُهُ هَذَا الْقَوْلُ الْوَجِيزُ الْمُخْتَصَرُ الْمُفِيدُ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ كُلِّ هَذَا الْبَلَاءِ فِي النَّاسِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْمُحَلَّى:

إِبْطَالُ ابْنِ حَزْمٍ الْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ: (مَسْأَلَةٌ) وَلَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ وَلَا بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَحَّ، فَمَنْ رَدَّ إِلَى قِيَاسٍ أَوْ إِلَى تَعْلِيلٍ يَدَّعِيهِ أَوْ إِلَى رَأْيٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْإِيمَانِ، وَرَدَّ إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. (قَالَ عَلِيٌّ) : وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (16: 89) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) إِبْطَالٌ لِلْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا مَا دَامَ يُوجَدُ نَصٌّ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ فَصَحَّ أَنَّ النَّصَّ قَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ الدِّينِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ بِأَحَدٍ إِلَى قِيَاسٍ وَلَا إِلَى رَأْيٍ وَلَا إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ. وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ: هَلْ كُلُّ قِيَاسٍ قَاسَهُ قَائِسٌ حَقٌّ؟ أَمْ مِنْهُ حَقٌّ وَمِنْهُ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ قَالَ: كُلُّ قِيَاسٍ حَقٌّ أَحَالَ; لِأَنَّ الْمَقَايِيسَ تَتَعَارَضُ وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَقًّا مَعًا، وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ كَالْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ مِنْهَا حَقٌّ وَمِنْهَا بَاطِلٌ قِيلَ لَهُ: فَعَرِّفْنَا بِمَاذَا يُعْرَفُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ؟ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ الصَّحِيحِ مِنَ الْقِيَاسِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْهُ فَقَدْ بَطَلَ كُلُّهُ، وَصَارَ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ. فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، سُئِلُوا: أَيْنَ وَجَدُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ إِلَّا التَّعَجُّبَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)

أَيْ تَعَجُّبًا، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (12: 111) أَيْ عَجَبٌ. وَمِنَ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ الْقِيَاسَ، وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لَنَا: قِيسُوا، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَنَا مَاذَا نَقِيسُ؟ وَلَا كَيْفَ نَقِيسُ؟ وَلَا عَلَى مَاذَا نَقِيسُ؟ هَذَا مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وِسْعِ أَحَدٍ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (2: 286) . فَإِنْ ذَكَرُوا أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ فِيهَا تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَأَنَّ اللهَ قَضَى وَحَكَمَ بِأَمْرِ كَذَا مِنْ أَجْلِ أَمْرِ كَذَا، قُلْنَا لَهُمْ: كُلُّ مَا قَالَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَهُو حَقٌّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ، وَهُوَ نَصٌّ بِهِ نَقُولُ، وَكَيْفَمَا تُرِيدُونَ أَنْتُمْ أَنْ تُشَبِّهُوهُ فِي الدِّينِ، وَأَنْ تُعَلِّقُوهُ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ اللهُ تَعَالَى، وَلَا رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِفْكٌ، وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى بِهِ. وَهَذَا يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ تَمْوِيهَهُمْ بِذِكْرِ آيَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَ " أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ " وَ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) (5: 32) وَكُلِّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ مَوَّهُوا بِإِيرَادِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي (كِتَابِ الْإِحْكَامِ لِأُصُولِ الْأَحْكَامِ) وَفِي (كِتَابِ النُّكَتِ) وَفِي (كِتَابِ الدُّرَّةِ) وَ (كِتَابِ النَّبْذِ) . (قَالَ عَلِيٌّ) : وَقَدْ عَارَضْنَاهُمْ فِي كُلِّ قِيَاسٍ قَاسُوهُ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ أَوْ أَوْضَحَ مِنْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ لِنُرِيَهُمْ فَسَادَ الْقِيَاسِ جُمْلَةً، فَمَوَّهَ مِنْهُمْ مُمَوِّهُونَ. فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ دَابًا تُبْطِلُونَ الْقِيَاسَ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا مِنْكُمْ رُجُوعٌ إِلَى الْقِيَاسِ وَاحْتِجَاجٌ بِهِ، وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَجِّ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ لِيُبْطِلَ حُجَّةَ الْعَقْلِ، وَبِدَلِيلٍ مِنَ النَّظَرِ لِيُبْطِلَ بِهِ النَّظَرَ. (قَالَ عَلِيٌّ) فَقُلْنَا: هَذَا شَغَبٌ يَسْهُلُ إِفْسَادُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَنَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَمَعَاذَ اللهِ مِنْ هَذَا، لَكِنْ أَرَيْنَاكُمْ أَنَّ أَصْلَكُمُ الَّذِي أَتَيْتُمُوهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ يَشْهَدُ بِفَسَادِ قِيَاسَاتِكُمْ، وَلَا قَوْلَ أَظْهَرَ بَاطِلًا مِنْ قَوْلٍ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هَذَا فَقَالَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) (5: 18) فَلَيْسَ هَذَا تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَلَكِنْ إِلْزَامًا لَهُمْ مَا يَفْسُدُ بِهِ قَوْلُهُمْ. وَلَسْنَا فِي ذَلِكَ كَمَنْ ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي إِبْطَالِ حُجَّةِ الْعَقْلِ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ; لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُصَحِّحُ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا، فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُ مِنْ قُرْبٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ غَيْرُهَا، فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَحْتَجَّ قَطُّ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ نُصَحِّحُهُ، وَلَكِنَّا نُبْطِلُ الْقِيَاسَ بِالنُّصُوصِ وَبَرَاهِينِ الْعَقْلِ. ثُمَّ نُزِيدُ بَيَانًا فِي فَسَادِهِ مِنْهُ نَفْسِهِ بِأَنْ نَرَى تَنَاقُضَهُ جُمْلَةً فَقَطْ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي نُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَكُمْ نَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِهِ وَفَسَادِ قِيَاسِكُمُ الَّذِي

هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ، كَمَا نَحْتَجُّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَقَالَةٍ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ، وَرَافِضَةٍ، وَمُرْجِئَةٍ، وَخَوَارِجَ، وَيَهُودٍ، وَنَصَارَى، وَدَهْرِيَّةٍ، مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَشْهَدُونَ بِصِحَّتِهَا، فَنُرِيهِمْ فَسَادَهَا وَتَنَاقُضَهَا، وَأَنْتُمْ تَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ مَعَنَا بِذَلِكَ وَلَسْنَا نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَلْ هِيَ عِنْدَنَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ كَاحْتِجَاجِنَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَنَحْنُ لَا نُصَحِّحُهَا، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهَا مُحَرَّفَةٌ مُبْدَلَةٌ؛ لَكِنْ لِنُرِيَهُمْ تَنَاقُضَ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ، لَا سِيَّمَا وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ مُخْتَلِفُونَ فِي قِيَاسَاتِهِمْ، لَا تَكَادُ تُوجَدُ مَسْأَلَةٌ إِلَّا وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَأْتِي بِقِيَاسٍ تَدَّعِي صِحَّتَهُ تُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَ الْأُخْرَى. وَهُمْ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا وَلَا كُلُّ رَأْيٍ حَقًّا، فَقُلْنَا لَهُمْ: فَهَاتُوا حَدَّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالرَّأْيِ الصَّحِيحِ الَّذَيْنِ يَتَمَيَّزَانِ بِهِ مِنَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَهَاتُوا حَدَّ الْعِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تَقِيسُونَ إِلَّا عَلَيْهَا مِنَ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَلَجْلَجُوا. (قَالَ عَلِيٌّ) : وَهَذَا مَكَانُ إِنْ زَمَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَى جَوَابٍ يُفْهَمُ سَبِيلٌ أَبَدًا، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَإِنْ أَتَوْا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِنَصٍّ قُلْنَا: النَّصُّ حَقٌّ، وَالَّذِي تُرِيدُونَ أَنْتُمْ إِضَافَتَهُ إِلَى النَّصِّ بِآرَائِكُمْ بَاطِلٌ، وَفِي هَذَا خُولِفْتُمْ، وَهَكَذَا أَبَدًا. فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ قِيلَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِهِ. بُرْهَانُ كَذِبِهِمْ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وُجُودِ حَدِيثٍ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ أَبَدًا، إِلَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَإِنَّ فِيهَا: " وَاعْرَفِ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسِ الْأُمُورَ " وَهَذِهِ رِسَالَةٌ لَمْ يَرْوِهَا إِلَّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ سَاقِطٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَبُوهُ أَسْقَطُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي السُّقُوطِ، فَكَيْفَ وَفِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا أَشْيَاءُ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ مِنْهَا قَوْلُهُ فِيهَا: " وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ " وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، يَعْنِي جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ حَنْفِيَّهُمْ وَمَالِكِيَّهُمْ وَشَافِعِيَّهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً، فَقَوْلُهُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ كُلَّهُمْ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ حُجَّةٌ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَصِحَّ؟

وَأَمَّا بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَفِيهِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (4: 59) فَمِنَ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ هَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِمَّا إِلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ. هَذَا مَا لَا يَظُنُّهُ بِهِمْ ذُو عَقْلٍ. فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ " وَصَحَّ عَنِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ " وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي فُتْيَا أَفْتَاهَا " إِنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ فَمَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ " وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ " وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " سَأَقُولُ فِيهَا بِجُهْدِ رَأْيِي ". وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ: " تَبْتَدِعُ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ; فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ " فَعَلَى هَذَا النَّحْوِ هُوَ كُلُّ رَأْيٍ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ وَلَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ إِشَارَةٌ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ تَوَرُّعٍ فَقَطْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ. . . وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي فِيهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو " لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إِلَّا الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ لَمْ يُسَمِّهِمْ عَنْ مُعَاذٍ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا إِسْنَادَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا فِي كُتُبِنَا الْمَذْكُورَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ، نَا ابْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، نَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، نَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، نَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ ". قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إِمَّا فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ، وَإِمَّا حَرَامٌ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ،

وَإِمَّا مُبَاحٌ لَا يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ وَلَا مَنْ تَرَكَهُ. وَهَذَا الْمُبَاحُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: إِمَّا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ، وَإِمَّا مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ، وَإِمَّا مُطْلَقٌ لَا يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا مَنْ تَرَكَهُ، وَلَا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ وَلَا مَنْ فَعَلَهُ. وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (6: 119) فَصَّحَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَلَالٌ إِلَّا مَا فُصِّلَ تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ". (قَالَ عَلِيٌّ) : فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الدِّينِ أَوَّلِهَا عَنْ آخِرِهَا. فَفِيهِ أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ حَرَامًا وَلَا فَرْضًا، وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَأَنَّ مَا أَمَرَنَا (بِهِ) فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ مَا نَسْتَطِيعُ فَقَطْ، وَأَنْ نَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً نُؤَدِّي مَا أَلْزَمَنَا، وَلَا يَلْزَمُنَا تَكْرَارُهُ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِأَحَدٍ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ رَأْيٍ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَنَحْمَدُ اللهَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ الْقَوْلِ بِهِ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ. قُلْنَا: قَدْ أَوَجَدْنَاكُمُ الْبُرْهَانَ نَصًّا بِذَلِكَ بِأَلَّا تَرُدُّوا التَّنَازُعَ إِلَّا إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (7: 3) وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (16: 74) وَالْقِيَاسُ ضَرْبُ أَمْثَالٍ فِي الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إِنْ عَارَضْتُمُ الرَّوَافِضَ بِمِثْلِ هَذَا فَقَالُوا لَكُمْ: لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ، وَلَا بِإِبْطَالِ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ، إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ نَصًّا. أَوْ قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَقَالَةٍ فِي تَقْلِيدِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، بِمَاذَا تَتَفَصُّونَ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللهِ تَعَالَى: إِنَّهُ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ أَوْ أَوْجَبَ إِلَّا بِنَصٍّ فَقَطْ، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ اهـ.

(مُلَخَّصُ مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ) . عَقَدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَصْلًا فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنُّصُوصِ، صَدَّرَهُ بِآيَاتٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (28: 50) قَالَ: فَقَسَّمَ الْأَمْرَ إِلَى أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مِنَ الْهَوَى، وَقَفَّى عَلَى الْآيَاتِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَوَّلُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: " إِنَّ اللهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ " وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ فَصْلًا بَلْ فَصْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا. فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " وَلِلْأَثَرِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا آخَرَ ذَكَرَ فِيهِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ إِفْتَاءِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَقَضَائِهِمْ بِالرَّأْيِ، كَقَوْلِ عُمَرَ لِكَاتِبِهِ: " قُلْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُبْنُ الْخَطَّابِ " وَقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ: " إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ " وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: " اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَلَّا يَبِعْنَ " وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللهِ إِنْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ وَإِلَّا فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مَا يُقْضَى بِهِ، جَمَعُوا لَهُ النَّاسَ أَوْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عُلَمَاءَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ فَقَدْ كَانَ الرُّؤَسَاءُ عُلَمَاءَ وَاسْتَشَارُوهُمْ، وَكَانَ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجْتَمِعُ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْهُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى شُرَيْحٍ: " إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَاكَ شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرَ، وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَمْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ عِنْدَ عَدَمِ

النَّصِّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ بِمَعْنَى هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ: " فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " وَقَالَ فِي الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ: " فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُلْ إِنِّي أَرَى وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ " اهـ. وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالصَّالِحِينَ هُوَ عَيْنُ مُرَادِ عُمَرَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي كِتَابِهِ إِلَى شُرَيْحٍ، كَالَّذِينِ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَقُولُ: هَذَا زُبْدَةُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ. وَكُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ إِلَّا رَأْيَ عُثْمَانَ فِي إِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ وَلَا حُجَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ تَرَكَهُ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِيهِ شَرْعًا. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ لَيْسَ بِرَأْيِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ سُنَّتُهُمُ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا، وَاهْتَدَى بِهِمْ فِيهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا صَحِيحًا. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ تَرَكُوا جَمْعَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِشَارَتِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ مَذَاهِبِهِمْ. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَا فِي أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ أَحْكَامٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَمَا فَعَلَ الْمُؤَلِّفُونَ فِي الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ فِي الْأَقْضِيَةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَهِيَ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ أَمْرَهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ بِشَرْطِهِ. الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرَّأْيِ وَإِنْكَارِهِ. ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَصْلًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرَّأْيِ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ فَقَالَ: " وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنِ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ. وَهَذَا إِنَّمَا يُتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَنَقُولُ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ: الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٍ. وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا، فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا وَرَآهُ فِي الْيَقَظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا رَأَيًا لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ وَلَكِنَّهُمْ خَصَّوْهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فَكٍّ وَتَأَمُّلٍ،

وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ، فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى بِقَلْبِهِ أَمْرًا غَائِبًا عَنْهُ مِمَّا يُحِسُّ بِهِ: إِنَّهُ رَأَيَهُ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ: إِنَّهُ رَأَى، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ، كَدَقَائِقِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهَا. " وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ. وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا السَّلَفُ، فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ وَمَنَعُوا مِنَ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ. " وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ، بَلْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الْقِيَاسِ فَقَالَ لِي: عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ. كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَضْبُطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ حِفْظِهِ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَبْغُوا بِالْعُدُولِ إِلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2: 173) فَالْبَاغِي الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُذَكَّى، وَالْعَادِي الَّذِي يَتَعَدَّى قَدَرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا. ثُمَّ بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّأْيَ الْبَاطِلَ أَنْوَاعٌ قَالَ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) : الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنُّصُوصِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَتَقْلِيدٍ. (النَّوْعُ الثَّانِي) : هُوَ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ مَعَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ وَفَهْمِهَا وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا. فَإِنَّ مَنْ جَهِلَهَا وَقَاسَ بِرَأْيهِ فِيمَا سُئِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ فَارِقٍ يَرَاهُ بَيْنَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الْبَاطِلِ. (النَّوْعُ الثَّالِثُ) : الرَّأْيُ الْمُتَضَمِّنُ تَعْطِيلَ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ إِلَخْ. (النَّوْعُ الرَّابِعُ) : الرَّأْيُ الَّذِي أُحْدِثَتْ بِهِ الْبِدَعُ وَغُيِّرَتْ بِهِ السُّنَنُ، وَعَمَّ بِهِ الْبَلَاءُ، وَتَرَبَّى عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهِ الْكَبِيرُ.

(قَالَ) : فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ذَمِّهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ. (النَّوْعُ الْخَامِسُ) : مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ الْقَوْلُ فِي شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ، وَرَدُّ الْفُرُوعِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ قِيَاسًا دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا إِلَخْ. (أَقُولُ) : ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي هَذَا تَعْطِيلَ السُّنَنِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الرَّأْيِ وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي نَهْيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، وَعَنْ عَضْلِ الْمَسَائِلِ، وَعَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا عَنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. (آثَارُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِياسِ) . ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ لِآثَارِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَبَيَانِ كَوْنِ الْقَائِلِينَ بِهِ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَجْعَلَهُ النَّاسُ دِينًا يُدَانُ بِهِ وَشَرْعًا مُتَّبَعًا لِلْأُمَّةِ، وَكَوْنُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمُ انْحَرَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ وَخَالَفُوا مَذْهَبَهُمْ غُلُوًّا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَعْنَبِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَرَأَيْتُهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ - قَعْنَبٍ وَمَا لِيَ لَا أَبْكِي؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنِّي؟ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ أَفْتَيْتُ فِيهَا بِالرَّأْيِ سَوْطًا، وَقَدْ كَانَتْ لِي السَّعَةُ فِيمَا قَدْ سُبِقْتُ إِلَيْهِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أُفْتِ بِالرَّأْيِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: مَثَلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ مَثَلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولِجَ حَتَّى بَرِئَ فَأَعْقَلَ مَا يَكُونُ قَدْ هَاجَ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخْذُ بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَحَدِيثِ جَعْلِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَالْحَدِيثِ فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ضَعِيفَةٌ وَقَدْ قَدَّمَهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ نَهَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي دِينِ اللهِ.

(أَنْوَاعُ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ) . ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنْوَاعَ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (أَوَّلُهَا) : رَأْيُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. (ثَانِيهَا) : الرَّأْيُ الَّذِي يُفَسِّرُ النُّصُوصَ. وَيُبَيِّنُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَيُقَرِّرُهَا وَيُوَضِّحُ مَحَاسِنَهَا، وَيُسَهِّلُ طَرِيقَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الشَّوَاهِدَ مِمَّا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الرَّأْيِ فِي التَّفْسِيرِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: " وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي؟ " وَحَدِيثِ: " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". وَأَجَابَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الرَّأْيَ نَوْعَانِ: رَأْيٌ مُجَرَّدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ; فَهَذَا الَّذِي أَعَاذَ اللهُ الصَّحَابَةَ مِنْهُ، وَرَأْيٌ مُسْتَنِدٌ إِلَى اسْتِدْلَالٍ وَاسْتِنْبَاطٍ مِنَ النَّصِّ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ مَعَهُ، فَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ فَهْمِ النُّصُوصِ وَأَدَقِّهِ. وَمَثَّلَ لَهُ بِتَفْسِيرِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْكَلَالَةَ بِأَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ أَتَمَّ الْبَيَانَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكَلَالَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، قَوْلَ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ غَيْرَ مَا فِي كِتَابِ اللهِ قَالَ: " إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ ". (ثَالِثُهَا) : رَأْيُ جَمَاعَةِ الشُّورَى، وَقَدْ فَصَّلْتُ الْقَوْلَ فِيهِ بِمَا لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ فِيمَا أَعْلَمُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. (رَابِعُهَا) : الِاجْتِهَادُ الَّذِي أَجَازَهُ الصَّحَابَةُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا مَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْهُ، وَفِي حُكْمِهِ مَا قَضَى بِهِ الرَّاشِدُونَ، وَشَرْطُ هَذَا الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْمُعَامَلَاتِ، لَا فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَسَيُعَادُ الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لِهَذَا النَّوْعِ بِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ وَشَرَحَهُ شَرْحًا طَوِيلًا، وَابْنُ حَزْمٍ يُنْكِرُ هَذَا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِيمَا عُدَّ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَكَرَ طَائِفَةً مِنْ أَقْيِسَةِ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى التَّوَسُّعِ فِي مَعْنَى الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لَا تَنْطَبِقُ تِلْكَ الْأَمْثِلَةُ

كُلُّهَا عَلَى الْقِيَاسِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَتْ كُلُّهَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَلُوذَ بِهِ وَيَلْجَأَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ، فَكَانَ مِنْهُ مَا لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَكَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. فَافْتَتَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَصْلٌ) قَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ فُصُولٍ فِي الْقِيَاسِ نَافِعَةٍ وَأُصُولٍ جَامِعَةٍ فِي تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا تَقْرُبُ مِنْهَا، فَلْنَذْكُرْ مَعَ ذَلِكَ مَا قَابَلَهَا مِنَ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْوَحْيَيْنِ. (مِثَالُ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ) . ثُمَّ إِنَّهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَرْدِ الْأَمْثِلَةِ الْكَثِيرَةِ لِلْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَزَادَ هُوَ إِنْكَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ وَأُسَامَةَ مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي الْحُلَّتَيْنِ الْحَرِيرِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَهْدَاهُمَا إِلَيْهِمَا إِذْ لَبِسَهَا أُسَامَةُ قِيَاسًا لِلُّبْسِ عَلَى التَّمَلُّكِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ، وَرَدَّهَا عُمَرُ قِيَاسًا لِتَمَلُّكِهَا عَلَى لُبْسِهَا الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ. (قَالَ) : فَأُسَامَةُ أَبَاحَ وَعُمَرُ حَرَّمَ قِيَاسًا، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ وَقَالَ لِعُمَرَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا " وَقَالَ لِأُسَامَةَ: " إِنِّي لَمْ أَبْعَثْهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ بِعَثْتُهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا لِنِسَائِكَ " وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ فَقَاسَا قِيَاسًا أَخْطَئَا فِيهِ، فَأَحَدُهُمْ قَاسَ اللُّبْسَ عَلَى الْمِلْكِ، وَعُمَرُ قَاسَ التَّمَلُّكَ عَلَى اللُّبْسِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ مِنَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَبَاحَهُ مِنَ التَّمَلُّكِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اللُّبْسِ، وَهَذَا عَيْنُ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ " اهـ. أَقُولُ: وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَمْنَعْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ كُلِّ اسْتِعْمَالٍ لِلْحَرِيرِ عَلَى اللُّبْسِ، وَمِنْ قِيَاسِ كُلِّ اسْتِعْمَالٍ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَكْلِ فِي صِحَافِهِمَا وَالشُّرْبِ مِنْ آنِيَتِهِمَا. وَهَكَذَا شَأْنُهُمْ فِي أَمْثِلَةِ ذَلِكَ. ثُمَّ عَقَدَ فَصَلَيْنِ فِي ذَمِّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِلْقِيَاسِ وَإِبْطَالِهِمْ لَهُ، وَفَصْلًا فِي تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَاقُضِهَا، وَفَصْلًا آخَرَ فِي فَسَادِ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانِهِ وَتَنَاقُضِ أَهْلِهِ فِيهِ وَاضْطِرَابِهِمْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَذَكَرَ أَنْوَاعَ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةَ عِنْدَ غُلَاتِهِمْ كَفُقَهَاءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَهِيَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَالشُّبْهَةِ وَالطَّرْدِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَقْيِسَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَاضْطِرَابِهِمْ فِي التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَجَلِّ الْفُصُولِ وَأَطْوَلِهَا، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي جَمَعُوا

فِيهَا بَيْنَ مَا فَرَّقَتِ النُّصُوصُ أَوِ الْمِيزَانُ الْمُسْتَقِيمُ، وَفَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ مَا جَمَعَتْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَتَبِعَهُ عِدَّةُ فُصُولٍ تَفَرَّعَتْ مِنْهُ. (الْحُكْمُ بَيْنَ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُنْكِرِيهِ) . بَعْدَ أَنْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَسْطِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ تَصَدَّى لِبَيَانِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ الْمُوَافِقِ لِلنُّصُوصِ وَإِبْطَالِ الْقِيَاسِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَمَهَّدَ لِذَلِكَ تَمْهِيدًا مُفِيدًا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعٌ لِمَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ، وَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى غُلَاةٍ فِي النَّفْيِ وَغُلَاةٍ فِي الْإِثْبَاتِ وَمُعْتَدِلِينَ فِيهِ قَالَ: وَسَبَبُ ذَلِكَ خَفَاءُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالْمَذْهَبِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فِي الْمَذَاهِبِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْأَدْيَانِ، وَعَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَالْفُقَهَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَأَمْرِهِ (أَيْ وَشَرْعِهِ) وَإِثْبَاتِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرْعِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ " ثُمَّ قَالَ: " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَمَا انْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، انْقَسَمُوا فِي فَرْعِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ أَنْكَرَتْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ بِهِ وَأَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَالْمُنَاسَبَاتِ. وَالْفِرْقَتَانِ أَخْلَتَا النُّصُوصَ عَلَى تَنَاوُلِهَا لِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا أَحَالَتَا عَلَى الْقِيَاسِ. ثُمَّ قَالَ غُلَاتُهُمْ: أَحَالَتْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ مُتَوَسِّطُوهُمْ: بَلْ أَحَالَتْ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِهِ. خَطَأُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ بِإِطْلَاقٍ: " وَالصَّوَابُ وَرَاءَ مَا عَلَيْهِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ. وَهُوَ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَمْ يُحِلْنَا اللهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى رَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، بَلْ قَدْ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا وَالنُّصُوصُ كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ بِهَا، وَالْقِيَاسُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلنُّصُوصِ، فَهُمَا دَلِيلَانِ لِلْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ تَخْفَى دَلَالَةُ النَّصِّ وَلَا يَبْلُغُ الْعَالِمَ فَيَعْدِلُ إِلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَدْ يَظْهَرُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَيَكُونُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَقَدْ يَظْهَرُ مُخَالِفًا لَهُ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ قَدْ تَخْفَى مُوَافَقَتُهُ أَوْ مُخَالَفَتُهُ. وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ فَاضْطَرُّوا

إِلَى تَوْسِعَةِ طَرِيقٍ أُخْرَى أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ، فَنَفَاهُ الْقِيَاسُ لَمَّا سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ وَاعْتِبَارِ الْحُكْمِ وَالْمَصَالِحِ، وَهُوَ مِنَ الْمِيزَانِ وَالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ، احْتَاجُوا إِلَى تَوْسِعَةِ الظَّاهِرِ وَالِاسْتِصْحَابِ فَحَمَّلُوهُمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ وَوَسَّعُوهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعَانِهِ، فَحَيْثُ فَهِمُوا مِنَ النَّصِّ حُكْمًا أَثْبَتُوهُ وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا وَرَاءَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ مِنْهُ نَفَوْهُ وَحَمَلُوا الِاسْتِصْحَابَ، وَأَحْسَنُوا فِي اعْتِنَائِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَنَصْرِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَعَدَمِ تَقْدِيمِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا مِنْ رَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَحْسَنُوا فِي رَدِّ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ وَبَيَانِهِمْ تَنَاقُضَ أَهْلِهَا فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ وَتَرْكِهِمْ لَهُ، وَأَخْذِهِمْ بِقِيَاسٍ وَتَرْكِهِمْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَلَكِنْ أَخْطَأُوا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. بَيَانُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: (الْخَطَأُ الْأَوَّلُ) : رَدُّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَلَا سِيَّمَا الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي يَجْرِي النَّصُّ عَلَيْهَا مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ لَعَنَ عَبْدَ اللهِ حِمَارًا عَلَى كَثْرَةِ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ: " لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا تَلْعَنُوا كُلَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ: " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (6: 145) نَهَى عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرَّةِ: " لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ نَهَى لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ. وَإِذَا قَالَ: لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ نَهَى لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. (الْخَطَأُ الثَّانِي) : تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمُ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ إِيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (17: 23) ضَرْبًا وَلَا سَبًّا وَلَا إِهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ (أُفٍّ) فَقَصَرُوا فِي فَهْمِ الْكُتَّابِ كَمَا قَصَرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ. (الْخَطَأُ الثَّالِثُ) : تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَجَزْمُهُمْ بِمُوجِبِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ

أَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهَا، فَالِاسْتِصْحَابُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَهِيَ اسْتِدَامَةُ إِثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. أَقُولُ: وَهَهُنَا أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ هَذَهِ الْأَقْسَامِ وَأَمْثِلَتِهَا ثُمَّ قَالَ: (الْخَطَأُ الرَّابِعُ) : لَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوِطِهُمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ، إِلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَأْثِيمَ إِلَّا مَا أَثَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ. فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَّعَهُ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهُوَ عَفْوٌ حَتَّى يُحَرِّمَهَا، وَلِهَذَا نَعَى اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَعَنْ تَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا، فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ كُلِّهَا. فَقَالَ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) (17: 34) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (5: 1) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (23: 8) وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (2: 177) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (61: 2، 3) وَقَالَ: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (3: 76) وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (8: 58) وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ اهـ. (أَقُولُ) : ثُمَّ إِنَّهُ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَفِيهَا

مَا هُوَ عَامٌّ وَمَا هُوَ خَاصٌّ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ، فَذَهَبَ ثُمَّ عَادَ فَأَسْلَمَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَأَبِي حَسَلٍ اللَّذَيْنِ أَخَذَهُمَا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يُطْلِقُوهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا عَلَيْهِمَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَيَنْصَرِفَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُقَاتِلَانِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ قُبَيْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ: " انْصَرَفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ " فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا بِالْقِتَالِ مَعَهُ. وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الشُّرُوطِ فِي تَفْسِيرِ: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (5: 1) مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. (بَيَانُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ) . ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: (فَصْلٌ) وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَنُوا بِالنُّصُوصِ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهَا وَافِيَةً بِالْأَحْكَامِ وَلَا شَامِلَةً لَهَا، وَغُلَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَفِ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا فَوَسَّعُوا طُرُقَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَقَالُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَعَلَّقُوا الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَهَا بِهَا، وَاسْتَنْبَطُوا عِلَلًا لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ اضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ عَارَضُوا بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فَتَارَةً يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ وَتَارَةً يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّصِّ الْمَشْهُورِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَنَّهَا شُرِعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَكَانَ خَطَؤُهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. " الْأَوَّلُ: ظَنُّهُمْ قُصُورَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ. " الثَّانِي: مُعَارَضَةُ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. " الثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْمِيزَانِ وَالْقِيَاسِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدْلَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. " الرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا لَمْ يُعْلَمِ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهَا، وَإِلْغَاؤُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. " الْخَامِسُ: تَنَاقُضُهُمْ فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَنَحْنُ نَعْقِدُ هَاهُنَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ شُمُولِ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا عَنِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. "

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُقُوطِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَبُطْلَانِهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ". " الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ (أَنَّ) أَحْكَامَ الشَّرْعِ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ " وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْمِيزَانَ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ. وَهَذِهِ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهَمِّ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِقْدَارُ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتُهَا وَهُنَيَّتُهَا وَسَعَتُهَا وَفَضْلُهَا وَشَرَفُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ عَامُّ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَدَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، فَكَمَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ رِسَالَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ عَنْهُ وَعَنْ بَيَانِهِ لَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُوَفِّي هَذِهِ الْفُصُولَ حَقَّهَا وَلَا نُقَارِبُ، وَأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ عُلُومِنَا، وَفَوْقَ إِدْرَاكِنَا، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ وَنُشِيرُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى مَا نَفْتَحُ أَبْوَابَهَا وَنَنْهَجُ طُرُقَهَا وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ " اهـ. أَقُولُ: إِنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الْكِتَابِ إِلَّا فَصَلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا، الْأَوَّلُ فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كُلِّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْمُوَافِقَةِ لِعُقُولِ الْبَشَرِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا نَدْرِي أَسَقَطَ الْفَصْلُ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ سُقُوطَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؟ أَمْ أَغْفَلَ كِتَابَتَهُ بَعْدَ الْوَعْدِ بِهِ نِسْيَانًا لِلْوَعْدِ وَاكْتِفَاءً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِ مَنْ يُعْتَدُّ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَرَبِيعَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَمْ يُثْبِتُوا حُكْمًا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ بِالنَّصِّ أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ لَمْ يَفْهَمُوا الْحُكْمَ مِنْهُ. (شُمُولُ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَتَفَاوُتُ الْأَفْهَامِ فِيهَا) . وَقَدْ صُدِّرَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ بِمُقَدِّمَةٍ نَفِيسَةٍ فِي نَوْعَيِ الدَّلَالَةِ وَتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ فِي النُّصُوصِ فَقَالَ: (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَنِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ: أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ. فَالْحَقِيقَةُ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَالْإِضَافِيَّةُ تَابِعَةٌ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ وَصَفَاءِ ذِهْنِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَرَاتِبَهَا، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِحَسَبِ تَبَانِي السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَكْثَرَهُمْ رِوَايَةً لَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَفْقَهَ مِنْهُمَا، بَلْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَفْقَهُ مِنْهُمَا وَمِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ. "

وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ إِتْيَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: " إِنَّكَ سَتَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ " فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ الْعَامِ الَّذِي يَأْتُونَهُ فِيهِ. وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي فَهْمِهِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ: " وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ " شُمُولَ لَفْظِهِ لِحَسَنِ الثَّوْبِ وَحَسَنِ الْفِعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. " وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إِذَا احْتَضَرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللهِ وَاللهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتَضَرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ. " وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إِذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) (84: 8) مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابَ الْمُنَاقِشَةِ. " وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (4: 123) أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْمَرَضِ وَالنَّصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. " وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (6: 82) أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) مَعَ أَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بَلْ قَالَ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) وَلُبْسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ: تَغْطِيَتُهُ بِهِ وَإِحَاطَتُهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَا يُغَطِّي الْإِيمَانَ وَيُحِيطُ بِهِ وَيَلْبَسُهُ إِلَّا الْكُفْرُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (2: 82) فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ لَا تُحِيطُ بِالْمُؤْمِنِ أَبَدًا، فَإِنَّ

إِيمَانَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهِ، وَمَعَ أَنَّ سِيَاقَ قَوْلِهِ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (6: 81) ثُمَّ حُكْمُ اللهِ أَعْدَلُ حُكْمٍ وَأَصْدَقُهُ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَالْهُدَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ الشِّرْكُ. " وَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَاعْتَرَفَ عُمَرُ بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا، وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ. " وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظُهُورَهُمْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ. " وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْجَنَّةِ وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهَا رِجْسًا. وَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) (4: 20) جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ. وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (46: 15) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (2: 233) أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ. وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا " قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ (ذَلِكَ) فَأَقَرَّ بِهِ: وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) (5: 93) رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَمْرِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لِفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ، فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ مَا. وَقَدْ فَهِمَ مِنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (2: 195) انْغِمَاسَ

105

الرَّجُلِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا. وَقَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (5: 105) وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ " فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا. وَأَشْكَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنَ الْيَهُودِ هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ عَنِ السَّاكِتِينَ: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) (7: 164) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَةً وَفَرِحَ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: " مَا تَقُولُونَ فِي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (110: 1) السُّورَةَ قَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ أَنْتَ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْفَهِمَ وَأَلْطَفِهِ وَلَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَلِّقِ الِاسْتِغْفَارَ بِعِلْمِهِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ نِعْمَةِ فَتْحِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، فَعَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْأَجَلِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَلْقَى رَبَّهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَيَقْدَمَ عَلَيْهِ مَسْرُورًا رَاضِيًا مَرْضِيًّا عَنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (أَيْضًا) (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَائِمًا فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَمْرٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ الَّتِي

تُرَقِّيهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ بَقِيَّةٌ فَأَمَرَهُ بِتَوْفِيَتِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ فَشَرَعَهَا فِي خَاتِمَةِ الْحَجِّ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَشَرَعَ لِلْمُتَوَضِّئِ بَعْدَ كَمَالِ وُضُوئِهِ أَنْ يَقُولَ: " اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ " فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ عَقِيبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَ تَوْفِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، فَكَأَنَّ التَّبْلِيغَ عِبَادَةٌ قَدْ أَكْمَلَهَا وَأَدَّاهَا فَشَرَعَ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ عَقِيبَهَا. وَالْمَقْصُودُ تَفَاوَتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهِمَ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشْرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إِيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إِلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيُفْهَمُ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ. وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) مَعَ قَوْلِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَمَا فَهِمَ الصِّدِّيقُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَأَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِلَى هَذَا الْفَهْمِ حَيْثُ سَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ السُّؤَالَ فِيهَا مِرَارًا فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى عُمَرَ قَوْلُهُ: (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) (4: 176) الْآيَةَ فَدَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهِيَ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّهُ وَرِثَ فِيهَا وَلَدُ الْأُمِّ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِيهَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَإِنْ عَلَا " انْتَهَتِ الْمُقَدِّمَةُ. أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّهُ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عِدَّةَ مَسَائِلَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وَهِيَ سِتُّ مَسَائِلَ فِي أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَقَدْ وَضَّحَ فِيهَا إِغْنَاءَ النَّصِّ عَنِ الْقِيَاسِ أَتَمَّ الْإِيضَاحَ. مِثَالُ النُّصُوصِ الْكُلِّيَّةِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْقِيَاسِ: ثُمَّ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ عِدَّةَ نُصُوصٍ كُلِّيَّةٍ يُغْنِي كُلٌّ مِنْهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَدَامَ اللهُ النَّفْعَ بِعِلْمِهِ وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " عَنْ إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْقِيَاسِ فِي الِاسْمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّصِّ.

وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (5: 38) عَنْ إِثْبَاتِ قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ اسْمًا أَوْ حُكْمًا، إِذِ السَّارِقُ يَعُمُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ سَارِقَ ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (66: 2) فِي تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إِلَّا بِنَصٍّ وَإِجْمَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) (5: 89) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ فَهَذَا كَفَّارَتُهَا، وَقَدْ أَدْخَلَتِ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا النَّصِّ الْحَلِفَ بِالْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَلِفِ بِأَحَبِّ الْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ الْحَلِفَ بِالْبَغِيضِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ تَحْكِيمُ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ إِجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا عَلَى خِلَافِهِ، فَالْأُمَّةُ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " فِي إِبْطَالِ كُلِّ عَقْدٍ نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ نِكَاحًا كَانَ أَوْ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ إِجْمَاعًا مَعْلُومًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الْعُقُودِ صَحِيحٌ لَازِمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، فَهِيَ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (6: 119) مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ " فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهَا، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَصَّلَ لَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَرَامًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ مُفَصَّلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ ". لَا شَيْءَ فِي الشَّرْعِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ: ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ كَوْنِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُوَافِقَةً لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ: (الْفَصْلُ الثَّانِي) فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ مَا يُظَنُّ مُخَالَفَتُهُ لِلْقِيَاسِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ وَلَا بُدَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ كَوْنُهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ

كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةُ الْمَاءِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ، وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ وَالسَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْآكِلِ النَّاسِي وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهَلْ ذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ. وَأَنَا أَذْكُرُ مَا حَصَّلْتُهُ مِنْ جَوَابِهِ بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ وَمَا فَتَحَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي بِيُمْنِ إِرْشَادِهِ وَبَرَكَةِ تَعْلِيمِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ وَتَفْهِيمِهِ. " إِنَّ أَصْلَ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌّ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَحَيْثُ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِحُكْمٍ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ. لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِ قِيَاسٍ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفٍ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَكِنْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. (أَقُولُ) : ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ خَطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَيَانًا كَافِيًا شَافِيًا فِي عِدَّةِ فُصُولٍ ظَهَرَ بِهِ بُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ فُقَهَاءِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَوَائِدَ نَفِيسَةً، مِنْهَا انْعِقَادُ الْعُقُودِ بِأَيِّ لَفْظٍ عَرَّفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا، وَأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحِدَّ لِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا، لَا النِّكَاحِ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ كَالصَّرِيحِ، وَمِنْهَا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَبُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا فُقَهَاءُ الْقِيَاسِ فِيهَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ يُسْرُ الشَّرِيعَةِ وَسَعَتُهَا وَمُوَافَقَتُهَا لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا مَا اسْتَشْكَلَهُ نُفَاةُ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ مِنْ تَفْرِيقِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ وَجَمْعِهَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَهَا، كَفَرْضِ الْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ الطَّاهِرِ دُونَ الْبَوْلِ النَّجِسِ وَمَا فِي حُكْمِهِ، وَكَذَا إِبْطَالُ الصِّيَامِ بِالِاسْتِمْنَاءِ، وَنَضْحُ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَغَسْلُهُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِيجَابُ إِعَادَةِ الصِّيَامِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى الْحُرَّةِ وَلَوْ عَجُوزًا شَوْهَاءَ دُونَ الْأَمَةِ وَلَوْ شَابَّةً حَسْنَاءَ، وَقَطْعُ يَدِ سَارِقِ رُبْعِ دِينَارٍ دُونَ مُغْتَصِبِ أَلْفِ دِينَارٍ مَعَ جَعْلِ دِيَةِ الْيَدِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَفِي الْعُقُوبَاتِ، وَلَعَلَّهُ اسْتَوْفَى كُلَّ مَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِسْهَابِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَفِي جَوَابِهِ أَوْ أَجْوِبَتِهِ هَذِهِ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِهَا وَبَيَانِ مُوَافَقَتِهَا لِلْعَقْلِ وَمَصَالِحِ الْبَشَرِ وَمِنْ خَطَأِ غُلَاةِ الْقِيَاسِيِّينَ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ طُلَّابِ عِلْمِ الشَّرْعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. نَذْكُرُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ، وَهِيَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ: إِنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ أَطَالَ فِي رَدِّ هَذَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِجُمَلٍ وَجِيزَةٍ. (الرِّبَا: مَوْضُوعُهُ وَعِلَّتُهُ وَحِكْمَتُهُ) . (1) قَالَ: " الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ، وَخَفِيٌّ. فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلُ قَصْدًا وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةً. . " فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ، تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ " إِلَخْ. (أَقُولُ) : وَهَذَا الرِّبَا الْجَاهِلِيُّ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّهُ هُوَ الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ وَعَنْ

غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي رَوَى فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ أَوْ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُونَا يُحَرِّمَانِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقِيلَ: رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ، وَجَزَمَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَالِاخْتِلَافُ فِي رُجُوعِ الْأَوَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمَا بِالرِّبَا مَا نَزَلَ فِيهِ وَعِيدُ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ إِلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ، أَيْ أَنَّ الرِّبَا التَّامَّ الْكَامِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ (قَالَ) : فَإِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا سُمِّيَ رِبًا تَجَوُّزًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَقْصِدِ عَلَى الْوَسِيلَةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الْآتِي. وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ الزِّنَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ. وَإِنَّمَا حَرَّمَ هَذَا النَّظَرَ وَالْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَرِبَا الْفَضْلِ. (قَالَ) : وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ " وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي إِيضَاحِ ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ. (2) بَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَيْ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْقَمْحِ بِالْقَمْحِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوهُ وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا، فَطَائِفَةٌ قَصَرَتِ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا، وَأَقْدَمُ مَنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ (هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ) فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ: لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا ضَعِيفَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عِلَّةٌ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ. (3) بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَأَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ مَكِيلًا وَمَوْزُونًا فَيَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ طَعَامًا، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ كَوْنُهَا قُوتَ النَّاسِ، وَعِبَارَةُ

ابْنُ الْقَيِّمِ: وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَمَا سَتَرَاهُ. أَقُولُ: وَاعْتَبَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقُوتِ مَا يُدَّخَرُ. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَالْعِلَّةُ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الْوَزْنُ، فَيَجْرِي الرِّبَا عَلَى هَذَا فِي كُلِّ مَوْزُونٍ وَكُلِّ مَكِيلٍ مِنَ الْمَعَادِنِ كَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَوْسَعُ الْأَقْوَالِ وَأَشَدُّهَا فِي الرِّبَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الثَّمَنِيَّةُ؛ أَيْ كَوْنُهَا مِعْيَارَ الْأَثْمَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَوَّلُهَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنَ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إِلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا، فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النَّسَاءِ، وَالْعِلَّةُ إِذَا انْتُقِضَتْ مِنْ دُونِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ. (4) بَنَى ابْنُ الْقَيِّمِ بَيَانَ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ مِنْ تَعْلِيلٍ حَصَرَهُ فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ، وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، بَلْ هَذَا التَّضْيِيقُ عَلَى الْعِبَادِ لَا يُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَيُرَاجَعُ هُنَاكَ وَفِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ. (5) بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ شَرْعًا إِلَّا لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ بَيْعِ الْحِلْيَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنُقُودٍ مِنْهُمَا تَزِيدُ عَلَى وَزْنِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَازِ بِأَدِلَّةٍ مَنْقُولَةٍ وَمَعْقُولَةٍ أَيْضًا، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى جَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ لِلْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ بِإِبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْعَرَايَا، وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِهِ إِبَاحَةَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَالشَّاهِدِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْظُرُ كُلَّ عُضْوٍ تَتَوَقَّفُ مُعَالَجَتُهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَكَذَا لَمْسُهُ وَإِبَاحَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِمَنْعِ الْحَكَّةِ أَوِ الْقَمْلِ، وَالْأَمْثِلَةُ وَالشَّوَاهِدُ كَثِيرَةٌ. وَالْغَرَضُ مِمَّا لَخَّصْنَاهُ هُنَا بَيَانُ فَضِيلَةِ الْمَذْهَبِ الْوَسَطِ بَيْنَ مَذْهَبَيْ نَفْيِ الْقِيَاسِ أَلْبَتَّةَ وَالتَّوَسُّعِ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ الْبَعِيدَةِ. فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَهْلَ قُطْرٍ لَا قُوتَ لَهُمْ

إِلَّا الرُّزُّ وَلَا نَقْدَ لَهُمْ مِنَ النُّحَاسِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُمُ الرِّبَا فِي نَقْدِهِمْ وَقُوتِهِمْ، وَهَذَا يُنَافِي حِكْمَةَ الشَّارِعِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ غُلُوٌّ فِي الْإِبَاحَةِ. وَيُقَابِلُهُ الْغُلُوُّ فِي الْحَظْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِجَرَيَانِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ. وَالْمَذْهَبُ الْوَسَطُ: أَنَّ الْأَجْنَاسَ السِّتَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ مِعْيَارَ الْأَثْمَانِ وَأُصُولِ الْأَقْوَاتِ لِأَكْثَرِ الْبَشَرِ، فَكَانَ رِبَا النَّسِيئَةِ فِيهَا وَهُوَ الَّذِي يَتَضَاعَفُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً مُضِرًّا بِهِمْ ضَرَرًا بَلِيغًا، فَكَانَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمُصْلِحَةِ تَحْرِيمُهُ أَشَدَّ التَّحْرِيمِ وَجَعْلُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَتَحْرِيمُ مَا كَانَ ذَرِيعَةً لَهُ تَحْرِيمَ الصَّغَائِرِ. فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ فِي نَقْدٍ آخَرَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقُوتٍ آخَرَ غَيْرَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْبَلَحِ صَحَّ قِيَاسُهُمَا عَلَى الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ لِحُلُولِهِمَا مَحَلَّهَا، وَانْطِبَاقِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ. (فِإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمُعْتَدِلِينَ فِي الْقِيَاسِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِالْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عَنِ الشَّارِعِ بِالنَّصِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (6: 145) أَيْ خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (7: 157) وَلَا نَصَّ عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا (قُلْنَا) : إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالنَّصِّ هُنَا مَا ثَبَتَ بِالْمَنْطُوقِ أَوِ الْمَفْهُومِ أَوِ الْقَرِينَةِ الْوَاضِحَةِ، كَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِهِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعْلُومًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ أَوِ الْبَدَاهَةِ، أَوْ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ كَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ. وَالْأَجْنَاسُ السِّتَّةُ الَّتِي وَرَدَ الْحَدِيثُ بِجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى فِيهَا اقْتَضَاهُ، وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا أَوْ عَبَثًا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ؟ ! وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنًى تَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْأَطْعِمَةِ إِلَّا كَوْنَهَا تَقُودُ النَّاسَ الَّتِي هِيَ مِعْيَارُ مُعَامَلَاتِهِمْ وَمُبَادَلَاتِهِمْ، وَأَغْذِيَتِهِمِ الرَّئِيسِيَّةِ وَأُصُولِ أَقْوَاتِهِمْ، وَأَمَّا كَوْنُهَا تُوزَنُ أَوْ تُكَالُ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهَا الْعَامَّةِ، كَكَوْنِهَا تُنْقَلُ وَتُحْمَلُ وَتُنْظَرُ وَتُلْمَسُ وَتُبَاعُ وَتُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مَقْصُودَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا عَبَّرَ عَنِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُحْصَرُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِعِلَّتِهِ، بَلْ كَانَ الْبَيَانُ الصَّحِيحُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُفْهَمُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْبِيرِ، كَأَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَحُكْمُهُ كَذَا، وَمَا قَرَّرْنَاهُ وَاضِحٌ جِدًّا وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ أَكَابِرَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَوْسَعَ عِلْمًا وَفَهْمًا لِلنُّصُوصِ مِنْ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءِ بِشَهَادَةِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ قَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا هُوَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوُضُوحِ أَوْ أَشَدُّ. وَالْبَشَرُ عُرْضَةٌ لِلْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ، وَإِنَّ مَنْ أَنْهَضَ الْحُجَجَ عَلَى بُطْلَانِ الْتِزَامِ تَقْلِيدِ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا ظَهَرَ كَالشَّمْسِ مِنْ خَطَأِ أَكَابِرِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، إِمَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَإِمَّا بِتَنَكُّبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. وَلَمْ أَرَ مَثَلًا لِجَعْلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عِلَّةً لِلرِّبَا أَظْهَرَ مِنْ جَعْلِ " الدُّخُولِ فِي جَوْفٍ " عِلَّةً

لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الصَّائِمِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا الشَّرْعُ وَلَا اللُّغَةُ وَلَا الْعَقْلُ الْمُدْرِكُ لِلْحُكْمِ وَالْمَصَالِحِ; وَلِذَلِكَ قَاسُوا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِدْخَالَ الْمِسْبَارِ فِي جُرْحِ الْبَطْنِ أَوِ الرَّأْسِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا خَرَجَتْ مَقْعَدَتُهُ عِنْدَ الْغَائِطِ فَأَدْخَلَهَا بِيَدِهِ أَيْ بَعْدِ الِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ! . وَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ زَادَتْ أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ إِكْمَالِ الدِّينِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا الشَّارِعُ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا عَنْهَا رَحْمَةً بِنَا مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ، وَإِنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعْنِتَنَا. (ما حَقَّقَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِياسِ) : بَيِّنَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) الْخِلَافَ فِي الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ: هَلْ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ، هَلْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ فِي شُرُوطِهِ وَدَلَائِلُهُ، هَلْ هِيَ سَمْعِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ؟ وَانْقِسَامَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يَقُولُ: لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَفَرِيقٌ يَسْتَدِلُّ عَلَى نَفْيِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ وَبِالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: " وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقِيَاسِ بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ; فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ يَكْفِيهِمْ، وَإِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَقَدْ جَاءُوا بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ فَلَا نَطُولُ بِذِكْرِهَا، وَجَاءُوا بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ فَقَالُوا: دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ مَا قَالُوهُ وَبَحَثَ فِيهِ الْإِمَامُ النِّحْرِيرُ مُلْتَزِمًا قَوَاعِدَ الْأُصُولِ وَآدَابَ الْمُنَاظَرَةِ، فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي مُبْتَدِئِينَ بِأَدِلَّتِهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ. اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقِيَاسِ: (الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الْمَحْصُولِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ رَدَّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ مِنْ وُجُوهٍ، وَبَحَثَ فِيمَا اخْتَارَهُ مِنْ كَوْنِ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِي الْمُجَاوَزَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى كَوْنِ الْآيَةِ غَيْرَ حُجَّةٍ لِلْقِيَاسِيِّينِ فَقَالَ: " وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ لَا بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تُضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ، وَمَنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَقَدْ شَغَلَ الْحَيِّزَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ". (الدَّلِيلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (5: 95)

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (2: 144) وَهَذَانِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي آيَةِ الْجَزَاءِ هِيَ الْمَجِيءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ وَكَوْنِهِ مَثَلًا لَهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَمُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ. وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِيجَابُ تَحَرِّي الصَّوَابِ فِي أَمْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ. (الدَّلِيلُ الرَّابِعُ) : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (4: 83) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَالُوا: أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الدَّلِيلِ مِنَ الْمَدْلُولِ بِالنَّظَرِ فِيمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ أَوِ الْإِطْلَاقِ أَوِ التَّقْيِيدِ أَوِ الْإِجْمَالِ أَوِ التَّبْيِينِ فِي نَفْسِ النُّصُوصِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنْهُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا انْدِرَاجَ الْقِيَاسِ تَحْتَ مُسَمَّى الِاسْتِنْبَاطِ لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ وَقِيَاسِ الْفَحْوَى وَنَحْوَهُ، لَا بِمَا كَانَ مُلْحَقًا بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ رَأْيٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الشَّرْعِ بِمَا أَذِنَ اللهُ بِهِ، بَلْ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ. اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ لَيْسُوا هُمْ عُلَمَاءَ الْفِقْهِ الْمَعْرُوفِ وَأُصُولِهِ، بَلْ هُمْ أُولُو الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ. فَرَاجِعْهُ فِي مَحَلِّهِ. (الدَّلِيلُ الْخَامِسُ) : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (2: 26) قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَمَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ أَجْوَزُ. وَاعْتَمَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي رَدِّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قَلْبَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِبَيَانِ أَنَّ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكُلُّ مَا يَضْرِبُهُ مِنْ مَثَلٍ وَمَا يُثْبِتُهُ مِنْ تَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَأَمَّا مَنْ لَا يَخْلُو مِنَ النَّقْصِ وَالْجَهْلِ فَلَا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا نَظُنُّهُ لِمَا فِي فَاعِلِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ. وَأَقُولُ: إِنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ هَفْوَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْهَفَوَاتِ، بَلْ سَقْطَةٌ مَنْ أَقْبَحِ السَّقَطَاتِ، فَإِنَّهُ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْمَوْضُوعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَاسِ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَجَعْلِهِ أَحَقَّ بِالتَّشْرِيعِ وَأَجْدَرَ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ مِنْ سِيَاقِهِ الَّذِي اخْتَصَرْنَاهُ، فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِهِ. (الدَّلِيلُ السَّادِسُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (36: 79)

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تَضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ، وَغَايَةُ مَا فِيهَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ السَّابِقِ عَلَى الْأَثَرِ اللَّاحِقِ وَكَونُ الْمُؤَثِّرِ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ إِدْرَاجُ فَرْعٍ تَحْتَ أَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. (الدَّلِيلُ السَّابِعُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (16: 90) وَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ (قَالَ) : وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَالْقِيَاسَ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَثَلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْفَارِقِ فِيهَا، لَا فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الرَّأْيِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ الزَّائِفَةِ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ اهـ. أَقُولُ: أَخْطَأَ الشَّوْكَانِيُّ هَهُنَا وَأَصَابَ - أَصَابَ فِيمَا رَمَى إِلَيْهِ مَنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَجْعَلُ كُلَّ مَا يُوزَنُ فِي حُكْمِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكُلَّ مَا يُكَالُ فِي حُكْمِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ، وَيَجْعَلُ مُسْبِرَ الْجِرَاحِ مُفْطِرًا لِلصَّائِمِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَأَخْطَأَ مُرَادُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ إِذْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَا كَتَبَهُ هُوَ ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عَيْنُ مَا سَلَّمَ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِ مَذْهَبِهِمَا فِيهِ. الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ: ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُجَّةِ الْقِيَاسِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَدَأَ الْكَلَامَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ، إِذْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو " فِي الْقَضَاءِ بِمَا لَا يَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَضْعِيفُ ابْنِ حَزْمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ يَطُولُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِمَّا تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ وَعَنْ سَائِرِ أَدِلَّتِهِمْ بَعْدَ تَلْخِيصِهَا بِمَا نَصَّهُ: " وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي الطَّلَبِ لِلْحُكْمِ مِنَ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي " بَعْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْخَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الرَّدِّ بِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا بُدَّ

مِنْ حَمْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الرَّأْيِ عَلَى مَا عَدَا الْقِيَاسَ، فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حَجَّةً لِإِثْبَاتِهِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْأَشْيَاءِ أَوِ الْحَظْرِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْمَصَالِحِ أَوِ التَّمَسُّكِ بِالِاحْتِيَاطِ. " وَعَلَى تَسْلِيمِ دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَاسَاتُ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، كَالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْقِيَاسَاتِ لَا الْقِيَاسَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسَالِكِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ وَالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ. وَأَيْضًا فَعَلَى التَّسْلِيمِ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكْمُلْ فَيُمْكِنُ عَدَمُ وِجْدَانِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ كَمُلَ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وَلَا مَعْنًى لِلْإِكْمَالِ إِلَّا وَفَاءُ النُّصُوصِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّرْعِ إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَوْ بِانْدِرَاجِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الشَّامِلَةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَقَوْلُهُ: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (6: 59) . وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقِيَاسَاتِ كَقَوْلِهِ: " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى " وَقَوْلُهُ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ فَقَالَ: " أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ " وَقَالَ لِمَنْ أَنْكَرَ وَلَدَهُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أَسْوَدَ: " هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مَنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزْعَةُ عِرْقٍ، قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزْعَةُ عِرْقٍ " وَقَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ " وَقَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قِيَاسَاتٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى صَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ صَادِرَةٌ عَنِ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا جَاءَنَا بِهِ عَنْهُ: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (53: 4) وَيَقُولُ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ:

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (59: 7) وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ إِنَّمَا هُوَ قِيَاسُ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْعِصْمَةُ وَلَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلَا كَانَ كَلَامُهُ وَحْيًا بَلْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ وَبِعَقْلِهِ الْمَغْلُوبِ بِالْخَطَأِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْقِيَاسَاتِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ) : " وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِجَمَاهِيرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ: مَسْلَكُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا عِنْدَ شُذُوذِ مُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى الْأَدِلَّةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِ هَذَا الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا جَاءُونَا بِرِوَايَاتٍ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَحْصُورِينَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لِجَمِيعِهِمْ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَقْطَارِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ لِمَا قَالَهُ الْبَعْضُ كَمَا ذَلِكَ مَعْرُوفٌ؟ . " وَبَيَانُهُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ، وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقِيَاسَاتِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهَا وَالَّتِي قَطَعَ فِيهَا بِنَفْيِ الْفَارِقِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَأَثْبَتُوهُ بِمَسَالِكَ تَتَقَطَّعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، وَتُسَافِرُ فِيهَا الْأَذْهَانُ حَتَّى تَبْلُغَ إِلَى مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَتَتَغَلْغَلَ فِيهَا الْعُقُولُ حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي وُرُودٍ وَلَا صَدْرٍ، وَلَا مِنَ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا " وَجَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَبِمَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُصَحِّحُ دَلَالَتَهُ وَيُؤَيِّدُ بَرَاهِينَهُ.

(الْقِياسُ الصَّحِيحُ) . وَإِذَا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَا، وَتَقَرَّرَ لَدَيْكَ جَمِيعُ مَا قَرَّرْنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَأْخُوذَ بِهِ هُوَ مَا وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ عَلَى اصْطِلَاحِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ قِيَاسًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ لَمْ يَقُولُوا بِإِهْدَارِ كُلِّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ أَوْ مَقْطُوعًا فِيهِ بِنَفِيِ الْفَارِقِ، بَلْ جَعَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ مَشْمُولًا بِهِ مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، وَبِهَذَا يَهُونُ عَلَيْكَ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ عِنْدَكَ مَا اسْتَعْظَمُوهُ، وَيَقْرُبُ لَدَيْكَ مَا بَعَّدُوهُ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ صَارَ لَفْظِيًّا، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَافَ الْمَعْنَوِيَّ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَقَدْ قَدَّمَنَا لَكَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ تَطْوِيلَ ذُيُولِ الْبَحْثِ بِذِكْرِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنْهَضَ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِخْبَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهَا دِينَهَا، وَبِمَا أَخْبَرَهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَهَا عَلَى الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا. ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ صَحِيحٍ وَفَهْمٍ صَالِحٍ أَنَّ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُطْلَقَاتِهِمَا وَخُصُوصِ نُصُوصِهِمَا مَا يَفِي بِكُلِّ حَادِثَةٍ تَحْدُثُ، وَيَقُومُ بِبَيَانِ كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ اهـ. ثُمَّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى النَّصِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ مَا نَصُّهُ: " وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَخْذُ بِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي النَّافُونَ لِلْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيًّا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ مَا اسْتَعْظَمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ قَاضٍ بِالْعُمُومِ " اهـ. أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَعُدُّ كُلَّ تَعْلِيلٍ فِي النُّصُوصِ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ، فَيَجْرِي كُلُّ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مَجْرَى أَفْرَادِ الْعَامِّ فِي حُكْمِهِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَنُوطُونَ الْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ الْمَنْصُوصَةِ حَقِيقِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، سَوَاءٌ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِالنَّصِّ أَوْ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ

اللَّفْظِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَّفِقَيْنِ عَلَى تَحْكِيمِ الْعِلَلِ الْمَنْصُوصَةِ. وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ إِنَّمَا يُوَافِقَانِ الْجُمْهُورَ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَرَيَانِ أَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ كَلِمَتَيِ الْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ وَهَذَا حَقٌّ، وَمِنْ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ قَدِ اسْتَوْفَتْهَا النُّصُوصُ وَبَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، فَلَا وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا، وَلَا لِإِيقَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَعَبَّدُوهَا " وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا زَادَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ بِالْقِيَاسِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَرَ لِشَيْءٍ مِنْهُ حُجَّةً قَيِّمَةً وَلَا قِيَاسًا صَحِيحًا. (بَحْثٌ فِي الْتِزَامِ النُّصُوصِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فِي الْمُعَامَلَاتِ) . تَمْهِيدٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: كَانَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَشَدِّ عُلَمَاءِ السَّلَفِ تَشْدِيدًا فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَدْقِيقًا فِي إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ فِي الدِّينِ، حَتَّى إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ - وَنَاهِيكَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ - وَضْعَ رِدَائِهِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَرِّ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنِ اسْتَشَارَهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمْرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا أَلَحَّ الرَّجُلُ قَالَ لَهُ: " لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ " فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ قَدْ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (24: 63) وَمِنْ أَجَلِّ كَلَامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الدِّينَ وَفِي رِوَايَةٍ: الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا اهـ. نَقَلَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ (ص: 167 ج1 و198 ج2) وَقَالَ فِي ص: 310 مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِذَلِكَ الْتَزَمَ مَالِكٌ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَإِنْ ظَهَرَتْ لِبَادِيَ الرَّأْيِ، وُقُوفًا مَعَ مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ فِي إِزَالَةِ الْأَخْبَاثِ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُطْلَقِ النَّظَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا غَيْرُهُ حَتَّى اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَهُ عِنْدَهُ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ حَتَّى يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ التَّكْبِيرِ

وَالتَّسْلِيمِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَقَامَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْإِجْزَاءِ وَمُنِعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ فِي الْكَفَّارَاتِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَدَدِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. " وَدَوَرَانُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ أَنْ تَصَوَّرَ لِقِلَّةِ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنُدُوِرِهِ، بِخِلَافِ قِسْمِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الظَّاهِرِ لِلْعُقُولِ. فَإِنَّهُ اسْتَرْسَلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْمُدِلِّ الْعَرِيقِ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْمَصْلَحِيَّةِ، نَعَمْ مَعَ مُرَاعَاةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهُ، وَلَا يُنَاقِضَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ اهـ. (أَقُولُ) : إِنَّ الْعَلَّامَةَ الشَّاطِبِيَّ قَدْ حَرَّرَ بَحْثَ الْبِدَعِ وَأَطَالَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالْحَثِّ عَلَى الْتِزَامِ السُّنَّةِ فِي كِتَابِهِ (الِاعْتِصَامِ) بِمَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى مِثْلِهِ - بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَعِلْمِنَا - سَابِقٌ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُنَا لَاحِقٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْبِدَعِ وَبَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ تَفْرِقَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً، وَأَثْبَتَ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ بِهَا عَلَى تَشَدُّدِهِ فِي نَصْرِ السُّنَّةِ، وَمُبَالَغَتِهِ فِي مُقَاوَمَةِ الْبِدَعِ، حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُبْغِضُ مَالِكًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: إِذَا رَأَيْتَ الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ. الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ صَحِيحًا عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ جَعَلَ الْقَوْلَ بِهَا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لِلْقِيَاسِ، فَأَدْخَلُوهَا فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُنَاسَبَةَ أَوِ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ. وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، فَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِهَا، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُونَ فِي اسْمِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عَنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ; لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِشَرْطِ الْمُلَاءَمَةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ. وَقَدْ قَسَّمَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْمُنَاسِبَ إِلَى مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، وَمَا عُلِمَ إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَمَا لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ وَلَا إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ بِالِاعْتِبَارِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ، فَيُعَدُّ مِنْ وَسَائِلِهَا وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْمَصَالِحِ

الْمُرْسَلَةِ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِرْشَادِ الْفُحُولِ، وَقَالَ: وَقَدِ اشْتُهِرَ انْفِرَادُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْقَوْلِ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ. وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ اهـ. مَا حَرَّرَهُ الطُّوفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ: (أَقُولُ) : لَمْ أَرَ فِي كَلَامِ عُلَمَاءِ الْمَشَارِقَةِ مَنْ أَطْنَبَ فِي بَحْثِ الْمَصَالِحِ مِثْلَ الْإِمَامِ نَجْمِ الدِّينِ الطُّوفِيِّ الْحَنْبَلِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 716 وَلَا فِي كَلَامِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ مِثْلَ الْعَلَّامَةِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ الشَّاطِبِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 790. أَمَّا الطُّوفِيُّ فَإِنَّهُ وَفَّى الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنَ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا وَمَالِكٌ مُرْسَلًا وَحَسَّنُوهُ) وَقَدْ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَالْمَفَاسِدِ نَفْيًا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَفْصِيلِيَّةٍ وَإِجْمَالِيَّةٍ، وَبِإِجْمَاعٍ مَا عَدَا الْجَامِدِينَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَجَعَلَ مَدَارَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَدَعَّمَ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى جَعَلَ رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ مُقَدَّمَةً عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَقَالَ: وَإِنْ خَالَفَهَا وَجَبَ تَقْدِيمُ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ لَهُمَا، لَا بِطْرِيقِ الِافْتِئَاتِ عَلَيْهِمَا وَالتَّعْطِيلِ لَهُمَا. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ الطُّوفِيُّ فِي رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ هُوَ أَدَقُّ وَأَوْسَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَأَدِلَّتُهُ أَقْوَى، وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِذَلِكَ فَقَالَ: " وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا مُسْتَفِيدِينَ لَهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ هِيَ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، بَلْ هِيَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ التَّعْوِيلُ عَلَى النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَبَاقِي الْأَحْكَامِ " اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ: " وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، دُونَ الْعِبَادَاتِ وَشَبَهِهَا; لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ حَقٌّ لِلشَّارِعِ خَاصٌّ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَقِّهِ كَمًّا وَكَيْفًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَيَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ عَلَى مَا رَسَمَ لَهُ، وَلِأَنَّ غُلَامَ أَحَدِنَا لَا يُعَدُّ مُطِيعًا خَادِمًا لَهُ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ مَا رَسَمَ سَيِّدُهُ وَفَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِيهِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلِهَذَا لَمَّا تَعَبَّدَتِ الْفَلَاسِفَةُ بِعُقُولِهِمْ وَرَفَضُوا

الشَّرَائِعَ أَسْخَطُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَهَذَا بِخِلَافِ حُقُوقِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَإِنَّ أَحْكَامَهَا سِيَاسِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِهِمْ، وَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ وَعَلَى تَحْصِيلِهَا الْمُعَوَّلُ. " وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّرْعَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِمْ فَلْتُؤْخَذْ مِنْ أَدِلَّتِهِ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَهِيَ أَقْوَاهَا وَأَخَصُّهَا فَلْنُقَدِّمْهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ. " ثُمَّ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَخْفَى مَصَالِحُهَا عَنْ مَجَارِي الْعُقُولِ وَالْعَادَاتِ. وَأَمَّا مَصْلَحَةُ سِيَاسَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي حُقُوقِهِمْ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ لَهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْعَقْلِ. فَإِذَا رَأَيْنَا الشَّرْعَ مُتَقَاعِدًا عَنْ إِفَادَتِهَا عَلِمْنَا أَنَّا أَحَلْنَا فِي تَحْصِيلِهَا عَلَى رِعَايَتِهَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا. وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى سِيَاقِهِ بِرُمَّتِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُجَلَّدِ التَّاسِعِ مِنَ الْمَنَارِ (ص 745 - 770) . مَا حَرَّرَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ: وَأَمَّا الشَّاطِبِيُّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْبَابَ الثَّامِنَ مِنْ كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ؛ فَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قِيَاسٍ صَحِيحٍ أَوْ إِلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فَقَدْ وَافَقَ الشَّاطِبِيُّ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى عَدِّهَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ، وَوَضَّحَهَا بِعَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: (1) اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ الَّتِي سُمِّيَ مَجْمُوعُهَا الْمُصْحَفَ. (2) اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، كَذَا قَالَ. (3) قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي ذَلِكَ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ. (4) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الضَّرْبِ فِي التُّهَمِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنَ السِّجْنِ فِي التُّهَمِ، مَعَ أَنَّ السِّجْنَ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ. (5) مَا قَرَّرَهُ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ جَوَازِ وَضْعِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ضَرَائِبَ وَإِعَانَاتٍ مُؤَقَّتَةً عِنْدَ الضَّرُورَةِ ; لِتَكْثِيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمَلِكِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَفِي بِذَلِكَ. (6) اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِقَابِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ بِأَخْذِ الْمَالِ. (7) الزِّيَادَةُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ إِذَا تَوَالَتْ ضَرُورَةُ الْأَكْلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ فِي الْمَجَاعَاتِ، أَوْ عَمَّ الْحَرَامُ بَلَدًا أَوْ قُطْرًا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُنْظَرُ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنَ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ حَلَالًا. هَذَا مُلَخَّصُ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ، وَعَزَى الْقَوْلَ بِهِ إِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَحَالَ فِي بَسْطِهِ عَلَى الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ; أَيْ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ.

(8) قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، قَالَ: وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ; إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. (9) إِقَامَةُ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ (خَلِيفَةٍ) غَيْرِ مُجْتَهِدٍ فِي الشَّرْعِ إِذَا فُقِدَ الْمُجْتَهِدُ. قَالَ: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا لِمَنْ نَالَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَيْضًا أَوْ كَادُوا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ رُقِّيَ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا فُرِضَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ وَافْتَقَرُوا إِلَى إِمَامٍ يُقَدِّمُونَهُ; لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ وَتَسْكِينِ ثَوْرَةِ الثَّائِرِينَ وَالْحِيَاطَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْثَلِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا عَلَى فَرْضِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا بَحْثٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ هُوَ لَا يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ مَسْأَلَةِ الْمِثَالِ الْمَفْرُوضَةِ أَيْضًا. (10) بَيْعَةُ مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ ابْتِدَاءً أَوِ اسْتَدَامَتُهَا بَعْدَ وُجُودِ الْكُفْءِ لَهَا كَالْقُرَشِيِّ الْمُجْتَهِدِ. . . إِلَخْ; خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ مُبَايَعَةَ ابْنِ عُمَرَ لِيَزِيدَ وَلِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، وَأَخْذَهُمَا الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ لَا بِاخْتِيَارِ الْأُمَّةِ، وَنَهْيَ مَالِكٍ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبْحَاثٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ; فَلَا تُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحَارِبِينَ (الْبُغَاةِ) قَوْلٌ وَجِيزٌ فِيهَا، وَإِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا; مِنْهُ أَنَّ تَحْرِيرَهَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمُصَنَّفٍ خَاصٍّ، وَمِنْهُ أَنَّ الرَّأْيَ الْغَالِبَ عَلَى الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَائِرِينَ ; كَمَا فَعَلَتِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ إِذْ كَوَّنَتْ قُوَّةً خَرَجَتْ بِهَا عَلَى سُلْطَانِهَا عَبْدِ الْحَمِيدِ فَسَلَبَتِ السُّلْطَةَ مِنْهُ، وَخَلَعَتْهُ بِفَتْوَى مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الشَّاطِبِيُّ لِمَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَوِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ يَجْمَعُهُ كُلَّهُ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ كِتَابَتِهِ، وَاتِّخَاذُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ لَهُ يَكْتُبُونَ بِأَمْرِهِ كُلَّ مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَسَبَبُ عَدَمِ جَمْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي الْمُصْحَفِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِطَالَةِ الْفِكْرَةِ، وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَزِيدِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَجِدَ شُبْهَةً

عَلَى كَوْنِ كِتَابَتِهِ فِي صُحُفٍ مُتَفَرِّقَةٍ هُوَ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا تَلَبَّثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ أَوَّلًا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الرَّوِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَنَاهِيكَ بِأَوَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَى أَصْحَابِ الْمَنَاصِبِ الْعُلْيَا فِي مَنَاصِبِهِمْ. وَمِنَ الثَّانِي حَدُّ السُّكْرِ، قِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى الْقَذْفِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعْزِيرٌ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ الْعَدَدِ فِيهِ. وَالْحَقُّ الْجَلِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ مَسَائِلَ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى الْحُكَّامِ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ حَدِيثُ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " بِالتَّبَعِ لِآيَاتِ رَفْعِ الْمَضَارَّةِ فِي الْإِرْثِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَيْ رَفْعُ الضَّرَرِ الْفَرْدِيِّ وَالْمُشْتَرِكِ، وَمِنْهُ أُخِذَتْ قَاعِدَةُ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا فِي أَعْمَالِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَالِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، عَلَى أَنَّ جَمَاهِيرَ الْفُقَهَاءِ يُصَرِّحُونَ دَائِمًا بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَقَوَاعِدُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَكْثَرُهَا يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. إِنَّمَا فَرَّ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ تَقْرِيرًا صَرِيحًا مَعَ اعْتِبَارِهِمْ كُلِّهِمْ لَهُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ خَوْفًا مِنِ اتِّخَاذِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ إِيَّاهُ حُجَّةً لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءِ اسْتِبْدَادِهِمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ، فَرَأَوْا أَنْ يَتَّقُوا ذَلِكَ بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَى النُّصُوصِ وَلَوْ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْخَفِيَّةِ، فَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَلِمَ يَنُوطُوهَا بِاجْتِهَادِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. وَهَذَا الْخَوْفُ فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقِ الْأُمَّةَ مِنْ أَهْوَاءِ الْحُكَّامِ كَمَا يَنْبَغِي، إِذْ كَانَ يُوجَدُ فِي عَهْدِ كُلِّ ظَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ مَنْ يُمَهِّدُ لَهُ الطَّرِيقَ وَلَوْ لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِحِفْظِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ: هِيَ رَفْعُ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَسَاسِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (42: 38) وَقَوْلِهِ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْمَصَالِحِ وَلَا بِالتَّضْيِيقِ فِي تَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا. فَإِذَا نِيطَ ذَلِكَ بِأُولِي الْأَمْرِ أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ (الْخَلِيفَةَ) وَيَكُونُونَ أَهْلَ الشُّورَى لَهُ وَيَكُونُ هُوَ مُقَيَّدًا بِمَا يُقَرِّرُونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُخْشَى مِنْ جَعْلِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ ذَرِيعَةً لِلْمَفَاسِدِ مَا يُخْشَى مِنْهُ فِي حَالِ إِقْرَارِ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مَسَالِكِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا مَثَارُ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَنْ يُوَسَّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَأَنْ يُقَرَّ عَلَى الْمُلْكِ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، وَيَرْضَى بِتَقْلِيدِهِ كُلُّ جَائِرٍ جَاهِلٍ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ.

نَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ. عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ: الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ الدِّينِيَّانِ، تُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يُنْظَرُ فِي دَلَائِلِهِ، وَيُرَجَّحُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِيهِ إِلَى الشُّذُوذِ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِحْدَاثُ عِبَادَةٍ جَدِيدَةٍ أَوِ الْإِتْيَانُ بِعِبَادَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا بِقِيَاسٍ وَلَا بِدَعْوَى إِجْمَاعٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالنَّظَرِيَّاتِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ بِكِتَابِهِ وَبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَانَا عَنِ السُّؤَالِ الْمُقْتَضِي لِزِيَادَةِ التَّكَالِيفِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ مُرَاغِمًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ أَوْ طَاعِنًا فِي بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زَاعِمًا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالدِّينِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ، مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَسِيَاسَةٍ وَقَضَاءٍ وَآدَابٍ فَهِيَ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ نَصٌّ مُحْكَمٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لُغَةً، وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ بِمَوْضُوعِهِ أَوِ الْعَامَّةِ كَنَفْيِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (6: 119) وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهَا. الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ صَحِيحٌ بِعُمُومِهِ أَوْ تَعْلِيلِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَوْ عَمِلَ بِهَا جُمْهُورُهُمْ، وَعُرِفَ شُذُوذُ مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ فِي هَذَا عَيْنُ الْوَاجِبِ فِيمَا قَبْلَهُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ. الثَّالِثُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ تَكْلِيفِيٌّ غَيْرُ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ، أَوْ حَدِيثٌ غَيْرُ وَاهٍ وَلَا صَحِيحٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ أَوْ صَرَاحَةِ دَلَالَتِهِ. فَمِثْلُ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَيُعْذَرُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَعِيبُهُ وَلَا يَنْتَقِدُهُ، كَمَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدُهُمْ مُخَالِفَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ لَا إِمَامًا وَلَا مُقْتَدِيًا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ تَحْرِيمَهَا وَبَعْضُهُمْ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا، فَعَمِلَ كُلٌّ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِثْلُهُ مَا يَسْتَنْبِطُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ وَأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّفُهُ تَقْلِيدًا لِمَنِ اسْتَنْبَطَهُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَشْهَرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَأَنْ يَأْخُذَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَأْخَذَهُ وَظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَا لِآرَاءِ النَّاسِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (7: 3) . وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أُولُو الْأَمْرِ وَيَتَشَاوَرُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ النَّقْلِ، وَمِنْ حَيْثُ طَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ أَلْحَقُوهُ بِهِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَإِلَّا كَانَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ. الرَّابِعُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ غَيْرُ وَارِدٍ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَادَاتِ

مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطِّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ الْعَامِّ - وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ إِرْشَادًا لَا تَشْرِيعًا - وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْفَتَاوَى الشَّخْصِيَّةِ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْجُمْهُورُ لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِهِ، فَالْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الشَّرْعِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ; لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الِاتِّبَاعِ حَتَّى فِي الْعَادَاتِ مِمَّا يُقَوِّي الْأُمَّةَ، وَيُمَكِّنُ الرَّابِطَةَ وَالْوَحْدَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَنْبَغِي لِحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُجْبِرُوا أَحَدًا عَلَى فِعْلِهِ وَلَا عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً صَالِحَةً فِي مِثْلِهِ. الْخَامِسُ: مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِيهِ مَا يَقْتَضِي فِعْلًا وَلَا تَرْكًا فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَحْمَةً مِنْهُ وَتَخْفِيفًا عَلَى عِبَادِهِ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُكَلِّفَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ أَوْ تَرْكَ شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ مَا أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا خَاصٌّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا وَمَشْرُوطٌ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: " لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَقَدْ تَمَّ وَكَمُلَ. وَهُوَ تَعَالَى شَارِعُ الدِّينِ كَمَا قَالَ: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (42: 13) إِلَخْ. وَكَمَا قَالَ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (45: 18) وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَلِّغُ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (42: 48) وَمُبِيِّنُهُ كَمَا قَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) فَلَيْسَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَدْلُولِ النُّصُوصِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهَا، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَوْ جُعِلَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ اتَّخَذَ رَبًّا مِنْ دُونِهِ (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (42: 21) . وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ حَتَّى إِنَّ فِيمَا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا تَكْرَارًا وَإِعَادَةً لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ " وَفِي الْإِعَادَةِ إِفَادَةٌ " كَمَا قِيلَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ وَتَنَوَّعَ التَّعْبِيرُ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) . وَجْهُ اتِّصَالِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُمَا عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَعَنِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ تَرْكًا لِمُبَاحٍ يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِاسْمِ اللهِ تَنَسُّكًا وَتَعَبُّدًا مَعَ اعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا شَرْعًا يُدْعَى إِلَيْهِ وَيُعْتَقَدُ وُجُوبُهُ وَبَيَّنَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ، وَصَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَبَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ، نَهَى أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا لَمْ يَكُنْ حَرَّمَهُ، أَوْ شَرْعِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ شَرَعَهُ، بِأَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا وَفَضْلًا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ أَوْرَدَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ ضَلَالَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا شَرَعُوهُ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا قَلَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جَهْلِهِمْ، مَعَ بَيَانِ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِهِ يُنَافِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ فَقَالَ: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) هَذِهِ أَرْبَعَةُ نُعُوتٍ لِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَرَّمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا. (فَالْبَحِيرَةُ) : فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي يُبْحِرُونَ أُذُنَهَا أَيْ يَشُقُّونَهَا شَقًّا وَاسِعًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بِهَا ذَلِكَ إِذَا أُنْتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَكَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِذَا وَلَدَتْ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ، يَفْعَلُونَهُ لِيَكُونَ عَلَامَةً عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا أَوْ رُكُوبِهَا أَوِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (بَحَرَ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ " ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ عِدَّةَ كَلِمَاتٍ فِيهَا مَعْنَى السَّعَةِ. (وَالسَّائِبَةُ) : النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ بِنَذْرِهَا لِآلِهَتِهِمْ فَتَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَا يُجَزُّ صُوفُهَا وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهَا إِلَّا لِضَيْفٍ، فَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَابَ الْفَرَسُ

وَنَحْوُهُ: أَيْ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَسَابَ الْمَاءُ: جَرَى، فَهُوَ سَائِبٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْغَنَمِ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ وَالسُّدِّيِّ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ سَيَّبَ مِنْ مَالِهِ نَاقَةً أَوْ غَيْرَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ. (وَالْوَصِيلَةُ) : الشَّاةُ الَّتِي تَصِلُ أُنْثَى بِأُنْثَى فِي النِّتَاجِ وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي وَصَلَتْ أَخَاهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا وَلَدَتْ لَهُ شَاتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَا يَذْبَحُونَ أَخَاهَا مِنْ أَجْلِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نُتِجَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ اسْتَحْيَوْهُمَا، وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا. (وَالْحَامِي) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحِمَايَةِ، وَهُوَ فَحْلُ الضِّرَابِ أَيِ التَّلْقِيحِ، قِيلَ: إِذَا أَتَمَّ ضِرَابَ عَشَرَةِ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ، وَتَرَكُوهُ لَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ تَمْيِيزًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا تَرَى، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ: الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ " قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، وَالْحَامِي: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَّعُوهُ (أَيْ تَرَكُوهُ) لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِي. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَحْثِ وَمَنِ ابْتَدَعَهُ لِلْعَرَبِ وَغَيَّرَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا ابْتَدَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ. أَمَّا مَعْنَى الْجُمْلَةِ: فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَأَخَوَاتِهِمَا أَيْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بِزَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ أَسْنَدُوا تَحْرِيمَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوِ ادِّعَاءً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (6: 148) أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ مِنَّا فَفَعَلْنَاهُ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَمْ يُسْنِدُوهُ إِلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ إِسْنَادِ تَحْرِيمِهِ إِلَيْهِ بِالتَّصْرِيحِ

افْتِرَاءً عَلَيْهِ فَظَاهَرٌ بَيِّنٌ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ ادِّعَاءً وَاسْتِدْلَالًا بِالْمَشِيئَةِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ أَيْضًا لِأَنَّ دَلِيلَهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعِ الْكُفَّارَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسَّاقَ مِنَ الْفِسْقِ وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ جَعَلَ لَهُمُ اخْتِيَارَ التَّرْجِيحِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، فَعَدَمُ إِجْبَارِهِمْ عَلَى التَّرْكِ أَوِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَائِهِ تَعَالَى بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفِسْقٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ فِي حَالِ السُّكُوتِ عَنْ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، فَوَجْهُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ مِنْ شَأْنِ رَبِّ النَّاسِ وَإِلَهِهِمْ سُبْحَانَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، فَمَنْ تَجَرَّأَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُدَّعِيًا بِفِعْلِهِ هَذَا، إِمَّا الرُّبُوبِيَّةَ وَإِمَّا الْإِذْنَ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا افْتِرَاءٌ، وَالْفِعْلُ فِيهِ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِهِ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالْوَسَاطَةِ; لِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يُسَيِّبُونَ بِاسْمِهَا السَّوَائِبَ وَيَتْرُكُونَ لَهَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لَيْسَتْ بِزَعْمِهِمْ إِلَّا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ بِتَحْرِيمِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَسْيِيبِ عِجْلٍ لِلسَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ أَوْ سِوَاهُ، وَسَنِّ وِرْدٍ أَوْ حِزْبٍ يُضَاهِي بِهِ الْمَشْرُوعَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُؤْثَرْ عَنِ الشَّارِعِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ بِمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنَالُ بِهِ رِضَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا عِبَادَةَ وَلَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ عَامٍ أَوْ خَاصٍّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أَيْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ دُونَ الْعَبَثِ وَالْخُرَافَاتِ وَإِلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهَا وَالْمُبَيِّنِ لِمُجْمَلِهَا فَاتَّبِعُوهُ فِيهَا، قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) أَيْ أَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَا يَكْفِي الْأَفْرَادَ وَالْأُمَمَ وَمَا لَا يَكْفِي بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَأَيْنَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْجُهَلَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَبَّطُونَ فِي وَثَنِيَّةٍ وَخُرَافَاتٍ، وَوَأْدِ بَنَاتٍ، وَعُدْوَانٍ مُسْتَمِرٍّ، وَقِتَالٍ مُسْتَمِرٍّ، وَعَدَاوَةٍ وَبَغْضَاءَ، وَظُلْمٍ لِلْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، عَلَى مَا أُوتُوا مِنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ، وَعَزِيمَةٍ وَدَهَاءٍ، وَحَزْمٍ وَمُضَاءٍ، وَعِزَّةٍ وَإِبَاءٍ، وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارٍ وَآرَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، وَالْخُلَفَاءَ

الْعَادِلِينَ، لَوْلَا تَقْلِيدُ الْآبَاءِ! وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْدَ اتِّبَاعِهِمْ بِتَرْكِهِمْ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الْقُرْآنِ. هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَةُ الْمُشَابِهَةُ لَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (2: 170) هُمَا أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْآيَاتِ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ التَّقْلِيدَ خِلَافُ مُقْتَضَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَدَلَائِلِ الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَلَكِنَّ خَلَفَنَا الطَّالِحَ رَجَعُوا إِلَيْهِ خِلَافًا لِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، حَتَّى عَادُوا وَهُمْ فِي حِجْرِ الْإِسْلَامِ، شَرًّا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي حِجْرِ الْأَصْنَامِ. (فَصْلٌ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَشُبُهَاتِ أَهْلِهِ) . الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا تَقَرَّرَتْ بِدْعَةُ التَّقْلِيدِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعُ، أَيْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَصَفَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا خَيْرُ الْقُرُونِ، وَشَرُّ التَّقْلِيدِ مَا فَرَّقَ الْأُمَّةَ شِيَعًا وَجَعَلَ الِاخْتِلَافَ فِي الدِّينِ عِنْدَهَا دِينًا بِانْتِسَابِ كُلِّ شِيعَةٍ وَطَائِفَةٍ إِلَى رَجُلٍ يَلْتَزِمُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَالَ مَنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَإِنْ خَالَفَتْ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. هَذَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَرُدَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لَا إِلَى أَقْوَالِ النَّاسِ غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ، وَجَعَلَ وَظِيفَةَ الْكِتَابِ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ إِلَّا الْبَغْيَ وَالضَّلَالَ. ثُمَّ إِنَّ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِالدِّينِ وَطَالَبَ بِالدَّلِيلِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْقَوْلِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (10: 68) السُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ. وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ وَتَنَاقُضَ أَهْلِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا مَا حَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ فِي مَبْحَثِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِهِ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ: هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ. قَالَ: وَنَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ. وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ

تَكَلَّمْتُ فِيهَا بِرَأْيِي سَوْطًا عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السِّيَاطِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَهُنَا مَالِكٌ يَنْهَى عَنِ التَّقْلِيدِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ (وَأَحْمَدُ) وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا (الْقُولَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ) فَلَا نُطَوِّلُ الْمَقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدِّ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَا عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بَعْدَ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ، وَقَالَ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ. (وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ) : التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ; وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ النَّاسِ لَا الْمُقَلِّدِينَ! فَيَاللهِ الْعَجَبُ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْأَكْثَرِ، وَجَعَلَ الْحُجَّةَ لَهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ! فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمُ أَلْبَتَّةَ وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ وَلَا سَمِعُوا بِهِ، بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إِلَّا السُّؤَالَ عَنْ حُكْمِ اللهِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ كَمَا زَعَمُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ.

وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ كَوْنِ أَنْبِيَاءِ اللهِ رِجَالًا، كَمَا يُفِيدُهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا حَيْثُ قَالَ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) (16: 43، 44) وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَوُجُودُ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا أَنَّ الْمَنْعَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا. وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَاصَّةً فَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي شَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمْ إِجْمَاعٌ. " وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَضْلًا عَمَّنْ أَوْجَبَهُ بِحُجَّةٍ يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهَا قَطُّ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِرَدِّ شَرَائِعِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، بَلْ أُمِرْنَا بِمَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (4: 59) أَيْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ يُرْسِلُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ. " وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِبْعَادِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُقَصِّرُونَ نُصُوصَ الشَّرْعِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلتَّقْلِيدِ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوهُ، فَهَهُنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، وَهِيَ سُؤَالُ الْجَاهِلِ لِلْعَالَمِ عَنِ الشَّرْعِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ، لَا عَنْ رَأْيِهِ الْبَحْتِ، وَاجْتِهَادِهِ الْمَحْضِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ عَمَلُ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى الْمُقَلِّدِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (43: 22، 23) ، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) ، (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (33: 67) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَ الْبَحْثِ عَلَى التَّمَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ " أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ ". " وَمَا أَحْسَنَ مَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ: هَلْ

لَكَ مِنْ حُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدُ. وَإِنْ قَالَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ; لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ. قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْ مُعَلِّمِكَ، كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنْ مَنَّ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ " انْتَهَى. (قُلْتُ) : تَتْمِيمًا لِهَذَا الْكَلَامِ، وَعِنْدَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مَنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ الْمُرْسَلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ وَلَا فِعْلَهُ وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. (وَاعْلَمْ) : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنْ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ; وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ عَنْ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِيمَا كَلَّفَهُ اللهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى لَادَّعَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ اهـ. هَذَا مَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَإِنَّنَا سَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ فِي فَهْمِهِ لِلدِّينِ وَرَأْيِهِ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِصِيغَةِ الْإِغْرَاءِ بِأَنْ يَهْتَمُّوا بِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُعَدُّ رُشْدًا وَهُدًى، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَامُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمٍ وَتَعْلِيمٍ وَعَمَلٍ وَإِرْشَادٍ، فَلَا يَضُرُّهُمْ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ عَنْ مَحَجَّةِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ، وَعَنْ صِرَاطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْفِسْقِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أَيِ الْزَمُوا إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ، وَتَزْكِيَتَهَا بِمَا شَرَّعَ اللهُ لَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ غَيْرِكُمْ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَمِنْ أُصُولِ الْهِدَايَةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذَنْ لَا تَكُونُونَ مُهْتَدِينَ إِلَّا إِذَا بَلَغْتُمْ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَعَلِمْتُمِ الْجَاهِلِينَ مَا أَعْطَاكُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَأَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَالْعِلْمَ كَمَا كَتَمَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَنَهُمُ اللهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ وَلِسَانِ نَبِيِّكُمْ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ رُجُوعُكُمْ وَرُجُوعُ مَنْ ضَلَّ عَمَّا اهْتَدَيْتُمْ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُكُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَجْزِيكُمْ بِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ يَعْنِي ابْنَ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ: " قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ قَالَ:

وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ " وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّدِّيقِ. وَقَدْ رَجَّحَ رَفْعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرْنَا طُرُقَهُ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ مُطَوَّلًا فِي مُسْنَدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَارِثَةَ اللَّخْمِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ: " مَا تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ كَعَمَلِكُمْ " قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَ غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ: " يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانُهَا تَأْمُرُونَ فَيَصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا أَوْ قَالَ فَلَا يَقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ. وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) الْآيَةَ قَالَ: " كَانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَبْدِ اللهِ: أَلَا أَقُومُ فَآمُرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَالَ آخَرُ إِلَى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةَ. قَالَ: فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَهْ لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ

بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تَلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَائْمُرُوا وَانْهَوْا، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأَلْبَسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَائْمُرْ نَفْسَكَ وَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عِقَالٍ، قَالَ: " قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: لَوْ جَلَسْتَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ; فَإِنَّ اللهَ قَالَ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودَ وَأَنْتُمُ الْغُيَّبَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ ". وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَبُو عَاصِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ جَلِيدٌ فِي الْعَيْنِ شَدِيدُ اللِّسَانِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفَرٌ سِتَّةٌ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَسْرَعَ فِيهِ، وَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ لَا يَأْلُو، وَكُلُّهُمْ بَغِيضٌ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ دَنَاءَةً إِلَّا الْخَيْرَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَأَيُّ دَنَاءَةٍ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَسْتُ إِيَّاكَ أَسْأَلُ إِنَّمَا أَسْأَلُ الشَّيْخَ، فَأَعَادَ عَلَى عَبْدِ اللهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَعَلَّكَ تَرَى لَا أَبَا لَكَ أَنِّي سَآمُرُكَ أَنْ تَذْهَبَ فَتَقْتُلَهُمْ! عِظْهُمْ وَانْهَهُمْ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مَازِنٍ قَالَ: " انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْيَوْمَ ". وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا ابْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: " كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَكَّرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ أَنَا: أَلَيْسَ اللهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، وَقَالُوا: تَنْزِعُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَعْرِفُهَا وَلَا تَدْرِي مَا تَأْوِيلُهَا فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ. وَأَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ

نَزَعْتَ آيَةً وَلَا تَدْرِي مَا هِيَ، وَعَسَى أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا. وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ ". وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: تَلَا الْحَسَنُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، مَا كَانَ مُؤْمِنٌ فِيمَا مَضَى وَلَا مُؤْمِنٌ فِيمَا بَقِيَ إِلَّا وَإِلَى جَنْبِهِ مُنَافِقٌ يَكْرَهُ عَمَلَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ: إِذَا هُدِمَتْ كَنِيسَةُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجُعِلَتْ مَسْجِدًا وَظَهَرَ لُبْسُ الْعَصَبِ فَحِينَئِذٍ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ اهـ. أَقُولُ: عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا بِمُجَرَّدِ إِصْلَاحِهِ لِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا فَرْضٌ لَازِمٌ دَائِمٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ فَرِيضَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَسْقُطُ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ فَسَادًا لَا يُرْجَى مَعَهُ تَأْثِيرُ الْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ فَمَاذَا يَخْشَى أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِيذَاءِ الْوَاعِظِ الْمُرْشِدِ، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِقُوَّةِ رِوَايَتِهِ، وَسَائِرِ أَدِلَّتِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهُ يَنَالُ أَذًى إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةً لَا فَرِيضَةً، وَهَذَا إِذَا رُجِّحَ أَنَّ

106

الْمُنْكَرَ يَزُولُ بِإِنْكَارِهِ، فَإِذَا رُجِّحَ أَنَّهُ يُؤْذَى وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نُصْحِهِ فَائِدَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لَهُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ (الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) مِنَ الْإِحْيَاءِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَصْرِيحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَحْكَامًا لَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهَا إِلَّا بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، أَيْ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ كَآيَاتِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَكَثِيرًا مَا نُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِنَا مَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهُ فِي عَصْرِنَا، كَمَا بَيَّنَ مَنْ قَبْلَنَا مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُصُورِهِمْ، وَلَا غَرْوَ فَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ فِي الْآثَارِ بِأَنَّهُ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. جَاءَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَعْنَاهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا نَصُّهُ: أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ وَهُوَ الْكَلْبِيُّ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قَالَ: " بَرِئَ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ وَهُوَ أَعْظَمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يَعِظُمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ فَحَلَفَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا فَنَزَعْتُ الْخَمْسَمِائَةٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدَ جَامًا مِنْ فِضَّةٍ بِالذَّهَبِ فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللهِ مَا كَتَمْتُمَاهَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا، ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللهِ: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، وَأَخَذَ الْجَامَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ يَتَّجِرَانِ إِلَى مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُطِيلَانِ الْإِقَامَةَ بِهَا، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَّلَا مَتْجَرَهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَرَجُوا جَمِيعًا تُجَّارًا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ اشْتَكَى بُدَيْلٌ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ وَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ فَأَخَذَا مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ حَجَرَاهُ كَمَا كَانَ وَقَدِمَا الْمَدِينَةَ عَلَى أَهْلِهِ فَدَفَعَا مَتَاعَهُ، فَفَتَحَ أَهْلُهُ مَتَاعَهُ فَوَجَدُوا كِتَابَهُ وَعَهْدَهُ وَمَا خَرَجَ بِهِ وَفَقَدُوا شَيْئًا فَسَأَلُوهُمَا عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي قَبَضْنَا لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْنَا. فَقَالُوا لَهُمَا: هَذَا كِتَابُهُ بِيَدِهِ. قَالُوا: مَا كَتَمْنَا لَهُ شَيْئًا فَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)

إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُمَا فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا قَبَضْنَا لَهُ غَيْرَ هَذَا وَلَا كَتَمْنَا. فَمَكَثَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ ظَهَرَ مَعَهُمَا عَلَى إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ مُمَوَّهٍ بِذَهَبٍ. فَقَالَ أَهْلُهُ: هَذَا مِنْ مَتَاعِهِ. قَالَا: نَعَمْ وَلَكِنَّا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ وَنَسِينَا أَنْ نَذْكُرَهُ حِينَ حَلَفْنَا فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَ نُفُوسَنَا فَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَنْ يَحْلِفَا عَلَى مَا كَتَمَا وَغَيَّبَا وَيَسْتَحِقَّانِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ أَسْلَمَ وَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَقُولُ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَنَا أَخَذْتُ الْإِنَاءَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يُظْهِرُكَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهَا فَهَبْ لِي قَرْيَتَيْنِ مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا عِيسَى. فَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ أَتَاهُ تَمِيمٌ بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ: " أَنَا حَاضِرٌ ذَلِكَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) مُضَافًا بِرَفْعِ " شَهَادَةُ " بِغَيْرِ نُونٍ وَبِخَفْضِ " بَيْنِكُمْ " وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) هَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُ اللهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمَيْنِ، فَإِنِ ارْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اسْتَحْلَفَا بِاللهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا اشْتَرَيْنَا بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا قَامَ الْأَوْلِيَاءُ فَحَلَفَا أَنَّهُمَا كَذَبَا (ذَلِكَ أَدْنَى) أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) فَتُتْرَكَ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ وَيُحْكَمَ بِشَهَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ إِقْسَامٌ، إِنَّمَا الْإِقْسَامُ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَفِي قَوْلِهِ: (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) يَقُولُ: يَحْلِفَانِ بِاللهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي قَوْلِهِ: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)

107

قَالَ: مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) يَقُولُ: فَيَحْلِفَانِ بِاللهِ مَا كَانَ صَاحِبُنَا لَيُوصِي بِهَذَا إِنَّهُمَا لَكَاذِبَانِ، وَفِي قَوْلِهِ: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) يَعْنِي أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ، فَيَسْتَحِقُّونَ مَالَهُ بِأَيْمَانِهِمْ، ثُمَّ يُوضَعُ مِيرَاثُهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ وَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِينَ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : قَالَ: " مَا مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قَدْ جَاءَ عَلَى شَيْءٍ جَاءَ عَلَى إِدْلَالِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَئِنْ أَنَا لَمْ أُخْبِرْكُمْ بِهَا لَأَنَا أَجْهَلُ مِنَ الَّذِي يَتْرُكُ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، هَذَا رَجُلٌ خَرَجَ مُسَافِرًا وَمَعَهُ مَالٌ فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَدَّى فَسَبِيلُ مَا أَدَّى، وَإِنْ هُوَ جَحَدَ اسْتُحْلِفَ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ دُبُرَ صَلَاةٍ: إِنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ إِلَيَّ وَمَا غَيَّبْتُ شَيْئًا، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ فَإِذَا أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْكِتَابِ فَشَهِدَا عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَوْمُ عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مَا لَهُمْ جُعِلَتْ أَيْمَانُ الْوَرَثَةِ مَعَ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ اقْتَطَعُوا حَقَّهُ فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ: (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَفِيهِ غَلَطٌ وَتَحْرِيفٌ مِنَ الطَّبْعِ لَا سِيَّمَا أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ. هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَفْسِيرِ بَعْضِهَا مِنْ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ. وَأَمَّا وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أَمَرَ بِحِفْظِ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) انْتَهَى وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ الْكَلَامَ عَلَى لَازِمِ مَعْنَاهُ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَّرَنَا فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يُحَاسِبُنَا وَيُجَازِينَا نَاسَبَ أَنْ يُرْشِدَنَا فِي أَثَرِ ذَلِكَ إِلَى الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَى الْعِنَايَةِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَضِيعَ. وَأَمَّا مُفْرَدَاتُهَا الَّتِي يَحْسُنُ التَّذْكِيرَ بِمَعْنَاهُ قَبْلَ تَفْسِيرِ النَّظْمِ الْكَرِيمِ. فَمِنْهَا (الشَّهَادَةُ) وَهِيَ كَالشُّهُودِ: حُضُورُ الشَّيْءِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِ بِالْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: لَكِنَّ الشُّهُودَ بِالْحُضُورِ الْمُجَرَّدِ أَوْلَى، وَالشَّهَادَةَ مَعَ الشَّهَادَةِ أَوْلَى. . . وَالشَّهَادَةُ قَوْلٌ صَادِرٌ عَنْ عِلْمٍ حَصَلَ بِمُشَاهِدَةِ بَصِيرَةٍ أَوْ بَصَرٍ. وَ " شَهِدْتُ " يُقَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ وَبِلَفْظِهِ تُقَامُ الشَّهَادَةُ، وَيُقَالُ " أَشْهَدُ بِكَذَا " وَلَا يَرْضَى مِنَ الشَّاهِدِ أَنْ يَقُولَ " أَعْلَمُ " بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ " أَشْهَدُ "، وَالثَّانِي: يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ فَيَقُولُ " أَشْهَدُ بِاللهِ

أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ " فَيَكُونُ قَسَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنْ قَالَ " أَشْهَدُ " وَلَمْ يَقُلْ " بِاللهِ " يَكُونُ قَسَمًا وَيُجْرَى " عَلِمْتُ " مَجْرَاهُ فِي الْقَسَمِ، فَيُجَابُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ؛ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلِقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالشَّيْءِ. (وَالْبَيِّنُ) أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ يُفِيدُ صِلَةَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ أَوِ الْأَشْيَاءِ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ حَالٍ أَوْ عَمَلٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْلِ وَالْفُرْقَةِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: " ذَاتُ الْبَيْنِ " لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (8: 1) أَيْ مَا بَيْنَكُمْ مِنْ عَدَاوَةٍ أَوْ فَسَادٍ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ مُتَّصِلٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْهَا (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَافَرْتُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمِنْهَا (تَحْبِسُونَهُمَا) وَهُوَ مِنَ الْحَبْسِ بِمَعْنَى إِمْسَاكِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ مِنَ الِانْبِعَاثِ، وَالْحَبْسُ مَصْنَعُ الْمَاءِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ الْجَرَيَانِ. وَمِنْهَا (عُثِرَ) وَهُوَ مِنَ الْعُثُورِ عَلَى الشَّيْءِ بِمَعْنَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ طَلَبٍ لَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ حُسْبَانٍ، وَأَعْثَرَهُ عَلَيْهِ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ مِنْ عَثَرَ (كَقَعَدَ) عِثَارًا وَعُثُورًا إِذَا سَقَطَ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَاتِ وَتَفْسِيرُ نَظْمِهَا فَنُبَيِّنُهُ بِمَا يَلِي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أَيْ حُكْمُ مَا يَقَعُ بَيْنَكُمْ مِنَ الشَّهَادَةِ أَوْ كَيْفِيَّتُهُ إِذَا نَزَلَتْ بِأَحَدِكُمْ أَسْبَابُ الْمَوَتِ وَمُقَدِّمَاتُهُ وَأَرَادَ حِينَئِذٍ أَنْ يُوصِيَ هُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ. . . إِلَخْ. أَوِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ بَيْنَكُمْ فِي ذَلِكَ هِيَ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ذَوِي الْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشْهِدَهُمَا الْمُوصِي عَلَى وَصِيَّتِهِ سَوَاءٌ ائْتَمَنَهُمَا عَلَى مَا يُوصِي بِهِ، كَمَا فِي وَاقِعَةِ سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِشْهَادِهِ إِيَّاهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ، وَمِنْ إِيجَازِ الْآيَةِ أَنَّ عِبَارَتَهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَنْ أَقَارِبِكُمْ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أَيْ أَوْ شَهَادَةُ شَهِيدَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَنَزَلَتْ بِكُمْ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ وَأَرَدْتُمُ الْإِيصَاءَ. وَفِي الْكَلَامِ تَأْكِيدٌ شَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ وَلِلْإِشْهَادِ عَلَيْهَا (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ السَّامِعَ لِمَا تَقَدَّمَ يَقُولُ: وَكَيْفَ يَشْهَدَانِ؟ فَأُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ، أَيْ تُمْسِكُونَ الشَّهِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ أُشْهِدَا عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ عَدِيًّا وَتَمِيمًا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ جَرَى عَلَيْهِ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ فِيهِ هُوَ الْمُعْتَادَ الْمَعْرُوفَ وَلِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَقْعُدُ فِيهِ الْحُكَّامُ لِلْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْمَظَالِمِ، وَالدَّعَاوَى لِاعْتِدَالِهِ وَاجْتِمَاعِ

النَّاسِ فِيهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ مُعْظَمِ أَعْمَالِ النَّهَارِ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتُ صَلَاةٍ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِ اللهِ الَّذِي يُرْجَى فِيهِ اتِّقَاءُ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا، أَوْ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، أَوْ لِأَنَّهَا تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَتَحَرَّى الْمُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ فَيَكُونُ جَدِيرًا بِالصِّدْقِ مَنْ يَكُونُ قَرِيبَ عَهْدٍ بِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُرَادُ الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّهِيدَيْنِ إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ أَهْلِ دِينِهِمَا أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ آنِفًا (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أَيْ فَيُقْسِمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِنْ شَكَكْتُمْ فِي صِدْقِهِمَا فِيمَا يُقِرَّانِ بِهِ، أَيْ وَتَسْتَقْسِمُونَهُمَا فَيُقْسِمَانِ، وَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ أَيْ تَحْبِسُونَهُمَا فَيُقْدِمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى الْقَسَمِ. قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِالشُّهُودِ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا اتُّهِمُوا، أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَقِيلَ: عَامٌّ وَقَدْ نُسِخَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَاتِ: قَالَ الرَّازِيُّ: وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَرِّحَا فِي قَسَمِهِمَا بِقَوْلِهِمَا: (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أَيْ: لَا نَشْتَرِي بِيَمِينِ اللهِ ثَمَنًا، أَيْ لَا نَجْعَلُ يَمِينَ اللهِ كَالسِّلْعَةِ الَّتِي تُبْذَلُ لِأَجْلِ ثَمَنٍ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ الْمُقْسَمُ لَهُ مِنْ أَقَارِبِنَا، وَصَحَّ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُقْسَمِ لِأَجْلِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (6: 152) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (4: 135) وَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ الْمُقْسِمُ: إِنَّهُ يُشْهِدُ اللهَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنٌ يَبْتَغِيهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا مُرَاعَاةُ قَرِيبٍ لَهُ إِنْ فَرَضَ أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي إِقْرَارِهِ وَقَسَمِهِ، أَيْ وَلَوِ اجْتَمَعَتِ الْمَنْفَعَتَانِ كِلْتَاهُمَا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) وَيَقُولَانِ فِي قَسَمِهِمَا أَيْضًا: وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِأَنْ تُقَامَ لَهُ أَوِ الْمُؤَكَّدَةَ بِالْحَلِفِ بِهِ (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (65: 2) ، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) أَيْ إِنَّا إِذَا اشْتَرَيْنَا بِالْقَسَمِ ثَمَنًا أَوْ رَاعَيْنَا بِهِ قَرِيبًا بِأَنْ كَذَبْنَا فِيهِ لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِنَا أَوْ مَنْفَعَةِ قَرَابَةٍ لَنَا، أَوْ كَتَمْنَا شَهَادَةَ اللهِ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، بِأَنْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْحَقِّ وَكَتَمْنَا بَعْضًا لَمِنَ الْمُتَحَمِّلِينَ لِلْإِثْمِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِيهِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَزَائِهِ. وَالْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ: مَا يَقْعُدُ بِصَاحِبِهِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنْ " إِنَّا إِذَا لَآثِمُونَ ". (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " اسْتُحِقَّ " بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ التَّاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ

وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ (الْأَوَّلِينَ) جَمْعُ الْأَوَّلِ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْآخِرُ، مَعَ قِرَاءَتِهِمُ " اسْتُحِقَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (الْأَوْلَيَانِ) مُثَنَّى الْأَوَّلِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ " اسْتَحَقَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَرَسْمُ " الْأَوْلَيَانِ وَالْأَوَّلِينَ " فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ وَهُوَ هَكَذَا (الْأَوَّلِينَ) . وَالْمَعْنَى: فَإِنِ اتَّفَقَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَنِ الشَّهِيدَيْنِ الْمُقْسِمَيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا بِالْكَذِبِ أَوِ الْكِتْمَانِ فِي الشَّهَادَةِ أَوْ بِالْخِيَانَةِ وَكِتْمَانِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ فِي حَالَةٍ ائْتَمَنَهُمَا عَلَيْهَا كَمَا ظَهَرَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ فَالْوَاجِبُ أَوْ فَالَّذِي يُعْمَلُ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ هُوَ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَقُومَ رَجُلَانِ آخَرَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ الْوَارِثِينَ لَهُ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ الْإِثْمُ بِالْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ وَالْخِيَانَةِ لَهُمْ، وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ الْوَارِثَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا هُمَا الْأَوْلَيَيْنِ بِالْمَيِّتِ، أَيِ الْأَقْرَبَيْنِ إِلَيْهِ الْأَحَقَّيْنِ بِإِرْثِهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ كَمَا تُفِيدُهُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْهُمْ، كَمَا تُفِيدُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (الَأَوَّلِينَ) وَهُوَ صِفَةٌ لِلَّذِينِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى طَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَقْرَبُ الْوَرَثَةِ إِلَى الْمَيِّتِ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مَا إِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ إِقْسَامِ أَقْرَبِ الْوَرَثَةِ، أَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي حَلِفٍ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لِامْتِيَازِهِ بِالسِّنِّ أَوِ الْفَضِيلَةِ، هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْأَوْلَيَيْنِ الْأَوْلَيَانِ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْأَوْلَيَانِ بِالْقَسَمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَيْ أَجْدَرُ الْوَرَثَةِ بِالْيَمِينِ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ لِعِلْمِهِمَا أَوْ لِفَضْلِهِمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَبِهَا يَقْرَأُ أَهْلُ بِلَادِنَا فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا: إِنَّ " الْأَوْلَيَانِ " فِيهَا فَاعِلٌ اسْتَحَقَّ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ مِنْهُمْ مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ مَا تَرَكَهُ أَوْ نَدَبَهُمَا لِلشَّهَادَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُمَا الْوَصِيَّانِ قَالَ: وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمَا هُمَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمَيِّتَ عَيَّنَهُمَا لِلْوِصَايَةِ، وَلَمَّا خَانَا فِي مَالِ الْوَرَثَةِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَرَثَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ، أَيْ خَانَ فِي مَالِهِمُ الْأَوْلَيَانِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ " الْأَوَّلَانِ " وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ اهـ. أَقُولُ: الْوَجْهُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا " الْأَوْلَيَانِ " بِالْيَمِينِ فِي الْأَصْلِ; لِأَنَّهُمَا مُنْكِرَانِ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّا عَلَيْهِمُ الْإِثْمَ فَوُضِعَ الْمُظْهَرُ وَهُوَ " الْأَوْلَيَانِ " مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا الْإِثْمَ بِمَا ظَهَرَ مِنْ حِنْثِهِمَا اقْتَضَى رَدَّهَا أَيِ الْيَمِينَ إِلَى الْوَرَثَةِ (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا) أَيْ يَحْلِفَانِ عَلَى أَنَّ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ خِيَانَةِ الشَّهِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى وَصِيَّةِ مَيِّتِهِمَا أَحَقُّ وَأَصْدَقُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا بِمَا كَانَا

شَهِدَا بِهِ، وَأَنَّهُمَا مَا اعْتَدَيَا عَلَيْهِمَا بِتُهْمَةٍ بَاطِلَةٍ أَوْ مَا اعْتَدَيَا الْحَقَّ فِيمَا اتَّهَمُوهُمَا بِهِ (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ وَيَقُولَانِ فِي قَسَمِهِمَا: إِنَّا إِذَا اعْتَدَيْنَا الْحَقَّ وَقُلْنَا الْبَاطِلَ لَدَاخِلُونَ فِي عِدَادِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَعْرِيضِهَا لِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَانْتِقَامِهِ، أَوِ الظَّالِمِينَ لِمَنِ ائْتَمَنَهُمَا مَيِّتُهُمْ، وَظُلْمُهُمَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ شَرْعِهِ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهَذِهِ الْأَيْمَانِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الثِّقَةِ وَالِائْتِمَانِ، فَقَالَ: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْقِيَامَ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِقْسَامَهُ تِلْكَ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الشُّهَدَاءُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَرَهْبَةً مِنْ عَذَابِهِ، وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ الَّتِي تَعْقُبُ اسْتِحْقَاقَهُمَا الْإِثْمَ فِي الشَّهَادَةِ بِرَدِّ أَيْمَانٍ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ تَكُونُ مُبْطِلَةً لَهَا، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ خَوْفُ اللهِ وَتَعْظِيمُهُ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يَخُونَ لِضَعْفِ دِينِهِ يَمْنَعْهُ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أَيْ وَاتَّقَوُا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَمَانَةِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَاسْمَعُوا سَمْعَ إِجَابَةٍ وَقَبُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَسَائِرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقُوا وَتَسْمِعُوا كُنْتُمْ فَاسِقِينَ عَنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى مَحْرُومِينَ مِنْ هِدَايَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ لِعِقَابِهِ. (إِيضَاحٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَبَلَاغَتِهَا وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا) . قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ " اهـ. وَأَوْرَدَ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي عِبَارَةَ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ دُونَ رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ نَقَلَ مِثْلَهَا عَنِ السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَعَنِ الطَّبَرَسِيِّ فِي الْآيَتَيْنِ لَا الثَّانِيَةِ فَقَطْ وَقَالَ: إِنَّ الطَّبَرَسِيَّ افْتَخَرَ بِمَا أَتَى فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ. أَقُولُ: نَحْنُ لَا يُرَوِّعُنَا مَا يَرَاهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الصُّعُوبَةِ فِي إِعْرَابِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَوْ فِي حُكْمِهَا; لِأَنَّ لَهُمْ مَذَاهِبَ فِي النَّحْوِ وَالْفِقْهِ يُزَيِّنُونَ بِهَا الْقُرْآنَ فَلَا يَفْهَمُونَهُ إِلَّا مِنْهَا. وَالْقُرْآنُ فَوْقَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالْمَذَاهِبِ كُلِّهَا، فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَإِنَّمَا يُهِمُّنَا مَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ فَهُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ

لَنَا عَلَى فَهْمِهِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجْدَانِ شَيْءٍ مِنَ الصُّعُوبَةِ فِي عِبَارَةِ الْآيَتَيْنِ. وَمَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي آيَةِ (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) (فَلَيْسَ مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ اسْتِصْعَابِهَا. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ أَحْكَامَهَا أَشَدُّ مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ التَّضْيِيقِ فِي رَدِّ أَيْمَانٍ بَعْدَ أَيْمَانٍ وَإِظْهَارِ فَضَائِحَ مَنْ كَذَبَ وَخَانَ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: عَضَلْتُ عَلَى فُلَانٍ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَحُلْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ. وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنْ عَضْلِ النِّسَاءِ أَيْ مَنْعِهِنَّ مِنَ الزَّوَاجِ. وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ اضْطَرَبُوا فِي عِدَّةِ أَحْكَامٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لِمَجِيئِهَا مُخَالِفَةً لِأَقْيِسَتِهِمْ وَلِمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِثُبُوتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا حَلِفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا الْعَمَلُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَقَدِ اجْتَهَدُوا فِي تَخْرِيجِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَلَى الثَّابِتِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا. حَتَّى ادَّعَوْا فِي بَعْضِهَا النَّسْخَ. وَرَوَوْهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ لَمْ يَصِحَّ، فَلِهَذَا رَأَيْنَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ بِمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِالِاخْتِصَارِ أَنْ نَفْصِلَ مَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ; لِيَظْهَرَ حَتَّى لِلضَّعِيفِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، وَمَا جَنَتْهُ الْمَذَاهِبُ النَّحْوِيَّةُ وَالْفِقْهِيَّةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ مَا قَالَ فِي الْآيَتَيْنِ أَشْهَرُهُمْ بِسَعَةِ الِاطِّلَاعِ أَوْ بِالدِّقَّةِ وَالذَّكَاءِ. أَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ، فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا سَلَفَ وَمِمَّا سَيَأْتِي قَرِيبًا مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: " وَمِنَ الشَّوَاهِدِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ بِدُقُوقَا قَالَ: فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا الْكُوفَةَ بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ بِاللهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا وَأَنَّهَا لِوَصِيَّةِ الرَّجُلِ وَتَرِكَتِهِ قَالَ فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ الْأَزْرَقِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَضَى بِهِ. وَهَذَانِ إِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ إِلَى الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَوْلُهُ: " هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الظَّاهِرُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ قِصَّةَ تَمِيمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِسْلَامَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مُتَأَخِّرًا يَحْتَاجُ مُدَّعِي نَسْخِهِ إِلَى دَلِيلٍ فَاصِلٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاللهُ أَعْلَمُ ".

108

ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ السُّدِّيُّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: " قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْعِلْجَيْنِ حِينَ انْتَهِي بِهِمَا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي دَارِهِ فَفَتَحَ الصَّحِيفَةَ، فَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَخَوَّفُوهُمَا فَأَرَادَ أَبُو مُوسَى أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلَكِنِ اسْتَحْلِفْهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا، فَيُوقَفُ الرَّجُلَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا فَيَحْلِفَانِ بِاللهِ (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) أَنَّ صَاحِبَهُمَا لَبِهَذَا أَوْصَى وَأَنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ. فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ أَيِ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كَتَمْتُمَا أَوْ خُنْتُمَا فَضَحْتُكُمَا فِي قَوْمِكُمَا وَلَمْ تَجُزْ لَكُمَا شَهَادَةٌ وَعَاقَبْتُكُمَا. فَإِذَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنَّ (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: " وَلَمْ تَجُزْ لَكُمَا شَهَادَةٌ " فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي لِبَحْثِ دَعْوَى النَّسْخِ وَاسْتِشْكَالِ الْفُقَهَاءِ مَزِيدُ بَيَانٍ قَرِيبًا. وَأَمَّا الْفَوَائِدُ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْآيَتَانِ بِإِيجَازِهِمَا، فَهَاكَ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْهَا: (1) الْحَثُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَتَأْكِيدُ أَمْرِهَا وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ فِيهَا بِشَوَاغِلِ السَّفَرِ وَإِنْ قُصِرَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ وَأُبِيحَ فِيهِ الْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ. (2) الْإِشْهَادُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ; لِيَكُونَ أَمْرُهَا أَثْبَتَ وَالرَّجَاءُ فِي تَنْفِيذِهَا أَقْوَى، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَكْتُبُونَ وَصِيَّتَهُمْ وَلَا يُشْهِدُونَ أَحَدًا عَلَيْهَا; فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ سَبَبًا لِضَيَاعِهَا. (3) أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَنْ يُخْتَارَ الشَّاهِدَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْثُوقِ بِعَدَالَتِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَيْضًا; وَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنْ وُجُودِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْحِهَا. (4) أَنَّ إِشْهَادَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ ; فَإِنْ وَجَبَتِ الْوَصِيَّةُ وَجَبَ بِشَرْطِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَنْدُوبٌ; لِأَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ لَا يُتْرَكُ أَلْبَتَّةَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ إِقَامَتُهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ; إِذِ الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ. وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ لَا مَقَامَ التَّعَبُّدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَلَا مَقَامَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ لِلْأَدْيَانِ وَأَهْلِ الْأَدْيَانِ. (5) أَنَّ الشَّهَادَةَ تَشْمَلُ مَا يَقُولُهُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ فِي الْقَضِيَّةِ أَوْ إِنْكَارٍ وَنَفْيٍ لِلْمُدَّعِي بِهِ أَوْ إِثْبَاتٍ. (6) شَرْعِيَّةُ اخْتِيَارِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِ الشُّهُودِ وَمُقْسِمِي الْأَيْمَانِ وَيُرْجَى أَنْ يَصْدُقُوا وَيَبَرُّوا فِيهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَعْلِيلِ الْقَسَمِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ الْمَكَانِ

وَهُوَ مَشْرُوعٌ أَيْضًا، وَمِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحُوهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي كَاذِبًا إِلَّا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ: " مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَسْتَحِلُّ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا " وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْحَالِفِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ شَرْعًا كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَخَاصَّةً مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَ مِنْبَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالزَّمَانِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ إِنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ النُّصُوصِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ التَّغْلِيظَ بِمَا وَرَدَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا أَوِ الْأَخْذِ بِفَحْوَاهَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَيْمَانُ تُغَلَّظُ فِي الدِّمَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمَالِ إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَيَحْلِفُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ. وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي أَشْرَفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ الْحَلِفُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْوَى اهـ. هَذِهِ الْعِبَارَةُ تَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّعَصُّبِ فَلَا يُقَالُ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْآيَةَ إِلَّا إِذَا أَجَازَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمَنْطُوقِهَا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ نَفْسِهِ. (7) التَّغْلِيظُ عَلَى الْحَالِفِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَقُولَ فِيهِ مَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ رَادِعًا لِلْحَالِفِ عَنِ الْكَذِبِ كَالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ، وَأَشَدُّ مِنْهَا مَا وَرَدَ فِي شَهَادَةِ اللِّعَانِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى هَذَا أَصْحَابُ الْجَمْعِيَّاتِ السِّيَاسِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، فَاخْتَرَعُوا أَيْمَانًا وَأَقْسَامًا قَدْ يَتَحَامَى أَفْسَقُ النَّاسِ وَأَجْرَؤُهُمْ عَلَى الْإِجْرَامِ أَنْ يَحْنَثَ بِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَجِبُ الْبِرُّ بِهِ وَمَا يَجِبُ الْحِنْثُ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ وَسَائِرِ مُهِمَّاتِ أَحْكَامِهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ كَفَّارَتِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (8) أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْبَارِ النَّاسِ وَشَهَادَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ أَخْبَارٌ مُؤَكَّدَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ عِلْمٍ صَحِيحٍ أَنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً مُصَدَّقَةً; وَلِهَذَا شَرَطَ فِي حُكْمِ تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ الِارْتِيَابَ فِي خَبَرِهِمَا. وَصَدَّرَ هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ; إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي وُقُوعِهَا أَنْ يَكُونَ شَاذًّا.

(9) أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ، وَفِي الْمُؤْتَمَنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَقُولُهُ فِي أَمْرِ الْأَمَانَةِ مَقْبُولًا; وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) فَأَفَادَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا أَلَّا يَقَعَ، وَأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ كَانَ شَاذًّا. وَأَفَادَ فِعْلُ " عُثِرَ " الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ أَنَّ هَذَا الشُّذُوذَ إِنْ وَقَعَ فَشَأْنُهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، لَا بِالْبَحْثِ وَتَتَبُّعِ الْعَثَرَاتِ. (10) شَرْعِيَّةُ تَحْلِيفِ الشُّهُودِ إِذَا ارْتَابَ الْحُكَّامُ أَوِ الْخُصُومُ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ فِي أَكْثَرِ الْأُمَمِ، بَلْ تُحَتِّمُهُ قَوَانِينُهَا الْوَضْعِيَّةُ بِاطِّرَادٍ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَسَيَأْتِي بَحْثُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. (11، 12) شَرْعِيَّةُ ائْتِمَانِ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَالِ، وَشَرْعِيَّةُ تَحْلِيفِ الْمُؤْتَمَنِ وَالْعَمَلِ بِيَمِينِهِ. (13) شَرْعِيَّةُ رَدِّ الْيَمِينِ إِلَى مَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ضَيَاعِ حَقٍّ لَهُ بِيَمِينٍ صَارَ حَالِفُهَا خَصْمًا لَهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ شَهَادَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَقْسَامُهُمَا، فَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا تِلْكَ الشَّهَادَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي سُورَةِ النُّورِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقَسَمِ الْمُغَلَّظِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ مَعَ الْيَمِينِ إِلَى زَوْجِهِ الَّتِي رَمَاهَا بِذَلِكَ، فَإِذَا شَهِدَتْ بِاللهِ مِثْلَ شَهَادَتِهِ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ وَبُرِّئَتْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي شَرْعِ اللهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِ اللهِ. وَمِنْهُ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ آلْمُدَّعُونَ ذَوُو الْقَتِيلِ، أَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ذَوُو الْمُتَّهَمِ بِالْقَتْلِ؟ وَأَيًّا مَا كَانَ الْبَادِئُونَ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تُرَدُّ إِلَى الْآخَرِينَ. (14) إِذَا احْتِيجَ إِلَى قِيَامِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لِمَيِّتٍ بِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَالَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهُمْ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ. وَمِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ إِبْهَامُ الْأَوَّلِينَ بِالْقَسَمِ فِي الْآيَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْوَقَائِعِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَصْحَابُ الْأَوْلَوِيَّةِ بِلَا نِزَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ الْأَوْلَى. (15) صِحَّةُ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعَمَلُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَخَّرْنَاهُ لِيَتَّصِلَ بِمَا نُوَضِّحُهُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي. كُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ، فَتَأَمَّلْ جَمْعَهُمَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ عَلَى إِيجَازِهِمَا وَإِيضَاحِهِمَا لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهِمَا بِالذَّاتِ. فَصْلٌ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. هَذَا بَحْثٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ أَنْ نُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِشْهَادِ وَالِاسْتِشْهَادِ مِنْهَا الْمُطْلَقُ وَمِنْهَا الْمُقَيَّدُ. قَالَ تَعَالَى فِي اللَّاتِي يَأْتِينَ

الْفَاحِشَةَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) (4: 15) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (65: 2) وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّدَايُنِ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) ثُمَّ قَالَ فِيهَا: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (2: 282) وَلَمْ يَقُلْ هُنَا: " ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " وَمَثَلُهُ فِي الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَتَامَى: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) (4: 6) . فَإِذَا تَأَمَّلْنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ آيَتَيِ الْمَائِدَةِ اللَّتَيْنِ نَحْنُ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهِمَا وَبَحَثْنَا عَنْ حِكْمَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ، نَرَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَزَّ اشْتَرَطَ فِي الِاسْتِشْهَادِ أَوِ الْإِشْهَادِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ الْمُؤْمِنَاتِ الشَّخْصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ، وَلَا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ جَلِيٌّ وَاضِحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ وَهِيَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) فَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّجَالُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ لِأَجْلِ بَيَانِ تَقْدِيمِ صِنْفِ الرِّجَالِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنْ شَهَادَةِ الصِّنْفَيْنِ، وَأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ رُوعِيَ فِيهَا الْوَاقِعُ أَوِ الْغَالِبُ بِقَرِينَةِ وَصْفِ الْمُقَابِلِ بِقَوْلِهِ: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) إِذْ لَمْ يَقُلْ: " مِنْ شُهَدَائِكُمْ " أَوْ " مِنْ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ " تَمَّ بِقَرِينَةِ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا. فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُشْهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَجَاءَ فِي كُلِّ نَصٍّ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ تَقَارَبَتْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (4: 83) وَإِنَّمَا يَدُلُّ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَوِ الْكَمَالَ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنْ عُدُولِ الْمُؤْمِنِينَ لِلثِّقَةِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا مِمَّنْ لَا ثِقَةَ بِأَيْمَانِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، وَأَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَبُيُوتِهِمْ إِذْ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ سِوَاهُمْ أَنْ يَعْرِفَهَا، وَلِوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ الطَّلَاقِ: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَوُرُودُ نَصِّ الْقُرْآنِ فِيمَنْ يَقْذِفُ امْرَأَةً بِأَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَأَلَّا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَالُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّمَ إِشْهَادَ عُدُولِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ، وَأَجَازَ إِشْهَادَ غَيْرِهِمْ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَيَسَّرُ فِيهَا ذَلِكَ، وَإِنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) جَاءَ لِبَيَانِ هَذَا الْحَالِ فَمَفْهُومُهُ غَيْرُ مُرَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) (24: 33) وَمَنْ يَرَى رَأْيَ الْحَنَفِيَّةِ فِي عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَجِّحَ هَذَا الْقَوْلَ أَيَّ تَرْجِيحٍ، وَالْكَلَامُ فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، دُونَ مَا يُدَّعَى فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ إِجْمَاعِ فُقَهَاءَ. وَدُونَكَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَنَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ عَنْهُ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ السَّهْمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ قَالَ: " وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارُ، وَالْمَعْنَى (مِنْكُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهَا، فَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَبِإِيمَائِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَبَقِيَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ عَلَى حَالِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى التَّعَقُّبِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعَقُّبَ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بِاعْتِبَارِ اسْتِدْلَالِهِ. " وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ، وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ سِيَاقَهُ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. " وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ غَيْرُ الْعَشِيرَةِ، وَالْمَعْنَى مِنْكُمْ أَيْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ

غَيْرِكُمْ أَيْ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ النَّحَّاسُ بِأَنْ لَفْظِ " آخَرَ " لَا بُدَّ أَنْ يُشَارِكَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الصِّفَةِ حَتَّى لَا يَسُوُغَ أَنْ يَقُولَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ كَرِيمٍ وَلَئِيمٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا فَقَدَ وُصِفَ الِاثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرَانِ كَذَلِكَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ سَاغَ فِي الْآيَةِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا حَكَى سَبَبَ النُّزُولِ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ اتِّفَاقًا وَأَيْضًا فَفِيمَا قَالَ رَدَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ; لِأَنَّ اتِّصَافَ الْكَافِرِ بِالْعَدَالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ فَرْعُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، فَمَنْ قَبِلَهَا وَصَفَهُ بِهَا وَمَنْ لَا فَلَا. وَاعْتَرَضَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، فَلَوْ قُلْتَ جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي; لِأَنَّ قَوْلَهُ آخَرَانِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِفَةُ رَجُلَانِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَرَجُلَانِ اثْنَانِ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ. " وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنَ الْفَاسِقِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ، حَتَّى صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَجَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مُحْكَمَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنِ اتُّهِمَا اسْتُحْلِفَا. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ عَمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَاقَ الْحَافِظُ الْحَدِيثَ وَقَالَ: إِنْ حُكْمَهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ حُجَّةً، وَذَكَرَ رَدَّ الطَّبَرِيِّ وَالرَّازِيِّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ: " وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ قَالُوا: وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْيَمِينَ شَهَادَةً فِي آيَةِ اللِّعَانِ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ بِاللهِ، وَأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، قَالُوا: فَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ: (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) أَيْ يَحْلِفَانِ، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمَا حَلَفَا عَلَى الْإِثْمِ رَجَعَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ وَلَا عَدَالَةٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَقَدِ اشْتُرِطَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَوِيَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ. " وَأَمَّا اعْتِلَالُ مَنِ اعْتَلَّ فِي رَدِّهَا بِأَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْأُصُولَ لِمَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ

شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَحَبْسِ الشَّاهِدِ وَتَحْلِيفِهِ، وَشَهَادَةِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ فَقَدْ أَجَابَ مَنْ قَالَ بِهِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ نَظِيرِهِ، وَقَدْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي الطِّبِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَبْسِ السِّجْنَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِمْسَاكُ لِلْيَمِينِ لِيَحْلِفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ قِيَامِ الرِّيبَةِ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ نَقْلَ الْأَيْمَانِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ ظُهُورِ اللَّوْثِ بِخِيَانَةِ الْوَصِيَّيْنِ، فَيُشْرَعُ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا وَيَسْتَحِقَّا، كَمَا يُشْرَعُ لِمُدَّعِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَسْتَحِقَّ. فَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَهَادَةِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ بَلْ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ لَهُ بِيَمِينِهِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الشَّهَادَةِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ ظُهُورِ اللَّوْثِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالدَّمِ وَظُهُورِهِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمَالِ؟ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الْوَصِيَّانِ: قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) مَعْنَى الْحُضُورِ لِمَا يُوصِيهِمَا بِهِ الْوَصِيُّ ثُمَّ زَيْفُ ذَلِكَ " اهـ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَتْحِ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَيْسَ بِذِمِّيٍّ فَقَدْ حَكَى فِي الْبَحْرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا انْتَهَى. وَأَقُولُ: مَا أَوْرَدَهُ الشَّوْكَانِيُّ مِنْ دَعْوَى صَاحِبِ الْبَحْرِ مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ مُطْلَقًا مَرْدُودٌ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاخْتَارَ أَنَّ " غَيْرِكُمْ " يَدْخُلُ فِيهِ الْمَجُوسُ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَأَهْلُ كُلِّ دِينٍ. سَعَةُ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَضْيِيقُ الْفُقَهَاءِ: وَبَقِيَ هَهُنَا بَحْثٌ مُهِمٌّ، وَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي غَيْرِهَا أَوْسَعُ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ السُّنَّةِ، وَكُلُّ مَا فِي الْفِقْهِ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّقْيِيدِ فَهُوَ مِنَ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَوْلَى الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ كِبَارُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ حُكَّامِ الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ عَلَى سَوَاءٍ، فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ وَلِمَاذَا لَمْ يَأْخُذُوا بِظَاهِرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَعُدُّوهَا شَارِعَةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِشْهَادِ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُولِ عَلَيْهِ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَيَانِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ آيَاتِ الشَّهَادَةِ؟ أَوْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً يُعْرَفُ بِهَا الْحَقُّ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ بَيَانُهُ عَلَى شَهَادَةِ شُهَدَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَثِقُ الْحَاكِمُ بِصِدْقِهِمْ وَصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ؟ . الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَبِمَعْرِفَةِ

حَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكَفَّارِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَعَصْرِ وَضْعِ الْفِقْهِ وَالتَّصْنِيفِ فِيهِ وَعَمَلِ الْحُكَّامِ بِاجْتِهَادِهِمْ ثُمَّ بِأَقْوَالِ عُلَمَائِهِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ لَهُ مِنَ الْقُرْآنِ مَأْخَذَيْنِ: (الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ) : جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) مُقَيِّدًا لِلْإِطْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَبْحَاثٌ. (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَفَقِّهُونَ عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا اتَّفَقَا فَالْخِلَافُ فِي عَدَمِ الْحَمْلِ ضَعِيفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْحَمْلِ، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ كَمَسَائِلِ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا عِتْقُ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَاتِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ. فَالْخِلَافُ فِي الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ قَوِيٌّ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ مُتَعَدِّدَةٌ. فَلِمَ اتَّفَقَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا أَوْ فِيمَا عَدَا الْوَصِيَّةَ أَوِ الطِّبَّ؟ . (ثَانِيهَا) : أَنَّ الْإِشْهَادَ الِاخْتِيَارِيَّ غَيْرُ الشَّهَادَةِ. فَالْأَمْرُ بِاخْتِيَارِ أَفْضَلِ النَّاسِ إِيمَانًا وَعَدَالَةً لِلْإِشْهَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِشَهَادَةِ مَنْ دُونَهُمْ فِي الْفَضِيلَةِ. فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بَيِّنَةٌ. وَالْبَيِّنَةُ كُلُّ مَا يُتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ أَطَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ فِي كِتَابِ (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) . (ثَالِثُهَا) : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) فِيهِ تَوْسِعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْإِشْهَادِ وَنَحْنُ إِلَى التَّوْسِعَةِ فِي الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا أَحْوَجُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِنَايَاتِ وَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ قَدْ تَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمِعُوا وَرَأَوْا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ; لِأَنَّ دِينَهُمْ يُحَرِّمُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ. فَلِمَاذَا نُضَيِّعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا تَجَرَّأَ الَّذِينَ أَنْكَرُوهَا عَلَى الْيَمِينِ كَمَا تَجَرَّءُوا عَلَى الْكَذِبِ بِالْإِنْكَارِ؟ (الْمَأْخَذُ الثَّانِي) : أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نُشْهِدَ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا مَعْشَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ بَدِيهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَدْلَ، يَتَحَرَّى الصِّدْقَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ، وَنَحْنُ نَشْتَرِطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْأَمْرَيْنِ. وَنَرَى أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ صَادِقًا عَدْلًا. وَإِذَا كَانَ فَقْدُ الْعَدَالَةِ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا فَفَقْدُ الْإِيمَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِشَرْعٍ لَهُ يُحَرِّمُ الْكَذِبَ كَافٍ لِتَحْقِيقِ الْمَقْصِدِ الَّذِي تَتَوَخَّوْنَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمِلَلِ، وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ صَادِقًا وَلَا عَدْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ، وَلَا مِنْ سِيرَةِ الْبَشَرِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَقْلِ

أَمَّا النَّقْلُ فَقَدْ جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (7: 159) فَإِنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا أَوْ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (3: 75) فَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالْأَمَانَةِ وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْيَهُودِ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ فَاعْتَرَفَ بِهَا بَعْضُهُمْ لَمَّا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْارَةَ عَلَى مُوسَى [رَاجِعْ ص 319 ج6ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا عَدْلَ الْقُرْآنِ وَدِقَّتَهُ فِي الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ عَلَى الْأُمَمِ، إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَنْ يُسْتَثْنَى بَعْدَ إِطْلَاقِ الْحُكْمِ الْعَامِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَبُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِشَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ عَمَلًا بِالْقُرْآنِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خَبَرِ الْإِنْسَانِ الصِّدْقُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ التُّهْمَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ عَدَالَتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجْرٍ (ص194) وَبِهَا يَسْقُطُ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَى الْفَاسِقِ وَقَدْ قَبِلَ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَةَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْكَذِبَ مُطْلَقًا أَوْ فِيمَا عَدَا تَأْيِيدَ بِدْعَتِهِ، وَأَمَّا سِيرَةُ الْبَشَرِ الْمَعْلُومَةُ بِنَقْلِ الْمُؤَرَّخَيْنِ وَبِسُنَنِ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمُ الَّتِي هِيَ الْقَانُونُ الْعَقْلِيُّ لِمَنْ يُرِيدُ الْحُكْمَ الصَّحِيحَ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُؤَيِّدَةٌ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ الْعَادِلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (7: 102) وَقَوْلِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَهُوَ خَاصٌّ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الْفَسَادِ وَضَعْفِ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فَنَنْتَقِلُ إِذًا إِلَى بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي نَرَاهَا هِيَ السَّبَبَ الِاجْتِمَاعِيَّ الْحَقِيقِيَّ لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ: [الثَّانِي] : حَالُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ: إِنَّ حَالَةَ الْأُمَمِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْأَدَبِيَّةَ لَهَا شَأْنٌ كَبِيرٌ فِي تَطْبِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ (تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ) وَمَنْ عَرَفَ التَّارِيخَ وَفِقْهَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سَبَبَ إِعْرَاضِ الْفُقَهَاءِ وَالْحُكَّامِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَأَحَقُّ مَا يَجِبُ فِقْهُهُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَرْبَعٌ يَنْبَغِي التَّأَمُّلُ فِيهَا بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْإِنْصَافِ. (الْأُولَى) : مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْإِسْلَامِ مِنَ الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ

وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَعَدَمِ الْمُحَابَاةِ وَالتَّفْرِقَةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَقَرِيبٍ وَبِعِيدٍ وَصَدِيقٍ وَعَدُوٍّ، عَمَلًا بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ. (الثَّانِيَةُ) : مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا بِلَادَهَا، وَأَقَامُوا شَرِيعَتَهُمْ فِيهَا مِنْ ضَعْفِ وَازِعِ الدِّينِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ مُؤَرِّخُو الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ وَجَعَلُوهُ أَوَّلَ الْأَسْبَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِسُرْعَةِ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْخَافِقَيْنِ. (الثَّالِثَةُ) : مَا جَرَى عَلَيْهِ الْفَاتِحُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ فِي الِاسْتِقْلَالِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ; إِذْ كَانُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِأَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ فِي الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ مَعَ هَذَا أَلَّا يُشْهِدُوهُمْ عَلَى قَضَايَا أَنْفُسِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ. (الرَّابِعَةُ) : تَأْثِيرُ عِزَّةِ السُّلْطَانِ وَعَهْدِ الْفَتْحِ الَّذِي كَانَتِ الْأَحْكَامُ فِيهِ أَشْبَهَ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْآنَ بِالْأَحْكَامِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَحْكَامِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ، بَلْ فِي الْمُسْتَعْمَرَاتِ الَّتِي طَالَ عَلَيْهَا عَهْدُ الْفَتْحِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْفَتْحَ. يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ أَشَدَّ أَحْكَامِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ دُونِهِمْ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ أَنَّ الْغَالِبَ قَلَّمَا يَرَى شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِ الْمَغْلُوبِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ يَرَى قَلِيلَهَا الضَّئِيلَ الْخَفِيَّ؟ وَالْجَمَاعَاتُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ كَالْأَفْرَادِ فِي نَظَرِ كُلٍّ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِعَيْنِ الرِّضَا وَإِلَى مُخَالِفِهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ سِوِيسَرَةَ دِينًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا رَاقَبَتْ أَحْوَالَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَسِيرَتَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً إِذْ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى مَدَرَسَةِ (جِنِيفْ) لِتَلَقِّي آدَابِ اللُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، وَكَلَّمَتْهُ مِرَارًا فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّرْبِيَةِ وَكَانَتْ بَارِعَةً وَمُصَنِّفَةً فِيهِمَا فَأَعْجَبَهَا رَأْيُهُ، كَمَا أَعْجَبَهَا فَضْلُهُ وَهَدْيُهُ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ قَبْلَ أَنْ عَرَفْتُكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيِّينَ. فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذُكِرَ تَجَلَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي صَدَّتِ الْحُكَّامَ وَالْفُقَهَاءَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتَعَجَّبَ مِنْ سَعَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، الَّتِي يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُونَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَمُوَافَقَةِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَتَرَاهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ كُلَّ مَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَامِلِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا يَجِبُ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، بَلْ لَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ فِي هَدْيِهِمْ. كَمَا اتَّبَعُوا سَلَفَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بَلْ لَكَانُوا أَشَدَّ اتِّبَاعًا لَهُمْ. بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ هِدَايَتِهِ لِهَذَا الزَّمَانِ كَغَيْرِهِ، وَكَوْنِهَا أَرْقَى مِنْ كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامٍ وَأَحْكَامٍ، وَهَذَا مِنْ أَجْلِ مُعْجِزَاتِهِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَزْمَانِ.

(إِعْرَابُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّذِي اضْطَرَبَ فِيهِ النُّحَاةُ) . قَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَتَيْنِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِمُخَالَفَةِ مَذَاهِبِهِمْ لَهُمَا مُخْطِئُونَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْمَذَاهِبِ إِلَيْهِمَا لَا تَأْوِيلُهُمَا لِتُوَافِقَا الْمَذَاهِبَ. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَشْكَلُوا إِعْرَابَ جُمْلَةٍ مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَدُّوا لِأَجْلِهَا الْآيَةَ أَوِ الْآيَاتِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ احْتِمَالُ التَّرْكِيبِ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ بِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ، مَعَ اعْتِيَادِهِمْ تَقْدِيمَ الْإِعْرَابِ عَلَى الْمَعْنَى وَجَعْلَهُ هُوَ الْمُبَيِّنَ لَهُ، وَقَدِ اسْتَحْسَنَّا بَعْدَ إِيضَاحِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ بِمَا تَقَدَّمَ أَنْ نَذْكُرَ مُلَخَّصَ مَا قِيلَ فِي إِعْرَابِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ نَقْلًا عَنْ (رُوحِ الْبَيَانِ) الَّذِي يَلْتَزِمُ تَحْقِيقَ الْمَبَاحِثِ النَّحْوِيَّةِ فِي الْآيَاتِ، عَسَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَارِئُ بِهِ عَنْ مُرَاجَعَةِ تَفْسِيرٍ آخَرَ، وَنَبْدَأُ بِجَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ مَبْدَأُ مَا اسْتَشْكَلُوهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَآخَرَانِ) أَيْ فَرَجُلَانِ آخَرَانِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) وَالْفَاءُ جَزَائِيَّةٌ وَهِيَ إِحْدَى مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَلَا مَحْذُورَ فِي الْفَصْلِ بِالْخَبَرِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَصِفَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ، وَجُمْلَةُ يَقُومَانِ صِفَتُهُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ أُخْرَى. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرٍ (يَقُومَانِ) وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ. وَمَا بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ صِفَتُهُ وَضَمِيرُ (مَقَامَهُمَا) فِي جَمِيعِ الْأَوْجُهِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّذِينِ اسْتَحَقَّا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَقَامِهِمَا مَقَامَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَوَلَّيَاهَا وَلَمْ يُؤَدِّيَاهَا كَمَا هِيَ بَلْ هُوَ مَقَامُ الْحَبْسِ وَالتَّحْلِيفِ. وَ " اسْتَحَقَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ وَبِهَا قَرَأَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَفَاعِلُهُ (الْأَوْلَيَانِ) وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُصُولِ أَهْلُ الْمَيِّتِ، وَمِنَ الْأَوْلَيَيْنِ الْأَقْرَبَانِ إِلَيْهِ الْوَارِثَانِ لَهُ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ لِقُرْبِهِمَا وَاطِّلَاعِهِمَا، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ الْآخَرَانِ الْقَائِمَانِ مَقَامَ اللَّذَيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا، إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ الْمُظْهَرُ مَقَامَ ضَمِيرِهِمَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وَصْفِهِمَا بِهَذَا الْوَصْفِ، وَمَفْعُولُ " اسْتَحَقَّ " مَحْذُوفٌ وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُجَرِّدَهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ لِيُظْهِرُوا بِهِمَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ، وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَصِيَّتَهُمَا، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا لَهُمْ وَتَرِكَتَهُمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْوَصِيَّانِ اللَّذَانِ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمَا، وَسَبَبُ أَوْلَوِيَّتِهِمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ عَيَّنَهُمَا لِلْوَصِيَّةِ، فَمَعْنَى " اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ " خَانَ فِي مَالِهِمْ وَجَنَى عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّانِ اللَّذَانِ

عُثِرَ عَلَى خِيَانَتِهِمَا، وَعَلَى هَذَا لَا ضَرُورَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: " اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ " بِبِنَاءِ اسْتُحِقَّ لِلْمَفْعُولِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ ضَمِيرِهِ وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ الْإِثْمُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَوْصُولِ الْوَرَثَةُ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِثْمِ عَلَيْهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ جَنَى عَلَيْهِمْ وَارْتَكَبَ الذَّنْبَ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِمْ هُمُ الْوَرَثَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْإِيصَاءُ، وَقِيلَ: الْوَصِيَّةُ لِتَأْوِيلِهَا بِمَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْمَالُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِ رَفْعِ (الْأَوْلَيَانِ) فَقِيلَ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (آخَرَانِ) أَيِ (الْأَوْلَيَانِ) بِأَمْرِ الْمَيِّتِ آخَرَانِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ الْإِخْبَارَ عَنِ النَّكِرَةِ بِالْمَعْرِفَةِ وَهُوَ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى مَنْعِهِ فِي مِثْلِهِ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ أَيْ هُمَا الْآخَرَانِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ آخَرَانِ، وَقِيلَ: عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ اتِّفَاقِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ مَعَ أَنَّهُمْ شَرَطُوهُ حَتَّى مَنْ جَوَّزَ تَنْكِيرَهُ، نَعَمْ نُقِلَ عَنْ نَزْرٍ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ يَقُومَانِ، وَكَوْنُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الطَّرْحِ لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى يَلْزَمَ خُلُوَّ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا أَوْ صِفَةً عَنِ الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ طُرِحَ وَقَامَ هَذَا مَقَامَهُ كَانَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ فَيَكُونُ رَابِطًا وَقِيلَ: هُوَ صِفَةُ آخَرَانِ وَفِيهِ. وَصْفُ النَّكِرَةِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْأَخْفَشُ أَجَازَهُ هُنَا; لِأَنَّ النَّكِرَةَ بِالْوَصْفِ قَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ قِيلَ: وَهَذَا عَلَى عَكْسِ وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَإِنَّهُ يُؤَوَّلُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. وَهَذَا أُوِّلِ فِيهِ النَّكِرَةُ بِالْمَعْرِفَةِ، أَوْ جُعِلَتْ فِي حُكْمِهَا لِلْوَصْفِ، وَيُمْكِنُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ يَجْعَلَ الْأَوْلَيَانِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمَا كَالنَّكِرَةِ، وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ " اسْتَحَقَّ " وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِدَابَ الْأَوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ لِلشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ إِثْمَ الْأَوْلَيَيْنِ كَمَا قِيلَ، وَهُوَ تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً عِنْدَهَا، وَفِي عَلَى فِي " عَلَيْهِمْ " أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى فِي، وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى مِنْ، وَفَسَّرَ اسْتَحَقَّ بِطَلَبِ الْحَقِّ وَبِحَقٍّ وَغَلَبٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ " اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ " بِبِنَاءٍ اسْتَحَقَّ لِلْمَفْعُولِ وَالْأَوَّلِينَ جَمْعُ أَوَّلٍ الْمُقَابِلِ لِلْآخِرِ وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الَّذِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَمَعْنَى الْأَوَّلِيَّةِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَجَانِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لِدُخُولِهِمْ فِي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ " الْأَوَّلَانِ " بِالرَّفْعِ وَهُوَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْأَوْلَيَانِ، وَقُرِئَ " الْأَوَّلَيْنِ " بِالتَّثْنِيَةِ وَالنَّصْبِ، وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ " الْأَوْلَيَيْنِ " بِيَاءَيْنِ، تَثْنِيَةُ أَوْلَى مَنْصُوبًا، وَقَرَأَ " الْأَوْلَيْنِ " بِسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ أَوْلَى كَأَعْلَيْنِ، وَإِعْرَابُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ اهـ.

109

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) .

بَيَّنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 87، 88 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَجْهَ الِاتِّصَالِ وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ مَجْمُوعِ آيَاتِهَا وَطَوَائِفِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا السِّيَاقِ الْأَخِيرِ مِنْهَا وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِمُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ خَاصَّةً، وَفِيهِ ذَلِكَ الْمَعَادُ وَالْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَأَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ. وَيَرَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ كَلِمَةَ " يَوْمٍ " أَوَّلُهَا فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْآيَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا نَرَى فِيهَا يَلِي: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ مِنْ آخِرِ جُمْلَةٍ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ فِي الْآخِرَةِ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَمَا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أَقْوَامُهُمْ أَوْ لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَئِذٍ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ) أَوْ بِقَوْلِهِ: (وَاسْمَعُوا) أَيْ وَاتَّقُوا عِقَابَ اللهِ يَوْمَ جَمْعِهِ الرُّسُلَ أَوْ وَاسْمَعُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ. أَيْ خَبَرَهُ وَمَا يَكُونُ فِيهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ وَيَسْأَلُهُمْ يَكُونُ مِنَ الْأَهْوَالِ مَا لَا يَفِي بِبَيَانِهِ مَقَالٌ، أَوِ الْمَعْنَى وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتُمْ؟ وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَظْهَرُ، وَلَهُ فِي التَّنْزِيلِ نَظَائِرُ. وَالْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ تَوْبِيخُ أُمَمِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى أَيُّ إِجَابَةٍ أَجَبْتُمْ، أَإِجَابَةُ إِيمَانٍ وَإِقْرَارٍ أَمْ إِجَابَةُ كُفْرٍ وَاسْتِكْبَارٍ؟ فَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ نَوْعِ الْإِجَابَةِ لَا عَنِ الْجَوَابِ مَاذَا كَانَ، وَإِلَّا لَقُرِنَ بِالْبَاءِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِمَاذَا أَجَبْتُمْ. وَهَذَا السُّؤَالُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبِيلِ سُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (81: 8، 9) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَجْهٌ إِلَى الشَّاهِدِ دُونَ الْمُتَّهَمِ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بَعْدَ التَّفْوِيضِ الْآتِي، أَوْ عَقِبَ سُؤَالٍ غَيْرِ هَذَا، وَيَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى الْأُمَمَ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ أَوْ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا هُوَ شَأْنُ قُضَاةِ التَّحْقِيقِ فِي سُؤَالِ الْخَصْمِ وَالشُّهُودِ لِتَحَقُّقِ شَرَائِطِ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ، قَالَ تَعَالَى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (7: 6، 7) . وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى يَسْأَلُ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، وَكَانَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِذَلِكَ يَكُونُ جَوَابُهُمْ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالسُّؤَالِ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْعِلْمِ وَتَفْوِيضَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِمَّا لِنُقْصَانِ عِلْمِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا لِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ هَوْلِهِ أَوْ ذُهُولِهِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

(قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) جَاءَ الْجَوَابُ مُنْفَصِلًا كَسَائِرِ مَا يَأْتِي مِنْ أَقْوَالِ الْمُرَاجَعَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ لِلرَّبِّ: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِنَفْيٍ لِعِلْمِهِمْ بِإِطْلَاقٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيٌ لِعِلْمِ الْإِحَاطَةِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ بِالْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ; إِذِ الرُّسُلُ كَانُوا يَعْلَمُونَ ظَاهِرَ مَا أُجِيبُوا بِهِ مِنْ مُخَاطِبِيهِمْ وَلَا يَعْلَمُونَ بَوَاطِنَهُمْ، وَلَا حَالَ مَنْ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أُمَمِهِمْ، إِلَّا مَا يُوحِيهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ; وَلِذَلِكَ فَقَرَنُوا نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْهُمْ بِإِثْبَاتِ الْمُبَالَغَةِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ لَهُ تَعَالَى، فَإِنَّ صِيغَةَ " عَلَّامُ " مَعْنَاهَا كَثِيرُ الْعِلْمِ، أَيْ بِكَثْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ، وَإِلَّا فَعَلِمُهُ وَاحِدٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ إِحَاطَةً كَامِلَةً. وَلَا يُوصَفُ تَعَالَى بِالْعَلَّامَةِ، وَلَعَلَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ. قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَ وَلَدَهُ مِنَ الطُّوفَانِ: (فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (11: 46) وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (9: 101) . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الرُّسُلَ أَرَادُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ حَالِ أُمَمِهِمْ إِلَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ حَالِهِمْ لَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ (قَالَ) فَالْأَنْبِيَاءُ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا أَلْبَتَّةَ بِأَحْوَالِهِمْ إِنَّمَا الْحَاصِلُ عِنْدَنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الظَّنُّ، وَالظَّنُّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الدُّنْيَا; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظَّنِّ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) (2: 32) وَلَمْ يَذْكُرُوا أَلْبَتَّةَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ بُنِيَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِي تَفْسِيرِ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ، وَالصَّوَابُ مَا بَيَّنَاهُ قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنَ الْحَقَائِقِ عِلْمًا يَقِينِيًّا، كَاسْتِكْبَارِ الْمُجْرِمِينَ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ إِذْ أَخْبَرَهُمُ اللهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعَانِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَاشِفُ النَّبِيَّ بِحَالِهِمْ وَيَمْثُلُونَ لَهُ فِي النَّارِ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ صَادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِالظَّوَاهِرِ يَقْبَلُ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْإِيمَانِ فِي الْبَاطِنِ مَعَ الْجُحُودِ فِي الظَّاهِرِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْوَالِ أُمَمِهِمْ ظَنًّا

110

لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ لَمَا كَانَ لِشَهَادَتِهِمْ فَائِدَةٌ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (4: 41) . ذَكَرَ اللهُ سُؤَالَ الرُّسُلِ وَجَوَابَهُمْ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالتَّفْصِيلِ سُؤَالَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ التَّبْلِيغِ وَجَوَابِهِ عَنِ السُّؤَالِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ حَاجَّتْهُمْ هَذِهِ السُّورَةُ فِيمَا يَقُولُونَ فِي رَسُولِهِمْ أَوْسَعَ الِاحْتِجَاجِ، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانَ فِي إِثْرِ الْبُرْهَانِ، وَقَدَّمَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَا خَاطَبَ بِهِ هَذَا الرَّسُولَ مِنْ بَيَانِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَآيَاتِهِ لَهُ الَّتِي كَانَتْ مَنْشَأَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِ فَقَالَ: (إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ) بَدَلٌ مِنْ " يَوْمَ يَجْمَعُ " وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) أَيْ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوَبِّخُ الْكَفَرَةَ يَوْمَئِذٍ بِسُؤَالِ الرُّسُلِ عَنْ إِجَابَتِهِمْ وَتَعْدِيلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، فَكَذَّبَتْهُمْ طَائِفَةٌ وَسَمَوْهُمْ سَحَرَةً، وَغَلَا آخَرُونَ وَاتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً. أَوْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ " اذْكُرْ " اهـ. وَالنِّعْمَةُ تُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا وَاسْمًا لِمَا حَصَلَ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ إِنْعَامِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ، وَقْتَ تَأْيِيدِي إِيَّاكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ إِلَخْ. أَوِ اذْكُرْ نِعَمِي حَالَ كَوْنِهَا وَاقِعَةً عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ أَيْ قَوَّيْتُكَ شَيْئًا فَشَيْئًا بِرُوحِ الْقُدُسِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّتُكَ، وَتَبْرَأُ مِنْ تُهْمَةِ الْفَاحِشَةِ وَالِدَتُكَ، حَالَ كَوْنِكَ تُكَلِّمُ النَّاسِ فِي الْمَهْدِ بِمَا يُبَرِّئُهَا مِنْ قَوْلِ الْآثِمِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا غُلَامٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ يَكُونُ أَبًا لَهُ، وَكَهْلًا حِينَ بَعَثْتُ فِيهِمْ رُسُلًا تُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِمَا ضَلُّوا بِهِ عَنِ الْحُجَّةِ، فَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ هُوَ قَوْلُهُ: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (19: 30) إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ بِالتَّعْلِيمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّثْبِيتِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ أَنْ يَضْعُفُوا فِيهَا. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (16: 102) . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (8: 12) . (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) أَيْ وَنِعْمَتِي عَلَيْكَ إِذْ عَلَّمْتُكَ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ أَيْ مَا يُكْتَبُ أَوِ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ، أَيْ وَفَّقْتُكَ لِتَعَلُّمِهَا، وَالْحِكْمَةَ. . وَهِيَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالْعِبْرَةِ وَالْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ

الْأَحْكَامِ، وَالتَّوْرَاةَ: وَهِيَ الشَّرِيعَةُ الْمُوسَوِيَّةُ، وَالْإِنْجِيلَ: وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْبِشَارَةِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [ص 129 إِلَى 132 ج 3 ط الْهَيْئَةِ] وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ [ص 234 250 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) قَرَأَ نَافِعٌ هُنَا وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ " فَتَكُونُ طَائِرًا " وَالطَّائِرُ وَاحِدُ الطَّيْرِ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ وَالْجُمْهُورُ: " فَتَكُونُ طَيْرًا " قِيلَ: هُوَ جَمْعٌ، وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعٍ، وَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقُطْرُبُ إِطْلَاقَ طَيْرٍ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ كَمَا وَجَّهَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَلَفَظُ الطَّيْرِ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ؛ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. يُقَالُ: خَلَقَ الْإِسْكَافِيُّ النَّعْلَ ثُمَّ فَرَاهُ، أَيْ عَيَّنَ شَكْلَهُ وَمِقْدَارَهُ، ثُمَّ قَطَعَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ، وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لْا يَفْرِي وَمِنْهُ خَلْقُ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ قَالَ تَعَالَى: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) (29: 17) أَيْ تُقَدِّرُونَ وَتُزَوِّرُونَ كَلَامًا يَأْفِكُ سَامِعَهُ أَيْ يَصْرِفُهُ عَنِ الْحَقِّ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي إِيجَادِ اللهِ تَعَالَى الْأَشْيَاءَ بِتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ فِي عِلْمِهِ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ إِذْ تَجْعَلُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ فِي شَكْلِهَا وَمَقَادِيرِ أَعْضَائِهَا فَتَنْفُخُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، أَوْ بِتَسْهِيلِهِ أَوْ تَكْوِينِهِ، إِذْ يَجْعَلُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ نَفْسَكَ سَبَبًا لِحُلُولِ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنَ الطِّينِ، فَأَنْتَ تَفْعَلُ التَّقْدِيرَ وَالنَّفْخَ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يُكَوِّنُ الطَّيْرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ كَلَامٌ مِنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مَضْمُونُهُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْ مَكَّنَهُ اللهُ مِنْهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا. وَاسْتَدْرَكْنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَلَالَةِ آيَةِ الْمَائِدَةِ هَذِهِ عَلَى وُقُوعِهَا مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِذَلِكَ، وَبَيَّنَّا سِرَّ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ قُوَّةُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَبْعُدُ كِتْمَانُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ رَآهَا بَعْضُهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَدَّهُ مِنَ السِّحْرِ اعْتِقَادًا أَوْ مُكَابَرَةً وَخَافَ أَنْ تَجْذِبَ قَوْمَهُ إِلَى الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بِإِذْنِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُعْطَ هَذِهِ الْقُوَّةَ دَائِمًا بِحَيْثُ جُعِلَ السَّبَبُ الرُّوحِيُّ فِيهَا كَالْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُطَّرِدَةِ، بَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَغَيْرِهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَتَأْيِيدٍ مِنْ لَدُنْهِ، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ عَنْ فِعْلٍ مَضَى هِيَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ الْمَاضِي وَتَمْثِيلُهُ حَاضِرًا فِي الذِّهْنِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ، لَا لِإِفَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَضَى وَالْكَلَامُ تَذْكِيرٌ بِهِ كَمَا وَقَعَ إِذْ وَقَعَ. (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) عَطَفَ التَّذْكِيرَ بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً فَلَمْ يَبْدَأْ بِإِذْ، وَبُدِئَ بِهَا لِلتَّذْكِيرِ بِإِخْرَاجِ الْمَوْتَى، فَكَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مِنْ جِنْسِ

شِفَاءِ الْمَرَضِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَلَى أَيْدِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَظُنُّ الْمَرْضَى فِيهِمُ الصَّلَاحَ وَالْوِلَايَةَ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ ذُكِرَ بِالتَّبَعِ لِإِحْيَاءِ الصُّورَةِ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَمَّا كَانَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى أَعْظَمَ مِنْهُ جُعِلَ نِعْمَةً مُسْتَقِلَّةً فَقُرِنَ بِإِذْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَوْتَى الْجِنْسُ وَالْأَكْمَهُ مَنْ وُلِدَ أَعْمَى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَمِيَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَيْضًا. وَفِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَنَّهُ أَبْرَأَ كَثِيرًا مِنَ الْعُمْيِ وَالْبُرْصِ وَأَحْيَا ثَلَاثَةَ أَمْوَاتٍ: (الْأَوَّلُ) ابْنُ أَرْمَلَةَ وَحِيدٌ فِي (نَابِينَ) كَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى النَّعْشِ فَلَمَسَ النَّعْشَ وَأَمَرَ الْمَيِّتَ أَنْ يَقُومَ مِنْهُ فَقَامَ، فَقَالَ الشَّعْبُ: " قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهَ " أَيْ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ انْتَهَى. (مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا 7: 11 17) . (الثَّانِي) ابْنَةُ رَئِيسٍ مَاتَتْ وَدَعَاهُ لِإِحْيَائِهَا فَجَاءَ بَيْتَهُ وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: " تَنَحُّوا، فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ " وَالْقِصَّةُ فِي (إِنْجِيلِ مَتَّى 9: 18 26) وَنَفْيُهُ لِمَوْتِهَا ثُمَّ إِثْبَاتُهُ لِنَوْمِهَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالنَّوْمِ الْمَوْتَ مَجَازًا عَلَى مَا نَقُلْ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَعَلَيْهِ قَدْ يُقَالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُغْمِيَ عَلَيْهَا فَظَنُّوا أَنَّهَا مَاتَتْ فَعُلِمَ بِالْكَشْفِ أَوِ الْوَحْيِ أَنَّهَا لَمْ تَمُتْ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَثِقُونَ بِنُقُولِ الْقَوْمِ وَلَا بِدِقَّتِهِمْ فِي التَّرْجَمَةِ وَمُرَاعَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ بَعْدَ النَّفْيِ. (الثَّالِثُ) لِعَازَرَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ جِدًّا وَيُحِبُّ أُخْتَيْهِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا كَمَا يُحِبُّونَهُ، فَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا أَنَّهُ كَانَ مَاتَ فِي بَيْتٍ عُنِيًّا، وَوُضِعَ فِي مَغَارَةٍ، فَجَاءَ الْمَسِيحُ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقَ وَقَالَ: " أَيُّهَا الْآبُّ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَلَمَّا قَالَ هَذَا: صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ " لِعَازَرَ هَلُمَّ خَارِجًا " فَخَرَجَ الْمَيِّتُ إِلَخْ. وَمَلَاحِدَةُ أُورُبَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِعَازَرَ تَمَاوَتَ بِإِذْنِ الْمَسِيحِ وَالتَّوَاطُؤِ مَعَهُ. . . وَقَدْ كَذَبُوا أَخْزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْقُلِ النَّصَارَى عَنْهُ أَنَّهُ أَحْيَا أَمْوَاتًا كَانُوا تَحْتَ التُّرَابِ بَعْدَ الْبِلَى كَمَا نُقِلَ عَنْ دَانْيَالَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَتَكْرَارُ كَلِمَةِ الْإِذْنِ بِتَقْيِيدِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ بِهَا يُفِيدُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ وَقُدْرَتِهِ. وَالْإِذْنُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِإِجَازَةِ الشَّيْءِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَكَذَا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَالتَّيْسِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (2: 102) وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِإِجَازَتِهِ أَوْ أَمْرِهِ، وَمِثْلُهُ بَلْ أَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلَهُ: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) (3: 166) أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حِينَ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ فَلَمْ أُمَكِّنْهُمْ مِنْ قَتْلِكَ وَصَلْبِكَ وَقَدْ أَرَادُوا ذَلِكَ وَقْتَ تَكْذِيبِ كُفَّارِهِمْ إِيَّاكَ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سِحْرًا ظَاهِرًا، لَا مِنْ جِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهَا

111

أَوْ أَظْهَرُ مِنْهَا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ (سِحْرٌ) وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (سَاحِرٌ) بِالْأَلْفِ، وَرَسَمَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ كَكَلِمَةِ (مَلِكُ) فِي الْفَاتِحَةِ وَتُقْرَأُ (مَالِكُ) ، وَكَلِمَةِ (الْكُتُبُ) فِي عِدَّةِ سُوَرٍ تُقْرَأُ فِيهَا (الْكِتَابُ) بِالْإِفْرَادِ كَمَا تُقْرَأُ فِي بَعْضِهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَوْ كُتِبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِالْأَلِفِ لَمَا احْتَمَلَتْ إِلَّا قِرَاءَةَ الْمَدِّ وَحْدَهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ (سِحْرٌ) يُرَادُ بِهَا أَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنَ السِّحْرِ وَهُوَ التَّمْوِيهُ وَالتَّخْيِيلُ الَّذِي يُرِي الْإِنْسَانَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ عَنْ غَيْرِ فَاعِلِهِ وَأَنَّ قِرَاءَةَ (سَاحِرٌ) يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَنْ أَتَى بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ سَاحِرٌ، إِذْ جَاءَ بِأَمْرٍ صِنَاعِيٍّ أَوْ بِتَخْيِيلٍ بَاطِلٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَعَنُوا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا سِحْرٌ، وَفِيمَنْ جَاءَ بِهَا بِأَنَّهُ مَنْ جِنْسِ السَّحَرَةِ، أَيْ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَأَفَادَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ جَاءَهُمْ بِآيَاتٍ أُخْرَى، إِذْ لَمْ يَكُنِ الطَّعْنُ فِيمَا كَانَ قَدْ جَاءَ بِهِ لِشُبُهَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ ادَّعَوْا بِهِمَا أَنَّ السِّحْرَ صَنْعَةٌ لَهُ يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ غَرِيبٍ يَجِيءُ بِهِ. (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حِينَ أَلْهَمْتُ الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَقَدْ كَذَّبَكَ جُمْهُورُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلْتُهُمْ أَنْصَارًا لَكَ يُؤَيِّدُونَ حُجَّتَكَ وَيَنْشُرُونَ دَعْوَتَكَ. وَالْوَحْيُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْإِشَارَةُ السَّرِيعَةُ الْخَفِيَّةُ، أَوِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ وُجِدَ هَذَا التِّلِغْرَافُ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ لَسَمَّوْا خَبَرَهُ وَحْيًا، وَالْمِصْرِيُّونَ يُسَمُّونَهُ حَتَّى فِي الرَّسْمِيَّاتِ إِشَارَةً، وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يُلْقِيهِ اللهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْإِلْهَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) (16: 68) وَقَوْلِهِ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) (28: 7) وَهَكَذَا أَلْقَى اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْحَوَارِيِّينَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ هُوَ مَا أَنْزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَالْحَوَارِيُّونَ جَمْعُ حَوَارِيٍّ وَهُوَ مَنْ خَلُصَ لَكَ، وَأَخْلَصَ سِرًّا وَجَهْرًا فِي مَوَدَّتِكَ وَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ اللَّوْنِ، وَالْحَوَارِيَّاتُ مِنَ النِّسَاءِ النَّقِيَّاتُ الْأَلْوَانِ وَالْجُلُودِ لِبَيَاضِهِنَّ قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْأَعْرَابُ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ حَوَارِيَّاتٍ لِبَيَاضِهِنَّ وَتَبَاعُدِهِنَّ مِنْ قَشَفِ الْأَعْرَابِ بِنَظَافَتِهِنَّ قَالَ: فَقُلْتُ إِنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إِذا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلَابِيبِ

112

وَأَمَّا الْحُورُ الْعَيْنُ فَهُمَا جَمْعُ حَوْرَاءَ وَعَيْنَاءَ مِنَ الْحَوَرِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ مَعَ شِدَّةِ سَوَادِهَا، فَالْحَوْرَاءُ مُؤَنَّثُ الْأَحْوَرِ، وَالْحَوَارِيَّةُ مُؤَنَّثُ الْحَوَارِيِّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْحِوَارِيُّ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْخَالِصِ فِي غَيْرِ اللَّوْنِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَوَارِيُّونَ صَفْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ خَلَصُوا لَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَوَارِيُّونَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَصَفْوَتُهُمْ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي، وَحَوَارِيِّي مِنْ أُمَّتِي " أَيْ خَاصَّتِي مِنْ أَصْحَابِي وَنَاصِرِي قَالَ: وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَارِيُّونَ، وَتَأْوِيلُ الْحَوَارِيِّينَ فِي اللُّغَةِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا وَنَقَوْا مَنْ كُلِّ عَيْبٍ اهـ. وَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّقَاءِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَذَا التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى النَّقَاءِ وَالْخُلُوصِ مُطْلَقًا، فَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَلَصُوا لِنَصْرِهِ أَوْ خَلَصُوا وَنَقَوْا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقَدْ حَكَى الله عَنْهُمْ هُنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا، أَيْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَشْهَدُوا اللهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ مُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، مُذْعِنُونَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَتَيْ (آلِ عِمْرَانَ 52) وَ (الصَّفِّ 14) أَنَّهُمْ حِينَ قَالَ الْمَسِيحُ: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ) (هـ) قَالُوا: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) . (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) قَالَ أَبُو السُّعُودِ الْعِمَادِيُّ فِي تَفْسِيرِ: " إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ " مَا نَصُّهُ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا جَرَى بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْإِظْهَارُ فِي مَوْقِعِ الْإِضْمَارِ، وَ " إِذْ " مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِطَرِيقِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَالِالْتِفَاتِ، لَكِنَّ لَا لِأَنَّ الْخِطَابَ السَّابِقَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ خِطَابٍ، بَلْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّقُوا اللهَ) الْآيَةَ فَتَأَمَّلْ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبِ حِكَايَةِ مَا صَدَرَ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ مِنَ الْمَقَالَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى الْفَائِضَةِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. اذْكُرِ النَّاسَ وَقْتَ قَوْلِهِمْ إِلَخْ. وَقِيلَ:

هُوَ ظَرْفٌ لِقَالُوا، أُرِيدَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَهُمُ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَحْقِيقٍ وَإِيقَانٍ وَلَا يُسَاعِدُهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ اهـ. أَقُولُ: فِي مُتَعَلَّقِ الظَّرْفِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحَ أَبُو السُّعُودِ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا وَهُوَ الْأَوَّلُ وَرَدَّ الثَّانِي الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالُوا آمَنَّا) أَيِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَشْهَدُوا اللهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) وَيَقُولُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ حِكَايَةً وَوَصَلَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ وَهُوَ سُؤَالُهُمْ هَذَا وَجَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: " إِذْ قَالُوا يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ " وَلَمْ يَقُلْ: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) وَلَمَا صَحَّ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ نِعْمَةً مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى وَهِيَ كَاذِبَةٌ وَلَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَا يَرُدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْوَحْيِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ أَمْرُ اللهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، أَيْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ; إِذْ كَلَّفَ النَّاسَ كَافَّةً أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَجِيئُهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَكِنْ يَرُدُّ قَوْلَهُ أَيْضًا تَسْمِيَتُهُمْ بِالْحِوَارِيَّيْنِ وَمَا فِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالصَّفِّ مِنْ إِجَابَتِهِمْ عِيسَى إِلَى نَصْرِهِ، وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ حَكَى أَبُو السُّعُودِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ: الْخِلَافُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ كَلِمَةُ " يَسْتَطِيعُ " وَقَدْ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ " قَالُوا: أَيْ سُؤَالَ رَبِّكَ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ " تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ " وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ تَلْقِينَ الْقُرْآنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْرِيحِ الصَّحَابِيِّ بِرَفْعِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) وَهَذَا الَّذِي اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَحِيحٍ الْإِيمَانِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: (1) أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لِأَجْلِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِإِيمَانِ الْعَيَانِ لَا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِإِيمَانِ الشَّهَادَةِ وَالْمُعَايَنَةِ مَعَ إِقْرَارِهِ بِإِيمَانِهِ بِذَلِكَ بِالْغَيْبِ (2) إِنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْفِعْلِ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَازِمِهِ (3) إِنَّ السُّؤَالَ عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، أَيْ هَلْ يُنَافِي حِكْمَةَ رَبِّكِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ مَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، كَعِقَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَإِثَابَةِ الظَّالِمِ الْمُسِيءِ عَلَى ظُلْمِهِ. (4) إِنَّ فِي

الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤَالَ رَبِّكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ؟ وَالْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَهُ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ يَصْرِفُكَ عَنْ ذَلِكَ؟ (5) إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِطَاعَةِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ وَيُجِيبُ دُعَاءَكَ رَبُّكَ إِذَا سَأَلْتَهُ ذَلِكَ؟ وَأَقُولُ: رُبَّمَا يَظُنُّ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالِاسْتِطَاعَةُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الطَّوْعِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُرْهِ. قَالَ تَعَالَى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) (41: 11) وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الطَّوْعُ نَقِيضُ الْكُرْهِ. طَاعَهُ يَطُوعُهُ وَطَاوَعَهُ، وَالِاسْمُ الطَّوَاعَةُ وَالطَّوَاعِيَةُ (ثُمَّ قَالَ) وَيُقَالُ: طِعْتُ لَهُ وَأَنَا أُطِيعُ طَاعَةً، وَلِتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أَوْ كُرْهًا وَطَائِعًا أَوْ كَارِهًا، وَجَاءَ فُلَانٌ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَطَاعَ يَطَاعُ وَأَطَاعَ لَانَ وَانْقَادَ، وَأَطَاعَهُ إِطَاعَةً وَانْطَاعَ لَهُ كَذَلِكَ. وَفِي التَّهْذِيبِ: وَقَدْ طَاعَ لَهُ يَطُوعُ إِذِ انْقَادَ لَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ فَإِذَا مَضَى لِأَمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ. فَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ طَاوَعَهُ. اهـ. فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ إِطَاعَةَ الْأَمْرِ فِعْلُهُ عَنِ اخْتِيَارٍ وَرِضًا; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِهِ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ دِينًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ عَنْ إِذْعَانٍ وَوَازِعٍ نَفْسِيٍّ، وَالَّذِي أَفْهَمَهُ أَنَّ الِاسْتِفْعَالَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ كَالِاسْتِفْعَالِ فِي مَادَّةِ الْإِجَابَةِ، فَإِذَا كَانَ " اسْتَجَابَ لَهُ " بِمَعْنَى أَجَابَ دُعَاءَهُ أَوْ سُؤَالَهُ فَمَعْنَى اسْتَطَاعَهُ أَطَاعَهُ أَيِ انْقَادَ لَهُ وَصَارَ فِي طَوْعِهِ أَوْ طَوْعًا لَهُ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْمَادَّتَيْنِ عَلَى أَشْهَرِ مَعَانِيهِمَا وَهُوَ الطَّلَبُ، وَلَكِنَّهُ طَلَبٌ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْمَحْذُوفِ، فَأَصْلُ اسْتَطَاعَ الشَّيْءَ طَلَبَ وَحَاوَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ طَوْعًا لَهُ فَأَطَاعَهُ وَانْقَادَ لَهُ، وَمَعْنَى اسْتَجَابَ: سُئِلَ شَيْئًا وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ فَأَجَابَ; فَبِهَذَا الشَّرْحِ الدَّقِيقِ تَفْهَمُ صِحَّةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ (يَسْتَطِيعُ) هُنَا بِمَعْنَى يُطِيعُ، وَأَنَّ مَعْنَى يُطِيعُ يَفْعَلُ مُخْتَارًا رَاضِيًا غَيْرَ كَارِهٍ فَصَارَ حَاصِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ " هَلْ يَرْضَى رَبُّكَ وَيَخْتَارُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ إِذَا نَحْنُ سَأَلْنَاهُ أَوْ سَأَلْتَهُ لَنَا ذَلِكَ؟ " وَالْمَائِدَةُ فِي اللُّغَةِ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَامٌ لَا يُسَمَّى مَائِدَةً، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَائِدَةِ عَلَى الطَّعَامِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ مَادَ بِمَعْنَى مَالَ وَتَحَرَّكَ أَوْ مِنْ مَادَ أَهْلَهُ بِمَعْنَى نَعَشَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُ لِلْمُنْتَجِعِينَ مَائِدًا كَمَا فِي الْأَسَاسِ أَيْ أَعَاشَهُمْ وَسَدَّ فَقْرَهُمْ كَأَنَّهَا هِيَ تَمِيدُ مَنْ يَجْلِسُ إِلَيْهَا وَيَأْكُلُ مِنْهَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى حَدِّ: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. (قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ قَالَ عِيسَى لَهُمُ اتُّقُوا اللهَ أَنْ تَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ أَمْثَالَ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَ سَلَفُكُمْ يَقْتَرِحُهَا عَلَى مُوسَى لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةً لَكُمْ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ أَلَّا يُجَرِّبَ رَبَّهُ بِاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ وَيَكْسِبَ وَلَا يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَعِيشَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَعَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهَا مَعَايِشُ النَّاسِ، أَوِ الْمَعْنَى اتَّقُوا اللهَ وَقُومُوا

113

بِمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَكُمْ ذَلِكَ، مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (65: 2، 3) . (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) أَيْ نَطْلُبُهَا لِأَرْبَعِ فَوَائِدَ (إِحْدَاهَا) : أَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا لِأَنَّنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى الطَّعَامِ، وَلَا نَجِدُ مَا يَسُدُّ حَاجَتَنَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَكَلُ التَّبَرُّكِ. (الثَّانِيَةُ) : نُرِيدُ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ بِمُشَاهَدَةِ خَرْقِهِ لِلْعَادَةِ، أَيْ بِضَمِّ عِلْمِ الْمُشَاهَدَةِ وَاللَّمْسِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ إِلَى عِلْمِ السَّمْعِ مِنْكَ وَعِلْمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. (الثَّالِثَةُ) : أَنْ نَعْلَمَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ عِلْمِ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ مَعَكَ هُوَ أَنَّكَ قَدْ صَدَقْتَنَا مَا وَعَدْتَنَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، كَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَلَوْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. (الرَّابِعَةُ) : أَنْ نَكُونَ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُؤْمِنُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِيمَانِ وَيَزْدَادُ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا فَهَذَا مَا نَرَاهُ فِي تَوْجِيهِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ. (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ) أَيْ لَمَّا عَلِمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صِحَّةَ قَصْدِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ تَعْجِيزًا وَلَا تَجْرِبَةً دَعَا اللهَ تَعَالَى بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَنَادَاهُ بِاسْمِ الذَّاتِ الْجَامِعِ لِمَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: (اللهُمَّ) وَمَعْنَاهُ يَا اللهُ، ثُمَّ بِاسْمِ الرَّبِّ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ خَاصَّةً فَقَالَ: (رَبَّنَا) أَيْ يَا رَبَّنَا وَمَالِكَنَا كُلِّنَا وَمُتَوَلِّي أُمُورِنَا وَمُرَبِّينَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً سَمَاوِيَّةً، جُثْمَانِيَّةً أَوْ مَلَكُوتِيَّةً، يَرَاهَا هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحُونَ بِأَبْصَارِهِمْ، وَتَتَغَذَّى بِهَا أَبْدَانُهُمْ أَوْ أَرْوَاحُهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: مِنَ السَّمَاءِ، لَشَمَلَ الطَّلَبُ إِعْطَاءَهُمْ مَائِدَةً مِنَ الْأَرْضِ وَلَوْ بِطَرِيقَةٍ عَادِيَّةٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يُعْطَى مِنَ اللهِ تَعَالَى يُسَمَّى إِنْزَالًا لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلِيُّ الْقَاهِرُ فَوْقَ جَمِيعِ عِبَادِهِ. ثُمَّ وَصَفَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْمَائِدَةَ بِمَا أَحَبَّ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ إِنْزَالِهَا فَقَالَ فِي وَصْفِهَا: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا) أَيْ عِيدًا خَاصًّا بِنَا مَعْشَرِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِنَا، أَوْ تَكُونَ لَنَا كَرَامَةً وَمَتَاعًا لَنَا فِي عِيدِنَا ثُمَّ قَالَ: (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: (لَنَا) الَّذِي ذُكِرَ أَوَّلًا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ، أَيْ عِيدًا لِأَوَّلِ مَنْ آمَنَ مِنَّا وَآخِرِ مَنْ آمَنَ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِأَوَّلِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ. وَبِآخِرِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ مِمَّنْ يَشْهَدُ لَهُمْ مَنْ شَهِدَهَا وَغَيْرُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ - عَلَى بُعْدٍ - أَنْ يُرَادَ أَوَّلُ جَمَاعَتِهِ الْحَاضِرِينَ مَعَهُ إِيمَانًا وَآخِرُهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْكُلُ مِنْهَا آخِرُ الْقَوْمِ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ، أَوْ كَافِيَةً لِلْفَرِيقَيْنِ. وَكَلِمَةُ الْعِيدِ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَبِمَعْنَى الْمَوْسِمِ الدِّينِيِّ أَوِ الْمَدَنِيِّ الَّذِي يَجْتَمِعُ

114

لَهُ النَّاسُ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ أَوْ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ السَّنَةِ لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: أَيْ نَتَّخِذُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي يَوْمًا نُصَلِّي فِيهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : عِظَةٌ لَنَا وَلِمَنْ بَعْدَنَا، وَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى طَعَامُ الْعِيدِ عِيدًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: (وَآيَةً مِنْكَ) مَعْنَاهُ وَتَكُونُ آيَةً وَعَلَامَةً مِنْكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَدَعْوَتِي وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِنَصِّ قَوْلِهِ: (مَنْكَ) مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ تَعَالَى - وَلَا سِيَّمَا الْآيَاتُ - النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ. أَوْ أَنْ تَكُونَ الْمَائِدَةُ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُشْبِهُ السَّبَبَ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ وَعَنْ نَبِيِّنَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِطْعَامُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ يَخْلُقُ اللهُ الزِّيَادَةَ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْ نَبِيِّنَا أَيْضًا إِسْقَاءُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذْ وَضَعَ يَدَهُ فِيهِ فَصَارَ يَزِيدُ وَيَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ - وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللهِ كَكُلِّ شَيْءٍ - تَحْصُلُ بِمَا يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ، وَفِيهَا مَجَالٌ لِاشْتِبَاهِ الْمُرْتَابِ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَوِ الْمَاءِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ مَوْجُودًا وَهُوَ لَمْ يُشَاهِدْ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ فِيهِ. وَيَنْقُلُ النَّاسُ مِثْلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ: كَالسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ الْحَوَارِيُّونَ الْمَائِدَةَ بِمَا وَصَفُوهَا بِهِ، وَقَالَ هُوَ: (وَآيَةً مِنْكَ) لِتُوَافِقَ مَطْلُوبَهُمْ فَلَا يَقْتَرِحُوا شَيْئًا آخَرَ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ حِكَايَتَيْنِ عَنْ بَعْضِ الْمُعَاصِرِينَ تُوَضِّحَانِ مَا أُرِيدُ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَادَ مَرِيضًا مِنَ الرِّجَالِ الْمُعْتَقِدِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْكَرَامَاتِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ فِي حُجْرَةِ النَّوْمِ سَاعَةً وَكَانَ قَدْ نَقِهَ، ثُمَّ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَآلَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَشَّى مَعَهُ، ثُمَّ دَعَى بِالْخِوَانِ فَنُصِبَ وَلَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ فَجَلَسَ إِلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَصَارَ الْمَزُورُ يَقْتَرِحُ عَلَى الزَّائِرِ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَشْتَهِي مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ، وَكُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا مَدَّ الْمَزُورُ صَاحِبُ الدَّارِ يَدَهُ فَأَخْرَجَ صَحْنًا مِنْ تَحْتِ كُرْسِيٍّ أَوْ أَرِيكَةٍ بِجَانِبِهِ مَمْلُوءًا بِذَلِكَ اللَّوْنِ وَهُوَ سُخْنٌ يَتَصَاعَدُ بُخَارُهُ، حَتَّى ذَكَرَ عِدَّةَ أَلْوَانٍ لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْبَلَدِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ طُبِخَتْ وَوَضُعِتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ وَبَقِيَتْ عَلَى حَرَارَتِهَا كُلَّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ يَعُدُّهَا بَعْضُ مَنْ ثَبَتَتْ رِوَايَتُهَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ، وَيَعُدُّهَا بَعْضُهُمْ مِنَ الشَّعْوَذَةِ وَالْحِيَلِ الَّتِي اكْتَشَفَ مِثْلَهَا، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْحِكَايَةِ الثَّانِيَةِ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الطَّرِيقِ وَالْمَنَاصِبِ الْعِلْمِيَّةِ بِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ لِوَالِدِهِ، وَكَانَ مُعْتَقِدًا مُحْتَرَمًا مَعَ رَجُلٍ غَرِيبٍ جَاءَ مَدِينَتَهُمْ وَظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ عِدَّةُ غَرَائِبَ عُدَّتْ مِنَ الْكَرَامَاتِ.

وَقَالَ: إِنَّ وَالِدَهُ أَخَذَ هَذَا الرَّجُلَ مَرَّةً وَطَافَ فِي ضَوَاحِي الْبَلَدِ مُدَّةً طَوِيلَةً انْتَهَوْا فِي آخِرِهَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا أَجْدَادُهُمْ فَزَارُوا قُبُورَهُمْ وَاسْتَرَاحُوا هُنَالِكَ وَشَكَوْا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْجُوعِ بِطُولِ الْمَشْيِ، فَأَظْهَرَ وَالِدُ مُحَدِّثِي لِلشَّيْخِ الْغَرِيبِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَضِيفُوا أَجْدَادَهُ السَّادَةَ الْكِرَامَ، ثُمَّ نَادَى أَحَدُهُمْ وَاسْتَجْدَاهُ وَدَسَّ يَدَهُ فِي تُرَابِ قَبْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ صَحْفَةً فِيهَا عِدَّةُ مُكَرَّشَاتٍ (كُرُوشِ غَنَمٍ مَطْبُوخَةٍ وَهِيَ مَحْشُوَّةٌ بِالرُّزِّ وَاللَّحْمِ وَالصَّنَوْبَرِ) فَأَكَلُوا مِنْهَا فَإِذَا هِيَ حَارَّةٌ، وَقَدِ اسْتَطَابَهَا الرَّجُلُ الْغَرِيبُ جِدًّا حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا، وَلَا أَذْكُرُ أَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الْأَكْلَةِ وَإِخْرَاجُهَا بِاقْتِرَاحِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ أَمْ بِاقْتِرَاحِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهَا اقْتُرِحَتْ. قَالَ مُحَدِّثِي: وَسَرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وَالِدِي أَمَرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ بِأَنْ تُطْبَخَ عِنْدَنَا هَذِهِ الْمُكَرَّشَاتُ وَيَأْخُذَهَا أَحَدُ الْخَدَمِ أَوِ الْمُرَبِّينَ (الشَّكُ مِنِّي) فَيَدْفِنُهَا فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ فِي صَحْفَةٍ مُغَطَّاةٍ بِحَيْثُ تَبْقَى سُخْنَةً وَلَا يُصِيبُهَا تُرَابٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِاخْتِبَارِ الرَّجُلِ وَحَمْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ بِحَقِيقَةِ مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الْغَرَائِبِ فِي مُقَابَلَةِ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُ بِسِرِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا أَتَذَكَّرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّنِي سَمِعْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي أَوَائِلِ الْعَهْدِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ. فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْوَقَائِعِ الَّتِي يَعْهَدُهَا النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حِيَلٌ أَوْ صِنَاعَةٌ تَتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعْضَهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا سِحْرًا مُبِينًا، وَبَعْضَهُمْ عَلَى التَّثَبُّتِ فِيهَا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَا طَلَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَقُومُ بِهِ حُجَّتُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مَعَ الْجُمْهُورِ مِنْ صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ قَبْلَ طَلَبِ الْمَائِدَةِ، أَوْ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ; وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ الْكُبْرَى لِرِسَالَةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمِيَّةً حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِارْتِيَابِ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْحَقِّ الْمُخْلِصِينَ فِيهَا، وَهِيَ إِتْيَانُ رَجُلٍ أُمِّيٍّ عَاشَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَعْلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْرَأْ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي ظَهَرَ صِدْقُهَا فِي زَمَنِهِ وَبَعْدَ زَمَنِهِ بِبَلَاغَةٍ عَجَزَ الْبُلَغَاءُ عَنْ مِثْلِهَا، وَأُسْلُوبٍ أَشَدَّ إِعْجَابًا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فَمَعْنَاهُ وَارْزُقْنَا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا تَتَغَذَّى بِهِ أَجْسَامُنَا أَيْضًا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِحِسَابٍ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ فَائِدَةَ الْمَائِدَةِ الْمَادِّيَّةَ عَنْ ذِكْرِ فَائِدَتِهَا الدِّينِيَّةِ

115

الرُّوحِيَّةِ أَوْ مَعْنَاهَا وَارْزُقْنَا الشُّكْرَ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا يُقَوِّيهِ إِنْذَارُ اللهِ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ إِنْزَالِهَا إِذْ قَالَ: (قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَنَافِعٌ مُنَزِّلُهَا بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ الْمُفِيدِ لِلتَّكْثِيرِ أَوِ التَّدْرِيجِ، وَالْبَاقُونَ مُنْزِلُهَا بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ وَعَدَ اللهُ عِيسَى بِتَنْزِيلِهَا عَلَيْهِمْ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا، وَلَكِنَّهُ رَتَّبَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ شَرْطًا أَيُّ شَرْطٍ. فَقَالَ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، مِثْلَ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (108: 1، 2) وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِبَاهَ وَلَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَذِّبُهُ عَذَابًا شَدِيدًا لَا يُعَذِّبُ مِثْلَهُ أَحَدًا مِنْ سَائِرِ كُفَّارِ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ أَوْ عَالَمِي أُمَّتِهِمُ الَّذِينَ لَمَّ يُعْطَوْا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ الْخَاطِئَ وَالْكَافِرَ بِقَدْرِ تَأْثِيرِ الْخَطِيئَةِ أَوِ الْكَفْرِ، وَالْبُعْدِ فِيهِ عَنِ الشُّبْهَةِ وَالْعُذْرِ، وَمَا أُعْطِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الشُّكْرِ، وَأَيُّ شُبْهَةٍ أَوْ عُذْرٍ لِمَنْ يَرَى الْآيَاتِ مِنْ رَسُولِهِ ثُمَّ يَقْتَرِحُ آيَةً بَيِّنَةً عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ تَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهَا جَمِيعُ حَوَاسِّهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي دُنْيَاهُ قَبْلَ آخِرَتِهِ فَيُعْطَى مَا طَلَبَ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ ثُمَّ يَنْكِصُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمَائِدَةِ، أَنَزَلَتْ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا؟ فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي نَزَلَ أَيْ أُعْطِيَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ مِنَ اللهِ فَأَبْهَمَهُ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ خُبْزٌ وَسَمَكٌ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْخُبْزَ مِنَ الشَّعِيرِ، وَقِيلَ: خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَقِيلَ: مِنْ ثِمَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا اللَّحْمَ. وَقِيلَ: كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ طَعَامٌ أَيْنَمَا ذَهَبُوا كَمَا كَانَ يَنْزِلُ الْمَنُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَا يَصِحُّ مِنْ أَسَانِيدِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ; وَلِذَلِكَ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ نُزُولَهَا إِنْجَازًا لِلْوَعْدِ وَأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا مَأْكُولٌ لَا نُعِينُهُ، بَلْ قَالَ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ سَمَكًا وَخُبْزًا، وَقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَا يَنْفَعُ وَالْجَهْلَ بِهِ لَا يَضُرُّ وَنَقُولُ إِذًا: إِنَّهُ يُصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي يَجْمَعُونَهُ عَنِ الْحِجَارَةِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: كَانَ طَعَامًا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ حَيْثُمَا نَزَلُوا، وَيُصَدَّقُ بِمَا يَأْتِي عَنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا مِنْ إِطْعَامِ الْأُلُوفِ فِي عِيدِ الْفِصْحِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُ ذَلِكَ الْجَمْعِ كَآخِرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَالَ قَائِلُونَ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، فَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) قَالَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ. رَوَاهُ ابْنُ حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَائِدَةً عَلَيْهَا طَعَامٌ، وَعَنْهُ قَالَ: أَبَوْهَا حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرُوا فَأَبَوْا أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ: إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ. وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ. وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَدْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْمَائِدَةِ لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى وَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تُوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَكَانَ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْآحَادِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ رَأْيَ الْجُمْهُورِ وَتَرْجِيحَ ابْنِ جَرِيرٍ لَهُ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِنَفْيِ نُزُولِهَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَأَجَابَ عَنْهُمَا فَقَالَ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: (أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) اسْتَغْفَرُوا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ وَصَفَ الْمَائِدَةَ بِكَوْنِهَا عِيدًا لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، فَلَوْ نَزَلَتْ لَبَقِيَ ذَلِكَ الْعِيدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَبَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِنُزُولِهَا لِوُجُوبِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ الْجَازِمِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) شَرْطٌ وَجَزَاءٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ يَوْمَ نُزُولِهَا كَانَ عِيدًا لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى شَرْعِهِمْ اهـ. أَقُولُ: أَمَّا جَوَابُهُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى فَفِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ خَبَرٍ إِنْ صَحَّ لَا تُرَدَّ صِحَّتُهُ بِكَوْنِ جُمْلَةِ الْوَعِيدِ الشَّرْطِيَّةِ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِجُمْلَةِ الْوَعْدِ إِلَّا إِذَا قَالَهُ هَذَانِ التَّابِعِيَّانِ الْأَجِلَّاءُ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا مَرْفُوعًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَتَّفِقُ مَعَ صِدْقِ الْوَعْدِ، وَهُوَ (الْوَجْهُ الثَّانِي) وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ جُمْلَةَ الْوَعِيدِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْوَعْدِ لِعَطْفِهَا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ كَافٍ لِحَمْلِ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى تَرْكِ طَلَبِهَا بَلْ طَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ إِنْزَالِهَا. وَمَا كَانَ مِثْلَ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ لَيَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْوَعِيدَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ تَرْتِيبًا، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ هَذَا سَبَبٌ كَافٍ فِي عَدَمِ مُعَارَضَةِ الْوَعْدِ لِمَا رَوَوْهُ مِنْ تَنَصُّلِ الْقَوْمِ وَاسْتِقَالَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الطَّلَبِ وَإِقَالَةِ اللهِ إِيَّاهُمْ مِنْهُ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عَدَمُ إِنْزَالِهَا إِخْلَافًا لِلْوَعْدِ، فَإِنَّ مَنْ وَعَدَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ وَأَرَادَ أَنْ يُنْجِزَهُ لَهُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ تَكْلِيفًا أَوْ تَخْوِيفًا حَمَلَ الْمَوْعُودَ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ لَا يُسَمَّى مُخْلِفًا. وَأَمَّا جَوَابُهُ عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ إِذْ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَتْبَاعِ

الْمَسِيحِ عِيدٌ لِلْمَائِدَةِ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ نَقْلٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ تَارِيخِهِمْ، وَسَيَأْتِي مَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعِيدٍ لِيَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّازِيَّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ مَا فِي قَوْلِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ: إِنَّ النَّصَارَى لَا تَعْرِفُ خَبَرَ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ عِنْدَهُمْ، نَعَمْ إِنَّ كِتَابَهُمْ أَوْ كُتُبَهُمْ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ لَا بِالتَّوَاتُرِ وَلَا بِالْآحَادِ، وَلَكِنْ يُقَالُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ لِسَلَفِهِمْ عِيدٌ عَامٌّ لِلْمَائِدَةِ لَكَانَ مِنَ الشَّعَائِرِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِيدِ اجْتِمَاعَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ لِصَلَاةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَى لِإِخْفَائِهِمْ إِيَّاهُ فِي زَمَنِ الِاضْطِهَادِ، أَوْ بِأَنَّ الَّذِينَ أَظْهَرُوا النَّصْرَانِيَّةَ بَعْدَ اسْتِخْفَاءِ أَهْلِهَا بِالِاضْطِهَادِ لَا يَدْخُلُونَ عُمُومَ قَوْلِهِ: (وَآخِرِنَا) لِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَهُوَ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الرَّازِيُّ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِيدِ الذِّكْرَى وَالْمَوْعِظَةُ لِمُؤْمِنِيهِمُ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِيدُ بِغَيْرِ اسْمِ الْمَائِدَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا) تَكُونُ طَعَامًا لِلْعِيدِ، وَهُوَ يُصَدَّقُ بِإِطْعَامِهِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْخُبْزِ وَالسَّمَكِ الْقَلِيلِ فِي عِيدِ الْفِصْحِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. ثُمَّ إِنَّ كُتُبَ النَّصَارَى مِنَ الْأَنَاجِيلِ وَغَيْرِهَا قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا قَانُونِيٌّ وَهُوَ مَا أَقَرَّتْهُ الْكَنِيسَةُ وَاعْتَمَدَتْهُ، وَالثَّانِي غَيْرُ قَانُونِيٍّ وَهُوَ مَا رَفَضَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَلَمْ تَعْتَمِدْهُ، وَمِنْهُ إِنْجِيلُ بِرْنَابَا الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْبِشَارَةِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ جَعْلِهِ هَيْئَةً مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ نَفَخَ فِيهَا فَطَارَتْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي رَفَضَتْهَا الْكَنِيسَةُ وَفُقِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ بِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا الْمَسِيحُ كَثِيرَةٌ لَوْ كُتِبَتْ كُلُّهَا لَا يَسَعُ الْعَالَمَ الْكُتُبُ الْمَكْتُوبَةُ، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ أَصْحَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعْتَمَدَةِ كَتَبَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْتُبْهُ الْآخَرُونَ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَكْثَرَ كَلَامِ الْمَسِيحِ كَانَ أَمْثَالًا وَرُمُوزًا، وَيَعُدُّونَ مِنْ هَذِهِ الرُّمُوزِ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنْ خَبَرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الدُّنْيَا، فَمَا يُدْرِينَا أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بِبَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ حَسَبَ فَهْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى ثُمَّ نُقِلَ عَنْهُمْ بِالتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ فُقِدَتِ الْأُصُولُ وَلَا يُعْلَمُ عَنْهَا شَيْءٌ يَقِينِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ بِالنُّقُولِ عَنْهُمْ. وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا مَا فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ بِمَعْنَى قِصَّةِ الْمَائِدَةِ. جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ (بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ) وَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِأَنَّهُمْ آيَاتُهُ، فَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تَلَامِيذِهِ. وَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ قَالَ يُوحَنَّا:

(4 وَكَانَ الْفِصْحُ عِيدَ الْيَهُودِ قَرِيبًا 5 فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلِبْسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هَؤُلَاءِ؟ 6 وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لِأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ 7 أَجَابَهُ فِيلِبْسُ لَا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا 8 قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَهُوَ أَنْدَرَاوِسُ أَخُو سَمْعَانَ بُطْرُس 9 هُنَا غُلَامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ 10 فَقَالَ يَسُوعُ اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ، وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ خَمْسَةُ آلَافٍ 11 وَأَخَذَ يَسُوعُ الْأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ وَوَزَّعَ عَلَى التَّلَامِيذِ، وَالتَّلَامِيذُ عَلَى الْمُتَّكِئِينَ، وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا) . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَاتَبَ التَّلَامِيذَ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ ذَلِكَ الْخَبْزِ وَقَالَ (27 اعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي، لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ هَذَا اللهَ الْآبَّ قَدْ خَتَمَهُ 28 فَقَالُوا لَهُ مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللهِ 29 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ 30 فَقَالُوا لَهُ فَأَيَّةُ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ مَاذَا تَعْمَلُ؟ 31 آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا 32 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ 33 لِأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبِ حَيَاةً لِلْعَالَمِ 34 فَقَالُوا أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخَبْزَ 35 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَنَا هُوَ خَبْزُ الْحَيَاةِ مَنْ يُقْبِلُ إِلَيَّ فَلَا يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَا يَعْطَشُ أَبَدًا 36 وَلَكِنَّنِي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ) إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ وَفِيهَا تَكْرَارُ أَنَّهُ هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ لَا الْمَنُّ الَّذِي نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ، وَأَنَّ مَنْ يَأْكُلُ جَسَدَهُ وَيَشْرَبُ دَمَهُ فَلَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ أَوَّلُهَا فِي الْمَائِدَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَآخِرُهَا فِي الْمَائِدَةِ الرُّوحِيَّةِ، وَهِيَ قَدْ وَقَعَتْ فِي عِيدِ الْفِصْحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا يَزَالُ النَّصَارَى يَحْتَفِلُونَ بِهِ وَيَأْكُلُونَ فِيهِ خُبْزًا وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَيُسَمُّونَهُ الْعَشَاءَ الرَّبَّانِيَّ. فَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ اللهُ أَصْلَهُ عِنْدَهُمْ، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُتُبِهِمْ، فَمَا حَكَاهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَهُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ، وَمَا نَفَاهُ فَهُوَ الْمَنْفِيُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ يُوحَنَّا يُثْبِتُ هُنَا أَنَّ التَّلَامِيذَ قَالُوا لِلْمَسِيحِ بَعْدَ مَا رَأَوْا إِطْعَامَهُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ أَيَّةُ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. فَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوا امْتِحَانًا وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حَقًّا كَمَا ادَّعَوْا وَهُوَ ظَاهِرُ

116

الْآيَتَيْنِ هُنَا، وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ حَوَارِيِّينَ وَبِمَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَالصَّفِّ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ أَيْضًا، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا جَلِيٌّ ظَاهِرٌ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) إِلَخْ. وَالْمَعْنَى اذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ. فَيَسْأَلُهُمْ جَمِيعًا عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، إِذْ يَقُولُ لِعِيسَى اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكِ إِلَخْ، وَإِذْ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَيْ يَسْأَلُهُ: أَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَمْرٍ مِنْكَ أَمْ هُمْ، افْتَرَوْهُ وَابْتَدَعُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ؟

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (مِنْ دُونِ اللهِ) كَائِنِينَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ اللهِ وَإِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَصْدُقُ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الشِّرْكُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الشِّرْكِ الْمُتَّخَذِ غَيْرُ عِبَادَةِ اللهِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; سَوَاءٌ اعْتَقَدَ الْمُشْرِكُ أَنَّ هَذَا الْمُتَّخَذَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ وَهُوَ نَادِرٌ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ وَتَفْوِيضِهِ بَعْضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، أَوْ بِالْوَسَاطَةِ عِنْدَ اللهِ، أَيْ بِحَمْلِهِ تَعَالَى بِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عِنْدَ الْبَعْثَةِ كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) إِلَخْ. وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي مُتَعَلِّمِي الْحَضَرِ مَنْ يَتَّخِذُ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ مُتَجَاوِزًا بِعِبَادَتِهِ الْإِيمَانَ بِاللهِ الَّذِي هُوَ خَالِقُ الْكَوْنِ وَمُدَبِّرُهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْفِطْرِيَّ الْمَغْرُوسَ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ هُوَ أَنَّ تَدْبِيرَ الْكَوْنِ كُلِّهِ صَادِرٌ عَنْ قُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ كُنْهَهَا، فَالْمُوَحِّدُونَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ يَتَوَجَّهُونَ بِعِبَادَاتِهِمُ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ إِلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ وَحْدَهُ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُطْلَقُ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ فِعْلٌ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ كَذِبًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتُهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَوَجَّهُونَ تَارَةً إِلَيْهِ وَتَارَةً إِلَى بَعْضِ مَا يَسْتَكْبِرُونَ خَصَائِصَهُ مِنْ خَلْقِهِ، كَالشَّمْسِ وَالنَّجْمِ، وَبَعْضِ مَوَالِيدِ الْأَرْضِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمَا مَعًا فَيَجْعَلُونَ الثَّانِي وَسِيلَةً إِلَى الْأَوَّلِ، وَمَنْ يَشْعُرُ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ تَتَجَلَّى لَهُ فِي بَعْضِ الْخَلْقِ فَهُوَ يَخْشَى ضَرَّهَا وَيَرْجُو نَفْعَهَا، وَلَا يَمْتَدُّ نَظَرُ عَقْلِهِ وَلَا شُعُورُ قَلْبِهِ إِلَى سُلْطَةٍ فَوْقَهَا وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَكْوَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَيَوَانِ مِنْهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِفَهِمَ الشَّرَائِعِ وَحَقَائِقِ الدِّينِ، عَلَى أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاتِّخَاذِ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا; لِأَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا لِلنَّاسِ عِبَادَةَ الْمَسِيحِ وَأَمِّهِ كَانُوا مِنْ شُعُوبٍ مُرْتَقِيَةٍ حَتَّى فِي وَثَنِيَّتِهَا، وَلَهَا فَلْسَفَةٌ دَقِيقَةٌ فِيهَا، وَهُمُ الْيُونَانُ وَالرُّومَانُ، وَبَعْضُ الْيَهُودِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْفَلْسَفَةِ جِدَّ الِاطِّلَاعِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اتِّخَاذَ إِلَهٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُرَادُ بِهِ عِبَادَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ خَالِصَةً لِغَيْرِهِ أَوْ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَاسِطَةً عِنْدَهُ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (98: 5) . أَمَّا اتِّخَاذُهُمُ الْمَسِيحَ إِلَهًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَعِبَادَتُهَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا فِي الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ بَعْدَ قُسْطَنْطِينَ، ثُمَّ أَنْكَرَتْ عِبَادَتَهَا فِرْقَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ. إِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الَّتِي يُوَجِّهُهَا النَّصَارَى إِلَى مَرْيَمَ وَالِدَةِ الْمَسِيحِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) مِنْهَا مَا هُوَ

صَلَاةٌ ذَاتُ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ وَاسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِشْفَاعٍ، وَمِنْهَا صِيَامٌ يُنْسَبُ إِلَيْهَا، وَيُسَمَّى بِاسْمِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُقْرَنُ بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ لِذِكْرِهَا وَلِصُوَرِهَا وَتَمَاثِيلِهَا، وَاعْتِقَادِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لَهَا الَّتِي يُمْكِنُهَا بِهَا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنْ تَنْفَعَ وَتَضُرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَسَاطَةِ ابْنِهَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَهَا، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِهِمْ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ (إِلَهٍ) عَلَيْهَا، بَلْ يُسَمُّونَهَا (وَالِدَةَ الْإِلَهِ) وَيُصَرِّحُ بَعْضُ فِرَقِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَالْقُرْآنُ يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا وَابْنَهَا إِلَهَيْنِ، وَالِاتِّخَاذُ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ، فَهُوَ يُصَدَّقُ بِالْعِبَادَةِ وَهِيَ وَاقِعَةٌ قَطْعًا، وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (5: 17، 72) وَذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ لَا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ أَرْبَابًا. وَأَوَّلُ نَصٍّ صَرِيحٍ رَأَيْتُهُ فِي عِبَادَةِ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً مَا فِي كِتَابِ (السَّوَاعِي) مِنْ كُتُبِ الرُّومِ الْأُرْثُوذُكْسِ، وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فِي دَيْرٍ يُسَمَّى (بِدَيْرِ الْبَلَمَنْدِ) وَأَنَا فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِمَعَاهِدِ التَّعْلِيمِ. وَطَوَائِفُ الْكَاثُولِيكِ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ وَيُفَاخِرُونَ بِهِ، وَقَدْ زَيَّنَ الْجُزْوِيتِ فِي بَيْرُوتَ الْعَدَدَ التَّاسِعَ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِمَجَلَّتِهِمُ (الْمَشْرِقِ) بِصُورَتِهَا وَبِالنُّقُوشِ الْمُلَوَّنَةِ إِذْ جَعَلُوهُ تَذْكَارًا لِمُرُورِ خَمْسِينَ سَنَةً عَلَى إِعْلَانِ الْبَابَا بِيُوسَ التَّاسِعِ أَنَّ مَرْيَمَ الْبَتُولَ " حَبِلَ بِهَا بِلَا دَنَسِ الْخَطِّيَّةِ " وَأَثْبَتُوا فِي هَذَا الْعَدَدِ عِبَادَةَ الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ لِمَرْيَمَ كَالْكَنَائِسِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ (الْأَبِ لِوِيس شِيخُو) فِي مَقَالَةٍ لَهُ فِيهِ عَنِ الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ: (إِنَّ تَعَبُّدَ الْكَنِيسَةِ الْأَرْمَنِيَّةِ لِلْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ أُمِّ اللهِ لَأَمْرٌ مَشْهُورٌ " وَقَوْلُهُ " قَدِ امْتَازَتِ الْكَنِيسَةُ الْقِبْطِيَّةُ بِعِبَادَتِهَا لِلْبَتُولِ الْمَغْبُوطَةِ أُمِّ اللهِ ". مَنْ يَسْمَعُ أَوْ يَقْرَأُ سُؤَالَ اللهِ تَعَالَى لِعِيسَى عَنْ عِبَادَةِ النَّصَارَى.

لَهُ وَلِأُمِّهِ تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَتَوَجَّهُ إِلَى السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَامِ; فَلِذَلِكَ جَاءَ كَأَمْثَالِهِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ (قَالَ سُبْحَانَكَ) بَدَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ بِتَنْزِيهِهِ إِلَهَهُ وَرَبَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْزِيهَ هُنَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا لَائِقًا مِنْ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ النَّظْمِ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، وَأَنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ. وَكَلِمَةُ " سُبْحَانَ " قِيلَ: إِنَّهَا عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَصْدَرٌ لِـ (سَبَحَ) الثُّلَاثِيِّ كَالْغُفْرَانِ، وَاسْتُعْمِلَتْ مُضَافَةً بِاطِّرَادٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِي الشِّعْرِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ السَّبَحِ وَالسِّبَاحَةِ وَهِيَ الذَّهَابُ السَّرِيعُ الْبَعِيدُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبَرِّ، وَمِنَ الثَّانِي سَبَحَ الْخَيْلُ وَقَالُوا: فَرَسٌ سَبُوحٌ (كَصَبُورٍ) وَمِثْلُهُ التَّقْدِيسُ مِنَ الْقُدْسِ وَهُوَ الذَّهَابُ الْبَعِيدُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فِي التَّنْزِيهِ قَالُوا: إِنَّ التَّسْبِيحَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَسُوءٍ ; وَلِذَا خُصَّ بِتَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى، وَيُقَابِلُهُ اللَّعْنُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِبْعَادِ وَالْبُعْدِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَقَامِ الشَّرِّ (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (11: 60) ، (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (14: 3) قَالَ الرَّاغِبُ: وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ الْمَرُّ السَّرِيعُ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، كَمَا جُعِلَ الْإِبْعَادُ فِي الشَّرِّ، فَقِيلَ: أَبْعَدَهُ اللهُ، وَجُعِلَ التَّسْبِيحُ عَامًّا فِي الْعِبَادَاتِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ نِيَّةً اهـ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى إِطْلَاقِ التَّسْبِيحِ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ كَتَسْبِيحِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا. وَالْمُرَادُ بِتَسْبِيحِ النِّيَّةِ الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ، وَفِي كَلِمَةِ " سُبْحَانَكَ " وَمِثْلِهَا " سُبْحَانَ اللهِ " مُبَالَغَةٌ فِي هَذَا التَّنْزِيهِ أَيُّ مُبَالَغَةٍ، إِذْ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِمَادَّتِهَا الدَّالَّةِ بِمَأْخَذِهَا الِاشْتِقَاقِيِّ عَلَى الْبُعْدِ وَالْإِيغَالِ وَالسَّبَحِ الطَّوِيلِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْمَدِيدِ الطَّوِيلِ، وَبِصِيغَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ التَّسْبِيحُ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى اسْمِ الْمَصْدَرِ (سُبْحَانَ) وَمَدْلُولُهُ فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، ثُمَّ بِالْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرٌ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ جِنِّي فَإِنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ وَثَبَاتِهِ حَقِيقَتُهُ; لِأَنَّ مَدْلُولَهُ هُوَ لَفْظُ الْمُصَدْرِ فَانْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْهُ إِلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْمَصْدَرِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ دُونَ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا سَبَقَنِي إِلَى بَيَانِ هَذَا عَلَى كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ عِنْدَ مَنْ تَأَمَّلَهُ (وَمِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ الْخَفَاءُ) . قُلْنَا: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَأَ جَوَابَهُ بِتَنْزِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، فَأَثْبَتَ بِهَذَا إِنَّهُ عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ أَنْ يُشَارَكَ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا إِلَى تَبْرِئَةِ نَفْسِهِ الْعَالِمَةِ بِالْحَقِّ عَنْ قَوْلِ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَقَالَ:

(مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنِّي أَنْ أَقُولَ قَوْلًا لَيْسَ لِي أَدْنَى حَقٍّ أَنْ أَقُولَهُ; لِأَنَّكَ أَيَّدْتَنِي بِالْعِصْمَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْبَاطِلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَإِنْكَارِهِ إِنْكَارًا مُجَرَّدًا; لِأَنَّ نَفْيَ الشَّأْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ نَفْيًا مُؤَيَّدًا بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ بِتَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى أَوَّلًا أَثْبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ تَمْهِيدًا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأَمَّهُ إِلَهَيْنِ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنْ مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَنَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الثَّابِتَتَيْنِ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْقَوْلَ. ثُمَّ أَكَّدَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ بِحُجَّةٍ أُخْرَى قَاطِعَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي مِنَ الْبُرْهَانِ الْأَدْنَى الرَّاجِعِ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عِصْمَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْبُرْهَانِ الْأَعْلَى الرَّاجِعِ إِلَى رَبِّهِ الْعَلَّامِ، فَقَالَ: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) أَيْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَدْ وَقَعَ مِنِّي فَرْضًا فَقَدْ عَلِمْتَهُ; لِأَنَّ عِلْمَكَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، تَعْلَمُ مَا أُسِرُّهُ وَأُخْفِيهِ فِي نَفْسِي، فَكَيْفَ لَا تَعْلَمُ مَا أَظْهَرْتُهُ وَدَعَوْتُ إِلَيْهِ فَعَلِمَهُ مِنِّي غَيْرِي؟ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ مِنْ عُلُومِكَ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي لَا تَهْدِينِي إِلَيْهَا بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَسْبِيٍّ، إِلَّا مَا تُظْهِرُنِي عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَهْبِيٍّ. قِيلَ: إِنَّ إِضَافَةَ كَلِمَةِ " نَفْسٍ " إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ يُسَوِّغُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (6: 54) ، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (3: 28، 30) وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالْمُهِمُّ فَهْمُ الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ. وَتَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ نَفْسِهِ لِأَنْفُسِ خَلْقِهِ مَعْرُوفٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، فَاسْتِشْكَالُ إِطْلَاقِ الْوَحْيِ لِلْأَسْمَاءِ مَعَ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْجَهْلِ (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أَيْ إِنَّكَ أَنْتَ الْمُحِيطُ بِالْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ وَحْدَكَ; لِأَنَّ عِلْمَكَ الْمُحِيطَ بِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ عِلْمٌ ذَاتِيٌّ لَا مُنْتَزَعٌ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ، وَلَا مُسْتَفَادٌ بِتَلْقِينٍ وَلَا بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا عِلْمُ غَيْرِكَ مِنْكَ لَا مِنْ ذَاتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بِمَا آتَيْتَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ أَوِ الْعَقْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَلَقَّاهُ مِمَّا تَهَبُهُ مِنَ الْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ، أَيْ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ تَنْزِيهِ رَبِّهِ، وَتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ، وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانَيْنِ عَلَى بَرَاءَتِهِ، بَيَّنَ حَقِيقَةَ مَا قَالَهُ لِقَوْمِهِ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ لَا تَكُونُ تَامَّةً كَامِلَةً، بِحَيْثُ تَظْهَرُ لَهُمْ هُنَالِكَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ، إِلَّا بِإِثْبَاتِ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ بَعْدَ نَفْيِ ضِدِّهِ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِ السَّامِعِ لِمَا سَبَقَ مِنَ النَّفْيِ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا قَالَهُ فِي مَوْضُوعِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فَهَذَا قَوْلٌ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِاتِّخَاذِهِ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ وَإِثْبَاتَ ضِدَّهُ، أَيْ مَا قُلْتُ لَهُمْ فِي شَأْنِ الْإِيمَانِ وَأَصْلِ الدِّينِ وَأَسَاسِهِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ دُونَهُ، إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِالْتِزَامِهِ اعْتِقَادًا وَتَبْلِيغًا وَهُوَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِكَ وَحْدَكَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّكَ رَبِّي وَرَبُّهُمْ، وَأَنَّنِي عَبْدٌ مِنْ عِبَادِكَ مِثْلُهُمْ، أَيْ إِلَّا أَنَّكَ خَصَصْتَنِي بِالرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. فَقَوْلُهُ: (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) تَفْسِيرٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا

117

قَالَ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) وَلَمْ يَقُلْ: مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، أَدَبًا مَعَ اللهِ تَعَالَى وَمَرْعَاةً لِمَا وَرَدَ فِي السُّؤَالِ (أَأَنْتَ قُلْتَ) . (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) أَيْ وَكُنْتُ قَائِمًا عَلَيْهِمْ أُرَاقِبُهُمْ وَأَشْهَدُ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ فَأُقِرُّ الْحَقَّ وَأُنْكِرُ الْبَاطِلَ مُدَّةَ دَوَامِ وُجُودِي بَيْنَهُمْ (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أَيْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتِنِي إِلَيْكَ كُنْتَ أَنْتَ الْمُرَاقِبَ لَهُمْ وَحْدَكَ إِذِ انْتَهَتْ مُدَّةُ رِسَالَتِي فِيهِمْ وَمُرَاقِبَتِي لَهُمْ وَشَهَادَتِي عَلَيْهِمْ، فَلَا أَشْهَدُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَأَنَا لَسْتُ فِيهِمْ، وَأَنْتَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ وَشَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، بِمَا أَنَّكَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي مُلْكِكَ، وَأَنْتَ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِمَّنْ تَجْعَلُهُمْ شُهَدَاءَ مِنْ خَلْقِكَ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (6: 19) . وَقَدْ مَرَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يُزَكِّي تَبْرِئَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِنَفْسِهِ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ هُنَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (5: 72) فَجُمْلَةُ " وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ، أَيْ قَالُوا قَوْلَهُمْ ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَسِيحَ أَمَرَهُمْ بِضِدِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ. وَفِي أَنَاجِيلِهِمْ مِنْ بَقَايَا التَّوْحِيدِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مَا رَوَاهُ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (7: 3 وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) وَفِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ وَحْيًا صَحِيحًا مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ الَّذِي أُجِيبَ عَنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا عَدْلُ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا يُجْزَى بِهِ مَنِ اتَّخَذَ عِيسَى وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ قَوْمِهُ فَوَّضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَهَادَتُهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ فَقَالَ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أَيْ إِنْ تَعَذِّبْ أُولَئِكَ النَّاسَ الَّذِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ فَبَلَّغْتُهُمْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَوْحِيدِكَ وَعِبَادَتِكَ وَحْدَكَ، فَضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ، وَقَالُوا مَا لَمْ أَقُلْهُ لَهُمْ، وَاهْتَدَى مَنِ اهْتَدَى مِنْهُمْ فَلَمْ يَعْبُدُوا مَعَكَ أَحَدًا مِنْ دُونِكَ، فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ رَبُّهُمُ الْأَوْلَى وَالْأَحَقُّ بِأَمْرِهِمْ وَلَسْتُ أَنَا وَلَا غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ بِأَرْحَمَ بِهِمْ، وَلَا بِأَعْلَمَ بِحَالِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجْزِيهِمْ بِحَسَبِ عِلْمِكَ بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ، وَالْمُشْرِكِ الْمُثَلِّثِ، وَالطَّائِعِ الصَّالِحِ، وَالْعَاصِي الْفَاسِقِ، وَالْمُقِرِّ لِلْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْمُنْكِرِ لَهُمَا، وَأَنْتَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَلَا تَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

118

فَالْمُرَادُ إِذًا إِنْ تَعَذِّبْ فَإِنَّمَا تَعَذَّبُ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْذِيبَ مِنْهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى إِطْلَاقَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى جُمْلَتِهِمْ، فَإِنَّهُ ضَمِيرُ الْجِنْسِ الَّذِي يَصْدُقُ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ لَمْ يَرِدْ بِصِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَهُ فِي الْمُقَابِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) إِلَخْ، أَيْ وَإِنْ تَغْفِرْ فَإِنَّمَا تَغْفِرُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ مِنْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أَيِ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ، الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفِهِ وَصُنْعِهِ، فَيَضَعُ كُلَّ حُكْمٍ وَجَزَاءٍ وَفِعْلٍ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْعَدْلِ، وَمَوْضِعِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ. وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ تُعَذِّبْ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تُعَذِّبْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنَّ هَذَا تَعْيِينٌ لِمَنْ يُعَذِّبُهُ وَمَنْ يَغْفِرُ لَهُ يُنَافِيهِ إِطْلَاقُ ضَمِيرِ الْجِنْسِ فِي مَقَامِ التَّفْوِيضِ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا قَالُوهُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ. مُخَالِفًا لِمَا بَلَّغَهُمْ عَنْ رَبِّهِ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ وَالشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِرَبِّهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مُدَّةَ وُجُودِي بَيْنَهُمْ وَبَعْدَ وَفَاتِي وَأَنْتَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ وَلَا شَهَادَةَ أَكْبَرُ وَلَا أَصْدَقُ مِنْ شَهَادَتِكَ، فَمَهْمَا تُوقِعْهُ فِيهِمْ مِنْ عَذَابٍ فَلَا دَافِعَ لَهُ مِنْ دُونِكَ ; إِذْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ أَرْحَمُ مِنْكَ بِعِبَادِكَ فَيَرْحَمُهُمْ أَوْ يَسْأَلُكَ أَنْ تَرْحَمَهُمْ وَمَهْمَا تَمْنَحْهُمْ مِنْ مَغْفِرَةٍ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ حِرْمَانَهُمْ مِنْهَا بِحَوْلِهِ وَقُوتِهِ; لِأَنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ وَلَا يُمْنَعُ، وَلَا بِتَحْوِيلِكَ عَنْ إِرَادَتِكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْحَكِيمُ الَّذِي تَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ غَيْرِكَ أَنْ يُرْجِعَكَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ الِاسْتِدْرَاكَ أَوِ الِافْتِيَاتَ عَلَيْكَ؟ . فَهَذَا بَيَانُ مَا يَقْتَضِيهِ التَّفْوِيضُ الْمُطْلَقُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَعْذِيبَ مَنْ يَظُنُّ الْمَخْلُوقُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ إِنْ وَقَعَ مِنَ اللهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا عَدْلًا; لِأَنَّهُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُضَافُونَ إِلَيْهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَهُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (43: 68) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (39: 53) وَأَمْثَالُهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُضِيفَ فِيهَا لَفْظُ عِبَادٍ إِلَى اللهِ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الَّذِي خَفِيَ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ عَظِيمًا، فَالْأَدَبُ التَّفْوِيضُ وَفِي جَزَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِنْ أَصَابَتْ مَنْ يَظُنُّ الْمَخْلُوقُونَ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَلَا تَكُونُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا لِغَايَةٍ اقْتَضَتْهَا عِزَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَحِكْمَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا عِبْرَةَ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي تَبْدُو لِلْمَخْلُوقِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبِهَذَا تَنْجَلِي نُكْتَةُ اخْتِيَارِ (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هُنَا عَلَى (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) عَلَى خِلَافِ مَا يَظْهَرُ بَادِئَ الرَّأْيِ مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مُرَاعَاةِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ فِي قَرْنِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5: 38، 39) فَذِكْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاسْمَيِ اللهِ (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فِي جَزَاءِ شَرْطِيَّةِ الْمَغْفِرَةِ كَذِكْرِهِ لِكَلِمَةِ (عِبَادِكَ) فِي جَزَاءِ شَرْطِيَّةِ التَّعْذِيبِ، كُلٌّ مِنْهُمَا وَقَعَ فِي مَحِلِّهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي مَقَامِ التَّفْوِيضِ فَكَانَ حُجَّةً لَهُ وَلَوْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ الشَّفَاعَةَ وَالِاسْتِرْحَامَ لَعَكَسَ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا اعْتِرَاضًا عَلَى الرَّبِّ، أَوْ تَعْرِيضًا بِحُكْمِهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَحَاشَا لِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا غَفَلَ مَنْ غَفَلَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ هَذَا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللهِ تَعَالَى اسْتَشْكَلُوا الْعِبَارَةَ، وَحَارُوا فِيمَا فَهِمُوهُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى جَوَازِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَطَفِقُوا يَتَلَمَّسُونَ النُّكْتَةَ لِتَرْتِيبِ الْغُفْرَانِ عَلَى صِفَتَيِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، دُونَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ تَرْتِيبِهِ عَلَى صِفَتَيِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَاسْتَنْجَدُوا مَذَاهِبَهُمُ الْكَلَامِيَّةَ فِي ذَلِكَ فَأَنْجَدَتْ مُفَسِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ بِمَا اسْتَطَالُوا بِهِ عَلَى مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عَبِيدُكَ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ بِعَبْدِهِ كَمَا يَشَاءُ، فَلَا يُسْأَلُ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَذَّبَ أَكْمَلَهُمْ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ فَإِنَّهُمْ عَبِيدُكَ الْأَرِقَّاءُ إِلَى أَسْرِ مُلْكِكَ، الضُّعَفَاءُ الْعَاجِزُونَ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنْ عِقَابِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، الْحَكِيمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ مُسْتَحْسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ: قَالَهُ أَبُو السُّعُودِ: وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: وَالْمَغْفِرَةُ لِلْكَافِرِ لَمْ يُعْدَمْ فِيهَا وَجْهُ حِكْمَةٍ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ فِي الْمَعْقُولِ، بَلْ مَتَى كَانَ الْمُجْرِمُ أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَحْسَنَ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْكَرَمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ أَحْسَنَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ اهـ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَجَابَ الرَّازِيُّ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَوْهُومِ بِأَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: (الْأَوَّلِ) أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي سُؤَالِ اللهِ لِعِيسَى يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا عَنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ بَلْ مُذْنِبٍ بِكَذِبِهِ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَلِهَذَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ. وَهَذَا وَجْهٌ أَمْلَاهُ عَلَيْهِ مَا اعْتَادَ مِنَ الْجَدَلِ فِي الْأَلْفَاظِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ حَالِ مَنْ حَكَى الله عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ أُمَّهُ، وَعَنْ حَالِ مَنْ حَكَوْهُ هُمْ عَنْهُ، وَهُوَ إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، وَحِكَايَةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ عَنِ الرَّسُولِ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَسْتَلْزِمُ إِمَّا الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ وَإِمَّا الْأَخْذَ بِمَا حَكَى عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ. (الثَّانِي) قَوْلُهُ " إِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَ الْكُفَّارَ الْجَنَّةَ، وَأَنْ يُدْخِلَ الزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ النَّارَ; لِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ عِيسَى هَذَا

الْكَلَامُ وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللهِ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ وَالِاعْتِرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَا خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يَعْنِي أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ، لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْكَ، فَمَنْ أَنَا وَالْخَوْضُ فِي أَحْوَالِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ " فَنَقُولُ: إِنَّ غُفْرَانَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللهِ عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللهِ مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا. بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَصِحَاحِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ لَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى تَفْصِيلِهَا وَتَرْجِيحِ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ فِي مَوْضُوعِ إِثْبَاتِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ضِدِّهِمَا، وَلَا إِلَى بَيَانِ كَوْنِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَحَقَّقَا فِيمَنْ لَا فَرْقَ فِي أَفْعَالِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الضِّدَّانِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ سَوَاءً. وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ حَاصِلَ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجِيزُ وَيَسْتَحْسِنُ الْغُفْرَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْهُ فِي شَرْعِهِ. وَهَذَا يُخَالِفُ نَصَّ قَوْلِهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ دِينِ اللهِ الْوَاحِدِ، فِي هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَأَنْ تَكُونَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ مِنْ مِلَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَالنُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهَا بِهَذِهِ السَّعَةِ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ غُفْرَانِ الشِّرْكِ لَوْ كَانَ مِمَّا يَشْرَعُهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ; لَأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهَا هُوَ الَّذِي خَاطَبَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) وَقَالَ فِيهِ إِنَّهُ يَضَعُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ أَجْوِبَتِهِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَوْبَةِ مَنْ قَالُوا ذَلِكَ الْكُفْرَ، وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، وَلَوْ صَحَّ لَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تُقْرَنَ الْمَغْفِرَةُ لِلتَّائِبِينَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا بِذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي الْآيَاتِ كَانَا بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ (قَالَ فِي تَصْوِيرِهِ) يَعْنِي: إِنْ تَوَفَّيْتَهُمْ

عَلَى الْكُفْرِ وَعَذَّبْتَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ فَلَكَ ذَاكَ، وَإِنْ أَخْرَجْتَهُمْ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَغَفَرْتَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فَلَكَ أَيْضًا ذَاكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَضْعَفُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَجَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ مِنَ الْوُجُوهِ ضَعِيفٌ، وَمَا كَانَ لِيَخْفَى ضَعْفُهَا بَلْ سُقُوطُهَا وَبُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهَا عَلَى ذَكَائِهِ النَّادِرِ، وَاطِّلَاعِهِ الْوَاسِعِ، لَوْلَا عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ مَقْصِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَى تَفْسِيرِهِ، وَشَرْحِ نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ بِأَوْضَحِ تَبْيِينٍ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَاهُ أَنَّ كَلَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنَ الشَّفَاعَةِ لِقَوْمِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ (مِنْهَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (14: 36) الْآيَةَ. وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرَائِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ " (وَمِنْهَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ فِيهِ: " أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (الْحَكِيمُ) قَالَ فَيُقَالُ: " إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةٌ " فَأَقُولُ بُعْدًا لَهُمْ وَسُحْقًا " وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ فِي أَلْفَاظِهَا بَعْضُ اخْتِلَافٍ لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى. مِنْهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَادُونَ، أَيْ يُطْرَدُونَ عَنِ الْحَوْضِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ، فَقِيلَ: هُمُ ارْتَدَوْا بَعْدَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُبْتَدَعَةُ. (وَمِنْهَا) حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) إِلَخْ. حَتَّى أَصْبَحَ يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ فَسَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي سُبْحَانَهُ الشَّفَاعَةَ فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ". فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ التَّفْوِيضِ غَيْرُ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ وَأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنَالُ أَحَدًا يُشْرِكُ بِاللهِ تَعَالَى شَيْئًا، وِفَاقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ

119

فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَوِفَاقًا لِلْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِإِطْلَاقٍ أَوْ تَنْفِي قَبُولَهَا، أَوْ تُقَيِّدُهَا عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) . بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْوِيضِ عِيسَى أَمْرَ قَوْمِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْبَلِيغَةِ، فِي إِثْرِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ السَّدِيدَةِ، تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَتَسْأَلُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ إِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " يَوْمُ " بِالرَّفْعِ وَهُوَ خَبَرُ هَذَا، أَيْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ وَشَهَادَاتِهِمْ، وَفِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ أَيْ قَالَ اللهُ: هَذَا أَيِ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى وَاقِعٌ أَوْ كَائِنٌ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا النَّفْعَ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا مِرَارًا، وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ بَيَانٌ لِلنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ النَّعِيمِ الْجُثْمَانِيِّ، فَإِنَّ رِضَا اللهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ هُوَ غَايَةُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عَطَايَاهُ تَعَالَى وَإِكْرَامِهِ، وَمِنْ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ نَاعِمِينِ بِذَلِكَ الْإِكْرَامِ مُغْتَبِطِينَ بِهِ، إِذْ لَا مَطْلَبَ لَهُمْ أَعْلَى مِنْهُ فَتَشْتَدُّ أَعْنَاقُهُمْ إِلَيْهِ وَتَسْتَشْرِفُ قُلُوبُهُمْ لَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ رِضَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ سَعَادَةً فِي نَفْسِهِ فَيُعْلَمُ مِنْ حَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ فِي كَنَفِ إِنْسَانٍ وَالِدٍ أَوْ أُسْتَاذٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ رَئِيسٍ أَوْ سُلْطَانٍ، فَإِنَّ عِلْمَهُ بِرِضَاهُ عَنْهُ يَجْعَلُهُ فِي غِبْطَةٍ وَهَنَاءٍ وَطُمَأْنِينَةِ قَلْبٍ، وَيَكُونُ سُرُورُهُ وَزَهْوُهُ بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مُقَامِ رَئِيسِهِ الرَّاضِي عَنْهُ، عَلَى حَدِّ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ بِهِ الصُّوفِيَّةُ: قَوْمٌ تَخَالَجَهُمْ زَهْوٌ بِسَيِّدِهِمْ ... وَالْعَبْدُ يُزْهَى عَلَى مِقْدَارِ مَوْلَاهُ. عَلَى أَنَّ مَرْضَاةَ رُؤَسَاءِ الدُّنْيَا لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاءَ الْمَرْءُوسِينَ دَائِمًا; لِأَنَّ مِنْهُمُ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا يُوفُونَ أَحَدًا حَقَّهُ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ عَنْهُ، وَرَضْوَانُ أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ يَسْتَلْزِمُ رِضَا مَنْ رَضِيَ هُوَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُعْطِيهِ أَضْعَافَ مَا يَسْتَحِقُّ، وَفَوْقَ مَا يُؤَمِّلُ وَيَرْجُو، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (32: 17) وَرِضْوَانُهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِمَعْنَى مَا هُنَا: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (9: 72) .

وَالْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ مَعَ النَّجَاةِ مِنْ ضِدِّهِ. أَوْ مِمَّا يَحُولُ دُونَهُ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَوْزُ الظَّفَرُ بِالْخَيْرِ مَعَ حُصُولِ السَّلَامَةِ فَمَعْنَاهُ مُرَكَّبٌ مِنْ سَلْبٍ وَإِيجَابٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدَ فَازَ) (3: 185) وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَآيَةِ التَّوْبَةِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا وَمَا يُشَابِهُهَا مُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى السَّلْبِيُّ بِالْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي يَغْلِبُ عَدْوَّهُ وَيَظْفَرُ بِالْغَنَائِمِ مِنْهُ! إِنَّهُ فَازَ، وَهُوَ إِذَا نَالَ مُرَادَهُ مِنْ هَدْمِ قَلْعَةٍ وَدَكِّ حِصْنٍ فَهَلَكَ تَحْتَ أَنْقَاضِهِ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ قَدْ فَازَ، وَإِذَا كَانَ الْمُهِمُّ فِي الْفَوْزِ الْمَعْنَى الْإِيجَابِيَّ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: فَازَ بِكَذَا، وَإِذَا كَانَ الْمُهِمُّ بَيَانَ الْمَعْنَى السَّلْبِيِّ يُعَدَّى بِمَنْ فَيُقَالُ: فَازَ مِنَ الْهَلَاكِ قَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) (3: 188) وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْفَلَاةُ مَفَازَةً عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ بِالْهَلَاكِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إِلَى كُلٍّ مِنَ النَّعِيمَيْنِ الْجُثْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ اللَّذَيْنِ يَحْصُلَانِ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلثَّانِي فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ وَرَدَ فِي إِثْرِ إِطْلَاقِ الْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَحْدَهَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ غَيْرَ الْآيَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا، وَفِي إِثْرِ إِطْلَاقِ الْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ مَعَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ كَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْحَدِيدِ وَالصَّفِّ وَالتَّغَابُنِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَغْفِرَةِ فِيهَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. فَنَسْأَلُ اللهَ الْكَرِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَتَوْفِيقِنَا لِأَسْبَابِ مَرْضَاتِهِ. ثُمَّ خَتَمَ جَلَّ جَلَالُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً وَمُنَاسِبٌ لِأَنْ يَكُونَ خِتَامًا لِمَجْمُوعِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمَّا بَيَّنَ مَا لِأَهْلِ الصِّدْقِ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَقِّ فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ، بَيَّنَ عَقِبَهُ سَعَةَ مُلْكِهِ وَعُمُومَ قُدْرَتِهِ الدَّالِّينَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَبَسْطِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ أَقْوَالِ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمْ خَاصَّةً، وَسَائِرُهَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مَعَ النَّصِّ عَلَى إِكْمَالِ الدِّينِ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى وَحْدَةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ لِلْأُمَمِ وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ ذَيْنِكَ الْقِسْمَيْنِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَقَفَّى عَلَيْهِمَا بِذِكْرِ جَمْعِ اللهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسُؤَالِهِمْ عَنِ التَّبْلِيغِ، وَجَوَابِ أَحَدِهِمُ الدَّالِّ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِالْحَقِّ، وَتَفْوِيضِ أَمْرِهِمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ كَمَا ذَكَرَ نَاسَبَ أَنْ نَخْتِمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِبَيَانِ كَوْنِ الْمُلْكِ كُلِّهِ وَالْقُدْرَةِ كُلِّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَقَدِ اخْتِيرَتْ كَلِمَةُ " مَا " فِي قَوْلِهِ " وَمَا فِيهِنَّ " عَلَى " مَنْ " الْخَاصَّةِ بِمَنْ يَعْقِلُ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْلِكَ; لِأَنَّ مَدْلُولَهَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَلِلْإِشَارَةِ

إِلَى أَنَّ يَوْمَ الْجَزَاءِ الْحَقِّ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، فَلَا يَمْلِكُ مَعَهُ أَحَدٌ شَيْئًا، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَسِيحُ وَأَمُّهُ اللَّذَانِ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَتَضَمَّنُ الْحَصْرُ التَّعْرِيضَ بِعِبَادَتِهِمَا، وَبِالِاتِّكَالِ عَلَى شَفَاعَتِهِمَا، إِذِ الْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (21: 26 29) . صَدَقَ اللهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. خُلَاصَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ انْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِعِدَّةِ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَبِتَفْصِيلِ عِدَّةِ أَحْكَامٍ أُجْمِلَتْ فِي غَيْرِهَا إِجْمَالًا، وَأَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، وَنَحْنُ نُذَكِّرُ قَارِئَ تَفْسِيرِنَا بِخُلَاصَتِهَا مُرَاعِينَ مُنَاسَبَةَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِبَعْضٍ لَا عَلَى تَرْتِيبِ وُرُودِهَا فِي السُّورَةِ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ) . (1) أَهَمُّ الْأُصُولِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا السُّورَةُ، بَيَانُ إِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ دِينَهَمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ [رَاجِعْ ص 128 139 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (2) النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسُوءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّكَالِيفِ مَثَلًا [رَاجِعْ ص 101 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] . وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَلَازِمَتَيْنِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ دِينِيٍّ مِنَ اعْتِقَادٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً وَلَمْ تَمْضِ بِهِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ، بِحَيْثُ يُطَالَبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ دَلَالَةً غَيْرَ صَرِيحَةٍ وَمِنْهُ أَكْثَرُ مَا اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي دَلَالَتِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْحُكْمَ لَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. (3) بَيَانُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الْكَامِلَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْهِدَايَةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ لَا يَقْبَلُهُ اللهُ تَعَالَى، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ 104 [رَاجِعْ ص 172 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَتَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (4) بَيَانُ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ هِيَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَمَنْ أَقَامَهَا كَمَا أَمَرَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَيَّةِ مِلَّةٍ مِنْ مِلَلِ الرُّسُلِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [رَاجَعَ ص 394 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] وَتَقَدَّمَ لَكَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (5) وَحْدَةُ الدِّينِ وَاخْتِلَافُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْهَجِهِمْ فِيهِ. (6) هَيْمَنَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ [رَاجِعْ ص 339 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (7) بَيَانُ عُمُومِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ وَكَوْنِهِ لَا يُكَلَّفُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَّا التَّبْلِيغَ. وَأَنَّ مِنْ حُجَجِ رِسَالَتِهِ أَنَّهُ بَيَّنَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مَنْ كُتُبِهِمْ وَهُوَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا ضَاعَ مِنْهُ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمُبَيَّنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ بِإِنْزَالِهِ فِيهَا. (وثَانِيهِمَا) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ مَعَ وُجُودِهِ فِي الْكِتَابِ كَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّا كُلًّا مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَوْلَا أَنَّ مُحَمَّدًا الْأُمِّيَّ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ. (8) عِصْمَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَضُرُّوهُ أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا، فَكَمْ حَاوَلُوا قَتْلَهُ فَأَعْيَاهُمْ وَأَعْجَزَهُمْ [رَاجِعْ ص 391، 392 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (9) بَيَانُ أَنَّ اللهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِصْلَاحَ أَنْفُسِهِمْ أَفْرَادِهَا وَجَمَاعَتِهَا. وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ إِذَا هُمُ اسْتَقَامُوا عَلَى صِرَاطِ الْهِدَايَةِ، أَيْ لَا يَضرُّهُمْ ضَلَالُهُ فِي دُنْيَاهُمْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ لَهُ سَبِيلًا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِكْرَاهَ النَّاسِ عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَلَا أَنْ يَخْلُقُوا لَهُمُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. (10) تَأْكِيدُ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ لَعْنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَتَعْلِيلِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. (11) نَفْيُ الْحَرَجِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. [رَاجِعْ ص 214، 223 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (12) تَحْرِيمُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ وَلَوْ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِي الطَّيِّبَاتِ. [رَاجِعْ ص 405 ج 6، 16 28 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] . (13) قَاعِدَةُ إِبَاحَةِ الِاضْطِرَارِ لِلْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ فِيمَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ كَالطَّعَامِ وَمِنْهُ أَخَذَ الْفُقَهَاءُ قَوْلَهُمْ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ [رَاجِعْ ص 139 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] .

(14) قَاعِدَةُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ وَكَوْنِهِمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ. وَعَلَى عَدَمِ اسْتِوَاءِ جَزَاءِ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ [رَاجِعْ ص 103 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَمَا كَانَ تَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ وَبَيَانُ حِكْمَتِهَا وَفَائِدَتِهَا إِلَّا لِأَجْلِ تَوَخِّيهَا كَأَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَبَعْضِ الطَّعَامِ وَأَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ وَإِقْسَامِ الشُّهَدَاءِ الْيَمِينَ وَإِنَّكَ لَتَجِدُ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ لِإِعْرَاضٍ عَنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَأَسْرَارِ السُّنَّةِ قَدْ جَعَلُوا أَمْرَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ تَعَبُّدِيًّا مَحْضًا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَافَةَ فِعْلًا وَلَا قَصْدًا، وَزَعَمُوا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً، فَمَا الْقَوْلُ فِي فَهْمِهِمْ لِسَائِرِ الْأَحْكَامِ؟ ! . (15) تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى قَوْمٍ بِسَبَبِ بُغْضِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَلَا يَكُونُوا كَأَهْلِ السِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ. [رَاجِعْ ص 106، 107، 227 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (16) وُجُوبُ الشَّهَادَةِ بِالْقَسَمِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لِلْأَعْدَاءِ عَلَى الْأَصْدِقَاءِ، وَتَأْكِيدُ وُجُوبِ الْعَدْلِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ. [رَاجِعْ ص 226، 326، 341، 348 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . (17) الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الَّتِي يَتَعَاقَدُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ أَمْرَ الْعُقُودِ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ بِهَا إِلَى عُرْفِهِمْ وَمُوَاضَعَاتِهِمْ; لِأَنَّهَا مِنْ مَصَالِحِهِمُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَلَمْ يُقَيِّدْهُمْ فِي أَحْكَامِهَا وَشُرُوطِهَا بِقُيُودٍ دَائِمَةٍ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ وَالْعُرْفُ، كَتَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ، فَكُلُّ عَقْدٍ يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ النَّاسُ لَمْ يُحِلَّ حَرَامًا وَلَمْ يُحَرِّمْ حَلَالًا مِمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَلَوِ اقْتِضَاءً فَهُوَ جَائِزٌ. (18) إِيجَابُ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْهُ تَأْلِيفُ الْجَمَاعَاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَتَحْرِيمُ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. (19) بَيَانُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَهُوَ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ بِاعْتِبَارٍ وَشَرْعِيٌّ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ الْوَاسِعِ الْمُحِيطِ بِالْأَشْيَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. (20) النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكَافِرِينَ وَبَيَانُ أَنَّ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقَلْبِ

الْمُسَارَعَةَ فِي مُوَالَاتِهِمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، خَوْفًا أَنْ تَدُورَ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَتَكُونَ لَهُمْ يَدٌ عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ يَسْتَفِيدُونَ بِهَا مِنْهُمْ. [رَاجِعْ ص 352، 353، 367، 368 ط الْهَيْئَةِ] . (21) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مَعَ بَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَ النَّاسَ وَيُزَكِّيَهُمْ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا. وَشُمُولُ الطِّهَارَةِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ لِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ كُلَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ عَشْرَةَ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَحَرَّى بِأَدَاءِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْحِكْمَةُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الطَّهَارَةِ مَذْمُومَةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَصِّ الشَّرْعِ وَمَقْصِدِهِ. (22) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ حَلَالِ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ وَبَيَانُ مَا حُرِّمَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَالْخِنْزِيرِ وَمَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ دِينِيٍّ كَالَّذِي يُذْبَحُ لِلْأَصْنَامِ. (23) تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهُوَ كُلُّ مُسْكِرٍ، وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْمُضَارَبَاتِ. (24) أَحْكَامُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ. (25) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ وَأَوَاخِرِهَا. (26) حُدُودُ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ كَسُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ بِشَرْطِهِ. (27) أَحْكَامُ الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتُهَا وَأَيْمَانُ الْأُمَنَاءِ وَالشُّهُودِ. (28) تَأْكِيدُ أَمْرِ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَحْكَامُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَفِي قَضَايَاهَا وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَإِنَّنَا بَعْدَ الْإِطَالَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ فِيهَا لَخَّصْنَا مَسَائِلَهَا فِي 15 مَسْأَلَةً. (29) الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَدْخُلُ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ صَلَاحَ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامِهَا، وَإِنَّمَا يُرْجَى بِتَكْرَارِ الْأَمْرِ بِهَا فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ. (30) بَيَانُ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَقْرُونًا بِتَعْلِيلِهِ وَدَلِيلِهِ، وَكَوْنِ النَّافِعِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الصِّدْقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهِ.

(الْقِسْمُ الثَّانِي) (مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِجَاجِ وَالْأَحْكَامِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ) . مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ خَاصَّةً. فَمِنَ الْمُشْتَرَكِ: وَصْفُهُمْ بِالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّعَصُّبِ الضَّارِّ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ مَنْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِالْغَرُورِ فِي دِينِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَبِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ نَقَضُوا مِيثَاقَ رَبِّهِمْ وَنَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَنَّدَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ بِمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا وَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَهِيَ أَنَّهُمْ بَشْرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اللهُ، لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ; لِأَنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَمْتَازُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي هِدَايَتِهِمْ. وَذَكَرَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلْقَاءَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِذُنُوبِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ كَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْحَضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَدَعَاهُمْ كَافَّةً لِلْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ دِينِهِمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ، وَدَحَضَ مَا زَادُوا فِيهِ بِالْبُرْهَانِ، وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا كَانُوا يُخْفُونَ أَوْ يَجْهَلُونَ مِنْهُ أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَوَصَفَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَحْسَنَ وَصْفٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِ التَّوْرَاةِ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، وَمِنْ أَحْكَامِهَا عُقُوبَاتُ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَقَامُوهُمَا لَكَانُوا فِي أَحْسَنِ حَالٍ، وَلَسَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُصَدِّقًا لِأَصْلِهِمَا، وَمُبَيِّنًا لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا، وَمُكَمِّلًا لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ، الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فِي الْبَشَرِ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْإِسْلَامَ هُزُؤًا وَلَعِبًا فِي جُمْلَتِهِ وَفِي صَلَاتِهِ، وَوَالَوْا عَلَيْهِ الْمُنَاصِبِينَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً نَعْيًا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا لِسُوءِ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ الَّذِي

أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِمْ وَنَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَرَكُوا الْحُكْمَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخْفَوْا بَعْضَ أَحْكَامِهَا، وَحَكَّمُوا الرَّسُولَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ الْمُوَافِقِ لَهَا، وَأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِمْ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ، وَالْخِيَانَةَ وَالْمَكْرَ، وَالْكَذِبَ وَقَوْلَ الْإِثْمِ، وَالْمُبَالَغَةَ فِي سَمَاعِ الْكَذِبِ وَأَكْلَ السُّحْتِ، وَالسَّعْيَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي إِيقَادِ نَارِ الْفِتَنِ وَالْحَرْبِ. وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى إِذْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَقِتَالِ الْجَبَّارِينَ فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِالتِّيهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى أَنَّهُمْ يُوَالُونَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بِسَبَبِ مَا وَرِثُوهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنِ الْغَابِرِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِاللَّعْنِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَبِالْغَضَبِ وَالْمَسْخِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ وَقَبْلَهُ تُثْبِتُهَا تَوَارِيخُهُمْ وَتَوَارِيخُ غَيْرِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً فِيهِمْ وَلَا شَامِلَةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ، فَقَدْ أَنْصَفَهُمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (5: 66) وَبَيَّنَّا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَا كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسَاعَدَةِ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ لِعَدْلِهِمْ فِيهِمُ عَلَى النَّصَارَى الظَّالِمِينَ لَهُمْ. وَمِمَّا جَاءَ فِي النَّصَارَى خَاصَّةً أَنَّهُمْ نَسُوا كَالْيَهُودِ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِبَرَاءَةِ الْمَسِيحِ مِنْهَا وَمِنْ مُنْتَحِلِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْمَسِيحِ وَأَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرَوْحٌ مِنْهُ، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَحَالَ حَوَارِيِّيهِ وَتَلَامِيذِهِ فِي الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (5: 82) فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ السَّابِعِ. وَجُمْلَةُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ تَشْهَدُ لِنَفْسِهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مُوَافِقَةً لَهَا وَلَهُمْ مُوَافَقَةَ النَّاقِلِ لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْكُمُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ وَفِي كُتُبِهِمْ حُكْمَ الْمُهَيْمِنِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ

أَحْكَامُ السُّورَةِ الْخَاصَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَشَرَعَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ نَاصَبُوا الْإِسْلَامَ بِالْعَدَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِأَشَدِّ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَاهَا. وَلَكِنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، أَمَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِمُعَامَلَتِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَحَكَمَ بِحِلِّ مُؤَاكَلَتِهِمْ، وَتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي شَرَعَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ الْفُضْلَى لَهُمْ نَزَلَتْ بَعْدَ إِظْهَارِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مُنْتَهَى الْعَدَاوَةِ وَالْغَدْرِ، وَبَعْدَ أَنْ نَاصَبُوهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ الْحَرْبَ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، وَاكْتِسَابَ مَوَدَّتِهِمْ [رَاجِعْ ص 161، 162 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى السُّورَةَ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهَا كُلَّهَا، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ آيَةٍ مِنْهَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ " حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ السُّوَرِ بِرُمَّتِهَا وَمِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ كُلٌّ يَرْوِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. (تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ) . (يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ تَعَالَى لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ 1334 هـ وَكُنْتُ بَدَأْتُ بِتَفْسِيرِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ سَنَةِ 1331 وَسَبَبُ هَذَا الْبُطْءِ أَنَّنِي أَكْتُبُ التَّفْسِيرَ لِيُنْشَرَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ فَتَارَةً أُفَسِّرُ فِي الْجُزْءِ مِنْهُ بِضْعَ آيَاتٍ، وَتَارَةً أُفَسِّرُ آيَةً وَاحِدَةً فِي عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَقَدْ يَمُرُّ شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا أَكْتُبُ فِي التَّفْسِيرِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَنْعِ الْعَوَائِقِ وَالْمُبَارَكَةِ فِي الْوَقْتِ وَأَنْ يُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحٍ مِنْ عِنْدِهِ) . أَمْرَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى

سُورَةُ الْأَنْعَامِ. (وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ، وَآيَاتُهَا 165 عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ الْحُكُومَةِ الْمِصْرِيَّةِ وَفُلُوجَلَ و166 عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ و167 عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ) . هِيَ مَكِّيَّةٌ قِيلَ: إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) (111) فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْمَدِينَةِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَنَزَلَ فِيهِمْ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (91) الْآيَتَيْنِ رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَسُفْيَانَ وَقِيلَ: هُمَا (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) (151) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَا قَبْلَهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا (قُلْ تَعَالَوْا) الْآيَتَيْنِ فَمَعْنَاهُمَا مِنْ مَوْضُوعِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَهُمْ مُتَّصِلَتَانِ بِمَا بَعْدَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ الثَّالِثةَ بَعْدَهُمَا مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ النَّحَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا وَقِيلَ: إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا وَ (قُلْ تَعَالَوْا) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا: وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: اسْتَثْنَى مِنْهَا تِسْعَ آيَاتٍ وَلَا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ، خُصُوصًا مَعَ مَا قَدْ وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً (قُلْتُ) قَدْ صَحَّ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاسْتِثْنَاءِ (قُلْ تَعَالَوْا) الْآيَاتِ الثَّلَاثَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَوَاقِي (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) (21، 93) الْآيَتَيْنِ، نَزَلَتَا فِي مُسَيْلِمَةَ. وَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) (20) وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (114) اهـ. أَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ كَانَتْ تَصْدُقُ عَلَى وَقَائِعَ تَحْدُثُ بَعْدَ نُزُولِهَا أَوْ قَبْلَهُ لِلِاسْتِشْهَادِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنْهَا، فَيَظُنُّ مَنْ سَمِعَهَا حِينَئِذٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ الصَّحَابَةُ: إِنَّ آيَةَ كَذَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْأَمْرِ أَوْ حُكْمِهِ أَوْ دَالَّةً عَلَيْهِ، فَيَظُنُّ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهَا عِنْدَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالصَّحَابِيُّ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَالزَّرْكَشِيِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ. وَلَمَّا كَانَ وُجُودُ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ أَوْ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خِلَافَ الْأَصْلِ، فَالْمُخْتَارُ عَدَمُ قَبُولِ الْقَوْلِ بِهِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةِ السَّنَدِ صَرِيحَةِ

الْمَتْنِ سَالِمَةٍ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالِاحْتِمَالِ، وَإِنَّنَا لَمْ نَرَهُمْ صَحَّحُوا مِمَّا رَوَاهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي اسْتِثْنَاءِ ثَلَاثِ آيَاتٍ هُنَّ مِنْ مَوْضُوعِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا لَنَا الرِّوَايَةَ بِنَصِّهَا لَمَا وَجَدْنَا فِيهَا حُجَّةً عَلَى مَا قَالُوا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي نُزُولِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَفِي الْإِتْقَانِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبِيدٍ والطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، وَفِي كُلِّ رِوَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا نَزَلَتْ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَّا أَثَرَ مُجَاهِدٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مَلَكٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: فَهَذِهِ شَوَاهِدُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَقَالَ: وَلَمْ نَرَ لَهُ إِسْنَادًا صَحِيحًا، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُخَالِفُهُ، فَرُوِيَ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً بَلْ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا فَقِيلَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى آخَرِينَ أَخْرَجُوهُ أَيْضًا عَمَّنْ ذَكَرَ وَعَنْ أَنَسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ وَأَبِي جُحَيْفَةَ وَعَلِيٍّ الْمُرْتَضَى، فَكَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلرَّأْيِ فَتَكُونُ اجْتِهَادِيَّةً، وَلَا لِلْهَوَى فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً، وَلَا لِغَلَطِ الرُّوَاةِ فَتَكُونُ مَعْلُولَةً لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ صَحِيحٌ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُنَاقِضِ لِتِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِنُزُولِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ " وَإِنَّمَا مُرَادُ ابْنِ الصَّلَاحِ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَرِوَايَةُ نُزُولِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَرْجَحُ بِمُوَافَقَتِهَا لِلْأَصْلِ وَبِكَوْنِهَا مُثْبَتَةً، وَرِوَايَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَاسْتَثْنَى كَابْنِ عَبَّاسٍ (وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ) وَإِذْ كَانَ مَا صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ مِنَ اسْتِثْنَاءِ ثَلَاثِ آيَاتٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ النَّحَّاسِ عَنْهُ فِي نَاسِخِهِ فَقَدِ انْحَلَّ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ نَصَّ عِبَارَتِهِ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ) إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ اهـ. فَقَدْ صَحَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ إِذًا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الطَّوِيلَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا نَصٌّ تَوْقِيفِيٌّ عُرِفَ أَصْلُهُ الْمَرْفُوعُ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِيهِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ رَأْيِهِ أَوْ رَأْيِ مَنْ رَوَى هُوَ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَرْوِيًّا عَنْهُ بِالْمَعْنَى وَيَكُونُ بَعْضُ

الرُّوَاةِ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا فَقُصَارَاهُ أَنَّ السُّورَةَ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً أُلْحِقَ بِهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ مِمَّا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ وَلَا سُوَرِ الْمِئَيْنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً; لِأَنَّ مَا اشْتُهِرَ نُزُولُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرَ هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّهُ مِنَ الْمُفَصَّلِ (وَسُوَرُ الْمُفَصَّلِ مِنْ " ق " أَوِ " الْحُجُرَاتِ " إِلَى آخِرِ الْمُصْحَفِ فِي الْأَشْهَرِ) وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (26: 214) نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطُونَ قُرَيْشٍ وَأَنْذَرَهُمْ عَمَلًا بِالْآيَةِ قَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: تَبَّتْ يَدَاكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) (111: 1) السُّورَةَ، وَإِنَّمَا يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَ هَذَا مُرْسَلًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا لِنُزُولِ آيَةِ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ) مُرْسَلَةً وَكِلْتَاهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ مَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي إِلَى الْقَوْلِ بِضَعْفِ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَوْلِ بِنُزُولِهَا جُمْلَةً وَأَنَّهُ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِهَا: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ؟ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ حِكَايَةِ الْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ الْإِشْكَالُ (أَوَّلًا) بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبًا، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي زُهَاءِ عَشْرٍ مِنْ آيَاتِهَا. (وَثَانِيًا) أَنَّ مَا قِيلَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ بَعْضُهُ لَا يَصِحُّ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ مُتَفَرِّقَةً، وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّ آيَةَ كَذَا نَزَلَتْ فِي كَذَا أَوْ فِي قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ، فَإِذَا صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَالْأَقْوَالِ مُبَيِّنَةً حُكْمَ اللهِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي نُزُولَهَا دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ السُّورَةِ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْرَ حَاجَتِهِمْ وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي. اهـ. وَمُرَادُهُ بِالْأُصُولِ عَقَائِدُ الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ

الْمُتَكَلِّمِينَ وَفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَلَامِ عَنِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِهَا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْآلُوسِيِّ فَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، فَإِنَّ لَقَبَ " الْإِمَامِ " إِذَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ مَنْ بَعْدَ الرَّازِيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. وَفِي فَتْحِ الْبَيَانِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدِّينِ اهـ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: مَنْ نَظَرَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ كُلِّهَا فِي الْمُصْحَفِ يَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقِصَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمِنْ حِكْمَتِهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَالنَّاسُ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَتِهِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ إِلَى الْمِئِينَ فَالْمَثَانِي فَالْمُفَصَّلِ أَنْفَى لِلْمَلَلِ وَأَدْعَى إِلَى النَّشَاطِ، وَيَبْدَءُونَ بِحِفْظِهِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الطِّوَالِ وَالْمِئِينَ وَالْمُفَصَّلِ تَقْدِيمًا لِسُوَرٍ قَصِيرَةٍ عَلَى سُورٍ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ إِنَّهُ قَدْ رُوعِيَ التَّنَاسُبُ فِي مَعَانِي السُّوَرِ، مَعَ التَّنَاسُبِ فِي الصُّوَرِ، أَيْ مِقْدَارِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ أَرْبَعٌ السُّوَرُ الطُّولَى، وَهِيَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الَّتِي لَا يُرَاعَى مُنَاسَبَتُهَا لِمَا بَعْدَهَا وَحْدَهُ; إِذْ هِيَ فَاتِحَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَهَذِهِ السُّوَرُ الْأَرْبَعُ مَدَنِيَّةٌ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّنَاسُبِ فِي التَّرْتِيبِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُنَّ سُورَتَا الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ الْمَكِّيَّتَانِ، وَبَعْدَهُمَا سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ الْمَدَنِيِّتَانِ، وَيَقَعَانِ فِي أَوَائِلِ الرُّبُعِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ سُوَرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلُّهُ مَكِّيٌّ، وَسُوَرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ أَيْضًا إِلَّا سُورَةَ النُّورِ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَإِلَّا سُورَةَ الْحَجِّ فَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَالتَّحْقِيقُ إِنَّهَا مُخْتَلِطَةٌ، وَأَمَّا الرُّبُعُ الرَّابِعُ فَهُوَ مُخْتَلِطٌ وَأَكْثَرُهُ سُوَرُ الْمُفَصَّلِ الَّتِي تُقْرَأُ كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي بَيَانُ مُنَاسِبَةِ جَعْلِ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّةِ الْأُولَى وَقَبْلَ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا ثُمَّ مُنَاسِبَةِ الْأَنْعَامِ لِلْمَائِدَةِ خَاصَّةً. سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ، فَفِيهَا بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَبَيَانُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَبَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ، وَمُحَاجَّةِ الْجَمِيعِ وَبَيَانُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ

الْمَالِيَّةِ وَالْقِتَالِ وَالزَّوْجِيَّةِ، وَالسُّوَرُ الطِّوَالُ الَّتِي بَعْدَهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا، فَالثَّلَاثُ الْأَوْلَى مِنْهَا مُفَصِّلَةٌ لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّ الْبَقَرَةَ أَطَالَتْ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ أَطَالَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى فِي نِصْفِهَا الْأَوَّلِ، وَسُورَةُ النِّسَاءِ حَاجَّتْهُمْ فِي أَوَاخِرِهَا، وَاشْتَمَلَتْ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى بَيَانِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ أَتَمَّتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ مُحَاجَّةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَفِيمَا يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْعَقَائِدِ هُوَ الْأَهَمُّ الْمُقَدَّمُ فِي الدِّينِ، وَكَانَ شَأْنُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهِ أَعْظَمَ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ، قُدِّمَتِ السُّوَرُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مُحَاجَّتِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ، وَنَاسَبَ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَهَا مَا فِيهِ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّفْصِيلِ وَتِلْكَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ لَمْ تَسْتَوْفِ ذَلِكَ سُورَةٌ مِثْلُهَا، فَهِيَ مُتَمِّمَةٌ لِشَرْحِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ، وَجَاءَتْ سُورَةُ الْأَعْرَافِ بَعْدَهَا مُتَمِّمَةً لِمَا فِيهَا وَمُبَيِّنَةً لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَشُئُونِ أُمَمِهِمْ مَعَهُمْ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَلَكِنْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ فَصَّلَتِ الْكَلَامَ فِي إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ، وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ فَصَّلَتِ الْكَلَامَ فِي مُوسَى الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَيَتَّبِعُ شَرِيعَتَهُ جَمِيعُ أَنْبِيَائِهِمْ حَتَّى عِيسَى الْمَسِيحُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَمَّا تَمَّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا مَا يُتِمُّ مَا أَجْمَلَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَا سِيَّمَا أَحْكَامَ الْقَتَّالِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ قَدْ فَصَّلَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَكَانَتْ سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ هُمَا الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِذَلِكَ وَبِهِمَا يَتِمُّ ثُلُثُ الْقُرْآنِ. وَقَدْ عُلِمَ بِمَا شَرَحْنَاهُ أَنَّ رُكْنَ الْمُنَاسَبَةِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ أَنَّ الْمَائِدَةَ مُعْظَمُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَنْعَامِ مُعْظَمُهَا بَلْ كُلُّهَا فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ ذَكَرَتْ أَحْكَامَ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ اللهِ وَالذَّبَائِحِ بِالْإِجْمَالِ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ ذَكَرَتْ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ وَهِيَ قَدْ أُنْزِلَتْ أَخِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا فِي الْمَائِدَةِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ. هَذَا مَا أَرَاهُ مِنْ وُجُوهِ التَّنَاسُبِ فِي الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي شَرَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مُطْلَقًا. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ تَصَفُّحِ آيَاتِ السُّورَةِ فَرَأَيْتُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ: " وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِآخِرِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِالْحَمْدِ وَتِلْكَ اخْتُتِمَتْ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (39: 75) وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي وَجْهِ الْمُنَاسِبَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ.

120

الْمَائِدَةِ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ) عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، افْتَتَحَ جَلَّ شَأْنُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِشَرْحِ ذَلِكَ وَتَفْصِيلِهِ، فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَضَمَّ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وَهُوَ بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ مَا فِيهِنَّ، ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ اسْمُهُ أَنَّهُ خَلَقَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ وَقَضَى لَهُ أَجَلًا وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا آخَرَ لِلْبَعْثِ، وَأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُنْشِئُ الْقُرُونِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إِلَخْ. فَأَثْبَتَ لَهُ مِلْكَ جَمِيعِ الْمَظْرُوفَاتِ لِظَرْفِ الْمَكَانِ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) فَأَثْبَتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مَلَكَ جَمِيعَ الْمَظْرُوفَاتِ لِظَرْفِ الزَّمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، ثُمَّ خَلْقَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَلْقِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ النَّيِّرَيْنِ وَالنُّجُومِ وَفَلْقِ الْإِصْبَاحِ وَفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ بِأَنْوَاعِهَا وَإِنْشَاءِ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرِ مَعْرُوشَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا فِيهِنَّ. " وَذَكَرَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَجْهًا آخَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (5: 87) إِلَخْ. وَذَكَرَ جَلَّ شَأْنُهُ بَعْدَهُ (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) إِلَخْ. فَأَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى افْتِرَاءً عَلَى اللهِ عَزَّ شَأْنُهُ، وَكَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَرِّمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيُشَابِهُوا الْكُفَّارَ فِي صُنْعِهِمْ، وَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ سَاقَ جَلَّ جَلَالُهُ هَذِهِ السُّورَةَ لِبَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي صُنْعِهِمْ فَأَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْيَنِ وَالنَّمَطِ الْأَكْمَلِ، ثُمَّ جَادَلَهُمْ فِيهِ وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى بُطْلَانِهِ وَعَارَضَهُمْ وَنَاقَضَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ شَرْحًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ السُّورَةُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَفْصِيلًا وَبَسْطًا وَإِتْمَامًا وَإِطْنَابًا، وَافْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْخَلْقِ وَالْمُلْكِ; لِأَنَّ الْخَالِقَ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مُلْكِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ إِبَاحَةً وَمَنْعًا وَتَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، فَيَجِبُ أَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ. " وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا اعْتِلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ بِالْفَاتِحَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَبِالْبَقَرَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (2: 21) وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: (الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَبِآلِ عِمْرَانَ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهَا لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (3: 14) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (3: 185) إِلَخْ. وَبِالنِّسَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهَا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَالتَّقْبِيحِ لِمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَتْلِ الْبَنَاتِ، وَبِالْمَائِدَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَطْعِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا. " وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قُطْبُ هَذِهِ السُّورَةِ دَائِرًا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلَّ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ نَاسَبَتْ تِلْكَ

الأنعام

السُّورَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا إِبْطَالَ أُلُوهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَوْبِيخَ الْكَفَرَةِ عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ وَافْتِرَائِهِمُ الْبَاطِلِ. " وَهَذَا ـ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِعَمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا تَفُوتُ الْحَصْرَ، وَلَا يُحِيطُ بِهَا نِطَاقُ الْعَدِّ، إِلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِجْمَالًا إِلَى إِيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى، وَإِيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَأُشِيرَ فِي الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَفِي الْأَنْعَامِ إِلَى الْإِيجَادِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْكَهْفِ إِلَى الْإِبْقَاءِ الْأَوَّلِ، وَفِي سَبَأٍ إِلَى الْإِيجَادِ الثَّانِي، وَفِي فَاطِرٍ إِلَى الْإِبْقَاءِ الثَّانِي ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الْخَمْسُ بِالتَّحْمِيدِ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ فِي كُلِّ رُبُعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ الْمَجِيدِ سُورَةً مُفْتَتَحَةً بِالتَّحْمِيدِ " انْتَهَى وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ. (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) . افْتَتَحَ اللهُ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِ أَرْبَعَ سُوَرٍ مَكِّيَّاتٍ أُخْرَى مُشْتَمِلَةً كُلٌّ مِنْهَا عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، الْأُولَى " الْأَنْعَامُ " وَهِيَ آخِرُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي الرُّبُعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالثَّانِيَةُ " الْكَهْفُ " وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ آخِرِ الرُّبُعِ الثَّانِي وَأَوَّلِ الرُّبُعِ الثَّالِثِ وَالثَّالِثةُ وَالرَّابِعَةُ " سَبَأٌ " وَ " فَاطِرٌ "، وَهُمَا آخِرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ فِي الرُّبُعِ الرَّابِعِ سُورَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحَمْدِ، وَقَدْ قَرَنَ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى عَبْدِهِ الْكَامِلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا سُمِّيَ نُورًا بَلْ هُمَا أَعْظَمُ أَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَفِي الثَّالِثةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبِحَمْدِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَبِصِفَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَالرَّابِعَةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ

رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ وَوَصْفُهُ بِسَعَةِ الْقُدْرَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا. فَظَهَرَ بِهَا أَنَّ السُّوَرَ الثَّلَاثَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْأُولَى " الْأَنْعَامِ " مِمَّا حَمِدَ اللهَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهَا مُؤَيِّدَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) الْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَالذِّكْرُ بِالْجَمِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَإِسْنَادُ الْحَمْدِ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَبَرٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُخْتَارِ، وَالْعَبْدُ يَحْكِيهِ بِالتِّلَاوَةِ مُؤْمِنًا بِهِ فَيَكُونُ حَامِدًا لِمَوْلَاهُ، وَيَذْكُرُهُ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ إِنْشَاءً لِلْحَمْدِ وَتَذَكُّرًا لَهُ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ هُنَا إِنْشَاءً مِنْهُ تَعَالَى، وَإِنَّ إِنْشَاءَ الْحَمْدِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ حَسَنٍ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَادِ وَالْإِمْدَادِ. فَذَاتُهُ تَعَالَى مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وُجُوبًا فَالْكَمَالُ الْأَعْلَى دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ حَقِيقَتِهَا أَوْ لَازِمٌ بَيِّنٌ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي مَقَامِ هَذَا الْحَمْدِ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ، وَهُمَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ. أَمَّا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَمَعْنَاهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي نَرَى كَثِيرًا مِنْهَا فَوْقَنَا، وَهَذَا الْعَالَمُ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ إِيجَادًا مُرَتَّبًا مُنَظَّمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْخَلْقِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَأَمَّا جَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَهُوَ فِي الْحِسِّيَّاتِ بِمَعْنَى إِيجَادِهِمَا لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) (43: 19) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ، كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (7: 189) (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ (وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا) (13: 38) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) (38: 5) اهـ. وَقَدْ أَخَذَهُ الرَّازِيُّ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ وَزَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِنَّمَا حَسُنَ لَفْظُ الْجَعْلِ هُنَا لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: وَالْجَعْلُ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ كَالْخَلْقِ خَلَا أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْشَاءِ التَّكْوِينِيِّ.

وَفِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا عَامٌّ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلتَّشْرِيعِيِّ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) الْآيَةَ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ فِيمَا يُلَابِسُ مَفْعُولَهُ مِنَ الظُّرُوفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (5: 97) أَنَّ الْجَعْلَ فِيهَا خَلْقٌ تَكْوِينِيٌّ وَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ مَعًا. وَقَدْ بَيَّنَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ وُجُوهَ اسْتِعْمَالِ الْجَعْلِ فَكَانَتْ خَمْسَةً فَلْيُرَاجِعْهَا فِي مُفْرَدَاتِهِ مَنْ شَاءَ. وَالظُّلْمَةُ الْحَالَّةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا كُلُّ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ، لَا عَدَمُ النُّورِ أَيْ فَقْدُهُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ: الظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ، وَقَالَ: النُّورُ الضَّوْءُ الْمُنْتَشِرُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْإِبْصَارِ، وَقَالَ: الضَّوْءُ مَا انْتَشَرَ مِنَ الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ، وَيُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا انْتَهَى. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا. وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ أَظْهَرُ وَلَا أَغْنَى عَنِ التَّعْرِيفِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْحِسِّيَّةِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. عَلَى أَنَّ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ الْخَفَاءُ مِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ، وَأَقْرَبُ مَا نُعَرِّفُهُ بِهِ لِلْجُمْهُورِ أَنْ نَقُولَ: هُوَ اشْتِعَالٌ يَحْدُثُ فِي أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ مُنْبَثَّةٍ فِي الْهَوَاءِ وَفِي الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي تَسْتَوْقِدُ بِهَا النَّارَ. وَالنُّورُ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ صُورِيٌّ، وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَمَعْنَوِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ رُوحِيٌّ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ النُّورِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَدْ أُفْرِدَ النُّورُ وَجُمِعَتِ الظُّلْمَةُ هُنَا وَفِي كُلِّ آيَةٍ قُوبِلَ فِيهَا بَيْنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيِّ أَوِ الْمَعْنَوِيِّ، بَلْ لَمْ يُذْكَرِ النُّورُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مُفْرَدًا وَالظُّلْمَةُ إِلَّا جَمْعًا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَصَادِرُهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ قَوِيًّا وَيَكُونُ ضَعِيفًا وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهِيَ تَحْدُثُ بِمَا يَحْجُبُ النُّورَ مِنَ الْأَجْسَامِ غَيْرِ النَّيِّرَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُمَا ظُلُمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، وَالْهُدَى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالضَّلَالُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ وَفَضِيلَةُ الْعَدْلِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ. وَقُدِّمَتِ الظُّلُمَاتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ، فَقَدْ وُجِدَتْ مَادَّةُ الْكَوْنِ وَكَانَ دُخَانًا مُظْلِمًا أَوْ سَدِيمًا كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الشُّمُوسُ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الِاشْتِعَالِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ كَمَا يَقُولُونَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَوْ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ

بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ نُورُهُ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النُّورَ هُوَ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ فِي تَكْوِينِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " فَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ فِيهِ هُوَ الْحِسِّيُّ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرَى الْمَلَائِكَةُ كَمَا يُرَى النُّورُ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا خُلِقَ مِنْهُ أَصْلُهُ عَظِيمٌ كَمَا نَرَاهُ فِي أَنْفُسِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ بِأَعْيُنِنَا. وَسَبْقُ الظُّلُمَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلنُّورِ الْمَعْنَوِيِّ أَظْهَرُ، فَإِنَّ نُورَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ كَسْبِيٌّ فِي الْبَشَرِ وَمَا كَانَ غَيْرُ كَسْبِيٍّ فِي ذَاتِهِ كَالْوَحْيِ فَتَلَقِّيهِ كَسْبِيٌّ وَفَهْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَسْبِيَّانِ، وَظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ سَابِقَةٌ عَلَى هَذَا النُّورِ، فَالرَّسُولُ لَا يُولَدُ رَسُولًا وَإِنَّمَا يُؤْتَى الرِّسَالَةَ إِذَا بَلَغَ أَشَدَّهُ وَاسْتَوَى، وَالْعَالِمُ لَا يُولَدُ عَالِمًا، وَلَا الْفَاضِلُ فَاضِلًا " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ " (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (16: 78) . وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ هُنَا فَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " قَالَ: الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ. وَأَخْرَجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ " إِلَخْ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الظُّلُمَاتُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالنُّورُ نُورُ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ. قَالُوا: إِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقِ الظُّلْمَةَ وَلَا الْخَنَافِسَ وَلَا الْعَقَارِبَ وَلَا شَيْئًا قَبِيحًا وَإِنَّمَا خَلَقَ النُّورَ وَكُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) رَدٌّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ هُمَا الْمُدَبِّرَانِ وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ دَعَا دُونَ اللهِ إِلَهًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الظُّلُمَاتُ الْحِسِّيَّةُ وَبِالنُّورِ النُّورُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ أَوِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ، أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْخَيْرِ، وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ خَالِقُ الشَّرِّ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِرَادَةِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ مِنْ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوَّلُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَيْهِمَا وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّازِيُّ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا احْتَمَلَ الْمَقَامُ

ذَلِكَ بِلَا الْتِبَاسٍ كَمَا هُنَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَعْلِ دُونَ الْخَلْقِ يُلَائِمُ هَذَا، فَإِنَّ الْجَعْلَ يَشْمَلُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ أَيِ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُفَسَّرُ جَعْلُ كُلِّ نُورٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، فَجَعْلُ الدِّينِ شَرْعُهُ وَالْقُرْآنِ إِنْزَالُهُ وَالرَّسُولِ إِرْسَالُهُ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى تَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ آنِفًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَفِي الثَّانِي خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَوْ عَلَى جُمْلَةِ " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وَقَدْ عُطِفَتْ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ مَدْلُولَيِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ; لِإِفَادَةِ اسْتِبْعَادِ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُونَ وَكَوْنِهِ ضِدَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْإِلَهِ الْحَقِيقِ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ; لِكَوْنِهِ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْكَوْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا فِيهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْهَادِي لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ الْمُوَفَّقُونَ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ أَيْ يَجْعَلُونَهُ عَدْلًا لَهُ، أَيْ عَدِيلًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي كَوْنِهِ يُعْبَدُ وَيُدْعَى لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ، فَهُوَ بِمَعْنَى يُشْرِكُونَ بِهِ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَقِيلَ: يَعْدِلُونَ بِأَفْعَالِهِ عَنْهُ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا مَا لَيْسَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِيهِ، وَأَدْنَى مِنْ هَذَا أَنْ تُنْسَبَ إِلَى الْأَسْبَابِ مَعَ نِسْيَانِ فَضْلِ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْبَابَ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ مَعْرِفَةُ السَّبَبِ وَالْخَالِقِ الْوَاضِعِ لِلْأَسْبَابِ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْعِبَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ حَمْدِ الْخَالِقِ وَشُكْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَدَلَ عَنِ الشَّيْءِ عُدُولًا إِذَا جَارَ عَنْهُ وَانْحَرَفَ، وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ وَانْصَرَفَ. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ جَاءَ عَلَى الِالْتِفَاتِ عَنْ وَصْفِ الْخَالِقِ تَعَالَى بِمَا دَلَّ عَلَى حَمْدِهِ وَتَوْحِيدِهِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، يُذَكِّرُهُمْ بِهِ بِمَا هُوَ أَلْصَقُ بِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ خَلْقُهُمْ مِنَ الطِّينِ، وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي يُخَالِطُهُ الْمَاءُ فَيَكُونُ كَالْعَجِينِ وَقَدْ خَلَقَ اللهُ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ مِنَ الطِّينِ كَمَا خَلَقَ أُصُولَ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِذْ كَانَتْ حَالَتُهَا مُنَاسِبَةً لِحُدُوثِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ، بَلْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَبِنْيَةُ الْإِنْسَانِ مُكَوَّنَةٌ مِنَ الْغِذَاءِ، وَمِنْهُ مَا فِي رَحِمِ الْأُنْثَى مِنْ جَرَاثِيمِ النَّسْلِ وَمَا يُلَقِّحُهُ مِنْ مَاءِ الذَّكَرِ، فَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ لُحُومِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الْأَرْضِ، فَمَرْجِعُ كُلٍّ إِلَى النَّبَاتِ مِنَ الطِّينِ، وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا ظَهَرَ لَهُ ظُهُورًا جَلِيًّا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَيْهِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعِيدَ هَذَا الْخَلْقَ كَمَا بَدَأَهُ، إِذَا هُوَ أَمَاتَ

2

هَذِهِ الْأَحْيَاءَ بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهَا الَّتِي قَضَاهَا لَهَا فِي أَجَلٍ آخَرَ يَضْرِبُهُ لِهَذِهِ الْإِعَادَةِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالْأَجَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الْمَحْدُودُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَضَاءُ الْأَجَلِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ وَضَرْبِهِ لِلشَّيْءِ وَعَلَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، إِذْ أَصْلُ الْقَضَاءِ: فَصْلُ الْأَمْرِ قَوْلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِعْلًا كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى أَجَلًا لِخِدْمَةِ مُوسَى لَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَأَجَلًا آخَرَ اخْتِيَارِيًّا سَنَتَيْنِ، فَهَذَا قَضَاءٌ قَوْلِيٌّ، وَقَدْ قَضَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ) (28: 29) الْآيَةَ وَذَلِكَ قَضَاءٌ فِعْلِيٌّ. وَالْقَضَاءُ قَدْ يَكُونُ نَفْسِيًّا، كَأَنْ يَضْرِبَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَجَلًا لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي نَهَارٍ أَوْ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ الْقَوْلِيِّ; لِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَقَدْ يَقْضِيهِ وَيُفَصِّلُ فِيهِ كِتَابَةً، فَالْقَضَاءُ الْقَوْلِيُّ يَشْمَلُ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَمَا هُوَ مُظْهِرٌ لَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَضَى لِعِبَادِهِ أَجَلَيْنِ أَجَلًا لِمُدَّةِ حَيَاةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ يَنْتَهِي بِمَوْتِ ذَلِكَ الْفَرْدِ وَأَجَلًا لِإِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَانْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَجَلَ الْآخَرَ هُوَ أَجْلُ حَيَاةِ مَجْمُوعِهِمُ الَّذِي يَنْقَضِي بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَجَلَيْنِ مَا نَصَّهُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي الْمَوْتَ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " يَعْنِي الْآخِرَةَ. (وَعَزَاهُ أَيْضًا إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ) وَقَوْلُ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ عَنْهُ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَاؤُهَا وَقَضَاؤُهَا وَزَوَالُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي مُدَّةَ الدُّنْيَا " وَأَجَلٌ مُسَمًّى " يَعْنِي عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) (6: 60) الْآيَةَ وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي النَّوْمَ يَقْبِضُ اللهُ فِيهِ الرَّوْحَ ثُمَّ يُرْجِعُ أَيِ الرُّوحَ إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " يَعْنِي أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اسْتَغْرَبَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (39: 42) وَلَكِنَّ الْأَجَلَ

الْمُسَمَّى هُنَا هُوَ الْمَوْتُ وَلَمْ يُسَمِّ التَّوَفِّي الْأَوَّلَ وَهُوَ النَّوْمُ أَجَلًا، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ اسْتَدَلَّ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الْآتِيَةِ وَآيَةِ الزُّمَرِ وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)) (27: 86) . هَذَا وَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ ذِكْرَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي الْقُرْآنِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ النَّاسِ يَرَاهُ قَدْ وَرَدَ فِي عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ فَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ سُورَةَ هُودٍ (11: 3) وَالنَّحْلِ (16: 61) وَطَهَ (20: 129) وَالْعَنْكَبُوتِ (29: 53) وَفَاطِرٍ (35: 45) وَالزَّمَرِ (39: 42) وَغَافِرٍ (40: 67) وَنُوحٍ (71: 4) وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُهَا آنِفًا فَإِذَا عُدَّ هَذَا مُرَجِّحًا يَتَّسِعُ مَجَالُ تَأْوِيلِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ بِالْمُسَمَّى، فَيُحْتَمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ النَّوْمُ وَغَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا مُفَسِّرُو الْخَلْفِ وَمِنْهَا مَا عَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ " أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَجَلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالثَّانِي الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ. أَمَّا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ مَصُونًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَأَمَّا الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ كَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْضِلَةِ " انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَالْمُسَمَّى عِنْدَهُ أَجْلُ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْبًا. وَمَعْنَى " مُسَمًّى " عِنْدَهُ أَيْ لَا يَعْلَمُهُ، غَيْرُهُ كَذَا قَالُوا. وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا أُرِيدَ بِهَذَا الْأَجَلِ السَّاعَةُ أَيِ الْقِيَامَةُ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ عِنْدَمَا يَنْفُخُ الرُّوحَ فِي الْجَنِينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ " وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشِقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ " فَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ إِذًا اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا، فَهِيَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَخُصُوصِيَّةٍ وَهَذِهِ الْكِتَابَةُ كَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي الْجَبْرَ وَلَا سَلْبَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) هُوَ كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فِي دَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِبْعَادِ الِامْتِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ مِنَ الْإِلَهِ الْقَدِيرِ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدَّرَ آجَالَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ دَلَالَةً لَا تُبْقِي لِاسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ وَجْهًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الِاسْتِبْعَادِ عَدَمَ رُؤْيَةِ مِثَالٍ لِهَذَا الْبَعْثِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَمَثَلُهُ أَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ مَثَلًا لِخَلْقِ أَصْلِكُمْ وَجَدِّكُمُ الْأَوَّلِ مِنْ تُرَابٍ، وَلَا لِخَلْقِ غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ; فَإِنَّ التَّوَلُّدَ الذَّاتِيَّ لَا يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَتَوَهَّمُهُ عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْجُبْنِ وَالْفِيرَانِ.

3

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) اسْمُ الْجَلَالَةِ (اللهُ) عَلَمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (29: 61) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (39: 38) وَفِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ رَاجِعْ مِنْ آيَةِ 80 إِلَى 90 مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَآيَةِ 60 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. فَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلَمُ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ اللهُ الْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُعْتَرَفِ لَهُ بِهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ حَاتِمًا هُوَ حَاتِمُ فِي طَيٍّ وَفِي جَمِيعِ الْقَبَائِلِ أَيْ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُودِ الْمُعْتَرَفِ لَهُ بِهِ فِي كُلِّ قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ فُلَانًا هُوَ الْخَلِيفَةُ فِي مَمْلَكَتِهِ وَفِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ الزُّخْرُفِ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (43: 84) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيَّ فِي الِاسْمِ الْكَرِيمِ إِمَّا الْمَعْبُودَ وَإِمَّا الْمَدْعُوَّ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى " الْإِلَهِ " وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: كَمَعْنَى آيَةِ الزُّخْرُفِ أَيْ وَهُوَ الْمَعْبُودُ أَوِ الْمَدْعُوُّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ الْأَصَحُّ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَفِي الْآيَاتِ وُجُوهٌ أُخْرَى: فَمِنْهَا أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهِمَا وَمِنْهَا أَنَّهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اللهُ فِيهِمَا لَا يُشْرَكُ بِهِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَقِيلَ: إِنَّ " فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ " مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ نَحْوِيٌّ وَإِشْكَالٌ مَعْنَوِيٌّ. وَزَعَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَائِنٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْهُ أَخَذُوا قَوْلَهُمْ. إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَاللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا قَالُوا، فَهُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ حَالٍّ فِيهِ كُلِّهِ وَلَا فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَمَا صَحَّ مِنْ إِطْلَاقِ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ مَعْنَاهُ إِنَّهُ حَالٌّ فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقٌ لِإِثْبَاتِ عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ غَيْرَ مُشَابِهٍ لَهُمْ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بَائِنٌ مِنْهُمْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَأَمَّا جُمْلَةُ (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فَهِيَ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى: هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، قِيلَ: أَوْ ثَالِثٌ (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ.

4

(وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) . أَرْشَدَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ إِلَى دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَنَّهَا عَلَى ظُهُورِهَا لَمْ تَمْنَعِ الْكَافِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَأَرْشَدَتِ إِلَى دَلَائِلِ الْبَعْثِ وَإِلَى أَنَّهَا عَلَى قُوَّتِهَا لَمْ تَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الشَّكِّ فِيهِ، وَبَيَّنَتِ الثَّالِثةُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى الْمُتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا هُوَ اللهُ فِي عَالَمَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ مَعَهُ إِلَهٌ فِيهَا. وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ جَهِلُوا ذَلِكَ فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الرَّبِّ إِلَهًا وَعَبَدُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَبَيَّنَ لَهُمُ الْوَحْيُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ فِيهِنَّ ثُمَّ أَرْشَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ اللَّاحِقَةُ إِلَى سَبَبِ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ بِالْوَحْيِ، وَأَنْذَرَتْهُمْ عَاقِبَةَ التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، وَيَتْلُو ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهُنَّ كَشْفُ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الدِّينِ كُلِّهَا وَكُلُّ السُّورَةِ تَفْصِيلٌ لَهُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا بِمَا ذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْبَعْثِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَكَسْبِ الْعَبْدِ، بَلْ يُعْطَفُ عَلَى هَذَا وَيُزَادُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِالْآيَاتِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ بِالْآيَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي تَهْدِيهِمْ إِلَى تِلْكَ وَتُبَيِّنُ لَهُمْ وَجْهَ دَلَالَتِهَا وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُرْشِدَةُ إِلَى آيَاتِ الْأَكْوَانِ، وَالْمُثْبِتَةُ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ إِلَّا كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهَا، غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لِمَعْنَاهَا، وَلَا نَاظِرِينَ فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَسْتَلْزِمُهُ فَيَهْتَدُوا

بِهِ. وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ التَّوَلِّي عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ عَرَضُ الْمُتَوَلِّي الْمُدْبِرِ عَنْهُ، أَيْ فَهُمْ لِهَذَا الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ وَاللَّفْظِيِّ يَظَلُّونَ مُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّائِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يُعْبَدَ سِوَاهُ; لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ مُتَلَازِمَتَانِ. فَلَوْلَا إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَجُمُودًا عَلَى التَّقْلِيدِ مِنْ دَهْمَائِهِمْ، وَهُوَ الْمَانِعُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لَنَظَرُوا فِي النَّوعيْنِ نَظَرَ الِاسْتِقْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَظَهَرَ لَهُمْ ظُهُورًا لَا يَحْتَمِلُ الْمِرَاءَ وَلَا يَقْبَلُ الْجِدَالَ، فَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَعْنَاهُ وَالْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَوْ عَلَى بَيَانِ الشُّئُونِ وَشَرْحِ الْحَقَائِقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) (13: 8) فَلَا يُلَاحَظُ فِيهِ حَالٌ وَلَا اسْتِقْبَالٌ وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَةٌ أَوَّلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَسَتَأْتِي قَرِيبًا، وَآيَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (21: 2، 3) . وَقَوْلُهُ: (مِنْ آيَةٍ) يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ أَوْ تَأْكِيدِهِ، وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى الرَّبِّ تُفِيدُ أَنَّ إِنْزَالَهُ الْوَحْيَ، وَبَعْثَهُ لِلرُّسُلِ وَتَأْيِيدَهُمْ، وَهِدَايَتَهُ لِلْخَلْقِ بِهِمْ، كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ، أَيْ مُقْتَضَى كَوْنِهِ هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ الْمُرَبِّي لِخَلْقِهِ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَافِقِ لِلْحِكْمَةِ. وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالرَّبِّ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَجْهَلُونَ قَدْرَ رُبُوبِيَّتِهِ وَكُنْهَ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ هُنَا الدَّلَائِلُ الْكَوْنِيَّةُ الثَّابِتَةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا يَكَادُ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْإِتْيَانِ; لِأَنَّهَا مَاثِلَةٌ دَائِمًا لِلْبَصَائِرِ وَالْأَبْصَارِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ بِالْإِتْيَانِ عَنْ آيَاتِ الْوَحْيِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ وَعَمَّا يَتَجَدَّدُ مِثْلُهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَمِصْدَاقُ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، كَالْإِخْبَارِ بِنَصْرِ الرُّسُلِ وَخِذْلَانِ أَقْوَامِهِمْ وَآيَاتِ السَّاعَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ آيَتَا الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا آنِفًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) (40: 50) (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا) (7: 132) (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ) (12: 107) . وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ شَأْنَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَسَائِرِ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ، رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أَيْ فَبِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّأْنِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ وَهُوَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ فَلَمْ يَتَرَيَّثُوا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، وَإِنَّمَا كَذَّبُوا مَا جَهِلُوا، وَمَا جَهِلُوا إِلَّا لِأَنَّهُمْ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَسَالِكَ الْعِلْمِ، وَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ هُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ خَاتَمُ رُسُلِهِ صَلَّى اللهُ

5

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ، وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ دَعَاهُمْ أَوَّلًا بِمِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهِ مُجْمَلَةً ثُمَّ مُفَصَّلَةً وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ التَّفْصِيلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، إِلَى أَنْ تَمَّ الدِّينُ كُلُّهُ فَأَكْمَلَ اللهُ بِهِ النِّعْمَةَ، وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُطَابَقَةُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، أَوِ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كُلِّيٌّ لَهُ جُزْئِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلَّمَا أُطْلِقَ فِي مَقَامٍ يُعْرَفُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْمُطْلَقِ وَعَلَى الْبَارِئِ تَعَالَى وَعَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى الدِّينِ، وَذِكْرُ الدِّينِ مُضَافًا إِلَى الْحَقِّ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (9: 33) وَقَوْلُهُ (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) (9: 29) وَأُطْلِقَ بِمَعَانٍ أُخْرَى تُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ هُنَا الدِّينُ الْمُبَيَّنُ فِي الْقُرْآنِ، ورُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُهُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ عَيْنُ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِهَذَا الدِّينِ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي تَوْجِيهِ اللَّفْظِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَعَطْفِهَا عَلَيْهَا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ بِإِعْجَازِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَعَلَى رِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَبِمَعَانِيهَا عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَعَلَى أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ، قَدْ كَانَ سَبَبًا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِبَيَانِهِ، وَهُوَ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ دِينُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا فُسِّرَ الْحَقُّ هُنَا بِالْقُرْآنِ نَفْسِهِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنْهُ وَالْمُكَذِّبَ بِهِ وَاحِدٌ، وَوَجَّهَهُ أَبُو السُّعُودِ، بِضَرْبٍ مِنْ تَكَلُّفِهِ الْمَعْهُودِ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ فَاءَ السَّبَبِيَّةِ تَأْتِي بِمَعْنَى لَامِ الْعِلَّةِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا سَبَبٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَقَالٌ وَفِي التَّخْرِيجِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى مِنَ الضَّعْفِ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي شَأْنُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا هِيَ دَلَائِلُ الْأَكْوَانِ أَوِ الْمُعْجِزَاتِ مُطْلَقًا، إِذْ يُقَالُ حِينَئِذٍ فِي تَقْدِيرِ الرَّبْطِ: إِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ آيَةً، وَأَظْهَرُ دَلَالَةً، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَحَدَّوْا بِهِ، فَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَقَّ هُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أَيْ فَعَاقِبَةُ هَذَا التَّكْذِيبِ أَنَّهُ سَوْفَ يَحِلُّ بِهِمْ مِصْدَاقُ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ مِمَّا كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ اللهِ لِرَسُولِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَوَعِيدِ أَعْدَائِهِ بِتَعْذِيبِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ بِهَلَاكِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ أَتَاهُمْ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ أَوَائِلِهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَحْطِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ فِي بَدْرٍ، ثُمَّ تَمَّ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَا جَاءَ

مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِنَ اسْتِهْزَاءِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَالْكَلَامِ فِيهِمْ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَكَذَا بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مِنْ بَدَائِعِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَاسْتِهْزَاءُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ بِالرُّسُلِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْذَرِهِمْ عَاقِبَةَ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ فِي آيَاتٍ وَبَيَانِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وَهُوَ فِي سُورَةِ هُودٍ: 8 وَالنَّحْلِ 16: وَالْأَنْبِيَاءِ وَالزُّمَرِ: 48 وَأَكْثَرِ الْحَوَامِيمِ. جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ هُنَا بِحَرْفِ التَّسْوِيفِ. وَجَاءَ فِي آيَتَيْنِ مِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الشُّعَرَاءِ بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (26: 5، 6) وَقَدْ حُذِفَ هُنَا مَفْعُولُ كَذَّبُوا، وَذَكَرَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي تَعْلِيلَ ذَلِكَ بِمَا نَصُّهُ: وَفِي الْبَحْرِ إِنَّمَا قَيَّدَ الْكَذِبَ بِالْحَقِّ هُنَا وَكَانَ التَّنْفِيسُ بِسَوْفَ وَفِي الشُّعَرَاءِ (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) بِدُونِ تَقْيِيدِ الْكَذِبِ، وَالتَّنْفِيسُ بِالسِّينِ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى الشُّعَرَاءِ، فَاسْتَوْفَى فِيهَا اللَّفْظَ وَحَذَفَ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَهُوَ مُرَادُ إِحَالَةٍ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ نَاسَبَ الْحَذْفُ الِاخْتِصَارَ فِي حَرْفِ التَّنْفِيسِ فَجِيءَ بِالسِّينِ اهـ. أَقُولُ: وَيَحْسُنُ أَنْ يُزَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِعْلُ الِاسْتِقْبَالِ الْمَقْرُونِ بِسَوْفَ أَبْعَدَ زَمَانًا مِنَ الْمَقْرُونِ بِالسِّينِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ فِيمَا نَزَلَ أَوَّلًا وَالثَّانِي فِيمَا نَزَلَ آخِرًا. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَتَّبَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: (فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى) كَوْنُهُمْ مُعْرِضِينَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْبَيِّنَاتِ، (وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ) كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِهَا، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَزْيَدُ مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا بِهِ، بَلْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لَهُ، فَإِذَا صَارَ مُكَذِّبًا بِهِ فَقَدْ لَا يَبْلُغُ تَكْذِيبُهُ بِهِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ. فَإِذَا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْإِنْكَارِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ اهـ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ عِبْرَةٌ لَنَا فِي حَالِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدِّينَ، مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ الْجَامِدِينَ، وَأَهْلِ التَّفَرْنُجِ الْمُلْحِدِينَ، فَهِيَ تُنَادِي بِقُبْحِ التَّقْلِيدِ وَتُصَرِّحُ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَبِأَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَالْحِرْمَانَ مِنْهُ مَعْلُولٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَتُثْبِتُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، لَا كَالْأَدْيَانِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى وَعْثِ التَّقْلِيدِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ

6

أَوِ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُهَّانِ، وَمَاذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ هَذَا التِّبْيَانِ؟ تَبِعَ جَمَاهِيرُهُمْ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَأَضَاعُوا حُجَّةَ دِينِهِمْ بِتَقْلِيدِ فَلَانٍ وَعِلَّانٍ، وَعَكَسُوا الْقَاعِدَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ سَلَفِهِمْ وَهِيَ " اعْرِفِ الرِّجَالَ بِالْحَقِّ لَا الْحَقَّ بِالرِّجَالِ " وَلَوْلَا حِفْظُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَتَوْفِيقُهُ سَلَفَ الْأُمَّةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَدْوِينِ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ بِهَدْيِهِمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَضَاعَ مِنَ الْوُجُودِ هَذَا الْإِسْلَامُ كَمَا ضَاعَتْ مَنْ قَبْلِهِ سَائِرُ الْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْ ذَلِكَ وُجُودُ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ. كَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ صَارَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ، فَتَوَاطَأَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اضْطِهَادِ حَمَلَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَيَاسَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا السِّيَاسَةُ، وَيُحْفَظُ بِهَا أَمْرُ الْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، وَمَا كَانَ إِلَّا فِتْنَةً لَهُمْ، أَضَاعُوا بِهَا دِينَهُمْ وَمُلْكَهُمْ عَلَى أَيْدِي أَقْوَامٍ مِنْ أُمَمِ الشَّمَالِ، اقْتَبَسُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ الْأَوَّلِينَ ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالَ فَنَسَخُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ التَّقْلِيدَ بِنُورِ الِاسْتِدْلَالِ، فَبَلَغُوا مِنَ الْعِزَّةِ وَالسِّيَادَةِ أَوْجَ الْكَمَالِ. ثُمَّ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ فَافْتَتَنَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا رَأَوْا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَلَكِنْ دَاءُ التَّقْلِيدِ الْعُضَالُ لَمْ يُفَارِقْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَطَفِقُوا يُقَلِّدُونَهُمْ فِي الْأَزْيَاءِ وَالْعَادَاتِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ خِزْيًا عَلَى خِزْيٍ وَضَلَالًا عَلَى ضَلَالٍ; إِذْ هَدَمُوا مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِمْ وَمُشَخِّصَاتِهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَوِّنُوهَا بِمُقَوِّمَاتٍ وَمُشَخِّصَاتٍ غَيْرِهَا. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ حُجَّةٌ عَلَى مُقَلِّدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى مُقَلَّدَةِ الْأُورُبِّيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدُّنْيَا وَالدِّينَ، وَأَعْجَبُ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاسْتِقْلَالَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مَا يَهْذُوُنَ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، فَهَلُمَّ دَلَائِلَكُمْ عَلَى مَا تَرَكْتُمْ مِنْ هِدَايَةٍ، وَمَا اسْتَحْدَثْتُمْ مِنْ غَوَايَةٍ فَإِنَّنَا لِمُنَاظَرَتِكُمْ مُسْتَعِدُّونَ، وَكَمْ دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَأَنْتُمْ لَا تُجِيبُونَ؟ . (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ وَ (الْقَرْنُ) مِنَ النَّاسِ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، جَمْعُهُ قُرُونٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُفْرَدًا وَجَمْعًا، وَاخْتُلِفَ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدِّدِ لِلْقَرْنِ، فَأَوْسَطُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَقِيلَ سِتُّونَ أَوْ أَرْبَعُونَ، وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ مِقْدَارُ مُتَوَسِّطِ أَعْمَارِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَنٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْدِيدِ الْقَرْنِ بِالْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرٍ فِيهِمْ نَبِيٌّ أَوْ فَائِقٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ قَرْنٌ وَإِنِ امْتَدَّ زَمَنُهُ فِيهِمْ زُهَاءَ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَوْمُ عَادٍ قَرْنٌ وَقَوْمُ صَالِحٍ قَرْنٌ، وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الزَّمَانِ نَفْسِهِ،

وَالْمَشْهُورُ فِي عُرْفِ الْكُتَّابِ الْيَوْمَ أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَ (التَّمْكِينُ) يُسْتَعْمَلُ بِاللَّامِ وَفِي، يُقَالُ: مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلَ لَهُ مَكَانًا فِيهَا وَنَحْوَهُ أَرْضٌ لَهُ، وَمِنْهُ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (18: 84) وَيُقَالُ: مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَثْبَتَهُ فِيهَا، وَمِنْهُ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (46: 26) كَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَالَ وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ إِنَّ " مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ كَوَهَبَهُ وَوَهَبَ لَهُ "، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ اللَّامُ زَائِدَةٌ كَرِدْفٍ لَهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ. وَالسَّمَاءُ الْمَطَرُ، وَالْمِدْرَارُ الْمِغْزَارُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدَّرِّ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَرَّ اللَّبَنُ دَرًّا أَيْ كَثُرَ وَغَزُرَ، وَيُسَمَّى اللَّبَنُ الْحَلِيبُ دَرًّا كَالْمَصْدَرِ. وَالْإِرْسَالُ وَالْإِنْزَالُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِرْسَالِ مِنْ رُسُل اللَّبَنِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الضَّرْعِ مُتَتَابِعًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الرِّسْلِ الِانْبِعَاثُ عَلَى التُّؤَدَةِ وَيُقَالُ نَاقَةٌ رَسْلَةٌ سَهْلَةُ السَّيْرِ، وَإِبِلٌ مَرَاسِيلُ مُنْبَعِثَةٌ انْبِعَاثًا سَهْلًا، وَمِنْهُ الرَّسُولُ الْمُنْبَعِثُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَكُونُ بِبَعْثِ مَنْ لَهُ اخْتِيَارٌ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَبِالتَّسْخِيرِ كَإِرْسَالِ الرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَبِتَرْكِ الْمَنْعِ نَحْوَ قَوْلِهِ: (أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ) (19: 83) وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُقَابِلُ الْإِمْسَاكَ نَحْوَ (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ) (35: 2) . وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَكَوْنُهُ مِمَّا سَبَقَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَوْمٍ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ التَّمْكِينِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَا لَمْ نُعْطِهِمْ هُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ وَالنِّعَمُ بِمَانِعَةٍ لَهُمْ مِنْ عَذَابِنَا لِمَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (54: 43) ؟ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَإِمَّا الْإِيمَانُ وَإِمَّا الْهَلَاكُ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيِ الْقُرُونَ مَا لَمْ نُمَكِّنْهُمْ أَيِ الْكَفَّارَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمُ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْ حَالِهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِمَا فِي إِيرَادِ الْفِعْلَيْنِ بِضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ مِنْ إِيهَامِ اتِّحَادِ مَرْجِعِهِمَا وَكَوْنِ الْمُثَبَتُ عَيْنَ الْمَنْفِيِّ. فَقِيلَ: مَا لَمْ نُمْكِنْ لَكُمْ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: " مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ " أَوْ: " وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُطَابَقَةِ لِنُكْتَةٍ دَقِيقَةٍ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا مِنْ فَقُهَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ " وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الشَّيْءِ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّصَرُّفِ تَامَّ الِاسْتِقْلَالِ فِيهِ. وَأَمَّا مَكَّنَ لَهُ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعَ حَذْفِهِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (24: 55) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا) (28: 57) وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (12: 21) وَقَوْلِهِ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (18: 84) فَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ

مِنْ نُكَتِ الْحَذْفِ، كَكَوْنِ الْمَفْعُولِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، كَأَنْ يُقَالُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ وَلِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ أَسْبَابِ الِاسْتِقْلَالِ فِي التَّصَرُّفِ. إِذَا فَقِهْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ " مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ، وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَتَمَكُّنًا فِي أَرْضِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يُوجَدُ حَوْلَهُمْ مَنْ يُضَارِعُهُمْ فِي قُوَّتِهِمْ، وَيَقْدِرُ عَلَى سَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَضُرُوبِ التَّصَرُّفِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ. فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى فُنُونِ الْإِيجَازِ، الَّذِي وَصَلَ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَوْجِ الْإِعْجَازِ، وَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنَ التَّمْكِينَيْنِ عَلَى قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا مَا امْتَازَتْ بِهِ الْقُرُونُ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِمَوَاقِعِ بِلَادِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) إِرْسَالُ السَّمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَالْمِدْرَارُ الْغَزِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أَيْ وَسَخَّرَنَا لَهُمُ الْأَنْهَارَ وَهِيَ مَجَارِي الْمِيَاهِ الْفَائِضَةِ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِجَعْلِهَا تَجْرِي دَائِمًا مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهِمُ الَّتِي يَبْنُونَهَا عَلَى ضِفَافِهِ، أَوْ فِي الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ الَّتِي تَتَفَجَّرُ خِلَالَهَا، فَيَتَمَتَّعُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَمَالِهَا، وَبِسَائِرِ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ مِنْ أَمْوَاهِهَا. (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) (أَيْ فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ لَمَّا كَفَرُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَنْ أَهْلَكْنَا كُلَّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِفُونَهَا. وَأَنْشَأْنَا أَيْ أَوْجَدْنَا مِنْ بَعْدِ الْهَالِكِينَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ يُعَمِّرُونَ الْبِلَادَ وَيَكُونُونَ أَجْدَرَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا. وَالذُّنُوبُ الَّتِي يُهْلِكُ اللهُ بِهَا الْقُرُونَ وَيُعَذِّبُ بِهَا الْأُمَمَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مُعَانَدَةُ الرُّسُلِ وَالْكُفْرُ بِمَا جَاءُوا بِهِ. (وثَانِيهِمَا) كُفْرُ النِّعَمِ بِالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَغَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ وَظُلْمُ الضُّعَفَاءِ، وَمُحَابَاةُ الْأَقْوِيَاءِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَالْغُرُورُ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيهِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالْأَيَّامُ النَّاطِقَةُ بِتِلْكَ الذُّنُوبِ مُجْتَمِعَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (28: 58، 59) (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (11: 102) (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (16: 112) (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا 17: 16)

7

وَالْعَذَابُ الَّذِي يُعَذِّبُ اللهُ بِهِ الْأُمَمَ وَيُهْلِكُ الْقُرُونَ وَيُدِيلُ الدُّوَلَ قِسْمَانِ أَيْضًا. الْجَوَائِحُ وَالِاسْتِئْصَالُ، وَفَقْدُ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَذَاكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ وَهَدْمٌ لِغَرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ بِإِزَاءِ ضَعْفِ عَصَبِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَقْرِهِ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) . أَمَّا الْقَوْمُ أَوِ الْقَرْنُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ مَنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ تَعَالَى، فَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي صِفَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِبِلَّتِهِمْ وَأَبْنَاءِ جِيلِهِمْ، فَالشُّعُوبُ الَّتِي نُكِبَتْ بِالْحَرْبِ الْمُشْتَعِلَةِ الْآنَ فِي أُورُبَّا لَا بُدَّ أَنْ يَخْلُفَ الْهَالِكِينَ فِيهَا خَلَفٌ يَتْرُكُونَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَكُفْرِ نِعَمِهِ، وَيَكُونُوا أَقَلَّ مِنْهُمْ بَطَرًا وَقَسْوَةً وَانْغِمَاسًا فِي التَّرَفِ وَالسَّرَفِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (47: 38) . (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظُرَونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) . بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ الثَّلَاثَ الْأُولَى مِنْهَا قَدْ أَرْشَدَتْ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي بَعْدَهَا أَرْشَدَتْ إِلَى سَبَبِ تَكْذِيبِ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ الْمُبَيَّنُ بِالدَّلِيلِ، وَأَنْذَرَتْهُمْ عَاقِبَةَ هَذَا التَّكْذِيبِ، وَهُوَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَحُولُ دُونَهُ مَا هُمْ مَغْرُورُونَ بِهِ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَكُّنِهِمْ فِي أَرْضِ مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى وَأَهْلُهَا قُدْوَةُ الْعَرَبِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ شُبَهَاتِ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ عَلَى الْوَحْيِ وَبِعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَّ بِهَا بَيَانُ أَسْبَابِ جُحُودِهِمْ بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ كُلِّهَا كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

8

إِسْحَاقَ مَا قَدْ يُعَدُّ سَبَبًا لِنُزُولِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ قَالَ: " دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَلَّمَهُمْ فَأَبْلَغَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ وَالنَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَعَبَدَةُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهَبٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ: لَوْ جُعِلَ مَعَكَ يَا مُحَمَّدٌ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ وَيُرَى مَعَكَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي (لُبَابِ النُّقُولِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ) وَاقْتِرَاحُ مُعَانِدِي الْمُشْرِكِينَ إِنْزَالُ الْمَلَكِ مَعَ الرَّسُولِ ذُكِرَ فِي الْفُرْقَانِ وَهُودٍ وَالْإِسْرَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَنْعَامِ، وَالْأَنْعَامُ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا فَمَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى شُبْهَةٍ سَبَقَتْ لَهُمْ وَحُكِيَتْ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ اقْتِرَاحُ إِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ فِي الْفُرْقَانِ. كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَجَّبُ مِنْ كُفْرِ قَوْمِهِ بِهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَعَ وُضُوحِ بُرْهَانِهِ وَظُهُورِ إِعْجَازِهِ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ لِذَلِكَ وَيَنَالُ مِنْهُ الْحُزْنُ وَالْأَسَفُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) (11: 12) وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَكَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُبَيِّنُ لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ وَمَنَاشِئَهُ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِهِمْ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ مَهْمَا تَكُنْ نَاهِضَةً، وَالشُّبْهَةَ مَهْمَا تَكُنْ دَاحِضَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِمَا قُدِّمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَانْحَسَرَتْ عَنْهُ غُمَّةُ الشُّبْهَةِ، إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، وَزَالَتْ مَوَانِعُ الْكِبْرِ وَالْعِنَادِ أَوِ التَّقْلِيدِ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) جَاءَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مُبَيِّنًا هَذَا الْمَعْنَى لِلرَّسُولِ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ إِلَى خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عِلَّةَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ إِنَّمَا هِيَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْآيَاتِ، وَمَا أَقْفَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا خَفَاءُ الْآيَاتِ فِي نَفْسِهَا، وَلَا قُوَّةُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَحُولُ حَوْلَهَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّ آيَاتِ التَّوْحِيدِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ هِيَ أَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَكْثَرُهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهَا مُبَالَغَةُ الْكِتَابِ الْمُعْجِزِ فِي تَقْرِيرِهَا، لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فِي قِرْطَاسٍ كَمَا اقْتَرَحُوا فَرَأَوْهُ نَازِلًا مِنْهَا بِأَعْيُنِهِمْ، وَلَمَسُوهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ بِأَيْدِيهِمْ، لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ كُفْرَ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ: مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْنَا وَلَمَسْنَا إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، ثَابِتٌ فِي نَوْعِهِ، وَإِنَّمَا خُيِّلَ إِلَيْنَا أَنَّنَا رَأَيْنَا كِتَابًا وَلَمَسْنَاهُ، وَمَا ثَمَّ كِتَابٌ نَزَلَ، وَلَا قِرْطَاسٌ رُئِيَ وَلَا لُمِسَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَمْثَالُهُمْ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.

الْكِتَابُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ كَالْكِتَابَةِ، وَيُسْتَعْمَلُ غَالِبًا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الصَّحِيفَةِ الْمَكْتُوبَةِ وَعَلَى مَجْمُوعَةِ الصُّحُفِ فِي مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، وَالْقِرْطَاسُ بِكَسْرِ الْقَافِ (وَتُفْتَحُ وَتُضَمُّ لُغَةٌ) الْوَرَقُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكْتُوبِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي قِرْطَاسٍ) صِفَةٌ لَهُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَاللَّمْسُ كَالْمَسِّ. إِدْرَاكٌ بِظَاهِرِ الْبَشْرَةِ. كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَسُّ بِالْيَدِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَسُّ بِظَاهِرِ الْبَشْرَةِ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْوِقَاعِ كَالْمُلَامَسَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَقَلَّمَا يَقَعُ بِالْقَدَمِ، أَوِ السَّاعِدِ مَثَلًا تَوَهَّمَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَسِّ الْيَدِ، وَتَقْيِيدُ اللَّمْسِ فِي الْآيَةِ بِالْأَيْدِي بِعَيْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِدَفْعِ احْتِمَالِ التَّجَوُّزِ بِهِ، إِذِ اللَّمْسُ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى طَلَبِ الشَّيْءِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ، يُقَالُ: لَمَسَهُ وَالْتَمَسَهُ وَتَلَمَّسَهُ، بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) (72: 8) وَيَسْتَلْزِمُ لَمْسُهُ بِالْأَيْدِي رُؤْيَتَهُ بِالْأَبْصَارِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَعَايَنُوهُ وَمَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَمَسُّوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ، وَالرُّؤْيَةُ وَاللَّمْسُ أَقْوَى الْيَقِينِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْخِدَاعِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اجْتَمَعَا، وَالثِّقَةُ بِاللَّمْسِ أَقْوَى لِأَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُخْدَعُ بِالتَّخَيُّلِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (15: 14، 15) وَلَكِنَّ مُكَابَرَةَ الْحِسِّ بَعْدَ اجْتِمَاعِ أَقْوَى إِدْرَاكَيْهِ وَهُمَا الرُّؤْيَةُ وَاللَّمْسُ وَتَقْوِيَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ قَلَّمَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ جَاحِدٍ مُعَانِدٍ مُسْتَكْبِرٍ، أَوْ مِنْ مُقَلِّدٍ أَعْمَى لَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ يُخَالِفُ مَا تَقَلَّدَهُ مِنْ آبَائِهِ وَقَوْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ فَائِدَةَ زِيَادَةِ لَمْسِهِ بِأَيْدِيهِمْ تَحْقِيقُ الْقِرَاءَةِ عَلَى قُرْبٍ، أَيْ فَقَرَءُوهُ وَهُوَ بِأَيْدِيهِمْ لَا بَعِيدٌ عَنْهُمْ لَمَا آمَنُوا، انْتَهَى وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، وَتَخْيِيلٌ يَرَى مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي صُورَةِ الْحَقَائِقِ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ السِّحْرَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي اخْتِلَافِ حَالِ مَنْ تَصْدُرُ الْخَوَارِقُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، لَا فِي كَوْنِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ حَقًّا وَكَوْنِ السِّحْرِ بَاطِلًا، وَالْآيَةُ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهَا عَلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ مَعْنَى دَفْعِ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ: مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَرَحْنَا إِلَّا خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَلَكِنَّهَا صَدَرَتْ عَلَى يَدِ سَاحِرٍ، فَهِيَ إِذًا مِنَ السِّحْرِ، لَا عَلَى يَدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ حَتَّى تُسَمَّى آيَةٌ أَوْ مُعْجِزَةٌ، فَيَكُونُ حَاصِلُهُ الطَّعْنَ فِي شَخْصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارَ ادِّعَائِهِ النُّبُوَّةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ عَلَى كَوْنِ عِبَارَةِ الْآيَةِ تَتَبَرَّأُ مِنَ احْتِمَالِ دُنُوِّهِ مِنْهَا أَوْ دُخُولِهِ عَلَيْهَا مِنْ أَحَدِ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ (الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَالْكِنَايَةِ) وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ أَحَدٍ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شِيعَةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ الَّذِي فَسَّرَ السِّحْرَ بِمَا ذَكَرَ خِلَافًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ

تَخْيِيلٌ لِمَا لَيْسَ وَاقِعًا، وَأَنَّهُ كَيْدٌ وَمَكْرٌ، وَأَنَّهُ يُتَعَلَّمُ تَعَلُّمًا، وَالْخَوَارِقُ لَا تَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ، وَقَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ كَلِيمِهِ مُوسَى: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ (10: 81) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) (8: 8) فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ بَاطِلًا لَا حَقًّا. (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ) اقْتَرَحَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الرَّسُولِ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا مُؤَيِّدًا لَهُ أَمَامَهُمْ، إِذْ يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، كَمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ (25: 7) وَمَا هُنَا وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا هُنَالِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: " مَلَكٌ فَيَكُونَ نَذِيرًا " اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ، بَلِ اقْتَرَحُوا أَيْضًا أَنْ يَنْزِلَ الْمَلَكُ عَلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ مِنْ رَبِّهِمْ، بَلْ طَلَبُوا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، طَلَبُوا أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ وَيُخَاطِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يُرِيدُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ. كَمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَيْضًا (25: 21) وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي هَؤُلَاءِ: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) (25: 21) نَعَمْ إِنَّ هَذَا مُنْتَهَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُتُوِّ، لِأَنَّهُ تَسَامٍ وَاسْتِشْرَافٌ مِنْ أَضَلِّ الْبَشَرِ وَأَسْفَلِهِمْ رُوحًا. إِلَى مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَعْلَاهُمْ مَقَامًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا اقْتِرَاحُهُمْ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ضِدِّ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ طَلَبُهُمْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ أَرْقَى الْبَشَرِ عَقْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يَكُونُوا رُسُلًا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ; لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ هَذِهِ شُبْهَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ وَالْمُتَأَخِّرِينَ: قَالَ تَعَالَى فِي هُودٍ وَقَوْمِهِ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (23: 33، 34) وَحَكَى تَعَالَى مِثْلَ هَذَا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ) وَفِي غَيْرِهَا. وَمِثْلُ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ فِي حُكْمِ الْبَشَرِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا مَعْهُودٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، فَهُمْ يَرْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ تَارَةً إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ قَدْرِهَا بِمَا لَا يُحْصَى مِنَ الدَّرَجَاتِ وَالْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ السَّحِيقَةِ، وَيَهْبِطُونَ بِهَا تَارَةً إِلَى مَا هُوَ دُونَ اسْتِعْدَادِهَا بِمَا لَا يُعَدُّ مِنَ الدَّرَكَاتِ الْعَمِيقَةِ، يَتَسَامَوْنَ تَارَةً لِلْبَحْثِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْأَزَلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ أَوَّلَهُ، إِلَى الْأَبَدِ الَّذِي لَا يُدْرِكُونَ نِهَايَتَهُ، وَلِلْكَلَامِ فِي كُنْهِ الْخَالِقِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ عَنِ الْوُجُوبِ الْوَاجِبِ. وَيَعْتَرِفُونَ تَارَةً بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُصُورِ عَنِ الْإِحَالَةِ بِأَنْوَاعِ الْجِنَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي بِنْيَتِهِمْ وَتُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ مَوَادِّ مَعِيشَتِهِمْ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ وَأَشْرِبَتِهِمْ، يَقُولُونَ تَارَةً إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ، وَمِصْدَاقُ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ، وَيَقُولُونَ تَارَةً إِنَّهُ مَظْهَرُ الظُّلْمِ وَالْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَإِنَّمَا يُعَظِّمُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ أَوْ جِنْسَهُ فِي

مِرْآةِ نَفْسِهِ، وَيُحَقِّرُ غَيْرَهُ أَوْ نَفْسَهُ مُتَمَثِّلَةً فِي مِرْآةِ جِنْسِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْكَارُ الْكُفَّارِ لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَكَانُوا تَارَةً يَكْتَفُونَ بِجَعْلِ الْبَشَرِيَّةِ عِلَّةً لِلْإِنْكَارِ كَمَا تَرَى فِي سُورَةِ هُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْإِسْرَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيس وَالْقَمَرِ وَالتَّغَابُنِ وَتَارَةً يُصَرِّحُونَ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَاسْتِثْقَالِهِمْ تَفْضِيلَ الرُّسُلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَعَلَى هَذَا بَنَوُا اقْتِرَاحَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً أَوْ عَلَى الرُّسُلِ مُؤَيِّدَةً لَهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) (23: 24) . جَمَعَ مُشْرِكُو مَكَّةَ بَيْنَ الِاقْتِرَاحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا اقْتِرَاحِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، وَاقْتِرَاحِ نُزُولِ مَلَكٍ عَلَى النَّبِيِّ يَرَوْنَهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَلَوْلَا قَيْدُ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لِلِاقْتِرَاحِ فَائِدَةٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْمَلَكُ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مُسَاوَاتَهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَتَلَقِّي الْعِلْمَ عَنْهُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ; فَإِنَّهُمْ لِغُرُورِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ يُنْكِرُونَ كُلَّ مَا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الِاقْتِرَاحَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا كَمَا اقْتَرَحُوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِهِمْ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُمْهَلُونَ لِيُؤْمِنُوا، بَلْ يَأْخُذُهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَلَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَأَهْلَكْنَاهُمْ ثُمَّ لَا يُؤَخَّرُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَقُولُ لَوْ أَنْزَلَ اللهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، وَلَكِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ لَقَامَتِ السَّاعَةُ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَضَاءِ الْأَمْرِ هُنَا عِدَّةَ وُجُوهٍ: (1) أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اقْتَرَحُوا آيَةً وَأُعْطُوهَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا يُعَذِّبُهُمُ اللهُ بِالْهَلَاكِ، وَالِاسْتِئْصَالِ الَّذِي تَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْصِلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا خَاتَمَ رُسُلِهِ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، فَالرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ تُنَافِي هَذَا الْعَذَابَ الْعَامَّ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) . (2) أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا الْمَلَكَ بِصُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا يَطْلُبُونَ لَزَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يُشَاهِدُونَ. (3) أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ آيَةٌ مُلْجِئَةٌ يَزُولُ بِهَا الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِبَارَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَعْلِيلَاتِ قَضَاءِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَزُولُ الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَيَجِبُ إِهْلَاكُهُمُ انْتَهَى وَهَذَا التَّفْرِيعُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.

9

(4) أَنَّهُمْ لَمَّا اقْتَرَحُوا مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ إِذْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُعْجِزِ مُطْلَقًا وَقَدْ حَصَلَ، لَا الْمُعْجِزِ الْخَاصِّ الَّذِي طَلَبُوهُ فَإِذَا أُعْطُوهُ كَانُوا عَلَى غَايَةِ الرُّسُوخِ فِي الْعِنَادِ الْمُنَاسِبِ لِلْإِهْلَاكِ وَعَدَمِ النَّظْرَةِ. وَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَقْوَاهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) (15: 8) أَيْ مَا كَانَ شَأْنُنَا الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُنَا أَنْ نُنَزِّلَ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْأَمْرِ الْحَقِّ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ لِلرُّسُلِ أَوِ الْعَذَابِ لِلْأُمَمِ الَّذِينَ يُعَانِدُونَ الرُّسُلَ فَيَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَيُعَلِّقُونَ إِيمَانَهُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُصِرُّونَ عَلَى جُحُودِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطَوْهَا، فَلَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا إِذْ تَنْزِلُ إِلَّا هَالِكِينَ لَا يُنْظَرُونَ، أَيْ لَا يُمْهَلُونَ لِأَجَلِ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَلَا مَنْ أَعْهَدُهُمْ لِلْهِدَايَةِ مِنْ قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، بِإِجَابَةِ اقْتِرَاحَاتِ أُولَئِكَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ لِأَجْلِ التَّعْجِيزِ دُونَ اسْتِبَانَةِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنْ أُعْطَوْهَا مَا كَانُوا بِهَا مُؤْمِنِينَ، وَبِذَلِكَ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْغَابِرِينَ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ مَا بَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حِكْمَةِ الْعَطْفِ بِ (ثُمَّ) وَهِيَ إِفَادَةُ مَا بَيْنَ قَضَاءِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ الْإِنْظَارِ مِنَ الْبُعْدِ: جَعْلُ عَدَمِ الْإِنْظَارِ أَشَدَّ مِنْ قَضَاءِ الْأَمْرِ; لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الشِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ نَفْسِ الشِّدَّةِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) أَيْ لَوْ جَعَلَ الرَّسُولَ مَلَكًا لَجَعَلَ الْمَلَكَ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ بَشَرٍ، لِتَمْكِينِهِمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ جَعَلَهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ بَشَرٍ لَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ بَشَرٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُ إِلَّا صُورَتَهُ وَصِفَاتِهِ الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي تَمَثَّلَ بِهَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُونَ فِي نَفْسِ اللَّبْسِ وَالِاشْتِبَاهِ الَّذِي يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ جَعْلِ الرَّسُولِ بَشَرًا، وَلَا يَنْفَكُّونَ يَقْتَرِحُونَ جَعْلَهُ مَلَكًا، وَقَدْ كَانُوا فِي غِنًى عَنْ هَذَا، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ فِيهِ شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ حَتَّى الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ فِيمَا يُوقِعُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ، وَمَا يَخْتَرِعُونَهُ مِنَ الشُّبَهَاتِ بِسُوءِ فَهْمِهِمْ، ثُمَّ يَحَارُونَ فِي أَمْرِ الْمَخْرِجِ مِنْهَا. مَادَّةُ ل ب س تَدُلُّ عَلَى السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ: يُقَالُ: لَبِسَ الثَّوْبَ يَلْبَسُهُ (بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ) وَهُوَ مِنَ السَّتْرِ الْحِسِّيِّ. وَيُقَالُ: لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ يَلْبِسُهُ (بِفَتْحِ بَاءِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ بَاءِ الثَّانِي) بِمَعْنَى سَتَرَهُ بِهِ، أَيْ جَعَلَهُ مَكَانَهُ لِيَظُنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَبَسْتُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ أَيْ جَعَلْتُهُ بِحَيْثُ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ فَلَا يَعْرِفُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ السَّتْرِ الْمَعْنَوِيِّ. وَقَدْ عَلَّلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعْلَ الْمَلَكِ بِصُورَةِ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ قَوْلُ مَنْ عَلَّلَ بِذَلِكَ قَضَاءَ

الْأَمْرِ بِهَلَاكِهِمْ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الْمَلَكِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَمَثُّلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ بِصُورَةِ النَّاسِ، وَتَمَثُّلِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَظُهُورِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ غَالِبًا، وَبِصُورَةِ غَيْرِهِ أَحْيَانًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ. وَقَدْ نَازَعَ آخَرُونَ فِي عَدِّ هَذَا خُصُوصِيَّةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ " أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ " وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ رَأَى الْمَلَائِكَةَ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَشَرِ كَرُؤْيَةِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَهُمْ فِي مِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ. وَلَكِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ أَيْضًا. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَشَرَ فِي حَالَتِهِمُ الْعَادِيَّةِ غَيْرِ مُسْتَعِدِّينَ لِرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فِي حَالَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) (7: 27) لَا لِأَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَهَا لِهَوْلِهَا، بَلْ لِأَنَّ أَبْصَارَ الْبَشَرِ لَا تُدْرِكُ كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ، بَلْ تُدْرِكُ فِي عَالَمِهَا هَذَا بَعْضَ الْأَجْسَامِ كَالْمَاءِ وَمَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْهُ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُلَوَّنَةِ دُونَ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْهُ كَالْهَوَاءِ، وَمَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْهُ كَالْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ غَيْبِيٍّ أَلْطَفُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهَذَا الْعَالَمُ مِمَّا يَعُدُّهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَالَمٌ غَيْرَ مَادِّيٍّ، وَلِذَلِكَ يَعُدُّونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي صُوَرِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، فَمَثَلَ تَشَكُّلِهِمْ كَمَثَلِ تَشَكُّلِ الْمَاءِ فِي صُورَةِ الْبُخَارِ اللَّطِيفِ وَالْبُخَارِ الْكَثِيفِ وَصُورَةِ الْمَائِعِ السَّيَّالِ وَصُورَةِ الثَّلْجِ وَالْجَلِيدِ، وَلَكِنَّ الْمَاءَ يَتَشَكَّلُ بِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَذَانِكَ يَتَشَكَّلَانِ بِاخْتِيَارِهِمَا، إِذْ جَعَلَ اللهُ لَهُمَا سُلْطَانًا عَلَى الْعَنَاصِرِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا مَادَّةُ الْعَالَمِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِأَيْدِيهِمْ لَا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَاهِيَّاتِهِمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْلِيلِ أَبْدَانِهِمْ وَتَرْكِيبِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوَادِّ، فَإِذَا تَمَثَّلَ الْمَلَكُ أَوِ الْجَانُّ فِي صُورَةٍ كَثِيفَةٍ كَصُورَةِ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَمْكَنَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَرَوْهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ عَلَى صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ وَسُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِ عَالَمِهِ وَعَالَمِهَا، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ كَرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْخَوَارِقُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ; لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ بِصُورَتِهِ لَا يُنَافِي التَّشَكُّلَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَادَّةُ صُورَتِهِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى قَدْ ظَهَرَتْ بِمَادَّةٍ كَثِيفَةٍ فَيَكُونُ التَّشَكُّلُ فِي هَذَا الْحَالَةِ بِمَادَّةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ حِفْظِ الصُّورَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالتَّشَكُّلِ فِي غَيْرِهَا بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ مَعًا، عَلَى أَنَّ لِأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ

مِنَ التَّنَاسُبِ مَعَ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا، فَفِي الْحَالِ الَّتِي تَغْلِبُ بِهَا رَوْحَانِيَّتهِمْ عَلَى جُثْمَانِيَّتِهِمْ يَكُونُونَ كَالْمَلَائِكَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَرَوْهُمْ بِأَيِّ صُورَةٍ وَشَكْلٍ تَجَلَّوْا فِيهِ. هَذَا وَأَنَّ مَا لَا يُرَى قَدْ يُدْرَكُ بِضْرِبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْإِدْرَاكِ غَيْرَ الرُّؤْيَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَلَكُ مَخْلُوقًا عَالِمًا، وَكَانَ فِي لَطَافَتِهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَرْوَاحِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْكَوْنِ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّصَالِ يَقْتَبِسُ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْبَشَرُ بَعْضَ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْجَوِّ، إِذْ يَبُثُّ الْأَخْبَارَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِالْآلَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ (الْمَعْرُوفَةِ بِالتِّلِغْرَافِ اللَّاسِلْكِي أَوِ الْأَثِيرِيِّ وَالْهَوَائِيِّ) وَيَقْتَبِسُهَا آخَرُونَ؟ بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَنْفُسَ الْبَشَرِيَّةَ يَقْتَبِسُ بَعْضُهَا الْعِلْمَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ بَشَرًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ بَشَرٍ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ الْحَوَاسِّ وَالِاسْتِنْبَاطِ الْعَقْلِيِّ كَمَا رَوَى بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا عَنْ مَرِيضٍ كَانَ يُعَالِجُهُ فِي الْقَاهِرَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا وَذَكَرَ قَرِيبًا لَهُ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ الْآنَ إِلَى مِصْرَ لِأَجْلِ عِيَادَتِي، ثُمَّ إِنَّهُ عَيَّنَ الْقِطَارَ الْحَدِيدِيَّ الَّذِي رَكِبَ فِيهِ ثُمَّ الْوَقْتَ الَّذِي وَصَلَ فِيهِ إِلَى مَحَطَّةِ مِصْرَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مَسَافَةَ سَيْرِ الْمَرْكَبَةِ بَيْنَ الْمَحَطَّةِ وَدَارِ الْمَرِيضِ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ هَذَا الْقَرِيبُ، وَكَانَ يَنْتَظِرُهُ لِاسْتِبَانَةِ الْمُكَاشَفَةِ ذَلِكَ الطَّبِيبُ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ، وَمِثْلُ هَذِهِ يَقَعُ كَثِيرًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَبِسُوهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْبَشَرِ وَمِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ مِنَ الْأَشْيَاءِ؟ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ عَقْلًا مَرْوِيٌّ نَقْلًا، وَلَكِنَّهُ كَغَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ، فَإِذَا تَدَبَّرْنَا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ خَبَرِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ يَظْهَرُ لَنَا مِنْهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، كَسُلْطَانِهِ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ أَنْ يُدْرِكَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَيَقْتَبِسَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، وَلَكِنْ بَعْضُ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ تَصِلُ بِطَهَارَتِهَا وَعُلُوِّ مَكَانَتِهَا إِلَى قَابِلِيَّةِ التَّلَقِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا يَخْتَصُّ بِهِ اللهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ بِدُونِ سَعْيٍ مِنْهُمْ وَلَا كَسْبٍ، فَيُؤَهِّلُهُمْ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَا الْقَابِلُ الَّذِي يَتَلَقَّى عَنِ الْمَلَكِ يَكُونُ لَهُ كَسْبٌ أَوِ اخْتِيَارٌ فِيمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَا الْفَاعِلُ هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارٌ فِيمَا يُوحِيهِ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهُ، وَلِكَمَالِ اسْتِعْدَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَعُلُوِّ أَرْوَاحِهِمْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي صُوَرِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ قَلِيلًا، وَيَتَمَثَّلُ الْمَلَكُ لَهُمْ بِصُورَةِ الْبَشَرِ أَوْ يُلَابِسُهُمْ مُلَابَسَةً رُوحِيَّةً فَيُلْقِي فِي أَرْوَاحِهِمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُلْقِيَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَهَذَا النَّوعُ قَدْ خُتِمَ وَتَمَّ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، وَمَا هُوَ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ، فَيَبْقَى بِبَقَائِهِمْ.

(النَّوْعُ الثَّانِي) مَا يَمْنَحُهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ التَّثْبِيتِ فِي الْحَقِّ وَالْإِلْهَامِ لِمَنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ خِيَارِ خَلْقِهِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَصَفَتْ سَرِيرَتُهُمْ، وَزَكَتْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْفُسُهُمْ، حَتَّى غَلَبَتْ فِيهَا الصِّفَاتُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى النَّزَعَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّزَعَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ الْعَالِيَةُ قَدْ تُقَوِّي الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فَتَسْتَفِيدَ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ قُوَّةً فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَثَبَاتًا عَلَى الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (8: 12) وَقَدْ تَسْتَفِيدُ مِنْهَا عِلْمًا بِالْحَقِّ وَبِشَارَةً بِالْخَيْرِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى التَّحْدِيثُ وَالْإِلْهَامُ، وَمِنْهُ بِشَارَةُ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمَثُّلُ جِبْرِيلَ لَهَا عِنْدَمَا أَرَادَ اللهُ أَنْ تَحْمِلَ بِنَفْخِهِ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ مِنَ الْمُحَدَّثِينَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ مَلَكِ الْإِلْهَامِ بِأَنَّهُ " وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ " وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَيُوَضِّحُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَدْ أَطَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي إِيضَاحِ هَذَا الْمَطْلَبِ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ بَحْثٌ فِيهِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمَحْجُوبُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا " وَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ " وَلَوْ قِيلَ لِمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ قَبْلَ كَشْفِهِمْ عَنْ نَسَمَةِ هَذِهِ الْجِنَّةِ (الْمَيْكُرُوبَاتِ) إِنَّ فِي الْعَالَمِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ بِعَيْنِهِ هِيَ سَبَبُ الْأَدْوَاءِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَهِيَ سَبَبِ التَّغَيُّرَاتِ وَالِاخْتِمَارَاتِ الَّتِي نَرَاهَا فِي الْمَائِعَاتِ وَالْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا لَقَالُوا: إِنَّمَا هَذِهِ خُرَافَةٌ مِنَ الْخُرَافَاتِ، وَقَدْ كَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمُونَ يَعُدُّونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى " الطَّاعُونُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، ثُمَّ صَارُوا بَعْدَ اكْتِشَافِ بَاشْلس الطَّاعُونَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ بِصِدْقِ كَلِمَةِ " الْجِنِّ " عَلَى مَيكْرُوبِ الطَّاعُونِ كَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْجِنَّ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَخَشَاشِ الْأَرْضِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ أَكْمَلَ بَيَانٍ، بِأَوْضَحِ بُرْهَانٍ، وَاخْتَصَرَ فِي بَيَانِ النَّوْعِ الثَّانِي فَقَالَ: " أَمَّا أَرْبَابُ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ السَّامِيَةِ مِنَ الْعُرَفَاءِ، مِمَّنْ لَمْ تَدْنُ مَرَاتِبُهُمْ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَعَلَى شَرْعِهِمْ وَدَعْوَتِهِ أُمَنَاءَ: فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَالَ حَظَّهُ مِنَ الْأُنْسِ، بِمَا يُقَارِبُ تِلْكَ الْحَالَ فِي النَّوْعِ أَوِ الْجِنْسِ، لَهُمْ مُشَارَفَةٌ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَهُمْ مَشَاهِدُ صَحِيحَةٌ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ لَا تُنْكَرُ عَلَيْهِمْ لِتَحَقُّقِ حَقَائِقِهَا فِي الْوَاقِعِ، فَهُمْ لِذَلِكَ لَا يَسْتَبْعِدُونَ شَيْئًا مِمَّا يُحَدَّثُ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ

10

عَلَيْهِمْ، وَمَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَمِنْ حُرِمَ انْحَرَفَ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ مَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَعَنْهُ: ظُهُورُ الْأَثَرِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ، وَسَلَامَةُ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُخَالِفُ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَطَهَارَةُ فِطَرِهِمْ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، أَوْ يَمُجُّهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَانْدِفَاعُهُمْ بِبَاعِثٍ مِنَ الْحَقِّ النَّاطِقِ فِي سَرَائِرِهِمُ الْمُتَلَأْلِئِ فِي بَصَائِرِهِمْ، إِلَى دَعْوَةِ مَنْ يَحُفُّ بِهِمْ فِي خَيْرِ الْعَامَّةِ، وَتَرْوِيحِ قُلُوبِ الْخَاصَّةِ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ مُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ، وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْكَشِفُ حَالُهُمْ، وَيَسُوءُ مَآلُهُمْ، وَمَآلُ مَنْ غَرَّرُوا بِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَّا سُوءُ الْأَثَرِ فِي تَضْلِيلِ الْعُقُولِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَانْحِطَاطِ شَأْنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ رُزِئُوا بِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُمُ اللهُ بِلُطْفِهِ، فَتَكُونُ كَلِمَتُهُمُ الْخَبِيثَةُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْمُنْكِرِينَ لِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَشَاهِدِهِمْ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِإِمْكَانِ مَا أَنْبَئُوا بِهِ بَلْ بِوُقُوعِهِ إِلَّا حِجَابٌ مِنَ الْعَادَةِ، وَكَثِيرًا مَا حَجَبَ الْعُقُولَ حَتَّى عَنْ إِدْرَاكِ أُمُورٍ مُعْتَادَةٍ ". (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) . بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ سُنَّتَهُ فِي شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْجُمُودِ وَالتَّكْذِيبِ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِحُونَهَا، وَعِقَابَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَيَّنَ لَهُ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَسُنَّتُهِ تَعَالَى عِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ظَاهِرُ كَلَامِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّ الْهُزُءَ (بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَأَنَّ أَقْوَالَهُمْ: هَزِئَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ مُرَادِفٌ لِقَوْلِهِمْ سَخِرَ مِنْهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ أَنَّ الْحَرْفَيْنِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهَا حَيْثُ يُسْتَعْمَلُ الْآخَرُ كَثِيرًا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْهُزُؤُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ (كَذَا وَلَعَلَّ صَوَابَهُ فِي خِفَّةٍ) وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ، فمِمَّا قَصَدَ بِهِ الْمَزْحَ قَوْلَهُ: (اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا 5: 58) (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا 45: 9) (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا 25: 41) وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ، كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ. . وَسَخِرْتُ مِنْهُ وَاسْتَسْخَرْتُهُ لِلْهُزُؤِ مِنْهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

11

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ وَأَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهُزْءِ وَهُوَ النَّقْلُ السَّرِيعُ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ انْتَهَى - وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالشَّيْءِ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ احْتِقَارُهُ وَعَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَصْحَبُ ذَلِكَ السُّخْرِيَةُ مِنْهُ، وَهِيَ الضَّحِكُ النَّاشِئُ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ وَالِاحْتِقَارِ، فَمَنْ حَاكَى امْرَءًا فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ زِيِّهِ أَوْ غَيْرِهَا مُحَاكَاةَ احْتِقَارٍ فَقَدْ سَخِرَ مِنْهُ، فَالسُّخْرِيَةُ تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِهْزَاءَ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْأَشْخَاصِ دُونَ الْأَشْيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذَكَرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (23: 110) وَقَالَ فِي نُوحٍ: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) (11: 38) الْآيَةَ. وَحَاقَ الْمَكْرُوهُ يَحِيقُ حَيْقًا، أَحَاطَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ مُخْرِجٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ رَسُولَهُ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدِ اسْتَهْزَءُوا بِرُسُلٍ كِرَامٍ مِنْ قَبْلِهِ فَتَنْكِيرُ " رُسُلٍ " لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) (36: 30) فَمَا يَرَاهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ طُغَاةِ قُرَيْشٍ لَيْسَ بِدَعًا مِنْهُمْ، بَلْ جَرَوْا بِهِ عَلَى آثَارِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ حَاقَ بِأُولَئِكَ السَّاخِرِينَ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ أُولَئِكَ الرُّسُلُ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَاقَ بِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبَهُ وَجَاءَ عَلَى وَفْقِهِ. فَالْآيَةُ تَعْلِيمٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ اللهِ فِي الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ، وَبِشَارَةٌ لَهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنْ إِدَالَةِ الدَّوْلَةِ وَقَدْ كَانَ جَزَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَذَابَ الْخِزْيِ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَلَكِنَّ اللهَ كَفَاهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ فَأُهْلَكَهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ سَبَبًا لِهَلَاكِ قَوْمِهِمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ إِذْ قَالَ: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (15: 95) وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ هَلَكُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ كَوْنُ أَمْرِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرُّسُلِ يَئُولُ إِلَى الْهَلَاكِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ الْمُطَّرِدَةِ فِيهِمْ مِمَّا يَرْتَابُ فِيهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ التَّارِيخَ، وَلَا يَأْخُذُونَ خَبَرَ الْآيَةِ فِيهِ بِالتَّسْلِيمِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يُوصِلُهُمْ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُكَذِّبِينَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ قَالُوا " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ " سِيرُوا فِي الْأَرْضِ كَشَأْنِكُمْ وَعَادَتِكُمْ، وَتَنَقَّلُوا فِي دِيَارِ أُولَئِكَ الْقُرُونِ الَّذِينَ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَّا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ، ثُمَّ انْظُرُوا فِي أَثْنَاءِ كُلِّ رِحْلَةٍ مِنْ رِحْلَاتِكُمْ آثَارَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَتَأَمَّلُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِمَا تُشَاهِدُونَ مِنْ آثَارِهِمْ، وَمَا تَسْمَعُونَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: (عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وَلَمْ يَقُلْ " عَاقِبَةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ " أَوِ السَّاخِرِينَ، وَالْكَلَامُ الْأَخِيرُ فِي هَؤُلَاءِ لَا فِي جَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ

الْمُبَاشِرُ لِلْإِهْلَاكِ اقْتِرَاحَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْآيَاتِ الْخَاصَّةَ عَلَى الرُّسُلِ، فَلَمَّا أُعْطَوْهَا كَذَّبَ بِهَا الْمُسْتَهْزِئُونَ الْمُقْتَرِحُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ عَنْ مُشَارَكَةِ كُبَرَاءِ مُتْرَفِيهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُكَذِّبُونَ: قَدِ اسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهْزِئُوا وَلَمْ يَسْخَرُوا فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالسَّاخِرِينَ؟ ! لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْهَلَاكِ وَأَجْدَرُ; وَلِذَلِكَ أَهْلَكَ اللهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ لِئَلَّا يَعُمَّ شُؤْمُهُمْ سَائِرَ الْمُكَذِّبِينَ مَعَهُمْ، وَمِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا مِنْ بَعْدُ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: (ثُمَّ انْظُرُوا) وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ بِالْفَاءِ (رَاجِعْ 99 مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ و42 مِنْ سُورَةِ الرُّومِ و109 مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ و44 مِنْ سُورَةِ فَاطِرٍ إِلَخْ) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نُكْتَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ: فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ " فَانْظُرُوا " وَقَوْلِهِ " ثُمَّ انْظُرُوا "؟ قُلْتُ: جُعِلَ النَّظَرُ مُسَبَّبًا عَنِ السَّيْرِ فِي قَوْلِهِ: " فَانْظُرُوا " فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) فَمَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَإِيجَابُ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِـ (ثُمَّ) لِتُبَاعِدَ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُبَاحِ اهـ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيَّرِ فِي الِانْتِصَافِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي الْمَكَانَيْنِ وَاحِدًا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي النَّظَرِ، فَحَيْثُ دَخَلَتِ الْفَاءُ فَلِإِظْهَارِ السَّبَبِيَّةِ، وَحَيْثُ دَخَلَتْ ثُمَّ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ السَّيْرِ، وَأَنَّ السَّيْرَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ لَا غَيْرَ، وَشَتَّانَ بَيْنِ الْمَقْصُودِ وَالْوَسِيلَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَا: (ثُمَّ انْظُرُوا) وَفِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ " فَانْظُرُوا " لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي " ثُمَّ " دُونَهُ فِي هَاتِيكَ الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) مَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَالِكِينَ طَوَائِفٌ كَثِيرَةٌ وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْشَأَ بَعْدَهُمْ أَيْضًا كَثِيرُونَ، فَيَكُونُ أَمْرُهُمْ بِالسَّيْرِ دُعَاءً لَهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِقْرَاءَ الْبِلَادِ وَمَنَازِلِ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى كَثْرَتِهَا لِيَرَوُا الْآثَارَ فِي دِيَارٍ بَعْدَ دِيَارٍ، وَهَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ وَمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ تَمْنَعُ مِنَ التَّعَقُّبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخَرِ. انْتَهَى. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ. وَلَا يَخْلُو عَنْ دَغْدَغَةٍ، وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ السَّيْرَ مُتَّحِدٌ هُنَاكَ وَهُنَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ بِعَطْفِ النَّظَرِ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ تَارَةً، نَظَرًا إِلَى آخِرِهِ، وَبِثُمَّ أُخْرَى نَظَرًا إِلَى أَوَّلِهِ. وَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُمْتَدٍّ انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ الْآلُوسِيُّ، وَالظَّاهِرُ فِي الْأَخِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ نَظَرًا إِلَى الْأَوَّلِ، وَبِثُمَّ نَظَرًا إِلَى الْآخَرِ عَكْسَ مَا ذَكَرَهُ فَتَأَمَّلْ.

12

ثُمَّ أَقُولُ: وَلَعَلَّ مَنْ يَتَأَمَّلُ مَا وَجَّهْنَا بِهِ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، قَبْلَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ النُّكَتِ كُلِّهَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ النَّظْمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ النُّكَتِ، مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا تَقْتَضِيهَا حَالُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ بِالسَّيْرِ هُنَا، وَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ الْمُعَانِدُونَ الْكَثِيرُو الْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ الْغَافِلُونَ عَنْ شُئُونِ الْأُمَمِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَاقِبَةِ الْمَاضِينَ وَأَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ. (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) .

بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أُصُولَ الدِّينِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَشُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الرِّسَالَةِ مَعَ مَا يُدْحِضُهَا، وَهَدَى رَسُولَهُ إِلَى سُنَّتِهِ فِي الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ لِتَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ قَلْبِهِ، الْمُعِينُ لَهُ عَلَى الْمُضِيِّ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ، ثُمَّ قَفَّى سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بِتَلْقِينِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُسْلُوبًا آخَرَ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، فِي مَوْضِعِ فَصْلِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ تَكْرَارٌ لِمَعْنَى سَبَقَ أَوِ اشْتَمَلَ عَلَى التَّكْرَارِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّنْوِيعَ فِي الِاحْتِجَاجِ وَالتَّفَنُّنَ فِي أَسَالِيبِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَإِلَى غَيْرِ الدِّينِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْبَشَرِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْتِزَامَ دَلِيلٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ ذِكْرِهِ، أَوْ إِيرَادَ عِدَّةِ أَدِلَّةٍ بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إِلَى سَآمَةِ الدَّاعِي مِنَ التَّكْرَارِ عَلَى رَغْبَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَفَانِيهِ فِي نَشْرِهَا وَإِثْبَاتِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي الْمَدْعُوِّينَ الْكَارِهِينَ لَهُ وَلَهَا، إِذَا لَمْ يَعْقِلُوا الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ تَتَوَجَّهْ قُلُوبُهُمْ إِلَى تَدَبُّرِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عِدَّةِ أَدِلَّةٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي مُنْتَهَى السَّآمَةِ وَالضَّجَرِ مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ وَفِي غَايَةِ النُّفُورِ مِنْهُ، كَيْفَ وَقَدْ كَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ عَلَى مَا امْتَازَ بِهِ فِي مَقَامِ التَّفَنُّنِ وَالتَّنْوِيعِ وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ فِي كَثْرَةِ الْأَسَالِيبِ؟ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ الْجَاحِدِينَ لِرِسَالَتِكَ الْمُعْرِضِينَ عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ: لِمَنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ عُلُوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ؟ السُّؤَالُ تَمْهِيدٌ لِحُجَّةٍ جَدِيدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ مَا فِيهِمَا وَمَنْ فِيهِمَا مِلْكٌ وَعَبِيدٌ لَهُ وَلَفْظُ " مَا " يَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَجَزَمَ فِي الْكَشَّافِ بِأَنَّ السُّؤَالَ لِلتَّبْكِيتِ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلِ لِلَّهِ) تَقْرِيرٌ لَهُمْ أَيْ هُوَ اللهُ لَا خِلَافَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَقْدِرُونَ أَنْ تُضِيفُوا شَيْئًا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقْرِيرٌ لِلْجَوَابِ نِيَابَةً عَنْهُمْ، أَوْ إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ وَقَالَ الرَّازِيُّ: أَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ قَدْ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ مُنْكِرٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ قَدْ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ مُنْكِرٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ دَافِعٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ هَذَا، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لِلَّهِ بِمَا فِي الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ مِنْ آثَارِ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَنَقُولُ: إِنَّ إِتْيَانَ السَّائِلِ بِالْجَوَابِ يَحْسُنُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي حَصَرَ الرَّازِيُّ الْحَسَنَ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا يَأْتِي بِهِ عَيْنُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَسْئُولُ وَمَا يُجِيبُ بِهِ إِنْ أَجَابَ وَإِنَّمَا يَسْبِقُهُ إِلَيْهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ مِنْ لَوَازِمِهِ هُوَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمَسْئُولُ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهُ أَوْ يُنْكِرُهُ لِجَهْلِهِ أَوْ غَفْلَتِهِ عَنْ كَوْنِهِ لَازِمًا لِمَا يَعْرِفُهُ وَيَعْتَقِدُهُ. وَلَيْسَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُنَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ

مُنْكِرٌ، وَلَا عَلَى دَفْعِهِ دَافِعٌ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْجَوَابِ وَأَنْ يَبْدَأَهُ بِمَا كَانُوا يُجِيبُونَ بِهِ كَمَا عَلِمَ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى لِيَبْنِيَ عَلَى قَوْلِهِ: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى الَّذِي تُقِرُّونَ مَعِي بِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ الرَّحْمَةَ بِخَلْقِهِ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ إِفَاضَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ أَنْ يَجْمَعَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَ كَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَوْ جَمْعًا لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ مَنْ تَدَبَّرَ دَلَائِلَ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ بِالْمُكَلَّفِينَ يُنَافِي الْفَوْضَى وَالْإِهْمَالَ وَاسْتِبَاحَةَ الظُّلْمِ. وَالْعِلْمُ بِهِ رَحْمَةٌ أَيْضًا; لِأَنَّهُ وَازِعٌ نَفْسِيٌّ لَا يَتِمُّ تَهْذِيبُ النَّفْسِ بِدُونِهِ، بَلِ الرَّحْمَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ رَحِمَتِهِ تَعَالَى بِالنَّاسِ مَا مَنَحَهُمْ مِنْ هِدَايَاتِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ الْمُقَاوِمَةِ لِمَا يَجْنُونَهُ عَلَى تِلْكَ الْهِدَايَاتِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُمْ عَلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ. بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مِنْ أُصُولِ دِينِهِ الْقَوِيمِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ رَحْمَتِهِ الْعُلْيَا الْمُوَافِقُ لِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا أَنَّ لِأَعْمَالِ الْبَشَرِ جَزَاءً فِطْرِيًّا هُوَ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فِي إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ أَوْ إِفْسَادِهَا، وَجَزَاءً آخَرَ وَضْعِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا تَابِعًا لَهُ هُوَ إِنْشَاءُ فَضْلٍ أَوْ عَدْلٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَصْلُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْعُلُومِ الثَّابِتَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، الَّتِي تَطْبَعُهَا فِيهَا عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ خَلْقِهِ مِنْ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ لَذَّةِ الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَلَذَّةِ الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَهُوَ أَدْنَى الْجَزَاءَيْنِ وَأَقَلُّهُمَا وَغَيْرُ الْمُطَّرِدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِ فِطْرَتِهَا بِالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ كَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَوْهَامِهَا وَبِسَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تَطْبَعُهَا فِيهَا تِلْكَ الْأَوْهَامُ السَّخِيفَةُ وَالْأَعْمَالُ الْقَبِيحَةُ وَالْعِبَادَاتُ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ شَقَاءِ الْمَعِيشَةِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ لَوَازِمَ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَهِيَ كَالْأَعْمَالِ الضَّارَّةِ وَالْوَسَاوِسِ الْعَصَبِيَّةِ (الْهِسْتِيرِيَّةِ) الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَمْرَاضُ الْمُعْضِلَةُ وَالْأَدْوَاءُ الْقَاتِلَةُ، كَمَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُقَابِلِهَا يُشْبِهُ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ الَّتِي يَرْتَاضُ بِهَا الْبَدَنُ وَالْعَقْلُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِمَا الْمَرْءُ مِنَ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هِدَايَةُ الدِّينِ لِلْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَالْعِبَادَاتِ، وَزَجْرِهِ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ وَالرَّذَائِلِ وَالشُّرُورِ كُلُّ ذَلِكَ كَبَثِّ الْوَصَايَا

الصَّحِيحَةِ وَالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ فِي النَّاسِ; لِيَكُونَ لَهُمْ وَازِعٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتَّقُونَ بِهِ مَا يَضُرُّهُمْ وَيُقْبِلُونَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَتِلْكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ; لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ الْمَرِيضِ يُخَالِفُ أَوَامِرَ الطَّبِيبِ وَنَوَاهِيهِ الْخَاصَّةَ، وَيُخَالِفُ الْوَصَايَا الصِّحِّيَّةَ الْعَامَّةَ، فَيَزْدَادُ أَمْرَاضًا وَأَسْقَامًا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ تِلْكَ الْوَصَايَا رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْجَزَاءُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ إِنْشَاءٌ مِنْ مُقْتَضَى الْفَضْلِ أَوِ الْعَدْلِ فَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْجَزَاءِ الْأَوَّلِ وَتَابِعٌ لَهُ وَهُوَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا يَزِيدُ اللهُ الْمُحْسِنِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ بِفَضْلِهِ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ أَعَمَّ وَأَوْسَعَ وَأَعْظَمَ كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَزَاءِ خَاصًّا بِالْمُحْسِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ. نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا. (وثَانِيهِمَا) الْقَصَاصُ فِي الْحُقُوقِ وَإِنْ قَلَّتَ، وَمَا يَقْتَصُّ بِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِحَسَبِ عَدْلِهِ. وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، أَعَمَّ وَأَسْبَقَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَدْلِ، كَانَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ الْمُسِيئِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْفُو اللهُ عَنْهُمْ، فَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ قَدْ يَنْقُصُ مِنْهُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لَا يُزَادُ فِيهِ شَيْءٌ قَطُّ. وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْإِحْسَانِ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا 6: 160) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ 10: 26) (فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 4: 173) وَبَيَانُ الدِّينِ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْجَزَاءِ رَحْمَةٌ أَيْضًا فَهُوَ كَبَيَانِ الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ لِلْأُمَّةِ مَا تُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الضَّارَّةِ، وَمَا يَدُلُّ الْمُحْسِنِينَ مِنَ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ وَالتَّرَقِّي فِي خِدْمَةِ الدَّوْلَةِ، رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي " وَفِي رِوَايَةٍ " إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " وَإِنَّمَا السَّبْقُ وَالْغَلَبُ فِي أَثَرَيِ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَتَعَلُّقُهُمَا لَا فِي الصِّفَاتِ أَنْفُسِهَا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْبَحْثَ بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (7: 156) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. أَمَّا تَعَلُّقُ جَمْعِ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِكِتَابَةِ الرَّحْمَةِ مِنْ جِهَةِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ فَقِيلَ: إِنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ تَأْكِيدٌ لَهَا فِي مَعْنَى الْقَسَمِ، وَجُمْلَةُ " لَيَجْمَعَنَّكُمْ " جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ حَلَّ مَحَلَّهُ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مُقْتَضَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَمَا مَوْقِعُهَا مِنْ مَوْضُوعِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَجْمَعْكُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ لَظَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنْكُمْ مَغْبُونِينَ مَحْرُومِينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَظْلُومِينَ

مَهْضُومِينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الظَّالِمِينَ الْمُسِيئِينَ غَيْرَ مُؤَاخَذِينَ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُسْنِ الْأَثَرِ وَعَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ قُبْحِ الْأَثَرِ، لَيْسَ عَامًّا مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنَ الِاخْتِبَارِ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الرَّحْمَةَ، كَمَا يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ، فَمِنْ مُقْتَضَى كِتَابَتِهِ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ، وَجَزَاءُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ فِي الْكُلِّ وَالْفَضْلُ فِي الْبَعْضِ. وَالْجَمْعُ بِمَعْنَى الْحَشْرِ وَيَتَعَدَّيَانِ بِإِلَى، يُقَالُ: جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ وَحَشَرَهُمْ إِلَيْهِ. وَجَمْعُ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَعْنَاهُ حَشْرُهُمْ إِلَى مَوْقِفِهِ أَوْ حِسَابِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ مُنْتَهِينَ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: إِنَّ " إِلَى " صِلَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى " فِي " وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فَمَعْنَاهُ أَخُصُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُجْمَعُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالذِّكْرِ أَوِ التَّذْكِيرِ أَوْ بِالذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ فَإِنَّهُمْ لِخُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِأَنْ يُتَعْتَعُوا بِالتَّذْكِيرِ، أَوْ بِالذَّمِّ الْمُفْضِي إِلَى التَّفْكِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ. . . إِلَخْ. خَاطَبَهُمْ كَافَّةً ثُمَّ أَبْدَلَ مِنَ الْكُلِّ بَعْضَهُ الْأَجْدَرَ بِالْخِطَابِ الْأَحْوَجَ إِلَيْهِ أَوْ وَصَفَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ مَنَاطُ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَقِلَّةٌ مَعْنَاهَا أَنَّ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْجَمْعِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِخَبَرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَظْهَرُ. وَخَسَارَةُ الْأَنْفُسِ عِبَارَةٌ عَنْ إِفْسَادِ فِطْرَتِهَا وَعَدَمِ اهْتِدَائِهَا بِمَا مَنَحَهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْهِدَايَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، فَالْمُقَلِّدُونَ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اسْتِعْمَالِ أَشْرَفِ النِّعَمِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهُوَ الْعَقْلُ، وَحَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ الْكَسْبِيَّةِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ. أَفْضَلُ مِنَ الْمُقَلِّدِ لِمُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُقَلِّدِ فِي الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى؟ وَالْحِرْمَانُ مِنْ مَضَاءِ الْعَزِيمَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ خُسْرَانٌ لِلنَّفْسِ يُضَاهِي خُسْرَانَهَا بِفَقْدِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ، فَإِنَّ ضَعِيفَ الْإِرَادَةِ إِنْ أُوتِيَ حَظًّا مِنَ الْعِلْمِ لَا يَقُومُ بِحَقِّهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَا يَجِبُ. لِأَنَّ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ مِنْ وُجُوبِ نَصْرِ الْحَقِّ وَخَذْلِ الْبَاطِلِ وَمُجَاهِدَةِ الْأَهْوَاءِ الرَّدِيئَةِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ لَا يَحْمِلُهَا إِلَّا ذُو الْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِرَادَةِ الثَّابِتَةِ. فَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِالتَّقْلِيدِ لَا يَنْظُرُ وَلَا يَسْتَدِلُّ حَتَّى يَهْتَدِيَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِوَهْنِ الْإِرَادَةِ قَلَّمَا يَنْظُرُ وَيَسْتَدِلُّ أَيْضًا، فَإِنْ هُوَ نَظَرَ وَظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِمَا قَامَ مِنَ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ قَعَدَ بَعْدَ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ عَنِ احْتِمَالِ لَوْمِ اللَّائِمِينَ، وَاحْتِقَارِ الْأَهْلِ وَالْمُعَاشِرِينَ، لِمَنْ تَرَكَ دِينَ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَصَبَا إِلَى حِزْبِ أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ. هَذَا مَا يُقَالُ فِي مِثْلِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ

13

فِي عَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِنَّ ضَعْفَ الْإِرَادَةِ لَيَصُدُّ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَنِ الْوَاجِبَاتِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ مَشَقَّةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ نَفْسِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْأَوْطَانِ، وَلَوْ بَحَثْتَ عَنْ خُسْرَانِ الْأَفْرَادِ الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ لِكَرَامَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخُسْرَانِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تُولِي زَعَامَتَهَا أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لِاسْتِقْلَالِهَا وَصَلَاحِ أَمْرِهَا لَرَأَيْتَ سَبَبَ هَذَا وَذَاكَ وَهَنَ الْعَزِيمَةِ وَذَبْذَبَةِ الْإِرَادَةِ، فَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَزِيمَةِ الْحَافِزَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَمَنْ خَسِرَ إِحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ سَوَاءً كَانَ فَرْدًا، أَوْ أُمَّةً، فَمَا بَالُ مَنْ خَسِرَهُمَا كِلْتَيْهِمَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى وَقَدْ لَمَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ فَأَوْرَدَ عَلَى الْآيَةِ إِشْكَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَابًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. قَالَ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَعَلَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرَانِهِمْ وَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ غَيْرُ مُنْدَرِجٍ تَحْتَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَسَكَنَ مِنْ سُكْنَى أَوْ مِنَ السُّكُونِ ضِدَّ الْحَرَكَةِ، وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ بِمَا ذَكَرَ عَمَّا يُقَابِلُهُ، أَيْ لَهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (16: 81) أَيْ وَالْبَرْدَ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمِلْكِ الْخَاصِّ عَلَى دُخُولِهِ فِي عُمُومِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْخَفَايَا، فَإِنَّ السُّكْنَى وَالسُّكُونَ مِنْ دَوَاعِي خَفَاءِ السَّاكِنِ، فَإِذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ كَانَ أَشَدَّ خَفَاءً; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ لِأَنَّ مَا يَسْكُنُ فِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَعَطْفُ النَّهَارِ عَلَيْهِ تَكْمِيلٌ، وَلَمَّا ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِأَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرَ، الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِقُدْرَتِهِ بِمَا يَشَاءُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ الْكَامِلَةِ ذَكَّرَنَا بِأَنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَيِ الْمُحِيطُ سَمْعُهُ بِكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْمَعَ مَهْمَا يَكُنْ خَفِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَسْمَعُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يُصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَيَصُمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: وَهُوَ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (40: 19) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَدُقَّ عَنْ سَمْعِهِ دَعْوَةُ دَاعٍ أَوْ تَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ، حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهَا الْأَوْلِيَاءُ، أَوْ يُقْنِعَهُ بِهَا الشُّفَعَاءُ (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (2: 255) . بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ مَا نَقَلَهُ

14

الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَقَالَ إِنَّهُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي نَظْمِهَا وَهُوَ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِذْ لَا مَكَانَ سِوَاهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِذْ لَا زَمَانَ سِوَاهُمَا، فَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ظَرْفَانِ لِلْمُحْدَثَاتِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، وَالزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ. وَأَقُولُ: هَهُنَا دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ، أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، لِدَقَائِقَ مَذْكُورَةٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الصِّرْفَةِ. وَالتَّعْلِيمُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَظْهَرِ فَالْأَظْهَرُ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى اهـ. بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ بِالْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا دَبِيبُ نَمْلَةٍ. أَمَرَهُ بِقَوْلٍ آخَرَ بَيَّنَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ دُونَ سِوَاهُ فِي كُلِّ مَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى تَوْفِيقِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْمُرَادُ بِمَحْضِ سَعْيِهِمْ، فَقَالَ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) الْوَلِيُّ النَّاصِرُ وَمُتَوَلِّي الْأَمْرِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِإِنْكَارِ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا، لَا لِإِنْكَارِ الْوَلِيِّ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: أَأَتَّخِذُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ، وَلَا: أَأَتَّخِذُ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا. وَمِثْلُهُ: (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (39: 64) وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ النَّصْرُ أَوْ غَيْرُ النَّصْرِ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ فِعْلًا وَمَنْعًا فِيمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَتَصَرُّفِهِ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ; وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْوَلِيُّ بِالْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَنَاصُرُ الْمَخْلُوقِينَ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمُ الْعَادِيِّ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اتِّخَاذِ اللهِ وَلِيًّا أَوِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَّخِذُونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَصُلَحَاءَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ بِنِدَائِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ مِنْ نَصْرٍ عَلَى عَدْوٍّ وَشِفَاءٍ مِنْ مَرَضٍ وَسَعَةٍ فِي رِزْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ هَذَا عِبَادَةٌ مِنْهُمْ لَهُمْ وَجَعْلُهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ بِاعْتِقَادِ كَوْنِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ قَدْ كَانَ بِمَجْمُوعِ إِرَادَةِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَمُقْتَضَى هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى مَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ ذَلِكَ الْمَطْلَبِ إِلَّا بِالتَّبَعِ لِإِرَادَةِ الْوَلِيِّ الشَّافِعِ أَوِ الْمُتَّخَذِ وَلِيًّا شَفِيعًا، وَالْحَقُّ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهَا

الْمُحْدَثَاتُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا بِشَوَاهِدِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي اتِّخَاذَ غَيْرِهِ وَلِيًّا فَقَالَ: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مُبْدِعِهِمَا أَيْ مُبْدِئِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَرَفْتُ مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ مِنْ بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيِ ابْتَدَعْتُهَا، وَأَصْلُ الْفَطَرِ الشَّقُّ، وَمِنْهُ (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) (82: 1) بِمَعْنَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَقِيلَ لِلْكَمْأَةِ فِطْرٌ; لِأَنَّهَا تَفْطِرُ الْأَرْضَ فَتَخْرُجُ مِنْهَا. وَإِيجَادُ الْبِئْرِ إِنَّمَا يُبْتَدَأُ بِشَقِّ الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمَادَّةُ الَّتِي خَلَقَ اللهُ مِنْهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كُتْلَةً وَاحِدَةً دُخَّانِيَّةً، فَفَتَقَ رَتْقَهَا وَفَصَلَ مِنْهَا أَجْرَامَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْفَطْرِ وَالشَّقِّ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ. وَصْفُ اللهِ تَعَالَى بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ لَا نِزَاعَ فِيهِ يُؤَيِّدُ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا يُسْتَنْصَرُ وَيُسْتَعَانُ بِهِ، أَوْ يُتَّخَذُ وَاسِطَةً لِلتَّأْثِيرِ فِي الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ وَلَا شَفَاعَةِ شَافِعٍ يَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِيَّاهُ يُسْتَعَانُ فِي كُلِّ مَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) أَيْ يَرْزُقُ النَّاسَ الطَّعَامَ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُطْعِمُهُ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ: " وَلَا يَطْعَمُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ لَا يَأْكُلُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُؤَيِّدَةٌ لِإِنْكَارِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ غَيْرِ اللهِ، وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِمَنِ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَشَرِ بِأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَامِ، لَا حَيَاةَ لَهُمْ وَلَا بَقَاءَ إِلَى الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ بِدُونِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَهُمُ الطَّعَامَ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْبَقَاءِ بِدُونِهِ وَعَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِهِ وَإِيجَادِهِ، فَكَيْفَ يُتَّخَذُونَ أَوْلِيَاءَ مَعَ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ، الرَّزَّاقِ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ؟ كَمَا قَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى النَّصَارَى فِي عِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) (5: 75) وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ كَالْأَصْنَامِ، فَهِيَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ مِنَ الْبَشَرِ، لِاتِّفَاقِ عُقَلَاءَ الْأُمَمِ كُلِّهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْجَمَادِ وَتَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا: إِنِّي أُمِرْتُ مِنْ لَدُنْ رَبِّي الْمَوْصُوفِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ إِلَيْهِ وَانْقَادَ لِدِينِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثْتُ فِيهَا، فَلَسْتُ أَدْعُو إِلَى شَيْءٍ لَا آخُذُ بِهِ، بَلْ أَنَا أَوَّلُ مُؤْمِنٍ وَعَامِلٍ بِهَذَا الدِّينِ، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ وَقِيلَ لِي بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ بِالسَّبْقِ إِلَى إِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ:

15

لَا يَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، فَأَنَا أَتَبَرَّأُ مِنْ دِينِكُمْ وَمِنْكُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّنِي أُمِرْتُ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ. كَذَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَاصِلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ. وَبَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ الْمُبَيِّنِ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ وَأَسَاسِ الدِّينِ، وَكَوْنِ الدَّاعِي إِلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ كَغَيْرِهِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِقَوْلٍ آخَرَ فِي بَيَانِ جَزَاءِ مَنْ خَالَفَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ آنِفًا، وَأَنَّهُ عَامٌّ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا شَفَاعَةَ تَحُولُ دُونَهُ فَقَالَ: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظَيمٍ) قَدَّمَ ذِكْرَ الْخَوْفِ عَلَى شَرْطِهِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، فَالْمَعْنَى إِنْ فُرِضَ وُقُوعُ الْعِصْيَانِ مِنِّي لِرَبِّي فَإِنَّنِي أَخَافُ أَنْ يُصِيبَنِي عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِالْعَظِيمِ لِعَظَمَةِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَمُحَاسَبَتِهِ لِلنَّاسِ وَمَجَازَاتِهِ لَهُمْ. وَحِكْمَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهُ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ. وَأَنَّ يَوْمَ الْجَزَاءِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا سُلْطَانَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَيَتَّكِلُ عَلَيْهِ مَنْ يَعْصِيهِ، ظَنًّا أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ أَوْ يُنْجِيَهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وَإِذَا كَانَ خَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَائِهَا بِالْعِصْمَةِ فَخَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ثَابِتٌ لَهُ دَائِمًا. (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أَيْ مَنْ يُصْرَفْ وَيُحَوَّلْ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ، أَوْ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ذَلِكَ الْعَذَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ رَحِمَهُ اللهُ بِإِنْجَائِهِ مِنَ الْهَوْلِ الْأَكْبَرِ، وَبِمَا وَرَاءَ النَّجَاةِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعَذَّبُ يَوْمَئِذٍ يَكُونُ مُنَعَّمًا حَتْمًا، وَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّعِيمِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظَّاهِرُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ آخِرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ (الْمَائِدَةِ) أَنَّ الْفَوْزَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْأَعْرَافِ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَتِهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ مِنْ يَصْرِفُهُ اللهُ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْعَذَابِ إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ (مَنْ يَصْرِفِ اللهُ) بِالظَّاهِرِ لِلْفَاعِلِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِقَصْدِ التَّفْسِيرِ وَلَا يَمْنَعُنَا مِنَ الْجَزْمِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَتَبَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي مُصْحَفِهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْأَشْعَرِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ لِأَنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْوَاجِبِ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً، وَضَرَبُوا لِذَلِكَ الْأَمْثَالَ فِي أَفْعَالِ الْبَشَرِ، وَالْحَقُّ أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الرَّحْمَةِ الْبَشَرِيَّةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى النَّاسِ مَا هُوَ رَحْمَةٌ أَيْ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ، وَأَمَّا الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ، وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، أَيْ أَوْجَبَهَا

17

كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ. فَهَذِهِ كِتَابَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ كِتَابَتُهَا لِلْمُتَّقِينَ الْمُزَكِّينَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبِ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَجَازَ أَلَّا يَرْحَمَ أَحَدًا وَأَلَّا يَكُونَ رَحِيمًا بِخَلْقِهِ وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا فَكِتَابُ اللهِ لَا يُجِيزُهُ، وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ صَرْفَ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ بَعْدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ لِلَّهِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ وَحْدَهُ فَقَالَ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الْمَسُّ أَعَمُّ مِنَ اللَّمْسِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. يُقَالُ: مَسَّهُ السُّوءُ وَالْكِبْرُ وَالْعَذَابُ وَالتَّعَبُ وَالضَّرَّاءُ وَالضُّرُّ وَالْخَيْرُ، أَيْ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَنَزَلَ بِهِ، وَيُقَالُ: مَسَّهُ غَيْرُهُ بِذَلِكَ أَيْ أَصَابَهُ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ الْمَسَّ بِالْخَيْرِ ذُكِرَ هُنَا فِي مُقَابِلِ الْمَسِّ بِالضُّرِّ مُسْنَدًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ فِي مُقَابِلِ الْمَسِّ بِالشَّرِّ غَيْرَ مُسْنَدٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالضُّرُّ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ لُغَتَانِ: أَوِ الضَّرُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالِاسْتِعْمَالُ فِيهِ، أَنْ يُضَمَّ إِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ وَيُفْتَحَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ النَّفْعِ. وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ، وَيُقَابِلُ النَّفْعَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الضُّرُّ اسْمٌ لِلْأَلَمِ وَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى أَحَدِهَا، وَالنَّفْعُ اسْمٌ لِلَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَالْخَيْرُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ دَفْعِ الضُّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الْكُلُّ، كَالْعَقْلِ مَثَلًا وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالشَّيْءِ النَّافِعِ وَضِدُّهُ الشَّرُّ. وَأَقُولُ إِنَّ الْخَيْرَ مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ حَاضِرَةٌ أَوْ مُسْتَقْبَلَةٌ، فَمِنَ الضَّارِّ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَسُوءُ مَا يَكُونُ خَيْرًا بِحُسْنِ أَثَرِهِ أَوْ عَاقِبَتِهِ، وَالشَّرُّ مَا لَا مَصْلَحَةَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ، أَوْ مَا كَانَ ضُرُّهُ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (2: 216) وَقَالَ فِي النِّسَاءِ: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (4: 19) وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسُبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (24: 11) وَالشَّرُّ لَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَبْتَلِي بِهِ النَّاسَ وَيَخْتَبِرُهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (10: 11) لَيْسَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْحَدِيثِ " الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ". وَمِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ تَحَرِّي الْحَقَائِقِ بِأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَعِهَا لِمَحَاسِنِ الْكَلَامِ مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهَا فِي بَادِي الرَّأْيِ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ كَالْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، وَإِنَّمَا مُقَابِلُ الضُّرِّ النَّفْعُ، وَمُقَابِلُ الْخَيْرِ الشَّرُّ، فَنُكْتَةُ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ الضُّرَّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَيْسَ شَرًّا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَرْبِيَةٌ وَاخْتِبَارٌ لِلْعَبْدِ يَسْتَفِيدُ بِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلِاسْتِفَادَةِ أَخْلَاقًا وَآدَابًا وَعِلْمًا وَخِبْرَةً، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ الضُّرِّ لِأَنَّ كَشْفَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَيْلِ مُقَابِلِهِ، كَمَا أَنَّ صَرْفَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّعِيمِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخَيْرَ فِي

مُقَابِلِ الضُّرِّ دُونَ النَّفْعِ فَأَفَادَ أَنَّ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ النِّعَمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْعُ خَيْرًا لَهُمْ بِعَدَمِ تَرْتِيبِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَصَابَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ضُرٌّ كَمَرَضٍ وَتَعَبٍ وَحَاجَةٍ وَحُزْنٍ وَذُلٍّ اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فَلَا كَاشِفَ لَهُ، أَيْ لَا مُزِيلَ لَهُ وَلَا صَارِفَ يَصْرِفُهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ يُتَّخَذُونَ مِنْ دُونِهِ وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْمُشْرِكُ لِكَشْفِهِ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكْشِفَهُ عَنْكَ بِتَوْفِيقِكَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي تُزِيلُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكْشِفَهُ بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْكَ وَلَا كَسْبٍ، وَلُطْفُهُ الْخَفِيُّ لَا حَدَّ لَهُ فَلَهُ الْحَمْدُ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ، كَصِحَّةٍ وَغِنًى وَقُوَّةٍ وَجَاهٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهِ عَلَيْكَ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعْطَائِكَ إِيَّاهُ; لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا مَنْ دُونِهِ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَسِّكَ بِخَيْرٍ وَلَا ضُرٍّ. فَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَصَرْفِ عَذَابٍ أَوْ إِيجَادِ خَيْرٍ وَمَنْحِ ثَوَابٍ فَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالطَّلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: طَلَبٌ بِالْعَمَلِ وَمُرَاعَاةُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا سُنَنُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَطَلَبٌ بِالتَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ اللَّذَيْنِ نَدَبَتْ إِلَيْهِمَا آيَاتُهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ. هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ، وَبَعْدَ كِتَابَتِهِ رَاجَعْنَا كِتَابَ رُوحِ الْمَعَانِي فَوَجَدْنَا فِيهِ نَقْلًا فِي نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ أَحْبَبْنَا نَقْلَهَا إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ قَالَ: " وَفَسَّرُوا الضُّرَّ بِالضَّمِّ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الْجِسْمِ وَبِالْفَتْحِ بِضِدِّ النَّفْعِ وَعَدَلَ عَنِ الشَّرِّ الْمُقَابِلِ لِلْخَيْرِ إِلَى الضُّرِّ عَلَى مَا فِي الْبَحْرِ لِأَنَّ الشَّرَّ أَعَمُّ، فَأَتَى بِلَفْظِ الْأَخَصِّ مَعَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ رِعَايَةً لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ مُقَابَلَةَ الْخَيْرِ بِالضُّرِّ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ الشَّرِّ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِنْ خَفِيِّ الْفَصَاحَةِ لِلْعُدُولِ عَنْ قَانُونِ الصَّنْعَةِ وَطَرْحِ رِدَاءِ التَّكَلُّفِ، وَهُوَ أَنْ يُقْرَنَ بِأَخَصَّ مِنْ ضِدِّهِ وَنَحْوِهِ لِكَوْنِهِ أَوْفَقَ بِالْمَعْنَى وَأَلْصَقَ بِالْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (20: 118، 119) فَجِيءَ بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرْيِ، وَبِالظَّمَأِ مَعَ الصَّحْوِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ خِلَافَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالٍ. وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ ... أَقُلْ لِخَيْلِي كِرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالٍ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّهُ فِي الْآيَةِ قَرَنَ الْجُوعَ الَّذِي هُوَ خُلُوُّ الْبَاطِنِ بِالْعُرْيِ الَّذِي هُوَ خُلُوُّ الظَّاهِرِ، وَالظَّمَأُ الَّذِي فِيهِ حَرَارَةُ الْبَاطِنِ بِالضُّحَى الَّذِي فِيهِ حَرَارَةُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عُلُوَّهُ عَلَى الْجَوَادِ بِعُلُوِّهِ عَلَى الْكَاعِبِ; لِأَنَّهُمَا لَذَّتَانِ فِي الِاسْتِعْلَاءِ وَبَذْلَ الْمَالِ

18

فِي شِرَاءِ الرَّاحِ، بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي الْكِفَاحِ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ سُرُورَ الطَّرَبِ وَفِي الثَّانِي سُرُورَ الظَّفَرِ، وَكَذَا هُنَا أُوثِرُ الضُّرَّ لِمُنَاسَبَتِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ التَّرْهِيبِ، فَإِنَّ انْتِقَامَ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَتَى بِمَا يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَإِنَّ مَسَّ الضُّرِّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنِّي أَخَافُ) إِلَخْ. وَمَسَّ الْخَيْرِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) إِلَخْ. (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْقَهْرَ بِالْغَلَبَةِ وَالْأَخْذِ مِنْ فَوْقٍ وَبِالْإِذْلَالِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ وَالتَّذْلِيلُ مَعًا وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ إِثْبَاتِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَهَا تُثْبِتُ لَهُ جَلَّ وَعَلَا كَمَالَ السُّلْطَانِ وَالتَّسْخِيرِ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِخَفَايَا الْأُمُورِ، لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا لِإِشْرَاكِهِ وَمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الرَّبِّ الْقَاهِرِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَرْبُوبِ الْمَقْهُورِ الْمُذَلَّلِ الْمُسَخَّرِ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَهَذِهِ صِفَاتُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلِيًّا مِنْ عِبَادِهِ الْمَقْهُورِينَ تَحْتَ سُلْطَانِ عِزَّتِهِ، الْمُذَلَّلِينَ لِسُنَنِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَعِلْمُهُ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْمَلَهُمْ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَكَوْنِهِمْ لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْ خَصَائِصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي كَوْنِهِ يُدْعَى مَعَهُ وَلَا وَحْدَهُ لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا جَلْبِ نَفْعٍ (فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) (بَلِ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (6: 41) (قُلِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلَا) (17: 56) إِلَخْ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ الْغَالِبُ عِبَادَهُ الْمُذِلُّ لَهُمُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ وَخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ وَهُمْ دُونَهُ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ تَدْبِيرِهِ، الْخَبِيرُ بِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ وَمَضَارِّهَا، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ وَبِوَادِيهَا، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ، وَلَا يَدْخُلُ حِكْمَتَهُ دَخَلٌ اهـ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَوْقَ عِبَادِهِ) تَصْوِيرٌ لِقَهْرِهِ وَعُلُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، كَالْبَيْضَاوِيِّ بِنَقْلِ عِبَارَتِهِ بِنَصِّهَا، وَبَعْضُهُمْ، كَالرَّازِيِّ، بِنَقْلِهَا وَإِطَالَةِ الدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ مَضْمُونِهَا، وَمَنْعِ إِرَادَةِ فَوْقِيَّةِ الذَّاتِ وَإِطْلَاقِ صِفَةِ الْعُلُوِّ عَلَى اللهِ، إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا بِتَحَيُّزِ الْبَارِي فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَطَالَ فِي سَرْدِ الدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَأْبَى مَا فَسَّرَهُ

19

بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ 7: 127) وَبَدِيهِيٌّ أَنَّهُ يَعْنِي فَوْقِيَّةَ الْمَكَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا الْمَكَانَ، وَلَوِ اكْتَفَوْا بِهَذَا لَكَانَ حَسَنًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ كَابْنِ جَرِيرٍ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ شَنَّعَ عَلَى السِّلْفِ الصَّالِحِينَ وَسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةً لِعَدَمِ تَأْوِيلِهِمُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ النَّاطِقَةَ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَلَفُ الْأُمَّةِ يُمِرُّونَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ كُلِّهِ لَا فَوْقَ كُلِّ شَخْصٍ وَحْدَهُ، وَهُوَ بِهَذَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ بِمُحَاوِدٍ وَلَا مَحْصُورٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ، فَهَذِهِ اللَّوَازِمُ الَّتِي يَبْنِي عَلَيْهَا الْجَهْمِيَّةُ وَتَلَامِيذُهُمْ تَأْوِيلَ صِفَةِ الْعُلُوِّ مَبْنِيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى قِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ حَتَّى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّمَا وُضِعَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِصِفَاتِ الْبَشَرِ وَهِيَ مُبَايِنَةٌ لِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، فَلِمَاذَا يَخُصُّونَ بَعْضَهَا بِالتَّأْوِيلِ دُونَ بَعْضٍ؟ فَالْحَقُّ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وُصِفَ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ تُطْلَقُ عَلَيْهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ مَنْ تُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَلْفَاظُهَا مِنَ الْخَلْقِ، فَعِلْمُ اللهِ وَقُدْرَتُهُ وَكَلَامُهُ وَعُلُوُّهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ شُئُونٌ تَلِيقُ بِهِ لَا تُشْبِهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتَهُمْ وَكَلَامَهُمْ وَعُلُوَّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدِ انْتَهَى سُخْفُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي التَّأْوِيلِ إِلَى جَعْلِ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى سَلْبِيَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَوِ الْأَوَامِرَ الْقَوْلِيَّةَ الْمُبَيِّنَةَ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَدَلَائِلِهِ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ وَشَهَادَةِ رَسُولِهِ لَهُ فَقَالَ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ مَعَ اللهِ إِلَهًا غَيْرَهُ. فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ بِذَلِكَ بُعِثْتُ وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو " فَأَنْزَلَ اللهُ فِي قَوْلِهِمْ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) الْآيَةَ كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ، فَفِي سَنَدِهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: مَدَنِيٌّ مَجْهُولٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ اهـ. وَابْنُ جَرِيرٍ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْهُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَعْظَمُهَا وَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ أَصَحَّهَا وَأَصْدَقَهَا؟ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ

يُجِيبَ هُوَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ كَذِبٌ وَلَا زُورٌ وَلَا خَطَأٌ هُوَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ لَدُنْهُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ عِقَابَهُ عَلَى تَكْذِيبِي بِمَا جِئْتُ بِهِ مُؤَيَّدًا بِشَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ إِذْ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ فَهُوَ مَدْعُوٌّ إِلَى اتِّبَاعِهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. شَهَادَةُ الشَّيْءِ حُضُورُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَاعْتِقَادٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ، أَيِ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْهُ الشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ شَهَادَةٌ بِهِ، وَشَهَادَةُ اللهِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْمِهِ قِسْمَانِ: شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهَادَتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَشَهَادَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) إِخْبَارُهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ 48: 29) (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا 7: 158) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا 34: 28) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 21: 107) فَهَذِهِ شَهَادَاتٌ وَرَدَتْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ شَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَقْتَضِي التَّلَفُّظُ بِهِ حَقِيقَتَهَا، فَقَدْ حَكَى الله عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ: (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا 12: 81) وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. وَقَدْ سَمَّوْا قَوْلَهُمْ شَهَادَةً لِأَنَّهُ عَنْ عِلْمٍ بِمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَزِيزِ مِصْرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ مَصْنُوعًا، وَقَالَ تَعَالَى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 63: 1) فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِهَا شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِكَذِبِهِمْ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ 13: 43) وَهِيَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا. (النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ شَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ) تَأْيِيدُهُ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْآيَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّائِمَةُ بِمَا ثَبَتَ بِالْفِعْلِ مِنْ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ وَبِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَوَعْدِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ تَعَالَى لَهُمْ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْفِعْلِ عِنْدَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَنُقِلَ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ وَمِنْهَا غَيْرُ الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ بِالْغَيْبِ الَّتِي ظَهَرَ بَعْضُهَا فِي زَمَنِهِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ زَمَنِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَقَوْلِهِ فِي سِبْطِهِ الْحَسَنِ وَهُوَ طِفْلٌ "

ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهُ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَقَوْلُهُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَقَوْلُهُ " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ. قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ " الْحَدِيثَ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ. (النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ شَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ) شَهَادَةُ كُتُبِهِ السَّابِقَةِ لَهُ وَبِشَارَةُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ بِهِ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَالْبَشَائِرُ ظَاهِرَةً فِيمَا بَقِيَ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَتَوَارِيخِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ التَّحْرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ وَلَا سِيَّمَا الْمَائِدَةُ، وَلَا تَنْسَ هُنَا أَخْذَهُ تَعَالَى الْعَهْدَ عَلَى الرُّسُلِ وَقَوْلَهُ لَهُمْ: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (3: 81) [رَاجِعْ ص 290 ج 3 ط الْهَيْئَةِ] . وَأَمَّا شَهَادَتُهُ تَعَالَى لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ دُونَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (أَحَدُهَا) شَهَادَةُ كِتَابِهِ مُعْجِزَةِ الْخَلْقِ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ 3: 18، 19) وَقَوْلِهِ: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ 64: 7) . (ثَانِيهَا) مَا أَقَامَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِي بَيَانِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. (ثَالِثُهَا) مَا أَوْدَعَهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبَقَاءِ النَّفْسِ، وَمَا هَدَى إِلَيْهِ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ مِنْ تَأْيِيدِ هَذَا الشُّعُورِ الْفِطْرِيِّ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَلَعَلَّنَا نَشْرَحُ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ بَيَانًا مُوجَزًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ 7: 172) الْآيَةَ. عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ تَعَالَى هِيَ شَهَادَةُ آيَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ، وَآيَاتِهِ فِي الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ اللَّذَيْنِ أَوْدَعَهُمَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَ إِلَيْهَا فَهُوَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، وَالشَّاهِدُ الْمَشْهُودُ لَهُ، وَكَفَى بِهِ ظُهُورًا بِالْحَقِّ وَإِظْهَارًا لَهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ لَهُ. عَلَى أَنَّ الشُّهُودَ وَالْأَدِلَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَثِيرَةٌ، وَجُمْلَةُ " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ " مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ " اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " مُصَدَّرَةً بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ.

لِأَنَّ الْمُرَادَ بِنَصِّهَا بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مَوْضُوعُ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَتَدُلُّ بِمَوْضِعِهَا دَلَالَةَ إِيمَاءٍ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ شَهَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) نَصٌّ عَلَى عُمُومِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَيْ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوِ الْعَرَبِ وَجَمِيعَ مَنْ بَلَغَهُ وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ تَعُمُّ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ نُزُولِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْقُرْآنُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الدِّينِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ بِتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْعِلْمُ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَنُصَّ فِيهَا عَلَى أُصُولِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَإِنَّنَا نَرَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَرَكُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ وَتَبْلِيغَهُ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَرَكُوا الْعِلْمَ بِهِ، وَبِمَا بَيَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى تَقْلِيدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحُجَّةِ. وَمِمَّا رُوِيَ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ " مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا شَافَهْتُهُ بِهِ ثُمَّ قَرَأَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مُتَوَاتِرًا بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ كَانَ مَنْ بَلَغَهُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَثُرَتِ الْوَسَائِطُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَلَّغَهُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَلَيْسَ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيِّ كَثِيرُهَا بِالْمَعْنَى هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فَهِيَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَأَخْرَجَ أَبْنَاءُ أَبِي شَيْبَةَ وَالضُّرَيْسُ وَجَرِيرٌ وَالْمُنْذِرُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي لَفْظٍ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ حَتَّى يَفْهَمَهُ وَيَعْقِلَهُ كَانَ كَمَنْ عَايَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُسَارَى فَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ دُعِيتُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ؟ " قَالُوا: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ ثُمَّ قَرَأَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ثُمَّ قَالَ " خَلُّوا سَبِيلَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْعَوْا ". ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي جَحَدَهَا الْمُشْرِكُونَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ بِالشِّرْكِ فَقَالَ (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُونَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَمْرًا آخَرَ بِأَنْ يَشْهَدَ بِنَقِيضِ مَا يَزْعُمُونَ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَيَتَبَرَّأَ مِمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا أَوْ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ مَهْمَا يَكُنْ

مَوْضُوعُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فَأَعَادَ الْأَمْرَ وَلَمْ يَعْطِفِ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ نَفْيُ الشَّهَادَةِ بِالشِّرْكِ. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) . رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ سَأَلَ الْيَهُودَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ فَزَعَمُوا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا ذِكْرٌ، فَلَمَّا صَارَ لَهُمْ عَهْدٌ بِالْيَهُودِ كَانَ مِمَّا رَدَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ) أَيْ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ لِأَنَّ نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَا يُؤَيِّدُهَا مِنْ شَوَاهِدِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِلَّةَ إِنْكَارِ الْمُكَابِرِينَ مِنْهُمْ لِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) قِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ " هُنَا بَيَانٌ لِلَّذِينِ الْأُولَى أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بَلْ يَكْفُرُونَ كِبْرًا وَعِنَادًا فَهُمْ لِذَلِكَ يُنْكِرُونَ مَا يَعْرِفُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا قَرِيبًا مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذْ وَرَدَتْ بِنَصِّهَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص 327) وَمَوْقِعُهَا هُنَا أَنَّ عِلَّةَ إِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ كَعِلَّةِ إِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتِهَا وَأَنْكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَظْهَرُ وَهُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ يُؤْثِرُونَ مَا لَهُمْ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ وَالرِّيَاسَةِ فِي قَوْمِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ

21

الْأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَسْلُبُهُمْ تِلْكَ الرِّيَاسَةَ وَيَجْعَلُهُمْ مُسَاوِينَ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْضُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَكُونَ مَرْءُوسًا وَتَابِعًا (لِيَتِيمِ أَبِي طَالِبٍ) فَكَيْفَ وَهُوَ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَاوِيًا لِبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَخُسْرَانُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ لَا مِنْ نَوْعِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ خُسْرَانَ النَّفْسِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ خُسْرَانِهَا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ بِخُسْرَانِ أَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مُعَدَّةً لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ وَإِعْطَائِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخُسْرَانُ أَعْظَمَ ظُلْمٍ ظَلَمَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ أَنْفُسَهُمْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا كَزَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، أَوْ أَنَّ غَيْرَهُ يُدْعَى مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَيُتَّخَذُ وَلِيًّا لَهُ يُقَرِّبُ النَّاسَ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، أَوْ زَادَ فِي دِينِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ كَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، أَوْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ أَوِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذَا التَّكْذِيبِ وَذَلِكَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ يُعَدُّ وَحْدَهُ غَايَةً فِي الظُّلْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَكَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْمُثْبِتَةِ لِلرِّسَالَةِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الظَّالِمِينَ فَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ وَقَعَ مَوْقِعَ جَوَابِ السُّؤَالِ، أَيِ الْحَالُ وَالشَّأْنُ أَنَّ الظَّالِمِينَ عَامَّةً لَا يَفُوزُونَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُ ظُلْمِهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَةُ مَنْ وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ لِافْتِرَائِهِ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ لِتَكْذِيبِهِ بِآيَاتِهِ أَوْ عَاقِبَةُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ؟ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ، فَلِهَذَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ صِدْقِهَا عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَهُوَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَوْ يُسَمِّيهِ النَّاسُ مُؤْمِنًا أَوْ مُسْلِمًا، كَأَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فَيَتَّخِذَ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا وَيَدْعُوهُ لِيَشْفَعَ عِنْدَهُ، أَوْ يَزِيدَ فِي دِينِ اللهِ بِرَأْيهِ فَيَقُولُ: هَذَا وَاجِبٌ وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ فِيمَا لَمْ يُنَزِّلِ اللهُ بِهِ وَحْيًّا وَلَا كَانَ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دِينِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا فِي نَفْيِ الْفَلَاحِ مِنَ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْوَاعِهِ وَظُلْمِ غَيْرِهَا بِأَنْوَاعِهِ، ثُمَّ نَقُولُ

23

لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مِنْهُمْ وَهُمْ أَشَدُّهُمْ ظُلْمًا أَيْنَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُضَافُونَ إِلَيْكُمْ لِاتَّخَاذِكُمْ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ فِيكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ يُدْعَوْنَ وَيُسْتَعَانُونَ كَمَا يُدْعَى وَيُسْتَعَانُ، وَأَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ؟ فَأَيْنَ ضَلُّوا عَنْكُمْ فَلَا يُرَوْنَ مَعَكُمْ؟ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 6: 94) وَقَدْ قَرَأَ يَعْقُوبُ (يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ) بِالْيَاءِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالِاحْتِجَاجِ. . (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ " لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ " بِالتَّاءِ وَالرَّفْعِ، وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِالتَّاءِ وَالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ " لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ " بِالتَّاءِ وَالرَّفْعِ، وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِالتَّاءِ وَالنُّصْبِ وَالْبَاقُونَ " لَمْ يَكُنْ فِتْنَتَهُمْ " بِالْيَاءِ وَالنَّصْبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُقَدِّمُ اسْمَ تَكُنْ عَلَيْهَا وَبَعْضَهَا يُؤَخِّرُهُ، وَبَعْضَهُمْ يُذَكِّرُ الْفِعْلَ وَبَعْضَهُمْ يُؤَنِّثُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " رَبَّنَا " بِالْفَتْحِ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا. وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ. وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، وَفُسِّرَتْ هُنَا بِالْقَوْلَةِ وَالْكَلَامِ وَالْجَوَابِ وَبِالشِّرْكِ وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُضَافًا مَحْذُوفًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ هَذَا الِاخْتِبَارِ أَوِ الشِّرْكِ إِلَّا إِقْسَامَهُمْ بِاللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ. ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْحَشْرِ شِرْكَهُمْ بِاللهِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ فِي بَعْضِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْمَعْنَى، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي الْقِيَامَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَبِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِالشِّرْكِ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: (هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) (16: 86) وَقَوْلِهِ: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) (4: 42) ورُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ولا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فَخَتَمَ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِنَا لِأَنَّنَا مَا كُنَّا نَدْعُو غَيْرَكَ اسْتِقْلَالًا بَلْ تَوَسُّلًا إِلَيْكَ، لِيَكُونَ مَنْ نَدْعُوهُمْ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَكَ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْكَ زُلْفَى، لِأَنَّنَا كُنَّا نَسْتَصْغِرُ أَنْفُسَنَا أَنْ تَتَسَامَى إِلَى دُعَائِكَ كِفَاحًا بِلَا وَاسِطَةٍ وَمَا هَذَا إِلَّا تَعْظِيمٌ لَكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وَأُجِيبُ عَنِ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَأَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ

25

لَا كُفْرٌ بِهِ، وَيَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ تَصْرِيحُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ شِرْكٌ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَهَؤُلَاءِ كَجَبْرِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) (148) إِلَخْ. نَعَمْ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُسَمُّونَ مُسْلِمِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُخْلِصُونَ فِيهَا الدُّعَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا شِرْكًا كَمَا كَانَ يُسَمِّيهِ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ يُسَمُّونَهُ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا أَوْ وَسَاطَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: (انْظُرْ) مِنَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَكَذِبُ الْكَفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ثَابِتٌ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ 58: 18) . قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَسَنٌ فِي اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ مُتَهَالِكِينَ فِي حُبِّهِ، فَذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أَعْمَارَهُمْ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَافْتَخَرُوا بِهِ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِنَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا الْجُحُودَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ وَالْحَلِفَ عَلَى عَدَمِ التَّدَيُّنِ بِهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ نَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ شَخْصًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ أَيْ عَاقِبَةُ مَحَبَّتِكَ لِفُلَانٍ إِلَّا أَنْ تَبَرَّأْتَ مِنْهُ وَتَرَكْتَهُ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِتْنَتُهُمْ هِيَ شِرْكُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) . كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصْنَافًا مُتَفَاوِتِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَفِي الْكُفْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ أَحْوَالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ فَمِنْهُمْ أَصْحَابُ الذَّكَاءِ وَاللَّوْذَعِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَعْقِلُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا هُوَ بِالَّذِي يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ فِي نَظْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَا فِي عُلُومِهِ وَحِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ إِذْ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ

مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ لَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنَيِّفٌ وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (10: 16) وَمَا كَانَ كُفْرُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِلَّا عَنْ كِبْرٍ وَعِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ لِلْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي قَلْبِهِ، وَيَنْزِعَهُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَلِفَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُصْغِي سَمْعُهُ إِلَى الْقُرْآنِ بِقَصْدِ الِاكْتِشَافِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَفْقَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، إِمَّا لِعَدَمِ تَوَجُّهِ ذِهْنِهِ إِلَى ذَلِكَ لِعَرَاقَتِهِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْأُنْسِ بِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا لِلْبَلَادَةِ وَانْحِطَاطِ الْكُفْرِ عَنِ التَّسَامِي إِلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا قَلِيلًا فِي الْعَرَبِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَهُمْ أَفْصَحُ قُرَيْشٍ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَذَا الْفَرِيقِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَحَظِّ النَّعَمِ مِنْ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الْبَشَرِ فَقَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا تَلَوْتَ الْقُرْآنَ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ مُنْذِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أَيْ وَجَعَلْنَا عَلَى آلَةِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ وَلُبِّهِ أَغْطِيَةً حَائِلَةً دُونَ فِقْهِهِ وَنُفُوذِ الْأَفْهَامِ إِلَى أَعْمَاقِ عَمَلِهِ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أَيْ ثِقَلًا أَوْ صَمَمًا حَائِلًا دُونَ سَمَاعِهِ بِقَصْدِ التَّدَبُّرِ وَاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ مِنْ كَوْنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ مَانِعًا لَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْحَقَائِقِ، فَهُوَ لَا يَسْتَمِعُ إِلَى مُتَكَلِّمٍ وَلَا دَاعٍ لِأَجْلِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى سَمْعِهِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ دِينٌ لَهُ أَوْ عَادَةٌ لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَرَاهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ مَعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ عَقِيدَةٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ عَادَةٍ، وَجَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْوَقْرِ فِي الْآذَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْمَعْنَوِيَّةِ، بِالْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَفْقَهُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ كَالْوِعَاءِ الَّذِي وُضِعَ عَلَيْهِ الْكِنُّ أَوِ الْكِنَانُ وَهُوَ الْغِطَاءُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْآذَانُ الَّتِي لَا تَسْمَعُ الْكَلَامَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ كَالْآذَانِ الْمُصَابَةِ بِالثِّقَلِ أَوِ الصَّمَمِ لِأَنَّ سَمْعَهَا وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ كَالْأَسِنَّةِ جَمْعُ سِنَانٍ، وَالْوَقْرُ بِالْفَتْحِ الثِّقَلُ فِي السَّمْعِ وَالصَّمَمُ وَبِالْكَسْرِ الْحَمْلُ، يُقَالُ: وَقَرَ سَمْعُهُ يَقَرُ فَهُوَ مَوْقُورٌ، إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ، وَأَوْقَرَ الدَّابَّةَ فَهِيَ مُوَقَّرَةٌ. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَلَا يَفْقَهُونَ كُنْهَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُّوَتِكَ وَصِدْقِ دَعْوَتِكَ وَحَقِيقَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَهَا وَلَا يُدْرِكُونَ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْهَا، لِعَدَمِ التَّوَجُّهِ أَوْ لِوُقُوفِ أَسْمَاعِهِمْ عِنْدَ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.

(حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) أَيْ حَتَّى إِذْ صَارُوا إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُجَادِلِينَ لَكَ فِي دَعْوَتِكَ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ يَقُولُونَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَانْتِقَاءِ فِقْهِهِمْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ، أَيْ قِصَصُهُمْ وَخُرَافَاتُهُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ إِلَّا أَنَّهَا حِكَايَاتٌ وَخُرَافَاتٌ تُسَطَّرُ وَتُكْتُبُ كَغَيْرِهَا، فَلَا عِلْمَ فِيهَا وَلَا فَائِدَةَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَاسًا لِمَا لَمْ يَسْمَعُوا عَلَى مَا سَمِعُوا، أَوْ لِغَيْرِ الْقَصَصِ عَلَى الْقَصَصِ. وَهَكَذَا شَأْنُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا سَطْحِيًّا لَا لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ عِلْمًا وَلَا بُرْهَانًا، وَمَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ جَرْسًا لَفْظِيًّا لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَفْقَهُ أَسْرَارَهُ، فَمَثَلُ هَذَا وَذَاكَ كَمَثَلِ الطِّفْلِ الَّذِي يُشَاهِدُ أَلْعَابَ الصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ يُدِيرُهَا قَوْمٌ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَكُلٌّ حَظُّهِ مِمَّا يَرَى مِنَ الْمَنَاظِرِ وَمِنَ الْمَكْتُوبَاتِ الْمُفَسِّرَةِ لَهَا لَا يَعْدُو التَّسْلِيَةَ. وَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْغَافِلُونَ قَصَصَ الْقُرْآنِ وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهَا لَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا آيَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُذُرٌ عَظِيمَةٌ مِمَّا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ مَعَ الرُّسُلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ. وَإِنَّ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي إِتْيَانِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ بِخُلَاصَةِ أَخْبَارِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِأَنَّهُ يَرَى أَوْ يَسْمَعُ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ يُشْبِهُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكُتُبِ التَّارِيخِ، وَلَا يَرَى فِي هَذَا مَا يَبْعَثُهُ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَحْثِ الْإِعْجَازِ [رَاجِعْ ص 169 181 ج 1 ط الْهَيْئَةِ] وَأَهَمُّهَا فِي بَابِ إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنُهُ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الدِّينِ وَلَا كُتُبِ التَّارِيخِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِمَّنِ انْتَصَبُوا لِعَدَاوَتِهِ أَنْ يَرْفَعَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ رَأْسًا أَوْ يَنْبِسَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (11: 49) . فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَاصَّةٌ بِقَصَصِ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَاشَ النَّبِيُّ ثُلْثَيْ عُمُرِهِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، فَإِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَلَا كَانَ مُمْتَازًا بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الْقَصَصِ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَوْضَاعِهِمُ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لَهَا أَصْلٌ وَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلَ بَعْضُهُمُ الْيَهُودَ عَنْهَا. كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى:

26

الْأُسْطَارَةُ لُغَةً: الْخُرَافَاتُ وَالتُّرَّهَاتُ وَهِيَ الَّتِي تُجْمَعُ عَلَى أَسَاطِيرَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ. (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ضَمِيرُ " وَهُمْ " عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَاحِدِينَ لِنُبُوَّتِهِ الَّذِينَ وَرَدَ هَذَا السِّيَاقُ بِطُولِهِ فِيهِ. لَا إِلَى الْفَرِيقِ الَّذِي ذَكَرَ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْأَوْنَ أَيْ يَبْعُدُونَ عَنْهُ لِيَكُونُوا نَاهِينَ مُنْتَهِينَ. وَالنَّأْيُ عَنْهُ يَشْمَلُ الْإِعْرَاضَ عَنْ سَمَاعِهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ هِدَايَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَنْهَوْنَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَنْهَوْنَ الْعَرَبَ عَنْ حِمَايَتِهِ وَمَنْعِهِ وَعَنِ اتِّبَاعِهِ وَالسَّمَاعِ لَهُ جَمِيعًا، وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ بَعْدَ جَفَاءٍ وَعَدَاوَةٍ (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَإِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَدْ هَلَكَ جَمِيعُ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالنِّقَمِ الْخَاصَّةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي بَدْرٍ، ثُمَّ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَيَلِي هَذَا الْهَلَاكَ الدُّنْيَوِيَّ هَلَاكُ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَشْمَلُهَا وَهُوَ فِي هَلَاكِ الدُّنْيَا أَظْهَرُ. (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) . بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَاتَيْنِ حَالَ مَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهِيَ الَّتِي تُلْقِي السَّمْعَ مُصْغِيَةً لِلْقُرْآنِ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ سَمْعِهَا إِلَى بَيْتِ قَلْبِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، لِمَا عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَكِنَّةِ التَّقْلِيدِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِالشِّرْكِ التَّلِيدِ، وَالِاسْتِنْكَارِ لِكُلِّ شَيْءٍ جَدِيدٍ، فَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ وَهُمْ نَاءُونَ مُنْتَهُونَ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ أَمْثَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ كُنْهِ حَالِهِمْ فِي فَقْدِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَشْفُ الْغِطَاءِ وَرُؤْيَةُ الْعِيَانِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) " لَوْ " شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوَابُهَا لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ

27

كُلَّ مَذْهَبٍ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ " لَوْ غَيْرُ ذَاتِ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي " وَ " وُقِفُوا " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ وَقَّفَهُمْ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: وَقَفَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَرْضِ وُقُوفًا. وَوَقَفَ عَلَى الْأَطْلَالِ أَيْ عِنْدِهَا مُشْرِفًا عَلَيْهَا، أَوْ قَاصِرًا هَمَّهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الشَّيْءِ عَرَفَهُ وَتَبَيَّنَهُ، وَوَقَفَ نَفْسَهُ عَلَى كَذَا وَقْفًا: حَبَسَهَا كَوَقْفِ الْعَقَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَوَقَفَ الدَّابَّةَ وَقْفًا جَعَلَهَا تَقِفُ، وَالْمَعْنَى وَلَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ بِعَيْنَيْكَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ إِذْ تَقِفُهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ عَلَى النَّارِ فَيَقِفُونَ عِنْدَهَا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْمَوْقِفِ وَهِيَ هَاوِيَةٌ سَحِيقَةٌ أَوْ مَقْصُورَيْنِ عَلَيْهَا لَا يَتَعَاوَنُهَا، أَوْ يَقِفُونَ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ، أَوْ لَوْ تَرَى إِذْ يَدْخُلُونَهَا فَيَقِفُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِذَوْقِهِمْ إِيَّاهُ وَ " مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " أَيْ لَوْ تَرَى مَا يَحِلُّ بِهِمْ حِينَئِذٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمِنْ نَدَمِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمِنْ حَسْرَتِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ مَا لَا يُنَالُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا تُدْرِكُهُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. وَقَدْ ذُكِرَ مَا يَكُونُ مِنْ وَقْفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْإِعْلَامِ بِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي مِثْلِهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: إِنَّ كَلِمَةَ " إِذْ " تُقَامُ مَقَامَ " إِذَا " إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَاضِي يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فَقَدْ عَطَفَ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَقَعُ حِينَئِذٍ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَسْبِقُ التَّعْبِيرَ عَنْهُ إِلَى أَلْسِنَتِهِمْ، هُوَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِعْرَابِ " نُكَذِّبَ وَنَكُونَ " فَرَفَعَهُمَا الْجُمْهُورُ وَنَصَبَهُمَا حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَنَصَبَ ابْنُ عَامِرٍ " نَكُونَ " فَقَطْ، فَقُرَّاءُ الْجُمْهُورِ بِالْعَطْفِ عَلَى " نُرَدُّ " تُفِيدُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُكَذِّبُوا بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَيْهَا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ كَمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، أَيْ تَمَنَّوْا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَقِيلَ: بَلْ تَمَنَّوْا الْأَوَّلَ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ: (وَلَا نُكَذِّبَ " إِلَخْ مَعْنَاهُ وَنَحْنُ لَا نَكْذِبَ إِلَخْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِيمَانُ وَعَدَمُ التَّكْذِيبِ غَيْرَ دَاخِلِينَ فِي التَّمَنِّي، وَشَبَّهَهُ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، وَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّرْكِ فَقَطْ، وَالْوَعْدُ بِعَدَمِ الْعَوْدِ مُسْتَأْنَفٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَا لَا أَعُودُ تَرَكْتَنِي أَمْ لَمْ تَتْرُكْنِي، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا نُكَذِّبَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى مَعْنَى غَيْرِ مُكَذِّبِينَ وَكَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْخُلُ فِي حِكَمِ التَّمَنِّي اهـ. وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ دُخُولَهُ فِي حُكْمِ التَّمَنِّي يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ وَعَدَمَ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانَ عَلَى سَوَاءٍ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ فَقَطْ وَيَعِدُونَ بِالْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ

28

وَعْدًا خَبَرِيًّا مُؤَكَّدًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا يَتَمَنَّوْنَ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا " وَلَا نُكَذِّبَ " إِلَخْ جُمْلَةً حَالِيَّةً وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَإِنَّهَا تَصْدُقُ بِحُصُولِ كُلٍّ مِنْ عَدَمِ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانِ قَبْلَ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا. فَلَا يَكُونُ التَّمَنِّي مُتَعَلِّقًا بِهِمَا لِذَاتِهِمَا لِأَنَّهُمَا حَاصِلَانِ وَالْحَاصِلُ لَا يُتَمَنَّى وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالرَّدِّ الْمُصَاحِبِ لَهُمَا، الَّذِي تَمَنَّى وُقُوعَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا، وَذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ خَبَرِيٍّ وَلَا إِنْشَائِيٍّ بِهِمَا; لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُوعَدُ بِهِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُتَمَنَّى. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (4: 43) - الْآيَةَ - الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي مَضْمُونِ الْحَالِيَّةِ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِلْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَهَؤُلَاءِ رَجَعُوا عَنِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ وَقْفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْإِيمَانُ الْقَاطِعُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَتَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا مُصَاحِبِينَ لِذَلِكَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ إِنَّ عَدَمَ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانَ دَاخِلَانِ تَحْتَ حُكْمِ التَّمَنِّي مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطِهِمَا فِيهِ، لَا أَنَّهُمَا مُتَمَنَّيَانِ كَالرَّدِّ سَوَاءٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلُ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى فَاءَ السَّبَبِيَّةِ أَوْ أُبْدِلَتْ مِنْهَا وَأَيَّدُوهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَلَا نُكَذِّبَ " وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَا لَيْتَ لَنَا رَدًّا وَانْتِفَاءَ تَكْذِيبٍ وَكَوْنًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَلَى التَّوْجِيهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَدْخُلُ مَا ذُكِرَ فِي حُكْمِ التَّمَنِّي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَّهْنَا بِهِ جَعْلَ الْجُمْلَةِ حَالِيَّةً فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَظَاهِرُ التَّوْجِيهِ الثَّالِثِ تَعَلُّقُ التَّمَنِّي بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ أَيْضًا. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَمَنِّيهِمْ: بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرَ مُكَذِّبٍ بِآيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْمُنَزَّلَةِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى الرَّدَّ مُصَاحِبًا لِمَا حَدَثَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّدَمِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَمِنَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الرَّدِّ وَبَقَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْحَادِثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّاهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعِدُ بِذَلِكَ وَعْدًا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ التَّمَنِّي أَقْرَبُ إِلَى الْحُصُولِ مِنَ اتِّفَاقِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْكَثِيرِينَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْبَشَرِ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ جَاهِلِينَ أَنَّهُ مُحَالٌ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَتَمَنَّوْنَ الْمُحَالَ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ. قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كُنْهَ حَالِهِمْ وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَوْ رُدُّوا إِلَيْهَا: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) قَالُوا: إِنَّ الْإِضْرَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْرَابٌ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَنِّيهِمْ مِنْ إِدْرَاكِهِمْ لِقُبْحِ الْكُفْرِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ، وَلِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ،

وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ التَّكْذِيبِ لَوْ أُعْطَوْا مَا تَمَنَّوْا مِنَ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا، وَوَعْدِهِمْ بِذَلِكَ نَصًّا أَوْ ضِمْنًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُمْ فِي التَّمَنِّي، بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: (1) أَنَّهُ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ وَقَبَائِحُهُمُ الشَّائِنَةُ ظَهَرَتْ فِي صَحَائِفِهِمْ، وَشَهِدَتْ بِهَا عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ. (2) أَنَّهُ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِهَا، وَيَظُنُّونَ أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِيهَا إِذْ يَجْعَلُهَا اللهُ تَعَالَى هَبَاءًا مَنْثُورًا. (3) أَنَّهُ كُفْرُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمُ الَّذِي أَخْفَوْهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوقَفُوا عَلَى النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ 23) (4) أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانُوا يُسِرُّونَهُ وَيُخْفُونَهُ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عِنَادًا لِلرَّسُولِ وَاسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَشَدِّ النَّاسِ كُفْرًا مِنَ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ قَالَ فِي بَعْضِهِمْ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) . (5) أَنَّهُ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الرُّؤَسَاءُ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَدَا لِلْأَتْبَاعِ الَّذِينَ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لَهُمْ. وَمِنْهُ كِتْمَانُ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ وَبِشَارَةِ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ. (6) أَنَّهُ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الْمُنَافِقُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِسْرَارِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. (7) أَنَّهُ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَمِنْهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ إِخْفَاءَهُمْ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِمَادَّةِ الْكُفْرِ. (8) أَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ بَدَا لَهُمْ وَبَالُ مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَنَزَلَ بِهِمْ عِقَابُهُ فَتَبَرَّمُوا وَتَضَجَّرُوا، وَتَمَنَّوْا التَّقَصِّي مِنْهُ بِالرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا وَتَرْكِ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ مَنْ أَمَضَّهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَنَّهُ يُنْقِذُهُ مِنَ الْآلَامِ لَا لِأَنَّهُ مَحْبُوبٌ فِي نَفْسِهِ. وَنَحْنُ لَا نَرَى رُجْحَانَ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، بَلِ الصَّوَابُ عِنْدَنَا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ لِكُلٍّ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَرَدَ الْكَلَامُ فِيهِمْ وَلِأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا كَانَ يُخْفِيهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ قَبِيحٌ فِي نَظَرِهِ أَوْ نَظَرِ مَنْ يُخْفِيهِ عَنْهُمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا كَالرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ كَانُوا يُخْفُونَ ذَلِكَ الْحَقَّ وَمِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ جُبْنًا وَضَعْفًا أَوْ مَكْرًا وَكَيْدًا كَانُوا يُخْفُونَ الْكُفْرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْحَابُ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ يُخْفُونَهَا عَمَّنْ لَا يَقْتَرِفُهَا مَعَهُمْ وَالَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ عَنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ بِالْأَعْذَارِ الْكَاذِبَةِ يُخْفُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ عَمَّنْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ، وَالْمُقَلِّدُونَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَلُوحُ فِيهَا أَحْيَانًا مِنْ بَرْقِ الدَّلِيلِ الْمُظْهِرِ لِمَا كَمَنَ فِي أَعْمَاقِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْحَقِّ، سَوَاءً أَوْمَضَ ذَلِكَ الْبَرْقُ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ، وَأَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، أَوْ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، قَبْلَ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ

خَطِيئَتُهُمْ وَيُخْتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْعُمْيَانُ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا مَا تَلَا ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ وَعَدَمِ اسْتِفَادَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْإِيمَانِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَدْ يَعُمُّ الْإِخْفَاءُ لِلشَّيْءِ مَا كَانَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَالْإِرَادَةِ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ وَخَفِيَ عَنْ أَهْلِهِ بِأَعْمَالٍ وَتَقَالِيدَ لَهُمْ عَدْوًا بِهَا مُخْفِينَ لَهُ، كَالْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي أُودِعَتْ فِي الْفِطْرَةِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا آيَاتُ اللهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الضَّالُّونَ وَالْتَزَمُوا مَا يُضَادُّهَا فَأَخْفَوْهَا بِذَلِكَ حَتَّى عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ اللهِ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَنْكَشِفُ جَمِيعُ الْحَقَائِقِ، وَتَشْهَدُ عَلَى النَّاسِ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، إِذْ تُنْشَرُ كُتُبُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ مَطْوِيَّةً فِي زَوَايَا الْأَرْوَاحِ، فَتَتَمَثَّلُ لِكُلِّ فَرْدٍ أَعْمَالُهُ النَّفْسِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ كُلُّهَا، فِي كِتَابِهِ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، كَمَا تَتَمَثَّلُ الْوَقَائِعُ الْمُصَوَّرَةُ، فِي الْمَنْظَرَةِ الَّتِي يُعْرَضُ فِيهَا مَا يُعْرَفُ الْآنَ بِالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ، فَإِنَّ حِفْظَ أَلْوَاحِ الْأَنْفُسِ الْمُدْرِكَةِ لِمَا تَرْسُمُهُ وَتُطِيعُهُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ فِيهَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنْ حِفْظِ أَلْوَاحِ الزُّجَاجِ الْحَسَّاسَةِ لِمَا يَرْسُمُهُ وَيَطْبَعُهُ نُورُ الشَّمْسِ عَلَيْهَا، وَعَرْضُ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا دُونَ عَرْضِ الصُّوَرِ النَّفْسِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَظْهَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كُلُّ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُ مِنْ خَيْرِ نَفْسِهِ وَشَرِّهَا (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (69: 18) أَيْ لَا تَخْفَى عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَضْلًا عَنْ خَفَائِهَا عَلَى رَبِّكُمْ، وَقَدْ خَصَّ بِالذِّكْرِ هُنَا بُدُوَّ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الْكُفَّارُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ تَمَنِّي أُولَئِكَ الْكُفَّارِ لِمَا تَمَنَّوْا لَا يَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ حَقِيقَتِهِمْ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ مِنْهَا، بِإِخْفَائِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ النَّاسِ أَوْ عَنْهَا: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) (39: 47، 48) فَتَمَنَّوُا الْخُرُوجَ مِمَّا حَاقَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَتَغَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهَا أَطْوَارٌ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْطَارِ. (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ثَابِتٌ فِيهَا، وَمَا دَامَتِ الْعِلَّةُ ثَابِتَةً فَإِنَّ أَثَرَهَا وَهُوَ الْمَعْلُولُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فِيمَا تَضَمَّنَهُ تَمَنِّيهِمْ مِنَ الْوَعْدِ بِتَرْكِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، وَبِالْكَوْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءً عَلِمُوا حِينَ تَمَنَّوْا وَوَعَدُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا الْوَعْدِ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَرُدَّ الْمُعَانِدُ الْمُسْتَكْبِرُ مِنْهُمْ مُشْتَمِلًا بِكِبْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَاكِرِ وَالْمُنَافِقِ مُرْتَدِيًا بِمَكْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَالْمُقَلِّدُ مُقَيَّدًا بِتَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ وَعَدَمِ ثِقَتِهِ بِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَالشَّهْوَانِيُّ مُلَوَّثًا بِشَهَوَاتِهِ الْمَالِكَةِ لِرِقِّهِ.

وَأَمَّا مَا ظَهَرَ لَهُمْ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ مِنْ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، فَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَا كَانَ يَلُوحُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعِبَرِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ يُكَابِرُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ عَقْلَهُمْ وَوِجْدَانَهُمْ، وَيُمَارُونَ مُنَاظِرِيهِمْ وَأَخْدَانَهُمْ؟ يَشْرَبُ الْفَاسِقُ الْخَمْرَ فَيُصَدَّعُ، أَوْ يَلْعَبُ الْقِمَارَ فَيَخْسَرُ، وَيَأْكُلُ الْمَرِيضُ أَوْ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ أَوْ يُكْثِرُ مِنْهُ فَيَتَضَرَّرُ وَيُرْوَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ لِشَرْعِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بِالْحَقِّ، أَوْ لِسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلْقِ، مَا حَلَّ مِنَ الشَّقَاءِ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ فَيَنْدَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، وَيَتُوبُ وَيَعْزِمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا عِنْدَ فَقْدِ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ، وَوُجُودِ دَاعِيَةِ التَّرْكِ، فَإِذَا عَادَتِ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ خُضُوعًا لِمَا اعْتَادَ وَأَلِفَ، وَتَرْجِيحًا لِمَا يَلَذُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ. وَمِنْ وَقَائِعِ الْعِبَرِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ لِأَخٍ لِي عُمِلَتْ لَهُ عَمَلِيَّةً جِرَاحِيَّةً خُدِّرَ قَبْلَهَا بِالْبَنْجِ (كُلُورُفُورْم) فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِيهِ أَنَّهُ شَعَرَ بِأَنَّ رُوحَهُ تُسَلُّ مِنْ بَدَنِهِ وَأَنَّهُ قَادِمٌ عَلَى رَبِّهِ وَقَدْ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى انْدِمَالِ جُرْحِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الشِّفَاءِ مِنْهُ يَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ فَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَيَتَحَسَّرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ الطَّوِيلَةِ فِي الْبِطَالَةِ وَاللهْوِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَعَزَمَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ مَرَضِهِ، حَتَّى عَزَمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَرْكِ شُرْبِ الدُّخَّانِ، الَّذِي مَنَعَهُ الطَّبِيبُ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ أَخْذِهِ بِالْعِلَاجِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّحَّةِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ سَابِغَةً عَادَ كَذَلِكَ لِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ السَّابِقَةِ، عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ هَذِهِ الْآيَةَ (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) وَعَدَّ مَا وَقَعَ لَهُ شَاهِدًا لَهَا وَمِثَالًا تُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ تَفْسِيرِهَا. وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى لِإِقَامَةِ النَّاسِ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنَّمَا هِيَ حَمْلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ وَالتَّعْوِيدِ، مَعَ التَّعْلِيمِ وَحُسْنِ التَّلْقِينِ، كَمَا يُرَبَّى الْأَطْفَالُ فِي الصِّغَرِ، وَكَمَا يُمَرَّنُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْمَالِ الْعَسْكَرِ، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ أَنْ يُسْمَحَ لِلْأَحْدَاثِ بِطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، بِشُبْهَةِ تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ بِمَا يُفِيدُهُمُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الرُّشْدِ مِنَ الِاقْتِنَاعِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، أَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ وَأَنَا عَالِمٌ بِفَضْلِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَمِنَ الدُّعَاةِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ فِي الصِّغَرِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْكِبَرِ، بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مَلَكَةً وَعَادَةً لَهُ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ يُنَافِي الْحَقَّ أَوِ الْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْحِكْمَةِ، بِمَا أُوتُوا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ مِنَ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ مُسَخَّرُونَ لِعَادَتِهِمْ، مُنْقَادُونَ

29

لِمَا أَلِفُوا فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا، يَتَكَلَّفُونَ الْمُخَالَفَةَ تَكَلُّفًا عِنْدَ عَرُوضِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَ الْمُقْتَضَى عَادُوا إِلَى عَادَهُمْ وشِنْشِنَتِهِمْ، وَعَمِلُوا عَلَى سَابِقِ شَاكِلَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَرْبِيَةُ الصِّغَارِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ الْحَقِّ، وَتَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الْفَضِيلَةِ وَالْأَدَبِ، كَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى النَّظَافَةِ وَمُرَاعَاةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَعْرِفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَأْخِيرِ تَلْقِينِهِمْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ إِلَى وَقْتِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فِي الْكِبَرِ لَا يُنَافِي تَرْبِيَةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَوْضَحُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى مَا قُلْنَا فُشُوُّ السُّكْرِ فِي أُمَمِ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ضَارٌّ قَبِيحٌ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي مِائَةِ الْأَلْفِ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَتْرُكُهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَادَهُ وَأَدْمَنَهُ لِاقْتِنَاعِهِ بِضَرَرِهِ مِمَّا ثَبَتَ مِنَ الدَّلَائِلِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّجَارِبِ الْقَطْعِيَّةِ. (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَّا سَاءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) . بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَأْنًا آخَرَ مَنْ شُئُونِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ غُرُورُهُمْ بِهَا، وَافْتِتَانُهُمْ بِمَتَاعِهَا، وَإِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ حَسْرَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمُ السَّابِقِ، وَغُرُورِهِمْ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الزَّائِلِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخِرَةِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتِمَّةٌ لِمَا سَبَقَهَا، وَإِنَّ " قَالُوا " فِيهَا مَعْطُوفٌ عَلَى " عَادُوا " فِيمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَوْ رُدَّ أُولَئِكَ إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا

30

لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَسَيِّءِ الْأَعْمَالِ، وَصَرَّحُوا ثَانِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ مَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَالْعَطْفُ فِيهِ عَطْفُ جُمَلٍ مُسْتَأْنَفٌ، وَ (إِنْ) فِي ابْتِدَاءِ مَقُولِ الْقَوْلِ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى " مَا " أَيْ وَقَالَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ قَرِيبًا، وَوَقْفُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْفِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي حَاسَبَهُمْ فِيهِ رَبُّهُمْ، وَإِمْسَاكُهُمْ فِيهِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ فِيهِمْ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ أَيْ يَقِفُونَ مَطِيَّهُمْ عِنْدِي وُقُوفًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونُوا فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. أَوِ الْمَعْنَى يَحْبِسُونَهَا عَلَيَّ بِإِمْسَاكِهَا عِنْدِي. وَإِنَّمَا عَدَّى الْوَقْفَ وَالْوُقُوفَ الَّذِي بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَلَيَّ وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى الْقَصْرِ، قَالَ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (5: 4) أَيْ مِمَّا أَمْسَكَتْهُ الْجَوَرِاحُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ لِأَجْلِكُمْ، وَكَذَلِكَ حَبَسُ الْعَقَارِ وَوَقْفُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ فِيهِ مَعْنَى قَصْرِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَالَّذِينَ تَقِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْبِسُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (37: 24) يَكُونُونَ مَقْصُورِينَ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ غَيْرُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي بَيَانِ كَوْنِ اسْتِعْمَالِ " وَقَفَ " هُنَا مُتَعَدِّيًا بِعَلَى بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (27: 6) لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اضْطَرَبُوا فِي التَّعْدِيَةِ هُنَا فَحَمَلَ الْكَلَامَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْكِنَايَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا. بَيَّنَّا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أَنَّ جَوَابَ " لَوْ " حُذِفَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ الْكَلَامِ، وَمِنْ شَأْنِ السَّامِعِ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْتَظِرَ بَيَانًا لِمَا يَقَعُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ تَوَجَّهَتْ نَفْسُهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَلِهَذَا جَاءَ الْبَيَانُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) إِدْخَالُ الْبَاءِ عَلَى الْحَقِّ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْمَعْنَى، أَيْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ؟ (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) أَيْ بَلَى هَذَا الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا بَاطِلَ يَحُومُ حَوْلَهُ، اعْتَرَفُوا وَأَكَّدُوا اعْتِرَافَهُمْ بِالْيَمِينِ، فَشَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، فَبِمَاذَا أَجَابَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ

31

تَكْفُرُونَ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، بِسَبَبِ كُفْرِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ دَائِمُونَ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذِكْرِ مَا رَبِحُوا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ، بِبَيَانِ مَا خَسِرُوا مِنَ السَّعَادَةِ وَالثَّوَابِ وَإِنَّمَا هُوَ خَسْرٌ عَلَى خَسْرٍ فَقَالَ: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) أَيْ خَسِرَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى كُلَّ مَا رَبِحَهُ وَفَازَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِلِقَائِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، كَالْقَنَاعَةِ وَالْإِيثَارِ وَالرِّضَاءِ مِنَ اللهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالشُّكْرِ لَهُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَالصَّبْرِ وَالْعَزَاءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَصْغُرُ مَعَهَا الْمَصَائِبُ وَالشَّدَائِدُ، وَيَكْبُرُ قَدْرُ النِّعَمِ وَالْمَوَاهِبِ. وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ، وَالثَّوَابِ الْكَبِيرِ وَالرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ " مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْسَرُهُ الْمُكَذِّبُونَ بِلِقَاءِ اللهِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ; لِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا حَذَفَ مَفْعُولَ " خَسِرَ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَجَعَلَ فَاعِلَهُ مَوْصُولًا لِدَلَالَةِ صِلَتِهِ عَلَى سَبَبِ الْخُسْرَانِ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تُفْسِدُ النَّفْسَ، وَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِفَسَادِهَا خَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ. (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أَيْ كَذَّبُوا إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ مُبَاغِتَةً مُفَاجِئَةً، وَقِيلَ: إِنَّ الْغَايَةَ لِلْخُسْرَانِ بِقَصْرِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَالسَّاعَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الزَّمَنُ الْقَصِيرُ الْمُعَيَّنُ بِعَمَلٍ يَقَعُ فِيهِ، يُقَالُ: جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَاعَةً، وَغَابَ عَنِّي سَاعَةً، وَأُطْلِقَ فِي كُتُبِ الدِّينِ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ أَجْلُ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَيَخْرَبُ هَذَا الْعَالَمُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ. وَعَلَى مَا يَلِي ذَلِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى سَاعَةِ خَرَابِ الْعَالَمِ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ سَاعَةً بِاعْتِبَارِ سُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهِ [رَاجِعْ ص 190 ج 2 ط الْهَيْئَةِ] أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ قَوْلَانِ: وَهَذِهِ السَّاعَةُ سَاعَةُ هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْ دُونِهَا سَاعَةُ كُلِّ فَرْدٍ وَقِيَامَتِهِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ وَيَقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ، وَكَذَا سَاعَةُ الْأُمَّةِ أَوِ الْجِيلِ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْقِيَامَةَ ثَلَاثٌ: كُبْرَى وَوُسْطَى وَصُغْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ [رَاجِعْ ص 174 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ السَّاعَةَ هُنَا بِالْقِيَامَةِ الصُّغْرَى، إِذْ هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالْقِيَامَةُ الْكُبْرَى إِنَّمَا تَقُومُ عَلَى آخِرِ مَنْ يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَهَا بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ بِاعْتَبَارِ غَايَتِهَا - وَهُوَ يَوْمٌ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - تَصْدُقُ عَلَى مَنْ نَزَلَتِ الآيَةُ: فِيهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَبِاعْتَبَارِ بِدَايَتِهَا تَصْدُقُ عَلَى آخِرِ مَنْ يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ. وَيَرَوْنَ أَنَّ الْبَغْتَةَ لَا تَظْهَرُ فِي مَوْتِ الْأَفْرَادِ لِمَا يَكُونُ لَهُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا وَقْتُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَجِيءَ السَّاعَةِ

بَغْتَةً فِي عِدَّةِ آيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى الْعَامَّةَ، وَهِيَ الَّتِيَ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْفَى عِلْمَهَا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (31: 34) فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمَوْتِ بَغْتَةً، وَلَا عَلَى جَهْلِ كُلِّ أَحَدٍ بِوَقْتِهِ، فَقَدْ يُعْرَفُ بِأَسْبَابِهِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ مَهْمَا يَكُنْ شَدِيدًا، فَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ جَزَمَ الْأَطِبَّاءُ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا أَوْ سَاعَاتٍ قَدْ شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ ذَاكَ وَعَاشَ بَعْدَهُ عِدَّةَ أَعْوَامٍ، عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَيْئَسُ مِنَ الْحَيَاةِ مَا دَامَ فِيهِ رَمَقٌ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ - إِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ -: أَنَّ الْمَوْتَ جَاءَهُ بَغْتَةً، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِئْهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً جَاءَهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً، وَلَاتَ حِينَ اسْتِعْدَادٍ، وَلَا رُجُوعٍ عَنْ شِرْكٍ وَإِلْحَادٍ، بَلْ يَمُوتُ الْمَرْءُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَيَنْدُرُ أَنْ يَظْهَرَ لِأَحَدٍ فِي مَرَضِ مَمَاتِهِ ضَلَالُهُ الَّذِي عَاشَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ عَنِ الْإِنْسَانِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ فَارَقَ هَذِهِ الْحَيَاةَ إِلَى الْعَالَمِ الْآخَرِ إِلَّا عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مِنْ بَدَنِهِ، حِينَئِذٍ يَتَحَسَّرُ الْمُفَرِّطُونَ، وَيَنْدَمُ الْمُجْرِمُونَ، ثُمَّ تَتَجَدَّدُ الْحَسْرَةُ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ. (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) هَذَا جَوَابُ " إِذَا " أَيْ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ مَنِيَّتُهُمْ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَبْدَأُ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَرْحَلَةُ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَامَةِ، مُفَاجِئَةً لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَهَا، وَلَا يَحْسِبُونَ حِسَابًا وَلَا يُعِدُّونَ عُدَّةً لِمَجِيئِهَا، قَالُوا: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى تَفْرِيطِنَا! . هَذَا أَوَانُكِ فَاحْضُرِي وَبَرِّحِي ... بِالْأَنْفُسِ مَا شِئْتِ أَنْ تُبَرِّحِي وَالْحَسْرَةُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - الْغَمُّ عَلَى مَا فَاتَ وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، كَأَنَّ الْمُتَحَسِّرَ قَدِ انْحَسَرَ (أَيْ زَالَ وَانْكَشَفَ) عَنْهُ الْجَهْلُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ، أَوِ انْحَسَرَتْ عَنْهُ قُوَاهُ مِنْ فَرْطِ الْغَمِّ، أَوْ أَدْرَكَهُ إِعْيَاءٌ عَنْ تَدَارُكِ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَنِدَاءُ الْحَسْرَةِ فَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ الْمُتَكَلِّمِ لِنَفْسِهِ، وَتَذْكِيرُهَا بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِهِ. وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْفَرْطِ بِمَعْنَى السَّبْقِ وَمِنْهُ الْفَارِطُ وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ الْمُسَافِرِينَ لِإِعْدَادِ الْمَاءِ لَهُمْ. وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلسَّلْبِ وَالْإِزَالَةِ كَجَلَّدْتُ الْبَعِيرَ إِذَا سَلَخْتَ جِلْدَهُ وَأَزَلْتَهُ عَنْهُ. فَيَكُونُ مَعْنَى التَّفْرِيطِ الْحَقِيقِيِّ عَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَنْفَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَتَقْدِيمِ الْفَرْطِ، أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَغَمَّنَا وَنَدَمَنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَفْرِيطِنَا فِيهَا، أَيْ فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا الَّتِي كُنَّا نَزْعُمُ أَنْ لَا حَيَاةَ لَنَا بَعْدَهَا، أَوْ فِي السَّاعَةِ أَوْ مَا هِيَ مِفْتَاحٌ لَهُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهِيَ تَشْمَلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا بَعْضُهُمْ مَرْجِعَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِنَا

فِي شَأْنِهَا بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ كَلِمَةِ " فَرَّطْنَا " لِأَنَّ التَّقْصِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ، وَقِيلَ: لِلصَّفْقَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ كَلِمَةِ " خَسِرَ " وَهِيَ بَيْعُهُمُ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، وَأَقْوَاهَا أَوَّلُهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَمِنْ غَرَائِبِ غَفَلَاتِ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَقَلَهُ بَعْضُ أَذْكِيَائِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ دَعْوَى أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِهِمْ، عَلَى كَوْنهِ هُوَ الْمَذْكُورَ فِيهِ دُونَ سِوَاهُ مِنَ الْمَرَاجِعِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُمْ ذَهَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) إِلَخْ، وَعَنْ كَوْنِ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِعَاقِبَتِهِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لَا سِيَاقًا جَدِيدًا مُسْتَقِلًّا، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ شَأْنِهِمْ لَا عَنْهُمْ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْقُوَّةِ. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) الْأَوْزَارُ: جَمْعُ وِزْرٍ، وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَوَزَرَهُ (بِوَزْنِ وَعَدَهُ) حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيُطْلَقُ الْوِزْرُ عَلَى الْإِثْمِ وَالذَّنْبِ ; لِأَنَّ ثِقَلَهُ عَلَى النَّفْسِ كَثِقَلِ الْحِمْلِ عَلَى الظَّهْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَجَعْلُ الذُّنُوبِ مَحْمُولَةً عَلَى الظُّهُورِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَنْفُسِ فِيمَا تُقَاسِيهِ مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ وَالْآلَامِ يُشْبِهُ هَيْئَةَ الْأَبْدَانِ فِي حَالِ نَوْئِهَا بِالْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ، وَمَا تُقَاسِيهِ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالْجَهْدِ وَالزَّحِيرِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَوْلِ بِتَجَسُّمِ الْمَعَانِي وَالْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَمَثُّلِهَا هِيَ وَمَادَّتِهَا بِصُوَرٍ تُنَاسِبُهَا فِي الْحُسْنِ أَوِ الْقُبْحِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْغُلُولِ وَالْمَالِ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ تَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ رَجُلٍ حَسَنٍ أَوْ صُورَةٍ حَسَنَةٍ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْحَسْرَةَ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا وَهُمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ بِمَا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى سُوءَ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي تُلَابِسُهُمْ عِنْدَ اللهَجِ بِذَلِكَ الْمَقَالِ بِقَوْلِهِ: (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) فَبَدَأَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِأَلَا الِافْتِتَاحِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْعِنَايَةُ بِمَا بَعْدَهَا وَتَوْجِيهُ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَيْهِ، يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَأْكِيدِ مَضْمُونِهِ وَوُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِالِاعْتِبَارِ بِهِ وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ أُشْرِبَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ أَوِ التَّعْجِيبِ، أَيْ: مَا أَسْوَأَ حِمْلَهُمْ ذَاكَ! أَوْ: مَا أَسْوَأَ تِلْكَ الْأَثْقَالَ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ (سَاءَ) هُنَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي، أَيْ سَاءَهُمْ وَأَحْزَنَهُمْ حَمْلُهُمْ لِتِلْكَ الْأَوْزَارِ، أَوْ سَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْأَوْزَارُ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا. وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ مَا يَغُرُّ النَّاسَ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ بِهَا، وَالْمُقَابِلَةُ

32

بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ حَظِّ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ فِيهَا مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، إِثْرَ بَيَانِ مَا يَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمَفْتُونُونَ بِالْأُولَى عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَى الثَّانِيَةِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا فَقَالَ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللَّعِبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِهِ فَاعِلُهُ مَقْصِدًا صَحِيحًا مِنْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَأَفْعَالِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّتِي يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِذَاتِهَا، فَمَا يُعَالِجُونَهُ مِنْ كَسْرِ حَبَّةِ بَقْلٍ أَوْ إِزَالَةِ غِشَاءٍ عَنْ قِطْعَةِ حَلْوَى لِأَجْلِ أَكْلِهَا لَا يُسَمَّى لَعِبًا، وَاللهْوُ: مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ وَيُهِمُّهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَا بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِاللهْوِ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَفِي اللِّسَانِ: اللهْوُ مَا لَهَوْتَ بِهِ، وَلَعِبْتَ بِهِ، وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ قَالَ: يُقَالُ لَهَوْتُ بِالشَّيْءِ أَلْهُو بِهِ لَهْوًا وَتَلَهَّيْتُ بِهِ - إِذَا لَعِبْتَ بِهِ وَتَشَاغَلْتَ وَغَفَلْتَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي اللهْوِ إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ مِنْ لَعِبٍ وَطَرَبٍ وَدَوَاعِي سُرُورٍ، وَارْتِيَاحٍ عَمَّا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ أَوْ يُحْزِنُهُ أَوْ يَسُوءُهُ مِنْ خُطُوبِ الدُّنْيَا وَنَكَبَاتِهَا. ثُمَّ تُوُسِّعَ بِهِ فَصَارَ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى مَا يَسُرُّ وَيَلَذُّ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَاغُلُ عَنْ أُمُورِ الْجِدِّ، كَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللهْوَ أَمْثَالِي. وَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى جِدٍّ يُتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ جِدٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّ الَّذِي عُرِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا الْمَصْدَرُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَهْوٌ، بَلْ يُقَالُ لَهَوْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا، أَوْ تَلَهَّيْتُ أَوِ الْتَهَيْتُ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهُ (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (80: 10) وَإِنَّمَا تَشَاغَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَعْمَى بِالتَّصَدِّي لِدَعْوَةِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا بِشَيْءٍ فِيهِ طَرَبٌ وَلَا سُرُورٌ نَفْسِيٌّ يُسَمَّى لَهْوًا بِإِطْلَاقٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّهُ لَا حَيَاةَ غَيْرُهَا - وَهِيَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَقْصُودَةِ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَوِ الْمُلْهِيَةِ لَهُمْ عَنْ هُمُومِهَا وَأَكْدَارِهَا - لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا أَوْ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ يَكُونُ فِي حَيَاةٍ بَعْدَهَا، أَوْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عَمَلٍ لَا يُفِيدُ فِي الْعَاقِبَةِ - فَهُوَ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ - وَبَيْنَ عَمَلٍ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ سَلْبِيَّةٌ، كَفَائِدَةِ اللهْوِ هُوَ دَفْعُ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَلْبِيَّةٌ؛ إِذْ هِيَ إِزَالَةُ الْآلَامِ، فَلَذَّةُ الطَّعَامِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْجُوعِ وَبِقَدْرِ هَذَا الْأَلَمِ تَعْظُمُ اللَّذَّةُ فِي إِزَالَتِهِ، وَلَذَّةُ شُرْبِ الْمَاءِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْعَطَشِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا شُرْبُ الْمُنَبِّهَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ؛ كَالْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ وَالدُّخَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بِالتَّكَلُّفِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالطَّبْعِ كَمَا أَخْبَرَ الْمُجَرِّبُونَ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَهُ طَلَبًا لِلَذَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ يُقَلِّدُ بِهَا الشَّارِبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمُؤْلِمُ بِالتَّعَوُّدِ مُلَائِمًا بِإِزَالَتِهِ لِلْأَلَمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ

إِزَالَةً مُؤَقَّتَةً. ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سُمُومٌ مَكْرُوهَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَمَتَى أَثَّرَ سُمُّهَا فِي الْأَعْصَابِ بِالتَّنْبِيهِ الزَّائِدِ وَغَيْرِهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ ضِدَّهُ مِنَ الْفُتُورِ وَالْأَلَمِ، وَهُمَا يُطَارَدَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الشُّرْبِ، كَمَا قَالَ أَشْعَرُ السِّكِّيرِينَ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى تَمْثِيلِ تَأْثِيرِ السُّكْرِ وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ وَقَالَ: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا وَهْمِيَّةٌ كَمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَاقَهَا بَلْ تَوَهَّمَهَا، وَقَلَّدَ بِهَا الْمَفْتُونِينَ بِالسُّكْرِ. وَقَدْ يَقْصِدُ بِالسُّكْرِ إِزَالَةَ آلَامٍ أُخْرَى غَيْرِ أَلَمِ سُمِّ الْخَمْرِ كَالْهُمُومِ وَالْأَكْدَارِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَغِيبُ عَنْ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِآلَامِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ أَلَمُ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي آلَامٍ أُخْرَى بَدَنِيَّةٍ كَالصُّدَاعِ وَالْغَثَيَانِ، أَوْ نَفْسِيَّةٍ كَالَّتِي فَرَّ مِنْهَا، أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: إِذَا اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ ... فَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ لَا تُعَدُّ دَاعِيَتُهَا مِنَ الْآلَامِ، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِمَ أَنَّ السَّمَاعَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا النَّوْعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ ضَعِيفَةً لَيْسَتْ كَدَاعِيَةِ الْغِنَاءِ وَالْوِقَاعِ، فَكَانَ فَقْدُهُ غَيْرَ مُؤْلِمٍ إِلَّا لِمَنِ اشْتَدَّ وُلُوعُهُ بِهِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْقَاعِدَةِ. وَلَذَّةُ السَّمَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - ضَعِيفَةٌ بِقَدْرِ ضَعْفِ الدَّاعِيَةِ، فَالسَّمَاعُ لَا يُعَدُّ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَلَا مِنْ مَقَاصِدِهَا الذَّاتِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِهِ لِتَرْوِيحِ النَّفْسِ مِنْ آلَامِ الْحَيَاةِ لَا مِنْ أَلَمِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْمُ " اللهْوِ " عَلَيْهِ وَاسْمُ " الْمَلَاهِي " عَلَى آلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ جَمْعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَتَاعَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْخَاصَّ بِهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَجَلُهُ قَصِيرٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ الرَّاشِدُ، فَهُوَ لَيْسَ إِلَّا كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الطِّفْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ كُلِّ لُعْبَةٍ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ زَمَنَ الطُّفُولَةِ قَصِيرٌ، كُلُّهُ غَفْلَةٌ، أَوْ كَلَهْوِ الْمَهْمُومِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ لِذَاتِهِ. (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ، يُفِيدُ بِمُقَابَلَتِهِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَنَعِيمِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا يَعْبَثُ بِهِ الْعَابِثُونَ، أَوْ يَتَشَاغَلُونَ وَيَتَسَلَّوْنَ بِهِ عَنِ الْأَكْدَارِ وَالْهُمُومِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ لِفَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ - وَأَنَّ تِلْكَ الدَّارَ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعَ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّعِبِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، وَعَدَمِ فَائِدَتِهِ،

أَوْ مِنْ قَبِيلِ اللهْوِ فِي كَوْنِهِ دَفْعًا لِأَلَمِ الْهَمِّ وَالْكَدَرِ، أَوْ ضَجَرِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُفْضِيَةِ إِلَى عَذَابِ الْأَخَرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ الْبَدَنِيَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي ذَاتِهِ، وَفِي دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ، وَفِي كَوْنِهِ إِيجَابِيًّا لَا سَلْبِيًّا، وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ وَلَا مُنَغَّصٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْآلَامِ، وَفِي كَوْنِهِ لَا يَعْقُبُهُ ثِقْلٌ، وَلَا مَرَضٌ، وَلَا إِزَالَةٌ أَقْذَارٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِنَعِيمِهَا الرُّوحَانِيِّ مِنْ لِقَاءِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَتِهِ؟ أَيْ أَتُغْفِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ هَذَا الْفَرْقَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْآخِرَةِ؟ أَمَا لَوْ عَقَلْتُمْ لَآمَنْتُمْ. قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُبْعَثُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا. قَرَأَ ابْنُ عَارِمٍ (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ) بِإِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لِمُغَايَرَتِهَا لَهُ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَحَسْبُكَ وُرُودُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ فِي اطِّرَادِهِ وَطَرِيقَةِ إِعْرَابِهِ، فَالْأَوَّلُونَ يُعْرِبُونَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَالْآخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا بِمُسَوِّغٍ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعْمَالُ " الْآخِرَةِ " اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (93: 4) أَوْ مُرَاعَاةُ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَصِحُّ تَقْدِيرُ النَّشْأَةِ أَيْضًا، وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ " يَعْقِلُونَ " بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلْغَيْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ مُحَمَّدٍ ": (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) (47: 36) وَقَوْلُهُ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ ": (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) (57: 20) وَقَدْ قَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ اللَّعِبَ عَلَى اللهْوِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ": (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (29: 64) وَقَدْ قَدَّمَ فِي هَذِهِ ذِكْرَ اللهْوِ عَلَى اللَّعِبِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لَا يُعْنَوْنَ بِبَيَانِ نُكْتَةٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ تَرْتِيبًا، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ نَقَلَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " كَلَامًا رَكِيكًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَزَاهُ إِلَى الدُّرَّةِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَهُ مَوْلَانَا شِهَابُ الدِّينِ فَلْيُفْهَمْ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُضْطَرِبِ الْمُبْهَمِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ فَصَّلَتْ آيَةُ الْحَدِيدِ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَقَدَّمَ فِيهَا اللَّعِبَ لِأَنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ لِلطِّفْلِ يَلَذُّ لَهُ هُوَ اللَّعِبُ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُ لِذَاتِهِ،

وَذَكَرَ بَعْدَهُ اللهْوَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ الَّذِي لَا يَأْتِي مِنَ الطِّفْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِذِي الْفِكْرِ وَبَعْدَهُ الزِّينَةَ الَّتِي هِيَ شَأْنُ سِنِّ الصِّبَا، وَبَعْدَهُ التَّفَاخُرَ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الشُّبَّانِ، وَبَعْدَهُ التَّكَاثُرَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ، فَالنُّكْتَةُ يَنْبَغِي أَنْ تُلْتَمَسَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ لَا فِي آيَتِي مُحَمَّدٍ وَالْأَنْعَامِ، وَهِيَ قَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَذَكَرَ فِيهَا اللهْوَ قَبْلَ اللَّعِبِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَلِّي الْمُؤْذِنِ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ، فَإِنَّ اللَّعِبَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ الْعَبَثُ أَقْبَحُ مِنَ اللهْوِ؛ إِذِ اللهْوُ تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ وَلَوْ سَلْبِيَّةً، وَاللَّعِبُ هُوَ الْعَبَثُ الَّذِي لَا تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ أَلْبَتَّةَ، فَهُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ لَا الْعُقَلَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَصَالِحِ، الَّذِينَ يَقْصِدُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، إِمَّا دَفْعَ بَعْضِ الْمَضَارِّ، وَإِمَّا تَحْصِيلَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (29: 64) وَقَالَ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (29: 63) وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَثْلِ هَذَا التَّدَلِّي فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْإِيمَانِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا بَيَانُ ضَعْفِ نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ وَجَهْلِهِمْ، وَإِنْ ذُيِّلَتْ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ عَقْلِ مَا قَرَّرَ فِيهَا وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ، بَلْ وَرَدَتْ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَا يُصِيبُ الْمَفْتُونِينَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِحَصْرِ هَمِّهِمْ فِي لَذَّاتِهَا، وَتَلَاهُ بَيَانُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ فِيهَا، فَفِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ - كَآيَةِ " سُورَةِ مُحَمَّدٍ " - يَحْسُنُ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، بِتَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ التَّرَقِّي ; لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ عَبَثٍ لَيْسَ لَهُ عَاقِبَةٌ نَافِعَةٌ إِلَى لَهْوٍ فَائِدَتُهُ سَلْبِيَّةٌ عَاجِلَةٌ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ عَمَلَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِيهَا - وَمِنْهُ تَمَتُّعُهُمْ بِلَذَّاتِهَا - يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا بِسَبَبِ اعْتِصَامِهِمْ فِيهَا بِالتَّقْوَى، خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الْعَاجِلَةِ الدُّنْيَا. هَذَا وَإِنَّنِي عِنْدَ بُلُوغِي هَذَا الْبَحْثَ ظَفِرْتُ بِكِتَابِ (دُرَّةِ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةِ التَّأْوِيلِ) لِأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْخَطِيبِ الْإِسْكَافِيِّ، فَرَاجَعْتُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَهْمِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الشِّهَابِ عَنْهُ مَا لَا يَكَادُ يُفْهَمُ. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِلنَّقْلِ بِالْمَعْنَى دُونَ النَّصِّ، الَّذِي يَكْثُرُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ فِي النَّقْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْكَافِيُّ هَذَا الْبَحْثَ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " (وَهِيَ الْآيَةُ ال70) الْوَارِدَةُ فِي اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا - مَعَ مَا يُقَابِلُهَا فِي " سُورَةِ الْأَعْرَافِ " (7: 51) مِنِ اتِّخَاذِهِمْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذَكَرَ آيَتَيِ الْحَدِيدِ وَالْعَنْكَبُوتِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَنَسِيَ ذِكْرَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا فِي مَحَلِّهِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الْخَطِيبُ فِي تَفْسِيرِ اللهْوِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُ اجْتِلَابُ الْمَسَرَّةِ بِمُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ ": إِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِمَنِ اشْتَغَلَ بِهَا وَلَمْ يَتْعَبْ لِغَيْرِهَا مَقْسُومَةٌ مِنَ الصِّبَا وَهُوَ وَقْتُ اللَّعِبِ، وَبَعْدَهُ اللهْوُ وَهُوَ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ

بِمُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَخْذُ الزِّينَةِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ. وَمِنْ أَجْلِ الزِّينَةِ نَشَأَتْ مُبَاهَاةُ الْأَكْفَاءِ، وَمُفَاخِرَةُ الْأَشْكَالِ وَالنُّظَرَاءِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْمُكَاثَرَةُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَتَرَتَّبَتِ الْحَيَاةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَالِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ. اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. إِلَخْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ قِصَرِ مُدَّةَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُدَّةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَمَدُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا كَأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ، وَهِيَ أَزْمِنَةٌ تُسْتَقْصَرُ لِشُغْلِ النَّفْسِ بِحَلَاوَةِ مَا يُسْتَعْجَلُ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعَرْنَا ... بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُ: وَلَيْلَةٍ إِحْدَى اللَّيَالِي الْغُرِّ ... لَمْ تَكُ غَيْرَ شَفَقٍ وَفَجْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُ قَبْلُ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (29: 64) أَيْ إِنَّ حَيَاتَهَا تَبْقَى أَبَدًا، وَلَا تُعْرَفُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللهْوَ هُنَا عَلَى اللَّعِبِ لِأَنَّ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللهْوُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللَّعِبُ ; لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ أَكْثَرُ. فَلَمَّا كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَسْتَقْصِرُ وَجَبَ تَقْدِيمُ مَا يَكْثُرُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ آخَذُ بِالشَّبَهِ، وَأَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْمُشَبَّهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسَ أَزْمِنَتُهُمُ الْمَشْغُولَةُ بِاللهْوِ أَكْثَرُ مِنْ أَزْمِنَتِهِمُ الْمَشْغُولَةِ بِاللَّعِبِ، وَأَنَّ طِيبَهَا لَهُمْ يُخَيِّلُ قِصَرَهَا إِلَيْهِمْ، وَيَتَفَاوَتُ طِيبُهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى مَحْبُوبِهَا، فَمُعْظَمُ مَا تَرَى الزَّمَانَ الطَّوِيلَ قَصِيرًا زَمَانُ اللهْوِ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ الَّذِي نَشَأَتْ مِنْهُ فِتْنَةُ الرِّجَالِ وَهَلَاكُ أَهْلِ الْحُبِّ ". اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ مِنَ اللَّفْظِ نَسَبًا، وَأَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْمَعْنَى وَأَقْوَى سَبَبًا. هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نُبَيِّنَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى الشُّرُورِ الْكَثِيرَةِ، فَنَقُولُ: إِنَّ الْكُفْرَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ لَا حَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يَجْعَلُ هَمَّ الْكَافِرَ مَحْصُورًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ؛ كَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَلَذَّاتِهِ الشَّهْوَانِيَّةِ أَسْفَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ كَالْبَقَرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِي لَذَّاتِهِ الْغَضَبِيَّةِ أَضْرَى وَأَشَدَّ أَذًى مِنَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ الْمُفْتَرِسَةِ كَالذِّئَابِ وَالنُّمُورِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ وَلَذَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ شَرًّا

مِنَ الشَّيَاطِينِ يَكِيدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَيَفْتَرِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ بَاطِلٍ وَلَا شَرٍّ يَهْوَوْنَهُ إِلَّا الْعَجْزَ، وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى حُكْمٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُوَّةَ الَّتِي جَعَلُوهَا فَوْقَ الْحَقِّ. وَطَالَمَا غَشُّوا أَنْفُسَهُمْ وَفَتَنُوا غَيْرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ التَّوَازُنِ فِي الْقُوَى مِنْ مَنْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِي كَانَ يَصُولُ بِهِ قَوِيُّ الْأُمَمِ عَلَى ضَعِيفِهَا، وَالْحُكُومَاتُ الْجَائِرَةُ عَلَى رَعِيَّتِهَا، فَزَعَمُوا أَنَّ الْحَضَارَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُفِيضُ رُوحَ الْكَمَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا بِالْإِلَهِ الدَّيَّانِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ وَدُوَلُهُمْ مِنْ ذَمِّ الْحَرْبِ، وَالتَّفَاخُرِ بِبِنَاءِ سِيَاسَتِهِمْ عَلَى أَمْتَنِ قَوَاعِدِ السِّلْمِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ حُبُّ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْعُرُوجِ بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى قُنَّةِ السَّعَادَةِ الْمَدَنِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُكُمْ تُسَابِقُونَ إِلَى اسْتِذْلَالِ الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ فِي الشَّرْقِ وَتُسَخِّرُونَهَا لِمَنَافِعِكُمْ وَتَوْفِيرِ ثَرْوَتِكُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ قَالُوا: كَلَا إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُخْرِجَهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْهَمَجِيَّةِ وَالْجَهْلِ لِتُشَارِكَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نُورِ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَاهَا لَمْ تَنَلْ مِنْ عُلُومِكُمْ إِلَّا بَعْضَ الْقُشُورِ، وَلَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ مَدَنِيَّتِكُمْ إِلَّا الْفِسْقَ وَالْفُجُورَ، قَالُوا: إِنَّمَا ذَلِكَ لِضَعْفِ الِاسْتِعْدَادِ، وَمَا تَمَكَّنَ فِي نُفُوسِ هَذِهِ الشُّعُوبِ مِنَ الْفَسَادِ، عَلَى أَنَّنَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ حُكَّامِهَا الْأَوَّلِينَ بِمَا قُمْنَا بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْنِ وَتَوْفِيرِ أَسْبَابِ النَّعِيمِ لِلْعَامِلِينَ! ذَلِكَ شَأْنُهُمْ، لَا تُقَامُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إِلَّا يُقَابِلُونَهَا بِشُبْهَةٍ تُؤَيِّدُهَا الْقُوَّةُ، وَقَدْ قَوَّضَتِ الْحَرْبُ الْمُشْتَعِلَةُ نَارُهَا فِي أُورُبَّا هَذِهِ الْأَعْوَامَ، جَمِيعَ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مِنَ الْمَزَاعِمِ وَالْأَوْهَامِ، إِذْ رَأَيْنَا فِيهَا أَرْقَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفَلْسَفَةِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَيُقَوِّضُونَ صُرُوحَ مَدِينَتِهِمْ بِمَدَافِعِهِمْ، وَيَسْتَعِينُونَ بِكُلِّ مَا ارْتَقَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَتَخْرِيبِ الْعُمْرَانِ، بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ، الَّتِي لَا تَشُوبُهَا عَاطِفَةُ رَأْفَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ، وَلَوْ كَانَ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْحَقِّ، لَمَا انْتَهَوْا فِي الطُّغْيَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، نَعَمْ، إِنَّ هَذِهِ الشُّعُوبَ كَانَتْ تَتَقَابَلُ لِنَصْرِ الْمَذْهَبِ أَوِ الدِّينِ فِي الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَصِلْ فِي التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عُشْرِ مِعْشَارِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الْعَصْرَ عَصْرَ النُّورِ وَتِلْكَ الْعُصُورَ بِعُصُورِ الظُّلُمَاتِ، عَلَى أَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ اسْمَ الدِّينِ وَتَأْوِيلَ نُصُوصِهِ وَسِيلَةً لِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَعْلَمُ جَمِيعُ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَقْسَى أَهْلِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَأَشَدَّهُمْ تَخْرِيبًا وَتَدْمِيرًا هُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَأَنَّ اللهَ مَعَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الصَّحِيحَةُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ سِيرَتِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِلُّ فِيهَا فِي عَصْرِ الْإِسْلَامِ مَا يُسْتَحَلُّ الْآنَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَلَا مَا نُقِلَ عَنْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكِ

33

بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي الْمَنَارِ الْقَوْلَ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ وَحُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي كَانَتْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ وَتَقْرِيرًا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ، يَسِيرُونَ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ فِي الضَّرُورَاتِ كَكَوْنِهَا تُبِيحُ مَا ضَرَرُهُ دُونَ ضَرَرِهَا وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَتُرَاعَى فِيهَا الرَّحْمَةُ لَا الْعَدْلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ لِسَلَفِنَا أَعْلَمُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ بِتَارِيخِنَا (غُوسْتَافْ لُوبُونْ) فَقَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وَهِيَ: " مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ ". وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ شُبُهَاتِ الْمَفْتُونِينَ بِالْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ قَدْ دُحِضَتْ بِهَذِهِ الْحَرْبِ السَّاحِقَةِ الْمَاحِقَةِ وَقَوِيَتْ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، بَلْ تَنَبَّهَ بِهَا الشُّعُورُ الدِّينِيُّ فِي الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ حَتَّى الْفَرِنْسِيسُ مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْحَقِيرَةِ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمُ الْمَعَابِدُ الَّتِي كَانَتْ مَهْجُورَةً قَلَّمَا تُفْتَحُ أَبْوَابُهَا، وَقَلَّمَا يُلِمُّ بِهَا أَحَدٌ إِنْ فُتِحَتْ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى خَالِقِهِمْ إِلَّا عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (10: 12) . (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) .

لَا تَنْسَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي دَعْوَةِ مُشْرِكِي مَكَّةَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأَنَّهَا تَكْثُرُ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِلَفْظِ (وَقَالُوا. وَقَالُوا) وَتَلْقِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُجَجَ بِلَفْظِ (قُلْ. . . قُلْ. . .) حَتَّى إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ تَكَرَّرَ فِيهَا عَشَرَاتٍ مِنَ الْمِرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (8) (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) (29) وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ فِي مَوْضُوعِهِمَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ فَقْدِ بَعْضِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ - بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَأْثِيرَ كُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُزْنَهُ مِمَّا يَقُولُونَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَسَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ بِبَيَانِ سُنَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَإِيئَاسِهِ مِنْ إِيمَانِ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ - وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ - فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) الْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالنَّفْسِ عِنْدَ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوِ امْتِنَاعِ مَرْغُوبٍ، أَوْ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ، وَتَجِبُ مُعَالَجَتُهُ بِالتَّسَلِّي وَالتَّأَسِّي وَإِنْ كَانَ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ كَحُزْنِ الْكَامِلِينَ عَلَى إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ هَذَا الْحُزْنَ إِثْبَاتًا مُؤَكَّدًا بِتَعَلُّقِ عِلْمِهِ التَّنْجِيزِيِّ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَيْ عَنْ مَا كَانَ يَعْرِضُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِأَنَّ مَعَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَبِاللَّامِ، فَكَلِمَةُ " قَدْ " عَلَى أَصْلِهَا لِلتَّقْلِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا لِلتَّكْثِيرِ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْعَلَمِ لَا الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحُزْنِ بِقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ يُونُسَ ": (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (10: 65) وَفِي " سُورَةِ يس ": (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (36: 76) كَمَا نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِي " سُورَةِ الْحِجْرِ " (15: 88) وَالنَّحْلِ (16: 127) وَالنَّمْلِ (27: 70) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُزْنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ فِيهِ أَنَّ الثُّلَاثِيَّ مِنْهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: حَزَنَهُ الْأَمْرُ، وَتَمِيمٌ تَقُولُ: أَحْزَنَهُ وَمِنْهَا قِرَاءَةُ نَافِعٍ (لَيُحْزِنُكُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الَّذِي يُحْزِنُهُ مِنْهُمْ هُوَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ وَفِي دَعْوَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَطَعْنٍ وَتَنْفِيرٍ لِلْعَرَبِ، وَمِنْهُ بِالْأَوْلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ تَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَذَبْتَ عَلَى اللهِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ

وَهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْكَ كَذِبًا عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ بِإِنْكَارِهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، كَمَا جَحَدَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ لِأَخِيكَ مُوسَى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) . فَالْجُحُودُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ. يُقَالُ: جَحَدَ جُحُودًا وَجَحْدًا. اهـ. وَعِبَارَةُ اللِّسَانِ الْجَحْدُ، وَالْجُحُودُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ فِيهِ أَنَّهُ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَيُقَالُ: جَحَدَهُ وَجَحَدَ بِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: " يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أَيْ وَقَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (35: 8) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (26: 3) - (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (18: 6) وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ، أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُبَشِّرِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ وَيَجْحَدُونَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللَّيْلِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ: فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَمَ الصُّبْحُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا؛ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شُبَّانِ قُرَيْشٍ بِهِمْ لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِمَجِيئِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًّا أَنَّ صَاحِبَيْهِ

لَا يَجِيآنِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يُعُودُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاءُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ. قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ ذَبَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لِمَ تُقَاتِلُونَهُ الْيَوْمَ؟ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْأَخْنَسُ، وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيًّا، فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ، أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْتَمِعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصِيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) فَآيَاتُ اللهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْآيَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَلَا يَصِحُّ نَصٌّ فِي نُزُولِهَا مُنْفَرِدَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، كَخَبَرِ الْأَخْنَسِ مَعَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَطْعًا، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَطْعًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدٌ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا يُسْتَثْنَى. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ فِي (يُكَذِّبُونَكَ) قِرَاءَتَيْنِ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ

الذَّالِ مِنْ أَكْذَبَهُ، أَيْ: وَجَدَهُ كَاذِبًا أَوْ نَسَبَهُ إِلَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ كَذِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ بِأَنْ كَانَ نَاقِلًا لَهُ مُصَدِّقًا بِهِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، مِنَ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْكَذِبِ، بِمَعْنَى إِنْشَائِهِ وَابْتِدَائِهِ، وَبِمَعْنَى نَقْلِهِ وَرِوَايَتِهِ. وَبِهَذَا نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّيغَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَكْذَبَهُ وَكَذَّبَهُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ " أَكْذَبَهُ " بِمَعْنَى بَيَّنَ كَذِبَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَبِمَعْنَى وَجَدَهُ كَاذِبًا. اهـ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْتَجُّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ (أَيْ قِرَاءَتِهِ) بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَكْذَبْتُهُ، إِذَا أَخْبَرْتُ أَنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ كَذِبٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ " عَلَى مَعْنَى: لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا عِنْدَ الْبَحْثِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفْتِيشِ. اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْإِكْذَابَ يَشْتَرِكُ مَعَ التَّكْذِيبِ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ، وَيَنْفَرِدُ التَّكْذِيبُ بِمَعْنَى الرَّمْيِ بِافْتِرَاءِ الْكَذِبِ، إِمَّا مُخَاطَبَةً كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: كَذَبْتَ فِيمَا قُلْتَ، وَإِمَّا بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: كَذَبَ فَلَانٌ وَافْتَرَى، وَيَنْفَرِدُ الْإِكْذَابُ بِمَعْنَى وِجْدَانِ الْمُحَدِّثِ كَاذِبًا فِيمَا قَالَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ افْتَرَاهُ، وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، أَيْ بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْسُبُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ وَلَا يَجِدُونَهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ كَنَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَخَذْلِ أَعْدَائِهِ وَقَهَرِهِمْ سَيَكُونُ كَمَا أَخْبَرَ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ - وَأَهَمُّهَا الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ - كَذِبٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ قَدْ يَكُونُ لِكَلَامٍ دُونَ الْمُتَكَلِّمِ النَّاقِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّفْيَ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ كَمَا يَأْتِي. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ وَالْإِكْذَابِ مَعَ إِثْبَاتِ الْجُحُودِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: (1) أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السِّرِّ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ. (2) أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ كَذَّابٌ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوهُ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ فَلَمْ يَكْذِبْ فِيهِ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا صِحَّةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَصَدَّقَ مَا تَخَيَّلَهُ فَدَعَا إِلَيْهِ. (3) أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ - كَانَ تَكْذِيبُهُمْ تَكْذِيبًا لِآيَاتِ اللهِ الْمُؤَيِّدَةِ لَهُ أَوْ تَكْذِيبًا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (قَالَ) : فَاللهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَّبُوكَ وَلَكِنْ كَذَّبُونِي، أَيْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ كَتَكْذِيبِ الْمُرْسِلِ الْمُصَدِّقِ لَهُ بِتَأْيِيدِهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) (48: 10) وَمِثْلُهُ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (8: 17) . (4) قَالَ - وَهُوَ كَلَامٌ خَطَرَ

بِالْبَالِ -: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَكَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ، بَلْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا، وَيَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعْجِزَةٍ: إِنَّهَا سِحْرٌ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ " انْتَهَى مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى غَالِبًا وَفِيهِ قُصُورٌ. وَسَكَتَ عَنْ أَقْوَالٍ أُخْرَى قَدِيمَةٍ (مِنْهَا) قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِيمَا وَافَقَ كُتُبَهُمْ، وَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ أَضْعَفُ مَا قِيلَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَلَا كُتُبَ عِنْدَهُمْ (وَمِنْهَا) قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُكَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ، وَلَا يَتَّهِمُونَكَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ لِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا أَقْوَاهَا كَمَا تَرَى. تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِمَا يُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِمْ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَيُوَضِّحُهُ مَا رُوِيَ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ وَنُزُولُهَا، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ - فَالْكَلَامُ إِذًا فِي طَائِفَةِ الْجَاحِدِينَ كِبَرًا وَعِنَادًا كَأَبِي جَهْلٍ وَالْأَخْنَسِ وَأَضْرَابِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُهُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ الْمَاضِيَةِ، بَلْ عِصْمَتُهُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى، وَلَكِنَّهُمْ - لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكِبْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ - يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ بِمِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ صَدَّ الْعَرَبِ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَتِ الْآيَةُ عَامَّةً وَأُرِيدَ بِمَا يُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ضُرُوبِ الْأَقْوَالِ فِي إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ وَسَائِرِ مَسَائِلِ الدِّينِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَظْهَرُ اتَّجَاهُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ بِصِدْقِ بَعْضِهَا عَلَى أُنَاسٍ وَبَعْضِهَا عَلَى آخَرِينَ، فَإِنَّ نَفْيَ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ دُونَ جُمْهُورِ الضَّالِّينَ الْجَاهِلِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجُحُودُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ ظُلْمًا وَعِنَادًا عَلَى عِلْمٍ وَمِنَ الْمُقَلِّدِينَ جَهْلًا وَاحْتِقَارًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ النَّظَرِ وَغُلُوًّا فِي ثِقَتِهِمْ بِكُبَرَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يُكَذِّبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْذِيبَ الِافْتِرَاءِ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ. قَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْفُرْقَانِ ": (كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (25: 5) إِلَى قَوْلِهِ: (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وَلَمْ تَكُنْ كُلُّ الْعَرَبِ تَعْرِفُ مِنْ سِيرَتِهِ وَصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

34

مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مُعَاشِرُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ. وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِي جُمَلٍ شَرْطِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَالشَّوَاهِدِ الَّتِي تَرَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا) أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ قَدْ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ إِلَى أَنْ نَصْرَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، أَيْ: فَإِنْ كُذِّبْتَ فَلَكَ أُسْوَةٌ بِمَنْ قَبْلَكَ، فَلَسْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالشَّرْطِيَّةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَجِّ ": (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) (22: 42) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ فَاطِرٍ ": (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (35: 4) إِلَخْ. (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (35: 25) إِلَخْ. وَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَسْلِيَةٍ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ أَوْ هِيَ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ حُسْنِ الْأُسْوَةِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ هَذَا الصَّبْرِ عَلَيْهِ تَأَسِّيًا فِي قَوْلِهِ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (46: 35) وَاسْتِقْلَالًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ ": (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (73: 10) وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ التَّأَسِّيَ يُهَوِّنُ الْمُصَابَ وَيُفِيدُ شَيْئًا مِنَ السَّلْوَةِ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي. وَلَوْلَا أَنَّ دَفْعَ الْأَسَى بِالْأَسَى مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَمَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَكْرَارِ التَّسْلِيَةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَقْرَأُ السُّورَةَ وَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ يَفْرَغُ فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ مَا نَزَلَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَكْرَارِ تَسْلِيَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالصَّبْرِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ ; لِأَنَّ الْحُزْنَ وَالْأَسَفَ اللَّذَيْنِ كَانَا يَعْرِضَانِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَتَكَرَّرَا بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِمَا وَبِتَذَكُّرِهِ حَتَّى عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ وَمُحَاجَّتِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ. وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلَى مَا كُذِّبُوا) مَصْدَرِيَّةٌ (وَأُوذُوا) عَطْفٌ عَلَى (كُذِّبُوا) أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ وَإِيذَائِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالْإِيذَاءُ فِعْلُ الْأَذَى، وَهُوَ مَا يُؤْلِمُ

النَّفْسَ أَوِ الْبَدَنَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ أُوذِيَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ كَمَا أُوذِيَ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الْمَدِينَةِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) غَايَةٌ لِلصَّبْرِ، أَيْ: صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَمَا قَارَنَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا الْعَظِيمُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَإِنْجَائِنَا إِيَّاهُمْ هُمْ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ وَكَيْدِهِمْ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّسْلِيَةِ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَيُؤْذِيهِ مِنْ أُمَّةِ الْبَعْثَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى حُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ، فَمَنْ كَانَ أَصْبَرَ كَانَ أَجْدَرَ بِالنَّصْرِ إِذَا تَسَاوَتْ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ سَائِرُ أَسْبَابِ الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ. وَإِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ الْعَائِدِ عَلَى الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ تُشْعِرُ بِعَظَمَةِ شَأْنِهِ. وَتُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةِ لِرُسُلِهِ. (وَلَا مُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ الَّتِي مِنْهَا وَعْدُهُ لِلرُّسُلِ بِالنَّصْرِ، وَتَوَعُّدُهُ لِأَعْدَائِهِمْ بِالْغَلَبِ وَالْخِذْلَانِ. وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هُنَا قَوْلُهُ فِي " سُورَةِ الصَّافَّاتِ ": (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (37: 171 - 173) اقْرَأِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَنَفْيُ جِنْسِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِ اللهِ مُثْبِتٌ لِكَلِمَتِهِ فِي نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ بِالدَّلِيلِ - أَيْ إِنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ قَدْ سَبَقَتْ بِهِ كَلِمَةُ اللهِ وَكَلِمَاتُ اللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَدِّلَهَا مُبَدِّلٌ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ حَتْمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَكَلِمَاتُ اللهِ جِنْسٌ يَشْمَلُ كَلِمَاتِ الْأَخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) (115) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِضَافَةُ الْكَلِمَاتِ هُنَا إِلَى الِاسْمِ الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مُبْدِّلَ لَهَا ; لِأَنَّ الْمُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِهِ. وَالتَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ شَيْءٍ بَدَلًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَتَبْدِيلُ الْأَقْوَالِ وَالْكَلِمَاتِ نَوْعَانِ: تَبْدِيلُ ذَاتِهَا بِجَعْلِ قَوْلٍ مَكَانَ قَوْلٍ، وَكَلِمَةٍ

مَكَانَ كَلِمَةٍ. وَمِنْهُ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) (2: 59) وَتَبْدِيلُ مَدْلُولِهَا وَمَضْمُونِهَا كَمَنْعِ نُفُوذِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَوْ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُبَدِّلَ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَبْدِيلُهُ إِيَّاهَا لَا يَشْمَلُهُ النَّفْيُ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ يَشْمَلُهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ ق ": (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) (50: 29) قَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْعَفْوِ تُخَصِّصُ الْعَامَّ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ، أَوْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ بَعْضِ الْمُذْنِبِينَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْدِيلِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) هَذَا تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ فِي ذَلِكَ، أَوْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ مَا ذُكِرَ أَوْ ذَلِكَ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ خَبَرِ التَّكْذِيبِ وَالصَّبْرِ وَالنَّصْرِ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ أَوْ ذُو الشَّأْنِ مِنَ الْأَخْبَارِ لَا كُلَّ خَبَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ بَعْدَ الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ بِالتَّفْصِيلِ. وَكَلِمَةُ " نَبَأٍ " رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِيَاءٍ هَكَذَا (نبإي) وَالْيَاءُ كُرْسِيٌّ لِلْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ كَالنُّقَطِ، فَيَنْطِقُ بِالْهَمْزَةِ دُونَهَا كَمَا تُرْسَمُ فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ " نَبِّئْهُمْ ". وَكَانَ يَنْطِقُ بِهَا مَنْ لَا يَهْمِزُ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ مِنَ النَّصْرِ، فَقَالَ: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (40: 51) وَقَالَ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (30: 47) وَهِيَ نَصٌّ فِي تَعْلِيلِ النَّصْرِ بِالْإِيمَانِ. وَلَكِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ غَيْرَ مَنْصُورِينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ غَيْرَ صَادِقِينَ، أَوْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ، وَلِأَهْوَائِهِمْ لَا لِلَّهِ نَاصِرِينَ، وَلِسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ النَّصْرِ غَيْرَ مُتَّبَعِينَ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَا يُبْطِلُ سُنَنَهُ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ نَصْرَ اللهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتَهُ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي حَرْبِهِ لَا الظَّالِمَ الْبَاغِي عَلَى ذِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ خَلْقِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شَرْعِ الْقِتَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ " سُورَةِ الْحَجِّ ": (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (22: 39، 40) فَأَمَّا الرُّسُلُ الَّذِينَ نَصَرَهُمُ اللهُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَقَدْ كَانُوا كُلُّهُمْ مَظْلُومِينَ، وَبِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مُعْتَصِمِينَ، وَلِلَّهِ نَاصِرِينَ. وَقَدِ اشْتَرَطَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَصْرِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي " سُورَةِ الْقِتَالِ ": (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (47: 7) وَالْإِيمَانُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، يَكُونُ مُرَجِّحًا بَيْنَ مَنْ تَسَاوَتْ أَسْبَابُهُمُ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ النَّصْرُ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَأَمَّا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ

35

بِإِهْلَاكِ أَقْوَامِهِمُ الْمُعَانِدِينَ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ وَعُرُوضِ أَسْبَابِ الْيَأْسِ. وَمَنْ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ أَكْبَرَ كَانَ إِلَى نَيْلِ النَّصْرِ أَقْرَبَ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِخَصْمِهِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ وَلَا سِيَّمَا حُسْنُ النِّظَامِ وَجَوْدَةُ السِّلَاحِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ كَلِمَةَ " نَصْرٍ " مِنْ فَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَمُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ) . (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ أَوْ فَأْتِهِمْ بِهَا، يُقَالُ كَبُرَ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ، أَيْ عَظُمَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَقْعُهُ. وَالْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ رَغْبَةً عَنْهُ أَوِ احْتِقَارًا لَهُ، وَهُوَ مِنْ إِبْدَاءِ الْمَرْءِ عَرْضَ بَدَنِهِ عِنْدَ تَوَلِّيهِ عَنِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْبَارِهِ لَهُ، وَاسْتَطَعْتَ الشَّيْءَ: صَارَ فِي طَوْعِكَ مُنْقَادًا لَكَ بِاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمَكِّنُكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالِابْتِغَاءُ: طَلَبُ مَا فِي طَلَبِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ تَجَاوُزٌ لِلْمُعْتَادِ أَوْ لِلِاعْتِدَالِ، أَوْ طَلَبُ غَايَاتِ الْأُمُورِ وَأَعَالِيهَا، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الطَّلَبِ أَوِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَهُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَفِي الشَّرِّ كَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهُوَ غَايَةُ الضَّلَالِ، وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ حُفْرَةٌ نَافِذَةٌ لَهَا مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، كَنَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ جُحْرُهُ يَجْعَلُ لَهُ مَنَافِذَ يَهْرُبُ مِنْ بَعْضِهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَخَافُهُ. وَالسُّلَّمُ: الْمِرْقَاةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ. وَتَذْكِيرُهُ أَفْصَحُ مِنْ تَأْنِيثِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَنَّثُ بِمَعْنَى الْآلَةِ، وَأَتَى بِ " كَانَ " فِعْلًا لِلشَّرْطِ؛ لِيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَا يَنْقَلِبَ مُسْتَقْبَلًا كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ " إِنَّ " لَا تَقْلِبُ " كَانَ " مُسْتَقْبَلًا لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَالنَّحْوِيُّ يُؤَوِّلُ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ بِنَحْوِ: وَإِنْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، تَقْدِيرُهُ: فَافْعَلْ كَمَا تَقَدَّمَ. تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا حِرْصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَأَسَفًا وَحُزْنًا عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى غَوَايَتِهِمْ، وَتَأَلُّمًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقْتَرِحِينَ الْجَاحِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ مَا يَطْلُبُونَ وَفَوْقَ مَا يَطْلُبُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ [رَاجِعْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُؤَكِّدَ لِرَسُولِهِ مَا يَجِبُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمُ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، وَأَنْ يُرِيحَ قَلْبَهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ شَأْنُكَ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ - وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَظَنَنْتَ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا

يَدْحَضُ حُجَّتَهُمْ، وَيَكْشِفُ شُبْهَتَهُمْ، فَيَعْتَصِمُونَ بِعُرْوَةِ الْإِيمَانِ، عَنْ بَيِّنَةٍ مُلْزِمَةٍ وَبُرْهَانٍ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ لِنَفْسِكَ نَفَقًا كَائِنًا فِي الْأَرْضِ - أَوْ مَعْنَاهُ: تَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ - فَتَذْهَبَ فِي أَعْمَاقِهَا، أَوْ سُلَّمًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَرْتَقِيَ عَلَيْهِ إِلَى مَا فَوْقِهَا، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنْهُمَا فَائْتِ بِمَا يَدْخُلُ فِي طَوْعِ قُدْرَتِكَ مِنْ ذَلِكَ، كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَوْ تَنْزِيلِ كِتَابٍ تَحْمِلُهُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانُوا طَلَبُوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ كَمَا حَكَّاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ": (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) إِلَى قَوْلِهِ: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) (17: 90 - 93) وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) أَيْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا ; لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُخْرِجُ الرَّسُولَ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْخَالِقِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَا ابْتِغَاءَ السُّبُلَ إِلَيْهَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ رَبِّكَ أَنْ يُؤْتِيَكَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَا تُحِبُّ مِنْ هِدَايَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ مِنْ سَنَّتِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَهُ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لِجَمْعِهِمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى جَمْعَهُمْ عَلَى مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ بِجَعْلِ الْإِيمَانِ ضَرُورِيًّا لَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِخَلْقِهِمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ فَقَطْ، لَا مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَلِفِي الِاخْتِيَارِ بِاخْتِلَافِ الْعُلُومِ وَالْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا عَرَفْتَ سُنَّتَهُ هَذِهِ فِي خَلْقِ هَذَا النَّوْعِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَرَوْنَهُ حَسَنًا وَنَافِعًا، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ مُمْتَنِعًا، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ بِهَذَا الْمَعْنَى عَيْبًا ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِجَهْلِ مَا يَنْبَغِي لَهُ وَيُعَدُّ كَمَالًا فِي حَقِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي جَهْلِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِينَ: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) (2: 273) فَوَصْفُ الْجَاهِلِ هُنَا غَيْرُ ذَمٍّ، وَكَانَ عَدَمُ عِلْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ أَرْكَانِ آيَاتِهِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِالشِّعْرِ مِنْ أَدِلَّةِ الْوَحْيِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لَا يَكُونُ جَهْلُ الرَّسُولِ إِيَّاهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ عَيْبًا يُذَمُّ بِهِ؛ إِذْ لَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِمَا يُقَصِّرُ فِي تَحْصِيلِهِ وَكَسْبِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَسْأَلَهُ

36

زِيَادَةَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَكَمَالًا بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَبِفَهْمِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الذَّمَّ قَبْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُذَمُّ مُطْلَقًا هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَادِفُ لِلسَّفَهِ وَهُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ. وَيُشْبِهُ مَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِنُوحٍ حِينَ طَلَبِ نَجَاةَ ابْنِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ اللهُ بِإِنْجَائِهِمْ مَعَهُ: (يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (11: 46) أَيْ بِإِدْخَالِ وَلَدِكَ الْكَافِرِ فِي عُمُومِ أَهْلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا اقْتَرَنَ النَّهْيُ هُنَا بِالْوَعْظِ لِأَنَّ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ الْوَالِدِيَّةِ حَمَلَتْهُ عَلَى سُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِنْبَاطٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَرَحْمَةُ خَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَغَايَةُ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُ تَمَنَّى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ، وَلَوْ سَأَلَ لَسَأَلَ آيَةً يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ مِنْ قَوْمِهِ، لَا نَجَاةَ الْكَافِرِ مِنْ أَهْلِهِ، فَاكْتَفَى فِي إِرْشَادِهِ بِالنَّهْيِ وَحَسُنَ فِي إِرْشَادِ نُوحٍ التَّصْرِيحُ بِالْوَعْظِ. (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) . بَيِّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْهُدَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَ الْبَشَرَ مَفْطُورِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ إِلْجَاءً بِالْآيَاتِ الْقَاسِرَةِ، بَلِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يَكُونُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، عَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْآيَاتِ، وَيَعْقِلُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ الْآخِرِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يُقَالُ: أَجَابَ الدَّعْوَةَ إِذَا أَتَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَجَابَ الدَّاعِيَ إِذَا لَبَّاهُ وَقَامَ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: اسْتَجَابَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَكَذَا اسْتَجَابَهُ. نَعْرِفُ مِنْهُ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ فِي رِثَاءِ أَخِيهِ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ.

قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِجَابَةَ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ مُجِيبٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالِاسْتِجَابَةُ قِيلَ: هِيَ الْإِجَابَةُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ تَحْدِيدِهِ لِلْمَعَانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِهِ، وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ وَالْإِجَابَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ - قَطَعَ الصَّوْتَ أَوِ الشَّخْصَ الْجَوْبَ أَوِ الْجَوْبَةَ وَهِيَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبُيُوتِ أَوِ الْحُفْرَةُ، وَوُصُولُهُ إِلَى الدَّاعِي أَيْ: وُصُولُ مَا سَأَلَهُ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِجَابَةُ فَهِيَ التَّهَيُّؤُ لِلْجَوَابِ أَوْ لِلْإِجَابَةِ أَيِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلشُّرُوعِ وَالْمُضِيِّ فِيهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَغَايَتُهُ الْإِجَابَةُ التَّامَّةُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ عَلَى مَعْنَاهُمَا، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي اسْتِعْمَالِ الصِّيغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْإِجَابَةِ كُلَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ السُّؤَالِ كُلِّهِ بِالْفِعْلِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ الْإِجَابَةُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِكَ: نَعَمْ، وَبَلَى، وَلَبَّيْكَ، وَلَكَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ السُّؤَالِ بِالْقُوَّةِ أَوِ التَّهَيُّؤِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) (3: 172) فَهُوَ قَدْ نَزَلَ فِي تَهَيُّؤِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ بَعْدَ أُحُدٍ، أَوْ بِالْفِعْلِ التَّدْرِيجِيِّ، كَاسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الدِّينِ الَّتِي تَبْدَأُ بِالْقَبُولِ وَالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ تَكُونُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ بِالتَّدْرِيجِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَالِاسْتِجَابَةُ مِنَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهَا فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَكُونُ الشَّأْنُ فِيهَا أَنْ تَقَعَ بِالتَّدْرِيجِ كَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ، وَبِالْمَغْفِرَةِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِيتَاءِ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا الدُّعَاءِ بِذَلِكَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) (3: 195) إِلَخْ. وَكَاسْتِجَابَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ تُثَبِّتُهُمْ كَمَا فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " (8: 9 - 12) وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِجَابَتُهُ لِأَيُّوبَ وَذِي النُّونِ وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَمَا فِي " سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ " (21: 83، 90) كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِالتَّدْرِيجِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ دَعَوْا عَلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) (10: 89) فَهُوَ تَبْشِيرٌ لَهُمَا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَبِلَهَا بِالْفِعْلِ. وَهَذَا مِنَ الْإِجَابَةِ الْقَوْلِيَّةِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحَقُّقِ مَضْمُونِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى كَأَنَّهَا أُجِيبَتْ وَانْتَهَى أَمْرُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تُؤَدِّيهِ مَادَّةُ الْإِجَابَةِ دُونَ مَادَّةِ الِاسْتِجَابَةِ، وَلَوْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِصِيغَةِ الْحِكَايَةِ لِعَبَّرَ عَنْ إِعْطَائِهِمَا مَا سَأَلَا بِلَفْظِ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ كُلٍّ مِنْ أَيُّوبَ وَذِي النُّونِ وَزَكَرِيَّا (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) فَيَالِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ حَتَّى فِي وَضْعِ مُفْرَدَاتِهِ فِي مَوَاضِعِهَا، دَعْ بَلَاغَةَ أَسَالِيبِهِ، وَجُمَلِهِ، وَعُلُومِهِ، وَحِكَمِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِجَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ هُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ تَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ مَنْقُولٌ وَلَا مَعْقُولٌ.

وَالسَّمْعُ وَالسَّمَاعُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى إِدْرَاكِ الصَّوْتِ، وَبِمَعْنَى فَهْمِ مَا يُسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ ثَمَرَةُ السَّمَاعِ، وَبِمَعْنَى قَبُولِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْكَامِلَةُ الْعُلْيَا مِنْ مَرَاتِبِ السَّمَاعِ، فَمَنْ سَمِعَ وَلَمْ يَفْهَمْ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَمَنْ فَهِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا. رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا. ذَلِكَ بِأَنَّ لِلْخَلْقِ وَالرِّزْقِ ثَمَرَاتٍ وَغَايَاتٍ غَيْرِ الْمَكَارِمِ وَسَمَاحِ الْيَدِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْكَلَامِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا فَهْمَهُ، وَفَهْمُهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَطْلَقَ الْقُرْآنُ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لَفْظَ الصُّمِّ وَلَفْظَ الْمَوْتَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِيهِمَا مَعًا: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (27: 80) وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَمَعْنَى صَدْرِ الْآيَةِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ الدَّاعِي إِلَيْهِ بِآيَاتِهِ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ، فَيَعْقِلُونَ الْآيَاتِ، وَيُذْعِنُونَ لِمَا عَرَفُوا بِهَا مِنَ الْحَقِّ ; لِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ عُقُولِهِمْ، دُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَالْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ، وَدُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْجَاحِدِينَ. فَكُلُّ أُولَئِكَ مِنْ مَوْتَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ مَوْتَى الْجُسُومِ وَالْأَبْدَانِ. (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أَيْ وَمَوْتَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ هَذَا السَّمَاعَ يُخْرِجُهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ قُبُورِهِمْ وَيُرْسِلُهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، ثُمَّ تُرْجِعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ فَيَنَالُونَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْجَزَاءِ، فَأَصْلُ الْبَعْثِ فِي اللُّغَةِ: إِثَارَةُ الشَّيْءِ وَتَوْجِيهُهُ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: بَعَثْتُ بِالْبَعِيرِ أَيْ: أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ وَسَيَّرْتُهُ إِلَى الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ، وَ (يُرْجَعُونَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرَّجْعِ، وَ " رَجَعَ " جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: رَجَعَ فَلَانٌ رُجُوعًا، أَيِ انْصَرَفَ وَرَجَعْتُهُ رَجْعًا، وَمِنْهُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) (23: 99، 100) وَ " أَرْجَعْتُهُ " لُغَةُ هُذَيْلٍ. فَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى هُنَا: الْكُفَّارُ الرَّاسِخُونَ فِي الْكُفْرِ، الْمَطْبُوعُ عَلَى قُلُوبِهِمُ، الْمَيْئُوسُ مِنْ سَمَاعِهِمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ تَتْبَعُهُ الِاسْتِجَابَةُ لِدَاعِي الْإِيمَانِ، أَيْ: وَالَّذِينَ لَا تُرْجَى اسْتِجَابَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ السَّمَاعَ النَّافِعَ - يُتْرَكُ أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ فَهُوَ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَضُرُّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ كُفْرُهُمْ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ هِدَايَتُهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ إِلَى اللهِ أَمْرَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمَوْتَى

37

عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمْثِيلٌ وَتَعْرِيضٌ بِالْإِيمَاءِ إِلَى عَدَمِ قُدْرَةِ الرَّسُولِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَهُوَ بَعِيدٌ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنَ التَّكْلِيفِ. (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ: وَقَالَ أُولَئِكَ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُعَانِدُونَ رَسُولَهُ إِلَيْهِمْ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ - أَيِ الرَّسُولِ - آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، مِمَّا اقْتَرَحْنَا عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا لِإِيمَانِنَا بِهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مُرَادَهُمْ آيَةٌ مُلْجِئَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِلْجَاءُ اضْطِرَارٌ لَا اخْتِيَارٌ، فَلَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الطَّلَبُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ إِنْ حَصَلَ (قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَنْزِيلِ آيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا، وَإِنَّمَا يُنَزِّلُهَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَنْزِيلَهَا، لَا إِذَا تَعَلَّقَتْ شَهْوَتُهُمْ بِتَعْجِيزِ الرَّسُولِ بِطَلَبِهَا، فَإِنَّ إِجَابَةَ الْمُعَانِدِينَ إِلَى الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ، بِأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَجِّزِينَ لِلرُّسُلِ بِذَلِكَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَتَنْزِيلُ آيَةٍ مُقْتَرَحَةٍ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا أَنَّكَ أُرْسِلْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَلَا يَأْتِي عَلَى يَدَيْكَ سَبَبُ اسْتِئْصَالِ أُمَّتِكَ بِإِجَابَةِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهَا إِلَى مَا اقْتَرَحُوا عَلَيْكَ لِإِظْهَارِ عَجْزِكَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَيْضًا أَنَّ إِجَابَةَ اقْتِرَاحٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي إِلَى اقْتِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا حَدَّ لَهَا، وَلَا فَائِدَةَ مِنْهَا. وَقَدْ يَعْلَمُ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ بَعْضَ ذَلِكَ عِلْمًا نَاقِصًا لَا يَهْدِي إِلَى الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنْ مَثَلِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا آيَةً مُلْجِئَةً يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ تَنْزِيلَهَا يُزِيلُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ التَّكْلِيفِ فَلَا يَبْقَى لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ فَائِدَةٌ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (يُنْزَلَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ الدَّالِّ بِصِيغَتِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا هَاهُنَا وَاحِدٌ، وَالَّذِي نَرَاهُ هُوَ أَنَّ كُلَّ صِيغَةٍ مِنْهُمَا عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اقْتَرَحَ آيَةً وَاحِدَةً تَنْزِلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَنُزُولِ مَلَكٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبَعْضُهُمُ اقْتَرَحَ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنْهَا مَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُنَافِي إِفْرَادُ الْآيَةِ هُنَا طَلَبَ بَعْضِهِمْ لِعِدَّةِ آيَاتٍ ; إِذِ الْمُرَادُ بِهَا آيَةٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا، وَقَدْ صَرَّحَ لَفْظُ الْجَمْعِ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ الْوَارِدَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي نَصُّهَا قَرِيبًا. هَذَا وَإِنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ وَبَعْضَ الشَّاكِّينَ وَالْمُشَكِّكِينَ فِي الْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُوتِيَ آيَةً بَيِّنَةً وَمُعْجِزَةً وَاضِحَةً تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ لَمَا طَلَبَ قَوْمُهُ الْآيَةَ، وَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمُ الْمُبَطَّلَةُ لِحَقِّيَّةِ طَلَبِهِمْ، وَإِلَيْكَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ:

إِنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نُبُوَّتِهِ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّهَا لَآيَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ فَعَجَزُوا، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَمِمَّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " فَاكْتَفَى فِيهَا بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ": (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (29: 47 - 51) فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَفِي تَفْصِيلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ، وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا تَزُولُ كَمَا زَالَتِ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ كَعَصَا مُوسَى مَثَلًا، عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ كَمَا كَانَتْ آيَةُ مُوسَى الْكُبْرَى خَاصَّةً بِمَنْ رَآهَا فِي عَصْرِهِ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الرِّسَالَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ عِلْمِيٌّ، فَهُوَ عِلْمٌ مُوحَى بِهِ غَيْرُ مَكْسُوبٍ يُقْصَدُ بِهِ هِدَايَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، فَظُهُورُ عُلُومِ الْهِدَايَةِ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ كَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ كُلِّ عِلْمٍ بِعِبَارَةٍ أَعْجَزَتْ بِبَلَاغَتِهَا قَوْمَهُ كَمَا أَعْجَزَتْ غَيْرَهُمْ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مَعْدُودًا مِنْ بُلَغَائِهِمْ - أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَصَا مُوسَى عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ مُوحًى بِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ نَشَأَ مَنْ جَاءَ بِهَا فِي دَارِ مَلِكٍ أَرْبَى عَلَى سَائِرِ مَمَالِكِ الْأَرْضِ بِالْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ. فَالْآيَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهَا كَالْمِرَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ غَرِيبٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ يَشْتَبِهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ خُفْيَةٌ كَالسِّحْرِ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِآيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ حَالِمٍ وَأَمْرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لَا يُسْمَعُ لَهُ، بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالزَّيْغِ. فَالْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ إِذًا لَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ كُلِّ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَأَمَّا طَلَبُهُمْ لِلْآيَةِ وَالْآيَاتِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَسَبَبُهُ مُحَاوَلَةُ تَعْجِيزِ الرَّسُولِ لَا كَوْنُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَرَوْنَهُ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَدْلُولِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (7) وَقَالَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ الْقَمَرِ ": (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (54: 2)

38

وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَدْ كَانَ عَنْ تَضْلِيلٍ وَعِنَادٍ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَيَّدَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ ازْدَادَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْجَاحِدُونَ عِنَادًا وَطُغْيَانًا، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ مَا يَقْتَضِي الْعَوْدَةَ إِلَيْهَا بَعْدُ. (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . إِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُؤَيِّدَتَانِ لِمَا قَبْلَهُمَا وَمُتَمِّمَتَانِ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهُمَا أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ جُحُودَ عِنَادٍ لَا تَكْذِيبٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْوَاعًا مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى فِي أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا، بَلْ ظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ جَهْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهَا. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ النَّظْمِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ الْأُولَى لِمَا قَبْلَهَا وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنْزَالُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ مَصْلَحَةً لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرَهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) فِي وُصُولِ فَضْلِ اللهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ عِنَايَتِهِ وَاصِلَةً إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، وَلَامْتَنَعَ أَنْ يَبْخَلَ بِهَا، مَعَ مَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِمَهَا وَمَنَافِعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ ;

لِأَنَّ إِظْهَارَهَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. (الْوَجْهُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ) : قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ وَيُحْشَرُونَ، بَيَّنَ أَيْضًا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ. . .) فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ. انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَالْقَارِئُ يَرَى أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي مِنْ كِبَارِ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الرَّازِيُّ مِنْ كِبَارِ مُفَسِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ دُونَ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي رِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَحْكَامِ الْبَارِي تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشُئُونِهِمْ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ قَدْ أَثْبَتَ الْمَصْلَحَةَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَرُدُّهَا أَوْ يَرُدُّ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ ثَابِتَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ الْخَطَأَ وَالضَّلَالَ إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ، وَنَقْلُ الْمُخَالِفِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَعْلَى، فَلَا يَعْلُوا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ، وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لَيْسَ مِنَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ لَهُ تَعَالَى، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَاضِ الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ بِحْثٌ لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا، وَقَدْ أَشَارَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: " وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ " إِلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُصْلِحَةِ تَفَضُّلٌ لَا يَجِبُ اطِّرَادُهُ، فَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ لَا مِمَّا يَجِبُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُمُولِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ تَدْبِيرِهِ لِيَكُونَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُنْزِلُهَا مُحَافَظَةً عَلَى الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ مِثْلَهُ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ، وَقَدْ أَخَذَهُ أَبُو السُّعُودِ مِنَ الْبَيْضَاوِيِّ. (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (الدَّابَّةُ) مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالدَّبُّ وَالدَّبِيبُ الْمَشْيُ الْخَفِيفُ - زَادَ بَعْضُهُمْ - مَعَ تَقَارُبِ الْخَطْوِ، وَ (الطَّائِرُ) كُلُّ ذِي جَنَاحٍ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ وَجَمْعُهُ طَيْرٌ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٌ وَ (الْأُمَمُ) جَمْعُ أُمَّةٍ، وَهِيَ الْجِيلُ أَوِ الْجِنْسُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأُمَّةُ كُلُّ جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ مَا؛ إِمَّا دِينٌ وَاحِدٌ أَوْ زَمَانٌ وَاحِدٌ أَوْ مَكَانٌ وَاحِدٌ

سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْجَامِعُ تَسْخِيرًا أَوِ اخْتِيَارًا، وَجَمْعُهَا أُمَمٌ. انْتَهَى. وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْآيَةَ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ: أَوْ صِفَاتٍ وَأَفْعَالٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ الَّتِي تَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا وَهِيَ أُمَمٌ مُمَاثِلَةٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، كَمَا يَقُولُ الْعَالِمُ بِالنَّبَاتِ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ قَامَتْ عَلَى سَاقِهَا وَتَشَعَّبَتْ فِي الْهَوَاءِ أَغْصَانُهَا، وَلَا نَجْمٌ نَبَتَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا فَصَائِلُ لَهَا صِفَاتٌ وَخَوَاصُّ مُشْتَرِكَةٌ يَمْتَازُ بِهَا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَالدَّابَّةُ وَالطَّائِرُ هُنَا مُفْرِدٌ اللَّفْظَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ اللُّغَوِيُّ ; تَقُولُ: طَائِرُ الْحَمَامِ وَطَائِرُ النَّحْلِ، وَدَابَّةُ الْحَمِيرِ وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: شَجَرَةُ التِّينِ وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَنَاهِيكَ بِوَصْفِ الدَّابَّةِ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ، وَوَصْفِ الطَّائِرِ بِكَوْنِهِ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ فَهُوَ يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ الطَّائِرِ بِمَا ذَكَرَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَسَدٌّ لِطَرِيقِ الْمَجَازِ، فَقَدَ تَجَوَّزُوا بِالطَّيَرَانِ عَنِ السُّرْعَةِ، كَمَا قَالَ الْحَمَاسِيُّ: قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ ... طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا. وَلِاحْتِمَالِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ مُنَاسِبَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ عَطْفُ الطَّائِرِ عَلَى الدَّابَّةِ إِذْ هِيَ مِنَ الدَّبِّ الَّذِي هُوَ الْمَشْيُ الْخَفِيفُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَابِلُهُ السَّرِيعُ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالطَّيَرَانِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِوَصْفِ الطَّائِرِ بِمَا ذَكَرَ نُكْتَةً أُخْرَى وَهِيَ تَصْوِيرُ هَيْئَةِ الطَّيَرَانِ الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الْبَارِي وَحَكْمَتِهِ لِذِهْنِ السَّامِعِ وَالْقَارِئِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَزَاحُمَ بَيْنَ النُّكَتِ الْمُتَّفِقَةِ، وَلَا بَيْنَ الْحِكَمِ الْمُؤْتَلِفَةِ، وَيَرَى الْكَثِيرُونَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ كَلِمَتَيْ دَابَّةٍ وَطَائِرٍ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُمَا وَهُوَ الدَّلَالَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهَا بِالْأُمَمِ بِاعْتِبَارِ الْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعُمُومِ. وَأَمَّا السَّمَكُ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّيْرِ مِنْهُ إِلَى الدَّوَابِّ، وَلَهُ أَجْنِحَةٌ قَدْ تُسَمَّى الزَّعَانِفُ أَكْثَرُهَا صَغِيرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرٌ كَجَنَاحِ الْخُفَّاشِ، وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْمَاءِ غَالِبًا وَعَلَى سَطْحِهِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يُسِفُّ إِلَى قَاعِهِ فَيُلَاصِقُ أَرْضَهُ فِي سَيْرِهِ فَيَكُونُ أَشْبَهَ بِالزَّاحِفِ مِنْهُ بِالطَّائِرِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِهِ قِلَّةُ مَنْ كَانَ يَرَاهُ مِمَّنْ نَزَلَتِ السُّورَةُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَلِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى خَصَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَرَاهَا الْمُخَاطَبُونَ عَامَّةً، وَيُدْرِكُونَ فِيهَا مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ دُونَ دَوَابِّ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، الْقَابِلَةِ لِلْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، الَّتِي أَعْلَمَنَا بِوُجُودِهَا فِي قَوْلِهِ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (42: 29) فَهِيَ قَدْ ذُكِرَتْ هُنَا بِالتَّبَعِ لِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا نَافِلَةً وَفَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دَلِيلُ الْآيَةِ، وَهِيَ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَرَدَتْ بِعِبَارَةٍ

تُشْعِرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ صِحَّةُ هَذَا الْقِيَاسِ حَتَّى لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ الْبَحْثِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ (كَالْمَرِّيخِ) فِيهِ مَاءٌ وَنَبَاتٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، بَلْ فِيهِ أَمَارَاتٌ عَلَى وُجُودِ عَالَمٍ اجْتِمَاعِيٍّ صِنَاعِيٍّ كَالْإِنْسَانِ، مِنْهَا مَا يَرَى عَلَى سَطْحِهِ بِالْمِرْآةِ الْمُقَرِّبَةِ (الْمَرْقَبُ - التِّلِسْكُوبُ) مِنَ الْجَدَاوِلِ الْمُنَظَّمَةِ وَالْخُلْجَانِ، فَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تُرْشِدُنَا بِهَذَا وَبِوَصْفِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا إِلَى الْبَحْثِ فِي طَبَائِعِ الْأَحْيَاءِ لِنَزْدَادَ عِلْمًا بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِهِ فِي خَلْقِهِ، وَنَزْدَادَ بِآيَاتِهِ فِيهَا إِيمَانًا وَحِكْمَةً وَحَضَارَةً وَكَمَالًا، وَنَعْتَبِرَ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا الَّذِينَ لَمَّ يَسْتَفِيدُوا مِمَّا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى الْحَيَوَانِ شَيْئًا فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي لَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِهَا مَا يَجْنِيهِ الْكَافِرُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، فَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) قَالَ: أَصْنَافًا مُصَنَّفَةً تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ وَالْجِنُّ أُمَّةٌ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: خَلْقٌ أَمْثَالَكُمْ، فَالْأَوَّلَانِ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا بَعْضُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُقَوِّمَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ، وَالثَّالِثُ: عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، أَيْ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِثْلَنَا، وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ مَا يُلَازِمُهُ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ فِينَا وَفِيهَا، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ أَنَّهَا تَعْرِفُ اللهَ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَتَحْمَدُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَّا، وَتَوَسَّعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ، فَقَالُوا: إِنَّهَا عَاقِلَةٌ وَمُكَلَّفَةٌ، وَأَنَّ لَهَا رُسُلًا مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِحْصَاءُ الْكِتَابِ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا كَالْبَشَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِحَشْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا كَمَا يَحْشُرُنَا، وَحِسَابِهِ لَهَا كَمَا يُحَاسِبُنَا، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ بِهَا وَفَضْلِهِ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِ النَّظَرِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شِبْهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ (أَيْ يَتَزَيَّنَ) كَفِعْلِ الطَّاوُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ، وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رَوَاهُ عَنْكَ - ثُمَّ قَالَ - فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ، فَبَالِغْ فِي الْحِذَارِ وَالِاحْتِرَازِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ - إِذَا صَحَّ دُخُولُهُ فِي ضِمْنِ الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ جُعِلَ الْخِطَابُ بِهَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لَيْسَ لِتُحَذِّرَهُمْ شَرَّ النَّاسِ بَلْ لِبَيَانِ

عَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ كَقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) وَقَوْلُهُ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (25: 44) . وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ أُمَمٌ أَمْثَالُ النَّاسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا وَجْهَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَجْلِ أَنْ نَسْتَعْمِلَ حَوَاسَّنَا وَعُقُولَنَا فِي الْبَحْثِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَلِلْمَاثَلَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ اهْتَدَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى بَعْضِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَهْتَدِيَ غَيْرُهُمْ إِلَى غَيْرِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ وَتَيَسَّرَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْبَحْثِ، إِذْ يُوجَدُ فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ بَسَاتِينُ لِتَرْبِيَةِ أَنْوَاعِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْبَهَائِمِ الْوَحْشِيَّةِ وَالْآنِسَةِ وَالطَّيْرِ وَالسَّمَكِ، فَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْنُونَ بِتَرْبِيَتِهَا وَدَرْسِ غَرَائِزِهَا وَطِبَاعِهَا وَأَعْمَالِهَا فِي تِلْكَ الْبَسَاتِينِ وَفِي غَيْرِهَا قَدْ وَصَلُوا إِلَى عِلْمٍ جَمٍّ، وَوَقَفُوا عَلَى أَسْرَارٍ غَرِيبَةٍ، وَمِمَّا ثَبَتَ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّمْلِ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَغْزُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَنَّ الْمُنْتَصِرَ يَسْتَرِقُّ الْمُنْكَسِرَ، وَيُسَخِّرُهُ فِي حَمْلِ قُوتِهِ وَبِنَاءِ قُرَاهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ أُمَمُ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ تَحْرِصُ عَلَى بَقَاءِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا رَأَتْ بَعْضَ مَا يُصَادُ مِنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهَا قَلَّ فِي بِلَادِهَا وَخُشِيَ انْقِرَاضُهُ مِنْهَا تُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ صَيْدَهُ، وَلِهَذَا الْعَمَلِ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ عِنْدَنَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحَبَّ أَنْ تُقْتَلَ الْكِلَابُ فِي الْمَدِينَةِ لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي تَقْتُلُ بِهِ حُكُومَةُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا الْكِلَابَ الضَّالَّةَ، بَلْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَقَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا كُلِّهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَعَلَّلَ قَتْلَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، أَيْ ضَارٌّ مُؤْذٍ، فَإِنَّ اسْمَ الشَّيْطَانِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْعَارِمِ الْخَبِيثِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ سَأَلَ الْمَنْصُورُ الْعَبَّاسِيُّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: لِأَنَّهُ يَنْبَحُ الضَّيْفَ، وَيُرَوِّعُ السَّائِلَ. (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) التَّفْرِيطُ فِي الْأَمْرِ التَّقْصِيرُ فِيهِ وَتَضْيِيعِهِ حَتَّى يَفُوتَ - كَمَا فِي الصِّحَاحِ - وَيُقَالُ: فَرَطَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ صَخْرِ الْغَيِّ: وَذَلِكَ بَزِّي فَلَنْ أَفْرُطَهُ الْبَزُّ هُنَا السِّلَاحُ ، وَيُقَالُ: فَرَطَ فُلَانًا - إِذَا تَرَكَهُ وَتَقَدَّمَهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْكِتَابِ هُنَا بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَفَسَّرُوا أُمَّ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ أَصْلُهُ وَجُمْلَتُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ مَا كَانَ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ بِحَسَبِ النِّظَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ الْكِتَابَ هُنَا - وَكَذَا أُمُّ الْكِتَابِ فِي آيَتِيِ الرَّعْدِ وَالزُّخْرُفِ - بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ، شُبِّهَ بِالْكِتَابِ

بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لَا يُسْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْقُرْآنُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أُمَّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ. قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (43: 4) . وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَمْ نُثْبِتْهُ فِيهِ تَقْصِيرًا وَإِهْمَالًا، بَلْ أَحْصَيْنَا فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ أَوْ جَعَلْنَاهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكِتَابِ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَالِاسْتِغْرَاقُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ شَيْءٍ) - الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ - الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَوْضُوعِ الدِّينِ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ وَيُنْزِلُ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ الْهِدَايَةُ ; لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، أَيْ مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا، مَا مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تُرْسَلُ الرُّسُلُ لِأَجْلِهَا إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِيهِ، وَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَحُكْمُهَا، وَالْإِرْشَادُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْ تَسْخِيرِ اللهِ كُلَّ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمُرَاعَاةُ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْكَمَالُ الْمَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَالْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّصِّ أَوِ الْفَحْوَى، وَمِنْهُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ هُنَا فِي عِلْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَهْدِي إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ عَلَى جَمِيعِ أَمْرِ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّادِسِ، وَتَفْسِيرِ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا مَنْ شَاءَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ حَوَى عُلُومَ الْأَكْوَانِ كُلَّهَا، وَأَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَقَعَ عَنْ حِمَارِهِ فَرَضَّتْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِحَمْلِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَ حَادِثَةَ وُقُوعِهِ وَرَضِّ رِجْلِهِ مِنْ " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ "، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبَهُ الْمَيِّتُونَ فِي كُتُبِهِمْ حُقٌّ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، وَلَا يَهْدِي إِلَيْهِ نَقْلٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، بَلْ قَالَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الضَّرُورِيَّةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَلَا الْفَحْوَى، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وُجُوبَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَصَارَ دَالًّا عَلَى كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَأَثْبَتَ قَوَاعِدَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَقَوَاعِدَ أُخْرَى، فَصَارَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهَا، وَأَنَّ قَبُولَ النَّاسِ لِلْخُرَافَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ مِثْلَ مَسِيحِ الْهِنْدِ أَحْمَدَ الْقَادِيَانِيِّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْفَاتِحَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْجِزَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمَسِيحَ الْمُنْتَظَرَ، وَكُلُّهُ لَغْوٌ وَهَذَيَانٌ، وَمِنْ أَغْرَبِهِ زَعْمُهُ أَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ فِي الْفَاتِحَةِ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُ الرَّحِيمِ دَلِيلٌ عَلَى بِعْثَتِهِ هُوَ

(ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أَيْ ثُمَّ يُبْعَثُ أُولَئِكَ الْأُمَمُ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُسَاقُونَ مُجْتَمِعِينَ إِلَى رَبِّهِمُ الْمَالِكِ لِأَمْرِهِمْ لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُحَاسِبُ كُلًّا عَلَى مَا فَعَلَ، وَيَقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ ظَلَمَ، وَإِنَّمَا حَسُنَ عَوْدُ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ فِي رَبِّهِمْ وَفِي يُحْشَرُونَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالنَّاسِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عُطِفَ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ وَغَلَبَ فِيهِ ضَمِيرُ الْأَشْرَفِ، وَإِذَا جُعِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْخِطَابِ تَعَيَّنَ رُجُوعُ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَنُكْتَةُ جَعْلِهِمَا مِنْ ضَمَائِرِ الْعُقَلَاءِ حِينَئِذٍ تَشْبِيهُ أُمَمِهَمَا بِأُمَمِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ إِجْرَاءٌ لَهُمَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ وَيُؤَيِّدُ حَشْرَ تِلْكَ الْأُمَمِ كُلِّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (81: 5) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ جَرِيرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَنَزَيْنِ يَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَنْتَطِحَانِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا " وَفِي رِوَايَةٍ " أَتَدْرُونَ فِيمَ انْتَطَحَا؟ قُلْنَا: لَا " وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَلَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَقْلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا، وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ شُيُوخٍ لَمْ يَسْمَعُوا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ عِلْمِ الْحَيَوَانِ مِنْ عِلْمِ الْهِدَايَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَائِدَتِهِ آنِفًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَالْخَطِيبُ فِي تَالِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي زِيَادَةَ الْبَكْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنَيْ بِشْرٍ الْمَازِنِيَّيْنِ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَرْحَمُكُمَا اللهُ، الرَّجُلُ مِنَّا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ فَيَضْرِبُهَا بِالسَّوْطِ أَوْ يَكْبَحُهَا بِاللِّجَامِ، فَهَلْ سَمِعْتُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَقَالَا: لَا، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَنَادَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الدَّاخِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ. . .) الْآيَةَ. فَقَالَا هَذِهِ أُخْتُنَا، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَّا، وَقَدْ أَدْرَكَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ الصَّحَابِيَّةُ اسْتَدَلَّتْ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ بِالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى ظُلْمِهِمْ لَهَا يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ " مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَذَكَرَ أَنَّ حَقَّهَا أَكْلُهَا، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدِيثُ " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتُهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " إِنَّ اللهَ يَحْشُرُ هَذِهِ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلْجَلْحَاءِ

مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ " لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ " وَغَلِطَ الْأَلُوسِيُّ فَعَزَاهُ إِلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا " لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ". وَنُقِلَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الْحَيَوَانِ كَالْإِنْسَانِ لِلتَّعْوِيضِ عَلَى كُلٍّ، لَا لِمَحْضِ الْعِقَابِ عَلَى الْجِنَايَةِ، فَكُلُّ حَيٍّ أَصَابَهُ أَلَمٌ يَجِبُ أَنْ يَنَالَ عِوَضًا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَلَمُ بِفِعْلِ اللهِ أَوْ بِشَرْعِهِ كَالَّذِي يُذْبَحُ لِيُؤْكَلَ أَوْ يُقْتَلُ اتِّقَاءَ ضَرَرِهِ فَاللهُ يُعَوِّضُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قَالَ: مَوْتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُهَا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: يَعْنِي بِالْحَشْرِ الْمَوْتَ. قَالَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ: وَمُرَادُهُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : مَجْمُوعُهُ مُسْتَعَارٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمَوْتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ " فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَشْرَ بَعْثٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَوْتَ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ أَيْضًا نَقْلٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ. انْتَهَى. وَصَوَّبَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَشْرَانِ جَمِيعًا حَشْرُ الْمَوْتِ وَحَشْرُ الْبَعْثِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْحَشْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَمْعُ، وَهُوَ يَشْمَلُهَا، وَلَا مَرْجِعَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، هَذَا مُحَصَّلُ قَوْلِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْحَشْرَ جَمْعٌ وَبَعْثٌ، أَوْ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: إِخْرَاجُ الْجَمَاعَةِ عَنْ مَقَرِّهِمْ وَإِزْعَاجِهُمْ إِلَى الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا، فَفِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى الْحَشْرِ بِالْمَوْتِ: سَوْقُ الْأَحْيَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ غَايَتَهُمْ. وَأَحْسَنُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَيَانُ وَجْهِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ فِيهَا، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْكَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، لَا تَحْسَبُنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَكْسِبُونَ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَوْ يَتْرُكُ مُجَازَاتَكُمْ، وَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ عَمَلِ شَيْءٍ دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَلَا عَمَلَ طَائِرٍ طَارَ بِجَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَجْنَاسًا مُجَنَّسَةً، وَأَصْنَافًا مُصَنِّفَةً، تَعْرِفُ كَمَا تَعْرِفُونَ، وَتَتَصَرَّفُ فِيمَا سُخِّرَتْ لَهُ كَمَا تَتَصَرَّفُونَ، وَمَحْفُوظٌ عَلَيْهَا مَا عَمِلَتْ مِنْ عَمَلٍ لَهَا وَعَلَيْهَا، وَمُثْبَتٌ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - مُمِيتُهَا، ثُمَّ مُنْشِرُهَا وَمُجَازِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءَ أَعْمَالِهَا. يَقُولُ: فَالرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُضَيِّعْ حِفْظَ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى حَفِظَ عَلَيْهَا حَرَكَاتِهَا

وَأَفْعَالَهَا، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَحَشَرَهَا ثُمَّ جَازَاهَا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهَا فِي دَارِ الْبَلَاءِ، أَحْرَى أَلَّا يُضِيعَ أَعْمَالَكُمْ وَلَا يُفَرِّطَ فِي حِفْظِ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي تَجْتَرِحُونَهَا أَيُّهَا النَّاسُ حَتَّى يَحْشُرَكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى جَمِيعِهَا؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ إِذْ كَانَ قَدْ خَصَّكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَبَسَطَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَا يَعُمُّ غَيْرَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكُنْتُمْ بِشُكْرِهِ أَحَقَّ وَبِمَعْرِفَةِ وَاجِبِهِ عَلَيْكُمْ أَوْلَى، لِمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ تُمَيِّزُونَ، وَالْفَهْمِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ الْبَهَائِمُ وَالطَّيْرُ الَّذِي بِهِ بَيْنَ مَصَالِحِكُمْ وَمَضَارِّكُمْ تُفَرِّقُونَ. اهـ. (مَسَائِلُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ " رُوحِ الْمَعَانِي " وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا) . الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى التَّنَاسُخِ: قَالَ الْأَلُوسِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: هَذَا وَرِسَالَةٌ فِي الْمَعَادِ لِأَبِي عَلِيٍّ: قَالَ الْمُعْتَرِفُونَ بِالشَّرِيعَةِ مِنْ أَهْلِ التَّنَاسُخِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ) إِلَخْ. وَفِيهِ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْغَيْرَ النَّاطِقَةِ أَمْثَالُنَا وَلَيْسُوا أَمْثَالَنَا بِالْفِعْلِ، فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمْ أَمْثَالَنَا بِالْقُوَّةِ ضَرُورَةُ صِدْقِ هَذَا الْحُكْمِ وَعَدَمُ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقُوَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِحُلُولِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ التَّنَاسُخُ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ دَلِيلٌ كَاسِدٌ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ. هَلْ لِلْبَهَائِمِ نُفُوسٌ نَاطِقَةٌ؟ : (قَالَ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ بِأَسْرِهَا نُفُوسًا نَاطِقَةً كَمَا لِأَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَأَوْرَدَ الشَّعْرَانِيُّ فِي (الْجَوَاهِرُ وَالدُّرَرُ) لِذَلِكَ أَدِلَّةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ (مِنْهَا) أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَاجَرَ وَتَعَرَّضَ كُلٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِزِمَامِ نَاقَتِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّ النَّاقَةَ مَأْمُورَةَ، وَلَا يَعْقِلُ الْأَمْرَ إِلَّا مَنْ لَهُ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلنَّاقَةِ نَفْسًا كَذَلِكَ ثَبَتَ لِلْغَيْرِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. (وَمِنْهَا) مَا يُشَاهَدُ فِي النَّحْلِ وَصَنْعَتِهَا أَقْرَاصَ الشَّمْعِ، وَالْعَنَاكِبِ وَاحْتِيَالِهَا لِصَيْدِ الذُّبَابِ، وَالنَّمْلِ وَادِّخَارِهِ لِقُوتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْسُدُ مَعَهُ مَا ادَّخَرَهُ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ دَلِيلًا لِذَلِكَ أَيْضًا: النَّمْلَةُ الَّتِي كَلَّمَتْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا قَصَّ اللهُ تَعَالَى لَنَا عَنْهَا مِمَّا لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا فِيهِ إِلَّا الْعَالَمُونَ، وَخَوْفُ الشَّاةِ مِنْ ذِئْبٍ لَمْ تُشَاهِدْ فِعْلَهُ قَبْلُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ شَأْنُ ذَوِي النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، وَعَدَمُ افْتِرَاسِ الْأَسَدِ الْمُعَلَّمِ مَثَلًا صَاحِبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِ النَّفْعِ وَمَعْرِفَةِ الْحَسَنِ وَهُوَ مِنْ شَأْنِ ذَوِي النُّفُوسِ.

الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْبَهَائِمِ: (قَالَ) : وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا دَعْوَى الصُّوفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ الْخَوَّاصِّ - قَدَّسَ اللهُ تَعَالَى سِرَّهُ - أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مُخَاطَبَةٌ مُكَلَّفَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (35: 24) حَيْثُ نَكَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأُمَّةَ وَالنَّذِيرَ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: جَمِيعُ مَا فِي الْأُمَمِ فِينَا؟ حَتَّى أَنَّ فِيهِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِثْلِي، وَذَكَرَ فِي " الْأَجْوِبَةِ الْمَرْضِيَّةِ " أَنَّ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ، وَفِي " الْجَوَاهِرِ " أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَحَكَى شَيْخُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ تَشْبِيهَ اللهِ تَعَالَى مَنْ ضَلَّ مِنْ عِبَادِهِ بِالْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) لَيْسَ لِنَقْصٍ فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ كَمَالِ مَرْتَبَتِهَا فِي الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى حَتَّى حَارَتْ فِيهِ، فَالتَّشْبِيهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعٌ فِي الْحَيْرَةِ لَا فِي الْمُحَارِ فِيهِ، فَلَا أَشَدَّ حَيْرَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ تَعَالَى، فَأَعْلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ بِرَبِّهِمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ مُبْتَدَأُ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ - أَيْ عَنْ أَصْلِهِ - وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَقِّلَةً فِي شُئُونِهِ بِتَنَقُّلِ الشُّئُونِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ عَلَى حَالٍ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَضَلَّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَيْرَةِ مِنْ طَرِيقِ فِكْرِهِمْ وَنَظَرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْبَهَائِمُ عَلِمَتْ ذَلِكَ، وَوَقَفَتْ عِنْدَهُ، وَلَمْ تَطْلُبِ الْخُرُوجَ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ عِلْمِهَا بِاللهِ تَعَالَى. انْتَهَى. (قَالَ) : وَنَقَلَ الشِّهَابُ عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ الْهَوَامَّ مُكَلَّفَةٌ لَهَا رُسُلٌ مِنْ جِنْسِهَا فَهُوَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ كَالْجَاحِظِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى إِكْفَارِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْجَزَاءُ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحَيَوَانَاتِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ جَزَاءَ تَكْلِيفٍ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلَ الظَّوَاهِرَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا لَا أَصْلَ لَهُ وَالْمِثْلِيَّةُ فِي الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ. الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ حَيٌّ: (قَالَ) : وَأَغْرَبُ الْغَرِيبِ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ - قَدَّسَ اللهُ تَعَالَى أَسْرَارَهُمْ - جَعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ حَيًّا دَرَّاكًا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ، وَمَا يَزِيدُ الْحَيَوَانُ عَلَى الْجَمَادِ إِلَّا بِالشَّهْوَةِ، وَيَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى الشُّهُودِ، وَرُبَّمَا يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (17: 44) وَبِنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّسْبِيحَ حَالِيٌّ لَا قَالِيٌّ وَنَظِيرُ ذَلِكَ: " شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى " وَ " امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي " وَمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْجَمَادَاتِ مِنْ تَسْبِيحٍ قَوْلِيٍّ كَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي كَفِّهِ الشَّرِيفِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلًا إِنَّمَا هُوَ عَنْ خَلْقِ إِدْرَاكٍ إِذْ ذَاكَ، وَمَا يُشَاهَدُ مِنَ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الرَّئِيسُ مِمَّا يَصْدُرُ عَنِ اسْتِنْبَاطٍ وَقِيَاسٍ، بَلْ عَنْ إِلْهَامٍ وَتَسْخِيرٍ ; وَلِذَلِكَ لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَتَنَوَّعُ، وَالنَّقْضُ بِالْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ لَا يَرِدُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِنَا، وَعَدَمُ افْتِرَاسِ الْأَسَدِ الْمُعَلَّمِ مَثَلًا صَاحِبَهُ لَيْسَ عَنِ اعْتِقَادٍ، بَلْ هُنَاكَ هَشَّةٌ أُخْرَى نَفْسَانِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يُحِبُّ بِالطَّبْعِ مَا يُلِذُّهُ، وَالشَّخْصُ الَّذِي يُطْعِمُهُ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا عَنِ افْتِرَاسِهِ، وَرُبَّمَا يَقَعُ هَذَا الْعَارِضُ عَنْ إِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ مِثْلِ حُبِّ كُلِّ حَيَوَانِ وَلَدَهُ. وَعَلَى هَذَا الطِّرَازِ يَخْرُجُ الْخَوْفُ مَثَلًا الَّذِي يَعْتَرِي بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ. (قَالَ) : وَقَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَا لَا أَرَى مَانِعًا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا نَاطِقَةً، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْإِدْرَاكِ حَسَبَ تَفَاوُتِهَا فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَمَا كَانَتْ لَا تَصِلُ فِي إِدْرَاكِهَا وَتَصَرُّفِهَا إِلَى غَايَةٍ يَصِلُهَا الْإِنْسَانُ وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا قَطْعِيٌّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا لِأَجْلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهَا عَارِفَةٌ بِرَبِّهَا جَلَّ شَأْنُهُ. (قَالَ) : وَأَمَّا أَنَّ لَهَا رُسُلًا مِنْ جِنْسِهَا فَلَا أَقُولُ بِهِ وَلَا أُفْتِي بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِهِ. وَأَمَّا أَنَّ الْجَمَادَاتِ حَيَّةٌ مُدْرِكَةٌ فَأَمْرٌ وَرَاءَ طَوْرٍ عَقْلِيٍّ، وَاللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. اهـ. نَقُولُ: أَمَّا مَذْهَبُ التَّنَاسُخِ، فَهُوَ مِنَ الْأَسَاطِيرِ الْخُرَافِيَّةِ، الَّتِي وَلَّدَتْهَا الْخَيَالَاتُ الشِّعْرِيَّةُ، فَلَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِالْخَوْضِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ أَنْفُسًا نَاطِقَةً، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ فَتَحْقِيقُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ هَذِهِ النَّفْسِ. وَأَيْنَ مَنْ يَدَّعِي هَذَا وَيُثْبِتُ دَعْوَاهُ؟ وَلَا يُنْكِرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِعِلْمِ الْحَيَوَانِ مَا أُوتِيَهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَفُوقُ بِبَعْضِهِ إِدْرَاكَاتِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي مَنَاطِقَ ضَيِّقَةٍ جِدًّا؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ الْفَرْدِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، وَهِيَ مَحْدُودَةٌ ضَيِّقَةٌ. وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى. وَإِدْرَاكُ الْبَشَرِ لَا تَنْحَصِرُ أَنْوَاعُهُ وَلَا أَفْرَادُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِعْدَادُهُ الْعِلْمِيُّ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ بِحَدٍّ، وَهِيَ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَدَعْوَى تَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ وَبِعْثَةِ رُسُلٍ مِنْهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ

39

لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (35: 24) نَزَلَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِحَيَاةِ الْجَمَادِ فَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَنْ بَعْضِ الطَّبِيعِيِّينَ وَالْكِيمَاوِيِّينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ عِلْمِيَّةٌ وَنَظَرِيَّةٌ، وَيَتَوَقَّفُ بَيَانُ ذَلِكَ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَيَاةِ وَمَظَاهِرِهَا وَخَوَاصِّهَا كَالتَّغَذِّي وَالنُّمُوِّ وَالتَّوَلُّدِ وَالْمَوْتِ، وَفِي تِلْكَ الْجَمَادَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْأَجْسَامَ الْمُتَبَلْوِرَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَيَاةَ مُنْبَثَّةٌ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ بَعْدُ. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) أَيْ وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ وَمَا أَرْشَدْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُنَا تَكْذِيبَ جُحُودٍ وَاسْتِكْبَارٍ، أَوْ تَكْذِيبَ جُمُودٍ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَطَاعَةِ الْكُبَرَاءِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالْهُدَى سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ، وَبُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُقِرُّونَ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، مُتَسَكِّعُونَ أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَكِّعِينَ خَابِطِينَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الْحَالِكَةِ ظُلْمَةِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظُلْمَةِ تَقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَظُلْمَةِ كِبْرِيَاءِ الْعَصَبِيَّةِ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَا يَنْفُذُ مِنْهَا إِلَيْهِمْ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ صِرَاطَهَا، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهَاجَهَا، وَذَلِكَ مَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِ الْأَفْرَادِ وَفَسَادِ تَرْبِيَةِ الْمَجْمُوعِ، وَلِكُلِّ سِيرَةٍ غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ الَّتِي قَضَتْ بِهَا حِكْمَتُهُ، وَنَفَذَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللهِ بِإِضْلَالِهِ يُضْلِلْهُ كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُمْ وَلَا أَفْوَاهَهُمْ وَلَا عُقُولَهُمْ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُمُ اقْتِضَاءَ سُنَنِهِ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ أَنْ يُعْرِضَ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ دَعْوَةِ مَنْ يَرَاهُ دُونَهُ، وَاتِّبَاعِ مَنْ يَرَاهُ مِثْلَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَأَنْ يُعْرِضَ الْمُقَلِّدُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تَنْصَبُّ لِبَيَانِ بُطْلَانِ تَقَالِيدِهِ وَإِثْبَاتِ خِلَافِهَا، مَا دَامَ مَغْرُورًا بِهَا مُكَبِّرًا لِمَنْ جَرَى مِنَ الْآبَاءِ وَالْكُبَرَاءِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ تَعَالَى الضَّلَالَ لِمَنْ شَاءَ إِضْلَالَهُ خَلْقًا وَيَجْعَلُهُ لَهُ غَرِيزَةً وَطَبْعًا، وَلَا أَنْ يُلْجِئَهُ إِلَيْهِ إِلْجَاءً، وَيُكْرِهَهُ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، فَيَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ كَحَرَكَةِ الدَّمِ فِي الْجَسَدِ، وَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ يَجْعَلْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وَلَا يَنْجُو تَارِكُهُ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِاسْتِعْمَالِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ فِي آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ وَآيَاتِهِ الْمُكَوِّنَةِ، اسْتِعْمَالًا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ وَيَعْتَرِفُ

بِهِ، وَيَعْرِفُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَعْمَلُ بِهِ بِحَسَبِ سُنَنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا كَمَا خَلَقَ رُوحَهُ وَبَدَنَهُ، وَلَا أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا فَيُلْصِقُ بِهِ كَارِهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الضَّلَالُ أَوْ سَبَبُ الضَّلَالِ، وَمَشِيئَةُ الْهِدَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 7: 179) وَقَالَ تَعَالَى: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ 14: 27) وَقَالَ: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ 2: 26) كَمَا قَالَ: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ 5: 16) فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطَرِ الْبَشَرِ وَعُقُولِهِمْ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضَ نَظَرِيَّاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، مُسْتَقِلًّا بِهَا دُونَ مَشِيئَةِ خَالِقِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرَّبُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ حَرَكَاتِ دِمَائِهِمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَعْمَالِ مَعِدِهِمْ وَأَمْعَائِهِمْ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ مِنْهُمْ، فَلَا نَغْلُو فِي التَّنْزِيهِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ غُلُوًّا نَجْعَلُ بِهِ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ وَاقَعًا بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مُقَدِّرِ الْمَقَادِيرِ، وَوَاضِعِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَلَا نَغْلُو فِي الْمَشِيئَةِ فَنَجْعَلَهَا مُنَافِيَةً لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ سَالِبَةً لِمَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ اللهِ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا 17: 97) قَالَ: وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ إِضْلَالُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ جَزَاءً لَهُمْ، وَيُقَابِلُهُ جَعْلُ الْمُتَّقِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُوصِّلٍ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وُرُودُ الْآيَةِ فِي وَصْفِ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْآخِرَةِ وَلَا هِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ، وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ ": (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ 2: 18، 171) فَلِمَاذَا سُرِدَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ

فِي الْبَقَرَةِ مَفْصُولَةً وَوُصِلَتْ كُلُّهَا بِالْعَطْفِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ (17: 97) الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا، وَعَطْفُ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى هُنَا دُونَ قَوْلِهِ: (فِي الظُّلُمَاتِ) الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الثَّالِثَةِ؟ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " أَنَّ الْعَطْفَ بَيْنَ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَتَرْكَهُ فِيمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَافٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي الْمُقَابَلَةِ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَاصِقَةٌ بِالْمَوْصُوفِينَ بِهَا مُجْتَمِعَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُقَلِّدِينِ الْجَامِدِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَمِعُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ الرَّسُولَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَحُوكُ فِي قَلْبِهِ وَيَجُولُ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ، وَلَا يَنْطِقُ بِمَا عَسَاهُ يَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ اللهِ الْمَرْئِيَّةِ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي الْآفَاقِ، فَكَأَنَّهُ أَصَمُّ أَبْكَمُ أَعْمَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهِيَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْمُكَوَّنَةِ، بَلْ كَانَ مِنْهُمُ الْجَامِدُ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَصَمُّ (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا 31: 7) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَعْلَمُ عِنَادًا، فَهَذَانِ فَرِيقَانِ مُنْفَصِلَانِ، عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِبَيَانِ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَقَوْلُهُ: (فِي الظُّلُمَاتِ) إِمَّا حَالٌ مِنْهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَابِطٌ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ كَظُلْمَتَيِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ، أَوِ الْخَاصَّةِ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ كَظُلْمَتَيِ التَّقْلِيدِ وَالْكِبْرِ، فَبَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَبَعْضُ الْمُسْتَكْبِرِينَ غَيْرُ جَامِدَيْنِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِبُكْمٍ فَيَكُونُ الْمُكَذِّبُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ قِسْمَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرِيقَانِ (الْأَوَّلُ) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالصُّمِّ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مُطْلَقًا اسْتِغْنَاءً عَنْ هِدَايَتِهِ بِضَلَالِهِمْ وَمُشَاغَبَةً لِلدَّاعِي إِلَيْهِ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 41: 26) وَالَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، لِتَوَهُّمِهِمْ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ آبَائِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ يَنْهَوْنَهُمْ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يُوصَفْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ مَرْجُوٌّ وَهِدَايَتَهُمْ مَأْمُولَةٌ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ. (الثَّانِي) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالْبُكْمِ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاسْتَيْقَنُوا صِدْقَ الرَّسُولِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَهَا أَوْ يَجْحَدُونَ بِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لَا تَكْذِيبًا لَهُ وَلَا إِكْذَابًا، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا

فِي الْآيَةِ (39) ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَسْأَلُوا وَلَمْ يَبْحَثُوا فَهُمْ كَالْبُكْمِ لِعَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ. وَوَصَفَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْبُكْمِ - وَهُمُ الْجَاهِلُونَ - بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةِ، وَوَصَفَ بِذَلِكَ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ أَيْضًا - وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ رُؤْيَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتُهُ الْقُدْسِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتْ شَمَائِلُهُ الشَّرِيفَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَرُوحَانِيَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ فَتَجْذِبُهَا إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِقَامَةِ حَجَّةٍ وَلَا تَأْلِيفِ بُرْهَانٍ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الْأَعْرَابِيُّ السَّلِيمُ الْفِطْرَةُ مُمْتَحِنًا أَوْ مُعَادِيًا، فَإِذَا رَآهُ آمَنَ وَقَالَ: مَا هَذَا وَجْهُ كَذَّابٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ مَهَابَتِهِ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ " فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ يُونُسَ ": (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ 10: 42، 43) وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَا مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَا الْبَقَرَةِ مِنْ إِرَادَةِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْحَائِلَةِ دُونَ جَمِيعِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ تَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَالَاتٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، فَيَكُونُونَ عُمْيًا هَائِمِينَ فِي الظُّلُمَاتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ 57: 12) فَلَا يَرَوْنَ الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَمَا يُسَاقُ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَيَكُونُونَ بُكْمًا (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 77: 35، 36) وَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهَا،، وَيَكُونُونَ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ عِنْدَمَا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بُشْرَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهَا اجْتِمَاعُ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ حَصَلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ لَمَا أَفَادَتْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَدَأَ بِذِكْرِ الصُّمِّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا، وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْحَشْرِ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْبَشَرَ، وَكُلَّمَا غَاصَ غَائِصٌ فِي بِحَارِهَا اسْتَفَادَ شَيْئًا جَدِيدًا مِنْ فَوَائِدِ الدُّرَرِ، فَلَا تَنْفَدُ عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَبَانِيهِ، وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَعَانِيهِ.

40

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . هَذَا قَوْلٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِمْ مِنْ تَوْحِيدِهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا تَقَلَّدُوهُ مِنَ الشِّرْكِ عَارِضٌ شَاغِلٌ يُفْسِدُ أَذْهَانَهُمْ وَمُخَيِّلَاتِهِمْ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ، وَمَا يَخِفُّ حِمْلُهُ مِنَ الْبَلَاءِ، حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ اللَّأْوَاءِ، وَأَثَارَ تَقَطُّعُ الْأَسْبَابِ فِي أَنْفُسِهِمْ ضَرَاعَةَ الدُّعَاءِ، دَعَوُا اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 10: 22) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَمَا وَضَعَتْ رَمْزًا لَهُ مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءُ الْقَلْبِ لَا دُعَاءُ اللِّسَانِ، ذَكَّرَهُمْ بِهَذَا بَعْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالْمُشَابَهَةِ بَيْنَ أُمَمِ النَّاسِ وَأُمَمِ الْحَيَوَانِ وَحَالِ مَنْ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ الْفِطْرِيَّةُ مِنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ مَنْ تَرَكُوا التَّضَرُّعَ لَهُ تَعَالَى حِينَ الْبَأْسِ، وَقَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمُ الْيَأْسُ، فَابْتَلَاهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، بَعْدَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَأَعْقَبَهُمْ بَدَلَ الشُّكْرِ فَرَحَ الْبَطَرِ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَكُمْ) هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى (أَخْبِرُونِي) وَالتَّاءُ ضَمِيرُ

رَفْعٍ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ أُكِّدَ بِهِ الضَّمِيرُ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَتَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ دُونَ التَّاءِ؛ فَتَظَلُّ مَفْتُوحَةً فِي الْمُؤَنَّثِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، وَقَدْ أَطَالُوا الْقَوْلَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ (أَرَأَيْتَكُمْ) فِي خِطَابِ الْجَمْعِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ، وَذُكِرَتْ فِي خِطَابِ الْمُفْرَدِ بِالْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ": (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) (17: 62) إِلَخْ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامٌ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوا فِيهَا اسْتِفْهَامًا مَحْذُوفًا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كَغَيْرِهِ: وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ بِأَمْرِي بِالسُّجُودِ لَهُ، لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ؟ وَجَعَلَ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (17: 62) إِلَخْ كَلَامًا مُبْتَدَأً. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ " أَرَأَيْتَ " وَ " أَرَأَيْتُمْ " - بِدُونِ كَافٍ - مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً أَكْثَرُهَا قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بَعْدَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ، فَمِنْهُ فِي جُمْلَةٍ غَيْرِ شَرْطِيَّةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتِ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (25: 43) وَقَوْلُهُ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (46: 4) وَمِثْلُهَا الْآيَاتُ الَّتِي فِي " سُورَةِ الْوَاقِعَةِ ". وَمِنْهُ فِي الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (26: 205 - 207) وَمِثْلُهَا الْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ " سُورَةِ الْعَلَقِ " وَالْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ " سُورَةِ الْمُلْكِ ". فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهَا أَخْبِرْنِي وَأَخْبِرُونِي إِلَّا بِمَا يَأْتِي مِنَ التَّوْجِيهِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي (أَرَأَيْتَكُمْ) : اسْتِفْهَامٌ وَتَعْجِيبٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى عِدَّةِ آيَاتٍ مُصَدَّرَةٍ بِهَذَا اللَّفْظِ: كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ. وَقَدْ سَدَّدَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقَارَبَ. وَالَّذِي أَرَاهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ أَنَّ (أَرَأَيْتَكُمْ) وَ (أَرَأَيْتُمْ) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الرَّأْيِ أَوْ عَنِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لِلتَّقْرِيرِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّنْبِيهَ وَالتَّمْهِيدَ لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنْ نَبَأٍ غَرِيبٍ أَوْ عَجِيبٍ، أَوِ اسْتِفْهَامٍ تَقُومُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحُجَّةُ، وَتُدْحَضُ الشُّبْهَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْإِخْبَارِ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ " أَرَأَيْتَ " أَوْ " أَرَأَيْتُمُ " الَّتِي تَتْلُوهَا الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَحْذُوفٌ يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِهَا وَيُقَدَّرُ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَقَدْ تَسُدُّ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ كَيْفَ تَكُونُ حَالُكُمْ مَعَ مَنْ تَعْبُدُونَ - أَوْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ - أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ أَوْ عَنْ مَبْلَغِ عِلْمِكُمْ، فِي ذَلِكَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ قَبْلَكُمْ، كَالرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاتِيَةِ وَالصَّاعِقَةِ أَوِ الرَّجْفَةِ الْقَاضِيَةِ، وَمِيَاهِ الطُّوفَانِ الْمُغْرِقَةِ، وَحَرَارَةِ الظُّلَّةِ الْمُحْرِقَةِ، أَوْ أَتَتْكُمْ

41

السَّاعَةُ بِمُقَدِّمَاتِ أَهْوَالِهَا أَوْ مَا يَلِي الْبَعْثَ مِنْ خَزِينِهَا وَنَكَالِهَا، أَغَيْرَ اللهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْعُونَ أَمْ إِلَى غَيْرِهِ فِيهَا تَجْأَرُونَ؟ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أُلُوهِيَّةِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُفَعَاءُ، أَوْ إِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِكُمُ الصِّدْقُ فَأَخْبِرُونِي أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِذَا أَتَاكُمْ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْلُو دُونَهُمَا الْأَمْرَيْنِ؟ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى كَوْنِ مُتَعَلَّقِ الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهَا: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ مَا ذُكِرَ، مَنْ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ، أَتَخُصُّونَ غَيْرَ اللهِ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ شَأْنُكُمْ وَقْتَ الرَّخَاءِ؟ أَمْ تَخُصُّونَهُ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ وَتَنْسَوْنَ مَا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الشُّرَكَاءِ إِذْ يَضِلُّ عَنْكُمْ مَنْ تَرْجُونَ مِنَ الشِّفَاءِ؟ ثُمَّ أَجَابَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخْبِرًا إِيَّاهُمْ عَمَّا تَقْتَضِيهِ فِطْرَتُهُمْ فَقَالَ: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) أَيْ لَا تَدْعُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرَهُ - لَا وَحْدَهُ وَلَا مَعَهُ - بَلْ تَخُصُّونَهُ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ، فَيَكْشِفُ أَيْ يُزِيلُ مَا تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ دُونَ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ الْآنَ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَنْدَادِ؛ لِأَنَّ الْفَزَعَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْيَأْسِ مِنَ الْأَسْبَابِ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، تَنْبَعِثُ إِلَيْهِ بِذَاتِهَا كَمَا تَنْبَعِثُ إِلَى طَلَبِ الْغِذَاءِ عِنْدَ الْجُوعِ مَثَلًا، فَلَا يَذْهَبُ بِهِ مَا يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ الْبَاطِلِ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ غَالِبًا إِلَّا مَنْ تَمَّ فَسَادُ فِطْرَتِهِ، وَانْتَهَتْ سَفَالَةُ طِينَتِهِ، حَتَّى كَانَ كَالْأَعْجَمِ، لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ تَعَالِيمِ الشِّرْكِ مَعَ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْفِطْرِيَّةِ كَمَثَلِ مَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّعَامِ الْبَاطِلَةِ مَعَ غَرِيزَةِ التَّغَذِّي، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَيُبِيحُونَ بَعْضَ الْخَبَائِثِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَيَجْنُونَ عَلَى غَرِيزَةِ التَّغَذِّي بِأَكْلِ هَذَا وَالْحِرْمَانِ مِنْ ذَاكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَذَلِكَ يَجْنُونَ عَلَى غَرِيزَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِمَا يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ كَمَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، ذَلِكَ الْحُبُّ الَّذِي مَنْشَؤُهُ التَّقْدِيسُ وَاعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ يَنْسَوْنَهَا وَيَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ. وَلِهَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: أَسْفَلُهَا وَأَعْرَقُهَا فِي الْجَهْلِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَيَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ حَتَّى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ بَاكِيًا مُتَضَرِّعًا ; لِأَنَّ غَرِيزَةَ الْإِيمَانِ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ حُصِرَتْ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْمَخْلُوقِ أَوْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَلْقَى عَنْ قَوْمِهِ، وَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَيَلِي هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِلَهَ نَفْسَهُ قَدْ حَلَّ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاتَّحَدَ بِهَا كَمَا تَحِلُّ الرُّوحُ فِي الْبَدَنِ وَتُدَبِّرُهُ فَيَكُونَانِ بِذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ هَذِهِ مُفَرَّغَةٌ فِي قَالَبٍ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ،

مُزَيَّنَةٌ بِحُلِيٍّ وَحُلَلٍ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ، وَتِلْكَ سَاذَجَةٌ غُفْلٌ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْجَدَلِيَّةِ عُطْلٌ مِنَ الْمُزَيِّنَاتِ الْخَيَالِيَّةِ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ مُنْتَحِلِيهِمَا يَعْبُدُونَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الْمُدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً حَتَّى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ وَالْبَأْسِ، وَوَرَاءَهُمَا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ أَرْقَى دَرَجَاتِ الشِّرْكِ إِذْ هِيَ أَرَقُّهَا وَأَضْعَفُهَا، وَهِيَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءِ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءِ، الْمُتَصَرِّفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ وُسَطَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَهُوَ لِأَجْلِهِمْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ، وَيُوجِدُ وَيُعْدِمُ، وَهَذِهِ هِيَ الدَّرَجَةُ الَّتِي ارْتَقَتْ إِلَيْهَا وَثَنِيَّةُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) فَلَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ تَأْثِيرًا وَوَسَاطَةً فِي أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى - كَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ - يَدْعُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ لِأَجْلِهَا، كَانَ دُعَاؤُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ إِيَّاهُمْ عِبَادَةً، إِذْ لَا مَعْنًى لِلْعِبَادَةِ إِلَّا هَذَا، وَلَمَّا كَانُوا عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُسْتَقِلِّينَ بِذَلِكَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانَ اللهُ تَعَالَى - بِزَعْمِهِمْ - غَيْرَ فَاعِلٍ ذَلِكَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ دُونِ شَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ - سُمُّوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ فَهُوَ الْإِيمَانُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ تَأْثِيرِ الْحَوَادِثِ فِيهَا، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُسَخَّرُونَ بِإِرَادَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، خَاضِعُونَ لِسُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا إِلَّا فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا بَيْنَهُمْ شَرَعَا، وَأَنَّ الْوَسَاطَةَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ مَحْصُورَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إِلَيْهِمْ دُونَ تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ، وَأَنَّ شَفَاعَةَ الْآخِرَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ إِذَا شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ لِمَنْ يَشَاءُ مِمَّنِ ارْتَضَى. وَمِنْ دَلَائِلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (3: 128) (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (3: 154) (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (7: 188) (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مِنْ يَشَاءُ) (28: 56) (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ) (72: 21 - 23) (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (39: 44) (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (2: 255) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) إِلَخْ. . وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْوَسَاطَةُ الشِّرْكِيَّةُ وَهْمِيَّةً لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَقَالِيدُ مَوْرُوثَةٌ كَانَ أُولَئِكَ الْأَذْكِيَاءُ جَدِيرِينَ بِأَنْ يَنْسَوْهَا إِذَا جَدَّ الْجَدُّ وَعَظُمَ الْخَطْبُ كَالْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا دُونَهُمَا كَالْحَالَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (29: 65)

وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (31: 32) وَمِثْلُهَا فِي " سُورَةِ يُونُسَ " الْآيَةَ 22 وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ": (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا) (17: 67) فَسَّرُوا الضَّلَالَ هُنَا بِالنِّسْيَانِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَأَمَّا ضَلَالُ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَيُرَادُ بِبَعْضِهَا غَيْبَتُهَا عَنْهُمْ بِعَدَمِ وُجُودِهَا مَعَهُمْ هُنَالِكَ وَحِرْمَانِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَرْجُونَ مِنْ شَفَاعَتِهَا، لَا غَيْبَتُهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِنِسْيَانِهِمْ إِيَّاهَا جَعْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ بِعَدَمِ دُعَائِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي النِّسْيَانِ قَوْلَيْنِ، قَالَ: (الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ تَتْرُكُونَ الْأَصْنَامَ وَلَا تَدْعُونَهُمْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ (الثَّانِي) قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي تَرْكِكُمْ دُعَاءَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ نَسِيَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يُعْرِضُونَ عَنْهُ إِعْرَاضَ النَّاسِي. اهـ. أَقُولُ: لَمْ يَنْقِلِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفَاسِيرِهِمَا وَلَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ شَيْئًا فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا الْحَسَنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ جَوَازِ كَشْفِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَعَذَابِ السَّاعَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِدُعَائِهِمْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمَا عُرِفَ مِنْ سَائِرِ النُّصُوصِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) (13: 14) وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذَا الْكَشْفِ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ عَلَّقَ كَشْفَ ذَلِكَ هُنَا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ يَكْشِفُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ حَتَّى فِي كَشْفِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَأَهْوَالِ السَّاعَةِ، وَهُمَا النَّوْعَانِ اللَّذَانِ لَا تَتَعَلَّقُ قُدَرُ الْمَخْلُوقِينَ الْمَوْهُوبَةُ لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمَا ; لِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ الَّذِي جَرَتْ بِهِ سُنَنُهُ فِي الْأُمَمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِتْيَانِ عَذَابِ اللهِ ظُهُورُ أَمَارَاتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَبِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى أَيِ الْمَوْتُ بِظُهُورِ عَلَامَاتِهِ وَنُزُولِ سَكَرَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ يُقْبَلُ قَبْلَ وُصُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ بِالْفِعْلِ وَقَبْلَ بُلُوغِ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ مِنَ الْمُحْتَضِرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ كُرُوبِ السَّاعَةِ تُكْشَفُ حَتَّى عَنِ الْكُفَّارِ كَكَرْبِ طُولِ الْوُقُوفِ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِدُعَائِهِمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اخْتِلَافِ الْأَدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ أَنَّ نَافِعًا قَرَأَ أَرَأَيْتَ وَأَرَأَيْتُمْ - بِكَافٍ وَبِغَيْرِ كَافٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ - بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ

42

بِحَذْفِهَا وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا، وَهِيَ لُغَاتٌ لِلْعَرَبِ مَعْرُوفَةٌ، وَمِنْ شَوَاهِدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (2: 211) أَصْلُهَا: اسْأَلْ. وَمِنْهَا فِي الشِّعْرِ إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا أَصْلُهُ فَأَلْبِسُونِي. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا قَبْلَهُ إِلَى أُمَمٍ قَبْلَ أُمَّتِهِ فَكَانُوا أَرْسَخَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الشِّرْكِ وَأَشَدَّ مِنْهُمْ إِصْرَارًا عَلَى الظُّلْمِ، فَإِنَّ قَوْمَهُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الضِّيقِ وَيَنْسَوْنَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمَمُ فَلَمْ تُلِنِ الشَّدَائِدُ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ تُصْلِحْ مَا أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ مِنْ فِطْرَتِهِمْ. الْأَخْذُ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِهِمَا بِهِمْ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى حَوْزِهِ وَتَحْصِيلِهِ بِالتَّنَاوُلِ وَالْمِلْكِ أَوِ الِاسْتِيلَاءِ وَالْقَهْرِ، وَقَدْ يُسْنَدُ هَذَا إِلَى الْأَسْبَابِ غَيْرِ الْفَاعِلَةِ الْمُرِيدَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ - فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. . الصَّاعِقَةُ. . الرَّجْفَةُ) وَالْبَأْسَاءُ: اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرْبِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْخَوْفُ فِي الشِّدَّةِ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، وَالْقُوَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْبُؤْسُ، وَالْخُضُوعُ، وَالْفَقْرُ كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبُؤْسُ وَالْبَأْسُ. وَالْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ، إِلَّا أَنَّ الْبُؤْسَ فِي الْفَقْرِ وَالْحَرْبِ أَكْثَرُ، وَالْبَأْسُ وَالْبَأْسَاءُ فِي النِّكَايَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَالضَّرَّاءُ فَعْلَاءُ مِنَ الضُّرِّ - وَهُوَ ضِدُّ النَّفْعِ وَتُطْلَقُ عَلَى السَّنَةِ - أَيِ الْجَدْبِ - وَالْأَذَى وَسُوءِ الْحَالِ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا كَالسَّرَّاءِ مِنَ السُّرُورِ، وَهِيَ ضِدُّهَا الَّتِي تُقَابِلُهَا كَالنَّعْمَاءِ، وَأَمَّا الضُّرُّ فَيُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ الْبَأْسَاءَ بِشِدَّةِ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالضَّرَّاءَ بِالْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَنَقَلَ نَحْوَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْبَأْسَاءَ خَوْفُ السُّلْطَانِ وَغَلَاءُ السِّعْرِ، وَالْأَقْوَالُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا أَفْهَمُ - أَنَّ الْبَأْسَاءَ مَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الْوَقْعِ عَلَى مَنْ يَمَسُّهُ تَأْثِيرُ الْحَرْبِ الْحَاضِرَةِ الْآنَ، فَإِنَّ وَقْعَهَا أَلِيمٌ شَدِيدٌ عَلَى مَنْ أُصِيبُوا بِفَقْدِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ تَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ، أَوْ ضِيقِ مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ النَّفْسَ أَلَمًا شَدِيدًا سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ نَفْسِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا - فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَأْسَاءُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّرَّاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُمَا جَاءَتَا عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مُذَكَّرِهِمَا وَزْنُ أَحْمَرَ صِفَةً، بَلْ وَرَدَ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَالتَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ بِتَكَلُّفٍ أَوْ تَكَثُّرٍ، وَهِيَ الضَّعْفُ أَوِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى تَوْحِيدِنَا وَعِبَادَتِنَا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعِدًّا لَهُمْ لِلْإِيمَانِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ - بِحَسَبِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ - مِنَ التَّضَرُّعِ وَالْجُؤَارِ بِالدُّعَاءِ لِرَبِّهِمْ، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُنَا بِجَعْلِ الشَّدَائِدِ مُرَبِّيَةً لِلنَّاسِ بِمَا تُرْجِعُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ غُرُورِهِمْ، وَتَكُفُّ الْفُجَّارَ

43

عَنْ فُجُورِهِمْ، فَمَا أَجْدَرَهَا بِإِرْجَاعِ أَهْلِ الْأَوْهَامِ، عَنْ دُعَاءِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ وَمَا دُونَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِلُ إِلَى غَايَةٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ لَا يُزِيلُهَا بَأْسٌ، وَلَا يُزَلْزِلُهَا بُؤْسٌ، فَلَا تَنْفَعُ مَعَهُمُ الْعِبَرُ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِمُ الْغِيَرُ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) جَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ " لَوْلَا " هُنَا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى " هَلَّا "، وَجَعَلَهَا الْجُمْهُورُ نَافِيَةً، أَيْ فَهَلَّا تَضَرَّعُوا خَاشِعِينَ لَنَا تَائِبِينَ إِلَيْنَا عِنْدَمَا جَاءَهُمُ الْبَئِيسُ مِنْ عَذَابِنَا، فَرَأَوْا بَوَادِرَهُ وَحَذِرُوا أَوَاخِرَهُ، لِنَكْشِفَهُ عَنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ؟ أَوْ فَمَا خَشَعُوا وَلَا تَضْرَّعُوا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فَكَانَتْ أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ، إِذْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النُّذُرُ (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَا يُوَسْوِسُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَحْسِينِ الثَّبَاتِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ، وَتَقْبِيحِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ مِنْ قَبْلُ فِي تَزْيِينِ أَعْمَالِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ مِنْهَا إِلَى الشَّيْطَانِ لِقُبْحِهِ، وَمَا يُنْسَبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَنْ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَمَا يُحْسِنُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْمَجْهُولِ، فَيُرَاجِعُ فِي تَفْسِيرِ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ 3: 14) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ [رَاجِعْ ص 196 وَمَا بَعْدَهَا ج 3 ط الْهَيْئَةِ] . (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كَلِّ شَيْءٍ) أَيْ: فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَرَكُوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ حَتَّى نَسَوْهُ أَوْ جَعَلُوهُ كَالْمَنْسِيِّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ - لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَجُمُودِهِمْ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ بِمَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَخَاءِ الْعَيْشِ وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (7: 168) فَلَمْ يَتَرَبَّوْا بِالنِّعَمِ، وَلَا شَكَرُوا الْمُنْعِمَ، بَلْ أَفَادَتْهُمُ النِّعَمُ فَرَحًا وَبَطَرًا كَمَا أَفَادَتْهُمُ الشَّدَائِدُ قَسْوَةً وَأَشَرًا (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا) مِنْهَا، وَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بَطَرًا وَغُرُورًا بِهَا (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) أَيْ: أَخَذْنَاهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حَالَ كَوْنِنَا مُبَاغِتِينَ لَهُمْ أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَبْغُوتِينَ إِذْ فَجَأَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَمَارَةٍ وَلَا إِمْهَالٍ لِلِاسْتِعْدَادِ أَوْ لِلْهَرَبِ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، أَيْ مُتَحَسِّرُونَ يَائِسُونَ مِنَ النَّجَاةِ أَوْ هَالِكُونَ مُنْقَطِعَةٌ حُجَجُهُمْ، وَالْإِبْلَاسُ فِي اللُّغَةِ: الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّحَيُّرِ: الدَّهْشَةُ، وَانْقِطَاعُ الْحُجَّةِ، وَالسُّكُوتُ مِنَ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا وَلِقَوْلِهِمْ: أَبْلَسَتِ النَّاقَةُ إِذَا لَمْ تَرْغُ مِنْ شِدَّةِ الضَّبَعَةِ، وَهِيَ بِالتَّحْرِيكِ شِدَّةُ شَهْوَةِ الْفَحْلِ، يُقَالُ: ضَبِعَتِ النَّاقَةُ ضَبَعًا وَضَبَعَةً (مِنْ بَابِ فَرِحَ) .

44

وَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ مِمَّا يَتَرَبَّى وَيَتَهَذَّبُ بِهِ الْمُوَفَّقُونَ مِنَ النَّاسِ، وَإِلَّا كَانَتِ النِّعَمُ أَشَدَّ وَبَالًا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّقَمِ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالِاخْتِبَارِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّدَائِدَ مُصْلِحَةٌ لِلْفَسَادِ، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُؤْمِنُ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ مَرْفُوعًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ اسْتِفَادَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ " سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ "، وَهَاكَ بَعْضُ مَا رَوَوْهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: " قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ فَلَا رَأْيَ لَهُ، وَمَنْ قَتَّرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ فَلَا رَأْيَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ: مُكِرَ بِالْقَوْمِ وَرَبَّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ. بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللهِ، مَا أَخَذَ اللهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغِرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ: رَخَاءَ الدُّنْيَا وَسَتْرَهَا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيُّ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) الْآيَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ حَرْمَلَةَ وَابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِرَاكُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابَ خِيَانَةٍ (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) " كَمَا قَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. اهـ. وَسَيُعَادُ هَذَا الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ " سُورَةِ الْأَعْرَافِ 7: 94 " وَمَا يَلِيهَا مِنْ آيَاتٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ " إِذَا " مِنْ قَوْلِهِ: (فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفُجَائِيَّةَ لِإِفَادَتِهَا تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فَجْأَةً، وَهِيَ حَرْفٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَظَرْفُ زَمَانٍ

45

أَوْ مَكَانٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ (قَوْلَانِ) مَنْصُوبَةٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ هُنَا أَنَّهُمْ أَبْلَسُوا فِي مَكَانِ إِقَامَتِهِمْ أَوْ فِي زَمَانِهَا، عَلَى أَنَّ الْفَاءَ وَحْدَهَا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ، وَهُوَ تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ " فَهُمْ مُبْلِسُونَ " وَبَيْنَ " فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ " عَظِيمٌ، لَا يَخْفَى عَلَى ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ. فَذَاكَ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِمَعْنًى مُؤَكَّدٍ مُجَدَّدٍ. (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ فَهَلَكَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَاسْتُؤْصِلُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. كَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِقَطْعِ دَابِرِهِمْ، وَهُوَ آخَرُ الْقَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَقِيلَ: دَابِرُهُمْ أَصْلُهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْأَصْمَعِيِّ مِنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَوَضَعَ الْمُظْهَرَ الْمَوْصُوفَ بِالْمَوْصُولِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَسَبَبِهِ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ زُهُوقِ الْبَاطِلِ فَظُهُورِ الْحَقِّ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ الَّذِي جَرَى مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ، وَتَصْدِيقِ نُذُرِهِمْ، وَإِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَإِرَاحَةِ الْأَرْضِ مِنْ شِرْكِهِمْ وَظُلْمِهِمْ - ثَابِتٌ وَمُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِهِمُ، الْمُقِيمِ لِأَمْرِ اجْتِمَاعِهِمْ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَسُنَنِهِ الْعَادِلَةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْحَقِّ الْوَاقِعِ مِنْ كَوْنِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يُذَكِّرُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَمْدِهِ عَلَى نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَقَطْعِ دَابِرِ الظَّالِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَحَمْدِهِ فِي عَاقِبَةِ كُلِّ أَمْرٍ، وَخَاتِمَةِ كُلِّ عَمَلٍ كَمَا قَالَ فِي عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (10: 10) وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي تَمَّ مِنَ السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ فَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عِبْرَةً وَفَائِدَةً، وَنِعْمَةً ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .

46

إِنَّ الْقَوْلَ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ، فَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِجَاجِ،، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى: أَرَأَيْتُمْ مَاذَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ رَاجِينَ شَفَاعَتَهُمْ إِنْ أَصَمَّكُمُ اللهُ تَعَالَى فَذَهَبَ بِسَمْعِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ فَذَهَبَ بِأَبْصَارِكُمْ، وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَأَلْبَابِكُمُ الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُ الْفَهْمِ وَالشُّعُورِ وَالْعَقْلِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ قَوْلًا وَلَا تُبْصِرُونَ طَرِيقًا، وَلَا تَعْقِلُونَ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا،، وَلَا تُدْرِكُونَ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا - مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَ اللهُ مِنْكُمْ؟ أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِكُمْ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ آلِهَةً لَقَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، فَلِمَاذَا تَدْعُونَهُمْ وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِلَهِ الْقَدِيرِ؟ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أَيِ: انْظُرْ كَيْفَ نُنَوِّعُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ الْكَثِيرَةِ وَنَجْعَلُهَا عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى لِيَتَذَكَّرُوا وَيَقْتَنِعُوا، فَيُنِيبُوا وَيَرْجِعُوا، ثُمَّ هُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَيَتَجَنَّبُونَ التَّأَمُّلَ فِيهَا، يُقَالُ: صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ صَدْفًا وَصُدُوفًا إِذَا أَعْرَضَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ صَدَفَةِ الْجَبَلِ أَيْ جَانِبِهِ وَمُنْقَطَعِهِ. وَالْعَطْفُ بِ " ثُمَّ " يُفِيدُ الِاسْتِبْعَادَ ; لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ سَبَبُ غَايَةِ الْإِقْبَالِ، فَكَانَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ فِي الْمُعْتَادِ وَالْمَعْقُولِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُنْتَهَى الْإِعْرَاضِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَلِيهِ فِي أَوَائِلِهَا الْكَلَامُ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ تَفْصِيلًا. (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ: أَرَأَيْتَكُمْ أَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ كَيْفَ يَكُونُ شَأْنُكُمْ - أَوْ أَخْبِرُونِي عَنْ مَصِيرِكُمْ - إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الَّذِي مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْأَوَّلِينَ، بِإِنْزَالِهِ بِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ، مُبَاغِتًا وَمُفَاجِئًا لَكُمْ - أَوْ إِتْيَانَ مُبَاغَتَةٍ - فَأَخَذَكُمْ عَلَى غِرَّةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ أَمَارَةٌ تُشْعِرُكُمْ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بِكُمْ، أَوْ أَتَاكُمْ ظَاهِرًا مُجَاهِرًا - أَوْ إِتْيَانَ جَهْرَةٍ - بِحَيْثُ تَرَوْنَ مَبَادِيهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِأَبْصَارِكُمْ، هَلْ يُهْلَكُ بِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ عِنَادًا وَجُحُودًا، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ أَنْ يُنْجِيَ مِنْهُ الرُّسُلَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَهْلِكُ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَإِنَّمَا تَهْلِكُونَ بِظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَجِنَايَتِكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَكُونُ عَامًّا، يُؤْخَذُ فِيهِ غَيْرُ الظَّالِمِ بِجَرِيرَةِ الظَّالِمِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْأُمَمِ مِنْ جَرَّاءَ ظُلْمِهِمْ وَفُجُورِهِمُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى ضَعْفِهِمْ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِمْ، أَوْ إِلَى تَفَشِّي الْأَمْرَاضِ أَوِ الْمَجَاعَاتِ فِيهِمْ، فَتَكَلَّفُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَكَلُّفًا يُصَحِّحُونَ بِهِ ظَنَّهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَلَاكَ غَيْرِ الظَّالِمِ بِهَذَا الْعَذَابِ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَذَابًا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ.

48

وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ فَهُوَ سَعَادَةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَمِنْ أَشْهَرِ هَؤُلَاءِ الظَّانِّينَ فِي الْآيَةِ غَيْرَ الْحَقِّ: الرَّازِيُّ وَالطَّبَرَسِيُّ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أَيْ: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي إِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ: مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ عَمَلًا بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ اللَّائِقِ بِهِمْ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالْجَزَاءِ السَّيِّئِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي يَنْزِلُ بِالْجَاحِدِينَ، وَلَا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَوْمَ لِقَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقِيهِمْ مِنْ كُلِّ فَزَعٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (75: 22، 23) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (80: 38، 39) وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَمَلَةَ لَا يَحْزَنُونَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا يَحْزَنُ مِنْهُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ كَفَوَاتِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ حُزْنُهُمْ كَحُزْنِهِمْ فِي شِدَّتِهِ وَطُولِ أَمَدِهِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَضَ لَهُمُ الْحُزْنُ لِسَبَبٍ صَرِيحٍ كَمَوْتِ الْوَلَدِ، وَالْقَرِيبِ، وَالصَّدِيقِ، أَوْ فَقْدِ الْمَالِ، وَقِلَّةِ النَّصِيرِ - يَكُونُ حُزْنُهُمْ رَحْمَةً وَعِبْرَةً، مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ عَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ يَعْصِمُهُمْ مِنْ إِرْهَاقِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَمِنْ بَطَرِ السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (57: 23) . (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي أَرْسَلْنَا بِهَا الرُّسُلَ يُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَحْيَانًا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، أَيْ كُفْرِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ ذُكِرُوا فِي مُقَابِلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، فَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُ الْإِيمَانَ، وَالْفِسْقُ يُقَابِلُ الْإِصْلَاحَ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ الْفِسْقَ بِالْكَذِبِ هُنَا وَفِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَالْمَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَمَا يُدْرَكُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصِيبُ الْمُدْرِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ غَالِبًا مِنْ ضُرٍّ، وَشَرٍّ، وَكِبَرٍ، وَنَصَبٍ، وَلُغُوبٍ، وَعَذَابِ الضَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَيُسْنَدُ الْفِعْلُ إِلَى سَبَبِ السُّوءِ وَالْأَلَمِ، وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى مَا يَسُرُّ فِي مُقَابَلَةِ إِسْنَادِهِ

50

إِلَى مَا يَسُوءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (3: 120) وَفِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) وَذَكَرَ مَسَّ الضُّرِّ فِي أَوَاخِرِ " سُورَةِ يُونُسَ " (10: 107) وَقَابَلَهُ بِإِرَادَةِ الْخَيْرِ. وَقَدْ وَرَدَ الْمَسُّ بِمَعْنَى الْوِقَاعِ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ "، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (56: 79) أَيِ الْقُرْآنَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَسَّ بِالِاطِّلَاعِ وَالْمُطَهَّرِينَ بِالْمَلَائِكَةِ. (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) . إِنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ بَيَّنَتْ أَرْكَانَ الدِّينِ وَأُصُولَ الْعَقَائِدِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرِّسَالَةُ أَوْ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْدَهُنَّ مُفَصَّلَتَيْنِ لِمَا فِيهِنَّ

مِنْ بَيَانِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ الْعَامَّةِ بِتَطْبِيقِهَا عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَإِزَالَةُ أَوْهَامِ النَّاسِ فِيهَا، وَمِنْ بَيَانِ أَمْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ الْأَمْرِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزِيدُ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَبَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهْ) (37) وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ. وَقَدْ بُدِئَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ - عَلَى مَا عَلِمْنَا مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّبْلِيغُ - فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا كَمَا بُعِثَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ مُبَشِّرًا مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَمُنْذِرًا مَنْ رَدَّهَا سُوءَ الْعِقَابِ، لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشَاغِبِينَ لَكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ شُئُونِ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ قَالُوهُ تَعْجِيزًا - يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَقِيقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَيَصِيرَ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَعَالِمًا بِكُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ عِلْمِهِ الْبَشَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ الَّتِي عُهِدَ إِلَيْهِ أَمْرُ تَبْلِيغِهَا، أَوْ يَصِيرَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مُتَعَلِّقِ قُدْرَتِهِ وَمُتَنَاوَلِ عِلْمِهِ ; لِأَنَّ أَمْرَ الرِّسَالَةِ فِي خَيَالِهِمْ يُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي حَقَّرَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ جَهْلُهُمْ وَسُوءُ حَالِهِمْ وَفَسَادُ أَعْمَالِهِمْ - قُلْ لِهَؤُلَاءِ: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ أَتَصَرَّفُ بِمَا خَزَنَهُ وَحَفِظَهُ فِيهَا مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَشُئُونِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِمَعْنَى الْمَخْزُونَاتِ، فَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خَزِينَةٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَهِيَ مَا يَخْزُنُ فِيهَا الشَّيْءَ مَنْ يُرِيدُ حِفْظَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (63: 7) يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَمَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُعْطَى مِنَ الْخِزَانَةِ لَا يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي الْخِزَانَةِ نَفْسِهَا، فَالْمُسْتَخْدَمُونَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَوِ الرَّجُلِ الْغَنِيِّ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْ خِزَانَتِهِ، فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا دُونَ الْخِزَانَةِ، وَجَمِيعُ الْأَحْيَاءِ الْعَامِلِينَ يَتَصَرَّفُونَ بِمَا يُعْطِيهِمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كُلٌّ بِحَسَبِ مَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِي دَائِرَةِ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يُؤْتَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ اسْتِعْدَادُهُ، فَالتَّصَرُّفُ الْمُطْلَقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ - الْمُبَلِّغُ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَمْرَ دِينِهِ - قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْأَسْبَابِ، فَضْلًا عَنِ التَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، وَجَعَلُوهُ شَرْطًا لِلْإِيمَانِ لَهُ، كَتَفْجِيرِ الْيَنَابِيعِ وَالْأَنْهَارِ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ وَإِيجَادِ الْجَنَّاتِ وَالْبَسَاتِينِ فِيهَا، وَإِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا، وَالْإِتْيَانِ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ وَحَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ " وَغَيْرِهَا.

بَدَأَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَهُمْ بِإِقْدَارِهِمْ عَلَى أَسْبَابِهِ، وَثَنَّى بِنَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ: (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أَيْ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ مَا حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عَنِ النَّاسِ بِعَدَمِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِهِ كَكَوْنِهِ مِمَّا لَا تُدْرِكُهُ مَشَاعِرُهُمُ الظَّاهِرَةُ وَلَا الْبَاطِنَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ وَلَا لِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْفِعْلِ كَعَالَمِ الْآخِرَةِ، فَالْغَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْلُومَاتِ كَخَزَائِنِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْمَقْدُورَاتِ، يُرَادُ بِهِمَا مَا اخْتُصَّ بِاللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يُمَكِّنْ عِبَادَهُ مِنْ عَلْمِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَيْ: لَمْ يُعْطِهِمُ الْقُوَى، وَلَمْ يُسَخِّرْ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْمُوصِّلَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَالْغَيْبُ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (27: 65) وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ، كَالَّذِي يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِهِمْ وَغَيْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ عَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْغَيْبِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنْهَا مَا هُوَ عِلْمِيٌّ كَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَغَيْرِهَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ دَقَائِقَ الْمَجْهُولَاتِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَضْبُطُونَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ بِالدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَمَلِيٌّ كَالتِّلِغْرَافِ الْهَوَائِيِّ أَوِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّذِي يَعْلَمُ الْمَرْءُ بِهِ بَعْضَ مَا يَقَعُ فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَجْوَازِ الْبِحَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أُلُوفٌ مِنَ الْأَمْيَالِ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنَ الْإِدْرَاكَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْخَفِيَّةِ كَالْفِرَاسَةِ وَالْإِلْهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِانْكِشَافِ لَوَائِحُ تَلُوحُ لِلنَّفْسِ لَا تَجْزِمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَمَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ صَاحِبُهُ لِاسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ يُشْبِهُ مَا يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ بَعْضُ الْمُمْتَازِينَ بِقُوَّةِ الْحَاسَّةِ، كَزَرْقَاءِ الْيَمَامَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَى عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهَا، أَوْ بِقُوَّةِ بَعْضِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ آنِفًا، وَأَظْهَرُ شُرُوطِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ قُوَّةُ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيَّةِ فِي النَّفْسِ لِذَلِكَ، وَتَوَجُّهُ النَّفْسِ إِلَى الْمَدَارِكِ تَوَجُّهًا قَوِيًّا لَا يُعَارِضُهُ اشْتِغَالُ قُوًى بِغَيْرِهَا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي حَالِ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوِ انْفِعَالٍ نَفْسِيٍّ قَوِيٍّ يَحْصُرُ هَمَّ النَّفْسِ كُلَّهُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) (9) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْجُزْءِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَفِيَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ لِخَفَاءِ أَسْبَابِهَا عَنْهُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهَا مِمَّا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ حَتَّى صَارَ مُعْتَادًا مِنْ أَهْلِهِ الْكَثِيرِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَارِقِ كَمَا قَالَ مُحْيِي

الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنَّا مَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى كَرَامَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِقْدَارِ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِلْمِيٌّ تَعْلِيمِيٌّ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا عَلَّمَهُ اللهُ لِلرَّسُولِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خَلْقٍ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ قُدْرَةً عَلَى هِدَايَةِ أَحَدٍ بِالْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (28: 56) وَلَوْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ لَجَعَلَهُ نُوحٌ - نَبِيُّ اللهِ - فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ اللهِ - فِي هِدَايَةِ أَبِيهِ آزَرَ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ مَوْضُوعِهَا رُؤْيَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ وَوَعَى بِقَلْبِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ تَعَالَى عَالَمَ الْغَيْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالرِّسَالَةِ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ فِي آخِرِ " سُورَةِ الْجِنِّ ": (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (72: 26 - 28) فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَتَنَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنِ ادِّعَاءِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَفْيِ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 188) . نَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِعْدَادَ لِعِلْمِهِ. (ثَانِيًا) إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يَجِدُهُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُظْهِرُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِذَا حُبِسَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةً وَلَا وَسِيلَةً كَسْبِيَّةً إِلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي فَتَرَاتِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ تَوَجُّهُ قَلْبِ الرَّسُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مُقَدِّمَةً لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي اسْتَشْرَفَ لَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلْنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (2: 144) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَلَكِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، هِيَ خُصُوصِيَّةٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهَا مِنْ عُلُومِ الرُّسُلِ الْكَسْبِيَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ

الْمَلَكِ مُتَمَثِّلًا بِصُورَةِ بَشَرٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ فَهُوَ سَبَبٌ عَامٌّ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَمَثَّلُ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ آيَةٍ لِنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيقٍ. فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْطَوْا عِلْمَ الْغَيْبِ بِحَيْثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ مِنْ عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطَوْا قُوَّةَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ، وَهِيَ مَا لَمْ يُمَكِّنِ الْبَشَرَ مِنْ أَسْبَابِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَلَا أَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِيَّةِ. كَمَا أَظْهَرَهُمْ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ. وَنَفْيُ ادِّعَاءِ الرَّسُولِ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ يَتَضَمَّنُ التَّبَرُّؤَ مِنِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ - كَمَا قِيلَ - أَوِ ادِّعَاءِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ وَهُوَ أَوْلَى وَيَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَاصٌّ بِالْإِلَهِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ لَهُ، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ بِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ؛ إِذْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا وَرَاءِ الْأَسْبَابِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ عِلْمُ الْغَيْبِ صِفَةً لَهُ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنْ وَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ بِهِمْ، وَعَنْ وَقْتِ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يُؤْتِ الرُّسُلَ مَا لَمْ يُؤْتِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَمَنْ عَلْمِ الْغَيْبِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ خَاصًّا بِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ - فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ دَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ هُمْ دُونَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةً وَكَرَامَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ، حَتَّى صَارُوا يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى لِمَا عَزَّ نَيْلُهُ بِالْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ " وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نَفْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانٌ لِكَوْنِ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى. فَضَلَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ وَجَعْلِهِمْ إِيَّاهَا شُعْبَةً مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَزَالُ مُنْتَشِرًا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ، حَتَّى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ الْقُرْآنِ الْمُتَبَرِّكِينَ بِجِلْدِ مُصْحَفِهِ وَوَرَقِهِ وَبِالتَّغَنِّي بِهِ فِي الْمَآتِمِ وَغَيْرِهَا، الْجَاهِلِينَ بِمَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِ رُبُوبِيَّتَهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ. دَعْ مَا دُونَ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، إِذْ نَرَى بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ فِي عُرْفِهِمْ وَعُرِفِ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِ الْقُرْآنِ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللهِ وَعَلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أَنَّهُ أَعَادَ فِيهِ " لَا أَقُولُ لَكُمْ " وَلَمْ يَعِدْهَا فِي نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ وَنَفْيَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللهِ يُؤَلِّفَانِ

التَّبَرُّؤَ مِنْ دَعْوَى وَاحِدَةٍ، هِيَ دَعْوَى الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا نَفْيُ ادِّعَاءِ الْمَلَكِيَّةِ فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ، فَأُعِيدَ الْعَامِلَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أَدَّعِي صِفَاتَ الْإِلَهِ حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ - وَهُوَ دُونُ مَا قَبْلَهُ - حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا جَعَلَهُ اللهُ فِي قُدْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، بَلِ ادَّعَيْتُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَوَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) أَيْ: مَا أَفْعَلُ مِنْ حَيْثُ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحِيهِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَنِي مِنْ تَبْلِيغِ دِينِهِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ آنِفًا - أَيْ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: هَلْ يَسْتَوِي أَعْمَى الْبَصِيرَةِ الضَّالُّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَلَا بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ، الْمُقَلِّدُ فِي ضَلَالِهِ وَجَهَالَاتِهِ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا عَقْلَ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِ، الْمُسْتَقِيمُ فِي سَيْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، يَجْعَلُ مَا يَرَى الْقَلْبُ أَوْضَحَ مِمَّا تَرَى الْعَيْنَانِ؟ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا أَنَّ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ وَبِصِيرِهِمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، فَكَأَيِّنْ مِنْ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ بَصِيرُ الْقَلْبِ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْدَى الْفُضَلَاءِ، وَكَأَيِّنْ مِنْ بَصِيرِ الْعَيْنَيْنِ أَعْمَى الْقَلْبِ هُوَ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ: (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) أَيْ فِي ذَلِكَ، فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ وَهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَتُفَرِّقُوا بَيْنَ صِفَاتِ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَصِفَاتِ الْإِنْسَانِ، وَتَعْقِلُوا حُجَّةَ الرِّسَالَةِ مِمَّا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَمَّ يُؤْتَهَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةِ الْبَيَانِ، وَالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْلَ الْآنِ. فَمَتَى كَانَ فِي قُدْرَةِ مِثْلِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاطِلًا مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ.! . هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فِيهِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْجَاهِلِينَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اسْتِنْبَاطِ الْمَذَاهِبِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَنَاقَشَهُمْ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِهِمْ، وَقَدْ قَرَّرَ الطُّوفِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِهِ " الْإِشَارَاتُ الْإِلَهِيَّةُ، إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ " عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) بِقَوْلِهِ: يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ ; وَلِذَلِكَ طَلَبُوا رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلَكٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَقَالَ:

أَنَا لَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ كَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الْمَلَكِ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ تَفْضِيلِ الْمَلَكِ، وَكُلُّ مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلِلْخَصْمِ مَنْعُ الْأُولَى. انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ، وَمُرَادُهُ بِمَنْعِ الْأُولَى مَنْعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى مِنَ الْقِيَاسِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصُّغْرَى، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ عَلَى التَّفْضِيلِ. وَقَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَيْ لَا أَدَّعِي مَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنْ مُلْكِ خَزَائِنِ اللهِ - وَهِيَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ أَرْزَاقَهُ وَعِلْمَ الْغَيْبِ - وَأَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً مِنْهُ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ إِلَهِيَّةً وَلَا مَلَكِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ مَنْزِلَةٌ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى تَسْتَبْعِدُوا دَعْوَايَ وَتَسْتَنْكِرُوهَا، وَإِنَّمَا أَدَّعِي مَا كَانَ مِثْلَهُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ. اهـ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي تَعَقُّبِهِ لَهُ: وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهُ، فَلِذَلِكَ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمُ الشُّئُونَ الْبَشَرِيَّةَ عَلَى الرَّسُولِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْمَلَكِيَّةَ حَتَّى يُسْتَنْكَرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمَلَكِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلًا، وَقَدْ أَرَادَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِالْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (4: 172) وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهَا وَمَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ فِي أَوَاخِرِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِمَا نُفِيَ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ. اهـ. وَاخْتَارَ أَبُو السُّعُودِ وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ كَوْنِ نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى اسْتِنْكَارِهِمْ أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَكْلِيفِهِمْ إِيَّاهُ نَحْوَ الرُّقِيِّ فِي السَّمَاءِ وَكَوْنِ هَذَا لَا يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَهَذَا الْجَوَابُ أَظْهَرُ مِمَّا نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى ابْنِ مَتَّى " فِي رَأْيٍ، بَلْ هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ. اهـ. وَمَا نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي.

وَإِذَا أُطْلِقَ الْقَاضِي عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ كَالرَّازِيِّ يَنْصَرِفُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْقَاضِي زَكَرِيَّا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ. كَالْأَلُوسِيِّ هُوَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوَاضُعِ بِنَفْيِ الْمَلَكِيَّةِ مُقْتَضِيًا تَفْضِيلَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ، وَمَا نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا ضِدُّهُ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْمَقَامِ الْفَرْقَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ هُنَا مِنْ نَفْيِ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ إِلَى نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ، وَالِانْتِقَالِ فِي آيَةِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " مِنْ عَدَمِ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ إِلَى نَفْيِ اسْتِنْكَافِ الْمَلَائِكَةِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الِانْتِقَالَيْنِ وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ؛ فَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِنْكَافِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرَ فِيهِ هُوَ الْأَعْلَى؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، وَمُقَامُ نَفْيِ الِادِّعَاءِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ لَا مَنْ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ قَدْ يَتَجَزَّأُ عَلَى مَا دُونِهَا وَلَا عَكْسَ، أَيْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَسَامَى إِلَى دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لَا يَتَسَامَى إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَوْلَى. هَذَا صَفْوَةُ مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي آدَمَ: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (17: 70) بَلْ لَقَالَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقْنَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ خَوَاصَّ الْمَلَائِكَةِ - كَالْمُقَرَّبِينَ - أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ كَوْنُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ مُسَخَّرِينَ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُنَا. وَإِنَّ النَّفْيَ هُنَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ بِكَسْبِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُونَ، وَيَعْلَمُ مَا يَعْلَمُونَ. وَالْأَشَاعِرَةُ لَا يُنْكِرُونَ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَا احْتَمَلُوهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُجْعَلَ مَحَلَّ الْقِيلِ وَالْقَالِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا أَصْلَيْنِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِهِمَا: قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ: (الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ، بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (53: 3، 4) .

(الْحُكْمُ الثَّانِي) : أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاتَّبِعُوهُ) (6: 153 - 155) وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى، وَالْعَمَلَ بِالْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ، ثُمَّ قَالَ: (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَلَّا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقَرَّ الرَّازِيُّ هُنَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَيَّدَهُمَا أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، وَلَمْ يُحَامِ عَنِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جُلَّ فِقْهِ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ غُلَاةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّرَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ (السَّابِعِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ عِنْدَ تَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) وَنَقُولُ هُنَا رَدًّا عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالنَّصِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ لَا حُكُومَةَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا أَحْكَامَ، وَحَيْثُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرِّسَالَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الرَّذَائِلِ وَعَمَلِ السُّوءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَقُولُ مُثْبِتُوا الِاجْتِهَادِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (4: 105) أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ فِيهِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَاجْتِهَادًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمَانِعِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا أَيْضًا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْمَنْعِ وَلَا الْإِثْبَاتِ [رَاجِعْ ص 322 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] وَبَيَّنَاهُ هُنَالِكَ أَنَّ آيَةَ النَّجْمِ خَاصَّةٌ بِالْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِالْوَحْيِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَقَدْ حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرُّهُ عَلَيْهِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْمَنْعِ لَا يَحْصُرُونَ الْوَحْيَ فِي الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ مَبْنِيًّا عَلَى إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالِاجْتِهَادِ - يَكُونُ مُتَّبِعًا فِيهِ لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْقِيَاسِ: إِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ، وَثُبُوتُهُ فِي السُّنَّةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، إِذْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ

51

الْمَنْصُوصَ عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِيهِ - وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا - وَأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ النُّصُوصِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَرَاجِعْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ " سُورَةِ الْمَائِدَةِ ". (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذَا الْإِنْذَارِ الْخَاصِّ بَعْدَ أَمْرِهِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِفَهْمِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِنَذْرِ الرَّسُولِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (35: 18) وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (36: 11) أَيْ: وَأَنْذِرْ بِمَا يُوحَى إِلَيْكَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ، الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، أَيْ: يَخَافُونَ شِدَّةَ وَطْأَةِ الْحَشْرِ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي يَوْمٍ (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (2: 254) (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) وَكُلٌّ يَأْتِيهِ فِيهِ فَرْدًا لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَنْصُرُهُ، وَلَا شَفِيعٌ يَدْفَعُ عَنْهُ، إِذْ أَمْرُ النَّجَاةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَرْضَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ تَعَالَى اهْتِدَاءً بِإِنْذَارِكَ، وَيَتَحَرَّوْا مَا يُؤَدِّي إِلَى مَرْضَاتِهِ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقْوَاهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّفَعَاءِ؛ لِصِحَّةِ تَوْحِيدِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (1: 3) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) وَأَنَّ نَجَاتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِانْتِفَاعِهِمْ بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ، أَوِ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَهُمْ، كَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَهِلُوا أَنَّ مَدَارَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى تَزَكِّي النَّفْسِ وَطِهَارَتِهَا بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا رِضَاءُ اللهِ عَنْهَا لَا عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ النَّفْسِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهَا. هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ أُخْرَى، بَلْ بِجُمْلَةِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَأْثُورِ، وَهَاكَ نَصُّ عِبَارَتِهِ: أَيْ: وَأَنْذِرْ بِالْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (لَيْسَ لَهُمْ) أَيْ يَوْمَئِذٍ (مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) أَيْ لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ

أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِهِ. اهـ. فَالْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ وَيَرْجُونَهُ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي صُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ نَافِيَةً لِلشَّفَاعَةِ عَنْهُمْ لَجَأَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْخَلَفِ إِلَى تَأْوِيلِهَا،، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ " لِأَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللهِ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى " قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ فِيهَا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَاحَوْلَهَا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ بِدَلَائِلِ الْعُمُومِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَيَثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ لِآلِهَتِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا لَهُمُ التَّمَاثِيلَ وَالْأَصْنَامَ، كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَقَالَ بِالْبَعْثِ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَلَا يَعْقِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ هَذَا الشَّاذِّ النَّادِرِ. وَلَكِنَّ أَبَا السُّعُودِ تَنَطَّعَ فِي التَّأْوِيلِ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ هُنَا مُوَجَّهٌ " إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ التَّأَثُّرُ فِي الْجُمْلَةِ وَهُمُ الْمُجَوِّزُونَ مِنْهُمْ لِلْحَشْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي سَوَاءٌ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَصْلِهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَرِفِينَ بِالْبَعْثِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي شَفَاعَةِ آبَائِهِمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْأَوَّلِينَ، أَوْ فِي شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ كَالْآخَرِينَ، أَوْ مُتَرَدِّدِينَ فِيهِمَا مَعًا كَبَعْضِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْبَعْثِ يَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْحَشْرِ رَأْسًا، وَالْقَائِلُونَ بِهِ الْقَاطِعُونَ بِشَفَاعَةِ آبَائِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ، فَهُمْ خَارِجُونَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: هُمُ الْمُفَرِّطُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُسَاعِدُهُ سِبَاقُ النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَلَا سِيَاقُهُ، بَلْ فِيهِ مَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَةِ صِحَّتِهِ، كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ " - هَذِهِ عِبَارَتُهُ - وَقَدْ جَعَلَ جُمْلَةَ (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) حَالًا مِنْ ضَمِيرِ (يُحْشَرُوا) قَالَ: " وَالْمَعْنَى: أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا غَيْرَ مَنْصُورِينَ مِنْ جِهَةِ أَنْصَارِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمِنْ هَذَا اتَّضَحَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْخَائِفِينَ الْمُفْرِّطِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ سِوَاهُ تَعَالَى يَخَافُونَ الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَخَافُونَهُ الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ " انْتَهَى. وَقَدْ لَخَّصَ كَلَامَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " وَقَالَ: " هُوَ تَحْقِيقٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَيَصْغُرُ لَدَيْهِ مَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَلَعَلَّ

52

مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا فَتَدَبَّرْ " انْتَهَى. وَمُرَادُهُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَبْرِ وَالْحَسَنِ هُوَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَنَقُولُ: قَدْ تَدَبَّرْنَا الْكَلَامَ فَوَجَدْنَا أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّيْتَهُ تَحْقِيقًا تَنَطُّعٌ وَتَكَلُّفٌ بَعِيدٌ عَنْ سِبَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَلَوْلَا إِعْجَابُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ وَاعْتِمَادُكَ عَلَيْهِ فِي حَلِّ تَفْسِيرِكَ لَمَا خَفِيَ عَنْ ذِهْنِكَ الْمُنِيرِ تَكَلُّفُهُ هَذَا الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمَأْثُورَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ الْمُوَافِقِ لِلْحَالِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ، فَجَعَلَ الْإِنْذَارَ مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُذَّاذِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا حَاجَةَ فِي حَالِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْمُفَرِّطِينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مُفَرِّطٌ وَلَا مُقَصِّرٌ، بَلْ كُلُّهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ مُشَمِّرٌ، فَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَأَثْبَتَ فِي كِتَابِهِ رِضَاءَهُ عَنْهُمْ. وَالْمَأْثُورُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنْذَارِهِمْ هُمُ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَنْحَنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَأُنْزِلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (55) وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَشَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَبْيَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَرَظَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافِ الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ طَرَدَ عَنَّا هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ، فَإِنَّهُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا - كَانَ لَهُ أُعْظَمَ فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمِ بِالشَّاكِرِينَ) قَالَ: وَكَانُوا بِلَالًا، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَأَشْبَاهُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاعْتَذَرَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) (54) الْآيَةَ. هَذَا أَقْوَى مَا أَوْرَدَ

54

السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَاخْتَصَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا نُزُولُ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنُ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ بَعْضُهُمْ وَبَيَّنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ إِنْ كَذَا نَزَلَ فِي كَذَا يُصَدَّقُ بِنُزُولِهِ وَحْدَهُ وَبِنُزُولِهِ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ سِيَاقٍ مِنْ سُورَةٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا زَادَهُ عِكْرِمَةُ مِنْ نُزُولِ (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) فِي عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بَعْدَ اعْتِذَارِهِ، وَأَنَّ اعْتِذَارَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ مَا قَبْلَهَا. وَيُعَارِضُ هَذَا الظَّاهِرَ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتُثْنِيَ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَيْضًا وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِمَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا لَمْ نَرُدَّ الرِّوَايَةَ مِنْ أَصْلِهَا مَعَ أَنَّ فِي سَنَدِهَا مِنَ الْمَقَالِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَاتِ الْأُولَى فِي ضُعَفَاءِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاقِعُ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ مَبْنِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ، يُؤَيِّدُ فِيهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَا يَضُرُّ فِي مَثَلِهِ ضَعْفُ الرَّاوِي بِبِدْعَةٍ أَوْ بِتَدْلِيسٍ أَوْ تَحْدِيثٍ بَعْدَ اخْتِلَاطٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي فِي رِجَالِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. أَمَّا كَوْنُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَمَعْلُومٌ مِنَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنْ أَوَّلَ أَتْبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَتْبَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الرُّسُلِ - صَلَّى الله عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَأَعْدَائِهِمْ هُمُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ السَّابِقَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَذُمُّونَهُمْ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعْذُورِينَ أَوْ مُحِقِّينَ بِعَدَمِ رِضَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُسَاوَاتِهِمْ، وَتَارَةً يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرُّسُلِ طَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ سَبَأٍ ": (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 34، 35) وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ هُودٍ " حَاكِيًا قَوْلَ الْمَلَأِ، أَيِ الْأَشْرَافِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) (11: 27) وَقَوْلُهُ لَهُمْ: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَفَلَا تَذَكُّرُونَ) (11: 29، 30) وَقَدْ حَكَى الله عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (46: 11) وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ " سُورَةِ مَرْيَمَ ": (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (19: 73، 74) . وَمَعْنَى الْآيَةِ هُنَا: وَلَا تَطْرُدْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ

بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَآخِرِهِ أَوْ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّهُ يُكَنَّى بِطَرَفَيِ الشَّيْءِ عَنْ جُمْلَتِهِ، يُقَالُ: يَفْعَلُ كَذَا صَبَاحًا وَمَسَاءًا إِذَا كَانَ مُدَاوِمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ حَقِيقَتَهُمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ صَلَاتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي الصَّبَاحِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَسَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتَا الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ; وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ الْحَقِيقِيَّ وَالصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَيْهِ، وَالْغَدَاةُ وَالْغُدْوَةُ كَالْبُكْرَةِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَشِيِّ آخِرُ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (بِالْغُدْوَةِ) بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَيُسَاعِدُهُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ فِيهِ بِالْوَاوِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْغَدَاةِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَقَلْبِ الْوَاوِ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا حَسَبَ الْقَاعِدَةِ. وَاسْتُعْمِلَتْ " غُدْوَةٌ " بِالضَّمِّ - بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ التَّنْوِينِ كَبُكْرَةٍ، وَمُعَرَّفَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا نَقَلَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ، فَإِذَا نُوِّنَتْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ يَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا لَمْ تُنَوَّنْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ مُعَيَّنٍ، وَلَعَلَّ الْأَكْثَرَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ ظَنَّ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ يَثْبُتُ بِهَا تَعْرِيفُ الْغُدْوَةَ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ، بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا خَطَأٌ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الرَّسْمِ فَخَطَّأَ مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ، وَحَسْبُكَ فِي تَخْطِئَتِهِ هُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلِ الْخَلِيلُ وَكَذَا الْمُبَرِّدُ تَعْرِيفَهَا عَنِ الْعَرَبِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَنْعَ صَرْفِ (غُدْوَةَ وَبُكْرَةَ) لِلْعَلَمِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ " يَدْعُونَ "، أَيْ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ مُرِيدِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَجْهَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُبْتَغِينَ مَرْضَاتَهُ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا، وَلَا يَرْجُونَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ثَوَابًا، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مَدْحًا وَلَا نَفْعًا، فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الرِّيَاءِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُطْعِمِينَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا 76: 9) وَكَمَا قَالَ فِي الْأَتْقَى الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ لِيَتَزَكَّى بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا لَدَيْهِ: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (92: 19 - 21)

وَلَعَلَّ أَصْلَ ابْتِغَاءِ الْوَجْهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لِيُوَاجِهَ بِهِ مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ، فَيَعْتَنِي بِإِتْقَانِهِ مَا لَا يَعْتَنِي بِإِتْقَانِ مَا يَعْمَلُ لِيُرْسَلَ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحِظَ الْعَامِلُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ يَرَاهُ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْهَا مَا لَا يَرَوْنَهُ الْبَتَّةَ كَأَنْ يَكُونَ لِمَا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخِدْمَةِ فِي قُصُورِهِمْ، وَمِنْهَا مَا يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً إِجْمَالِيَّةً مَعَ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْهَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهِمْ عُمَّالُهُمْ وَحُجَّابُهُمْ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَعْرِضُهُ الْعَامِلُ بِنَفْسِهِ وَيُقَابِلُ وَجْهَ الْمَلِكِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي يُعْتَنَى بِهِ أَكْمَلَ الِاعْتِنَاءَ، وَلَا يُفَكِّرُ الْعَامِلُ لَهُ فِي وَقْعِهِ عِنْدَ الْحُجَّابِ أَوِ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ بِطَانَةِ الْمَلِكِ أَوْ حَاشِيَتِهِ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَيَلْقَاهُ بِهِ، فَيَكُونُ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي جَعْلِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ، جَدِيرًا بِقَبُولِهِ وَحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ. وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ جَعْلِ ابْتِغَاءِ اللهِ تَعَالَى مُنَافِيًا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ أَوِ ابْتِغَاءِ وَجْهِهِ، فَالْحَقُّ أَنْ لَا مُنَافَاةَ، وَأَنَّ الْكَمَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الذَّاتِ الَّتِي يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَجْهَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الرِّضَاءِ وَلَا الثَّوَابِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي لَا يَسْهُلُ إِثْبَاتُ إِمْكَانِهَا وَلَا مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلَا يُنْكَرُ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْوَالِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَنْحَصِرُ تَخَيُّلُهُمْ فِيهَا، حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَصَاحِبُ تِلْكَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الذَّاتِ، وَلَا يَعْقِلُ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ لَهَا، نَعَمْ إِنَّ مِنَ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ النَّجَاةَ مِنْ عِقَابِ النَّارِ أَوِ الْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَحْمُودٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا؛ لِتَكُونَ أَهْلًا لِلِقَاءِ اللهِ، وَمَحَلًّا لِمَرْضَاتِهِ وَثَوَابِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَأَعْلَى الثَّوَابِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، وَكَمَالُ الْعِرْفَانِ وَالْعِلْمِ بِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، بِلَا كَيْفَ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَدْ قَرَّبْنَا هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِيَ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنَ الْمَنَارِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ. (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) أَيْ مَا عَلَيْكَ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، لَا عَلَى دُعَائِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ - كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ - وَإِلَّا فَظَاهِرُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ عُمُومُهُ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِكَ عَلَى أَعْمَالِكَ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَوْ ذَاكَ طَرْدُكَ إِيَّاهُمْ بِإِسَاءَتِهِمْ فِي عَمَلِهِمْ أَوْ مُحَاسَبَتِكَ عَلَى عَمَلِكَ، فَإِنَّ الطَّرْدَ جَزَاءٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ سَيِّئٍ يَسْتَوْجِبُهُ، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحِسَابٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِلرُّسُلِ وَلَا أَعْمَالُهُمُ الدِّينِيَّةِ لَهُمْ، بَلْ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ لَا أَوْجُهَ الرُّسُلِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَيْهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ هُدَاةٌ مُعَلِّمُونَ، لَا أَرْبَابٌ وَلَا مُسَيْطِرُونَ (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (88: 21، 22) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرُّسُلِ حَقُّ السَّيْطَرَةِ عَلَى النَّاسِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ

فَلَيْسَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَقُّ بِالْأَوْلَى، وَالْمَأْثُورُ عَنِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُسَمَّى مُعَلِّمًا، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ فِي عَهْدِهِ كَانُوا يُسَمَّوْنَ تَلَامِيذَ. وَأَمَّا أَتْبَاعُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ اخْتَارَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْأَصْحَابِ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ تَوَاضُعًا، عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ الْكَامِلَةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَاوٍ فِي أَحْكَامِهَا لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ وَيَحِلُّ وَيُحْرُمُ وَيُبَاحُ وَيُكْرَهُ إِلَّا مَا خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعْهَدُ النَّاسُ مِنِ امْتِيَازِ الْمُلُوكِ عَلَى الرَّعَايَا مِنْ أُمُورِ الْأُبَّهَةِ وَالزِّينَةِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ شَاقَّةٌ لَا يَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ بِهَا غَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ مَا يَتْرُكُهُ صَدَقَةٌ لِلْأُمَّةِ لَا إِرْثًا لِذَرِّيَّتِهِ، وَكَفَالَتِهِ عِدَّةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَرَامِلِ أَكْثَرُهُنَّ مُسِنَّاتٌ يُسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ عَائِشَةَ الْجَمِيلَةِ الصُّورَةِ الْبَارِعَةِ الذَّكَاءِ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ وَذَاتِ يَدِهِ (وَحِكْمَةُ تَعْدُدِهِنَّ قَدْ فَصَلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَوَّلِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " [رَاجِعْ ص 287 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ زِدْنَاهَا بَيَانًا فِي الْمَنَارِ) . وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحِسَابُ عَلَى الرِّزْقِ إِذْ زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ مَا آمَنُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ عِنْدَهُ رِزْقًا، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ رِزْقِهِمْ وَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ رِزْقِكَ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَرْزُقُكُمُ اللهُ جَمِيعًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْأَوَّلُ مَنْقُولٌ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ طَعَنُوا فِي إِيمَانِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْكَيْدَ؛ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَّ سَائِرِ الضُّعَفَاءِ عَنْهُ بِأَنَّ عَاقِبَتُهُمُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، كَمَا يَصُدُّونَ الْأَقْوِيَاءَ وَالْكُبَرَاءَ بِإِثَارَةِ الْحَمِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِبَعْضِ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْكِرَامِ لِاحْتِقَارِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِسْلَامِهِمْ، قَبْلَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ فِتْنَتِهِمْ، فَقَدْ فَتَنُوهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الشِّرْكِ كَالْجُوعِ وَالْحَبْسِ، وَالضَّرْبِ، بَلْ كَانُوا يَكْوُونَ بَعْضَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا فَعَلُوا بِآلِ يَاسِرٍ، أَوْ بِوَضْعِهِمْ عُرَاةَ الْأَبْدَانِ عَلَى الرَّمْلِ الْمُحْمَّى بِهَجِيرِ الصَّيْفِ كَمَا فَعَلُوا بِبِلَالٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جَوَابٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الطَّرْدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ قَبْلَهُ: (فَتَطْرُدَهُمْ) فَهُوَ جَوَابٌ لِنَفْيِ الْحِسَابِ تَنْتَهِي بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ الْمُعَلِّلَةُ لِعَدَمِ جَوَازِ الطَّرْدِ بِبِنَاءِ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِ سَبَبِهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَطْفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ إِيرَادَاتٍ أُجِيبَ عَنْهَا بِسُهُولَةٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْأَوَّلِ جَوَابَ النَّهْيِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ مَا لَا يُجَابُ عَنْهُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَا تَطْرُدْ هَؤُلَاءِ فَتَكُونَ بِطَرْدِكَ إِيَّاهُمْ مِنْ جِنْسِ الظَّالِمِينَ وَمَعْدُودًا فِي زُمْرَتِهِمْ ; لِأَنَّ طَرْدَهُمْ لَا يَكُونُ حَقًّا وَعَدْلًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى إِسَاءَتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِمَنْ لَهُ حَقُّ حِسَابِهِمْ

57

وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ، فَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ 26: 113) فَوَجْهُ الْكَوْنِ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنَّ الطَّرْدَ لَوْ حَصَلَ يَكُونُ حُكْمًا غَيْرَ جَائِزٍ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ لِذَاتِهِ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (57) وَاللهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَائِزٌ فِي مَوْضُوعِهِ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ فِي صُورَتِهِ وَشَكْلِهِ ; إِذْ هُوَ ظُلْمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقُرْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَظُلْمٌ لِنَفْسِ الْحَاكِمِ - وَحَاشَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ - لِأَنَّهُ يُنَافِي مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ ظُلْمًا مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ: (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: فَتَظْلِمَهُمْ، أَوْ: فَتَكُونَ ظَالِمًا، أَوْ: فَيَكُونُوا مِنَ الْمَظْلُومِينَ. وَالْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ وَظَائِفِ الرَّسُولِ مِنَ الْجِهَةِ السَّلْبِيَّةِ ; إِذْ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ حِسَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا جَزَاءَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْكَوْنِ، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَلِكًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهَا التَّشْدِيدُ فِي تَنْفِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَالتَّلَهِّي عَنِ الْأَعْمَى (عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) لَمَّا جَاءَهُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَصَدٍّ لِدَعْوَةِ بَعْضِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ، طَامِعٍ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَخَافَ أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى ذَلِكَ الْأَعْمَى الْفَقِيرِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (80: 1) وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ "، وَقَدِ اغْتَرَّ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مُنْكَرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوُجِدَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا ; فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِنْ نَحْنُ جِئْنَا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: " نَعَمْ " قَالُوا: اكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الْآيَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِهِ لِسَنَدِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَسْلَمَ قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَرَّحَ الْحَافِظُ

الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي السِّيَرِ. وَأَمَّا عُيَيْنَةَ فَقَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الرَّجُلَانِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ، بَلْ كَانَا مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَلَمَّا أَسْلَمَا كَانَا مِنْ صِنْفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمَا ذَكَرَا قُدُومَ الْوُفُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ، بَلْ كَانَ النَّاسُ فِيهَا يَصُدُّونَ عَنْهُ صُدُودًا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ عُمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إِجَابَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَوْ مَعَ الْقَصْدِ الْحَسَنِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: (كَلَّا) فِي " سُورَةِ عَبَسَ "، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ نَفِيِ مِلْكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَرْدِهِمْ يَتِمُّ بِنَفْيِ كَوْنِهِ يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ حِسَابِهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لَا يَظْهَرُ لَهَا دَخْلٌ فِي التَّعْلِيلِ. وَيُجَابُ عَلَى طَرِيقَتِنَا بِأَنَّ طَرْدَ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ أَوِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُحَاسَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ حَاسَبَ ضَعِيفًا عَلَى عَمَلٍ وَجَازَاهُ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ، وَكَمْ مِنْ ضَعِيفٍ حَاسَبَ قَوِيًّا عَلَى حَقِّهِ وَطَالَبَهُ بِهِ، أَوْ عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ أُمَّتِهِ فَطَرَدَهُ الْقَوِيُّ لِمُنَاقَشَتِهِ إِيَّاهُ الْحِسَابَ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حِسَابِ الْآخَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا، عُلِمَ أَنَّ الْقَوِيَّ مِنْهُمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي طَرْدِ الضَّعِيفِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَا يَكُونُ طَرْدُهُ إِيَّاهُ - إِنْ وَقَعَ - إِلَّا ظُلْمًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْكَلَامِ الْمُرَادِ بِهِ الْهِدَايَةُ وَالْإِرْشَادُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِلرَّسُولِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمْ، لَا مِنْ حَقِّ رَسُولِهِمْ - بَيَّنَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَلَا الْعَامَّةِ كَتَبْلِيغِ الدِّينِ وَبَيَانِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَفَعَلَ، كَمَا جَعَلَ حَقَّ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ وَرَعِيَّتُهُمْ، فَالْإِمَامُ (السُّلْطَانُ) رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ كَمَا يُحَاسِبُ هُوَ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْعُمَّالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُحَاسِبَ الرَّسُولَ عَلَى سِيَاسَتِهِ أَوْ تَبْلِيغِهِ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنْ لِلرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ عَلَى مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِمَا يَكُونُونَ أُمَّةً مُقَيَّدَةً فِي أَعْمَالِهَا الدِّينِيَّةِ بِشَرِيعَةِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمُومَ النَّفْيِ فِيهَا قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ خُصُوصُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَهُوَ مُحْكَمٌ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نُكْتَةِ ضَمِّ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى: قَدْ جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقُصِدَ بِهِمَا مُؤَدًّى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (164) وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ. اهـ. أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ مِنْكُمَا بِحِسَابِ الْآخَرِ.

وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَمَّ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ انْتِفَاءِ كَوْنِ حِسَابِهِمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَظْمِهِ فِي سِلْكِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَهُوَ انْتِقَاءُ كَوْنِ حِسَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) . اهـ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلَالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ كَعَادَتِهِ وَلَمْ يَعْزُ الْكَلَامَ إِلَيْهِ هُنَا. وَلَعَلَّ الْمُتَأَمِّلَ يَرَى أَنَّ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقِيقِيُّ بِجَلَالِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْكَلَامِ - مَبْنِيٌّ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَقَائُهُ مُحْكَمًا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَتَقْدِيمُ خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: لِلتَّشْرِيفِ لَهُ - عَلَيْهِ أَشْرَفُ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ - وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ، بِتَقْدِيمِ عَلَى وَمَجْرُورِهَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنَّ تَقْدِيمَ عَلَيْكَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِلْقَصْدِ إِلَى إِيرَادِ النَّفْيِ عَلَى اخْتِصَاصِ حِسَابِهِمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ هُوَ الدَّاعِي إِلَى تَصَدِّيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحِسَابِهِمْ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْأَهَمُّ فِي الْأَوَّلِ النَّفْيُ، وَفِي الثَّانِي الْمَنْفِيِّ، أَعْنِي الْأَهَمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ عَمَلٍ لَهُ (وَهُوَ الطَّرْدُ) مُتَرَتِّبٌ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي تَعْلِيلًا لِعَمَلٍ لَهُمْ لَقَالَ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ فَيَطْرُدُوكَ، وَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ يُغْنِي عَنِ التَّفْصِيلِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَهِيَ سَيْطَرَةُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَعُقَابُ مَنْ يَرَوْنَ عِقَابَهُ مِنْهُمْ حَتَّى بِالطَّرْدِ مِنَ الدِّينِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَيَجِبُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمِلَلِ أَنْ يَعْتَرِفَ كُلُّ مُكَلَّفٍ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِلرَّئِيسِ الدِّينِيِّ بِأَعْمَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَلِلرَّئِيسِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى تَتْبَعُ مَغْفِرَتِهِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أَوْجَبَ طَاعَتَهُ حَقَّ مُحَاسَبَةِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهَا، وَلَا حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنْ حَضْرَتِهِ - دَعْ حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنَ الدِّينِ - فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مِثْلُ هَذَا الْحَقِّ؟ ! وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَلَّا يَجُوزَ لِرُؤَسَاءِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِمْ - عِقَابُ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَعْضِ الدُّرُوسِ فَضْلًا عَنْ طَرْدِهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَحِرْمَانِهِ مَنْ تَلَقِّي الدِّينِ وَالْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى نِظَامٍ لَا لِأَجْلِ الِانْتِقَامِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

تَأْلِيفُ قُلُوبٍ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ حَتَّى بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازِهِ، بَلْ كَانَ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ إِسْلَامِهِمْ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ طَرْدِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ مِنْ إِسْلَامِهِمْ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْبَلَاءُ الْمُبِينُ؟ . (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفِتَنُ - أَيِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الْعَظِيمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّظْمُ الْكَرِيمُ بِمَعُونَةِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعَلْنَا - بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ - بَعْضَهُمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِهَا فِي الْعَادَةِ، كَمَا يَظْهَرُ لِلصَّائِغِ حَقِيقَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَفْتِنُهُمَا بِالنَّارِ أَوْ بِعَرْضِهِمَا عَلَى الْفَتَّانَةِ (حَجَرُ الصَّائِغِ) (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) أَيْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْفَتْنِ أَنْ يَقُولَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فِي شَأْنِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: أَهَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْمَوَالِي وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ فَخَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ جُمْلَتِنَا وَمَجْمُوعِنَا أَوْ مِنْ دُونِنَا؟ الْمَنُّ: الْإِثْقَالُ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَوْ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفَضَّلُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا لَمَنْحَهُمْ إِيَّاهُ دُونَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ قَبْلَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالثَّرَاءِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْقِيَاسِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (43: 31) إِلَخْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ عَظِيمٍ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، أَوْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ مِنَ الطَّائِفِ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِعَظِيمِ مَكَّةَ أَبُو جَهْلٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْحَمْلِيِّ كَثِيرَةٌ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ لِبِنَائِهِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْحَقِيقِيَّ بِمَنِّ اللهِ وَزِيَادَةِ نِعَمِهِ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَهَا قَدْرَهَا، وَيَعْرِفُونَ حَقَّ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَيَشْكُرُونَهَا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ وَتُنَالُ مَرْضَاتُهُ - لَا مَنْ سَبَقَ إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَفَرُوا وَبَطَرُوا، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِهِ، وَاسْتَكْبَرُوا بَلْ هَؤُلَاءِ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ النِّعَمُ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا تُنْزَعُ مِمَّنْ أُوتِيهَا، بَلْ تُزَادُ وَتُضَاعَفُ لَهُ وَإِنْ كَفَرَ بِهَا، وَإِذًا لَمَا افْتَقَرَ غَنِيٌّ، وَلَا ضَعُفَ قَوِيٌّ، وَلَا ذَلَّ عَزِيزٌ وَلَا ثُلَّ عَرْشُ أَمِيرٍ، وَهَلِ الْحَقُّ

الْوَاقِعُ إِلَّا خِلَافَ هَذَا؟ وَهَلْ فُتِنَ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءُ إِلَّا بِالْوَاقِعِ لَهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالْقُوَّةِ، فَظَنُّوا لِقِصَرِ نَظَرِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ بِحَاضِرِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِسُنَّةِ اللهِ فِي أَمْثَالِهِمْ - أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرِيمًا لِذَوَاتِهِمْ، وَتَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحْسَبُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَهُ عَلَى رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (41: 50) وَأَنْزَلَ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ طُغَاةِ قُرَيْشٍ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) (19: 77) أَيْ فِي الْآخِرَةِ - الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِهَذَا الْقِيَاسِ: لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ. وَقَدْ كَشَفَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْغُرُورَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَضَرَبَ لِأَصْحَابِهِ الْأَمْثَالَ كَمَثَلِ ذِي الْجَنَّتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَزَجَرَ أَهْلَهُ وَأَضْدَادَهُمْ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ، وَفَصَّلَ لَهُمُ الْحَقِيقَةَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، بِقَوْلِهِ: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ) (17: 20) . وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، مَا اغْتَرُّوا بِهِ، وَلَا يَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الضَّعْفِ الَّذِي صَبَرُوا عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَنْعَكِسَ الْحَالُ، فَيُسْلَبُ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مَا أُعْطُوا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَالِ، وَتَدُولُ الدَّوْلَةُ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَفَّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلشُّكْرِ وَهُوَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ (وَإِذْ تَأْذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14: 76) وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ وَعْدُ الرَّحْمَنِ وَظَهَرَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ تَعَالَى مِنْ بَيَانٍ، وَإِنَّنَا نَرَى النَّاسَ عَنْ هِدَايَتِهِ غَافِلِينَ، وَبِوُجُوهِ إِعْجَازِهِ جَاهِلِينَ، حَتَّى إِنَّ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَتِنُ بِشُبْهَةِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الدَّاحِضَةِ، فَيَجْعَلُهَا حُجَّةً نَاهِضَةً؛ تَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ، جَاهِلِينَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ الصَّحِيحَةَ فِي شُكْرِ النِّعَمِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ لَا فِي أَعْيَانِ النِّعَمِ الَّتِي تُرَى فِي الْيَدِ. فَرُبَّ غَنِيٍّ شَاكِرٌ، وَرَبَّ فَقِيرٍ صَابِرٌ، وَكَمْ مِنْ مُنَعَّمٍ سُلِبَ النِّعْمَةَ بِكُفْرِهَا، وَكَمْ مِنْ مَحْرُومٍ أُوتِيَ النِّعَمَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِشُكْرِهَا، ثُمَّ زِيدَتْ بِقَدْرِ شُكْرِهِ لَهَا، وَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ أَضْعَفَهُ اللهُ بِبَغْيِهِ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ وَعَدْلِهِ. هَذَا وَإِنَّ ظَاهِرَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَفْتُونِينَ يَدُلُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فَتَنَّا كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ - أَيِ اخْتَبَرْنَا بِهِ حَالَهُمْ فِي كَوْنِ تَرْكِهِمْ لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا جُحُودًا نَاشِئًا عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، لَا عَنْ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ مِمَّا يُظْهِرُونَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ لَمْ يَفْتَتِنُوا بِغِنَى كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقُوَّتِهِمْ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ

الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فُتِنُوا وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ تَحْكِ شَيْئًا عَنْ لِسَانِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاخْتِبَارِ الْعَامِّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (25: 20) أَيْ جَعَلْنَا كُلًّا مِنْكُمُ اخْتِبَارًا لِلْآخَرِ فِي اخْتِلَافِ حَالِهِ مَعَهُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، أَوِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَوِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - هَذَا يَحْتَقِرُ هَذَا وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَهَذَا يَحْسُدُ هَذَا وَيَكِيدُ لَهُ. فَاصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ إِلَّا الصَّابِرُونَ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ. (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَمِّمَتَانِ لِلسِّيَاقِ فِيمَا قَبْلَهُمَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِرْشَادِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِيَاسَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْ طَرْدِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ اسْتِمَالَةً لِكُبَرَاءَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَطَمَعًا فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ وَسَمَاعِهِمْ لِدَعْوَتِهِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ - كَمَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَلْقَاهُمْ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبُ نُزُولِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ اسْتَحْسَنَ إِجَابَةَ أَشْرَافِ الْكُفَّارِ إِلَى اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ أَقْبَلَ فَاعْتَذَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبُولِ اعْتِذَارِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَنَّ رِوَايَاتِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ مُعَارِضَةٌ لَهَا. وَالْآنَ رَأَيْتُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ اسْتِشْكَالَ هَذَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي زِيَادَةِ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَيُعَارِضُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ جُلُّ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مَاهَانَ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) الْآيَةَ فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَاهَانَ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً كَرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فِي مُعَارَضَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَاهَا عَلَى مَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي عُمَرَ وَحْدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَلَا فِيمَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ مَاهَانَ - وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّةَ الرِّوَايَتَيْنِ - وَلَا فِيمَنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اقْتُرِحَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرْدُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِيهَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَهَذَا مَا تُفْهِمُهُ عِبَارَتُهَا، وَمَا سِوَاهُ فَمُتَكَلَّفٌ لِتَطْبِيقِهِ عَلَى الرِّوَايَاتِ. وَبَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ فِيهَا وَفِيمَا قَبْلَهَا، كَانَ أَوَّلُ مَا تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ آنًا بَعْدَ آنٍ، عَنْ بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا مَنْ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَغَيْرُهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ " يُؤْمِنُونَ " يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِيمَانِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ آمَنُوا فِي الْمَاضِي إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ - كَمَا يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَحْيَانًا لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ - كَإِرَادَةِ تَصْوِيرِ مَا مَضَى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ الْآنِ، أَوْ إِفَادَةِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورًا بَيِّنًا يُرَجِّحُ صَرْفَ الْفِعْلِ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّأْنِ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَيُرَجِّحُ الْأَصْلُ هُنَا تَطْبِيقَ السِّيَاقِ عَلَى حَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْآيَاتِ أَتَمَّ الظُّهُورِ. كَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ كَافِرِينَ، إِمَّا كَفْرُ جَحُودٍ وَعِنَادٍ، وَإِمَّا كُفْرُ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ، وَكَانَ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ تَارَةً مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُرْشِدُهُمْ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَدْعُوهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَكَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ لِلتَّعْجِيزِ، وَتَارَةً يُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ بِوُجُودِهِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ مَعَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ طَرَدَهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَرْشَدَهُ رَبُّهُ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الْقَوْلِيِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى أَنْ يُبَيِّنَ لِمُقْتَرِحِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ

الرَّسُولِ وَعِلْمُهُ كَقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلْمِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِأَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْذَارًا خَاصًّا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِكُلِّ إِنْذَارٍ، وَبِأَلَّا يَطْرُدَ مِنْ حَضْرَتِهِ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، بِبَاعِثِ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُعَامَلَتِهِمُ الْأَوْلَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (18: 28) فَبَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ حَسُنَ أَنْ يُرْشِدَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَيْءٍ فِي شَأْنِ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ الرَّسُولَ آنًا بَعْدَ آنٍ مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ - وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ تَنْفِيرَهُمْ وَحَاوَلُوا صَدَّهُمْ - فَأَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي سَلَامٍ وَأَمَانٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَهُوَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ سُوءًا بِجَهَالَةٍ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَمْحُوَ أَثَرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، قَالَ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) السَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، يُقَالُ: سَلِمَ فَلَانُ مِنَ الْمَرَضِ أَوْ مِنَ الْبَلَاءِ سَلَامًا وَسَلَامَةً، وَمَعْنَاهُمَا الْبَرَاءَةُ وَالْعَافِيَةُ، وَالسَّلَامُ وَالْمُسَالَمَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْضًا، يُقَالُ: سَالَمَهُ أَيْ بَارَأَهُ وَتَارَكَهُ، وَمِنْهُ تَرْكُهُ الْحَرْبَ. وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ نَقْصٍ، وَعَجْزٍ، وَفَنَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِ الْخَلْقِ وَضَعْفِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ السَّلَامُ فِي الْمُتَارَكَةِ وَفِي التَّحِيَّةِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً، يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَيُفِيدُ تَأْمِينَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَذًى يَنَالُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ آيَةُ الْمَوَدَّةِ وَالصَّفَاءِ، وَثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُحَيِّيهِمْ بِهَا رَبُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَمَلَائِكَتُهُ الْكِرَامُ وَيُحَيِّي بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ تَحِيَّةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ السِّلْمِ وَالْمُسَالَمَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (2: 208) وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا السَّلَامِ هُنَا: أَهْوَ تَحِيَّةٌ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ إِذَا جَاءُوهُ إِكْرَامًا خَاصًّا بِهِمْ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ الْعَامِّ - وَهُوَ كَوْنُ الْقَادِمِ هُوَ الَّذِي يُلْقِي السَّلَامَ - أَمْ هُوَ تَحِيَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهَا عَنْهُ، أَمْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُ تَعَالَى بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبِشَارَتِهِمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ رُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ عِكْرِمَةَ فَهُوَ، خَاصٌّ بِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَسَنِ، وَالثَّالِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَظْهَرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى حُجَجِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهَذِهِ

الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آيَةِ النَّهْيِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) . إِلَخْ. وَالْآيَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ فِيهَا ابْتِلَاءَ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَغْبَتَهُمْ فِي طَرْدِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) تَقَدَّمَ مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكِتَابَتُهَا إِيجَابُهَا عَلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا. فَالرَّحْمَةُ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ الْوَاجِبَةِ لَهَا لَا عَلَيْهَا، وَإِنَّ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلْبَشَرِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمَا آتَاهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْوَهْبِيَّةِ - لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ عِبَادِهِ بِهَا فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، بَلْ هِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا أَمْرٌ آخَرُ خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْخَلْقِ كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلِ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) إِلَخْ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ " أَنَّهُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " إِنَّهُ " بِكَسْرِهَا، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ؛ إِذْ ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَصِّ الْوَحْيِ، وَهُوَ حُكْمُ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يُعَامِلُهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِهَا، وَمَا هُوَ إِحْسَانٌ غَيْرُ مَكْتُوبٍ مِنْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا بِالنَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابَتِهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكَسْرِ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ النَّحْوِيِّ أَوِ الْبَيَانِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذِهِ الرَّحْمَةُ؟ أَوْ: مَا حَظُّنَا مِنْهَا فِي أَعْمَالِنَا؟ وَهَلْ مِنْ مُقْتَضَاهَا أَلَّا نُؤَاخَذَ بِذَنْبٍ، وَأَنْ يُغْفَرَ لَنَا كُلُّ سُوءٍ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ: إِنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ عَمَلًا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ وَتَأْثِيرُهُ لِضَرَرِهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِجَهَالَةٍ دَفَعَتْهُ إِلَى ذَلِكَ السُّوءِ، كَغَضَبٍ شَدِيدٍ حَمَلَهُ عَلَى السَّبِّ أَوِ الضَّرْبِ، أَوْ شَهْوَةٍ مُغْتَلِمَةٍ قَادَتْهُ إِلَى انْتِهَاكٍ عِرْضٍ، فَالْجَهَالَةُ هُنَا هِيَ السَّفَهُ وَالْخِفَّةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا الرَّوِيَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْجَهْلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْعِلْمُ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلِ السُّوءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا، فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَالضَّرَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ سُوءَ عَاقَبَتِهِ وَقُبْحَ تَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سُخْطِ رَبِّهِ وَعِقَابِهِ، ذَهَابًا مَعَ الْأَمَانِي وَاغْتِرَارًا بِتَأَوُّلِ النُّصُوصِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً فَهُوَ جَاهِلٌ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْ حَظِّكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) أَيْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ السُّوءِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ شَاعِرًا بِقُبْحِهِ، نَادِمًا عَلَيْهِ خَائِفًا مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَأَصْلَحَ

عَمَلَهُ بِأَنْ أَتْبَعَ الْعَمَلَ السَّيِّئَ التَّأْثِيرَ فِي النَّفْسِ عَمَلًا يُضَادُّهُ وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ مِنْ قَلْبِهِ، حَتَّى يَعُودَ إِلَى النَّفْسِ زَكَاؤُهَا وَطَهَارَتُهَا، وَتَصِيرَ كَمَا كَانَتْ أَهْلًا لِنَظَرِ الرَّبِّ وَقُرْبِهِ (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: فَشَأْنُهُ سُبْحَانَهُ فِي مُعَامَلَتِهِ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَغْفِرُ لَهُ مَا تَابَ عَنْهُ، وَيَتَغَمَّدُهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُسٌّ مِنْ إِسَاسِهِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهَا لِمَنْ يَدْخُلُونَ فِيهِ لِيَهْتَدُوا بِهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِمَغْفِرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَيَحْمِلَهُمُ الْغُرُورُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللهِ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَطْهِيرِهَا مِنْ إِفْسَادِ الذُّنُوبِ لَهَا، إِلَى أَنْ تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُقَرَّرَةِ لَهَا؛ تَارَةً بِالْإِيجَازِ، وَتَارَةً بِالْإِطْنَابِ، وَتَارَةً بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ أَوْسَعُ مَا كَتَبْنَاهُ فِيهَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَلِيمًا) (4: 17، 18) فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ [رَاجِعْ ص 361 - 370 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ، وَنَدَعُ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَتَجَادَلُونَ فِي كَوْنِ الْآيَةِ مُؤَيِّدَةً لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ غَيْرَ مُؤَيِّدَةٍ لَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ تَصْرِفُ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى لِبَيَانِهِمَا. وَقَدْ فَتَحَ هَمْزَةَ " فَأَنَّهُ " فِي الْآيَةِ مَنْ فَتَحَ هَمْزَةَ " أَنَّهُ " مِنَ الْقُرَّاءِ سِوَى نَافِعٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالْكَسْرِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ كَسْرَ الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الدَّانِي. (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ) أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْوَاضِحِ وَعَلَى نَحْوِهِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي بَيَانِ الْحَقَائِقِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا أَهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالْفِقْهِ الدَّقِيقِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبْرَةِ، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَظْهَرَ بِهَا طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ فَيَمْتَازُونَ بِهَا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عُمَرَ، وَيَعْقُوبَ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ " وَلِتَسْتَبِينَ " بِالتَّاءِ وَ " سَبِيلٌ " بِالرَّفْعِ - أَيْ وَلِتَظْهَرَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَتُعْرَفَ - وَالسَّبِيلُ يُؤَنِّثُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَيُذَكِّرُهُ بَنُو تَمِيمٍ، وَجَاءَ التَّنْزِيلُ بِاللُّغَتَيْنِ - وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّاءِ وَنَصَبَ السَّبِيلَ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ وَلِتَتَبَيَّنَ أَيُّهَا الرَّسُولُ طَرِيقَ الْمُجْرِمِينَ فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " وَلِيَسْتَبِينَ " بِالْيَاءِ وَرَفْعِ " سَبِيلُ " عَلَى لُغَةِ التَّذْكِيرِ، فَفَائِدَةُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ هُنَا لَفْظِيَّةٌ، وَهِيَ تَذْكِيرُ السَّبِيلِ وَتَأْنِيثُهَا، وَمَجِيءُ فِعْلِ الِاسْتِبَانَةِ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: بَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَانَ بِمَعْنَى: وَضَحَ وَظَهَرَ، وَيُقَالُ: اسْتَبَنْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى اسْتَوْضَحْتُهُ وَتَبَيَّنْتُهُ، أَيْ: عَرَفْتُهُ بَيِّنًا، وَأَمَّا فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ فِيهَا فَهِيَ أَنَّ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُوَضِّحٌ لِسَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ثُمَّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَبِينَهُ

مِنْهَا بِتَأَمُّلِهَا وَفَهْمِهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، فَكَمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي نَفْسِهَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (12: 105) وَالْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِتَسْتَبِينَ) قِيلَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ لِقَوْلِهِ: (نُفَصِّلُ) لَمْ يَقْصِدْ تَعْلِيلَهُ بِهَا بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِشْعَارَ بِأَنَّ لَهُ فَوَائِدَ جَمَّةً مِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذُكِرَ، أَيْ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِمَا فِي تَفْصِيلِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ، وَبَيَانِ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَلِأَجْلِ أَنْ تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ، فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ، أَيْ: وَلِأَجْلِ أَنْ تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُعْرَفُ بِضِدِّهِ، بَلْ بَيَّنَ قَبْلَهُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْبَيِّنِ نُفَصِّلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُلَخِّصُهَا فِي صِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ؛ مَنْ هُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُرْجَى إِسْلَامُهُ، وَمَنْ يُرَى فِيهِ أَمَارَةُ الْقَبُولِ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ حُدُودَهُ، وَلِتَسْتَوْضِحَ سَبِيلَهُمْ فَتُعَامِلَ كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ فَصَّلْنَا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ. انْتَهَى. وَيَسُرُّنِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ فِي بَيَانِ أَصْنَافِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَمَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَاتُ فِي مُعَامَلَةِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّ مَا قَلْتُهُ خَيْرٌ مِمَّا قَالَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ: وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَحَاسِنِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى. وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (105) وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (7: 174) وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَهُمَا. (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) .

بَعْدَ أَنْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِيَاسَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَبْلِيغِهِمْ مَا ذَكَرَ مِنْ أُصُولِ حِكْمَةِ الدِّينِ، عَادَ إِلَى تَلْقِينِهِ مَا يُحَاجُّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ بَلَاغِ الْوَحْيِ وَنَاصِعِ الْبَرَاهِينِ، فَقَالَ: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) النَّهْيُ: الزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْقَوْلِ - مِثْلَ: لَا تَكْذِبْ وَاجْتَنِبْ قَوْلَ الزُّورِ - وَالْكَفُّ عَنْهُ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (79: 40) وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ أَوْ دَفْعُ الضُّرِّ مِنَ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلْعِبَادِ الَّتِي يَنَالُونَهَا بِكَسْبِهِمْ لَهَا وَاجْتِهَادِهِمْ فِيهَا وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَا نَعْجِزُ عَنْ نَيْلِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَنَا لَا نَطْلُبُهُ إِلَّا مِنَ الْخَالِقِ الْمُسَخِّرِ لِلْأَسْبَابِ - وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً - فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ هُنَا: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ وَتَسْتَغِيثُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، أَيْ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، بَلْهَ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا عَمَلَ، وَهَذَا النَّهْيُ يُصَدَّقُ بِنَهْيِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ وَأَمْرِهِ بِضِدِّهِ وَهُوَ دُعَاءُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِنَهْيِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُوَحِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مُشْرِكًا، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ: " نُهِيتُ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ: لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تَتَّبِعُونَ بِهَا الْهَوَى، وَلَسْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى بَيِّنَةٍ وَلَا هُدًى، وَلِمَاذَا؟ لِأَنَّنِي إِنِ اتَّبَعْتُهَا فَقَدْ ضَلَلْتُ ضَلَالًا أَخْرُجُ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُهْتَدِينَ، فَلَا أَكُونُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا الضَّلَالَ لَا يُقَاسُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ عَنْ صِرَاطِ الْهُدَى. (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْضًا: إِنِّي فِيمَا أُخَالِفُكُمْ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي هَدَانِي إِلَيْهَا بِالْوَحْيِ وَالْعَقْلِ، وَالْبَيِّنَةُ كُلُّ مَا يُتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالشَّوَاهِدِ وَالْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بَيِّنَةً، وَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - لِلْقَطْعِ بِعَجْزِ الرَّسُولِ كَغَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ - مُؤَيِّدٌ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْهِدَايَةِ (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَذَّبْتُمْ بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بَيِّنَتِي مِنْ رَبِّي، فَكَيْفَ تُكَذِّبُونَ أَنْتُمْ بِبَيِّنَةِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَظْهَرِ الْحَقَائِقِ وَأَبْيَنِ الْهِدَايَاتِ، ثُمَّ تَطْمَعُونَ أَنْ أَتَّبِعَكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ لَا بَيِّنَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا مَحْضَ التَّقْلِيدِ، وَمَا كَانَ التَّقْلِيدُ بَيِّنَةً مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَرَاءَةٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَرِضَاءٌ بِجَهْلِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَالْكَلَامُ حُجَّةٌ مُسَكِّتَةٌ مُبَكِّتَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ نَفْيِ عِبَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِينِ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَكَذَّبْتُمْ بِرَبِّي، أَيْ: بِآيَاتِهِ أَوْ بِدِينِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِذَلِكَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّكْذِيبَ بِالرَّبِّ بِاتِّخَاذِ شَرِيكٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُهُمُ الشُّرَكَاءَ تَكْذِيبًا بِالرُّبُوبِيَّةِ؛ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ: إِنَّ غَيْرَهُ تَعَالَى يَخْلُقُ

مَعَهُ أَوْ يَرْزُقُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَدْعُونَ غَيْرَهُ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ وَشِرْكٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا تَكْذِيبٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ بَيِّنَتَهُ وَتَكْذِيبَهُمْ بِهِ قَفَّى بِرَدِّ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَالِ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَقَعَ عَنْهَا مِنْهُمُ السُّؤَالُ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَحِلُّ بِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَوَعَدَ بِأَنْ يُنْصَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ اسْتَعْجَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، فَكَانَ عَدَمُ وُقُوعِهِ شُبْهَةً لَهُمْ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ، لِجَهْلِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي شُئُونِ الْإِنْسَانِ، فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أَيْ لَيْسَ عِنْدَمَا تَطْلُبُونَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ وَعِيدِهِ، وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيَّ حَتَّى تُطَالِبُونِي بِهِ وَتَعُدُّونَ عَدَمَ إِيقَاعِهِ حُجَّةً عَلَى تَكْذِيبِهِ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ وَمَقَادِيرُ مُنْتَظِمَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُ وَآجَالٌ مُسَمَّاةٌ تَقَعُ فِيهَا، فَلَا يَتَقَدَّمُ شَيْءٌ عَنْ أَجَلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (13: 8) (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى) . (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ " يَقُصُّ " مِنَ الْقَصَصِ، وَهُوَ ذِكْرُ الْخَبَرِ أَوْ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، أَيْ يَقُصُّ عَلَى رَسُولِهِ الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، أَوْ يَتَتَبَّعُ الْحَقَّ وَيُصِيبُهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي عِبَادِهِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يَقْضِ " مِنَ الْقَضَاءِ وَأَصْلُهُ يَقْضِي بِالْيَاءِ فَحُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْخَطِّ كَمَا حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَصَاحِفُ غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ كَانَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ هَكَذَا " نقص " فَاحْتَمَلَتِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَحَذْفُ حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ اللَّفْظِ مَعْهُودٌ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمِنْهُ (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرِ) (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) (96: 18) وَمَعْنَاهُ يَقْضِي فِي أَمْرِكُمْ وَغَيْرِهِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ، أَوْ يُنْفِذُ الْأَمْرَ وَيُفَصِّلُهُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ فِي كُلِّ أَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ وَالنَّافِذُ حُكْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَضَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ كَقَوْلِهِمْ (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (8: 32) : " لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ " بِأَنْ كَانَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ فِي مَكِنَتِي وَتَصَرُّفِي بِقُدْرَتِي الْكَسْبِيَّةِ أَوْ بِجَعْلِهِ آيَةً خَاصَّةً بِي " لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " بِإِهْلَاكِي لِلظَّالِمِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَنِي عَنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّي وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِّي، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنْ عَجَلٍ، وَإِنَّمَا أَسْتَعْجِلُ أَنَا بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مِنْكُمْ مَا وَعَدَنِي رَبِّي مِنْ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْلِحِينَ الْمَظْلُومِينَ، وَخِذْلَانِ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ اسْتِعْجَالٌ لِلْخَيْرِ، وَأَنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ الشَّرَّ لِأَنْفُسِكُمْ، وَتَقْطَعُونَ عَلَيْهَا طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ لَكُمْ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)

58

الَّذِينَ تَمَكَّنَ الظُّلْمُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَا رَجَاءَ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِمَنْ أَلَمَّ بِهِمُ الظُّلْمُ أَوْ أَلَمُّوا بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَمْحُ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمَ بِالظَّالِمِينَ لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ عِقَابِهِمْ إِلَيَّ، فَهُوَ عِنْدَهُ لَا عِنْدِي، وَلِكُلٍّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، يَرَاهُ قَرِيبًا وَتَرَوْنَهُ بَعِيدًا، وَأَيَّامُهُ تَعَالَى فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ وَشُئُونِ الْأُمَمِ لَيْسَتْ قَصِيرَةً كَأَيَّامِنَا بَلْ طَوِيلَةً (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (22: 47، 48) فَهُوَ لَا يُؤَخِّرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (7: 34) . هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي قَضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي مَكِنَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِنْ كَانَ يُهْلِكُهُمْ كُلُّهُمْ كَمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا يَقْضِي مِنَ الْأَمْرِ هُنَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَعْجَلُوا كُلًّا مِنْهُمَا، بَلْ نَصْرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُضِيَ لَمَا قُضِيَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ. (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) .

59

لَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ - تَعْجِيزًا أَوْ تَهَكُّمًا أَوْ عِنَادًا - لَيْسَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ اللهِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلٌ وَمَوْعِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقْضِي الْحَقَّ وَيَقُصُّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَبِيَدِهِ تَنْفِيذُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ - قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ كَوْنِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، وَكَوْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِيَدِهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُطَالَبُوا بِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَهُوَ الْمَخْزَنُ، وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي تُفْتَحُ بِهِ الْأَقْفَالُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ " وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَيْ أَنَّ خَزَائِنَ الْغَيْبِ - وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ الْخَلْقِ - هِيَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَفِي تَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْمَفَاتِيحَ - أَيِ الْوَسَائِلَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - هِيَ عِنْدَهُ أَيْضًا لَا يَعْلَمُهَا عِلْمًا ذَاتِيًّا إِلَّا هُوَ، فَهُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا وَسِوَاهُ جَاهِلٌ بِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَا وَلَا أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِإِعْلَامِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ إِنْجَازُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ رُسُلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ إِنْجَازَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْغَيْبِ وَاسْتِئْثَارِ اللهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَلِّمُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنَ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْإِضَافِيِّ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبَحْرِ كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ الْمِلْحُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْأَنْهَارِ بِالتَّوَسُّعِ أَوِ التَّغْلِيبِ. وَالْبَرُّ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ خَرْتِ الْأَرْضِ بِالْيَابِسَةِ. وَعِلْمُهُ تَعَالَى بِمَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ عِلْمِ الشَّهَادَةِ الْمُقَابِلِ لِعِلْمِ الْغَيْبِ. عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي خَفَايَا الْبَرِّ وَالْبَحْرِ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَوْجُودًا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْبَاحِثُ مِنْهُمْ عَنْهُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ عَلَى الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَسْمَ الْبَحْرِ مِنَ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ قَسْمِ الْبَرِّ، وَخَفَايَاهُ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ مَا مِنْ نَجْمٍ أَوْ شَجَرٍ مَا إِلَّا يَعْلَمُهَا؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ كُلِّهَا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ حَبَّةٍ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ كَالْحَبِّ الَّذِي يُلْقِيهِ الزُّرَّاعُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ يَسْتُرُونَهُ بِالتُّرَابِ فَيَحْتَجِبُ عَنْ نُورِ النَّهَارِ، وَالَّذِي تَذْهَبُ بِهِ النَّمْلُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ فِي قُرَاهَا وَجُحُورِهَا، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنَ النَّبَاتِ فِي شُقُوقِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَمَا يَسْقُطُ

مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ مِنَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا - إِلَّا كَائِنٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ - وَهُوَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يُشْبِهُ الْمَكْتُوبَ فِي الصُّحُفِ بِثَبَاتِهِ وَعَدَمِ تَغَيُّرِهِ - أَوْ كِتَابُهُ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلَهُ: (إِلَّا يَعْلَمُهَا) وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لَهُ بِالْمَعْنَى، وَقِيلَ: بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا حِكْمَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْمَعْلُومَ - أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ إِمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ، وَالْمَوْجُودُ إِمَّا حَاضِرٌ مَشْهُودٌ، وَإِمَّا غَائِبٌ فِي حُكْمِ الْمَفْقُودِ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ غَائِبٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَعِلْمُهُ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ إِمَّا عِلْمُ غَيْبٍ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْمَعْدُومِ، وَإِمَّا عِلْمُ شَهَادَةٍ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْمَوْجُودِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْخَلْقِ فَمِنَ الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ حَاضِرٌ مَشْهُودٌ لَدَيْهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَاضِرٌ غَيْرُ مَشْهُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ آلَةً لِلْعِلْمِ بِهِ كَعَالَمِ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْإِنْسِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ شُهُودِهِمْ وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِإِدْرَاكِهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَمَا هُوَ غَائِبٌ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ لَوْ حَضَرَ، فَكُلُّ مَا خُلِقُوا غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَهُوَ غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ مَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ - إِنْ غَابَ عَنْهُمْ - غَيْبٌ إِضَافِيٌّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ خَزَائِنَ عَالَمِ الْغَيْبِ كُلِّهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مَفَاتِيحُهَا وَأَسْبَابُهَا الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الشَّهَادَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِمَّا فِي الْبَرِّ: إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ وَرَقَةٍ تَسْقُطُ مِنْ نَبْتَةٍ، وَكُلِّ حَبَّةٍ تَسْقُطُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، وَكُلِّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ. فَأَمَّا الْوَرَقُ الَّذِي يَسْقُطُ فَهُوَ مَا كَانَ حَبًّا رَطْبًا مِنَ النَّبَاتِ فَأَشْرَفَ عَلَى الْيُبْسِ وَفَقَدَ الْحَيَاةَ النَّبَاتِيَّةَ وَالْتَحَقَ بِمَوَادَّ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَقَدْ يَتَغَذَّى بِهِ حَيَوَانٌ بَعْدَ يُبْسِهِ أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ يَتَحَلَّلُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَيَتَغَذَّى بِهِ نَبَاتٌ آخَرُ فَيَدْخُلُ فِي عَالَمِ الْأَحْيَاءِ بِطَوْرٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْحَبُّ فَهُوَ أَصْلُ تَكْوِينِ النَّبَاتِ الْحَيِّ يَسْقُطُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، فَمِنْهُ مَا يَنْبُتُ وَيَكُونُ نَجْمًا أَوْ شَجَرًا، وَمِنْهُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ بَعْضُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ، فَيَدْخُلُ فِي بِنْيَتِهَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا ذِكْرُ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فِي هَذَا الْبَابِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ تَدْخُلُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ تَبْرُزُ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَعِلْمُ اللهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى كَثْرَتِهَا وَدِقَّةِ بَعْضِهَا وَصِغَرِهِ، وَتَنَقُّلِهِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا يَتْبَعْهُمَا مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَظَاهِرِ، وَحَسْبُكَ هَذَا الْإِيمَاءُ مِنْ حِكْمَةِ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ لِعُلَمَاءِ الْآثَارِ، وَجَوْلَاتٌ لِلنُّظَّارِ، نَذْكُرُ الْمُهِمَّ مِنْهَا فِي فُصُولٍ:

فَهْمُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْحُكَمَاءِ لِلْآيَةِ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) مَا نَصُّهُ: " اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَمَفْتَحٍ وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ، وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ، وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) (28: 76) يَعْنِي خَزَائِنَهُ، فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَفَاتِيحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْخَزَائِنُ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ، فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْخَزَائِنِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقُرِئَ " مَفَاتِيحُ ". وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ: الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (15: 21) . " وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ. وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عِلْمُهُ بِذَاتِهِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا عِلْمُ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ - لَا جَرَمَ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. " ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ

الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ، وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ، وَقَوْلُهُ: (وَعِنْدَهَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَاهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللهِ هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَالْحِسُّ وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ وَكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ، إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبَحَّارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ، وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا أَعْظَمُ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُكُمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقِهِ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ أَشَدَّ هَيْبَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَظُلُمَاتِ الْأَرْضِ مَوَاضِعُ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا، فَإِذَا سُمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا، وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنَ اللهِ التَّوْفِيقُ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا. وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكَّنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) يُفِيدُ الْحَصْرُ، أَيْ: عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةٌ أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ، وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلِ فِي كُلِّ الْمُمَكَّنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَالْمِفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ، وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) : قُرِئَ (وَلَا حَبَّةٌ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ) بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ (الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ " وَرَقَةٍ "، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ " إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "، كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ. (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) : قَوْلُهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فِيهِ قَوْلَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ، (وَالثَّانِي) قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (57: 22) . وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً تَامَّةً كَامِلَةً لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ; لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ. (وَثَانِيهَا) يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ

الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى. (وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ، فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ، فَتَصِيرُ كِتَابَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا قَالَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -: " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْحُكَمَاءِ يُرِيدُ بِهِ إِثْبَاتَ عِلْمِ الْغَيْبِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِقْرَارَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَمَا قَالُوهُ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعِلَّةِ. (التَّفْسِيرُ الْمَرْفُوعُ لِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ) . هَذَا وَإِنَّ فِي تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ حَدِيثًا صَحِيحًا فِيهِ مَبَاحِثُ دَقِيقَةٌ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (31: 34) " وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ " سُورَةِ لُقْمَانَ "، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ " ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وَرَوَاهُ بِلَفْظِ " مَفَاتِيحُ " فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَيْضًا، وَبِلَفْظِ " مَفَاتِحُ " فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ، وَبِلَفْظِ " مِفْتَاحٌ " فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ: " خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ قَوْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (3: 49) وَقَوْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَتِهِ: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) (12: 37) وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي فِيمَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (72: 26، 27) وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا نُقِلَ كَثِيرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكَشْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ مِنْ كَسْبِ النَّاسِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ، وَبِمَوْتِ بَعْضِ النَّاسِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ كَانَ الْكَشْفُ لِلرَّسُولِ بِالْأَصَالَةِ وَلَهُ بِالتَّبَعِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَمْزِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالْكَرَامَاتُ مِنْهُمْ مُعْجِزَاتٌ ... حَازَهَا مِنْ نَوَالِكَ الْأَوْلِيَاءُ

وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ يُنَافِي هَذَا الرَّأْيَ، وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَقَّقْنَاهُ هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ " الْأَنْعَامُ " فَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنَ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. سَبَبُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ: وَمِمَّا قَدْ يَسْتَشْكِلُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي حَرَّرْنَاهَا هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ - مَا اكْتَشَفَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْبَيُوضَ الَّتِي يَحْصُلُ الْحَمْلُ بِتَلْقِيحِهَا بِمَاءِ الذَّكَرِ مِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْمَنِ وَمِنْهُ يَتَكَوَّنُ الذُّكُورُ، وَمِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْسَرِ وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ الْإِنَاثُ، وَأَنَّ الْبَيُوضَ تُوجَدُ بِالتَّنَاوُبِ فِي أَثْنَاءِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِخَلْقِ بَيُوضِ الذُّكُورِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا، وَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِضِدِّ ذَلِكَ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ أُنْثَى، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كُتُبًا مِنْهَا (كِتَابُ تَعْلِيلِ النَّوْعِ) مِنْ تَأْلِيفِ الطَّبِيبِ " رِمْلِي دُوسُونْ " الْإِنْكِلِيزِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الطَّبِيبُ مُحَمَّد عَبْد الْحَمِيدِ الْمِصْرِيُّ. وَمِنْ عَلِمَ أَشْهُرَ وِلَادَةِ امْرَأَةٍ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ نَوْعَ الْجَنِينِ فِي الْحَمْلِ الثَّانِي، وَيَتَسَلْسَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ مُنْتَظِمًا وَالْوَضْعُ فِي مَوْعِدِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ أُنْثَى لِأَسْبَابٍ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ بَيَّنَهَا الْبَاحِثُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " تَعْلِيلِ النَّوْعِ " فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ الَّذِي عُنْوَانُهُ (التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي) مَا تَرْجَمَتُهُ: بَعَدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ تَكْوِينَ الْبَيْضِ يَحْدُثُ بِالتَّنَاوُبِ؛ مَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ أَوِ الذَّكَرِ، وَمَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ أَوِ الْأُنْثَى - تَمَكَّنْتُ مِنَ التَّنَبُّؤِ بِمَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي فِي النِّسَاءِ الْحَوَامِلِ مِنْ مَرْضَايَ وَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لَمْ تَسْبِقْ لِي رُؤْيَتُهُنَّ، وَأَذْكُرُ أَنِّي نَجَحْتُ فِي (97) فِي الْمِائَةِ، وَأَمَّا الْفَشَلُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمِائَةِ فَتَابِعٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْأُمِّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِالدِّقَّةِ عَنِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ. فَمَثَلًا: إِذَا أَخْبَرَتْنِي مَرِيضَةٌ أَنَّهَا سَتَضَعُ فِي يُونْيُو وَتَنَبَّأَتُ أَنَّ طِفْلَهَا أُنْثَى، ثُمَّ هِيَ وَضَعَتْ طِفْلًا ذِكْرًا كَامِلَ الْعِدَّةِ فِي مَايُو (أَيَارَ) أَوْ يُولْيُو (تَمُّوزَ) يَكُونُ النَّبَأُ خَطَأً، وَلَوْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّ الْوِلَادَةَ سَتَحْدُثُ فِي مَايُو أَوْ يُولْيُو لَتَنَبَّأَتُ لَهَا بِأَنَّ الطِّفْلَ ذَكَرًا. " وَالتَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْأَطْفَالِ الَّتِي تُولَدُ فِي مِيعَادِهَا تَمَامًا ; لِأَنَّ الْأَطْفَالَ الَّتِي تُولَدُ قَبْلَ الْمِيعَادِ قَدْ تَجْعَلُ النَّبَأَ خَطَأً ; لِأَنَّ الطِّفْلَ إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِشَهْرَيْنِ يَكُونُ الْمِيعَادُ صَحِيحًا، وَأَمَّا إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِبِضْعَةِ أَيَّامٍ لِشَهْرٍ يَكُونُ النَّبَأُ كَاذِبًا، وَمِثْلُ الْأَطْفَالِ الْمَوْلُودَةِ قَبْلَ الْمِيعَادِ أَحْوَالُ الْإِجْهَاضِ، وَكُلُّهَا تَخْتَلِفُ فِي عَمَلِ الْحِسَابِ فِي الْحَمْلِ السَّالِفِ.

وَنَشَأَ الْفَشَلُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مِنْ تَكْوِينِ بَيْضٍ تَكْوِينًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ الْبَيْضُ كُلَّ (28) يَوْمًا مَرَّةً بِانْتِظَامٍ يُحْدُثُ كُلَّ (21) يَوْمًا أَوْ (20) يَوْمًا، وَيَنْشَأُ الْخَطَأُ أَيْضًا بِعَدَمِ الِانْتِظَامِ فِي الدَّوْرَةِ الْبَيْضِيَّةِ OVULATION RHYTHM كَحُدُوثِ الْبَيْضِ فِي الْمِبْيَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ وِلَادَةِ تَوْأَمَيْنِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. " وَكَذَلِكَ إِذَا حَدَثَ الْحَمْلُ أَثْنَاءَ الرَّضَاعَةِ وَمُدَّةِ غِيَابِ الْحَيْضِ فَوَقْتَئِذٍ يَصْعُبُ مَعْرِفَةُ أَيِّ مِبْيَضٍ هَيَّأَ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَلَقَّحَتْ. فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُتَوَسِّطَ نَوْبَةِ الْحَيْضِ هِيَ (28) يَوْمًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَسَابِيعَ (وَالْحَيْضُ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْبَيْضِ) تَتَكَرَّرُ ظَاهِرَةُ تَكْوِينِ الْبِيضِ (13) مَرَّةً فِي أَسَابِيعَ السَّنَةِ، وَهِيَ (52) أُسْبُوعًا، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْبَيْضُ فِي كُلِّ (21) يَوْمًا فَتَزْدَادُ الْمَرَّاتُ، وَإِذَا حَدَثَ كُلَّ (30) يَوْمًا فَالْعَدَدُ يَنْقُصُ إِلَى (12) مَرَّةً مَعَ زِيَادَةِ مَرَّةٍ كُلَّ سِتِّ سَنَوَاتٍ. وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ كُلِّ هَذِهِ الْخَوَاصِّ فِي النِّسَاءِ عِنْدَ التَّنَبُّؤِ بِالنَّوْعِ، وَيُمَكَّنُ الطَّبِيبُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ أَنْ يَتَنَبَّأَ بِنَوْعِ الطِّفْلِ فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إِذَا كَانَ هُوَ طَبِيبَهَا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ النِّسَاءَ عَنِ الشُّهُورِ الَّتِي يَجِبُ الِامْتِنَاعُ فِيهَا إِذَا أُرِيدَ الْحُصُولُ عَلَى نَوْعٍ مَخْصُوصٍ. يُمْكِنُ عَمَلُ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ بِوَسَاطَةِ جَدْوَلِ الْوِلَادَةِ الِاعْتِيَادِيِّ ; لِأَنَّنَا إِذَا عَرَفْنَا نَوْعَ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ وَيَوْمَ مِيلَادِهِ نَعْرِفُ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ، وَبِالطَّبْعِ نَوْعَ الْبُوَيْضَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِكُلِّ سُهُولَةٍ مِنَ الْجَدْوَلِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ أَنَّ الْأَسْهَلَ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ طَرِيقَةِ الْأَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا الَّتِي أَذْكُرُهَا هُنَا. يَجِبُ الْحُصُولُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْآتِيَةِ مِنَ الْمَرِيضَةِ أَوِ الْحَامِلِ حَتَّى يُمْكِنَ التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ: كَمْ مَرَّةً يَحْدُثُ الْحَيْضُ عِنْدَكُمْ؟ كَمْ يَوْمًا يَمْكُثُ الْحَيْضُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؟ هَلِ الْحَيْضُ مُنْتَظِمٌ؟ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِيلَادُ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ؟ (يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ) أَنَوْعُ الطَّفْلِ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ مَا مُدَّةُ رَضَاعَتِكِ لِلطِّفْلِ إِذَا كُنْتِ أَنْتِ الَّتِي تُرْضِعِينَهُ؟ مَتَى يَرْجِعُ الْحَيْضُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ؟ هَلْ حَدَثَ إِجْهَاضٌ مُنْذُ الْوِلَادَةِ الْأَخِيرَةِ؟ . مُدَّةُ الْحَمْلِ الِاعْتِيَادِيَّةِ لِلْمَرْأَةِ (280) يَوْمًا أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ كُلُّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ أَسَابِيعَ - أَيْ أَرْبَعُونَ أُسْبُوعًا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ هَجْرِ الِاصْطِلَاحِ " تِسْعَةُ أَشْهُرٍ الْحَمْلُ ". فَإِذَا عَرَفْنَا يَوْمَ مِيلَادِ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ نَرْجِعُ أَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا حَتَّى نَعْرِفَ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ أَوِ الشَّهْرَ الَّذِي تَلَقَّحَتْ فِيهِ الْبُوَيْضَةُ الَّتِي تَكَوَّنَ مِنْهَا الطِّفْلُ، فَإِذَا عَرَفْنَا نَوْعُ الطِّفْلِ نَتَقَدَّمُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ بِالتَّنَاوُبِ حَتَّى نَصِلَ إِلَى مَرَّةِ تَكْوِينِ الْبَيْضِ الْعَاشِرَةِ قَبْلَ شَهْرِ الْوِلَادَةِ الْمُنْتَظَرِ فِيهِ وِلَادَةُ الطِّفْلِ الْحَدِيثِ مَعَ حِسَابِ نَوْبَةِ تَكْوِينِ بَيْضٍ إِضَافِيَّةٍ بَيْنَ شَهْرَيْ دِيسِمْبِرَ

وَيَنَايِرَ - كَانُونُ الْأَوَّلُ وَكَانُونُ الثَّانِي - لِكُلِّ سَنَةٍ تَالِيَةٍ، وَبِذَلِكَ نَعْرِفُ نَوْعَ الْبَيْضَةِ الَّتِي تَلَقَّحَتْ وَالَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَامِلًا بِهَا، وَبِذَلِكَ نَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي. وَلِوُجُودِ (13) مَرَّةَ تَكْوِينِ بِيضٍ فِي السَّنَةِ نَرَى أَنَّ تَكْوِينَ الْبُوَيْضَةِ الْمُلَقَّحَةِ فِي أُكْتُوبَرَ - تِشْرِينُ الْأَوَّلُ - مِنْ سَنَةٍ يَجْعَلُ الْبَيْضَ الثَّانِيَ فِي أُكْتُوبَرَ مِنَ النَّوْعِ الْمُضَادِّ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ أَوِ النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ الَّتِي يَلْزَمُ إِضَافَتُهَا بَيْنَ شَهْرَيْ أُكْتُوبَرَ، فَمَثَلًا إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ طِفْلًا فِي شَهْرٍ مِنْ سَنَةٍ وَطِفْلًا آخَرَ فِي نَفْسِ الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ التَّالِيَةِ يَكُونُ الطِّفْلَانِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ ". انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِقَاعِدَتِهِ. فَمَعْرِفَةُ نَوْعِ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَدُّ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ؛ إِذْ هُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ مَفَاتِحِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ أَنَّ مَا سَيَحْدُثُ فِي عَالَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ التَّكْوِينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا إِلَّا اللهُ، وَمِفْتَاحُ الْعِلْمِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هَدَى عِبَادَهُ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ مَا تَحْتَوِيهِ هَذِهِ الْخِزَانَةُ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي مَا ذُكِرَ. بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَطُبِعَ فِي الْمَنَارِ بَقِيَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْهُ، فَتَفَكَّرْتُ فِيهِ عِنْدَ النَّوْمِ فَظَهَرَ لِي أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عِلْمُ أَحَدٍ عِلْمًا قَطْعِيًّا بِمَا فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا حَتَّى مَعَ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ - دَعِ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ مَا فِي أَرْحَامِ جَمِيعِ الْإِنَاثِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كُلِّهَا - وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الظَّنُّ الْغَالِبُ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ، وَالْجَهْلُ التَّامُّ فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا. وَالْعِلْمُ الصَّحِيحِ بِمَا فِي الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِدْقِ الْحَامِلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ مِنْ تَحْدِيدِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ وَلَا عَلَى خُلُوِّ الرَّحِمِ مِنْ بَيْضٍ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ كَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ، فَإِنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ - وَلَا عَلَى تَكَوُّنِ الْبَيْضِ فِي جَانِبَيِ الرَّحِمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَوَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُ الْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَاحْتِمَالُ وُقُوعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ حَمْلٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْفِي الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ بِمَا فِي رَحِمِ أَيِّ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ كُلِّهَا؟ . خَطَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفِرَاشِ، وَانْتَقَلَ ذِهْنِي مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (13: 8، 9) فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى أَذَكَرٌ هُوَ

أَمْ أُنْثَى. وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ مِنْ نَقْصِ الْحَمْلِ أَوْ فَسَادِهِ بَعْدَ الْعُلُوقِ، وَمَا تَزْدَادُ مِنَ الْحَمْلِ كَالْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ شَيْخٍ بِمِنًى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ لَهُ بُطُونًا فِي كُلٍّ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْلَادٍ، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ النَّوَادِرِ الْأَطِبَّاءُ؟ وَسَنَزِيدُ هَذَا الْبَحْثَ إِيضَاحًا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ إِذَا أَطَالَ اللهُ عُمُرَنَا وَوَفَّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا. (وَجْهُ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ) . لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي وَجْهِ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِالْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَكُنْتُ قَدْ فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَيَّامِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ، فَظَهَرَ لِي أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عِلْمُ شَهَادَةٍ، وَعِلْمُهُ بِمَا لَمْ يُوجَدْ عِلْمُ غَيْبٍ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فَخَزَائِنُهُ أَوْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ الَّتِي يَسْتَفِيدُ النَّاسُ مِنْ بَيَانِهَا هِيَ تِلْكَ الْخَمْسُ، وَهِيَ لَمْ تُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي " الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ " الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي عَهْدِ الطَّلَبِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَنْوَاعِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهَا بِتِلْكَ الْخَمْسِ قُلْتُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللهِ تَعَالَى الْغَيْبِيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْخَمْسِ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا مِمَّا قَدْ يَطَّلِعُ بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضِهِ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ عَلَى الرَّاجِحِ فَلَا يَنْفِي زَائِدًا عَلَى الْمَذْكُورِ. (قُلْتُ) : وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِفَهْمِ مَعْنًى لَطِيفٍ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْخَمْسِ مَفَاتِحَ أَوْ مَفَاتِيحَ لِلْغَيْبِ. وَعَرَضْتُهُ عَلَى مَشَايِخِي كَالْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوُقْجِيِّ، وَالْعَلَامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدْ نُشَّابَةْ وَغَيْرِهِمَا فَأُعْجِبُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفَاتِحَ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوْ كَسْرِهَا، بِمَعْنَى الْخَزَائِنِ أَوِ الْمَفَاتِيحِ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْوُجُودِ أَوِ الشُّهُودِ، وَهُوَ عَالَمُ الْبَرْزَخِ، وَعَالَمُ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ عَالَمِ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ، وَكَسْبُ الْأَنْفَسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عَلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالسَّاعَةُ مِفْتَاحُ عَالِمِ الْآخِرَةِ، وَالْغَيْثُ مِفْتَاحُ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْحَامِ مِفْتَاحُ عَالَمِ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُهُ: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) ظَاهِرٌ فِي مَفْتَحِ الْكَسْبِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أَيْ كَمَا لَا تَدْرِي بِأَيِّ وَقْتٍ إِشَارَةً بِالْمَوْتِ إِلَى عَالَمِ

الْبَرْزَخِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْعَوَالِمُ ثَلَاثَةٌ، الْأَوَّلُ: الْقَرِيبُ الدَّانِي الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالْآخَرُ: الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَبَدًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَالثَّالِثُ: الْوَسَطُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَا نُقِيمُ فِيهِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ حَتَّى يَتِمَّ جَمْعُنَا بِانْتِهَاءِ الدُّنْيَا، وَنَفِدُ عَلَى اللهِ تَعَالَى جَمِيعًا، فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَيْسَ مَشْهُودًا لَنَا، وَمَفْتَحُهُمَا السَّاعَةُ وَالْمَوْتُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ مَشْهُودٌ لَنَا وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ زِيَادَةٌ يُبْرِزُهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ كَالْأَحْجَارِ وَالْمَعَادِنِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْكَوْنِ تَدْرِيجًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْبٌ وَهُوَ مَا يَتَجَدَّدُ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَكُنْ مَشْهُودَةً، وَهُوَ النَّبَاتُ وَمَفْتَحُهُ الْغَيْثُ، وَالْحَيَوَانُ وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا أَوْ عُبِّرَ بِهَا عَنْهُ، وَكَسْبُ الْحَيَوَانِ وَعَمَلُهُ، وَهُوَ مَفْتَحٌ وَخِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ. اهـ. ثُمَّ ذَكَرْتُ هُنَالِكَ مَا يَرُدُّ عَلَى حَصْرِ الْمَفَاتِحِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ أَوْ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَأَجَبْتُ وَفِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ، وَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَزَالُ مُسَوَّدَةً مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ أَوَّلُ تَمْرِينٍ لَنَا عَلَى التَّأْلِيفِ وَالْإِنْشَاءِ، فَإِنَّنَا لَمْ نَتَعَلَّمِ الْإِنْشَاءَ تَعَلُّمًا. وَفِي حَاشِيَتِهَا تَعْلِيقٌ عَلَى كَلِمَةِ " وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا " وَجَعْلِ نَحْوِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَلِّ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ بَيَّنَّا فِيهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ كَوْنِ الْحَيِّ لَا يُولَدُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مِثْلِهِ، فَمَا كَانَ يُقَالُ فِي بَحْثِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ مِنْ تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ مِنْهَا وَكَذَا الْخَلُّ، وَتُوَلُّدِ الْفَأْرَةِ مِنَ التُّرَابِ - كُلُّهُ بَاطِلٌ. (كِتَابَةُ اللهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرُ، وَالزُّبُرُ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظِ) . وَرَدَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَاتٌ، فَفِي سُورَةِ يُونُسَ (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 10: 61) وَفِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ بَيَانِ عِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا فِي الصُّدُورِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 11: 6) وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 27: 74، 75) وَفِي سَبَأٍ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِينَّكُمْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (34: 3) وَفِي سُورَةِ طَهَ (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (20: 51، 52) وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا 57: 22) وَفِي سُورَةِ يس (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ 36: 12) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ (لِكُلِّ أَجْلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (13: 38، 39) .

وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لِعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (43: 1 - 4) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (21: 105) وَرَدَ الذِّكْرُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ وَغَيْرِهِ، وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (54: 52، 53) وَفِي سُورَةِ الْبُرُوجِ (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (85: 21، 22) جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ فَسَّرَتْهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي نُورِدُ أَشْهَرَهَا: رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَرْفُوعًا - وَغَيْرِهِ " لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي " وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا " كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ " وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ " وَفِيهَا " ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا " إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " قَالَ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كَانَ اللهُ " إِلَخْ - إِنَّ الْمُرَادَ بِ " كَانَ " فِي الْأَوَّلِ: الْأَزَلِيَّةُ، وَفِي الثَّانِي: الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ كَانَا مَبْدَأَ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ عَالِمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ مَادَّتِهِ، وَالْعَرْشَ مَرْكَزُ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا فِي سُورَةِ (حم فُصِّلَتْ) أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الْأَرْضَ مِنْ دُخَانٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ فِي حَالَتِهِ الْبُخَارِيَّةِ يَكُونُ دُخَانًا، أَوْ أَنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ مُعْظَمُهَا بُخَارٌ مَائِيٌّ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَوَّلِيَّةَ خَلْقِ الْقَلَمِ نِسْبِيَّةٌ، وَالْعَرْشُ خُلِقَ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْمَاءُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَذَا اللَّوْحُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي خَلْقِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ، بَلْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ. فَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَثَرِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالْإِمَامِ الْمُبِينِ، وَأُمِّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ هُنَا، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا كَتَبَ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَإِحْصَائِهِ جَمِيعَ مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ بَدْءِ تَكْوِينِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُحَكِّمَ آرَاءَنَا وَأَقْيِسَتَنَا

فِي صِفَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَقْبَلُ قَوْلَ أَحَدٍ - غَيْرِ الْمَعْصُومِ - فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ وَصْفِ اللَّوْحِ أَوِ الْقَلَمِ أَوْ تِلْكَ الْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ نُشَبِّهَ ذَلِكَ بِمَا نَعْهَدُهُ مِنْ كِتَابَتِنَا، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا لِتَدْوِينِ الْكَلَامِ طُرُقًا يَتَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى مَسَافَةِ أُلُوفٍ مِنَ الْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِوَاسِطَةِ الْكَهْرَبَاءِ الَّتِي تُسَخَّرُ لِذَلِكَ بِأَسْلَاكٍ وَبِغَيْرِ أَسْلَاكٍ، فَيَكْتُبُ أَحَدُهُمْ فِي لَوْحِ الْجَوِّ مَا شَاءَ أَنْ يَكْتُبَ فَيَتَكَيَّفُ بِهِ الْهَوَاءُ فِي هَذَا الْجَوِّ الْوَاسِعِ كُلِّهِ وَيَتَلَقَّاهَا آخَرُونَ بِآلَاتٍ عِنْدَهُمْ تَرْسُمُ لَهُمْ مَا رَسَمَ فِي الْهَوَاءِ، فَيَقْرَءُونَهُ وَيُدَوِّنُونَهُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ. وَالَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْعَرْشِ لَيْسُوا أَبْعَدَ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَبِّهُونَ هَذِهِ الْعَوَالِمَ الْغَيْبِيَّةَ بِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالِمِ الْمُتَغَيِّرِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَغَيَّرُ وَتَتَرَقَّى كُلَّمَا تَرَقَّى النَّاسُ فِي الصِّنَاعَاتِ، حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ الشَّعْرَانِيَّ صَوَّرَ الْمِيزَانَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَزِنُ بِهِ تَعَالَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ الْمَعْنَوِيَّةِ كُلَّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبَيْنِ بِصُورَةِ أَحْقَرِ الْمَوَازِينِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ وَالْجَهْلِ بِفُنُونِ الصِّنَاعَةِ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَوَازِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأَثْقَالِ الْمَادِّيَّةِ وَلِلْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالرُّطُوبَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالسُّرْعَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونِ أَثْقَالَ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ رُكَّابَ السَّفِينَةِ الْغَوَّاصَةِ لَيَعْلَمُونِ وَهُمْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ حَوْلَهُمْ إِلَى أَبْعَادٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ وَأَثْقَالِهَا، وَبَعْضِ مَا يَتَحَرَّكُ فِي الْبَرِّ أَيْضًا. هَذَا وَإِنَّ مِنَ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا يُزِيلُ بَعْضَ الشُّبُهَاتِ الْمُضَلِّلَةِ أَوِ الْمُكَفِّرَةِ، وَلِذَلِكَ نَذْكُرُ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْخَلَفِ، مَعَ اسْتِمْسَاكِنَا بِتَفْوِيضِ السَّلَفِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ مَا نَصُّهُ: " وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ شَيْءٌ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ، وَلَمْ يُعَرِّفْنَا حَقِيقَتَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ حَفِظَ فِيهِ كِتَابَهُ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُ جُرْمٌ مَخْصُوصٌ فِي سَمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ، وَوَصْفُهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَاتُرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ الْيَقِينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. " وَمَا أَجْدَرَنَا لَوْ أَرَدْنَا التَّأْوِيلَ بِأَنْ نَأْخُذَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ هُوَ لَوْحُ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَقَضَايَاهُ الشَّرِيفَةُ، لَمَّا كَانَتْ لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ وَلَا يُدَانِيهَا الْخَطَأُ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي لَوْحِ الْوَاقِعِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي لَا حَقَّ إِلَّا مَا وَافَقَهُ، وَلَا بَاطِلَ إِلَّا مَا خَالَفَهُ، وَلَا بَاقٍ إِلَّا مَا رُسِمَ فِيهِ، وَلَا ضَائِعَ إِلَّا مَا لَمْ يَنْطَبِقْ عَلَيْهِ. اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَمْ تَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ بِالتَّوَاتُرِ وَلَا بِغَيْرِ التَّوَاتُرِ مِنْ أَحَادِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَرِيبٌ مِمَّا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ

التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّوْحَ وَالْقَلَمَ وَالْعَرْشَ أَشْيَاءٌ مَوْجُودَةٌ هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّدْبِيرِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي قَامَ بِهِ نِظَامُ الْكَوْنِ، لَا تُشْبِهُ أَقْلَامَ الْبَشَرِ وَأَلْوَاحَهُمْ وَدَفَاتِرَهُمُ الَّتِي يُدَوِّنُونَ بِهَا نِظَامَ دُوَلِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا عُرُوشَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ شَدِيدُ الْغُرُورِ بِعِلْمِهِ وَمَأْلُوفِهِ، فَالْأُمِّيُّ وَالصَّبِيُّ وَقَلِيلُ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْرَادِهِ أَشَدُّ غُرُورًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاسِعِي الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعَ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ مَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ قَلِيلٍ مِعْيَارًا أَوْ قَالَبًا لِمَا لَا يَعْلَمُهُ - وَهُوَ كَثِيرٌ - وَمَهْمَا يَتَّسِعْ مِنْ عِلْمِ الْمَرْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَا عِلْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، فَمَا الْقَوْلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85) وَإِنَّ لَنَا فِي دِمَاغِ الْإِنْسَانِ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْمُقَامِ، فَهُوَ كَلَوْحٍ تَرْسِمُ فِيهِ أَقْلَامُ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ فِي كُلِّ آنٍ عِلْمًا جَدِيدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَقْرَأَ مَا خَطَّهُ فِيهِ الزَّمَنُ الْمَاضِي كَمَا يُرَاجِعُ مَا يَكْتُبُ فِي الْقَرَاطِيسِ وَيُدَوِّنُ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنْ كَانَ يَنْسَى كَثِيرًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَيَقْرَؤُهُ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى 79: 35) وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلُ الْغَزَالِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمَغْرُورِينَ بِالْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ لِلْحَوَادِثِ الَّذِينَ لَا تَرْتَقِي أَنْظَارُهُمْ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا مِنْهَا إِلَى خَالِقِهَا وَجَاعِلِهَا أَسْبَابًا: ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا نَمْلَةً وَاقِفَةً عَلَى قِرْطَاسٍ تُبْصِرُ رَأْسَ الْقَلَمِ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَيُسَخِّمُهُ بِالسَّوَادِ، فَتَنْسُبُ هَذَا الْفِعْلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَمْتَدُّ نَظَرُهَا إِلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، دَعْ صَاحِبَ الْيَدِ الْكَاتِبَ بِهِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمْ تَرَهُ يَكْتُبُ. وَقَدْ شَرَحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْمَثَلَ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ أَبْلَغِ مَا كَتَبَ قَلَمُهُ السَّيَّالُ، جَعَلَهَا مُحَاوَرَةً بَيْنَ أَحَدِ النَّاظِرَيْنِ عَنْ مِشْكَاةِ نُورِ اللهِ وَبَيْنَ الْقَلَمِ وَالْيَدِ مِنْ جَوَارِحِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، عَاتَبَ الْقَلَمَ الَّذِي سَوَّدَ الْقِرْطَاسَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، وَهِيَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي صَرَفَتْهَا فِي قَطْعِ الْقَلَمِ وَبَرْيِهِ وَالْكِتَابَةِ بِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهَا عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُسَخِّرَةِ لَهَا وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَطِيعُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهَا، وَهَذِهِ أَحَالَتْهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مُرْشِدُهَا وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا لَا تَنْبَعِثُ إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعِلْمِ وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بَعْثِهِ الْإِرَادَاتِ إِلَى تَسْخِيرِ الْقُدَرِ فِي اسْتِخْدَامِ الْجَوَارِحِ، أَجَابَهُ أَنَّهُ خَطَّ رَسْمَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ فِي لَوْحِ الْقَلْبِ، وَقَالَ لَهُ: فَسَلِ الْقَلَمَ عَنِّي، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَلَمَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَأَنَّ فِي طَرِيقِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ الْمَهَامِهُ الْفَيَحُ، وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةَ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِي بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيلٍ فِي ذَلِكَ: " فَقَالَ السَّالِكُ السَّائِلُ: قَدْ تَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِي، وَاسْتَشْعَرَ قَلْبِي خَوْفًا مِمَّا وَصَفْتَهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَسْتُ أَدْرِي، أُطِيقُ قَطْعَ هَذِهِ الْمَهَامِهِ الَّتِي وَصَفْتَهَا أَمْ لَا؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ: افْتَحْ بَصَرَكَ، وَاجْمَعْ ضَوْءَ عَيْنَيْكَ وَحَدِّقْهُ نَحْوِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَكَ الْقَلَمُ الَّذِي بِهِ انْكَتَبْتُ فِي

لَوْحِ الْقَلْبِ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِهَذَا الطَّرِيقِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَاوَزَ عَالَمَ الْجَبَرُوتِ - أَيْ عَالَمَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ - وَقَرَعَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَلَكُوتِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، أَمَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (96: 3 - 5) فَقَالَ السَّالِكُ: لَقَدْ فَتَحْتُ بَصَرِي، وَحَدَّقْتُهُ، فَوَاللهِ مَا أَرَى قَصَبًا وَلَا خَشَبًا، وَلَا أَعْلَمُ قَلَمًا إِلَّا كَذَلِكَ. فَقَالَ الْقَلَمُ: لَقَدْ أَبْعَدْتَ النُّجْعَةَ، أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ مَتَاعَ الْبَيْتِ يُشْبِهُ رَبَّ الْبَيْتِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُشْبِهُ ذَاتُهُ سَائِرَ الذَّاتِ، فَكَذَلِكَ لَا تُشْبِهُ يَدُهُ الْأَيْدِيَ وَلَا قَلَمُهُ الْأَقْلَامَ، وَلَا كَلَامُهُ سَائِرَ الْكَلَامِ، وَلَا خَطُّهُ سَائِرَ الْخُطُوطِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ إِلَهِيَّةٌ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، فَلَيْسَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ فِي مَكَانٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدُهُ لَحْمٌ وَعَظْمٌ وَدَمٌ بِخِلَافِ الْأَيْدِي وَلَا قَلَمُهُ مِنْ قَصَبٍ، وَلَا لَوْحُهُ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا كَلَامُهُ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ، وَلَا خَطُّهُ رَقْمٌ وَرَسْمٌ، وَلَا حِبْرُهُ زَاجٌ وَعَفْصٌ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تُشَاهِدُ هَذَا هَكَذَا فَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُخَنَّثًا بَيْنَ فُحُولَةِ التَّنْزِيهِ وَأُنُوثَةِ التَّشْبِيهِ، مُذَبْذَبًا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ نَزَّهْتَ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ تَعَالَى عَنِ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا، وَنَزَّهْتَ كَلَامَهُ عَنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَخَذْتَ تَتَوَقَّفُ فِي يَدِهِ وَقَلَمِهِ وَلَوْحِهِ وَخَطِّهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ فَهِمْتَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ الْمُدْرَكَةَ بِالْبَصَرِ فَكُنْ مُشَبِّهًا مُطْلَقًا، كَمَا يُقَالُ: كُنْ يَهُودِيَّا صِرْفًا وَإِلَّا فَلَا تَلْعَبْ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنْ فَهِمْتَ مِنْهُ الصُّورَةَ الْبَاطِنَةَ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ لَا بِالْأَبْصَارِ، فَكُنْ مُنَزِّهًا صِرْفًا وَمُقَدِّسًا فَحْلًا، وَاطْوِ الطَّرِيقَ فَأَنْتَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَاسْتَمِعْ بِسِرِّ قَلْبِكَ لِمَا يُوحَى، فَلَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، وَلَعَلَّكَ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ تُنَادَى بِمَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (20: 12) فَلَمَّا سَمِعَ السَّالِكُ مِنَ الْعِلْمِ ذَلِكَ اسْتَشْعَرَ قُصُورَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ مُخَنَّثٌ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّنْزِيهِ، فَاشْتَعَلَ قَلْبُهُ نَارًا مِنْ حِدَّةِ غَضَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَآهَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَلَقَدْ كَانَ زَيْتُهُ الَّذِي كَانَ فِي مِشْكَاةِ قَلْبِهِ يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحِدَّتِهِ اشْتَعَلَ زَيْتُهُ فَأَصْبَحَ نُورًا عَلَى نُورٍ. فَقَالَ لَهُ الْعِلْمُ: اغْتَنِمِ الْآنَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَافْتَحْ بَصَرَكَ لَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَفَتَحَ بَصَرَهُ، فَانْكَشَفَ لَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ، فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّنْزِيهِ مَا هُوَ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا قَصَبٍ، وَلَا لَهُ رَأْسَ وَلَا ذَنَبَ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى الدَّوَامِ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ أَصْنَافَ الْعُلُومِ، وَكَأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ قَلْبٍ رَأْسًا وَلَا رَأْسَ لَهُ، فَقَضَى مِنْهُ الْعَجَبَ وَقَالَ: نِعْمَ الرَّفِيقُ الْعِلْمُ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، إِذِ الْآنَ ظَهَرَ لِي صِدْقَ أَنْبَائِهِ عَنْ أَوْصَافِ الْقَلَمِ، فَإِنِّي أَرَاهُ قَلَمًا لَا كَالْأَقْلَامِ.

فَعِنْدَ هَذَا وَدَّعَ الْعِلْمَ وَشَكَرَهُ، وَقَالَ: قَدْ طَالَ مَقَامِي عِنْدَكَ وَمُرَادَتِي لَكَ، وَأَنَا عَازِمٌ عَلَى أَنْ أُسَافِرَ إِلَى حَضْرَةِ الْقَلَمِ، وَأَسْأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَسَافَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ أَيُّهَا الْقَلَمُ، تَخُطُّ عَلَى الدَّوَامِ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعُلُومِ مَا تُبْعَثُ بِهِ الْإِرَادَاتُ إِلَى أَشْخَاصِ الْقُدَرِ وَصَرْفِهَا إِلَى الْمَقْدُورَاتِ؟ فَقَالَ: أَوَ قَدْ نَسِيتَ مَا رَأَيْتَ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ، وَسَمِعْتَ مِنْ جَوَابِ الْقَلَمِ إِذَا سَأَلْتَهُ فَأَحَالَكَ عَلَى الْيَدِ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ ذَلِكَ. قَالَ: فَجَوَابِي مِثْلُ جَوَابِهِ، قَالَ: كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تُشْبِهُهُ، قَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلْ عَنْ شَأْنِي الْمُلَقَّبَ بِيَمِينِ الْمَلِكِ، فَإِنِّي فِي قَبْضَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْدُدْنِي وَأَنَا مَقْهُورٌ مُسَخَّرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَقَلَمِ الْآدَمِيُّ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي ظَاهِرِ الصُّورَةِ. فَقَالَ: فَمَنْ يَمِينُ الْمَلِكِ؟ فَقَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (39: 67) قَالَ: نَعَمْ، وَالْأَقْلَامُ أَيْضًا فِي قَبْضَةِ يَمِينِهِ هُوَ الَّذِي يُرَدِّدُهَا. فَسَافَرَ السَّالِكُ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْيَمِينِ حَتَّى شَاهَدَهُ، وَرَأَى مِنْ عَجَائِبِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَجَائِبِ الْقَلَمِ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَرْحُهُ، بَلْ لَا تَحْوِي مُجَلَّدَاتٌ كَثِيرَةٌ عُشْرَ عُشَيْرِ وَصْفِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا كَالْأَيْمَانِ، وَيَدٌ لَا كَالْأَيْدِي، وَأَصْبِعٌ لَا كَالْأَصَابِعِ، فَرَأَى الْقَلَمَ مُحَرَّكًا فِي قَبْضَتِهِ فَظَهَرَ لَهُ عُذْرُ الْقَلَمِ، فَسَأَلَ الْيَمِينَ عَنْ شَأْنِهِ وَتَحْرِيكِهِ لِلْقَلَمِ، فَقَالَ: جَوَابِي مِثْلُ مَا سَمِعْتَهُ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الْحَوَّالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ، إِذِ الْيَدُ لَا حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا مُحَرِّكُهَا الْقُدْرَةُ لَا مَحَالَةَ. فَسَافَرَ السَّالِكُ إِلَى عَالَمِ الْقُدْرَةِ، وَرَأَى فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ مَا اسْتَحْقَرَ عِنْدَهَا مَا قَبْلَهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ تَحْرِيكِ الْيَمِينِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَنَا صِفَةٌ، فَاسْأَلِ الْقَادِرَ؛ إِذِ الْعُمْدَةُ عَلَى الْمَوْصُوفَاتِ لَا عَلَى الصِّفَاتِ، وَعِنْدَ هَذَا كَادَ أَنْ يَزِيغَ وَيُطْلِقَ بِالْجَرَاءَةِ لِسَانَ السُّؤَالِ، فَثُبِّتَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ سُرَادِقَاتِ الْحَضْرَةِ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (21: 23) فَغَشِيَتْهُ هَيْبَةُ الْحَضْرَةِ، فَخَرَّ صَعِقَا يَضْطَرِبُ فِي غَشْيَتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، تُبْتُ إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ، وَآمَنْتُ بِأَنَّكَ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، فَلَا أَخَافُ غَيْرَكَ، وَلَا أَرْجُو سِوَاكَ، وَلَا أَعُوذُ إِلَّا بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَمَا لِي إِلَّا أَنْ أَسْأَلَكَ وَأَتَضَرَّعَ إِلَيْكَ، وَأَبْتَهِلَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَأَقُولُ: اشْرَحْ لِي صَدْرِي لِأَعْرِفَكَ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي لِأُثْنِيَ عَلَيْكَ. فَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: إِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ فِي الثَّنَاءِ وَتَزِيدَ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَمَا آتَاكَ فَخُذْهُ، وَمَا نَهَاكَ عَنْهُ فَانْتَهِ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ فَقُلْهُ، فَإِنَّهُ مَا زَادَ فِي هَذِهِ الْحَضْرَةِ عَلَى أَنْ قَالَ: " سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " فَقَالَ: إِلَهِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلِّسَانِ جَرَاءَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ فَهَلْ لِلْقَلْبِ مَطْمَعٌ فِي مَعْرِفَتِكَ؟ فَنُودِيَ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَخَطَّى رِقَابَ الصِّدِّيقِينَ، فَارْجِعْ إِلَى الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ فَاقْتَدِ بِهِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ

اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ فَيَكْفِيكَ نَصِيبًا مِنْ حَضْرَتِنَا أَنْ تَعْرِفَ أَنَّكَ مَحْرُومٌ عَنْ حَضْرَتِنَا، عَاجِزٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ جَمَالِنَا وَجَلَالِنَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَلَا نَدْرِي لِمَ وَقَفَ أَبُو حَامِدٍ هُنَا عِنْدَ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يُتِمَّ تَطْبِيقَ الْمَثَلِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَكَذَا الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمَا خَصَّصَتْهُ إِرَادَتُهُ وَاقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْإِرَادَةِ لِلْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعِلْمِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالنِّظَامِ وَالْخَلَلِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا كَانَ تَامًّا كَامِلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ مَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ، فَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ الْإِرَادَةَ الْإِلَهِيَّةَ عَمَّا تَجْرِي بِهِ الْقُدْرَةُ بِتَخْصِيصِهَا فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ، لَأَجَابَتْهُ بِلِسَانِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ الْمُحِيطُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَهُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَغَايَةُ النِّظَامِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا جُزَافٌ، وَلَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْأُنُفِ الَّذِي يَكُونُ بِمَحْضِ الِاسْتِبْدَادِ (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (13: 8، 9) وَكِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا تُثْبِتُ هَذَا، وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِالنِّظَامِ وَالْقَدَرِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذَا الْكَوْنِ رَسَخَ إِيمَانُهُ بِذَلِكَ، وَقَلَّتْ حَيْرَتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي أَفْعَالِهِ شَيْئًا عَبَثًا أَوْ سُدًى أَوْ جُزَافًا جَاءَ آنِفًا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، عَارِيًا عَنِ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، كَلَّا إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ سُلْطَانَهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، فَلَيْسَ لِمَوْجُودٍ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ عَمَّا يَفْعَلُ، يُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يُلْقِي عَلَيْهِ تَبِعَتَهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ، فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْجَبْرِيِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا لِلْمُذَبْذَبِ الْجَبْرِيِّ فِي الْبَاطِنِ السُّنِّيِّ فِي الظَّاهِرِ. (حِكْمَةُ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ) . رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ حِكْمَةَ كِتَابَةِ اللهِ تَعَالَى لِمَقَادِيرِ الْخَلْقِ تَنْبِيهُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى عَدَمِ إِهْمَالِ أَحْوَالِهِمُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْوَرَقَةَ وَالْحَبَّةَ فِي الْكِتَابِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ إِحْدَاهُمَا: اعْتِبَارُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُوَافَقَةَ الْمُحْدَثَاتِ لِلْمَعْلُومَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ فِي الْكِتَابِ. وَلِذَا جَاءَ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا

60

هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " - ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَلُوسِيُّ، وَجَعَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ هُوَ الثَّانِي فِي التَّرْتِيبِ، وَالْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ حَدِيثٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ " وَوَرَدَ " جَفَّ الْقَلَمُ " " وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ " فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثَ أُخْرَى. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي حِكْمَةِ الْكِتَابَةِ ضَعِيفٌ، وَحِكْمَةُ اللهِ الْبَالِغَةُ فِيهِ فَوْقَ ذَلِكَ، وَيَتَوَقَّفُ تَلَمُّحُ شَيْءٍ مِنْ جَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عَلَى تَدَبُّرِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالنِّظَامِ الْخَاصِّ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِمَا، وَعَلَى كَوْنِ تِلْكَ النُّظُمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِنَا بِالسُّنَنِ وَبِالْأَقْدَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي عُرْفِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا بِالنَّوَامِيسِ أَوِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ، إِنَّمَا يُنَفِّذُهَا أَصْنَافٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ صِنْفَ الْحَفَظَةِ وَرُسُلِ الْمَوْتِ مِنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا 77: 1) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا 79: 1) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا 79: 5) أَصْنَافٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثَ مِنْهَا الصِّحَاحُ وَالْحِسَانُ وَالضِّعَافُ، يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَلَائِكَةً هُمْ أَرْوَاحُ النِّظَامِ لَهُ. فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ كَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِهَا خَزَائِنَ لَا يُنَزِّلُهَا إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِهَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُدَارُ بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّنْظِيمِ عَرْشًا عَظِيمًا هُوَ مَصْدَرُ التَّدْبِيرِ، أَفَلَا يَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ كِتَابٌ مُبِينٌ هُوَ مَظْهَرُ ذَلِكَ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا يُعْهَدُ لِلْمَمَالِكِ الْمُنَظَّمَةِ مِنْ كُتُبِ النُّظُمِ وَالْقَوَانِينِ؟ بَلَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَإِنَّ لَنَا فِيمَا نَرَى فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامٍ وَكَمَالٍ وَفِي التَّكْوِينِ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ عَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِيمَا نَرَى مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ دَلَائِلَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعَلَى أَنَّ مَلَائِكَتَهُ أَكْمَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي تَنْفِيذِ مَا قُدِّرَ وَمَا أَمَرَ (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 21: 27) (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 66: 6) وَنَكْتَفِي بِهَذَا التَّلْمِيحِ الْآنَ، فَقَدْ طَالَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا طَالَ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا أَيْ تَامًّا كَامِلًا، وَيُقَابِلُهُ التَّوْفِيَةُ

وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ تَامًّا كَامِلًا، يُقَالُ وَفَّاهُ حَقَّهُ فَتَوَفَّاهُ مِنْهُ وَاسْتَوْفَاهُ، وَمِنْهُ (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ 24: 39) وَيُقَالُ تَوَفَّاهُ وَاسْتَوْفَاهُ بِمَعْنَى أَحْصَى عَدَدَهُ، نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، وَأُطْلِقَ التَّوَفِّي عَلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تُقْبَضُ وَتُؤْخَذُ أَخْذًا تَامًّا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْأَبْدَانِ، وَأُطْلِقَ عَلَى النَّوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الزُّمَرِ الَّتِي نَذْكُرُهَا قَرِيبًا، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي زَوَالِ إِحْسَاسِ الْحَوَاسِّ وَالتَّمْيِيزِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ اسْتِعَارَةً عَنِ النَّوْمِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْمَوْتِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ لَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ؛ يَقُولُونَ تُوُفِّيَ فُلَانٌ - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - بِمَعْنَى مَاتَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ بِمَعْنَى أَمَاتَهُ، وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتِ التَّوَفِّي فِي الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالٌ إِسْلَامِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَوْتِ، يَحْصُلُ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَحْيَا بِهَا النَّاسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 39: 42) فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي كَوْنِ التَّوَفِّي أَعَمَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لَهُ، فَقَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ الْأَنْفُسَ الَّتِي تُتَوَفَّى فِي مَنَامِهَا غَيْرُ مَيِّتَةٍ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) مَعْنَاهُ يَتَوَفَّى أَنْفُسَكُمْ فِي حَالَةِ نَوْمِكُمْ بِاللَّيْلِ، وَمِثْلُهُ النَّوْمُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْفِطْرَةِ وَالْغَالِبَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ فِيهِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ. أُطْلِقَ التَّوَفِّي فِي الْمَنَامِ عَلَى إِزَالَةِ الْإِحْسَاسِ وَالْمَنْعِ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ فَلَاسِفَةِ الْغَرْبِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَرَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ نَفْسَيْنِ، تُفَارِقُهُ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ النَّوْمِ، وَتُفَارِقُهُ كِلْتَاهُمَا بِالْمَوْتِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا يَكُونُ التَّوَفِّي حَقِيقَةً فِي الْمَنَامِ وَفِي الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ بِقْبِضٍ غَيْرِ تَامٍّ لِأَحَدِ النَّفْسَيْنِ، وَالثَّانِي بِقَبْضٍ تَامٍّ لِكِلْتَيْهِمَا، وَهُوَ يُوَافِقُ ظَاهِرَ آيَةِ الزُّمَرِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الْجَرْحُ: يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ بِالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْعَامِلَةُ، وَبِمَعْنَى التَّأْثِيرِ الدَّامِي مِنَ السِّلَاحِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْبَرَاثِنِ وَالْأَظْفَارِ وَالْأَنْيَابِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ. قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ، وَإِنَّ عَوَامِلَ الْإِنْسَانِ مَا سُمِّيَتْ جَوَارِحَ إِلَّا تَشْبِيهًا لَهَا بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ، وَإِنَّ هَذِهِ مَا سُمِّيَتْ جَوَارِحَ إِلَّا لِأَنَّهَا تَجْرَحُ مَا تَصِيدُهُ وَمَا تَفْتَرِسُهُ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُرْحَ حَقِيقَةً فِي الْكَسْبِ، وَأَنَّ جَوَارِحَ الصَّيْدِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَسْبِهَا لِنَفْسِهَا أَوْ لِمُعَلِّمِهَا الَّذِي يَصِيدُ بِهَا، وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْأَنْعَامَ الْمُنْتِجَةَ تُسَمَّى جَوَارِحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نِتَاجَهَا كَسْبُهَا، فَالْجُرْحُ كَالْكَسْبِ، يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْهُ. نَقَلَ ذَلِكَ اللِّسَانُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ فِعْلُ الشَّرِّ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الْآيَةَ فِي الْكَشَّافِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الِاجْتِرَاحُ بِمَعْنَى فِعْلِ الشَّرِّ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ

الْجَاثِيَةِ: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (45: 21) - الْآيَةَ - وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَرْحُ وَالِاجْتِرَاحُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ لِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ كَمَا وَرَدَ كَثِيرًا فِي الِاكْتِسَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي ذَلِكَ، فَكُلٌّ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاكْتِسَابِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) يَعْلَمُ جَمِيعَ عَمَلِكُمْ وَكَسْبِكُمْ فِي وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّذِي يَكُونُ مُعْظَمُهُ فِي النَّهَارِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، قِيلَ: إِنَّ الْمَاضِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا تَجْرَحُونَهُ فِي النَّهَارِ الَّذِي يَلِي اللَّيْلَ، عَبَّرَ بِهِ لِتُحَقِّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ وَيُرَادُ بِهِ النَّهَارُ السَّابِقُ عَلَى اللَّيْلِ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ يَتَوَفَّاكُمْ فِي جِنْسِ اللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِي جِنْسِ النَّهَارِ. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أَيْ: ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ تَوَفِّيكُمْ بِالنَّوْمِ يُثِيرُكُمْ وَيُرْسِلُكُمْ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، فَالْبَعْثُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - إِثَارَةُ الشَّيْءِ وَتَوْجِيهُهُ، يُقَالُ بَعَثْتُ الْبَعِيرَ أَيْ أَثَرْتُهُ مِنْ بَرْكِهِ وَسِيرَتِهِ. فَإِطْلَاقُ الْبَعْثِ عَلَى الْإِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَجَازًا نَظَرَ إِلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قِيلَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ بِالنَّهَارِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِيهِ، فَمَا نُكْتَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ تَأْخِيرَ ذِكْرِ الْبَعْثِ لِأَجْلِ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ عِلَّتُهُ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) إِلَخْ أَنْ يُوقِظَكُمْ وَيُرْسِلَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ يُقْضَى وَيَنْفُذَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِهِ تَعَالَى لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْكُمْ، فَإِنَّ لِأَعْمَارِكُمْ آجَالًا مَقْدِرَةً مَكْتُوبَةً لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَإِتْمَامِهَا (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) ثُمَّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ يَكُونُ رُجُوعُكُمْ إِذَا انْتَهَتْ آجَالُكُمْ وَمُتُّمْ (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إِذْ يَبْعَثُكُمْ مِنْ مَرَاقِدِ الْمَوْتِ كَمَا كَانَ يَبْعَثُكُمْ مِنْ مَضَاجِعِ النَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا فَيُذَكِّرُكُمْ بِهَا، وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهَا، وَيَجْزِيكُمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَعْثِ مِنْ تَوَفِّي النَّوْمِ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ. وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْجُمْهُورَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَجَعَلَهَا خِطَابًا لِلْكُفَّارِ خَاصَّةً، إِذْ جَعَلَ الْجُرْحَ خَاصًّا بِعَمَلِ السُّوءِ، وَجَعَلَ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ تَوَفِّيهِمْ فِي اللَّيْلِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُنْسَدِحِينَ فِيهِ كَالْجِيَفِ، وَمِنَ الْجُرْحِ بِالنَّهَارِ: عَمَلُ الْآثَامِ فِيهِ. وَجَعَلَ الْبَعْثَ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، وَ " فِي " لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الشَّأْنِ كَحَدِيثِ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ. وَقَالَ فِي بَيَانِ هَذَا: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعْتُمْ بِهِ أَعْمَارَكُمْ مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَكَسْبِ الْآثَامِ بِالنَّهَارِ وَمِنْ أَجْلِهِ، كَقَوْلِكَ:

61

فِيمَ دَعَوْتِنِي؟ فَأَقُولُ: فِي أَمْرِ كَذَا. وَفَسَّرَ الْأَجَلَ الْمُسَمَّى بِمَا ضَرَبَهُ اللهُ لِبَعْثِ الْمَوْتَى وَجَزَائِهِمْ، وَالْمَرْجِعَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا نَصٌّ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْكَفَّارِ وَحْدَهُمْ وَكَوْنِ الْجُرْحِ بِمَعْنَى فِعْلِ الْآثَامِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَثْبُتُ. وَفِي ذِكْرِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي الْآيَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ تَأْيِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ تَأْخِيرِ مَا كَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنْ وَعِيدِ اللهِ لَهُمْ، وَوَعِيدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَبَيَانُ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ مَا أُنْذِرُوا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ الْأَوَّلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَمْ يُفْلِتْ مِنَ الْآخَرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي الْمَوْتِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مُبْتَدِئًا ذَلِكَ بِذِكْرِ قَهْرِهِ لِعِبَادِهِ، وَاسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِهِ الْحَفَظَةَ لِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) بَيَّنَّا مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِنَصِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَلِمَةُ " فَوْقَ " تُسْتَعْمَلُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجِسْمِ وَالْعَدَدِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَذَلِكَ أَضْرُبٌ ضَرَبَ لَهَا الرَّاغِبُ الْأَمْثِلَةَ، فَ " فَوْقَ " الْعُلْوِيَّةُ يُقَابِلُهُ " تَحْتُ "، وَ " فَوْقَ " الصُّعُودِ يُقَابِلُهُ فِي الْحُدُودِ الْأَسْفَلُ، وَ " فَوْقَ " الْعَدَدِ يُقَابِلُهُ الْقَلِيلُ أَوِ الْأَقَلُّ مِنْهُ، وَ " فَوْقَ " الْحَجْمِ يُقَابِلُهُ الصَّغِيرُ أَوِ الْأَصْغَرُ مِنْهُ، وَ " فَوْقَ " الْمَنْزِلَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (43: 32) (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2: 212) وَبِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (7: 127) وَبِهِ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا إِرْسَالُ الْحَفَظَةِ عَلَى النَّاسِ فَمَعْنَاهُ إِرْسَالُهُمْ مُرَاقِبِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ - كَمُرَاقَبَةِ رِجَالِ الْبُولِيسِ السِّرِّيِّ فِي حُكُومَاتِ عَصْرِنَا - مُحْصِينَ لِأَعْمَالِهِمْ بِكِتَابَتِهَا وَحِفْظِهَا فِي الصُّحُفِ الَّتِي تُنْشَرُ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (81: 10) وَهَؤُلَاءِ الْحَفَظَةُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لِحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (82: 10 - 12) وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ اللهِ وَلَا كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانٌ تَفْصِيلِيٌّ لِصِفَةِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ، فَنُؤْمِنُ بِهَا كَمَا نُؤْمِنُ بِكِتَابَةِ اللهِ تَعَالَى لِمَقَادِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا نَتَحَكَّمُ فِيهَا بِآرَائِنَا، وَأَمْثَلُ مَا أُوِّلَتْ بِهِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النَّفْسِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ الْكَاتِبِينَ لِلْأَعْمَالِ، وَهُمُ الْمُعَقِّبَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (13: 11) قِيلَ: إِنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ ضَرَرٍ يَكُونُ عُرْضَةً لَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا أَنْ يُصِيبَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ؛ مِنْهَا أَنَّهَا خَاصَّةً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهَا نَزَلَتْ

حِينَ أَرَادَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَتْلَهُ، عَلَى أَنْ يُلْهِيَهُ الثَّانِي بِالْحَدِيثِ فَيَقْتُلُهُ الْأَوَّلُ، فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى السَّيْفِ يَبِسَتْ عَلَى قَائِمَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّهَا فِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ. وَمِنْهَا أَنَّهَا فِي الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْحَرَسَ الْجَلَاوِزَةَ يَحْفَظُونَهُمْ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: الْمُلُوكُ يَتَّخِذُونَ الْحَرَسَ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمَامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْقَتْلِ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا 13: 11) لَمْ يُغْنِ الْحَرَسُ عَنْهُ شَيْئًا. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) (10، 11) الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَرْفُوعًا " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ " وَرُوِيَ بِلَفْظِ " وَالْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ " بِوَاوٍ وَبِغَيْرِ وَاوٍ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الرَّعْدِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ هُمُ الْحَفَظَةُ الْكَاتِبِينَ فَلَا مَحَلَّ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَجَدُّدِهِمْ وَتُعَاقُبِهِمْ. وَذَكَرُوا مِنَ الْحِكْمَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ وَحِفْظِهَا عَلَى الْعَامِلِينَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَعْمَالَهُ تُحْفَظُ عَلَيْهِ وَتُعْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَبْعَثَ لَهُ عَلَى الْتِزَامِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ الْعِلْمِ الرَّاسِخِ الَّذِي يُثْمِرُ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي تُثْمِرُ الْحَيَاءَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَالْمُرَاقَبَةَ لَهُ، يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْغُرُورُ بِالْكَرَمِ الْإِلَهِيِّ وَالرَّجَاءِ فِي مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ لَدَيْهِمْ مِنْ خَشْيَتِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ كَمَا يَزْجُرُهُمْ تَوَقُّعُ الْفَضِيحَةِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ عَلَى أَعْيُنِ الْخَلَائِقِ وَأَسْمَاعِهِمْ، وَزَادَ الرَّازِيُّ احْتِمَالَ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا أَنْ تُوزَنَ تِلْكَ الصُّحُفُ؛ لِأَنَّ وَزْنَهَا مُمْكِنٌ وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، - كَذَا قَالَ. وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ، بَلْ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ وَزْنِ اللهِ لِلْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِوَزْنِ الْبَشَرِ لِلْأَثْقَالِ الْجِسْمِيَّةِ. وَأَمَّا بَيَانُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ فَتُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ هُنَالِكَ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ حِفْظُ صُوَرِهَا وَآثَارِهَا فِي النَّفْسِ، فَهِيَ أَنَّهَا تَكُونُ الْمَظْهَرَ الْأَتَمَّ الْأَجْلَى لِحُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ، فَإِذَا وُضِعَ كِتَابُ كُلِّ أَحَدٍ يَوْمَ

الْحِسَابِ وَنُشِرَتْ صُحُفُهُ الْمَطْوِيَّةُ فِي سَرِيرَةِ نَفْسِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ فِيهَا بِصُوَرِهَا وَمَعَانِيهَا فَتَتَمَثَّلُ لِذَاكِرَتِهِ وَلِحِسِّهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَمَا عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْحِسِّيَّةِ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةِ - كَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ - فَيَكُونُ حَسِيبًا عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْ عَدْلِ اللهِ وَفَضْلِهِ: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (17: 13، 14) . (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا 18: 49) . (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) قَرَأَ حَمْزَةُ (تَوَفَّاهُ) بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ (تَوَفَّتْهُ) بِالتَّاءِ بَعْدَ الْفَاءِ، وَرَسْمُهُمَا فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ هَكَذَا (تَوَفَّتْهُ) لِأَنَّ الْأَلْفَ رُسِمَتْ يَاءً كَأَصْلِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُرَاقِبُونَكُمْ وَيُحْصُونَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَانْتَهَى عَمَلُهُ تَوَفَّتْهُ أَيْ فَبَضَتْ رُوحَهُ رُسُلُنَا الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمْ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ 32: 11) فَالْأَرْوَاحُ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، لِكُلٍّ مِنْهَا مُسْتَقَرٌّ فِي الْبَرْزَخِ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلْمَوْتِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، لِكُلٍّ مِنْهَا سُنَنٌ وَنِظَامٌ فِي الْحَيَاةِ خَاصٌّ بِهِ فَقَبْضُ الْأُلُوفِ مِنَ الْأَرْوَاحِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَوَضْعُهَا فِي الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهَا عَمَلٌ عَظِيمٌ وَاسِعُ النِّطَاقِ، يَقُومُ بِإِدَارَتِهِ وَنِظَامِهِ رُسُلٌ كَثِيرُونَ وَكُلُّ عَمَلٍ مُنَظَّمٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ جِهَةً وَاحِدَةً هِيَ مَكَانُ الرِّيَاسَةِ وَالنِّظَامِ مِنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ؟ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ الْأَرْوَاحِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الرَّئِيسُ إِلَخْ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْأَعْوَانَ يَقْبِضُونَ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَبْدَانِ ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَوَفٍّ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْقَبْضَ بِنَفْسِهِ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْأَعْوَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُؤْمِنًا دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، أَيْ وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى حَيْثُ يُوَجِّهُهُمْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ أُسْنِدَ التَّوَفِّيَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّمَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ (ص 399) إِمَّا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ وَلِأَعْوَانِهِ جَمِيعًا بِذَلِكَ - وَهُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ - وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُسَخِّرُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ، فَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَبِتَسْخِيرِهِ يَتَصَرَّفُونَ، لَا يَعْتَدُونَ فِي تَنْفِيذِ إِرَادَتِهِ وَلَا يُفَرِّطُونَ، وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ بِنَحْوِ التَّوَانِي وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 38) وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ

62

(يُفْرِطُونَ) مِنَ الْإِفْرَاطِ الْمُقَابِلِ لِلتَّفْرِيطِ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُونَ وَلَا يَعْتَدُونَ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى نَفْيِ الْإِفْرَاطِ غَيْرُ قَوِيَّةٍ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُرَدُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الرُّسُلُ إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ لِيُحَاسِبَهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى آيَةِ (الم السَّجْدَةِ) (32: 11) الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُرَدُّ أُولَئِكَ الرُّسُلُ إِلَى رَبِّهِمْ بَعْدَ إِتْمَامِ مَا وُكِّلَ إِلَيْهِمْ بِمَوْتِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَيَمُوتُونَ هُمْ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا مُخَالَفَتُهُ لِآيَةِ السَّجْدَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبَشَرِ وَبَيَانِ الدَّيْنِ لَهُمْ وَإِقَامَةِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحِسَابَ الَّذِي خُتِمَتْ بِذِكْرِهِ الْآيَةُ حِسَابُ الْبَشَرِ لَا حِسَابُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ يَتَّضِحُ بِهَا مَا فِيهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ. (الْأَوَّلُ) أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتًا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خِطَابٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُكَلَّفِينَ. وَالْتِفَاتًا آخَرَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: ثُمَّ رَدَدْنَاكُمْ أَوْ: رَدَدْنَاهُمْ - عَلَى الِالْتِفَاتِ - إِلَخْ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ تُفْهَمُ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْأُخْرَى. (الثَّانِي) أَنَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الرَّدِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ تَعَالَى رُسُلًا أُخْرَى - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ غَيْرُ رُسُلِ الْمَوْتِ وَرُسُلِ الْحِفْظِ - يَرُدُّونَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبَعْثِ عِنْدَمَا يَحْشُرُونَهُمْ بِأَمْرِهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذِهِ أَظْهَرُ نُكَتِ الِالْتِفَاتِ. (الثَّالِثُ) ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (رُدُّوا) لِلْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي مَجِيئِهِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِفْرَادِ أَوَّلًا وَالْجَمْعِ آخِرًا، لِوُقُوعِ التَّوَفِّي عَلَى الْإِفْرَادِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْمُوعِ. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْقَوْلِ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ، وَالِالْتِفَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ الَّذِي لِلْجَمَاعَةِ ضَمِيرَ غِيبَةٍ لَهُمْ. (الرَّابِعُ) أَنَّ هَذَا الرَّدَّ يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي آيَةِ السَّجْدَةِ (ثُمَّ تُرَدُّونَ) وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْوُقُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ وَانْقَضَى. (الْخَامِسُ) مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ ذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَوَصْفُهُ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي النَّفْسِ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ

(السَّادِسُ) قَالُوا: إِنَّ الرَّدَّ إِلَى اللهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ، أَوْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَمَكَانِ الْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى ذَاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيُّ الْقُحُّ لِفَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا الدَّخِيلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَذْهَبِ غُلَاةِ أَهَلِ الْوَحْدَةِ، وَلَوْ صَحَّ مَذْهَبُهُمْ لَكَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَصْفُ اسْمِ الذَّاتِ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ وَهَاكَ بَيَانُهُ: (السَّابِعُ) أَنَّ وَصْفَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ حَتْمٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُهُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّبَاتُ الْمُتَحَقِّقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ تَوَلِّي بَعْضِ الْعِبَادِ أُمُورَ بَعْضٍ بِمَلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ مَلْكِ التَّصَرُّفِ وَالسِّيَاسَةِ - فَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْقُوتٌ لَا ثَبَاتَ وَلَا بَقَاءَ لَهُ، وَحَقٌّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ أَقَرَّهُ فِي سُنَنِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ الْعَارِضَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوِ الْبَاطِلَةِ فِي ذَاتِهَا دُونَ صُورَتِهَا الْمُؤَقَّتَةِ فَقَدْ زَالَ كُلُّ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ الْمَوْلَى الْحَقُّ وَحْدَهُ، كَمَا زَالَ كُلُّ مَلِكٍ وَمُلْكٍ صُورِيَّيْنِ كَانَا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَصَارُوا إِلَى يَوْمٍ لَا تَمْلِكُ فِيهِ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا (س 82: 19) وَظَهَرَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْمِلْكَ الصُّورِيَّ وَالْحَقِيقِيَّ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (س 40: 16) وَكُلُّ هَذَا مُبْطِلٌ لِخَيَالِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) " أَلَا " حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُذْكَرُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مُهِمًّا؛ لِئَلَّا يَفُوتُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ: (لَهُ الْحُكْمُ) يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الصُّورَةِ وَالْإِضَافَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ 27: 78) (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (42: 10) (قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 39: 46) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَفَسَّرَ كَوْنَهُ تَعَالَى أَسْرَعَ الْحَاسِبِينِ بِأَنَّهُ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فِي أَسْرَعِ زَمَنٍ وَأَقْصَرِهِ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابُ أَحَدٍ عَنْ حِسَابِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ؛ إِذْ لَا مُحَاسِبَ هُنَالِكَ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَاسَبِينَ أَوِ الْحَاسِبِينَ فِي غَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْحَاسِبِينَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَسَبَ الثُّلَاثِيِّ لَا مِنْ حَاسَبَ، وَالْحِسَابُ مَصْدَرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، يُقَالُ: حَسَبَهُ حَسْبًا وَحِسَابًا وَحَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً وَحِسَابًا، وَالْمُحَاسَبَةُ أَوِ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَسْبِ وَالْحِسَابِ الَّذِي هُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، لِأَنَّ الْمُحَاسِبَ

63

يُحْصِي عَلَى مَنْ يُحَاسِبُهُ الْعَدَدَ فِي الْمَالِ، أَوْ مَا نِيطَ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ إِحْصَاءً لِلْأَعْمَالِ وَمُحَاسَبَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (2: 202) فَيُرَاجَعُ فِي ج 2 مِنَ التَّفْسِيرِ. (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنْجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) . أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ وَشُمُولَ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِعْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ، وَحِفْظَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنَهُ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يَبْعَثَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِشَيْءٍ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ تَوْحِيدُهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَظْهَرَهَا الْأَعْلَى وَهُوَ الدُّعَاءُ فِي الرَّخَاءِ كَالدُّعَاءِ فِي الشِّدَّةِ، فَقَالَ: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) ظُلُمَاتُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قِسْمَانِ: ظُلُمَاتٌ حِسِّيَّةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ وَظُلْمَةِ الْمَطَرِ، وَظُلُمَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَظُلْمَةِ الْجَهْلِ بِالطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ، وَظُلْمَةُ فَقْدِ الصُّوَى وَالْمَنَارِ، أَوِ اشْتِبَاهِ الْأَعْلَامِ وَالْآثَارِ، وَظُلْمَةُ الشَّدَائِدِ وَالْأَخْطَارِ، كَالْعَوَاطِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَهِيَاجِ الْبِحَارِ، أَوْ مُسَاوَرَةِ الْأَفَاعِي وَالسِّبَاعِ، أَوْ مُكَافَحَةِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ ظُلُمَاتٍ مِنَ الْمَجَازِ كَتَسْمِيَةِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِذَلِكَ - وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ - وَنَقَلُوا أَنَّهُ قِيلَ لِلْيَوْمِ الشَّدِيدِ يَوْمٌ مُظْلِمٌ وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ. وَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الظُّلْمَةِ عَلَى كُلِّ شِدَّةٍ، بَلْ عَلَى الشِّدَّةِ الَّتِي لَهَا عَاقِبَةً سَيِّئَةً مَجْهُولَةً تُخْشَى وَلَا تُعْلَمُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَهْلِ. وَالتَّضَرُّعُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَهَا بِالضَّعْفِ وَالذُّلِّ، وَالْإِظْهَارُ قَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ وَاقِعٌ وَقَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّضَرُّعِ هُنَا مَا هُوَ صَادِرٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ الْمَطْوِيُّ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ. وَالْخُفْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ - الْخَفَاءُ وَالِاسْتِتَارُ، فَإِذَا كَانَ التَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالْجَهْرِ وَالدُّعَاءِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ مَعَ الْبُكَاءِ - فَالْخُفْيَةُ فِي الدُّعَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ

إِسْرَارِهِ هَرَبًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَهَاتَانِ حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيَأْسِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ تَارَةً يَجْأَرُ بِالدُّعَاءِ رَافِعًا صَوْتَهُ مُتَضَرِّعًا مُبْتَهِلًا، وَتَارَةً يُسِرُّ الدُّعَاءَ وَيُخْفِيهِ مُخْلِصًا مُحْتَسِبًا، وَيَتَحَرَّى أَلَّا تَسْمَعَهُ أُذُنٌ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ أَحَدٌ، وَيَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ أَجْدَرَ بِالْقَبُولِ، وَأَرْجَى لِنِيلِ السُّؤْلَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا أُودِعَ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ فِي أَعْمَالِ فِطْرَتِهِمْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عِنْدَمَا تَغْشَاكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ تَدْعُونَهُ عِنْدَ وُقُوعِكُمْ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا دُعَاءَ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءَ خُفْيَةٍ قَائِلِينَ: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ مُقْسِمِينَ هَذَا الْقَسَمَ فِي دُعَائِكُمْ: لَئِنْ أَنْجَانَا اللهُ مِنْ هَذِهِ الظُّلْمَةِ أَوِ الدَّاهِيَةِ الْمُظْلِمَةِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالشُّكْرِ الدَّائِمِ لَهُ، الْمُنْتَظِمِينَ فِي سِلْكِ أَهْلِهِ، وَفِي قِرَاءَةٍ (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا) بِالْخِطَابِ وَسَيَأْتِي. (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الْكَرْبُ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَرْبِ الْأَرْضَ، وَهُوَ إِثَارَتُهَا وَقَلْبُهَا بِالْحَفْرِ، إِذِ الْغَمُّ يُثِيرُ النَّفْسَ كَذَلِكَ، أَوْ مِنَ الْكَرَبِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْعِقْدُ الْغَلِيظُ فِي رِشَاءِ الدَّلْوِ (حَبْلُهُ) وَقَدْ يُوصَفُ الْغَمُّ بِأَنَّهُ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، أَيْ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَغْمُومُ مِنَ الضَّغْطِ عَلَى قَلْبِهِ وَالضِّيقِ فِي صَدْرِهِ، أَوْ مِنْ أَكْرَبْتُ الدَّلْوَ إِذَا مَلَأْتَهُ - أَفَادَهُ الرَّاغِبُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ يُنْجِيكُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَمَنْ كُلِّ كَرْبٍ يَعْرِضُ لَكُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ بَعْدَ النَّجَاةِ أَقْبَحَ الشِّرْكِ مُخْلِفِي وَعْدَكُمْ لَهُ بِالشُّكْرِ، حَانِثِينَ بِمَا وَكَّدْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْيَمِينِ، مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ مُسْتَمِرِّينَ، لَا تَكَادُونَ تَنْسَوْنَهُ إِلَّا عِنْدَ ظُلْمَةِ الْخَطْبِ، وَشَدَّةِ الْكَرْبِ. وَأَجْلَى شِرْكِكُمْ أَنَّكُمْ تَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَتُسْنِدُونَ إِلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِقْلَالِ فَبِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ، حَتَّى إِنَّكُمْ لَا تَسْتَثْنَوْنَ مِنْهَا تِلْكَ النَّجَاةَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَبْلَغِ الْحُجَجِ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُهَا، وَطَالَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَأَقْرَبُ بَسْطٍ لَهَا مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (40) ، وَ (41) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ شَوَاهِدُ بِمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُنَجِّيكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ مِنَ التَّنْجِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا؛ مِنَ الْإِنْجَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي تَعْدِيَةٍ نَجَا يَنْجُو، يُقَالُ: نَجَّاهُ وَأَنْجَاهُ، وَنَطَقَ بِهِمَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي التَّشْدِيدِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ مَا لَيْسَ فِي التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (خِفْيَةً) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (أَنْجَانَا) عَلَى الْغَيْبَةِ، فَعَاصِمٌ فَخَّمَهَا وَالْآخَرُونَ قَرَءُوهَا بِالْإِمَالَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (أَنْجَيْتَنَا) عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ هَكَذَا (أَنْجَيْنَا) وَقِرَاءَةُ الْغَيْبَةِ أَقْوَى مُنَاسَبَةً لِلَّفْظِ، وَالْخِطَابُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ.

65

(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) . ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ النَّاسَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي وَقَائِعِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا كُلُّ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُنْجِيهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالْكُرُوبِ وَالْأَهْوَالِ وَالْخُطُوبِ، إِمَّا بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَإِمَّا بِدَقَائِقِ اللُّطْفِ وَالْإِلْهَامِ، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ إِثْرَ التَّذْكِيرِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيَتِهِمْ، لَا فَرْقَ فِيهِمَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ، وَإِنْذَارٌ بِأَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِ النِّعَمِ أَنْ تَزُولَ وَتَحِلَّ مَحَلَّهَا النِّقَمُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللهِ، الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَا يَشْكُرُونَ لَهُ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْدَاهُ، وَمِنَ الَّذِينَ يَتَنَكَّبُونَ سُنَنَ اللهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ بِهِ اللهُ: هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُثِيرَ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا تَجْهَلُونَ كُنْهَهُ فَيَصُبَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ يُثِيرَهُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ وَيَخْلُطَكُمْ فِرَقًا وَشِيَعًا، مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ تُشَايِعُ إِمَامًا فِي الدِّينِ، أَوْ تَتَعَصَّبُ لِمَلِكٍ أَوْ رَئِيسٍ، وَيُذِيقُ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وَهُوَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمَكْرُوهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ اللَّبْسِ بِالْخَلْطِ: وَمَعْنَى خَلَطَهُمْ: أَنْ يُنْشِبَ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَيَخْتَلِطُوا وَيَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي. أَقُولُ: وَأَصْلُ مَعْنَى اللَّبْسِ التَّغْطِيَةُ، كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشِّيَعِ كَالْغِطَاءِ، يَسْتُرُ عَنْ كُلِّ شِيعَةٍ مَا عَلَيْهِ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَمَا فِي الِاتِّفَاقِ مَعَهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ،

وَلِمَادَّةِ (ش ي ع) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَصْلِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ (أَحَدُهَا) الِانْتِشَارُ وَالتَّفَرُّقُ، وَمِنْهُ شَاعَ وَأَشَاعَ الْأَخْبَارَ، وَطَارَتْ نَفْسُهُ شُعَاعًا. (ثَانِيهَا) الِاتِّبَاعُ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ تَشْيِيعُ الْمُسَافِرِ وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: أَشَاعَ بِالْإِبِلِ، أَيْ دَعَاهَا إِذَا اسْتَأْخَرَ بَعْضَهَا لِيَتْبَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا. (ثَالِثُهَا) التَّقْوِيَةُ وَالتَّهْيِيجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَيَّعَ النَّارَ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهَا حَطَبًا يُذْكِيهَا بِهِ، وَالشِّيَاعُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - مَا تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي الشِّيَعِ، وَالْأَحْزَابُ الْمُتَفَرِّقَةُ بِالْخِلَافِ فِي الدِّينِ أَوِ السِّيَاسَةِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشِّيَعَ بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ أَيْ أَصْحَابِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقُ بِالرَّجْمِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ - وَكَذَا الطُّوفَانُ - كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَالْعَذَابُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ بِالْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ أَئِمَّةُ السُّوءِ - أَيِ الْحُكَّامِ وَالرُّؤَسَاءِ - وَبِالتَّحْتِ خَدَمُ السُّوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ (مِنْ فَوْقِكُمْ) يَعْنِي أُمَرَاءَكُمْ (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يَعْنِي عَبِيدَكُمْ وَسَفَلَتَكُمْ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْخَبَرِ مِنْهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَوْقِ حَبْسُ الْمَطَرِ، وَبِالتَّحْتِ مَنْعُ الثَّمَرَاتِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ سَلْبِيٌّ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ تَعْبِيرٌ عَنِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ ضِدُّ الْمَنْعِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْحَبْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (35: 2) وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ نَكِرَةً جَازِ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ عَذَابٍ يَأْتِي مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ، أَوْ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ أَوْ مِنْ تُحُوتِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ مُرَادٌ لِأَجْلِ هَذَا الشُّمُولِ لَصَرَّحَ بِالْمُرَادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ 67: 16، 17) وَحِكْمَةُ مِثْلِ هَذَا الْإِبْهَامِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَنْطَبِقَ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ نَكْشِفُ لِلنَّاسِ فِيهِ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ، إِذْ وَرَدَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَأَنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبْلِ الَّذِينَ نَزَلَ فِي زَمَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَمَنْ يَجِيءُ بُعْدَهُمْ. مِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْكَشِفْ لِجُمْهُورِ النَّاسِ انْكِشَافًا تَامًّا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ بِقُرُونٍ - كَوْنُ الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا أَزْوَاجًا؛ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ 13: 3) وَقَالَ: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (51: 49) وَكَانُوا يَحْمِلُونَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ - وَكَوْنُ الرِّيَاحِ تُلَقِّحُ النَّبَاتَ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (15: 22) وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَلْقِيحًا مَجَازِيًّا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابِ فَيَدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ. نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَذَا الْحَسَنُ: تُلَقِّحُ الشَّجَرَ وَتَمْرِي السَّحَابَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُقْتَبَسَ مِنَ التَّنْزِيلِ بِنُورِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لَمْ يَزَلْ خَفِيًّا فِي تَفْصِيلِهِ حَتَّى عَنِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخِيلَ - إِلَى أَنِ اكْتَشَفَ النَّاسُ أَعْضَاءَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي النَّبَاتِ وَكَوْنَهَا تُثْمِرُ بِالتَّلْقِيحِ، وَكَوْنَ الرِّيَاحِ تَنْقِلُ مَادَّةَ الذُّكُورَةِ مِنْ ذَكَرِهَا إِلَى أُنْثَاهَا فَتُلَقِّحُهَا بِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ الْإِفْرِنْجُ بِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ - يَعْنِي الْعَرَبَ - قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا. وَمِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ مِمَّا شَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ وَلَا فِيمَا قَبْلَهُ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ - هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي ظَهَرَ تَفْسِيرُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْحَرْبِ الْأُورُبِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ؛ فَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْأُمَمِ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهَا بِمَا تَقْذِفُهُ الطَّيَّارَاتُ وَالْمَنَاطِيدُ مِنَ الْمَقْذُوفَاتِ النَّارِيَّةِ وَالسُّمُومِ الْبُخَارِيَّةِ وَالْغَازِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَرْبِ فَوْقَ مَقْذُوفَاتِ الْمَدَافِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا كَانَ مَعْرُوفًا قَبْلَهَا، وَلَكِنْ بَعْدَ تَنْزِيلِ الْآيَةِ - وَعَذَابًا مِنْ تَحْتِهَا بِمَا يَتَفَجَّرُ مِنَ الْأَلْغَامِ النَّارِيَّةِ، وَبِمَا تُرْسِلُهُ الْمَرَاكِبُ الْغَوَّاصَةُ فِي الْبَحْرِ الَّتِي اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَبَّسَهَا شِيَعًا مُتَعَادِيَةً، وَأَذَاقَ بَعْضَهَا بَأْسَ بَعْضٍ، فَحَلَّ بِهَا مِنَ التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ مَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا فِي مَقَالَةٍ نَشَرْنَاهَا فِي الْمَنَارِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ مُرَادٌ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْزِلَ الْقُرْآنِ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ " وَيُقَوِّيهِ مَا وَرَدَ فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى أُمَّتِنَا ; لِأَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أَيِ انْظُرْ بِعَيْنِ عَقْلِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - وَمَثَلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مُخَاطَبٍ بِالْقُرْآنِ - كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ فَنَجْعَلُهَا عَلَى أَنْحَاءٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْحِسُّ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ عِلْمُ الْغَيْبِ - لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَيُدْرِكُونَ كُنْهَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، الْمُفْضِي إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرْجَى تَحْصِيلُهُ بِتَصَرُّفِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِ الْبَيِّنَاتِ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ إِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كَغَيْرِهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ أَوْ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ فَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا مُنْذُ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِنْشَاءِ (الْمَنَارِ)

مَا كُنَّا نُورِدُهُ فِي سِيَاقِ تَذْكِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَسْلَكَنَا هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ " قَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قَالَ: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ " (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْهُ " هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ " - وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِيِّ - وَإِنَّمَا كَانَتْ خَصْلَتَا اللَّبْسِ وَإِذَاقَةِ الْبَأْسِ أَهْوَنَ أَوْ أَيْسَرَ ; لِأَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ قَبْلَهَا هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِإِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَ الْأُمَّةِ أَحَدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ: دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَلَّا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ، وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ الْأُخْرَيَيْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ عَنْهُ - أَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ. . .) قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: " اللهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا وَلَا تُذِقْ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ " قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ أَجَارَ اللهُ أُمَّتَكَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. أَيْ: وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنَ الْعَذَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتْبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَحِلَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عِقَابِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، يَخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِكَلِمَتِهِمْ فَيَكُونُونَ مَذَاهِبَ وَشِيَعًا، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي السُّلْطَةِ وَالسِّيَاسَةِ أَوْ يَتَقَدَّمُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّخَاصُمُ وَالِاقْتِتَالُ الَّذِي نَعْهَدُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَضَاءِ اللهِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ عَذَابُ أَهْلِ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الْأَوَّلَ عَذَابُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ. وَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا) قَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَضَّأَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَلَّا يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَا يَلْبِسَ أُمَّتَهُ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَمَا أَذَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَرْبَعًا، فَأَعْطَاكَ اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَكَ اثْنَتَيْنِ: لَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَإِنَّهُمَا عَذَابَانِ لِكُلِّ أُمَّةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّهَا وَرَدِّ كِتَابِ رَبِّهَا، وَلَكِنَّهُ يَلْبِسُهُمْ شِيَعًا، وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَهَذَانِ عَذَابَانِ لِأَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالْكُتُبِ

وَالتَّصْدِيقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ. وَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (43: 41) يَقُولُ مِنْ أُمَّتِكَ (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ (42) مِنَ الْعَذَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (42) فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَاجَعَ رَبَّهُ، فَقَالَ: " أَيُّ مُصِيبَةٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ أَرَى أُمَّتِي يُعَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا؟ " وَأُوحِيَ إِلَيْهِ (الم أَحْسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) (29: 1، 2) الْآيَتَيْنِ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ تُخَصَّ دُونَ الْأُمَمِ بِالْفِتَنِ، وَأَنَّهَا سَتُبْتَلَى كَمَا ابْتُلِيَتِ الْأُمَمُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (23: 93، 94) فَتَعَوَّذَ نَبِيُّ اللهِ فَأَعَاذَهُ اللهُ، لَمْ يَرَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا الْجَمَاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالطَّاعَةَ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً حَذَّرَ فِيهَا أَصْحَابِ الْفِتْنَةِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَخُصُّ بِهَا نَاسًا مِنْهُمْ دُونَ نَاسٍ، فَقَالَ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (8: 25) فَخَصَّ بِهَا أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ وَعَصَمَ بِهَا أَقْوَامًا. اهـ. وَقَدْ وَفَّى الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللهُ - الْمَسْأَلَةَ حَقَّهَا مِنَ الْبَيَانِ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنْ نَزَلَ بَعْدَهَا بِسِنِينَ كَآيَةِ الْأَنْفَالِ الْأَخِيرَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى هَذِهِ، وَهُوَ بَيَانُ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْفِتَنِ، تُصَابُ بِهَا الْأُمَمُ لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَكَانُوا سَبَبَ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا خَاصَّةً، بَلْ تَحِلُّ بِهِمْ وَبِمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ عَجْزًا، بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذَا، وَلَعَلَّهُ مُحَرَّفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى؛ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا رَبَّهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِتَسْلِيطِ عَدُوٍّ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا بِالسَّنَةِ الْعَامَّةِ - أَيِ الْمَجَاعَةِ وَالْقَحْطِ - وَلَا بِالْغَرَقِ، وَلَا بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ كَالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْعُلَمَاءُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمْثَلُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا هُوَ أَنَّ مَا دَعَا بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ هَلَاكِ أُمَّتِهِ كُلِّهَا بِمَا ذَكَرَ كَمَا هَلَكَتْ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ، وَوُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا يُنَافِي اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ مِنْهُ الْمَوْتَ غَرَقًا أَوْ جُوعًا، وَقَدْ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ حَتْمًا. ثُمَّ حَدَثَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَجْيَالِ الْأَخِيرَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْإِشْكَالِ، وَأَحْوَجُ إِلَى مَثَلِ هَذَا الْجَوَابِ، وَهُوَ تَسْلِيطُ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا الْمُعَارِضُ لِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ

مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكَهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ: مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ - إِلَّا النَّسَائِيَّ - وَغَيْرُهُمْ بِزِيَادَةٍ عَمَّا هُنَا، وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بُلُوغِ مُلْكِ أُمَّتِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفِي وُقُوعِ بَأْسِهِمْ بَيْنَهُمْ، وَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ عَنْ أَكْثَرِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ إِلَّا بِتَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ بِمُسَاعَدَتِهِمْ لِلْأَجَانِبِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَمْ تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ، فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ مَنَالًا، وَمَا بَقِيَ لَهُمُ الْآنَ قَلِيلٌ ضَعِيفٌ، يَتَوَقَّعُ الطَّامِعُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَنَحْنُ نَرْجُو خِذْلَانَ الطَّامِعِينَ، وَإِقَامَةَ قَوَاعِدِ اسْتِقْلَالِنَا عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، يَضْمَنُهُ تَكَافُلُ الْأُمَمِ وَحِفْظُهَا لِلسِّلْمِ وَلَوْ عَشَرَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، لَعَلَّنَا نَصِيرُ فِي فُرْصَتِهَا مِنَ الْعَالِمِينَ الْعَامِلِينَ، الَّذِينَ يَحْفَظُونَ حَقِيقَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُونَ عَلَى تَنَازُعِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ، فَإِنَّ هَذَا اتِّكَالٌ عَلَى أَمْرٍ سَلْبِيٍّ لَا يَدُومُ لَنَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَبْقَى لَنَا هَذَا الْقَلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَبَقَاؤُهُ هُوَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْخَسْفِ وَالْقَحْطِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ هَذَا بِجَوَابٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ جَوَابِهِمْ عَنْ غَيْرِهِ وَغَيْرِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي بَيَانِ صِدْقِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ مَا دَامُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الْإِيمَانِ الْوُثْقَى، وَقَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ وَمِنْهَا الْأَسْبَابُ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى النَّصْرَ مَا دَامُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِيمَا مَرَّ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثٌ آخَرَ عَنْ ثَوْبَانَ نَفْسِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَسَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ. قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ

اللهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. (تَنْبِيهُ غَافِلٍ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلٍ) . يُسِيءُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَأْوِيلَ حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ، وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَهُوَ مَا لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَرْضَاهُ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ؛ فَنَقُولُ: إِنْ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْعَامَّةِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي فَهْمِ أَفْرَادِهَا لِنُصُوصِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَهِيَ فِي حَالِ ارْتِقَائِهَا بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَمَا يُثْمِرَانِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ تَكُونُ أَصَحَّ أَفْهَامًا، وَأَصْوَبَ أَحْكَامًا، وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا وَادِّكَارًا، وَأَحْسَنَ اسْتِفَادَةً وَاسْتِبْصَارًا، وَفِي حَالِ فُشُوِّ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ، وَمَا يُنْتِجَانِ مِنَ الضَّعْفِ وَالذُّلِّ، تَكُونُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَضْرِبُ مَثَلًا لِذَلِكَ: النُّصُوصُ وَالْحِكَمُ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ فِي ذَمِّ الطَّمَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ. لَمْ تَكُنْ تِلْكَ النُّصُوصُ وَالْحِكَمِ وَالْأَشْعَارِ وَالْأَمْثَالِ بِصَادَّةٍ لِلْأُمَّةِ فِي طَوْرِ حَيَاتِهَا وَارْتِقَائِهَا عَنِ الْفَتْحِ وَالْكَسْبِ، وَإِحْرَازِ قَصَبِ السَّبْقِ فِي جَمِيعِ مَيَادِينِ التَّنَازُعِ عَلَى السِّيَادَةِ وَمَوَارِدِ الرِّزْقِ، بَلْ كَانَتْ هِيَ الْحَافِزَةُ لَهَا إِلَى ذَلِكَ بِقَصْدِ إِعْزَازِ الْمِلَّةِ، وَرَفْعِ شَأْنِ الْأُمَّةِ، لِذَلِكَ كَانُوا يَبْذُلُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ بِمُنْتَهَى السَّخَاءِ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَوْ حَفِظَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَّا مَا حَبَسَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَوْقَافِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ لَوَجَدُوا أَنَّ جَمِيعَ مَا مَلَكُوهُ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ وَقْفًا بَلْ وُقِفَ مِرَارًا ; لِأَنَّ الْخَلَفَ الصَّالِحَ صَارَ يُحَوِّلُ أَوْقَافَ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِلَى مِلْكٍ، حَتَّى كَانَ عَمُّ وَالِدِي الشَّيْخُ النَّقَّادُ الْخَبِيرُ السَّيِّدُ أَحْمَدُ أَبُو الْكَمَالِ يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ يَتَحَوَّلُ كُلُّ وَقْفٍ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ مِلْكًا، وَكُلُّ مِلْكٍ وَقْفًا. كَانَتْ تِلْكَ النُّصُوصُ وَالْحِكَمُ لِلْأُمَّةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ كَالْغِذَاءِ الصَّالِحِ لِلْجِسْمِ السَّلِيمِ، يَزِيدُهُ قُوَّةً، وَيَحْفَظُ لَهُ حَيَاتَهُ وَيُعَوِّضُهُ عَنْ كُلِّ مَا يَنْحَلُّ مِنْهُ مِنَ الدَّقَائِقِ الْمَيِّتَةِ مَادَّةً حَيَّةً خَيْرًا مِنْهَا، ثُمَّ صَارَتْ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ كَالْغِذَاءِ الْجَيِّدِ فِي الْجِسْمِ الْعَلِيلِ، لَا يَزِيدُهُ إِلَّا ضَعْفًا وَانْحِلَالًا ; إِذْ صَارُوا

يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالتَّوَاكُلَ وَالْفَقْرَ وَالذُّلَّ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَصَارُوا لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا إِلَّا ضَعْفًا وَعَجْزًا، وَلَا يَزْدَادُونَ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا حِرْصًا وَدَنَاءَةً وَبُخْلًا. إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا الْمِثَالَ فَاجْعَلْهُ مِرْآةً لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَنْبَاءِ مُسْتَقْبَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَسِعَةِ مُلْكِهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا - أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِجَازِ - ثُمَّ تَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَيْهَا كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، وَمِنْ تُفَرُّقِهَا شِيَعًا وَوُقُوعِ بَأْسِهَا بَيْنَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْفِتَنِ، وَمَا يَكُونُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِنَ الْإِحْدَاثِ وَالْبِدَعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِسُوءِ فَهْمِهَا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ - بَعْدَ فُشُوِّ الْجَهْلِ فِيهَا - هُوَ نَحْوٌ مِمَّا أَصَابَهَا بِسُوءِ فَهْمِهَا لِتِلْكَ النُّصُوصِ وَالْحِكَمِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْمِثَالِ. وَطَّنَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْذُ قُرُونٍ عَلَى الرِّضَا بِجَمِيعِ الْفِتَنِ وَالشُّرُورِ الَّتِي أَنْبَأَتِ الْأَحَادِيثُ بِوُقُوعِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَعَدَتْ هِمَمُهُمْ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، مُعْتَذِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ قَدْ وَرَدَ بِوُقُوعِهِ الْخَبَرُ، فَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ، كَمَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْ تَرْكِ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ فِي أَسْبَابِ الْعِزَّةِ وَطُرُقِ الثَّرْوَةِ بِالنُّصُوصِ وَالْحِكَمِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ وَتَهْوَيْنِ أَمْرِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبِ فِي مَعَالِي الْأَمْرِ وَإِيثَارِ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ. وَتَرَاهُمْ مَعَ هَذَا قَدْ تَرَكُوا السَّعْيَ وَالْعَمَلَ لِمَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنَ الْخَيْرِ وَالسِّيَادَةِ كَمَا كَانَ يَسْعَى وَيَعْمَلُ لَهُ سَلَفُهُمْ، وَمِنْ تِلْكَ الْوُعُودِ مَا لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِ؛ لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ مَفْعُولٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالنُّصُوصِ الْآمِرَةِ بِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَعَ ادِّعَائِهِمُ الْأَخْذَ بِمَا وَرَدَ فِي إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا أَوِ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ رُزِئُوا بِالْجَهْلِ وَالْكَسَلِ وَسُقُوطِ الْهِمَّةِ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ يَتْعَبُونَ وَيَشْقَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَالسَّعْيِ لِحُظُوظِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ الدَّنِيئَةِ، وَلَا يُفَكِّرُونَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا يَعْقِلُونَ وَجْهَ ارْتِبَاطِ الْمَنَافِعِ الْخَاصَّةِ بِهَا، بَلْ يَتْرُكُونَهَا زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ قَدْ وَكَّلُوا أَمْرَهَا إِلَى اللهِ وَعَمِلُوا بِهَدْيِ دِينِهِ فِيهَا. بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا الزَّعْمَ إِلَّا إِذَا عَذَلَهُ عَاذِلٌ أَوْ وَبَخَّهُ مُوَبِّخٌ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي حُقُوقِ أُمَّتِهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمِلَّتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَذِرُونَ بِالْأَقْدَارِ، أَوْ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَهُمْ وَالدُّنْيَا لِلْكَفَّارِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاهُمْ بِفَسَادِ شُبْهَتِهِمْ هَذِهِ مِرَارًا (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (40: 13) .

إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخْبِرْ أُمَّتَهُ بِمَا سَيَقَعُ فِيهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ، وَرُكُوبِ سُنَنِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِحْدَاثِ وَالْبِدَعِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْفِتَنِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ وَالْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأُمَمِ - إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِي مُقَاوَمَةِ ضُرِّهَا وَاتِّقَاءِ تَفَاقُمِ شَرِّهَا،، لَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا إِثَارَةَ تِلْكَ الْفِتَنِ وَالِاصْطِلَاءِ بِنَارِهَا، وَالِاقْتِرَافِ لِأَوْزَارِهَا، فَمَثَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ الطَّبِيبِ الَّذِي يُخْبِرُ الْمُسَافِرِينَ إِلَى أَرْضٍ مَجْهُولَةٍ لَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُمْ فِي اتِّقَاءِ وُقُوعِهَا بِهِمْ، ثُمَّ فِي مُدَاوَاةِ مَنْ يُصَابُ بِهَا مِنْهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ عُرْضَةً لَهَا بِإِتْيَانِ أَسْبَابِهَا، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى الْهَلَاكِ بِتَرْكِ التَّدَاوِي مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِ لَعْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِاتِّخَاذِ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَإِنَّهَا عَلَّلَتْهُ بِقَوْلِهَا: يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي تَدَهْوَرَ فِي تَيْهُورِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى لَا نَقَعَ فِيهِ عَلَى غَرَارَةٍ وَجَهَالَةٍ فَيَكُونُ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَلَا نَهْتَدِي إِلَى تَخْفِيفِهِ سَبِيلًا (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (39: 9) وَلَوْ أَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ كَتَبُوا فِي التَّفْسِيرِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ لَبَيَّنُوا لَنَا ذَلِكَ. وَلَمْ يُقَصِّرِ الْمُصَنِّفُونَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَصَّرُوا فِي بَيَانِ مَا هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ وَالْحَثِّ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا، وَلَوْ عَنُوا بِذَلِكَ بَعْضَ عِنَايَتِهِمْ بِفُرُوعِ الْأَحْكَامِ وَقَوَاعِدِ الْكَلَامِ لَأَفَادُوا الْأُمَّةَ مَا يُحْفَظُ بِهِ دِينُهَا وَدُنْيَاهَا، وَهُوَ مَا لَا يُغْنِي عَنْهُ التَّوَسُّعُ فِي دَقَائِقِ مَسَائِلِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَالسِّلْمِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، لَا يَعْلُوهُ إِلَّا الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، بَلْ هُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ طُرُقِهِ وَوَسَائِلِهِ. وَقَدْ فَطِنَ لِهَذَا بَعْضُ حُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَحْمُودِ مِنَ الْعُلُومِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ فِي الْإِحْيَاءِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِ الِاسْتِقْصَاءِ فَهُوَ الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا عِلْمٌ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ. ثُمَّ فَضَّلَ أَهْلَ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ كَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَيَّدَهُ فِي ذَلِكَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إِذِ اسْتُفْتِيَ فِيهِ فَأَفْتَى بِصِحَّتِهِ. وَبَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عُظَمَاءُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَنَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: مَاتَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ (وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَحْسَبُ عُمْرَ قَدْ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ) .

66

أَقُولُ: أَمَّا الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مِعْرَاجُ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ وَمَقْصِدٌ، أَعْنِي أَنَّهُ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ لِكَمَالِ الْعِلْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ، وَأَقْوَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ الْعُلُومِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا الْبَشَرُ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ فَيَكُونُونَ بِهَا أَعِزَّاءَ أَقْوِيَاءَ سُعَدَاءَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى بُلُوغُ كَمَالِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ إِذَا نُظِرَ فِيهِ إِلَى الْوَجْهِ الرَّبَّانِيِّ وَالْوَجْهِ الْإِنْسَانِيِّ جَمِيعًا، وَهُوَ مَا كَانَ عُمَرُ يَنْظُرُ فِيهِ بِنُورِ اللهِ فِي فِطْرَتِهِ وَهِدَايَةِ كِتَابِهِ، وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ فَقَدْ لَاحَظَ الْوَجْهَ الرَّبَّانِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّ فِي سِيَاسَةِ عُمَرَ وَفِي كَلَامِهِ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَصِيرَتِهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ وَسِيلَةً لَنَا لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِنَا، وَإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِنَا، آمِينَ. إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا أَيُّهَا الْقَارِئُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَالسَّاعَةِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِدَوَامِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَلَوَازِمِهِمَا كَمَا يَزْعُمُ الْجَاهِلُونَ بِسُنَنِ اللهِ، الْيَائِسُونَ مِنْ رُوحِ اللهِ، بَلْ تُوجَدُ نُصُوصٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِجَوَادِهَا نَهْضَةً مِنْ هَذِهِ الْكَبْوَةِ، وَأَنَّ لِسَهْمِهَا قَرْطَسَةً بَعْدَ هَذِهِ النَّبْوَةِ كَالْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ عُمُومَهَا لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، وَكَخَبَرِ " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا، وَحَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَمَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا ضَلَالَ الطَّرِيقِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنْهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيُوَضِّحُ مَعْنَاهُ مَا صَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ مِسَاحَةَ الْمَدِينَةِ سَوْفَ تَبْلُغُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: إِهَابٌ، أَيْ أَنَّ مِسَاحَتَهَا سَتَكُونُ عِدَّةَ أَمْيَالٍ، فَكُونُوا يَا قَوْمُ مِنَ الْمُبَشِّرِينَ لَا مِنَ الْمُنَفِّرِينَ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) . (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: وَكَذَّبَ جُمْهُورُ قَوْمِكَ وَهُمْ قُرَيْشٌ بِالْعَذَابِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، عَلَى مَا صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْجَاذِبَةِ إِلَى فِقْهِ الْإِيمَانِ بِجَعْلِهَا حُجَجًا يُثْبِتُهَا الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ فِي أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا الْكِبْرُ وَالْعِنَادُ وَالْجُمُودُ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّنِي لَسْتُ بِوَكِيلٍ مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ لَكُمْ، فَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَفِي الْوِكَالَةِ مَعْنَى السَّيْطَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، فَمَنْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ أَوِ الْمَلِكُ وَكِيلًا لَهُ عَلَى بِلَادِهِ أَوْ مَزَارِعِهِ يَكُونُ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ عَنْهُ فِيهَا وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، يُذَكِّرُ النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيُبَشِّرُهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَيُقِيمُ دِينَ اللهِ فِيهِمْ، هَذِهِ وَظِيفَتُهُ، وَلَيْسَ وَكِيلًا عَنْ رَبِّهِ وَمُرْسِلِهِ، وَلَا يُعْطَى الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي عِبَادِهِ حَتَّى يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَيُكْرِهَهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2: 256) -

67

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (88: 21، 22) (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (50: 45) (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ (6: 48) وَقِيلَ: الْوَكِيلُ الْحَفِيظُ الْمُجَازِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُغْرَمِينَ بِتَكْثِيرِ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ الْمُصِيبُ، فَإِنَّ الْأَذَى بِالْقِتَالِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَيْضَةِ لَمْ يُخْرِجِ الرَّسُولَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، أَيْ عَبْدًا لِلَّهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ، لَا شَرِيكًا لَهُ وَلَا وَكِيلًا، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ تَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ الْوَجْهُ فِي مُرَادِهِ مِنْهُ أَنَّ آيَةَ الْقِتَالِ أَزَالَتْ مَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ إِرْشَادِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السُّكُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، ذَلِكَ التَّكْذِيبُ الْقَوْلِيُّ الْعَمَلِيُّ الَّذِي أَبْرَزُوهُ بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَمَنْعِهِ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ، وَإِيذَائِهِ وَإِيذَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ النَّسْخِ مَعْنًى أَعَمَّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: أَيْ أَنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِحَرْبِكُمْ وَمَنْعِكُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ. انْتَهَى. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ كَثِيرُونَ بِنَسْخِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ هِيَ الْفَضَائِلُ الَّتِي كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَحَلِّيًا بِهَا طُولَ عُمُرِهِ مَعَ وَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ فِي الْعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى. (لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هَذَا تَمَامُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ كَمَا قِيلَ، أَوِ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ يَهْتَمُّ بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: خَبَرٌ ذُو فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. انْتَهَى. وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ أَوْ مَدْلُولُهُ الَّذِي يَقَعُ مُصَدِّقًا لَهُ، وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ الثَّبَاتُ الَّذِي لَا تَحَوُّلَ فِيهِ، وَاسْمُ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَهُ، وَإِرَادَةُ الزَّمَانِ هُنَا أَظْهَرَ، وَيَسْتَلْزِمُ غَيْرَهُ مَعَهُ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ شَيْءٍ يُنَبَّأُ عَنْهُ مُسْتَقَرٌّ تَظْهَرُ فِيهِ حَقِيقَتُهُ، وَيَتَمَيَّزُ حَقُّهُ مِنْ بَاطِلِهِ، فَلَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مُسْتَقَرَّ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَذَّبْتُمْ بِهِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، أَوْ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْحَقِّ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ زَمَانٌ يَحْصُلُ فِيهِ مَضْمُونُهُ، فَيَكُونُ قَارًّا ثَابِتًا فِيهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَا وَعَدَ اللهُ الرَّسُولَ، مِنْ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (39: 25، 26)

68

(قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (39: 39 - 41) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ. وَحَسْبُكَ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ فَهِيَ مُطَابَقَةٌ لِمَا هُنَا أَتَمَّ الْمُطَابَقَةِ، وَإِذْ جُعِلَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَانَ مَعْنَاهُ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ اسْتِقْرَارٌ أَيْ وُقُوعٌ ثَابِتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَمِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي غَيْرِهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ أُمُورًا تَأْتِي فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ لِمَنْ فَقِهَ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (41: 52، 53) وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزْدَادَ فَهْمًا بِوُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، فَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ وَأَجَلِهِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) .

أَنْذَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةَ - أُمَّةَ الدَّعْوَةِ - مِثْلَ الْعَذَابِ الَّذِي بَعَثَهُ عَلَى مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَعَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَلَا مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمُتَّبِعِيهِمْ - تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْجَى لِمَنْ تَدَبَّرَهَا فِقْهُ الْأُمُورِ وَإِدْرَاكُ حَقَائِقِ الْعِلْمِ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَالْبَيَانِ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِالْقُرْآنِ، وَكَوْنَ الرَّسُولِ مُبَلِّغًا لَا خَالِقًا لِلْإِيمَانِ، وَإِحَالَتَهُمْ فِي ظُهُورِ صِدْقِ أَنْبَائِهِ عَلَى الزَّمَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَيْفَ يُعَامَلُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِالْبَاطِلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - أَعْنِي أُمَّةَ الدَّعْوَةِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ كُفَّارِهَا الَّذِينَ لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهَا - بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُ مَنْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ مِمَّنْ أَجَابُوهُمَا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَقَالَ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُجَاهِدٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَقَطْ، فَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي كَوْنِ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ مُوَجِّهًا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجُمْلَتِهَا - مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهَا وَمَنْ لَمْ يُجِبْ - وَكَوْنِ تُفَرُّقِهَا شِيَعًا يَذُوقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَمْرًا مَقْضِيًّا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فَلَا مَرَدَّ لَهُ، وَالْخِطَابُ عَلَى الْأَوَّلِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُشَارِكُهُ فِي حُكْمِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ، وَعَلَى الثَّانِي كُلُّ مَنْ يَقْرَأُ الْآيَةَ وَيَسْمَعُهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ ; إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِمْ، لَا مِنَ السِّيَاقِ - وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ - وَلَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْفُوعَةِ فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِنَّ الْخَائِضِينَ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِهَا. وَأَصْلُ الْخَوْضِ وَحَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ وَالْمُرُورُ مَشْيًا أَوْ سِبَاحَةً، وَجَدْحُ السَّوِيقَ أَيْ لَتُّ الدَّقِيقِ بِاللَّبَنِ، وَيُسْتَعَارُ لِمُرُورِ الْإِبِلِ فِي السَّرَابِ، وَوَمِيضِ الْبَرْقِ فِي السَّحَابِ، وَلِلِانْدِفَاعِ فِي الْحَدِيثِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْبَاطِلِ مَعَ أَهْلِهِ، وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ، وَفُسِّرَ الْخَوْضُ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَءُوا، فَنَزَلَتْ (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الْآيَةَ. قَالَ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَءُوا قَامَ، فَحَذَّرُوا وَقَالُوا: لَا تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ. . إِلَخْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ

وَقَعُوا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ فَسَبُّوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلَّا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاضُوا وَاسْتَهْزَءُوا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا يَصِحُّ لَنَا مُجَالَسَتُهُمْ؛ نَخَافُ أَنْ نَحْرِجَ حِينَ نَسْمَعُ قَوْلَهُمْ وَنُجَالِسُهُمْ فَلَا نَعِيبُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ (وَإِذَا رَأَيْتَ) أَيْ أَنْزَلَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذَا مُرَادُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا. وَقَوْلُهُمْ نَحْرِجُ " مَعْنَاهُ نَقَعُ فِي الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ. وَفُسِّرَ الْخَوْضُ فِي الْآيَاتِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِمُفَسِّرِي السَّلَفِ بِالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ. وَانْتِصَارًا لِلْمَذَاهِبِ وَالْأَحْزَابِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ - قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللهِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا أَوَّلًا بِالذَّاتِ سَيِّدُنَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ الْجَامِعُ الْمُخَاطَبُ بِهِ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ: " وَإِذَا رَأَيْتَ " أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ " الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا " الْمُنَزَّلَةِ، مِنَ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُفَرَّقِينَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ انْصَرِفْ عَنْهُمْ، وَأَرِهِمْ عَرْضَ ظَهْرِكَ بَدَلًا مِنَ الْقُعُودِ مَعَهُمْ أَوِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِكَ " حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ " أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي مَوْضِعُهُ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْكُفَّارِ، أَوْ تَأْوِيلُهَا بِالْبَاطِلِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، لِتَأْيِيدِ مَا اسْتَحْدَثُوا مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِ خُصُومِهِمْ بِالْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، فَإِذَا خَاضُوا فِي غَيْرِهِ فَلَا يَأْسَ بِالْقُعُودِ مَعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي " غَيْرِهِ " لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَسَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى الْخَائِضِينَ وَالْقُعُودَ مَعَهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَهُمْ عَلَى خَوْضِهِمْ، وَإِغْرَاءٌ بِالتَّمَادِي فِيهِ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُ رِضَاءٌ بِهِ وَمُشَارَكَةٌ فِيهِ، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كُفْرٌ ظَاهِرٌ، لَا يَقْتَرِفُهُ بِاخْتِيَارِهِ إِلَّا مُنَافِقٌ مُرَاءٍ أَوْ كَافِرٌ مُجَاهِرٌ، وَفِي التَّأْوِيلِ لِنَصْرِ الْمَذَاهِبِ أَوِ الْآرَاءِ مَزْلَقَةٌ فِي الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ، وَفِتْنَتُهُ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ تَغُشُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ الْحَقَّ، وَيَخْدِمُونَ الشَّرْعَ، وَيُؤَيِّدُونَ الْأَئِمَّةَ الْمُهْتَدِينَ، وَيَخْذُلُونَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُضِلِّينَ ; وَلِذَلِكَ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ مِنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشَدَّ مِمَّا حَذَّرُوا مِنْ مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ، إِذْ لَا يُخْشَى عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ فِتْنَةِ

الْكَفَّارِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُبْتَدِعِ ; لِأَنَّهُ يُحْذَرُ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى ضَعْفِ شُبْهَتِهِ، مَا لَا يُحْذَرُ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ يَجِيئُهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقْعُدَ الْمُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ الْكَفَّارِ فِي حَالِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِهَا، وَطَعْنِهِمْ فِيهَا كَمَا يَقْعُدُ مُخْتَارًا مَعَ الْمُجَادِلِينَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ قُعُودُ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ الْمُسْتَهْزِئِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، كَشِدَّةِ الضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَمْ تَكُنْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَطْبِيقَ آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ عَلَى آرَاءِ مُقَلِّدِيهِمْ بِالتَّكَلُّفِ، أَوْ يَرُدُّونَهَا وَيُحَرِّمُونَ الْعَمَلَ بِهَا بِدَعْوَى احْتِمَالِ النَّسْخِ أَوْ وُجُودِ مُعَارِضٍ آخَرَ، وَقَدْ نَقَلْنَا كَلَامًا فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ فَتْحِ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (4: 140) . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ آيَاتِ اللهِ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِهَوَاهُ لِأَجْلِ أَنْ يُكَفِّرَ بِهَا مُسْلِمًا أَوْ يُضْلَلَ بِهَا مُهْتَدِيًا، بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ بِمِصْرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفِيمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ تَوَلِّي أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَفَّارِ بِنَحْوِ إِعَانَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (60: 1) زَعَمَ الْمُحَرِّفُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَادِيًا لِلنَّصَارَى ابَّنُوا فِيهِ طَبِيبًا مِنْهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا فِيهِ بِآيَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَسْتَهْزِئُوا بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ حَدِيثِهِمْ، وَلَيْسُوا مُحَارِبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّحْرِيفِ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِ آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنِّسَاءِ مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إِدْخَالَهُ فِيهِ أَوْ تَفْسِيرِهِ بِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيفُ آيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَيَرُدُّهُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ - وَهُوَ فِي وِلَايَةِ الْمُحَارِبِينَ - بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ تَأْيِيدُ هَذَا التَّقْيِيدِ بِمَا يَنْفِي عُمُومَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ بَعْدَهُ: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمُونَ) (8، 9) . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِمَا ذُكِرَ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنْزَلَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِي أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمَ مِنْهُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ ; إِذْ كَانَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ لِمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ عُذْرٌ إِلَّا إِخْفَاءُ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَعَمِلَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَانْتَهَوْا عَمَّا قِيلَ إِنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، فَمَا عُذْرُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُعُودِ

مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُمْ يَتْلُونَهُ أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِمْ؟ لِهَذَا شَدَّدَ اللهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يَقْعُدُونَ مَعَهُمْ: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) ، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَعَذَرَهُمْ بِنِسْيَانِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ، وَإِنْ فُرِضَ أَنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ النَّهْيَ مَرَّةً مَا، وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ ثُمَّ ذَكَرْتَهُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا، بَدَلًا مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (يُنَسِّيَنَّكَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ فِي التَّنْسِيَةِ مَعْنَى التَّكْرَارِ. وَهَلِ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَمَا قِيلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ " إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ " وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟ أَمْ لِلرَّسُولِ بِالذَّاتِ وَلِغَيْرِهِ بِالتَّبَعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ كَمَا قِيلَ آيَاتٌ أُخْرَى؟ أَقُولُ: ظَاهِرُ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْلَصُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ، بَلْ وَرَدَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (16: 99: 100) وَلَكِنَّ إِنْسَاءَ الشَّيْطَانِ بَعْضَ الْأُمُورِ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَرُّفِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى حِينَ نَسِيَ الْحُوتَ: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (18: 63) وَإِنَّمَا كَانَ فَتَاهُ - أَيْ خَادِمَهُ لَا عَبْدَهُ - يُوشَعُ بْنُ نُونٍ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (12: 42) الْآيَةَ أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، إِذْ أَمَرَ النَّاجِيَ مِنْ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ بِذِكْرِهِ عَنْدَ الْمَلِكِ وَابْتِغَاءِ الْفَرَجِ مِنْ عِنْدِهِ (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) عُقُوبَةً لَهُ، بَلْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ، رَوَوْهُ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا، وَهُوَ " لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ، مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ، حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى " هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهَا، أَخْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعُقُوبَاتِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْءِ الْحَسَنِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِكَوْنِهِ ضَارًّا أَوْ مُفَوِّتًا لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ لِكَوْنِهِ حَصَلَ بِوَسْوَسَتِهِ وَلَوْ بِإِشْغَالِهَا الْقَلْبَ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ - لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّاسِي، وَاسْتِحْوَاذِهِ عَلَيْهِ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ الَّذِي

نَفَاهُ اللهُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ كِبَارِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ الْمَعْصُومِينَ بِإِعَانَتِهِ عَلَى شَيْطَانِهِ حَتَّى أَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ يَنْسَى الْإِنْسَانُ خَيْرًا بِاشْتِغَالِ فِكْرِهِ بِخَيْرٍ آخَرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نُهِيَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ. إِلَخْ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَمَّا وُقُوعُ النِّسْيَانِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ وَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (18: 24) بَلْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْكَهْفِ) وُقُوعُهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) (18: 73) وَإِنَّمَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، وَمِثْلُهُ النِّسْيَانُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِخْلَالٌ كَإِضَاعَةِ فَرِيضَةٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَقَدْ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) (2: 106) بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رُبَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَنَسِيَهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا نَنْسَخْ) الْآيَةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ إِسْنَادُ النِّسْيَانِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ " فَنَسِيتُ " وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ " فَأُنْسِيتُهَا " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ سَهْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي " إِلَخْ. وَهُوَ فِي بَابِ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لَهُ مِنَ الْفَتْحِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّهْوِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ فِي الْأَفْعَالِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالنُّظَّارِ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ السَّهْوُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْلِمُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرْطُهُ تُنَبُّهُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفَوْرِ مُتَّصِلًا بِالْحَادِثَةِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ تَأْخِيرَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّهْوَ

عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الظَّوَاهِرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ السَّهْوَ لَا يُنَاقِضُ النُّبُوَّةَ، وَإِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ، بَلْ تَحْصُلُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ بَيَانُ أَحْكَامِ النَّاسِي، وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ. " قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ السَّهْوِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَعَادَاتِهِ وَادِّكَارِ قَلْبِهِ - فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا السَّهْوُ فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ فَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَعَمُّدِهِ، وَأَمَّا السَّهْوُ فِي الْأَقْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَفِيمَا لَيْسَ سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا أَخْبَارِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَا يُضَافُ إِلَى وَحْيٍ - فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ؛ إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ. " قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَ فِيهِ: تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ خُلْفٌ فِي خَبَرٍ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، لَا فِي صِحَّةٍ وَلَا فِي مَرَضٍ، وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٍ، وَحَسْبُكَ فِي ذَلِكَ أَنَّ سِيرَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَلَامَهُ مَجْمُوعَةٌ مُعْتَنًى بِهَا عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، يَتَدَاوَلُهَا الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُرْتَابُ، فَلَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اسْتِدْرَاكُ غَلَطٍ فِي قَوْلٍ وَلَا اعْتِرَافٌ بِوَهْمٍ فِي كَلِمَةٍ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ وَنَوْمُهُ عَنْهَا، وَاسْتِدْرَاكُهُ رَأْيَهُ فِي تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَفِي نُزُولِهِ بِأَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَوَازُ السَّهْوِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ ". اهـ. أَمَّا حَدِيثُ تَلْقِيحِ النَّخْلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ (الْقَاضِي عِيَاضٌ فَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: " مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ " قُلْتُ: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ،

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا " قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذُبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ - يَقُولُ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ -، فَقَالَ: " مَا تَصْنَعُونَ؟ " قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: " لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا " فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ - أَوْ قَالَ: فَنَقَصَتْ - قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرَتْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " قَالَ عِكْرِمَةَ: أَوْ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْمَعْقِرِيُّ: فَنَفَضَتْ وَلَمْ يَشُكَّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ مَعًا بِلَفْظِ، مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: " لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا يَصْلُحْ " قَالَ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: " مَا لِنَخْلِكُمْ؟ " قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ". وَالشِّيصُ: الْبُسْرُ الرَّدِيءُ، إِذَا يَبِسَ صَارَ حَشَفًا، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ خَبَرًا، وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، قَالُوا: وَرَأْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمُورِ الْمَعَايِشِ وَظَنُّهُ كَغَيْرِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا، وَلَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ هِمَمِهِمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفِهَا، وَاللهِ أَعْلَمُ. اهـ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ مَاءِ بَدْرٍ فَهِيَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ نَزَلَ عِنْدَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ - أَيْ أَقْرَبِهِ - فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: " بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ (أَيْ قُرَيْشٍ) فَإِنِّي أَعْرِفُ غَزَارَةَ مَائِهِ - كَثْرَتَهُ - بِحَيْثُ لَا يَنْزَحُ، فَنَنْزِلُهُ ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا عَدَاهُ مِنَ الْقُلُبِ (جَمْعُ قَلِيبٍ كَقَتِيلٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يُبْنَ مِنَ الْآبَارِ) ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلَأُهُ مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ ". هَذَا وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَتَعْظِيمِ مَنْ دُونَهُمْ بِالْأَقْوَالِ كَالشُّعَرَاءِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا ثَبَتَ فِي سِيرَتِهِمْ. وَالْقَاضِي عِيَاضٌ - أَحْسَنَ اللهُ جَزَاءَهُ - كَانَ مِنَ الْمَيَّالِينَ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي

التَّعْظِيمِ. وَقِيَاسُهُ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى خَاتَمِهِمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ دِينَهُمْ، وَتَمَّمَ بِهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ - لَا يَصِحُّ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (2: 253) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي مَسْأَلَةِ نِسْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ (ص) بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (7: 200 - 202) فَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ يَأْتِي فِيهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (7: 199) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَارَبِّ كَيْفَ وَالْغَضَبُ " فَنَزَلَ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) الْآيَةَ. وَكَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ بِهِ قَرِينَهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ". فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ النُّصُوصَ جَزَمَ بِأَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنُهُ مِنْ إِغْوَائِهِ وَإِضْلَالِهِ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَسْوَسَةِ لَيْسَ سُلْطَانًا، وَلَا سِيَّمَا أَدْنَاهَا وَمَبْدَؤُهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي آيَتَيِ الْأَعْرَافِ بِالنَّزْغِ وَالْمَسِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْرَاهِ إِنْسَانٍ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ سُمِّيَتْ طَاعَةُ وَسْوَسَتِهِ سُلْطَانًا تَشْبِيهًا بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالْقُوَّادِ الَّذِينَ يُجْبِرُونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى مَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ فَيَأْتُونَهُ كُرْهًا، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (14: 22) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (قُضِيَ الْأَمْرُ) مَعْنَاهُ أَمْرُ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ. فَمَنْ وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَأَمَرَهُ بِمُنْكَرٍ فَلَمْ يُطِعْهُ كَانَ مَحْفُوظًا مِنْ إِغْوَائِهِ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يُوَسْوِسْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُزَيِّنْ لَهُ الْمَعَاصِيَ، إِذَا صَحَّ مَا قَالُوا فِي تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ قَدْ رُكِّبَتْ فِيهِمُ الشَّهَوَاتُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْمَعَاصِي، فَقَاوَمُوهَا وَالْتَزَمُوا الطَّاعَةَ، وَفِي إِطْلَاقِهِ بَحْثٌ نَدَعُهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ هَرَبًا مِنَ التَّطْوِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ قَدْ يَمَسُّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ - وَهُوَ الْوَسْوَسَةُ أَوْ مَبْدَؤُهَا - وَلَكِنَّهُ إِذَا مَسَّهُمْ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فَلَا يَقَعُونَ فِي فَخِّ طَاعَتِهِ، بَلْ يُنَبِّهُهُمْ طَائِفُهُ مِنَ الْغَفْلَةِ، فَيَكُونُونَ بَعْدَ مَسِّهِ أَشَدَّ اتِّقَاءً لِمَا لَا يَنْبَغِي

وَاجْتِهَادًا فِيمَا يَنْبَغِي. وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ وَغَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، هُمْ سَادَاتُ الْمُتَّقِينَ، فَهُمْ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَدْنَى سُلْطَانٍ؟ . وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي تَكُونُ الْوَسْوَسَةُ سَبَبُهُ فَلَيْسَ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ فَيَكُونُ مِنْ سُلْطَانِهِ الْمُجَازِيِّ عَلَى النَّاسِي، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ نِسْيَانُ وَاجِبٍ أَدَّى إِلَى تَرْكِهِ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ، أَوْ نِسْيَانُ نَهْيٍ أَدَّى إِلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُشْكِلًا، وَلَيْسَ مِنْهُ نِسْيَانُ يُوسُفَ لِذِكْرِ رَبِّهِ عِنْدَ كَلَامِهِ مَعَ أَحَدِ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَلَا نِسْيَانُ فَتَى مُوسَى لِلْحُوتِ، وَنَبِيُّنَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ - لَمْ يَقَعْ مِنْهُ نِسْيَانٌ أَدَّى إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ كَقُعُودِهِ مَعَهُمْ نَاسِيًا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ - مَعَاذَ اللهِ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَعْصِيَةً كَمَعْصِيَةِ آدَمَ ; لِأَنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَكِنَّ هَذَا النِّسْيَانَ يُنَافِي الْعَزْمَ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ أُولِي الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (20: 115) وَقَالَ: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (20: 121) وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعْدُّونَ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْقَدَ الْمُشْكِلَاتِ فِي بَابِ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ - مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الِامْتِحَانِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ نَبِيًّا رَسُولًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا مَنَعُوا صُدُورَ الْكَبَائِرَ عَنْهُمْ عَمْدًا، قَالَ فِي " الْمَوَاقِفِ ": وَأَمَّا سَهْوًا فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا، فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا الْجُبَّائِيَّ، وَأَمَّا سَهْوًا فَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، إِلَّا الصَّغَائِرَ الْخَسِيسَةَ كَسَرِقَةِ حَبَّةٍ أَوْ لُقْمَةٍ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَلَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةُ آدَمَ إِلَّا عَنْ نِسْيَانٍ، وَحِكْمَتُهَا أَنَّهَا مَظْهَرُ اسْتِعْدَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِسُوءِ قُدْوَةٍ، وَلَا مُعَارَضَةَ لِمَا قِيلَ فِي بُرْهَانِ الْعِصْمَةِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ إِنْجِيلَ مَتَّى رَوَى أَنَّ إِبْلِيسَ حَاوَلَ فِتْنَةَ - أَيْ تَجْرِبَةَ - سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِعِدَّةِ أُمُورٍ، ثُمَّ قَالَ: (4: 8 ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجَّدَهَا (9 وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعًا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي (10) حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ؛ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ تُعْبَدُ) . وَعِنْدَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَاذَ عِيسَى وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمَسُّهُ حِينَ وُلِدَ كَمَا يَمَسُّ الْوِلْدَانَ، فَنَحْنُ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لَهُمَا بِالْحَقِّ مِمَّنْ عَبَدُوهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالشَّرِّ وَنَهْيُهُ عَنِ الْخَيْرِ بِنَقِيصَةٍ، وَإِنَّمَا النَّقِيصَةُ طَاعَتُهُ لَعَنَهُ اللهُ، وَقَدْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا رُسُلَهُ وَحَفِظَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ. فَمَثَلُ قُرَنَاءِ السُّوءِ مِنْ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ كَمَثَلِ مِيكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ مِنْ جِنَّةِ الْحَشَرَاتِ؛

فَهَذِهِ تَمَسُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْمِزَاجِ مُعْتَدِلَ الْمَعِيشَةِ مُتَّقِيًا لَهَا بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الطِّبُّ مِنَ النَّظَافَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الْقَاتِلَةِ لَهَا، فَإِنَّهَا قَلَّمَا تُصِيبُهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ فَلَا تَضُرُّهُ، بَلْ قَدْ تَنْفَعُهُ بِتَعْوِيدِ مِزَاجِهِ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْمِزَاجِ مُسْرِفًا فِي الْمَعِيشَةِ غَيْرَ مُتَّقٍ لَهَا بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ فَإِنَّهَا تُؤْذِيهِ، وَيَحْدُثُ لَهُ بِسَبَبِهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ مَا يَكُونُ بِهِ حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَالنَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْفِطْرَةِ، الْمُتَّقِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِدَايَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَكَادُ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهَا، وَإِذَا طَافَ بِهَا طَائِفٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ فِي حَالِ الْغَفْلَةِ كَانَ هُوَ الْمُذَكِّرُ لَهَا فَإِذَا هِيَ مُبْصِرَةٌ قَائِمَةٌ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا. فَمَثَلُهَا فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَسْوَسَةِ فِيهَا أَوْ عَدَمِ إِفْسَادِهَا لَهَا كَمَثَلِ الْبَدَنِ الْقَوِيِّ فِي عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِفَتْكِ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ بِهِ، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْفَاسِدَةَ الْفِطْرَةَ بِالشِّرْكِ أَوِ النِّفَاقِ وَالْمَعَاصِي وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَاسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ الضَّعِيفِ وَالْمِزَاجِ الْفَاسِدِ لِتَأْثِيرِ مِيكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ. وَمِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ مَا لَيْسَ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَلَا غَايَةِ الضَّعْفِ، فَكُلٌّ مِنْهَا يَتَأَثَّرُ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ السَّلَامَةَ إِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْهَلَاكَ إِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُنْسِي النَّبِيَّ الْأَعْظَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذُكِرَ. إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ابْتِدَاءً، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنَّ وُجِّهَ إِلَيْهِ عَلَى حَدِّ: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (39: 65) وَفَائِدَةُ مَثَلِهِ مُبَالَغَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَذَرِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ. وَكَوْنُ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومِينَ مِنَ الشِّرْكِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا؛ فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ بُرْهَانِيٌّ وِجْدَانِيٌّ عِيَانِيٌّ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَقِّ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ، وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا الْوَجْهُ بِهَذَا الْمَثَلِ، كَمَا تُرَجِّحُهُ الْآيَةُ الْآتِيَةُ بِجَعْلِهَا مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْخُطَّابَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي التَّخَاطُبِ أَنَّ مَا يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَالُ، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ وَلَا احْتِمَالَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمَبْدُوءَةِ بِ " إِنْ " فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي كَلَامِ اللهِ بِحَسَبِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ فِي نَفْسِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْقَائِلِ. وَفَائِدَتُهُ هُنَا بَيَانُ كَوْنِ النِّسْيَانِ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنَ الْمُخَاطَبِ فَقَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبًا آخَرَ فِي تَنْزِيهِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذَا النِّسْيَانِ بِإِيرَادِ احْتِمَالٍ آخَرَ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُنْسِيكَ قَبْلَ النَّهْيِ قُبْحَ مُجَالَسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِأَنَّهَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى - بَعْدَ أَنْ ذَكَّرْنَاكَ قُبْحَهَا وَنَبَّهْنَاكَ عَلَيْهِ - مَعَهُمْ. انْتَهَى. وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَلَا يُنْكِرُ الْأَشَاعِرَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ أَنَّ عَقْلَ الْمُؤْمِنِ يَجْزِمُ

69

بِقُبْحِ الْقُعُودِ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُسْتَقِلًّا بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذَا الْجَوَازِ مَعَ رَدِّ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ التَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى هَذَا اللُّغَوِيِّ النِّحْرِيرِ؟ . وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي حَالِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ صِيَامُهُ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ 4الْحُقُوقَ تُسْقَطُ بِهِ، وَيَسْتَدِلُّ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَقَدِ اشْتَهَرَ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِيهِ مَقَالٌ لِلْمُحَدِّثِينَ مَعْرُوفٌ؛ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ. وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعٌ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ اللهَ أَوْجَبَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ فِي الْخَطَأِ الْكَفَّارَةَ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ رَفْعَ النِّسْيَانِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْإِثْمِ لَا رَفْعِ الْحُقُوقِ، فَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَعَادَهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَوْلَى بِأَلَّا تَسْقُطَ بِنِسْيَانٍ وَلَا خَطَأٍ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي بَابِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " قَالَ فِي الزَّوَائِدِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِنْ سَلِمَ مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَلَكِنْ رَجَحَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ الدَّيْبَعُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثًا: الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْأَمْرُ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ " وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، كَذَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِهِ شَيْءٌ مَا، فَلَا يُحَاسَبُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَوْضِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يُحَاسِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا إِذَا هُمْ تَجَنَّبُوهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ كَمَا أُمِرُوا، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللهِ إِذَا تَجَنَّبْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ، قِيلَ: هُوَ رُخْصَةٌ، وَمَعْنَاهُ: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ - وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِذْ قَالَ فِيهَا: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (4: 140) وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالنَّهْيِ مَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ قَدْ نَزَلَ مَعَهُ كَمَا هُنَا. قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَفِي الطَّوْدِ الرَّاسِخِ فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ) إِلَخْ. خَبَرٌ، وَلَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ، فَافْهَمْ. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْجُمْلَةَ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، فَهِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْنَاهُ عَدَمُ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، لَا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَالُوا إِنَّهَا لَا تُنْسَخُ، وَالْعُمْدَةُ فِي رَدِّ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ مِنْ شَيْءٍ؛ إِذْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مَعَهُمْ قَبْلَ النَّهْيِ كَارِهِينَ

لِخَوْضِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَجَنُّبُهُمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، فَلَيْسَ سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا لَوْ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَّرَ النَّهْيَ إِلَّا إِلَى وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (4: 22، 23) . (وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ: وَلَكِنْ جُعِلَ النَّهْيُ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى؛ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى يَتَّقُونَ أَيْضًا كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللهِ بِالْبَاطِلِ، فَهَذِهِ التَّقْوَى الْمَرْجُوَّةُ بِالنَّهْيِ هِيَ تَقْوَى خَاصَّةٌ، وَتِلْكَ التَّقْوَى هِيَ الْكُلِّيَّةُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا. وَالذِّكْرَى هُنَا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَفِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَعْرَضُوا أَوْ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ، أَيْ يَعِظُوهُمْ وَيُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْخَوْضَ وَلَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ. ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى لِلذِّكْرَى عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَكِّرُوهُمْ ذَلِكَ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَيَتَّقُونَ مُسَاءَتَكُمْ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ الِاضْطِهَادِ، وَيَتَحَرَّوْنَ مُسَاءَتَهُمْ، وَيَكْرَهُونَ مَسَرَّتَهُمْ، وَقَدْ يَتَّجِهُ جَعْلُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ إِذَا صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا أَنْ نَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُوهُمْ وَيُفَهِّمُوهُمْ. انْتَهَى. وَهُوَ مُعَارَضٌ بِنُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقُعُودَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَا الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْقُعُودُ بِالْبَيْتِ فَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ إِذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الرَّازِيَّ اكْتَفَى بِهَذَا الْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ؛ لَا نَقْلًا وَلَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُونَ فِيمَا قَبْلَهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دُونِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (32) وَالْمَعْنَى هُنَا وَدِّعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِثْلُهُ فِيهِ مَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَمِثْلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةُ، فَآثَرُوهَا عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، بَلْ أَنْكَرَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ

70

يَسْتَعِدَّ لَهَا الْفَاسِقُونَ، أَمَّا اتِّخَاذُهُمْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَفِيهِ وُجُوهٌ، الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ أَعْمَالَ دِينَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُزَكِّيَةً لِلْأَنْفُسِ، وَلَا مُهَذِّبَةً لِلْأَخْلَاقِ، وَلَا وَاقِعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُعِدُّ الْمَرْءَ لِلِقَائِهِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَلَا مُصْلِحَةً لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، كَانَتْ إِمَّا صَرْفًا لِلْوَقْتِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى اللَّعِبِ، وَإِمَّا شَاغِلَةٌ عَنْ بَعْضِ الْهُمُومِ وَالشُّئُونِ وَهُوَ اللهْوُ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ، وَيُصَلُّونَ فِيهِ، وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ - أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا، غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى. وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَا أَنَّهُ كُلُّ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ ذَكَرَهَا الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ وَجَعَلَهُ الرَّابِعَ. وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى (فَأَوَّلُهَا) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ - وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ - لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ. (الثَّانِي) اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دِينًا لَهُمْ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْكَفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ، وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ، فَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. (الْخَامِسُ) قَالَ - وَهُوَ الْأَقْرَبُ -: إِنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ حَكَمَ اللهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. أَقُولُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وَقَدْ جَعَلَ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُؤَيِّدَةً لَهُ، وَجَعَلَهُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللهْوِ، ذَاهِلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُصِدُوا بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ) (109: 6) وَقَوْلُهُ: (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) (5: 57) فَاللهُ تَعَالَى لَا يُضِيفُ دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَأَمَّا مَعْنَى غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهَا خَدَعَتْهُمْ وَأَغْفَلَتْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَعَنْ كَوْنِ الْبَعْثِ حَقًّا، وَالْعَدْلِ الْمَحْضَ مِنَ الْمُحَالِ، فَاشْتَغَلُوا بِلَذَّاتِهَا الْحَقِيرَةِ الْفَانِيَةِ الْمَشُوبَةِ بِالْمُنَغِّصَاتِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَاسْتَبْدَلُوا الْخَوْضَ فِيهَا، بِمَا كَانَ يَجِبُ مِنْ فِقْهِهَا وَتُدَبُّرِهَا.

وَهَذَا الْأَمْرُ بِتَرْكِ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ قَدْ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (15: 3) وَهُوَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (4، 5) وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي الْآيَتَيْنِ (43: 83، 70: 42) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِتَالِ، رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَضَعَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ. وَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ: ذَرْهُمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِخَوْضِهِمْ وَلَا تَكْذِيبِهِمْ، وَعَلَيْكَ مَا كُلِّفْتَهُ وَحَمَلْتَهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) الْبَسْلُ مَصْدَرُ بَسَلَهُ، يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَبْسِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ بِالْقَهْرِ، وَبِمَعْنَى الرَّهْنِ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَبْسَلَ الشَّيْءَ كَبَسَلَهُ: أَسْلَمَهُ لِلْهَلَاكِ، وَمِنْهُ أَسَدٌ بَاسِلٌ وَرَجُلٌ بَاسِلٌ، أَيْ شُجَاعٌ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَقْرَانِهِ، أَوْ مَانِعٌ لِمَا يُرِيدُ حِفْظَهُ أَنْ يُنَالَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) لِلْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُذَكِّرُ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةٍ " ق ": (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (50: 45) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا قَالُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى الْإِبْسَالِ: الْفَضِيحَةُ، وَالْإِسْلَامُ لِلْهَلَاكِ، وَالْحَبْسُ فِي النَّارِ. وَكَانَ الْأَخِيرُ جَوَابَهُ لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَخَصِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ، قَالَ نَافِعٌ: أَوَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرًا وَهُوَ يَقُولُ: وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ وَقَلْبٍ مُبْسَلٍ غَلِقًا. وَالْمَعْنَى: وَذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ بِالْقُرْآنِ اتِّقَاءَ أَنْ تُبْسَلَ كُلُّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ بِمَا كَسَبَتْ، أَيِ اتِّقَاءَ حَبْسِهَا، أَوْ رَهْنِهَا فِي الْعَذَابِ، أَوْ إِسْلَامِهَا إِلَيْهِ، أَوْ مَنْعِهَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَتَفَادِيًا مِنْ ذَلِكَ بِمَا بَيَّنَهُ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ. وَيُؤَيِّدُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (74: 38، 39) الْآيَةَ. وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ " مَخَافَةَ " أَوْ " كَرَاهَةَ " أَنْ تُبْسَلَ. وَبَعْضُهُمْ: لِئَلَّا تُبْسَلَ. ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى النَّفْسَ الْبِسِلَةَ أَوْ عَلَّلَ إِبْسَالَهَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) أَيْ: وَلَيْسَ لَهَا مِنْ غَيْرِ اللهِ وَلِيٌّ، أَيْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهَا، أَوْ قَرِيبٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا، وَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (40: 18) فِي يَوْمٍ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (2: 254) وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةِ جَمِيعًا) (39: 44) (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (34: 23) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28)

فَكُلُّ نَفْسٍ تَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَهُوَ تَعَالَى غَيْرُ رَاضٍ عَنْهَا - فَهِيَ مُبْسَلَةٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِهَا. (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا) الْعَدْلُ - بِالْفَتْحِ - مَا عَادَلَ الشَّيْءَ وَسَاوَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) (5: 95) وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفِدَاءِ ; لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْمَفْدِيِّ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَدْلُ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فَكُلُّ عَدْلٍ مَنْصُوبٌ هُنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لَا الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَفْدِ النَّفْسُ الْمُبْسَلَةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدَاءِ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا - أَيْ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ وَلَا يَحْصُلُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ أَكْلٍ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَيْرٍ مِنَ الْبَلَدِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ - وَهُوَ مَصْدَرٌ - لَا يُؤْخَذُ أَخْذًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْأَخْذُ مَعْنَى الْقَبُولِ، وَأَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْدِيِّ بِهِ وَإِنْ عُدَّ هُنَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الْمَعْدُولِ بِهِ، أَيِ الْفِدْيَةِ، وَأُسْنِدَ إِلَى الْأَخْذِ وَإِلَى الْقَبُولِ، قَالَ: (وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (2: 48) . وَقَالَ: (وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (2: 123) . وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِبْطَالُ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ - كَنَيْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الدُّنْيَا - بِتَقْدِيمِ الْفِدْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ عِنْدَهُ أَيْ بِوَسَاطَةِ الْوُسَطَاءِ - وَتَقْرِيرُ أَصْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَرِضْوَانَ اللهِ، وَالْقِرَبَ مِنْهُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تَتَزَكَّى بِهِ الْأَنْفُسُ مَعَ الْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَمِنْ إِبْسَالِهِمْ كَسْبُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا، وَاتِّخَاذُهُمُ الدِّينَ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَغُرُورُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ. (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ، الَّذِينَ أُسْلِمُوا لِلْهَلَكَةِ، وَارْتُهِنُوا، وَحُبِسُوا عَنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ دِينِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْهَا. وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِبْسَالِ؟ (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) أَيْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ - وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ أَيْضًا - وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ الَّذِي ظَلُّوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ، حَتَّى صَرَفَهُمْ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى - لَوِ اتَّبَعُوهُ - سَبَبَ نَجَاتِهِمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ بِكَسْبِهِمْ، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ; وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفِرَقُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِالْكَسْبِ وَالتَّعْلِيلِ الثَّانِي بِالْكُفْرِ، فَالْأَوَّلُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالثَّانِي بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الدَّالِّ

71

عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، فَلَوْلَا رُسُوخُهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ حَتَّى أَصَرُّوا عَلَيْهِ إِصْرَارًا دَائِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ - لَمَا كَانَ مُجَرَّدُ كَسْبِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ يَنْهَضُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ كُلِّهِ. وَفِي الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِمَنْ يَفْقَهُ الْكَلَامَ، وَلَا يَغْتَرُّ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا الْمُسْلِمُ مَنِ اتَّخَذَ إِمَامَهُ الْقُرْآنَ وَسُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، لَا مَنِ اغْتَرَّ بِالْأَمَانِ وَالْأَوْهَامِ، وَانْخَدَعَ بِالرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ. (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) . ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَثَلًا يَتَّضِحُ لِمَنْ عَقَلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا تَقَرَّرَ فِيهَا وَفِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا مِنْ بَيِّنَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَيُظْهِرُ لَهُمْ سُوءَ حَالِهِمْ وَقُبْحَ مَآلِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَيُعَلِّلُ لَهُمْ مَا بُدِئَ بِهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ فِيهِ - أَيِ التَّوْحِيدِ - مِنَ النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَيَشْرَحُ لَهُمْ مَفْهُومَهُ، وَيُفَصِّلُ لَهُمْ مَضْمُونَهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مُقَابِلَهُ. وَأَعْنِي بِهَذَا السِّيَاقِ مَا فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (40: 66) إِلَخْ. وَحَيِّزُ قَوْلِهِ: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (63) وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ الْمُقَابِلِ لِطَرِيقِ الضَّلَالِ وَالْهَوَى، وَبَدَأَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ بِبَيَانِ أَعْظَمِ أَعْمَالِ طَرِيقِ الْهُدَى، وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ، وَعَاقِبَتِهِ، وَصِدْقِ وَعِيدِهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ عِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِيهِ، قَالَ:

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ) رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ اللهُ: (قُلْ أَنَدْعُوا) الْآيَةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: خُصُومَةٌ عَلَّمَهَا اللهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ السُّدِّيِّ؛ إِذْ لَا يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِجَمِيعِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ دَائِمًا وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ مِنْ دَعْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِأَبِيهِ إِلَى الشِّرْكِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ، فَلَقَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ - بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ لِحَالَيِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِ وَالتَّوْحِيدِ وَهِدَايَتِهِ - فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْحَقِّ الْكَثِيرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَنَدْعُو - مُتَجَاوِزِينَ دُعَاءَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى اسْتِجَابَةِ دُعَائِنَا - مَا لَا يَضُرُّنَا وَلَا يَنْفَعُنَا - كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ - وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ الْفَاضِحَةِ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ! . وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهَا بَيَّنَتْ عِلَّةَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى تَحَوُّلٌ وَارْتِدَادٌ مِنْ دُعَاءِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي يَكْشِفُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ - إِلَى دُعَاءِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ نُكُوصٌ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَتَقَهْقُرٌ إِلَى الْوَرَاءِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِيمَنْ عَجَزَ بَعْدَ قُدْرَةٍ، أَوْ سَفُلَ بَعْدَ رِفْعَةٍ، أَوْ أَحْجَمَ بَعْدَ إِقْدَامٍ عَلَى مَحْمَدَةٍ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ رُجُوعُ الْهَزِيمَةِ أَوِ الْخَيْبَةِ وَالْعَجْزِ عَنِ السَّيْرِ الْمَحْمُودِ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ تَحَوُّلٍ مَذْمُومٍ. (ثَالِثُهَا) التَّعْبِيرُ بِ (نُرَدُّ) الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ بَدَلَ التَّعْبِيرِ بِ " نَرْتَدُّ " أَوْ " نَرْجِعُ "، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ هَذَا التَّحَوُّلَ الْمَذْمُومَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكَمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُ الرُّجُوعَ عَنْهَا وَاسْتِبْدَالَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَعْلَى، فَإِذَا كَانَتْ فِطْرَتُهُ وَعَقْلُهُ يَأْبَيَانِ عَلَيْهِ هَذِهِ الرِّدَّةَ وَالنُّكُوصَ، فَكَيْفَ يُرَدُّ وَهُوَ لَا يَرْتَدُّ؟ . (رَابِعُهَا) أَنَّ مَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ الْقَدِيرُ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطِ السَّعَادَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتٍ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمَا شَرَحَ بِهِ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُضِلَّهُ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُ اللهُ؟ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) (39: 37) . (خَامِسُهَا) الْمَثَلُ الَّذِي يُصَوِّرُ الْمُرْتَدَّ فِي أَقْبَحِ حَالَةٍ كَانَتْ تَتَصَوَّرُهَا الْعَرَبُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) قَرَأَ حَمْزَةُ " اسْتَهْوَاهُ " بِأَلْفِ مُمَالَةٍ، وَكَانُوا يَرْسُمُونَهَا يَاءً كَأَصْلِهَا وَإِنْ تَكُنْ طَرَفًا، وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ

الْإِمَامِ هَكَذَا (اسْتَهْوَتْهُ) وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَتَقْدِيرُ التَّشْبِيهِ فِي الْكَلَامِ أَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ مِثْلَ رَدِّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مُشَبَّهِينَ بِالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ - إِلَخْ! . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ: ذَهَبَتْ بِهَوَاهُ وَعَقْلِهِ، وَقِيلَ: اسْتَهَامَتْهُ وَحَيَّرَتْهُ. وَقِيلَ: زَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ، وَيُقَالُ لِلْمُسْتَهَامِ الَّذِي اسْتَهَامَتْهُ الْجِنُّ: وَاسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ. الْقُتَيْبِيُّ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ هَوَتْ بِهِ وَأَذْهَبَتْهُ - جَعَلَهُ مِنْ هَوَى يَهْوِي. وَجَعَلَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ هَوَى يَهْوَى، أَيْ زَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ. كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ، وَالْمُسْتَهَامُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الْعِشْقُ أَوِ الْجُنُونُ هَائِمًا، أَيْ يَسِيرُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَقْصِدُ غَايَةً مُعَيَّنَةً، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْجُنُونَ كُلَّهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنِّ، وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ: جُنَّ فَلَانٌ - مَسَّتْهُ الْجِنُّ فَذَهَبَتْ بِعَقْلِهِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْجِنَّ تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْبَرَارِي وَالْمَهَامِهِ، وَتَتَلَوَّنُ لَهُمْ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتَذْهَبُ بِلُبِّ مَنْ يَرَاهَا فَيَهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ حَتَّى يَهْلِكَ. وَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَتَلَوَّنُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْغِيلَانَ وَالْأَغْوَالَ وَالسَّعَالِي (بِوَزْنِ الصَّحَارِي) ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا غُولَ " قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغِيلَانَ فِي الْفَلَوَاتِ، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ، تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا، أَيْ تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا فَتُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ فَتُهْلِكُهُمْ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُجُودِ الْغُولِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ مِنْ تَلَوُّنِ الْغُولِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهَا. قَالُوا: وَمَعْنَى " لَا غُولَ " لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضِلَّ أَحَدًا، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثٌ آخَرُ " لَا غُولَ وَلَكِنِ السَّعَالِي " وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: السَّعَالِي - بِالسِّينِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - هُمْ سَحَرَةُ الْجِنِّ، أَيْ: وَلَكِنْ فِي الْجِنِّ سَحَرَةٌ، لَهُمْ تَلْبِيسٌ وَتَخْيِيلٌ " وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ " أَيِ ادْفَعُوا شَرَّهَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ أَصْلِ وُجُودِهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: كَانَ لِي تَمْرٌ فِي سَهْوَةٍ، وَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ. اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الشَّرْحَ مَأْخُوذٌ مِنَ النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، لَيْسَ لِلنَّوَوِيِّ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا عَزْوُ نَفْيِ وُجُودِ الْغُولِ إِلَى جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَقَدْ نَقَلَ عِبَارَتَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمَا عَزَاهُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " لَا غُولَ " نَافِيَةٌ لِجِنْسِ الْغُولِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمَا أُيِّدَ بِهِ قَوْلُ غَيْرِ الْجُمْهُورِ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْغِيلَانَ ذُكِرُوا عِنْدَ عُمْرَ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا وَهَذَا رَأْيٌ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -

فِيمَا كَانُوا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ مِنْ ذَلِكَ سِحْرُ الْجِنِّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ تَتَشَكَّلُ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتُ الْغُولِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْغُولَ اسْمٌ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى فِي الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ مِنْ شَرْحِهِ لِقَصِيدَتِهِ (بَانَتْ سُعَادُ) وَالْغُولُ بِالضَّمِّ كُلُّ شَيْءٍ اغْتَالَ الْإِنْسَانَ فَأَهْلَكَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْوَاحِدَةُ مِنَ السَّعَالِي وَهِيَ إِنَاثُ الشَّيَاطِينِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا - فِيمَا زَعَمُوا - تَغْتَالُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهَا تَتَلَوَّنُ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: تَغَوَّلْتُ عَلَى الْبِلَادِ - إِذَا اخْتَلَفْتُ. وَلِلْعَرَبِ أُمُورٌ تَزْعُمُهَا لَا حَقِيقَةَ لَهَا، مِنْهَا أَنَّ الْغُولَ تَتَرَاءَى وَتَتَلَوَّنُ لَهُمْ، وَتُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ. وَذَكَرَ أَشْيَاءً أُخْرَى مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي نَفْيِ الْغُولِ وَالطِّيَرَةِ، وَقَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ: الْجُودُ وَالْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ ثَالِثَةٌ ... أَسْمَاءُ أَشْيَاءَ لَمْ تُخْلَقْ وَلَمْ تَكُنِ. وَمَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ الْغُولَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمَشْهُورُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالسِّعْلَاةُ وَالسِّعْلَاءُ - الْغُولُ. وَقِيلَ: هِيَ سَاحِرَةُ الْجِنِّ، فَجَعَلَ هَذَا قَوْلًا ضَعِيفًا ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ مِثْلَهُ. أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا أَخْبَثُ الْغِيلَانِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا أُنْثَى الْغِيلَانِ. وَيُشَبِّهُونَ الْمَرْأَةَ الْقَبِيحَةَ الْوَجْهِ السَّيِّئَةَ الْخُلُقِ بِالسِّعْلَاةِ، وَشَبَّهُوا بِهَا الْخَيْلَ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الْخَوْفُ فِي الْبَرَارِي الْمُنْقَطِعَةِ شَيْئًا يَتَلَوَّنُ فِيهِمْ عَلَى وَجْهِهِ خَوْفًا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ رَأَى بَعْضَ الْقِرَدَةِ الرَّاقِيَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْعَجُوزَ الْقَبِيحَةَ الْوَجْهِ فَسَمُّوهَا السِّعْلَاةَ، وَأَنْ تَكُونَ السِّعْلَاةُ الَّتِي أَكَلَتْ مِنَ التَّمْرِ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ مِنْهَا - إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ وَكَانَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ - وَإِلَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا تَوَارَثَهُ قَبْلَ نَفْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَذَا النَّفْيِ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) (7: 27) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرَ الْجِنَّ حِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ، بَلْ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (72: 1) وَلَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَكَانَ مَعَهُ - أَنَّهُ رَأَى أَسْوِدَةً تُشْبِهُ السَّحَابَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. انْتَهَى. وَقَدْ حَمَلُوهُ كَمَا حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ بِصُورَتِهِمُ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللهُ عَلَيْهَا دُونَ الصُّوَرِ الَّتِي يَتَمَثَّلُونَ بِهَا.

عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ مَا اشْتُهِرَ عَنِ الْعَرَبِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَغْوَالِ وَاسْتِهْوَائِهَا بَعْضَ النَّاسِ فِي الْفَلَوَاتِ حَتَّى يَضِلُّوا الطُّرُقَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ. وَالرَّاجِحُ الْمَعْقُولُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ رُؤْيَةُ حَيَوَانٍ غَرِيبٍ كَبَعْضِ الْقِرَدَةِ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَلَى بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَالْحَشَرَاتِ، وَعَلَى كُلِّ قَبِيحِ الصُّورَةِ. قَالَ تَعَالَى فِي شَجَرَةِ الزَّقُّومِ: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) (37: 65) قِيلَ هُوَ نَبَاتٌ قَبِيحٌ، وَقِيلَ: شَبَّهَهَا بِالْعَارِمِ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ فِي التَّاجِ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَجْهُهُ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا اسْتُقْبِحَ شُبِّهَ بِالشَّيَاطِينِ، فَيُقَالُ: كَأَنَّهُ وَجْهُ شَيْطَانٍ، وَكَأَنَّهُ رَأْسُ شَيْطَانٍ، وَالشَّيْطَانُ لَا يُرَى، وَلَكِنَّهُ يُسْتَشْعَرُ أَنَّهُ أَقْبَحُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ رُئِيَ لَرُئِيَ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ. وَقِيلَ: كَأَنَّهُ رُءُوسُ حَيَّاتٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا، وَأَوْرَدَ شَاهِدًا مِنَ الشِّعْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمَا " الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ ". قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هَذَا الْأَخِيرُ هُمُ السَّعَالِي، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ أَجْنَاسٌ خَالِصُهُمْ رِيحٌ - أَيْ كَالرِّيحِ - لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَلَا يَمُوتُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُونَ. . إِلَخْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْمَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يُطْلَقُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى بَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّارَّةِ، أَوِ الْقَبِيحَةِ، وَعَلَى مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِ الرُّوحِيِّ الْغَيْبِيِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِلنَّاسِ فَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَيُلَابِسُ بَعْضَهُمْ أَحْيَانًا فَيُصَابُونَ بِالصَّرْعِ أَوِ الْجُنُونِ، وَيَتَمَثَّلُ لِلْكُهَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ وَبَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ الْخَاصَّةِ. وَالْأَكَاذِيبُ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالشُّبُهَاتُ فِيهَا غَيْرُ قَلِيلَةٍ. وَلَكِنْ قَلَّ الْمُصَدِّقُونَ بِهَا فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ. بَعْدَ هَذَا الشَّرْحِ نَقُولُ: إِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَيْنِ: تَفْسِيرُ (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ) أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِهْوَاءِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِمَنْ يَرْتَدُّ مُشْرِكًا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالْمُسْتَهَامِ الَّذِي يَضِلُّ فِي الْفَلَوَاتِ حَيْرَانَ لَا يَهْتَدِي، تَارِكًا رِفَاقَهُ عَلَى الْجَادَّةِ يُنَادُونَهُ: ائْتِنَا، عُدْ إِلَيْنَا، فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ لِانْجِذَابِهِ وَرَاءَ مَا تَرَاءَى لَهُ مِنَ الْغِيلَانِ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ السُّدِّيُّ بَعْدَ بَيَانِ التَّشْبِيهِ: فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ تَبِعَكُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ لِمُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَمِمَّا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: " إِنَّ الْغُولَ تَدْعُوهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، فَيَتْبَعُهَا وَيَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي هَلَكَةٍ وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ، أَوْ تُلْقِيهِ فِي مُضِلَّةِ الْأَرْضِ يَهْلِكُ فِيهَا عَطَشًا " وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذَا

التَّشْبِيهَ مُثْبِتٌ لِلْغُولِ الَّذِي نَفَاهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يُبْنَى عَلَى الْمُتَعَارَفِ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ وَتَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ تَسْتَهْوِي الْإِنْسَانَ، وَالْغِيلَانَ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (2: 275) انْتَهَى. وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي هَذَا، إِذْ جَعَلَهُ مِنْ إِنْكَارِ الْجِنِّ - وَهُوَ لَا يُنْكِرُهُمْ - وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ فَقَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ كَمَا زَعَمَ مَنِ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ. انْتَهَى. وَمَا هَذَا الشَّنِيعُ إِلَّا مِنْ تَعَصُّبِ الْمَذَاهِبِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا وَقَعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذِهِ الْغَيَاهِبِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الْغُولِ، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا التَّكْذِيبِ وَلَمْ يُؤَوِّلُوهُ، وَأَنَّ مَنْ أَوَّلَهُ بِإِنْكَارِ تَغَوُّلِ الْغِيلَانِ وَإِضْلَالِهِمْ لِلنَّاسِ مُكَذِّبٌ لِلْعَرَبِ فِي زَعْمِهَا ذَاكَ، وَإِنَّمَا بَنَى التَّشْبِيهَ عَلَى مَا قِيلَ مِنِ اسْتِهْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ بِتَغَوِّلِهِمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِهْوَاءُ بِتَخَيُّلَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ أَبْلَغَ وَأَقْوَى، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَنْ يَتْبَعْ دَاعِيَ الشِّرْكِ كَالْمُسْتَهْوَى بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْهَامِ الضَّارَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْأَغْوَالِ الْخَيَالِيَّةِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِنْكَارَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا شِيعَتُهُ مِنَ الْمُنْكِرِينَ، وَإِنَّمَا الْجِنُّ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، لَا نُصَدِّقُ مِنْ خَبَرِهِمْ إِلَّا مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، أَوْ مَا هُوَ فِي قُوَّتِهِ مِنْ دَلِيلِ الْحِسِّ أَوِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا وَلَا اخْتِيَارًا أَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ تَأْكُلُ النَّاسَ، وَلَا أَنَّهَا تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْفَيَافِي وَالْقِفَارِ، كَمَا كَانَتْ تَزْعُمُ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ. وَأَمَّا حَدِيثُ خُرَافَةَ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَفِي الشَّمَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ، وَأَبُو عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا نَقَلَهُ الْكَلْبِيُّ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ زَمَنًا ثُمَّ أَعَادُوهُ إِلَى الْإِنْسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الْعَجَائِبِ، فَصَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ: " حَدِيثُ خُرَافَةَ " لِكُلِّ حَدِيثٍ مُسْتَمْلَحٍ يُكَذِّبُونَهُ، عَلَى أَنَّ مَا عَسَاهُ يَثْبُتُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَا يُتَّخَذُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا كَذَّبَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَغْوَالِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُعَارِضٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُسَمَّى مَا كَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ بِالشَّيْطَانِ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالسَّرَابِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونُ حَيَوَانًا مُفْتَرِسًا تُمَثِّلُهُ الْأَوْهَامُ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَرَاجِعْ مَا يُقَرِّبُ لَكَ فِي هَذَا تَفْسِيرَ (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (4: 157) .

فَإِنْ فَرَضْنَا وُقُوعَ التَّعَارُضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَمْنَعُهُ بِتَرْجِيحِ (الْقَوْلِ الثَّانِي) عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي أَضَلَّتْهُ بِوَسْوَسَتِهَا، وَحَمَلَتْهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ، فَاتَّخَذَ دِينَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَغَرَّتْهُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِ إِيَّاهَا، أَوْ عَدَمِ إِيمَانِهِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ فِيهَا. وَهَذَا فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَحَادَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ. إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْمُسْتَهْوَى الَّذِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَإِنَّمَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانُ أَمْثَالُهَ، فَالْمُرَادُ يَدْعُونَهُ إِلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هَدًى كَمَا هُوَ شَأْنُ كُلِّ دَاعٍ إِلَى ضَلَالَةٍ، فَكَلِمَةُ الْهُدَى ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا) قَالَ: الْهُدَى: الطَّرِيقُ، أَنَّهُ بَيِّنٌ. وَالْكَلَامُ بَعْدَهَا رَدٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَذَا الزَّعْمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ لَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْوَهْمِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ لَمْ تَرِدْ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُسَمِّي الضَّلَالَةَ هَدًى، وَسَوَاءٌ أَصَحَّ مَا أَنْكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَمْ لَا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِوَسْوَسَتِهَا - حَالَ كَوْنِهِ حَيْرَانَ - لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ، تَتَنَازَعُهُ وَسْوَسَةُ شَيَاطِينِهِ وَدَعْوَةُ أَصْحَابِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ التَّفَلُّتَ مِنَ الْأَوْلَى فَيَكُونُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَلَا الْبَتَّ بِرَدِّ الْأُخْرَى فَيَكُونُ مِنَ الْأَخْسَرِينَ، بَلْ يَظَلُّ هَائِمًا فِي حَيْرَتِهِ، مُضْطَرِبًا فِي أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ دُعَاةَ الْهُدَى أَصْحَابًا لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِضْلَالِ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْقَلَقِ، وَالتَّشْبِيهُ يَدُلُّ بِهَذَا التَّوْجِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ مُطْمَئِنًّا بِالشِّرْكِ، وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَيُعْقَلُ أَنْ يَخْتَارَ هَذِهِ الْحَالَ السُّوأَى الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ أَسْوَأُ حَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ؟ . (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) أَعَادَ الْأَمْرَ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا كَمَا أَعَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِمَعْنَى مَا هُنَا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ وَالِاعْتِصَامِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) (56) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) إِلَخْ. وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكُلٍّ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاعْتِصَامِ فِي النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمَا بِالتَّخَلِّي وَالتَّحَلِّي. أَيْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ آيَاتِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ - هُوَ الْهُدَى الْحَقُّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، لَا مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْوَائِكُمْ اتِّبَاعًا لِمَا أَلْفَيْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَهَذَا الْهُدَى الْمَعْقُولُ هُوَ الَّذِي دُعِينَا إِلَيْهِ فَأَجَبْنَا، وَأُمِرْنَا بِهِ فَأَطَعْنَا، (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فَأَسْلَمْنَا، وَاللَّامُ فِي " لِنُسْلِمَ " فِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُمِرْنَا بِهَذَا الْهُدَى لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ

72

قُلُوبَنَا وَنُوَجِّهَهَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْخُضُوعِ لِدِينِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا رَبُّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَغَذَّاهُمْ بِنِعَمِهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهَا لِلْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ وَأُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِتَأْوِيلِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ هُنَا وَفِي مِثْلِ (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (4: 26) (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (5: 6) إِلَخْ. عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَمِنْ تَابَعَهُمَا. وَصَرَّحَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ بِأَنَّ اللَّامَ تَكُونُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا بَعْدَ الْفِعْلِ، مِنَ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ خَاصَّةً. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ. (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ) أَيْ أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِأَنْ أَقِيمُوا وَاتَّقُوهُ، أَيْ قِيلِ لَنَا ذَلِكَ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ كَوْنُهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَتُزَكِّي النَّفْسَ بِمُنَاجَاةِ اللهِ وَذِكْرِهِ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (29: 45) وَلَمْ يَكُنْ شُرِعَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ زَكَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا حَجٌّ، وَالتَّقْوَى: اتِّقَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَةِ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَتَنَكُّبِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مِنْ ضَرَرٍ وَفَسَادٍ، فَهَذَا أَوْسَعُ مَعْنًى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أَيْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَى لِقَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ غَيْرِهِ، فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ الْحَشْرُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَالْجَزَاءُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ، فَمِنَ الْجُنُونِ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَيُدْعَى، أَوْ يُخَافَ أَوْ يُرْجَى. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أَيْ خَلَقَهُمَا بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ، وَهُوَ آيَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِالسُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ، فَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا، فَإِذًا لَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، بَلْ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) أَيْ وَقَوْلُهُ هُوَ الْحَقُّ يَوْمَ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ وَقْتُ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، فَلَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَلَا تَخَلُّفَ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْإِسْلَامُ وَالْخُضُوعُ لِأَمْرِهِ التَّكْلِيفِيِّ بِلَا حَرَجٍ فِي النَّفْسِ وَلَا تَكَلُّفٍ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ حَقٌّ، وَالْخَلْقَ حَقٌّ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (7: 45) . (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وَيَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ مَا فِي الدُّنْيَا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ الْمُقَدَّرَةِ، وَشَرِيعَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، فَلَا تَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ مَا مَهْمَا تَكُنْ مُكْرَمَةً لِنَفْسٍ مَا مَهْمَا تَكُنْ قَرِيبَةً أَوْ مَقَرَّبَةً - شَيْئًا مَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَوْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ. فَكَيْفَ يَدْعُو مَنْ هَدَاهُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ غَيْرَهُ مَنْ دُونِهِ فَيُرَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَرْجِعَ إِلَى شَرِّ حَالَيْهِ! وَالصُّورُ فِي اللُّغَةِ: الْقَرْنُ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ فِي اللِّسَانِ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ وَقَدْ ثَقَبَ النَّاسُ قُرُونَ الْوُعُولِ وَالظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا فَجَعَلُوا مِنْهَا أَبْوَاقًا يَنْفُخُونَ فِيهَا فَيَكُونُ لَهَا

صَوْتٌ شَدِيدٌ يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَيَعْزِفُونَ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ السَّمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سِفْرِ الْأَيَّامِ الْأُولَى مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ قَالَ: (5: 28 فَكَانَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ بِهُتَافٍ وَبِصَوْتِ الْأَصْوَارِ وَالْأَبْوَاقِ وَالصُّنُوجِ، يُصَوِّتُونَ بِالرَّبَابِ وَالْعِيدَانِ) وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الصُّورَ جَمْعُ صُورَةٍ كَبُسْرٍ وَبُسْرَةٍ، وَصُوفٍ وَصُوفَةٍ. وَقِيلَ فِي سُورِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا: إِنَّهُ جَمْعُ سُورَةٍ، وَنَقَلُوا هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ، وَقَدْ رَدَّهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) (39: 68) وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِكَوْنِهَا فِي صُوَرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَبْعَثُ اللهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَهِيَ قَوْلُهُ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) وَبِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْقَرْنِ وَالْبُوقِ أَوْ بِمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ أَنَّهُ مُسْتَقَرُّ أَرْوَاحِ الْخَلْقِ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ تُصِيبُ النَّفْخَةُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ، فَتَذْهَبُ إِلَى أَجْسَادِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ أَعَادَهَا كَمَا بَدَأَهَا، وَرَدَّهُ اللُّغَوِيُّونَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَقِيسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ يُجْمَعُ عَلَى فُعَلٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحَ الْعَيْنِ، كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَصُورَةٍ وَصُوَرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (40: 64) وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْ جَمْعِهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ كَبُسْرٍ وَصُوفٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا سَبَقَ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ فِيهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْوَاحِدِ، وَرَوَى الْأَزْهَرِيُّ هَذَا الرَّدَّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَيُرَاجَعُ فِي مَادَّتَيْ سُورَةٍ وَصُوَرٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِيهِمَا. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْمَرْفُوعَةُ فِي الصُّوَرِ فَقَدْ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِمْ بِأَسَانِيدَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْرِجَا مِنْهَا شَيْئًا، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: " هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ يُنْفَخُ فِيهِ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَاتٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَصَحَّحَ بَعْضَهَا الْحَاكِمُ - أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالصُّورِ مُسْتَعِدٌّ لِلنَّفْخِ فِيهِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ، وَوَرَدَ فِي وَصْفِ مَلَكِ الصُّورِ، وَفِي صِفَةِ الصُّورِ، وَالنَّفْخِ وَتَأْثِيرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا يَكُونُ يَوْمَئِذٍ - رِوَايَاتٌ مُنْكَرَةٌ، بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَبَعْضُهَا مُلَفَّقٌ مِنْ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَمَمْزُوجٌ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ مَا يَمْلَأُ عِدَّةَ صَفَحَاتٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَنْ إِسْمَاعِيلَ تَفَرَّدَ بِهِ، وَأَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي تَوْثِيقِ إِسْمَاعِيلَ وَتَضْعِيفِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ نَصَّ

73

عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ. وَسَنَعُودُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الصُّورِ وَحِكْمَةِ النَّفْخِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالزُّمَرِ، إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ هُنَا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الشَّهَادَةُ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ خَلْقَهُ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنْكُمْ مِمَّا لَمْ تَرَوْهُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ، وَالَّذِي قَوْلُهُ الْحَقُّ فِي التَّكْوِينِ، وَالَّذِي لَهُ الْمُلْكُ وَحْدَهُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَيُحْشَرُ الْخَلْقُ - هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَلَا يَشِذُّ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلَا يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى (فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (6: 41) فَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ الْآيَةِ، وَفَذْلَكَةٌ لِلسِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي إِنْكَارِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

بَدَأَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ حَمْدِ نَفْسِهِ بِبَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّنَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَإِشْرَاكَهُمْ بِهِ، وَتَكْذِيبَهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا رَسُولَهُ وَرَدَّ مَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ طَوَائِفَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ لَهُ (قُلْ. قُلْ) ثُمَّ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّذْكِيرِ بِدَعْوَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى مَثَلِ مَا دَعَا، وَمَا اسْتَنْبَطَهُ هُوَ مِنْهُ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِهِ تَأْيِيدًا لِمِصْدَاقِ دَعْوَتِهِ فِي سُلَالَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، وَلِإِبْرَاهِيمَ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا مِنْ إِجْلَالِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى إِجْلَالِهِ. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ لِتَفْسِيرِ الْآيَةِ مُقَدِّمَةً فِي أَصْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسْأَلَةِ كُفْرِ أَبِيهِ آزَرَ وَحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ عَنْهُ، فَنَقُولُ: (مُقَدِّمَةٌ فِي أَصْلِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَسْأَلَةِ كُفْرِ أَبِيهِ) . (إِبْرَاهِيمُ) هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ، أَبِي الْأَنْبِيَاءِ الْأَكْبَرِ مِنْ نُوحٍ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ - أَنَّهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَوْلَادِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي (أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ) وَهِيَ بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ. وَ " أُورُ " بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَمَعْنَاهَا فِي الْكَلْدَانِيَّةِ النُّورُ أَوِ النَّارُ كَمَا قَالُوا. قِيلَ: هِيَ الْبَلْدَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بَاسِمِ (أُورُفَا) فِي وِلَايَةِ حَلَبَ كَمَا رَجَّحَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ الْوَاقِعَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعِرَاقِ - بَيْنَ النَّهْرَيْنِ - وَفِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ بِلَادٌ وَمَوَاقِعُ كَثِيرَةٌ مَبْدُوءَةُ أَسْمَاؤُهَا بِكَلِمَةِ (أُورُ) وَاقِعَةٌ مَعَ مَا بَعْدَهَا مَوْقِعَ الْمُضَافِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَشْهَرُهَا (أُورَشْلِيمُ) لِمَدِينَةِ الْقُدْسِ، قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا مُلْكُ السَّلَامِ، أَوْ إِرْثُ السَّلَامِ، فَ " شَلِيمُ " بِالْعِبْرِيَّةِ هِيَ السَّلَامُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ قَرْيَةٍ اسْمُهَا (كُوثَى) مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ اسْمُ إِبْرَاهِيمَ (أَبْرَامُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالُوا: إِنْ مَعْنَاهُ (أَبُو الْعَلَاءِ) فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ " أَبٍ " الْعَرَبِيَّةِ السَّامِيَّةِ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى ظَهَرَ لَهُ فِي سِنِّ التَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ وَكَلَّمَهُ، وَجَدَّدَ عَهْدَهُ لَهُ بِأَنْ يُكَثِّرَ نَسْلُهُ وَيُعْطِيَهُ أَرْضَ كَنْعَانَ (فِلَسْطِينُ) مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَسَمَّاهُ لِذَرِّيَّتِهِ (إِبْرَاهِيمُ) بَدَلَ (أَبْرَامُ) وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى إِبْرَاهِيمَ (أَبُو الْجُمْهُورِ) الْعَظِيمُ أَيْ أَبُو الْأُمَّةِ. وَهُوَ بِمَعْنَى تَبْشِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِتَكْثِيرِ نَسْلِهِ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَمِنْ إِسْحَاقَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَسْرَ هَمْزَتِهِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَصْلَهَا الْفَتْحُ، وَأَنَّ " إِبْ " الْمَكْسُورَةَ فِي إِبْرَاهِيمَ هِيَ أَبٌ الْمَفْتُوحَةُ فِي أَبْرَامَ. فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ عَرَبِيٌّ، وَالثَّانِي كَلْدَانِيٌّ أَوْ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى مِنْ فُرُوعِ السَّامِيَّةِ أَخَوَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَوْسَعُهَا، حَتَّى جَعَلَهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَاتِ هِيَ الْأَصْلَ وَالْأُمَّ لِسَائِرِ تِلْكَ الْفُرُوعِ السَّامِيَّةِ كَالْعِبْرِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ. وَذَكَرَ رُوَاةُ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذَا الِاسْمِ سَبْعَ لُغَاتٍ عَنِ الْعَرَبِ وَهِيَ إِبْرَاهِيمُ

وَابْرَاهَامُ وَابْرَاهُومُ وَابْرَاهِيمُ مُثَلَّثَةَ الْهَاءِ وَأَبْرَهَمُ بِفَتْحِ الْهَاءِ بِلَا أَلِفٍ. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ سُرْيَانِيُّ الْأَصْلِ ثُمَّ نُقِلَ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ أَوْ رَحِيمٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جُزْآهُ عَرَبِيَّيْنِ بِقَلْبِ حَائِهِ هَاءً كَمَا يَقْلِبُهَا جَمِيعُ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ كَالْإِفْرِنْجِ، وَتَرْكِيبُهُ مَزْجِيٌّ. وَفِي " الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ " كَغَيْرِهِ " أَنَّ تَصْغِيرَهُ بُرَيْهٌ أَوْ أُبَيْرَهٌ وَبُرَيْهِيمٌ " قَالَ شَارِحُهُ عِنْدَ الْأَوَّلِ: قَالَ شَيْخُنَا: وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عَرَبِيًّا وَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَإِلَّا فَالْأَعْجَمِيَّةُ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنَ التَّصْرِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَادِيَّاتِ وَالْآثَارِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ عَرَبَ الْجَزِيرَةَ قَدِ اسْتَعْمَرُوا مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ بِلَادَ الْكَلْدَانِ وَمِصْرَ، وَغَلَبَتْ لُغَتُهُمْ فِيهِمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمَلِكَ حَمُورَابِي الَّذِي كَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَبِيٌّ، وَحَمُورَابِي هَذَا هُوَ مُلْكِي صَادِقٌ مَلِكُ الْبِرِّ وَالسَّلَامِ، وَوُصِفَ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِأَنَّهُ كَاهِنُ اللهِ الْعَلِيِّ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ بَارَكَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَعْطَاهُ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي الْوَادِي الَّذِي بُنِيَتْ فِيهِ مَكَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُمَا جَمَاعَةً مِنْ جُرْهُمٍ سَكَنُوا مَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَزُورُهُمَا، وَأَنَّهُ هُوَ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ بَنَيَا بَيْتَ اللهِ الْمُحَرَّمَ، وَنَشَرَا دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ الْقَدِيمَةَ هِيَ لُغَةُ إِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ، وَلُغَةُ حَمُورَابِي وَقَوْمِهِ، وَلُغَةُ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ أَوِ اللُّغَةُ الْغَالِبَةُ فِي ذَيْنِكَ الْقُطْرَيْنِ، وَأَنَّهَا عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الدَّخِيلِ الْكَلْدَانِيِّ وَالْمِصْرِيِّ كَانَتْ قَرِيبَةً جِدًّا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْجُرْهُمِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الَّذِينَ سَاكَنُوا هَاجَرَ مِنْ جُرْهُمٍ يَفْهَمُونَ مِنْهَا وَتَفْهَمُ مِنْهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ زَارَ إِسْمَاعِيلَ مَرَّةً فَلَمْ يَجِدْهُ، وَتَكَلَّمَ مَعَ امْرَأَتِهِ الْجُرْهُمِيَّةِ وَلَمْ تُعْجِبْهُ، ثُمَّ زَارَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ يَجِدْهُ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَتَكَلَّمَ مَعَهَا فَأَعْجَبَتْهُ. وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا أَنَّ لُغَةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ أَفْصَحَ مِنْ لُغَةِ جُرْهُمٍ، فَهِيَ أَمُّ اللُّغَةِ الْمُضَرِيَّةِ الَّتِي فَاقَتْ بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا سَائِرَ اللُّغَاتِ أَوِ اللهَجَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِمَا كَانُوا يُقِيمُونَهُ لَهَا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُفَاخَرَةِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، ثُمَّ كَمُلَتْ بَلَاغَتُهَا وَفَصَاحَتُهَا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الْمُعْجِزِ لِلْخَلْقِ بِهَا. وَأَمَّا أَبُو إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ (آزَرَ) وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اسْمَهُ (تَارَحُ) بِفَتْحٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ (مُتَكَاسِلٌ) وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ نَرَى أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ اللُّغَوِيِّينَ مِنَّا يَقُولُونَ: إِنَّ اسْمَهُ " تَارَخُ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَوِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِنَّ آزَرَ لَقَبُهُ أَوِ اسْمُ أَخِيهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ صَنَمِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ اخْتِلَافٌ فِي كَوْنِ اسْمِهِ تَارَخَ أَوْ تَارَحَ. وَلَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ أَصْلًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَنْقُولًا عَنِ الْعَرَبِ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ

فِيمَا يَظْهَرُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ اللَّذَيْنِ أَدْخَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَتَلَقُّوهَا بِالْقَبُولِ عَلَى عِلَّاتِهَا. وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَجْرُوحِ بِالْكَذِبِ الَّذِي قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ: كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُوَافِقُ كُتُبَهُمْ. فَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: آزَرُ لَمْ يَكُنْ بِأَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ اسْمُ صَنَمٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ اسْمُ أَبِيهِ تَارَحُ، وَاسْمُ الصَّنَمِ آزَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ: آزَرُ الصَّنَمُ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ يَازَرَ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزَرَ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ تَارَحَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ تَيْرَحُ. وَجَزَمَ الضَّحَّاكُ بِأَنَّ اسْمَهُ آزَرَ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ الْكَبِيرِ ": إِبْرَاهِيمُ بْنُ آزَرَ، وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ تَارَحُ، وَاللهُ سَمَّاهُ آزَرَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ النَّسَّابِينَ وَالْمُؤَرَّخَيْنِ اسْمُهُ تَارَخُ لِيُعْرَفَ بِذَلِكَ. اهـ. فَقَدِ اعْتَمَدَ أَنَّ آزَرَ هُوَ اسْمُهُ عِنْدَ اللهِ - أَيْ فِي كِتَابِهِ - فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَبِهَا وَإِلَّا رَدَدْنَا قَوْلَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَسِفْرَ التَّكْوِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَنَا حَتَّى نَعْتَدَّ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نُصَدِّقُ مَا صَدَّقَهُ، وَنُكَذِّبُ مَا كَذَّبَهُ، وَنَلْزَمُ الْوَقْفَ فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَيْهِ صَحِيحٌ. وَأَضْعَفُ مَا قَالُوهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ آزَرَ اسْمُ عَمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا مَجَازًا، وَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَيْثُ تُوجَدُ قَرِينَةٌ يُعْلَمُ مِنْهَا الْمُرَادُ، وَلَا قَرِينَةَ هُنَا وَلَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَيَلِيهِ فِي الضَّعْفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ خَادِمُ الصَّنَمِ الْمُسَمَّى بِآزَرَ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَكَانَهُ. وَأَقْوَاهُ أَنَّ لَهُ اسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا عَلَمٌ وَالْآخَرُ لَقَبٌ: وَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ تَارَحُ هُوَ اللَّقَبُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُتَكَاسِلُ، وَهُوَ لَقَبٌ قَبِيحٌ قَلَّمَا يُطْلِقُهُ أَحَدٌ ابْتِدَاءً عَلَى وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَرْءِ بَعْدَ ظُهُورِ مَعْنَاهُ فِيهِ أَوْ رَمْيِهِ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ مَا زَعَمَهُ مِنْ عَكْسٍ، فَجُعِلَ آزَرُ هُوَ اللَّقَبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمُ الْمُخْطِئُ أَوِ الْمُعْوَجُّ أَوِ الْأَعْوَجُ أَوِ الْأَعْرَجِ - وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفٌ عَمَّا قَبْلَهُ - وَقِيلَ: إِنَّهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ بِالْخُوَارَزْمِيَّةِ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (رُوحَ الْمَعَانِي) لِلْأَلُوسِيِّ، وَالتَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ (مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ) لِلرَّازِيِّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَنْقُلَ عَنْهُمَا مَا يَأْتِي: قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْوَصْفِيَّةِ يَكُونُ مَنْعُ صَرْفِهِ لِلْحَمْلِ عَلَى مُوَازِنِهِ وَهُوَ فَاعِلٌ الْمَفْتُوحُ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ مَنْعَ صَرْفِهِ لِكَثْرَتِهِ فِي الْأَعْلَامِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فَأُلْحِقَ بِالْعَلَمِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ نَعْتًا مُشْتَقًّا مِنَ الْأَزْرِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَوِ الْوِزْرِ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَمَنْعُ صَرْفِهِ حِينَئِذٍ لِلْوَصْفِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ.

وَقَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ جَعَلَ هَذَا طَعْنًا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي هَذَا النَّسَبِ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا مَقَامَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِإِجْمَاعِ النَّسَّابِينَ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ كَانَ تَارَحَ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضًا، وَبِالْآخِرَةِ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، مِثْلَ قَوْلِ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَأَمْثَالِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ صَرِيحِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَأْخَذَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَقَامَ الثَّانِي، وَهُوَ تَسْلِيمُ قَوْلِهِمْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصِّ الْقُرْآنِ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُمْ آنِفًا وَبَيَّنَّا قَوِيَّهُ مِنْ ضَعِيفِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنْ آزَرَ لَمْ يَكُنْ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ عَمَّهُ بِالْجَزْمِ ; لِأَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ كَافَّةً أَوْ نَبِيِّنَا خَاصَّةً لَمْ يَكُونُوا كَفَّارًا، وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَاطَبَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الشِّيعَةِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِهِ، وَاخْتَصَّ فِي بَيَانِ (زَعْمِ أَصْحَابَهِ - أَيِ الْأَشَاعِرَةِ أَوْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَافَّةً - أَنَّ آزَرَ كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ كَافِرًا وَفِي رَدِّهِمْ قَوْلَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ آزَرَ لَمْ يَكُنْ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِي آبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَافِرٌ أَصْلًا؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ " وَالْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، وَتَخْصِيصُ الطَّهَارَةِ بِالطَّهَارَةِ مِنَ السِّفَاحِ لَا دَلِيلَ لَهُ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ الرَّسَائِلَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِمَا اسْتَدَلُّوا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الشِّيعَةِ كَمَا ادَّعَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ نَاشِئٌ مِنْ قِلَّةِ التَّتَبُّعِ. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ آزَرَ اسْمٌ لِعَمِّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَجَاءَ إِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (2: 133) وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ أَيْضًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْخَالُ وَالِدٌ وَالْعَمُّ وَالِدٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ آثَارًا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، أَخْذَهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ رَسَائِلِ السُّيُوطِيِّ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي نَجَاةِ الْأَبَوَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَجَمَعَ فِيهَا الذَّرَّةَ وَأُذُنَ الْجَرَّةِ - كَمَا يُقَالُ - وَرَجَّحَ الْآثَارَ الْوَاهِيَةَ وَالْمُنْكَرَةَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْأَلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَأَلَّفُوا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ الرَّسَائِلَ. . إِلَخْ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ وُقُوعُ هَذِهِ الْهَفْوَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّقَّادِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيهَا هَوًى صَادَفَتْهُ فِي الْفُؤَادِ، وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاةِ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ الَّذِينَ أَنْجَبُوا أَفْضَلَ الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ، مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَيْنِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا

أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَإِنَّ مِنْ حُبِّهِمَا - وَهُوَ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِهِمَا - أَنْ يُحِبَّ الْمُؤْمِنُ نَجَاةَ أُصُولِهِمَا، وَلَكِنْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ، وَأَنْ يَطَّلِعَ رَسُولُهُ عَلَى عَاقِبَتِهِ فِي النَّارِ، فَيُخْبِرُ أُمَّتَهُ بِهِ لِكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالِاعْتِبَارِ، أَفَيَكُونُ مُقْتَضَى حَبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ وَبَيَانُهُ كَمَا بَيَّنَاهُ؟ أَمْ يَكُونُ حُبُّهُمَا تَحْرِيفَهُ وَتَأْوِيلَهُ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ نَسَبِ الرُّسُلِ، وَاسْتِعْظَامًا لِهَلَاكِ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمْ نَسَبًا مَعَ كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَتَأَثُّرًا بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ جَعَلُوا نَجَاةَ الْخَلْقِ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِجَاهِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَأْثِيرِهِمُ الشَّخْصِيِّ عِنْدَ اللهِ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (3: 53) . نَعَمْ، إِنَّ مِمَّا يُصْدِعُ الْفُؤَادَ، وَيَكَادُ يُفَتِّتُ أَصْلَبَ الْجَمَادِ، أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنُ وَالِدَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ قَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَأَطْلَعَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَى أَنَّ مَآلَهُ أَنْ يُمْسَخَ حَيَوَانًا مُنْتِنًا وَيَلْقَى فِي سَعِيرِ النِّيرَانِ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ " وَ " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ " لَا تَعْصِنِي " فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَارَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى " إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ " ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ انْظُرْ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ " قَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ. وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ مِنِّي، قَالَ: انْظُرْ أَسْفَلَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا ذِيخٌ يَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَيَمْسَخُ اللهُ أَبَاهُ ضَبْعًا فَيَأْخُذُ بِأَنْفِهِ (أَيْ يَأْخُذُ إِبْرَاهِيمُ أَنْفَهُ بِأَصَابِعِهِ كَرَاهَةً لِرَائِحَةٍ نَتْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي، أَبُوكَ هُوَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعَزَّتِكَ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: فَيُحَوَّلُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ فِي صُورَةِ ضَبْعَانٍ. زَادَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا رَآهُ كَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَالَ: لَسْتَ أَبِي. وَالذِّيخُ - بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ - ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَلَا يُقَالُ: ذِيخٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ. وَالضِّبْعَانُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ. اهـ. أَقُولُ: الضِّبْعَانُ - بِالْكَسْرِ - ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالضَّبُعُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا - هِيَ الْأُنْثَى فَلَا يُقَالُ: ضَبْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَهُوَ وَحْشٌ خَبِيثُ الرَّائِحَةِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ خُبْثَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ لِتَنْفُرَ نَفْسُ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَبْقَى فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ فَيَكُونُ غَضَاضَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ ضَبْعًا أَنَّ الضَّبْعَ مِنْ أَحْمَقِ

الْحَيَوَانِ، وَآزَرُ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى مَاتَ. . إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ اسْتَشْكَلَ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ، وَطَعَنَ فِي صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ مَا صَارَ لِأَبِيهِ خِزْيًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (9: 114) وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمَّا مَاتَ آزَرُ مُشْرِكًا. وَذَكَرَ أَنَّ الطَّبَرِيَّ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ قَالَ فِي بَعْضِهَا: اسْتَغْفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا مَاتَ أَمْسَكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا يَئِسَ حِينَ مُسِخَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ وَالِدِي، رَبِّ وَالِدِي، فَإِذَا كَانَ الثَّالِثَةُ أُخِذَ بِيَدِهِ، فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَهُوَ ضِبْعَانٌ، فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ. . . (ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ) : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، لَكِنْ لَمَّا رَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَتْهُ الرَّأْفَةُ وَالرِّقَّةُ، فَسَأَلَ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُسِخَ يَئِسَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، فَتَبَرَّأَ مِنْهُ تَبَرُّءًا أَبَدِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آمَنَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَطَّلِعْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونَ تَبَرُّؤُهُ مِنْهُ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَفِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَخْبَارِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ نَقَلَ الْحَافِظُ عَنِ الْكِرْمَانِيِّ إِيرَادًا بِمَعْنَى إِشْكَالِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مُوَضَّحًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا مُسِخَ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَبْقَ الصُّورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخِزْيِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعًا، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَفَاءً بِمَا وَعَدَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِأَلَّا يُخْزِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُشِيرُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَمِنْهُ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالًا وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (26: 86 - 89) وَأَمَّا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنَ الْحَدِيثِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ بِشَرْطِهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ الدُّعَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الرَّقَائِقِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْأَلُوسِيِّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِحَدِيثِ " لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ

الطَّاهِرَاتِ " عَلَى إِيمَانِ آبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبْدِ اللهِ (أَوَّلِهِمْ) إِلَى آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ مُعَارَضَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِحَدِيثٍ وَاهٍ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَيَّ فِي سِفَاحٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَنْقُلُنِي مِنْ أَصْلَابٍ طَيِّبَةٍ، إِلَى أَرْحَامٍ طَاهِرَةٍ، صَافِيًا مُهَذَّبًا لَا تَنْشَعِبُ شُعْبَتَانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا " هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الدَّلَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِينَا. وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ " مِنَ الْأَصْلَابِ الطَّيِّبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ " بِالتَّعْرِيفِ، وَلَا نَعْرِفُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْ لَا يَتَحَرَّوْنَ نَقْلَ الْأَحَادِيثِ بِضَبْطِ مُخْرِجِيهَا، بَلْ يَتَسَاهَلُونَ بِنَقْلِهَا حَيْثُ وَجَدُوهَا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ سَبَقَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْأَلُوسِيَّ إِلَى ذِكْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ عِزْوٍ وَلَا ذِكْرٍ لِاسْمِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي رَفَعَهُ كَعَادَتِهِ. وَاللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ لَا مَعْنًى لَهُ إِلَّا كَوْنَ آبَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدُوا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ رُوِيَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَاهُ لَاحْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ أَصْلًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّكَلُّفِ. وَالَّذِي خَرَّجَهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ فِي دَلَائِلِ طِهَارَةِ نَسَبِهِ لَا إِيمَانِ أُصُولِهِ. وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (26: 219) لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ مَعْنَاهُ فِي أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَيُبْطِلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) (26: 218) أَيْ: وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْمَاضِيَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي الْمُصَلِّينَ أَيْ مَعَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى تَقَلُّبُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا - لَا يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا وَلَا لُغَةً. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي مَحِلِّهِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُعَارَضَةُ لِحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ غَيْرَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي مَسْخِ آزَرَ فَأَهَمُّهَا مَا وَرَدَ فِي أَبَوَيِ الرَّسُولِ الطَّاهِرَيْنِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: " فِي النَّارِ " قَالَ: فَلَمَّا قَفَّا الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ: " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: فِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَلَا تَنْفَعُهُ قُرَابَةُ الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَةً قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ

لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ. وَمَعْنَى " قَفَّا " وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا. انْتَهَى. وَوَرَدَ حَدِيثٌ مِثْلُهُ فِي أُمِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي " وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ بِلَفْظِ: " زَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنَّ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ " وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وُجِدَتْ فِي نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ دُونَ الْمَشَارِقَةِ، وَلَكِنَّهَا تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَيُضَبَّبُ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا كُتِبَتْ فِي الْحَاشِيَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ عِنْدَهُمْ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، قَالَ: فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: فِيهِ جَوَازُ زِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاةِ وَقُبُورِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ زِيَارَتُهُمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَفِي الْحَيَاةِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (31: 15) وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: سَبَبُ زِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَهَا أَنَّهُ قَصْدُ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ " انْتَهَى. فَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (9: 113، 114) نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَلَكِنْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا عَرَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِيُحَاجَّ لَهُ بِهَا أَوْ يُجَادِلَ عَنْهُ أَوْ يَشْفَعَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ عِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، فَحِينَئِذٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ " فَأَنْزَلَ اللهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (9: 113) إِلَخْ. وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (28: 56) قِيلَ فِي تَفْسِيرِ " مَنْ أَحْبَبْتَ " مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَحْبَبْتَهُ بِقَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا.

قَالَ الْحَافِظُ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي الْبُخَارِيِّ حِينَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ. فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِ النُّزُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَاكِمِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ: مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ. وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ (9: 80) مِنِ اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (28: 56) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ. انْتَهَى. ثُمَّ أَيَّدَ الْحَافِظَ تَعَدُّدَ النُّزُولِ بِرِوَايَاتٍ أُخْرَى فِيمَنِ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمٍ وَقَعَ لَهُ عِدَّةَ أَسْبَابٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَيْ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اللهِ فِيهَا وَإِنَّ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَحَلِّهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ غَرِيبِ التَّعَصُّبِ لِلرَّأْيِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ حَاوَلَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ إِعْلَالَ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ، وَحَصَرَ رِوَايَتَهَا فِي الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَ شَيْخُهُ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي الصِّحَاحِ أَوِ السُّنَنِ لَمَا اقْتَصَرَ الْحَافِظُ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِنْ مُخْرِجِيهَا مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُ جَمِيعَ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَفَاتَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ هُنَا ذِكْرَ مَا ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَيْنَ حِفْظُ السُّيُوطِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؟ أَلَيْسَ أَهْوَنُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِلصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حِفْظًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُرَاجِعُ الْكُتُبَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَنْقُلُ مِنْهَا نَقْلًا؟ . وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي التَّقَصِّي مِنْ حَدِيثِ " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " أَنَّ الْمُرَادَ بِأَبِيهِ فِيهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَفِي حَدِيثِ عَرْضِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبِي طَالِبٍ مَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ إِيمَانَ جَمِيعِ آبَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنَّ آخَرَ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلَّةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُنَافِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ. (وَمِنْهُ) زَعْمُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ نُسِخَ، وَلَعَلَّهُ نَسِيَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ جَهِلَهُ، فَقَدْ قَرَّرَهُ فِي الْإِتْقَانِ تَقْرِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ الْأَبِ عَلَى الْعَمِّ مَجَازٌ لَا يَصِحُّ

فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُعَيِّنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ عَنْ أَبِيهِ أَرَادَ عَمَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ " إِنَّ عَمِّي وَعَمَّكَ فِي النَّارِ ". وَلَعُمْرِي إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى قَوْلَهُ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ أَوْ مَقَامِ الِاعْتِبَارِ وَالرَّدِّ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَدُّوا عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ اغْتَرَّ كَثِيرُونَ بِمَا أَوْرَدَهُ فِي نَجَاةِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ إِحْيَائِهِمَا وَإِيمَانِهِمَا الَّذِي قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ، وَغَايَةُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَجُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَقْوَى مَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَأَرْجَاهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي امْتِحَانِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْفَتْرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَجَاةِ بَعْضِهِمْ بِهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَصِحَّ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ مِنْ جَزْمِهِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِذَا حَقَّ نَجَاةُ الْأَبَوَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ بِالِامْتِحَانِ يَكُونُ مَا وَرَدَ فِيهِمَا خَاصًّا بِمَا قَبْلَ الِامْتِحَانِ. (حِكْمَةُ النُّصُوصِ فِي كُفْرِ بَعْضِ أَرْحَامِ الرُّسُلِ الْأَقْرَبِينَ) . إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا اسْتِنْبَاطَهُمُ الْبَعِيدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالْمُنْكَرَةِ أَصْلًا فِي إِثْبَاتِ إِيمَانِ آبَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤَوِّلُونَ لِأَجْلِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ - قَدْ غَفَلُوا عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ الْحِكْمَةُ وَالْفَائِدَةُ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِكَفْرِ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقِصَّةِ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ مَعَ وَالِدِهِ وَأَهْلِهِ، وَفِي تَصْرِيحِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ وَالِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَصْرِيحِهِ أَيْضًا بِأَنَّ أَبَاهُ فِي النَّارِ، وَبِعَدَمِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ وَلَا لِعَمِّهِ الَّذِي رَبَّاهُ وَلَهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ - فِيمَا يَظْهَرُ - إِنْزَالُ سُورَةٍ فِي سُوءِ حَالِ أَبِي لَهَبٍ وَمَصِيرِهِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ عَمُّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنَّ الْحِكْمَةَ الْبَالِغَةَ وَالْفَائِدَةَ الظَّاهِرَةَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ هِيَ تَقْرِيرُ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْهَادِمِ لِقَاعِدَةِ الْوَثَنِيَّةِ بِالْفَصْلِ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ وَمَا هُوَ لِرُسُلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُرْسَلُوا إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا تَبْلِيغُ دِينِ اللهِ وَإِقَامَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ هُدَى أَحَدٍ وَلَا رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ هِدَايَةُ التَّعْلِيمِ وَالْحُجَّةِ، فَلَا يَهْدُونَ مَنْ أَحَبُّوا، وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ وَأَحَبَّهُ إِلَيْهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا قَاعِدَةُ وَثَنِيَّةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فَهِيَ اتِّخَاذُ

أَوْلِيَاءٍ مِنَ الْعِبَادِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي شُئُونِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ، وَالسَّلْبِ وَالْإِمْدَادِ، لَا فِي مُجَرَّدِ التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ قِيَاسًا عَلَى مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، فَهُمْ لِذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّرَكَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) الْآيَةَ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأَصْلُ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمُ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ؛ كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ هَلَكُوا، فَأَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ (رَاجِعْ سُورَةَ نُوحٍ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَقَدْ هَدَمَ الْقُرْآنُ جَمِيعَ قَوَاعِدِ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ عَلَى شَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، لَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَعْلَى الْبَشَرِ مَقَامًا فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ - وَمَقَامُهُ الْأَعْلَى فِي الرُّسُلِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَقَامُهُ - كَرَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ كُفْرِ وَالِدِهِ وَاجْتِهَادِهِ هُوَ فِي هِدَايَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يُفِدْهُ شَيْئًا، وَزَادَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ لَنَا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ عَاقِبَتِهِ السُّوأَى فِي الْآخِرَةِ. وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ أَبَوَيْهِ مَا عَلِمْتَ مِنْ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْإِذْعَانِيِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَا بِأَشْخَاصِ الرُّسُلِ وَتَأْثِيرِهِمُ الشَّخْصِيِّ عِنْدَ اللهِ، كَتَأْثِيرِ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، إِذْ يَحْمِلُونَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الْإِقْنَاعِ عَلَى عَفْوٍ عَنْ مُذْنِبٍ أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذِهِ هِيَ نَظَرِيَّةُ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّفَاعَةِ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لِلشَّافِعِ وَرِضَاهُ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَفِي غَيْرِهَا. وَلَا يُرَدُّ عَلَى حَصْرِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ فِي التَّبْلِيغِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يَحْصُلُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ، وَلَا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُدْعَوْا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِفِعْلِهَا، كَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، بَلْ هِيَ مِنْ تَصَرُّفِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا لَا دَخْلَ لَهُمْ فِيهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَمَا يَجْرِي عَقِبَ قَوْلٍ كَقَوْلِ الرَّسُولِ لِلْمَيِّتِ: " قُمْ بِإِذْنِ اللهِ "، أَوْ فِعْلٍ كَإِلْقَاءِ مُوسَى لِعَصَاهُ أَوْ ضَرْبِهِ الْبَحْرَ بِهَا،

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (29: 50) وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِيمَا فُسِّرَتَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (109) وَمِمَّا هُوَ بِمَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ مَا اقْتَرَحَهُ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (17: 93) أَيْ فَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِصِفَتِي الْبَشَرِيَّةِ ; لِأَنَّنِي مِثْلُكُمْ فِيهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى. لَوْلَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تِلْكَ الْعِنَايَةِ بِتَكْرَارِ ذِكْرِ كُفْرِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، كَالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ (19: 41 - 48) وَكَذِكْرِ أَبِيهِ قَبْلَ قَوْمِهِ فِي خَبَرِ بَعْثَتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (21: 52) إِلَخْ. وَسُورَةُ الشُّعَرَاءِ (26: 70) إِلَخْ. وَسُورَةُ الصَّافَّاتِ (37: 85. إِلَخْ. وَسُورَةُ الزُّخْرُفِ (43: 26) فَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَآيَةِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ (9: 114) - وَتَقَدَّمَتْ آنِفًا - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (60: 3، 4) مَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَمَ بِمَا قُلْنَاهُ. وَأَجْدَرُ بِنَا - وَقَدْ وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ بِهَذِهِ الشَّوَاهِدِ وَالْبَيِّنَاتِ - أَنْ نَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الْمُتَمِّمِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَنَقُولُ: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (60: 4، 5) . هَذَا وَإِنَّ كَلَامَ بَعْضِ الَّذِينَ حَاوَلُوا إِثْبَاتَ إِيمَانِ جَمِيعِ آبَاءِ الْخَلِيلَيْنِ، أَوْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيمَانِ أَبِي طَالِبٍ يَدُورُ عَلَى مَا يُقَابِلُ هَذَا الْأَصْلَ، وَهُوَ الْغُلُوُّ فِيهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ كَرَامَتَهُمْ تَنْفَعُ أُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَسُوءُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ بَقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَمَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو بَعْضَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ لِجَلْبِ النَّفْعِ أَوْ لِكَشْفِ الضُّرِّ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ بِالتَّوَسُّلِ بِذَوَاتِهِمْ، لَا بِمَا أَمَرَ اللهُ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَقْضُونَ الْحَوَائِجَ الَّتِي تُطْلَبُ مِنْهُمْ بِأَشْخَاصِهِمْ، وَذَلِكَ مُصَادِمٌ لِتِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا وَلِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ، وَكَوْنِ الدُّعَاءِ عِبَادَةً لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (17: 56، 57) .

وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ وُجُودِ أُنَاسٍ قَدِ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعَ تَحْذِيرِ النَّبِيِّ لِلْأُمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سَنَنِهِمْ، فَكَيْفَ لَوْ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ النُّصُوصُ بِهَذِهِ الصَّرَاحَةِ وَهَذَا التَّحْذِيرِ؟ . نَعَمْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ الرَّاسِخِينَ فِي التَّوْحِيدِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ - عَلَى تَقْوِيَةِ كُلِّ قَوْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ نَجَاةُ أَبَوَيْهِ الطَّاهِرَيْنِ أَوْ جَمِيعِ أُصُولِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِهِ أَوْ كَلَامِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا إِخْلَالَ بِمَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْحُبَّ الصَّحِيحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَةُ الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَثْبُتُ وَيَتَحَقَّقُ بِالِاتِّبَاعِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ، وَمَنْ يُرَجِّحُ قَرَابَةَ الرَّسُولِ عَلَى رِسَالَتِهِ فَإِنَّمَا حُبُّهُ لَهُ وَلَهُمْ حُبُّ هَوًى لِلْعَصَبِيَّةِ وَالنَّسَبِ، لَا حُبُّ هُدًى بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ أَوِ اسْتَحَبَّ، وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَصَبِيَّةً لِقَرَابَتِهِ، لَا اتِّبَاعًا لِرِسَالَتِهِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ آمِنَ بِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ مِنْ تَفْضِيلِ إِيمَانِهِ عَلَى إِيمَانِ وَالِدِهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَعْظَمَ وَأَقْوَى ظَهِيرٍ وَمَانِعٍ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَعْدَائِهِ لِقَرَابَتِهِ، قَدْ أَبَى أَنْ يُقِرَّ عَيْنَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ". وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَعْضَ الْغُلَاةِ مِنَ الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَوَاللهِ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ " فَهَذَا رَجَاءٌ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَبَرٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (74: 48) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) أَيْ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَبِحَدِيثِ عَدَمِ نَفْعِ شَفَاعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ شَفَاعَةً - وَأَحَادِيثَ أُخْرَى. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِهِ بِأَنَّ هَذَا الرَّجَاءَ لَيْسَ اعْتِقَادًا جَازِمًا وَلَا خَبَرًا عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا ذُكَرَ فِي الْآيَاتِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَاهَا. وَيُشِيرُ كَلَامُ الْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِشْكَالِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ فِي إِرَادَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَعُظَمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ الْكَافِرَ بِإِنْقَاذِهِ

مِنَ النَّارِ وَجَعْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا أَنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تَنْفَعُهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّفْعِ ; لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكُفْرِ يَغْلِبُ تَأْثِيرَهَا، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَنْفَعُ بِجَعْلِ عَذَابِ الْمَشْفُوعِ لَهُ بِفَضِيلَةٍ فِيهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ لَهُ أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فَضَائِلُ وَلَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مِثْلُهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي تَفَاوُتِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ. وَمَا أَجْدَرَ أَبَا طَالِبٍ بِأَنْ يَكُونَ أَخَفَّ الْكُفَّارِ عَذَابًا بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَجَلُهَا كَفَالَةُ الرَّسُولِ وَحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، بَلْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ وَلَكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْكِ اسْتِكْبَارًا وَحَمِيَّةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ، وَقَدْ أَثَارَ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ فِيهِ أَبُو جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللهُ - وَكَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ فَقَدْ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِذْ كَانَا لَدَيْهِ فِي وَقْتِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَكَانَ جُلُّ كُفْرِهِ غَلَبَةَ الْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعْظِيمَ الْآبَاءِ بِتَقْلِيدِهِمْ وَإِيثَارِ ذَلِكَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ كُفْرِ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ آذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ خَذَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَنَصَرَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ؟ وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِأَخَفِّ الْعَذَابِ وَجُوزِيَ بِهِ لَا يَكُونُ مُنْتَفِعًا بِالشَّفَاعَةِ، وَالتَّخْفِيفُ بِسَبَبِهَا بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) (35: 36) وَبِنُصُوصٍ أُخْرَى، فَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِلشَّفَاعَةِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ الشَّفَاعَاتِ تَكْرِيمٌ صُورِيٌّ لِلشُّفَعَاءِ بِمَا يَجْزِيهِ اللهُ تَعَالَى عَقِبَ شَفَاعَتِهِمْ لَا بِهَا، كَمَا يَقُولُ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ وَجَمْعِهِ لِلطَّبْعِ رَاجَعْتُ شَرْحَ الْحَافِظِ لِلْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْإِشْكَالَ وَأَجْوِبَةً عَنْهُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَكَوْنِ التَّخْفِيفِ مِنْ عَذَابِ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ، وَالتَّجَوُّزِ فِي لَفْظِ الشَّفَاعَةِ. فَنَقَلَ عَنْ (الْمُفْهِمِ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ) لِلْقُرْطُبِيِّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا بَالَغَ فِي إِكْرَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالذَّبِّ عَنْهُ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةٌ لِكَوْنِهَا بِسَبَبِهِ. اهـ. هَذَا وَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثَ نُرْجِئُ الْقَوْلَ فِيهَا إِلَى تَفْسِيرِ آيَاتِ السُّوَرِ الْأُخْرَى الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ، وَنَخْتِمُ الْكَلَامَ هُنَا بِمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ: (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَظْرُ إِيذَاءِ الرَّسُولِ أَوْ آلِهِ بِذِكْرِ أَبَوَيْهِ أَوْ عَمِّهِ بِسُوءٍ. إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ حِكْمَةَ بَيَانِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَحَدِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُفْرِ مَنْ ذُكِرَ وَعَذَابِهِمْ فِي النَّارِ هِيَ تَقْرِيرُ أَسَاسِ الدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُطْلَبُ شَرْعًا هُوَ أَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، وَهُوَ يَشْمَلُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرَهُ، وَرِوَايَةَ الْحَدِيثِ وَشَرْحَهُ - وَمِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ وَتَارِيخُ الْإِسْلَامِ - وَبَيَانَ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ

وَافَقَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى مَا يُخِلُّ بِالْأَدَبِ، وَيُؤْذِي الرَّسُولَ أَوْ آلِهِ بِحَسَبٍ أَوْ نَسَبٍ، وَنَاهِيكَ بِالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَبِأَبِي طَالِبٍ دُونَ أَبِي لَهَبٍ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ أَبُو لَهَبٍ بِسُوءٍ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ عَمَّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: " اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: كَيْفَ بِنَسَبِي فِيهِمْ؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لِأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ " أَيْ: لَأُخَلِصَنَّ نَسَبَكَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ مِنَ الْهَجْوِ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي هَجْوِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: " كَيْفَ بِقَرَابَتِي مِنْهُ؟ فَأَجَابَ حَسَّانُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ هَدْيِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَاقِعَتَانِ، رُوِيَتَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَنَاهِيكَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ. (إِحْدَاهُمَا) أَنَّهُ أُتِيَ بِكَاتِبٍ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ كَافِرًا، فَقَالَ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ: لَوْ كُنْتَ جِئْتَ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ الْكَاتِبُ: مَا ضَرَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفْرُ أَبِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتَهُ مَثَلًا! لَا تَخُطَّ بَيْنَ يَدَيَّ بِقَلَمٍ أَبَدًا. (ثَانِيَتُهُمَا) أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ سَعْدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا عَامِلِنَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا زِنْدِيقٌ. قَالَ: وَمَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَافِرًا فَمَا ضَرَّهُ. فَغَضِبَ عُمَرُ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: مَا وَجَدْتَ لَهُ مَثَلًا غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَعَزَلَهُ عَنِ الدَّوَاوِينِ. وَمِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: وَقَطَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً - أَيْ يَدَهَا - لَهَا شَرَفٌ فَكُلِّمَ فِيهَا، فَقَالَ " لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ - لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ - لَقَطَعْتُ يَدَهَا " وَإِنَّمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ " فَكَنَّى الشَّافِعِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهَا مُبَالَغَةً فِي الْأَدَبِ، مَعَ أَنَّ إِسْنَادَ السَّرِقَةِ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ مَفْرُوضٌ فَرْضًا لَا وَاقِعًا، وَهُوَ يَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ السُّنَّةِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: مَا فَعَلَهُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي حَدِيثِ تَعْزِيَةِ فَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - فِي مَيِّتٍ وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا: " فَلَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى " أَيِ الْمَقَابِرَ، قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ، فَقَالَ لَهَا كَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: " لَوْ بَلَغْتِهَا مَعَهُمْ مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ " وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ هَكَذَا: قَالَ: " لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى " فَذَكَرَ تَشْدِيدًا عَظِيمًا. اهـ. وَقَالُوا: إِنَّهُ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْمُحَدِّثِينَ خَيْرٌ عَمَلًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ؟ النَّسَائِيُّ الَّذِي رَوَاهُ بِلَفْظِهِ، وَعَمِلَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَلِّغَ الْقَوْلَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا فِي

الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، أَمْ أَبُو دَاوُدَ الَّذِي رَاعَى الْأَدَبَ بِحَذْفِ مَا حَذَفَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ حَمَلَةُ السُّنَّةِ وَمُبَلِّغُوهَا لِلْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُوَ وُجُوبُ تَبْلِيغِ النَّصِّ بِلَفْظِهِ عَلَى مَنْ حَفِظَهُ، أَوْ بِمَعْنَاهُ إِذَا وَعَاهُ وَوَثِقَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهِ، وَلِهَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ أَعْظَمُ مِنَّةٍ فِي عُنُقِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنَقْلِ السُّنَّةِ إِلَيْهَا كَمَا رَوَوْهَا، وَضَبْطِ مُتُونِهَا، وَوَزْنِ أَسَانِيدِهَا بِمِيزَانِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَئِمَّتِهِمْ. وَإِنَّمَا يُحْسِنُ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنَ الْأَدَبِ الْعَالِي مَعَ بِضْعَةِ الرَّسُولِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - إِذَا كَانَ لَا يَضِيعُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ، كَذِكْرِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ الْأَصْلَ الْمَرْوِيَّ أَوْ لِمَنْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي الْعِلْمِ بِنَصِّهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ يَسْتَبِيحُونَ حَذْفَ شَيْءٍ مِنْهَا لَمَّا وَثِقْنَا بِنَقْلِهِمْ، وَلَكِنْ عُلِمَ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ سِيرَتِهِمْ وَمِنْ رِوَايَتِهِمْ لِلْأَحَادِيثِ الْمُشْكَلَةِ كَغَيْرِهَا، وَمِنْ جَرْحِهِمْ لِمَنْ غَيَّرَ أَوْ بَدَّلَ، أَوْ حَذَفَ أَوْ زَادَ أَوْ نَقَّصَ، أَوْ خَالَفَ الثِّقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُتُونِ وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْظِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ قَالَا مَا قَالَا عَالِمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ مَشْهُورٌ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ) قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيَّ عَزَا الْقَوْلَ بِإِيمَانِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ هَفْوَةٌ مِنْهُ - عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ مَنْ صَنَّفَ رِسَالَةً أَوْ كِتَابًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ. وَإِنَّمَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ فِي الِاعْتِصَامِ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ لِإِرْجَاعِ ظَوَاهِرِهَا إِلَى مَا ابْتُدِعَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ، وَمِنْهُمْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ الْمَشْهُورُونَ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدِ انْتَسَبَ إِلَى بَعْضِ مَذَاهِبَ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَقْرَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَيْهِمُ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ اضْطُرُّوا إِلَى الْخَوْضِ فِي مَسَائِلٍ مِنَ الْكَلَامِ لَمْ تُؤْثَرْ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ فِي الْفِقْهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاخْتَلَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا كَمَا اخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِيهَا الْأَشْعَرِيَّ، أَوْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهُمْ عَلَى انْتِسَابِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى السُّنَّةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ كُلَّ مَا قَرَّرَهُ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ مَذْهَبًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنْ تَقَلَّدَ ذَلِكَ الْكَثِيرُونَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْقَاعِدُ فِي كُلِّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ، وَتَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ فَلَمْ يُجْمِعُوا فِيهِ عَلَى قَوْلٍ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُؤْخَذُ مَا وَافَقَهُمَا وَيُرَدُّ مَا خَالَفَهُمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)

74

(4: 59) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي مَسْأَلَةِ آبَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَلَامِ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ فِي الْأَخْذِ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَكُلُّ مَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ. هَذَا وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ وَجَمْعِهِ لِلطَّبْعِ عَثَرْتُ بِالْمُصَادَفَةِ عَلَى مَا كَتَبَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، فَإِذَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ هَفْوَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ وَانْتَقَدْنَاهَا عَلَيْهِ، وَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى مُرَاجَعَةِ مَا كَتَبَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَنَّ آزَرَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِعِلْمِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ فِي الْفَهْمِ، وَهَذَا شَأْنُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ؛ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ قَوْلًا ثُمَّ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ مِنَ الْخَطَأِ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُخْلِصِينَ الْأَوَّابِينَ، بَلْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ اتِّقَاءَ الِاغْتِرَارِ بِقَوْلِ أَيِّ عَالِمٍ خَالَفَ النَّصَّ أَوْ مَا اشْتَهَرَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَوَفَّقَنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. (تَفْسِيرُ الْآيَاتِ) (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) وَمَا فِي حَيِّزِهَا - وَهُوَ آخِرُ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْعَقَائِدِ مَبْدُوءٌ بِالْأَمْرِ الْقَوْلِيِّ، وَسَيُعَادُ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي السُّورَةِ حِجَاجًا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ أَيْضًا - وَالظَّرْفُ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ عُهِدَ حَذْفُهُ، تَقْدِيرُهُ " اذْكُرْ " أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَقَّنَّاكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمِنْ بَيَانِ هَدْيِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِسْلَامِ لَهُ - اذْكُرْ لَهُمْ عَقِبَ هَذَا - قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ جَدِّهِمُ الَّذِي يَجْعَلُونَ وَيَدَعُونَ اتِّبَاعَ مِلَّتِهِ، حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ آزَرَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ شِرْكَهُمْ: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ مِنْ دُونِهَا! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الضَّلَالُ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْعَاقِلُ مِنْ سَيْرِهِ الْحِسِّيِّ أَوِ الْمَعْنَوِيِّ، وَغَايَةُ الدِّينِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ لِلْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَأَمَّا عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى - وَلَوْ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - فَهُوَ مُدِسٌّ لِلنَّفْسِ مُفْسِدٌ لَهَا، فَلَا يُوصِلُهَا إِلَّا إِلَى الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالضَّلَالِ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ وَلَا جَفَاءٌ وَلَا غِلْظَةٌ كَمَا زَعَمَ مَنِ اسْتَشْكَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ، وَقَابَلَهُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ لِلْمَصْلَحَةِ، كَالشِّدَّةِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ

75

أَحْيَانًا، وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ آزَرَ كَانَ عَمَّ إِبْرَاهِيمَ لَا وَالِدَهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالضَّلَالِ الْبَيِّنِ هُنَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (93: 7) وَكَقَوْلِكَ لِمَنْ تَرَاهُ مُنْحَرِفًا عَنِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ: إِنَّ الطَّرِيقَ مِنْ هُنَا، فَأَنْتَ حَائِدٌ أَوْ ضَالٌّ عَنْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مِثْلَكَ فِي ضَلَالٍ - عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ لِلْهُدَى فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا آلِهَةً لَكُمْ لَمْ تَكُنْ آلِهَةً فِي أَنْفُسِهَا، بَلْ بِاتِّخَاذِكُمْ وَجَعْلِكُمْ، وَلَسْتُمْ مِنْ خَلْقِهَا وَلَا مِنْ صُنْعِهَا، بَلْ هِيَ مِنْ صُنْعِكُمْ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِكُمْ وَلَا ضَرِّكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْحِجَارَةِ، أَوْ تَقْتَطِعُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ، أَوْ تَصُوغُونَهَا مِنَ الْمَعْدِنِ، فَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَمُسَاوُونَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لِمَنْ جُعِلَتْ مُمَثِّلَةً لَهُمْ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لِمَا صُنِعَتْ مُذَكِّرَةً بِهِ مِنَ النَّيِّرَاتِ، وَلَا يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ مَا هُوَ دُونَهُ، وَلَا مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مَقْهُورًا بِتَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَمَرْبُوبًا فَقِيرًا مُحْتَاجًا إِلَى الرَّبِّ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ، وَقَدْ دَلَّتْ آثَارُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي الْعِرَاقِ عَلَى صِحَّةِ مَا عُرِفَ فِي التَّارِيخِ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ الْكَثِيرَةِ، حَتَّى كَانَ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ صَنَمٌ خَاصٌّ بِهِ، سَوَاءٌ الْمُلُوكُ وَالسُّوقَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْفَلَكَ وَنَيِّرَاتِهِ عَامَّةً، وَالدَّرَارِيَ السَّبْعَ خَاصَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ وَكَمَا أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ بَيِّنٍ فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ، كُنَّا نُرِيهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَعْرِفُ بِهَا الْحَقَّ، فَهِيَ رُؤْيَةٌ بَصَرِيَّةٌ، تَتْبَعُهَا رُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: " نُرِيهِ " دُونَ أَرَيْنَاهُ؛ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَتَجَدَّدُ وَتَتَكَرَّرُ بِتَجَدُّدِ رُؤْيَةِ آيَاتِهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ الْعَظِيمِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْآتِي، وَالتَّفْصِيلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى هَذَا الْإِجْمَالِ فِي الْآيَاتِ، وَالْمَلَكُوتُ: الْمَمْلَكَةُ أَوِ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَالْعِزُّ وَالسُّلْطَانُ، وَإِطْلَاقُ الصُّوفِيَّةِ إِيَّاهُ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ اصْطِلَاحٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَمُلْكُ اللهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ: سُلْطَانُهُ وَعَظْمَتُهُ، وَلِفُلَانٍ مَلَكُوتُ الْعِرَاقِ، أَيْ عِزُّهُ وَسُلْطَانُهُ وَمُلْكُهُ، وَعَنِ اللِّحْيَانِيِّ: وَالْمَلَكُوتُ مِنَ الْمُلْكِ كَالرَّهَبُوتِ مِنَ الرَّهْبَةِ، وَيُقَالُ لِلْمَلَكُوتِ مَلْكُوَةٌ (كَتَرْقُوَةٍ) . انْتَهَى. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَلَكُوتُ مُخْتَصٌّ بِمُلْكِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَصْدَرُ مَلَكَ أُدْخِلَتْ فِيهِ التَّاءُ نَحْوَ رَحَمُوتٍ وَرَهَبُوتٍ. انْتَهَى. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى قَاعِدَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى. فَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَالرَّحَمُوتُ: الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ، وَالرَّهَبُوتُ: الرَّهْبَةُ الشَّدِيدَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَلَكُوتٍ نَبَطِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا بِلِسَانِهِمْ " مَلَكُوتَا "، وَفِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّبَطَ وَالْأَنْبَاطَ جِيلٌ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ الْبَطَائِحَ وَغَيْرِهَا مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُمْ بَقَايَا قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ إِذَا كَانَتْ سِلْسِلَةُ نَسَبِهِمْ مَحْفُوظَةً، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّهُمْ

مِنْ بَقَايَا الْعَمَالِقَةِ، وَأَنَّهُمْ هَاجَرُوا مِنَ الْعِرَاقِ بَعْدَ سُقُوطِ دَوْلَةِ الْحَمُورَابِيِّينَ، وَتَفَرَّقُوا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَنْشَئُوا دَوْلَةً فِي الشَّمَالِ مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ: إِنَّنَا نَبَطٌ مِنْ كُوثَى، وَكُوثَى بَلَدُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا يُحْفَظُ عَنِ الْعَرَبِ. وَمُرَادُ الْحَبْرَيْنِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ النَّبَطَ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهِ إِنْكَارُ احْتِقَارِهِمْ لِنَسَبِهِمْ أَوْ ضَعْفِ لُغَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مُرَادَهُمَا بِهِ التَّوَاضُعُ وَذَمُّ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقُهُمَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (7: 185) وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ آيَاتُهُمَا، وَعَنْهُمَا وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَا وَرَاءَ مَسَارِحِ الْأَبْصَارِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَاهُ خَفَايَا أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَخِيرَةِ حُجَّةً مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطُوهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ إِسْنَادِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِمَّا رَوَاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِيهِمَا، وَجَلَّى لَهُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَظَوَاهِرِهَا، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى وُجُوهِ الْحُجَّةِ فِيهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحِمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُ الْإِرَاءَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. أَمَّا التَّعْلِيلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ أَرَيْنَاهُ مَا أَرَيْنَا، وَبَصَّرْنَاهُ مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ مَا بَصَّرْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلِ حَذْفٍ؛ لِتَغُوصَ الْأَذْهَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ، وَأُسْلُوبِ الْمَقَالِ، أَيْ نُرِيهُ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ سُنَنَنَا فِي خَلْقِنَا، وَحُكْمَنَا فِي تَدْبِيرِ مُلْكِنَا، وَآيَاتِنَا الدَّالَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِنَا وَأُلُوهِيَّتِنَا؛ لِيُقِيمَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الضَّالِّينَ، وَلِيَكُونَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ. وَالْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَمَارَاتِ، وَالدَّلَائِلِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ - دُونَ الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ سُكُونُ الْفَهْمِ مَعَ ثَبَاتِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَالْعِلْمِ اللَّدُنِيِّ. وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) إِلَخْ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْجَنِّ سَتْرُ الشَّيْءِ عَنِ الْحَاسَّةِ، يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ. فَجَنَّهُ: سَتَرَهُ، وَأَجَنَّهُ: جَعَلَ لَهُ مَا يَجِنُّهُ، كَقَوْلِكَ: قَبَرْتُهُ، وَأَقْبَرْتُهُ، وَسَقَيْتُهُ، وَأَسْقَيْتُهُ، وَجَنَّ عَلَيْهِ كَذَا سَتَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَمِنْهُ الْجِنُّ وَالْجِنَّةُ - بِالْكَسْرِ - وَالْجُنَّةِ بِالضَّمِّ

76

وَهِيَ التُّرْسُ يُسْتَرُ بِهِ مَا يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ ضَرْبَهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَغَيْرِهَا، وَالْجَنَّةُ - بِالْفَتْحِ - وَهِيَ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّجَرَ أَرْضَهُ مِنَ الشَّمْسِ. وَالْكَوْكَبُ وَالْكَوْكَبَةُ وَاحِدُ الْكَوَاكِبِ، وَهِيَ النُّجُومُ. وَالْفَلَكِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْمُؤَنَّثَ عَلَى الْمَجْمُوعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُهُ عَلَى الزُّهَرَةِ، كَمَا غَلَبَ إِطْلَاقُ النَّجْمِ مُعَرَّفًا عَلَى الثُّرَيَّا، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا تَأْنِيثُ النَّجْمِ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ نَجْمَةٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ يُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَلَّلَهَا بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَسَتَرَهُ أَوْ سَتَرَ عَنْهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ نَظَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، فَرَأَى كَوْكَبًا عَظِيمًا مُمْتَازًا عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ بِإِشْرَاقِهِ وَجَذْبِ النَّظَرِ إِلَيْهِ - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَنْكِيرُ الْكَوْكَبِ - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمُشْتَرَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ آلِهَةِ بَعْضِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ وَالرُّومِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ سَلَفُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الزُّهَرَةُ. فَمَاذَا قَالَ لَمَّا رَآهُ؟ (قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ مَوْلَايَ وَمُدَبِّرُ أَمْرِي، قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ: فِي مَقَامِ الْمُنَاظِرَةِ وَالْحِجَاجِ لِقَوْمِهِ، وَاعْتَمَدَ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ عِبَادَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهِ اتِّبَاعًا لِقَوْمِهِ، حَتَّى أَرَاهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ كَمَالِ التَّمْيِيزِ حُجَّتَهُ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِأُفُولِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَدَعْوَتِهَا. وَمِنْهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ فِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي مَغَارَةٍ أَخْفَتْهُ فِيهَا خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ مَلِكِهِمْ نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ أَنْ يَقْتُلَهُ، إِذْ كَانَ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ بِأَنْ سَيُولَدُ فِي قَرْيَتِهِ غُلَامٌ يُفَارِقُ دِينَهُمْ، وَيُكَسِّرُ أَصْنَامَهُمْ، فَشَرَعَ يَذْبَحُ كُلَّ غُلَامٍ وُلِدَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابُ النُّجُومِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوا، وَفِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ، وَفِي الشَّهْرِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي سَنَةٍ، وَأَنَّهُ طُلِبَ مِنْ أُمِّهِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ وِلَادَتِهِ أَنْ تُخْرِجَهُ مِنَ الْمَغَارَةِ، فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً، فَنَظَرَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِلْكَوَاكِبِ، فَالْقَمَرِ، فَالشَّمْسِ. . . وَلَاشَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ أَخَذَهَا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّنُونَ الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، فَتَبْطُلُ ثِقَةُ يَهُودَ وَغَيْرِهِمْ بِهِمْ. وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ. وَالسُّدِّيُّ الْمُفَسِّرُ كَذَّابٌ مَعْرُوفٌ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ " هَذَا رَبِّي " بِالْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ مَوْلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرًا كَثِيرًا وَلَمْ يَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَهُ أَشْيَاءُ مُنْكَرَاتٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الرَّاوِي عَنْهُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ لَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَا ابْنُ الْقَطَّانِ، فَكَيْفَ

يُؤْخَذُ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ كَانَ فِي صِغَرِهِ مُشْرِكًا؟ وَهَذَا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ السَّنَدَ إِلَيْهِ صَحِيحٌ! . وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مَعَ تَقْرِيرِهِ الْقَوْلَ الْمُقَابِلَ لَهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْجُمْهُورُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، فَقَالَ مَا قَالَ تَمْهِيدًا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، فَحَكَى مَقَالَتَهُمْ أَوَّلًا حِكَايَةً اسْتَدْرَجَهُمْ بِهَا إِلَى سَمَاعِ حُجَّتِهِ عَلَى بُطْلَانِهَا، إِذْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ، بَانِيًا دَلِيلَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِسِّ وَنَظَرِ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَوْ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ، أَيْ: أَهَذَا رَبِّي الَّذِي يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَعْبُدَهُ؟ وَقِيلَ أَرَادَ: هَذَا رَبِّي بِزَعْمِكُمْ، أَوْ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا يَأْتِي فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ. أَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَاحْتَجَّ أَوَّلًا بِالرِّوَايَةِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى دَعْوَى شِرْكِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَوْ فِي الصِّغَرِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ - وَثَانِيًا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا بَعْدَ أُفُولِ الْقَمَرِ، وَسَتَرَى حُسْنَ تَوْجِيهِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ أَطَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْدَادِهَا، وَفِي أَكْثَرِ مَا أَوْرَدَهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ. وَأَقْوَى حُجَّتِهِمُ السِّيَاقُ مِنْ حَيْثُ تَشْبِيهِ إِرَاءَةِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ هَذَا الْمَلَكُوتَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بِإِرَاءَتِهِ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ إِسْنَادِ هَذِهِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَى تَمْيِيزِ مَا رَأَى بِهَا عَلَى مَا كَانَ يَرَى قَبْلَهَا، وَمِنْ تَعْلِيلِ الْإِرَاءَةِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ التَّعْقِيبِ عَلَى ذَلِكَ بِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ آتَاهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أَيْ فَلَمَّا غَرَبَ هَذَا الْكَوْكَبُ وَاحْتَجَبَ، قَالَ: لَا أُحِبُّ مَنْ يَغِيبُ وَيَحْتَجِبُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحِبِّهِ الْأُفُقُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُجُبِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ " الْآفِلِينَ " إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَوْكَبَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسٍ كُلُّهُ يَغِيبُ وَيَأْفُلُ، وَالْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ وَالذَّوْقِ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ حُبَّ شَيْءٍ يَغِيبُ عَنْهُ وَيُوحِشُهُ فَقْدُ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، حَتَّى فِي الْحُبِّ الَّذِي هُوَ دُونَ حُبِّ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِجَاذِبِ الشَّهْوَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْلُوَ عَنْهُ بِنُزُوحِ الدَّارِ وَالِاحْتِجَابِ عَنِ الْأَبْصَارِ، إِلَّا أَنْ يَصِيرَ حُبُّهُ مِنْ هَوَسِ الْخَيَالِ، وَفُنُونِ الْجُنُونِ وَالْخَبَالِ، وَأَمَّا حُبُّ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحُبِّ وَأَكْمَلُهُ - لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعَقْلِ الصَّحِيحِ - فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الرَّقِيبِ، الَّذِي لَا يَغِيبُ وَلَا يَأْفُلُ، وَلَا يَنْسَى وَلَا يَذْهَلُ، الظَّاهِرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِآيَاتِهِ وَتَجَلِّيهِ، الْبَاطِنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ الْخَفِيِّ فِيهِ (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (6: 103) وَلَكِنْ تُشَاهِدُهُ الْبَصَائِرُ بِآثَارِ صِفَاتِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَسُلْطَانِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَا كَانَ لِيَخْفَى عَلَى الْخَلِيلِ الْأَوَّلِ مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ الثَّانِي فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ،

77

وَمَا مِلَّتُهُ إِلَّا عَيْنُ مِلَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " فَكَيْفَ يَعْبُدُ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَأْفُلُ وَتُحْجَبُ عَنْ عَابِدِيهَا، وَيَخْفَى حَالُهُمْ عَلَيْهَا؟ ! . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْأُفُولَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَجَعَلُوا هَذَا هُوَ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُدُوثِ أَوِ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِمَا قَدْ يُبَايِنُهُ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا اسْتَعْمَلَتِ الْأُفُولَ فِي غُرُوبِ الْقَمَرَيْنِ وَالنُّجُومِ، وَفِي اسْتِقْرَارِ الْحَمْلِ، وَكَذَا اللَّقَاحُ فِي الرَّحِمِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا مِنَ الْأَوَّلِ عَيْنُ مُرَادِهَا مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ الْغُيُوبُ وَالْخَفَاءُ. وَقَدْ يَتَحَوَّلُ الشَّيْءُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَجِبٍ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّغَيُّرِ لِيَجْعَلُوهُ عِلَّةَ الْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ غَلَطٌ كَسَابِقِهِ، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ لَا تَتَغَيَّرُ بِأُفُولِهَا، وَمَذْهَبُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ أُفُولَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ لَا بِحَرَكَتِهَا هِيَ، وَأَنَّ حَرَكَتَهَا عَلَى مَحَاوِرِهَا وَحَرَكَةَ السَّيَّارَاتِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ مِنْ سَبَبِ أُفُولِهَا الْمُشَاهَدِ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ لِطَيْفٌ بِجَهْلِ قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ، وَلَا يَدْرِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ عِبَادَتِهِمْ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) (19: 42) وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْرِيضُ عَلَى قَوْلِ النُّظَّارِ فِي تَفْسِيرِ الْأُفُولِ ; فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَفْلَاكَ قَائِلِينَ بِرُبُوبِيَّتِهَا، وَبِقِدَمِهَا مَعَ حَرَكَتِهَا، وَمَا زَالَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْفَلَكِيُّونَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْحَرَكَةِ وَأَزَلِيَّتِهَا، وَعُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعُدُّونَ الْحَرَكَةَ مَبْدَأَ وُجُودِ كُلَّ شَيْءٍ. وَأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ. وَقَدْ كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أُولَئِكَ النُّظَّارِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا يَأْتِي فِي الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْأُفُولِ دُونَ الْبُزُوغِ وَكَلَاهُمَا انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؟ (قُلْتُ) : الِاحْتِجَاجُ بِالْأُفُولِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مَعَ خَفَاءٍ وَاحْتِجَابٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّهُ مِنْ عُيُونِ نُكَتِهِ وَوُجُوهِ حَسَنَاتِهِ. انْتَهَى. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ تَعْرِيضًا خَفِيًّا، لَا بُرْهَانًا نَظَرِيًّا جَلِيًّا، وَأَنَّ وَجْهَ مُنَافَاةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْخَفَاءُ وَالِاحْتِجَابُ وَالتَّعَدُّدُ، وَأَنَّ الْبُزُوغَ وَالظُّهُورَ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ مِمَّا يُنَافِي الرُّبُوبِيَّةَ، بَلْ بُنِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِهَا، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُهُورًا كَظُهُورِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا. (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ طَالِعًا مِنْ وَرَاءِ الْأُفُقِ أَوَّلَ طُلُوعِهِ قَالَ: هَذَا رَبِّي - عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْحَرْفَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ ابْتِدَاءِ طُلُوعِ النَّيِّرَاتِ وَأَوَّلِ طُلُوعِ النَّابِ. وَفِي بَزْغِ الْبَيْطَارِ وَالْحَاجِمِ لِلْجِلْدِ، وَهُوَ تَشْرِيطُهُ بِالْمِبْزَغِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْبَزْغِ الشَّقُّ،

فَالنَّيِّرَاتُ تَشُقُّ الظَّلَامَ بِطُلُوعِهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ تَشْبِيهًا بِشَقِّ النَّابِ وَالسِّنِّ لِلَّثَةِ، وَشَقِّ الْبَيْطَارِ وَالْحَجَّامِ لِلْجِلْدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى الْكَوْكَبَ فِي لَيْلَةٍ، وَرَأَى الْقَمَرَ فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لَهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَاصِلَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَأُخْرَى إِلَّا النَّهَارَ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُظْهِرٍ لِلْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ؛ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ فَاصِلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ الَّتِي رَأَى الشَّمْسَ فِي أَوَّلِ نَهَارِهَا - وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْكَوْكَبَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ، وَبَعْدَ أُفُولِهِ بِقَلِيلٍ بَزَغَ الْقَمَرُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ سَهِرَ مَعَ بَعْضِ قَوْمِهِ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى أَفَلَ الْقَمَرُ فِي آخِرِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّاسُ هَذَا، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَرَضٌ دِينِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ مِنْهُ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي الْقَلِيلَةِ مِنَ السَّنَةِ كَاللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَتِنَا هَذِهِ (سَنَةُ 1336 هـ) فَإِنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِيهَا عَنْ أُفُقِ مِصْرَ السَّاعَةَ 6 وَالدَّقِيقَةَ 28 وَيَطْلُعُ الْقَمَرُ بَعْدَ غُرُوبِهَا بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً، وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرَى بَعْضَ السَّيَّارَاتِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُشْرِقَةِ الْمُمْتَازَةِ - كَالشِّعْرَى - هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ، وَيَغْرُبُ بَعْدَهَا بِرُبْعِ سَاعَةٍ، وَيَغْرُبُ الْقَمَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ بِدَقِيقَتَيْنِ مِنْ صَبِيحَتِهَا، وَتُشْرِقُ الشَّمْسُ بَعْدَ غُرُوبِهِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ دَقِيقَةً، وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ جَنُّ اللَّيْلِ، وَهُوَ إِظْلَامُهُ. وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَصْوِيرُ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْقَمَرُ بَدْرٌ وَالشَّمْسُ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بُرْجِ الثَّوْرِ، إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِالْبُزُوغِ إِلَّا فِي أَوَّلِ طُلُوعِهِمَا مِنْ وَرَاءِ أُفُقِ الْقُطْرِ كُلِّهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ بِالْوَصْفِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ بَازِغًا وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِهِ بِسَاعَاتٍ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ نَابَ الْبَعِيرِ بَازِغًا بَعْدَ طُلُوعِهِ بِأَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ الْبُزُوغَ وَالْغُرُوبَ مِنْهُمَا مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ عُرْفًا وَمَا هُوَ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ مُطَمْئِنٍ أَوْ مُحَاطٍ بِالْبُنْيَانِ وَالشَّجَرِ، يَبْزُغُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ بَعْدَ بُزُوغِهِمَا فِي أُفُقِ قُطْرِهِ، وَيَغْرُبَانِ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِهِمَا عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يَحْجُبُ مَشْرِقَهُ مَا ذُكِرَ دُونَ مَغْرِبِهِ وَبِالْعَكْسِ - فَيَخْتَلِفُ الْبُزُوغُ وَالْغُرُوبُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّسِعُ مَجَالُ احْتِمَالِ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ. وَالْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَوْكَبِ رُؤْيَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِحَالٍ وَلَا وَصْفٍ، وَعَلَى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغَيْنِ لَا عَلَى بُزُوغِهَا، فَالْأَوَّلُ يَصْدُقُ بِرُؤْيَتِهِ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ فِي أَوَّلِ جُنُونِ اللَّيْلِ، وَالْآخَرَانِ يُصَدَّقَانِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَالِ الْبُزُوغِ النِّسْبِيِّ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا ذُكِرَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا، وَمَنْ فَرَضَ لِذَلِكَ وُجُودَ حَالٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْخَالِي مِنَ الْجِبَالِ. (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أَيْ: فَلَمَّا أَفَلَ الْقَمَرُ كَالْكَوْكَبِ،

78

وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مَنْظَرًا وَأَبْهَى نُورًا مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ مُسْمِعًا مَنْ حَوْلِهِ مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي الَّذِي خَلَقَنِي إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِيهِ بِإِعْلَامٍ خَاصٍّ مِنْ لَدُنْهُ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ بِهِ، فَيَتَّبِعُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَهُمْ، فَلَا يَكُونُونَ عَابِدِينَ لَهُ بِمَا يُرْضِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ضَالٍّ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ أَوِ الْكَوَاكِبَ، بَلْ هَذَا تَعْرِيضٌ آخَرُ بِضَلَالِ قَوْمِهِ يُقْرُبُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَإِرْشَادٌ إِلَى تَوَقُّفِ هِدَايَةِ الدِّينِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " الِانْتِصَافِ ": وَالتَّعْرِيضُ بِضَلَالِهِمْ ثَانِيًا أَصْرَحُ وَأَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: " لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ " وَإِنَّمَا تَرَقَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ فَأَنِسُوا بِالْقَدْحِ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْفِرُونَ وَلَا يَصْغُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، فَمَا عَرَّضَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - بِأَنَّهُمْ فِي ضَلَالَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِإِصْغَائِهِمْ إِلَى إِتْمَامِ الْمَقْصُودِ وَاسْتِمَاعِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَقَّى النَّوْبَةَ الثَّالِثَةَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّقْرِيعِ بِأَنَّهُمْ عَلَى شِرْكٍ بَيِّنٍ، ثُمَّ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَبَلَّجَ الْحَقُّ، وَبَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ غَايَةَ الْمَقْصُودِ. انْتَهَى. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ قَالَ مُشِيرًا إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيمَا قَبْلَهُ: هَذَا الَّذِي أَرَى الْآنَ أَوِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ رَبِّي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ الْمُبْتَدَأَ مِثْلَ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ، وَمَنْ كَانَتْ أُمُّكَ. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنَّ قَالُوا) وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا فِي صِفَةِ اللهِ: عَلَّامٌ، وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ - وَإِنْ كَانَ الْعَلَّامَةُ أَبْلَغَ - احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. انْتَهَى. وَجَوَّزَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الْإِشَارَةِ إِلَى الشَّمْسِ حِكَايَةً لِمَا قِيلَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَأَكْثَرُ لُغَاتِهِمْ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْإِشَارَةِ وَلَا فِي الضَّمَائِرِ. وَنُوقِشَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكَايَةِ، وَفِي دَعْوَى كَوْنِ لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ مَمْزُوجَةٌ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَعَاجِمِ يُذَكِّرُونَ الشَّمْسَ وَيُؤَنِّثُونَ الْقَمَرَ. وَسَيَأْتِي فِيمَا نَذْكُرُ مِنْ عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ لِلشَّمْسِ زَوْجَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: (هَذَا أَكْبَرُ) فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِإِظْهَارِ النَّصَفَةِ لِلْقَوْمِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي تِلْكَ الْمُجَارَاةِ الظَّاهِرَةِ لَهُمْ، وَتَمْهِيدٌ قَوِيٌّ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْرَاجٍ لَهُمْ إِلَى التَّمَادِي فِي الِاسْتِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْرِيضِ الَّذِي كَانَ يَخْشَى أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْهُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ ضِيَاءً وَنُورًا، فَهُوَ إِذًا أَجْدَرُ مِنْهُمَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، إِنْ كَانَ الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى التَّفَاضُلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ. (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أَيْ فَلَمَّا أَفَلَتْ كَمَا أَفَلَ غَيْرُهَا، وَاحْتَجَبَ

79

ضَوْؤُهَا الْمَشْرِقُ وَذَهَبَ سُلْطَانُهَا، وَكَانَتِ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الْوَحْشَةِ بِاحْتِجَابِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ - صَرَّحَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنَّتِيجَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ ذَلِكَ التَّعْرِيضِ، فَتَبَرَّأَ مِنْ شِرْكِ قَوْمِهِ الَّذِي أَظْهَرَ مُجَارَاتَهُمْ عَلَيْهِ فِي لَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ. وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشَّيْءِ: التَّفَصِّي مِنْهُ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ لِاسْتِقْبَاحِهِ، فَهُوَ كَالْبُرْءِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنْ أَلَمِهِ وَضَرَرِهِ، وَ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ شِرْكِكُمْ بِاللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً مَعَ اللهِ تَعَالَى. فَيَشْمَلُ الْكَوَاكِبَ، وَالْأَصْنَامَ، وَكُلَّ مَا عَبَدُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ. (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تَبَرَّأَ مِنْ شِرْكِهِمْ وَقَفَّى عَلَى تِلْكَ الْبَرَاءَةِ بِبَيَانِ عَقِيدَتِهِ الْحَقُّ، وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ، فَقَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ وَقَصْدِيَ، وَجَعَلْتُ تَوَجُّهِي فِي عِبَادَتِي لِلرَّبِّ الْخَالِقِ الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَهُمَا بِمَا فَتَقَ مِنْ رَتْقِ مَادَّتِهِمَا وَهِيَ دُخَانٌ، وَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ أَطْوَارًا فِي سِتَّةِ أَزْمَانٍ، فَهُوَ خَالِقُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَخَالِقُكُمْ وَمَا تَصْنَعُونَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ، وَتَوْجِيهُ الْوَجْهِ هُنَا بِمَعْنَى إِسْلَامِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (40: 125) وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (31: 22) الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأُولَى أَنَّ إِسْلَامَ الْوَجْهِ لَهُ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ، وَالْإِعْرَاضِ، وَالْخُشُوعِ، وَالسُّرُورِ، وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْلَامِهِ وَبِتَوْجِيهِهِ لِلَّهِ تَعَالَى: تَرْكُهُ لَهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ، وَإِخْلَاصِ عُبُودِيَّتِهِ، فَهُوَ وَحْدُهُ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، الْقَادِرُ عَلَى الْأَجْرِ وَالْإِثَابَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى الْقَلْبِ حَدِيثُ " لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " قُلُوبِكُمْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَ " وَجَّهَ " يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَإِلَى كَأَسْلَمَ، وَتَقَدَّمَ شَاهِدُ " أَسْلَمَ " آنِفًا، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ " وَجْهٌ " فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَاللَّامُ هُنَا بِمَعْنَى " إِلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (99: 5) وَقَوْلُهُ: (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (6: 28) وَاخْتَرَعَ الرَّازِيُّ لِلَّامِ هُنَا نُكْتَةً سَمَّاهَا دَقِيقَةً، فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ تَوْجِيهَ وَجْهِ الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، بَلْ إِلَى خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ لِأَجْلِ عُبُودِيَّتِهِ إِلَخْ. فَجَعَلَ اللَّامَ " دَلِيلًا ظَاهِرًا " عَلَى كَوْنِ الْمَعْبُودِ مُتَعَالِيًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ مَرْدُودٌ لَا تَقْبَلُهُ اللُّغَةُ وَلَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْنَى تَوْجِيهِ الْوَجْهِ. أَمَّا إِبَاءُ اللُّغَةِ لَهُ فَلِأَنَّ اللَّامَ لَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ لَكَانَتِ الْآيَةُ خَالِيَةً مِنَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَهُوَ كَوْنُ تَوْجِيهِ الْقَلْبِ بِالْعِبَادَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ; إِذِ التَّعْلِيلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ يَصْدُقُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، كَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَوْكَبِ وَغَيْرِهِ، لِأَجْلِ خَالِقِهِ لَا لِأَجْلِهِ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّ تَوَجُّهَ الْقَلْب ِ

لَا يَنْحَصِرُ فِي كَوْنِهِ إِلَى الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ الْمَحْصُورَةِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ عَدَّى إِسْلَامَ الْوَجْهِ بِ (إِلَى) فِي سُورَةِ لُقْمَانَ وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ بِمَعْنَى تَوْجِيهِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. هَذَا وَإِنَّ التَّعْبِيرَ بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ مَا فُتِنَ بِهِ الْقَوْمُ مِنْ تَأْثِيرِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَرْضِ - إِنْ صَحَّ - لَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ خَاصِّيَّةً لِبَعْضِ أَجْرَامِ السَّمَاءِ، وَهِيَ لَمْ تُوجِدْ نَفْسَهَا وَلَا صِفَاتَهَا وَخَوَاصَّهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءٌ أَوْ أَجْزَاءٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَرَاهَا النَّاظِرُ الْمُتَفَكِّرُ خَاضِعَةً لِتَدْبِيرِ مَنْ فَطَرَ الْعَالَمَ الْكَبِيرَ الَّتِي هِيَ بَعْضُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَلَّى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْعَالِمِ، وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ مُدَبِّرٌ وَاحِدٌ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ نِظَامُ الْمُتَعَدِّدِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَيُعَادُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 22) وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَجْزَاءِ الْكَوْنِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شُبَهَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَالْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الْمَيْلُ عَنِ الضَّلَالِ وَالْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَضِدُّهُ الْجَنَفُ بِالْجِيمِ. فَقَوْلُهُ حَنِيفًا حَالٌ، أَيْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَهُ حَالَ كَوْنِي مَائِلًا عَنْ مَعْبُودَاتِكُمُ الْبَاطِلَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، فَتَوَجُّهِي وَإِسْلَامِي خَالِصٌ لَهُ لَا يَشُوبُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَمَا أَنَا مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَالْكَوَاكِبِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْمُلُوكِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ لَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ. تَبَرَّأَ أَوَّلًا مِنْ شِرْكِهِمْ أَوْ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (60: 4) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا حِينَ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ -: مَا جِئْتَ بِشَيْءٍ وَنَحْنُ نَعْبُدُهُ وَتَتَوَجَّهُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ حَنِيفٌ، أَيْ مُخْلِصٌ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ كَمَا يُشْرِكُونَ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى. وَفِي الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى: كَفَتْحِ يَاءِ " إِنَّى " وَسُكُونِهَا، وَإِمَالَةِ " رَأَى " وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ فِيهَا، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ ضَمُّ " آزَرَ " عَلَى النِّدَاءِ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ اسْمًا عَلَمًا؛ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ النِّدَاءِ خَاصٌّ بِالْعِلْمِ فِي الْفَصِيحِ، وَغَيْرُهُ شَاذٌّ. (مَسَائِلُ مُتَمِّمَةٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ) (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى أَيْضًا، وَيُشْرِكُونَ مَا ذُكِرَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي الْعِرَاقِ. وَقَدْ أَثْبَتَ بَيْرُوسُوسُ وَسِنِيلُوسُ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ وَكُهَّانَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ

حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ. وَلَكِنْ كَانُوا يَدِينُونَ بِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُبِيحُونَهَا لِلْعَامَّةِ، وَأَنَّ الْيُونَانَ أَخَذُوا هَذَا النِّفَاقَ عَنْهُمْ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ أَوَّلًا هُمْ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَدْ كَانَ التَّوْحِيدُ مُنْتَهَى عِلْمِ حُكَمَائِهِمْ، وَكَانُوا يَكْتُمُونَهُ عَنِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ اسْتِعْبَادَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَعْوَانُهُمْ لَهَا لَا يَدُومُ إِلَّا بِالْوَثَنِيَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا، وَالْيُونَانُ اقْتَبَسُوا مِنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ. عَلَى أَنَّ هِنْرِي رُولِنْسُنْ مِنْ مُدَقِّقِي مُؤَرِّخِي أُورُبَّةَ قَالَ: إِنَّ أُمَّةً مِنْ ضِفَافِ الدَّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ ارْتَحَلَتْ إِلَى أُورُبَّةَ بِتِلْكَ الْعَقَائِدِ مَنْقُوشَةً فِي صَفَائِحِ الْآجُرِّ. مِنْ آلِهَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ (إِلْ) وَهِيَ كَلِمَةٌ سَامِيَّةٌ عُرِفَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَاسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ اسْمٍ آخِرُهُ " إِلْ " وَ " إِيلُ " فَمُضَافٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَالَ: أَلَّ الْمَرِيضُ وَالْحَزِينُ يَئِلُّ أَلَّا وَأَلَلًا: أَنَّ وَحَنَّ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ فِي مَادَّةِ (أي ل) إِيلُ - بِالْكَسْرِ - اسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ بَحْثٌ فِي كَوْنِ الْإِلِّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَالْأُلُّ - بِالضَّمِّ - الْأَوَّلُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ فِي (إِيلٌ) مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبْرَانِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ. ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ جِبْرَائِيلَ وَشَرَاحِيلَ وَأَشْبَاهَهُمَا كَشُرَحْبِيلَ تُنْسَبُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ " لِأَنَّ إِيلًا لُغَةٌ فِي " إِلٍّ " وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِمْ: عَبْدُ اللهِ وَتَيْمُ اللهِ " أَقُولُ: وَنَقَلَ مِثْلَهُ فِي (إِلٍّ) وَضَعَّفَهُ بِمَنْعِ جِبْرِيلَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الصَّرْفِ، أَيْ دُونَ شُرَحْبِيلَ وَشِهْمِيلَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ، وَنَقَلَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيلُ عُرِّبَ فَقِيلَ: إِلٌّ. ثُمَّ قَالَ فِي مَادَّةِ (ال هـ) وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الشَّمْسَ لَمَّا عَبَدُوهَا إِلَهَةً، وَالْإِلَهَةُ الشَّمْسُ الْحَارَّةُ - حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَالْأَلِيهَةُ وَالْأَلَاهَةُ (بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَأُلَاهَةٌ (مَضْمُومَةُ الْهَمْزَةِ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ) كُلُّهُ الشَّمْسُ. . إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ: الْأَلَاهَةُ الْأُلُوهَةُ وَالْأُلُوهِيَّةُ: الْعِبَادَةُ، وَذَكَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْإِلَهِ بِالْمَعْبُودِ فِي أَوَّلِ الْمَادَّةِ قَوْلَهُمْ: إِلَهٌ بَيْنَ الْإِلَهَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْأُلْهَانِيَّةُ، وَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَلِهَ يَأْلُهُ (مِنْ بَابِ عَلِمَ) إِذَا تَحَيَّرَ. هَذَا وَإِنَّ دَلَالَةَ مَادَّةِ " أَل هـ " عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَعْبُودِ سَامِيَّةٌ قَدِيمَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ عِنْدَ تَعْرِيفِ اسْمِ (اللهِ) بِأَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ - أَيْ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَهُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَلُوهِيمُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَا تَكْثِيرًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللهِ، وَ " يَهْوَهُ " أَيِ الْكَائِنُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَإِيلٌ أَيِ الْقَدِيرُ، وَبِالسُّرْيَانِيَّةِ أُلُوهُو وَبِالْكَلْدَانِيَّةِ إِلَاهَا. انْتَهَى. وَفِي تَوَارِيخِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعَادِيَّاتِ (الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ) أَنَّ أَعْظَمَ أَرْبَابِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَآلِهَتِهِمْ (إِيلُ - أَوْ - إِلْ) فَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ، وَأَصْلُ الْآلِهَةِ، وَلَيْسَ لَهُ تِمْثَالٌ وَلَا صُورَةٌ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِمَّا وَرِثُوا مِنْ دِينِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ

صِفَاتِ الْخَلْقِ وَتَخَيُّلَاتِهِمْ، وَرَوَى ديودورسُ عَنْ فِيلُو أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِزُحَلَ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِزُحَلَ أَبُو الْمُشْتَرَى كَمَا قِيلَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي عُصُورِ قُدَمَاءِ مُلُوكِهِمْ، وَمِمَّا قَالُوا عَنْهُ فِي أَقْدَمِ الْخُرَافَاتِ أَنَّهُ أُولِدَ وَلَدَيْنِ (أَنَا) وَ (بِيلُ) . وَ (أَنَا) هَذَا هُوَ رَأْسُ (الثَّالُوثِ) الْكَلْدَانِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ بِمَعْنَى اسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهُ) وَيَقُولُونَ: " أَنُو " - إِذَا كَانَ فَاعِلًا - وَ " أَنَا " إِذَا كَانَ مَفْعُولًا، وَإِنِي إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ. وَمِنْ أَلْقَابِهِ عِنْدَهُمُ: الْقَدِيمُ، وَالرَّأْسُ الْأَصْلِيُّ، وَأَبُو الْآلِهَةِ، وَرَبُّ الْأَرْوَاحِ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَلِكُ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَسُلْطَانُ الظَّلَامِ أَوْ رَأْسُ الْمَوْتِ. وَوُجِدَتْ آثَارُ عِبَادَتِهِ فِي مَدِينَةِ (أَرَكَ) وَهِيَ الْوَرْكَاءُ، قَالَ يَاقُوتٌ: الْوَرْكَاءُ مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الرَّوَابِي، وُلِدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ بَنَى أَحَدُ مُلُوكِهِمْ مَعْبَدًا لَهُ وَلِابْنِهِ (قَوَلَ) فِي أَشُورَ سَنَةَ 1830 قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَصَارَ اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ (تَلَّانَ) وَأَصْلُهُ (تَلُّ أَنَا) جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آجُرٍّ لِلْمَلِكِ (أَوْرَكَهْ) اكْتُشِفَتْ فِي أَنْقَاضِ (أَمِّ قَبْرٍ) هَذِهِ تَرْجَمْتُهُ " إِنَّ إِلَهَ الْقَمَرِ ابْنُ شَقِيقِ (أَنُو) وَبِكْرُ (بِعَلُوسَ) قَدْ حَمَلَ عَبْدَهُ (أَوْرَكَهْ) الرَّئِيسَ التَّقِيَّ مَلِكُ (أُورُ) عَلَى بِنَاءِ هَيْكَلِ (تَسِينْ كَاثُو) مَعْبَدًا مُقَدَّسًا لَهُ ". وَالثَّانِي مِنْ ثَالُوثِهِمْ (بُلُوسُ - أَوْ - بِيلُ وَ) لَعَلَّهُمَا مُحَرَّفَانِ عَنْ (بَعْلَ) وَ (بَعْلُوسَ) وَمِنْ أَسْمَائِهِمْ (أَنُو) وَ (إِيلُ انْيُو) وَمَعْنَاهُ السَّيِّدُ. وَتَلْحَقُ غَالِبًا بِلَفْظِ (نَيْبِرُو) وَمُؤَنَّثُهَا (نَيْبُرُوثَ) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ كَلِمَةِ (نَمْرُودَ) الَّتِي هِيَ فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ السَّبْعِينِيَّةِ (نَيْبُرُوثُ) وَكَلِمَةُ (نَيْبُرُو) مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلِمَةِ " بَابَارِ " السُّرْيَانِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا طَارَدَ. وَتَدُلُّ مَادَّةُ نَبَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِارْتِفَاعِ، فَنَبَرَ: رَفَعَ، وَالنَّبْرَةُ: الشَّيْءُ الْمُرْتَفِعُ، فَفِيهَا مَعْنَى الشَّرَفِ، وَمَعْنَاهَا فِي الْأَشُورِيَّةِ يُقَارِبُ مَعْنَاهَا فِي السُّرْيَانِيَّةِ (فَبِيلُ نَبْرُو) بِمَعْنَى السَّيِّدِ الصَّيَّادِ، أَوْ رَبِّ الصَّيْدِ - وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ نَمْرُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْوُحُوشَ. وَهُوَ بَعْلُوسُ الَّذِي ذَكَرَ مُؤَرِّخُو الْيُونَانِ أَنَّهُ يَأْتِي مَدِينَةَ (بَابِلَ) وَمِلِكُهَا الْأَوَّلُ، وَدَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْأَشُورِيِّينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا مَدِينَةَ (بَلْ نَبْرُو) وَظَلَّ الْكَلْدَانِيُّونَ يَعْبُدُونَ (نَمْرُودَ) مُدَّةَ وُجُودِ دَوْلَتِهِمْ، وَكَانُوا يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْآلِهَةِ، وَيُكَنُّونَ زَوْجَهُ الْمُسَمَّاةَ (مُولِيتَا - أَوْ - أَنُوتَا) بِأُمِّ الْآلِهَةِ الْعِظَامِ، وَلَكِنْ وُصِفَتْ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِأَنَّهَا زَوْجُ (نِينَ) وَهُوَ ابْنُهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا زَوْجُ (أَشُورَ) وَلَهَا أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ، وَوُجِدَ لَهَا عِدَّةُ هَيَاكِلَ. وَالثَّالِثُ مِنْ ثَالُوثِهِمْ (حُوَا - أَوْ - حَيَا) وَهُوَ حَيَوَانٌ بَعْضُهُ كَالْإِنْسَانِ وَبَعْضُهُ كَالسَّمَكِ، زَعَمُوا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ خَلِيجِ فَارِسَ لِيُعَلِّمَ سُكَّانَ ضِفَافِ النَّهْرَيْنِ عِلْمَ الْفَلَكِ وَالْأَدَبَ، وَنُسِبَ إِلَيْهِ اخْتِرَاعُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ اسْمُهُ عَلَى صَحِيفَةٍ مِنَ الْآجُرِّ وُجِدَتْ فِي خَرَائِبِ (أُورَ) وَيَرَى بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ اسْمَهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْحَيَّةِ، وَشِعَارُهُ فِي الْقَلَمِ الْكَلْدَانِيِّ الشَّكْلُ الْإِسْفِينِيُّ، وَمِنْهُ رَسْمُ الْحَيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُنْتَهَى الذَّكَاءِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَلَهُ أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ.

وَكَانَ لِلْكَلْدَانِ (ثَالُوثٌ) آخِرُ أَحَدُ آلِهَتِهِ (سِينِي) وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهَذَا الِاسْمُ سَامِيٌّ، فَاسْمُ الْقَمَرِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ سِينُ، وَكَذَا فِي السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ، وَمِنْ أَلْقَابِهِ زَعِيمُ الْأَرْبَابِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَبَعْلُ رُونَا) أَيْ رَبُّ الْبِنَاءِ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهُ فِي جَمِيعِ تَطَوُّرَاتِهِ مُنْذُ يَكُونُ هِلَالًا، وَلَهُ هَيَاكِلُ كَثِيرَةٌ، وَأَعْظَمُ مَعَابِدِهِ فِي (أُورَ) . وَالثَّانِي (سَانُ) أَوْ (سَانْسِي) وَهُوَ الشَّمْسُ، وَالِاسْمُ سَامِيٌّ أَيْضًا، وَمِنْهُ السَّنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ - بِالْقَصْرِ - الضِّيَاءُ، وَقِيلَ: ضَوْءُ النَّارِ وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَعَمُّ. قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (10: 5) وَمِنْهُ (شَانِي) بِالْعِبْرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا لَامِعٌ، وَاسْمُ الشَّمْسِ بِاللُّغَةِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ (سِيُونَا) وَمِنْ أَلْقَابِ هَذَا الْإِلَهِ: رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَكَانَ لَهُ هَيَاكِلُ فِي الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ وَأَشْهَرُهَا (بَيْتُ بَارَا) وَبَارَا أَوْ فَرَا اسْمُ الشَّمْسِ بِالْمِصْرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَكَانَ اسْمُ (هِلْيُبُولِيسَ) عِنْدَهُمْ (سِيبَارَا) وَتُسَمَّى فِي الْآثَارِ (تِسِيبَارْ شَاشَامَاسْ) وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ مَدِينَةُ الشَّمْسِ، وَلِلشَّمْسِ زَوْجَةٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهَا (أَيْ) وَ (كُولَا) (أَنُونِيتْ) . وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ (فُولُ) أَوْ (ايفَا) أَيِ الْهَوَاءُ، وَهُوَ رَبُّ الْجَوِّ الْقَائِمُ بِتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ، الْمُتَصَرِّفُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالْمَوَاسِمِ. وَمِنْ هَيَاكِلِهِ هَيْكَلٌ بَنَاهُ الْمَلِكُ (شَمَّاسْ فُولْ) الَّذِي مَلَكَ الْكَلْدَانَ سَنَةَ 1850 قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَنَامِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا رَأَى أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْغَابِرِينَ، فَيَعْلَمُ مِنْهَا خَبَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْعَهْدِ الْعَتِيقِ مِنْ كَوْنِ كَاتِبِهِ (عِزْرَا الْكَاهِنِ) كَتَبَهُ بَعْدَ السَّبْيِ، فَاقْتَبَسَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ تَقَالِيدِ الْبَابِلِيِّينَ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَشُبْهَةُ الشِّرْكِ وَكَوْنُهُ قِسْمَانِ) ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً لَا أَرْبَابًا، وَيَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا آلِهَةً، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ وَالْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ الْمُتَصَرِّفُ، وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ رَبٌّ وَلَا إِلَهٌ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَمُلْكُهُ حَقِيقِيٌّ تَامٌّ، وَمُلْكُ غَيْرِهِ عُرْفِيٌّ نَاقِصٌ مَوْقُوتٌ، لَهُ أَجْلٌ مَحْدُودٌ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، إِذِ الْعِبَادَةُ الْحَقُّ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلرَّبِّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوَجُّهُ بِالدُّعَاءِ وَكُلِّ تَعْظِيمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ إِلَى ذِي السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لَهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَهِيَ خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ، وَكُلُّ مَاعَدَاهُ فَهُوَ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهَا بَلْ سُلْطَانُهُ فِيهَا. وَالْأَصْلُ فِي اخْتِرَاعِ كُلِّ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ رَأَوْا بَعْضَ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، فَتَوَهَّمُوا

أَنَّ ذَلِكَ ذَاتِيٌّ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ لَيْسَ خَاضِعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ; لِقِصَرِ إِدْرَاكِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَوْنِ الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ خَاصَّةً بِخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَمَا امْتَازَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَوْنِ خَفَاءِ سَبَبِ الْخُصُوصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ خُضُوعِ صَاحِبِهَا لِسُنَنِ الْخَالِقِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شُئُونِهِ (أَيْ شُئُونِ صَاحِبِ الْخُصُوصِيَّةِ) وَوَثَنِيَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ السَّافِلَةُ. (ثَانِيهِمَا) اتِّخَاذُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي مَظَاهِرِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَسِيلَةً إِلَى الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ، تَشْفَعُ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، أَوِ التَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُمَثِّلُهَا أَوْ يُذَكِّرُ بِهَا، فَيَتَوَسَّلُ ذُو الْحَاجَةِ بِدُعَائِهَا وَتَعْظِيمِهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ لِأَجَلِ حَمْلِهِ تَعَالَى - بِتَأْثِيرِهَا عِنْدَهُ - عَلَى قَبُولِهِ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُ، وَهَذَا التَّوَسُّلُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ اللهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ عَدَمِ انْفِرَادِ الرَّبِّ بِالِاسْتِقْلَالِ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَكَوْنِهِ يَفْعَلُ بِتَأْثِيرِ الْوَسِيلَةِ فِي إِرَادَتِهِ، وَهَذَا شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةِ. وَهَذِهِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ الرَّاقِيَةُ الَّتِي كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَانَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدِ ارْتَقَوْا فِي وَثَنِيَّتِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَوْشَكُوا، إِذْ إِنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَلَا تُبْصِرُ عِبَادَتَهُمْ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَلَا ضُرِّهِمْ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا بِعِبَادَتِهَا آبَاءَهُمْ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مُحَاجَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (26: 69) إِلَخْ. وَلِذَلِكَ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مَعْبُودِينَ، لَا أَرْبَابًا مُدَبِّرِينَ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ السَّبَبِيِّ أَوِ الْوَهْمِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَوَسَّعُوا فِي إِسْنَادِ التَّأْثِيرِ إِلَيْهَا حَتَّى اخْتَرَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ لَهُ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الشَّمْسَ رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، يُدَبِّرُ الْمُلُوكَ، وَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ، وَيَنْصُرُ جُنْدَهُمْ، وَيَخْذُلُ عَدُوَّهُمْ، وَيُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَيَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي زُحَلَ وَاسْمُهُ (بِينِي) وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ (مِرْدَاخَ) وَهُوَ الْمُشْتَرَى - شَيْخُ الْأَرْبَابِ وَرَبُّ الْعَدْلِ وَالْأَحْكَامِ، حَافَظُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخُصُومُ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ - وَأَنَّ (رَنْكَالَ) وَهُوَ الْمِرِّيخُ كَمِيُّ الْأَرْبَابِ، وَرَبُّ الصَّيْدِ، وَسُلْطَانُ الْحَرْبِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَ زُحَلَ فِي تَدْبِيرِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّيْدِ، وَذَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ، وَأَنْ (عِشْتَارَ - أَوْ - نَانَا) وَهِيَ الزُّهَرَةُ رَبَّةُ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَمُفِيضَةُ السُّرُورِ عَلَى النَّاسِ، وَتُمَثَّلُ فِي الْآثَارِ بِامْرَأَةٍ عَارِيَةٍ، وَأَنَّ (نَبْوَ) وَهُوَ عُطَارِدٌ رَبُّ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. وَكَانَتْ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْبَالِغَةَ فِي حَصْرِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي تَمَاثِيلِهِمْ: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (21: 56) وَبِهَذَا كَانَ

يَحْتَجُّ جَمِيعُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّعْرِيضِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهَا. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: آرَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ) مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُفَسِّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ تَكَلُّفٌ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ، وَلَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحِجَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَقُولَهُمْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ الْأُفُولِ، وَكَوْنِ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِيهِ دَلَالَتَهُ عَلَى الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، وَقَالُوا: إِنَّ أَحْسَنَ الْكَلَامِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ نَصِيبٌ لِكُلٍّ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْسَاطِ وَالْعَوَامِّ، فَالْخَوَاصُّ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْإِمْكَانَ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْتَاجٌ، وَالْمُحْتَاجُ لَا يَكُونُ مُقَطَّعُ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْحَاجَاتُ بِسَبَبِ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (53: 42) وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ مُطْلَقَ الْحَرَكَةِ، فَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ، فَلَا يَكُونُ الْآفِلُ إِلَهًا بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي احْتَاجَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْآفِلُ، وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْغُرُوبَ، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ يَقْرُبُ مِنَ الْأُفُولِ فَإِنَّهُ يَزُولُ نُورُهُ وَيَنْقُصُ ضَوْؤُهُ، وَيَذْهَبُ سُلْطَانُهُ وَيَصِيرُ كَالْمَعْزُولِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ (قَالَ الرَّازِيُّ) بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ " لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ " مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَصِيبِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، فَكَانَتْ أَكْمَلَ الدَّلَائِلِ وَأَفْضَلَ الْبَرَاهِينِ. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ بَعْدَ هَذَا دَقِيقَةً اسْتَنْبَطَهَا مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ عَلَى عَهْدِهِ، هِيَ أَعْرَقُ فِي التَّكَلُّفِ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْوَجْهَ الصَّحِيحَ فِي الْحُجَّةِ نَصِيبَ الْعَوَامِّ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَصْحَابَ الشِّمَالِ هُمْ أَهْلُ النَّارِ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَحَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ، وَالْقَمَرَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ (أَيْ فَهُوَ عِنْدَ الرَّازِيِّ إِمَامُ الْمُقَرَّبِينَ!) فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا فِي نَفْسِهَا، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بَأْسَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ، وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ الثَّلَاثَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ، وَلَيْسَ مَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ قَبْلُ - بَلْ سَمَّاهُ أَحْسَنَ الْكَلَامِ - إِلَّا مِثْلُ مَا اسْتَبْعَدَ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ أَوْ هُوَ أَبْعَدُ وَأَجْدَرُ بِالْمَلَامِ.

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِشَارَاتُ الصُّوفِيَّةِ فِي الْآيَاتِ) . أَوْرَدَ نِظَامُ الدِّينِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَأْوِيلَاتِ تَفْسِيرِهِ عِبَارَتَيْنِ فِي الْآيَاتِ، قَالَ فِي الْأُولَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى نُورَ الرُّشْدِ فِي صُورَةِ الْكَوْكَبِ، وَنُورَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي صُورَةِ الْقَمَرِ، وَنُورَ الْهِدَايَةِ فِي صُورَةِ الشَّمْسِ، وَسَبَّكَ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ شِعْرِيَّةٍ مُتَكَلِّفَةٍ. وَأَمَّا الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ فَزَعَمَ أَنَّهَا دَارَتْ فِي خَلَدِهِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ (الَّذِي لَخَّصَ هُوَ تَفْسِيرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ) عَنِ الْغَزَالِيِّ - وَذَكَرْنَاهُ آنِفًا - إِلَّا أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ فَجَعَلَهُ أَقْرَبَ إِلَى التَّصَوُّفِ. وَقَدْ نَقَلَ الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ عَنِ النَّيْسَابُورِيِّ فِي إِشَارَاتِهِ، وَذَكَرَ قَبْلَهَا إِشَارَةً جَعَلَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ إِشَارَةً إِلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَالْقَمَرَ إِشَارَةً إِلَى الْقَلْبِ، وَالشَّمْسَ إِشَارَةً إِلَى الرُّوحِ، وَأَنَّهَا أَفَلَتْ بَعْدَ تَجَلِّيهَا بِتَجَلِّي أَنْوَارِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَقَلُّ تَكَلُّفًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مِثْلَهُ. وَأَمْثَلُ مَا قِيلَ فِي بَابِ الْإِشَارَةِ مَا شَرَحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي بَحْثِ فِرَقِ الْمَغْرُورِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي كِتَابِ الْغُرُورُ مِنَ الْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الَّذِينَ اغْتَرُّوا بِأَوَّلِ مَا انْفَتَحَ لَهُمْ مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا شَمُّوا مِنْ رَائِحَتِهَا فَوَقَفُوا عِنْدَهُ، قَالَ: (وَفِرْقَةٌ أُخْرَى) جَاوَزُوا هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا يَفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْوَارِ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا إِلَى مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةِ، وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى الْفَرَحِ بِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، جَادِّينَ فِي السَّيْرِ حَتَّى قَارَبُوا فَوَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْقُرْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا إِلَى اللهِ فَوَقَفُوا وَغَلِطُوا ; فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لَا يَصِلُ السَّالِكُ إِلَى حِجَابٍ مِنْ تِلْكَ الْحُجُبِ فِي الطَّرِيقِ إِلَّا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) (6: 76) وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَامَ الْمُضِيئَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَرَاهَا فِي الصِّغَرِ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ وَاحِدًا، وَالْجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَوْكَبَ لَيْسَ بِإِلَهٍ، فَمِثْلُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَغُرُّهُ الْكَوْكَبُ الَّذِي لَا يَغُرُّ السَّوَادَيَّةَ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ نُورٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُجُبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ عَلَى طَرِيقِ السَّالِكِينَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُصُولُ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِلَّا بِالْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْحُجُبِ، وَهِيَ حُجُبٌ مِنْ نُورٍ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَصْغَرُ النَّيِّرَاتِ الْكَوْكَبُ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ لَفْظُهُ، وَأَعْظَمُهَا الشَّمْسُ، وَبَيْنَهُمَا رُتْبَةُ الْقَمَرِ، فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا رَأَى مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى:

(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يَصِلُ إِلَى نُورٍ بَعْدَ نُورٍ، وَيَتَخَيَّلُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَا كَانَ يَلْقَاهُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ، ثُمَّ كَانَ يُكْشَفُ لَهُ أَنَّ وَرَاءَهُ أَمْرًا فَيَتَرَقَّى إِلَيْهِ وَيَقُولُ قَدْ وَصَلْتُ، فَيُكْشَفُ لَهُ مَا وَرَاءَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْحِجَابِ الْأَقْرَبِ الَّذِي لَا وُصُولَ إِلَّا بَعْدَهُ، فَقَالَ: (هَذَا أَكْبَرُ) فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَعَ عِظَمِهِ غَيْرُ خَالٍ عَنِ الْهَوَى فِي حَضِيضِ النَّقْصِ وَالِانْحِطَاطِ عَنْ ذِرْوَةِ الْكَمَالِ (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. . . . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ) . وَسَالِكُ هَذِهِ الطَّرِيقِ قَدْ يَغْتَرُّ فِي الْوُقُوفِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْحُجُبِ، وَقَدْ يَغْتَرُّ بِالْحِجَابِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلُ الْحَجْبِ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ هُوَ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُ أَيْضًا أَمْرٌ رَبَّانِيٌّ، وَهُوَ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ اللهِ تَعَالَى، أَعْنِي سِرَّ الْقَلْبِ الَّذِي تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَقِّ كُلِّهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَّسِعُ لِجُمْلَةِ الْعَالِمِ وَيُحِيطَ بِهِ، وَتَتَجَلَّى فِيهِ صُورَةُ الْكُلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْرِقُ نُورُهُ إِشْرَاقًا عَظِيمًا، إِذْ يَظْهَرُ فِيهِ الْوُجُودُ كُلُّهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَحْجُوبٌ بِمِشْكَاةٍ هِيَ كَالسَّاتِرِ لَهُ، فَإِذَا تَجَلَّى نُورُهُ وَانْكَشَفَ جَمَالُ الْقَلْبِ بَعْدَ إِشْرَاقِ نُورِ اللهِ رُبَّمَا الْتَفَتَ صَاحِبُ الْقَلْبِ إِلَى الْقَلْبِ فَيَرَى مِنْ جَمَالِهِ الْفَائِقِ مَا يُدْهِشُهُ، وَرُبَّمَا يَسْبِقُ لِسَانُهُ فِي هَذِهِ الدَّهْشَةِ فَيَقُولُ: أَنَا الْحَقُّ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ اغْتَرَّ بِهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهَلَكَ، وَكَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِكَوْكَبٍ صَغِيرٍ مِنْ أَنْوَارِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمْ يَصِلْ بَعْدُ إِلَى الْقَمَرِ فَضْلًا عَنِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَغْرُورٌ. وَهَذَا مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، إِذِ الْمُتَجَلِّي يَلْتَبِسُ بِالْمُتَجَلَّى فِيهِ كَمَا يَلْتَبِسُ لَوْنُ مَا يَتَرَاءَى فِي الْمِرْآةِ بِالْمِرْآةِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَوْنُ الْمِرْآةِ، وَكَمَا يَلْتَبِسُ مَا فِي الزُّجَاجِ بِالزُّجَاجِ كَمَا قِيلَ: رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتِ الْخَمْرُ ... فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ ... وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرٌ. وَبِهَذِهِ الْعَيْنِ نَظَرَ النَّصَارَى إِلَى الْمَسِيحِ، فَرَأَوْا إِشْرَاقَ نُورِ اللهِ قَدْ تَلَأْلَأَ فِيهِ فَغَلِطُوا فِيهِ، كَمَنْ رَأَى كَوْكَبًا فِي مِرْآةٍ أَوْ فِي مَاءٍ فَيَظُنُّ أَنَّ الْكَوْكَبَ فِي الْمِرْآةِ أَوْ فِي الْمَاءِ، فَيَمُدُّ يَدَهُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ وَهُوَ مُغْرُورٌ ". اهـ.

80

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) . الْمُحَاجَّةُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُغَالَبَةُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْحُجَّةُ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمَحَجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَأَصْلُ الْمَحَجَّةِ وَسَطُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتُطْلَقُ الْحُجَّةُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْلِي بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ أَوْ رَدِّ دَعْوَى خَصْمِهِ، فَتُقَسَّمُ إِلَى حُجَّةٍ نَاهِضَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ، وَحُجَّةٍ دَاحِضَةٍ يُمَوَّهُ بِهَا الْبَاطِلُ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ حُجَّةً عَلَى سَبِيلِ ادِّعَاءِ الْخَصْمِ - حِكَايَةً لِقَوْلِهِ - وَاصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا شُبْهَةً. وَلَمَّا حَاجَّ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ بِبَيَانِ بُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَرُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ، وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ - وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ - حَاجُّوهُ بِبَيَانِ أَوْهَامِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا لَهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَحْتَجَّ، وَلَكِنَّهُ يُجَادِلُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَخْضَعُ لِلْحُجَّةِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى شِرْكِهِمْ بِاللهِ خَوَّفُوهُ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ بِسُوءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، بِقَوْلِهِ: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (26: 72 - 74) وَقَبْلَ وَاقِعَةِ تَكْسِيرِهِ لِأَصْنَامِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِظُلْمِهِمْ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ مُصِرِّينَ عَلَى شِرْكِهِمْ

وَكَثِيرًا مَا يَضْطَرِبُ الْمُقَلِّدُ لِسَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذْ يُومِضُ فِي قَلْبِهِ بَرْقُهَا، وَيَهُزُّ شُعُورَهُ رَعْدُهَا. وَيَكَادُ يُحْيِيهِ وَدَقُهَا، ثُمَّ يَنْكُسُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَعُودُ إِلَى سَابِقِ وَهْمِهِ، خَائِفًا مِنْ غَيْرِ مُخَوِّفٍ، رَاجِيًا غَيْرَ مَرْجُوٍّ، كَمَا نَرَاهُ فِي عُبَّادِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ الَّذِينَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ قُبُورَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ آثَارِهِمْ تَدْفَعُ عَمَّنْ زَارَهَا أَوْ تَمْسَّحُ بِهَا الضُّرَّ، وَتَكْشِفُ السُّوءَ وَتُدِرُّ الرِّزْقَ، وَتُخْزِي الْعَدُوَّ، إِمَّا بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْخَلْقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ قُرْبَانٌ عِنْدَ الرَّبِّ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (12: 106) قَالَ تَعَالَى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) أَيْ: وَجَادَلَهُ قَوْمُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَخَاصَمُوهُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي قَرَّرَهُ لَهُمْ، كَأَنْ زَعَمُوا - كَمَا رُوِيَ وَسُمِعَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ - أَنَّ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ بِاللهِ الْفَاطِرِ سُبْحَانَهُ ; لِأَنَّهُمْ وُسَطَاءُ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ، وَمُتَّخَذُونَ لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) وَخَوَّفُوهُ بَطْشَهُمْ بِهِ. فَمَاذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ) أَيْ أَتُجَادِلُونَنِي مُجَادَلَةَ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فِي شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ - وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ بِمَا هَدَانِي إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي أَقَمْتُ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ ضَالُّونَ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَتَقْلِيدِكُمْ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ وَقَدْ خَفَّفَ نُونَ (تُحَاجُّونِّي) نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَذَلِكَ بِحَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَشَدَّدَهَا سَائِرُ الْقُرَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِهَا، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ هَدَانِي فِي الرَّسْمِ ; لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي النُّطْقِ (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ أَنْ تُصِيبَنِي بِسُوءٍ، فَإِنِّي أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) - أَيْ لَكِنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ - مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَنْ يَشَاءَ رَبِّيَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وُقُوعَ مَكْرُوهٍ بِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ كَمَا شَاءَ رَبِّي، فَإِنْ فَرَضَ أَنَّهُ شَاءَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيَّ صَنَمٌ يَشُجُّنِي، أَوْ كِسَفًا مِنْ شُهُبِ الْكَوَاكِبِ يَقْتُلُنِي - فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِقُدْرَةِ رَبِّي وَمَشِيئَتِهِ، لَا بِمَشِيئَةِ الصَّنَمِ أَوِ الْكَوْكَبِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا بِتَأْثِيرِهِ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ عِنْدَهُ وَشَفَاعَتِهِ ; إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي مَشِيئَةِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْجَارِيَةِ بِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أَيْ أَنَّ عِلْمَ رَبِّي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَحَاطَ بِهِ وَمَشِيئَتُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِعَمَلِهِ الْمُحِيطِ الْقَدِيمِ، وَقُدْرَتُهُ مُنَفِّذَةٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا تَأْثِيرٌ مَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا، لَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى غَيْرَ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَعْلَمُهُ الشُّفَعَاءُ وَالْوُسَطَاءُ مِنْ وُجُوهِ مُرَجِّحَاتِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ

81

عَلَى الضُّرِّ أَوِ النَّفْعِ، أَوِ الْعَطَاءِ أَوِ الْمَنْعِ، أَخَذْنَا هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (2: 255) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ) وَجَعَلَ الْجُمْلَةَ بَعْضُهُمْ كَالتَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى إِصَابَتُهُ بِسُوءٍ يَكُونُ سَبَبُهُ الْأَصْنَامُ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أَيُّهَا الْغَافِلُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ الرَّبِّ الْفَاطِرِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ وُقُوعِ الضُّرِّ بِي أَوِ النَّفْعِ لَكُمْ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي تَزْعُمُونَهُ فِي مَعْبُودَاتِكُمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ رَبًّا خَالِقًا غَيْرَ هَذِهِ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ اتِّخَاذًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، فَسَخَّرَ مَا شَاءَ بِسُنَنِ الْأَقْدَارِ، وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، ثُمَّ هَدَى الْعُقَلَاءَ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، لِيَطْلُبُوا الْمَنَافِعَ وَيَتَّقُوا الْمَضَارَّ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ عَلَى سَوَاءٍ، فَالسُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ الْعُلْيَا لَهُ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِيهَا مَعَهُ وَلَا تَدْبِيرٌ، فَإِذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْنَاسِ أَوِ الْأَشْخَاصِ سَبَبًا لِلنَّفْعِ أَوِ الضُّرِّ بِإِرَادَةٍ خَلَقَهَا لَهَا كَالْحَيَوَانَاتِ، أَوْ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ كَالْجَمَادَاتِ - فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرْفَعَ رُتْبَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتُجْعَلَ أَرْبَابًا وَمَعْبُودَاتٍ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْعَاقِلُ لِذَلِكَ وَيَتَذَكَّرَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِهِ ; لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ بِالْبُرْهَانِ، وَتَعْرِفُهُ الْفِطْرَةُ بِالْوِجْدَانِ، فَكَأَنَّهُ مِمَّا غَفَلَ عَنْهُ لَا مِمَّا جَهِلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّذَكُّرَ هُنَا بِالِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (87: 9، 10) . وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي رَدَّهُ إِمَامُ الْمُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لَا يَزَالُ فَاشِيًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي التَّوْحِيدِ إِلَى مِلَّتِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُجَّتِهِ، فَهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا غَيْبِيًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْأَمْوَاتِ، مَا يَقَعُ عَقِبَ زِيَارَتِهِ لَهُمْ، أَوْ تَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ، مِنْ زَوَالِ أَلَمٍ، أَوْ خَيْرٍ أَلَمَّ، أَوْ نَفْعٍ أَصَابَ حَبِيبًا دَعَوْا لَهُ، أَوْ ضُرٍّ أَصَابَ عَدُوًّا دَعَوْا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ حَقِيقِيٍّ جَلِيٍّ، أَوْ وَهْمِيٍّ خَفِيٍّ، وَكُلٌّ بِتَقْدِيرِ اللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَا يَخَافُ شُرَكَاءَهُمْ بَلْ يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَسْبَابِ وَمِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا قَالَ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا)

أَيْ وَكَيْفَ أَخَافَ مَا أَشْرَكْتُمُوهُ بِرَبِّكُمْ مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلْتُمُوهُ نِدًّا لَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ إِشْرَاكَكُمْ بِاللهِ خَالِقِكُمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ حُجَّةً بَيِّنَةً بِالْوَحْيِ، وَلَا بِنَظَرِ الْعَقْلِ، تُثْبِتُ لَكُمْ جَعْلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ فِي الْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَافْتِيَاتُكُمْ عَلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ بِهَذِهِ الْمُوبِقَةِ الْفَظِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ وَيُتَّقَى، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ تَخْوِيفِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَا يُخِيفُ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَخَافُونَ أَخْوَفَ مَا يُخَافُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْخَوْفِ نَفْسِهِ وَبَحَثُوا عَنْ نُكْتَتِهِ، وَالْمُرَادُ نُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ بِكَيْفَ، وَهِيَ أَيِ النُّكْتَةُ تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى " كَيْفَ " مِنْ كَوْنِهَا سُؤَالًا عَنِ الْأَحْوَالِ - لَا مِمَّا تَكَلَّفَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ وَحَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِصِحَّةِ هَذَا الْخَوْفِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجِدْ لِهَذَا الْخَوْفِ حَالًا وَلَا وَجْهًا، فَلَا هُوَ يَخَافُ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ لِذَوَاتِهِمْ، وَلَا لِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَشَفَاعَتِهِمْ، وَلَا لِقُدْرَةٍ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ قَدْ تُدَّعَى - وَلَوْ جَعَلَ اللهُ - لَهُمْ وَلَا لِثُبُوتِ جَعْلِهِمْ أَسْبَابًا لِلضَّرَرِ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الْخَوْفِ وَأَحْوَالِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِ مُنْتَفِيَةٌ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ بَيَانُ كَيْفَ يَخَافُونَ. وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الشِّرْكِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ خَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، وَذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عَدَمِ وُجُودِ السُّلْطَانِ - أَيِ الدَّلِيلِ - عَلَى هَذَا الشِّرْكِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِهِ هُوَ كُلَّ حَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِخَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، فَهُوَ يُثْبِتُ بِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ حَالٌ وَلَا صِفَةٌ لِلْخَوْفِ مِمَّا أَشْرَكُوهُ، فَلَوْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى تَقْيِيدِ إِنْكَارِهِ بِمَا ذَكَرَ لَفَاتَ بِهَذَا الْقَيْدِ ذَلِكَ الْعُمُومُ الْبَلِيغُ، وَذَهَبَ ذِهْنُ السَّامِعِينَ إِلَى أَنَّهُ سَيَخَافُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ مُقَلِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تُثْبِتُ صِحَّةَ اعْتِقَادِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى بَيَانِهَا لِخَصْمِهِمْ، وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ عَقِيدَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ بِالْجَهْلِ بِبُطْلَانِهَا لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ قَوْلَهُ: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قَدْ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الدِّينَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الْمُنَزَّلَةِ أَوْ مُطْلَقِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَلَا سِيَّمَا تَقْلِيدُ مَنْ لَيْسَ عَلَى هِدَايَةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ وَلَا عَقْلٍ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي الْعِبَارَةِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) 23: 117 أَيْ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ يَعْلَمُهُ وَلَا بُرْهَانَ يَجْهَلُهُ لِاسْتِحَالَةِ

الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَاطِلِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا مَحَلَّ لَهُ لِأَنَّ جَعْلَهَا قِبْلَةً غَيْرُ جَعْلِهَا شُرَكَاءَ يُخَافُ ضُرُّهَا وَيُرْجَى نَفْعُهَا لِذَاتِهَا أَوْ لِوَسَاطَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَالْقِبْلَةُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالشَّفَاعَةِ كَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الشُّرَكَاءِ، وَإِنَّمَا يُتَوَّجَهُ إِلَيْهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ، فَالِانْتِفَاعُ مَحْصُورٌ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ. ثُمَّ رَتَّبَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مَا هُوَ نَتِيجَةٌ لَهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ الْمُوَحِّدِينَ الْحُنَفَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَيَخَافُونَ وَيَرْجُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْأَسْبَابَ بِالْأَسْبَابِ، وَيُدَافِعُونَ الْأَقْدَارَ بِالْأَقْدَارِ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمُدَافَعَتِهَا بِالْأَدْوِيَةِ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تَأْثِيرَ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، فَاتَّخَذُوا مِنْهَا مَا اتَّخَذُوا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ، بَلْ نَسَبُوا إِلَى بَعْضِهَا النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِخِدَاعِ الْمُصَادَفَاتِ وَاخْتِرَاعِ الْأَوْهَامِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أَيُّ هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ وَأَجْدَرُ بِالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ عَاقِبَةِ عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ وَنُكْتَةُ عُدُولِهِ عَنْ قَوْلِ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) هِيَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مُوَحِّدٌ وَالْآخِرَ مُشْرِكٌ، لَا خَاصَّةَ بِهِ وَبِهِمْ، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعِلَّةِ الْأَمْنِ. وَقِيلَ: إِنْ نُكْتَتَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَاسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، فَالْمُرَادُ أَيُّنَا الْحَقِيقُ بِالْأَمْنِ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ بَاسِمِ التَّفْضِيلِ نَاطِقًا فِي اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْ مُنْتَهَى الْبَاطِلِ - وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْحَقِيقُونَ بِالْأَمْنِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ - إِلَى الْوَسَطِ النَّظَرِيِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ، وَاحْتِرَازًا عَنْ تَنْفِيرِهِمْ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى قَوْلِهِ كُلِّهِ ثُمَّ قَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ - أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ - فَأَخْبَرُونِي بِذَلِكَ، وَبَيِّنُوهُ بِالدَّلَائِلِ وَهَذَا إِلْجَاءٌ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ أَوِ السُّكُوتِ عَلَى الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ قَوْلُهُ الْحَقُّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فِي هَذَا الْجَوَابِ احْتِمَالَاتٌ (أَحَدُهَا) أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: أَيْ تَذَكَّرُوا لَمَّا ذَكَّرَهُمْ وَرَاجَعُوا عُقُولَهُمْ وَفِطْرَتَهُمْ، فَاعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ كَمَا اعْتَرَفُوا حِينَ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ مِنْ بَعْدُ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) 21: 63 - 65 وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاحْتِمَالَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. (الثَّانِي) أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَّحَ بِهِ إِذْ سَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ مُفْحَمِينَ مُبَالَغَةً فِي تَبْكِيتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْآلُوسِيُّ: إِنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَا ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَلَعَلَّهُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَلَ بِهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ حَاجَّهُ مِنْ

قَوْمِهِ - رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ وَابْنِ زَيْدٍ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ إِنَّهُ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ وَقَدْ يُرَجِّحُهُ فِي اللَّفْظِ عَطْفُ الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَلَى هَذِهِ. وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْأَمْنَ فِي هَذَا الْكَلَامِ يُقَابِلُ الْخَوْفَ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمْنُ مِنْ عَذَابِ الرَّبِّ الْمَعْبُودِ لِمَنْ لَا يَرْضَى إِيمَانَهُ وَعِبَادَتَهُ، فَإِنَّهُمْ خَوَّفُوا إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ وَأَرْبَابُهُمْ بِسُوءٍ لَجَحْدِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَاوَتِهِ لَهُمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافُهُمْ، وَالظُّلْمُ الَّذِي يُلْبَسُ بِهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَيُخَالِطُهُ، فَيُنْقِصُ مِنْهُ أَوْ يَنْقُضُهُ، هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعَقِيدَةِ أَوِ الْعِبَادَةِ، كَاتِّخَاذِ وَلِيٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُدْعَى مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَلَوْ لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَيُحَبُّ كَحُبِّهِ، وَيُعَظَّمُ مِنْ جِنْسِ تَعْظِيمِهِ، لِاعْتِقَادِ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا مِنْ وَرَاءِ الْأَسْبَابِ يَنْفَعُ بِهِ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الظُّلْمُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلَابِسَ الْإِيمَانَ، كَظُلْمِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ بَعْضِ الْمَضَارِّ، أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ عَنْ جَهْلٍ أَوْ إِهْمَالٍ أَوْ ظُلْمِ غَيْرِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ أَوِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلظُّلْمِ يُبَيَّنُ بِهِ مَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ وَالشُّمُولِ، (قُلْنَا) : إِنْ عُمُومَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ ذَاتُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الْوَاجِبَةُ لَهُ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهَا وَلَا عَلَى إِيجَادِهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَقَوْلُهُ فِي مَلِكَةِ سَبَأٍ: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) 27: 23 عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، لَا كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ جَعْلَ مِثْلِ هَذَا مِنَ الْعَامِّ بِإِطْلَاقٍ، فَلْيَجْعَلْهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَقَدْ ذُهِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ لِلْمُشْرِكِينَ لَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَلِهَذَا الذُّهُولِ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا الْمَعَاصِي دُونَ الشِّرْكِ لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُخَالِطُ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ، نَقُولُ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ يُخَالِطُ مُطْلَقَ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) 12: 106. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْنَ فِي الْآيَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، فَإِذَا حُمِلَ الْعُمُومُ فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعَدَمِ مُرَاعَاةِ مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ يَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ مَا لِأَنْفُسِهِمْ - لَا فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْعَجْمَاوَاتِ - أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى الدِّينِيِّ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَعِقَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى عَدَمِ مُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، كَالْفَقْرِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ فَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ، بَلْ كُلُّ ظَالِمٍ عُرْضَةٌ لِلْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُعَاقِبُ كُلَّ

ظَالِمٍ عَلَى كُلِّ ظُلْمٍ، بَلْ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِ الدُّنْيَا، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا دُونُ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللهِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَدَرِيِّ جَمِيعًا لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، دَعْ خَوْفَ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْكَمَالِ، وَقَدْ صَحَّ إِسْنَادُ الْخَوْفِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) 16: 5 (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) 17: 57 (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) 21: 28 وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ بِالْفِعْلِ - وَهُوَ النَّجَاةُ مِنْهُ - فَهُوَ ثَابِتٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلِكَثِيرٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كُلٌّ مِنْهُمْ لِيَبْقَى جَامِعًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ فَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي إِدْخَالِ مِثْلِ هَذَا فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ - وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ - أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ الدِّينِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الدِّينِ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي دَارِ الْعَذَابِ، وَهُمْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ خَاصَّةً لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللهَ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمَهُ بِأَمْنِ مُوَحِّدِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مُطْلَقًا لَا أَمْنَ الْخُلُودِ فِيهِ فَقَطْ، وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا غَيْرَ التَّوْحِيدِ اكْتِفَاءً بِتَرْبِيَةِ شَرَائِعِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ الشَّدِيدَةِ لَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ عَثَرَ الْبَاحِثُونَ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْمَلِكِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ - وَقَدْ بَارَكَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشُورَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - فَإِذَا هِيَ كَالتَّوْرَاةِ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا فَرْضُ اللهِ الْحَجَّ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ كَانَ فِي قَوْمِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ لَا فِي قَوْمِهِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَإِنَّ مِنْ مُوَحِّدِيهَا مَنْ يُعَذَّبُونَ بِالْمَعَاصِي عَلَى قَدْرِهَا ; لِأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِشَرِيعَةٍ كَامِلَةٍ يُحَاسَبُونَ عَلَى إِقَامَتِهَا. هَذَا - وَأَمَّا حَصْرُ الْأَمْنِ فِيمَنْ ذَكَرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَكْرَارِ الْإِسْنَادِ ثَلَاثًا وَتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الثَّالِثِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الِاخْتِصَاصِ لَكَانَ الْكَلَامُ هَكَذَا: الْأَمْنُ لِلَّذِينَ

83

آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَلَوْ قِيلَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا الْأَمْنُ لَكَانَ آكَدُ، وَآكَدُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا. . . لَهُمُ الْأَمْنُ، وَآكُدُ مِنْ هَذَا نَصُّ الْآيَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ هُنَا الظُّلْمُ الْعَظِيمُ مِنْهُ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ ; وَأَمَّا جَعْلُ هَذَا الظُّلْمِ الْعَظِيمِ خَاصًّا بِالشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى فَلَا يُعْلَمُ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ وَمَوْضُوعَ الْإِيمَانِ قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ لُغَةً كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ; وَلِذَلِكَ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْهُ الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَأَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ - بِمَعْنَاهُ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) 31: 13 إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ " وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ هُنَا بِالشِّرْكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) قِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَقِيلَ: إِلَى الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَظْهَرُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْحُجَّةِ جِنْسُهَا، لَا فَرْدَ مِنْ أَفْرَادِهَا، أَيْ وَتِلْكَ الْحُجَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَقَالِ، الْبَعِيدَةُ الْمَرْمَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الضَّلَالِ، هِيَ حِجَّتُنَا الْبَالِغَةُ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِهِدَايَتِنَا السَّابِغَةِ، أَعْطَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِمْ، قَاطِعَةً لِأَلْسِنَتِهِمْ (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) الدَّرَجَاتُ فِي الْأَصْلِ مَرَاقِي السُّلَّمِ وَتُوِسِّعَ فِيهَا فَصَارَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْخَيْرِ وَالْجَاهِ وَالْعِلْمِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّزْقِ، وَقَدْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ دَرَجَاتٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ نَشَاءُ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ نَرْفَعُ مَنْ شِئْنَا مِنْ عِبَادِنَا دَرَجَاتٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ مِنْهَا، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مِنْ شِئْنَا مِنْ أَصْحَابِ الدَّرَجَاتِ حَتَّى تَكُونَ دَرَجَتُهُ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ وَمَنْقَبَةٍ أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَةِ غَيْرِهِ فِيهَا، وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ، إِثْبَاتُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ دَرَجَةُ كَمَالٍ، وَالْحِكْمَةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ دَرَجَتَا كَمَالٍ، وَفَصْلُ الْخِطَابِ وَقُوَّةُ الْعَارِضَةِ فِي الْحِجَاجِ مِنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَالسِّيَادَةِ وَالْحُكْمُ بِالْحَقِّ دَرَجَةُ كَمَالٍ، وَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ; لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا وَتَزِيدُ عَنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ بِفَضْلِ اللهِ فَضَّلَ بَعْضَ أَهْلِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُؤْتِي الدَّرَجَاتِ ابْتِدَاءً بِإِعْدَادِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ مَنْ يَشَاءُ لِلْكَسْبِيِّ مِنْهَا، وَاخْتِصَاصِهِ مَنْ

يَشَاءُ بِالْوَهْبِيِّ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يُؤْتِيهِمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْكَسْبِيَّةِ إِلَى مَا تَرْتَقِي بِهِ دَرَجَتُهُ، وَبِصَرْفِ مَوَانِعِ هَذَا الِارْتِقَاءِ عَنْهُ، وَبِإِيتَاءِ ذِي الدَّرَجَةِ الْوَهْبِيَّةِ (النُّبُوَّةِ) مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْآيَاتِ الْمُنَزَّلِيَّهِ وَالتَّكْوِينِيَّةِ وَكَثْرَةِ إِهْدَاءِ الْخَلْقِ بِهَا (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) 2: 253 وَجُمْلَةُ (نَرْفَعُ) اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ أَنَّ مَا آتَى اللهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْحُجَّةِ كَانَ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَعْلَى دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ الْوَهْبِيَّةِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ دَرَجَاتِ الدَّعْوَةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِمُنْشِئِهِ وَمُتَعَلِّقِهِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ وَضَعَ فِيهِ اسْمَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَوْضِعَ نُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاهُ، بِرَفْعِهِ دَرَجَاتٍ عَلَى جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَآوَاكَ، وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ، وَرَفَعَ ذِكْرَكَ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ رُسُلِهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ وَصُنْعِهِ، عَلِيمٌ بِشُئُونِ خَلْقِهِ وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ، وَسَيُرِيكَ شَاهَدَ ذَلِكَ عِيَانًا فِي سِيرَتِكَ مَعَ قَوْمِكَ، كَمَا أَرَاكَهُ بَيَانًا فِيمَا كَانَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ. وَقَدْ زَعَمَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْأَنْبِيَاءِ بِرَبِّهِمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ; إِذْ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمَا عَدَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ بُطْلَانُ الْحَصْرِ فِي هَذَيْنَ الزَّعْمَيْنِ وَبُطْلَانُ غَيْرِهِ مِنْ مَزَاعِمِهِ النَّظَرِيةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ وَعِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، فَقَدْ عَلَّمَهُمْ بِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ بِنَظَرِهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يُثْبِتُونَهَا بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ مِنْ طُرُقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِهِ، مَا هُوَ كَسْبِيٌّ لَهُمْ يُؤَدُّونَهُ بِنَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ، وَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى نَظَرِيَّاتِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، فَوَجَدْنَا أَكْثَرَهَا فِي بَابِ الْإِلَهِيَّاتِ أَوْهَامًا، وَقَدِ اعْتَرَفَ الرَّازِيُّ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ، وَلَنَا بَيْتَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، قُلْنَاهُمَا فِي أَيَّامِ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ ... جَاهِدٌ فِي الْفَلْسَفَهْ. مَاذَا يَرُوقُكَ مِنْ تَعَلُّـ ... ـمِهَا وَأَكْثَرُهَا سَفَهْ.

84

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) . بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ بَعْضَ مَا رَفَعَ مِنْ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ فَضْلَهُ وَنِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ، وَأَعْلَاهَا جَعَلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَقَالَ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) أَيْ وَوَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ بِآيَةٍ مِنَّا إِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَلَدَهُ يَعْقُوبَ نَبِيًّا نَجِيبًا مُنْجِبًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهَدَيْنَا كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا هَدَيْنَا إِبْرَاهِيمَ بِمَا آتَيْنَاهُمَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَقُوَّةِ الْحُجَّةِ. وَتَقْدِيمُ " كُلًّا " عَلَى " هَدَيْنَا " لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لَا التَّبَعِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ نَبِيًّا، هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ إِسْحَاقَ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ دُونَ

إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ بَعْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَيَأْسِ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ عَلَى عُقْمِهَا جَزَاءً لِإِيمَانِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكَمَالِ إِسْلَامِهِ لِرَبِّهِ وَإِخْلَاصِهِ، بَعْدَ ابْتِلَائِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَاسْتِسْلَامِهِ لِأَمْرِ رَبِّهِ فِي الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ سِوَاهُ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّةٍ شَابَّةٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الذَّبْحِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) 37: 112 وَسَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ تَأْخِيرِ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَذِكْرِهِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِسْحَاقَ) مَعْنَاهَا (الضَّحَّاكُ) وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهَا الْحَرْفِيَّ (يُضْحِكُ) وَقَالُوا: إِنَّهُ وُلِدَ وَلِأَبِيهِ مِائَةٌ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَلِأُمِّهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ: إِنَّ مَعْنَى كَلِمَةِ (يَعْقُوبَ) الْحَرْفِيَّ " أَخَذَ الْعَقِبَ " وَالْمُرَادُ يَخْتَلِسُ مَا يَأْخُذُهُ. (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ وَهَدَيْنَا جَدَّهُ نُوحًا - هَدَيْنَاهُ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مِثْلِ مَا هَدَيْنَا لَهُ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةَ، وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَتَلْقِينِ الْحُجَّةِ. قِيلَ: إِنَّ اسْمَ (نُوحٍ) مِنْ مَادَّةِ النَّوْحِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ (السَّاكِنُ) وَقَالَ مُؤَرِّخُو أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّ مَعْنَاهُ (رَاحَةٌ) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى " وَنُوحًا هَدَيْنَا " أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَخْ. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي ذُرِّيَّتِهِ لِنُوحٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَبِأَنَّ لُوطًا وَيُونُسَ لَيْسَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ وَلَدَ الْمَرْءِ لَا يُعَدُّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ لِتَصْرِيحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ النَّسْلُ مُطْلَقًا. وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) 36: 41 أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الْأُصُولِ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْفُرُوعِ وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ سَفِينَةُ نُوحٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ هُنَا لِلْفُرُوعِ الْمُقَدَّرَةِ فِي أَصْلَابِ الْأُصُولِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، أَنَّهُ سَفِينُ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ يُرْسِلُونَ فِيهَا أَوْلَادَهُمْ يَتَّجِرُونَ. وَذَهَبَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ، وَمَا أَتَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نُوحًا لِأَنَّهُ جَدُّهُ، فَهُوَ لِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ فِي أَفْضَلِ أُصُولِهِ، تَمْهِيدًا لِبَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ فِي نَسْلِهِمَا مَعًا. مُنْفَرِدًا وَمُجْتَمِعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) 57: 26 وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ يُونُسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ

إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِيهِ وَقَدْ هَاجَرَ مَعَهُ فَهُوَ يَدْخُلُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَيُعَدُّ مِنْهَا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ الَّذِي يُسَمُّونَ بِهِ الْعَمَّ أَبَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا التَّجَوُّزِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا لَمْ يُرَتِّبْهُمْ عَلَى حَسَبِ تَارِيخِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ هُدَى وَمَوْعِظَةً لَا تَارِيخًا - وَلَا عَلَى حَسَبِ فَضْلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَيْسَ كِتَابَ مَنَاقِبَ وَمَدَائِحَ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ تَذْكِرَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لِمَعَانٍ فِي ذَلِكَ جَامِعَةٍ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَيُّوبُ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَهَارُونُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى آتَاهُمُ الْمُلْكَ وَالْإِمَارَةَ، وَالْحَكَمَ وَالسِّيَادَةَ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ قَدَّمَ ذَكَرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَكَانَا مَلَكَيْنِ غَنِيَّيْنِ مُنَعَّمَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُمَا أَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَكَانَ الْأَوَّلُ أَمِيرًا غَنِيًّا عَظِيمًا مُحْسِنًا، وَالثَّانِي وَزِيرًا عَظِيمًا وَحَاكِمًا مُتَصَرِّفًا، وَلَكِنْ كُلًّا مِنْهُمَا قَدِ ابْتُلِيَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ كَمَا ابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ فَشَكَرَ، وَأَمَّا مُوسَى وَهَارُونُ فَكَانَا حَاكِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَكُلُّ زَوْجَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ مُمْتَازٌ بِمَزِيَّةٍ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي فِي نِعَمِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي فِي الدِّينِ فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا أَكْثَرَ تَمَتُّعًا بِنِعَمِ الدُّنْيَا، وَدُونَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ، وَدُونَهُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ أَفْضَلُ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ وَأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ أَيُّوبَ وَيُوسُفَ، وَأَنَّ هَذَيْنَ أَفْضَلُ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بِجَمْعِهِمَا بَيْنَ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نِعَمِ الدُّنْيَا وَرِيَاسَتِهَا بِالْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمْ يُوسُفَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) 12: 122 فَهُوَ جَزَاءٌ خَاصٌّ بَعْضُهُ مُعَجَّلٌ فِي الدُّنْيَا، أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي جِنْسِهِ يَجْزِي اللهُ بَعْضَ الْمُحْسِنِينَ بِحَسَبِ إِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْجِئُ جَزَاءَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ امْتَازُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِشِدَّةِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَّاتِهَا، وَالرَّغْبَةِ عَنْ زِينَتِهَا وَجَاهِهَا وَسُلْطَانِهَا ; وَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ هُنَا بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهِمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ صَالِحًا وَمُحْسِنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِسْمَاعِيلُ وَالْيَسَعُ وَيُونُسُ وَلُوطٌ، وَأَخَّرَ ذَكَرَهُمْ لِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا أَوْ سُلْطَانِهَا مَا كَانَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ لِلْقَسَمِ الثَّانِي، وَقَدْ قَفَّى عَلَى ذِكْرِهِمْ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِكُلِ نَبِيٍّ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا وُجِدَ مِنْ نَبِيَّيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ فَقَدْ يَكُونُونَ مَعَ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَاضِلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا شَكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ لُوطٍ الْمُعَاصِرِ لَهُ، وَأَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُ، وَأَنَّ عِيسَى أَفْضَلُ مِنِ ابْنِ خَالَتِهِ يَحْيَى، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ السُّوَرِ مُفَصَّلًا وَفِي بَعْضِهَا مُخْتَصَرًا ; وَلِذَلِكَ نُرْجِئُ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ، وَاللهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا وَإِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا الْبَيَانُ لِتَرْتِيبِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُكْتَةُ مَا ذَيَّلَ بِهِ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهُمْ هُوَ مِمَّا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ حَوَّمَ بَعْضُهُمْ حَوْلَهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ " رُوحِ الْمَعَانِي " وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ: " وَلَمْ يَظْهَرْ لِيَ السِّرُّ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ السَّلَامِ، عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَقْدِيمٍ فَاضِلٍ عَلَى أَفْضَلَ، وَمُتَأَخِّرٍ بِالزَّمَانِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ بِهِ، وَكَذَا السِّرُّ فِي التَّقْرِيرِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي) إِلَخْ. وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ " انْتَهَى. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ يُؤْتَى مَفْضُولًا مَا لَا يُؤْتَى أَفْضَلَ الْفُضَلَاءِ. وَنَذْكُرُ هُنَا مِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ اسْمِ (الْيَسَعَ) فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُحَرِّكًا بِوَزْنِ (الْيَمَنِ) الْقُطْرِ الْمَعْرُوفِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِلَامَيْنِ أُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى بِوَزْنِ (الضَّيْغَمِ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْيَسَعَ مُعْرِبُ الِاسْمِ الْعِبْرَانِيِّ يُوشَعَ فَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَارَنَتِ النَّقْلَ فَجُعِلَتْ عَلَامَةُ التَّعْرِيبَ فَلَا يَجُوزُ مُفَارَقَتُهَا لَهُ كَالْيَزِيدِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّعْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مَنْقُولٌ مِنْ (يَسَعُ) مُضَارِعِ (وَسِعَ) وَأَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعْرِيبٌ (الْيَشَعِ) وَهُوَ أَحَدُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ (إِلْيَاسَ) (إِيلِيَا) وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي نَقْلِ الْعِبْرِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ إِبْدَالُ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِالْمُهْمِلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ عِيسَى فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ عَلَى أَنَّ لَفَظَ الذُّرِّيَّةِ يَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْآلُوسِيُّ وَقَالَ: وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ (أَيْ عِيسَى) لَيْسَ لَهُ أَبٌ

87

يَصْرِفُ إِضَافَتَهُ إِلَى الْأُمِّ إِلَى نَفْسِهِ فَلَا يَظْهَرُ قِيَاسٌ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ ذُرِّيَّةً لِجَدِّهِ مِنَ الْأُمِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ بِلَا أَبٍ أَنْ يُذْكَرَ فِي حَيِّزِ الذُّرِّيَّةِ وَفِيهِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ، ذُكِرَ أَنَّ مُوسَى الْكَاظِمَ (رَض) احْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى الرَّشِيدِ ثُمَّ ذَكَرَ نَقْلًا عَنِ الرَّازِيِّ اسْتِدْلَالَ الْبَاقِرِ بِهَا وَبِآيَةِ الْمُبَاهَلَةِ قَالَ: وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدِ اخْتَلَفَ إِفْتَاءُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّذِي أَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَوْلُ بِالدُّخُولِ. اهـ. وَأَقُولُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ " يَعْنِي الْحَسَنَ، وَلَفْظُ ابْنٍ لَا يَجْرِي عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا " وَكُلُّ وَلَدِ آدَمَ فَإِنَّ عَصَبَتَهُمْ لِأَبِيهِمْ خَلَا وَلَدَ فَاطِمَةَ فَإِنِّي أَنَا أَبُوهُمْ وَعَصَبَتُهُمْ " وَقَدْ جَرَى النَّاسُ عَلَى هَذَا فَيَقُولُونَ فِي أَوْلَادِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَوْلَادُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْنَاؤُهُ وَعِتْرَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ. وَاسْتَدَلُّوا بِتَفْضِيلِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْعَالَمِينَ، عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِمَا سِوَى اللهِ تَعَالَى وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْعَالَمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا النَّاسُ أَوِ الْأَقْوَامُ مِنَ النَّاسِ، فَهِيَ كَالْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِتَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالِمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ قَرَأَهَا أَوْ فَسَرَّهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: (أَوْلَمَ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) 15: 70 وَقَوْلُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) 21: 71 وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ بَارَكَ اللهُ فِيهَا لِمَنْ يَسْكُنُهَا مِنَ النَّاسِ لَا لِلْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ. (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ) أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ آبَاءِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ بَعْضِ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) 57: 26 وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ هُنَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً، أَيْ وَفَضَّلْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - وَهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهَدْيِهِمْ - عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ عَالَمِي زَمَانِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا مِثْلَهُمْ (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَهَذَا عَطْفٌ عَلَى (فَضَّلْنَا أَيْ وَفَضَّلْنَاهُمْ وَاخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ بِالِاجْتِبَاءِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتَ الْمَالَ وَالْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَالثَّمَرَاتِ النَّاضِجَةِ فِي الْوِعَاءِ - إِذَا - جَمَعْتَ مَا تَخْتَارُهُ مِنْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الِاجْتِبَاءُ الْجَمْعُ عَلَى طَرِيقِ الِاصْطِفَاءِ. (ثُمَّ قَالَ: وَاجْتِبَاءُ اللهِ الْعَبْدَ تَخْصِيصُهُ إِيَّاهُ بِفَيْضٍ إِلَهِيٍّ يَتَحَصَّلُ لَهُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ مِنَ النِّعَمِ بِلَا سَعْيٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ مَنْ يُقَارِبُهُمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ

88

وَمِنْهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ أُعِيدَ ذِكْرُ الْهِدَايَةِ لِبَيَانِ مُتَعَلِّقِهَا - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْهُدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأَخْيَارُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ هُوَ هُدَى اللهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ، كَهُدَى الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيصَالِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: هِدَايَةٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهَا سَعْيٌ لَهَا وَلَا هِيَ مِمَّا يُنَالُ بِكَسْبِهِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) 93: 7 وَهِدَايَةٌ قَدْ تُنَالُ بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِعْدَادِ مَعَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّوْفِيقِ لِنَيْلِ الْمُرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَلَوْ فُرِضَ أَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أُولَئِكَ الْمَهْدِيُّونَ الْمُجْتَبَوْنَ، لَحَبِطَ - أَيْ بَطَلَ - وَسَقَطَ عَنْهُمْ ثَوَابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِزَوَالِ أَفْضَلِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَسَاسُ لِمَا رُفِعَ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْمُزَكِّي لِلْأَنْفُسِ، كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ مُنْتَهَى النَّقْصِ وَالْفَسَادِ الْمُدَسِّي لَهَا، وَالْمُفْسِدِ لِفِطْرَتِهَا، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَأْثِيرٌ نَافِعٌ لِعَمَلٍ آخَرَ فِيهَا - يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَجَاتُهَا وَفَلَاحُهَا. (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي " أُولَئِكَ " إِلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى شُمُولِهَا مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ إِجْمَالًا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ وَإِنْجِيلِ عِيسَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الْفَهْمُ بِالْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ اللُّبُّ. (قَالَ) وَعَنَى بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَا قُلْتُ ; لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ الْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللهَ آتَاهُمُ الْعَقْلَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ الْفَهْمُ بِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُرْوَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْحُكْمِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ قَطْعًا، وَهُوَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ فِقْهَ الْمَعْلُومِ وَفَهْمَ سِرِّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ لِخَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِأَنَّ هَذَا حَقُّهُ أَوْ لَيْسَ بِحَقِّهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ أَنْ تَقْضِيَ بِأَنَّهُ كَذَا سَوَاءٌ أَلْزَمْتَ ذَلِكَ غَيْرَكَ أَوْ لَمْ تُلْزِمْهُ وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ كَـ (نَصَرَ) يَنْصُرُ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ أَنَّ الْحُكْمَ الْقَضَاءُ وَجَمْعُهُ أَحْكَامٌ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْعَدْلِ، وَعَنْ

89

الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ. وَقَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) 4: 58 وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَكَمْتُ وَأَحْكَمْتُ وَحَكَّمْتُ - بِالتَّشْدِيدِ - بِمَعْنَى مَنَعْتُ وَرَدَدْتُ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْنَ النَّاسِ: حَاكِمٌ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ " حَكَمَةَ " اللِّجَامِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ حَدِيدَةُ اللِّجَامِ الَّتِي تُوضَعُ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تَرُدُّهَا وَتَكْبَحُهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْجَزْمِ وَفِقْهُ الْأُمُورِ - وَهُوَ حِكْمَتُهَا - فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْعُ الِاحْتِمَالَاتِ وَالظُّنُونِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ جَازِمٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا. وَمَا يُقَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ يُقَالُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، وَكَذَا مَنْعُ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ آتَاهُ اللهُ الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى - أَيِ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْفِقْهَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَشُئُونِ الْإِصْلَاحِ، وَفَهْمِ الْكِتَابِ الَّذِي تَعَبَّدَهُ بِهِ، سَوَاءٌ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَمْ أَنْزَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بَعْضَهُمْ بِإِيتَائِهِ الْحُكْمَ صَبِيًّا لِيَحْيَى وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكَةُ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يُؤْتَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) مَنْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ فِيهَا الْفَصْلُ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَيَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ - وَكَذَلِكَ النُّبُوَّةُ - وَتَكُونُ هَذِهِ الْعَطَايَا الثَّلَاثُ مَرْتَبَةً عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ وَالْأَمْرَ الْوَاقِعَ أَنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ أُوتِيَ الثَّلَاثَ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا النُّبُوَّةَ فَقَطْ. فَإِذَا جَعَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ لِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) 38: 26 وَقَوْلُهُ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مَعًا: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) 21: 79 وَقَوْلُهُ فِي يُوسُفَ: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) 12: 22 أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) 26: 21 فَهُوَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ الَّتِي تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهَا عَنْ جَعْلِهِ رَسُولًا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ. وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْحُكْمِ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ ضَعِيفٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ الرِّسَالَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) 26: 83 فَإِنَّهُ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ وَهُوَ رَسُولٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبُ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْحُكُومَةِ وَالسُّلْطَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ، عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِقْهِ الْقَلْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) 19: 12 وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ التَّوْرَاةِ: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا) 5: 44 وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَرْتَبَةٌ

عَلَى حَسَبِ خُصُوصِيَّتِهَا، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ مِمَّنْ ذَكَرَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ حَاكِمًا وَلَا صَاحِبَ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرِكِ كَانَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُوتِيَ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَمَا أُوتِيَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ وَتَكَرَّرَ. وَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ هُمْ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ وَمَنْ ذُكِرَ مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَقْوَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ حَاكِمٍ، وَبَعْضَهُمْ كَانَ عَالِمًا حَاكِمًا غَيْرَ نَبِيٍّ، وَبَعْضَهُمْ عَالِمًا حَكِيمًا غَيْرَ حَاكِمٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ أَعَمَّ مِنْ إِيحَائِهِ، فَإِنَّ أُمَّةَ الرَّسُولِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِإِيحَائِهِ إِلَيْهِ يُقَالُ إِنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتِ الْكِتَابَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا نَصَّ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ - فَالْإِنْزَالُ عَلَى الرُّسُلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْزَالُ عَلَى الْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِمْ لِهِدَايَتِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) 45: 16 الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَجْهَ الْعِبْرَةِ بِمَا ذَكَرَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) أَيْ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ - الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ - هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ خُصُّوا بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا قَبْلَ غَيْرِهِمْ، إِذْ أُوتِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِأَمْرِ رِعَايَتِهَا، وَوَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَتَوَلِّي نَصْرَ الدَّاعِي إِلَيْهَا، قَوْمًا كِرَامًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَيُؤْمِنُ عِنْدَمَا يُدْعَى، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ - أَيِ الْجَامِعِ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللهِ - (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارِ انْتَهَى. وَرَوَى مَثَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَتَفْسِيرُ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى هُنَا. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ تَفْسِيرُ الْمُوَكِّلِينَ بِهَا بِالْمَلَائِكَةُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ، الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الدَّرِّ الْمَنْثُورِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَقِيلَ: الْفُرْسُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَا، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا وَكَانُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَنْصَارِ، فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ جِهَادٍ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَقْصُودُونَ

بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالْمَنْعَةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مُؤْمِنِينَ - أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَاللَّاحِقَ فِيهِمْ فَالْكَلَامُ فِي الْأَثْنَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَذَلِكَ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَضِيَّةً وَحُجَّةً، وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَكَّلَ بِهَا مَنْ ذَكَرَ فِي أَزْمِنَتِهِمْ وَلَعَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرِيدُ بِتَوْكِيلِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِهَا مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنَ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) 3: 81 الْآيَةَ. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ بِالْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّ اسْمَ الْقَوْمِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ. وَنَقُولُ: إِنَّ السِّيَاقَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى قَوْمٍ كِرَامٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بِدَلِيلِ التَّنْكِيرِ وَإِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْقَوْمِ عَلَى الْجِنِّ فِي التَّنْزِيلِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِهَا عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْهِدَايَةِ وَالْعِبْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، وَصْفٌ لِقَوْمٍ حَاضِرِينَ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بِالْقُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَوَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ بِذَلِكَ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ. (رُؤْيَا مُبَشِّرَةٌ لَا مُغَرِّرَةٌ) . بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِزُهَاءِ شَهْرٍ رَأَيْتُ فِي الرُّؤْيَا نَفَرَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (طَرَابُلُسَ الشَّامِ) مُقْبِلِينَ فِي عَمَائِمَ وَأَقْبِيَةٍ مِنَ الْحَرِيرِ النَّفِيسِ، وَأَنَا جَالِسٌ مَعَ أُنَاسٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَذَا فُلَانٌ وَذَكَرَ اسْمَ رَجُلٍ كَانَ زَعِيمًا لِطَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، فَقُمْنَا لَهُ وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، فَفَاجَئُونَا بِنَبَأٍ عَظِيمٍ مَوْضُوعُهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ عُرِفَتْ. فِي أُورُبَّةَ وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ جَرَائِدِهَا - وَظَنَنْتُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْجَرَائِدِ - وَقَدِ اهْتَمَّ لَهَا فُلَانْ بَاشَا - وَذَكَرَ رَئِيسَ وُزَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ - وَسَافَرَ لِأَجْلِهَا. فَصِرْتُ أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا. قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيْتَ شِعْرِي هَلْ سَخَّرَ اللهُ لِلْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَوْمًا يَنْصُرُونَهَا غَيْرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ؟ وَمَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ لَمْ نَعْلَمْ مِنْ خَبَرِهِمْ هَذَا شَيْئًا؟ وَمَا مَعْنَى اهْتِمَامِ الْوَزِيرِ وَسَفَرِهِ مِنَ الْعَاصِمَةِ لِأَجْلِهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ سَافَرَ؟ وَهَلْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ شِيعَتِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ أَمْ فَرَّ مِنْهُمْ؟ وَقَدِ اتَّسَعَتْ خَوَاطِرِي فِي ذَلِكَ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ الْجَمَاعَةَ الْمُخْبِرِينَ عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَيْقَظْتُ قَبْلَ أَنْ أَفْعَلَ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ قُرْبَ عَهْدِي بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ عِنْدَمَا قَصَصْتُ رُؤْيَايَ فَحَسِبْتُهَا مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ يُسَخِّرُ لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْكَافِرِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ

90

وَيُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ، وَيُعِيدُونَ بِنَاءَ مَا هُدِمَ مِنْ شَرْعِهِ، وَرَفْعَ عِمَادِ مَائِلٍ مِنْ عَرْشِهِ، وَلَوْ بِإِزَالَةِ الْعِلَلِ وَالْمَوَانِعِ وَتَمْهِيدِ السَّبِيلِ لِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَا يَنْتَظِرُهُ الْجَمَاهِيرُ مِنْ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ أَنْ خَابَتِ الْآمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ أَرَانَا فِي تَارِيخِنَا مِصْدَاقَ قَوْلِ رَسُولِهِ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ " وَقَوْلِهِ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ " أَفَيَضِيقُ عَلَى فَضْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًا مُكَرَّرًا وَيُؤَيِّدُ اللهُ الْإِسْلَامَ بِقَوْمٍ لَيْسُوا بِكَافِرِينَ كَمَلَاحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا كَالصَّحَابَةِ مُؤْمِنِينَ كَامِلِينَ، بَلْ بَيْنَ ذَلِكَ كَخِيَارِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مِنَ السِّرِّ فِي وَصْفِ الْقَوْمِ فِي الْآيَةِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ! فَافْهَمْ. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) الْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي مَقَامِ الدِّينِ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ نَطْلُبُهُ فِي صَلَاتِنَا، وَعَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُدَى وَالْهِدَايَةُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ قَدْ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَفْظَةَ الْهُدَى بِمَا تَوَلَّاهُ وَأَعْطَاهُ وَاخْتُصَّ هُوَ بِهِ دُونَ مَا هُوَ إِلَى الْإِنْسَانِ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. وَالِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ السَّيْرُ عَلَى سُنَنِ مَنْ يُتَّخَذُ قُدْوَةً أَيْ مِثَالًا يُتْبَعُ. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. قَالَ فِي اللِّسَانِ: يُقَالُ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ لِمَا يُقْتَدَى بِهِ، ابْنُ سِيدَهْ: الْقُدْوَةُ وَالْقِدْوَةُ مَا تَسَنَّنْتَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اقْتَدَى بِهِ وَالْقُدْوَةُ الْأُسْوَةُ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا بِتَثْلِيثِ الْقَافِ. بَعْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ مَا يَكُونُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ وَمَا لَا يَكُونُ وَلَا سِيَّمَا اقْتِدَاءُ النَّبِيِّ - الْمُرْسَلِ بِالشَّرْعِ الْأَكْمَلِ - بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَبِسَائِرِ أُصُولِ الدِّينِ وَعَقَائِدِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَأَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَكَانَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَبُرْهَانِيًّا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ فِيهِ بِمَنْ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 16: 123 مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلَّةَ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهَا - وَهِيَ الْعَقِيدَةُ وَأَصْلُ الدِّينِ - هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا لِأَمْرِ اللهِ لَا لِأَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَيْسَتْ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِالتَّلَقِّي عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ، وَلَا بِالنَّقْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقِلًا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَشْهُورِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوَحِّدًا حَنِيفًا. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَقْتَدِي فِيهَا الرَّسُولُ بِأَحَدٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُهَا

لِأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهَا - ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَتْبَعُ فِي الدِّينِ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِمَّا فَسَّرْنَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ بِأَمْرِهِ (إِنْ أَتَبِّعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) 6: 50 وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 203) وَقَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) 45: 18 الْآيَةَ. وَمُوَافَقَةُ رَسُولٍ لِمَنْ قَبْلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَبَعْضِ فُرُوعِهِ لَا يُسَمَّى اقْتِدَاءً وَلَا تَأَسِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَسِّي بِهِ فِي طَرِيقَتِهِ الَّتِي سَلَكَهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَإِقَامَتِهِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) 60: 4 الْآيَةَ - فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً لَهُمْ فِي سِيرَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ هَدْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ مَعْبُودَاتِ قَوْمِهِمْ وَمِنْهُمْ مَا دَامُوا عَابِدِينَ لَهَا. وَلَمَّا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْهُدَى، بَلْ كَانَ مَسْأَلَةً شَاذَّةً لَهَا سَبَبٌ خَاصٌّ اسْتَثْنَاهَا تَعَالَى مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فَقَالَ: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) إِلَخْ. فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا: أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ آنِفًا، وَالْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بِإِيتَاءِ اللهِ إِيَّاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ، فَبِهُدَاهُمْ دُونَ مَا يُغَايِرُهُ وَيُخَالِفُهُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ وَهَفَوَاتِ بَعْضِهِمُ اقْتَدِ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ كَسْبُكَ وَعَمَلُكَ مِمَّا بُعِثْتَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، وَإِيذَاءِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْجُمُودِ، وَمُقَلِّدَةِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ حَالٍ حَقِّهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالشَّجَاعَةِ وَالْحِلْمِ، وَالْإِيثَارِ وَالزُّهْدِ، وَالسَّخَاءِ، وَالْبَذْلِ، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، إِلَخْ. (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) 11: 120 (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) 6: 34 (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أَوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ 46: 35) فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " ن " (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ 68: 48) - وَصَاحِبُ الْحُوتِ هُوَ يُونُسُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ - فَالنَّهْيُ فِيهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ بِتَقْدِيمِ " فَبِهُدَاهُمْ " عَلَى " اقْتَدِهْ " كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْهُدَى الَّذِي هَدَى اللهُ يُونُسَ إِلَيْهِ، بَلْ هَفْوَةٌ عَاقَبَهُ اللهُ عَلَيْهَا ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحُطُّ هَذَا مِنْ قَدْرِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ ذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَقَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " أَيْ فِي

أَصْلِ النُّبُوَّةِ لِأَجْلِ هَفْوَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ " لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ " وَفِيهِ " وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَا مَنْعُ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ خَاتَمَ رُسُلِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِي بِهُدَاهُمْ إِلَيْهِ فِي سِيرَتِهِمْ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَمَا امْتَازَ فِي الْكَمَالِ فِيهِ بَعْضُهُمْ، كَمَا امْتَازَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَآلُ دَاوُدَ بِالشُّكْرِ، وَيُوسُفُ وَأَيُّوبُ وَإِسْمَاعِيلُ بِالصَّبْرِ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ بِالْقَنَاعَةِ وَالزُّهْدِ، وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالشَّجَاعَةِ، وَشَدَّةِ الْعَزِيمَةِ فِي النُّهُوضِ بِالْحَقِّ. فَاللهُ تَعَالَى قَدْ هَدَى كُلَّ نَبِيٍّ رَفَعَهُ دَرَجَاتٍ فِي الْكَمَالِ، وَجَعَلَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ خُلَاصَةَ سِيَرِ أَشْهَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ ذَاكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِذِكْرِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا بِهُدَاهُمْ كُلِّهِمْ، وَبِهَذَا كَانَتْ فَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ الْكَسْبِيَّةُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ ; لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِهَا كُلِّهَا فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ دُونَهُمْ ; وَلِذَلِكَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) 68: 4 وَأَمَّا فَضَائِلُهُ وَخَصَائِصُهُ الْوَهْبِيَّةُ فَأَمْرُ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَظْهَرُ، وَأَعْظَمُهَا عُمُومُ الْبَعْثَةِ، وَخَتْمُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا كَمَالُ الْأَشْيَاءِ فِي خَوَاتِيمِهَا، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (اقْتَدِهْ) لِلسَّكْتِ أَثْبَتَهَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الِاخْتِلَاسَ، وَلَهُمْ فِي تَخْرِيجِهَا وُجُوهٌ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَا بِهِ الِاقْتِدَاءُ فَرَأَيْتُ الرَّازِيَّ لَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - أَيْ بِاللهِ تَعَالَى - فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ الْكَامِلَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ: اقْتَدِ بِهِمْ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الْجُهَّالِ فِي هَذَا الْبَابِ (قَالَ) : وَقَالَ آخَرُونَ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ اهـ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَدَاخِلَةٌ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ ثَانِيهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُفَصَّلٌ وَآخِرُهَا الْمُجْمَلُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَدْ نَظَّمَ الرَّازِيُّ هُنَا جَمِيعَ الْعَقْلِيَّاتِ فِي سَلْكِ أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ إِلَّا بِنَظَرِ الْعَقْلِ كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، وَالِاقْتِدَاءُ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنًى وَجِيهٌ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَجْمُوعُهُمْ أَوْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ أَنْ يَسْتَدِلَّ كَمَا اسْتَدَلُّوا وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءً وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِرَاضًا وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَأَوْرَدَ السَّعْدُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَأُصُولِ الدِّينِ هُوَ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ مِنَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فَلَا يَجُوزُ سِيَّمَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَمَا مَعْنَى أَمْرِهِ بِالِاقْتِدَاءِ فِيهِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ اعْتِقَادَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَئِذٍ لَيْسَ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ بَلْ لِأَجْلِ التَّدْلِيلِ بِلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِذَلِكَ. وَجَعَلَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ: تَعْظِيمُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَالْأَعْلَامِ بِأَنَّ طَرِيقَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا يَقْبَلُهُ التَّنْزِيلُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي فُرُوعِ شَرَائِعِهِمْ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الصَّوَابِ، لَا لِمَا قِيلَ مِنِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَاقُضِهَا وَقَبُولِهَا النَّسْخَ وَكَوْنِ الْمَنْسُوخِ لَمْ يَبْقَ هُدًى. بَلِ الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَكْمَلَ لَنَا عَلَى لِسَانِهِ دِينَهُ الْمُبِينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرَ مَا أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) 5: 48 فَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ صَرَاحَةً بِأَنَّ كَتَابَ هَذَا الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَيْمِنٌ وَرَقِيبٌ وَحَاكِمٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَابِعٌ لِشَيْءٍ مِنْهَا - وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الْحَقِّ لَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا يَتِّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ إِذْ يَوَدُّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ كُتُبَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَكُلُّ ذِي دَعْوَى أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ مَصْلَحَتَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِنَبِيٍّ مِنْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ شَرِيعَةٌ مُفَصِّلَةٌ إِلَّا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا أَحْكَامًا قَلِيلَةً اقْتَضَتْ ذِكْرَهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ، وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ أَهِلُ الْإِنْجِيلِ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَقَدْ أَمَرَنَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِأَلَّا نُصَدِّقَ الْيَهُودَ فِيمَا يَرْوُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، فَهَلْ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ": اقْتَدِ أَيُّهَا الرَّسُولُ - الْخَاتَمُ لِلنَّبِيِّينَ، الَّذِي أُكْمِلُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ - بِالْأَحْكَامِ

الْقَلِيلَةِ الَّتِي نُوحِيهَا إِلَيْكَ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ سِنِينَ؟ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا جَعَلُوهُ حُجَّةً جَدَلِيَّةً لِقَوْلٍ اتَّخَذُوهُ مَذْهَبًا، وَهُوَ أَنْ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ بِبُطْلَانِهِ وَبُطْلَانِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (5: 48) فَيُرَاجَعُ فِي جُزْءٍ التَّفْسِيرِ السَّادِسِ وَبَقِيَّةُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيُّ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ آيَاتِهِ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ فِي سُورَةِ " ص ": (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ 38) : 24 وَقَالَ: فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ شُكْرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ فِيهَا فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ سُجُودَ الشَّاكِرِ لَا يُشْرَعُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ " ص " فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ " فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ. فَهَذَا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّ السُّجُودَ فِيهَا لَمْ يُؤَكَّدْ كَمَا أُكِّدَ فِي غَيْرِهَا انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي شَرْحِ بَابِ سَجْدَةِ " ص " مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَجْدَةَ " ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ بِمَا ذُكِرَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَلْتَزِمُ سُجُودَهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " نَسْجُدُهَا شُكْرًا " يُخَالِفُ اسْتِنْبَاطَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُهَا اقْتِدَاءً بِدَاوُدَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الِاقْتِدَاءُ لَوْ سَجَدَهَا مِثْلَهُ تَوْبَةً، وَالْحَبْرُ هُوَ الْحَبْرُ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَاللهُ أَعْلَمُ. (تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا) . وَعَدَدُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ. مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا، مِنْهُمْ مَنْ قَصَّ عَلَى رَسُولِنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِيمَانًا تَفْصِيلِيًّا، أَيْ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ إِنْكَارَ رِسَالَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ كُفْرٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ هَذَا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ،

فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ " الْيَسَعَ " رَسُولُ اللهِ - مَثَلًا - كَانَ كَافِرًا. وَلَكِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِنَا - وَمَثَلِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَعْصَارِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ - لَا يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يُلَقِّنُهُمْ أَحَدٌ ذَلِكَ. بَلْ نَعْلَمُ بِالِاخْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ أَكْثَرَ عَوَامِّ الْأَقْطَارِ الَّتِي عَرَفْنَاهَا لَا يُلَقِّنُهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ، فَكُلُّ مَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا هُوَ مَا يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَالَّذِي يَتَّجِهُ أَلَّا نُكَفِّرَ مُوَحِّدًا بِجَهْلِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ إِذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِجْمَالًا، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ وَبِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَسَائِرِ مَا لَا يَزَالُ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا أَنَّنَا لَا نُكَفِّرُ مَنْ ذُكِرَ بِجَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ كَخَبَرِ أَهْلِ سَبَأٍ وَحُكْمِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ وَأَدَبِ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لِدُخُولِ بُيُوتِ النَّاسِ، وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فَيَكْفُرُ لِأَنَّهُ كَذَّبَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَمَدَارُ الْكُفْرِ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ عَلَى تَكْذِيبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَمَّا أَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى تَصْدِيقَ قَبُولٍ وَإِذْعَانٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ كَالْقُرْآنِ وَبَعْضِ السُّنَةِ وَقَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ التَّأَوِيلَ فَمَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ احْتَمَلَ أَنْ يُكَذِّبَهُ مُكَذِّبٌ لِلْجَهْلِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ بَعْضَ رُوَاتِهِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ احْتَمَلَ أَنْ يُكَذِّبَ مُكَذِّبٌ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُرَادٍ، فَهَذَا مَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَيَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَذِّبُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ إِذْ لَا يَتَأَوَّلُ أَحَدٌ إِلَّا مَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ سَلَفُ الْأُمَّةِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي فَهْمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ فِرَقِ الْمُبْتَدَعَةِ مُتَأَوِّلًا، وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْخَلْفَ يُكَفِّرُونَ مَنْ يُكَذِّبُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ إِذْ مَدَارُ الْكُفْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِمْ تَفْصِيلًا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، هُمُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا زَالَ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَالسَّبْعَةُ الْآخَرُونَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَإِدْرِيسُ وَلُوطٌ وَأَنْبِيَاءُ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَخَاتَمُ الْجَمِيعِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

وَزَادَ بَعْضُهُمْ ذُو الْكِفْلِ لِذِكْرِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ " ص " وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهَا، وَإِنَّمَا وُصِفَ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ صَرِيحٌ فِي رِسَالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) 4: 163 أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ رِسَالَتَهُ وَشَرْعَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ فِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) 57: 26 وَعَدَمُ ذِكْرِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي سَرَدَ فِيهَا ذِكْرَ الرُّسُلِ الْمَشْهُورِينَ كَهُودٍ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَص وَالْقَمَرِ. وَيُؤَيِّدُهُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَوَّلُ أَصْرَحُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا! فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. . فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا " إِلَخْ وَفِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ " يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " الْحَدِيثَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ - وَهُمْ عَلَى الرَّاجِحِ الْمَشْهُورِ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَانَ يَدْفَعُهُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْخَاتَمِ كَانَ هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ. وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي آيَةِ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وَحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ اللهُ بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، انْتَهَى وَتَبِعَهُ فِيهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَالْخَازِنُ وَغَيْرُهُمْ وَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ خَصَائِصَ نُوحٍ. قَالَ الْخَازِنُ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا بَدَأَ اللهُ بِذِكْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بِشَرِيعَةٍ وَأَوَّلُ نَذِيرٍ عَلَى الشِّرْكِ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ عُذِّبَتْ أُمَّتُهُ لِرَدِّهِمْ دَعْوَتَهُ، وَكَانَ أَبَا الْبَشَرِ كَآدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْآلُوسِيُّ أَنَّ تَعْلِيلَ الْبَدْءِ بِذِكْرِهِ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ قَدْ تُعُقِّبَ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذَا الْمَنْعِ سَنَدًا، وَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) حِكْمَةً وَلَا نُكْتَةً. وَقَدْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ. فَمَفْهُومُ تَصْرِيحِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ النَّاقِلِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ

مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ رَسُولٍ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ، هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ كِتَابِ التَّيَمُّمِ " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي - إِلَى قَوْلِهِ - وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ": وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ كَمَا صَحَّ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ - فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومَ بَعْثَتِهِ بَلْ إِثْبَاتُ أَوَّلِيَّةِ إِرْسَالِهِ انْتَهَى. وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ. ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ: فَأَمَّا كَوْنُهُ أَوَّلَ الرُّسُلِ فَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَبِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنَّ أَوْلَادَهُ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ أَوَّلَ رَسُولٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ مُقَيَّدَةً بِقَوْلِهِمْ " إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ أَهْلٌ، أَوْ لِأَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ كَانَتْ كَالتَّرْبِيَةِ لِلْأَوْلَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ - أَيْ نُوحًا - أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ تُفَرُّقِهِمْ فِي عِدَّةِ بِلَادٍ وَآدَمُ إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِإِدْرِيسَ وَلَا يَرِدُ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ جَدَّ نُوحٍ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. أَقُولُ: وَيَلِي شَرْحَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْحُهُ لِمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي إِلْيَاسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَقَالَ الْحَافِظُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ: وَكَانَ الْمُصَنِّفُ - أَيِ الْبُخَارِيُّ - رَجَحَ عِنْدَهُ كَوْنُ إِدْرِيسَ لَيْسَ مِنْ أَجْدَادِ نُوحٍ فَلِذَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ اهـ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ إِلْيَاسَ. ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ - بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِشْكَالِ بِآدَمَ وَشِيثَ وَإِدْرِيسَ - وَمُجْمَلُ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِمْ: " إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " لِأَنَّ آدَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِشْكَالَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَالْجَوَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا هُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَبَعْثَةُ نَبِيِّنَا لِقَوْمِهِ وَلِغَيْرِ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَوِ الْأَوَّلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِ أَهْلَكَ قَوْمَهُ، أَوْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي حَقِّ آدَمَ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِمَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثَ وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِرْسَالِ وَأَمَّا إِدْرِيسُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ إِلْيَاسُ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ أَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ كَانَتْ إِلَى بَنِيهِ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِيُعَلِّمَهُمْ شَرِيعَتَهُ، وَنُوحٌ كَانَتْ رِسَالَتُهُ إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ اهـ. وَظَاهِرٌ أَنَّ جَوَابَ ابْنِ بَطَّالٍ وَهُوَ أَحَدُ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ أَبْعَدُ

الْأَجْوِبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ التَّكَلُّفِ، وَأَوَّلُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ آدَمَ وَأَحْفَادَهُ كَانُوا أَهْلَ الْأَرْضِ لَا السَّمَاءِ، وَبَاقِيهَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ. وَتَعَقُّبُ الْقَاضِي عِيَاضٍ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَجِيبٌ مِنْهُ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ سُكُوتُ الْحَافِظِ عَلَيْهِ، فَالْحَدِيثُ اخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِيهِ فَجَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَحَقَّقَ السَّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى انْتِقَادِ ابْنِ حِبَّانَ لِذِكْرِهِ إِيَّاهُ فِي صَحِيحِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ قَدَّمَ الْقَسْطَلَانِيُّ جَوَابَ ابْنِ بَطَّالٍ غَيْرَ مَعْزُوٍّ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ عِنْدَ قَوْلِ آدَمَ " ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ ": أَيْ آدَمُ وَشِيثُ وَإِدْرِيسُ أَوِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. إِلَخْ. فَالْقَسْطَلَانِيُّ يَعُدُّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ رِسَالَةِ آدَمَ جَوَابًا مَقْبُولًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْمَازِرِيُّ قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ النَّسَّابِينَ أَنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازَ مَا قَالُوهُ وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرْسَلٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونَ فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، قَالَ الْقَاضِي: وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِآدَمَ وَشِيثَ وَرِسَالَتِهِمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ فَإِنَّ آدَمَ إِنَّمَا أَرْسَلَ لِبَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، بَلْ أَمَرَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْإِيمَانَ وَطَاعَةَ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ خَلَّفَهُ شِيثُ بَعْدَهُ فِيهِمْ، بِخِلَافِ رِسَالَةِ نُوحٍ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ ابْنَ بَطَّالٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ يَنُصُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ. هَذَا آخَرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. فَجُمْلَةُ هَذِهِ النُّقُولِ عَنْ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ آدَمَ مُخْتَلَفٌ فِي رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ إِدْرِيسَ مُخْتَلَفٌ مِنْ رِسَالَتِهِ وَفِي كَوْنِهِ هُوَ إِلْيَاسَ الْمَذْكُورَ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا أَوْ غَيْرَهَ. فَيَكُونُ عَدَدُ الرُّسُلِ الْمُجْمِعِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَتِهِمْ لِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِيهَا قَطْعِيٌّ - ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ فَقَطْ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى رِسَالَةِ آدَمَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سِيَاقِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُكْتَفَى فِيهَا بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ بَلْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْيَقِينُ، لِأَنَّ أَهْوَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَلَوْ وَجَدُوا حَدِيثًا صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا فِي إِثْبَاتِ رِسَالَةِ آدَمَ لَمَا لَجَأُوا إِلَى ذِكْرِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَفِيهَا حَدِيثٌ آحَادِيٌّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَنَبِيَّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ " نَعَمْ مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ "

وَقَدْ فُسِّرَ الْمُعَلَّمُ فِي كُتُبِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ بِالْمُلْهَمِ لِلْخَيْرِ وَالصَّوَابِ، وَرُوِيَ " نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ " وَالتَّكْلِيمُ أَنْوَاعٌ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) 42: 51 وَمِنْهَا وَحْيُ الرِّسَالَةِ وَمَا دُونَهُ، وَمِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ كَمَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَأَمَّا حُجَّتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ قِصَّةِ خَلْقِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَتَوْبَتِهِ، إِذْ فِيهَا أَنَّ اللهَ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَأَنَّهُ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ، وَلَكِنَّ دَلَالَةَ مَا ذُكِرَ عَلَى نُبُوَّتِهِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَجْعَلُونَ كُلَّ وَحْيٍ نُبُوَّةً، لَا مَا كَانَ بِخِطَابِ الْمَلَكِ وَلَا مَا كَانَ بِالْإِبْهَامِ وَالنَّفْثِ فِي الرَّوْعِ ; وَلِذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِنُبُوَّةِ مَرْيَمَ وَأُمِّ مُوسَى، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِمَا. ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ آدَمَ فِي قِصَّةِ خَلْقِهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْوِينِ لَا التَّكْلِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) 41: 11 وَقَدْ قَالَ الشَّاذِلِيُّ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ " وَهَبْ لَنَا التَّلَقِّي مِنْكَ كَتَلَقِّي آدَمَ مِنْكَ الْكَلِمَاتِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِوَلَدِهِ فِي التَّوْبَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ " وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّلَقِّي نَصًّا قَطْعِيًّا فِي نُبُوَّتِهِ لَمَا طَلَبَهُ هَذَا الْعَالَمُ الْعَارِفُ بِاللُّغَةِ وَأَسَالِيبِهَا. وَقَدِ ادَّعَى الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ دَلِيلَ رِسَالَتِهِ أَنَّنَا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ أَوْلَادَهُ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ هُوَ أَوَّلَ رَسُولٍ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ أَخْذَ أَوْلَادِهِ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي عَقْلًا أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَبَّاهُمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى مَا هَدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ نَصًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْعِبَادَةَ وَأَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَبَأُ ابْنَيْ آدَمَ الْمُفَصَّلُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَمِنَ الْعِبَادَةِ فِيهِ تَقْرِيبُ الْقُرْبَانِ، وَمِنْ خَبَرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَوْلُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ لِلْمُعْتَدِي: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) 5: 29 وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَغْفُلَ أُولَئِكَ الْحُفَّاظُ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَكْتَفُوا مِنَ النَّقْلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَوْضُوعِ أَوِ الضَّعِيفِ وَبِدَعْوَى الضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رِسَالَةِ آدَمَ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَإِذَا كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فَبِمَ يَسْتَدِلُّونَ؟ . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى هُدًى مِنَ اللهِ يَعْمَلُ بِهِ وَيُرَبِّي عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ، وَأَنَّهُ مِنْهُ عِبَادَاتٌ وَقُرُبَاتٌ يُرَغِّبُ فِيهَا مُبَشِّرًا بِأَنَّ فَاعِلَهَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ يَنْهَى عَنْهَا مُنْذِرًا بِأَنَّ فَاعِلَهَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْهِدَايَةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ هِدَايَةِ اللهِ لِلنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّتِي بَلَّغُوهَا أَقْوَامَهُمْ، وَلَا نَدْرِي كَيْفَ هَدَى اللهُ تَعَالَى آدَمَ إِلَيْهَا فَإِنَّ طُرُقَ

الْهِدَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَدِّدَةٌ. وَكَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيِ الرِّسَالَةِ لَوْلَا مَا عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَآيَةِ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَمِنِ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ آدَمَ عَلَيْهَا وَنَشَأَتْ عَلَيْهَا ذُرِّيَّتُهُ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، إِذِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَحَدَثَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ الْمُؤَيَّدِينَ مِنْهُ بِالْآيَاتِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) 2: 213 الْآيَةَ. فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ مُفَصَّلَةٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، قَالَ الرُّوَاةُ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ) " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا " إِلَخْ. وَرَوَوْا عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخْرَى. وَرَوَوْا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَعَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللهُ نُوحًا وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَبُعِثَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مِنَ النَّاسِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ؟ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ اهـ. مِنَ الدَّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِنْهُ يَعْلَمُ الْمُخَرِّجُونَ لِهَذِهِ الرِّوَيَاتِ. فَهَذَا قَتَادَةُ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ يَقُولُ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ. وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) 30: 30 الْآيَةَ - كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى الْمِلَّةِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ آدَمَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ وَبَنِيهِ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ وَأَعْطَاهُمُ الْمَالَ حَلَالًا لَا حَرَامَ فِيهِ فَجَعَلُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ حَرَامًا وَحَلَالًا " وَفِي مَعْنَاهُ آثَارٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَطَرَ آدَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَزَادَهُ هُدَى بِمَا كَانَ يُلْهِمُهُ إِيَّاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادٌ كَمَا قِيلَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَارِ قَبْلَ الْبَعْثِ. وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ إِرْشَادُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ، فَقَدْ كَانُوا بِطَهَارَةِ فِطْرَتِهِمْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ كَمَا وَرَدَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ تَجْهِيزَ أَبِيهِمْ وَدَفْنِهِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَمْحِيصِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَلَكِنَّ

مَجْمُوعَهَا يُؤَيِّدُ الْحَدَثَ الْمُصَرِّحَ بِنُبُوَّةِ آدَمَ، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْإِلَهِيِّ مَا هُوَ أَعْلَى مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْتَ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آدَمُ. وَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ بِالْإِجْمَاعِ. فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يُعْلَمُ وَجْهُ مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْقَوْلِ بِنُبُوَّةِ آدَمَ وَرِسَالَتِهِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ الْقَاطِعِ، بَلْ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ هِدَايَتَهُ لِذَرِّيَّتِهِ مِنْ نَوْعِ هِدَايَةِ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ الْحَافِظُ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيِّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارِضِ لَهُ. وَالَّذِي يَتَّجِهُ فِي الْجَمْعِ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ هُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ هِدَايَةِ مَنْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَبَيْنَ بَعْثَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ الْفِطْرِيِّ وَفِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالضَّالِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ نَبِيٍّ سَابِقٍ فَأَعْرَضُوا عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِأَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الرِّسَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يُسَمَّى مَنْ جَاءُوا بِهَا رُسُلًا دُونَ الْأُولَى، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ عِدَّةِ أَجْوِبَةٍ مِمَّا نُقِلُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي رَفْعِ التَّعَارُضِ بِتَوْضِيحٍ قَلِيلٍ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرِسَالَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْكَافِرِينَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ مِنْ قَبِيلِ تَرْبِيَةِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ. وَفِيهِمَا أَنَّ تَسْمِيَتَهَا رِسَالَةً شَرْعِيَّةً بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْآيَاتِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ التَّعَارُضَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ دَافِعًا لَهُ؟ وَأَمَّا إِذَا أَثْبَتْنَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْآيَاتِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ التَّعَارُضَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ دَافِعًا لَهُ؟ وَأَمَّا إِذَا أَثْبَتْنَا مَا ذُكِرَ لِآدَمَ وَلَمْ نُسَمِّهِ رِسَالَةً بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ التَّعَارُضَ يَنْدَفِعُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ كَمَا قُلْنَا وَتَصِحُّ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَيَكُونُ الْخِلَافُ أَشْبَهَ بِاللَّفْظِيِّ، فَهُوَ رَسُولٌ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ دُونَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذَا السِّيَاقَ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِمَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ وَأُذَكِّرَكُمْ بِهِ أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ (وَكُلَاهُمَا) مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ وَإِنْ لَمْ يُذْكُرَا، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، أَجْرًا مَنْ مَالَ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، أَيْ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ قَبْلِي مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يَسْأَلُوا أَقْوَامَهُمْ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ وَالْهُدَى - وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِيهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ اسْتِقْلَالًا لَا يَدْخُلُ فِيمَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ اقْتِدَاءً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْأَمْرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) 42: 23 مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَابَةٌ مِنْ جَمِيعِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ قَالَ " يَا قَوْمِ إِذَا أَبَيْتُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَاحْفَظُوا قَرَابَتِي فِيكُمْ وَلَا يَكُونُ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى بِحِفْظِي وَنُصْرَتِي مِنْكُمْ " وِفِي هَذَا الْمَعْنَى رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جُعْلًا مِنْكُمْ، وَلَكِنْ مَوَدَّةَ الْقَرَابَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ، وَهِيَ دُونُ مَا جَرَيْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَحْمَى الْقَرِيبُ قَرَابَتَهُ وَأَهْلَ نَسَبِهِ وَيُقَاتِلَ مَنْ عَادَاهُمْ، وَإِنِّي أَكْتَفِي مِنْكُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَقَلُّهَا أَنْ لَا تُعَادُونِي وَلَا تُؤْذُونِي، وَأَعْلَاهَا أَنْ تَمْنَعُونِي وَتَحْمُونِي مِمَّنْ يُؤْذِينِي. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْأَجْرِ عَلَى التَّبْلِيغِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّمَا يُعْطَى الْأَجْرُ عَلَى الشَّيْءِ مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَيُكَافِئُ صَاحِبَهُ بِمَنْفَعَةٍ تُوَازِيهِ أَوْ لَا تُوَازِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقَلِّ الْمَوَدَّةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وَقِيلَ الْآيَةُ غَيْرُ ذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا الْأَقَارِبَ وَتَصِلُوا الْأَرْحَامَ بَيْنَكُمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فِي الْأَنْصَارِ. وَقَوْلِ آخَرِينَ: إِنَّهَا فِي آلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ تُوجِبُ مَوَدَّتَهُمْ وَمُوَالَاتَهُمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ حُبَّهُمْ وَوُدَّهُمْ وَوَلَاءَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ بُغْضَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَطْلُبْ مِنَ الْأُمَّةِ بِأَمْرِ اللهِ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا أَجْرًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ أَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا. (إِنَّ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ كَمَا رَجَعْنَا، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِإِرْشَادِ الْعَالَمِينَ كَافَّةً، لَا لَكُمْ خَاصَّةً، وَهُوَ نَصٌّ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ. (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) .

91

خَتَمَ اللهُ سُبْحَانَهُ سِيَاقَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ بِذِكْرِ هِدَايَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، تَمْهِيدًا بِذَلِكَ إِلَى بَيَانِ كَوْنِ رِسَالَةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ رِسَالَتِهِمْ، وَكَوْنِ هِدَايَتِهِ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِهِدَايَتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ عَلَى تَبْلِيغِ هَذَا الْقُرْآنِ أَجْرًا، لَا يَرْجُو مِنْ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ فَائِدَةً وَلَا نَفْعًا، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، وَبَيَانِ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ الْقَدْرِ، وَتَفْنِيدِ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمُحِجَّةِ، قَالَ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ) ، قَدْرُ الشَّيْءِ - بِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا - وَمِقْدَارُهُ: مِقْيَاسُهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ وَمَبْلَغُهُ، يُقَالُ قَدَرَهُ يَقْدُرُهُ وَقَدَّرَهُ إِذَا قَاسَهُ، وَقَادَرْتُ الرَّجُلَ مُقَادَرَةً قَايَسْتُهُ وَفَعَلْتُهُ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَالْقَدَرُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمِقْدَارُ الْقُوَّةُ. وَمِنْهُ الْقَدْرُ بِمَعْنَى الْغِنَى وَالْيَسَارِ - وَكَذَا الشَّرَفُ - لِأَنَّ كُلَّهُ قُوَّةٌ كَمَا قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرٌ مِنْهُ. (قَالَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، وَالْقَدَرُ وَالْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَعَزَى الْأَوَّلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْقَدْرَ هُنَا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَاحِدٌ انْتَهَى. قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْمَعْنَى مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَتَفْسِيرُهُ بِالْمَعْرِفَةِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ بِالْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيِّ أَلْصَقُ، وَتَعَلُّقُ الظَّرْفِ " إِذْ قَالُوا " بِفِعْلِهِ أَوْ مَعْنَى نَفْيِهِ أَظْهَرُ، سَوَاءٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْعِلَّةِ أَمْ لَمْ يَتَضَمَّنْ، وَالْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةُ الْأَمْرَيْنِ، فَمُنْكِرُو الْوَحْيِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِرُسُلِ اللهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَفْرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، وَلَا آمَنُوا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ إِفَاضَةُ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرْعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْبَشَرِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يُتْبِعُ الرِّسَالَةَ مِنْ تَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالْآيَاتِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ تَفْسِيرُ الْقَدْرِ بِالْقُدْرَةِ أَظَهَرُ، وَمَنْ يُجِيزُ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ يُجِيزُ إِرَادَةَ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعَانِي الْقَدْرَ هُنَا. عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخْتَارَ يَتَضَمَّنُ سَائِرَ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَصَفَهُ حَقَّ وَصْفِهِ وَآمَنَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ. نَطَقَتِ الْآيَةُ بِأَنَّ مُنْكِرِي الْوَحْيِ مَا عَرَفُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا وَصَفُوهُ بِمَا يَجِبُ وَصْفُهُ بِهِ، وَلَا عَرَفُوا كُنْهَ فَضْلِهِ عَلَى الْبَشَرِ، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ مَا أَنْزَلَ شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنْ شُئُونِهِ سُبْحَانَهُ وَمُتَعَلِّقُ صِفَاتِهِ فِي النَّوْعِ

الْبَشَرِيِّ، فَإِنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَأَجَلِّ آثَارِ الرَّحْمَةِ. فَمَنْ عَرَفَهُ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ أِحَاسِنِ الْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرُ النِّظَامِ التَّامِّ، فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، كَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ، وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَنَظَرَ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَالْآفَاقِ، فَعَلِمَ مِنْهَا أَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، مُسْتَعِدًّا لِلْعُرُوجِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَالْهُبُوطِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَجَعَلَ كَمَالَهُ الَّذِي تُرَقِّيهِ إِلَيْهِ مَوَاهِبُ رُوحِهِ الْمَلَكِيَّةِ، وَنَقْصَهُ الَّذِي تُدَسِّيهِ فِيهِ مَطَالِبُ جَسَدِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ، أَثَرًا لِعُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ، الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ حَيَاتَيْهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. ثُمَّ عَلِمَ مَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَهُ فِي حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ، وَمَنْ دَرَسَ طِبَاعَهُ وَتَارِيخَ أَجْيَالِهِ الْغَابِرَةِ، أَنْ لَمْ يَكَدْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَصَالِحِ شَخْصِهِ، فَلَمْ يَجْنِ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ جِيلٌ مِنْ أَجْيَالِهِ، وَلَا شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِهِ، ارْتَقَتْ بِهِ عُلُومُهُ الْكَسْبِيَّةُ، وَقَوَانِينُهُ الْوَضْعِيَّةُ، إِلَى نَيْلِ السَّعَادَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، إِلَّا مَنِ اهْتَدَى بِهِدَايَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ - مَنْ عَرَفَ اللهَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَعَرَفَ الْبَشَرَ بِمَا أَجْمَلْنَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُمَيَّزَاتِ، عَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ النِّظَامِ وَمَظَاهِرُ الْكَمَالِ، قَدْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِكْمَالُ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلْعُرُوجِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَتَوَقِّي الْهُبُوطِ الَّذِي ذَكَّرْنَا بِهِ، فَكَانَ إِرْشَادُ الْوَحْيِ سَبَبًا لِكُلِّ ارْتِقَاءٍ إِنْسَانِيٍّ، فِي رُكْنَيْ وُجُودِهِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ فُتِنَ فِي هَذَا الْعَصْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِتَرَقِّي النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَسَعَةِ التَّمَتُّعِ الشَّهْوَانِيِّ فِي شُعُوبٍ كَانَتْ قَدِ اسْتَفَادَتْ كَثِيرًا مِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ، ثُمَّ نَسِيَتْ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ الْخَيْرِ، فَعَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَحْدَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَبِهِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِعُقُولِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، بَلْ وَصَمُوهَا بِمَا وَسَمُوهَا بِهِ مِنْ سِمَاتِ الْغَوَايَةِ، حَتَّى إِذَا مَا بَرِحَ الْخَفَاءُ، وَفُضِحَ الرِّيَاءُ، وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ، ظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَدَنِيَّةَ، هِيَ أَفْظَعُ الْوَحْشِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ، فَأَيُّهُمْ أَوْسَعُ فِيهَا عُلُومًا وَفُنُونًا وَأَدَقُّ نِظَامًا وَقَانُونًا، هُمْ أَشَدُّ فَتْكًا بِالْإِنْسَانِ وَتَخْرِيبًا لِلْعُمْرَانِ، وَأَنَّ غَايَةَ هَذَا التَّرَقِّي اسْتِعْبَادُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ بِتَسْخِيرِهِمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَاسْتِخْرَاجِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ لَهُمْ، اسْتِمْتَاعًا بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ السُّفْلَى، وَإِسْرَافًا فِي زِينَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَوْ مَسْلَكَيْنِ: (الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ) مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ بَقَاءِ النَّفْسِ وَاسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ فِي عَالَمٍ غَيْبِيٍّ، وَحَاجَتِهِمْ إِلَى إِرْشَادٍ إِلَهِيٍّ يَعْلَمُونَ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِلسَّعَادَةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ،

وَكَوْنِ إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ إِحْسَانِهِ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَإِتْقَانِهِ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ إِذِ اخْتَصَّ بَعْضَ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِفِطْرَةٍ عَالِيَةٍ، وَأَعَدَّ أَرْوَاحَهُمْ لِلْإِشْرَافِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَتَلَقِّي عِلْمَ الْهِدَايَةِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ الْأَمِينِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ; وَبِذَلِكَ كَانُوا نِهَايَةَ الشَّاهِدِ، وَبِدَايَةَ الْغَائِبِ، فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لِيَنْهَضُ بِأُمَّةٍ أَوْ أُمَمٍ فَيَرْفَعُ شَأْنَهَا، وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ يَكُونُونَ كَالْأَنْعَامِ يُسَخِّرُهُمْ لِخِدْمَتِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (الْمَسْلَكُ الثَّانِي) مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَوْنِهِ خُلِقَ لِيَعِيشَ مُجْتَمِعًا مُتَعَاوِنًا، يَقُومُ أَفْرَادٌ مُتَفَرِّقُونَ وَجَمَاعَاتٌ مُتَعَاوِنُونَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي حِفْظِ حَيَاتَيْهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، وَيَظْهَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُهُ لِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي عَالَمِهِ لِمَنَافِعِهِ، وَكَوْنِهِ يَعْمَلُ أَعْمَالَهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ وَتَخَيُّلِهِ، وَكَوْنِ أَفْرَادِهِ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا يَقْتَضِي التَّنَازُعَ وَالشِّقَاقَ، الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّخَاذُلِ وَالتَّقَاتُلِ إِذَا لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِهِدَايَةٍ تُزِيلُ الْخِلَافَ وَتُوَحِّدُ الْآرَاءَ وَالْأَهْوَاءَ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ هِدَايَةُ الْوَحْيِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ، وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْخِلَافَ لِأَنَّ اللهَ أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ فَوْقَ كُلِّ مَا ذَكَرَ غَرِيزَةً هِيَ أَقْوَى غَرَائِزِهِ وَأَعْلَاهَا، وَهِيَ غَرِيزَةُ الشُّعُورِ بِوُجُودِ قُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ هِيَ فَوْقَ قُوَّتِهِ وَقُوَى جَمِيعِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ وَالْخُضُوعُ لِكُلِّ مَا يَأْتِيهِ مِنْ جَانِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، فَأَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْيِيدِهِمْ مِنْ قِبَلِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الْعَالِيَةِ، وَالسُّلْطَةِ الْغَالِبَةِ، وَكَوْنِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ عَنْ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ. فَزَالَ مِنْ بَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ كُلُّ خِلَافٍ، وَتَمَهَّدَ لَهُمْ طَرِيقُ السَّيْرِ إِلَى الْكَمَالِ، فَكَانَ الْعَامِلُونَ بِالْكِتَابِ مِنْ كُلِّ أُمَّةِ خِيَارَهَا وَعُدُولَهَا. وَلَوْلَا الْبَغْيُ الَّذِي حَمَلَ آخَرِينَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلْخِلَافِ، لَبَلَغَتْ بِهِ مُنْتَهَى مَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْكَمَالِ. مَنْ غَصَّ دَاوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ غُصَّتَهُ ... فَكَيْفَ يَفْعَلُ مَنْ قَدْ غَصَّ بِالْمَاءِ؟. وَمَنْ شَاءَ أَنَّ يَقِفَ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّفْصِيلِ، وَرَدِّ مَا يِرِدُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ، فَلْيَقْرَأْهُ بِالْإِمْعَانِ وَالتَّدَبُّرِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ، وَلْيُرَاجِعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) 2: 213 وَقَدْ بَذَّ الْأُسْتَاذُ - أَثَابَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْلَا أَنْ طَالَ هَذَا الْجُزْءُ وَتَجَاوَزَ كُلَّ تَقْدِيرٍ لِنَقَلْنَا عِبَارَةَ رِسَالَةِ

التَّوْحِيدِ بِرُمَّتِهَا هُنَا، وَلَعَلَّنَا نُجِدُّ لَهَا مُنَاسَبَةً فِي جُزْءٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَفَ مِنْ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَحْثُ تَفْسِيرًا لَهَا. (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدَى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) هَذَا رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ لَقَّنَهُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِثْرِ بَيَانِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى وَمُقْتَضَى صِفَاتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْبَشَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ " تَجْعَلُونَهُ " إِلَخْ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَبِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِمَّا اسْتُثْنِيَ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ مَعْنَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِجَاجَ إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى الْيَهُودِ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِسَائِرِ السُّورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ كِتَابًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: وَاللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ فِنُحَاصُ الْيَهُودِيُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ شَيْءٍ - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: أَمَرَ اللهُ مُحَمَّدًا أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ أَمْرِهِ وَكَيْفَ يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ فَحَمَلَهُمْ حَسَدُهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكِتَابِ اللهِ وَرُسُلِهِ. فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - فَأَنْزَلَ اللهُ " وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ " الْآيَةَ. وَرَوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَكَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَلَمْ يَذْكُرَا اسْمًا وَلَا قِصَّةً، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْيَهُودِيِّ قَالَ الْكَلِمَةَ فِي قِصَّةٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي الْعَرَبِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ صَوَّبَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُ وَلَمْ يَجْرِ لِلْيَهُودِ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ نُزُولِهَا فِيهِمْ خَبَرٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَبِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الْوَحْيَ بَلْ يُقِرُّونَ بِنُزُولِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاوُدَ. (قَالَ) : فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصْرِفَ الْآيَةَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ إِلَى آخِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ خَبَرٍ صَحِيحٍ أَوْ عَقْلٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ تَأَوَّلُوا بِذَلِكَ قِرَاءَةَ الْأَفْعَالِ فِيهَا بِالْخِطَابِ " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ " إِلَخْ وَقَالَ إِنَّ الْأَصْوَبَ قِرَاءَةُ " يَجْعَلُونَهُ " إِلَخْ. عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ يَجْعَلُونَهُ فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ ذُكِرَتْ فِي خِطَابِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَرَجَّحَ أَنَّ هَذَا مُرَادَ مُجَاهِدٍ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا وَجْهَ تَخْرِيجِ قِرَاءَةِ الْخِطَابِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا أَكْثَرُ

الْقُرَّاءِ بَلِ اكْتَفَى بِتَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ أَصْحَابُ التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَيُجِيبُونَ عَنْ إِشْكَالِ ابْنِ جَرِيرٍ الْأَوَّلِ - وَهُوَ نُزُولُ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ وَكَوْنِ السِّيَاقِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِي مُحَاجَّةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ - بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدَنِيَّةِ، وَأُدْخِلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِتَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلْكَلَامِ فِي بَحْثِ الرِّسَالَةِ بَعْدَ بَحْثِ التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ - كَمَا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي سَابِقِ الْكَلَامِ ذِكْرٌ لِلْيَهُودِ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَأَجَابُوا عَنْ إِشْكَالِهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْيَهُودِ يُقِرُّونَ بِالْوَحْيِ وَلَا يُنْكِرُونَهُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ هَذَا إِنْكَارٌ مُطْلَقٌ أُرِيدَ بِهِ الْمُقَيَّدُ، وَقَدْ بَنَى الرَّازِيُّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْمَأْثُورِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - وَعَزَاهَا الرَّازِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ سَمِينًا وَهُوَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَحْلَفَهُ " هَلْ يَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟ " فَقَالَ الْكَلِمَةَ. قَالَ الرَّازِيُّ وَمُرَادُهُ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فِي أَنَّهُ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُبَالَغَةً، وَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْضَبَهُ فَقَالَ ذَلِكَ، أَيْ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ الْمُدْهِشِ لِلْعَقْلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ طُغْيَانِ اللِّسَانِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ سِفْرًا مَخْطُوطًا - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللهُ لِيُكْتَبَ يُسَمَّى كِتَابًا قَبْلَ كِتَابَتِهِ تَجَوُّزًا وَبَعْدَهَا حَقِيقَةً. (رَابِعُهَا) أَنَّ مُرَادَهُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ مِنْ شَيْءٍ - كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ - فَذَكَرَ الْعَامَّ وَأَوْرَدَ الْخَاصَّ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ " يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ " إِلَخْ. فَلَا تُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَيُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا كَمَا تُشْكِلُ قِرَاءَةُ " تَجْعَلُونَهُ " عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. هَذَا مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فِي تَوْجِيهِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سِيَاقِ مِثْلِ هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُهُ (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) 20 أَنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْأَلُ الْيَهُودَ عَنْ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْكَرُوا مَعْرِفَتَهُ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا وَفْدًا مِنْهُمْ هَذَانَ الزَّعِيمَانِ لِلْكُفْرِ - فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَا لَهُمْ

أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا إِلَخْ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ كَوْنَ التَّوْرَاةِ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِلْيَهُودِ خَاصَّةً كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا أَرْسَلُوا وَفْدًا. إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَسَأَلُوهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُصُولِ الدِّينِ احْتِجَاجًا وَجِيهًا وَلَا يَصْحُ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَلَغَتْهُمْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى الدَّالَّةُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَكِتَابِهِ بِالتَّوَاتُرِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ بِسَبَبِ طَلَبِ مِثْلِهَا. وَالَّذِي يَتَّجِهُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بِمَكَّةَ - كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو مُحْتَجَّةً عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ اسْتِبْعَادًا لِخِطَابِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِكِتَابِ مُوسَى، وَإِرْسَالِهِمُ الْوَفْدَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْعَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُلْ) لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ قَوْمِكَ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - كَقَوْلِهِمْ " أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا ": (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا) انْقَشَعَتْ بِهِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي وَرِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْمِصْرِيِّينَ (وَهَدًى لِلنَّاسِ) أَيِ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ أُخْرِجُوا مِنَ الضَّلَالِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أَنْشَأَتْهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَكَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ مُقِيمِينَ لِلْعَدْلِ إِلَى أَنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَصَارُوا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا) عِنْدَ الْحَاجَةِ: إِذَا اسْتُفْتِيَ الْحَبْرُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَهُ هَوًى فِي إِظْهَارِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا كَتَبَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي قِرْطَاسٍ - وَهُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهَا - فَأَظْهَرَهُ لِلْمُسْتَفْتِي وَلِخُصُومِهِ " وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَخْبَارِهِ إِذَا كَانَ لَهُمْ هَوًى فِي إِخْفَائِهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ مِنْ نُسَخِهِ شَيْءٌ. وَهَذَا الْإِخْفَاءُ لِلنُّصُوصِ فِي الْوَقَائِعِ غَيْرُ مَا نَسِيَهُ مُتَقَدِّمُو الْيَهُودِ مِنَ الْكِتَابِ بِضَيَاعِهِ عِنْدَ تَخْرِيبِ الْقُدْسِ وَإِجْلَائِهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) 5: 13 خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُقْرَأُ هَكَذَا بِمَكَّةَ وَكَذَا بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ أَخْفَى أَحْبَارُ الْيَهُودِ حُكْمَ الرَّجْمِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْفَوْا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ عَنِ الْعَامَّةِ وَتَحْرِيفُهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِلْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ (إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ) فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ، كَانَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَلَا مُخِلٍّ بِالسِّيَاقِ أَنْ يُلَقِّنَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ الْجُمَلَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مَسْمَعِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ بِالْخِطَابِ لَهُمْ فَيَقُولُ: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)

مَعَ عَدَمِ نَسْخِ الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الْمُؤَيَّدِ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَقَائِعِ يَتَّجِهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا، وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ عَرَضَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) فَقَالَ قَتَادَةُ: الْيَهُودُ آتَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عِلْمًا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَذَمَّهُمُ اللهُ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذِهِ لِلْعَرَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. فَإِنَّ مَا عَلِمَهُ الْعَرَبُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ وَهِدَايَتِهِ قَدْ أَدَّوْهُ إِلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَتْ فَائِدَتُهُ عَامَّةً. وَفِي الْجُمْلَةِ امْتِنَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرَّسُولِ وَقَوْمِهِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيتَائِهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْحَكِيمَ الْمُبِينَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْيَهُودِ: وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَهْدَى مِنْكُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) 27: 76 وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَمِنْهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ مَا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ - مِنْ بَسْطِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ مُوَضَّحَةً بِالْأَمْثِلَةِ مُؤَيِّدَةً بِالدَّلَائِلِ، وَمِنْ إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ بِجَعْلِهَا وَسَطًا بَيْنَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَالنَّصَارَى مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَمِنْ جَعْلِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ مُصْلِحَةً لِأَنْفُسِ الْأَفْرَادِ وَمُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْجَمَاعَاتِ، وَمَنْ جَعْلِ الْحُكُومَةِ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالشَّرِيعَةِ مُسَاوِيَةً بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْمِلَلِ وَالْأَفْرَادِ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ، لَا يُمَيَّزُ فِيهَا إِسْرَائِيلِيٌّ لِنَسَبِهِ وَلَا عَرَبِيٌّ لِحَسَبِهِ، وَلَا يُحَابَى مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يُظْلَمُ كَافِرٌ بِكُفْرِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) 4: 135 وَتَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) 5: 8 وَغَيْرِهِمَا، فَكَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ - وَكَذَا النَّصَارَى - بَعْدَ مَجِيءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْكَامِلَةِ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ، الَّتِي أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَا دِينَهُ الْمُطْلَقَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، أَنْ يَكُونُوا أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مَنْ كُلِّ ذِي عِلْمٍ وَفَنٍّ حَرِيصٍ عَلَى الْكَمَالِ فِيهِ إِذَا جَاءَهُ مَنْ يَفُوقُهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ رَأَى كِتَابًا فِيهِ يَفْضُلُ كُلَّ مَا عَرَفَ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ الْقَوْمِيَّةِ، هِيَ الَّتِي صَدَّتْ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَدَّتْ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَلَا تَسَلْ عَنْ حَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ آمَنَ مِنْ فُضَلَاءَ الْمُعْتَدِلِينَ. وَجُمْلَةُ " وَعُلِّمْتُمْ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتُرْشِدُ إِلَى الْبُرْهَانِ الْمُفَنِّدِ لِزَعْمِهِمْ، وَشَفَعَهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمُلْجِمَ لَهُمْ، ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ الَّذِي كَانَ

يَجِبُ أَنْ يُجِيبُوا بِهِ لَوْ أَنْصَفُوا، وَأَقَرُّوا بِالْحَقِّ وَاعْتَرَفُوا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ وَهُمْ جَاحِدُونَ، لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ وَلَا يُذْعِنُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: اللهُ أَنْزَلَهُ - أَيْ كِتَابَ مُوسَى - ثُمَّ دَعْهُمْ بَعْدَ بَيَانِ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَلْعَبُونَ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ. وَفِي أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْجَوَابِ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، لِمَا فِي الْإِنْكَارِ مِنْ مُكَابَرَةِ النَّفْسِ. وَمَا فِي الِاعْتِرَافِ مِنْ خِزْيِ الْغَلَبِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا يَجْحَدُونَ مِنَ الْحَقِّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِهِمْ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. وَمِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ احْتِجَاجُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِالْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَتَكْرَارِ لَفْظِ (اللهْ، اللهْ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهُمْ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ سَاكِنَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُفِيدًا وَالِاسْمُ الْكَرِيمُ فِي الْآيَةِ مَرْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ حُذِفَ أَحَدُ جُزْأَيْهَا لِقَرِينَةِ السُّؤَالِ الَّتِي هِيَ جَوَابُهُ كَمَا عَلِمْتَ. (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ مَا لَزِمَكُمْ مِنْ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُكْتَبَ وَيُهْتَدَى بِهِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِتَرْقِيَتِهِ تَعَالَى لِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةِ الْبَشَرِ - مَا يَنْسَخُهُ، (وَهَذَا) " أَيِ الْقُرْآنُ " (كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ) ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّفْخِيمِ (أَنْزَلْنَاهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ (مُبَارَكٌ) بَارَكَهُ اللهُ أَوْ بَارَكَ فِيهِ بِمَا فَضَلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، وَبِمَا يَكُونُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى آخِرِ عُمُرِ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ مِنَ " الْبَرَكَةِ " وَهِيَ - بِالتَّحْرِيكِ - النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَةُ النَّافِعَةُ كَبِرْكَةِ الْمَاءِ. وَمِنْ مَعَانِي الْمَادَّةِ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقْرَارُ كَبَرْكِ الْبَعِيرِ. (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وَهُوَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ مُصَدِّقٌ لِإِنْزَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِكُلِّ مَا يُعْزَى إِلَيْهَا بِالتَّفْصِيلِ وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ بَعْضُ الْكُتُبِ بِأَسْمَائِهَا وَالصُّحُفِ مُضَافَةً إِلَى أَصْحَابِهَا، وَذَكَرَ بَعْضَ قَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، عَلَى أَنَّهُ أُنْزِلَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، نَاعِيًا عَلَى بَعْضِ أَهْلِهَا تَحْرِيفَهُمْ لَهَا، وَنِسْيَانَهُمْ لِحَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَمَا قَبْلَهَا. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ " مُبَارَكٍ " عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ خَيْرُهُ، دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هُوَ بِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فَهُوَ أَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ أَوْ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ انْتَهَى. أَيْ عِلْمِ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِهِ

92

فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مَنْ يَضَعُونَ جُلَّ أَوْقَاتِهِمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ بِعُلُومِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا يَعُدُّونَ الرَّازِيَّ الْإِمَامَ الْمُطْلَقَ فِيهَا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَيَهْتَدُونَ بِهِ، وَيَطْلُبُونَ السَّعَادَةَ مِنْ فَيْضِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا بِكَمَالِ التَّخَلُّقِ بِهِ. (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تَقَدَّمَهُ وَلِلْإِنْذَارِ، وَاخْتَارَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ كَوْنَهُ عَطْفًا عَلَى صَرِيحِ الْوَصْفِ أَيْ كِتَابٌ مُبَارَكٌ وَكَائِنٌ لِلْإِنْذَارِ لِأَنَّ عَطْفَ الظَّرْفِ عَلَى الْمُفْرَدِ كَثِيرٌ فِي بَابَيِ الْخَبَرِ وَالصِّفَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ كَفِعْلِ التَّبْشِيرِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِنْذَارَ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وَجَرَى الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ أَيْ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى أَنْزَلْنَاهُ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " وَلِيُنْذِرَ " بِالْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ إِلَى الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا بِالِاتِّفَاقِ، كُنِّيَتْ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَهْلِ الْقُرَى، أَيِ الْبِلَادِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا النَّاسُ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، أَوْ لِأَنَّهَا حَجُّهُمْ وَمُجْتَمَعُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرَى شَأْنًا فِي الدِّينِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا كَالْأُمِّ، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخِيرِ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا بِوَحْيٍ صَرِيحٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ حَوْلَهَا) أَهْلُ الْأَرْضِ كَافَّةً كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُقَوِّيهِ تَسْمِيَتُهَا بِأُمِّ الْقُرَى وَنَحْنُ نَعْلَمُ الْآنَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ اللهِ فِيهَا، فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا وَالْبَعِيدَةِ عَنْهَا فَهَذَا مِصْدَاقُ كَوْنِهِمْ حَوْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ حَوْلَهَا بِلَادُ الْعَرَبِ فَخَصَّهُ بِمَنْ قَرُبَ مِنْهَا عُرْفًا، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةٌ بِقَوْمِهِ الْعَرَبِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ وَإِنْ سَلِمَ التَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّ إِرْسَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَوْمِهِ لَا يُنَافِي إِرْسَالَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ بَعْثَتِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) 18 أَيْ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ هِدَايَتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) 34: 28. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أَيْ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَوِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ إِيمَانًا إِذْعَانِيًّا صَحِيحًا أَوِ اسْتِعْدَادِيًّا قَوِيًّا سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ إِذَا بَلَغَهُمْ أَوْ إِذَا بَلَغَهُمْ دَعْوَتُهُ ; لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهِدَايَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا فِي مَفَازَةٍ مِنْ مَجَاهِلِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَهْلِكُونَ جَاءَهُمْ رَجُلٌ بِكِتَابٍ

فِي عِلْمِ خَرْتِ الْأَرْضِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ، فِيهِ بَيَانُ مَكَانِهِمْ وَبَيَانُ أَقْرَبِ السُّبُلِ لِمَنْجَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَلَبَّثُونَ بِقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يَشْعُرُونَ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ أَوْ تَصْرِيحٌ بِسَبَبِ إِعْرَاضِ جُمْهُورِ أَهْلِ مَكَّةَ الْأَعْظَمِ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ. وَبَالَغَ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَتَرْكِ رِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لَيْسَ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي الثَّوَابِ وَالرَّهْبَةَ مِنَ الْعِقَابِ، وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمَّا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْحَسَدِ وَتَرْكُ الرِّيَاسَةِ فَلَا جَرَمَ يَبْعُدُ قَبُولُهُمْ لِهَذَا الدِّينِ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اهـ. وَيُعْلَمُ وَجْهُ الْمُبَالَغَةِ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْجُمْلَةَ الشَّرِيفَةَ (وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) يُؤَدُّونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مُقِيمِينَ لِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي ذَلِكَ حَتْمًا، وَخُصَّتِ الصَّلَاةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ غَيْرَهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِمَادَ الدِّينِ وَرَأْسَ الْعِبَادَاتِ وَمُمِدَّةَ الْإِيمَانِ بِالتَّقْوِيَةِ وَكَمَالِ الْإِذْعَانِ، كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا دَاعِيَةً إِلَى الْقِيَامِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَنْصُوصَةِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ عَلَى الشُّبُهَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

93

هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ وَعِيدِ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَادَّعَى الْوَحْيَ أَوِ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، قَفَّى بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْوَحْيِ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى وَمُتَعَلِّقِ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَإِثْبَاتِ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرُوا إِنْزَالَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ بَشَرٌ. كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِإِنْزَالِهَا عَلَى مُوسَى وَهُوَ بَشَرٌ، عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَجُعِلَ مُكَمِّلًا وَخَاتِمًا لِلْأَدْيَانِ. وَهَذَا الْوَعِيدُ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِصِدْقِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَمَا يَتْبَعُهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِاللهِ وَخَشْيَةً لَهُ، وَإِيمَانًا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ - وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ - مِمَّنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الظُّلْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ؟ قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ الِاخْتِلَاقُ عَلَيْهِ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُ وَالْعَزْوِ إِلَيْهِ، أَوْ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْآيَةَ 21) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِهَا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) 144 وَهُوَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْوَحْيَ كَذِبًا. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَأَشْبَهُ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَةُ يُونُسَ ; فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) 10: 15 - 17 وَقَدْ فَسَّرَ الْآلُوسِيُّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ هُنَا بِإِنْكَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا. (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) جَعَلَ بَعْضُهُمْ " أَوْ " هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) 11: 87 وَقَوْلِ الشَّاعِرِ " عَلَيْهَا تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا " فَيَكُونُ الْعَطْفُ فِيهِ لِتَفْسِيرِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَنُعَقِّبُ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَأْتِي بِـ " أَوْ " وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْلٍ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ

عِلْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ ادِّعَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ آيَةُ الْأَنْعَامِ (144) وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، كَأَنْ يُرَادَ بِالِافْتِرَاءِ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَحْيِ، وَبِالثَّانِي ادِّعَاءُ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ. قَالُوا: نَزَلَ هَذَا فِي الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ مِنَ الْعَرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ تَخْصِيصُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ مَنْ ذُكِرَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ ادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَثْنَاءِ مَرَضِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِمَرَضِهِ وَثَبَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ، وَطُلَيْحَةُ فِي بَنِي أَسَدٍ فَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَارِيخِهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَعِيدِ فَرْضُ وُقُوعِ الذَّنْبِ أَوْ تَوَقُّعِهِ، وَنَاهِيكَ بِوَعِيدِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ جَلَّ وَعَزَّ. (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ أَوِ ادَّعَى الْوَحْيَ مِنْهُ، وَمِمَّنِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْزَالِ مِثْلِ مَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ، كَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) 8: 31 وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِنَّهُ شِعْرٌ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ أَسْلَمَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَكَانَ إِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ " سَمِيعًا عَلِيمًا " كَتَبَ هُوَ " عَلِيمًا حَكِيمًا " وَالْعَكْسُ، فَشَكَّ وَكَفَرَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ اللهُ يُنْزِلُهُ فَقَدْ أَنْزَلْتُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ. وَهَذَا تَمْثِيلُ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ لِمَا كَانَ يُغَيِّرُهُ مِنْ عِبَارَةِ الْوَحْيِ، وَعِبَارَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " فَيَكْتُبُ " غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بَاطِلَتَانِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ " سَمِيعًا عَلِيمًا " وَلَا " عَلِيمًا حَكِيمًا " وَلَا " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " إِلَّا فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " مِنْهَا وَثِنْتَيْنِ بَعْدَهَا مَدَنِيَّاتٌ (كَمَا فِي الْإِتْقَانِ) وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ ": (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) 23: 12 - فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) 14 عَجِبَ عَبْدُ اللهِ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " هَكَذَا أَنْزِلَتْ عَلَيَّ " فَشَكَّ حِينَئِذٍ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ،

وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. وَيُقَالُ فِيهَا مِثْلُ مَا قِيلَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ، فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " وَأَنَّ بَيْنَهُمَا 18 سُورَةً مَكِّيَّةً، وَمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَالرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ خَاطِرُهُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ جَائِزٌ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ الْيَوْمَ بِقِرَاءَةِ الْخَوَاطِرِ. وَرَوَوْا مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ مُعَاذٌ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا ارْتَدَّ كَانَ يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ عَنْهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً ; فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي عَهْدِ كِتَابَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِي الْقُرْآنِ تَصَرُّفًا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَكَّ فِي الْوَحْيِ لِأَجْلِهِ لَمَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يُعَدُّ مَنْ وُصِفُوا فِي الْآيَةِ أَشَدَّهُمْ ظُلْمًا وَأَفْحَشَهُمْ جُرْمًا فَقَالَ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) إِلَخْ. الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ثُمَّ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ، وَجَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ، وَالْغَمَرَاتُ جَمْعُ غَمْرَةٍ. قِيلَ: هِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمَرَّةُ مِنْ غَمَرَهُ الْمَاءُ إِذَا غَطَّاهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِلشِّدَّةِ وَعَلَيْهِ الشِّهَابُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْغَمْرِ إِزَالَةُ أَثَرِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ أَثَرَ سَيْلِهِ غَمْرٌ وَغَامِرٌ، وَالْغَمْرَةُ مُعْظَمُ الْمَاءِ السَّاتِرَةُ لِمَقَرِّهَا وَجُعِلَ مَثَلًا لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تَغْمُرُ صَاحِبَهَا، وَقِيلَ: لِلشَّدَائِدِ غَمَرَاتٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى لَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَعْلَمُ إِذْ يَكُونُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ أَوْ جِنْسُ الظَّالِمِينَ الشَّامِلُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَهِيَ سَكَرَاتُهُ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ غَمَرَاتُ الْمَاءِ بِالْغَرْقَى (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ، أَوْ بَاسِطُوهَا لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ بِالْعُنْفِ وَالضَّرْبِ، كَمَا قَالَ: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) 47: 27 وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ بَسْطُ الْيَدِ بِمَعْنَى الْإِيذَاءِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) 5: 11 فَإِنَّ أَكْثَرَ الْإِيذَاءِ الْعَمَلِيِّ يَكُونُ بِمَدِ الْيَدِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِيذَاءٌ مُعَيَّنٌ ذُكِرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) 5: 28 الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ لِتَعْذِيبِهِمْ أَوْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَخْرِجُوهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ - فَهُوَ أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهَكُّمٍ، أَوْ أَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَبْضِ أَرْوَاحِ الظَّلَمَةِ بِفِعْلِ الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ

بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِيُعَنِّفَهُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَلَا أَرِيمُ (أَيْ لَا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى أَنْزِعَهُ مِنْ أَحْدَاقِكَ) . وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ كِنَايَةً عَنِ الْعُنْفِ فِي السِّيَاقِ، وَالْإِلْحَاحِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْإِرْهَاقِ، مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَلَا إِمْهَالٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ بَسْطُ يَدٍ وَلَا قَوْلُ لِسَانٍ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ لُغَةً لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَكَانَ يَكُونُ مُتَعَيِّنًا لَوْ كَانَ صُدُورُ مَا ذُكِرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مُتَعَذِّرًا، وَلَوْ كُشِفَ لِصَاحِبَيِ الْكَشَّافِ وَالْكَشْفِ الْحِجَابُ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَائِكَةِ لِلْبَشَرِ بِمِثْلِ صُوَرِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ كَلَامِهِمْ، لَرَأَيَا أَنَّهُمَا فِي مَنْدُوحَةٍ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّمْثِيلِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُمْكِنَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا مَعْدُولَ عَنْهَا. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ تَتِمَّتُهُ هُنَا. وَالْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الْمَحْدُودُ بِصِفَةٍ أَوْ عَمَلٍ يَقَعُ فِيهِ كَأَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي تَحْدِيدِ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُبْعَثُ النَّاسُ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَقْتُ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي بَسْطِ الْيَدِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ الْآخَرُ إِلَّا إِذَا صَحَّ جَعْلُ وَقْتِ الْمَوْتِ مَبْدَأَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: الْيَوْمَ تَلْقَوْنَ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ. لَا ظُلْمًا مِنَ الرَّحْمَنِ، بَلْ جَزَاءَ ظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ مُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ كَقَوْلِ بَعْضِكُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَزَعْمِ بَعْضٍ آخَرَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَجَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ لِمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَاتِّخَاذِ أَقْوَامٍ لَهُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَاسْتِكْبَارِ آخَرِينَ عَمَّا نَصَّهُ وَأَنْزَلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، احْتِقَارًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَرَّمَهُ اللهُ بِإِظْهَارِهَا عَلَى يَدِهِ وَلِسَانِهِ، وَخَشْيَةِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ تَعْيِيرِ عُشَرَائِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ بِهَذَا مَا يَحِلُّ بِالظَّالِمِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِمَّا ذُكِرَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَذَابًا أَلِيمًا. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا مَا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَا تَقُولُهُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ كَمَا جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيُّ أَحَدَ وَجْهَيْنِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى، غَافِلًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خَلَقْنَاكُمْ) وَلَا يُنَافِي هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) 2: 174 لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ تَكْرِيمٍ وَرِضًا،

94

أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُتَفَرِّقِينَ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ أَوْ وُحْدَانًا مُنْفَرِدِينَ عَنِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مُجَرَّدِينَ مِنَ الْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُلْفًا، أَكَّدَ تَعَالَى الْخَبَرَ بِمَجِيئِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ وُقُوعِهِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ جُحُودِهِمْ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِمُشَابَهَةِ بَعْثِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَهُوَ الْمَثَلُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ رَبِّهِمْ (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ) " أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَمَّا التَّخْوِيلُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ كَالْعَبِيدِ وَالنَّعَمِ، وَيُعَبَّرُ بِالتَّرْكِ وَرَاءَ الظَّهْرِ عَمَّا فَاتَ الْإِنْسَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، لِفَقْدِهِ إِيَّاهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَبِالتَّقْدِيمِ بَيْنَ الْأَيْدِي عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ مَا كَانَ شَاغِلًا لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللهَ فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمُ الِافْتِدَاءُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، إِنْ صَحَّ قَوْلُ الرُّسُلِ: إِنَّ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِسَابًا وَجَزَاءً فِي حَيَاةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ وَأَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ) فَإِنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى قَاعِدَتِي الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا، أَيْ وَمَا نُبْصِرُ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَخِيَارِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ - أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، تَدْعُونَهُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، بِتَأْثِيرِهِمْ فِي إِرَادَتِهِ، وَحَمْلِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ فِي الْأَزَلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمُ) الْبَيْنُ الصِّلَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمُمْتَدَّةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، فَيُضَافُ دَائِمًا إِلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) 49: 10 (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) 49: 9 أَوِ الْجَمْعِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) 4: 114 وَلَا يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ نَحْوَ (هَذَا فَرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) 18: 78 (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) 41: 5 وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ ظَرْفًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَفِي الْقَلِيلِ اسْمًا، وَقَدْ قَرَأَهُ هَنَا عَاصِمٌ وَحَفْصٌ عَنْهُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ تَقَطَّعَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ مِنْ صِلَاتِ النَّسَبِ وَالْمُلْكِ وَالْوَلَاءِ وَالْخُلَّةِ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ

بَيْنَكُمْ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ قَالُوا: أَيْ تَقْطَعُ وَصْلُكُمْ أَوْ تَوَاصُلُكُمْ (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ وَغَابَ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنْ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ، وَتَقْرِيبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَوْهَامِ الْفِدَاءِ، إِذْ عَلِمْتُمْ بُطْلَانَ غُرُورِكُمْ بِهِ وَاعْتِمَادِكُمْ عَلَيْهِ، أَوْ ضَلَّ عَنْكُمُ الشُّفَعَاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ، فَفِي الْكَلَامِ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ، فَإِنَّ تَقَطُّعَ الْبَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ مَا خُوِّلُوا، وَفَقْدَ الشَّفَاعَةِ أَوِ الشُّفَعَاءِ رَاجِعٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ آمَالَهُمْ خَابَتْ فِي كُلِّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ وَيَتَوَهَّمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الْآيَاتِ (20 - 24) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ. (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . هَذِهِ طَائِفَةٌ مِنْ آيَاتِ التَّنْزِيلِ، مُبَيِّنَةٌ وَمُفَصِّلَةٌ لِطَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ، تَدُلُّ أَوْضَحَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، جَاءَتْ

95

تَالِيَةً لِطَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةِ: التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ وَالرِّسَالَةُ، فَهِيَ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ فِي إِثْبَاتِهَا، وَكَمَالِ بَيَانٍ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، بِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سَنَّنِهِ وَحِكَمِهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النَّيِّرَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَنْوَاعِ حُجَجِهِ وَدَلَائِلِهِ فِي أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) الْفَلْقُ وَالْفَرْقُ وَالْفَتْقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلشَّقِّ - وَنَحْوُهُ الْفَأْوُ وَالْفَأْيُ وَالْفَتُّ وَالْفَتْحُ وَالْفَجْرُ وَالْفَرْزُ وَالْفَرْسُ وَالْفَرْصُ وَالْفَرْضُ وَالْفَرْيُ وَالْفَصْلُ وَأَشْبَاهُهَا - وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) 2: 50 مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) 26: 63 وَمِنْ أَسْمَاءِ الصُّبْحِ الْفَلَقُ - بِالتَّحْرِيكِ - وَالْفَتَقُ - بِالْفَتْحِ - وَالْفَتِيقُ، وَقَوْلُ الرَّاغِبِ: الْفَلُّ شَقُّ الشَّيْءِ وَإِبَانَةُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَالْفَتْقُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَّصِلَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ التَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ قَوْلِهِ. إِنَّ الْفَتْقَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِانْشِقَاقُ وَالْفَلْقُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِانْفِصَالُ. وَفِيهِ أَنَّ مَوَادَّ الْفَلْقِ وَالْفَتْقِ وَالشَّقِّ وَالْفَطْرِ وَمُطَاوَعَتِهَا قَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ فِي بَابِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ خَرَابِ الْعَالَمِ بِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْفَرْقَ اسْتُعْمِلَ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ جَمِيعًا، وَمِنَ الثَّانِي تَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ فُرْقَانًا وَتَلْقِيبُ عَمَرَ بِالْفَارُوقِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَالْحَبُّ بِالْفَتْحِ اسْمُ جِنْسٍ لِلْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَكُونُ فِي السُّنْبُلِ وَالْأَكْمَامِ، وَالْجَمْعُ حُبُوبٌ مِثْلَ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَالْوَاحِدَةُ حَبَّةٌ. وَالْحِبُّ بِالْكَسْرِ بِزْرُ مَا لَا يُقْتَاتُ مِثْلَ بُزُورِ الرَّيَاحِينِ الْوَاحِدَةُ حِبَّةٌ بِالْكَسْرِ. قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ. وَالنَّوَى جَمْعُ نَوَاةٍ وَهِيَ عَجَمَةُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا فِي اللِّسَانِ، وَالْعَجَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَكُونُ فِي دَاخِلِ التَّمْرَةِ وَالزَّبِيبَةِ وَنَحْوِهَا، وَجَمْعُهَا عَجَمٌ وَقِيلَ: إِنَّ النَّوَى إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى عَجَمِ التَّمْرِ، فَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهُ قُيِّدَ فَقِيلَ نَوَى الْخَوْخِ وَنَوَى الْمِشْمِشِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْقَرِينَةِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ هُوَ فَالِقُ مَا تَزْرَعُونَ مِنْ حَبِّ الْحَصِيدِ وَنَوَى الثَّمَرَاتِ، وَشَاقَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ الَّذِي رَبَطَ بِهِ أَسْبَابَ الْإِنْبَاتِ بِمُسَبِّبَاتِهَا. وَمِنْهَا جَعْلُ الْحَبِّ وَالنَّوَى فِي التُّرَابِ وَإِرْوَاءُ التُّرَابِ بِالْمَاءِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَلْقِ هُنَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أَيْ يُخْرِجُ الزَّرْعَ مِنْ نَجْمٍ وَشَجَرٍ وَهُوَ حَيٌّ - أَيْ مُتَغَذٍّ نَامٍ - مِنَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا لَا يَتَغَذَّى وَلَا يُنَمَّى مِنَ التُّرَابِ، وَكَذَا الْحَبُّ وَالنَّوَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْبُزُورِ كَمَا يَخْرُجُ الْحَيَوَانُ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالنُّطْفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ عُلَمَاءَ الْمَوَالِيدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي كُلِّ أُصُولِ الْأَحْيَاءِ حَيَاةً، فَكُلُّ مَا يُنْبِتُ مِنْ ذَلِكَ ذُو حَيَاةٍ كَامِنَةٍ إِذَا عَقِمَ بِالصِّنَاعَةِ لَا يُنْبِتُ. قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ لَهُمْ، يُسَمُّونَ الْقُوَّةَ أَوِ الْخَاصِّيَّةَ

الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْحَبُّ قَابِلًا لِلْإِنْبَاتِ حَيَاةً، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْحَيَاةِ فِي اللُّغَةِ مَا يَكُونُ بِهِ الْجِسْمُ مُتَغَذِّيًا نَامِيًا بِالْفِعْلِ وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَهَا مَرَاتِبُ أُخْرَى كَالْإِحْسَاسِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَهَذِهِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ فِي الْمَخْلُوقِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ حَيَاةُ الْخَالِقِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ كُلِّ حَيَاةٍ وَحِكْمَةٍ وَنِظَامٍ فِي الْكَوْنِ. وَمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْحَقِيقَةُ أَظْهَرُ مِنْ مُقَابَلَهِ، وَهُوَ جَعْلُ إِطْلَاقِ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَبِّ وَالنَّوَى مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ آيَاتُ حَيَاتِهِ الْكَامِنَةِ مِنَ النَّمَاءِ وَغَيْرِهِ سُمِّيَ مَيِّتًا ; فَإِنَّ وَاضِعِي اللُّغَةِ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي الْحَبِّ وَالنَّوَى صِفَةً هِيَ مَصْدَرُ النَّمَاءِ قَدْ تَزُولُ فَلَا يَبْقَى قَابِلًا لِلْإِنْبَاتِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ كُلًّا مِنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ هُنَا مَجَازًا، وَيَرُدُّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) 21: 30 (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كَالْحَبِّ وَالنَّوَى مِنَ النَّبَاتِ وَالْبَيْضَةِ وَالنُّطْفَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا قِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " فَالِقِ الْحَبِّ " لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ أَنْ يُعْطَفَ الِاسْمُ عَلَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّ إِخْرَاجَ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لَا يَدْخُلُ فِي بَيَانِ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَقِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ " سَوَاءٌ كَانَ بَيَانًا لِمَا قَبْلَهُ أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، لِأَنَّ التَّنَاسُبَ بَيْنَ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ أَقْوَى مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الثَّانِي وَبَيْنَ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى ; وَلِذَلِكَ وَرَدَا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالرُّومِ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) 10: 31، 30: 19 وَقَدْ حَسُنَ عَطْفُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى فِعْلِ الْمُضَارِعِ، فَإِنَّ مُخْرِجَ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَقَدْ يُرَادُ بِوَضْعِهِ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ مَوْضِعِ الْفِعْلِ الْمَاضِي إِفَادَةُ تَجَدُّدِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، أَوْ تَصَوُّرِ حُدُوثِ مُتَعَلِّقِهِ وَاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: الْمُقَابَلَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ) 35: 3 وَقَوْلُهُ: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) 18: 18 فَصِيغَةُ الْفِعْلِ فِي " يَرْزُقُكُمْ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ حَالًا فَحَالَا وَسَاعَةً فَسَاعَةً، وَصِيغَةُ الِاسْمِ فِي بَاسِطٍ ذِرَاعَيْهِ تُفِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) 22: 63 جَعَلَ " فَتُصْبِحُ " مَوْضِعَ " فَأَصْبَحَتْ " لِإِفَادَةِ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْجَمِيلَةِ وَتَمَثُّلِهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْمُضَارِعِ قِيلَ بِأَنَّهُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الْقَائِلُ بِالْأَوَّلِ هُوَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَالْقَائِلُ بِالْآخَرِ هُوَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ عَلَى الْكَشَّافِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَعْلِيلِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَعْنَى: إِنَّ الْعِنَايَةَ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنَ الْعِنَايَةِ بِإِخْرَاجِ

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْقُدْرَةِ مِنَ الثَّانِي وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْحَالَيْنِ وَالنَّظَرُ أَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ ; فَلِهَذَا كَانَ جَدِيرًا بِالتَّصَوُّرِ وَالتَّأْكِيدِ فِي النَّفْسِ وَبِالتَّقْدِيمِ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ فِي " دُرَّةِ التَّنْزِيلِ " إِلَى جَعْلِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ لَفْظِيًّا مَحْضًا. وَمُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ: " وَمُخْرِجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ " لِمُنَاسَبَةِ " فَالِقِ الْحَبِّ " الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ عَدَلَ عَنْ " وَمُخْرِجُ " الْمُبْدَأِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى " يُخْرِجُ " الَّتِي بِمَعْنَاهَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " لِمُنَاسَبَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّ " وَالنَّوَى " بُدِئَتْ بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَخُتِمَتْ بِهَا، فَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " تَتَكَرَّرُ الْوَاوُ الْمَفْتُوحَةُ تَكْرَارًا مُسْتَثْقَلًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَمِثْلُهُ إِخْرَاجُ الْبَارِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحِ مِنَ الطَّالِحِ وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَعَكْسِهِ بِحَمْلِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ مِنْهُمَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) 122 وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا السِّيَاقَ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ آيَتِي آلَ عِمْرَانَ " 3: 27 " وَيُونُسَ " 10: 31 " فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْأُولَى فِي ص 226 ج 3 ط الْهَيْئَةِ. (ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ ذَلِكَ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ مُقْتَضَى الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَلْقِ نَوَاةٍ وَلَا حَبَّةٍ، وَلَا إِحْدَاثِ سُنْبُلَةٍ وَلَا نَخْلَةٍ؟ . (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) جَمَعَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ آيَاتٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَعْدَ الْجَمْعِ فِيمَا قَبْلَهَا بَيْنَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَرْضِيَّةٍ (فَالْآيَةُ الْأُولَى) فَلْقُ الْإِصْبَاحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّبْحُ وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ " أَصْبَحَ الرَّجُلُ " إِذَا دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحِ ... تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ. بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - مَصْدَرَيْنِ، وَجَمْعُ مَسَاءٍ وَصُبْحٍ، وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ فَلْقِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَشَقِّهَا بِعَمُودِ الصُّبْحِ الَّذِي يَبْدُو فِي جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأُفُقِ مُسْتَطِيلًا، فَلَا يُعِيدُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَطِيرًا، تَتَفَرَّى الظُّلْمَةُ عَنْهُ مِنْ أَمَامِهِ وَعَنْ جَانِبَيْهِ إِلَى أَنْ تَنْقَشِعَ وَتَزُولَ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ فَجْرًا فَإِنَّ الْفَجْرَ بِمَعْنَى الْفَلْقِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الشَّمْسِ

الَّذِي يَتَقَدَّمُهَا ; إِذْ هُوَ خَالِقُهَا وَمُقَدِّرُ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنْهَا فِي سَيْرِهَا، كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَةِ الْأَوْلَى التَّأَمُّلُ فِي صُنْعِ اللهِ بِفَرْيِ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، عَنْ صُبْحِهِ إِذَا تَنَفَّسَ، وَإِفَاضَةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ جَمَالِ الْوُجُودِ، وَمَبْدَأُ زَمَنِ تَقَلُّبِ الْأَحْيَاءِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُضِيِّهِمْ فِي تَجَلِّي النَّهَارِ إِلَى مَا يُسِّرُوا لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنْ نِعَمٍ وَحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِفَائِدَتِهَا، وَهِيَ آيَةُ اللَّيْلِ يَجْعَلُهُ اللهُ سَكَنَا، فَهَذَا الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَعْلُ النَّهَارِ وَقْتًا لِلْحَرَكَةِ بِالسَّعْيِ لِلْمَعَاشِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْمَعَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَوْعَيِ الْفَائِدَتَيْنِ فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 28: 73 فَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا جَامِعَةٌ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَفِيهَا اللَّفُّ وَالنَّشْرُ، أَيْ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْ فَضْلِ اللهِ فِي النَّهَارِ، وَلِيُعِدَّكُمْ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ بِهِمَا، وَبِمَنَافِعِكُمْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِذِكْرِهِمَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) 78: 10، 11 وَمِنْهَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدِّينِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) 25: 62 فَيَا لَلَّهِ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ، فِي اخْتِلَافِ عِبَارَتِهِ! ! . قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ " وَجَعَلَ اللَّيْلَ " بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ " وَجَاعِلُ " وَرَسْمُهُمَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، وَالْأُولَى تُقَوِّي جَانِبَ الْإِعْرَابِ ; فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى اللَّيْلِ مَنْصُوبَانِ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ، وَلَا يَظْهَرُ نَصْبُهُمَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ جَعَلَ، أَوْ جَعَلَ " جَاعِلُ " بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ يُجْتَنَبُ فِي الْفَصِيحِ. وَالثَّانِيَةُ تَنَاسِبُ السِّيَاقَ وَالنَّسَقَ بِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُخْرَجُ عَنْهُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. فَبِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ زَالَ التَّكَلُّفُ وَتَمَّ التَّنَاسُبُ، فَيَا لَلَّهِ مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ فِي عِبَارَتِهِ، وَاخْتِلَافِ قِرَاءَتِهِ! ! . وَالسَّكَنُ - بِالتَّحْرِيكِ - السُّكُونُ وَمَا يُسْكَنُ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ كَالْبَيْتِ وَزَمَانٍ كَاللَّيْلِ، وَكَذَا مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْكَشَّافُ هُنَا قَالَ: السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ أَيْ وَغَيْرُهُ وَيَطْمَئِنُّ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا، أَلَا تَرَاهُمْ سُمَّوْهَا الْمُؤْنِسَةَ، وَاللَّيْلُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ بِالنَّهَارِ لِاسْتِرَاحَتِهِ فِيهِ وَجِمَامِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ مَسْكُونًا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) انْتَهَى. وَهَذَا الْأَخِيرُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَهُ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَدَلِيلُ التَّرْجِيحِ نَصُّ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) وَكَوْنُ الْمَسْكُونِ فِيهِ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْمَسْكُونِ إِلَيْهِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَوْحِشُونَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَأْنَسُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرِينَ أَيَادٍ جَلِيَّةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ،

تَنْقُضُ مَذْهَبَ الْمَانَوِيَّةِ، فَيَسْتَطِيلُهُ الْمَرْضَى وَالْمَهْمُومُونَ وَالْمَهْجُورُونَ، وَيَسْتَقْصِرُهُ الْعَابِدُونَ الْوَاصِلُونَ، وَالْعَاشِقُونَ الْمَوْصُولُونَ، فَذَلِكَ يَقُولُ مَا أَطْوَلَهُ وَيَطْلُبُ انْجِلَاءَهُ، وَهَذَا يَقُولُ مَا أَقْصَرَهُ وَيَتَمَنَّى بَقَاءَهُ: يَوَدُّ أَنَّ سَوَادَ اللَّيْلِ دَامَ لَهُ ... وَزِيدَ فِيهِ سَوَادُ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّكُونِ فِيهِ مَا يَعُمُّ سُكُونَ الْجِسْمِ وَسُكُونَ النَّفْسِ. أَمَّا سُكُونُ الْجِسْمِ فَبِرَاحَتِهِ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ، وَأَمَّا سُكُونُ النَّفْسِ فَبِهُدُوءِ الْخَوَاطِرِ وَالْأَفْكَارِ، وَاللَّيْلُ زَمَنُ السُّكُونِ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ فِيهِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ مَا يَتَيَسَّرُ فِي النَّهَارِ، لِمَا خُصَّ بِهِ الْأَوَّلُ مِنَ الْإِظْلَامِ وَالثَّانِي مِنَ الْإِبْصَارِ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ) 17: 12 فَأَكْثَرُ الْأَحْيَاءِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ تَتْرُكُ الْعَمَلَ وَالسَّعْيَ فِي اللَّيْلِ وَتَأْوِي إِلَى مَسَاكِنِهَا ; لِلرَّاحَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ وَتَكْمُلُ إِلَّا بِالنَّوْمِ الَّذِي تَسْكُنُ بِهِ الْجَوَارِحُ وَالْخَوَاطِرُ بِبُطْلَانِ حَرَكَتِهَا الْإِرَادِيَّةِ، كَمَا تَسْكُنُ بِهِ الْأَعْضَاءُ الرَّئِيسِيَّةُ سُكُونًا نِسْبِيًّا بِقِلَّةِ حَرَكَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ، فَتَقِلُّ نَبَضَاتُ الْقَلْبِ بِوُقُوفِهَا بَيْنَ كُلِّ نَبْضَتَيْنِ، وَيَقِلُّ إِفْرَازُ خَلَايَا الْجِسْمِ لِلسَّوَائِلِ وَالْعُصَارَاتِ الَّتِي تُفْرِزُهَا، وَيُبْطِئُ التَّنَفُّسُ وَيَقِلُّ ضَغْطُ الدَّمِ فِي الشَّرَايِينِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ النَّوْمِ إِذْ تَكُونُ الْحَاجَةُ إِلَى الرَّاحَةِ بِهِ عَلَى أَشُدِّهَا، وَيَضْعُفُ الشُّعُورُ حَتَّى يَكَادَ يَكُونُ مَفْقُودًا، فَيَسْتَرِيحُ الْجِهَازُ الْعَصَبِيُّ وَلَا سِيَّمَا الدِّمَاغُ وَالْحَبْلُ الشَّوْكِيُّ، وَتَسْتَرِيحُ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ بِاسْتِرَاحَتِهِ، وَنَقْلُ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَنْحَلُّ مِنَ الْبَدَنِ وَتَكْثُرُ الدَّقَائِقُ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنَ الدَّمِ لِتَحِلَّ مَحَلَّهَا. وَإِنَّمَا تَكْثُرُ الْفَضَلَاتُ وَانْحِلَالُ الذَّرَّاتِ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَالْعَمَلُ الْعَقْلِيُّ يُجْهِدُ الدِّمَاغَ، وَالْعَضَلِيُّ يُجْهِدُ الْأَعْضَاءَ الْعَامِلَةَ، فَتَزْدَادُ الْحَرَارَةُ وَيَكْثُرُ الِاحْتِرَاقُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَتَكُونُ الْحَاجَةُ إِلَى الرَّاحَةِ بِالنَّوْمِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِّلَ النَّوْمُ تَعْلِيلَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمَّا يَصِلِ الْعُلَمَاءُ إِلَى كَشْفِ سِرِّهِ وَاسْتِجْلَاءِ كُنْهِ سَبَبِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ الْكَوْنِيَّةُ فِي الْآيَةِ فَهِيَ جَعْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا أَيْ عَلَمَيْ حِسَابٍ، لِأَنَّ طُلُوعَهُمَا وَغُرُوبَهُمَا وَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَحَوُّلَاتِهِمَا وَاخْتِلَافِ مَظَاهِرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) 55: 5 فَمَا هُنَا بِمَعْنَى آيَةِ الْإِسْرَاءِ (17: 12) الَّتِي ذَكَرْتُ آنِفًا وَآيَةِ يُونُسَ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) 10: 5 فَالْحِسَابُ بِالْكَسْرِ وَالْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ مَصْدَرَانِ لِحَسَبَ يَحْسُبُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْعَدَدِ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا الْحِسْبَانُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ حَسِبَ (بِوَزْنِ عَلِمَ) وَفَضْلُ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ ; فَإِنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حِسَابِ الْأَوْقَاتِ لِعِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَعِنْدَ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَعُلَمَاءُ الْفَلَكِ وَالتَّقَاوِيمِ مُتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ

96

عَلَى أَنَّ لِلْأَرْضِ حَرَكَتَيْنِ، حَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي 24 سَاعَةً وَهِيَ مَدَارُ حِسَابِ الْأَيَّامِ، وَحَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي سَنَةٍ وَبِهَا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْفُصُولِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ حِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ، وَلَعَلَّنَا نَشْرَحُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ وَغَيْرِهَا. (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ الْعَالِي الشَّأْنِ، الْبَعِيدُ الْمَدَى فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، فَوْقَ بُعْدِ النَّيِّرَاتِ عَنِ الْإِنْسَانِ، التَّرَتُّبُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ وَتَقْدِيرِ السُّنَنِ الشَّمْسِيَّةِ، وَمِنْ تَشُكُّلَاتِ الْقَمَرِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا الشُّهُورَ الْقَمَرِيَّةَ، هُوَ تَقْدِيرُ الْخَالِقِ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ فِي تَنْظِيمِ مُلْكِهِ، الَّذِي وَضَعَ الْمَقَادِيرَ وَالْأَنْظِمَةَ الْفَلَكِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِمَا اقْتَضَاهُ وَاسِعُ عِلْمِهِ، فَهَذَا النِّظَامُ وَالْإِبْدَاعُ مِنْ آثَارِ عِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) 54: 49. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الْعُلْوِيَّةِ مَقْرُونٌ بِفَائِدَتِهِ فِي تَعْلِيلِ جَعْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ مَا عَدَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ نَيِّرَاتِ السَّمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمَعْهُودُ فِي الِاهْتِدَاءِ، ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي تُرَى صَغِيرَةً بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي النَّيِّرَيْنِ الْأَكْبَرَيْنِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ النُّجُومِ لِأَنَّ الْقَمَرَ مِمَّا يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ بَعْضَ لَيَالِي الشَّهْرِ قُلْنَا: وَأَيُّ نَجْمٍ يُهْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي بَدَاوَتِهَا تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النَّجْمِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالْأَنْوَاءِ، وَهِيَ نُجُومُ الْقَمَرِ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا - وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ - وَقَدْ سَمَّوُا الْوَقْتَ الَّذِي يَجِبُ الْأَدَاءُ فِيهِ " نَجْمًا " تَجُوُّزًا ; لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، ثُمَّ سَمَّوُا الْمَالَ الَّذِي يُؤَدَّى نَجْمًا وَقَالُوا: نَجَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَقْسَاطًا. وَفِي الظُّلُمَاتِ هُنَا وَجْهَانِ ظُلُمَاتُ اللَّيْلِ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَضَافَهُمَا إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا، أَوْ مُشْتَبِهَاتِ الطُّرُقِ شَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ بِالنُّجُومِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ السَّنَةِ، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ وَالْجِهَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الظُّلُمَاتِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " 63 " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَحْدَاثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَأَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحِسَابُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ بِزِينَةِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي هَدَى إِلَيْهَا الْكِتَابُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ تِلْكَ الْأَوْهَامُ الَّتِي يَزْعُمُونَ مَعْرِفَةَ الْغَيْبِ بِهَا دُونَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمٍ آخَرَ، وَقَدِ اتَّسَعَ هَذَا الْعِلْمُ فِي عَصْرِنَا هَذَا بِمَا اسْتَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَرَاصِدِ

97

الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَلِّلَةِ لِلنُّورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا سُرْعَةُ سِيَرِهِ، وَأَبْعَادُ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِسَاحَةُ الْكَوَاكِبِ وَكَثَافَتُهَا وَالْمَوَادُّ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْهَا. وَإِنَّنَا نَقْتَبِسُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ كَلِمَةً فِي أَبْعَادِ بَعْضِ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ الَّتِي هِيَ شُمُوسٌ مِنْ جِنْسِ شَمْسِنَا لِيُعْلَمَ بِهَا قَدْرُ عِلْمِ رَبِّنَا وَسِعَةِ مُلْكِهِ. " النُّجُومُ تُعَدُّ بِالْمَلَايِينِ، لَكِنَّ عُلَمَاءَ الْفَلَكِ لَمْ يَتَمَكَّنُوا حَتَّى الْآنَ إِلَّا مِنْ مَعْرِفَةِ إِبْعَادِ بَعْضِ الْمِئَاتِ مِنْهَا ; لِأَنَّ سَائِرَهَا أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالَّذِي عُرِفَ بُعْدُهُ مِنْهَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَلَّا يُحْسَبَ بُعْدُهُ بِالْأَمْيَالِ، بَلْ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْطَعُهَا النُّورُ فِي سَنَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ النُّورَ يَسِيرُ 86000 مِيلٍ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقْطَعُ فِي الدَّقِيقَةِ 5160000 مِيلٍ، وَفِي السَّنَةِ نَحْوَ 6000000000000 مِيلٍ، وَقَدْ وُجِدَ بِالرَّصْدِ أَنَّ أَقْرَبَ النُّجُومِ مِنَّا لَا يَصِلُ نُورُهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ وَنَحْوِ نِصْفِ سَنَةٍ، فَيُقَالُ إِنَّ بُعْدَهُ عَنَّا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ وَنِصْفُ سَنَةٍ نُورِيَّةٍ. وَمِنَ النُّجُومِ مَا لَا يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَلْفِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى النَّسْرُ الْوَاقِعُ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 180000000000000، وَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى بِالسِّمَاكِ الرَّامِحِ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا 300000000000000 وَأَمَّا الشِّعْرَى الْعَبُورُ وَهُوَ أَسَطَعُ النُّجُومِ نُورًا فَبُعْدُهَا عَنَّا نَحْوُ تِسْعِ سَنَوَاتٍ نُورِيَّةٍ، وَالْعَيُوقُ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 32 سَنَةً نُورِيَّةً. وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَبْعَادَ النُّجُومِ بِالضَّبْطِ الْفَلَكِيُّ (سْتُرُوفُ) فَإِنَّهُ قَاسَ بُعْدَ " النَّسْرِ الْوَاقِعِ مِنْ (سَنَةِ 1835 إِلَى سَنَةِ 1838 مِيلَادِيَّةَ) فَجَاءَتْ نَتِيجَةُ قِيَاسِهِ مُطَابِقَةً لِنَتِيجَةِ الْقِيَاسَاتِ الْحَدِيثَةِ مَعَ أَنَّ الْفَلَكِيِّينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْآنَ مِنَ الْوَسَائِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ " اهـ. وَلَعَلَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ فِي عَالَمِ السَّمَاءِ هِيَ نُكْتَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا آيَاتُ التَّنْزِيلِ أَوْ آيَاتُ التَّكْوِينِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ مُبَيِّنٌ لِطُرُقِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ لِلَّذِينِ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ فِيهِ، فَيَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ بَحْثًا وَعِلْمًا، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ نَامِيًا مُسْتَمِرًّا. وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَوَجْهُهُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَحَكَمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لَا يَسْتَخْرِجُهَا مِنَ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ إِلَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، أَيْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ، الَّذِينَ يَقْرِنُونَ الْعِلْمَ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْحَظِّ، مَا تَمَتَّعَ بِهِ اللَّحْظُ، وَلَا غَايَةَ النَّظَرِ وَالْحِسَابِ، أَنَّ يُقَالَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُقْتَطَفِ بَعْدَ مَقَالَاتٍ لَخَّصَ فِيهَا بَعْضَ " بِسَائِطِ عِلْمِ الْفَلَكِ " -

98

وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا - فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَرَجَّحَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ سَيَّارَاتِهِ لِحَيَاةِ الْبَشَرِ غَيْرُ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَيَّارَاتُ سَائِرِ الشُّمُوسِ كَذَلِكَ، وَكُلُّهَا أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ، قَالَ: " وَالْإِنْسَانُ أَوْسَعُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ إِدْرَاكًا، وَهُوَ عَلَى سَعَةِ إِدْرَاكِهِ لَا يَعْلَمُ تَرْكِيبَ جِسْمِ النَّمْلَةِ، وَلَا كَيْفِيَّةَ تَجَمُّعِ الدَّقَائِقِ فِي حَبَّةِ الرَّمْلِ، عِلْمٌ وَاسِعٌ وَجَهْلٌ مُطْبِقٌ. وَكِلَاهُمَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مُبْدِعَ هَذَا الْكَوْنِ أَعْظَمُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَصَوَّرُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ؟ ". (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِبَعْضِ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ ذَكَّرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِنَا. الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الشَّيْءِ وَتَرْبِيَتُهُ أَوْ إِحْدَاثُهُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّنْزِيلِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِجُمْلَتِهِ وَخَلْقِ أَعْضَائِهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَإِيجَادِ الْأَقْوَامِ وَالْقُرُونِ مِنْ أُمَمٍ بَعْضِهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَفِي الْبَعْثِ، وَفِي خَلْقِ الشَّجَرِ وَالْجَنَّاتِ، وَفِي إِحْدَاثِ السَّحَابِ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَأَنْشَأَ حَدِيثًا وَشِعْرًا وَعِمَارَةً انْتَهَى. وَالنَّفْسُ مَا يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَاتُهُ فَيُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ وَعَلَى الْمَرْءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ. وَالْمُسْتَقَرُّ (بِفَتْحِ الْقَافِ) حَيْثُ يَكُونُ الْقَرَارُ وَالْإِقَامَةُ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) كَمَا قَالَ: (جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا) 27: 61 قَالَ الرَّاغِبُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ يَقِرُّ قَرَارًا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا جَامِدًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ وَهُوَ يَقْتَضِي السُّكُونَ، وَالْحَرُّ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ انْتَهَى. وَالْمُسْتَوْدَعُ مَوْضِعُ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُؤَقَّتًا لِيَأْخُذَهُ بَعْدُ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ إِذَا تَرَكَهُ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ، وَيَكُونُ الثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى الْوَدِيعَةِ، وَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَازِمٌ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ كَقَوْلِ النُّحَاةِ ظَرْفٌ مُسْتَقَرٌّ، أَيْ مُسْتَقَرٌّ فِيهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إِمَّا الرُّوحُ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ الْآخَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَطْوَارِ خَلْقِ الْجَسَدِ: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) 23: 14 وَإِمَّا الذَّاتُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي تَسَلْسَلَ مِنْهُ سَائِرُ النَّاسِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَعَ بَحْثٍ طَوِيلٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَسَيَجِيءُ شِبْهُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي إِنْشَاءِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفِي التَّذْكِيرِ بِهِ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَمِنْ وُجُوبِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّعَاوُنِ

بَيْنَ الْبَشَرِ، وَعَدَمِ جَعْلِ تَفَرُّقِهِمْ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ مَدْعَاةً لِلتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " الْمُسْتَقِرُّ " بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ، فَرَوَى جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ - بِالْفَتْحِ - مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا اسْتُودِعَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي الرَّحِمِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَبَطْنِهَا مِمَّا هُوَ حَيٌّ وَمِمَّا هُوَ قَدْ مَاتَ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: " مُسْتَقَرُّهَا " فِي الدُّنْيَا " وَمُسْتَوْدَعَهَا " فِي الْآخِرَةِ، أَيِ النَّفْسِ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: الْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ قَوْلَ الْحَسَنِ مُفَسِّرًا لَهُ فَقَالَ: الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ، وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ، فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صَدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ. وَذَكَرَ لِلْأَصَمِّ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ الَّذِي لَمَّا يُخْلَقْ بَعْدُ. وَثَانِيهِمَا: الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الْقَافِ أَوِ الْمُسْتَقَرِّ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرًا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ - فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى، فَعَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ ; لِأَنَّ النُّطْفَةَ تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ الرَّحِمَ شِبْهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الشَّاعِرِ. وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ. وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - كَدَأْبِنَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ - إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) 22: 5 الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) 11: 6 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مُسْتَقَرُّهَا " حَيْثُ تَأَوِي، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. وَقَالَ: " مُسْتَقَرُّهَا " فِي الْأَرْحَامِ، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ - الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعِ الْقَبْرُ، وَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ - بِكَسْرِ الْقَافِ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ يَطُولُ عُمُرُهُ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي الدُّنْيَا يُعَمَّرُ

عُمُرًا طَوِيلًا، وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ لَا اسْتِقْرَارَ لَهُ فِيهَا بَلْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ طِفْلًا أَوْ يَافِعًا. وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ قِرَاءَةِ الْفَتْحِ بِهَذَا أَيْ فَمِنْهَا ذُو اسْتِقْرَارٍ وَذُو اسْتِيدَاعٍ. وَآخَرُ مَا خَطَرَ لِي بَعْدَ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ الرُّوحُ - وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ - وَالْمُسْتَوْدَعَ الْبَدَنُ. وَالْجُمْلَةُ مِمَّا يَتَّسِعُ الْمَجَالُ فِيهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالْإِيجَازُ مَقْصُودٌ بِهِ. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أَيْ قَدْ جَعَلْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِسُنَّتِنَا فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُفَصَّلَةً، كُلُّ فَصْلٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَصَّلْنَاهَا كَذَلِكَ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، أَيْ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَمَرْمَاهُ وَيَفْطَنُونَ لِدَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ، فَالْفِقْهُ - وَإِنْ فُسِّرَ بِالْعِلْمِ وَبِالْفَهْمِ - أَخَصُّ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالشَّقِّ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ فَقِهَ وَفَقَأَ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْإِبْدَالَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ كَثِيرٌ وَفَقَأَ الْبَثْرَةَ شَقَّهَا وَسَبَرَ غَوْرَهَا، فَالْفَقْءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْفِقْهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا النَّظَرُ فِي أَعْمَاقِ الشَّيْءِ وَبَاطِنِهِ. فَمَنْ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ظَوَاهِرَ الْكَلَامِ وَلَا يَفْطَنُ إِلَّا لِمَظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ فَقِهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عِلْمُ الشَّرْعِ فِقْهًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ. وَلَمَّا كَانَ اسْتِخْرَاجُ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ مِنْ خَلْقِ الْبَشَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى غَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْآيَاتِ، وَفِطْنَةٍ فِي اسْتِخْرَاجِ دَقَائِقِ الْحِكَمِ وَالْبَيِّنَاتِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْفِقْهِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَالِاهْتِدَاءُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى دِقَّةِ النَّظَرِ وَلَا غَوْصِ الْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ مَظَاهِرِ عِلْمِ الْفَلَكِ ; فَلِذَلِكَ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ بِالتَّعْبِيرِ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ لِمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ دِقَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ كَظَوَاهِرِهِ، وَلِعِبَرِهِ كَدَقَائِقِهِ. وَقَدْ فَطَنَ لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وَمَا أَجْدَرَهُ بِهِ - فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) لِمَ قِيلَ " يَعْلَمُونَ " مَعَ ذِكْرِ النُّجُومِ، وَ (يَفْقَهُونَ) مَعَ ذِكْرِ إِنْشَاءِ بَنِي آدَمَ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ إِنْشَاءَ الْإِنْسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَتَصْرِيفِهِمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالُ فِطْنَةٍ وَتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطَابِقًا لَهُ انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ صِنَاعِيٌّ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ لِلتَّفَنُّنِ. وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْفِقْهَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْفَهْمِ، وَمَا بُنِيَ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ، وَأَيْنَ هُوَ فِي فَهْمِ أَسْرَارِ اللُّغَةِ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ؟ وَأَيْنَ الْمُقَلِّدُ لِظَوَاهِرَ بَعْضِ النُّقُولِ مِنَ الْإِمَامِ اللَّوْذَعِيِّ؟ وَأَيُّهُمَا السَّلِيقِيُّ وَالصِّنَاعِيُّ؟ . (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا) هَذِهِ الْآيَةُ الْمُنَزَّلَةُ مُرْشِدَةٌ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ وَهُوَ إِيجَادُ الْمَاءِ، وَإِنْزَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَعْلُهُ سَبَّبَا لِلنَّبَاتِ، وَجَعْلُ النَّبَاتِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً،

99

مُشْتَبِهَةً وَغَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ، وَبِذَلِكَ يَلْتَقِي آخِرُ هَذَا السِّيَاقِ بِأَوَّلِهِ. أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجْنَا بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ الْوَاحِدِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَصْنَافِ هَذَا النَّامِي الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ أَيْ مِنَ النَّبَاتِ خَضِرًا أَيْ شَيْئًا غَضًّا أَخْضَرَ بِالْخِلْقَةِ لَا بِالصِّنَاعَةِ، وَهُوَ مَا تَشَعَّبَ مِنْ أَصْلِ النَّبَاتِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَبِّ كَسَاقِ النَّجْمِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ، نُخْرِجُ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْأَخْضَرِ الْمُتَشَعِّبِ مِنَ النَّبَاتِ آنًا بَعْدَ آنٍ حَبًّا مُتَرَاكِبًا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَهُوَ السُّنْبُلُ - فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِنَمَاءِ النَّجْمِ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَنِتَاجِهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَالَ نَظِيرِهِ مِنَ الشَّجَرِ فَقَالَ (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) ، النَّخْلُ الشَّجَرُ الَّذِي يُنْتِجُ التَّمْرَ، يُسْتَعْمَلُ لَفْظُهُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَجَمْعُهُ نَخِيلٌ. وَ (مِنْ طَلْعِهَا) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَطَلْعُهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ أَيْ يَظْهَرُ مِنْ زَهْرِهَا الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ ثَمَرُهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنْهُ كَافُورُهُ أَيْ وِعَاؤُهُ، وَمَا يَنْشَقُّ عَنْهُ الْكَافُورُ مِنَ الطَّلْعِ يُسَمَّى الْغَرِيضُ وَالْإِغْرِيضُ، وَالْقِنْوَانُ جَمْعُ قِنْوٍ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْعَذْقُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّمَرُ، وَمِثْلُهُ فِي وَزْنِهِ وَاسْتِوَاءِ مُثَنَّاهُ، وَجَمْعِهِ الصِّنْوُ وَالصِّنْوَانُ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْفُرُوعِ. وَالْقِنْوَانُ مِنَ النَّخْلِ كَالْعَنَاقِيدِ مِنَ الْعِنَبِ وَالسَّنَابِلِ مِنَ الْقَمْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ طَلْعَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ دَانِيَةُ الْقُطُوفِ سَهْلَةُ التَّنَاوُلِ، أَوْ بَعْضُهَا دَانٍ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ حَمْلِهَا. (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " جَنَّاتٍ " بِالنَّصْبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَنُخْرِجُ مِنْهُ - أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْخَضِرِ - جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ. وَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَكُمْ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ - أَوْ - وَهُنَاكَ جَنَّاتٌ - أَوْ - وَمِنَ الْكَرْمِ جَنَّاتٌ إِلَخْ. وَسَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ بَعْدُ (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أَيْ وَأَخُصُّ مِنْ نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ حَالَ كَوْنِهِ مُشْتَبِهًا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، غَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي بَعْضٍ آخَرَ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَالَ مِنَ الرُّمَّانِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَنْوَاعٌ تَشْتَبِهُ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ وَالثَّمَرِ وَتَخْتَلِفُ فِي لَوْنِ الثَّمَرِ وَطَعْمِهِ، فَمِنْهُ الْحُلْوُ وَالْحَامِضُ وَالَمُزُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَالَ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، أَيْ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَبِهَ وَالْمُتَشَابِهَ هُنَا بِمَعْنًى، إِذْ يُقَالُ: اشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ وَتَشَابَهَا كَمَا يُقَالُ اسْتَوَيَا وَتَسَاوَيَا. وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ " وَهُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي آيَةِ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) 141 إِلَخْ. وَسَتَأْتِي، وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ فَرْقًا فَمَعْنَى اشْتَبَهَا الْتَبَسَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى تَشَابَهَا أَشْبَهَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالصِّفَاتِ، فَهَذَا أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرَ يَتَشَابَهُ وَلَا يَشْتَبِهُ، وَبَعْضُهُ يَتَشَابَهُ حَتَّى يَشْتَبِهَ، حَتَّى عَلَى الْبُسْتَانِيِّ الْمَاهِرِ،

كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ الْحُلْوُ مَعَ الْحَامِضِ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ. (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أَيِ انْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ إِلَى ثَمَرِ مَا ذُكِرَ إِذَا هُوَ تَلَبَّسَ وَاتَّصَفَ بِالْإِثْمَارِ، وَإِلَى يَنْعِهِ عِنْدَمَا يَيْنَعُ، أَيْ يَبْدُوَا صَلَاحُهُ وَيَنْضَجُ، وَتَأَمَّلُوا صِفَاتِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا، يَظْهَرُ لَكُمْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، مَا يَدُلُّ أَوْضَحَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أَيْ فِي ذَلِكُمُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ لِلْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ نَظَرَهُمْ كَنَظَرِ الطِّفْلِ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَسْرَارِ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَالْغَوَّاصِينَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالنِّظَامِ، لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ، وَلَا يَعْبُرُهَا إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا، وَوَحْدَتِهِ الَّتِي يَنْتَهِي النِّظَامُ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَاتِ، أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ بُدِئَ بِفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَعَكْسِهِ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ فَلْقِ الْإِصْبَاحِ، وَعَطَفَ عَلَى هَذَا مَا يُقَابِلُهُ مِنْ مُعَاقَبَةِ اللَّيْلِ لِلنَّهَارِ، وَأُشِيرَ إِلَى فَوَائِدِهِمَا وَفَوَائِدِ النَّيِّرَيْنِ، اللَّذَيْنِ هُمَا آيَتَا هَذَيْنِ الْمَلَوَيْنِ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ النَّيِّرَيْنِ التَّذْكِيرَ بِخَلْقِ النُّجُومِ، وَالْمِنَّةِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهَا وَالْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْعُلُومِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْآيَاتِ إِنْشَاؤُنَا مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ فَمِنْهَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمُسْتَوْدَعُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِنَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السِّيَاقِ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) وَقَدْ لَوَّنَ فِي تَفْصِيلِ خَلْقِ النَّبَاتِ الْخِطَابَ، وَتَفَنَّنَ فِي طُرُقِ الْإِعْرَابِ ; لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْوَانِ، وَتَشَابُهِ مَا فِيهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْأَفْنَانِ، فَبُدِئَتِ الْآيَةُ بِضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ تَبَعًا لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ الْجَمْعِيَّ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. إِذْ قَالَ: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) فَحِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ أَنْ تَلْتَفِتَ الْأَذْهَانُ إِلَى مَا يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ، فَتَتَنَبَّهْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ الْبَدِيعَ، وَالصُّنْعَ السَّنِيعَ، مِنْ فِعْلِ الْحَكِيمِ الْخَلَّاقِ، لَا مِنْ فَلَتَاتِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ وَاحِدًا وَالنَّبَاتُ جَمْعًا كَثِيرًا نَاسَبَ إِفْرَادَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَجَمْعَ الْفِعْلِ الْآخِرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَالَ فَعَلْنَا أَرَادَ إِفَادَةَ تَعْظِيمِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ مَقَامُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ أَوِ الْأَمِيرُ - حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ - فِي أَوَّلِ مَا يُصْدِرُهُ مِنْ نَحْوِ نِظَامٍ أَوْ قَانُونٍ " أَمَرْنَا بِمَا هُوَ آتٍ " وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْمَاضِي

إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا) تَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ الْعَجِيبَةِ فِي حُسْنِهَا وَانْتِظَامِهَا، وَتَنَضُّدِ سَنَابِلِهَا وَاتِّسَاقِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُخْرِجُهُ تَعَالَى مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ، مِنَ الْقِنْوَانِ الْمُشَابِهِ لِسَنَابِلِ الْقَمْحِ، فِي تَنَضُّدِ ثَمَرِهِ وَتَرَاكُبِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَغَرَائِبِهَا، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَلَ غِذَاءٍ لِلنَّاسِ، وَعَلَفٍ للدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جَنَّاتِ الْأَعْنَابِ ; لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالنَّخِيلِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَالْعَنَاقِيدُ تُشْبِهُ الْعَرَاجِينَ فِي تَكَوُّنِهَا، وَتَرَاكُبِ حَبِّهَا وَأَلْوَانِ ثَمَرِهَا، كَمَا تُشْبِهُهَا فِي دَرَجَاتِ تَطَوُّرِهَا، فَالْحِصْرِمُ كَالْبُسْرِ، وَالْعِنَبُ كَالرُّطَبِ، وَالزَّبِيبُ كَالتَّمْرِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَسَلٌ وَخَلٌّ وَخَمْرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مَعْطُوفًا عَلَى نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي الصُّورَةِ، مَحْصُورٌ فِي الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَأَمَّا مَكَانُهُمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ، فَالْأَوَّلُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّيْتُونَ وَزَيْتُهُ غِذَاءٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّعَامِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّغْذِيَةِ. وَالرُّمَّانُ فَاكِهَةٌ وَشَرَابٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُمَا دُونَ فَوَاكِهِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَأَشْرِبَتِهِمَا فِي الْمَرْتَبَةِ، فَنَاسَبَ جَعْلُهُ بَعْدَهُمَا، وَالْإِشَارَةُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ إِلَى رُتْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ قَدَّمَ نَبَاتَ الْحَبِّ عَلَى الْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ الْغِذَاءُ الْأَعْظَمُ الْأَعَمُّ لِأَكْثَرِ النَّاسِ وَأَكْثَرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ أَكْثَرُ مَرَافِقِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ بِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. حَكَى اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ ضُرُوبِ الشِّرْكِ الَّتِي قَالَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ، وَرَوَى التَّارِيخُ كَثِيرًا مِنْ نَوْعِهَا عَنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ شُرَكَاءِ اللهِ مِنْ عَالَمِ الْجِنِّ الْمُسْتَتِرِ

100

عَنِ الْعُيُونِ، وَاخْتِرَاعُ نَسْلٍ لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، حَكَى هَذَا بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوَحُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَوَالِمِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَتُعْقُّبِهِ بِإِنْكَارِهِ وَتَنْزِيهِ الْخَالِقِ الْمُبْدِعِ عَنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) أَيْ وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ - وَفَسَّرَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ بِالْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ النَّحْوِيِّ - وَلَمْ يَقُلْ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، بَلْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي النَّظْمِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَحَلَّ الْغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءُ لَا مُطْلَقَ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ. ثُمَّ كَوْنَ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْجِنِّ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْمُهِمَّ. وَلَوْ قَالَ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ لَأَفَادَ أَنَّ مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ لِكَوْنِهِمْ جِنًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شَرِيكٌ مِنْ أَيِ جِنْسٍ كَانَ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْجِنِّ هُنَا أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ عَبَدُوهُمْ، رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ فَقَدْ أَطَاعُوهُمْ فِي أُمُورِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَنُشِيرُ إِلَى شَاهِدٍ يَأْتِي لَهُ بَعْدَ عِشْرِينَ آيَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنِّ إِبْلِيسُ، فَقَدْ عَبَدَهُ أَقْوَامٌ وَسَمَّوْهُ رَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ إِلَهَ الشَّرِّ وَالظُّلْمَةِ، وَخَصَّ الْبَارِي بِأُلُوهِيَّةِ الْخَيْرِ وَالنُّورِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَيَوَانِ وَإِبْلِيسَ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالشَّرِّ، وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ وَضَعَّفَ مَا سِوَاهُ وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالزَّنَادِقَةِ الْمَجُوسُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنْ كُلَّ خَيْرٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مِنْ (يَزْدَانَ) وَكُلَّ شَرٍّ فَهُوَ مِنْ (أَهْرُمَنَ) أَيْ إِبْلِيسَ، فَأَمَّا كَوْنُ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينِ مِنَ الْجِنِّ فَقَطْعِيٌّ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَالِمِ الْخَفِيَّةِ فَتَصْدُقُ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْجِنِّ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَجَازِيٌّ، وَفَسَّرُوا الْجِنَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) 37: 158 بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: إِنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ إِلَى الْجِنِّ فَوَلَدَتْ سَرَوَاتُهُمْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ وَقَدْ يُقَابِلُ الْجِنَّ بِالْمَلَائِكَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضُوعِ عِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) 34: 40، 41 فَهَذَا مَعَ آيَةِ الْأَنْعَامِ الْآتِيَةِ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) 6: 121 مِمَّا يَرُدُّ إِنْكَارَ الرَّازِيِّ لِتَسْمِيَةِ طَاعَةِ الشَّيَاطِينِ عِبَادَةً. (وَخَلَقَهُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ هَؤُلَاءِ الْجَاعِلِينَ لَهُ الشُّرَكَاءَ وَلَيْسَ لِشُرَكَائِهِمْ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي خَلْقِهِمْ، أَوْ خَلْقِ الشُّرَكَاءِ الْمَجْعُولِينَ، كَمَا خَلَقَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَنِسْبَةُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَاحِدَةٌ، وَامْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي صِفَاتِهِ وَخَصَائِصِهِ، أَوْ مَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَفْضُلُ بِهَا غَيْرَهُ، لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، وَلَا يَجْعَلُهُ أَهْلًا لِأَنَّ يَكُونُ إِلَهًا أَوْ رَبًّا.

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ وَاخْتَلَقُوا لَهُ تَعَالَى بِحَمَاقَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، فَسَمَّى مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللهِ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) 9: 30 وَهَاكَ بَيَانُ ذَلِكَ: الْخَرْقُ وَالْخَزْقُ وَالْخَرْبُ وَالْخَرْزُ أَلْفَاظٌ فِيهَا مَعْنَى الثَّقْبِ بِإِنْفَاذِ شَيْءٍ فِي الْجِسْمِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَرْقُ قَطْعُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، قَالَ تَعَالَى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) 18: 71 وَهُوَ ضِدُ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ وَرِفْقٍ، وَالْخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ - وَذَكَرَ الْآيَةَ - وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَيْ بِغَيْرِ نِظَامٍ وَلَا هَنْدَسَةٍ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَيُنَاسِبُ هَذَا مِنْ مَعَانِي الْمَادَّةِ الْخُرْقُ " بِالضَّمِّ " وَهُوَ الْحُمْقُ ضِدُّ الرِّفْقِ. يُقَالُ: خَرُقَ زِيدٌ يَخْرُقُ - بِالضَّمِّ فِيهِمَا - فَهُوَ أَخْرَقُ وَهِيَ خَرْقَاءُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَخَرَقَ " مِنْ بَابِ ضَرَبَ " الْكَذِبَ وَتَخَرَّقَهُ وَخَرَّقَهُ كُلَّهُ اخْتَلَقَهُ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَأَنَّ نَافِعًا قَرَأَ " وَخَرَّقُوا " بِالتَّشْدِيدِ وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ: خَلَقَ الْكَلِمَةَ وَاخْتَلَقَهَا وَخَرَقَهَا وَاخْتَرَقَهَا إِذَا ابْتَدَعَهَا كَذِبًا انْتَهَى. وَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخَرْقِ فِي الْأَفْعَالِ، يَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْأَقْوَالِ، فَالْخَلْقُ الْكَذِبُ الْمُقَدَّرُ الْمُنَظَّمُ، وَالْخَرْقُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَلَا نِظَامَ، وَلَا رَوِيَّةَ وَلَا إِنْعَامَ، فَهَاهُنَا يَظْهَرُ التَّقْيِيدُ بِنَفْيِ التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ مِنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، وَلَكِنْ رَمْيًا بِقَوْلٍ عَنْ عَمًى وَجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ انْتَهَى. وَهُوَ بَيَانٌ وَتَوْكِيدٌ لِمَعْنَى (خَرَقُوا) فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَدَقِّ بَلَاغَةِ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَى الشَّيْءِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَزْيِيفِهِ، وَتَنْكِيرُ الْعَلَمِ هُنَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ " بِغَيْرِ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى انْسِلَاخِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي خَرْقِهِمْ هَذَا عَنْ كُلِّ مَا يُسَمَّى عِلْمًا، فَلَا هُمْ عَلَى عِلْمٍ بِمَعْنَى مَا يَقُولُونَ وَلَا عَلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُهُ، وَلَا عَلَى عِلْمٍ بِمَكَانِهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا بِمَكَانِهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ وَالْإِزْرَاءِ بِمَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ لَمَا ارْتَضَوْهُ لَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخَالِقِهِمْ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِمَا اتَّخَذُوهُ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ وَوَلَدٍ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَالٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُنَافِي انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَوْنُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى سُبْحَانَ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَالتَّعَالِي الْعُلُوُّ وَالْبُعْدُ عَمَّا لَا يَلِيقُ الَّذِي يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَفَكِّرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلَا عَنْهُ وَبَعُدَ عَنْ مُشَابَهَتِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ " تَوَافُدِ الْقَوْمِ " فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ تَعَالَى وَلَدٌ لَكَانَ لَهُ جِنْسٌ يُعَدُّ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ - وَلَا سِيَّمَا أَوْلَادُهُ - نُظَرَاءَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ عَقْلًا وَنَقْلًا عَنْ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ وَجَمِيعِ حُكَمَاءِ الْبَشَرِ

وَعُقَلَائِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا لِلنَّاسِ عَقَائِدَ الْوَثَنِيَّةِ فِي عُصُورِ الظُّلُمَاتِ وَأَزْمِنَةِ التَّأْوِيلَاتِ ذَهَبُوا هَذِهِ الْمَذَاهِبَ مِنَ الْأَوْهَامِ، وَلَا نَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا وَلَا مَنْشَأَ اخْتِرَاعِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَأَقْرَبُ الْمَآخِذِ لِذَلِكَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَيُرَاجَعْ هُنَالِكَ فِي ج 6 تَفْسِيرٍ. وَأَمَّا عِبَادَةُ الْجِنِّ فَقَدِيمَةٌ فِي الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَيْضًا. فَفِي الْخُرَافَاتِ الْيُونَانِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ يَجْعَلُونَهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ. الْأُولَى: الْآلِهَةُ وَأَوَّلُهُمُ الْمُوَلِّدُ لَهُمْ أَجِينُوسُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ نَفْسُ (زِفْسَ) أَوْ (جُوبْتِيرَ) . وَالثَّانِيَةُ: تَوَابِعُ الشُّعُوبِ وَالْأَقْطَارِ وَالْبِلَادِ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا رَبٌّ مِنَ الْجِنِّ مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُتَصَرِّفٌ فِيهِ، وَقَدْ نَصَبَ الرُّومُ لِجِنِّيِّ رُومِيَّةَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ. وَالثَّالِثَةُ: تَوَابِعُ الْأَفْرَادِ أَيْ قُرَنَاؤُهُمْ. وَالْهُنُودُ الْقُدَمَاءُ يُقَسِّمُونَ الْجِنَّ إِلَى قِسْمَيْنِ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ، فَيُسَمُّونَ الْأَخْيَارَ (دِيُوهَ) وَهُمْ عِنْدَهُمْ فِرَقٌ كَالْآلِهَةِ أَشْهَرُهَا (الْكَنَّارَةُ) الَّذِينَ دَأْبُهُمُ التَّرَنُّمُ بِمَدَائِحِ (بُوَاسِيتَا) وَيَلِيهَا (الْيَاكَةُ) الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ الثَّرْوَةَ وَالْغِنَى بَيْنَ النَّاسِ وَ (الْغَنْدُورَةُ) وَهُمُ الْعَازِفُونَ لِلشَّمْسِ، وَيَتَأَلَّفُ مِنْهُمْ أَجْوَاقٌ فِي السَّمَاءِ تَدْخُلُ فِيهَا الْكَنَّارَةُ فَيَسْبُونَ الْعُقُولَ بِتَسْبِيحِهِمْ عَلَى مَعَازِفِهِمْ. وَمِنْهُمُ " الْإِبْسَارَةُ " وَهُنَّ إِنَاثٌ يَمْلَأْنَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَمُخْتَارَاتُهُنَّ فِي سَمَاءِ " أَنْدَرَا " يَرْقُصْنَ الرَّقْصَ الْبَهِجَ تَحْتَ أَشْجَارِ الذَّهَبِ وَالْيَاقُوتِ فِي جَنَّةِ " مِنْدَانَا " وَمِنْهُمْ " الرَّاجِينَةُ " وَهُنَّ قِيَانٌ مُوَكَّلَاتٌ بِالْمَعَازِفِ مَقَامُهُنَّ فِي سَمَاءِ " بِرَهْمَا " وَعَدَدُهُنَّ 16 أَلْفًا وَمِنْهُمُ الْفَعَلَةُ الْإِلَهِيُّونَ وَيُسَمَّوْنَ " الْجِيدَارَةَ " وَهُمُ الَّذِينَ بَنَوْا قَصْرَ الْآلِهَةِ وَأَنْشَأُوا جَمِيعَ الْمَبَانِي الْعَجِيبَةِ فِي الْعَالَمِ. وَيُقَسِّمُونَ الْجِنَّ الْأَشْرَارَ إِلَى طَوَائِفَ أَيْضًا، مِنْهُمْ (الدِّيتِيَّةُ وَالْأَسْوِرَةُ وَالدَّنَارَةُ وَالرَّشَاقَةُ) وَيَقُولُونَ: إِنْ مَقَامَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُمْ هَاجَمُوا الْآلِهَةَ لِيُنْزِلُوهُمْ عَنْ عُرُوشِهِمْ فَفَرُّوا مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِ السَّاقَةِ وَأَرَادُوا أَنْ يَسْلُبُوهُمْ شَجَرَ الْحَيَاةِ. وَعَقَائِدُ الْمَانَوِيَّةِ مِنَ الْفُرْسِ فِي إِلَهَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعْرُوفَةٌ، فِي أَسَاطِيرِ الْفُرْسِ أَنَّ " جِنِّسْتَانَ " أَيْ بِلَادَ الْجِنِّ فِي غَرْبِيِّ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَسَاطِيرُ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجِنِّ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ لَخَّصَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتْ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَقَائِدِهِمْ فِي الشَّيْطَانِ قَالَ: الشَّيْطَانُ كَائِنٌ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى شَأْنًا مِنَ الْإِنْسَانِ وَرَئِيسُ رُتْبَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ " 1: كو 6. 3 " وَيُخْبِرُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِطَبِيعَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحَالِهِ وَكَيْفِيَّةِ اشْتِغَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَمَقَاصِدِهِ وَنَجَاحِهِ وَنَصِيبِهِ، فَلَنَا فِي شَخْصِيَّتِهِ نَفْسُ الْبَرَاهِينِ الَّتِي لَنَا فِي شَخْصِيَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْمَلَائِكَةِ، أَمَّا طَبِيعَةُ الشَّيْطَانِ فَرُوحِيَّةٌ وَهُوَ مَلَاكٌ يَمْتَازُ بِكُلِّ مَا تَمْتَازُ بِهِ هَذِهِ الرُّتْبَةُ مِنَ الْكَائِنَاتِ إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ عَدُوًّا لِلَّهِ مَطْرُودًا مِنْ وَجْهِهِ - غَيْرَ أَنَّ طَرْدَهُ إِلَى عَالَمِ الظُّلْمَةِ لَا يَمْنَعُ اشْتِغَالَهُ فِي الْأَرْضِ كَإِلَهِ هَذَا الْعَالَمِ وَعَدُوًّا لِلْإِنْسَانِ وَخَالِقِهِ اهـ.

101

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَلَامٌ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مِمَّا يُؤْثَرُ عَنِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَعْضُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ وَالتَّقْرِيبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مَا يُحْفَظُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي ذَلِكَ لَهُ أَصِلٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ، خَلَطُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَجَعَلُوا الْحَقِيقَةَ مَجَازًا وَالْمَجَازَ حَقِيقَةً، عَلَى نَحْوِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى كَلِمَةِ اللهِ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا عَنِ التَّكْوِينِ فَجَعَلُوهَا ذَاتًا فَاعِلَةً خَالِقَةً وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ إِلَهًا وَبَعْضُهُمُ " ابْنَ اللهِ " وَتَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ كَذَلِكَ، وَكَلِمَةِ " ابْنٍ " الْمَجَازِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (ج 3 تَفْسِيرٍ) فَلَا تُتَّخَذُ مُوَافَقَةُ الْوَحْيِ لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ شُبْهَةً عَلَى الْوَحْيِ. وَسَنَزِيدُ مَسْأَلَةَ عِبَادَةِ الْجِنِّ بَيَانًا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى تَسْبِيحِ الْبَارِي وَتَعَالِيهِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. الْبَدْعُ - بِالْفَتْحِ - الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ الْمُبْتَدَأُ، أَوِ الْبِدْعُ - بِالْكَسْرِ - وَالْبَدِيعُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا كَمَا قَالَ فِي اللِّسَانِ، وَمِنْهُ الْبِدْعَةُ فِي الدِّينِ، وَيُقَالُ: بَدَعَ الشَّيْءَ (مِنْ بَابِ قَطَعَ) وَأَبْدَعَهُ وَابْتَدَعَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِبْدَاعُ إِنْشَاءُ صَنْعَةٍ بِلَا احْتِذَاءٍ وَاقْتِدَاءٍ، وَمِنْهُ قِيلَ رَكِيَّةٌ بَدِيعٌ أَيْ جَدِيدَةُ الْحَفْرِ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اللهِ تَعَالَى فَهُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ آلَةٍ وَلَا مَادَّةٍ وَلَا زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْبَدِيعُ الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَالْبَدِيعُ الْمُبْدَعُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ الْبَدِيعُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَوْ يَكُونَ مِنْ بَدَعَ الْخَلْقَ أَوْ بَدَأَهُ. وَاللهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُبْدِعُهُمَا فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ الْمُخْتَرِعُ لَا عَنْ مِثَالٍ سَابِقٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَنَّ بَدِيعًا مِنْ بَدَعَ لَا مِنْ أَبْدَعَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي صِيغَةٍ فَعِيلٍ أَنْ تَكُونَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَقَدْ سُمِعَ وُرُودُهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الرُّبَاعِيَّةِ شُذُوذًا، وَهِيَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَدِيرٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبِّهَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي بَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَوِ الْبَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ بِمَا كَانَ مِنْ إِبْدَاعِهِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمَا، أَوِ الْبَدِيعُ فِيهِمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يُوصَفَا بِكَوْنِهِمَا مِنْ وَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، وَأَوْلَى بِهَذَا وَأَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْمَسِيحِ مِنْ أُمٍّ بِغَيْرِ أَبٍ غَيْرَ مُسَوِّغٍ لِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُ إِذْ قُصَارَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاعًا مَا. وَالْإِبْدَاعُ التَّامُّ - وَهُوَ إِيجَادُ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ - لَيْسَ وِلَادَةً، وَأَثَرُ هَذَا الْإِبْدَاعِ وَهُوَ الْمُبْدِعُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا ; إِذِ الْوِلَادَةُ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ ازْدِوَاجٍ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَهُ جِنْسٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهُ زَوْجٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ - وَهُوَ الْمُبْدِعُ لِكُلِّ شَيْءٍ - وَلَدٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجٌ يَنْشَأُ الْوَلَدُ مِنِ ازْدِوَاجِهِ بِهَا، وَلَا مَعْنَى لِلْوَلَدِ إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا صُدُورُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ عَنْهُ صُدُورُ إِيجَادٍ إِبْدَاعِيٍّ لِلْأُصُولِ الْأُولَى، وَإِيجَادٍ سَبَبِيٍّ كَالْوَالِدِ بَيْنَهَا بِحَسَبِ سُنَنِهِ فِي التَّوَالِي، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) خَلْقًا وَلَمْ يَلِدْهُ وِلَادَةً، فَمَا خَرَقْتُمْ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَخْلُوقٌ لَهُ لَا مَوْلُودٌ مِنْهُ، فَإِنْ خَرَجْتُمْ عَنْ وَضْعِ اللُّغَاتِ وَسَمَّيْتُمْ صُدُورَ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهُ وِلَادَةً فَكُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَكُونُ مِنْ وَلَدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَفُوتُكُمْ مَا أَرَدْتُمْ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِإِنْكَارِ نَفْيِ الْوَلَدِ، أَوْ حَالٍ بَعْدَ حَالٍ، وَاسْتِدْلَالٍ بَعْدَ اسْتِدْلَالٍ، وَمَثَلُهَا قَوْلُهُ: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَبَيَانُهُ أَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَلَا يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) 67: 14 وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ وَلَهَيَّأَ الْعُقُولَ إِلَيْهِ بِآيَاتِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ الَّذِينَ خَرَقُوهُ لَهُ - بِغَيْرِ عِلْمٍ - بِالْوَحْيِ الْمُؤَيَّدِ بِدَلَائِلَ الْعَقْلِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَفِي الْآيَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ وُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ مِنْ مُبْدَعَاتِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ مَعَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ مَا يُوصَفُ بِالْوِلَادَةِ مُبَرَّأَةٌ عَنْهَا لِاسْتِمْرَارِهَا وَطُولِ مُدَّتِهَا، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَعَالَى عَنْهَا، (وَالثَّانِي) أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مُتَجَانِسَيْنِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ مِنَ التَّجَانُسِ، (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْوَلَدَ كُفْءٌ لِلْوَالِدِ، وَلَا كُفْءَ لَهُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مَخْلُوقُهُ فَلَا يُكَافِئُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِذَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) الْخُطَّابُ لِلْمُشْرِكِينَ الْمَحْجُوجِينَ أَوْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْجَلِيَّاتِ وَالْخَفِيَّاتِ مِنَ الْمَشْهُودَاتِ وَالْغَائِبَاتِ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي شَأْنُهُ مَا ذَكَرَ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ لَا مَنْ خَرَقُوا لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، فَاعْبُدُوهُ إِذًا وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ خَالِقَهُ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهُ وَيُؤَلِّهُهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ؟ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ وَهُوَ مَعَ كُلِّ مَا ذَكَرَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَيُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَكَيْلٌ عَلَى عَقَارِ فُلَانٍ وَمَالِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَكِيلَ هُنَا بِمَعْنَى الرَّقِيبِ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ:

103

(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) 40: 62 قَامَ فِيهِ وَصْفُهُ بِالْخَلْقِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَكْسَ مَا هُنَا، لِأَنَّ مَا هُنَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ فِيهِ تَقْدِيمُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَآيَةُ سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتٍ فِي خَلْقِ وَنِعَمِ اللهِ فِيهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْخَلْقِ فِيهَا عَلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةٌ لِذَلِكَ وَغَايَةٌ. (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) الْبَصَرُ الْعَيْنُ إِلَّا أَنَّهُ مُذَكَّرٌ، وَأَبْصَرْتُ الشَّيْءَ رَأَيْتُهُ، وَقِيلَ: الْبَصَرُ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، ابْنُ سِيدَهْ: الْبَصَرُ حُسْنُ الْعَيْنِ وَالْجَمْعُ أَبْصَارٌ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبَصَرُ يُقَالُ لِلْجَارِحَةِ النَّاظِرَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) 33: 10 وَلِلْقُوَّةِ الَّتِي فِيهَا، وَالْإِدْرَاكُ اللِّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، وَأَتْبَعَ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) 26: 61 وَيُقَالُ: أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ وَالْمَوْتُ وَمِنْهُ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) 10: 90 فِي كُلِّ ذَلِكَ مَعْنَى اللِّحَاقِ بَعْدَ اتِّبَاعٍ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ وَالدَّرْكُ - بِالْفَتْحِ - أَقْصَى قَعْرِ الْبَحْرِ، وَمِنْهُ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) 4: 145 قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الدَّرْجُ كَالدَّرْكِ لَكِنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ اعْتِبَارًا بِالْحُدُورِ وَأَدْرَكَ بَلَغَ أَقْصَى الشَّيْءِ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ بَلَغَ غَايَةَ الصِّبَا وَذَلِكَ حِينَ الْبُلُوغِ، انْتَهَى وَيُقَالُ فِيمَا بَعُدَ أَوْ دَقَّ أَوْ خَفِيَ: لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّظَرِ لِإِدْرَاكِ مَا لَطُفَ وَدَقَّ إِعْمَالُهُ فِي مُحَاوَلَةِ إِبْصَارِ الْبَعِيدِ، فَفِي الْإِدْرَاكِ مَعْنَى اللُّحُوقِ وَمَعْنَى بُلُوغِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَمِنْ هُنَا فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْإِدْرَاكَ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْإِحَاطَةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كُنْهُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتَكُونُ بِمَعْنَى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) 20: 110 نَفْيُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ إِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا أَقْوَى مَا جَمَعَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمَنْ سَلَّمَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْإِدْرَاكَ هُنَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا قَالُوا: إِنَّ النَّفْيَ خَاصٌّ بِحَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي يَعْهَدُهَا الْمُخَاطَبُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ فِيهَا رُؤْيَةً إِلَّا لِلْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَهِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا ذَكَرُوهُ كَالْمُقَابَلَةِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الْآخِرَةِ وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَرَى مِنْ وَرَاءِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ لِغَلَبَةِ رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ اللَّطِيفَةِ عَلَى جُثَّتِهِ الْمَنِيفَةِ، وَقَدْ جَلَيَّنَا مَسْأَلَةَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ فِي الْآخِرَةِ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنْ مُجَلَّدٍ الْمَنَارِ التَّاسِعَ عَشَرَ (ص 282 - 288) وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَنْ تَرَانِي) 7: 143

مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَهُنَالِكَ نُلِمُّ بِمَسْلَكِ الصُّوفِيَّةِ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لِلرَّبِّ، بِتَجَلِّيهِ تَعَالَى الَّذِي يَكُونُ هُوَ بِهِ بَصَرُ الْعَبْدِ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ " الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَخُلَاصَةُ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ بِتَجَلِّيهِ فِي بَصَرِ عَبْدِهِ، فَمَا يَرَى اللهُ إِلَّا اللهُ، وِفَاقًا لِقَوْلِهِمْ: لَا يَعْرِفُ اللهَ إِلَّا اللهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَى الْعُيُونَ الْبَاصِرَةَ أَوْ قُوَى الْإِبْصَارِ الْمُودَعَةَ فِيهَا رُؤْيَةَ إِدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَقِيقَتُهَا وَلَا مِنْ عَمَلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ تَشْرِيحِ الْعَيْنِ مَا تَتَرَكَّبُ مِنْهُ طَبَقَاتُهَا وَرُطُوبَاتُهَا وَوَظَائِفَ كُلٍّ مِنْهَا فِي ارْتِسَامِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا، وَعَرَفُوا كَثِيرًا مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النُّورِ وَوَظَائِفِهِ فِي رَسْمِ صُوَرِ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الرُّؤْيَةِ وَلَا كُنْهَ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ وَلَا حَقِيقَةَ النُّورِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَعْلَمَ اللهُ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وَفِي هَذَا الْإِعْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لَا يُدْرِكُونَ الْإِبْصَارَ، أَيْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْبَصَرِ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا مِنْ خَلْقِهِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، فَأَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الرُّؤْيَةِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَفْعِهَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ وَالْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ اهـ. (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أَيْ وَهُوَ اللَّطِيفُ بِذَاتِهِ، الْبَاطِنُ فِي غَيْبِ وَجُودِهِ بِحَيْثُ تَخْسَأُ الْأَبْصَارُ دُونَ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي تَعْرِفُهُ بِهَا الْعُقُولُ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ، الظَّاهِرُ فِي مَجَالِ رُبُوبِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْعِرْفَانِ، بِتَجَلِّيَاتِهِ الَّتِي تَكْمُلُ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ رُؤْيَةَ عَيَانٍ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْ بُطُونِهِ وُظُهُورِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَطَائِفِهَا، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَلْطَفُ أَرْوَاحِهَا وَقُوَاهَا وَلَا أَدَقُّ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، فَفِي الْآيَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ. اللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ ضِدُّ الْكَثِيفِ وَالْغَلِيظِ فَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْهَا وَالرَّقِيقِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الطِّبَاعِ ضِدُّ الْجَافِي، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْكَلَامِ مَالَا خَفَاءَ فِيهِ، وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةٌ ضِدُّ الْجَافِيَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَمِنَ الْكَلَامِ. مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةُ الْخَصْرِ إِذَا كَانَتْ ضَامِرَةَ الْبَطْنِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الْكَلَامِ مَا غَمُضَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ، وَاللُّطْفُ فِي الْعَمَلِ الرِّفْقُ فِيهِ انْتَهَى، وَكَذَا اللُّطْفُ فِي الْمُعَامَلَةِ هُوَ الرِّفْقُ الَّذِي لَا يَثْقُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ

لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: لَطُفَ الشَّيْءُ (بِوَزْنِ حَسُنَ) أَيْ صَغُرَ أَوْ دَقَّ وَصَارَ لَطِيفًا. وَيُقَالُ: لَطَفَ بِهِ وَلَطَفَ لَهُ (بِوَزْنِ نَصَرَ) وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَفْسِيرِ اللَّطِيفِ. مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ الرِّفْقُ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمُ بِدَقَائِقَ الْمَصَالِحِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ قَدَّرَهَا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ انْتَهَى. أَرْجَعَهُ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِلَى الْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنَ الثَّانِي، فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ بِالْمَاءِ: (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) 22: 63 وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى: (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) 42: 19 أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ. وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ حِكَايَةٌ عَنْهُ (إِنَّ رَبِّي لِطَيْفٌ لِمَا يَشَاءُ) 12: 100 فَسَّرُوهُ بِلُطْفِ التَّدْبِيرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَبِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ نَزْغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ. وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ لُطْفِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ حِكَايَةً عَنْهُ (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِي بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لِطَيْفٌ خَبِيرٌ) 31: 16 وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ اللَّطِيفُ بِاسْتِخْرَاجِهَا مِنْ كِنِّ خَفَائِهَا الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى جَعَلَ أَحْكَامَ دِينِهِ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهَا وَهِيَ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ لِعِلْمِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فِي آخِرِ مَا خَاطَبَ بِهِ نِسَاءَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) 33: 34 فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّاهِدُ عَلَى لُطْفِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ، الْمُنَاسِبُ فِي الْكَمَالِ لِلُطْفِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَا يَظْهَرُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَأْبَوْنَ جَعْلَ اللَّطِيفِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَهُ سُبْحَانَهُ - كَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ - وَالْأَثَرِيُّونَ وَالصُّوفِيَّةُ لَا يَأْبَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ بَلْ يُثْبِتُونَهُ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ تَأْيِيدًا لِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مُعْتَزِلِيُّ مُبَالِغٌ فِي التَّنْزِيهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالرَّازِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَأَبِي السُّعُودِ وَالْآلُوسِيِّ قَالَ: وَهُوَ لَطِيفٌ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ، الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى. نَقَلُوا هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ وَجَعَلُوا اللَّطِيفَ مُسْتَعَارًا مِنْ مُقَابِلِ الْكَثِيفِ لِمَا لَا يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ وَلَا يَنْطَبِعُ فِيهَا. قَالَ الْآلُوسِيُّ: وَيُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الْبَهَائِيِّ - كَمَا قَالَ الشِّهَابُ - أَنَّهُ لَا اسْتِعَارَةَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى: اللَّطِيفُ الَّذِي يُعَامِلُ عِبَادَهُ بِاللُّطْفِ، وَأَلْطَافُهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا تَتَنَاهَى ظَوَاهِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى (وَإِنْ تَعُدُّوَا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا) 14: 34 وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ بِالْغَوَامِضِ وَالدَّقَائِقِ، مِنَ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقِ ; وَلِذَا يُقَالُ لِلْحَاذِقِ فِي صَنْعَتِهِ لِطَيْفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّطَافَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكَثَافَةِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ، لَكِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّ الْجِسْمِيَّةَ يَلْزَمُهَا

الْكَثَافَةُ، وَإِنَّمَا لَطَافَتُهَا بِالْإِضَافَةِ، فَاللَّطَافَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا النُّورُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَجِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْبَصَائِرِ فَضْلًا عَنِ الْأَبْصَارِ، وَيَعِزُّ عَنْ شُعُورِ الْإِسْرَارِ فَضْلًا عَنِ الْأَفْكَارِ، وَيَتَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ، وَيُنَزَّهُ عَنْ حُلُولِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، فَإِنَّ كَمَالَ اللَّطَافَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَوَصْفُ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا دُونَهُ فِي اللَّطَافَةِ، وَيُوصَفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْكَثَافَةِ، انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الْآلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْكَثِيفِ - عَلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الذِّهْنِ - عَلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اللَّطِيفُ مِنْ إِثْبَاتِ اللُّطْفِ بِالذَّاتِ لِلَذَّاتِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْعِيفِ جَعْلِ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالدَّقَائِقِ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ، إِذْ مَا فُسِّرَ بِهِ اللَّطِيفَ هُنَا هُوَ مَعْنَى الْخَبِيرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ إِلَخْ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ الْجِسْمَ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْجِسْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَدْلُولِ اشْتِقَاقِهَا. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَسَامَةِ أَيِ الضَّخَامَةِ، وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ: جَمَاعَةُ الْبَدَنِ أَوِ الْأَعْضَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ الْقَابِلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَالْمَوْجُودَاتُ الْمَادِّيَّةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي عُلُومِ الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا الْمَثَلُ بِلُطْفِ الْهَوَاءِ أَوِ النَّسِيمِ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّسِيمَ اللَّطِيفَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ كُلٌّ مِنْهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِأَرْضِنَا حَدًّا قَرِيبًا، وَأَنْ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودًا آخَرَ أَلْطَفُ مِنْهُ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ عُنْصُرَيْهِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ اللَّطِيفَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ مِنَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْأَبْعَادِ الشَّاسِعَةِ إِلَى هَوَائِنَا فَأَرْضِنَا وَيُسَمُّونَهُ (الْأَثِيرَ) فَهَذَا الْمَوْجُودُ السَّارِي فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الرَّابِطُ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، قَدْ لَطُفَ عَنْ أَدْرَاكِ الْعُيُونِ وَعَنْ تَصَرُّفِ أَيْدِي الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يُرْجِعُونَ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى بَسَائِطِهَا اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَيَرَى بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِاسْتِقْلَالِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى الشَّكْلِ فِي الْأَشْبَاحِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِينُ عَلَى هَذَا التَّشَكُّلِ بِالْأَثِيرِ، فَأَلْطَفُ شَبَحٍ تَتَجَلَّى بِهِ يَتَّخِذُ مِنَ الْأَثِيرِ الْمُكَثَّفِ بَعْضَ التَّكْثِيفِ بِحَيْثُ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوذِ فِي كَثَائِفِ الْأَجْرَامِ، وَقَدْ تَأْخُذُ شَبَحًا لَهَا مِنْ جِسْمِ بَشَرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ كَمُسْتَحْضِرِي. الْأَرْوَاحِ، فَإِذَا خُلِعَتِ الرُّوحُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ امْتَنَعَتْ رُؤْيَتُهَا لِتَنَاهِي لَطَافَتِهَا. وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِ الْوُجُودِ، وَكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ

104

الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِهَا الْعَظِيمِ، فَلَا بُدَ أَنْ يَكُونَ لُطْفُهُ تَعَالَى أَدَقَّ وَأَخْفَى مِنْ لُطْفِهَا، وَإِذَا كَانَ لُطْفُ بَعْضِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا الْعُرْفِيَّةَ فَلُطْفُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْدَرُ بِذَلِكَ وَأَحَقُّ، فَعُلَمَاؤُنَا كَافَّةً وَالرُّوحِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ - بِتَجَلِّي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي صُوَرٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي اللُّطْفِ، وَبِتَجَرُّدِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَظُهُورِهَا فِي أَشْبَاحٍ لَطِيفَةٍ أُخْرَى، وَالرُّوحِيُّونَ الْمُنْكِرُونَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ - كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَمْ يُعْرَفْ كُنْهُهَا، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَخْفَى مِنَ الْأَثِيرِ وَمِنَ الْبَسَائِطِ الْمَادِّيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهَى مَعَ ذَلِكَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، وَالْمَادِّيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَادَّةَ الْكَوْنِ الْأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْعَنَاصِرِ وَمُرَكَّبَاتِهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا كُنْهٌ، وَلَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَلَا يُوضَعُ لَهَا حَدٌّ، وَإِنَّهَا فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَهَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ رُوحِيِّينَ وَمَادِّيِّينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُطْفَ ذَاتِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَلَا الْحَدَّ وَلَا التَّحَيُّزَ، فَلُطْفُ ذَاتِ الْخَالِقِ أَوْلَى بِتَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَكْثَرِ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْجَائِزِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104 وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105 اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106 وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) 107. الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّنْبِيهِ لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْمُبَلِّغِ لَهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ، وَإِعْلَامِهِ بِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ بَشَرٌ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ تَعَالَى:

(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمِ) الْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مِنْهَا عَقِيدَةُ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةُ الثَّابِتَةُ بِالْيَقِينِ، أَوِ الْيَقِينُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْعِبْرَةُ وَالشَّاهِدُ، أَوِ الشَّهِيدُ الْمُثْبِتُ لِلْأَمْرِ، وَالْحُجَّةُ أَوِ الْفَطِنَةُ، أَوِ الْقُوَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةُ. وَهَذَا يُقَابِلُ الْبَصَرَ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْحِسِّيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ لِبَعْضِ بَنِي هَاشِمٍ: إِنَّكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ تُصَابُونَ فِي أَبْصَارِكُمْ. وَقَوْلُ الْهَاشِمِيِّ لَهُ: وَأَنْتُمْ يَا بَنِي أُمَيَّةَ تُصَابُونَ فِي بَصَائِرِكُمْ. أَيْ قُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْبَصَائِرِ هُنَا: الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي أَوَّلَهُ (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) أَوْ هِيَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحَقَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنِ بِجُمْلَتِهِ، وَرُبَّمَا يَرْجِعُ هَذَا بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ " جَاءَكُمْ " إِذْ لَا بُدَ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَأَقْوَى النُّكَتِ وُقُوعُ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى مَعْنَى مُذَكَّرٍ، وَالْخِطَابُ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، فَالْمَعْنَى قَدْ جَاءَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَلِيَّةِ بَصَائِرُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، تُثْبِتُ لَكُمْ عَقَائِدَ الْحَقِّ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، جَاءَكُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَسَوَّاكُمْ، وَرَبَّى أَجْسَادَكُمْ وَمَشَاعِرَكُمْ وَسَائِرَ قُوَاكُمْ، لِيُرَبِّيَ بِهَا أَرْوَاحَكُمْ، بِأَحْسَنِ مِمَّا رَبَّى بِهِ أَشْبَاحَكُمْ (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أَيْ فَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا الْحَقَّ وَالْهُدَى، فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَلِسَعَادَتِهَا مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَأَخَّرَ (وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) أَيْ وَمِنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا وَعَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِبْصَارِ بِهَا، فَأَصَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ، ثَبَاتًا عَلَى عِنَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، فَعَلَيْهَا جَنَى وَإِيَّاهَا أَرْدَى، وَلَعَمَى الْبَصَائِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ. وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي تِلْكَ الدَّارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) ، وَقَوْلِهِ: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) 2: 286 وَقَوْلِهِ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) 17: 7 وَقَوْلُهُ هُنَا: " فَلَهَا " بِمَعْنَى فَعَلَيْهَا وَنُكْتَتُهُ الْمُشَاكَلَةُ أَوِ الِازْدِوَاجُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يُرَاقِبُ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصِيهَا لِيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْحَفِيظُ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ، فَعَلَيْهِ وَحْدُهُ الْحِسَابُ، وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ. (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ وَالتَّفَنُّنِ الْعَلِيِّ الشَّأْنِ الْبَعِيدِ الشَّأْوِ فِي فُنُونِ الْمَعَانِي وَأَفْنَانِ الْبَيَانِ - الَّذِي تَرَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ هَذَا السِّيَاقِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ، وَالْهِدَايَةِ لِأَحَاسِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، فَنُحَوِّلُهَا مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ وَمَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مُرَاعَاةً لِلْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلدَّرْسِ تَكْرَارُ الْمُعَالَجَةِ وَتَتَابُعُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ

أَوْ يَصِلَ إِلَى الْغَايَةِ مِنْهُ، يُقَالُ: دَرَسَ الشَّيْءُ كَرَسْمِ الدَّارِ وَآثَارِهَا يَدْرُسُ (مِنْ بَابِ قَعَدَ) إِذَا عَفَا وَزَالَ بِفِعْلِ الرِّيحِ أَوْ تَتَابَعَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ فَهُوَ دَارِسٌ، وَدَرَسَتْهُ الرِّيحُ أَوْ غَيْرُهَا، وَدَرَسَ اللَّابِسُ الثَّوْبَ دَرْسًا أَخْلَقَهُ وَأَبْلَاهُ فَهُوَ دَرِيسٌ، وَدَرَسُوا الطَّعَامَ أَيِ الْقَمْحَ دَاسُوهُ لِيَتَكَسَّرَ فَيُفَرَّقَ بَيْنَ حَبِّهِ وَتِبْنِهِ، وَدَرَسَ النَّاقَةَ دَرْسًا رَاضَهَا، وَدَرَسَ الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً وَدَارَسَهُ مُدَارَسَةً - مِنْ ذَلِكَ. قَالَ فِي اللِّسَانِ عَقِبَ نَقْلِهِ كَأَنَّهُ عَانَدَهُ حَتَّى انْقَادَ لِحِفْظِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُهُ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالدُّرْسَةُ بِالضَّمِّ الرِّيَاضَةُ فَفِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَمُتَابَعَتِهِ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (دَرَسْتَ) فِعْلًا مَاضِيًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (دَارَسْتَ) لِلْمُشَارَكَةِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (دَرَسَتْ) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَهَى مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ. وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ: (دَرَسْتَ) خَاصٌّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ عَامٍّ يُعْرَفُ مِنَ الْقَرِينَةِ. وَالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ نَصَرِّفُ الْآيَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِيَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ - الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ وَالْمُقَلِّدُونَ - قَدْ دَرَسْتَ مِنْ قَبْلُ يَا مُحَمَّدُ وَتَعَلَّمْتَ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَحَيٍ مُنَزَّلٍ كَمَا زَعَمْتَ وَقَدْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا إِفْكًا وَزُورًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ غُلَامٍ رُومِيٍّ كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ فِي مَكَّةَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ كَثِيرًا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) 16: 103 أَوْ لِيَقُولُوا: دَارَسْتَ الْعُلَمَاءَ وَذَاكَرْتَهُمْ وَجِئْتَنَا بِمَا تَلَقَّيْتَهُ عَنْهُمْ، أَوْ دَرَسَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَمُحِيَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَسَاطِيرُ قَدِيمَةٌ قَدْ رَثَتْ وَخَلَقَتْ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 25: 4، 5 وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي تَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ هُودٍ فِي الشُّعَرَاءِ: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) 26: 136 - 138 وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ ثَلَاثِ فِئَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ فِي الْكَلِمِ وَالرَّسْمِ. قِيلَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ " وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ " لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِيَكُونَ عَاقِبَةُ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ أَنَّ يَقُولَ الرَّاسِخُونَ فِي الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا وَجُحُودًا وَإِلْحَادًا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) 2: 26 وَنَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا أَنَّ الْإِضْلَالَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي أُنْزِلَ

105

لِأَجْلِهَا أَوِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَسَبَبًا لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ إِعْرَاضُ فَاسِدِي الْفِطْرَةِ عَنْهُ وَضَلَالُهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْزَالِهِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مَضَارٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ سُوءِ الِاسْتِعْمَالِ. (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أَيْ وَلِنُبَيِّنَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْمُكَابِرِينَ إِنَّهُ أَثَرُ دَرْسٍ وَاجْتِهَادٍ، أَوْ لِنُبَيِّنَ التَّصْرِيفَ الْمَفْهُومَ مِنْ " نُصَرِّفُ " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ وَبِالِاسْتِعْدَادِ، الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ تَقْلِيدٌ وَلَا عِنَادٌ، مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَا مِنَ السَّعَادَةِ فَعُلِمَ مِنْ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ إِنَّكَ دَرَسْتَ أَوْ دَارَسْتَ حَتَّى جِئْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الدَّرْسِ أَوِ الْمُدَارَسَةِ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي صَرَفَهَا اللهُ عَلَى أَنْوَاعٍ أَوْ أَشْتَاتٍ، أَوْ لَمَ يَفْهَمُوا سِرَّهَا وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيثَارِهَا عَلَى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا وَحَسُنَ عَاقِبَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ بِتَأَمُّلِهَا حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا فِي التَّصْرِيفِ لَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَنْقُوصَةٌ مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِدَارَسْتَ قَارَأْتَ الْيَهُودَ فَحَفِظْتَ عَنْهُمْ بَعْضَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَنْهَضُ هَذَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَلَوْ تَلَقَّى عَنْهُمْ كُتُبَهُمْ بِالْمُدَارَسَةِ لَمَا سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَيْمِنٌ عَلَى كُتُبِهِمْ (5: 48) قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مُحَرَّفٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَنَقْصٌّ بِمَا نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِ النِّسَاءِ (4: 46) وَالْمَائِدَةِ (5: 14) : فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْئَيْنِ 5، 6 مِنَ التَّفْسِيرِ - كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (5: 15) وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ آخَرِينَ: إِنَّ " لِيَقُولُوا دَارَسْتَ " عَلَى النَّفْيِ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولُوا ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّهُ أَشَدَّ الرَّدِّ وَلَهُ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي جَعْلِ الْعِبَارَةِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَبْرِ أَوِ الْقَدَرِ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ نُجُومًا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَحْيًا لَجَاءَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ تَصْرِيفُ

الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَتِيجَةُ مُدَارَسَةٍ وَمُذَاكَرَةٍ مَعَ آخَرِينَ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَأْيٌ جَدَلِيٌّ مُلَفَّقٌ لَا يَصِحُّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ نَقْلٌ، فَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَطْ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقُرْآنِ. وَتِلْكَ الْوَصَايَا لَا تَبْلُغُ عُشْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ لَا تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) وَلِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ، فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُخْتَلِفَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُنْصِفَ مِنْ دَعْوَى اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ بِالْمُدَارَسَةِ مَعَ آخَرِينَ، وَأَيْنَ هَؤَلَاءِ الْمُدَارِسُونَ؟ وَلِمَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ؟ كَلَّا إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا وَمُكَابَرَةً، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَكَوْنِهِ احْتَجَّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) 10: 16 وَقَوْلِهِ (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) 29: 48 وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا وَإِنَّمَا هِيَ الْمُكَابَرَةُ. (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ قَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلِاهْتِدَاءِ بِتِلْكَ الْبَصَائِرِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَا الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مُكَابَرَتُهَا وَجُحُودُ تَنْزِيلِهَا وَفَرِيقٌ يَعْلَمُونَ، وَبِالْبَيَانِ يَهْتَدُونَ - أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْبَيَانِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ، مُشِيرًا بِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِهِ، وَنَاصِبًا إِيَّاهُ إِمَامًا لِجَمِيعِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، يَتَرَبَّى بِهِ مِنْ وُفِّقَ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَنْ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ وَيَأْتَمِرُ بِمَا أُمِرَ، وَقَرَنَ هَذَا الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، لِبَيَانِ وُجُوبِ مُلَازَمَتِهِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْخَالِقَ الْمُرَبِّي لِلْأَشْبَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الرِّزْقِ، وَلِلْأَرْوَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ

107

لَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بَشَفَاعَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَالْأَمْرُ هُنَا بِالِاتِّبَاعِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَكْثَرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَمَلِ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّبْلِيغِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لَهُ: دَارَسْتَ أَوْ دَرَسْتَ لِأَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو مَتَى ظَهَرَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الْإِخْلَاصِ، لَا يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ بِخُرَافَاتِ الْأَعْمَالِ وَلَا بِزَخَارِفِ الْأَقْوَالِ، ثُمَّ هَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) إِلَخْ. أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يُشْرِكُوا لَمَا أَشْرَكُوا بِأَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ بِالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالطَّاعَةِ وَالْفِسْقِ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُوا عَامِلِينَ مُخْتَارِينَ فَأَمَّا غَرَائِزُهُمْ وَفَطَرُهُمْ فَكُلُّهَا خَيْرٌ، وَأَمَّا تَصَرُّفُهُمْ وَكَسْبُهُمْ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَفِيظُ وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِعْدَادَهُمْ، وَلَا يُجْبِرُهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ إِخْرَاجًا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ، وَلَعَلَّ فِي الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِ حَفِيظًا تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ لِتُحَاسِبَهُمْ وَتُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا وَكِيلًا تَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلَا حَفِيظٍ بِمِلْكٍ وَلَا سِيَادَةٍ. أَيْ لَيْسَ لَكَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَمْرِنَا وَحُكْمِنَا، وَلَا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ نَحْوُهُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ بِالْقَهْرِ أَوِ التَّرَاضِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي ج 7، وَفِيهِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا قَبْلَهَا، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعُدُّونَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ إِنَّهُ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ تَتَكَوَّنَ الْأُمَّةُ وَيَصِيرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِمًا، وَلَكِنْ نَزَلَ مِثْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا، فَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) 4: 80 وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ تَقْرِيرِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَانُونٍ وَلَا كِتَابٍ.

108

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَبْلِيغِ وَحْيِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِمُقَابَلَةِ جُحُودِهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي الْوَحْيِ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ، مُخْتَلِفِي الْفَهْمِ وَالِاجْتِهَادِ، أَنْ لَا يَتَّفِقُوا عَلَى دِينٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى هِدَايَتِهِ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا مُبَلِّغِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ وَهَادِينَ لَا جَبَّارِينَ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَضِيقُوا ذَرْعًا بِحُرِّيَّةِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، فَإِنَّ خَالِقَهُمْ هُوَ الَّذِي مَنَحَهُمْ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ وَلَمْ يُجْبِرْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْإِرْشَادِ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَطَلَبِ بَعْضِهِمْ لِلْآيَاتِ وَحَقِيقَةِ حَالِهِمْ فِيهَا فَقَالَ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرٍ عِلْمِ) ; أَيْ وَلَا تَسُبُّوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِوَسَاطَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، فَيَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سَبُّهُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (عَدْوًا) ، أَيْ تَجَاوُزًا مِنْهُمْ فِي السِّبَابِ وَالْمُشَاتَمَةِ الَّتِي يَغِيظُونَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللهِ لَا يَتَعَمَّدُونَ سَبَّهُ ابْتِدَاءً عَنْ رَوِيَّةٍ وَعِلْمٍ، بَلْ يَسُبُّونَهُ بِوَصْفٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَسَبِّهِمْ لِمَنْ أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ، أَوْ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ وَلَا تَنْفَعُ، أَوْ يَقُولُونَ قَوْلًا يَسْتَلْزِمُ سَبَّهُ بِحَيْثُ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَائِلُهُ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ اجْتِنَابُ سَبِّهِ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ أَوْ يُقَابِلُونَ السَّابَّ لِمَعْبُودِهِمْ بِمِثْلِ سَبِّهِ يُرِيدُونَ مَحْضَ الْمُجَازَاةِ فَيَتَجَاوَزُونَهَا كَمَا يَقَعُ

كَثِيرًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَذْهَبِ، يَسُبُّ نَصْرَانِيٌّ نَبِيَّ الْمُسْلِمِ فَيَسُبُّ الْمُسْلِمُ نَبِيَّهُ وَيُرِيدُ عِيسَى: (عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وَيَسُبُّ شِيعِيٌّ - يُلَاحِي سُنِّيًّا وَيُمَارِيهِ - أَبَا بَكْرٍ فَيَسُبُّ عَلِيًّا (رِضَى اللهِ عَنْهُمَا) وَالْأَوَّلُ يَعْلَمُ أَنَّ سَبَّ عِيسَى كُفْرٌ ; كَسَبِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالثَّانِي يَعْلَمُ أَنَّ سَبَّ عَلَيٍّ فِسْقٌ ; كَسَبِّ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا، بَلْ كَثِيرًا مَا يَتَسَابُّ أَخَوَانِ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ يَسُبُّ أَحَدُهُمَا أَبَا الْآخَرِ أَوْ مَعْبُودَهُ فَيُقَابِلُهُ بِمِثْلِ سَبِّهِ، يَغِيظُهُ بِسَبِّ أَبِيهِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إِهَانَةً لَهُ، فَيَسُبُّهُ مُضَافًا إِلَى أَخِيهِ إِهَانَةً لِأَخِيهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ وَالْجَهْلِ الْحَامِلِ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْجَرِيمَةِ بِارْتِكَابِهَا عَيْنِهَا، يُهِينُ وَالِدَهُ الْمُعَظَّمَ عِنْدَهُ وَمَعْبُودَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ احْتِمَاءً لِنَفْسِهِ وَعَصَبِيَّةً لَهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: " يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ". فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ - عَلَى هَذَا - الْعِلْمُ الْحُضُورِيُّ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ إِرَادَةُ السَّبِّ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا إِهَانَةُ الْمَسْبُوبِ، فَإِنَّ هَذَا السَّابَّ هُنَا لَا يَتَوَجَّهُ قَصْدُهُ إِلَّا إِلَى إِهَانَةِ مُخَاطَبِهِ الَّذِي سَبَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ اعْتِقَادُ السَّابِّ أَنَّ خَصْمَهُ لَا يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى بَلْ يَعْبُدُ إِلَهًا آخَرَ، لِأَنَّهُ يَصِفُ مَعْبُودَهُ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ اللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ وَفِي مَذَاهِبِ الدِّينِ الْوَاحِدِ وَصْفُ رَبِّهِمْ وَإِلَاهِهِمْ بِصِفَاتٍ، وَرَبِّ خُصُومِهِمْ وَإِلَهِهِمْ بِصِفَاتٍ تُنَاقِضُهَا أَوْ تُضَادُّهَا، كَمَا يَقُولُ مُثْبِتُو الصِّفَاتِ وَنُفَاتُهَا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيُمْكِنُ التَّمْثِيلُ لِهَذَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِلشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَعَدِمِهَا، فَقَدْ يُبَالِغُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ فَيَزْعُمُ أَنَّ إِلَهَهُ غَيْرُ إِلَهِ مُخَالِفِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَائِهِمَا أَنَّهُمَا الْتَقَيَا فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، أَيْ وَمِنْهُ الْفَحْشَاءُ فَهَلْ يَبْعُدُ أَنْ يُعَبِّرَ بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ عَنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِصِيغَةِ السَّبِّ لِتَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ؟ دَعْ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ غُلُوًّا فِي تَضْلِيلِ الْمُخَالِفِ وَتَكْفِيرِهِ وَالْجَمِيعُ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَإِنِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ نَفَى عَنْهُ عَمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ تَعَصُّبَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَجْمَعُهُ بِهِ جَامِعَةٌ مَا قَدْ تَحْمِلُهُ عَلَى تَوْسِيعِ شِقَّةِ الْخِلَافِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاءِ الْجَدَلِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَزْدَادُ فَهْمًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 29: 46 هَذَا مَا نَرَاهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ وَتَعْلِيلِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يُؤَيِّدُ بَعْضَهُ نَنْقُلُهُ عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَهُوَ: " أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مُنْذِرٍ وَابْنُ حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الْآيَةَ. قَالَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَ رَبَّكَ ; فَنَهَاهُمُ اللهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ، فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُطَّلِبُ فَقَالُوا: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ. فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَدَخَلُوا فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا وَلْنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ. فَدَعَاهُ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَاذَا يُرِيدُونَ؟ " قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا وَلْنَدَعْكَ وَإِلَهَكَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ؟ " قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعِشْرَةَ أَمْثَالِهَا فَمَا هِيَ؟ قَالَ: " قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَأَبَوْا وَاشْمَئَزُّوا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَهَا فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا، قَالَ: " يَا عَمِّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى يَأْتُوا بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِيَ، وَلَوْ أَتَوْنِي بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِيَ، مَا قُلْتُ غَيْرَهَا " إِرَادَةَ أَنْ يُؤُيِسَهُمْ، فَغَضِبُوا وَقَالُوا لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَنَشْتُمَ مَنْ يَأْمُرُكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّ الْكُفَّارُ اللهَ، فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) انْتَهَى. أَيْ أَنْزَلَ ذَلِكَ ضِمْنَ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ " اهـ. وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُئُونِ النَّاسِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى سَبِّ أَعْظَمِ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَالْمُلَاحَاةِ فِي الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَعَنِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِسَبِّهِمُ اللهَ تَعَالَى هُنَا سَبُّ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) 48: 10 وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَسَبُّهُمْ لِلَّهِ لَيْسَ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ صَرِيحًا، وَلَكِنْ يَخُوضُونَ فِي ذِكْرِهِ فَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَتَمَادَوْنَ فِي ذَلِكَ بِالْمُجَادَلَةِ فَيَزْدَادُونَ فِي ذِكْرِهِ بِمَا تَنَزَّهَ تَعَالَى عَنْهُ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ مِمَّا يَقَعُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كُلَّ الْمُرَادِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ وَصْفِ آلِهَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ

وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَجَعَلَ عِبَادَتَهَا طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى سَبًّا. وَإِنْ زَعَمُوهُ جَدَلًا، لِأَنَّ السَّبَّ هُوَ الشَّتْمُ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِهَانَةُ وَالتَّعْيِيرُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِذَلِكَ بَيَانُ الْحَقَائِقِ وَالتَّنْفِيرِ عِنِ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ سَبَّ مَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ جَائِزٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُحْظَرُ إِذَا أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةِ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَالْحَالُ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ، وَكَمِثْلِهَا التِّلَاوَةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَكْرُوهَةِ. وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى مَعْصِيَةٍ رَاجِحَةٍ وَجَبَ تَرْكُهَا، فَإِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشَّرِّ شَرٌّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ فَإِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَجِبُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَمِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ الطَّاعَاتِ أَحْيَانًا مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْ تُرَتُّبِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْهُ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَحْكَامٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ دَرَجَاتُ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثُ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَنَارِ السَّنَةِ الْأُولَى فِي بَحْثِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الْعَصْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى لَفْظِ الْكُفْرِ فِي اللُّغَةِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ اللَّيْلُ كَافِرٌ وَالْبَحْرُ كَافِرٌ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ عَلَى الزُّرَّاعِ وَغَلَبَ لَفْظُ الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ وَعُرِفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ شَرْعًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ كُتَّابِ هَذَا الْعَصْرِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَطِّلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَصَارَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مُتَدَيِّنٍ سَبًّا وَإِهَانَةً، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ إِيذَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِذَا تَأَذَّى بِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ. وَذَكَرْنَا لِهَذَا مِنْ فَتَاوَى الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ: إِذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً. وَفِيهِ نَقْلًا عَنِ الْغُنْيَةِ: وَلَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ إِنَّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ اهـ. (وَمِنْهَا) مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي الْمُخْتَلِفِينَ فِي لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ (الْمَنَارِ ص 630 م7) بَعْدَ بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لَعْنِهِ مِنَ التَّعَادِي بَيْنَ الشِّيعَةِ وَالسُّنِّيِّينَ وَهُوَ: لِهَذَا لَا أُبَالِي أَنْ أَقُولَ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ. وَغَرَضِي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّعْنَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَجْعَلُهُ مُحَرَّمًا وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّمُونَ لَعْنَهُ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ الشَّيْطَانَ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ فِي

كُلِّ مَكَانٍ، وَمَنْ لَا يَلْعَنُهُ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَسْأَلُهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ. (وَمِنْهَا) مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: كَيْفَ نَهَانَا اللهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّبَّ لِئَلَّا يُسَبَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ - وَقَدْ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا قَاتَلْنَاهُمْ قَتَلُونَا وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْكَرٌ "؟ وَكَذَا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبْلِيغِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ سَبَّ الْآلِهَةِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَقِتَالَهُمْ فَرْضٌ وَكَذَا التَّبْلِيغُ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا يَنْهَى عَمَّا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمُقَارِنَةِ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا ; هَلْ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَيُغَيِّرُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ إِنَّ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ وَصَبَرَ؟ أَمْ يُجِيبُ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ دُونَ حَالِ الْعَجْزِ؟ أَمْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَغَيْرِهِ فَيَحْرُمُ حُضُورُهُ الْمُنْكَرَ وَلَوْ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؟ أَقْوَالٌ: لَا مَجَالَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا، وَلَا لِلْإِطَالَةِ فِي فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ. (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ - حَمِيَّةً لِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ - زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، أَيْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ أَنْ يَسْتَحْسِنُوا مَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَيَتَعَوَّدُونَهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ، أَوْ مِمَّا اسْتَحْدَثُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا صَارَ يُسْنَدُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى تَقْلِيدٍ وَجَهْلٍ، أَمْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ، فَسَبَبُ التَّزْيِينِ فِي الْأَوَّلِ أُنْسُهُمْ بِهِ كَوْنُهُ مِنْ شُئُونِ أُمَّتِهِمُ، الَّتِي يُعَدُّ مَدْحُهَا مَدْحًا لَهَا وَلَهُمْ، وَذَمُّهَا عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِي مَا يُعْطِيهِ الْعِلْمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا وَخَيْرًا فِي نَفْسِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ وَفِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَشُبُهَاتُ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ التَّزْيِينَ أَثَرٌ لِأَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ لَا جَبْرَ فِيهَا وَلَا إِكْرَاهَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ اللهَ خَلَقَ فِي قُلُوبِ بَعْضِ الْأُمَمِ تَزْيِينًا لِلْكُفْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي قُلُوبِ بَعْضِهَا تَزْيِينًا لِلْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ نَشَأَ عَنْهُ ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَكَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْغَرَائِزِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ النَّهْيِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْهَا مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِأَجْلِهِ، وَلَكَانَ عَمَلُ الرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُؤَدِّبِينَ الَّذِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ وَيُزَكُّونَ بِالتَّأَدِيبِ - كُلُّهُ مِنَ الْجُنُونِ، وَمَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ مِنَ النَّاسِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَهُوَ خِلَافٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا مِنِ اسْتِوَائِهِمْ فِي قَابِلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ غَفَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا التَّحْقِيقِ فَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ زَيَّنَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ

الْإِيمَانَ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِهَا بَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا، وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْجَبْرَ وَيُقِيمُونَ الْحُجَجَ لِإِثْبَاتِهِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ لَفْظِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى أَهْلِهِ - احْتَجَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّهَا نَصٌّ فِي مَذْهَبِهِ. وَقَدْ تَفَلْسَفَ الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ تَزْيِينَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ لِكَوْنِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا، وَإِنَّمَا يَخْتَارُهُ لِاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَعِلْمًا وَصِدْقًا وَحَقًّا، فَلَوْلَا سَابِقَةُ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ لَمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ الثَّانِي، وَذَلِكَ الْجَهْلُ السَّابِقُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا يُقَالُ فِيهِ مِثْلُ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُحَالُ، وَقَالَ: " لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْلِ ظَنَّ فِي الْكُفْرِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَحَقًّا وَعِلْمًا وَصِدْقًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَافِرِ اخْتِيَارُ الْجَهْلِ فِي قَلْبِهِ " اهـ. وَيُبْطِلُ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي سَمَّاهُ قَطْعِيًّا أَنَّ الْجَهْلَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَلْقٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ مُزَيَّنًا لِصَاحِبِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ وَصِدْقٌ كَمَا زَعَمَ بَلْ شَرُّ الْكُفْرِ وَأَشَدُّهُ كُفْرُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَإِنَّمَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ لِصَاحِبِهِ بِعَدِّهِ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا، بِالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِمَا تَرَاهُ عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِاتِّبَاعِ مَنْ هُوَ دُونَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْجَاهِ كَمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِ الْجَادِّينَ، مِنْ رُؤَسَاءِ الْأُمَمِ الْمُتْرَفِينَ، مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَوَرِثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُصْلِحِينَ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّ تَزْيِينَ الْأَعْمَالِ لِلْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهَا وَعَادَاتِهَا وَأَخْلَاقِهَا الْمَكْسُوبَةِ وَالْمَوْرُوثَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) 3: 14 أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاضِعِ السُّنَنِ وَكَاتِبِ الْمَقَادِيرِ وَأَمَّا تَزْيِينُ الْقَبِيحِ مِنْ عَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ فَيُسْنِدُهُ تَارَةً إِلَى الشَّيْطَانِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (6: 43 و137) وَفِي الْأَنْفَالِ (8: 48) وَالنَّحْلِ (16: 63) وَالنَّمْلِ (27: 24) وَالْعَنْكَبُوتِ (29: 38) وَحم السَّجْدَةِ (41: 25) وَتَارَةً إِلَى الْمَفْعُولِ وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (6: 22) وَفِي التَّوْبَةِ وَيُونُسَ وَفَاطِرٍ وَالْمُؤْمِنِ وَالْقِتَالِ وَالْفَتْحِ وَوَرَدَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ، وَيُقَابِلُهُ إِسْنَادُ تَزْيِينِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ فَقَطْ وَيَجْمَعُهُمَا مَعًا إِسْنَادُ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَنَحْوُهُ إِسْنَادُ " حُبُّ الشَّهَوَاتِ " إِلَى الْمَفْعُولِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُنَا لَهَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأَخِيرَةِ كَلَامٌ حَسَنٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

(ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ ثُمَّ يَرْجِعُ جَمِيعُ أَفْرَادِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ إِلَى رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُ أَمَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَمُوتُوا وَيُبْعَثُوا لَا إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، فَيُنْبِئُهُمْ عَقِبَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِمَّا كَانَ مُزَيَّنًا لَهُمْ وَغَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَيَجْزِيهِمْ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) أَيْ وَأَقْسَمَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمُعَانِدُونَ بِاللهِ أَشَدَّ أَيْمَانِهِمْ تَأْكِيدًا وَمُنْتَهَى جَهْدِهِمْ وَوُسْعِهِمْ مُبَالَغَةً فِيهَا، لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا أَوْ مُطْلَقًا لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِهَا إِيمَانًا بِهِ أَوْ لَيُؤْمِنُنَّ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ ; أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَيْهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُهَا مَنْ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ، (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) 13: 38 وَمَشِيئَتِهِ، وَكَمَالُ الْأَدَبِ مَعَهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ. رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ مُفَصَّلًا، فَذَكَرَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ أَخْبَارًا بِعَصَا مُوسَى وَإِحْيَاءِ عِيسَى الْمَوْتَى وَنَاقَةِ ثَمُودَ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَقْسَمُوا بِاللهِ لَئِنْ فَعَلَ لَيَتِّبِعُنَّهُ أَجْمَعِينَ، فَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُصْبِحَ الصَّفَا ذَهَبًا عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا - أَيْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ حَسَبَ سُنَّتِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ فَاخْتَارَ الثَّانِي فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) حَتَّى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أَيْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مِثْلِهِ مِرَارًا. (مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ إِنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الشُّعُورِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنْ جَاءَتِ الْآيَةُ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَجِيءَ الْآيَةِ لِيُومَنُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ دُعَائِهِ بِذَلِكَ، وَرِوَايَةُ طَلَبِهِ الْقَسَمَ مِنْهُمْ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا، وَقَدْ غَفَلَ مَنْ غَفَلَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارِيًّا نَافِيًا لِشُعُورِهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّابِتِ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ؟ فَجَعَلُوا النَّفْيَ لَغْوًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ (أَنَّهَا) بِمَعْنَى لَعَلَّهَا، وَنَقَلُوا هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَجَاءُوا عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ، هُمْ فِي غِنًى عَنْهُ وَعَنْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ (إِنَّهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِذَا

110

جَاءَتْ؟ وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا يَكُونُ مِنْهُمْ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَائِلًا: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ (لَا تُؤْمِنُونَ) الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ الْتِفَاتٌ وَتَلْوِينٌ. (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ) وَبَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِرُؤْيَةِ الْآيَةِ. أَيْ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيْضًا أَنَّنَا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَةِ بِالْخَوَاطِرِ وَالتَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِنْبَاطِ الِاحْتِمَالَاتِ وَأَبْصَارَهُمْ فِي تَوَهُّمِ التَّخَيُّلَاتِ. كَشَأْنِهِمْ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (15: 14: 15) فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، لَا يُقْنِعُهُ مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ، بَلْ يَدَّعِي أَنَّ عَيْنَيْهِ خُدِعَتَا أَوْ أُصِيبَتَا بِآفَةٍ فَهِيَ لَا تَرَى إِلَّا صُوَرًا خَيَالِيَّةً، أَوْ أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ السِّحْرِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، فِي مُكَابَرَةِ آيَاتِ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ مِنَ الْمُرْسَلِينَ؟ (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْحَيْرَةِ فِيهِ، أَيْ وَنَدَعُهُمْ فِي تَجَاوُزِهِمُ الْحُدُودَ فِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، الْمُشَابِهِ لِطُغْيَانِ الْمَاءِ فِي الطُّوفَانِ، الَّذِي رَسَخُوا فِيهِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنْ سُنَّتِنَا فِي تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ فِيمَا سَمِعُوا وَرَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ، هَلْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَمِ السَّحَرُ الَّذِي يَخْدَعُ النَّاظِرِينَ؟ وَهَلِ الْأَرْجَحُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ، أَمِ الْمُكَابَرَةُ لَهُ وَالْجِدَالُ فِيهِ كِبْرًا وَأَنَفَةً مِنَ الْخُضُوعِ لِمَنْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ؟ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ رُسُوخَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْإِسْرَافِ فِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَهُوَ سَبَبُ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا إِسْنَادُهُ إِلَى الْخَالِقِ لَهَا لِبَيَانِ سُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ فِيهَا. كَغَيْرِهِ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَإِنَّمَا يُخْطِئُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْأَمْرَ الْوَاقِعَ لِعَدَمِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَ نِظَامٍ لِلْمَقَادِيرِ، وَهَى نَزْعَةٌ قَدَرِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِمُ " الْأَمْرُ أُنُفٌ " أَوْ لَا نِظَامَ فِيهِ وَلَا قَدَرَ، يَتْبَعُهُمْ خُصُومُهُمْ فِيهَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَيُوقِعُهُمُ التَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ فِي أَظْهَرِ التَّنَاقُضِ وَهُمْ غَافِلُونَ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَ أَفْئِدَتَنَا وَأَبْصَارَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَيَحْفَظَنَا مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْعَمَهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ أَبْصَرَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الْبَصَائِرِ، وَيُصْلِحَ لَنَا السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ، اللهُمَّ آمِينَ.

111

الْجُزْءُ الثَّامِنُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَنَّ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمُوا بِاللهِ مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ مُؤَكِّدِينَهَا قَائِلِينَ: لَئِنْ جَاءَتْنَا آيَةٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهَا وَبِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ صِدْقِ الرَّسُولِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَمَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوَدُّونَ إِجَابَةَ اقْتِرَاحِهِمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى إِيمَانِهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ خَطَأَ ظَنِّهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ بِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُعَانِدِينَ وَمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ إِذَا رَأَوْا آيَةً تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَ وَمَا يَهْوَوْنَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَكَّرُونَ فِيهَا بِقَصْدِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، فَيَحْمِلُونَهَا عَلَى خِدَاعِ السِّحْرِ وَأَبَاطِيلِهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَبَعْدَ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ صَرَّحَ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:

(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) فَرَأَوْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِأَعْيُنِهِمْ وَسَمِعُوا شَهَادَتَهَا لَكَ بِالرِّسَالَةِ بِآذَانِهِمْ (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى) مِنْهُمْ بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ آيَةً لَكَ وَحُجَّةً عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا لِلْإِنْسَانِ (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) أَيْ وَجَمَعْنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَوْتَى فَسُقْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلًا لَهُمْ، أَوْ كَافِلًا لِصِحَّةِ دَعْوَاكَ، أَوْ قَبِيلًا قَبِيلًا (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَنَفْيُ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ مَنْ جَاءَهُ وَلِيٌّ يُرِيدُ نَصْرَهُ وَإِغَاثَتَهُ وَإِخْرَاجَهُ مِنْ ضِيقٍ نَزَلَ بِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَدُوٌّ يُهَاجِمُهُ لِيُوقِعَهُ بِهِ وَيَسْلُبَهُ مَا بِيَدِهِ فَيَنْبَرِي لِقِتَالِهِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ إِنَّمَا أَنَا وَلِيٌّ نَصِيرٌ، لَا عَدُوٌّ مُغِيرٌ، ظَنَّ أَنَّهُ يَخْدَعُهُ بِقَوْلِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى قَتْلِهِ قَتَلَهُ، لَا يَعْقِلُ غَيْرَ هَذَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قُبُلًا) قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كَالْأَوَّلِينَ هُنَا وَكَالْآخِرِينَ فِي الْكَهْفِ. قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَاجَهَةُ بِالشَّيْءِ، وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ مُوَاجَهَةً وَمُعَايَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّ الْأُولَى جَمْعُ قَبِيلٍ فَهُوَ كَقُضُبٍ وَرُغُفٍ - بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا - جَمْعُ قَضِيبٍ وَرَغِيفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبِيلًا قَبِيلًا وَصِنْفًا صِنْفًا، أَيْ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ عَلَى حِدَةٍ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ مُفْرَدِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) (17: 92) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْكَفِيلُ، أَيْ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا ذُكِرَ كُفَلَاءَ يَضْمَنُونَ لَهُمْ صِحَّةَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَعَانِي لِلْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّفَقٌ يُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) فَقِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، مَعْنَاهُ لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى إِنْ شَاءَ إِيمَانَ أَحَدٍ مِنْهُمْ آمَنَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ أَوِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُرَادُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ مَا دَامُوا عَلَى صِفَاتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُزِيلَهَا فَعَلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِذَلِكَ الْجَزْمِ بِعَدَمِ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعِنَادِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي فَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ جَارِيَةٌ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى كَكُلِّ مَا يَجْرِي فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَوْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِسُنَنِهِ، وَتَبْدِيلٌ لِطِبَاعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ خَلْقِهِ - الْإِنْسَانِ - فَهُوَ إِذًا مَزِيدُ تَأْكِيدٍ لِنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُعِدُّ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (87: 6، 7)

فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْسَى أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِهِ مَا اسْتَشْكَلُوهُ وَذَهَبُوا الْمَذَاهِبَ فِي تَأْوِيلِهِ مِنْ آيَتَيْ سُورَةِ هُودٍ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (11: 107) وَلَا حُجَّةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا لِلْجَبْرِيَّةِ عَلَى جَبْرِهِمْ، وَلَا لِلْقَائِلِينَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى لِلشَّرِّ وَلَا لِمُنْكِرِيهِ، فَكُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَشَرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا جَارٍ بِنِظَامٍ وَسُنَنٍ حِكْمِيَّةٍ وَكُلُّهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِقُبْحِهِ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِهِمْ بِهِ وَعِقَابِهِمْ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الْفِرَقُ كَمَا بَيَّنَاهُ مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي مَبَاحِثَ أُخْرَى مِنَ الْمَنَارِ. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَانْطِبَاقَهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، لِذَلِكَ يَتَمَنَّى بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ يُؤْتَى مُقْتَرِحُو الْآيَاتِ مَا اقْتَرَحُوهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ بِمُلْزِمَةٍ وَلَا مُغَيِّرَةٍ لِطِبَاعِ الْبَشَرِ فِي اخْتِيَارِ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ نَظَرِهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى لَجَعَلَهَا كَذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ أَيْضًا لَخَلَقَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ خَلْقًا لَا عَمَلَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَى رُسُلٍ، بَلْ لَا يَكُونُونَ هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الَّذِي سُمِّيَ الْإِنْسَانَ. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَطْعًا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ - كَالْجُمَلِ قَبْلَهَا - وَلَا شَكَّ أَنَّ جَهْلَهُمْ عَظِيمٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ إِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِهِمُ الْمُسْتَهْزِئُونَ الْخَمْسَةُ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ مِنْ آخِرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَنْظَلَةَ، فَقَدْ كَانُوا أَجْهَلَ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ وَأَشَدَّهُمْ جَهْلًا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ الْقَوْلُ السَّابِقُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ أَعْدَاءٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا اقْتَرَحُوا مَا اقْتَرَحُوا إِلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَابًا لِلطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ - أَرَادَ اللهُ تَعَالَى تَسْلِيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّتُهُ فِي جَمِيعِ النَّبِيِّينَ فَقَالَ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أَيْ وَكَمَا جَعَلْنَا هَؤُلَاءِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ أَعْدَاءً لَكَ، جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ جَاءَ قَبْلَكَ أَعْدَاءً هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالْعَدُوُّ ضِدُّ الصَّدِيقِ وَالْحَبِيبِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (26: 77) وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْعَدُوَّ هُنَا بِأَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ

وَالْجِنِّ، فَشَيَاطِينُ بَيَانٌ لِـ (عَدُوًّا) أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَعْدَاءً لِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى. ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْإِنْسَ بِالْوَسْوَسَةِ لَهُمْ، وَبِشَيَاطِينِ الْجِنِّ الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْجِنَّ كَذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِنْسِ شَيَاطِينُ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (2: 14) الْآيَةَ. وَالصَّوَابُ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ عَقِبَ صَلَاةٍ " يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ - قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ شَيْطَانٌ. وَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرِّيرُ الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي عَنِ الْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ، أَيِ الَّذِي لَا يَنْقَادُ لَهُمَا كِبْرًا وَعِنَادًا وَجُمُودًا عَلَى مَا تَعَوَّدَ، يَكُونُ عَدُوًّا لِلدُّعَاةِ إِلَيْهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْ وَرِثَتِهِمْ وَنَاشِرِي هِدَايَتِهِمْ. وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ ضِدَّيْنِ يَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْآخَرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَنَافِعِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَيِّرًا مُحِقًّا نُسِبَتِ الْعَدَاوَةُ إِلَى الْآخَرِ الشِّرِّيرِ الْمُبْطِلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى إِلَى إِيذَاءِ مُخَالِفِهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يَسْتَطِيعُهَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَيْرَ لَهُ. وَلَيْسَ كُلُّ مُخَالِفٍ مُبْطِلٍ عَدُوًّا يَسْعَى جَهْدَهُ لِإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ الْمُحِقِّ وَإِنَّمَا يَتَصَدَّى لِذَلِكَ الْعُتَاةُ الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُحِبُّونَ لِلشُّهْرَةِ وَالزَّعَامَةِ بِالْبَاطِلِ وَالْمُتْرَفُونَ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَلَى نَعِيمِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ كَافِرٍ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ نَاصِبًا نَفْسَهُ لِعَدَاوَتِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُمْ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الْعُتَاةُ الْمُتَمَرِّدُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُتْرَفِينَ وَالْقُسَاةِ الَّذِينَ ضُرِبَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الشَّيَاطِينُ الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ جِنْسِ الْإِنْسِ الظَّاهِرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ الْخَفِيِّ، وَحِكْمَةُ عَدَاوَةِ الْأَشْرَارِ لِلْأَخْيَارِ هِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ بِسُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَاتِ الَّتِي تُفْضِي بِالْجِهَادِ وَالتَّمْحِيصِ إِلَى مَا يُسَمُّونَهُ (سُنَّةَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ) أَيِ انْتِصَارُ الْحَقِّ وَبَقَاءُ الْأَمْثَلِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ) (13: 17) فَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا جِهَادٌ لَا يَكْمُلُ وَيَثْبُتُ فِيهَا إِلَّا الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِيهَا لِلْآخِرَةِ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (2: 142) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (2: 214)

112

(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ حَتَّى مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ بَلْهَ غَيْرَهُمْ يَجْهَلُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْحَكِيمَةَ الْعَالِيَةَ، وَإِذَا ذُكِرَتْ لَهُمْ يَشْتَبِهُونَ فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا اشْتَبَهَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبَبِ خُذْلَانِ دُوَلِهِمْ وَسُقُوطِ حُكُومَاتِهِمْ، ظَانِّينَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَسْمِيَتِهَا مُسْلِمَةً كَافٍ لِنَصْرِ اللهِ إِيَّاهَا وَإِنْ خَالَفَتْ هِدَايَةَ دِينِهِ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فِي زُعَمَائِهَا وَإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ دَهْمَائِهَا، وَخَالَفَتْ سُنَنَهُ فِي تَنَازُعِ الْبَقَاءِ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ كَمَا قَالَ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (8: 60) وَقَالَ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (8: 46) وَلَمْ يُقِيمُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بَلْ فَعَلُوا ضِدَّهَا، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَنَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى شَرَّ ضُرُوبِ عَدَاءِ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُقَاوَمَةُ هِدَايَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) أَيْ يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُمَوَّهَ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَسْتُرُ قُبْحَهُ وَيُخْفِي بَاطِلَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ دَقِيقَةٍ لَا يَفْطِنُ لِبَاطِلِهَا كُلُّ أَحَدٍ لِيُغْرُوهُمْ بِهِ. فَالْإِيحَاءُ: الْإِعْلَامُ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ طَرِيقٍ خَفِيٍّ دَقِيقٍ سَرِيعٍ كَالْإِيمَاءِ وَتَقَدَّمَ. وَالزُّخْرُفُ الزِّينَةُ كَالْأَزْهَارِ لِلْأَرْضِ وَالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالتَّخْيِيلِ الشِّعْرِيِّ فِي الْكَلَامِ، وَمَا يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنِ الْحَقَائِقِ إِلَى الْأَوْهَامِ. وَالْغُرُورُ ضَرْبٌ مِنَ الْخِدَاعِ بِالْبَاطِلِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمَا بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَالْبَلَاهَةِ وَعَدَمِ التَّجَارِبِ وَمِنْهُ: شَابٌّ غِرٌّ وَفَتَاةٌ غِرٌّ (بِالْكَسْرِ) أَيْ غَافِلَانِ عَنْ شُئُونِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَا تَجْرِبَةَ لَهُمَا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ غَرِّ الثَّوْبِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْكَسْرُ وَالثَّنْيُ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ طَيِّهِ. يَقُولُونَ طَوَيْتُ الثَّوْبَ عَلَى غَرِّهِ، أَيْ عَلَى ثَنْيِ طَيَّتِهِ الْأُولَى لَمْ أُحْدِثْ فِيهِ تَغْيِيرًا، ثُمَّ صَارَ مَثَلًا يُضْرَبُ لِكُلِّ مَا يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ، يُقَالُ: طَوَيْتُهُ عَلَى غَرِّهِ. وَالْبَصِيرُ الَّذِي عَلَّمَتْهُ التَّجَارِبُ حِيَلَ النَّاسِ وَأَبَاطِيلَهُمْ لَا يُغَرُّ كَمَا يُغَرُّ مَنْ بَقِيَ عَلَى سَجِيَّتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا كَالثَّوْبِ الْبَاقِي عَلَى طَيَّتِهِ الْأُولَى. يُقَالُ غَرَّهُ يَغُرُّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْغُرُورِ هُوَ مَا أَوْحَاهُ الشَّيْطَانُ الْأَوَّلُ لِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَبِينَا (آدَمَ) وَلِزَوْجِهِ، وَهُوَ تَزْيِينُهُ لَهُمَا الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي اخْتَبَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبِهَا إِذْ قَالَ لَهُمَا إِنَّهَا (شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (20: 120) . (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) (7: 21، 22) وَمِنْهُ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِمَنْ يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ بِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالِانْطِلَاقِ مِنَ الْقُيُودِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِطْمَاعِ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ بِأَمَانِي الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَالشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِ أَحَدِ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ: تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا ... فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُورَا تَعُضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا ... تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا

وَالتَّغْرِيرُ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ قَدِ ارْتَقَى عِنْدَ شَيَاطِينِ هَذَا الزَّمَانِ وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينُ السِّيَاسَةِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، فَإِنَّهُمْ يَخْدَعُونَ الْأَحْزَابَ مِنْهُمْ وَالْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيُصَوِّرُونَ لَهَا الِاسْتِعْبَادَ حُرِّيَّةً، وَالشَّقَاوَةَ سَعَادَةً، بِتَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ وَتَزْيِينِ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّ مِنَ الشُّعُوبِ غِرَارًا كَالْأَفْرَادِ، تُلْدَغُ مِنَ الْجُحْرِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ بَلْ عِدَّةَ مِرَارٍ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَلَّا يَفْعَلُوا هَذَا الْإِيحَاءَ الْغَارَّ مَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ، أَوْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا زَيَّنَتْهُ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، بَلْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي سُلُوكِ كُلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، كَمَا قَالَ فِي الْإِنْسَانِ (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (90: 10) وَمِنْ وَسْوَسَةِ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ لِلنَّاسِ وَزُخْرُفِهَا تَحْرِيفُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ بِحَمْلِهَا عَلَى مَعْنَى الْجَبْرِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ عَاصٍ لِلَّهِ مَعْذُورٌ لِأَنَّهُ مَا عَصَاهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْهَا. وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (6: 148) فَلَا عُذْرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمُ اضْطِرَارِيَّةً، بَلْ خَلَقَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ كَثِيرًا بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ، وَإِذَا اعْتَرَفُوا بِخَطَأٍ يَلْتَمِسُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ الْعُذْرَ (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) مِنْ كَذِبٍ، وَيَخْلُقُونَ مِنْ إِفْكٍ، لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَسَنُرِيكَ سُنَّتَنَا فِي أَمْثَالِهِمْ بَعْدَ حِينٍ. وَقَدْ فَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَهْلَكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّ السِّيَاقَ نَزَلَ فِيهِمْ، وَنَصَرَ اللهُ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَكَذَا يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَأَمَّا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمَجْدِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الْفَلْجُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى لِأَشَدِّهِمْ مُرَاعَاةً لَهَا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَتَخَلُّقًا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِرَارًا. (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) صَغِيَ إِلَيْهِ " كَرَضِيَ " يَصْغَى صِغًى وَصَغِي إِلَيْهِ صَغْيًا مَالَ وَمِثْلُهُ صَغَا يَصْغُو صَغْوًا. وَأَصْغَى إِلَى حَدِيثِهِ مَالَ وَاسْتَمَعَ، وَأَصْغَى الْإِنَاءَ أَمَالَهُ. وَيُقَالُ: صَغِي فَلَانٌ وَصَغْوُهُ مَعَكَ أَيْ: مَيْلُهُ وَهَوَاهُ - كَمَا يُقَالُ ضِلْعُهُ مَعَكَ وَالْمَعْنَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيُغْرُوهُمْ بِهِ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تَصْغَى إِلَيْهِ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَهْوَائِهِمْ (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أَيْ وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُرْضُوهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ فِي صِحَّتِهِ وَعَدَمِهَا، وَأَنْ يَقْتَرِفُوا بِتَفْسِيرِهِ مَا هُمْ مُقْتَرِفُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ بِغُرُورِهِمْ بِهِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ. اقْتَرَفَ الْمَالَ اكْتَسَبَهُ، وَالذَّنْبَ اجْتَرَحَهُ، وَصَرَّحَ بِاللَّامِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ دُونَ الْغُرُورِ لِأَنَّ الْغُرُورَ مِنْ فِعْلِ الْمُوحِينَ

وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُغْتَرِّينَ بِهِ لِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهُ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ لَا يُهِمُّهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءُ شَهَوَاتِهِمْ. وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ فِعْلِ الْغِرِّ وَالْغُرُورِ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُغْتَرِّينَ بِهِ، فَظَنَّ أَنَّ تَفْسِيرَ الْكَلَامِ هَكَذَا يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى زَيْدٌ غَرَّ عَمْرًا فَاغْتَرَّ. وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ قَطْعًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ (112) مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (107) مِنْ آيَاتٍ قَبْلَهَا فِي السُّورَةِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) وَهِيَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ أُسْنِدَتْ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ إِظْهَارِ الْحَقَائِقِ فِي شُئُونِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ وَمَا لَيْسَ لَهُ، وَأُسْنِدَتْ إِلَى اسْمِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى الرَّسُولِ فِي مَقَامِ تَسْلِيَتِهِ وَبَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَعْدَاءِ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَةُ رَبِّكَ الْكَافِلِ لَكَ بِحُسْنِ تَرْبِيَّتِهِ وَعِنَايَتِهِ - نَصَرَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهَمِ الصَّوَابِ. (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى رَسُولِهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَأَقْسَمُوا بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَاهُمْ وَأَيْمَانِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ، وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُغْرُونَ الْجَاهِلِينَ بِزُخْرُفِ أَقْوَالِهِمْ. فَيَصْرِفُونَهُمْ بِهَا عَنِ الْحَقِّ وَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْبَاطِلَ، فَتَمِيلُ إِلَيْهِ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيَرْضَوْنَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَهْوَائِهِمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ السَّيِّئَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ. ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُبَيِّنَتَيْنِ لِآيَةِ اللهِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّهِ مِنْ جَمِيعِ مَا اقْتَرَحُوا وَمِمَّا لَمْ يَقْتَرِحُوا مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ. وَهِيَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، وَكَوْنُ مُنْزِلِهَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِ، وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ فِيهَا دُونَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُبْطِلِينَ الْمُضِلِّينَ فَقَالَ آمِرًا لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ:

114

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) الْحَكَمُ، بِفَتْحَتَيْنِ كَالْجَبَلِ، هُوَ مَنْ يَتَحَاكَمُ النَّاسُ إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَيَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ وَيُنَفِّذُونَهُ، أَيْ أَأَطْلُبُ حَكَمًا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَيْرَهُ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا فِيهِ كُلُّ مَا يَصِحُّ بِهِ الْحُكْمُ - فَإِنْزَالُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحُكْمِ التَّفْصِيلِيِّ لِلْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَغَيْرِهَا عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ أُمِّيٍّ مِثْلِكُمْ هُوَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ آيَةٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِهِ هُوَ، كَمَا قَالَ بِأَمْرِ اللهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) (10: 16) جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ مِنَ السِّنِينَ، وَلَمْ يَصْدُرْ عَنِّي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِهِ فِي عُلُومِهِ وَلَا فِي إِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ وَلَا فِي أُسْلُوبِهِ وَلَا فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؟ ثُمَّ إِنَّ مَا فُصِّلَ فِيهِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ - الْمُوَضِّحِ بِقَصَصِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ - بُرْهَانٌ عِلْمِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي طَلَبِكُمُ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَزَعْمِكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي تَفْسِيرِ السِّيَاقِ الْأَخِيرِ فِي طَلَبِهَا وَفِي أَمْثَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ، وَمِنْ أَقْرَبِهَا مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 37 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [ص323 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] . (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أَيْ وَالَّذِينَ أَعْطَيْنَاهُمُ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ قَبْلِهِ كَعُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُقَلِّدِينَ مِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. وَبَيَانُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ، فَمَنْ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ كَانَ الْأَطِبَّاءُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِكَوْنِهِ طَبِيبًا، وَمَنْ أَلَّفَ كِتَابًا فِي النَّحْوِ كَانَ النُّحَاةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِكَوْنِهِ نَحْوِيًّا، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ الْعَالِمُونَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَفِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْهُ، وَأَنَّ أَوْسَعَ الْبَشَرِ عِلْمًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُهُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ قَبْلَهُ شَيْئًا (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (29: 48) وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (26: 197) . (ثَانَيِهُمَا) أَنَّ فِي الْكُتُبِ الْأَخِيرَةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِشَارَاتٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ تَخْفَى عَلَى عُلَمَائِهِمَا فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهَا وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ، وَقَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2: 146) وَقَدِ اعْتَرَفَ الْمُنْصِفُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ وَآمَنُوا، وَكَتَمَ بَعْضُهُمُ الْحَقَّ وَأَنْكَرُوهُ بَغْيًا وَحَسَدًا كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَحِلِّهِ.

115

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مُخَاطَبٍ، أَيْ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّكِّ فِي كَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحَقِّ مَقْرُونًا بِإِخْبَارِهِ بِهِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ شَكِّهِ فِيهِ بَعْدَ هَذَا الْإِخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ قَبْلَهُ فَلَا ضَرَرَ. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) الْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالطَّائِفَةِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ غَرَضٍ وَاحِدٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ، فَإِذَا أَلْقَى أَفْرَادٌ خُطَبًا أَوْ كَتَبُوا مَقَالَاتٍ فِي مَوْضُوعٍ مَا، قِيلَ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ وَكُلِّ مَقَالَةٍ: هَذِهِ كَلِمَةُ فُلَانٍ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي الْقَصِيدَةَ مِنَ الشِّعْرِ كَلِمَةً ; لِأَنَّ الْقَصِيدَةَ تُقَالُ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَتُسَمَّى جُمْلَةُ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنُ. وَهُوَ جَائِزٌ لُغَةً وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَعْنًى، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلِمَةَ هُنَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (11: 119) وَقَوْلِهِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) (7: 137) الْآيَةَ فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا وَعَدَكَ بِهِ مِنْ نَصْرِكَ، وَمَا أَوْعَدَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُعَانِدِي قَوْمِكَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ مِنْ خُذْلَانِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ، كَمَا تَمَّتْ مِنْ قَبْلُ فِي الرُّسُلِ وَأَعْدَائِهِمْ مِنْ قَبْلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (37: 171 173) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ عَامٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (40: 51) وَخَاصٍّ كَقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (15: 95) أَمَّا تَمَامُهَا صِدْقًا فَهُوَ وُقُوعُ مَضْمُونِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا خَبَرًا، وَأَمَّا تَمَامُهَا عَدْلًا فَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا جَزَاءً لِلْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَإِنْ كَانُوا بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ يُزَادُونَ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى طُغَاةِ قَوْمِهِ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا، فَالْفِعْلُ الْمَاضِي فِيهَا " تَمَّتْ " بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَأَنَّهُ وَقَعَ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ الْمُبَالَغَةِ الْبَلِيغَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَإِيذَائِهِمْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَإِيئَاسِ الطَّامِعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِإِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّ سُنَّتِي مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرُّسُلِ أَعْدَاءٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَدْ تَمَّتْ كَلِمَتِي بِنَصْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَخُذْلَانِ هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْمُفْسِدِينَ. (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَنِهِ (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) (33: 62)

وَالتَّبْدِيلُ التَّغْيِيرُ بِالْبَدَلِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَصْرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَخُذْلَانِ أَعْدَائِكَ قَدْ تَمَّتْ وَأَصْبَحَ نُفُوذُهَا حَتْمًا لَا مَرَدَّ لَهُ ; لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا مُبَدِّلَ لَهَا ; إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ - وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ - أَنْ يُزِيلَ كَلِمَةً مِنْ كَلِمَاتِهِ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى تُخَالِفُهَا، أَوْ يَمْنَعَ صِدْقَهَا عَلَى مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ، كَأَنْ يَجْعَلَ الْوَعْدَ وَعِيدًا أَوِ الْوَعِيدَ وَعْدًا أَوْ يَصْرِفَهُمَا عَنِ الْمَوْعُودِ بِالثَّوَابِ أَوِ الْمُوْعَدِ بِالْعِقَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا أَوْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِمَا أَلْبَتَةَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَّزَ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، قُلْنَا: لَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْحَقِّ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ مُطْلَقًا، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي الْكُفَّارِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا قِيلَ: يَتَخَلَّفُ شُمُولُ الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ بَعْضِ النُّصُوصِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَخَلُّفٍ فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِكَلِمَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْذِيبٌ لَهَا، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يُرِدْ بِتِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ الشُّمُولَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ تِلْكَ النُّصُوصُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مُقْتَرِفِيهَا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَا يُبَدِّلُ كَلَامَهُ فِي أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَأُبْهِمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْغُرُورِ وَالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِهِ فَنُقَصِّرُ، وَنَخَافُهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا ارْتِكَابُ الذَّنْبِ فِي الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ فَنَهْلَكُ، وَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ فَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الشُّفَعَاءُ يُؤَثِّرُونَ فِي إِرَادَتِهِ تَعَالَى فَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُمْ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؟ قُلْنَا: كَلَّا إِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ وَعِلْمُهُ فِي الْأَزَلِ بِالْإِذْنِ لَهُمْ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) فَيَكُونُ ذَلِكَ إِظْهَارَ كَرَامَةٍ وَجَاهٍ لَهُمْ عِنْدَهُ، لَا إِحْدَاثَ تَأْثِيرٍ لِلْحَادِثِ فِي صِفَاتِ الْقَدِيمِ وَسُلْطَانٍ لَهُ عَلَيْهَا، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّحْرِيفِ أَوِ التَّبْدِيلِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَيْ فِي لَفْظِهَا وَعِبَارَتِهَا، كَاسْتِحَالَةِ التَّبْدِيلِ فِي صِدْقِهَا وَنُفُوذِهَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا وَرَدَ السِّيَاقُ وَالنَّصُّ فِي صِدْقِهَا وَعَدْلِهَا فِي لَفْظِهَا، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيفَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا لِكَلَامِهِ وَنِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِنْهُ، وَمَا كَفَلَ تَعَالَى حِفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ بِنَصِّهِ إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (15: 9) وَظَهَرَ صِدْقُ كَفَالَتِهِ بِتَسْخِيرِ الْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لِحِفْظِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلِكِتَابَةِ النُّسَخِ الَّتِي

لَا تُحْصَى مِنْهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - إِلَى هَذَا الْعَصْرِ، وَنَاهِيكَ بِمَا طُبِعَ مِنْ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ نُسَخِهِ فِي عَهْدِ وُجُودِ الطِّبَاعَةِ بِمُنْتَهَى الدِّقَّةِ وَالتَّصْحِيحِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ ذَلِكَ لِكِتَابٍ إِلَهِيٍّ وَلَا غَيْرِ إِلَهِيٍّ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَحْفَظُوا كُتُبَ رُسُلِهِمْ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي السُّطُورِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَقَدْ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لِأَنَّهُ تَذْيِيلٌ لِلسِّيَاقِ الْأَخِيرِ كُلِّهِ لَا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَطْ، وَهُوَ سِيَاقُ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ، وَفِيهِ ذِكْرُ اقْتِرَاحِهِمْ وَأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، وَذِكْرُ سَائِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَخِدَاعِهِمْ لِلنَّاسِ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، وَصَغْيِ قُلُوبِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ إِلَيْهِ وَضَلَالِهِمْ بِهِ، فَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ الْخَادِعَةِ مِنْهُمْ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الصَّغْيِ وَالْمَيْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، وَبِمَا يَقْتَرِفُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِكُفْرِهِمْ وَغُرُورِهِمْ. (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)

116

هَذِهِ الْآيَاتُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي بَيَانِ ضَلَالِ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَغَلَبَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَإِقَامَةِ حُجَجِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الذَّبَائِحِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا قَبْلَهَا وَحْيَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِي يُلْقُونَهُ لِغُرُورِ النَّاسِ بِهِ، وَصَغْيِ قُلُوبِ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ لَهُ وَافْتِتَانِهِمْ بِهِ، وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ وَحْيِ اللهِ الْمُفَصِّلِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صَلَاحُ دُنْيَاهُمْ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ: لَا تَبْتَغِ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ حَكَمًا غَيْرَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، فَهَذَا الْكِتَابُ هُوَ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ، فَادْعُ إِلَيْهِ النَّاسَ كَافَّةً، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكَ فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُتَّبِعُونَ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي تُرَجِّحُهُ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَمَا هُمْ فِيهَا إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَخْرُصُ أَهْلُ الْحَرْثِ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرَهَا وَيُقَدِّرُونَ مَا تَأْتِي بِهِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ وَلَا ثَابِتٍ بِدَلَائِلَ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ. وَهَذَا الْحُكْمُ الْقَطْعِيُّ بِضَلَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ بِمَا بَيَّنَهُ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ - وَلَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - تُؤَيِّدُهُ تَوَارِيخُ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ تَرَكُوا هِدَايَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا، وَكَذَلِكَ أُمَمُ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَبْعَدَ عَهْدًا عَنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ شُئُونِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِ الْعَرَبِ خَاصَّةً. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَبَيَّنَ لَكَ فِيهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنَ الْحَقِّ وَمِنْ شُئُونِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَمِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ بِمَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ الْقَوِيمِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ السَّالِكِينَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ، إِذِ الضَّلَالُ مَا يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَيُبْعِدُ السَّالِكَ عَنْهُ، وَالِاهْتِدَاءُ مَا يَجْذِبُهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَصْدَقَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حِسِّهِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ اضْطَرَبُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ الشَّائِعِ مِنِ اقْتِرَانِ مَعْمُولِ اسْمِ التَّفْضِيلِ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَلَمِ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (68: 7)

117

فَكَانَ أَبْعَدُ إِعْرَابِهِمْ لَهُ عَنِ التَّكَلُّفِ أَنَّ الْبَاءَ حُذِفَتْ مِنْهُ اكْتِفَاءً بِاقْتِرَانِهَا بِمُقَابِلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وَمُخَالَفَةُ الْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ اللُّغَةِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا إِلَّا لِنُكْتَةٍ يَقْصِدُونَهَا بِهِ، وَكَلَامُ رَبِّ الْبُلَغَاءِ وَمُنْطِقِهِمْ بِاللُّغَاتِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالنُّكَتُ مِنْهَا لَفْظِيٌّ كَالِاخْتِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ، وَمِنْهَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ نُكَتِ مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ الْكَثِيرِ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ الْمُتَأَمِّلِ، كَمَنْ يُرِيدُ إِيقَافَ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ مِنْهُ لِفَائِدَةٍ لَهُ فِي الْوُقُوفِ، كَمَا أَرَى اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ بِجَانِبِ الطُّورِ فَحَمَلَ أَهْلَهُ عَلَى الْمُكْثِ فِيهِ لِمَا عَلِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّكَتِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلْنَا مِنْهُ عَطْفَ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) (5: 69) أَيْ وَكَذَا الصَّابِئُونَ أَوْ وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، خَصَّ هَؤُلَاءِ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ نَسَقِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ بَقَايَا أَهْلِ كِتَابٍ وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) لِلتَّنْبِيهِ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَمَ بِأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا بِالذَّاتِ بِدَلِيلِ سَابِقِ الْكَلَامِ وَلَاحِقِهِ إِذْ هُوَ فِيهِمْ، وَمَا ذَكَرَ الْعِلْمَ بِالْمُهْتَدِينَ إِلَّا لِأَجْلِ التَّكْمِلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، فَتَأَمَّلْ. وَلَوْ جَازَتِ الْإِضَافَةُ هُنَا نَحْوُ " أَفْضَلُ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ ". لَكَانَ الْكَلَامُ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَمَنْ يَهْتَدِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَبِالْمُهْتَدِينَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الْإِضَافَةِ هُنَا كَوْنَ صِلَةِ " مَنْ " فِعْلًا مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا كَالْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ وَنَظَائِرَهُ، بَلِ الْمَانِعُ هُوَ أَنَّ الْمُضَافَ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا جِنْسَ لَهُ، وَلَوِ اقْتَرَنَ الْمَوْصُولُ هُوَ بِالْجَارِ فَقِيلَ: هُوَ أَعْلَمُ مِمَّنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، لَجَزَمْنَا بِالِاحْتِبَاكِ. بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ يُضِلُّونَ مَنْ أَطَاعَهُمْ لِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ خَرَّاصُونَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ، رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ بِمُخَالَفَةِ الضَّالِّينَ مِنْ قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الذَّبَائِحِ وَبِتَرْكِ جَمِيعِ الْآثَامِ فَقَالَ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِذَا كَانَ أَمْرُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ دُونَ غَيْرِهِ - وَهُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْدَ آيَتَيْنِ مِنَ السِّيَاقِ - إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ الَّتِي جَاءَتْكُمْ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ مُؤْمِنِينَ، وَبِمَا يُخَالِفُهَا مِنْ ضَلَالِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ مُكَذِّبِينَ، وَحِكْمَةُ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَرْنِهَا بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ هُوَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ جَعَلُوا الذَّبَائِحَ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ نَظَّمُوهَا

119

فِي سِلْكِ أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، فَصَارُوا يَتَعَبَّدُونَ بِذَبْحِ الذَّبَائِحِ لِآلِهَتِهِمْ وَمَنْ قَدَّسُوا مِنْ رِجَالِ دِينِهِمْ، وَيُهِلُّونَ لَهُمْ بِهَا عِنْدَ ذَبْحِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهَذَا شِرْكٌ بِاللهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَسَمَّى ذَلِكَ الْغَيْرُ إِلَهًا أَوْ مَعْبُودًا أَمْ لَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ بِذَكَائِهِ وَعِلْمِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَاسْتَشْكَلَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْمَسْأَلَةَ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ أَكْلِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ أَيْضًا، فَكَيْفَ نَازَعَهُمْ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَسَكَتَ عَنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْمُذَّكَاةَ، وَبِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمُذَكَّى دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ وَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا كَمَا عَلِمْتَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ سَبَبَ غَفْلَةِ أَذْكِيَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اقْتِصَارُهُمْ فِي أَخْذِ التَّفْسِيرِ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ وَمَدْلُولِ الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا يُغْنِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ بِمَعْرِفَةِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَتَارِيخِ أَهْلِهَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ فِي أَهَمِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الضَّالُّونَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى الذَّبْحِ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَتَسْيِيبِ السَّوَائِبِ لَهُمْ كَعِجْلِ الْبَدَوِيِّ الْمَشْهُورِ أَمْرُهُ فِي أَرْيَافِ مِصْرَ، وَلَمَّا سَرَتْ هَذِهِ الضَّلَالَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءِ حُكْمَهَا وَمَتَى تَكُونُ كُفْرًا كَمَا سَيَأْتِي، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الذَّبَائِحِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ صَارُوا فِي عَهْدِ الْوَثَنِيَّةِ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ شِرْكٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ. (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) تَقُولُ الْعَرَبُ مَا لَكَ أَلَّا تَفْعَلَ كَذَا، وَهُوَ مِنْ مُوجَزِ الْكَلَامِ بِالْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ هُنَا وَأَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَكَلِمَةُ " فِي " تُحْذَفُ قَبْلَ أَنْ وَأَنَّ قِيَاسًا. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّكْلِيفِ . وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا فَائِدَةَ لَكُمْ أَلْبَتَّةَ فِي عَدَمِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ وَحْدَهُ عَلَيْهِ دُونَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكُمْ (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (145) أَيْ ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ كَأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ وُضِعَتِ الْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ ذِكْرَى لَهُمْ. وَالتَّفْصِيلُ وَالتَّبْيِينُ وَاحِدٌ، فَهُوَ فَصْلُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَإِبَانَتُهَا مِنْ بَعْضٍ

آخَرَ يَتَّصِلُ بِهَا اتِّصَالًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْأُمُورِ الَّتِي يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تُعَدَّ كَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْجِنْسِ، إِذْ أَزَلْتَ مَا بِهِ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَهَا بِمَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَجَعَلْتَهَا أَنْوَاعًا تَكُونُ قَدْ فَصَّلْتَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْجِنْسِ وَأَبَنْتَهُ مِنَ الْآخَرِ. وَتَكْرِيرُ الْفَصْلِ هُوَ التَّفْصِيلُ. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ، فَمَتَى وَقَعَتِ الضَّرُورَةُ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ شِدَّةِ الْجُوعِ إِلَّا الْمُحَرَّمُ زَالَ التَّحْرِيمُ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَيُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ مَا تَزُولُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَيُتَّقَى الْهَلَاكُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحْرِيمِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا يَذْبَحُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى النُّصُبِ وَيُهِلُّونَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، بَلْ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا يَتْرُكُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَفْطِنُ لِقُبْحِهَا خَوَاصُّ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فَيَتَنَزَّهُونَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ ; وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ بِمَا تَرَى مِنَ الْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ " فَصَّلَ " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَ " حُرِّمَ " بِضَمِّ الْحَاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَفَصٌ وَيَعْقُوبُ وَسَهْلٌ الْفِعْلَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا وَقَرَأَهُمَا الْبَاقُونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا هِيَ تَوْسِعَةٌ فِي اللَّفْظِ. (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضِلُّونَ (بضم الياء) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْأُولَى أَبْلَغُ، وَفَائِدَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ بَيَانُ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ بِالْإِيجَازِ الْعَجِيبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنَ الثَّابِتِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ كَمَا ضَلُّوا فِي مِثْلِ أَكْلِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ بِذِكْرِ اسْمِ ذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ أَوْ وَثَنٍ وُضِعَ لِتَعْظِيمِهِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَضِلُّ فِي ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِإِضْلَالِ غَيْرِهِ وَلَا يَتَصَدَّى لِإِضْلَالِ أَحَدٍ فِيهِ لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِضْلَالِ أَوْ لِفَقْدِ الدَّاعِيَةِ، وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ وَاقِعٌ بِأَهْوَاءِ أَهْلِهِ لَا بِعِلْمٍ مُقْتَبَسٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَا مُسْتَنْبَطٍ بِحُجَجِ الْعَقْلِ. وَمَهَبُّ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ مَا كَانَ سَبَبَ الْوَثَنِيَّةِ وَأَصْلَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ نَبِيَّهُ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رِجَالٌ صَالِحُونَ عَلَى دِينِ الْفِطْرَةِ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا مَاتُوا وَضَعُوا لَهُمْ أَنْصَابًا تُمَثِّلُهُمْ لِيَتَذَكَّرُوهُمْ بِهَا وَيَقْتَدُوا بِهِمْ، ثُمَّ صَارُوا يُكْرِمُونَهَا لِأَجْلِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ أُنَاسٌ جَهِلُوا حِكْمَةَ وَضْعِهِمْ لَهَا، وَإِنَّمَا حَفِظُوا عَنْهُمْ تَعْظِيمَهَا وَتَكْرِيمَهَا وَالتَّبَرُّكَ بِهَا تَدَيُّنًا وَتَوَسُّلًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً لَهَا. وَتَسَلْسَلَ فِي الْأُمَمِ بَعْدَهُمْ، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - يَبْنِي الْمُضِلُّونَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي عَبَدُوا بِهَا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى، كَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَدُعَائِهِ وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ

بِاسْمِهِ وَالطَّوَافِ حَوْلَ تِمْثَالِهِ أَوْ قَبْرِهِ وَالتَّمَسُّحِ بِأَرْكَانِهِمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ شُبْهَتُهُ تَعْظِيمُ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلتَّقْرِيبِ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ رَاجَتْ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ الْوَثَنِيَّةُ فِي أَهْلِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَهْوَاءِ الْجَهْلِيَّةِ. وَأَوَّلُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ الْقَطْعِيَّةَ، وَأَجَازَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْعِلْمِ الدِّينِيِّ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعُدُّونَهُ كُفْرًا وَشِرْكًا مِنْ غَيْرِهِمْ إِمَّا بِإِنْكَارِ تَسْمِيَتِهِ عِبَادَةً أَوْ بِدَعْوَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ بِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ جَعْلِهِ وَاسِطَةً وَوَسِيلَةً إِلَيْهِ لَا تُعَدُّ شِرْكًا بِهِ، وَمَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ إِلَّا هَذَا، وَلَوْ وُجِّهَتِ الْعِبَادَةُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْوُسَطَاءِ لِذَوَاتِهِمْ طَلَبًا لِلنَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ - وَهَذَا وَاقِعٌ أَيْضًا - لَكَانَتْ تَوْحِيدًا لِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ لَا إِشْرَاكًا لَهُمْ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (98: 5) وَالْمُخْلِصُ لِلَّهِ: مَنْ خَلُصَتْ عِبَادَتُهُ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالْحَنِيفُ: مَنْ كَانَ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، فَمَا كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ مُوَحِّدًا لَهُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (12: 106) وَتَقَدَّمَ تَوْضِيحُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِرَارًا. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) هَذَا التَّذْيِيلُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ خَاصَّةً، أَيْ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي بَيَّنَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ عَلَى لِسَانِكَ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَمِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ بِالْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَجَاوَزُونَ حَدَّ الضَّرُورَةِ عِنْدَ وُقُوعِهَا اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الِاعْتِدَاءِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (5: 87) وَهَذَا الْإِخْبَارُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْذَارَ وَالْوَعِيدَ، أَيْ فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى اعْتِدَائِهِمْ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيمَ الْقَوْلِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنِ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِذِ الْمُقَلِّدُ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا قَلَّدَ فِيهِ وَذَلِكَ بَدِيهِيٌّ فِي الْعَقْلِ، وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ قَوْلٌ بِمَحْضِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ. (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) الْإِثْمُ فِي اللُّغَةِ: الْقَبِيحُ الضَّارُّ، وَفِي الشَّرْعِ: كُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا مَا كَانَ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ عُقُولِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ، أَوْ ضَارًّا بِالْجَمَاعَاتِ فِي مَصَالِحِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ أَوِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْهُ مَا فُعِلَ عَلَنًا وَالْبَاطِنُ مَا فُعِلَ سِرًّا، أَوِ الظَّاهِرُ مَا ظَهَرَ قُبْحُهُ أَوْ ضَرَرُهُ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ فُعِلَ سِرًّا، وَالْبَاطِنُ مَا يَخْفَى ذَلِكَ فِيهِ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ فُعِلَ جَهْرًا، أَوِ الظَّاهِرُ مَا تَعَلَّقَ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْبَاطِنُ مَا تَعَلَّقَ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالنِّيَّاتِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالتَّفْكِيرِ فِي تَدْبِيرِ الْمَكَايِدِ الضَّارَّةِ وَالشُّرُورِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَمِمَّا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ بَاطِنِ الْإِثْمِ عَلَى بَعْضِ

120

الْوُجُوهِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، فَهُوَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهُ الِاعْتِدَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ بِأَنْ يَتَجَاوَزَ فِيهِ حَدَّ الضَّرُورَةِ. وَقِيلَ الْحَاجَةِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5: 3) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَالْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْآثَامِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّعْبِيرِ تَرْكُ الْإِثْمِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، أَيْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الظُّهُورِ وَالْبُطُونِ فِيهِ. وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرَ بِزِنَا السِّفَاحِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَوَاخِيرِ، وَالْبَاطِنَ بِاتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ وَالصَّدِيقَاتِ فِي السِّرِّ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَبِيحُونَ زِنَا السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَ السِّفَاحَ بِالْجَهْرِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الظَّاهِرَ بِنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَأَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْبَاطِنَ بِالزِّنَا، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ مُخَصَّصٍ بَاطِلٌ. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى لَفْظِ الِاقْتِرَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 113 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتَسِبُونَ جِنْسَ الْإِثْمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ظَاهِرًا أَمْ بَاطِنًا سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ إِثْمِهِمْ بِقَدْرِ مَا كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِفْسَادِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَمُعَاوَدَتِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَيَمْحُوَ تَأْثِيرَ الْإِثْمِ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (11: 114) فَتَعُودُ أَنْفُسُهُمْ زَكِيَّةً طَاهِرَةً، وَتَلْقَى رَبَّهَا سَلِيمَةً بَارَّةً. (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُهُ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ بَيَانِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِضْلَالِهِمْ بِأَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْمَفْهُومِ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى الْقَصْرِ، لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَظْهَرِ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ عِنْدَ تَزْكِيَتِهِ، وَالْحَالُ إِنَّهُ لَفِسْقٌ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهَذَا وَذَاكَ ; لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِتِلْكَ الْقَرَابِينِ الدِّينِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَبِدَلِيلِ تَقْيِيدِ النَّهْيِ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَمَا حَقَّقَهُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أَيْ وَإِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَالتَّلْقِينِ الْخَادِعِ الْخَفِيِّ مَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيهَا فَجَارَيْتُمُوهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مِثْلُهُمْ؛ فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ

121

شِرْكٌ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَسَائِرِ مَا يُتَوَجَّهُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ التَّوَسُّلِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ إِلَيْهِ لِيُقَرِّبَ الْمُتَوَسِّلَ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْوَثَنِيَّةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ لَمْ يُجَادِلُوا أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ وَلَا اسْمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ مَنْ يَأْكُلُ هَذِهِ الذَّبَائِحَ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا، وَكَذَلِكَ مَنْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْجِدَالُ فِي هَذِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ شَيَاطِينَ فَارِسٍ وَمَنْ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) مِنْ مَرَدَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، يُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَصِلَ إِلَى نَبِيِّ اللهِ وَأَصْحَابِهِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ. وَرُوِيَ بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ قَالَ: أَوْحَتْ فَارِسٌ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا وَقُولُوا لَهُ: إِنَّ مَا ذَبَحْتَ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللهُ فَهُوَ حَرَامٌ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كَتَبَتْ فَارِسٌ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللهِ فَمَا ذَبَحَ اللهُ بِسِكِّينٍ مِنْ ذَهَبٍ فَلَا يَأْكُلُهُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَمَّا مَا ذَبَحُوا هُمْ فَيَأْكُلُونَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا الْآيَةَ بِوَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ مَا قَالُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى كَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: مَا قَتَلَ رَبُّكُمْ فَلَا تَأْكُلُونَهُ وَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ، أَيْ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ شُمُولَ الْآيَةِ لِلْقَوْلَيْنِ فِي وَحْيِ الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (112) ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَهُمْ فِي الْمُحَرَّمِ - بِهَذِهِ الْآيَةِ - الْمُرَادِ بِمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا قَوْلُهُ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ عَلَيْهِ، قَالَ وَيَنْهَى عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْأَوْثَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى وَرَجَّحَ شُمُولَ الْآيَةِ لِمَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ وَمَا مَاتَ أَوْ ذَبَحَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: وَذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكِيَّةٌ سَمَّوْا عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يُسَمُّوا ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَوْحِيدٍ وَأَصْحَابُ كُتُبٍ لِلَّهِ يَدِينُونَ بِأَحْكَامِهَا يَذْبَحُونَ الذَّبَائِحَ بِأَدْيَانِهِمْ كَمَا يَذْبَحُ الْمُسْلِمُ بِدِينِهِ سَمَّى اللهَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ أَمْ لَمْ يُسَمِّهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ تَرَكَ تَسْمِيَةَ اللهِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ عَلَى الدَّيْنُونَةِ بِالتَّعْطِيلِ أَوْ بِعِبَادَةِ شَيْءٍ سِوَى اللهِ فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ " نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ فَهُوَ حَرَامٌ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ بِالذَّبْحِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَا ذُبِحَ وَلَمْ يُذْكَرْ

عَلَيْهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تُرِكَ ذَلِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِنْ تُرِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا حُرِّمَ، وَإِنْ تُرِكَ نِسْيَانًا حَلَّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يَحِلُّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً إِذَا كَانَ الذَّابِحُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) (5: 3) فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ (أَحَدُهُا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَسَّقُ آكِلُ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تَرَكَ التَّسْمِيَةَ. (وَثَانَيِهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ. رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَا يَقْتُلُهُ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ تَأْكُلُونَهُ وَمَا يَقْتُلُهُ اللهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلُونَهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا يَقْتُلُهُ اللهُ. فَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، (وَثَالِثُهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، يَعْنِي لَوْ رَضِيتُمْ بِهَذِهِ الذَّبِيحَةِ الَّتِي ذُبِحَتْ عَلَى اسْمِ إِلَاهِيَّةِ الْأَوْثَانِ فَقَدْ رَضِيتُمْ بِإِلَاهِيَّتِهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الشِّرْكَ. " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ هَذِهِ الصِّيغَةِ إِلَّا أَنَّ آخِرَهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ هُوَ هَذَا الْخُصُوصُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فَقَدْ صَارَ هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْأَكْلُ فِسْقًا، ثُمَّ طَلَبْنَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى يَصِيرُ فِسْقًا، فَرَأَيْنَا هَذَا الْفِسْقَ مُفَسَّرًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فَصَارَ الْفِسْقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسَّرًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) مَخْصُوصًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ الْبَحْثُ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَفِي الذَّبَائِحِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ فَتُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ [ص113، 145 وَمَا بَعْدَهُمَا ط الْهَيْئَةِ] . وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا يُذْبَحُ لِغَيْرِ اللهِ وَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ مَا ذُبِحَ عِنْدَ قُدُومِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا تَكْرِيمًا لَهُ إِذَا ذُكِرَ اسْمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ كُلَّ مَا يُذْبَحُ بِبَاعِثٍ دَيْنِيٍّ فَهُوَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُذْكَرُ غَيْرُ اسْمِهِ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّكْرِيمِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضِّيَافَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا يَذْكُرْ

الْمُسْلِمُ اسْمَ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الضُّيُوفِ الْمُكَرَّمِينَ عِنْدَ الذَّبْحِ كَمَا يَذْكُرُ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ كَمَا يُهِلُّ مَنْ يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ أَوْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِأَسْمَائِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ مَنْ يُذَكُرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ ضِيَافَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَاحِبُ (الرَّوْضَةُ النَّدِيَّةُ بِشَرْحِ الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ) وَبَيَّنَ وَجْهَ الْخِلَافِ فِيهَا وَجَاءَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ بِفَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقَامِ فَقَالَ: " وَأَمَّا الذَّبْحُ لِلسُّلْطَانِ وَهَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ أَمْ لَا؟ فَقَدْ أَجَابَ الْمَاتِنُ رَحِمَهُ اللهُ فِي بَحْثٍ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَفْظُهُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْعُمُومَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْحَدِيثِيَّةُ، فَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَنْقُضُ ذَلِكَ الْأَصْلَ الْمَعْلُومَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، مِثْلُ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْمَيْتَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِدَلِيلٍ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ كَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ أُصُولَ التَّحْرِيمِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، أَوْ وُقُوعُ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ أَوِ النَّهْيِ عَنْهُ أَوِ الِاسْتِخْبَاثِ أَوِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ - إِذَا لَمْ يُنْسَخْ - فَلَا بُدَّ لِلْقَائِلِ بِتَحْرِيمِ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ مِنِ انْدِرَاجِهِ تَحْتَ أَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ كَمَنْ حَلَّلَ مَا حَرَّمَ اللهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْإِثْمِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا كَافِيَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ الْعُمُومَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (5: 4) وَقَوْلُهُ: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (7: 32) وَقَوْلُهُ: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وَقَوْلُهُ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَقَوْلُهُ: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) (7: 157) . " وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَقْفُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَى حُرْمَتِهِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ حَدِيثُ سَلْمَانَ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا

أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَتَلَا: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ طَعَامًا أَتَحَرَّجُ مِنْهُ، فَقَالَ: " ضَارَعْتَ النَّصْرَانِيَّةَ لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ ". " إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَسْأَلَةُ السُّؤَالِ أَعْنِي مَا ذُبِحَ مِنَ الْأَنْعَامِ لِقُدُومِ السُّلْطَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْإِهْلَالَ رَفْعُ الصَّوْتِ لِلصَّنَمِ وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَاسِمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالذَّابِحُ عِنْدَ قُدُومِ السُّلْطَانِ لَا يَقُولُ عِنْدَ ذَبْحِهِ " بِاسْمِ السُّلْطَانِ "، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا بِلَا نِزَاعٍ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ بِاسْمِ اللهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَعَنَ اللهُ مِنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ " الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الذَّبْحَ لِغَيْرِ اللهِ كَمَا بَيَّنَهُ شُرَّاحُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَنْ يَذْبَحَ بِاسْمِ غَيْرِ اللهِ كَمَنْ ذَبَحَ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِمُوسَى أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِلْكَعْبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ وَلَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ سَوَاءٌ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَإِنْ قَصَدَ الذَّابِحُ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ - وَكَانَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى - وَالْعِبَادَةَ لَهُ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ بِالذَّبْحِ مُرْتَدًّا انْتَهَى. " وَهَذَا إِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِاسْمِ أَمْرٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ لَا إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَقُصِدَ بِهِ الْإِكْرَامُ لِمَنْ يَجُوزُ إِكْرَامُهُ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِ الذَّبِيحَةِ. هَاهُنَا كَمَا سَلَفَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا يُذْبَحُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَفْتَى أَهْلُ بُخَارَى بِتَحْرِيمِهِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا إِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ اسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ فَهُوَ كَذَبْحِ الْعَقِيقَةِ لِوِلَادَةِ الْمَوْلُودِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَفِي رَوْضَةِ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ: مَنْ ذَبَحَ لِلْكَعْبَةِ تَعْظِيمًا لَهَا لِكَوْنِهَا بَيْتَ اللهِ أَوْ لِرَسُولِ اللهِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ الذَّبِيحَةَ بَلْ تَحِلُّ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الذَّبْحُ الَّذِي يُذْبَحُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ اسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ فَإِنَّهُ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الذَّبْحِ لِعَقِيقَةِ الْوِلَادَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَشْعَرَ أَوَّلُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ لِلسُّلْطَانِ تَعْظِيمًا لَهُ لِكَوْنِهِ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِثْلَ الذَّبْحِ

لَهُ لِأَجْلِ الِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الذَّبْحِ لِلْكَعْبَةِ تَعْظِيمًا لَهَا لِكَوْنِهَا بَيْتَ اللهِ. وَذَكَرَ الدَّوَّارِيُّ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ لِلْجِنِّ وَقَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيَصْرِفَ عَنْهُ شَرَّهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ قَصَدَ الذَّبْحَ لَهُمْ فَهُوَ حَرَامٌ. انْتَهَى. وَهَذَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ حِلُّ مَا ذُبِحَ لِإِكْرَامِ السُّلْطَانِ - بِالْأَوْلَى - وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، لِمَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحِلُّ، وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَامَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ وُجُودِ نَاقِلٍ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَلَا مُخَصِّصٍ لِذَلِكَ الْعُمُومِ وَاللهُ أَعْلَمُ. " انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا يُذْبَحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِبْشَارِ وَنَحْوِهِ كَالذَّبْحِ لِلْعَقِيقَةِ وَالْوَلِيمَةِ وَالضِّيَافَةِ وَنَحْوِهَا، فَالْأَوَّلُ يَحْرُمُ وَالثَّانِي يَحِلُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الزَّوَاجِرِ: وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا مِمَّا يُحَرِّمُ الذَّبِيحَةَ أَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَرِّ اسْمِ الثَّانِي - أَوْ مُحَمَّدٍ إِنْ عُرِفَ النَّحْوُ فِيمَا يَظْهَرُ، أَوْ أَنْ يَذْبَحَ كِتَابِيٌّ لِكَنِيسَةٍ أَوْ لِصَلِيبٍ أَوْ لِمُوسَى أَوْ لِعِيسَى أَوْ مُسْلِمٌ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَقَرُّبًا لِسُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِلْجِنِّ فَهَذَا كُلُّهُ يُحَرِّمُ الْمَذْبُوحَ وَهُوَ كَبِيرَةٌ قَالَ: وَمَعْنَى مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذُبِحَ لِلطَّوَاغِيتِ وَالْأَصْنَامِ قَالَهُ جَمْعٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللهِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَفْظِ الْآيَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: " لَوْ ذَبَحَ مُسْلِمٌ ذَبِيحَةً وَقَصَدَ بِذَبْحِهِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى صَارَ مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ ". انْتَهَى كَلَامُ الزَّوَاجِرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الرَّوْضِ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ذَبَحَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ، انْتَهَى، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرِّ النَّضِيدِ: وَهَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لِسَيِّدِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرًا عِنْدَهُ فَكَيْفَ الذَّبْحُ لِسَائِرِ الْأَمْوَاتِ؟ انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ الْفَاضِلُ مُفْتِيَ الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ فِي كِتَابِهِ " فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ " فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي كِتَابِهِ (اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا ذَبِيحَةٌ لِكَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ فَسَوَاءٌ لَفَظَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْفِظْ، وَتَحْرِيمُ هَذَا أَظْهَرُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِلَّحْمٍ وَقَالَ فِيهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَنَّ مَا ذَبَحْنَاهُ مُتَقَرِّبِينَ بِهِ إِلَى اللهِ كَانَ أَزْكَى وَأَعْظَمَ مِمَّا ذَبَحْنَاهُ لِلَحْمٍ وَقُلْنَا عَلَيْهِ بِاسْمِ اللهِ، فَإِذَا حَرُمَ مَا قِيلَ فِيهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوِ الزُّهَرَةِ فَلَأَنْ يَحْرُمَ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ أَوِ الزُّهَرَةِ أَوْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ أَوْلَى، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ مُتَقَرِّبًا إِلَيْهِ يَحْرُمُ، وَإِنْ قَالَ فِيهِ بِاسْمِ اللهِ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ قَدْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ

122

بِالذَّبْحِ وَالْبَخُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُرْتَدِّينَ لَا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُمْ بِحَالٍ ; لِكَوْنِهِ يَجْتَمِعُ فِي الذَّبِيحَةِ مَانِعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُونَ بِمَكَّةَ مِنَ الذَّبْحِ لِلْجِنِّ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْجِنِّ انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا إِذَا اشْتَرَوْا دَارًا أَوْ بَنَوْهَا أَوِ اسْتَخْرَجُوا عَيْنًا ذَبَحُوا ذَبِيحَةً خَوْفًا أَنْ تُصِيبَهُمُ الْجِنُّ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمُ الذَّبَائِحُ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُ فَتْحِ الْمَجِيدِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا الْعَبَّارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي رِسَالَتِهِ (الدُّرُّ النَّضِيدُ) وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى سَوَاءٌ لَفَظَ بِهِ الذَّابِحُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ لَمْ يَلْفِظْ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ. (تَنْبِيهٌ) السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالذَّبْحِ وَالصَّيْدِ هِيَ " بَاسِمِ اللهِ " فَقَطْ وَمِنْ زَادَ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) وَجْهُ اتِّصَالِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبِلَهُمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُمَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَالُّونَ مُتَّبِعُونَ لِلظَّنِّ وَالْخَرْصِ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْعَاتِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُضِلُّوهُمْ وَيَحْمِلُوهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ الْآثَامِ الَّتِي نَهَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ عَنْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، بَلْ لِيَحْمِلُوهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَيْضًا بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ عِبَادَةٌ لَهُ مَعَهُ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - مَا ذَكَرَ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ؛ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَالْكَافِرِينَ الضَّالِّينَ؛ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَالْحَذَرِ مِنْ غِوَايَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَهُ مَا زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلُمَاتِ وَسُنَّةِ اللهِ فِي مَكْرِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ السَّيِّئَاتِ فَقَالَ:

(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ (مَيْتًا) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَنَافِعُ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِهَا، وَالتَّشْدِيدُ أَصَلُ التَّخْفِيفِ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الْيَاءُ الثَّانِيَةُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْوَاوِ فِي التَّشْدِيدِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ لِلْعَلَمِ بِهَا مِنَ السِّيَاقِ (وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْإِيجَازِ) عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: " وَمَنْ كَانَ مَيْتًا " وَالتَّقْدِيرُ: أَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَأُولَئِكَ الشَّيَاطِينِ أَوْ كَأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكُمْ بِمَا أَوْحَوْهُ إِلَيْهِمْ مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ الَّذِي غَرُّوهُمْ بِهِ، وَمَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ - وَهُوَ نُورُ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْهِدَايَةِ بِالْآيَاتِ - إِلَى الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ. كَمَنْ مَثَلُهُ أَيْ كَمَنْ صِفَتُهُ وَنَعْتُهُ الَّذِي يُمَثِّلُ حَالَهُ هُوَ أَنَّهُ خَابِطٌ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى وَفَسَادِ الْفِطْرَةِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. لِأَنَّهَا قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ وَأَلِفَتْهَا نَفْسُهُ فَلَمْ يَعُدْ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، بَلْ رُبَّمَا يَشْعُرُ بِالتَّأَلُّمِ مِنْهُ فَهُوَ بِإِزَاءِ النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ كَالْخُفَّاشِ بِإِزَاءِ النُّورِ الْحِسِّيِّ هَذَا التَّقْدِيرُ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَصِلُ الْآيَةَ بِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: أَطَاعَةُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِوَحْيِ الشَّيَاطِينِ، كَطَاعَةِ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَمَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ مُتَسَكِّعًا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ وَتَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ فَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ فِي دِينِهِ وَآدَابِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ لِلنَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ الْمُبَيِّنُ لِحَقِيقَةِ حَالِهِ كَمَثَلِ السَّائِرِ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ - ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ الْمَطَرِ؟ وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ النُّورَ بِالدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْمِصْدَاقُ وَاحِدٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمَثَلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ بِأَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ وَأَعْمَالِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ فِي النَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ، وَحُجَّةً عَلَى فَضْلِ دِينِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَعُلُوِّ آدَابِهِ عَلَى جَمِيعِ الْآدَابِ. هَذَا الْمَثَلُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَالْمُرَادُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ نَزَلَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ صَادِقًا عَلَيْهِمَا ظَاهِرًا فِيهِمَا أَتَمَّ الظُّهُورِ، فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْهَا بَعْضَ آيَاتٍ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهَا وَإِلَّا لَكَانَ شُمُولُهُ مِنْ بَابِ قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلَيْنِ وَاخْتِلَافُهُمَا يُرَجِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ صِدْقِ الْمَثَلِ عَلَيْهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْأَوَّلَ صَاحِبَ النُّورِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ كَذَا فِي

كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ عَزَا أَحَدَهُمَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ: أَنَّ الْأَوَّلَ حَمْزَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ وَعَزَاهُ إِلَى مُقَاتِلٍ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَأَوْهَاهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَيِّتًا، وَإِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الضُّحَى أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا أَيْ لَا يَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنَ الْحِيرَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنْ أَمْرِ إِصْلَاحِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَلَا الْكِتَابَ وَلَا الْإِيمَانَ التَّفْصِيلِيَّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الثَّانِيَ فِي الْمَثَلِ هُوَ أَبُو جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ الرَّازِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَمَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرْثٍ (وَهُوَ مَا فِي الْكِرْشِ) وَحَمْزَةُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُؤْمِنْ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ صَيْدٍ لَهُ وَالْقَوْسُ بِيَدِهِ فَعَمَدَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَتَوَخَّاهُ بِالْقَوْسِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَمَا تَرَى مَا جَاءَ بِهِ؟ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنْتُمْ أَسَفَهُ النَّاسِ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بِالشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ. وَقِصَّةُ إِلْقَاءِ فَرْثِ الْجَزُورِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَذَا قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّزْيِينِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمَثَلُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ تَزْيِينُ نُورِ الْهُدَى وَالدِّينِ لِمَنْ أَحْيَاهُ اللهُ تِلْكَ الْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ الْعَالِيَةَ، وَتَزْيِينُ ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ لِمَوْتَى الْقُلُوبِ قَدْ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْآثَامِ كَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ وَإِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ بُنِيَ فِعْلُ التَّزْيِينِ هُنَا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ، فَالْأَوَّلُ تَزْيِينُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ، وَالثَّانِي تَزْيِينُ عَمَلِ الْكَافِرِ لِلْكَافِرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذَكَرْ فِي الْمُشَبَّهِ إِلَّا النَّوْعُ الثَّانِي لِأَنَّ السِّيَاقَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْأَوَّلُ فِي الْمَثَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيهِ لِبَيَانِ قُبْحِ الضِّدِّ بِمُقَابَلَتِهِ بِحُسْنِ ضِدِّهِ، وَالَّذِي يُزَيِّنُ لِلْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ هُوَ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ كَمَا قَالَ فِي خِطَابِهِ لِلْبَارِي تَعَالَى (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (15: 39) وَسَائِرُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " 112 " وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَإِقَامَتِهِ نِظَامَ الْكَوْنِ بِسُنَنِ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَتَقَدَّمَ إِسْنَادُ تَزْيِينِ الْأَعْمَالِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي الْآيَةِ " 43 " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) (3: 14) مَا يُسْنَدُ مِنَ التَّزْيِينِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يُسْنَدُ مِنْهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَا يُبْنَى فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ

123

الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص196 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ يُعْلَمُ ضَعْفُ اسْتِدْلَالِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِالْآيَةِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ هُنَا، فَاسْتَنْبَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا السُّورَةُ وَهِيَ بَيَانُ حَالِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِغْرَاءِ أَكَابِرِهِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْأُمَمِ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرُ بِبِدْعٍ مِنَ الْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ، بَلْ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَكَابِرِ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَاسْتَنْبَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَجَعَلَ الْقَرِينَةَ لَهُ لَفْظِيَّةً فَقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَكَمَا زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ إِلَخْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مُزَيَّنَةٌ لَهُمْ جَعَلَنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا فَزُيِّنَ لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْبَشَرِ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ فِي عَدَاوَةِ الرُّسُلِ وَمُقَاوَمَةِ الْإِصْلَاحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ. وَلَفْظُ أَكَابِرَ جَمْعُ أَكْبَرَ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِالْعُظَمَاءِ أَيِ الرُّؤَسَاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَبِيرٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَوْ قِيلَ هُوَ جَمْعُ كَبِيرٍ فَجُمِعَ أَكَابِرَ لَكَانَ صَوَابًا. وَاسْتَدَلَّ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ " الْأَكَابِرَةُ وَالْأَصَاغِرَةُ وَالْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرُ بِغَيْرِ الْهَاءِ "، قَالَ: وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِمَا جَاءَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى أَفْعَلَ إِذَا أَخْرَجُوهَا إِلَى الْأَسْمَاءِ مِثْلُ جَمْعِهِمُ الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ: الْأَحَامِرَ وَالْأَحَامِرَةَ وَالْأَسَاوِدَ وَالْأَسَاوِدَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْأَحَامِرَةَ الثَّلَاثَةَ أَهْلَكَتْ ... مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدَمًا مُولَعًا وَذَكَرَ الْبَيْتَ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَ الشَّاعِرُ فِيهِ الْأَحَامِرَةَ وَهِيَ اللَّحْمُ وَالْخَمْرُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الطِّيبِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي رِوَايَتِهِ وَهُوَ لِلْأَعْشَى. وَالْمُجْرِمُونَ: أَصْحَابُ الْجُرْمِ أَوْ فَاعِلُو الْإِجْرَامِ وَهُوَ مَا فِيهِ الْفَسَادُ وَالضَّرَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَالْقَرْيَةُ: الْبَلَدُ الْجَامِعُ لِلنَّاسِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْزِيلِ بِمَعْنَى الْعَاصِمَةِ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ، أَيِ الْمَدِينَةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي يُقِيمُ فِيهَا زُعَمَاءُ الشَّعْبِ وَأُولُو أَمْرِهِ، وَكَذَا بِمَعْنَى الشَّعْبِ أَوِ الْأُمَّةِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْبَلَدِ فَيَقُولُونَ: ثَرْوَةُ الْبَلَدِ وَمَصْلَحَةُ الْبَلَدِ - أَيِ الْأُمَّةِ - وَالْمُعَاهَدَاتُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ تَقْتَضِي كَذَا - أَيْ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ أَوِ الدَّوْلَتَيْنِ. وَ " جَعَلْنَا " مُتَعَدِّيَةٌ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلِمَفْعُولَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهَا، فَلَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ أَشْهَرَ الْأَقْوَالِ بِقَوْلِهِ: أَيْ كَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا

لِيَمْكُرُوا فِيهَا. وَ " جَعَلْنَا " بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولَاهُ " أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا " عَلَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي - أَوْ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ، وَمُجْرِمِيهَا بَدَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ إِنْ فُسِّرَ الْجَعْلُ بِالتَّمْكِينِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ جَازَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالْمُطَابَقَةُ، وَلِذَلِكَ قُرِئَ (أَيْ فِي الشَّوَاذِّ) " أَكْبَرَ مُجْرِمِيهَا " انْتَهَى. وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ. وَالْمَكْرُ: صَرْفُ الْمَرْءِ غَيْرَهُ عَمَّا يُرِيدُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيلَةِ فِي الْفِعْلِ أَوِ الْخِلَابَةِ فِي الْقَوْلِ، وَالْأَكْثَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَعَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ قَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى إِخْفَائِهِمَا بِالْحِيلَةِ وَالْخِلَابَةِ. وَنَقُولُ فِي الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ هَذَا الْعَصْرِ: إِنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَاصِمَةٍ لِشَعْبٍ أَوْ أُمَّةٍ أَوْ كُلِّ قَرْيَةٍ وَبَلْدَةٍ بُعِثَ فِيهَا رَسُولٌ أَوْ مُطْلَقًا رُؤَسَاءُ وَزُعَمَاءُ مُجْرِمُونَ يَمْكُرُونَ فِيهَا بِالرُّسُلِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ أَكَابِرُهَا الْمُجْرِمُونَ مَاكِرِينَ فِيهَا بِالرُّسُلِ فِي عَهْدِهِمْ، وَبِسَائِرِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَكْثَرِ أَكَابِرِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْمَطَامِعُ وَيَعْظُمُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ - يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ وَجَمَاعَاتِهَا لِيَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ وَيُعَزِّزُوا كِبْرِيَاءَهُمْ وَيُثَمِّرُوا مَطَامِعَهُمْ فِيهَا، وَيَمْكُرُ الرُّؤَسَاءُ وَالسَّاسَةُ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ لِإِرْضَاءِ مَطَامِعِ أُمَّتِهِمْ وَتَعْزِيزِ نُفُوذِ حُكُومَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ. وَقَدْ عَظُمَ هَذَا الْمَكْرُ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَصَارَ قُطْبَ رَحَى السِّيَاسَةِ فِي الدُّوَلِ، وَعَظُمَ الْإِفْكُ بِعِظَمِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ، وَقَدْ كَتَبْنَا مَقَالًا فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَشَرْحِ عِلَلِهِ وَأَسْبَابِهِ عُنْوَانُهُ (دَوْلَةُ الْكَلَامِ الْمُبْطِلَةُ الظَّالِمَةُ) نُشِرَ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ. وَهَذَا الْعُمُومُ فِي الْآيَةِ صَحِيحٌ وَاقِعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْعِلْمِ بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، وَلَا تَظْهَرُ صِحَّةُ الْعُمُومِ فِي الْقُرَى وَالْأَكَابِرِ جَمِيعًا بِجَعْلِ جَمِيعِ الْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ فِي جَمِيعِ الْقُرَى، أَوْ بِجَعْلِ جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا أَكَابِرَ أَهْلِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِجْرَامُ هُوَ سَبَبَ كَوْنِهِمْ أَكَابِرَهَا، بَلْ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ أَكْثَرِ الْأَكَابِرِ الزُّعَمَاءِ مُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ وَلَا سِيَّمَا فِي الْقُرَى الَّتِي اسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ بِحَسَبِ سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (17: 16) وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِمَا نُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَمَا يَلْزَمُهُ - حَتْمًا - مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْعَدْلِ، فَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى الرُّسُلِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (14: 13) فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) كَثَّرْنَاهُمْ ; لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقِلَّةَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ لَا تَتَحَقَّقُ عَادَةً إِلَّا إِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْأَكَابِرِ مِنْهُمْ.

وَقَدْ رَاجَعْنَا بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرَ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَأَلْفَيْنَاهُ قَدِ اسْتَشْهَدَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَقَالَ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَخَالَفُوا فَدَمَّرْنَاهُمْ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ أَمْرًا قَدَرِيًّا كَمَا قَالَ هُنَا: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَلَّطْنَا شِرَارَهُمْ فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْقَدَرِيِّ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ - مَا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَتَكْوِينِهِ كَمَا قَالَ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (54: 49) أَيْ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ لَا أُنُفًا، وَبِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا جُزَافًا. ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَحْثِ الْعُمُومِ فِي الْآيَةِ فَنَقُولُ: لَوْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ نَصًّا فِي أَنَّ جَمِيعَ أَكَابِرِ كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمُونَ مَاكِرُونَ لَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْ بَابِ الْعُمُومِ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مَنْ يُقَاوِمُونَ دَعْوَةَ الْإِصْلَاحِ وَيُعَادُونَ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ لِيَنْطَبِقَ عَلَى الْوَاقِعِ. وَإِلَّا فَإِنَّ أَكَابِرَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَاكِرِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ كَذَلِكَ. وَعَلَّلَ الْمُفَسِّرُونَ تَخْصِيصَ الْأَكَابِرِ بِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الْمَكْرِ. وَاسْتِتْبَاعِ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ. يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ " اللَّامَ " فِي قَوْلِهِ: (لِيَمْكُرُوا) لَامَ الْعَاقِبَةِ فَإِنَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا صَارُوا أَكَابِرَ بَلَدٍ وَزُعَمَاءَهُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى مَكَانَتِهِمْ فِيهِ إِلَّا بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ فَيَصِيرُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِمَا. (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هَذَا بَيَانُ حَقِيقَةٍ أُخْرَى مِنْ طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ مُتَمِّمَةٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ لِأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمَاكِرِينَ وَالْوَعْدَ وَالتَّسْلِيَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ بِالْإِيجَازِ الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ الْأَذْكِيَاءُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ. وَسَيُصَرَّحُ بِهِ فِي الْآيَاتِ التَّالِيَةِ. وَمَا يَمْكُرُ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ يُعَادُونَ الرُّسُلَ فِي عَصْرِهِمْ وَدُعَاةَ الْإِصْلَاحِ مِنْ وَرِثَتِهِمْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُعَادُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالصَّلَاحَ لِبَقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ ; لِأَنَّ عَاقِبَةَ هَذَا الْمَكْرِ السَّيِّئِ تَحِيقُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَالنُّصُوصُ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ مِنْ نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَهَلَاكِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَمِنْ عُلُوِّ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَدَمْغِهِ لَهُ، وَمِنْ هَلَاكِ الْقُرَى الظَّالِمَةِ الْمُفْسِدَةِ، وَبِمَا أَيَّدَ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِبَارِ، حَتَّى صَارَ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ تَنَازُعَ الْبَقَاءِ يَنْتَهِي بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ وِفَاقًا لِلْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (13: 17) وَمِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْآيَةِ

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُجْرِمِي مَكَّةَ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (35: 42، 43) - وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا انْفَرَدْنَا بِفَهْمِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَهْطِ قَوْمِ صَالِحٍ الْمُفْسِدِينَ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (27: 50، 51) فَالَّذِينَ كَانُوا يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لِمُقَاوَمَةِ إِصْلَاحِ الرُّسُلِ حِرْصًا عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يُشْعِرُونَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ تَحِيقُ بِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَهُمْ جَدِيرُونَ بِهَذَا الْجَهْلِ، وَأَمَّا أَكَابِرُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَلَّمَا يُقَاوِمُونَ بِمَكْرِهِمْ إِصْلَاحًا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - كَإِصْلَاحِ الرُّسُلِ وَوَرِثَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَيُقَاوِمُوهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَلِيلِ مَكْرُ أَكَابِرِ الِاتِّحَادِيِّينَ الْعُثْمَانِيِّينَ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ فِي الدَّوْلَةِ مِنْ بَقَايَا الشَّرْعِ، وَفِي الْأُمَّةِ مِنْ بَقَاءِ الدِّينِ، وَسُوءُ عَاقِبَتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُمْ، وَعَلَى الْمُشْتَبِهِينَ فِي أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا يَمْكُرُ أَكْثَرُ زُعَمَاءِ الْأُمَمِ الْيَوْمَ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُعَارِضِينَ لَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِمْ فِي الْأُمُورِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَمِنْ خُصُومِهَا فِي السِّيَاسَةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْمَطَامِعِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمَكْرُهُمْ فِي الْغَالِبِ بَاطِلٌ يُصَادِمُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يُسَمَّى حَقًّا عُرْفِيًّا أَوْ سِيَاسِيًّا، فَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ هَذَا الصِّدَامِ حَقٌّ صَحِيحٌ وَوُجِدَ مَنْ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ دَقِيقٌ جِدًّا، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِيهِ مَقَالًا خَاصًّا عُنْوَانُهُ (الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْقُوَّةُ) بَيَّنَّا فِيهِ حَقِيقَتَهُ وَأَنْوَاعَهُ - كَالْحَقِّ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الْوُجُودِ وَسُنَنِ الْكَوْنِ، وَالْحَقِّ فِي السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الْقَوَانِينِ وَالْمُوَاضَعَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ الْحَقَّ الصَّحِيحَ يَغْلِبُ الْبَاطِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَى وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقِهِ بِشَرْطِهِ، وَحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَعَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ لَهُمْ. وَقَدْ نَشَرْنَا هَذَا الْمَقَالَ فِي الْمُجَلَّدِ (52 م 9 منار) .

124

(وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْطُوفَةٌ هِيَ وَمَا فِي حَيِّزِهَا عَلَى آخَرَ أَمْثَالِهَا مِنْ طَوَائِفِ الْآيَاتِ الَّتِي تَصِفُ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَعَقَائِدَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَمُقَاوَمَتَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَصَدَّهُمْ عَنْهُ وَعَنِ الرَّسُولِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، مَبْدُوءًا أَوَّلُهَا بِالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، ثُمَّ قَدْ يَتَخَلَّلُهَا آيَاتٌ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَيَتَضَمَّنُ بَعْضُهَا مَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْحَقَائِقِ فِي الْإِيمَانِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعِ الْأُمَمِ، وَأَقْرَبُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ الْآيَاتُ الْمَبْدُوءَةُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمُ الْآيَةُ الَّتِي افْتُتِحَ بِهَا هَذَا الْجُزْءُ (الثَّامِنُ) وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (111) وَهِيَ إِبْطَالٌ لِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ) (109) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ خُتِمَ بِهِمَا الْجُزْءُ السَّابِقُ (السَّابِعُ) وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْآيَاتِ - وَمِنَ الْجُزْءِ إِلَى هُنَا - احْتِجَاجًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي آيَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهَا أَقْوَى حُجَّةً عَلَى الرِّسَالَةِ مِنْ جَمِيعِ آيَاتِ الرُّسُلِ، وَحَقَائِقَ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَشُئُونِ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَإِثْبَاتَ ضَلَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَتَخْصِيصَ مَسْأَلَةِ الذَّبَائِحِ لِغَيْرِ اللهِ - مِنْ ضَلَالِهِمْ - بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِهَا، وَوَحْيَ الشَّيَاطِينِ لِأَوْلِيَائِهِمْ فِي الْمُجَادَلَةِ فِيهَا وَتَلَا ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَبَيَانُ قَاعِدَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي الْأُمَمِ الضَّارِّ

بِمَكْرِ زُعَمَائِهَا الْمُجْرِمِينَ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَنْطَبِقُ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ عَلَى جَمْهَرَةِ أَكَابِرِ مَكَّةَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّنَاسُبُ وَالِاتِّصَالُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: وَجْهٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْأُسْلُوبِ فِي الطَّوَائِفِ الْكَثِيرَةِ مِنْ آيَاتِ كُلِّ سِيَاقٍ، وَوَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ كَوْنِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمَاكِرِينَ الْمُبَيَّنِ حَالُهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَيْسُوا إِلَّا بَعْضَ أَفْرَادِ الْعَامِّ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ. وَيَلِيهَا بَيَانُ سُنَّةِ اللهِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَغَيْرِ الْمُسْتَعِدِّينَ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ صِرَاطُ الرَّبِّ وَجَزَاءُ سَالِكِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أَيْ وَإِذَا جَاءَتْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ " أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا " آيَةٌ بَيِّنَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَتَضَمَّنُ حُجَّةً عَقْلِيَّةً ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ إِلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا. قَالَ هَذَا أَكَابِرُهُمُ الْمُجْرِمُونَ، وَرُؤَسَاؤُهُمُ الْمَاكِرُونَ، وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ الْغَوْغَاءُ الْمُقَلِّدُونَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ: يَعْنُونَ حَتَّى يُعْطِيَهُمُ اللهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مِثْلَ الَّذِي أُعْطِيَ مُوسَى مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَعِيسَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ اللهِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا تَأْتِي إِلَى الرُّسُلِ. كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا) (25: 21) الْآيَةَ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي يُؤَيِّدُهُ اللهُ بِهَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ أُولَئِكَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ بِالرِّسَالَةِ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا صَارُوا رُسُلًا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحًا وَاقِعًا. قَرَأَ " رِسَالَتَهُ " (بِالْإِفْرَادِ) ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ رِسَالَاتِهِ (بِالْجَمْعِ) أَيْ رِسَالَاتِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانٌ لِجَهَالَتِهِمْ، يَنْتَظِرُهُ السَّامِعُ وَالْقَارِئُ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَبِالْوَقْفِ قَبْلَهُ تَامٌّ لِأَنَّهُ آخِرُ قَوْلِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ رِسَالَتَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) (43: 31، 32) الْآيَةَ. يَعْنُونَ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ جَلِيلٍ مُبَجَّلٍ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ، أَيْ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ - قَبَّحَهُمُ اللهُ - كَانُوا يَزْدَرُونَ الرَّسُولَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَغْيًا وَحَسَدًا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (21: 36)

وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا) (25: 41) وَزَادَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ وَطَهَارَةِ بَيْتِهِ وَمُرَبَّاهُ وَمَنْشَئِهِ صَلَّى اللهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ بِشَهَادَةِ أَبِي سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ بِصِدْقِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ يَوْمَ كَانَ أَشَدَّ أُولَئِكَ الْأَكَابِرِ مُجَاهَرَةً بِعُدْاوَتِهِ وَمَكْرًا بِهِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ فَضَائِلِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالنِّسْبِيَّةِ وَالْبَيْتِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا لَهُمْ بِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْأَكَابِرِ الْحَاسِدِينَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَبِكُلِّ كَرَامَةٍ صَحِيحَةٍ مِنَ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ وَلَكِنَّ حَسَدَ الْأَكَابِرِ وَبَغْيَهُمْ وَتَقْلِيدَ مَنْ دُونَهُمْ لَهُمْ بِتَأْثِيرِ مَكْرِهِمْ قَدْ كَانَا هُمَا الْبَاعِثَيْنِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَالْأَفْعَالِ فِي عَدَاوَتِهِ وَمُعَانَدَتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ بِكَسْبٍ، وَلَا يُتَوَسَّلُ إِلَيْهَا بِسَبَبٍ وَلَا نَسَبٍ، وَعَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَنْقَبَةِ الْكَرِيمَةِ، إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا بِمَا أَهَّلَهُ هُوَ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ، وَطَهَارَةِ الْقَلْبِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالْحَقِّ. وَكَانَ أَذْكِيَاءُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى شِرْكِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّادِقِينَ مُحِبِّي الْحَقِّ وَفَاعِلِي الْخَيْرِ مِنَ الْفُضَلَاءِ أَهْلٌ لِكَرَامَتِهِ - تَعَالَى - وَعِنَايَتِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنِ اسْتِنْبَاطِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لِخَدِيجَةَ رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ لَهُ: كَلَّا فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ". هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى دَقِيقَةٍ حَقِيقَةٍ بِالذِّكْرِ، وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ (وَقَوْلِهِمْ) : " لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ " عَيْنُ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْحَسَدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ انْتَهَى. وَذَكَرَ " الرَّازِيُّ " قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: وَاللهِ لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَنَا أَحَقَّ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنِّي أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ يَصِلَ الْغُرُورُ بِبَعْضِ الْمَغْرُورِينَ بِالْمَالِ وَالْقُوَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ مِثْلِ هَذَا وَانْتِحَالِهِ لِأَنْفُسِهِمْ - وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ فِي كَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ سَبَبًا لِلنُّزُولِ لَمْ تَصِحَّ، وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ غَيْرِهَا - كَمَا أَنَّهُ عَهِدَ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ كِبْرًا وَعِنَادًا - يُكَابِرُونَ بِهِمَا أَنْفُسَهُمْ - وَخِدَاعًا وَغُرُورًا يَغُشُّونَ بِهِمَا غَيْرَهُمْ. وَلَا يَهْتَدِي لِمِثْلِ اسْتِنْبَاطِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - إِلَّا الْأَفْرَادُ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ

لِلْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَفِي كِبْرِيَائِهِمْ وَحَسَدِهِمْ وَغُرُورِهِمْ، وَكَوْنِهَا هِيَ الْعِلَلَ الْحَقِيقِيَّةَ لِكُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ. بَعْدَ أَنْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمَغْرُورِينَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ مِنْ دَعْوَى الِاسْتِعْدَادِ لِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ، يَخْطُرُ فِي بَالِ الْقَارِئِ مَا يُسَائِلُ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ جَزَائِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ ذَلِكَ: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) هَذَا الْوَعِيدُ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ قَائِلِي ذَلِكَ الْقَوْلِ: " لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ " مِنَ الْمُجْرِمِينَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونُوا أَكَابِرَ وَزُعَمَاءَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ دَبَّ فِيهَا الْفَسَادُ وَكَانَ أَهْلُهَا مُقَاوِمِينَ لِلْإِصْلَاحِ، وَفِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ عَوْدِ مَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ بِعِقَابِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِاضْطِرَادٍ، وَفِي الدُّنْيَا حَيْثُ يَمْكُرُونَ بِالرُّسُلِ وَيَصُدُّونَ عَمَّا جَاءُوا بِهِ أَوْ مَا يُقَرِّبُ مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَقَدْ قَصَّرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ عِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. الصَّغَارُ كَالصَّغَرِ (بِالتَّحْرِيكِ) فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصِّغَرِ (بِوَزْنِ الْعِنَبِ) فِي الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ، جَزَاءً عَلَى الْكِبْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ الصَّاغِرَ بِالرَّاضِي بِالْمَنْزِلَةِ الدَّنِيَّةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِ (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (9: 29) أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّغَارِ خُضُوعُهُمْ لِأَحْكَامِنَا. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ إِعْطَاءَهُمْ إِيَّاهَا هُوَ الصَّغَارُ، أَيْ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَخُضُوعٌ لِغَيْرِهِمْ، وَهُنَاكَ قَوْلَانِ آخَرَانِ لَهُمْ: (أَحَدُهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَأْخُذَهَا وَأَنْتَ جَالِسٌ وَهُوَ قَائِمٌ. (وَثَانِيهُمَا) أَنْ يَمْشُوا بِهَا وَيَنْقُلُوهَا إِلَى الْعَامِلِ. وَلَيْسَ هَذَا وَلَا ذَاكَ بِمَعْنَى الصَّغَارِ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ قَائِلُوهُمَا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهِمَا، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ. وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الصَّغَارِ يُصِيبُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ كُلُّ مَا فِيهَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عِنْدَ اللهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ هُنَالِكَ تَصَرُّفٌ مَا وَلَا تَأْثِيرٌ، لَا كَالدُّنْيَا الَّتِي صَرَفَ اللهُ فِيهَا النَّاسَ أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ. أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِمَّا اقْتَضَاهُ حُكْمُهُ وَعَدْلُهُ وَسَبْقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ، فَإِنَّ مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ اللهِ فِي حُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ التَّكْوِينِيِّ الَّذِي دَبَّرَ بِهِ نِظَامَ الْخَلْقِ وَمَا ثَبَتَ فِي حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ التَّكْلِيفِيِّ الَّذِي أَقَامَ بِهِ الْعَدْلَ وَالْحَقَّ، يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ عِنْدَهُ. قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْإِفْكِ: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (24: 13) ثُمَّ قَالَ فِيهِ: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (24: 15) وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَصِحُّ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْجَزَاءُ لَهُمْ بِالصَّغَارِ عَلَى اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَا يُصِيبُهُمْ

125

فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا. قَالَ تَعَالَى: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (39: 25، 26) وَقَالَ فِي عَادٍ قَوْمِ هُودٍ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنِ اسْتِكْبَارِهِمْ وَجُحُودِهِمْ: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (41: 16) وَعَذَابُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِذُنُوبِهَا مُطَّرِدٌ، وَلَا يَطَّرِدُ عَذَابُ الْأَفْرَادِ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الْمَاكِرِينَ وَلَكِنَّ أَكَابِرَ مُجْرِمِي مَكَّةَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِإِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَيْدِ لَهُ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا كَالْخَمْسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّ السِّيَاقَ السَّابِقَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ - الَّذِي يُعَدُّ هَذَا السِّيَاقُ تَابِعًا لَهُ - نَزَلَ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُجْرِمِينَ [رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 109، 112 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ] وَقُتِلَ مِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي بَدْرٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَإِذْ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ الْمُجْرِمِينَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ حُرِمُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِهِمْ، قَفَّى عَلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ، ثُمَّ بِبَيَانِ ظُهُورِ هِدَايَتِهِ وَاسْتِقَامَةِ مَحَجَّتِهِ، وَبِجَزَاءِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) هَذَا وَصَفٌ لِحَالِ الْمُسْتَعِدِّ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ مِنَ الْخُلُقَيْنِ الصَّادَّيْنِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَهُمَا الْكِبْرِيَاءُ وَالْحَسَدُ وَبِتَحَلِّيهَا - أَيْ نَفْسُهُ - بِالْهَادِيَيْنِ إِلَى الْحَقِّ وَالرَّشَادِ. وَهُمَا اسْتِقْلَالُ الْفِكْرِ الصَّادِّ عَنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ الصَّارِفَةِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مُجَارَاةِ الْأَنْدَادِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَهْلًا بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ وَمُهَذِّبُهَا، فَإِذَا أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ وَجَدَ لَهَا فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا وَاتِّسَاعًا بِمَا يَشْعُرُ بِهِ قَلْبُهُ مِنَ السُّرُورِ وَدَاعِيَةِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيمَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ فَيَتَأَمَّلُهُ فَتَظْهَرُ لَهُ آيَتُهُ، وَتَتَّضِحُ لَهُ دَلَالَتُهُ فَتَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُهُ، وَيُذْعِنُ لَهُ قَلْبُهُ فَتَتْبَعُهُ جَوَارِحُهُ، وَهَذَا هُوَ النُّورُ الَّذِي يَفِيضُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِ لَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلَةٌ لِآيَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (39: 22) . (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " ضَيْقًا " بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، فَهُوَ كَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ وَهَيِّنٍ وَهَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَلَيْنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " حَرِجًا " بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْوَصْفِ

بِالْمَصْدَرِ، فَهُوَ كَدَنَفٍ وَدَنِفٍ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " يَصْعَدُ " بِسُكُونِ الصَّادِ مُضَارِعُ صَعِدَ الثُّلَاثِيِّ (كَفَرِحَ يَفْرَحُ) وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصَّاعَدُ بِالْأَلْفِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ، أَيْ يُحَاوِلُ الصُّعُودَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَالْبَاقُونَ (يَصَّعَّدُ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ أَيْ يَتَكَلَّفُ الصُّعُودَ وَيُحَاوِلُ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيعُ. وَهَذَا وَصْفٌ لِلْكَافِرِ غَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ بِمَا أَفْسَدَ مِنْ فِطْرَتِهِ بِالشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَبِمَا تَدَنَّسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ رَذِيلَتَيِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ اللَّذَيْنِ يَصْرِفَانِ الْمُدَنَّسَ بِهِمَا عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا يُدَعَى إِلَيْهِ وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيهِ، وَيَشْغَلَانِهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيَعِزُّ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِ وَالْحَاسِدِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالْإِمَامَةِ مِنْهَا بِالْقُدْوَةِ، أَوْ بِمَا سَلَبَهُ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَصِحَّةَ النَّظَرِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ، أَوْ مَا حَرَمَهُ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ، فَهُوَ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ يَجِدُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا أَوْ ذَا حَرَجٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الضِّيقِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ. وَجَعَلَهُ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ الشَّجَرُ الْكَثِيرُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أَعْرَابِيًّا مِنْ مُدْلِجَ عَنِ الْحَرَجَةِ فَقَالَ: هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الْحَرَجُ فِيمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ قَالَ: وَكَذَلِكَ صَدْرُ الْكَافِرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهِيَ الشَّجَرُ الْمَذْكُورُ. وَأُطْلِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكَانِ ذِي الشَّجَرِ الْكَثِيرِ الْمُلْتَفِّ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِدُ صَدْرَهُ شَدِيدَ الضِّيقِ لَا يَتَّسِعُ لِقَبُولِ شَيْءٍ جَدِيدٍ مُنَافٍ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَى قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ مِنَ التَّقَالِيدِ، أَوْ لِمَا يُزَلْزِلُ كِبْرِيَاءَهُ وَيُصَادِمُ حَسَدَهُ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرِّيَاسَةِ وَالْإِمَامَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْقَالُهُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَشُعُورُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا كَشُعُورِهِ بِالْعَجْزِ عَنِ الصُّعُودِ بِجِسْمِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا أَوِ التَّصَاعُدِ فِيهَا بِالتَّدْرِيجِ، أَوِ التَّصَعُّدِ أَيِ التَّكَلُّفُ لَهُ، وَصُعُودُ السَّمَاءِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ، أَوْ مَا يُشَقُّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُ الضِّيقِ الْحَرَجِ بِالشَّاكِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلْخَيْرِ مَنْفَذٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَجِدُ فِيهِ مَسْلَكًا وَلَا مَصْعَدًا. (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ مَثَّلَ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِالْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فِي سُنَّةِ اللهِ فِيهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِهِ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَلَا سِيَّمَا مَعَ أَهْلِ الدَّعْوَةِ، فَيَكُونُ مُعْظَمُهَا قَبِيحًا سَيِّئًا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِيمَا بَعَثَ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدٍ وَنِيَّةٍ فَإِنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَسُوءُ أَوْ يُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ عَقَلًا أَوْ عُرْفًا. وَقَدْ أَطَلْنَا فِي شَرْحِ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْخَمْرِ

مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 90) فَهُوَ يُفَسَّرُ فِي كُلِّ كَلَامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالشَّيْطَانِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ بِكُلِّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (10: 100) وَكَأَنَّ الْجَعْلَ فِي الْآيَتَيْنِ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فِي أَسْبَابِ جَعْلِ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ يَقَعُ الرِّجْسُ بِتَقْدِيرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُمْ، وَتُلْقَى تَبِعَتُهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي اجْتَنَبُوهُ هُوَ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيُطَهِّرُ الْأَنْفُسَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَاعْلَمْ - أَيُّهَا الْقَارِئُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مُعْتَرَكَ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ - فَالْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ وَقَعَ بِتَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَنِظَامٍ ثَابِتٍ بِسُنَنٍ حَكِيمَةٍ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ هِدَايَةَ امْرِئٍ يَخْلُقُ فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا لِلْإِسْلَامِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ لَهُ بِخَلْقِ اللهِ، وَهَذَا الْخَلْقُ يَحْصُلُ آنِفًا أَيْ جَدِيدًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلَى تَقْدِيرٍ سَابِقٍ. وَالْجَبْرِيُّ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِسْلَامُ الْمَرْءِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا كَسْبِهِ بَلْ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَمِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ فَيَخْلُقُ لَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَالْحَرَجِ مَا يَثْبُتُ بِهِ عَلَى كُفْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَأْوِيلَاتٌ فِي الْآيَةِ حَاوَلُوا فِيهَا تَطْبِيقَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي كَوْنِ إِيمَانِ الْمَرْءِ وَكُفْرِهِ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْتَقِلِّ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ خَاصَّةً بِهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَضَلَالِ الْكَافِرِ عَنْهُ. وَبَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِمَنْحِ الْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ الْمُسَهِّلِ لِمَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِفِعْلِهِ وَكَسْبِهِ، وَعَدَمِ مَنْحِ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُرِيدُ مِنْهُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قَالُوهُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ حُذَّاقُ النُّظَّارِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْخِلَافِ لِاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ أُصُولًا مُسَلَّمَةً، وَمُحَاوَلَةِ حَمْلِ نُصُوصِ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا لِتَصْحِيحِهَا وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ خُصُومِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لَهَا، فَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ آيَةٍ تَتَعَلَّقُ بِقَوَاعِدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُفْرَدَةً عَلَى حِدَتِهَا وَلَا يَعْرِضُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَوْضُوعِهَا لِيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ جَاعِلِيهِ عِضِينَ. وَمَنِ اسْتَعْرَضَ عَقْلَهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ كُلِّ عَقِيدَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِيهَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) فَفِي الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ

بِقَدَرٍ لَا آنِفًا جَدِيدًا غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنِظَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَتِهِ الَّتِي اقْتَضَتِ النِّظَامَ وَالتَّقْدِيرَ، وَتَنَزَّهَ بِهَا عَنِ الْأُنُفِ وَالْجُزَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَلَلِ وَفِيهِ أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ يَقَعُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ ; وَبِهَذَا لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَكَسْبُهُ مُنَافِيًا لِخَلْقِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَا جَاعِلًا لَهُ مُسْتَقِلًّا دُونَهُ - تَعَالَى - مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَوْفِيقِهِ وَإِمْدَادِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ جُعِلَ خَالِقًا لِعِلْمِهِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَحْيِ، تَظْهَرُ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْخَلْقِ. وَالتَّوْفِيقُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِهَا عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ تَوْفِيقَهُ كَمَا هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، فَيَجْمَعُ لِمَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهِ بَيْنَ مَا جَعَلَهُ فِي مَقْدُورِهِ وَتَنَاوُلِ كَسْبِهِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لَهُ، فَيَتَّفِقُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَالْخُذْلَانِ ضِدُّهُ أَوْ عَدَمُهُ، فَهُوَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ وَلَا يَظْلِمُ اللهُ الْعَبْدَ الْمَخْذُولَ شَيْئًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الشَّيْءُ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ إِيجَابِيَّةً وَتَفْسِيرًا إِيجَابِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ سَلْبِيَّةً. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ مَشْهَدِ التَّوْفِيقِ، وَالْخُذْلَانِ مِنْ كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ) : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ: هُوَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخُذْلَانَ: هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَعْرِيفٌ بِالرَّسْمِ وَاضِحُ الْمَعْنَى فِيمَا قُلْنَاهُ، فَمَعْنَى أَلَّا يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ: هُوَ أَنْ يَمْنَحَكَ فَوْقَ كُلِّ مَا فِي قُدْرَتِكَ وَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُكَ مِمَّا تَعْلَمُ مِنَ الْخَيْرِ لِنَفْسِكَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّجَاحُ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِكَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُكَ وَحْدَكَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ نَفْسِيٌّ وَبَعْضُهُ خَارِجِيٌّ، فَمَعْنَى التَّوْفِيقِ إِيجَابِيٌّ. وَقَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْخُذْلَانِ " أَنْ يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ " مَعْنَاهُ أَلَّا يَمْنَحَكَ شَيْئًا مِنَ الْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكَ، وَلَا تَسْخِيرَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا تَنَالُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِقَدْرِ قُدْرَتِكَ عَلَى مَا تَعْلَمُ وَتُرِيدُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقُدْرَتُكَ لَا تَصِلُ إِلَى كُلِّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ لَكَ، وَعِلْمُكَ غَيْرُ مُحِيطٍ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْخَيْرُ، فَأَنْتَ تَجْهَلُ كَثِيرًا، وَمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَثِيرًا مَا تَظُنُّ الْجَهْلَ عِلْمًا وَالشَّرَّ خَيْرًا. وَقَدْ جَاءَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ إِيجَابِيٍّ فَقَالَ: وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ وَيُكَرِّهُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ وَالْعَبْدُ مُحِلٌّ لَهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى. (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (49: 7، 8) فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ وَأَجَادَ.

(فَصْلٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِسُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ) قَدْ سَبَقَ لَنَا قَوْلٌ قَرِيبٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (108) (ص669 ج 7) رَدَدْنَا فِيهِ عَلَى الْفَخْرِ الرَّازِيِّ إِمَامِ هَذِهِ النَّزْعَةِ وَفَارِسِ هَذِهِ الْحَلْبَةِ، ثُمَّ إِنَّنَا رَأَيْنَاهُ قَدْ عَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى بَسْطِ الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَاسْتَحْسَنَّا أَنْ نَنْقُلَ أَقْوَى كَلَامِهِ وَنُقَفِّيَ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَجِيزٍ فِيهِ قَالَ: " وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا ; لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ: أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ؟ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ. (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعَرْضِ وَيَقُولُ: لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ. فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ

النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا، وَلَا طَرِيقَ لَهُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا. (وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ) مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعْلِمُكَ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ، قُولِي لَهُ: كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ، وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ، وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ حَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي دَرَكَاتِ النَّارِ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، قَالَ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْهُ؟ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ اللهُ لَهُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ كَفَرَ عَلِمْتَ مِنِّي ذَلِكَ، فَلِمَ رَاعَيْتَ مَصْلَحَتَهُ وَمَا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي؟ قَالَ الرَّازِيُّ: فَلَمَّا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ انْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ، فَلَمَّا نَظَرَ رَأَى أَبَا الْحَسَنِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْهُ لَا مِنَ الْعَجُوزِ. " ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ أَوْ أَكْثَرِ مِنْ بَعْدِ الْجُبَّائِيِّ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرْضَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ لَنَا هَاهُنَا جَوَابَانِ آخَرَانِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيهَا، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّكْلِيفُ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، قَالَ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: إِنِّي طَوَّلْتُ عُمْرَ الْأَخِ

الزَّاهِدِ وَكَلَّفْتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَى أَخِيكَ الزَّاهِدِ بِهَذَا الْفَضْلِ أَنْ أَكُونَ مُتَفَضِّلًا عَلَيْكَ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِطَالَةَ عُمْرِ أَخِيكَ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ كَانَ إِحْسَانًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا جُرْمَ فَعَلْتُهُ. وَأَمَّا إِطَالَةُ عُمْرِكَ وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَيْكَ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى غَيْرِكَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. هَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَلْخِيصِ شَيْخِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّ، بَلْ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ إِلَهِهِ عَنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ. وَأَقُولُ: قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ، صِحَّةُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللهِ (تَعَالَى) إِنَّمَا لَزِمَتْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ فَلَا مُنَاظَرَةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِرَبِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا أَوْ مَا فَعَلْتَ كَذَا، فَثَبَتَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي غَرَضَنَا وَيُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمْرِ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ. فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْصَلَ التَّفَضُّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الثَّانِي قَبِيحٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى هَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِعْلًا شَاقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ التَّفَضُّلِ، وَمِثْلُ هَذَا الِامْتِنَاعِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى الْجِدَارِ لِعَامَّةِ النَّاسِ قُبِّحَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاعِ ضَرَرٍ إِلَيْهِ وَلَا وُصُولِ نَفْعٍ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَقْبُولًا فَلْيَكُنْ مَقْبُولًا هَاهُنَا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَتَبْطُلُ كُلِّيَّةُ مَذْهَبِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا تَكْلِيفُهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ يُوجِبُ لِذَاتِهِ حُصُولَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ أَبَدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَ هَذَا الشَّخْصَ فَإِنَّ إِنْسَانًا آخَرَ يَخْتَارُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِعْلًا قَبِيحًا، فَإِنِ اقْتَضَى هَذَا الْقَدَرُ أَنْ يَتْرُكَ اللهُ تَكْلِيفَهُ، فَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْرُكَ تَكْلِيفَهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قُبْحَ تَكْلِيفٍ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ هُنَالِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - تَرْكُ التَّكْلِيفِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخْتَارُ فِعْلًا قَبِيحًا عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرَكُهُ إِذَا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَخْتَارُ الْقَبِيحَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَهَذَا مَحْضُ التَّحَكُّمِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِلَطِيفِ فِكْرِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ ضَعِيفٌ، وَظَهَرَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَصْحَابُنَا وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.

(الْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمِرَاءِ وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِهِ) أَبْدَأُ مَا أُرِيدُ مِنْ بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نَقْلِهِ وَلَوْ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ مَعَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَبِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي مِثْلِ هَذَا وَفِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، ثُمَّ أُفَصِّلُ مَا قَصَدْتُ بَيَانَهُ فِي مَسَائِلَ: (1) إِنَّ نَظَرِيَّاتِ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَظَرِيَّاتِ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى ابْتِدَاعِ الْكَلَامِ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، كَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ - فَلَمْ يَكُونُوا جَبْرِيَّةً وَلَا قَدَرِيَّةً وَلَا مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيدَتَهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا، وَلَا عَلَى إِنْكَارِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ إِنْكَارِ امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا حُسْنَ فِيهِ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمَا كَانُوا يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يَتَمَارَوْنَ وَيَتَجَادَلُونَ لِإِثْبَاتِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَلَا يُضَلِّلُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ بِلَوَازِمَ يَسْتَنْبِطُونَهَا مِنَ الْمَقَالِ وَلَا يُشَوِّهُونَ رَأْيَهُ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ تُنَافِي الْآدَابَ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَقْلِ الْمُخَالِفِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي نَقْلِ الْمُخَاصِمِ الْمُمَارِي، بَلِ الَّذِي يَجْعَلُ مُخَالِفَهُ خَصْمًا لِلْخَالِقِ! تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ. (2) مَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَبَرُّؤُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا، مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوُجُوبَ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتُهَا، فَكَمَا وَجَبَ لَهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْعَقْلِ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ مُتَعَلِّقَاتِهَا كَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (6: 54) وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ فَيُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مَسْئُولًا وَلَا مِثْلَهُ، بَلْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ سَاجِدٌ لَهُ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهِ (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (55: 33) وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ كَذَا وَكَذَا، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (21: 23) فَيَدُلُّ نَقْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى إِيجَابَ مَنْ يَكُونُ مُكَلَّفًا مَسْئُولًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ - عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ حَتَّى

الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَأَنْ يُنَعِّمَ الشَّيَاطِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ سُلْطَانٌ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُهُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَثَبَتَ لَهُ وَحْدَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خَلْقِهِ، فَهُوَ بِهِ يُحَاسِبُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَعَمَّا كَلَّفَهُمْ إِيَّاهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَالْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ، بَلْ هَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الَّذِي وَهَبَهُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (68: 35، 36) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (38: 28) وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عِبَارَةً لِعَالِمٍ مُسْتَقِلٍّ فِي هَذَا الْوُجُوبِ لِيُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ. قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْعَلَمُ الشَّامِخُ فِي إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمَشَايِخِ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْبَصْرِيَّةُ: مَعْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى: فَإِنْ قُلْتَ فَمِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْقُبْحِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى. قُلْتُ: هُمَا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ، وَالتَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ طَلَبُ الْبَارِئِ تَعَالَى الْفِعْلَ الْمُتَّصِفَ بِالْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِ مَعَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ وَمَعَ إِرَادَةِ الْمُكَلِّفِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا طَلَبٌ، لَيْسَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ إِعْلَامُ الْبَارِئِ الْمُكَلَّفَ شَأْنَ الْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ إِلَخْ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَالتَّكْلِيفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ أَيْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مُضَرَّةٍ وَلَوَازِمُهُ عِنْدَهُمُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَالْعَالِمُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ وَكُلِّ مَفْسَدَةٍ وَالْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ كَمَا يُرِيدُ هُوَ الْبَارِئُ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي كُتُبِهِمْ شَهِيرٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّجَاسُرُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ هُوَ الَّذِي كَثَّرَ الشِّقَاقَ وَسَلَّى عَنِ الْوِفَاقِ، وَلَا يَخْلُو مَذْهَبٌ مِنْ عَدَمِ إِنْصَافِ الْخَصْمِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا قِلَّةً وَكَثْرَةً إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي أَخْذِ الْمَذَاهِبِ مِنْ كُتُبِهَا لَا مِنْ أَقْوَالِ الْخُصُومِ لِأَهْلِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْلِيفِ، وَالْبَصْرِيَّةُ يُوجِبُونَ الثَّوَابَ وَيُحَسِّنُونَ الْعِقَابَ فَقَطْ، وَلِلْبَارِئِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ عَقْلًا وَلُزُومُ الثَّوَابِ وَحُسْنُ الْعِقَابِ هُمَا الْمُحَسِّنَانِ لِلتَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ كَمَا مَضَى، وَمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ. وَالْبَغْدَادِيَّةُ يَقُولُونَ: يَجِبُ الثَّوَابُ وُجُوبَ جُودٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَقْتَضِي تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْحَكِيمِ إِلَى فِعْلِهِ وَمَا خَلُصَ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ، وَمَعَ هَذَا يُطْلِقُونَ أَنَّ الثَّوَابَ تُفَضُّلٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةُ وُجُوبٍ فِي نَفْسِهِ

فَاعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فَكَمْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ إِخْوَانُهُمُ الْبَصْرِيُّونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ سَابِقَةُ الْإِنْعَامِ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَيُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ لُطْفٌ لِلْمُكَلَّفِينَ وَاللُّطْفُ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، فَمَذْهَبُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُتَعَاكِسٌ " اهـ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُقْبِلِيُّ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَبْحَثِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَرْجَعَ كَلَامَ الْبَغْدَادِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى كَلَامِ الْبَصْرِيَّةِ. وَأَيْضًا فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّازِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ وَفُرُوعِهِ وَلَا سِيَّمَا زَعْمُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ إِلَّا بِالْقَوْلِ بِالْجَبْرِ أَوِ بِالْتِزَامِ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ وَهُوَ مَا يُكَرِّرُهُ فِي تَفْسِيرِهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَبْحَثِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَرَدَّ فِيهِ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مُطْلَقًا، أَيْ حَتَّى الشَّرْعِيِّينَ ; لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ لَيْسَ فِيهِ حُسْنٌ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا حُسْنُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَكَانَ قَبِيحًا، وَفِي الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (3) الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَشَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّرَاجِمِ لِلْأَشَاعِرَةِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ مُشَافَهَةً وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرَ الرَّازِيُّ مِنْ تَوَسُّطِ الْعَجُوزِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْمُقْبِلِيُّ بِالِاخْتِصَارِ ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ هَوَسٌ، وَأَدْنَى الْمُعْتَزِلَةِ - فَضْلًا عَنْ شَيْخِهِمْ - يَقُولُ مِنْ جَوَابِ اللهِ عَلَى الصَّغِيرِ: فَضْلِي أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ أَشَاءُ كَمَا كَانَ جَوَابُ اللهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تُفَضُّلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ - وَهُمُ الْبَغْدَادِيَّةُ - إِنَّ التَّكْلِيفَ وَاجِبٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ جُودٍ لَا نَعْتَرِضُ عَلَى تَارِكِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ خَلُّوُّهَا عَنِ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ سَاقِطٌ إِجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ مُطْلَقًا إِنَّمَا يَكُونُ لِمُخَالَفَةِ مَا يَنْبَغِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِينَا أَنَّا خَالَفْنَا الْقَادِرَ الَّذِي جَعَلَ مُخَالَفَتَهُ عَلَّامَةَ عُقُوبَتِهِ، لَا لِأَنَّهُ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُمْتَثَلَ أَمْرُهُ فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّحْسِينِ الَّذِي نَفَوْهُ، وَلَكِنْ لِخَوْفِ ضَرَرِهِ الَّذِي نَصَبَ الْوَعِيدَ عَلَامَةً لَهُ فَكُلُّنَا عَبْدُ الْعَصَا. وَأَمَّا عِنْدُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ فَكُلُّ جُزْئِيٍّ نَرَاهُ نُدْخِلُهُ فِي الْكُلِّيَّةِ، إِنْ عَرَفْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا فَفَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَإِلَّا فَنَحْنُ فِي سَعَةٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَعِلْمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَكَيْفَ يَتَمَشَّى الِاعْتِرَاضُ؟ أَمَّا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ فَلِأَنَّهُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ النَّطْعِ وَالسَّيْفِ، وَأَمَّا

عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْجَاهِلِينَ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ وَيَتْلُوهُ التَّشْنِيعُ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي سِيَاقِ رَدٍّ طَوِيلٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّعَجُّبُ مِنْ نَقْلِ كِبَارِ عُلَمَائِهِمْ لِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي سَمَّاهَا خُرَافَةً. وَغَرَضُنَا مِنْ نَقْلِ كَلَامِهِ إِقْنَاعُ الْقَارِئِ بِأَلَّا يَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْخَالِصِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; لِأَنَّنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ بِالدِّينِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَأَلَّفَتْ لَهُ عَصَبِيَّةٌ تَنْصُرُهُ وَتَعُدُّ كَلَامَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ تَقْبَلُ مَا وَافَقَهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَرُدُّ مَا خَالَفَهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ بِاحْتِمَالِ وُجُودِ تَأْوِيلٍ. (4) لَمَّا ظَهَرَ الْجَدَلُ الَّذِي سُمِّيَ عِلْمَ الْكَلَامِ عَدَّهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِدْعَةً سَيِّئَةً وَنَهَوْا عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأَشَاعِرَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ مِنْهُمْ كَانُوا (يَرْجِعُونَ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي أَوَاخِرِ أَعْمَارِهِمْ) كَمَا صَرَّحْنَا بِهِ مِرَارًا، وَأَكْبَرُ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَأَقْوَاهُمْ حُجَّةً شَيْخَا الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَشَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَمِنْ أَوْسَعِ كُتُبِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الَّذِي تَخُوضُ فِي أَعْضَلِ مَسَائِلِهِ كِتَابُ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) وَكِتَابُ (شِفَاءُ الْعَلِيلِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ) . (5) كَلِمَةُ الِاعْتِدَالِ الْوُسْطَى فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ: " اعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ فَاعِلٌ غَيْرُ مُنْفَعِلٍ، وَالْعَبْدَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ. وَهُوَ فِي فَاعِلِيَّتِهِ مُنْفَعِلٌ لِلْفَاعِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعِلُ بِوَجْهٍ. فَالْجَبْرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ مُنْفَعِلًا يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ، وَجَعَلُوا حَرَكَتَهُ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ فَاعِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَقَامَ وَقَعَدَ وَأَكَلَ وَصَلَّى وَصَامَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ: مَرِضَ وَأَلِمَ وَمَاتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ. وَالْقَدَرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ فَاعِلًا مَحْضًا غَيْرَ مُنْفَعِلٍ فِي فِعْلِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَظَرَ بِعَيْنٍ عَوْرَاءَ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالِاعْتِدَالِ أَعْطَوْا كُلَّ الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَاسْتَقَامَ نَظَرُهُمْ وَمُنَاظَرَتُهُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُمُ الشَّرْعُ وَالْقَدَرُ فِي نِصَابٍ وَشَهِدُوا وُقُوعَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ " وَأَفَاضَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَوْطِ خَطَأِ الْغُلَاةِ بِنَظَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الشَّيْءِ أَوْ جُزْئِهِ وَنَظَرِ

الْآخَرِينَ إِلَى الْآخَرِ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْأَخْذِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ. غَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَغَلَتِ الْجَبْرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ جَوَّزُوا أَنْ تَخْلُوَ الْمَشِيئَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَأُولَئِكَ قَيَّدُوا مَشِيئَةَ الرَّبِّ بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُؤْمِنُ بِالصِّفَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَنِزَاعُهُمُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْغُلَاةُ فِي إِثْبَاتِهَا قَالُوا: إِنَّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا حَسَنًا أَوْ قُبْحًا ذَاتِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَيَأْتِي الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ كَاشِفًا لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِالنَّهْيِ كَاشِفًا لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ حَسَنًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَلَا قَبِيحًا بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ وَالْغُلَاةُ فِي نَفْيِهَا قَالُوا: لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ ذَاتِيًّا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ وَسَبَبَهُ وَسَبَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالشَّرْعِ وَحْدَهُ، فَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لَا حُسْنَ فِيهَا لِذَاتِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِهَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ وَالسُّكْرُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلْ عُرِفَ قُبْحُهَا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّبُّ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَيَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوْرُ وَالْكَذِبُ حَسَنًا وَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ قَبِيحًا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ فِي الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَدِلُونَ الْجَامِعُ بَيْنَ النُّصُوصِ: أَنَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا فَلَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحِكْمَتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَشِيئَتِهِ بِمَا نَفْهَمُهُ وَنَعْقِلُهُ نَحْنُ مِنْهَا بِحَيْثُ نُوجِبُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَحْظُرُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا هُوَ قَبِيحٌ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (16: 90) وَقَالَ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 28) وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ فِيهِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَلِأَجْلِهِ نَهَى عَنْهُ وَحُسْنُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِهِ لِمَحْضِ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنَّ حُسْنَهَا لَيْسَ فِي ذَاتِهَا بَلْ فِي شَيْءِ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْهُ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ. وَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ تَعَبُّدِيَّةً، فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهَا، فَحُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذِكْرٌ وَمُرَاقَبَةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُسْنَهُ فِي ذَاتِهِ كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالرُّكُوعِ

وَالسُّجُودِ فِيهَا، وَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِنَا بِهِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِحِكْمَةِ الطَّبِيبِ فِي تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَمَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ لِلشَّيْطَانِ إِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ السُّكَارَى وَالْمُقَامِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَمَعَ غَيْرِهِمْ، وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ قَبَائِحُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ وَحِكْمَةٍ وَسُنَنٍ لَا أُنُفًا وَلَا جُزَافًا وَلَا عَبَثًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ شَيْئًا عَبَثًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، يُرَجِّحُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ النَّظَرِيِّ وَشُعُورِهِ الْوِجْدَانِيِّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِ مَا يُؤْلِمُهُ وَلَا يُلَائِمُ هَوَاهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تُسْنَدُ إِلَيْهِ وَيُوَصَفُ بِهَا لِأَنَّهَا تَقُومُ بِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَا لِأَنَّهُ مَحِلُّهَا، وَتُنْسَبُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْمُعْطِي لَهُ هَذَا التَّصَرُّفَ وَالِاخْتِيَارَ، وَالْهَادِي لَهُ إِلَى السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ، وَالْخَالِقُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ، بِحَيْثُ يُشْتَقُّ لَهُ الْوَصْفُ مِنْهُ فَيُقَالُ: أَكَلَ زِيدٌ فَهُوَ آكِلٌ، وَصَلَّى عَمْرٌو فَهُوَ مُصَلٍّ، وَسَرَقَ بَكْرٌ فَهُوَ سَارِقٌ، وَلَا يُقَالُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَارِئِ تَعَالَى. وَلَا يَخْلُقُ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا قَبِيحًا وَلَا شَرًّا بَلْ هُوَ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (32: 7) (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (27: 88) فَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الشَّرُّ وَالْقَبِيحُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ، وَيُوصَفُ بِهِمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ، فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَلَمٌ أَوْ ضَرَرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ يُسَمُّونَهُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَنْ هَدَمَ الْمَطَرُ أَوْ فَيَضَانُ النِّيلِ دَارَهُ يُعَدُّ شَرًّا لَهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ شَرًّا لَهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَبْدَئِهِ، وَيَكُونُ خَيْرًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي الْغَايَةِ. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (24: 11) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2: 216) وَقَالَ فِيمَنْ يَكْرَهُونَ نِسَاءَهُمْ: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (4: 19) وَأَعْظَمُ هَذَا الْخَيْرِ وِلَادَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ، وَلَكِنْ جَمِيعُ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ شَرًّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ يَقَعُ بِقَدَرِ اللهِ وَوِفَاقِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَرَبْطِ أَسْبَابِهِ

بِمُسَبَّبَاتِهِ، وَقَدْ رَدَّ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ نُفَاةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْأَشْيَاءِ فِي كِتَابِهِ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) مِنْ 63 وَجْهًا فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ. (6) مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَهُ يَسْأَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْجَزَاءِ وَحِكْمَتِهِ فَيُجِيبُهُمْ، كَمَا سَأَلُوا الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ فَأُجِيبُوا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَحْتَجُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَمِمَّا حَكَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (4: 77) إِلَى قَوْلِهِ: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (4: 165) وَقَالَ فِي كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (20: 134) أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (20: 124 127) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلًّا مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَأَعْطَى أَهْلَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَضَرَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ مَثَلَ مَنِ اسْتَأْجَرَ عُمَّالًا بِأُجْرَةٍ مُعِينَةٍ عَلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَعُمَّالًا بِأُجْرَةٍ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْجُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: " فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبِّ أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُمْ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) (57: 28) إِلَى قَوْلِهِ: (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَطْلَعَ رَسُولَهُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْغَيْبِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُؤَالِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِهِمْ عَنْ سَبَبِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِجَابَتِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ، وَجَوَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّصَافِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَمِنَ الْعَدْلِ إِعْطَاءُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَحَقُّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَنْ يُثِيبَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ مَنْ أَشْرَكَ فِي النَّارِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ

اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: يَا " مُعَاذُ "، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ " قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ " قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ " قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ " رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي بِضْعَةِ كُتُبٍ مِنَ الصَّحِيحِ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابٍ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الرَّازِيِّ وَمَنْ قَالَ بُقَوْلِهِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إِطْلَاقِ عَدَمِ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَعَدَمِ ثُبُوتِ أَيِّ حَقٍّ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَحُجَّةٌ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ حَقًّا مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. (7) يُمْكِنُ رَدُّ نَظَرِيَّاتِ الشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَنَظَرِيَّاتِ شَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَعًا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَمُعَلَّلَةٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَكَوْنِ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَكَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ نَقْلًا عَنْ كُتُبِهِمْ، فَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا يَخْطُرُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَالِ، لِيَكُونَ نَمُوذَجًا لِمَنْ يَبْنِي عَقِيدَتَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَعْرِفُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ، فَنَقُولُ: ذَكَرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ لِلْجُبَّائِيِّ: (مَا قَوْلُكَ فِي ثَلَاثَةٍ: مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَصَبِيٍّ؟ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ، وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْهَلِكَاتِ، وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ. فَقَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ أَرَادَ الصَّبِيُّ أَنْ يَرْقَى إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَاتِ هَلْ يُمْكِنُ؟ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا، يُقَالُ لَهُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِالطَّاعَةِ وَلَيْسَ لَكَ مِثْلُهَا. قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ قَالَ: التَّقْصِيرُ لَيْسَ مِنِّي فَلَوْ أَحْيَيْتَنِي كُنْتُ عَمِلْتُ مِنَ الطَّاعَاتِ كَعَمَلِ الْمُؤْمِنِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ لَهُ اللهُ: كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ بَقِيتَ لَعَصَيْتَ وَلَعُوقِبْتَ، فَرَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ. قَالَ الشَّيْخُ: فَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ يَارَبِّ عَلِمْتَ حَالَهُ كَمَا عَلِمْتَ حَالِي فَهَلَّا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي مِثْلَهُ؟ فَانْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ) . فَأَمَّا جَوَابُ الْجُبَّائِيِّ الْأَوَّلُ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَالْكَافِرِ الْفَاسِقِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (8: 4)

وَقَوْلُهُ فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بِالْإِجْمَالِ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (6: 132) وَسَتَأْتِي قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) (20: 74، 75) فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ النُّصُوصِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْوَصْفِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لَهُ، كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالنُّصُوصُ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْأَعْمَالِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ الْأَوَّلُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي نَالَهَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ الْحَقِّ وَجَزَائِهِ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ تَلْحَقُ بِالْأَصْلِ. وَأَمَّا جَوَابُهُ الثَّانِي فَهُوَ خَطَأٌ نَشَأَ عَنْ غَفْلَتِهِ عَنْ فَسَادِ السُّؤَالِ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ حَيَاةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ وَيَعْمَلَ مَا يَعْمَلُ مَسْأَلَةٌ عَدَمِيَّةٌ لَا وَجْهَ لِسُؤَالِ الْخَالِقِ عَنْهَا، وَلَا يَأْتِي فِيهَا مَسْأَلَةُ الْأَصْلَحِ فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ تَعَالَى يَجِبُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَلَّا تَخْلُوَ عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْهُ تَعَالَى حَسَنَةً وَخَيْرًا. وَلَا تَقْتَضِي قَوَاعِدُهُمْ هَذَا فِي الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّمَا لَمْ يَخْلُقْ مِنْ صُلْبِ فُلَانٍ مِائَةَ رَجُلٍ لِكَذَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَلَمْ يَجْعَلْ عُمْرَ فُلَانٍ أَلْفَ سَنَةٍ لِكَذَا وَكَذَا. وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ وَالسُّنَنِ فَيُقَالُ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَلَّتْ حِكْمَتُهُ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ أُمُورِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لِطُولِ الْعُمْرِ أَسْبَابٌ، مَنْ رُوعِيَتْ فِيهِ صَغِيرًا مِمَّنْ يَقُومُ بِأَمْرِ تَرْبِيَتِهِ وَرَاعَاهَا فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ طَالَ عُمْرُهُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ لِاخْتِيَارِ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَضِدِّهِ وَاخْتِيَارِ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَضِدِّهِ أَسْبَابًا بِحَسَبِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْأَقْدَارِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ بَصَائِرُ غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ) مِنَ الْجُودِ وَالْفَضْلِ، فَلَوْ سَأَلَ صَبِيٌّ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَ لَمْ يَطُلْ عُمْرُهُ عَسَاهُ يَعْمَلُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى؟ فَالْمَعْقُولُ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ لَهُ تَعَالَى مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْ سُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَكَوْنِ سُنَنِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ إِطَالَتَهُ لِعُمْرِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا أُنُفًا جَدِيدًا كَمَا تَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ السُّؤَالُ: لِمَ خَصَّ فَلَانًا بِكَذَا وَحَرَمَ مِنْهُ فَلَانًا وَهُوَ مِثْلُهُ؟ . فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَسْأَلَةَ إِطَالَةِ أَعْمَارِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْجُودِ الْخَاصِّ الَّذِي يَخْتَصُّ اللهُ بِهِ تَعَالَى بَعْضَ الْعِبَادِ تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَعِنَايَةً بِهِ كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَمَا فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ عَلَى الْأُمَمِ بِإِيتَائِهَا كِفْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ، وَلَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ فِي التَّوْفِيقِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْرُومُ مِنْهَا مَخْذُولًا، وَإِنَّمَا طُولُ الْأَعْمَارِ وَقِصَرُهَا

وَالْأَمْرَاضُ جَارِيَةٌ عَلَى وِفْقِ الْمَقَادِيرِ الْمُطَّرِدَةِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الرِّزْقِ فِي سَعَتِهِ وَضِيقِهِ، قَالَ تَعَالَى فِيهَا: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (17: 20، 21) أَمَّا كَوْنُ الْآخِرَةِ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَرْقَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا كَوْنُهَا أَكْبَرَ تَفْضِيلًا فَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِيهَا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِمَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ ; وَلِأَنَّهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَجْرٌ عَلَى الْأَعْمَالِ يُضَاعَفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ، وَثَانِيهِمَا: فَضْلٌ لَا حَدَّ لَهُ، لَا جَزَاءَ عَلَى عَمَلٍ يُكَافِئُهُ. وَبِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي بَيَّنَاهُ لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِقَوْلِ الْكَافِرِ وَسُؤَالِهِ. وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ أَصْحَابِهِ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَدُّ الرَّازِيِّ عَلَيْهِ تَمَحُّلٌ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ إِيصَالَ التَّفَضُّلِ إِلَى أَحَدِ النَّاسِ يَقْتَضِي إِيصَالَهُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيَقْبُحُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَاقًّا عَلَى اللهِ وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا فِي الْغَائِبِ، وَضَرَبَ لَهُ فِي الشَّاهِدِ مَثَلَ الْمِرْآةِ، وَلَوْلَا تَعَصُّبُ الْمَذْهَبِ لَمَا كَانَ هَذَا الْعَالِمُ الْكَبِيرُ وَالذَّكِيُّ النِّحْرِيرُ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ بِأَنَّ التَّفَضُّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِذِ الْوَاجِبُ لَا يُسَمَّى تَفَضُّلًا. وَيَقُولُونَ: إِنَّ وُجُوبَ التَّكْلِيفِ وُجُوبُ جُودٍ ; لِأَنَّهُ كَمَالٌ لَا وُجُوبُ إِلْزَامٍ وَإِجْبَارٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَاقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي مُلْكِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الْخَصْمِ، وَمَثَلُ الْمِرْآةِ غَيْرُ مُنْطَبِقٍ، وَهُوَ مِنْ قِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَيَا لَهُ مِنْ قِيَاسٍ مَعَ الْفَارِقِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ فَارِقٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُعَدُّ هَيِّنًا فِي جَنْبِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ وُجُوهِ جَعْلِ الْمُعْتَزِلَةِ خُصُومًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ صَوَّرَ فِيهِمَا مَسْأَلَةَ إِثْبَاتِ وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا وَيُكَفِّرُ قَائِلَهَا كُلُّ مُعْتَزِلِيٍّ، وَهِيَ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا الْوُجُوبِ يَقُولُ لِرَبِّهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا مِنَ الْبَاطِلِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ أَنَّ مِنْ لَوَازِمَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَلَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ أَحَدًا يَنْطِقُ بِمُؤَاخَذَةِ رَبِّهِ وَتَهْدِيدِهِ وَعَزْلِهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَشَتْمِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا وُجُوبُ جُودٍ وَتَفَضُّلٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ مُقْتَضَى صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ إِثْبَاتِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا إِلَّا بِحُصُولِ مُتَعَلِّقَاتِهَا مِثْلُ هَذَا التَّنْقِيصِ الْفَظِيعِ، وَالْكُفْرِ الْمُشَوَّهِ الشَّنِيعِ؟ ! وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَدَ تَنْزِيهَ اللهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَوَصْفَهُ بِالْكَمَالِ

126

الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ بِدُونِهِ، فَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ وَبَعْضُهُمْ فِي النَّفْيِ. وَالْوَسَطُ بَيْنَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ الرَّازِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ غُلَاةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَبْعَدُ عَنِ الصَّوَابِ ; وَعَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ لَوَازِمِ رَأْيِهِمْ مِثْلُ مَا اسْتَنْبَطُوا مِنْ رَأْيِ خُصُومِهِمْ مِنَ التَّشْنِيعِ أَوْ أَشَدُّ، بَلْ وُجِدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ لَوَازِمَ مَقْصُودَةً لِمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ عَلَى إِطْلَاقِهِ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (59: 10) . (8) إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْمِرَاءُ بِمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَقَابَلَهُ الرَّازِيُّ الْأَشْعَرِيُّ بِأَفْظَعَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِيَنْبِزَ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَعِبَارَتُهُ مُوَلَّدَةٌ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً فَصِيحَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ أَوَّلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ حَدِيثٍ عَلِيٍّ " لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا " قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْحُوتُ الْكَبِيرُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي خَرَّجَ بِهِ أَحَادِيثَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الضَّعِيفَةَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْحَارِثُ كَذَّابٌ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَكَذَا فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ مَتْرُوكٌ وَأَوْرَدَ الذَّهَبِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالْحَارِثِ: الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَعْوَرَ الْهَمْدَانِيَّ صَاحِبَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ وَكَذَّبَهُ آخَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ. وَالْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ فِيهِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بَلْ يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا يَرَوْنَهُ فِي الْكُتُبِ كَالْعَوَامِّ، وَنَكْتَفِي فِي هَذَا الْفَصْلِ الِاسْتِطْرَادِيِّ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَنَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ سَائِرِ الْآيَاتِ. (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) أَيْ وَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي يَشْرَحُ اللهُ لَهُ صَدْرَ مَنْ يُرِيدُ هِدَايَتَهُ، هُوَ صِرَاطُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ، وَبَيَّنَ لَكَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ أُصُولَهُ وَعَقَائِدَهُ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَاتِ، وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ وَمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنْ فَسَادِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَلَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَإِنَّمَا هُوَ السَّبِيلُ السَّوَاءُ، وَمَنْ عَرَفَهُ تَبَيَّنُ لَهُ اعْوِجَاجُ مَا عَدَاهُ مِنَ السُّبُلِ الَّتِي عَلَيْهَا سَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ وَالْحُجَجَ الْمُثْبِتَةَ لِحَقِيقَتِهِ وَأُصُولِهِ الرَّاسِخَةِ، وَمَحَاسِنِ فُرُوعِهِ الْمُثْمِرَةِ النَّافِعَةِ، لِقَوْمٍ يَتَذَكَّرُونَ مَا بُلِّغُوهُ مِنْهَا كُلَّمَا عَرَضَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَيَزْدَادُونَ بِهَا يَقِينًا وَرُسُوخًا فِي الْإِيمَانِ، وَيَدْرَءُونَ مَا يُورَدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْأَوْهَامِ، كَمَا يَزْدَادُونَ إِذْعَانًا وَمَوْعِظَةً تَبْعَثُهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلِذَلِكَ خُصُّوا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَتَفْسِيرُنَا لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ) بِالْإِسْلَامِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ. وَهُوَ الْمَرْوِيُّ

127

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ تَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ. وَقَوْلُهُ: (مُسْتَقِيمًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوِ التَّنْبِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُتَذَكِّرِينَ السَّالِكِينَ صِرَاطَ رَبِّهِمُ الْمُسْتَقِيمَ - دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مُتَّبِعِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ - دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِسُلُوكِهِمْ صِرَاطَهُ الْمُوَصِّلَ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا بَيَانُ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، فِي مُقَابِلِ مَا بَيَّنَ قَبْلَهُ مِنْ جَزَاءِ الْمُجْرِمِينَ بِقَوْلِهِ: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ الْجَنَّةُ دَارُ الْجَزَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِ اللهِ (السَّلَامِ) كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعَزَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ السَّلَامَ مَصْدَرُ سَلِمَ كَالسَّلَامَةِ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلتَّشْرِيفِ، وَكَذَا لِلْإِيذَانِ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الدَّارِ مِنَ الْعُيُوبِ وَسَلَامَةِ أَهْلِهَا مِنْ جَمِيعِ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْكُرُوبِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِفَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى خَاصَّةٌ بِجَعْلِ السَّلَامِ مَصْدَرًا كَالسَّلَامَةِ، وَقَوْلُهُ: (عِنْدَ رَبِّهِمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ مُقَابِلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِمْ، أَوِ السَّلَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ اللهُ تَعَالَى. وَوَلِيُّهُمْ مُتَوَلِّي أُمُورِهِمْ وَكَافِيهِمْ كُلَّ أَمْرٍ يَعْنِيهِمْ، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِذْعَانِ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاحِ الْمُزَكِّيَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْإِصْلَاحِ الْمُفِيدَةِ لِكُلِّ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ لِلْمُتَذَكِّرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ تَشْمَلُ وِلَايَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْآيَةُ نَافِيَةٌ لِلْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، وَمُبْطِلَةٌ لِلْقَوْلِ بِإِنْكَارِ الْقَدَرِ بِصَرَاحَتِهَا بِنَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ، فَإِسْنَادُ الْعَمَلِ إِلَيْهِمْ يَنْفِي الْجَبْرَ، وَنَوْطُ الْجَزَاءِ بِهِ يُثْبِتُ الْقَدَرَ الَّذِي هُوَ جَعْلُ شَيْءٍ مُرَتَّبًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ مُقَدَّرًا بِقَدَرِهِ، وَلَيْسَ خَلْقًا أُنُفًا، أَيْ مُبْتَدَأً وَمُسْتَأْنَفًا، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

128

اشْتَمَلَ سِيَاقُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَعِيدٍ بِمَا أَعَدَّ اللهُ مِنَ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَوَعْدٍ بِالنَّعِيمِ فِي دَارِ السَّلَامِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي إِثْرِ بَيَانِ أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا جَزَاءَهُ. وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ مَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ مِنَ الْحَشْرِ، وَبَعْضِ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِهِ مِنَ الْحِسَابِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَفَّارِ، وَسُنَّةِ اللهِ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ، وَجَعْلِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ، قَالَ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ " يَحْشُرُهُمْ " بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ " نَحْشُرُهُمْ " بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَالْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يُعَاشِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَمَعْشَرُ الرَّجُلِ أَهْلُهُ. وَالْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ مُتَخَالِطِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ ذُو الْأُصْبُعِ الْعُدْوَانِيُّ: وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ زِيدٍ عَلَى مِائَةٍ ... فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ طُرًّا فَكِيدُونِي وَالْمَعْشَرُ وَالنَّفَرُ وَالْقَوْمُ وَالرَّهْطُ مَعْنَاهُمُ الْجَمْعُ لَا وَاحِدَ لَهُمْ مِنْ لَفْظِهِمْ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. قَالَ: وَالْعَشِيرَةُ أَيْضًا لِلرِّجَالِ، وَالْعَالَمُ أَيْضًا لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمَعْشَرُ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ نَحْوُ مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعْشَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْشَرُ جَمَاعَاتُ النَّاسِ انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَعْشَرَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ عُقَلَاءِ الْخَلْقِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ لَفْظَ الْمَعْشَرِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ الْإِنْسِ وَلِلَفْظِ الْجِنِّ وَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ. وَنَقَلَ الْآلُوسِيُّ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ أَنَّ الْمَعْشَرَ " الْجَمَاعَةُ التَّامَّةُ مِنَ الْقَوْمِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى أَصْنَافِ الطَّوَائِفِ وَمِنْهُ الْعَشَرَةُ لِأَنَّهُ تَمَامُ الْعَقْدِ " انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا نَقْلَ يُثْبِتُهُ فِيمَا نَعْلَمُ. تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ) (10: 28) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (25: 17) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ 25) الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (28: 62. 65. 47) الْآيَاتِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُونَ كَلِمَةَ " يَوْمٍ " فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ، " وَاذْكُرْ "، وَهُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ فِيمَا تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ هَذَا مَعْهُودٌ وَمَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) (19: 41) وَأَمْثَالُهُ بَعْدَهُ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ ظَرْفًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ إِنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِيهِ مَذْكُورًا أَوْ مُقَدَّرًا، وَمِنْهُ فِعْلُ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ هُنَا قَبْلَ النِّدَاءِ فَيُقَالُ هُنَا:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَقُولُ لِمَعْشَرِ الْجِنِّ مِنْهُمْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ. فَالضَّمِيرُ فِي " يَحْشُرُهُمْ " لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) (100) وَقَوْلُهُ: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) (112) وَهُوَ أَقْرَبُ، وَالشَّيَاطِينُ هُمُ الْأَشْرَارُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَهُمُ الْمُرَادُونَ هُنَا لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ لَا لِجَمِيعِ الْجِنِّ. وَفِيمَنْ ضَلَّ مِنَ الْإِنْسِ بِهِمْ لَا فِي جَمِيعِ الْإِنْسِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: يَعْنِي الْجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَعُوذُونَ بِهِمْ وَيُطِيعُونَهُمْ وَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. (قَالَ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ - أَيْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (36: 60 - 62) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يَعْنِي أَضْلَلْتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. انْتَهَى. فَالِاسْتِكْثَارُ هُنَا أَخْذُ الْكَثِيرِ لَا طَلَبُهُ، كَقَوْلِهِمُ اسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنُودِ، أَيْ أَخَذَ كَثِيرًا، وَفُلَانٌ مِنَ الطَّعَامِ أَيْ أَكَلَ كَثِيرًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمُ اسْتَتْبَعُوهُمْ بِسَبَبِ إِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فَحُشِرُوا مَعَهُمْ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوْ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ. (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) أَوْلِيَاؤُهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ. أَيْ أَطَاعُوهُمْ فِي وَسْوَسَتِهِمْ وَمَا أَلْقَوْهُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ طَلَبُ الشَّيْءِ لِجَعْلِهِ مَتَاعًا. أَوْ جَعْلِهِ مَتَاعًا بِالْفِعْلِ. وَالْمَتَاعُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَاهُ الطُّولُ وَالِارْتِفَاعُ. أَيْ وَقَالَ الَّذِينَ تَوَلَّوُا الْجِنَّ مِنَ الْإِنْسِ فِي جَوَابِ الرَّبِّ تَعَالَى: يَا رَبَّنَا قَدِ تَمَتَّعَ كُلٌّ مِنَّا بِالْآخَرِ، أَيْ بِمَا كَانَ لِلْجِنِّ مِنَ اللَّذَّةِ فِي إِغْوَائِنَا بِالْأَبَاطِيلِ وَأَهْوَاءِ الْأَنْفُسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِمَا كَانَ لَنَا فِي طَاعَةِ وَسْوَسَتِهِمْ مِنَ اللَّذَّةِ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَمَا كَانَ اسْتِمْتَاعُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ إِلَّا أَنَّ الْجِنَّ أَمَرَتْ وَعَمِلَتِ الْإِنْسُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْزِلُ بِالْأَرْضِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِكَبِيرِ هَذَا الْوَادِي - فَذَلِكَ اسْتِمْتَاعُهُمْ فَاعْتَذَرُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِلَفْظِ: وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مَا يَنَالُ الْجِنُّ مِنَ الْإِنْسِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي اسْتِعَاذَتِهِمْ بِهِمْ فَيَقُولُونَ قَدْ سُدْنَا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ انْتَهَى. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَظَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى خُرَافَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، إِذْ كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الْجِنِّ فِي أَسْفَارِهِمْ وَيَسْتَعِيذُونَ بِعُظَمَائِهِمْ مِنْ أَذَى دَهْمَائِهِمْ. وَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ وَأَبْعَدُ مِنْهُ اعْتِذَارُهُمْ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَبْعَدُ مِنْهُمَا جَعْلُهُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنِ اسْتَمْتَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ مِمَّنْ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِعُظَمَاءِ الْجِنِّ وَسَادَتِهِمْ مِنْ شِرَارِهِمْ فِي الْأَوْدِيَةِ كَعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِمَّنْ لَا يَعْرِفُ

هَذَا مِنْ مُصَدِّقٍ بِوُجُودِ الْجِنِّ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِسَيِّدٍ مِنْ مَسُودٍ، وَمِنْ مُكَذِّبٍ بِوُجُودِهِمْ أَوْ غَيْرِ مُصَدِّقٍ وَلَا مُكَذِّبٍ، فَإِنَّ كُلَّ إِنْسِيٍّ يُوَسْوِسُ لَهُ شَيَاطِينُ الْجِنِّ مِمَّا يُزَيِّنُ لَهُ الْبَاطِلَ وَالشَّرَّ وَيُغْرِيهِ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ كَمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا. فَإِنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْخَفِيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ يُلَابِسُهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا لِلْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَيُقَوِّي فِيهَا دَاعِيَتَهُمَا كَمَا تُلَابِسُ جِنَّةُ الْحَيَوَانِ الْخَفِيَّةُ الْأَجْسَادَ الْحَيَوَانِيَّةَ فَتُفْسِدَ عَلَيْهَا مِزَاجَهَا وَتُوقِعَهَا فِي الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ، وَقَدْ مَرَّ عَلَى الْبَشَرِ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ وَهُمْ يَجْهَلُونَ طُرُقَ دُخُولِ هَذِهِ النِّسَمِ الْحَيَّةِ فِي أَجْسَادِهِمْ وَتَقْوِيَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ فِيهَا، بَلْ إِحْدَاثِ الْأَمْرَاضِ الْوَبَائِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِالْفِعْلِ، حَتَّى اكْتَشَفَهَا الْأَطِبَّاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَعَرَفُوا هَذِهِ الطُّرُقَ وَالْمَدَاخِلَ الْخَفِيَّةَ بِمَا اسْتَحْدَثُوا مِنَ الْمَنَاظِيرِ الَّتِي تُكَبِّرُ الصَّغِيرَ حَتَّى يُرَى أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ بِأُلُوفٍ مِنَ الْأَضْعَافِ، وَلَوْ قِيلَ لِأَكْبَرِ أَطِبَّاءِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ أَوِ الْهُنُودِ أَوِ الْيُونَانِ أَوِ الْعَرَبِ: إِنَّ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ النَّسَمِ الْخَفِيَّةِ تَدَخُلُ الْأَجْسَادَ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ أَوِ الْقَمْلَةِ وَمَعَ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ، وَتُنَمَّى فِيهَا بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ فَتَكُونُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ، وَبِكَثْرَتِهَا تَتَوَلَّدُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَوْبِئَةُ الْقَاتِلَةُ - لَقَالُوا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ تَخَيُّلَاتِ الْمَجَانِينِ. وَلَكِنَّ الْعَجَبَ لِمَنْ يُنْكِرُ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَرْوَاحِ بَعْدَ اكْتِشَافِ ذَلِكَ فِي الْأَجْسَادِ، وَأَمْرُ الْأَرْوَاحِ أَخْفَى، فَعَدَمُ وُقُوفِهِمْ عَلَى مَا يُلَابِسُهَا أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى جِنَّةِ الْأَجْسَامِ، وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ قَبْلَ اخْتِرَاعِ هَذِهِ الْمَنَاظِيرِ الَّتِي يُرَى بِهَا لَكَانَ فِتْنَةً لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِمَا يَزِيدُهُمُ اسْتِبْعَادًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ خَبَرِ الْجِنِّ. فَفِي الْحَدِيثِ: " تَنْكَبُّوا الْغُبَارَ فَإِنَّ مِنْهُ تَكُونُ النَّسَمَةُ " وَالنَّسَمَةُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا فِيهِ رُوحٌ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْحَدِيثِ بِالنَّفَسِ (بِالتَّحْرِيكِ) أَيْ تَوَاتُرُهُ الَّذِي يُسَمَّى الرَّبْوَ وَالتَّهَيُّجَ وَتَبِعَهُ شَارِحُ الْقَامُوسِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَجَوُّزٌ لَا يُؤَيِّدُ الطِّبُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصْرِ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اتَّقَوْا غُبَارَ مِصْرَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ. وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ تَأْوِيلِهِمْ، وَظَاهِرٌ فِيمَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ الْيَوْمَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ وَعَمْرٌو مِنْ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ جَهَابِذَةِ هَذَا اللِّسَانِ. (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) أَيْ وَصَلْنَا بَعْدَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي حَدَّدْتَهُ لَنَا وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدِ اعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلَكَ الْأَمْرُ فِينَا. فَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ بُلُوغِ الْأَجَلِ لَازِمُهُ وَهُوَ إِظْهَارُ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَفْرِيطِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالِاضْطِرَارُ إِلَى تَفْوِيضِهِمُ الْأَمْرَ إِلَى الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا قَوْلًا لِلْمَتْبُوعِينَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الضَّالِّينَ دُونَ الْمُضِلِّينَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُضِلِّينَ قَدْ أُفْحِمُوا فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا، وَالصَّوَابُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَذْكُرُ لَنَا بَعْضَ مَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي آيٍ

مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ سُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ - وَهُوَ الْعِظَةُ وَالِاعْتِبَارُ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَفَرِّقًا لِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ حِكْمَتِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْفَرِيقَيْنِ: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (29: 25) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَيْفَ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ بَعْدَهُ: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) (2: 167) وَحَكَى فِي " سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ " أَقْوَالَ كُلٍّ مِنَ الضُّعَفَاءِ التَّابِعِينَ مِنَ النَّاسِ وَقَوْلَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمَتْبُوعِينَ لَهُمْ وَقَوْلَ الشَّيْطَانِ لِلْفَرِيقَيْنِ وَتَنَصُّلَهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمَلَامِ وَكُفْرَهُ بِمَا أَشْرَكُوهُ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ يَنْتَظِرُ السَّامِعُ وَالْقَارِئُ جَوَابَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) النَّارُ: اسْمٌ لِدَارِ الْجَزَاءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُجْرِمِينَ. وَالْمَثْوَى: مَكَانُ الثَّوَاءِ وَالثَّوَاءُ نَفْسُهُ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالسُّكْنَى. وَالْخُلُودُ: الْمُكْثُ الثَّابِتُ الطَّوِيلُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ كَمُكْثِ أَهْلِ الْوَطَنِ فِي بُيُوتِهِمُ الْمَمْلُوكَةِ لَهُمْ فِيهِ، أَيْ تُثْوُونَ فِيهَا ثَوَاءَ خُلُودٍ أَوْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ مُوَطِّنِينَ أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَكُلُّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ. وَهَذَا الْجَزَاءُ يَقَعُ بِاخْتِيَارِهِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِهَا، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنْكُمْ أَوْ عَنْ بَعْضِكُمْ فَعَلَ لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَتُهُ الْكَامِلَةُ وَسُلْطَانُهُ الْأَعْلَى وَلَكِنْ هَلْ يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ هُوَ سُبْحَانَهُ حَقَّ الْعِلْمِ وَحْدَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ. وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أَيْ حَكِيمٌ فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَتُهُ مِنْ جَزَائِهِمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَدْلُولُهُ وَتَأْوِيلُهُ وَغَايَتُهُ، وَالْبَشَرُ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ بِالتَّأَوُّلِ لِلْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَزَاءِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا لِلْجَزْمِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّعَارُضَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَكَذَا يُتَأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ سَبْقِ الرَّحْمَةِ وَغَلَبِهَا عَلَى الْغَضَبِ وَسَعَتِهَا لِكُلِّ شَيْءٍ وَعُمُومِهَا. أَمَّا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا فَيُؤَيِّدُ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَى مَشِيئَتِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللهِ فِي خَلْقِهِ، لَا يُنْزِلُهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي سُورَةِ هُودٍ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ مِنْهَا قَوْلُ قَتَادَةُ: اللهُ أَعْلَمُ بِثُنْيَاهُ، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ بِاللُّغَةِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ فِيهَا عِدَّةُ آرَاءٍ.

وَإِنَّنَا نَعْقِدُ لِبَيَانِ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةِ أَبَدِيَّةِ النَّارِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ وَالِانْقِضَاءِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرِيَّاتٌ دَقِيقَةٌ، وَرِوَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ غَرِيبَةٌ، وَشُبَهَاتٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ خَطِرَةٌ، فَيَجِبُ التَّوَسُّعُ فِيهَا. (فَصَلٌ فِي الْخِلَافِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَذَابِهَا) نُلَخِّصُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَوَّلًا مَا وَرَدَ فِي (الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ) لِلسُّيُوطِيِّ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي آيَةِ هُودٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ تَقْسِيمِ النَّاسِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَى شِقِّيٍّ وَسَعِيدٍ وَكَوْنِ الْأَشْقِيَاءِ فِي النَّارِ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (11: 107) وَنَبْدَأُ مِنْهَا بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ انْفَرَدَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) وَقَالَ: " إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الَّذِينَ شَقُوا مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ فَعَلَ ". وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي أَهْلِ النَّارِ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ الْمُبْهَمَةِ بِخِلَافِ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَا ذُكِرَ فِي إِخْرَاجِ أُنَاسٍ هَلْ يَجُوزُ فِي الْجَمِيعِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الْآيَةِ هُمُ الْكُفَّارُ أَمْ جَمِيعُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ أَمْ هُمْ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَقُولُ: الْمُتَبَادَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَاتِ. وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ: فَقَدْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُخَلِّدَ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ: فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَهْلُ حَرُورَاءَ (أَيْ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخُلُودِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ اللهِ أَنْ يَأْمُرَ النَّارَ أَنْ تَأْكُلَهُمْ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمَا دَلَّ مِنَ الْآيَاتِ الْمَدَنِيَّةِ عَلَى الْخُلُودِ الدَّائِمِ. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَوْ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ، يَقُولُ حَيْثُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ (خَالِدِينَ فِيهَا) تَأْتِي عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: يَنْتَهِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ يَوْمٌ عَلَى ذَلِكَ يُخْرَجُونَ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَيَأْتِي عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ لَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ. وَقَرَأَ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) (11: 106) وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى لِأَهْلِ النَّارِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:

لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا زَمَانٌ تُخْفَقُ أَبْوَابُهَا. زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَهَنَّمُ أَسْرَعُ الدَّارَيْنِ عُمْرَانًا وَأَسْرَعُهُمَا خَرَابًا. انْتَهَى التَّلْخِيصُ. وَنَقَلَ الْآلُوسِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: يَأْتِي عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ مَا فِيهَا مِنِ ابْنِ آدَمَ أَحَدٌ تُصْفَقُ أَبْوَابُهَا كَأَنَّهَا أَبْوَابُ الْمُوَحِّدِينَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الْأَقْوَالَ فِي الْآيَةِ وَالرِّوَايَاتِ فِي كُلِّ قَوْلٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَخْبَرَنَا اللهُ بِمَشِيئَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَعَرَفْنَا ثُنْيَاهُ بِقَوْلِهِ: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (11: 108) أَنَّهَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّةِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ: وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَشِيئَتِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ فِي الزِّيَادَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي النُّقْصَانِ اهـ. وَقَدْ لَخَّصَ صَاحِبُ (جَلَاءِ الْعَيْنَيْنِ) مَا وَرَدَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي انْتِهَاءِ عَذَابِ النَّارِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي شَرْحِ عَقِيدَةِ الْإِمَامِ الطَّحَاوِيِّ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ مَا نَصُّهُ: (السَّابِعُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ شَاءَ كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ ثُمَّ يُبْقِيهَا مَا يَشَاءُ ثُمَّ يُفْنِيهَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ لَهَا أَمَدًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ. (الثَّامِنُ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ شَاءَ - كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ - وَيُبْقِي فِيهَا الْكُفَّارَ بَقَاءً لَا لِانْقِضَاءٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ يَعْنِي الطَّحَاوِيَّ. وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلْيُنْظَرْ فِي دَلِيلِهِمَا. ثُمَّ أَوْرَدَ آيَةَ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا ثُمَّ آيَةَ هُودٍ الَّتِي لَخَّصْنَا مَا وَرَدَ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَقُولُ: عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بُنِيَتِ الْأَقْوَالُ وَالْمَذَاهِبُ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَدَمِ نِهَايَتِهَا، وَفِي ضِدِّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهَا تَفْنَى كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ وَيَنْتَهِي عَذَابُهَا، أَوْ يَتَحَوَّلُ إِلَى نَعِيمٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجِيلِيُّ مِنَ الصُّوفِيَّةِ. تَفْصِيلُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْمَسْأَلَةِ: وَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ (حَادِي الْأَرْوَاحِ) فَقَالَ: (فَصْلٌ) وَأَمَّا أَبَدِيَّةُ النَّارِ وَدَوَامُهَا فَقَالَ فِيهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنِ التَّابِعِينَ. قُلْتُ هَاهُنَا أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ: (أَحَدُهَا) أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، بَلْ كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، بَلْ كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا مُخَلَّدٌ فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ بِإِذْنِ اللهِ وَهَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا مُدَّةً ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ وَتَبْقَى طَبِيعَةً نَارِيَّةً لَهُمْ يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِمُوَافَقَتِهَا لِطَبِيعَتِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ إِمَامِ الِاتِّحَادِيَّةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ (قَالَ فِي فُصُوصِهِ) الثَّنَاءُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ لَا بِصِدْقِ الْوَعِيدِ، وَالْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَطْلُبُ الثَّنَاءَ الْمَحْمُودَ بِالذَّاتِ فَيُثْنَى عَلَيْهَا بِصِدْقِ الْوَعْدِ لَا بِصِدْقِ الْوَعِيدِ بَلْ بِالتَّجَاوُزِ (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) (14: 47)

لَمْ يَقُلْ وَعِيدَهُ، بَلْ قَالَ: (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) (46: 16) مَعَ أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَثْنَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَقَدْ زَالَ الْإِمْكَانُ فِي حَقِّ الْحَقِّ لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْمُرَجِّحِ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صَادِقُ الْوَعْدِ وَحْدَهُ وَمَا لِوَعِيدِ الْحَقِّ عَيْنٌ تُعَايِنُ وَإِنْ دَخَلُوا دَارَ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُمْ عَلَى لَذَّةٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُبَايِنٌ نَعِيمُ جِنَانِ الْخُلْدِ وَالْأَمْرُ وَاحِدٌ وَبَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّجَلِّي تَبَايُنٌ يُسَمَّى عَذَابًا مِنْ عُذُوبَةِ طَعْمِهِ وَذَاكَ لَهُ كَالْقِشْرِ وَالْقِشْرُ صَايِنٌ وَهَذَا فِي طَرَفٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ أَنْ يُخْلِفَ وَعِيدَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ مَنْ تَوَعَّدَهُ بِالْعَذَابِ فِي طَرَفٍ، فَأُولَئِكَ عِنْدَهُمْ لَا يَنْجُو مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا أَصْلًا، وَهَذَا عِنْدَهُ لَا يُعَذِّبُ بِهَا أَحَدًا أَصْلًا. وَالْفَرِيقَانِ مُخَالِفَانِ لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (الثَّالِثُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيَخْلُفُهُمْ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكْذَبَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ - فِيهِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (2: 80، 81) وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (3: 23، 24) فَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَعْدَاءِ اللهِ الْيَهُودِ فَهُمْ شُيُوخُ أَرْبَابِهِ وَالْقَائِلِينَ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى فَسَادِهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (2: 167) وَقَالَ: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (15: 48) وَقَالَ: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) (22: 22) وَقَالَ تَعَالَى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) (32: 20) وَقَالَ تَعَالَى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) (35: 36) وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) (7: 40) وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِحَالَةِ دُخُوِلِهِمُ الْجَنَّةَ. (الرَّابِعُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَتَبْقَى نَارًا عَلَى حَالِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ يُعَذَّبُ، حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَيْضًا يَرُدَّانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(الْخَامِسُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تَفْنَى بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ وَأَبَدِيَّتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَشِيعَتِهِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. (السَّادِسُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: تَفْنَى حَيَاتُهُمْ وَحَرَكَاتُهُمْ وَيَصِيرُونَ جَمَادًا لَا يَتَحَرَّكُونَ وَلَا يُحِسُّونَ بِأَلَمٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ إِمَامِ الْمُعْتَزِلَةِ طَرْدًا لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ. (السَّابِعُ) قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يُفْنِيهَا رَبُّهَا وَخَالِقُهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ جَعَلَ لَهَا أَمَدًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ ثُمَّ تَفْنَى وَيَزُولُ عَذَابُهَا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَشْهُورِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ قَالَ عُمَرُ: لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمٌ يُخْرَجُونَ فِيهِ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ يَوْمٌ يُخْرَجُونَ فِيهِ. ذُكِرَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ ثَابِتٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) (78: 23) فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدٌ وَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَنْ هَذَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَحَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ وَكِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَسْبُكَ بِهِ، وَحَمَّادُ يَرْوِيهِ عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ وَكِلَاهُمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ جَلَالَةً، وَالْحَسَنُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ فَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ لَمَا جَزَمَ بِهِ وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ عَنْ عُمَرَ فَتَدَاوَلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ لَهُ غَيْرَ مُقَابِلِينَ لَهُ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدِّ، مَعَ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ بِدُونِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ لَكَانُوا أَوَّلَ مُنْكِرٍ لَهُ، قَالَ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَنَقَلَهُ عَنْهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ جِنْسَ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَأَمَّا قَوْمٌ أُصِيبُوا بِذُنُوبِهِمْ فَقَدْ عَلِمَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ قَدْرَ رَمْلِ عَالِجٍ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَفْظُ أَهْلِ النَّارِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُوَحِّدِينَ، بَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ عَدَاهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ) وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا) وَقَوْلَهُ: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) بَلْ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ الَّذِي لَا يَقَعُ خِلَافُهُ، لَكِنْ إِذَا انْقَضَى أَجَلُهَا وَفَنِيَتْ كَمَا تَفْنَى الدُّنْيَا لَمْ تَبْقَ نَارًا وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا عَذَابٌ.

قَالَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ: وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحِدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللهِ فِي خَلْقِهِ وَلَا يُنْزِلَهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا. قَالُوا: وَهَذَا الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وَأَوْلِيَاءُ الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُفَّارُ قَطْعًا، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمُوَالَاتِهِمْ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (7: 27) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (16: 99، 100) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (7: 201، 202) وَقَالَ تَعَالَى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (18: 5) وَقَالَ تَعَالَى: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ) (4: 76) وَقَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (59: 19) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (121) وَالِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ عَنْ دُخُولِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ النَّارَ، فَمِنْ هَاهُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللهِ فِي خَلْقِهِ. (قَالُوا) : وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى سِوَى أَيْ سِوَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَزَمَنِهِ لَا تَخْفَى مُنَافَرَتُهُ لِلْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ مُخَالَفَةُ مَا بَعْدَ (إِلَّا) لِمَا قَبْلَهَا. (قَالُوا) : وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِإِخْرَاجِ مَا قَبْلَ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا مِنَ الزَّمَانِ كَزَمَانِ الْبَرْزَخِ وَالْمَوْقِفِ وَمُدَّةِ الدُّنْيَا أَيْضًا لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ مَضْمُونُهَا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ لَبِثُوا فِيهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الدُّخُولِ، هَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخَاطِبُهُمْ بِهَذَا فِي النَّارِ حِينَ يَقُولُونَ: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) فَيَقُولُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) وَفِي قَوْلِهِ: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) نَوْعُ اعْتِرَافٍ وَاسْتِسْلَامٍ وَتَحَسُّرٍ، أَي اسْتَمْتَعَ الْجِنُّ بِنَا وَاسْتَمْتَعْنَا بِهِمْ فَاشْتَرَكْنَا فِي الشِّرْكِ وَدَوَاعِيهِ وَأَسْبَابِهِ، وَآثَرْنَا الِاسْتِمْتَاعَ عَلَى طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رُسُلِكَ، وَانْقَضَتْ آجَالُنَا وَذَهَبَتْ أَعْمَارُنَا فِي ذَلِكَ وَلَمْ نَكْتَسِبْ فِيهَا رِضَاكَ، وَإِنَّمَا كَانَ غَايَةُ

أَمْرِنَا فِي مُدَّةِ آجَالِنَا اسْتِمْتَاعَ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ، فَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذَا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ بَدَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي مُدَّةِ آجَالِهِمْ هُوَ حَظُّهُمْ مِنِ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَمْ يَسْتَمْتِعُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ. وَهَذَا مِنْ نَمَطِ قَوْلِهِمْ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (67: 10) وَقَوْلِهِ: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) (67: 11) وَقَوْلِهِ: (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) (28: 75) وَنَظَائِرِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) عَائِدٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ مُخْتَصًّا بِهِمْ أَوْ شَامِلًا لَهُمْ وَلِعُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ هَؤُلَاءِ فَلَا وَجْهَ لَهُ. وَلَمَّا رَأَتْ طَائِفَةٌ ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى مُدَّةِ الْبَرْزَخِ وَالْمَوْقِفِ وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَأَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرِ النَّارِ. قَالُوا وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي النَّارِ أَبَدًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الزَّمْهَرِيرُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) (78: 21 - 23) (قَالُوا) : وَالْأَبَدُ لَا يُقَدَّرُ بِالْأَحْقَابِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ حَكَاهُ الْبَغَوَيُّ عَنْهُمَا ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ - إِنْ ثَبَتَ - أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. (قَالُوا) : قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ سَأَلَ حَرْبُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: سَأَلَتُ إِسْحَاقَ قُلْتُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (11: 107) فَقَالَ: أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ أَوْ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَأْتِي فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) قَالَ الْمُعْتَمِرُ قَالَ: أَتَى عَلَى كُلِّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثْنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَلْجٍ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تُصْفَقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي لَا أَقُولُ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ لَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ. وَقَرَأَ قَوْلَهُ: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (11: 106) الْآيَةَ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: يَعْنِي بِهِ الْمُوَحِّدِينَ.

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْنٍ، حَدَّثَنَا وَهَبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي قَوْلِهِ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ تَأْتِي عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فَقَالَ: " وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ وَكُلَّ مَنْ دَخَلَهَا، ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ " ثُمَّ ذَكَرَ الْآثَارَ الَّتِي نَذْكُرُهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ أَوْ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَأْتِي عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ. يَقُولُ: حَيْثُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ (خَالِدِينَ فِيهَا) تَأْتِي عَلَيْهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا مِجْلِزٍ يَقُولُ: هُوَ جَزَاؤُهُ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ تَجَاوَزَ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قَالَ: لَا يَمُوتُونَ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، قَالَ: اسْتَثْنَى اللهُ: قَالَ أَمَرَ اللهُ النَّارَ أَنْ تَأْكُلَهُمْ، قَالَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيْسَانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَهَنَّمُ أَسْرَعُ الدَّارَيْنِ عُمْرَانًا وَأَسْرَعُهُمَا خَرَابًا. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ قَوْلًا آخَرَ فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: أَخْبَرَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَشِيئَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَعَرَفْنَا مَعَنَى ثُنْيَاهُ بِقَوْلِهِ: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (11: 108) وَأَنَّهَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مُدَّةِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالُوا: وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَشِيئَتِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ فِي الزِّيَادَةِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي النُّقْصَانِ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فَقَالَ: أَخْبَرَنَا بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثْنَا جُبَيْرُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو خُلَيْدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، يَعْنِي الثَّوْرِيَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (11: 106، 107) قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الَّذِينَ شَقُوا مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ فَعَلَ " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا: خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ النَّارِ وَهَذَا حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ، وَهُوَ لَا يَنْفِي انْقِطَاعَهَا وَفَنَاءَ عَذَابِهَا وَأَكْلَهَا لِمَنْ فِيهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ

فِيهَا دَائِمًا مَا دَامَتْ كَذَلِكَ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، فَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْقِيَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَهِيَ نَارٌ فَعَلَ. وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ دُخُولِهَا لَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُدُونَ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَشْقِيَاءُ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَنَوْعًا يَخْلُدُونَ فِيهَا، فَيَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ شَقُوا أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ سُعِدُوا فَتَجْتَمِعُ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ فِي وَقْتَيْنِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) (78: 21 - 28) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ. وَلَا يُقَدَّرُ الْأَبَدِيُّ بِمُدَّةِ الْأَحْقَابِ وَلَا غَيْرِهَا. كَمَا لَا يُقَدَّرُ بِهِ الْقَدِيمُ ; وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو فِيمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَلْجٍ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تُصْفَقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. (فَصَلٌ وَالَّذِينَ قَطَعُوا بِدَوَامِ النَّارِ لَهُمْ سِتَّةُ طُرُقٍ) أَحَدُهَا - اعْتِقَادُ الْإِجْمَاعِ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ حَادَثٌ وَهُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي - أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَذَابٌ مُقِيمٌ وَأَنَّهُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَنْ يَزِيدَهُمْ إِلَّا عَذَابًا، وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ، وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا. وَأَنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، أَيْ مُقِيمًا لَازِمًا، قَالُوا: وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِدَوَامِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ - أَنَّ السُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَخْبَرَتْ بِخُرُوجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ دُونَ الْكُفَّارِ، وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا صَرِيحَةٌ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ الْكَفَّارُ مِنْهَا لَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ وَلَمْ يَخْتَصَّ الْخُرُوجُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. الطَّرِيقُ الرَّابِعُ - أَنَّ الرَّسُولَ وَقَّفَنَا عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمْنَاهُ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى نَقْلٍ مُعَيَّنٍ كَمَا عَلِمْنَا مِنْ دِينِهِ دَوَامَ الْجَنَّةِ وَعَدَمَ فَنَائِهَا. الطَّرِيقُ الْخَامِسُ - أَنَّ عَقَائِدَ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَأَنَّهُمَا لَا تَفْنَيَانِ بَلْ هُمْ دَائِمَتَانِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ فَنَاءَهُمَا عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.

الطَّرِيقُ السَّادِسُ - أَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِخُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَعَادَ وَثَوَابَ النُّفُوسِ الْمُطِيعَةِ وَعُقُوبَةَ النُّفُوسِ الْفَاجِرَةِ هَلْ هُوَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَوْ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالسَّمْعِ؟ فِيهِ طَرِيقَتَانِ لِنُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَإِنْكَارِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَعَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَ خَلْقَهُ عَبَثًا وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ لَا يُرْجَعُونَ، وَأَنَّهُ يَتْرُكُهُمْ سُدًى أَيْ لَا يُثِيبُهُمْ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي حِكْمَتِهِ وَكَمَالِهِ وَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَرُبَّمَا قَرَّرُوهُ بِأَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ بَاقِيَةٌ وَاعْتِقَادَاتِهَا وَصِفَاتِهَا لَازِمَةٌ لَهَا لَا تُفَارِقُهَا، وَإِنْ نَدِمَتْ عَلَيْهَا لَمَّا رَأَتِ الْعَذَابَ فَلَمْ تَنْدَمْ عَلَيْهَا لِقُبْحِهَا أَوْ كَرَاهَةِ رَبِّهَا لَهَا، بَلْ لَوْ فَارَقَهَا الْعَذَابُ رَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (27، 28) فَهَؤُلَاءِ قَدْ ذَاقُوا الْعَذَابَ وَبَاشَرُوهُ وَلَمْ يَزَلْ سَبَبُهُ وَمُقْتَضِيهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، بَلْ خُبْثُهَا قَائِمٌ بِهَا لَمْ يُفَارِقْهَا بِحَيْثُ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا كُفَّارًا كَمَا كَانُوا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَوَامَ تَعْذِيبِهِمْ يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ كَمَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ. (قَالَ أَصْحَابُ الْفَنَاءِ: الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ يُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) (فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ) فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ النِّزَاعَ، وَقَدْ عُرِفَ النِّزَاعُ بِهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، بَلْ لَوْ كُلِّفَ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَا دُونَهُمْ إِلَى الْوَاحِدِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ النَّارَ لَا تَفْنَى أَبَدًا لَمْ يَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَنَحْنُ قَدْ نَقَلْنَا عَنْهُمُ التَّصْرِيحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَمَا وَجَدْنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ، بَلِ التَّابِعُونَ حَكَوْا عَنْهُمْ هَذَا وَهَذَا، قَالُوا: وَالْإِجْمَاعُ الْمُعْتَدُّ بِهِ نَوْعَانِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَنَوْعٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ - مَا يَكُونُ مَعْلُومًا مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ كَوُجُوبِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ. (الثَّانِي) مَا يُنْقَلُ عَنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ التَّصْرِيحُ بِحُكْمِهِ. (الثَّالِثُ) أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ وَيُنْشَرَ فِي الْأُمَّةِ وَلَا يُنْكِرَهُ أَحَدٌ، فَأَيْنَ مَعَكُمْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ؟ وَلَوْ أَنَّ قَائِلًا ادَّعَى الْإِجْمَاعَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ صَحَّ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ لَكَانَ أَسْعَدَ بِالْإِجْمَاعِ مِنْكُمْ. (قَالُوا: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي) وَهُوَ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى بَقَاءِ النَّارِ وَعَدَمِ فَنَائِهَا، فَأَيْنَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟ نَعَمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ الْكُفَّارَ خَالِدُونَ فِي النَّارِ أَبَدًا

وَأَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَأَنَّهُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، وَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَأَنَّ عَذَابَهُمْ فِيهَا مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ غَرَامٌ أَيْ لَازِمٌ لَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْرِدَ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلِ النَّارُ أَبَدِيَّةٌ أَوْ مِمَّا كُتِبَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ وَأَمَّا كَوْنُ الْكُفَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَلَا التَّابِعُونَ وَلَا أَهْلُ السُّنَّةِ. وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ قَدْ حَكَيْنَا أَقْوَالَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تَقْتَضِي خُلُودَهُمْ فِي دَارِ الْعَذَابِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا أَلْبَتَّةَ كَمَا يُخْرَجُ أَهْلُ التَّوْحِيدِ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا، فَالْفَرْقُ كَالْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى حَالِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَبْطُلُ حَبْسُهُ بِخَرَابِ الْحَبْسِ وَانْتِقَاضِهِ. (قَالُوا: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّالِثُ) وَهُوَ مَجِيءُ السُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بِخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ دُونَ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهِيَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ خُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْهَا وَهِيَ دَارُ عَذَابٍ لَمْ تَفْنَ، وَيَبْقَى الْمُشْرِكُونَ فِيهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً. وَالنُّصُوصُ دَلَّتْ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا. (قَالُوا: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الرَّابِعُ) وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّفَنَا عَلَى ذَلِكَ ضَرُورَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِهِ بِالضِّرْوَةِ أَنَّ الْكَفَّارَ بَاقُونَ فِيهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا أَبَدِيَّةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا وَلَا تَفْنَى كَالْجَنَّةِ فَأَيْنَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. (قَالُوا: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَامِسُ) وَهُوَ أَنَّ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَوْلَ بِفَنَائِهِمَا قَوْلُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا فَنَاءُ النَّارِ وَحْدَهَا فَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَفْرِيقَهُمْ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَوْلُ بِهِ مِنْ أَقْوَالِ

أَهْلِ الْبِدَعِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ؟ فَقَوْلُكُمْ إِنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَ لَهُ بِمَقَالَاتِ بَنِي آدَمَ وَآرَائِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ. قَالُوا: وَالْقَوْلُ الَّذِي يُعَدُّ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ وَسُّنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَوِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلٌ يُوَافِقُ الْكُتَّابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَإِنْ دَانُوا بِهِ وَاعْتَقَدُوهُ، فَالْحَقُّ يَجِبُ قَبُولُهُ مِمَّنْ قَالَهُ، وَالْبَاطِلُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ: اللهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ. إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتَّبِعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِيَّاكُمْ وَزِيغَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، فَتَلَقَّوُا الْحَقَّ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا. قَالُوا: وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ الْكَلِمَةُ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذَا؟ فَاحْذَرُوا زَيْغَهُ وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ. وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِي أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ، وَأَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَلَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. وَمَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ أَنَّ النَّارَ لَا تَفْنَى أَبَدًا فَإِنَّمَا قَالَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ قَالَ بِفَنَائِهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ تِلْكَ الْآثَارُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. (قَالُوا) : وَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْلِ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا فَإِخْبَارٌ عَنِ الْعَقْلِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الصَّادِقِ، وَأَمَّا أَصْلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَهَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ أَوْ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالسَّمْعِ وَحْدَهُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِنُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِجْمَالًا، وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ فَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَدَوَامُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ دَلَّ السَّمْعُ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى دَوَامِ ثَوَابِ الْمُطِيعِينَ، وَأَمَّا عِقَابُ الْعُصَاةِ فَقَدْ دَلَّ السَّمْعُ أَيْضًا دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى انْقِطَاعِهِ فِي حَقِّ الْمُوَحِّدِينَ. وَأَمَّا دَوَامُهُ وَانْقِطَاعُهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهَذَا مُعْتَرَكُ النِّزَالِ، فَمَنْ كَانَ السَّمْعُ فِي جَانِبِهِ فَهُوَ أَسْعَدُ بِالصَّوَابِ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.

(فَصْلٌ) وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَ دَوَامِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ بِبَقَاءِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَدَوَامِهِ وَأَنَّهُ لَا نَفَادَ لَهُ وَلَا انْقِطَاعَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَجْذُوذٍ. وَأَمَّا النَّارُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ خُلُودِ أَهْلِهَا فِيهَا وَعَدَمِ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَنَّهَا مُؤْصَدَةٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا، وَأَنَّ عَذَابَهَا لَازِمٌ لَهُمْ وَأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ظَاهِرٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّ النَّارَ قَدْ أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ عَنْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ أَبَدِيَّتِهَا: الْأُولَى - قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (6: 128) وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (11: 107) وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) (78: 23) وَلَوْلَا الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَبَدِيَّةِ الْجَنَّةِ وَدَوَامِهَا لَكَانَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا، كَيْفَ وَفِي الْآيَتَيْنِ مِنَ السِّيَاقِ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ؟ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَهْلِ النَّارِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فَعَلِمْنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لَمْ يُخْبِرْنَا بِهِ، وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ وَالنَّعِيمَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ أَبَدًا. فَالْعَذَابُ مُوَقَّتٌ مُعَلَّقٌ وَالنَّعِيمُ لَيْسَ بِمُوَقَّتٍ وَلَا مُعَلَّقٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَنَّةَ يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ الَّذِينَ يُخْرِجُهُمُ اللهُ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا النَّارُ فَلَمْ يَدْخُلْهَا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا قَطُّ وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ عَصَاهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ - أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا آخَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُسْكِنُهُمْ إِيَّاهَا وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالنَّارِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: " وَأَمَّا النَّارُ فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا خَلْقًا آخَرِينَ " فَغَلَطٌ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَإِنَّمَا هُوَ مَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ نَفْسِهِ " وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا خَلْقًا آخَرِينَ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - مُبَيِّنًا أَنَّ الْحَدِيثَ انْقَلَبَ لَفْظُهُ عَلَى مَنْ رَوَاهُ بِخِلَافِ هَذَا وَهَذَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا تُقَاسُ النَّارُ بِالْجَنَّةِ فِي التَّأْبِيدِ مَعَ هَذِهِ الْفُرُوقِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ مُوجِبِ رَحْمَتِهِ وَرِضَاهُ، وَالنَّارَ مِنْ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ، وَرَحْمَتُهُ سُبْحَانَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ وَتَسْبِقُهُ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي " وَإِذَا كَانَ رِضَاهُ قَدْ سَبَقَ غَضَبَهُ وَهُوَ يَغْلِبُهُ كَانَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ مُوجِبِ رِضَاهُ وَمَا مِنْ مُوجِبِ غَضَبِهِ مُمْتَنِعًا.

يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ - أَنَّ مَا كَانَ بِالرَّحْمَةِ وَلِلرَّحْمَةِ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ قَصْدَ الْغَايَاتِ، وَمَا كَانَ مِنْ مُوجِبِ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ فَهُوَ مَسْبُوقٌ مَغْلُوبٌ مُرَادٌ لِغَيْرِهِ، وَمَا كَانَ بِالرَّحْمَةِ فَغَالِبٌ سَابِقٌ مُرَادٌ لِنَفْسِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ - وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِلْجَنَّةِ: (أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ) وَعَذَابُهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ غَضَبِهِ، وَرَحْمَتُهُ هَاهُنَا هِيَ الْجَنَّةُ وَهِيَ رَحْمَةٌ مَخْلُوقَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ. فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: رَحْمَةٌ هِيَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ، وَثَوَابٌ مُنْفَصِلٌ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَغَضَبٌ يَقُومُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَعِقَابٌ مُنْفَصِلٌ يَنْشَأُ عَنْهُ. فَإِذَا غَلَبَتْ صِفَةُ الرَّحْمَةِ صِفَةَ الْغَضَبِ فَلِأَنْ يَغْلِبَ مَا كَانَ بِالرَّحْمَةِ لَمَا كَانَ بِالْغَضَبِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَلَا تُقَاوِمُ النَّارُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنِ الْغَضَبِ الْجَنَّةَ الَّتِي نَشَأَتْ عَنِ الرَّحْمَةِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ - أَنَّ النَّارَ خُلِقَتْ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَطْهِيرًا لِلْخَاطِئِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، فَهِيَ طُهْرَةٌ مِنَ الْخُبْثِ الَّذِي اكْتَسَبَتْهُ النَّفْسُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَإِنْ تَطَهَّرَتْ هَاهُنَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْحَسَنَةِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى تَطْهِيرٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ لَهَا مَعَ جُمْلَةِ الطَّيِّبِينَ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (39: 73) وَإِنْ لَمْ تَتَطَهَّرْ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَوَافَتِ الدَّارَ الْأُخْرَى بِدَرَنِهَا وَنَجَاسَتِهَا وَخَبَثِهَا أُدْخِلَتِ النَّارَ طُهْرَةً لَهَا، وَيَكُونُ مُكْثُهَا فِي النَّارِ بِحَسَبِ زَوَالِ ذَلِكَ الدَّرَنِ وَالْخُبْثِ وَالنَّجَاسَةِ الَّتِي لَا يَغْسِلُهَا الْمَاءُ، فَإِذَا تَطَهَّرَتِ الطُّهْرَ التَّامَّ أُخْرِجَتْ مِنَ النَّارِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ، وَهِيَ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَلَوْ خُلُّوا وَفِطَرَهُمْ لَمَا نَشَئُوا إِلَّا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَكِنْ عُرِضَ لِأَكْثَرِ الْفِطَرِ مَا غَيَّرَهَا ; وَلِهَذَا كَانَ نَصِيبُ النَّارِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ هَذَا التَّغْيِيرُ مَرَاتِبَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، فَأَرْسَلَ اللهُ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ يُذَكِّرُ عِبَادَهُ بِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَعَرَفَ الْمُوَفَّقُونَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى صِحَّةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى، فَتَوَافَقَ عِنْدَهُمْ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَفِطْرَتُهُ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَمَنَعَتْهُمُ الشِّرْعَةُ الْمُنَزَّلَةُ وَالْفِطْرَةُ الْمُكَمَّلَةُ أَنْ تَكْتَسِبَ نُفُوسُهُمْ خَبَثًا وَنَجَاسَةً وَدَرَنًا يَعْلَقُ بِهَا وَلَا يُفَارِقُهَا، بَلْ كُلَّمَا أَلَمَّ بِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ أَغَارُوا عَلَيْهِ بِالشِّرْعَةِ وَالْفِطْرَةِ فَأَزَالُوا مُوجِبَهُ وَأَثَرَهُ، وَكَمَّلَ لَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَقْضِيَةٍ يَقْضِيهَا لَهُمْ مِمَّا يُحِبُّونَ أَوْ يَكْرَهُونَ تُمَحِّصُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْآثَارَ الَّتِي شَوَّشَتِ الْفِطْرَةَ، فَجَاءَ مُقْتَضَى الرَّحْمَةِ فَصَادَفَ مَكَانًا قَابِلًا مُسْتَعِدًّا لَهَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُدَافِعُهُ فَقَالَ هَاهُنَا أُمِرْتُ. وَلَيْسَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ غَرَضٌ فِي تَعْذِيبِ عِبَادِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (4: 147)

وَاسْتَمَرَّ الْأَشْقِيَاءُ مَعَ تَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَنَقْلِهَا مِمَّا خُلِقَتْ عَلَيْهِ إِلَى ضِدِّهِ حَتَّى اسْتَحْكَمَ الْفَسَادُ وَتَمَّ التَّغْيِيرُ، فَاحْتَاجُوا فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ آخَرَ وَتَطْهِيرٍ يَنْقُلُهُمْ إِلَى الصِّحَّةِ حَيْثُ لَمْ تَنْقُلْهُمْ آيَاتُ اللهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَخْلُوقَةُ وَأَقْدَارُهُ الْمَحْبُوبَةُ وَالْمَكْرُوهَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَأَتَاحَ لَهُمْ آيَاتٍ وَأَقْضِيَةً وَعُقُوبَاتٍ فَوْقَ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا تَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ الْخُبْثَ وَالنَّجَاسَةَ الَّتِي لَا تَزُولُ بِغَيْرِ النَّارِ، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ الْعَذَابِ وَسَبَبُهُ زَالَ الْعَذَابُ وَبَقِيَ مُقْتَضَى الرَّحْمَةِ لَا مَعَارِضَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حَقٌّ وَلَكِنَّ سَبَبَ التَّعْذِيبِ لَا يَزُولُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ عَارِضًا كَمَعَاصِي الْمُوَحِّدِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَازِمًا كَالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَإِنَّ أَثَرَهُ لَا يَزُولُ كَمَا لَا يَزُولُ السَّبَبُ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (6: 28) فَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ نُفُوسَهُمْ وَطَبَائِعَهُمْ لَا تَقْتَضِي غَيْرَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَأَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (17: 72) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ضَلَالَهُمْ وَعَمَاهُمْ عَنِ الْهُدَى دَائِمٌ لَا يَزُولُ حَتَّى مَعَ مُعَايَنَةِ الْحَقَائِقِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَى وَالضَّلَالُ لَا يُفَارِقُهُمْ فَإِنَّ مُوجِبَهُ وَأَثَرَهُ، وَمُقْتَضَاهُ لَا يُفَارِقُهُمْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (8: 23) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ لَمَا ضَيَّعَ عَلَيْهِمْ أَثَرَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ هُنَاكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: " أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ " فَلَوْ كَانَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ لَخَرَجُوا مِنْهَا مَعَ الْخَارِجِينَ. قِيلَ: لَعَمْرُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَمِنْ أَقْوَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قُلْتُمْ، وَإِنَّ الْعَذَابَ يَدُومُ بِدَوَامِ مُوجِبِهِ وَسَبَبِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي عَمًى وَضَلَالٍ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَبَوَاطِنُهُمْ خَبِيثَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِمْ دَائِمٌ مَا دَامُوا كَذَلِكَ. وَلَكِنْ هَلْ هَذَا الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْخُبْثُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُمْ زَوَالُهُ مُسْتَحِيلٌ أَمْ هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ طَارِئٌ عَلَى الْفِطْرَةِ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ؟ هَذَا حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ زَوَالِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِفِيَّةِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ اجْتَالَتْهُمْ عَنْهَا، فَلَمْ يَفْطِرْهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا فَطَرَ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ عَلَى طَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِخَالِقِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي فُطِرُوا عَلَيْهِ وَخُلِقُوا عَلَيْهِ قَدْ أَمْكَنَ زَوَالُهُ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الْبَاطِلِ، فَإِمْكَانُ زَوَالِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الْبَاطِلِ بِضِدِّهِ

مِنَ الْحَقِّ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوَا عَنْهُ. وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ لَا تَزُولُ وَلَا تَتَبَدَّلُ بِنَشْأَةٍ أُخْرَى يُنْشِئُهُمْ فِيهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَخَذَتِ النَّارُ مَأْخَذَهَا مِنْهُمْ وَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَإِنَّ الْعَذَابَ لَمْ يَكُنْ سُدًى وَإِنَّمَا كَانَ لِحِكْمَةٍ مَطْلُوبَةٍ. فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّعْذِيبِ أَمْرٌ يُطْلَبُ وَلَا غَرَضٌ يُقْصَدُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ يَشْتَفِي بِعَذَابِ عِبَادِهِ كَمَا يَشْتَفِي الْمَظْلُومُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَهُوَ لَا يُعَذِّبُ عَبْدَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُهُ طُهْرَةً لَهُ وَرَحْمَةً بِهِ فَعَذَابُهُ مَصْلَحَةً لَهُ وَإِنْ تَأَلَّمَ بِهِ غَايَةَ التَّأَلُّمِ، كَمَا أَنَّ عَذَابَهُ بِالْحُدُودِ فِي الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ لِأَرْبَابِهَا، وَقَدْ سَمَّى اللهُ سُبْحَانَهُ الْحَدَّ عَذَابًا وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَعْلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً يُنَاسِبُهُ، وَدَوَاءُ الدَّاءِ الْعُضَالِ يَكُونُ مِنْ أَشَقِّ الْأَدْوِيَةِ، وَالطَّبِيبُ الشَّفِيقُ يَكْوِي الْمَرِيضَ بِالنَّارِ كَيًّا بَعْدَ كَيٍّ. لِيُخْرِجَ مِنْهُ الْمَادَّةَ الرِّدِيَّةَ الطَّارِئَةَ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَإِنْ رَأَى قَطْعَ الْعُضْوِ أَصْلَحَ لِلْعَلِيلِ قَطَعَهُ وَأَذَاقَهُ أَشَدَّ الْأَلَمِ، فَهَذَا قَضَاءُ الرَّبِّ وَقَدَرُهُ فِي إِزَالَةِ مَادَّةٍ غَرِيبَةٍ طَرَأَتْ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مَوَادٌّ فَاسِدَةٌ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ شَرْعَ الرَّبِّ وَقَدَرَهُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ فِي الْآخِرَةِ وَجَدَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ التَّنَاسُبِ وَالتَّوَافُقِ وَارْتِبَاطِ ذَلِكَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ; فَإِنَّ مَصْدَرَ الْجَمِيعِ عَنْ عِلْمٍ تَامٍّ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَرَحْمَةٍ سَابِغَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَمُلْكُهُ مُلْكُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَعَدْلٍ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ - أَنَّ عُقُوبَتَهُ لِلْعَبْدِ لَيْسَتْ لِحَاجَتِهِ إِلَى عُقُوبَتِهِ، وَلَا لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَأَلَمٍ يَزُولُ عَنْهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَيَتَنَزَّهُ كَمَا يَتَعَالَى عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ. وَلَا هِيَ عَبَثٌ مَحْضٌ خَالٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْغَايَةِ الْحَمِيدَةِ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَالَى عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ نَعِيمِ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَشْقِيَاءِ وَمُدَاوَاتِهِمْ، أَوْ لِهَذَا وَلِهَذَا، وَعَلَى التَّقَارِيرِ الثَّلَاثَةِ فَالتَّعْذِيبُ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ لَا قَصْدَ الْغَايَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَسِيلَةِ إِذَا حَصَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ زَالَ حُكْمُهَا، وَنَعِيمُ أَوْلِيَائِهِ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي كَمَالِهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَذَابِ أَعْدَائِهِ وَدَوَامِهِ. وَمَصْلَحَةُ الْأَشْقِيَاءِ لَيْسَتْ فِي الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ التَّعْذِيبِ مَصْلَحَةً لَهُمْ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ - أَنَّ رِضَاءَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَحِمَتَهُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ لَهُ فَلَا مُنْتَهَى لِرِضَاهُ، بَلْ كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ " سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَاءَ نَفْسِهِ وَزِنَةَ

عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " فَإِذَا كَانَتْ رَحْمَتُهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ فَإِنَّ رِضَى نَفْسِهِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ، فَإِنَّ رِضْوَانَهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَنَعِيمِهَا وَكُلِّ مَا فِيهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُحِلُّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانَهُ فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا. وَأَمَّا غَضَبُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَخَطُهُ فَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ انْفِكَاكُهُ عَنْهَا بِحَيْثُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضْبَانَ، وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي صِفَةِ الْغَضَبِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَسَائِرِ أَفْعَالِهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ غَيْرِ قَائِمٍ بِهِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ مُفَارَقَتُهَا لَهُ، وَالْعَذَابُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ صِفَةِ غَضَبِهِ وَمَا سُعِّرَتِ النَّارُ إِلَّا بِغَضَبِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقًا مِنْ غَضَبِهِ وَأَسْكَنَهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَيَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ عَصَاهُ) فَمَخْلُوقَاتُهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبِالرَّحْمَةِ، وَنَوْعٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الْغَضَبِ وَبِالْغَضَبِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ عَنْ تَقْدِيرِ خِلَافِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَنْتَقِمُ وَيَعْفُو، بَلْ هَذَا مُوجِبُ مُلْكِهِ الْحَقِّ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُلْكِ الْمَقْرُونِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَمْدِ، فَإِذَا زَالَ غَضَبُهُ سُبْحَانَهُ وَتَبَدَّلَ بِرِضَاهُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ وَتَبَدَّلَتْ بِرَحْمَتِهِ فَانْقَلَبَتِ الْعُقُوبَةُ رَحْمَةً، بَلْ لَمْ تَزَلْ رَحْمَةً وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَتُهَا وَصُورَتُهَا كَمَا كَانَ عُقُوبَةُ الْعُصَاةِ رَحْمَةً وَإِخْرَاجُهُمْ مِنَ النَّارِ رَحْمَةً، فَتَقَلَّبُوا فِي رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَقَلَّبُوا فِيهَا فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةُ يُحِبُّونَهَا وَتُوَافِقُ طَبَائِعَهُمْ، وَهَذِهِ رَحْمَةٌ يَكْرَهُونَهَا وَتَشُقُّ عَلَيْهِمْ كَرَحْمَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يُبْضِعُ لَحْمَ الْمَرِيضِ وَيُلْقِي عَلَيْهِ الْمَكَاوِيَ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْمَوَادَّ الرَّدِيَّةَ الْفَاسِدَةَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اعْتِبَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْعَلِيلِ وَهُوَ يُحِبُّهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَنْشَأْ فِعْلُهُ بِهِ عَنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يُسَمَّى عُقُوبَةً، وَأَمَّا عَذَابُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِغَضَبِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ. (قِيلَ) : هَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَهَذَا كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ وَرَحْمَةٌ وَتَخْفِيفٌ وَطُهْرَةٌ فَالْحُدُودُ طُهْرَةٌ لِأَهْلِهَا وَعُقُوبَةٌ، وَهُمْ لَمَّا أَغْضَبُوا الرَّبَّ تَعَالَى وَقَابَلُوهُ بِمَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ وَعَامَلُوهُ أَقْبَحَ الْمُعَامَلَةِ، وَكَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَجَعَلُوا أَقَلَّ أَهْلِهِ وَأَخْبَثَهُمْ وَأَمْقَتَهُمْ لَهُ نِدًّا لَهُ وَآلِهَةً مَعَهُ، وَآثَرُوا رِضَاءَهُمْ عَلَى رِضَاهُ وَطَاعَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ - وَهُوَ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقُّ - اشْتَدَّ مَقْتُهُ لَهُمْ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُ خِلَافِهَا وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَخَلُّفُ آثَارِهَا وَمُقْتَضَاهَا عَنْهَا، بَلْ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِأَحْكَامِهَا، كَمَا أَنَّ نَفْيَهَا عَنْهُ تَعْطِيلٌ لِحَقَائِقِهَا، وَكِلَا التَّعْطِيلَيْنِ مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ. فَالْمُعَطِّلُونَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا عَطَّلَ صِفَاتِهِ، وَالثَّانِي عَطَّلَ أَحْكَامَهُ وَمُوجَبَاتِهَا، وَكَانَ هَذَا الْعَذَابُ عُقُوبَةً لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَدَوَاءً لَهُمْ مِنْ وُجْهَةِ الرَّحْمَةِ

السَّابِقَةِ لِلْغَضَبِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَإِذَا زَالَ الْغَضَبُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ وَزَالَتِ الْمَادَّةُ الْفَاسِدَةُ بِتَغْيِيرِ الطَّبِيعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا فِي الْجَحِيمِ بِمُرُورِ الْأَحْقَابِ عَلَيْهَا، وَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أَوْجَبَتِ الْعُقُوبَةَ عَمِلَتِ الرَّحْمَةُ عَمَلَهَا وَطَلَبَتْ أَثَرَهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. (يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) وَهُوَ أَنَّ الْعَفْوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالرَّحْمَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالرِّضَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ، وَالْفَضْلَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَلِهَذَا ظَهَرَتْ آثَارُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ لِعِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ وَلَهُ خَلْقُ الْخَلْقِ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ صَالِحَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا قُصُورَ فِيهَا بِوَجْهٍ مَا، وَتِلْكَ الْمَوَادُّ الرَّدِيَّةُ الْفَاسِدَةُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَبِيَدِهِ سُبْحَانَهُ الشِّفَاءُ التَّامُّ وَالْأَدْوِيَةُ الْمُوَافِقَةُ لِكُلِّ دَاءٍ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالرَّحْمَةُ السَّابِغَةُ وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ، وَبِالْعَبْدِ أَعْظَمُ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُدَاوِي عِلَّتَهُ الَّتِي بَلَغَتْ بِهِ غَايَةَ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَنَّ دَوَاءَهُ بِيَدِ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ وَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَكَانَ لَهُ وَانْكَسَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلَّ لِعِزَّتِهِ، وَعَرَفَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الظَّلُومُ الْجَهُولُ، وَأَنَّ رَبَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَامَلَهُ بِكُلِّ عَدْلِهِ لَا بِبَعْضِ عَدْلِهِ، وَأَنَّ لَهُ غَايَةَ الْحَمْدِ فِيمَا فَعَلَ بِهِ، وَأَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الَّذِي أَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَوْصَلَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ ذَلِكَ مَحْضُ فَضْلِ اللهِ وَصَدَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ حَقِّهِ فَنَفْسُهُ أَوْلَى بِكُلِّ ذَمٍّ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَرَبُّهُ تَعَالَى أَوْلَى بِكُلِّ حَمَدٍ وَكَمَالٍ وَمَدْحٍ، فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْجَحِيمِ شَهِدُوا نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ وَرَحْمَتَهُ وَكَمَالَهُ وَحَمْدَهُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ فَطَلَبُوا مَرْضَاتَهُ وَلَوْ بِدَوَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ رِضَاكَ فَرِضَاكَ الَّذِي نُرِيدُ، وَمَا أَوْصَلَنَا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا طَلَبُ مَا لَا يُرْضِيكَ، فَأَمَّا إِذَا أَرْضَاكَ هَذَا مِنَّا فَرِضَاكَ غَايَةُ مَا نَقْصِدُهُ (وَمَا لِجُرْحٍ إِذَا أَرْضَاكَ مِنْ أَلَمٍ) وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ عَاقَبْتَ أَوْ عَفَوْتَ، لَانْقَلَبَتِ النَّارُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا (وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ) فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَأْتِي أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا " (وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا)

مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ وَقَالَ: " فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبْ إِلَيْهَا " فَهَؤُلَاءِ لَمَّا رَضُوا بِتَعْذِيبِهِمْ وَبَادَرُوا إِلَيْهِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ فِيهِ رِضَى رَبِّهِمْ وَمُوَافَقَةَ أَمْرِهِ وَمَحَبَّتَهُ انْقَلَبَ فِي حَقِّهِمْ نَعِيمًا. (وَمِثْلُ هَذَا) مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي رِشْدِينُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَنْعُمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ يَشْتَدُّ صِيَاحُهُمَا؟ فَقَالَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: أَخْرِجُوهُمَا فَإِذَا أُخْرِجَا فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا. قَالَ: رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ، قَالَ فَيَنْطَلِقَانِ فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَيَجْعَلُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَيَقُومُ الْآخَرُ فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: مَا مَنْعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي أَرْجُوكَ أَلَّا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا. فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ. فَيَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ جَمِيعًا بِرَحْمَةِ اللهِ ". (وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ) عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ رَجُلَيْنِ مِنَ النَّارِ فَإِذَا أُخْرِجَا وَوَقَفَا قَالَ اللهُ لَهُمَا: كَيْفَ وَجَدْتُمَا مَقِيلَكُمَا وَسُوءَ مَصِيرِكُمَا؟ فَيَقُولَانِ شَرَّ مَقِيلٍ وَأَسْوَأَ مَصِيرٍ صَارَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، فَيَقُولُ لَهُمَا: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَكُمَا وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. قَالَ فَيُؤْمَرُ بِصَرْفِهِمَا إِلَى النَّارِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَغْدُو فِي أَغْلَالِهِ وَسَلَاسِلِهِ حَتَّى يَقْتَحِمَهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَتَلَكَّأُ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهِمَا فَيَقُولُ لِلَّذِي غَدَا فِي أَغْلَالِهِ وَسَلَاسِلِهِ حَتَّى اقْتَحَمَهَا مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ وَقَدْ أُخْرِجْتَ مِنْهَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي خُبِّرْتُ مِنْ وَبَالِ مَعْصِيَتِكَ مَا لَمْ أَكُنْ أَتَعْرَضُ لِسُخْطِكَ ثَانِيًا، وَيَقُولُ لِلَّذِي تَلَكَّأَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ: حُسْنُ ظَنِّي بِكَ حِينَ أَخْرَجَتْنِي مِنْهَا أَلَّا تَرُدَّنِي إِلَيْهَا فَيَرْحَمُهُمَا جَمِيعًا وَيَأْمُرُ بِهِمَا إِلَى الْجَنَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ - أَنَّ النَّعِيمَ وَالثَّوَابَ مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَبِرِّهِ وَكَرَمِهِ ; وَلِذَلِكَ يُضِيفُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ; وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِالْمُعَاقِبِ وَالْمُعَذِّبِ، بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ حَتَّى فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (15: 49، 50) وَقَالَ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5: 98) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (7: 167) وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ. فَمًا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّهُ يَدُومُ بِدَوَامِهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ، وَهُوَ غَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي نَفْسِهَا.

وَأَمَّا الشَّرُّ الَّذِي هُوَ الْعَذَابُ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِنْ دَخَلَ فِي مَفْعُولَاتِهِ لِحِكْمَةٍ إِذَا حَصَلَتْ زَالَ وَفَنِي، بِخِلَافِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَائِمُ الْمَعْرُوفِ لَا يَنْقَطِعُ مَعْرُوفُهُ أَبَدًا وَهُوَ قَدِيمُ الْإِحْسَانِ أَبَدِيُّ الْإِحْسَانِ، فَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُحْسِنًا عَلَى الدَّوَامِ وَلَيْسَ مِنْ مُوجِبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُعَاقِبًا عَلَى الدَّوَامِ، غَضْبَانَ عَلَى الدَّوَامِ، مُنْتَقِمًا عَلَى الدَّوَامِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَجْهَ تَأَمُّلَ فَقِيهٍ فِي بَابِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ يَفْتَحُ لَكَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ - وَهُوَ قَوْلُ أَعْلَمُ خَلِقِهِ بِهِ وَأَعْرَفُهُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ " وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ " وَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَنْ قَالَ الشَّرُّ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. بَلِ الشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِوَجْهٍ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ، فَإِنَّ ذَاتَهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهَا، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ لَا شَرَّ فِيهَا بِوَجْهٍ مَا، وَأَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، فَكَيْفَ يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ؟ بَلِ الشَّرُّ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، إِذْ فِعْلُهُ غَيْرُ مَفْعُولِهِ، فَفِعْلُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْمَفْعُولُ فَفِيهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَإِذَا كَانَ الشَّرُّ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا غَيْرَ قَائِمٍ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ أَنْتَ لَا تَخْلُقُ الشَّرَّ حَتَّى يُطْلَبَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا نَفَى إِضَافَتَهُ إِلَيْهِ وَصْفًا وَفِعْلًا وَاسْمًا، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَّا الذُّنُوبَ وَمُوجَبَاتِهَا، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَاتُ وَمُوجَبَاتُهَا وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَاتُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ ; وَلِأَجْلِهَا خَلَقَ خَلْقَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَهِيَ ثَنَاءٌ عَلَى الرَّبِّ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ وَعُبُودِيَّتُهُ، وَهَذِهِ لَهَا آثَارٌ تَطْلُبُهَا وَتَقْتَضِيهَا فَتَدُومُ آثَارُهَا بِدَوَامِ مُتَعَلِّقِهَا. وَأَمَّا الشُّرُورُ فَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَلَا هِيَ الْغَايَةَ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ، فَهِيَ مَفْعُولَاتٌ قُدِّرَتْ لِأَمْرٍ مَحْبُوبٍ وَجُعِلَتْ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ مَا قُدِّرَتْ لَهُ اضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْخَيْرِ الْمَحْضِ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَفِيهِ رَحْمَتُهُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنْ يَرْحَمَ الْعَبْدَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيُؤْلِمُهُ وَتَشْتَدُّ كَرَاهَتُهُ لَهُ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ آنِفًا وَقَوْلَهُ تَعَالَى لِذَيْنَكِ الرَّجُلَيْنِ، رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَعَا لِمُبْتَلًى قَدِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَقَالَ: اللهُمَّ ارْحَمْهُ -

يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ " فَالِابْتِلَاءُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ (وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: " أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ " فَالْبَلَاءُ وَالْعُقُوبَةُ أَدْوِيَةٌ قُدِّرَتْ لِإِزَالَةِ أَدْوَاءٍ لَا تَزُولُ إِلَّا بِهَا وَالنَّارُ هِيَ الدَّوَاءُ الْأَكْبَرُ، فَمَنْ تُدَاوَى فِي الدُّنْيَا أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الدَّوَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّوَاءِ بِحَسَبِ دَائِهِ. وَمَنْ عَرَفَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصِفَاتِ جَلَالِهِ وَنُعُوتِ كَمَالِهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَغِنَاهُ وَجُودِهِ، وَتَحَبُّبِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَإِرَادَتِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ وَسَبْقِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، لَمْ يُبَادِرْ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَبُولِهِ. يُوَضِّحُهُ (الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) أَنَّ أَفْعَالَهُ سُبْحَانَهُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْعَدْلِ، فَلَا يَفْعَلُ عَبَثًا وَلَا جَوْرًا وَلَا بَاطِلًا، بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُنَزَّهُ عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَتَعْذِيبُهُمْ إِنْ كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ الْخُبْثُ وَتَكْمُلَ الطَّهَارَةُ فَظَاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ زَالَ الْعَذَابُ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ دَوَامُ الْعَذَابِ أَبَدَ الْآبَادِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَائِمًا بِدَوَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ فَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَلَيْسَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي بَقَائِهِمْ فِي الْعَذَابِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَعُودُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي نَعِيمِهِمْ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَأْبِيدَ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ نَعِيمُ أَوْلِيَائِهِ وَكَمَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ فِي الْعَذَابِ السَّرْمَدِ. فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ قُلْتُمْ مَا لَا يُعْقَلُ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَلَا تُطْلَبُ لَهُ حِكْمَةٌ وَلَا غَايَةٌ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالَمِينَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ مُعَطَّلَةً عَنِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَدِلَّةُ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَالْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاؤُهُمْ فِي الْعَذَابِ وَانْقِطَاعُهُ عَنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَشِيئَتِهِ سَوَاءً، وَلَمْ يَكُنْ فِي انْقِضَائِهِ مَا يُنَافِي كَمَالَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُخْبِرْنَا بِأَبَدِيَّةِ الْعَذَابِ وَأَنَّهُ

لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْقُوفِ حُكْمُهَا عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ، فَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَقْتَضِ الدَّوَامَ، وَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ الْمَشِيئَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تُعَلَّلُ لَمْ تَقْتَضِهِ أَيْضًا، وَإِنْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ - أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِي الْمُعَذَّبِينَ، فَإِنَّهُ أَنْشَأَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَبَّاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِرَحْمَتِهِ. وَأَسْبَابُ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ، وَخَلَقَهُمْ عَلَى خِلْقَةٍ تَكُونُ رَحْمَتُهُ إِلَيْهِمْ أَقْرَبَ مِنْ غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ ; وَلِهَذَا تَرَى أَطْفَالَ الْكُفَّارِ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ فَمَنْ رَآهُمْ رَحِمَهُمْ، وَلِهَذَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ فَكَانَتْ هِيَ السَّابِقَةَ إِلَيْهِمْ، فَفِي كُلِّ حَالٍ هُمْ فِي رَحْمَتِهِ فِي حَالِ مُعَافَاتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمْ. وَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ السَّابِقَةَ فِيهِمْ لَمْ يَبْطُلْ أَثَرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ عَارَضَهَا أَثَرُ الْغَضَبُ وَالسُّخْطِ فَذَلِكَ لِسَبَبٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا أَثَرُ الرَّحْمَةِ فَسَبَبُهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَا مِنْهُ يَقْتَضِي رَحْمَتَهُمْ، وَمَا مِنْهُمْ يَقْتَضِي عُقُوبَتَهُمْ، وَالَّذِي مِنْهُ سَابِقٌ وَغَالِبٌ. وَإِذَا كَانَتْ رَحْمَتُهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ فَلِأَنْ يَغْلِبَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ أَثَرَ الْغَضَبِ أَوْلَى وَأَحْرَى. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الْعَذَابِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ، وَلَا يُخْبِرُ عَنِ النَّعِيمِ أَنَّهُ نَعِيمُ يَوْمٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَقْدِيرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْمُعَذَّبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الْعَذَابِ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَذَابَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرَدْ بِهِ اللهُ فَالْعَذَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلْآخِرَةِ وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلَا عَذَابَ عَلَيْهِ، وَالدُّنْيَا قَدْ جُعِلَ لَهَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَمَا انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى تِلْكَ الدَّارِ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ الْمُعَذَّبُ بِهِ. وَأَمَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَفْنَى وَلَا يَزُولُ فَيَدُومُ بِدَوَامِ الْمُرَادِ بِهِ، فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً لَا تَزُولُ لَمْ يَزُلْ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ الْفَانِيَةِ فَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللهِ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ بِزَوَالِ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ، فَإِذَا اضْمَحَلَّتِ الدُّنْيَا وَانْقَطَعَتْ أَسْبَابُهَا وَانْتَقَلَ مَا كَانَ فِيهَا لِغَيْرِ اللهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالذَّوَاتِ وَانْقَلَبَ عَذَابًا وَآلَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بِخِلَافِ النَّعِيمِ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ - أَنَّهُ لَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ

عَذَابًا سَرْمَدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا انْقِطَاعَ أَبَدًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْفِطْرِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، فَإِذَا عَذَّبَ خَلْقَهُ عَذَّبَهُمْ بِحِكْمَةٍ كَمَا يُوجَدُ التَّعْذِيبُ وَالْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَتَطْهِيرِ الْعَبْدِ وَمُدَاوَاتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمَوَادِّ الرَّدِيَّةِ عَنْهُ بِتِلْكَ الْآلَامِ مَا تَشْهَدُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَصَلَاحِهَا وَزَجْرِهَا وَرَدْعِ نَظَائِرِهَا وَتَوْقِيفِهَا عَلَى فَقْرِهَا وَضَرُورَتِهَا إِلَى رَبِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا طِيِّبٌ ; وَلِهَذَا يُحَاسَبُونَ - إِذَا قَطَعُوا الصِّرَاطَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ الْخَبِيثَةَ الْمُظْلِمَةَ الَّتِي لَوْ رُدَّتْ إِلَى الدُّنْيَا قَبْلَ الْعَذَابِ لَعَادَتْ لِمَا نُهِيَتْ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَسْكُنَ دَارَ السَّلَامِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا عُذِّبُوا بِالنَّارِ عَذَابًا يُخَلِّصُ نُفُوسَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْثِ وَالْوَسَخِ وَالدَّرَنِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ خَلْقُ نُفُوسٍ فِيهَا شَرٌّ يَزُولُ بِالْبَلَاءِ الطَّوِيلِ وَالنَّارِ كَمَا يَزُولُ بِهَا خَبَثُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ فَهَذَا مَعْقُولٌ فِي الْحِكْمَةِ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَمَّا خَلْقُ نُفُوسٍ لَا يَزُولُ شَرُّهًا أَبَدًا وَعَذَابُهَا لَا انْتِهَاءَ لَهُ، فَلَا يَظْهَرُ فِي الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَفِي وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، أَعْنِي ذَوَاتًا هِيَ شَرٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَيْرٍ أَصْلًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ فَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِحَالَتِهَا وَإِحَالَةِ صِفَاتِهَا، فَإِذَا وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ خَلْقِ هَذِهِ النُّفُوسِ وَالْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ تَعْذِيبِهَا فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ أَنْ يُنْشِئَهَا نَشْأَةً أُخْرَى غَيْرَ تِلْكَ النَّشْأَةِ، وَيَرْحَمَهَا فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ. يُوَضِّحُهُ (الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ) وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا آخَرَ يُسْكِنُهُمْ إِيَّاهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا تَكُونُ الْجَنَّةُ جَزَاءً لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَخَذَ الْعَذَابُ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ مَأْخَذَهُ وَبَلَغَتِ الْعُقُوبَةُ مَبْلَغَهَا، فَانْكَسَرَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ وَخَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاعْتَرَفَتْ لِرَبِّهَا وَفَاطِرِهَا بِالْحَمْدِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِيهَا كُلَّ الْعَدْلِ، وَأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَانَتْ فِي تَخْفِيفٍ مِنْهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ لَفَعَلَ وَشَاءَ كَتَبَ الْعُقُوبَةَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ أَوْلَى بِهَا وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَا سِوَاهُ وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ فَذَابَتْ مِنْهَا تِلْكَ الْخَبَائِثُ كُلُّهَا وَتَلَاشَتْ وَتَبَدَّلَتْ بِذُلٍّ وَانْكِسَارٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لَمْ يَكُنْ

فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا فِي الْعَذَابِ بَعْدَ ذَلِكَ ; إِذْ قَدْ تَبَدَّلَ شَرُّهَا بِخَيْرِهَا وَشِرْكُهَا بِتَوْحِيدِهَا وَكِبْرُهَا بِخُضُوعِهَا وَذُلِّهَا، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (28) فَإِنَّ هَذَا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْعَذَابِ الَّذِي يُزِيلُ تِلْكَ الْخَبَائِثَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الْعَذَابُ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخَبَائِثَ. فَأَمَّا إِذَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ أَحْقَابًا - وَالْحُقْبُ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الْحُقْبُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ) - فَإِنَّهُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالشِّرْكُ وَالْخُبْثُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ فِي الْعَذَابِ. الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ - أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ " فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ مِنْ حَمِيلِ السَّيْلِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ " فَهَؤُلَاءِ أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ جَمِيعَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِي بَدَنِ أَحَدِهِمْ مَوْضِعٌ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ بِحَيْثُ صَارُوا حُمَمًا - وَهُوَ الْفَحْمُ الْمُحْتَرِقُ بِالنَّارِ -. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ هَكَذَا: " فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ اللهُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ " فَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَمَعَ هَذَا فَأَخْرَجَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ هَذَا رَحِمْتُهُ سُبْحَانَهُ لِلَّذِي أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُحَرِّقُوهُ بِالنَّارِ وَيَذْرُوهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ زَعْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ يَفُوتُ اللهَ سُبْحَانَهُ. فَهَذَا قَدْ شَكَّ فِي الْمَعَادِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَمَعَ هَذَا فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللهُ فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ حِكَمٌ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الْبَشَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ " قَالُوا: وَمَنْ ذَا الَّذِي فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ كُلِّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لَمْ يَذْكُرْ رَبَّهُ يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا خَافَهُ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَخْرَجَتْ مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَهُ وَقْتًا مَا أَوْ خَافَهُ فِي مَقَامٍ مَا فَغَيْرُ بِدَعٍ أَنْ تَفْنَى النَّارُ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا مِنْهَا وَهِيَ نَارٌ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ - أَنَّ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِذَنْبِهِ حَقِيقَةً الِاعْتِرَافَ الْمُتَضَمِّنَ لِنِسْبَةِ

السُّوءِ وَالظُّلْمِ وَاللَّوْمِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنِسْبَةِ الْعَدْلِ وَالْحَمْدِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ وَيَسْتَدْعِي رَحْمَتَهُ لَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْحَمَ عَبْدَهُ أَلْقَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَالرَّحْمَةَ مَعَهُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ جَزْمُ الْعَبْدِ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ لِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلَ قَلْبِهِ وَسُوَيْدَائِهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّحْمَةُ مَعَ ذَلِكَ. وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ آخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَتَقَلَّبُ عَلَى الصِّرَاطِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ كَالْغُلَامِ يَضْرِبُهُ أَبُوهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، يَعْجَزُ عَنْهُ عَمَلُهُ أَنْ يَسْعَى فَيَقُولُ: يَارَبِّ بَلِّغْ بِي الْجَنَّةَ وَنَجِّنِي مِنَ النَّارِ. فَيُوحِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: عَبْدِي! إِنْ أَنَا نَجَّيْتُكَ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلْتُكَ الْجَنَّةَ أَتَعْتَرِفُ لِي بِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ؟ فَيَقُولُ الْعَبْدُ: نَعَمْ يَارَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ إِنْ نَجَّيْتَنِي مِنَ النَّارِ لَأَعْتَرِفَنَّ لَكَ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ. فَيَجُوزُ الْجِسْرَ وَيَقُولُ الْعَبْدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَهُ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ لَيَرُدَّنِي إِلَى النَّارِ، فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي اعْتَرِفْ لِي بِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ أَغْفِرْهَا لَكَ وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: لَا وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَذْنَبْتُ ذَنْبًا قَطُّ وَلَا أَخْطَأْتُ خَطِيئَةً قَطُّ، فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي إِنَّ لِي عَلَيْكَ بَيِّنَةً فَيَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى أَحَدًا، فَيَقُولُ يَارَبِّ أَرِنِي بَيِّنَتَكَ، فَيَسْتَنْطِقُ اللهُ تَعَالَى جِلْدَهُ بِالْمُحَقِّرَاتِ فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: يَارَبِّ عِنْدِي وَعَزَّتِكَ الْعَظَائِمُ فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْكَ اعْتَرِفْ لِي بِهَا أَغْفِرْهَا لَكَ وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ. فَيَعْتَرِفُ الْعَبْدُ بِذُنُوبِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ) ثُمَّ ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ - يَقُولُ هَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فَكَيْفَ بِالَّذِي فَوْقَهُ؟ فَالرَّبُّ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ الِاعْتِرَافَ وَالِانْكِسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ لَهُ وَالْعَزْمَ عَلَى مَرْضَاتِهِ. فَمَا دَامَ أَهْلُ النَّارِ فَاقِدِينَ لِهَذَا الرُّوحِ فَهُمْ فَاقِدُونَ لِرُوحِ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْحَمَهُمْ أَوْ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ جَعَلَ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ فَتُدْرِكُهُ الرَّحْمَةُ، وَقُدْرَةُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيْرُ قَاصِرَةٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ مُوجَبَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ الْخُلُودَ عَلَى مَعَاصِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَقَيَّدَهُ بِالتَّأْبِيدِ وَلَمْ يُنَافِ ذَلِكَ انْقِطَاعَهُ وَانْتِهَاءَهُ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (4: 93) وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا " وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ: " فَيَقُولُ اللهُ

تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (72: 23) فَهَذَا وَعِيدٌ مُقَيَّدٌ بِالْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ، مَعَ انْقِطَاعِهِ قَطْعًا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. فَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ الْعَامُّ لِأَهْلِ النَّارِ لَا يَمْتَنِعُ انْقِطَاعُهُ بِسَبَبٍ مِمَّنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمَا يَئِسَ مِنْ رَحْمَتِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلَقَ اللهُ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ". الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ صَرِيحًا بِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لَا انْتِهَاءَ لَهُ وَأَنَّهُ أَبَدِيٌّ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ وَعِيدًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَاللهُ تَعَالَى لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ كَرَمٌ وَعَفْوٌ وَتَجَاوُزٌ يُمَدَحُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَالْكَرِيمُ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ، فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ " وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيُخْلِفُ اللهُ مَا وَعَدَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ أَوْعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا أَيُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مِنَ الْعُجْمَةِ أُتِيتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ، إِنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ الْوَعِيدِ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا وَلَا خُلْفًا أَنْ تَعِدَ شَرًّا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، تَرَى ذَلِكَ كَرَمًا وَفَضْلًا، وَإِنَّمَا الْخُلْفُ أَنْ تَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، قَالَ: فَأَوْجِدْنِي هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ إِلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ: وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ سَطْوَتِي ... وَلَا أَخْتَنِي مِنْ صَوْلَةِ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي قَالَ أَبُو الشَّيْخِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ حَقٌّ، فَالْوَعْدُ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ضَمِنَ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا كَذَا أَنْ يُعْطِيَهُمْ كَذَا وَمَنْ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ مِنَ اللهِ؟ وَالْوَعِيدُ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا فَأُعَذِّبَكُمْ فَفَعَلُوا فَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ. وَأَوْلَاهُمَا بِرَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ حِينَ أَوْعَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَعِيدٍ مُطْلَقٍ فَكَيْفَ بِوَعِيدٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِثْنَاءٍ مُعَقَّبٍ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فَهُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَحْدَهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْتَثْنَى أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِقَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: (خَالِدِينَ فِيهَا) وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ فَقَالُوا: أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ وَحْدَهُ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَذْكُورٌ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَهَذَا التَّعْقِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي " الْأَنْعَامِ ": (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فَأَخْبَرَ أَنَّ عَذَابَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَرَفْعَهُ عَنْهُمْ فِي وَقْتٍ يَشَاؤُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ تَجَرُّدُ مَشِيئَتِهِ عَنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْبَاطِلَةِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قُرْبٍ مِنْ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُمِّرَتْ وَلَا قَامَ لَهَا وُجُودٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) (16: 61) وَقَالَ: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) (35: 45) فَلَوْلَا سَعَةُ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ لَمَا قَامَ الْعَالَمُ. وَمَعَ هَذَا فَالَّذِي أَظْهَرُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا كَانَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ قَدْ غَلَبَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَنَالَتِ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ بِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ إِغْضَابِ رَبِّهِ وَالسَّعْيِ فِي مُسَاخَطَتِهِ، فَكَيْفَ لَا يَغْلِبُ جَانِبُ الرَّحْمَةِ فِي دَارٍ تَكُونُ الرَّحْمَةُ فِيهَا مُضَاعَفَةً عَلَى مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعَذَابُ مِنَ الْكُفَّارِ مَأْخَذَهُ وَانْكَسَرَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ وَأَنْهَكَهَا الْعَذَابُ وَأَذَابَ مِنْهَا خُبْثًا وَشَرًّا لَمْ يَكُنْ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَحْمَتِهِ لَهَا فِي الدُّنْيَا. بَلْ كَانَ يَرْحَمُهَا مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ بِهَا، فَكَيْفَ إِذَا زَالَ مُقْتَضَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ وَقَوِيَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَاضْمَحَلَّ الشَّرُّ وَالْخُبْثُ الَّذِي فِيهَا فَأَذَابَتْهُ النَّارُ وَأَكَلَتْهُ؟ ! وَسِرُّ الْأَمْرِ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ أَغْلَبُ وَأَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَسْمَاءِ الِانْتِقَامِ. وَفِعْلَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَظُهُورَ آثَارِ الرَّحْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ آثَارِ الِانْتِقَامِ وَالرَّحْمَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَبِالرَّحْمَةِ خَلَقَ خَلْقَهُ وَلَهَا خَلَقَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ وَكَتَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمَا خَلَقَ بِهَا فَمَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا خَلَقَ بِالْغَضَبِ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَالْعُقُوبَةُ تَأْدِيبٌ وَتَطْهِيرٌ، وَالرَّحْمَةُ إِحْسَانٌ وَكَرَمٌ وَجُودٌ، وَالْعُقُوبَةُ مُدَاوَاةٌ. وَالرَّحْمَةُ عَطَاءٌ وَبَذْلٌ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ لِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمُ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ. وَيُظْهِرَ لَهُمْ حُكْمَهُ الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ حُكْمٍ فِي أَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ حُكْمًا يَحْمَدُونَهُ هُمْ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، بِحَيْثُ يَنْطِقُ الْكَوْنُ كُلُّهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (39: 75) فَحَذَفَ فَاعِلَ الْقَوْلِ لِإِرَادَةِ الْإِطْلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَاطِقٍ وَقَلْبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ دَخَلُوا النَّارَ وَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لِمُمْتَلِئَةٌ مِنْ حَمْدِهِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ سَبِيلًا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَسَّنَ حَذْفَ الْفَاعِلِ مِنْ قَوْلِهِ: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) (39: 72) حَتَّى كَأَنَّ الْكَوْنَ جَمِيعَهُ قَائِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ إِذْ هُوَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ فِيهِمْ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (39: 73) فَهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهَا بِعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ سُبْحَانَهُ مَلَائِكَتَهُ وَخَلْقَهُ كُلَّهُمْ حُكْمَهُ الْعَدْلَ وَحِكْمَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَوَضْعَهُ الْعُقُوبَةَ حَيْثُ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَالْخَلِيقَةُ أَنَّهُ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ وَأَحَقُّهَا بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حَمْدِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ الظَّالِمَةَ الْفَاجِرَةَ لَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْسُنُ بِهَا سِوَاهُ بِحَيْثُ تَعْتَرِفُ هِيَ مِنْ ذَوَاتِهَا بِأَنَّهَا أَهْلُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا أَوْلَى بِهِ حَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا وُجِدَ الشَّرُّ وَمُوجَبَاتُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَتِلْكَ الدَّارِ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الشُّرُورَ تَبْقَى دَائِمًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ أَبَدًا، فَتَكُونَ هِيَ وَالْخَيِّرَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. فَهَذَا نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ انْتَهَى قَدَمُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ؟ قِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَإِلَى هُنَا انْتَهَى قَدَمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا حَيْثُ ذَكَرَ دُخُولَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَمَا يَلْقَاهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَقَالَ: ثُمَّ يَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، بَلْ وَإِلَى هَاهُنَا انْتَهَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ فِي الْكِتَابِ كُلِّهِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمَانُّ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ وَرُسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. هَذَا مَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَفِيهِ مِنْ دَقَائِقَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَفَهْمِ

كِتَابِهِ وَالْغَوْصِ عَلَى دُرَرِ حِكَمِهِ فِي أَحْكَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي أَقْدَارِهِ وَالْإِفْصَاحِ عَنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَخَفِيِّ لُطْفِهِ وَجَلِيلِ إِحْسَانِهِ، مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ فِيمَا نَعْلَمُ سَابِقٌ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِهِ لَاحِقٌ، فَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا يُكَافِئُ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَالْعَارِفِينَ الْكَامِلِينَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا وَإِيَّاهُ فِي ثُلَّةِ الْمُقَرَّبِينَ آمِينَ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى بَحْثِهِ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمُؤَلِّفِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ بِنَصِّهِ عَلَى طُولِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي نَوَّهْنَا بِهَا، وَلِأَمْرٍ آخَرَ أَهَمَّ وَهُوَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَى شُبَهَاتِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَلَى الدِّينِ قَوْلُ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ وَحْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُعَذِّبُونَ عَذَابًا شَدِيدًا دَائِمًا لَا يَنْتَهِي أَبَدًا، بَلْ تَمُرُّ أُلُوفُ الْأُلُوفِ الْمُكَرَّرَةِ مِنَ الْأَحْقَابِ وَالْقُرُونِ وَلَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً وَقُوَّةً وَامْتِدَادًا، مَعَ قَوْلِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ - إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ الْعَطُوفِ الرَّءُومِ بِوَلَدِهَا الْوَحِيدِ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءًا صَغِيرًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْبَحْثُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُزِيلَ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِدُّونَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى مُذْعِنِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ رَاجِينَ رَحْمَتَهُ خَائِفِينَ عِقَابَهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ - فَمَا أَعْظَمَ ثَوَابَ ابْنِ الْقَيِّمِ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ حَمَلُوا الْخُلُودَ وَالْأَبَدَ اللُّغَوِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْكَلَامِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَامُلِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فِي عَالَمِهِمْ كَمَا يَقْصِدُ أَهْلُ كُلِّ لُغَةٍ فِي أَوْضَاعِ لُغَتِهِمْ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ الْخُلُودَ فِي الْإِقَامَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَيُسَمُّونَ الْأَثَافِيَّ (حِجَارَةَ الْمَوْقِدِ) الْخَوَالِدَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِحَالَةَ الِانْتِقَالِ وَالنَّقْلِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَيُعَبِّرُونَ بِالْأَبَدِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَنَاهِيكَ بِتَدْقِيقِهِ فِي تَحْدِيدِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ، وَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ. وَتَقُولُ: رَزَقَكَ اللهُ عُمْرًا طَوِيلَ الْآبَادِ بَعِيدَ الْآمَادِ. فَهَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْتَهِي؟ ! وَيَقُولُ أَهْلُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُهُمْ فِي زَمَانِنَا حُكِمَ عَلَى فُلَانٍ بِالسَّجْنِ الْمُؤَبَّدِ أَوِ الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ - وَهُوَ لَا يُنَافِي عِنْدَهُمُ انْتِهَاءَهَا بِعَفْوِ السُّلْطَانِ مَثَلًا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَدْ يَنْفَعُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَارِقِينَ وَلَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ مُسْتَدِلِّينَ أَوْ مُقَلِّدِينَ، وَسَنَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ آيَتَيْ سُورَةِ هُودٍ، وَنُلَخِّصُ جَمِيعَ التَّأْوِيلَاتِ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا وَالْمَرْجُوحِ وَدَلَائِلِ الْجُمْهُورِ.

129

(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الْمَعْنَى الْعَامُّ لِمَادَّةِ الْوَلَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّصَالِ فِي الْحُصُولِ أَوِ الْعَمَلِ، بِأَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَفْصِلَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ جُثَّةٍ أَوْ زَمَنٍ، وَوَلِيَ الرَّجُلُ الْعَمَلَ أَوِ الْأَمْرَ قَامَ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ الْأَحْكَامِ " بِكَسْرِ الْوَاوِ " وَصَاحِبُهَا وَالٍ، وَوَلَايَةُ الْقَرَابَةِ وَوَلَايَةُ النُّصْرَةِ " وَكِلَاهُمَا بِفَتْحِهَا " وَصَاحِبُهُمَا وَلِيٌّ. وَمِنْهُ الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ، وَوَلَّى وَجْهَهُ الْكَعْبَةَ - تَوَجَّهَ إِلَيْهَا (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (2: 144) وَوَلَّاهُ الشَّيْءَ أَوِ الْعَمَلَ أَوِ الْقَضَاءَ: جَعَلَهُ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَتَوَلَّاهُ، وَتَوَلَّى زَيْدٌ عَمْرًا: نَصَرَهُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْمُ (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (60: 13) - وَأَمَّا تَوْلِيَةُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَهُوَ جَعْلُهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ، إِمَّا بِمُقْتَضَى أَمْرِهِ فِي شَرْعِهِ وَمُقْتَضَى سُنَنِهِ وَقَدَرِهِ مَعًا، وَإِمَّا بِمُقْتَضَى الثَّانِي فَقَطْ فَالْأَوَّلُ وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي شَرْعِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَأَثَرُهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ اللهِ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ، وَالثَّانِي وِلَايَةُ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَهُوَ أَثَرٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَاصَرُونَ بِهِ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ بَلْ نَهَاهُمْ عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ الشَّامِلِ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ مَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْلُقُ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي الْكَوْنِ خَلْقًا

آنِفًا، أَيْ مُبْتَدَأً مِنْهُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ تَكُونُ فِيهِ الْمُسَبَّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ. الْجَبْرُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْقَدَرِ أَيْضًا. فَتَوْلِيَةُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ لَيْسَ خَلْقًا مُبْتَدَأً مِنَ اللهِ وَلَا وَاقِعًا مِنَ النَّاسِ بِالْإِجْبَارِ وَالِاضْطِرَارِ. وَلَا بِالِاسْتِقْلَالِ الْمُنَافِي لِلْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَإِنَّمَا جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ يَصِيرُ بِالتَّكْرَارِ عَادَةً فَخُلُقًا وَمَلَكَةً، وَأَنَّ الْأَفْرَادَ وَالْجَمَاعَاتِ يَمِيلُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى مَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فِيمَا يَشْتَرِكُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جَهِلَ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ جَمِيعًا حَقِيقَةَ الْقَدَرِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْمِلُ الْآيَاتِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِيهَا. فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ - أَيْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا - مِنِ اسْتِمْتَاعِ أَوْلِيَاءِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ وَالْمُشَاكَلَةِ، نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بَعْضًا بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ أَعْمَالِ الظُّلْمِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِسُنَّتِنَا وَقَدَرِنَا، الَّذِي قَامَ بِهِ النِّظَامُ الْعَامُّ فِي خَلْقِنَا، فَلَيْسَ خَلْقًا مُبْتَدَأً كَمَا تَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا أَفْعَالًا اضْطِرَارِيَّةً كَمَا تَزْعُمُ الْجَبْرِيَّةُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَاتٌ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: إِنَّمَا يُوَلِّي اللهُ بَيْنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ مِنْ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَعَمْرِي لَوْ عَمِلْتَ بِطَاعَةِ اللهِ وَلَمْ تَعْرِفْ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ مَا ضَرَّكَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَمِلْتَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَتَوَلَّيْتَ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ مَا نَفَعَكَ ذَلِكَ شَيْئًا. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ انْتِمَاءَ الْمَرْءِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُولَهُ فِي جَامِعَتِهِمْ وَنُصْرَتَهُ لَهُمْ لَا تَجْعَلُهُ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَدْيِ دِينِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ بِدُونِ تَوَلِّيهِمْ إِذَا كَانَ عَدَمُ تَوَلِّيهِمْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَرَفَهُمْ لَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يَتَوَلَّاهُمْ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمْ فِي الْجَامِعَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِحَسَبِ قَدَرِ اللهِ وَشَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (8: 72) الْآيَةَ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (8: 73) أَيْ إِنْ لَا تَفْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَذَا التَّوَلِّيَ بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَكُمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَرَجَّحَهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِوِلَايَةِ الْإِرْثِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ بِتَرْكِ

الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَهُمْ وَتَخَاذُلِهِمْ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِمَنْ نَهَاهُمُ اللهُ عَنْ وِلَايَتِهِمْ، وَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) (9: 67) إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَرْبَعِ آيَاتٍ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (9: 71) فَالْآيَاتُ كُلُّهَا تَقْرِنُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ كُلِّ فَرِيقٍ بِالْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَقَدْ قُدِّمَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ الْعَمَلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَلَى الْعَمَلِ الشَّخْصِيِّ حَتَّى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) مَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ فِيهِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا فَسَدَ النَّاسُ أُمِّرَّ عَلَيْهِمْ شِرَارُهُمْ. وَالْأَعْمَشُ تَابِعِيٌّ، فَهُوَ إِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِ قَتَادَةَ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ الصَّالِحَةَ لَا تَقْبَلُ الْأُمَرَاءَ وَالْحُكَّامَ الْفَاسِدِينَ الظَّالِمِينَ، بَلْ تُسْقِطُهُمْ إِذَا نَزَوْا عَلَى مَصَالِحِهَا وَتُوَلِّي الْخِيَارَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَلَاحُهَا بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَعَلَ أَمْرَ النَّاسِ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ زُعَمَاءِ الْأُمَّةِ هُمُ الَّذِينَ يُوَلُّونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَيُرَاقِبُونَ سَيْرَهُ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَيَعْزِلُونَهُ إِذَا اقْتَضَتِ الْمُصْلَحَةُ ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّبَعَ السُّيُوطِيُّ رِوَايَةَ الْأَعْمَشِ فِي (الدُّرِّ الْمَنْثُورِ) بِأَثَرٍ مِنَ الزَّبُورِ فِي انْتِقَامِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنَافِقِ بِالْمُنَافِقِ، ثُمَّ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمَا تَكُونُونَ كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ وَيَحْيَى ضَعِيفٌ. ثُمَّ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ آثَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلُهَا قَوْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: إِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ مَلِكًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى نَحْوِ قُلُوبِ أَهْلِهِ، فَإِذَا أَرَادَ صَلَاحَهُمْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مُصْلِحًا، وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَتَهُمْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مُتْرَفَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُلُوكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ الضَّالَّةِ تَصَرُّفَ الرُّعَاةِ فِي الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، فَالْمَلِكُ الْمُتْرَفُ - وَهُوَ الَّذِي أَكْبَرُ هَمِّهِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ وَمَظَاهِرِ الْعَظْمَةِ وَالسُّلْطَانِ - يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ الْوُزَرَاءَ وَالْقُوَّادَ وَالْبِطَانَةَ وَالْحَاشِيَةَ مِنْ أَمْثَالِهِ الْمُتْرَفِينَ. فَيُقَلِّدُهُمْ جُمْهُورُ النَّاسِ فِي أَعْمَالِهِمُ

السَّيِّئَةِ لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا قِيلَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْفَسَادُ أَغْلَبَ مِنَ الصَّلَاحِ، وَالْفِسْقُ عَنْ أَمْرِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالنِّظَامِ أَعَمَّ مِنَ الِاتِّبَاعِ. وَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ بِانْقِرَاضِ أَهْلِهَا، أَوْ بِتَسَلُّطِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (17: 16) وَكَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فَأَثَرُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مُفَسِّرٌ لِلْآيَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَلِكُ الْمُتْرَفُ يُفْسِدُ الْأُمَّةَ حَتَّى تَهْلَكَ، كَانَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ يُصْلِحُ الْأُمَّةَ الْفَاسِدَةَ بِاتِّخَاذِ الْوُزَرَاءِ وَالْقُوَّادِ وَالْبِطَانَةِ وَالْحَاشِيَةِ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ مِيزَانَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَيَكُونُونَ قُدْوَةً لِلنَّاسِ فِي الْعِفَّةِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْقَصْدِ، وَيَأْخُذُونَ عَلَى أَيْدِي أَهْلِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ فَيُقَلِّدُهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَيَرْهَبُ جَانِبَهُمُ الْأَشْرَارُ وَالْمُفْسِدُونَ فَتَقْوَى دَوْلَتُهُمْ، وَتَعْتَزُّ أُمَّتُهُمْ، حَتَّى يُمَكِّنَ اللهُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلَهُمْ مِنَ الْوَارِثِينَ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (21: 105) أَيِ الصَّالِحُونَ لِتَوَلِّيهَا وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهَا، وَلَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ صَلَاحِيَّةً، فَالصَّلَاحُ كَالتَّقْوَى يُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِهِ. وَأَمَّا الْأُمَمُ الْعَالِمَةُ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ ذَاتُ الرَّأْيِ الَّذِي يُمَثِّلُهُ الزُّعَمَاءُ الَّذِينَ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُلُوكُ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَمَا يَشَاءُونَ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، بَلْ يَكُونُونَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا. وَقَدْ وَضَعَ الْإِسْلَامُ هَذَا الْأَسَاسَ الْمَتِينَ لِلْإِصْلَاحِ بِجَعْلِهِ أَمْرَ الْأُمَّةِ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَمْرِهِ الرَّسُولَ نَفْسَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، وَجَرَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بِرُجُوعِهِ عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِ الْأُمَّةِ، وَجَعْلِهِ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ الْإِمَامَةُ أَوِ الْخِلَافَةُ بِالِانْتِخَابِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَ بِهَا النَّاسَ عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي، وَاشْتُهِرَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ. إِلَخْ. وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ: أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَحَوَّلَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ مِنْ خِلَافَةِ نُبُوَّةٍ إِلَى مُلْكٍ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ. وَقَدْ دَعَّمَ بَنُو أُمَيَّةَ مُلْكَهُمْ بِالْعَصَبِيَّةِ

فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ حِينَ ظَهَرَ فِيهِمُ الْفِسْقُ، فَنَفَرَ مِنْهُمْ مُعْظَمُ الْأُمَّةِ لِغَلَبَةِ الصَّلَاحِ فِيهَا فَسَهُلَ انْتِزَاعُ الْمُلْكِ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ. وَلَيْسَ التَّطْوِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَوْضِعِنَا هُنَا فَحَسْبُنَا إِيضَاحُ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِي الْآيَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ الْأُمَمَ الْأُخْرَى قَدِ اسْتَفَادَتْ مِنْ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْأَمْرِ - الَّذِي تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هِدَايَةَ دِينِهِمْ فِيهِ - فَلَمْ يَعُدْ أَمْرُ صَلَاحِهَا وَفَسَادِهَا بِأَيْدِي مُلُوكِهَا وَرُؤَسَاءِ حُكُومَاتِهَا وَحْدَهُمْ، بَلْ فِي أَيْدِي نُوَّابِهَا الَّذِينَ نَخْتَارُهُمْ لِمُرَاقَبَةِ الْحُكُومَةِ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا. عَلَى أَنَّ الْوُزَرَاءَ كَثِيرًا مَا يَغُشُّونَ جُمْهُورَ نُوَّابِ الْأُمَّةِ وَيَسْتَعِينُونَ بِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَلَيْسَ لَفْظُ الظَّالِمِينَ فِي الْآيَةِ خَاصًّا بِالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَتَعَاوُنِهِمْ مَعَ عُمَّالِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، بَلْ هُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ مِنَ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ يَتَوَلَّى مَنْ يُشَاكِلُهُ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَيَتَنَاصَرُونَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهَا وَإِنْ وَافَقَهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الرَّوَابِطِ وَالْجَوَامِعِ الْأُخْرَى حَتَّى رَابِطَةِ الدِّينِ وَالْجِنْسِ، فَإِنَّ كُلَّ جَامِعَةٍ بَيْنَ النَّاسِ لَا يُؤَيِّدُهَا الْعَمَلُ تَضْعُفُ حَتَّى تَكُونَ صُورِيَّةً أَوْ لَفْظِيَّةً ; وَلِذَلِكَ نَرَى الطَّامِحِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَقْوِيَاءِ إِلَى السِّيَادَةِ عَلَى الْجُهَلَاءِ الضُّعَفَاءِ يَجِدُّونَ فِي السَّعْيِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى إِفْسَادِ تَرْبِيَتِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يُضْعِفُ كُلَّ الرَّوَابِطِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أَوْ يَحُلُّهَا وَيَذْهَبُ بِهَا فَلَا يَكُونُ لِلْأَفْرَادِ مِنْهُمْ هَمٌّ إِلَّا فِي أَشْخَاصِهِمْ وَتَمْتِيعِهَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّوْنَ مَنْ يُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا وَلَوْ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِمْ إِذَا كَانَ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْتَزِعُهُ مِنْهَا بِمُؤَازَرَتِهِمْ، وَلَوْ آزَرُوهَا عَلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. فَالْمَدَارُ فِي الْوِلَايَةِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْكَسْبُ وَالْعَمَلُ، لَا الصُّورِيَّةِ أَوِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُقَرِّرِ الْكَسْبُ مَعْنَاهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وَلَمْ يَقُلْ بِمَا كَانُوا يُلَقَّبُونَ. وَسَنَذْكُرُ عِنْدَ مُنَاسَبَةٍ أُخْرَى غَرَائِبَ مِنْ خِذْلَانِ الْأُمَمِ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَسِرُّهُ وَأَغْرَبُهُ مُسَاعَدَةُ عَبِيدِ الشَّهَوَاتِ لِلْأَجَانِبِ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى بِلَادِهَا لِيَنَالُوا فِي ظِلِّ سِيَادَتِهِمْ عَلَيْهَا مَا لَا يَطْمَعُونَ بِمِثْلِهِ فِي حَالِ حُرِّيَّتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا، ثُمَّ هُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْدِمُونَهَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ سُلْطَةَ الْأَجْنَبِيِّ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا بِزَعْمِهِمْ، وَمُشَارَكَتُهُمْ إِيَّاهُ وَمُسَاعَدَتُهُمْ لَهُ تُخَفِّفُ عَنِ الْأُمَّةِ ثِقَلَ وَطْأَتِهِ، وَتَحْفَظُ لَهَا بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْمَنَافِعِ، وَتُمَهِّدُ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى التَّرَقِّي الَّذِي يُرْجَى أَنْ تَسِيرَ فِيهِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَهَذِهِ الدَّعَاوَى مِنَ الْخِدَعِ الَّتِي تَعَلَّمُوهَا مِنْ سَاسَةِ الْأَجَانِبِ قَدْ يَخْدَعُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَمِنْ أَكْبَرِ مَصَائِبِ أُمَّتِهِمْ بِهِمْ قَوْلُهُمْ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ - أَوْ لَا مَنْدُوحَةَ - مِنْ سَيْطَرَةِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا، وَانْخِدَاعُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ بِهِمْ وَتَصْدِيقُهُمْ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ يَخْدُمُونَ الْأُمَّةَ بِتَخْفِيفِ الضَّغْطِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَاهِلِهَا: وَكَيْفَ لَا يَنْخَدِعُ الْعَوَامُّ بِأَقْوَالِ أُمَرَائِهِمْ وَقُوَّادِهِمْ وَسَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَهُمْ

130

جَاهِلُونَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ، مَا يَكْفِي لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ أُولُو الْأَبْصَارِ، نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكْثِرَ فِي أُمَّتِنَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ إِلَّا بِذَلِكَ وَإِلَّا فَهِيَ هَالِكَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا جَزَاءٌ مُطَّرِدٌ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاءُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَنْكَى، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ مَنْ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْأَوْزَارِ إِذَا قَدِمُوا عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ وَيُسْأَلُونَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْمَعْشَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 130 فَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ التَّوْبِيخِيِّ، وَقَوْلُهُ: (رُسُلٌ مِنْكُمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ أَرْسَلَ اللهُ مِنْهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، كَحَصْرِ الرِّسَالَةِ فِي الرِّجَالِ وَجَعْلِهَا فِي ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ صَرَفُوا النَّظْمَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنْ جُمْلَتِكُمْ - لَا مِنْ كُلٍّ مِنْكُمْ، وَهُوَ يُصَدِّقُ بِرُسُلِ الْإِنْسِ الَّذِينَ تَثْبُتُ رِسَالَتُهُمْ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرُوا لَهُ شَاهِدًا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) (55: 22) بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) (55: 19) إِلَخْ. أَيِ الْمِلْحُ وَالْحُلْوُ وَهُوَ الْبُحَيْرَاتُ وَكِبَارُ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْبِحَارَ الْحُلْوَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لُؤْلُؤٌ وَلَا مَرْجَانُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهَا كَبَعْضِ أَنْهَارِ الْهِنْدِ، ثَبَتَ ذَلِكَ قَطْعًا وَاسْتَدْرَكَهُ (سَايِلْ) مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ. وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقَائِقِ الْأَكْوَانِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى فِي أَيَّامِ حَضَارَتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِهِمْ لِلْأَقْطَارِ. ذَكَرَ هَذَا الشَّاهِدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: جَمَعَهُمْ كَمَا جَمَعَ قَوْلَهُ: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (35: 12) وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْهَارِ حِلْيَةٌ انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْعَدُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ آيَةِ الرَّحْمَنِ بَلْ هُوَ يُبْطِلُهُ، وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَقَوْلِهِمْ: أَكَلْتُ تَمْرًا وَلَبَنًا. (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوا قَوْمَهُمْ وَهُمْ رُسُلٌ إِلَى قَوْمِهِمْ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْجِنِّ هُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِنْهُمُ الدَّعْوَةَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ وَبِلَّغُوهَا لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ كَالَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصَتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (46: 29) الْآيَاتِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ رَسُولِ

الرَّسُولِ رَسُولًا. وَذَكَرُوا أَنَّ مِنْهُ رُسُلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ " يس " (36: 13 - 20) وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ سُئِلَ عَنِ الْجِنِّ هَلْ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللهِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) فَقَالُوا: بَلَى؟ وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ يَرُدُّونَ التَّأْوِيلَ السَّابِقَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَوْ صَدَقَ فِي رُسُلِ الْجِنِّ لَصَدَقَ فِي رُسُلِ الْإِنْسِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الضَّحَّاكَ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (35: 24) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) (10: 47) وَقَوْلُهُ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (16: 36) مَعَ ضَمِيمَةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (6: 38) وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ بِتَكْلِيفِ الْحَيَوَانَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ (35: 24) وَأَنَّ الشَّعْرَانِيَّ ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَذْرُهَا مِنْهَا وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ غَيْرِهَا، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) (6: 9) أَيْ بِنَاءً عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَفَهْمِهِ عَنْهُ، وَقَدْ يَرُدُّ هَذَا بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْجِنَّ يَفْهَمُونَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْخِلَافِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ، وَالظَّوَاهِرُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْجُمْهُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِرُسُلِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُمْ، وَلَيْسَتْ أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِ الرُّسُلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَالْجِنُّ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ عَنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ - وَكَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ - عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَحَكَى تَعَالَى عَنِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) (46: 30) فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ. فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) أَيْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَيْكُمُ الْمُبَيِّنَةَ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَسَنَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ الْأَحْوَالِ وَسَلَامَةُ الْمَآلِ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا بِإِعْلَامِكُمْ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ كَفَرَ عَنْ جُحُودٍ أَوِ ارْتِيَابٍ. (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) هَذَا مَا حَكَاهُ تَعَالَى مِنْ جَوَابِهِمْ عَنِ السُّؤَالِ عِنْدَمَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ بِالْكَلَامِ، وَثَمَّ مَوَاقِفُ أُخْرَى لَا يَنْطِقُونَ فِيهَا وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَمَوَاقِفُ يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُنْكِرُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ

مِنْ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا وَجِيزٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكُفْرِهِمْ وَيُقِرُّونَ بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ وَبُلُوغِهِمْ دَعَوْتُهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ نَقَلَهَا عَنْهُمْ. وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أَيْ غَرَّهُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى النَّاسِ، وَرَأَوْا مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي عَصْرِهِمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمْ يَجْعَلُ الرَّئِيسَ مِنْهُمْ مَرْءُوسًا وَمُسَاوِيًا لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَدْ يُكْرَمُونَ عَلَيْهِ بِمَا يَفْضُلُونَهُ بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ بِشَجَاعَتِهِمْ أَوْ ثَرْوَتِهِمْ أَوْ عَصَبِيَّتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ كُفْرَ كِبْرٍ وَعِنَادٍ يُقَلِّدُهُمْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ تَقْلِيدًا، فَيَغْتَرُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا يَعْتَزُّ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ الْآخَرِ. وَكَانَ عَصْرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ نَحْوًا مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَلَفَ عَنْهُ بِمَا تَجَدَّدَ لِلْإِسْلَامِ مِنَ الْمُلْكِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِجِبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ مِنَ الِارْتِدَادِ عَنْهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ عُمَرَ يَقْتَصُّ مِنْهُ لِأَحَدِ السُّوقَةِ. وَأَمَّا غُرُورُ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالدُّنْيَا الْمَانِعِ لَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، فَهُوَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْجَاهِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومَيْنِ فِي كُلِّ دِينٍ، وَقَدْ زَالَتْ مِنْ أَكْثَرِ الْبِلَادِ الْحُكُومَاتُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الدِّينِ يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَحَلَّ مَحَلَّهَا حُكُومَاتٌ مَادِّيَّةٌ لَا يَرْتَقِي فِيهَا وَلَا يَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَ أَهْلِهَا مَنْ يَتَّبِعُ الرُّسُلَ، بَلْ لَمْ يَعُدْ هَذَا الِاتِّبَاعُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرِيَاسَتِهَا الْمَشْرُوعَيْنِ، فَمَا الْقَوْلُ بِالْمَحْظُورَيْنِ. وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَبِسُوهُ مَقْلُوبًا حَتَّى جَهِلُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا سِيَّمَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلُ الْمُكَمِّلُ الْمُتَمَّمُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ حَاجَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَجَمِيعِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ وَالسِّيَادَةِ بِالْحَقِّ. وَلَوْ كَانَ لِلْإِسْلَامِ مُلْكٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَقَلَّ فِي اللَّابِسِينَ لِبَاسَهُ النِّفَاقُ وَالْفُسُوقُ - دَعِ الْكُفْرَ وَالْمُرُوقَ - وَلَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا. (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) أَيْ وَشَهِدُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنْ مَوَاقِفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذْ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَافِرِينَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ ; إِذْ لَا يَجِدُونَ فِيهِ مَجَالًا لِلْكَذِبِ وَالْمُكَابَرَةِ وَلَا لِلتَّأْوِيلِ. وَلَيْسَ الْكُفْرُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مَحْصُورًا فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْقَوْلِ، بَلْ مِنْهُ عَدَمُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الطِّبَاعِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَرَتُّبِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا، فَالْكُفْرُ نَوْعَانِ: عَدَمُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَعَدَمُ الْإِسْلَامِ لَهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ. وَالذَّنْبُ الْعَارِضُ لَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ كَمَا فُصِّلَ مِرَارًا. (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ

إِتْيَانِ الرُّسُلِ يَقُصُّونَ عَلَى الْأُمَمِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِصْلَاحِ الرُّوحِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَيُنْذِرُونَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، بِسَبَبِ أَنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ بِالْإِصْلَاحِ الْأَكْمَلِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي تَرْبِيَةِ خَلْقِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى أَيِ الْأُمَمُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَلَا بِعَذَابِ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُخَالِفِي هِدَايَتِهِمْ بَعْدَ قَبُولِهَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِظُلْمٍ مِنْهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا بِهِ هَذَا الْهَلَاكَ، بَلْ يَتَقَدَّمُ هَلَاكَ كُلِّ أُمَّةٍ إِرْسَالُ رَسُولٍ يُبَلِّغُهَا مَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْوَحْيِ فِي عَصْرِهِ، أَوْ بِمَا يَنْقُلُ إِلَيْهَا مَنْ يُبَلِّغُونَهَا دَعْوَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي تُنَبِّهُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ ; ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ جَعْلَ جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ عِقَابٍ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ اسْتَحَقُّوهُ بِهِ، فَيَكُونُ عِقَابُهُمْ تَرْبِيَةً لِمَنْ يُسْلِمُ مِنْهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سُنَّةَ اللهِ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الرَّبِّ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَالتَّعْذِيبَ لَيْسَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُتَعَلِّقِهَا سَوَاءٌ أَذْنَبَ الْمُكَلَّفُونَ أَمْ لَمْ يُذْنِبُوا، بَلْ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي يُرَبِّي بِهَا عِبَادَهُ. أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (بِظُلْمٍ) فِيهِ وَجْهَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ بَيَّنَّاهُمَا بِمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَلَخَّصَ قَوْلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَشَايَعَهُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِظُلْمٍ) وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِ أَهْلِهَا بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ غَافِلُونَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ عَلَى حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَأْخُذُهُمْ غَفْلَةً فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ وَاللهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَتَقُولُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِكُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ نَظْمُ كِتَابِهِ مِنْ مَعْنًى صَحِيحٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عِدَّةُ آيَاتٍ مِنْهَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي إِهْلَاكِ الْقُرَى بِظُلْمِهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (11: 102) وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ فِيهَا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (117)

وَقَدْ جَزَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ تَفْسِيرِهِ بِهِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (6: 82) الْآيَةَ. وَاسْتِشْهَادُ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ لُقْمَانَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ فِيهَا بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ - وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ - لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الظُّلْمِ الَّذِي يُلْبَسُ بِهِ الْإِيمَانُ فَصَحَّ فِيهِ الْعُمُومُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ ; لِأَنَّ قَلِيلَ الشِّرْكِ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَكَثِيرِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الْآنَ وَفِي آيَةِ هُودٍ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا فَقَدْ وَرَدَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي مَقَامِ بَيَانِ سَبَبِ إِهْلَاكِ الْقُرَى، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ فِيهِ مُطْلَقًا لِمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى الْمُؤَيَّدَةِ بِوَقَائِعِ التَّارِيخِ مِنْ هَلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَبَقَائِهَا زَمَنًا طَوِيلًا مَعَ الشِّرْكِ إِذَا كَانَتْ مُصْلِحَةً فِيهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ آيَةِ هُودٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ نَقَلَ عِبَارَةَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ بِالْمَعْنَى فَقَالَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الظُّلْمِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، فَأَشَارَ إِلَى الْعُمُومِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ: بِشِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ وَكُفْرِ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وَهِيَ تُنَافِي صِيغَةَ الْعُمُومِ وَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُخْطِئُ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ فَصَّلْنَا مِنْ قَبْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ مِنْ أَنَّ عِقَابَ اللهِ تَعَالَى لِلْأُمَمِ وَكَذَا لِلْأَفْرَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْوَاعٌ، وَأَنَّ مِنْهُ مَا يُسَمَّى عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ عَانَدُوا الرُّسُلَ بَعْدَ أَنْ جَاءُوهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَنْذَرُوهُمُ الْهَلَاكَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ تَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِهَا كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، فَسُنَّةُ اللهِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةٌ وَقَدِ انْقَطَعَتْ بِانْقِطَاعِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِذْ لَيْسَتْ جَارِيَةً عَلَى سَائِرِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. وَمِنْهُ هَلَاكُ الْأُمَمِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الظُّلْمِ أَوِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ وَيَقْطَعُ رَوَابِطَ الِاجْتِمَاعِ، وَيَجْعَلُ بَأْسَ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا اجْتِمَاعِيًّا لِسَلْبِ اسْتِقْلَالِهَا وَذَهَابِ مُلْكِهَا بِحَسَبِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ أَنْذَرَنَا اللهُ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيُرَاجَعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ التَّفْسِيرِ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ - كَآيَةِ هُودٍ - مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي لَا يَزَالُ فِي طَوْرِ الْوَضْعِ وَالتَّدْوِينِ ; وَهُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي قُوَّةِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَضَعْفِهَا وَعِزِّهَا وَذُلِّهَا وَغِنَاهَا وَفَقْرِهَا وَبَدَاوَتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَأَعْمَالِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ فِي الْأُمَمِ كَفَائِدَةِ عِلْمِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ فِي حِفْظِ اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَهَمُّ قَوَاعِدِهِ وَأُصُولِهِ

132

وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِهَا، وَبَدَأَ ابْنُ خَلْدُونَ بِجَعْلِهِ عِلْمًا مُدَوَّنًا يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَلَكِنِ اسْتَفَادَ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَيْهِ وَوَسَّعُوهُ فَكَانَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَادُوا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَجِبُ ; لِأَنَّهُ كُتِبَ فِي طَوْرِ تَدَنِّيهِمْ وَانْحِطَاطِهِمْ، بَلْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ الْعُلْيَا فِي إِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيمَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَا يَزَالُونَ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا الرُّشْدِ وَالْهِدَايَةِ عَلَى شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ تَنَازُعُ الْبَقَاءِ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَإِنَّا نَرَى بَعْضَهُمْ يُعَزِّي نَفْسَهُ عَنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِ وَيَعْتَذِرُ عَنْ تَقْصِيرِهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي يَفْهَمُهُ مَقْلُوبًا بِمَعْنَى الْجَبْرِ أَوْ يُسَلِّيهَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ وَارْتَكَسَ بَعْضُهُمْ فِي حَمْأَةِ جَهْلِهِ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى ارْتَدُّوا عَنْهُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا زَاعِمِينَ أَنَّ تَعَالِيمَهُ هِيَ الَّتِي أَضْعَفَتْهُمْ وَأَضَاعَتْ عَلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَالْتَمَسُوا هِدَايَةً غَيْرَ هِدَايَتِهِ لِيُقِيمُوا بِهَا دُنْيَاهُمْ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أَيْ وَلِكُلٍّ مِنْ مَعْشَرَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلُ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ وَمُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ. فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وَيُضَاعِفُ اللهُ الْحَسَنَاتِ دُونَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ الْفَضْلَ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَدْلِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ آخِرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْكَافِرُونَ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ - فَالدَّرَجَاتُ بِمَعْنَى الدَّرَكَاتِ كَالدَّرْجِ وَالدَّرْكِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْخَيْرِ وَجَزَائِهِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِهِ وَمِنْهُ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (4: 145) وَالرَّاغِبُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ بِاعْتِبَارِ الْحُدُورِ وَالْهُبُوطِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا كِلَاهُمَا عَامًّا لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَشَذَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُسْلِمِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ ثَوَابٌ، وَأَشَدُّ مِنْهُ شُذُوذًا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ نَقَلَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَلَيْثٌ هَذَا مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَقَدِ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَلَعَلَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ. هَذَا وَإِنَّنَا وَإِنْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبَطِلَةٌ لَلَقَوْلِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ الْهَادِمِ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ الَّذِي أَلْبَسُوهُ ثَوْبَ الْقَدَرِ الثَّابِتِ بِالْعِلْمِ الْمُؤَيِّدِ لِلْقُرْآنِ، فَإِنَّنَا نَرَى أَنْ نُصَرِّحَ بِأَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - قَدْ صَرَّحَ فِي تَفْسِيرِهَا بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ وَأَنْ نَذْكُرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا وَنُبَيِّنَ بُطْلَانَهَا وَإِنْ سَبَقَ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهَا مَنْ يَنْخَدِعُ بِلَقَبِهِ وَكِبَرِ شُهْرَتِهِ قَالَ: " اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

تَعَالَى حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلِمَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ بِعَيْنِهَا وَأَثْبَتَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ زُمْرَةَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ لَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَلَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَلَصَارَ ذَلِكَ الْإِشْهَادُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلٍّ دَرَجَاتٍ مِمَّا عَمِلُوا (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (132) وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ " اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا وَمُبْطِلًا لِحُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَمُكَذِّبًا لِوَحْيِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدَّرَجَاتِ تَكُونُ لِلْمُكَلَّفِينَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ تَعَالَى " قَدْ حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ " إِلَخْ. فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ مَجْبُورًا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُخْتَارٌ، وَالْقُرْآنُ قَدْ صَدَّقَ الْوِجْدَانَ بِإِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْإِنْسَانِ. وَنَوْطُ مَشِيئَتِهِ بِمَشِيئَةِ اللهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى شَاءَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَوْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنْ شَاءَهُ فَكَانَ، وَعَلِمَ ذَلِكَ وَكَتَبَهُ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَشَرْعَهُ. (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مُؤَيِّدَةٌ لِلثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا. أَمَّا تِلْكَ فَبَيَانٌ لِحُجَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ فَجَحَدُوا بِهَا، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَأَنَّ عِقَابَهُمْ هُنَالِكَ حَقٌّ وَعَدْلٌ - وَبَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْفُسِهَا لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ بَلْ بِظُلْمِهَا لِأَنْفُسِهَا ظُلْمًا لَا عُذْرَ لَهَا فِيهِ - وَبَيَانُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادٍ دَرَجَاتٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَحَاصِلُ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي قَفَّى بِهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَيْضًا فِي بَيَانِ عِقَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَتَحْقِيقِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا لِحَاجَةٍ لَهُ تَعَالَى فِيهِ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، بَلْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مَقْرُونٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَهَاكَ تَفْصِيلُهُ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ. خَتَمَ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أَيْ بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهَا وَمُجَازٍ عَلَيْهَا وَبَدَأَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لِإِثْبَاتِ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَحْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَوِ الْقَصْرَ كَمَا قَالُوا. أَيْ وَرَبُّكَ غَيْرُ الْغَافِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ هُوَ الْغَنِيُّ الْكَامِلُ الْغِنَى، وَذُو الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ أَنَّ الْغِنَى هُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَكَمَالِ مَعْنَاهُ، بَلْ أَصْلُ مَعْنَاهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَالصِّفَاتُ الْكَمَالِيَّةُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ ; إِذْ كَلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَمُحْتَاجٌ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى قِوَامَ وَجُودِهِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْخَلْقِ هَذَا غَنِيٌّ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِأَهَمِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَغِنَى النَّاسِ مَثَلًا إِضَافِيٌّ عُرْفِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُسَمَّى غَنِيًّا كَثِيرَ الْحَاجَاتِ فَقِيرٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَالزَّوْجِ وَالْخَادِمِ وَالْعَامِلِ وَالطَّبِيبِ وَالْحَاكِمِ، دَعْ حَاجَتَهُ إِلَى خَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي قَالَ تَعَالَى فِيهَا: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (35: 15) وَقَدْ " كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ مَعَهُ " غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عَمَلِ الطَّائِعِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا إِلَى دَفْعِ عَمَلِ الْعَاصِينَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ بَلْ يَضُرُّهُمْ، فَالتَّكْلِيفُ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ يَكْمُلُ بِهِ نَقْصُ الْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ. رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ (مِمَّا يُسَمَّى بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ) أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ

إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " وَالْمُرَادُ بِإِطْعَامِهِ تَعَالَى وَكَسْوِهُ لِعِبَادِهِ خَلْقُهُ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَصْنَعُونَ مِنْهُ لِبَاسَهُمْ، وَبِاسْتِطْعَامِهِ وَاسْتِكْسَائِهِ طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ كَالْآيَاتِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى ذَا الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ وَحْدَهُ فَجَلِيٌّ ظَاهِرٌ عَقْلًا وَفِعْلًا وَنَقْلًا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَّا إِلَّا وَيَقْسُو وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ أَحْيَانًا، حَتَّى أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ كَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَمَا الْقَوْلُ بِمَنْ دُونَهُمْ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ذِي رَحْمَةٍ فَرَحْمَتُهُ مِنْ فَيْضِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى خَالِقِ الْأَحْيَاءِ وَوَاهِبِ الْغَرَائِزِ وَالصِّفَاتِ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا بِسَقْيٍ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فَأَخَذَتْهُ فَالْتَزَمَتْهُ - وَفِي رِوَايَةٍ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا - فَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ - قُلْنَا: لَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ - فَقَالَ: اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ". وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ " رَوَيَاهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا " إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ " وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحْمَةَ رَحْمَتَانِ: صِفَةُ ذَاتٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَهِيَ لَا تَتَعَدَّدُ وَصِفَةُ فِعْلٍ وَهِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مِائَةَ قِسْمٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي نِسْبَةِ رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِبَيَانِ تَعْظِيمِ قَدْرِهَا، فَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنْ لَمْ يَقْدِرْهَا قَدْرَهَا وَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنِ اغْتَرَّ بِهَا فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَنَسِيَ حِكْمَتَهُ فِي الْجَزَاءِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ وُجُوبِ الْجَمْعِ

133

بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ حَادِي الْأَرْوَاحِ كَلَامٌ حَافِلٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْقَوْلِ فِيهَا هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَ " الرَّازِيُّ " وَجْهَ حَصْرِ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي اتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِمَا وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: " وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ، وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) اهـ. أَقُولُ: إِنَّهُ يَعْنِي بِأَهْلِ السُّنَّةِ هُنَا الْأَشْعَرِيَّةَ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَعْذِيبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَتَنْعِيمَ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ، حَتَّى عَطَّلُوا بَعْضَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَأَوْجَبُوا عَلَى اللهِ مَا أَوْجَبُوا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْأَثَرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ تَأْوِيلِ بَعْضِهَا بِرَدِّهِ إِلَى مَذْهَبٍ يَلْتَزِمُ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، أَوْ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ - كَمَا يُعَبِّرُ كُتَّابُ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ بِرَسُولِهِ الْمُعَانِدُونَ لَهُ وَاسْتِخْلَافَ غَيْرِكُمْ بَعْدَكُمْ يُذْهِبْكُمْ بِعَذَابٍ يُهْلِكُكُمْ بِهِ، كَمَا أَهْلَكَ أَمْثَالَكُمْ مِنْ مُعَانِدِي رُسُلِهِ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَيَسْتَخْلِفُ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَإِنْشَاءِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكُمْ أَوْ ذُرِّيَّةِ غَيْرِكُمْ أَحَقِّ بِرَحْمَتِهِ مِنْكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَيُقِيمُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ أَهْلَكَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ عَادَوْا خَاتَمَ رُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا وَجَحَدُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مَعَ اسْتِيقَانِهِمْ صِدْقَهُ، وَاسْتَخْلَفَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَهَبَتْ بِهِ آيَاتُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِإِرْشَادِهِ فَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْظَمَ مُظْهِرٍ لِرَحْمَةِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحِهِمْ كَمَا شَهِدَ بِذَلِكَ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ

134

حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَخْلَفِينَ الْجِنُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْإِنْسِ وَلَا الْجِنِّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ عَجَائِبِ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَلَا الْإِبْهَامِ لِأَجْلِ ذَهَابِ الْخَيَالِ كُلَّ مَذْهَبٍ فِيهِ، بَلْ مَقَامَ الْإِنْذَارِ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمَحْفُوظِ التَّارِيخِ وَبَقَايَا الْعَادِيَاتِ وَالْآثَارِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْغِنَى وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، هِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ النَّاسَ بِالْفَقْرِ وَوَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغَنِيِّ الْحَمِيدِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ: (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (47: 38) . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهَلَاكَهُمْ فِيهَا أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ إِنَّمَا تُوعَدُونَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ لَآتٍ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِلَّهِ بِهَرَبٍ وَلَا مَنْعٍ مِمَّا يُرِيدُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى بَدْءِ خَلْقِكُمْ. وَهَذَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا. وَقَدْ قَرَّبَ الْعِلْمُ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَمْرَ الْبَعْثِ مِنَ الْعُقُولِ. بِمَا قَرَّرَهُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْعَالِمِ ثَابِتٌ أَصْلُهُ لَا يَزُولُ، وَإِنَّمَا هَلَاكُ الْأَشْيَاءِ وَفَنَاؤُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحَلُّلِ مَوَادِّهَا وَتَفَرُّقِهَا، وَبِمَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَوَادِّ الْمُتَفَرِّقَةِ وَإِرْجَاعِهَا إِلَى تَرْكِيبِهَا الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْأَحْيَاءِ، بَلْ تَصَدَّى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ لِإِيجَادِ الْبَشَرِ بِطَرِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ صِنَاعِيَّةٍ بِتَنْمِيَةِ الْبَذْرَةِ الَّتِي يُولَدُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَلَقَةً فَمُضْغَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ بِاتِّخَاذِ وَسَائِلَ أُخْرَى لِتَغْذِيَةِ الْمُضْغَةِ فِي حَرَارَةٍ كَحَرَارَةِ الرَّحِمِ أَنْ تَتَوَلَّدَ فِيهَا الْأَعْضَاءُ حَتَّى تَكُونَ إِنْسَانًا تَامًّا. وَقَدْ بَيَّنَ تَجْرِبَتَهُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَرَنَاهُ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ لِإِتْمَامِ الْعَمَلِ بِإِيجَادِ مَعَامِلَ لِإِيجَادِ النَّاسِ كَمَعَامِلِ التَّفْرِيخِ لِإِيجَادِ الدَّجَاجِ فِي خِطَابٍ قَرَأَهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَطِبَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْكَوْنِ فَأُعْجِبُوا بِنَظَرِيَّاتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِمْكَانَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ الْكَثِيرُ وُصُولَ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ. وَإِنَّ الْمُخْتَرِعَ الشَّهِيرَ إِدِيصُونَ أَكْبَرَ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَاءِ يُحَاوِلُ اخْتِرَاعَ آلَةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ لِأَجْلِ اتِّصَالِ النَّاسِ بِأَرْوَاحِ مَنْ يَمُوتُ وَاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تُعْنَى الْأَرْوَاحُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعِيهِ الرُّوحِيُّونَ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْوُسَطَاءَ لِلْأَرْوَاحِ وَتَجَسُّدِهَا وَتَلَقِّيهِمْ عَنْهَا هَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا يَقُولُونَ أَوْ خِدَاعٌ كَمَا يَقُولُ الْمُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ؟ وَغَرَضُنَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا أَنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْعَالِمِ الْمُخْتَرِعِ الْكَبِيرِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُمْكِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَقَعٌ

بِالْفِعْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ تَقْلِيدًا لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يُعِدُّونَ هَذَا مُحَالًا لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا وَيَرَى أَكْبَرُ عُلَمَاءِ الْمَادَّةِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُصُولُهُمْ إِلَيْهِ فِعْلًا فَهَلْ يَعْجَزُ عَنْهُ خَالِقُ الْبَشَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (41: 53: 54) . هَذَا وَإِنَّ كَلِمَةَ (تُوعَدُونَ) مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ لِوَعَدَ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمَا - وَلِأَوْعَدَ الرُّبَاعِيِّ الْخَاصِّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ أَوِ الضُّرِّ. وَرَجَّحَ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي إِنْذَارِ الْكَافِرِينَ وَنَفْيِ الْإِعْجَازِ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ " الرَّازِيُّ " وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ. وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) يَعْنِي كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْوَعْدِ وَالثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يَعْنِي لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحُكْمِنَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزَمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ غَالِبٌ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَرْجِيحِ فَنَاءِ النَّارِ. وَلَكِنَّنَا نَرَاهُ ضَعِيفًا وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ سَابِقٌ وَغَالِبٌ فِي أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْوَعِيدِ، كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ خَاصًّا بِالثَّوَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعِقَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (22: 72) وَقَوْلُهُ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) (22: 47) . وَقَدْ خَتَمَ اللهُ هَذَا الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: (قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فِي هَذَا النِّدَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالدَّعْوَةِ أَوَّلًا، بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيَحْرِصُ عَلَى خَيْرِهِمْ وَمَنْفَعَتِهِمْ بِبَاعِثِ الْفِطْرَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ كَانَتِ النُّعَرَةُ الْقَوْمِيَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَى مِنْهَا عِنْدَ الْمَعْرُوفِ حَالُهُمُ الْيَوْمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَكَانَ نِدَاؤُهُمْ بِقَوْلِهِ: " يَا قَوْمِي " جَدِيرًا بِأَنْ يُحَرِّكَ هَذِهِ الْعَاطِفَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَحْمِلُ الْمُسْتَعِدَّ عَلَى الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِمِثْلِ هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ " هُودٍ " وَأَوَاسِطَ

135

سُورَةِ " الزَّمَرِ " وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْمَكَانَةُ فِي اللُّغَةِ حِسِّيَّةٌ وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَبَوَّأُهُ الْإِنْسَانُ، وَمَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ وَشَاكِلَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. إِنِّي عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِي وَشَاكِلَتِي الَّتِي هَدَانِي رَبِّي إِلَيْهَا وَأَقَامَنِي فِيهَا. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بَعْدَ حِينٍ مَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ الدَّارِ بِتَأْثِيرِ عَمَلِهِ. نَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي تَرَتُّبِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْمُنْبَعِثَةِ عَلَى عَقَائِدِهَا وَصِفَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا. يُقَالُ: مُكِّنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ، وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمُقَامٌ وَمُقَامَةٌ. وَقَوْلُهُ: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) يَحْتَمِلُ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ أَوِ اعْمَلُوا عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالِهِ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ: أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ (إِنِّي عَامِلٌ) عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا. الْمَعْنَى اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُصَابَرَتِكُمْ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أَيُّنَا تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ. وَطَرِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (41: 40) وَهِيَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَصَّى عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِخِلَافِهِ اهـ. وَقَدْ أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) (18: 12) إِلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَهُ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (مَنْ) بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ فَسَوْفَ تَعْرِفُونَ الْفَرِيقَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الدَّارَ (الدُّنْيَا) لَهَا. قَالَ: وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ (بِكَسْرِ الذَّالِ) مُحِقٌّ، وَالْمُنْذَرَ (بِفَتْحِ الذَّالِ) مُبْطِلٌ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ غَايَةَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَرُوحَهُ الْإِحَالَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِقَهْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَ هَذَا شَيْئًا لَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ جُمْهُورُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيُنِهِمْ فَيَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ بِهِمَا مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ، وَلَا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ عَاقِبَةُ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ هِيَ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ عَاقِبَةَ مِنْ كَفَرَ بِهِ وَنَاوَأَهُ هِيَ السُّوءَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا السَّبَبِ بِفَاصِلَةِ الْآيَةِ: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أَيْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا أَعْيَتِ الْمَرْءَ أَسْبَابُهُ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِي هَذَا وَحْدَهُ. وَأَمَّا

مَا عُرِفَ سَبَبُهُ فَيُطْلَبُ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَسْبَابِ وَمُسَخِّرَهَا هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) - فَهَذَا شَرُّ الظُّلْمِ وَأَشَدُّهُ إِفْسَادًا لِلْعُقُولِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ - فَيَلْزَمُهُ إِذًا سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (: 82) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ فَلَاحُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِالْأَوْلَى مُنْتَفِيًا بِشَرْعِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الْعَادِلَةِ، انْحَصَرَ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا لِرُسُلِ اللهِ وَجُنْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ أَوَّلًا كَأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ؟ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ نَصَرَ أَصْحَابَهُ عَلَى أَعْظَمِ أُمَمِ الْأَرْضِ وَأَقْوَاهَا جُنْدًا وَأَعْظَمِهَا مُلْكًا وَأَرْقَاهَا نِظَامًا كَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ؟ ثُمَّ نَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَشَعْبٍ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَلَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا النَّاسَ وَصَارَ حَظُّهُمْ مِنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ نَحْوًا مِمَّا كَانَ مِنْ حَظِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ مِنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ لِلنَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، بَلِ انْحَصَرَ الْفَوْزُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ. وَالْعَدْلِ وَالنِّظَامِ وَنَرَى كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِمْ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ قَطُّ بِنَصْرِ مَنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ. وَإِنَّمَا وَعَدَ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُقِيمُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَلْقَابُهُمْ. إِذَا نَازَعَهُمُ الْبَقَاءُ مَنْ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَوِ النِّظَامِ مِنْهُمْ (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (14: 13، 14) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْبَحْثِ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (مَكَانَاتِكُمْ) بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَكَانَةِ أَلَّا تُجْمَعَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِفَادَةُ أَنَّ لِلْكُفَّارِ مَكَانَاتٍ مُتَفَاوِتَةً، لِتَعَدُّدِ الْبَاطِلِ وَوَحْدَةِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ (تَكُونُ) بِالْفَوْقِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الْعَاقِبَةِ لَفْظِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ كَتَأْنِيثِهِ، وَفِي حَالِ الْفَصْلِ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ اقْتِرَانُ سَوْفَ بِالْفَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُرِكَتِ الْفَاءُ فِي آيَةِ هُودٍ (11: 93) لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ

136

عَنْ قَوْلِهِمْ: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) (11: 91) إِلَخْ. فَهُوَ إِخْبَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ مَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ دُرَّةِ التَّنْزِيلِ. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) بَعْدَ مُحَاجَّةِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَسَائِرِ الْعَرَبِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَآخِرُهَا الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ ذَكَرَ بَعْضَ عِبَادَاتِهِمُ الشَّرِكِيَّةِ فِي الْحَرْثِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِبَاعِثِ الْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ. وَالْخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ. فَقَالَ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) أَيْ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ أَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِمَّا ذَرَأَ وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْ ثَمَرِ الزَّرْعِ وَغَلَّتِهِ كَالتَّمْرِ وَالْحُبُوبِ وَنِتَاجِ الْأَنْعَامِ، وَنَصِيبًا لِمَنْ أَشْرَكُوا مَعَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ

وَقَدْ حُذِفَ ذِكْرُ هَذَا النَّصِيبِ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أَيْ فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ: هَذَا لِلَّهِ، أَيْ نَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَفِي الثَّانِي: هَذَا لِشُرَكَائِنَا، أَيْ مَعْبُودَاتُهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ بِزَعْمِهِمْ مَعْنَاهُ بِتَقَوُّلِهِمْ وَوَضْعِهِمُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَلَا هُدًى مِنَ اللهِ ; لِأَنَّ جَعْلَهُ قُرْبَةً لِلَّهِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِهِ وَأَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ دِينٌ، وَإِنَّمَا الدِّينُ لِلَّهِ وَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَمُلْكًا فَغَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لَهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ مِنْ دُعَاءٍ وَصَدَقَةٍ وَذَبَائِحِ نُسُكٍ، وَأَنْ يُطَاعَ غَيْرُهُ طَاعَةَ خُضُوعٍ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا شِرْكٌ جَلِيٌّ. وَمِنْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا أَشْرَكُوا مَعَهُ. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ نَصِيبَ اللهِ تَعَالَى لِقِرَى الضِّيفَانِ وَإِكْرَامِ الصِّبْيَانِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَنَصِيبَ آلِهَتِهِمْ لِسَدَنَتِهَا وَقَرَابَتِهَا وَمَا يُنْفَقُ عَلَى مَعَاهِدِهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُرِنَ الْأَوَّلُ بِالزَّعْمِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، دُونَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ وَبَاطِلٌ بَحْتٌ وَبِهِ كَانَ الْأَوَّلُ شِرْكًا فِي الْقِسْمَةِ وَدُونَ جَعْلِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْسِنَهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْعَاقِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَاحْتِيجَ إِلَى قَرْنِهِ بِكَوْنِهِ زَعْمًا مُخْتَرَعًا لَهُمْ لَا دِينًا مُشْتَرَعًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ بِهَذَا بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ فَوْقَ كَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ إِذْ جَعَلُوا مِثْلَهُ لِمَا اتَّخَذُوا لِلَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ مَعَ أَحْكَامٍ أُخْرَى لَهُمْ فِيهِ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْهُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ لَا بِالتَّصَدُّقِ وَلَا بِالضِّيَافَةِ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ يَعْنُونَ بِحِفْظِهِ لَهَا بِإِنْفَاقِهِ عَلَى سَدَنَتِهَا وَذَبْحِ النِّسَائِكِ عِنْدَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ) أَيْ وَمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَهُوَ يُحَوَّلُ أَحْيَانًا إِلَى التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهَا فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ قَبُحَ حُكْمُهُمْ هَذَا أَوْ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ. وَقُبْحُهُ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللهِ بِالتَّشْرِيعِ. وَمِنْهَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ أَدْنَى نَصِيبٍ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا تَرْجِيحُ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِخَالِقِهَا وَخَالِقِهِمْ فِيمَا فُصِّلَ آنِفًا وَهُوَ أَدْنَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ. وَالثَّانِي: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ مَا لِشُرَكَائِهِمْ وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالثَّالِثُ: تَرْجِيحُ مَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّهُ لَا هِدَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعُقُولَ تُدْرِكُ حُسْنَ الْأَحْكَامِ وَقُبْحَهَا وَيُحْتَجُّ بِهَا فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ مَوْرِدُ هَذَا هُوَ الرِّوَايَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ سَخَافَاتٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ الْجَائِرَةِ، اخْتَرْنَا أَنْ نَنْقُلَ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ:

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعُوفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهُ جُزْءًا وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا، فَمَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفِظُوهُ وَأَحْصَوْهُ وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِيمَا سُمِّيَ لِلصَّمَدِ. رَدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَبْقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ فَسَقَى شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ جَعَلُوا ذَلِكَ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرْثِ وَالثَّمَرَةِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَاخْتَلَطَ بِالَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ قَالُوا هَذَا فَقِيرٌ وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وَإِنْ سَبَقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَسَقَى مَا سُمِّيَ لِلْوَثَنِ تَرَكُوهُ لِلْوَثَنِ. وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ فَيَجْعَلُونَهُ لِلْأَوْثَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَهُ قُرْبَةً لِلَّهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) الْآيَةَ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ مِنْ ذَبْحٍ يَذْبَحُونَهُ لَا يَأْكُلُونَهُ أَبَدًا حَتَّى يَذْكُرُوا مَعَهُ أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ وَمَا كَانَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ مَعَهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ سَاءَ مَا يَقْسِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوَّلًا فِي الْقَسْمِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ وَفِي تَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. ثُمَّ لَمَّا قَسَمُوا فِيمَا زَعَمُوا الْقِسْمَةَ الْفَاسِدَةَ لَمْ يَحْفَظُوهَا بَلْ جَارُوا فِيهَا بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) (16: 57) وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (43: 15) وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) (53: 21، 22) اهـ. (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) هَذَا حُكَمٌ آخَرُ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ الَّتِي لَا يَسْتَحْسِنُهَا عَقْلٌ سَلِيمٌ، وَلَمْ تَسْتَنِدْ إِلَى شَرْعٍ إِلَهِيٍّ قَوِيمٍ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينُ لِقِسْمَةِ الْقَرَابِينِ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. فَأَمَّا الشُّرَكَاءُ هُنَا فَقِيلَ: هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ وَخَدَمُهَا وَقِيلَ: بَلْ هُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ مَا يُزَيِّنُ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرِيكًا لِأَنَّهُ يُطَاعُ وَيُدَانُ لَهُ فِيمَا لَا يُطَاعُ بِهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا التَّزْيِينِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) اتِّقَاءُ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ أَوِ الْمُتَوَقَّعِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (6: 151) وَالثَّانِي مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (17: 31) وَقَدَّمَ فِي الْأَوَّلِ رِزْقَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى رِزْقِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ تَابِعٌ لِوَالِدِهِ فِي الرِّزْقِ الْحَالِّ، وَقَدَّمَ فِي الثَّانِي رِزْقَ الْأَوْلَادِ عَلَى رِزْقِ الْوَالِدَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَكَثِيرًا مَا يَعْجَزُ فِيهِ الْآبَاءُ عَنْ كَسْبِ الرِّزْقِ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْفَاقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَيْهِمْ:

(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) اتِّقَاءُ الْعَارِ وَهُوَ خَاصٌّ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ - أَيْ دَفْنُهُنَّ حَيَّاتٍ - خَشْيَةَ أَنْ يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعَارِ إِذَا كَبُرْنَ ; فَهُمْ يُصَوِّرُونَ الْبِنْتَ لِوَالِدِهَا الْجَبَّارِ الْعَاتِي تَرْتَكِبُ الْفَاحِشَةَ أَوْ تَقْتَرِنُ بِزَوْجٍ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ فَتَلْحَقُهُ الْخِسَّةُ، أَوْ تُسْبَى فِي الْقِتَالِ. (وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ) التَّدَيُّنُ بِنَحْرِ الْأَوْلَادِ لِلْآلِهَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا بِنَذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ نَذْرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَنْذِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ، كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَخَبَرُهُ مَعْرُوفٌ يُذْكَرُ فِي قَصَصِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ. وَلَوْلَا الشِّرْكُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعُقُولَ لَمَا رَاجَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ عِنْدَهُمْ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ هُنَا بِوَصْفِ (الْمُشْرِكِينَ) فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ فِيهِمْ، وَسَمَّى الْمُزَيِّنِينَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَالسَّدَنَةِ أَوِ الْجِنِّ شُرَكَاءَ وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُمْ هُمْ آلِهَةً أَوْ شُرَكَاءَ ; لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ طَاعَةَ إِذْعَانٍ دِينِيٍّ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ الْمَعْبُودِ كَمَا وَرَدَ مَرْفُوعًا فِي تَفْسِيرِ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) فَإِنَّ مُقْتَضَى الْفِعْلِ الْإِذْعَانِيِّ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ مَدْلُولِ الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَوْتَى تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً خَاشِعِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ بَاكِينَ مُتَضَرِّعِينَ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ وَذَبَائِحِ النُّسُكِ مَنْذُورَةً أَوْ غَيْرَ مَنْذُورَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَلَا يُسَمُّونَ عِبَادَتَهُمْ هَذِهِ شِرْكًا وَلَا عِبَادَةً، وَقَدْ يُسَمُّونَهَا تَوَسُّلًا. وَالْأَسْمَاءُ لَا تُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَالْأَفْعَالَ، وَمِنْهَا الْأَقْوَالُ كَالدُّعَاءِ أَدَلُّ عَلَى الْحَقَائِقِ مِنَ التَّسْمِيَةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، فَهَذِهِ أَفْعَالُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا لَا مَجَازًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (زُيِّنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ (قَتْلُ) وَنَصَبَ (أَوْلَادَهُمْ) مَفْعُولًا لِلْقَتْلِ وَجَرَّ الشُّرَكَاءَ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ بِمَفْعُولِهِ، وَهُوَ غَيْرُ فَصِيحٍ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَإِنْ أَجَازُوهُ حَتَّى فِي غَيْرِ الشِّعْرِ ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَلِطَ ابْنُ عَامِرٍ لِظَنِّهِ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَهَا مِنْ كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْأَلْفِيَّةِ وَشَنَّعُوا عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي إِنْكَارِهَا وَكَانُوا يُكَفِّرُونَهُ بِهِ، وَلَكِنْ سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْآنُ مِنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فَصِيحَةً عَلَى لُغَةِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِبَيَانِ عَمَلِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَصِيحَةً عِنْدَ مَنْ رَاعَى جُمْهُورُ النُّحَاةِ لُغَاتِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ، وَقَدْ يَكُونُ وُرُودُ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ شَاذًّا ; لِنُكْتَةٍ تَجْعَلُهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِمَكَانٍ كَإِفَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ مَعَ مُنْتَهَى الْإِيجَازِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. وَمَعْنَاهَا زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ أَيِ اسْتَحْسَنُوا مَا تُوَسْوِسُهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ مِنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ

137

فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ. فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذًا تَذْكِيرُ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ بِقُبْحِ طَاعَةِ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ فِي أَفْظَعِ الْجَرَائِمِ وَالْجِنَايَاتِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ. ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا التَّزْيِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ لِيُرْدُوهُمْ، أَيْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ، الَّذِي يُذْهِبُ بِمَا أُوْدِعَ فِي قُلُوبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ عَوَاطِفِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلْ يَقْلِبُهَا إِلَى مُنْتَهَى الْوَحْشِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ، حَتَّى يَنْحَرَ الْوَالِدُ رَيْحَانَةَ قَلْبِهِ بِمُدْيَتِهِ. وَيَدْفِنَ بِنْتَهُ الضَّعِيفَةَ وَهِيَ حَيَّةٌ بِيَدِهِ. فَهَذَا إِرْدَاءٌ نَفْسِيٌّ مَعْنَوِيٌّ فَوْقَ الْإِرْدَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ الْقَتْلُ وَتَقْلِيلُ النَّسْلِ. وَأَمَّا لَبْسُ دِينِهِمْ عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِيهِ مَا كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدِ اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الشِّرْكِيَّةِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ يُتَّبَعُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ تُبْتَدَعُ، فَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الَّذِي يَشْتَبِهُ فِيهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ دِينُهُمُ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبَسٍ مُشْتَبَهٍ لَا تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَلَا تَخْلُصُ فِيهِ هِدَايَةٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَتَزْيِينَهُمْ وَسْوَسَتُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ ; لِأَنَّ السَّدَنَةَ لَا تَقْصِدُ الْإِرْدَاءَ لَهُمْ وَلَبْسَ الدِّينِ عَلَيْهِمْ كَذَا قِيلَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِرْدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي لَبْسِ الدِّينِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ يَقْصِدُونَ الْعَبَثَ بِدِينِ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيَدِينُ لَهُمُ الْتِذَاذًا بِطَاعَتِهِمْ وَاسْتِعْلَاءً بِالرِّيَاسَةِ فِيهِمْ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يَفْعَلَ الشُّرَكَاءُ ذَلِكَ التَّزْيِينَ، أَوِ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ وَسُنَنَهُ الْحَكِيمَةَ فِيهِمْ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ وَلَا لِسُنَنِهِ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَطْبُوعِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى طَبْعًا لَا يَسْتَطِيعُونَ غَيْرَهُ كَالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِغْوَاءٌ، بَلْ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَسْوَسَةٌ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِهَا، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَلِاخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَغْلِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مَا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَتَأْثِيرِ الْمُعَاشَرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا اسْتِعْدَادًا وَاسْتِفَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِانْتِحَالِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَيْهَا وَعَلَيْكَ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ

138

وَلِلَّهِ تَعَالَى سُنَنٌ فِي الِاهْتِدَاءِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، فَلَا يُحْزِنْكَ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَغْلِبَ حَقُّكَ بَاطِلَهُمْ. هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللهِ وَمُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يَقْتُلَ هَؤُلَاءِ أَوْلَادَهُمْ تَعَلُّقًا ابْتِدَائِيًّا بِأَنْ يَكُونَ أَمْرًا خَلْقِيًّا كَدَوَرَانِ الدَّمِ فِي الْبَدَنِ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى تَرْكِهِ، كَيْفَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ تَرَكُوا هَذَا السَّفَهَ بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِلْجَبْرِيَّةِ وَإِنْ لَهَجَ بِهَا خَوَاصُّهُمْ وَعَوَامُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ. (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْمُخْتَرَعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى غِوَايَةِ شِرْكِهِمْ. (فَالْأَوَّلُ) أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ أَنْعَامِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا وَيَمْنَعُونَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَّا فِيمَا يَخُصُّونَهَا لَهُ تَعَبُّدًا وَيَقُولُونَ: (هِيَ حِجْرٌ) وَهُوَ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمَحْجُورِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَالذَّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ، وَيَجْرِي وَصْفًا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ - حُكْمَ الْأَسْمَاءِ - غَيْرُ الصِّفَاتِ، وَأَصْلُهُ مَا أُحِيطَ بِالْحِجَارَةِ وَمِنْهُ حِجْرُ الْكَعْبَةِ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِمَّا يَضُرُّ وَيُقَبِّحُ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الْحِجْرُ الْحَرَامُ مِمَّا حَرَّمُوا مِنَ الْوَصِيلَةِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا انْتَهَى أَيْ وَمَا حَرَّمُوا مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حِجْرٌ أَيِ احْتَجَرُوهَا لِآلِهَتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حِجْرٌ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَتَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ. أَيْ وَلِهَذَا قَالَ بِزَعْمِهِمْ. قَالُوا: وَكَانُوا يَحْتَجِرُونَهَا عَنِ النِّسَاءِ وَيَجْعَلُونَهَا لِلرِّجَالِ، وَقَالُوا: إِنْ شِئْنَا جَعَلْنَا لِلْبَنَاتِ فِيهِ نَصِيبًا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَجْعَلْ. وَهَذَا أَمْرٌ افْتَرَوْهُ عَلَى اللهِ (وَالثَّانِي) أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا: أَيْ أَنْ تُرْكَبُ. قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (5: 103) . (وَالثَّالِثُ) أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا فِي الذَّبْحِ، بَلْ يُهِلُّونَ بِهَا لِآلِهَتِهِمْ وَحْدَهَا. وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ: كَانُوا لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا فَلَا يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا، لَا إِنْ رَكِبُوا وَلَا إِنْ حَلَبُوا وَلَا إِنْ حَمَلُوا وَلَا إِنْ سَحَبُوا وَلَا إِنْ عَمِلُوا شَيْئًا اهـ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ فَنَسَبُوهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى حُكْمًا وَدِيَانَةً (افْتِرَاءً عَلَيْهِ) أَيْ قَالُوهُ أَوْ فَعَلُوهُ مُفْتَرِينَ إِيَّاهُ أَوِ افْتَرَوْهُ افْتِرَاءً

وَاخْتَلَقُوهُ اخْتِلَاقًا وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ أَنْ يُحَلِّلَ أَوْ يُحَرِّمَ عَلَى الْعِبَادِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (10: 59) أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ بِأَهْوَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَالْمُنْتَحِلِينَ لِمَذَاهِبِهِمْ، إِمَّا مُوَقَّتًا بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ تَنَسُّكِ تَصَوُّفٍ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا دَائِمًا، وَهُمْ يَجْهَلُونَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سُوءَ حَالِهِمْ، وَذُيِّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَيَانِ سُوءِ مَآلِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ سَيُجْزَوْنَ الْجَزَاءَ الشَّدِيدَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْقَبِيحِ. (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ) هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِهِمُ السَّخِيفَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا فِي بُطُونِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ مِنَ اللَّبَنِ وَالْأَجِنَّةِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا الْبَحَائِرُ وَحْدَهَا أَوْ هِيَ وَالسَّوَائِبُ، كَانُوا يَجْعَلُونَ لَبَنَهَا لِلذُّكُورِ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَيًّا جَعَلُوهُ خَالِصًا لِلذُّكُورِ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ وَإِذَا كَانَ مَيْتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَإِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا لِأَجْلِ النِّتَاجِ. وَبَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ لَمْ يُقَيِّدُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ بِالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي أَنْعَامٍ أُخْرَى يُعَيِّنُونَهَا بِغَيْرِ وَصْفِ الْبَحِيرَةِ أَيْ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ وَتُتْرَكُ لِلْآلِهَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْبَحِيرَةَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي شَأْنِ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - قُلْنَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " وَإِنْ تَكُنْ " بِالتَّاءِ " وَمَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: " يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةً " بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا تَأْنِيثُ الْفِعْلِ " تَكُنْ " لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا حَذْفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ - أَوْ - وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ، وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْأَنْعَامِ نَفْسِهَا وَبِأَجِنَّتِهَا الَّتِي فِي بُطُونِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا جُعِلَتْ " يَكُنْ " بِمَعْنَى يُوجَدُ أَيْ فِعْلًا تَامًّا. وَقَالُوا فِي تَقْدِيرِ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ: وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورَةُ مَيْتَةً، وَهُوَ يَشْمَلُ تِلْكَ الْأَنْعَامَ وَمَا فِي بُطُونِهَا أَيْضًا. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ هَذَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً)

139

بِالنَّصْبِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُونِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ مَيْتَةً. فَالْفَائِدَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَمَا عَدَاهُ فَاخْتِلَافُ وُجُوهٍ جَائِزَةٍ فِي اللُّغَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: (خَالِصَةٌ) فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ التَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَرَاوِيَةِ وَدَاهِيَةٍ وَطَاغِيَةٍ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ) مُذَكَّرُ اللَّفْظِ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِنَّةُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ خَبَرِهِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى - وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَطَاؤُكَ عَافِيَةٌ، وَالْمَطَرُ رَحْمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ نِعْمَةٌ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِ فِي الظَّرْفِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (لِذُكُورِنَا) . (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يُقَالُ: جَزَاهُ كَذَا وَبِكَذَا - أَيْ جَعَلَهُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلٍ عَمِلَهُ، قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) (25: 75) إِلَخْ وَقَالَ: (فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (21: 29) وَقَالَ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (10: 52) وَقَالَ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (27: 90) وَجَعْلُ الْجَزَاءِ عَيْنَ الْعَمَلِ قَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَقَدَّرُوا لَهُ كَلِمَةَ جَزَاءٍ أَوْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ لَا مَا يُجَازَى بِهِ، وَلَكِنَّ تَعْبِيرَ الْكُتَّابِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنُكْتَةٍ عَالِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهِيَ عِنْدَنَا الْإِيذَانُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ أَثَرًا لِمَا يُحْدِثُهُ الْعَمَلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ كَانَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْعَمَلِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تُنَعَّمُ أَوْ تُعَذَّبُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَطْبَعُهَا فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَبِهَذَا يَتَجَلَّى لَكَ هُنَا مَعْنَى جَعْلِ جَزَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ فِي التَّشْرِيعِ وَصْفَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ النَّفْسِ وَصُورَتُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ مَعَ تَعْلِيلِهَا: سَيَجْزِيهِمُ اللهُ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَنَاشِئِهَا مِنْ صِفَاتِهِمْ، بِأَنْ يَجْعَلَ عِقَابَهُمْ عَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ وَنَعْتُهُمُ الرُّوحِيُّ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ صِفَاتٍ تَجْعَلُهَا فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عِلِّيِّينَ، أَوْ سِجِّينٍ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْجِسْمِ السَّائِلِ الْخَفِيفِ تَقْتَضِي بِسُنَنِ اللهِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ كَمَا تَرَى فِي الزَّيْتِ إِذَا وُضِعَ فِي إِنَاءٍ مَعَ الْمَاءِ، وَمَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنْ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مَوَازِينِهَا الْمَعْرُوفَةِ مِثَالٌ مُوَضِّحٌ لِلْمُرَادِ، فَمَنْشَأُ الْجَزَاءِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ عَقَائِدِهَا وَسَائِرِ صِفَاتِهَا الَّتِي يَطْبَعُهَا الْعَمَلُ عَلَيْهَا. وَإِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ مَصْدَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْمُولِهِ كَأَنْ يُقَالَ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ لِرَبِّهِمْ بِمَا جَعَلُوا لَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّشْرِيعِ، أَوْ وَصْفَ أَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ بِمَا افْتَرَوْا عَلَيْهِ فِيهِمَا: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (16: 116) الْآيَةُ.

140

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَادَّةِ وَصْفِ الْأَسَاسِ: وَمِنَ الْمَجَازِ وَجْهُهَا يَصِفُ الْحُسْنَ، وَلِسَانُهُ يَصِفُ الْكَذِبَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ نَاقَةٌ تَصِفُ الْإِدْلَاجَ. قَالَ الشَّمَّاخُ: إِذَا مَا أَدْلَجَتْ وَصَفَتْ يَدَاهَا ... لَهَا الْإِدْلَاجَ لَيْلَةَ لَا هُجُوعَ وَفِي رَوْحِ الْمَعَانِي أَنَّ الْجُمْلَةَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَلِيغِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَصَفَ كَلَامُهُ الْكَذِبَ، إِذَا كَذَبَ، وَعَيْنُهُ تَصِفُ السِّحْرَ أَيْ سَاحِرَةٌ، وَقَدُّهُ يَصِفُ الرَّشَاقَةَ، بِمَعْنَى رَشِيقٍ مُبَالَغَةً حَتَّى كَأَنَّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ وَصَفَ لَهُ ذَلِكَ بِمَا يَشْرَحُهُ لَهُ: قَالَ الْمَعَرِّيُّ: سَرَى بَرْقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ... فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْمَلَالَا (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) حَاصِلُ مَا أَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذَا السِّيَاقِ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْفَظِيعَيْنِ اللَّذَيْنِ نَعَتْهُمَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَحَكَمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا حُكْمًا حَقًّا وَعَدْلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَبِوَأْدِ الْبَنَاتِ - الْآتِي بَيَانُهُ وَغَيْرُهُ - خُسْرَانًا عَظِيمًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ خَسِرُوا الدَّالِّ عَلَى الْعَوَامِّ فِي بَابِهِ لِيَتَرَوَّى السَّامِعُ فِيهِ، وَيَتَأَمَّلَ مَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ خُسْرَانَ الْأَوْلَادِ يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ كُلِّ مَا كَانَ يُرْجَى مِنْ فَوَائِدِهِمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْفَخْرِ وَالزِّينَةِ وَالسُّرُورِ وَالْغِبْطَةِ، كَمَا يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ الْوَالِدِ الْقَاتِلِ لِعَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ وَرَأْفَتِهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالشَّرَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا الْعَيْشُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ ; وَلِذَلِكَ عُلِّلَ هَذَا الْجُرْمُ بِسَفَهِ النَّفْسِ وَهُوَ اضْطِرَابُهَا وَحَمَاقَتُهَا، وَبِالْجَهْلِ أَيْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدِ هَذَا أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهَذَا سَفَهٌ وَجَهْلٌ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا سَبَقَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِهِ بَشَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَهُوَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ بِجَعْلِهِ دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ نَتِيجَةَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فِيهِمَا، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ أَقْبَحُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ غِوَايَةِ الشِّرْكِ وَقَدْ عَادَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ وَجَعْلِهِ دِينًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ

141

فِيمَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنَاتِ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ. كَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِطُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّكِ تَئِدِينَ جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا) وَتَسْتَحْيِينَ (أَيْ تُبْقِينَ) أُخْرَى، فَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي تُوءَدُ غَدَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ أَوْ رَاحَ وَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي (أَيْ مُحَرَّمَةً) إِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكِ وَلَمْ تَئِدِيهَا، فَتُرْسِلُ إِلَى نِسْوَتِهَا فَيَحْفُرْنَ لَهَا حُفْرَةً فَيَتَدَاوَلْنَهَا بَيْنَهُنَّ فَإِذَا بَصَرْنَ بِهِ مُقْبِلًا دَسَسْنَهَا فِي حُفْرَتِهَا وَيُسَوِّينَ عَلَيْهَا التُّرَابَ - أَيْ وَهِيَ حَيَّةٌ - وَهَذَا هُوَ الْوَأْدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا صُنْعُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَقْتُلُ ابْنَتَهُ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَالْفَاقَةِ وَيَغْذُو كَلْبَهُ. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ بَعْدَهَا فِي تَتِمَّةِ سِيَاقِ مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ، ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَقِّ التَّشْرِيعِ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ يُعْبَدُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ، وَلَا شَارِعَ سِوَاهُ لِعِبَادَةٍ وَلَا حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَفِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مُنْتَهَى تَكْرِيمِ الْإِنْسَانِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الْأَحْيَاءِ وَتَرْبِيَتُهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِالتَّدْرِيجِ كَإِنْشَاءِ السَّحَابِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالشِّعْرِ وَالدُّوْرِ وَالْجَنَّاتِ الْبَسَاتِينَ وَالْكُرُومِ الْمُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجُنُّ الْأَرْضَ وَتَسْتُرُهَا. وَالْمَعْرُوشَاتُ الْمَسْمُوكَاتُ عَلَى الْعَرَائِشِ وَهِيَ مَا يُرْفَعُ مِنَ الدَّعَائِمِ وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا مِثْلُ السُّقُوفِ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْقَصَبِ. وَمَادَّةُ عَرَشَ تَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ وَمِنْهَا عَرْشُ الْمَلِكِ. وَالْمَعْرُوشَاتُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يُقَالُ: عَرَّشَ دَوَالِيَ الْعِنَبِ عَرْشًا وَعُرُوشًا وَعَرَّشَهَا تَعْرِيشًا إِذَا رَفَعَهَا عَلَى الْعَرِيشِ. وَيُقَالُ: عَرَّشَتِ الدَّوَالِي تُعَرِّشُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) إِذَا ارْتَفَعَتْ بِنَفْسِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ مَا لَا يُعَرِّشُ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ: مَا عَرَّشَ النَّاسُ أَيْ فِي الْأَرْيَافِ وَالْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي مَا خَرَجَ فِي الْجِبَالِ وَالْبَرِّيَّةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الْكَرْمَ مِنْهُ مَا يُعَرِّشُ وَمِنْهُ مَا يُتْرَكُ مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرُوشَاتِ الَّتِي أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا خَاصِّيَّةَ التَّسَلُّقِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِمَا تَتَسَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ عَرِيشٍ مَصْنُوعٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ أَنْوَاعُ الْمَعْرُوشَاتِ بِالْقُوَّةِ كَالْكَرْمِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا تُعَرِّشُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَبِالثَّانِي غَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْتَوِي عَلَى سُوقِهِ وَلَا يَتَسَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَخَصَّهُمَا بَعْضُهُمْ بِالْكَرْمِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ النَّخْلِ عَلَيْهِ وَقَرْنُهُ بِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمُهُ فِي كَوْنِ ثَمَرِهِمَا مِنْ أَصُولِ الْأَقْوَاتِ وَقَرِينَهُ فِيمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالشَّبَهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّخْلَ مِنْ قِسْمِ الْجَنَّاتِ غَيْرِ الْمَعْرُوشَاتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَخْصِيصًا لَهُ مِنْ إِفْرَادِ الْعَامِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ وَلَا سِيَّمَا لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ بُسْرَهُ وَرُطَبَهُ فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ وَثَمَرَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَقْوَاتِ الَّتِي تُدَّخَرُ، وَأَيْسَرِهَا تَنَاوُلًا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَبْخٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، وَنَوَاهُ عَلَفٌ لِلرَّوَاحِلِ، وَلَهُمْ مِنْهُ شَرَابٌ حَلَالٌ لَذِيذٌ إِذَا نُبِذَ فِي الْمَاءِ زَمَنًا قَلِيلًا - وَهُوَ النَّبِيذُ أَيِ النَّقُوعِ - وَكَانَ أَكْثَرُ خَمْرِهِمْ مِنْهُ وَمَنْ بُسْرِهِ (وَلَا مِنَّةَ فِي الرِّجْسِ) دَعْ مَا فِي جَرِيدِ النَّخْلِ وَلِيفِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، فَهُوَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ

الْمَزَايَا يُفَضَّلُ الْكَرْمُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الشَّجَرِ مِنْهُ وَأَشْبَهُهُهُ بِهِ شَكْلًا وَلَوْنًا فِي عِنَبِهِ وَزَبِيبِهِ وَمَنَافِعِهِ تَفَكُّهًا وَتَغَذِّيًا وَتَحَلِّيًا وَشُرْبًا: ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الزَّرْعَ وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يَكُونُ بِحَرْثِ النَّاسِ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يُزْرَعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِيمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْجَنَّاتِ بِالْكَرْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا يَأْتِي مِنْهُ الْقُوتُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، وَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى فِي التَّغْذِيَةِ وَاقْتِيَاتِ النَّاسِ إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَعَمِّ، فَإِنَّ الْحُبُوبَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مُعَوَّلُ أَكْثَرِ الْبَشَرِ فِي أَقْوَاتِهِمْ، وَهَذَا عَكْسُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) (99) فَتَرْتِيبُ الْأَقْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى فِي الِاقْتِيَاتِ إِلَى الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ فِي مَقَامِ سَرْدِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَقَبْلَهَا آيَاتٌ فِي آيَاتِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ دُونَهُ، وَعَالَمُ النَّبَاتِ أَدْنَى مِنْهُمَا، فَرُوعِيَ التَّدَلِّي فِي أَنْوَاعِهِ كَمَا رُوعِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَالْمَقَامُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا بَعْدَهَا مَقَامُ ذِكْرِ الْأَقْوَاتِ لِبَيَانِ شَرْعِ مَنْشَئِهَا فِي إِبَاحَتِهَا، فِي مُقَابَلَةِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِأَهْوَاءِ الشِّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) إِلَخْ فَقَدَّمَ هُنَالِكَ الْحَرْثَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيهَا. وَجَرَى هُنَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَذَكَرَ الْحَرْثَ أَوَّلًا لِمَا ذُكِرَ، وَتَرَقَّى إِلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ لِكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ فِيهَا وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمُهِمِّ إِلَى الْأَهَمِّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَتَأْخِيرٌ لَمَّا اقْتَضَتِ الْحَالُ إِطَالَةَ الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ. فَحَسُنَ التَّرَقِّي فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَقْوَاتِ النَّبَاتِيَّةِ تَفْصِيلًا كَمَا حَسُنَ فِيمَا بَيْنَهَا بِجُمْلَتِهَا وَبَيْنَ الْأَقْوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ فِي الْآيَتَيْنِ قَالَ فِي آيَةِ: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ) (99) وَقَالَ هُنَا: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النُّكَتِ هُنَا. أَنْشَأَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ) الْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ وَفِيهِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَبِهِ قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَسُكُونُ الْكَافِ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ قِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّرْعِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا ثَمَرُهُ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ فِي شَكْلِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ عِنْدَمَا يُوجَدُ، أَيْ قَدَّرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ إِنْشَائِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس بَعْدَ ذِكْرِ الْحَبِّ وَجَنَّاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ: (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) (36: 35)

أَيْ ثَمَرِ الْمَذْكُورِ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَهًا وَاسْتَشْهَدَ لَهُ وَلِمَثَلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ وَقَالَ إِنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ لِمَ قَالَ: " كَأَنَّهُ " وَلَمْ يَقُلْ " كَأَنَّهَا " وَهِيَ جَمْعٌ مُؤَنَّثٌ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ. وَالَّذِي رَاجَعَهُ فِيهِ هُوَ الرَّاوِيَةُ أَبُو عُبَيْدَةَ. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أَيْ وَأَنْشَأَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا فِي الْمَنْظَرِ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الْمَطْعَمِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ التَّشَابُهُ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ مِنَ التَّشَابُهِ فِي الشَّجَرِ وَالتَّمْرِ، مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الطَّعْمِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرٍّ، وَفِي لَوْنِ الْحَبِّ مِنْ أَحْمَرَ قَانِئٍ قُمُدٌّ أَوْ فُقَاعِيٌّ وَأَبْيَضَ نَاصِعٍ أَوْ أَزْهَرَ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ. وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا وَفِي مَكَانِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (99) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُ تَعْلَمُ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ. (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أَيْ كُلُوا مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَسَيَأْتِي مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ آذَنَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَسْتَغِلُّونَ مِنْهُ أَقْوَاتَهُمْ، آذَنَهُمْ بِأَنَّهُ أَبَاحَهُ كُلَّهُ لَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ حَقٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعِبَادِ وَلِلْأَقْوَاتِ جَمِيعًا، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ تَعَالَى، وَمَنْ أَذْعَنَ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ اللهِ وَأَطَاعَهُ فِيهِ فَقَدْ أَشْرَكَهُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِي الْآيَاتِ بَعْدَهَا، وَالْكَلَامُ فِي التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِ هَذَا الثَّمَرِ لِسَبَبٍ غَيْرِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَا شِرْكَ فِيهِ، وَقَدْ يُوَافِقُ بَعْضَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَنْعًا شَرْعِيًّا، أَيْ تَحْرِيمًا كَمَنْعِ الطَّبِيبِ بَعْضَ الْمَرْضَى مِنْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوِ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ، فَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الطَّبِيبِ الثِّقَةِ أَنَّ التَّمْرَ يَضُرُّهُ مَثَلًا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَيْسَ تَشْرِيعًا مِنَ الطَّبِيبِ بَلِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ، وَإِنَّمَا الطَّبِيبُ مُعَرِّفٌ لِلْمَرِيضِ بِأَنَّهُ ضَارٌّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ قَدْ طُبِخَ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ لَحْمِ كَبْشٍ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَدَّقَهُ أَكْلُهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْعُ السُّلْطَانِ مِنْ صَيْدِ بَعْضِ الطَّيْرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى كَثْرَتِهِ فِي حِفْظِ بَعْضِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ الْمُهْلِكَةَ لَهُ مَثَلًا. وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَيْنِ لَيْسَ تَحْرِيمًا ذَاتِيًّا لِمَا ذُكِرَ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بَلْ مُوَقَّتًا بِدَوَامِ

سَبَبِهِ، وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ شَرْعًا بِصِيَانَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: (إِذَا أَثْمَرَ) لِإِفَادَةِ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَقْتَ إِطْلَاعِ الشَّجَرِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعِ الْحَبَّ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ وَأَيْنَعَ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) فَالْكَرْمُ يُنْتَفَعُ بِثَمَرِهِ حِصْرِمًا فَعِنَبًا فَزَبِيبًا، وَالنَّخْلُ يُؤْكَلُ ثَمَرُهُ بُسْرًا فَرُطَبًا فَتَمْرًا، وَالْقَمْحُ يُؤْكَلُ حَبُّهُ فَرِيكًا قَبْلَ يُبْسِهِ، وَأَكْلُهُ بُرًّا مَطْبُوخًا أَوْ طَحْنُهُ وَجَعْلُهُ خُبْزًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أَيْ وَأَعْطُوا الْحَقَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ زَمَنَ حَصَادِهِ فِي جُمْلَتِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، لَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُ وَلَا بَعْدَ تَنْقِيَتِهِ وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْحَصَادِ الْخَاصِّ بِالزَّرْعِ فِي الْأَصْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَنْيُ الْعِنَبِ وَصَرْمُ النَّخْلِ، كَتَغْلِيبِ الثَّمَرِ فِيمَا قَبْلَهُ لِإِدْخَالِ حَبِّ الْحَصِيدِ فِيهِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ خَاصٌّ بِالشَّجَرِ، وَهَذِهِ مُقَابَلَةٌ تُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُعَدَّ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: " مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيهِ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ السُّنْبُلِ، فَإِذَا طَيَّبْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا دُسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا ذَرَّيْتَهُ وَجَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَإِذَا بَلَغَ النَّخْلُ وَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ التَّفَارِيقِ وَالْبُسْرِ، فَإِذَا جَدَدْتَهُ (أَيْ قَطَعْتَهُ) فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا جَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا إِذَا صَرَمُوا النَّخْلَ يَجِيئُونَ بِالْعَذْقِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجِيءُ السَّائِلُ فَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا فَيُسْقِطُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، الرَّجُلُ يُعْطِي مِنْ زَرْعِهِ وَيَعْلِفُ الدَّابَّةَ وَيُعْطِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَيُعْطِي الضِّغْثَ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ

الْمَحْدُودَةِ فِي الْأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ الْعُشْرُ وَرُبْعُ الْعُشْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهَا قُيِّدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الزَّكَاةُ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُقَيَّدَةَ الْمَعْرُوفَةَ نَسَخَتْ فَرْضِيَّةَ الزَّكَاةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالنَّسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ. أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنُّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِيهَا قَالَ: كَانُوا إِذَا حُصِدَ وَإِذَا دُرِسَ وَإِذَا غُرْبِلَ أَعْطَوْا مِنْهُ شَيْئًا فَنَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. قُلْتُ لَهُ عَمَّنْ؟ قَالَ: عَنِ الْعُلَمَاءِ أَيْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَعْنَاهُ نَسْخُ فَرْضِيَّتِهَا الْمُطْلَقَةِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ إِلَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ) عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا يَوْمَ الْحَصَادِ، وَمَا تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ تَكَلُّفٌ فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ إِطْعَامُ الْمُعْدَمِ الْمُضْطَرِّ وَاجِبًا عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؟ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَمْوَالِ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَإِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا الْعَيْنِيَّةِ الثَّابِتَةِ. وَالْحَصَادُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا - مَصْدَرُ حَصَدَ الزَّرْعَ إِذَا جَزَّهُ أَيْ قَطَعَهُ كَمَا قَالَ فِي الْأَسَاسِ، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ أَصَحُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا حَقَّهُ) إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ نُزُولِهِ، لِئَلَّا تَبْقَى الْآيَةُ مُجْمَلَةً. (قَالَ) : وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ الْمُرَادَ بِهَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ الصَّدَقَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ

بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ مَكِّيَّةٍ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّرْعُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ. فَإِنْ قَالُوا لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (يَوْمَ حَصَادِهِ) يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ. انْتَهَى بِعِبَارَتِهِ السَّقِيمَةِ، وَخَطَّأُ الْمَعْنَى فِيهَا أَشْنَعُ مِنْ خَطَأِ الْعِبَارَةِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ، وَالْحَصْدُ فِي اللُّغَةِ: جَزُّ الزَّرْعِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا أَوْ تَغْلِيبًا، فَجَنْيُ الزَّيْتُونِ لَيْسَ مِنَ الْحَصْدِ وَلَا الْقَطْعُ، وَلَيْسَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَاجِبًا، وَالْآخِرُ هُوَ الرُّمَّانُ، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ وَحْدَهُ، فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى جُمْلَةِ الْمَذْكُورَاتِ بِتَقْدِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا، أَوْ إِلَى مَا يُحْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةً لَا تَغْلِيبًا وَهُوَ الزَّرْعُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ. ثُمَّ إِنَّ إِيجَابَهُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَخِيرِ يُبْطِلُ أَصْلَ دَعْوَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ بِالنَّصِّ لِذِكْرِ الْحَقِّ بَعْدَهَا، فَمَا أَضْعَفَ دَلَائِلَ هَذَا (الْإِمَامِ) الشَّهِيرِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُلَقَّبِ بِالْكَبِيرِ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (9: 103) مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَحْصُرُ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَكَذَا الذُّرَةُ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِيهِ مَتْرُوكٌ يُعَضِّدُهُ مُرْسَلٌ لِمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهَا كَوْنُهَا الْقُوتَ الْغَالِبَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَكُونُ قُوتًا يُدَّخَرُ عِنْدَهُ مَنِ اتَّخَذُوهُ قُوتًا غَالِبًا كَالْأُرْزِ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْيَابَانِ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: تَقْدِيرُ الْأَوَّلِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (7: 31) وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (5: 90) فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالِاعْتِدَاءُ كَذَلِكَ، وَالْحَدُّ الَّذِي يُنْهَى

عَنْ تَجَاوُزِهِ إِمَّا شَرْعِيٌّ كَتَجَاوُزِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا إِلَى الْحَرَامِ، وَإِمَّا فِطْرِيٌّ طَبْعِيٌّ وَهُوَ تَجَاوُزُ حَدِّ الشِّبَعِ إِلَى الْبِطْنَةِ الضَّارَّةِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) لَا تُسْرِفُوا فِي الصَّدَقَةِ أَيْ فِي أَمْرِهَا، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَذَّ نَخْلًا فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ، فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وَلَكِنَّ ثَابِتًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي حُكْمِ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ - كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مِرَارًا - وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَبَاذَرُوا وَأَسْرَفُوا فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تُسْرِفُوا) إِلَخْ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْإِسْرَافَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ مَنْعَهَا. فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تُسْرِفُوا) قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ فَتَعْصُوا. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَاصًّا بِالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ. فَعَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: عُشُورَهُ. وَقَالَ لِلْوُلَاةِ: (وَلَا تُسْرِفُوا) لَا تَأْخُذُوا مَا لَيْسَ لَكُمْ بِحَقٍّ. فَأَمَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَأَمَرَ الْوُلَاةَ بِأَنْ لَا يَأْخُذُوا إِلَّا الْحَقَّ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْإِسْرَافَ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ سَرَفٍ، وَفِي إِنْفَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْإِسْرَافُ مَذْمُومٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَيْ فِي نَفْسِهِ لَا فِي عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ فِيهَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الظَّاهِرُ - وَهُوَ كَمَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْرِدِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا ; وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ وَأَيَّدْنَاهُ بِآيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْمَائِدَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بِعُمُومِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْقِعِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كُلِّ إِسْرَافٍ، وَنَاهِيكَ بِتَعْلِيلِ النَّهْيِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (25: 67) وَقَالَ: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (17: 26) وَقَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (17: 29) . (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) أَيْ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً، وَهِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ الْأَثْقَالَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَهُوَ كِبَارُهَا - وَهِيَ كَالرَّكُوبَةِ لِمَا يُرْكَبُ لَا وَاحِدًا لَهُ مِنْ لَفْظِهِ - وَفَرْشًا: وَهُوَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَكَذَا صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ الْفَرْشُ مِنْ صُوفِهِ وَوَبَرِهِ وَشَعْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا حُمِلَ عَنِ الْإِبِلِ وَالْفَرْشُ صِغَارُهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتِلْمِيذِهِ مُجَاهِدٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْحَمُولَةَ الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ

142

وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَمُولَةِ لُغَوِيٌّ، فَإِنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ، ذَكَرَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْشَ سُمِّيَتْ فَرْشَا لِصِغَرِهَا وَدُنُوِّهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْفَرْشُ مَا يُفْرَشُ مِنَ الْأَنْعَامِ، أَيْ يُرْكَبُ. وَكُنِّيَ بِالْفِرَاشِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْمَفَارِشِ. انْتَهَى. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (40: 79، 80) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ يس وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا وَانْتَفِعُوا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْهَا (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِغْوَائِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْشِئُ وَالْمَالِكُ لَهَا حَقِيقَةً، وَقَدْ أَبَاحَهَا لَكُمْ وَهُوَ رَبُّكُمْ، فَأَنَّى لِغَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا لَيْسَ لَهُ خَلْقًا وَإِنْشَاءً وَلَا مُلْكًا، وَلَا هُوَ بِرَبٍّ لَكُمْ فَيَتَعَبَّدَكُمْ بِهِ تَعَبُّدًا، وَالْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي اتِّبَاعِ مَاشٍ يَتْبَعُ خُطُوَاتِهِ كُلَّمَا انْتَقَلَ تَأَثَّرَهُ فَوَضَعَ خَطْوَهُ مَكَانَ خَطْوِهِ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ مِنْ أَقْبَحِ الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّبَاعِ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ ضَلَالٌ فِي حِرْمَانٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَا فِي تَمَتُّعٍ بِالشَّهَوَاتِ كَمَا هُوَ أَكْثَرُ إِغْوَائِهِ. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوهُ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ مِنْ دُونِ الْخَلْقِ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ، أَوْ بَيِّنُهَا أَيْ ظَاهِرُهَا بِكَوْنِهِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ وَيَسُوءُ فِعْلُهُ أَوْ أَثَرُهُ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَبِالِافْتِرَاءِ الْمَحْضِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (2: 169) وَهَذَا حَقٌّ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ الْمِيزَانَ لِخَوَاطِرِهَا، وَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ عَدُوِّهِ حَتَّى فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِهَا! (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) نَصَبَ ثَمَانِيَةً عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ حَمُولَةٍ وَفَرْشًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا قِسْمَيْنِ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرِينَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَزَاوِجَةِ، وَعَلَى كُلِّ قَرِينَيْنِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالْخُفِّ، وَالنَّعْلِ، وَعَلَى كُلِّ مَا يَقْتَرِنُ بِآخَرَ مُمَاثِلًا لَهُ أَوْ مُضَادًّا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالِاثْنَانِ زَوْجَانِ. يُقَالُ: لَهُ زَوْجَا حَمَامٍ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) (53: 54) وَقَوْلُهُ: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ، وَتَبْكِيتِهِمْ وَتَجْهِيلِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا

143

دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصَّصٍ، أَيْ مِنَ الضَّأْنِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا الْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ، وَمِنَ الْمَعِزِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا التَّيْسُ وَالْعَنَزُ، وَفِي الْمَعِزِ لُغَتَانِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا - وَقَدْ بَدَأَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بِنَوْعِ الْفَرْشِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَبِمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْأَكْلِ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِشُمُولِهِ لِصِغَارِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ تَحْرِيمِ أَكْلِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ فِي الْإِجْمَالِ ذِكْرُ الْحَمُولَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَقَامِ الْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْمِنَّةِ بِكَوْنِ خَلْقِهَا أَعْظَمَ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا أَعَمَّ، فَإِنَّهَا كَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَنَاهِيكَ بِسَائِرِ مَنَافِعِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا بِخَلْقِ أَعْظَمِ صِنْفَيْهَا: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (88: 17) . (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَحَرَّمَ اللهُ الذَّكَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَحْدَهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ، أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وَحْدَهُمَا، أَمِ الْأَجِنَّةَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَرْحَامُ إِنَاثِ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. وَبِهَذَا السُّؤَالِ التَّفْصِيلِيِّ يَظْهَرُ لِلْمُتَفَكِّرِ فِيهِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا وَجْهَ يُعْقَلُ لِقَوْلِهِمْ ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَوِ الْحَمْلِ يَكُونُ لَغْوًا أَوْ جَهَالَةً فَاضِحَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا وَجْهَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبِعَدَمِهِ يَلْزَمُهُمُ التَّحَكُّمُ فِي أَحْكَامِ اللهِ وَكَوْنُ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَدْنَى عِلْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أَيْ خَبِّرُونِي بِعِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدِ رُسُلِ اللهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ مُتَلَبِّسَةٍ بِعِلْمٍ يَرْكَنُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِأَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ، وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُ مَا حَرَّمْتُمْ دُونَ أَمْثَالِهِ جَهْلًا مَحْضًا كَمَا أَنَّهُ افْتِرَاءُ كَذِبٍ. (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) الْإِبِلُ اسْمُ جَمْعٍ لِجِنْسِ الْأَبَاعِرِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ لِمَا لَا يُعْقَلُ لَزِمَهُ التَّأْنِيثُ، وَتَدْخُلُهُ الْهَاءُ إِذَا صُغِّرَ نَحْوُ أُبَيْلَةٍ وَغُنَيْمَةٍ، وَتُسَكَّنُ يَاؤُهُ لُغَةً لِلتَّخْفِيفِ. وَمُفْرَدُهُ بَعِيرٌ وَهُوَ يَقَعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِثْلُ الْإِنْسَانِ وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْمُوَلِّدِينَ عَلَى الذَّكَرِ، وَإِنَّمَا الْجَمَلُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ كَالرَّجُلِ فِي النَّاسِ، وَالنَّاقَةُ لِلْأُنْثَى كَالْمَرْأَةِ. وَالْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ وَتُطْلَقُ الْبَقَرَةُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَالشَّاةِ مِنَ الْغَنَمِ وَإِنَّمَا الْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ، وَالثَّوْرُ الذَّكَرُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْأُنْثَى ثَوْرَةٌ وَالْجَمْعُ ثِيرَانٌ وَأَثْوِرَةٌ وَثِيرَةٌ (كَعِنَبَةٍ) وَالْبَقَرُ الْأَهْلِيَّةُ صِنْفَانِ عِرَابٌ وَجَوَامِيسُ وَيُقَابِلُهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ بِالذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَمَا حَمَلَتْ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْغَنَمِ وَالْمَعِزِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي طَرِيقِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَدْ لَخَّصَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ بِقَوْلِهِ فِي رُوحِ الْمَعَانِي:

وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَجِلَّةِ الْعُلَمَاءِ: إِنْكَارُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَمَا فِي بُطُونِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِإِيرَادِ الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ افْتِرَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ ذُكُورَ الْأَنْعَامِ تَارَةً وَإِنَاثَهَا تَارَةً وَأَوْلَادَهَا كَيْفَمَا كَانَتْ تَارَةً أُخْرَى، مُسْنِدِينَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلِ الْمُنَكَّرُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْهَمْزَةَ، وَالْجَارِي فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ مَا نُكِّرَ وَلِيَهَا لِأَنَّ مَا فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ أَبْلَغُ، وَبَيَانُهُ عَلَى مَا قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ: إِنَّ إِثْبَاتَ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ مَحَلِّهِ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا انْتَفَى مَحَلُّهُ وَهُوَ الْمَوَارِدُ الثَّلَاثَةُ لَزِمَ انْتِفَاءُ التَّحْرِيمِ عَلَى وَجْهٍ بُرْهَانِيٍّ، كَأَنَّهُ وَضَعَ الْكَلَامَ مَوْضِعَ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ ثُمَّ طَالَبَهُ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ كَيْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ وَيَفْتَضِحَ عِنْدَ الْمُحَاقَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُورِدْ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ عَقِيبَ تَفْصِيلِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ بِأَنْ يُقَالَ: قُلْ آلذُّكُورَ حَرَّمَ أَمِ الْإِنَاثَ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْإِنَاثِ لِمَا فِي التَّكْرِيرِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّبْكِيتِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ بِأَنَّ لِلضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ مِنْهَا الذَّكَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذُكُورِهَا حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ جَلَّ شَأْنُهُ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِنَاثُهَا حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْإِنَاثِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَرْحَامَ تَشْتَمِلُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ الْأَرْبَعَةَ مَحْصُورَةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَا حَكَمُوا بِتَحْرِيمِهِ مَحْصُورَةً فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بَلْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهَا كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ، كَمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَبْحَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ إِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ ذَكَرًا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ أُنْثَى وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ أُنْثَى، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لَازِمًا عَلَيْهِ فَكَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَجْهَيْنِ مِنْ عِنْدِهِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا غِنًى عَنْ نَقْلِهِمَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ فِي الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَالْبَقَرِ: الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، وَفِي الْإِبِلِ: الْعَرَبِيُّ وَالْبُخْتِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ لَيْثِ بْنِ سُلَيْمٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الطَّبَرْسِيِّ إِنَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَهُوَ " شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ " اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ الرَّازِيِّ إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ هِيَ كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً لَا كَوْنُهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ حَمْلًا لَهَا - فِيهِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي جَعْلِهِمْ إِيَّاهَا كَذَلِكَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ آيَةِ الْمَائِدَةِ فَهُوَ جَهْلٌ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فَالْحَرَامُ مِنْهُ مِثْلُ

144

الْحَلَالِ، وَمَا ذُكِرَ فِي التَّفْصِيلِ فِي الْإِنْكَارِ يُذَكِّرُ الْمُفَكِّرَ الْمُسْتَقِلَّ بِأَنَّ مَا قَالُوهُ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَهُوَ مَا انْفَرَدْنَا بِبَيَانِهِ آنِفًا. وَقَوْلُهُ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا) بَعْدَ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ بِتَحْرِيمِ مَا زَعَمُوا، أَلْزَمَهُمْ هُنَا ادَّعَاءَ تَحْرِيمِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ بِوَصِيَّةٍ سَمِعُوهَا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ عَنِ اللهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِرِوَايَةِ رَسُولٍ لَهُ يُخْبِرُ بِوَصِيَّةٍ عَنْهُ، أَوْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةِ رَسُولٍ، وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْحُضُورُ الْمُشَاهِدُونَ لِلشَّيْءِ وَهُوَ جَمْعُ شَهِيدٍ. وَالْمَعْنَى: أَعِنْدَكُمْ عِلْمٌ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ فَنَبَّئُونِي بِهِ، أَمْ شَاهَدْتُمْ رَبَّكُمْ فَوَصَّاكُمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ كِفَاحًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ هَذَا وَلَا ذَاكَ وَإِنَّمَا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ بِدَعْوَى التَّحْرِيمِ افْتِرَاءً مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ، وَيُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا وَاقْتِرَافِ كُلِّ مَا اقْتَرَفُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 28) وَالِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ هُنَا يَتَضَمَّنُ التَّهَكُّمَ بِهِمْ، إِذْ كَانُوا بِعَدَمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ كَالْمُدَّعِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِلرِّسَالَةِ بِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ اللهَ وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا اسْتَبْعَدَتْهُ أَنْظَارُهُمُ السَّقِيمَةُ مِنَ الْوَحْيِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا الَّذِي يَقَعُونَ فِيهِ بِإِنْكَارِهِمْ لَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: (مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (91) وَإِلَّا لَزِمَهُمُ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى لِإِضْلَالِ عِبَادِهِ وَهُوَ أَشَدُّ الظُّلْمِ الَّذِي يَجْنِيهِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِهِ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ وَشَرْعِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ عَنْ جَهْلٍ عَامٍّ تَامٍّ. فَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ يَشْمَلُ مَا يُؤْثَرُ أَوْ يُعْقَلُ وَيُسْتَنْبَطُ كَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَطُرُقِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ وَالْمَضَارِّ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ وَعَمَلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَلِمَةِ غَيْرِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا حِكْمَةُ نَفْيِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ غَيْرُ وَحْيِ اللهِ وَرُسُلِهِ؟ قُلْنَا: هِيَ تَسْجِيلُ الْجَهْلِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِمْ عَامَّةً. وَسُوءُ النِّيَّةِ عَلَى مُفْتَرِي ذَلِكَ لَهُمْ خَاصَّةً بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا قَصْدٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى إِلَى حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ، وَتَسْجِيلُ الْغَبَاوَةِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ عَلَى مُتَّبِعِيهِ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هُدًى. وَقَدْ وُجِدَ فِي الْبَشَرِ أُنَاسٌ آخَرُونَ تَفَكَّرُوا وَبَحَثُوا فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُشْكَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ تَعَبُّدًا مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ، وَفِيمَا يَنْبَغِي

اجْتِنَابُهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ضَارٍّ بِالْبَدَنِ أَوِ الْعَقْلِ - وَهُمُ الْحُكَمَاءُ - فَأَصَابُوا فِي بَعْضِ مَا هَدَتْهُمْ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ وَتَجَارِبُهُمْ، وَأَخْطَئُوا فِي بَعْضٍ، فَكَانُوا خَيْرَ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ فِي فَتَرَاتِ الرُّسُلِ الَّتِي فُقِدَتْ فِيهَا هِدَايَةُ الْوَحْيِ. وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (3: 21) فَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَبِشُكْرِ الْمُنْعِمِ هُمْ حُكَمَاءُ الْبَشَرِ وَعُقَلَاؤُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ قُصَيٌّ لِلْعَرَبِ سُنَنًا حَسَنَةً لِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَرِفَادَتِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَلِلشُّورَى فِي الْخُطُوبِ، وَمِنْ أَعْمَالِ قُرَيْشٍ الْحَسَنَةِ حِلْفُ الْفُضُولِ لِمَنْعِ الظُّلْمِ وَقَدْ مَدَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ بِسَائِقِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ لِمَفَاسِدِهَا. وَيَدُلُّ هَذَا الْقَيْدُ عَلَى تَعْظِيمِ الْإِسْلَامِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ لَهُمُ السَّوَائِبَ وَبَحَّرَ الْبَحَائِرَ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَاتَّبَعُوهُ، وَسَنَعْقِدُ لِهَذَا فَصْلًا خَاصًّا وَفَاءً بِمَا وَعَدْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ. (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. لَا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَصُدُّهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، فِيمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى صَوَابِهِمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَةُ ظُلْمِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ أَظْلَمُ النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفْتِ الْآيَةُ ظُلْمَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ لِإِضْلَالِ عِبَادِهِ! . (فَصْلٌ فِي تَارِيخِ وَثَنِيَّةِ الْعَرَبِ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ وَمَا تَبِعَهَا مِنْ هَذِهِ الضَّلَالَةِ) رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ - زَادَ مُسْلِمٌ - وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ " وَرَوَى نَحْوَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قِصَّةِ خُزَاعَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَبُو خُزَاعَةَ " قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَتْحِ: وَأَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَتَمَّ مِنْهُ. وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانِ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ " ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ سَبَبَ عِبَادَةِ لُحَيٍّ لِلْأَصْنَامِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَاسْتَوْهَبَهُمْ وَاحِدًا مِنْهَا وَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَنَصَبَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ (وَهُوَ هُبَلُ) وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ فَجَرَ رَجُلٌ

يُقَالُ لَهُ أَسَافٌ بِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا نَائِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللهُ جَلَّ وَعَلَا حَجَرَيْنِ فَأَخَذَهُمَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَنَصَبَهُمَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَصَارَ مَنْ يَطُوفُ يَتَمَسَّحُ بِهِمَا يَبْدَأُ بِأَسَافٍ وَيَخْتِمُ بِنَائِلَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ - أَنَّهَا كَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِيهِمْ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، فَنَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ يَأْخُذُونَ كَأَخْذِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ فَكُنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فَصَوَّرُوا ثُمَّ مَاتُوا فَنَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَعَبَدُوهَا. وَمَعْنَى قَوْلِ إِبْلِيسَ وَحْيُهُ وَوَسْوَسَتُهُ. وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ لَهُمْ تَوَسُّلًا بِهِمْ وَاسْتِشْفَاعًا وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ وَذَبَائِحَ تُذْبَحُ لَهُمْ مَنْذُورَةً أَوْ غَيْرَ مَنْذُورَةٍ، وَطَوَافًا بِتَمَاثِيلِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَّخِذُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ صُوَرًا وَلَا تَمَاثِيلَ يُعَظِّمُونَهَا وَيَطُوفُونَ بِهَا وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَبْدَلُوا الْقُبُورَ الْمُشَيَّدَةَ وَمَا يَضَعُونَهُ عَلَيْهَا بِالتَّمَاثِيلِ. وَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، بَلْ قَالُوا أَقْوَالًا جَرَّأَتِ النَّاسَ عَلَى اسْتِحْسَانِ هَذِهِ الْبِدَعِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّ قُبُورَ الصَّالِحِينَ تُزَارُ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا. وَإِجَازَةِ بَعْضِهِمْ تَشْرِيفَهَا بِالْبِنَاءِ وَكِسْوَتَهَا كَالْكَعْبَةِ وَاتِّخَاذَهَا مَسَاجِدَ خِلَافًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَتَشْرِيعًا شِرْكِيًّا لِتَرْوِيجِ الشِّرْكِ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ وُدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِمْ، وَذَكَرَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُمْ صَوَّرُوهُمْ لِيَتَذَكَّرُوا بِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقْتَدُوا بِهِمْ، وَهَكَذَا فَعَلَ النَّصَارَى بِصُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَا زَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْآنَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ الَّتِي يَتَّخِذُونَهَا فِي كَنَائِسِهِمْ، بَلْ يُرِيدُونَ بِوَضْعِهَا فِيهَا تُذَكُّرَ أَصْحَابِهَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَتَعْظِيمَهُمْ بِالتَّبَرُّكِ بِهَذِهِ الذِّكْرَى، وَلَا أَزَالُ أَذْكُرُ كَلِمَةَ رَاهِبٍ قَالَهَا لِي فِي كَنِيسَةِ دَيْرِ الْبَلْمَنْدِ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ، وَهِيَ أَوَّلُ كَنِيسَةٍ دَخَلْتُهَا لِأَجْلِ التَّفَرُّجِ وَالِاخْتِبَارِ وَكُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّاهِبُ يُخْبِرُنِي أَنَا وَمَنْ مَعِي بِمَا فِي الْكَنِيسَةِ وَبِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ الصُّوَرِ الَّتِي فِي جُدُرِهَا وَقَدْ قَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَهَا وَلَكِنَّهَا " تِذْكَارٌ " وَكَانَ يُكَرِّرُ كَلِمَةَ " تِذْكَارٌ " وَلَعَلَّهُ كَانَ يَجْهَلُ كَمَا يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَيَظُنُّ أَنَّ تَعْظِيمَ تِلْكَ الصُّوَرِ وَوَضْعَهَا فِي الْكَنَائِسِ وَدُعَاءَهَا وَنِدَاءَهَا وَالنَّذُرَ لَهَا وَالتَّوَسُّلَ وَالِاسْتِشْفَاعَ بِهَا إِلَى اللهِ لَا يُسَمَّى عِبَادَةً لَهَا وَلِأَصْحَابِهَا، وَأَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَلُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُسَمَّى عِبَادَةً ; لِأَنَّ اللُّغَةَ لُغَتُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُرْفٌ دِينِيٌّ مُخَصَّصٌ

145

لِعُمُومِ الْعِبَادَةِ اللُّغَوِيِّ وَلَا بَاعِثَ عَلَى التَّأْوِيلِ أَوِ التَّحْرِيفِ، فَكَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامَهُمْ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً ; لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبًّا خَالِقًا، وَيَقُولُونَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَيُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْضًا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) الْآيَةَ. وَقَدْ فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَمَّوْهُ تَوَسُّلًا وَأَنْكَرُوا تَسْمِيَتَهُ عِبَادَةً وَالتَّسْمِيَةُ لَا تُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَعْبُودَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَا يُذَكِّرُ بِهَا مِنْ صُورَةٍ وَتِمْثَالٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ تَابُوتٍ كَالتَّابُوتِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْهِنْدِ لِلشَّيْخِ الصَّالِحِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، فَكُلُّ تَعْظِيمٍ دِينِيٍّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ بِمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ عِبَادَةٌ لَهَا وَإِشْرَاكٌ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ. (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) تَقَرَّرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ - وَكَذَا غَيْرُهُ - إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ فِي وَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى مُعْتَدٍ عَلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ لَا يُحَرِّمُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا رَبُّهُمْ. وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَنَّ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا حَرَّمَتِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ كَمَا فُصِّلَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ،

وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذَا السِّيَاقَ بِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَضُرُّهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ: لَا أَجِدُ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيَّ طَعَامًا مُحَرَّمًا عَلَى آكِلٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، بَلِ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُؤْكَلَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لِذَاتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، أَيْ بَهِيمَةً مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَلَوْ بِسَبَبٍ غَيْرِ التَّذْكِيَةِ بِقَصْدِ الْأَكْلِ، أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا، أَيْ مَصْبُوبًا كَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَبِيثٌ تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَضَارٌّ بِالْأَبْدَانِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَهُوَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَبُّدًا وَيُذْكَرُ اسْمُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْوَصْفَ بِالرِّجْسِ لِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَجَاسَةِ شَعْرِهِ. وَمَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْوَصْفِ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْسِ الْحِسِّيُّ مِنْهُ فَإِنَّ طِبَاعَ أَكْثَرِ الْبَشَرِ تَسْتَقْذِرُهُمَا وَتَعَافُهُمَا، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَجْمَلِ اللُّحُومِ مَنْظَرًا فَلَا يَعَافُهُ إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَذَلِكَ اسْتِقْذَارٌ مَعْنَوِيٌّ لَا حِسِّيٌّ، وَإِنَّمَا يُسْتَقْذَرُ الْخِنْزِيرُ حَيًّا بِمُلَازَمَتِهِ لِلْأَقْذَارِ وَأَكْلِهِ مِنْهَا. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ لَا كَوْنُهُ مِنَ الْقَذَرِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ (تَكُونُ مَيْتَةً) بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ مَيْتَةٍ، وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ مَعَ رَفْعِ مَيْتَةٍ عَلَى مَعْنَى إِلَّا أَنْ تُوجَدَ مَيْتَةٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ مَعَ نَصْبِ مَيْتَةٍ وَهَذِهِ وُجُوهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ كُلُّهَا جَائِزَةٌ فَصِيحَةٌ. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَمَنْ دَفَعَتْهُ ضَرُورَةُ الْمَجَاعَةِ وَفَقْدِ الْحَلَالِ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُرِيدٌ لِذَلِكَ قَاصِدٌ لَهُ وَلَا مُتَعَدٍّ فِيهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ رَبَّكَ الَّذِي لَمْ يُحَرِّمْ مَا ذُكِرَ إِلَّا لِضَرَرِهِ. غَفُورٌ رَحِيمٌ فَلَا

يُؤَاخِذُهُ بِأَكْلِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي مَنْ يَبْغِي عَلَى مُضْطَرٍّ مِثْلِهِ فَيَنْزِعُ مِنْهُ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ إِيثَارًا لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ حَظْرُهُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَقِيلَ: هُوَ مَنْ يَبْغِي عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ وَيَخْرُجُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَا دَخْلَ لَهَا فِي حِلِّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ عَطْفِ مَا حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهَا أَنَّ حَصْرَ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ شَرَائِعِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ وَلَا فِيمَا شُرِعَ عَلَى لِسَانِي أَنَّ اللهَ حَرَّمَ طَعَامًا مَا عَلَى طَاعِمٍ مَا يَطْعَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْيَهُودِ تَحْرِيمًا مُوَقَّتًا عُقُوبَةً لَهُمْ وَهُوَ مَا ذُكِرَ جُمْلَتُهُ أَوْ أَهَمُّهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُوَقَّتًا مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (3: 50) وَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِيمَنْ يَتَّبِعُ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (7: 157) وَدَلِيلُ كَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا لِذَاتِهِ مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) (3: 93) . الْآيَةُ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْقَطْعِيِّ، فَهِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي حِلِّ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي حُصِرَ التَّحْرِيمُ بِهَا فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَأَكِيلَةَ السَّبْعِ اللَّاتِي تَمُوتُ بِذَلِكَ وَلَا تُدْرَكُ تَذْكِيَتُهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ نَوْعِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ تَفْصِيلٌ لَهَا لَا أَنْوَاعٌ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُعَدَّ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى فِي الطَّعَامِ غَيْرِ هَذِهِ فَيُجْعَلَ نَاسِخًا لِلْحَصْرِ فِيهَا، فَإِنَّ لَفْظَ الْخَبَائِثِ يَشْمَلُ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَالْأَقْذَارِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَكُلِّ شَيْءٍ رَدِيءٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (2: 267) فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا وَلَا مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهَا، وَمَا يُرِيدُ اللهُ نَسْخَهُ أَوْ تَخْصِيصَهُ لَا يَجْعَلُهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُؤَكَّدَةِ كُلَّ هَذَا التَّأْكِيدِ الَّذِي نَشْرَحُهُ بَعْدُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ الْجَوَارِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي ; وَلِذَلِكَ. اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَةِ. وَهَاكَ مُلَخَّصُ الْمَأْثُورِ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ وَيَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ فَنَزَلَتْ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا

فَبَعْثَ اللهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) فَقَالَ: مَا خَلَا هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ مِنَ الدَّوَابِّ شَيْءٌ حَرَامٌ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَقَرَأَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعَتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا سُئِلَتْ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ تَلَتْ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شَاةً لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مَاتَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ مَاتَتْ فُلَانَةُ - تَعْنِي الشَّاةَ - قَالَ: " فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَأْخَذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) " وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ وَإِنَّمَا تَدْبُغُونَهُ حَتَّى تَنْتَفِعُوا بِهِ " فَأُرْسِلَتْ إِلَيْهَا فَسَلَخَتْهَا ثُمَّ دَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا حُرِّمَ مِنْ

الْمَيْتَةِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْمُ، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْقَدُّ وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبَحُوا أَوَدَجْوًا الدَّابَّةَ وَأَخَذُوا الدَّمَ فَأَكَلُوهُ. قَالُوا: هُوَ دَمٌ مَسْفُوحٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حُرِّمَ مِنَ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا فَأَمَّا لَحْمٌ يُخَالِطُهُ الدَّمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) قَالَ: الْمَسْفُوحُ الَّذِي يُهْرَاقُ وَلَا بَأْسَ بِمَا كَانَ فِي الْعُرُوقِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: آكُلُ الطِّحَالَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ عَامَّتَهَا دَمٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي الدَّمِ يَكُونُ فِي مَذْبَحِ الشَّاةِ أَوِ الدَّمِ يَكُونُ عَلَى أَعْلَى الْقِدْرِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ ذِي شَيْءٍ إِلَّا مَا ذَكَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْفِيلِ وَالْأَسَدِ - فَتَلَا (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْجِرِّيثِ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ وَالْهِرِّ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ أَشْيَاءَ فَلَا يُحَرِّمُونَهَا وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ كِتَابًا فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالًا وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامًا وَأَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ الْحُمُرَ الْإِنْسِيَّةَ وَلُحُومَ الْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةَ وَالْحِمَارَ الْإِنْسِيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَحَرَّمَ الْمُجَثَّمَةَ وَالْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: " لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ (وَهِيَ خَالَتُهُ) فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ (مَشْوِيٍّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ) فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولِ اللهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ " قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ.

هَذِهِ جُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ وَيُخَالِفُهُ. وَتَرَكْتُ أَضْعَفَ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ كَحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِيمَا حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَفِيهِ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ خَالِدٌ بَعْدَ خَيْبَرَ. وَفِي أَصَحِّهَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ عَلَى حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيمَا حَرَّمَتْهُ بِالنَّصِّ وَإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُ وَلَا يَرَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا نَاسِخًا لَهَا وَلَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّوْنَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْإِنْسِيَّةُ (وَيُقَابِلُهَا الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ وَهِيَ مُجْمَعٌ عَلَى حِلِّهَا) فَمَا وَرَدَ فِي حَظْرِهَا بِلَفْظِ النَّهْيِ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِلْكَرَاهَةِ كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا، وَأَقْوَاهَا مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ، إِذْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا كَالْخِنْزِيرِ وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ رِوَايَةً بِالْمَعْنَى مِمَّنْ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي فَهْمِهِ وَتَعْلِيلِهِ. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِحِلِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " وَأَكْلِهِ فِي بَيْتِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ خُلَاصَةَ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنَبْنِي عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِيهَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَوَقَّفَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ، هَلْ كَانَ لِمَعْنًى خَاصٍّ أَوْ لِلتَّأْبِيدِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ: لَا أَدْرِي أَنْهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةً لِلنَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ (قَالَ) : وَهَذَا التَّرَدُّدُ أَصَحُّ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ مَخَافَةَ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. (قَالَ الْحَافِظُ) : وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوَكَانَتْ جَلَّالَةً (أَيْ تَأْكُلُ الْجِلَّةَ وَالْعَذِرَةَ) أَوْ كَانَتِ انْتُهِبَتْ حَدِيثُ أَنَسٍ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: " فَإِنَّهَا رِجْسٌ " وَكَذَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: " فَإِنَّهَا رِجْسٌ " ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْحُمُرِ لِأَنَّهَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهَا مِنَ الْقُدُورِ وَغَسْلِهَا، وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِعَيْنِهَا لَا لِمَعْنًى خَارِجٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَمْرُ بِإِكْفَاءِ

الْقُدُورِ ظَاهِرٌ أَنَّهُ سَبَبُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْحُمُرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَلٌ أُخْرَى إِنْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ. وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِخَشْيَةِ قِلَّةِ الظَّهْرِ فَأَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْخَيْلِ، فَإِنَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ وَالْإِذْنَ فِي الْخَيْلِ مَقْرُونًا، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَجْلِ الْحَمُولَةِ لَكَانَتِ الْخَيْلُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَخَبَرَ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا فَهُوَ مُقَدَّمٌ وَأَيْضًا فَنَصُّ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ نُزُولِهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمَأْكُولِ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فِيهَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَحْكَامٌ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَالْخَمْرِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةِ إِلَى آخِرِهِ. وَكَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثَتُهَا الْكَرَاهَةُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ قَالَ: " أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ " يَعْنِي الْجَلَّالَةَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَالْمَتْنُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: " أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَصِبْ مِنْ لُحُومِهَا " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ قَالَ: سَأَلْتُ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ - فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَالٌ وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مِنَ الْأَهْلِيِّ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ فَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ مِنْهُ (وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِمَنْعِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَسَنَدُهُ أَنَّ بَعْضَ الْأَهْلِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي وَحْشِيِّهِ كَالْهِرِّ) اهـ. أَقُولُ: هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحَمِيرِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ عُمْدَةَ الْجَازِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُعَلِّلُ لَهُ بِأَنَّهَا رِجْسٌ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ الْمَذْكُورِ آنِفًا لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي رَدُّوهُ بِهِ وَجَعَلُوهُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ ; إِذْ فَسَّرُوا وَصْفَهَا بِالرِّجْسِ بِأَنَّهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ

كَالْخِنْزِيرِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ لِلنَّجَاسَةِ وَهُوَ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ شَرْعًا، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ. وَحَدِيثُ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ يُفَسِّرُ كَوْنَهَا رِجْسًا بِأَنَّهَا كَانَتْ هُنَالِكَ (أَيْ فِي خَيْبَرَ) تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ ; وَبِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ كَالْبَيْضَاوِيِّ كَوْنَ الْخِنْزِيرِ رِجْسًا أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْخِنْزِيرَ مُلَازِمٌ لِلْأَقْذَارِ دَائِمُ التَّغَذِّي مِنْهَا، وَأَمَّا الْحُمُرُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَارِضًا لَهَا كَمَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاجِنِ كَالدَّجَاجِ، فَجَوَالُّ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ جَالَّةٍ كَهَوَامَّ جَمَعُ هَامَّةٍ وَدَوَابَّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ الْجَلَّالَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَيَخْبُثُ لَحْمُهَا، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهَا، وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا عَارِضًا مُوَقَّتًا، أَيْ مَا دَامَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا مُتَغَيِّرًا مِنَ النَّجَاسَةِ بِالنَّتِنِ وَتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَهَذَا هُوَ الْعُمْدَةُ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا نَجِسًا، فَحَدِيثُ أَنَسٍ شَاهِدٌ يُقَوِّي حَدِيثَ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ فَيُجْعَلُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ، فَلَا يَضُرُّهُ اضْطِرَابُ سَنَدِهِ إِذًا مَعَ عَدَمِ الطَّعْنِ بِرِجَالِهِ. وَحَدِيثُ أَمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ بِتَعْلِيلِهِ حِلَّ لُحُومِ الْحُمُرِ بِكَوْنِهَا تَأْكُلُ الْكَلَأَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ أَيْ لَا النَّجَاسَةَ - فَالْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ الْقَطْعِيَّةِ اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ عَارِضًا مُوَقَّتًا فَيُقْصَرُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَيُبَاحُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَصْلِ وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَعْلِيلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهُ بِقِلَّةِ الظَّهْرِ أَيْ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَتَلَاهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّهَا رِجْسٌ. وَمَا قِيلَ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِحِلِّ الْخَيْلِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْحَمْلِ هِيَ حَمْلُ الْمَتَاعِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ تَكُنِ الْخَيْلُ تُسْتَعْمَلُ لِهَذَا وَلَا تَفِي بِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَزِيزَةً وَقْتَئِذٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْحَمِيرُ نَجِسَةَ الْعَيْنِ شَرْعًا لَوَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي نَقْلِهِ وَتَوَاتُرِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِكْفَاءُ الْقُدُورِ وَغَسْلُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرِّجْسِ الْعَارِضِ مِنْ أَكْلِهَا الْعَذِرَةَ لَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِمَحْضِ النَّظَافَةِ كَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْقُدُورِ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا بَعْدَ فَرَاغِهَا. وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ بَيَّنَتْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا وَقْتَ نُزُولِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ تَحْرِيمَ غَيْرِهِ بَعْدَهَا كَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ. فَهُوَ غَفْلَةٌ وَقَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَجَلَّ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يُخْطِئُ. الْآيَةُ قَدْ أَكَّدَتْهَا آيَةٌ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَآيَةٌ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَغْذِيَةِ

وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَطْعِمَةً فَتَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُمُرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْهُ فَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ الْقَوِيَّ فِيهِ، فَهَذَا بَيَانُ بُطْلَانِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا بِالْإِجْمَالِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ فِيهِ قَرِيبٌ. وَمِنْ غَرَائِبِ السَّهْوِ ذِكْرُ الْحَافِظِ أَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِمَّا حُرِّمَ بَعْدَهَا وَهُوَ فِيهَا. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ نَصًّا فِي التَّحْرِيمِ لِاحْتِمَالِهِ الْكَرَاهَةَ، وَتَرْجِيحُ الِاحْتِمَالِ بِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي الْحِجَازِ، وَلَوْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا فِي غَزْوَةٍ مَشْهُورَةٍ لَنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا النَّهْيَ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ السِّبَاعِ لَا بِتَحْرِيمِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ حَمْلِهِ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ الْآيَاتُ وَاسْتِبَاحَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَكْلِ السِّبَاعِ إِذْ كَانَ يُحْتَجُّ بِعَمَلِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا - وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ " فَأَكْلُهُ حَرَامٌ " فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَيْ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ فَعَبَّرَ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَحَادِيثَ كَكَثْرَةِ مَرَاسِيلِهِ. وَمِمَّا يُعِلُّ بِهِ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ فَقِيهًا وَمَذْهَبُهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَمَا خَالَفَهُ، وَنَاهِيكَ بِمِثْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ. وَحَدِيثَا جَابِرٍ وَالْعِرْبَاضِ الْمُصَرِّحَانِ بِالتَّحْرِيمِ لَيْسَا صَحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا حُسِّنَا لِمُوَافَقَتِهِمَا لِأَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَذَا وَكَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَمَّا فَهِمَا مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَارِضٌ مُوَقَّتٌ وَفَهِمَ آخَرُونَ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ فَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (يَعْنِي عَدَمَ التَّحْرِيمِ) وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ (قُلْ لَا أَجِدُ) وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ غَيْرِ مَا ذُكِرَ إِذًا فَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةٌ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا حِكَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ

كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِآرَائِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) أَيْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَلَا يُرَدُّ كَوْنُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا قَرَنَتْ بِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِذَا وَرَدَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْآيَةَ حَاصِرَةً لِمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ إِبَانَةَ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقَّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَخْصِيصِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا أَقْوَى وَأَوْسَعُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنِ الْآيَةِ قَدْ لَخَّصَهُ أَحْفَظُ الْحُفَّاظِ وَأَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا، وَكُلُّهُ سَاقِطٌ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِيهِ، وَفِي سُقُوطِهِ أَكْبَرُ حُجَّةٍ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِنْصَافِ، بِزَعْمِ أَنَّ مَشَايِخَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ أَحَاطُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، حَتَّى فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَلَسْنَا نُسْقِطُهُ بِنَظَرِيَّاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَإِنَّمَا نُسْقِطُهُ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ الْبَحْثِ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ - وَذَلِكَ أَظْهَرُ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ - وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ تَقَرَّرَ مَضْمُونُ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا فِي آيَةِ النَّحْلِ الْمَكِّيَّةِ (16: 115) وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَتْمًا فَلَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْحَافِظُ آنِفًا عَلَى عِلَّاتِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا نَصْرُ الْمَذْهَبِ لَمَا نَسِيَ الْحَافِظُ هَذَا عِنْدَ النَّقْلِ، وَلَا تَأْيِيدُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ لِلْحَصْرِ فِيهَا وَرَدُّهُ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَهَذَا نَصُّ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2: 172، 173) لَفْظُ (إِنَّمَا) يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَا يَأْتِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَكَلَّفُوهَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا حَتَّى جَعَلُوا الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ جَرَيَانَهَا فِي الْآيَةِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ عَنِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ، وَفِي آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ بِـ (إِنَّمَا) لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَعَرَّضَ لَهَا، وَإِنَّمَا

أَخَذْتُهَا مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِإِمَامِ عُمُومِ الْبَلَاغَةِ وَوَاضِعِهَا الشَّيْخِ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ فَنُلَخِّصُ قَوْلَهُ فِيهَا مَزِيدًا فِي الْبَيَانِ، وَدَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) النَّصْبُ فِي الْمَيْتَةِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَيَجُوزُ (إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ " مَا " هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ " إِنَّ " مِنَ الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ لِأَنَّ " إِنَّمَا " تَأْتِي إِثْبَاتًا لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا وَنَفْيًا لِمَا سِوَاهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا لَا يُنَافِيهِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْحَصْرِ وَأَوْرَدَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ أَوْ لِمَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ. تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ. لَا تَقُولُهُ لِمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُ صِحَّتَهُ وَلَكِنْ لِمَنْ يَعْلَمُهُ وَيُقِرُّ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُنَبِّهَهُ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْأَخِ وَحُرْمَةِ الصَّاحِبِ. . . . . . وَمِثَالُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (36) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (36: 11) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) (79: 45) كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ اسْتِجَابَةٌ إِلَّا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَعْقِلْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِنْذَارًا وَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ إِذَا كَانَ مَعَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَخْشَاهُ وَيُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالسَّاعَةِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ فَالْإِنْذَارُ وَتَرْكُ الْإِنْذَارِ مَعَهُ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ أُخْرَى: وَأَمَّا الْخَبَرُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوُ: مَا هَذَا إِلَّا كَذَا، وَإِنْ هُوَ إِلَّا كَذَا، فَيَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا مُصِيبٌ، أَوْ مَا هُوَ إِلَّا مُخْطِئٌ - قُلْتَهُ لِمَنْ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا مِنْ بَعِيدٍ فَقُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا زَيْدٌ - لَمْ تَقُلْهُ إِلَّا وَصَاحَبُكَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ وَأَنَّهُ إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَجِدُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي الْقَاعِدَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (14: 10) إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ دُونَ " إِنَّمَا " مَعَ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّسُلَ كَأَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ قَدْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ وَادَّعَوْا أَمْرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ هُوَ بَشَرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُخْرِجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَهُ حَيْثُ يُرَادُ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَدَّعِي خِلَافَهُ. ثُمَّ جَاءَ الْجَوَابُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (14: 11) كَذَلِكَ بِـ " إِنْ " وَ " إِلَّا " دُونَ " إِنَّمَا " -

لِأَنَّ مِنْ حِكَمِ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ خَصْمُهُ الْخِلَافَ فِي أَمْرٍ هُوَ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَنْ يُعِيدَ كَلَامَ الْخَصْمِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَحْكِيهِ كَمَا هُوَ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي مَسَائِلِ " إِنَّمَا " وَصَرَّحَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِأَنْ " إِنَّمَا " تُفِيدُ فِي الْكَلَامِ بَعْدَهَا إِيجَابَ الْفِعْلِ لِشَيْءٍ وَنَفْيَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَطَالَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَشَرْحِهَا كَعَادَتِهِ. وَهَذَا التَّحْقِيقُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَآيَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ، مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ تَعَالَى. كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ - فَجَاءَ حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مِنَ السُّورَةِ: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (6: 119) وَلَمْ يُفَسَّرْ بِآيَةِ النَّحْلِ مَعَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ النَّحْلِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ النَّحْلِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى قَاعِدَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهَا الْتِفَاتًا إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْجَحَ مِنْ جَعْلِهَا خَاصَّةً بِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي السُّورَتَيْنِ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ الَّذِي يَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا نَصُّهُمَا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (16: 114، 115) وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّهَا خِطَابٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ قَدْ جَاءَتَا بَعْدَ آيَةٍ فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهِيَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) فَتَكُونُ آيَتَا النَّحْلِ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْبَقَرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَالْإِطْنَابِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْهُودٌ، وَبَيَّنَّا سَبَبَهُ مِنْ قَبْلُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ أُنْزِلَتْ بَيَانًا لِحُكْمِ اللهِ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِهِ. بِمَا كَانُوا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَقَهَا بَيَانٌ مِنَ الْوَحْيِ فِي ذَلِكَ فَجَاءَتْ بِحَصْرِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ النَّحْلِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِهَا فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فِي سِيَاقِ مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِشُكْرِهَا فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ هِيَ السُّورَةُ الَّتِي خُصَّ أُسْلُوبُهَا بِسَرْدِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ آيَةِ النَّحْلِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَعُبِّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَصْرَ كَانَ مَعْرُوفًا وَمُقَرَّرًا بِآيَةِ الْأَنْعَامِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ الْمُكَرَّرِ بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ وَمِمَّا سَيَأْتِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَلَا التَّخْصِيصَ، فَهِيَ نَفْسُهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْحِلُّ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَخْصِيصٌ آخَرُ لِذَلِكَ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُنَالِكَ أَخْبَارٌ آحَادٌ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ النَّصِّ وَلَا الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا عَلِمْتَ - وَأَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ - أَحَدُ أَرْكَانِ رُوَاتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِالسُّنَّةِ فِي وَطَنِهَا الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْحِجَازُ - إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَحَدِ فُقَهَائِهَا فَكَيْفَ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ وَبُلِّغَ لِلنَّاسِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فِيهِ وَبَقِيَ إِلَى زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ خَفِيًّا عَنْ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالرِّوَايَةِ؟ وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ وُقُوعَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ حِلِّ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَى حَصْرِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْكِتَابِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَأُنَاسٌ آخَرُونَ بِقُيُودٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ الرَّازِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ بَعْضُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا كَكَوْنِ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وَالنَّسْخُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ عُمُومَ إِبَاحَةِ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ كَانَ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ تَخْصِيصَهُ عِنْدَ إِنْزَالِ آيَةِ الْمَائِدَةِ لَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَمَا أَكَّدَهُ بَعْدَهَا مِرَارًا. وَقَدْ أَطْنَبَ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الْحَصْرِ وَكَوْنِهَا مُحَكَمَةً بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا وَدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ عَلَيْهَا، وَزَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ التَّحْرِيمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، وَكَوْنُ الْوَحْيِ قَرَّرَ هَذَا الْحَصْرَ، وَأَكَّدَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِيهِ بِآيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ - أَنْ جَعَلَ آيَةَ أَوَّلِ الْمَائِدَةِ مُؤَكِّدَةً لِتَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) مَعَ

إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ أُخْرَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إِلَخْ. (قَالَ) : فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ. وَأَقُولُ: إِنَّنَا مَا تَرَكْنَا ذِكْرَ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِيمَا كَتَبْنَا قَبْلَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ نِسْيَانًا لَهَا، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِنَا حِينَئِذٍ مِنْ مَعْنَاهَا إِلَّا الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْسُ الْأَنْعَامِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا مِنْ قَبِيلِ شَجَرِ الْأَرَاكِ أَوْ بِمَعْنَى الْبَهِيمَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأَنْعَامِ، قَالُوا: أَيْ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَهُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْإِضَافَةِ، وَبَعْدَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ تَذَكَّرْنَا أَنَّنَا قَدِ اخْتَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ مَا يَسْتَطِيبُهُ النَّاسُ فِي مَجْمُوعِهِمْ وَإِنْ عَافَهُ أَفْرَادٌ أَوْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ، فَقَدْ عَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَ الضَّبِّ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ ; وَبِهَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُؤَيِّدَةً لِلْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ آخِرُ السُّورِ نُزُولًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِمَا فِيهَا ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسُّبَاعِ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ - إِنْ صَحَّ أَنَّهُ بَعْدَهَا وَأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّخْصِيصِ لَا النَّ‍سَخِ - تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةً لَهُ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ حَتْمًا. وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ طَعَامٍ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حَصَرَتِ الْآيَاتُ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيهَا، فَهُوَ إِمَّا لِلْكَرَاهَةِ وَإِمَّا مُؤَقَّتٌ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَمِيرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْهُ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى لَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ رَدَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بِآيَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَرِّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا جَاءَ نَصُّ الْقُرْآنِ الْمُؤَكِّدُ بِحِلِّهِ. وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عِيسَى بْنِ نُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) . . . . . فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ اهـ. فَقَوْلُهُ: " إِنْ كَانَ " مُشْعِرٌ بِشَكِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَهُ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَبِيثٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ. عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ. وَيَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَالْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الْكَثِيرَ

مِنْهَا قَدْ سَمِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَذَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ لَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِيهَا الْعَنْعَنَةُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ لِضَرَرِهِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَهُنَّ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ، وَكَذَا الْحِدَأَةُ وَالْوَزَغُ، أَوِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ كَالنَّمْلِ وَالنَّحْلِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ ; إِذِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ الضَّارِّ لِاتِّقَاءِ ضَرَرِهِ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ تَدُلَّ الدَّلَائِلُ الْعَامَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَقَدْ دَلَّتْ! وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ عَبَثًا أَوْ لِغَرَضٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا حَظْرُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ، فَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا أَوْ دَجَاجَةً يَتَرَامُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَّمَا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. وَالْغَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ وَيَرْمُونَ إِلَيْهِ لِلتَّمَرُّنِ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالسِّهَامِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ الْوَسْمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: " لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ " وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَارَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً " وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا " مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ " يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهَا " وَالْأَحَادِيثُ فِي الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ - دَعْ تَرْكَ إِيقَاعِهِ بِهِ - كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَذَّبَهَا اللهُ فِي النَّارِ بِحَبْسِ الْهِرَّةِ حَتَّى مَاتَتْ، وَحَدِيثُ الْبَغِيِّ (الْمُومِسِ) الَّتِي غَفَرَ اللهُ لَهَا إِذْ رَحِمَتْ كَلْبًا عَطْشَانَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ بِنَعْلِهَا حَتَّى سَقَتْهُ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَهْيٍ خَاصٍّ عَنْ قَتْلِ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ سَبَبٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، فَالْعَامُّ كَتَعَوُّدِ النَّاسِ قَتْلَ بَعْضِ الْحَشَرَاتِ احْتِقَارًا لَهَا بِأَدْنَى سَبَبٍ كَقَتْلِ النَّحْلِ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَسَلِ أَوِ السُّكَّرِ وَكَذَا النَّمْلُ، وَالْخَاصُّ كَالَّذِي قَالَهُ

أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِهِ فَنُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ لِيَزُولَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنِ اعْتِقَادِ التَّشَاؤُمِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْهُدْهُدَ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ الضَّارَّةَ بِالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ، كَمَا تَنْهَى الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ عَنْ قَتْلِهِ وَصَيْدِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ حَظْرِ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِجَعْلِهِ دَوَاءً مَعَارِضٌ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ الْمَنَافِعِ وَبِمَفْهُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قَتْلِ الْعُصْفُورِ عَبَثًا وَهُوَ أَصَحُّ مِنْهُ. وَجَعْلُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَاسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ دَلَائِلَ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ قَالَ الْمَهْدِيُّ (مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ) : أُصُولُ التَّحْرِيمِ إِمَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِ كَالْخَمْسَةِ (أَيِ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي وَرَدَ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ) أَوِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ كَالْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالصُّرَدِ - أَوِ اسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ كَالْخُنْفُسَاءِ وَالضُّفْدَعِ. . . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (7: 157) وَهِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَكَانَ اسْتِخْبَاثُهُمْ طَرِيقَ تَحْرِيمٍ فَإِنِ اسْتَخْبَثَهُ الْبَعْضُ اعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ وَالْعِبْرَةُ بِاسْتِطَابَةِ أَهْلِ السَّعَةِ لَا ذَوِي الْفَاقَةِ اهـ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ إِنِ اسْتَطَابَهُ أَهْلُ يَسَارٍ وَطِبَاعٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي حَالِ رَفَاهِيَةٍ حَلَّ وَإِنِ اسْتَخْبِثُوهُ فَلَا. . . . وَاشْتَرَطَ شُرَّاحُهُ أَنْ يَكُونُوا حَضَرًا لَا بَدْوًا. وَنَقُولُ: أَمَّا الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ فَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِخْبَاثُ الْعَرَبِ إِيَّاهُ فَقَدْ رَدَّهُ الْمُخَالِفُونَ لَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَبِرِ اسْتِخْبَاثَ الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ بَلْ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، وَإِنَّ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرَبِ، فَاعْتِبَارُ مَا تَسْتَقْذِرُهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ إِنِ اعْتُبِرَ اسْتِقْذَارُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَجَمِيعُهُمْ لَمْ يَسْتَقْذِرُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالْأَسَدَ وَالذِّئْبَ وَالْفَأْرَ، بَلِ الْأَعْرَابُ يَسْتَطِيبُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَإِنِ اعْتُبِرَ بَعْضُهُمْ فَفِيهِ أَمْرَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِهِمْ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ بَعْضُهُمْ. (وَثَانِيهِمَا) لِمَ كَانَ الْبَعْضُ الْمُسْتَقْذِرُ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُسْتَطِيبِ؟ وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مَا نَصُّهُ: وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ

خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ " وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُمْ يَأْكُلُونَ الضَّبَّ قَالَ: يَعَافُهُ طَبْعِي. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ، وَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ؟ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ فِي تَحْرِيمِ مَا اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ لَا أَصْلَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا مَفْهُومَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَإِحْلَالِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (7: 157) فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ مَنْعَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا وَبِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مِنْهُ كَالطَّيِّبَاتِ هُنَا آخَرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَالْأَخْفَشِ وَابْنِ فَارِسٍ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَاشْتَرَطَ لَهُ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ شُرُوطًا لَا تَتَحَقَّقُ هُنَا، أَقْوَاهَا أَلَّا يُعَارِضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ مَنْطُوقٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَقَدْ عَارَضَتْهُ هُنَا الْآيَاتُ الْقَطْعِيَّةُ، عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمَعْنَاهُ: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي كَانَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ فَقَطْ وَهِيَ مَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِالرِّبَا وَغَيْرِهِ وَمَا كَانَ خَبِيثًا مِنَ الطَّعَامِ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا. وَالْخَبِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَعَلَى الْقَبِيحِ وَالرَّدِيءِ ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (2: 267) وَكُلُّ مُحَرَّمٍ خَبِيثٌ وَمَا كُلُّ خَبِيثٍ بِمُحَرَّمٍ ; فَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ بِالشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ وَأَكْلُهُمَا مُبَاحٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ خَبِيثٍ عَلَى مَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ مَكْرُوهٌ لَا مُحَرَّمٌ. فَبِهَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُهْدَمُ هَذَا الْأَصْلُ الِاجْتِهَادِيُّ مِنْ أُصُولِ التَّحْرِيمِ الَّذِي عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا، وَإِنْ لَمْ يُطَبِّقُوا هَذَا التَّعْرِيفَ عَلَى كُلِّ مَا ادَّعَوْا حُرْمَتَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْجَهْدِ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ. وَمِنَ الثَّابِتِ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمْ أَنَّ لِلْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا تَأْثِيرًا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فَالَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى عِبَادِ اللهِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لَهُمْ وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) كَانُوا عَائِشِينَ فِي حَضَارَةٍ

يَتَمَتَّعُ أَهْلُهَا بِخَيْرَاتِ مُلْكِ الْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ فِي مَدَائِنَ كَجَنَّاتِ النَّعِيمِ كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْصَارِ فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ جَعَلُوا مَا يَسْتَقْذِرُهُ مُتْرَفُو الْعَرَبِ فِي حَضَارَتِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَى الْبَدْوِ الْبَائِسِينَ وَعَلَى خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْحَضَارَةِ لَرَاعَوْا فِي اجْتِهَادِهِمُ الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَعُمُومِهَا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْتِزَامَ ذَوْقِ مُنَعَّمِي الْعَرَبِ فِي طَعَامِهِمْ - وَلْتَذْكُرُوا أَنَّ هَذَا التَّشَدُّدَ فِي التَّحْرِيمِ يُضَيِّقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمُعْوِزُونَ أَمْرَ مَعِيشَتِهِمْ، وَالتَّوَسُّعُ فِي أَصْلِ الْإِبَاحَةِ يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُوسِرِينَ كَمَا رَاعَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ وَقَذَّرَهُ وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، إِنَّ اللهَ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ اهـ. ثُمَّ لِتَذْكُرُوا مَعَ هَذَا وَذَاكَ مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ كُنَّا نَأْخُذُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُشَدِّدِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَنَجِدُهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَحْثِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَذْوَاقِنَا وَعِيشَتِنَا. فَقَدْ نَشَأْنَا فِي بَيْتٍ لَا يَكَادُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ إِلَّا الضَّأْنَ ; وَيَعَافُونَ لَحْمَ الْبَقَرِ وَمَا تَعَوَّدْنَا أَكْلَهُ إِلَّا فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَوَابًا حَتَّى فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَلَكِنْ لَا عُذْرَ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُهُ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِمَا وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَلِ الطَّعْنِ فِيهِ وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُجِيزُ هَذَا التَّقْلِيدَ. وَيَرْضَى أَنْ يُتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّشْرِيعِ. وَلَيْسَ فِيمَا أَطَلْنَا بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ اسْتِطْرَادٌ وَلَا خُرُوجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا كُلَّ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيمِهِ مُنَافِيًا لَهَا وَبَيَّنَّا بُطْلَانَ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ نَكُنْ خَارِجِينَ عَنْ حَدِّ تَفْسِيرِهَا وَلَكِنْ مَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا كَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ وَالْخَيْلِ وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَيُعَارِضُهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ - الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بِمَا تَقَدَّمَ - هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْمُحْكَمُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا فَهِمَهَا حَبْرُ الْأُمَّةِ وَإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَعْظَمُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ مُفَسِّرِي أَهْلِ النَّظَرِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالنَّيْسَابُورِيِّ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ عِنْدَ إِنْزَالِهَا - وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - أَنَّهُ سَيَنْسَخُهَا أَوْ يُخَصِّصُ عُمُومَهَا لَمَا أَنْزَلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَلَمَا أَكَّدَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا وَأَيَّدَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِهَا وَمُؤَيِّدَاتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ: (الْأَوَّلُ) الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ آيَةُ النَّحْلِ ثُمَّ آيَةُ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ أَوَّلُ الْمَائِدَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي مَوْضُوعِ الطَّعَامِ خَاصَّةً.

(الثَّانِي) إِحْلَالُ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ لَا يَكَادُونَ يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ مِمَّا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ. (الثَّالِثُ) الْآيَاتِ الدَّالَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْعَالَمِ عَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَقَوْلِهِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (22: 65) وَفِي مَعْنَاهُ بَعْدَ ذِكْرِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (45: 13) وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ الْأَكْلِ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ فَقَالَ: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (16: 14) إِلَخْ. (الرَّابِعُ) مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ، وَهُوَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي حَظْرِ تَحْرِيمِ أَيِّ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللهِ غَيْرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ النَّحْلِ فِي الْحَصْرِ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (16: 116) وَقَالَ بَعْدَهَا بِآيَةٍ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (118) فَآيَاتُ النَّحْلِ بِمَعْنَى آيَاتِ الْأَنْعَامِ فِي جُمْلَتِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) نَصٌّ فِي نُزُولِ النَّحْلِ بَعْدَ الْأَنْعَامِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا: " أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الشَّهِيرِ بِالْجُودِ، وَكَانَ عَدِيُّ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفَرَّ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الشَّامِ، فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَمَنَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا، فَلَحِقَتْ بِهِ وَرَغَّبَتْهُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ: " بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ. وَرَوَوْا مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا بِمَعْنَى شَارِعِينَ، وَهَذِهِ عِبَادَةُ رُبُوبِيَّةٍ لَا أُلُوهِيَّةٍ، فَالشَّرْعُ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِهِمْ وَفِي بَيَانِهِمْ لِمَا بَلَغُوهُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَتُهُمْ فِي التَّبْلِيغِ وَلَكِنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ بِاللهِ أَنْ يَتَّبِعَ عَالِمًا فِي قَوْلِهِ هَذَا حَرَامٌ إِلَّا إِذَا جَاءَهُ بِبَيِّنَةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ فَعَقَلَهَا وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهَا. قَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بَعْدَ مَا نَقَلَ حَدِيثَ عَدِيٍّ وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ. يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ شَيْخَهُ رَحِمَهُ اللهُ كَانَ مُجْتَهِدًا بِحَقٍّ، وَأَمَّا هُوَ فَعَلَى تَوَسُّعِهِ فِي فَنِّ الِاسْتِدْلَالِ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ تَارَةً بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَدَلِ وَيَسْتَقِلُّ بِالِاسْتِدْلَالِ أُخْرَى. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ شَيْخِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِثْلُهُ وَلَكِنَّ كَثْرَةَ الْمُقَلِّدِينَ وَتَأْيِيدَ الْحُكَّامِ لَهُمْ قَدْ نَصَرَ بَاطِلَهُمْ عَلَى حَقِّ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ، وَلَوْلَا الْحُكَّامُ الْجَاهِلُونَ وَالْأَوْقَافُ الَّتِي وَقَفَتْ عَلَى فِقْهِ الْمَذَاهِبِ لَمْ يَتَفَرَّقِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ شِيَعًا، حَتَّى صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا وَرَدَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللهُ وَوَفَّقَهُ لِإِيثَارِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي قُرِّرَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ وَأَيَّدَتْهُ جُنُودُ اللهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْآيَاتِ تُؤَيِّدُهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَحِكْمَةُ التَّشْرِيعِ الرَّجِيحَةُ - أَمَّا السُّنَّةُ فَكَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ " مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا " وَتَلَا (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (19: 64) وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا " حَسَّنَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ فِي أَمَالِيهِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى. وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ فِي دِينٍ عَامٍّ يُطَالِبُ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهِ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا وَرَدَ مِنْ يُسْرِ شَرِيعَتِهِ وَعَدَمِ إِعْنَاتِهَا لِلْبَشَرِ، وَمَبْنِيَّةٌ عَلَى بُلُوغِ هَذَا النَّوْعِ فِي جُمْلَتِهِ دَرَجَةَ الرُّشْدِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي شُئُونِ حَيَاتِهِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالْمَعَادِيَةِ فَلَا تُقَيِّدُهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا يَزِيدُ فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ' " خَاصَّةً عُقُوبَةً لَهُمْ، لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ شَرْعِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ قَبْلُهُمْ أَوْ بَعْدَهُمْ، فَكَانَ مِنَ الْمُلْحَقِ بِالْمُسْتَثْنَى " فِي الْآيَةِ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ نَفْيِ تَحْرِيمِ أَيِّ طَعَامٍ عَلَى أَيِّ طَاعِمٍ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعَامِّ مَا حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَامًّا مُؤَبَّدًا عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ مَا حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَارِضًا عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لِسَبَبٍ خَاصٍّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ آخَرُ يُبِيحُهُ لَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

146

(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْآتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (7: 156) أَيْ رَجَعْنَا وَتُبْنَا، وَأَصْلُ الْهُودِ الرُّجُوعُ بِرِفْقٍ قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا - دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ - حَرَّمْنَا فَوْقَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إِلَخْ. وَقَوْلُنَا: " دُونَ غَيْرِهِمْ " هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ. وَالظُّفُرُ مِنَ الْأَصَابِعِ مَعْرُوفٌ، وَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَائِرٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرُوا الْمِخْلَبَ بِظُفُرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَالظُّفُرُ عَامٌّ وَالْمِخْلَبُ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ كَالْبُرْثُنِ لِلسَّبْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِعَارَةِ: أَنْشَبَتِ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا فِي فُلَانٍ - وَفِي اللِّسَانِ عَنِ اللَّيْثِ الظُّفُرُ ظُفُرُ الْأُصْبُعِ وَظُفُرُ الطَّائِرِ، وَفِيهِ: وَقَالُوا: الظُّفُرُ لِمَا لَا يَصِيدُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا يَصِيدُ أَيْ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ مِنَ الطَّيْرِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: " دَخَلَ فِي ذِي الظُّفُرِ ذَوَاتُ الْمَنَاسِمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالنَّعَامِ لِأَنَّهَا لَهَا كَالْأَظْفَارِ. وَهَذَا تَوْجِيهٌ لُغَوِيٌّ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ بِالْبَعِيرِ وَالنَّعَامَةِ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تُفْرَجْ قَوَائِمُهُ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَمَا انْفَرَجَ أَكَلَتْهُ الْيَهُودُ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْإِبِلَ وَالنَّعَامَ وَالْوَرَنِيَّةَ وَالْبَطَّ وَالَوَزَّ وَحِمَارَ الْوَحْشِ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقَالَ: وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْحَافِرِ ظُفُرًا، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ الْحَافِرَ لَذَكَرَهُ، وَجَزَمَ بِوُجُوبِ حَمْلِ الظُّفُرِ عَلَى الْمَخَالِبِ وَالْبَرَاثِنِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تُصْطَادُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ. ثُمَّ قَالَ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) فَائِدَةٌ - فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَلَّا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ، ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اهـ. وَأَقُولُ: " إِنَّ تَضْعِيفَهُ الْحَدِيثَ مَعَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ

جِهَةِ الْمَتْنِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ مُخَالَفَتَهُ لِلْقُرْآنِ وَكُلِّ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، وَهَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثِ الظَّنِّيِّ وَالْقُرْآنِ الْقَطْعِيِّ، وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. وَقَدْ فَسَّرُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (4: 160) وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ذَوَاتُ الْأَنْيَابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ طَيِّبَاتٍ بِالنَّصِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا إِبْقَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (بِظُلْمٍ) وَقَوْلِهِ (طَيِّبَاتٍ) عَلَى نَكَارَتِهِمَا، وَإِبْهَامِهِمَا، وَأَنَّ آيَةَ: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) (3: 93) مَعْنَاهَا: أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لَهُمْ وَلِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِلَّا مَا حَرَّمُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ وَكَانَ سَبَبًا لِشَدِيدِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ - وَأَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ الْيَهُودُ يَقُصُّونَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَصْدُقُ فِي بَيَانِ مَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَنْ يَمِينُ وَالْمُحَرَّمَاتُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ كَثِيرَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِينَ، (الْأَحْبَارِ) فَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ هُوَ ذُو الْأَظْلَافِ الْمَشْقُوقَةِ الَّذِي يَجْتَرُّ دُونَ غَيْرِهِ كَالْجَمَلِ وَالْوَبَرِ وَالْأَرْنَبِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِعَدَمِ انْشِقَاقِ ظِلْفِهِ وَإِنْ كَانَ يَجْتَرُّ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَرُّ وَإِنْ كَانَ مَشْقُوقَ الظِّلْفِ - وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَرَّمِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السِّبَاعِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - ثُمَّ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ وَهُوَ مَا لَهُ زَعَانِفُ. ثُمَّ بَيَانُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيْرِ وَهِيَ النَّسْرُ وَالْأَنُوقُ وَالْعُقَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأْفُ وَالْبَازِي عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالْبُومُ وَالْغَوَّاصُ وَالْكُرْكِيُّ وَالْبَجَعُ وَالْقُوقُ وَالرَّخْمُ وَاللَّقْلَقُ وَالْبَبَّغَاءُ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالْهُدْهُدُ وَالْخُفَّاشُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ذَوَاتُ أَظَافِرَ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا تُسَمَّى أَظَافِرُهُ مَخَالِبَ. وَهُوَ مَا يَصِيدُ وَيَأْكُلُ اللُّحُومَ. وَكُلُّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَجِسٌ لَهُمْ كَمَا صُرِّحَ بِهِ مِرَارًا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي إِحْصَاءِ كُلِّ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ. وَمَجْمُوعُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً فَهُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ جُمْلَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا. (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الشَّحْمُ جَوْهَرُ السِّمَنِ - أَيِ الْمَادَّةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْحَيَوَانُ سَمِينًا

وَفِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي سَنَامَ الْبَعِيرِ وَبَيَاضَ الْبَطْنِ شَحْمًا، وَشَحَمَ شَحَامَةً سَمِنَ وَكَثُرَ شَحْمُهُ فَهُوَ شَحِيمٌ، وَيَغْلِبُ الشَّحْمُ فِي عُرْفِنَا عَلَى الْمَادَّةِ الدُّهْنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى كِرْشِ الْحَيَوَانِ وَكُلْيَتَيْهِ وَأَمْعَائِهِ وَفِيهَا وَفِي سَائِرِ الْجَوْفِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَلْيَةِ وَمَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْمِ مِنَ الْمَادَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ مُوَلَّدٌ لَا نَدْرِي مَتَى حَدَثَ. وَالْحَوَايَا جَمْعُ حَاوِيَةٍ كَزَاوِيَةٍ وَزَوَايَا أَوْ حَوِيَّةٍ كَقَضِيَّةٍ وَقَضَايَا، وَفُسِّرَتْ بِالْمَبَاعِرِ وَبِالْمَرَابِضِ وَبِالْمَصَارِينِ وَالْأَمْعَاءِ، وَالْمَرَابِضُ مُجْتَمَعُ الْأَمْعَاءِ فِي الْبَطْنِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمُ الثَّرْبُ وَشَحْمُ الْكِلْيَةِ وَكُلُّ شَحْمٍ كَانَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ. وَالثَّرْبُ كَفَلْسٍ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْكِرْشِ وَالْأَمْعَاءِ. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مَا عَلَقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ. وَالْحَوَايَا: الْمَبَاعِرُ (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) قَالَ: الْأَلْيَةُ إِذَا اخْتَلَطَ شَحْمُ الْأَلْيَةِ بِالْعُصْعُصِ فَهُوَ حَلَالٌ وَكُلُّ شَحْمِ الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ. يَقُولُونَ: قَدِ اخْتَلَطَ ذَلِكَ بِعَظْمٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمُ الثُّرُوبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الْآيَةَ أَوْجَزَتْ أَبْلَغَ الْإِيجَازِ فِي بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّحُومِ وَمَا أُحِلَّ لَهُمْ، فَلِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيجَازِ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَشُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِنْهَا؟ وَمَا نُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ الْخَاصِّ فِيهَا؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِجَعْلِهِ " كَقَوْلِكَ: مِنْ زِيدٍ أَخَذْتُ مَالَهُ - تُرِيدُ بِالْإِضَافَةِ زِيَادَةَ الرَّبْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حُر‍ِّمَ عَلَيْهِمْ لَحْمُ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَشَحْمُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ وَتُرِكَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ عَلَى التَّحْلِيلِ لَمْ يُحَرَّمْ مِنْهُمَا إِلَّا الشُّحُومُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الثُّرُوبُ وَشُحُومُ الْكُلَى " اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ النُّكْتَةُ هُوَ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِمَّا أُحِلُّ لَهُمْ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا الزَّائِدَةَ الَّتِي تُنْتَزَعُ بِسُهُولَةٍ لِعَدَمِ اخْتِلَاطِهَا بِلَحْمٍ وَلَا عَظْمٍ، وَأَمَّا مَا حَمَلَتِ الظُّهُورُ أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. فَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِبَيَانِ الْحَصْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا هَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ مِنَ الشُّحُومِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامًا فِيمَنْ يَحْلِفُ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَأَكَلَ مِمَّا اسْتُثْنِيَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ مَدْلُولِ اللُّغَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْحُكْمِ هُوَ أَنَّ الْقَرَابِينَ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَكَانَ يُتَّخَذُ مِنْ شَحْمِهِمَا الْمَذْكُورِ الْوَقُودُ لِلرَّبِّ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ الشَّحْمُ الَّذِي يَغْشَى الْأَحْشَاءَ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالْأَلْيَةَ مِنْ عِنْدِ الْعُصْعُصِ (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وَقَالَ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فِي قَرَابِينِ السَّلَامَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِقِسْمَيْهِ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ مَا نَصُّهُ: " 3: 16 كُلُّ الشَّحْمِ لِلرَّبِّ 17 فَرِيضَةٌ فِي أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ لَا تَأْكُلُوا شَيْئًا مِنَ الشَّحْمِ وَلَا مِنَ الدَّمِ " اهـ.

(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) الْإِشَارَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ أَوِ الْجَزَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ جَزَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةَ بَغْيِهِمْ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَمَا هُوَ بِخَبِيثٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (كُلُّ الطَّعَامِ) أَوَّلَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) (4: 160) فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ [ص49 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ شَرِيعَةِ الْيَهُودِ مِنَ الْأَنْبَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَ مِنْهَا شَيْئًا لِأُمِّيَّتِهِمْ، وَكَانَ مَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِالْوَحْيِ وَجَزْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ بِشَرْعِ الْيَهُودِ، وَمَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ إِنَّ تَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ لَهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الْمُبَيَّنِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) فَأَكَّدَ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ وَصِدْقَ الْمُخْبِرِ بِـ " إِنَّ " وَالْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الطَّرَفَيْنِ وَلَامِ الْقَسَمِ، أَيْ صَادِقُونَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَعِلَّتِهِ، لِأَنَّ أَخْبَارَنَا صَادِرَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَيْنَا لِاسْتِحَالَةِ كُلِّ نَقْصٍ عَلَى الْخَالِقِ. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ كُفَّارُ قَوْمِكَ أَوِ الْيَهُودُ فِي هَذَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ ذِكْرًا. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ بِالذَّاتِ. إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْوَى بِالْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَرْعِهِمْ عِقَابًا لَهُمْ، لِلتَّشْدِيدِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ بَغْيِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى رَسُولِهِمْ، يُنْتَظَرُ مِنْهُمْ أَنْ يُكَذِّبُوا الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ تَعْلِيلِهِ بِمَا ذُكِرَ، وَيَحْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِ كَوْنِهِ عُقُوبَةً بِكَوْنِ الشَّرْعِ رَحْمَةً مِنَ اللهِ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدْحَضُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِإِثْبَاتِهِ لَهُمْ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى وَاسِعَةٌ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ سَعَتَهَا لَا تَقْتَضِي أَنْ يُرَدَّ بَأْسُهُ وَيُمْنَعَ عِقَابُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ، وَإِصَابَةُ النَّاسِ بِالْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ عِقَابًا عَلَى جَرَائِمَ ارْتَكَبُوهَا قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِغَيْرِهِمْ، لِيَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِهَا أَوْ لِيَتَرَبَّوْا عَلَى تَرْكِ التَّرَفِ وَالْخُنُوثَةِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُهُمْ فَيَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْجَرَائِمِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُطَّرِدَةِ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ فِي الْأَفْرَادِ لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَلِذَلِكَ قَالَ: (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْيَهُودِ لِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِبِلَ أَوْ عِرْقَ النِّسَا كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) (3: 93) وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يَغُشُّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ

148

عِنْدَمَا خَالَطُوهُمْ وَعَاشَرُوهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَجَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحْرِيمِ هُنَا. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذَا الْجَوَابِ فِي تَكْذِيبِ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِأَنَّهُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِطْمَاعٌ لَهُمْ فِي رَحْمَةِ اللهِ الْوَاسِعَةِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ ; إِذْ يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا بِحِلِّ الطَّيِّبَاتِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ الْإِسْلَامَ مِنَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ، وَسُعَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ بِكَمَالِ الِاتِّبَاعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) قَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانًا مُفَصِّلًا لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَدَحْضًا لِشُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ مَظَاهِرُ شِرْكِهِمْ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، وَخُرَافَاتٍ وَتَضْلِيلٍ، وَأَوْهَامٍ وَأَبَاطِيلَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِشُبْهَةٍ مِنْ أَكْبَرِ شُبُهَاتِهِمُ الَّتِي ضَلَّ بِمِثْلِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا أَوْرَدُوهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ السُّورَةَ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ الْعَقَائِدِ وَإِثْبَاتِهَا بِالْحُجَّةِ النَّاهِضَةِ، وَإِبْطَالِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ الدَّاحِضَةِ، مَا قِيلَ مِنْهَا، وَمَا سَيُقَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بَعْدَ نُزُولِهَا. فَذَكَرَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا بِمَا يُبْطِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِهِ بِأُمُورِ الْغَيْبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) أَيْ سَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا نُشْرِكَ بِهِ مَنِ اتَّخَذْنَا لَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَأَلَّا نُعَظِّمَ مَا عَظَّمْنَا مِنْ تَمَاثِيلِهِمْ وَصُوَرِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ وَسَائِرِ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ - وَأَلَّا يُشْرِكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا كَذَلِكَ لَمَا أَشْرَكُوا وَلَا أَشْرَكْنَا - وَلَوْ شَاءَ أَلَّا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمْنَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَغَيْرِهِمَا لَمَا حَرَّمْنَا. أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ نُشْرِكَ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ وَالشُّفَعَاءَ بِهِ وَهُمْ لَهُ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى، وَشَاءَ أَنْ نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا فَحَرَّمْنَاهَا، فَإِتْيَانُنَا مَا ذُكِرَ دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، بَلْ عَلَى رِضَاهُ وَأَمْرِهِ بِهِ أَيْضًا، - كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 28) وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ مَشِيئَتَهُ مُلْزِمَةٌ وَمُجْبِرَةٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (16: 35) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (43: 20) . وَقَدْ رَدَّ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) إِلَخْ. أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّكْذِيبِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللهِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهَا حَقُّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِرُسُلِهِمْ. أَيْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ تَكْذِيبًا جَهْلِيًّا غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَالرُّسُلُ - وَلَا سِيَّمَا خَاتَمُهُمْ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَقَامُوا الْحُجَجَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَأَيَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نَظَرَ الْإِنْصَافِ لِاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَأَصَرُّوا عَلَى جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَهُ تَعَالَى، وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فَجَعَلَهَا الرُّسُلُ نَذِيرًا لَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَمَا دُونَهُ لِغَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَةُ اللهِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي إِجْبَارًا مُخْرِجًا لِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ - وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَتُهُ لِذَلِكَ مُتَضَمِّنَةً لِرِضَاهُ عَنْ فَاعِلِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِهِ - خِلَافًا لِمَا قَالَ الرُّسُلُ - لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ تَصْدِيقًا لِلرُّسُلِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) بَيَانٌ لِلْبُرْهَانِ الْفِعْلِيِّ الْوَاقِعِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ

الرُّسُلِ فِي دَعْوَاهُمْ وَبُطْلَانِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ عَطَّلُوا شَرَائِعَهُمْ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِهَا وَبِهِمْ. وَبَعْدَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلٍ عِلْمِيٍّ عَلَى زَعْمِهِمْ فَقَالَ: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أَيْ هَلْ عِنْدَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ عِلْمٌ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَتَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا لِنَبْحَثَ مَعَكُمْ فِيهِ، وَنَعْرِضَهُ عَلَى مَا جِئْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَحْكِيَّةِ عَنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَكُمْ، وَنَنْصِبَ بَيْنَهُمَا الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيزِ وَالتَّوْبِيخِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ حَقِيقَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مَا مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ مَا تَتَّبِعُونَ فِي بَقَائِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَقِيدَةٍ وَقَوْلٍ فِي الدِّينِ وَعَمَلٍ بِهِ إِلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا لَيْسَ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ وَلَا ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ يَطْمَئِنُّ لَهَا الْقَلْبُ وَيُرَجِّحُهَا الْعَقْلُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ أَصْلَيِ الدِّينِ وَهُمَا عَقَائِدُهُ وَقَوَاعِدُ التَّشْرِيعِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا، بَلْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ وَأَضْعَفَهَا لَا يَعْدُونَهَا، وَهِيَ دَرَجَةُ الْخَرْصِ، أَيِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ الْحُكْمُ، كَخَرْصِ مَا يَأْتِي مِنَ النَّخِيلِ أَوِ الْكَرْمِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخَرْصُ عَلَى لَازِمِهِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُفَارِقَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ هُنَا. بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمْ أَدْنَى مَا يُقَالُ لَهُ عَلِمٌ، وَحَصَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الظَّنِّ، مَعَ أَنَّ أَعْلَاهَا لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ مِنْ شَيْءٍ. أَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحُجَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي لَا تَعْلُوهَا حُجَّةٌ فَقَالَ: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْحُجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَقِيمُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فَهِيَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعْنَى قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ دِينِهِمْ عَلَى أَسَاسِ الْخَرْصِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الظَّنِّ، بَعْدَ تَعْجِيزِكَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ أَوْ قَوْلٍ يَرْتَقِي إِلَى أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مَا فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَلِلَّهِ وَحْدَهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، مِمَّا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ مَحَجَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكَمِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْكَامِلَةِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَتَكْمِيلِهَا لِلنِّظَامِ الْعَامِّ، الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَكْوَانِ، الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ، إِلَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْهِدَايَةِ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِلْحَقِّ الْحَرِيصُ عَلَى طَلَبِهِ، الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ، دُونَ مَنْ أَطْفَأَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى

نُورَ فِطْرَتِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامَ عَقْلِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَشَهْوَتِهِ، الْمُعْرِضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ اسْتِكْبَارًا عَنْهَا، أَوْ حَسَدًا لِلْمُبَلِّغِ الَّذِي جَاءَ بِهَا، أَوْ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَاتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّمَا الْحُجَّةُ عِلْمٌ وَبَيَانٌ، لَا قَهْرٌ وَلَا إِلْزَامٌ، وَمَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَإِلَّا فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَقَامَ أَمْرَ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَهِيَ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ أَوِ الْقَهْرُ وَالْإِلْزَامُ - لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ بِجَعْلِكُمْ كَذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مَفْطُورِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَطَاعَةِ الرَّبِّ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) أَوْ بِخَلْقِ الطَّاعَةِ فِيكُمْ بِغَيْرِ شُعُورٍ مِنْكُمْ وَلَا إِرَادَةٍ كَجَرَيَانِ دِمَائِكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ، وَهَضْمِ مِعَدِكُمْ لِطَعَامِكُمْ، أَوْ مَعَ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَضَتِ الْحِكْمَةُ وَسَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنْ يُخْلَقَ مُسْتَعِدًّا لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنُهُ يُرَجِّحُ بَعْضَ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ عَلَى بَعْضِ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُهُ لِأَحَدِ النَّجْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَنْفِي مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى وَلَا يُعَارِضُهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) (107) وَقَوْلُهُ مِنْهَا أَيْضًا: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) (35) وَأَيْضًا (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (39) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (5: 48) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (11: 118، 119) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (10: 99) فَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كُلُّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ جَمِيعًا لَا لَهُمَا. وَقَدْ تَمَارَى الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَذَاهِبِهِمَا فِي إِنْكَارِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ كَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي نَفْيِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِثْبَاتِ الْأَشْعَرِيَّةِ لَهُمَا. وَقَدْ جَمَعْنَا فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا بَيْنَ رَدِّ الشُّبْهَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِهِمَا إِلَى الْيَوْمِ كَثِيرُونَ يَنْتَمُونَ إِلَى مَذَاهِبَ مَا لَهُمْ بِهَا مِنْ عِلْمٍ. وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَاتِ لِيُعْرَفَ مِنْهُ ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ احْتِجَاجَهُمْ كَمَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ بِعَيْنِهِ مَا نَصُّهُ: أَيْ جَاءُوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا، وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُودَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ، وَهُوَ تَكْذِيبُ اللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ اهـ.

وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ خُصُومُهُمُ الْأَشْعَرِيَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْفِ بَلْ أَثْبَتَتْ وُقُوعَ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مِمَّنْ فَعَلَهُ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ عَلَيْهِ لِإِتْيَانِهِ إِيَّاهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بِمَعْنَى الرِّضَا وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ، وَقَرَّرَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْمُشْرِكِينَ بِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِهِمْ لِمَا حَرَّمُوا، بِدَلِيلِ مَشِيئَتِهِ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ احْتَجَّ السَّلَفُ بِالْآيَةِ عَلَى مُنْكِرِي الْقَدَرِ قَبْلَ حُدُوثِ مَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَقَدْ رَوَى أَكْثَرُ مُدَوِّنِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِقَدَرٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ هَذِهِ الْآيَةُ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ الْأَخِيرَةِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَدِّ الْآيَةِ عَلَى شُبْهَتِهِمْ: أَيْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللهُ بَأْسَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ انْتَهَى. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَذَّبَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللهَ رَضِيَ مِنْهُمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، لَا بِقَوْلِهِمْ: (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَخْ. فَإِنَّهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ، أَيْ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِتَشْبِيهِهِ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِرُسُلِ اللهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارِ الشِّرْكِ، وَمَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُضْطَرِبَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ عِبَارَاتِهِ فِي الْجَلَاءِ. وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهَا أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ عِلَلًا أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ (قَالَ) : " وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ " وَمَا قَالَ هَذَا إِلَّا مِنْ شُعُورٍ بِضِعْفِ الْعِبَارَةِ وَأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْهَمُ بِسُهُولَةٍ. وَقَدْ جَارَى أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ صَاحِبَ الْكَشَّافِ عَلَى جَعْلِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ عَيْنَ شُبْهَةِ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مُبْطِلَتَيْنِ لِمَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُجْبِرَةِ جَمِيعًا، فَقَالَ فِي الِانْتِصَافِ مَا نَصُّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ اخْتِيَارَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ، وَأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى اللهِ وَرُسُلِهِ بِذَلِكَ، فَرَدَّ اللهُ قَوْلَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ عَدَمَ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُمْ بِهَذَا الْخَيَالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ وَأَشْرَكَ بِاللهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى أَنَّهُ

149

إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَرَامَ إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ لَهُ لَا لَهُمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) ثُمَّ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّ كُلًّا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنْهُمْ إِلَّا مَا صَدَرَ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مِنْهُمُ الْهِدَايَةَ لَاهْتَدَوْا أَجْمَعُونَ بِقَوْلِهِ: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَحَضَّ وَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَتَلَخَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَعُمُومِ تَعَلُّقِهَا بِكُلِّ كَائِنٍ عَنِ الرَّدِّ وَيَنْصَرِفَ الرَّدُّ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى إِقَامَتِهِمُ الْحُجَّةَ بِذَلِكَ. وَإِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ وَجَدْتَهَا كَافِيَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْهُورٌ عَلَيْهَا، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُجْبِرَةِ، وَالْمُصَنِّفُ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ فَيُسَمِّي أَهْلَ السُّنَّةِ مُجْبِرَةً وَإِنْ أَثْبَتُوا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً ; لِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُونَهَا مُقَارِنَةً لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، مُمَيِّزَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَفْعَالِهِ الْقَسْرِيَّةِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ سِوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْبِرَةِ وَيَجْعَلُهُ لَقَبًا عَامًّا لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَجِمَاعُ الرَّدِّ عَلَى الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ مَيَّزْنَاهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ رَدٌّ صُرَاحٌ عَلَى طَائِفَةِ الِاعْتِزَالِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَاءَ الْهِدَايَةَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ تَقَعْ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ (لَوْ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ نَفَتْهُ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: (فَلَوْ شَاءَ) لَمْ يَكُنِ الْوَاقِعُ أَنَّهُ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ، وَلَوْ شَاءَهَا لَوَقَعَتْ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِبُطْلَانِ زَعْمِهِمْ وَمَحَلِّ عَقْدِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ عَقِيدَةِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ: الْمُجْبِرَةِ فِي أَوَّلِهَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي آخِرِهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ السُّنَّةِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا ; فَإِنَّ أَوَّلَهَا كَمَا بَيَّنَّا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ حُجَّتَهُ وَعُذْرَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَآخِرُهَا يُثْبِتُ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ فِي الْعَبْدِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ خَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ عَيْنُ عَقِيدَتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ كَمَا يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَهُمَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثُبُوتَهُمَا قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِ، مُلْزِمٌ لَهُ بِالطَّاعَةِ عَلَى وَفْقِ اخْتِيَارِهِ، وَيُثْبِتُونَ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ أَيْضًا وَقُدْرَتَهُ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ، يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَ وَيَنْفُونَ مَا نَفَى، مُؤَيِّدُونَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ أَجَادَ إِلَّا فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، فَهَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْأَثَرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَبَعْضُ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِهِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ

150

الَّذِي رَبَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالْوُجْدَانِ وَالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِهِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُطَالِبَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَسَاهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي إِثْبَاتِ تَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ الْحَزْرِ وَالْخَرْصِ لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ وَلَا الشُّهُودِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّقْلِ عَنْ ذِي عِلْمٍ شُهُودِيٍّ فَقَالَ لَهُ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا) أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ عِلْمٍ شُهُودِيٍّ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الَّذِي زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ، وَهُوَ طَلَبُ تَعْجِيزٍ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ، فَهُوَ كَالِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَبْلَهُ، وَكَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا) (144) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ هَاتُوا شُهَدَاءَ لِيُحْضِرُوا أَيَّ امْرِئٍ يَقُولُ مَا شَاءَ، فَإِضَافَةُ الشُّهَدَاءِ إِلَيْهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ إِحْضَارُهُ هُوَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ تَتَلَقَّى عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَجْعَلُ النَّظَرِيَّاتِ كَالْمَشْهُودَاتِ بِالْحِسِّ، أَوْ كَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الدِّينَ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُونُوا أَنْتُمْ عَلَى عِلْمٍ تُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ عِنْدَكُمْ شُهَدَاءُ تَلَقَّيْتُمْ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فَأَحْضِرُوهُمْ لَنَا، لِيَدُلُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي قَلَّدْتُمُوهُمْ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أَيْ فَإِنْ فُرِضَ إِحْضَارُ شُهَدَاءَ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، أَيْ فَلَا تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ وَلَا تُسِلِّمْهَا لَهُمْ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهَا فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْبَاطِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ كَالشَّهَادَةِ بِهِ، بَلْ بَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ زَعْمِهِمُ الَّذِي سَمَّوْهُ شَهَادَةً - فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْفُرُوضِ تُذْكَرُ لِأَجْلِ التَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَتْ كَمَا يَزْعُمُ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ فِيهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أَيْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ لَمْ يَقُلْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، لِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ - إِصْرَارًا عَلَى تَقَالِيدِهِ الْبَاطِلَةِ - إِنَّمَا يَكُونُ صَاحِبَ هَوًى وَظَنٍّ لَا صَاحِبَ عِلْمٍ وَحُجَّةٍ. (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أَيْ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَيَحْمِلُهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فَيَتَّخِذُونَ لَهُ مَثَلًا وَعِدْلًا يُعَادِلُهُ وَيُشَارِكُهُ فِي جَلْبِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِقْلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَبِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ " هَلُمَّ " اسْمٌ بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَالِيَةِ

151

نَجْدٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ أَصْلَهُ " هَا " الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَ " لُمَّ " الَّتِي بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَفِعْلُهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَيُقَالُ: هَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا. (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ بِهِ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّعَامِ - ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَجَامِعَهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ وَالْبِرِّ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أَيْ قُلْ - أَيُّهَا الرَّسُولُ - لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْخَرْصِ وَلِلتَّخْمِينِ فِي دِينِهِمْ، وَلِلْهَوَى فِيمَا يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَيْضًا بِمَا لَكَ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ: تَعَالَوْا إِلَيَّ وَأَقْبِلُوا عَلَيَّ أَتْلُ وَأَقْرَأْ لَكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الرَّبَّ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا أَنَا

مُبَلِّغٌ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، أَرْسَلَنِي لِذَلِكَ وَعَلَّمَنِي - عَلَى أُمِّيَّتِي - مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ، وَأَيَّدَنِي بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ خَصَّ التَّحْرِيمَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي بَيَّنَ بِهَا التِّلَاوَةَ أَعَمُّ لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يُحَرِّمَ غَيْرُ اللهِ ; وَلِأَنَّ بَيَانَ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّ مَا عَدَاهَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأُصُولِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ هَذَا الْحَلَالِ الْعَامِّ. وَأَصْلُ (تَعَالَوْا) وَ (تَعَالَ) الْأَمْرُ مِمَّنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَنْ دُونَهُ بِأَنْ يَتَعَالَى وَيَصْعَدَ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْأَمْرِ فِي الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا. وَاسْتِعْمَالُ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ مِنْ ضُرُوبِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ إِلَّا إِذَا كَثُرَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَرِينَةٍ، وَلَمْ يُنْظُرْ فِيهِ إِلَى عَلَاقَةٍ كَهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهِيَ فِيهِ خِطَابٌ مِمَّنْ هُوَ فِي أَعْلَى مَكَانٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى لِمَنْ هُمْ فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَمُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَسْمُو إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْجَهْلِ وَالْآثَامِ. وَقَوْلُهُ: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا حَرَّمَ الرَّبُّ وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضَهُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ، وَبَعْضَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ حَسَبَ مَا تَقْضِيهِ الْبَلَاغَةُ كَمَا سَيَأْتِي، وَ " أَنْ " تَفْسِيرِيَّةٌ، وَنَدَعُ النُّحَاةَ فِي اضْطِرَابِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ مَا فِي حَيِّزِهَا مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، فَنَحْنُ لَا يَعْنِينَا إِلَّا فَهْمُ الْمَعَانِي مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ كَانَ صَحِيحًا مُطَّرِدًا، وَمَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَسَنُرِيكَ فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، مَا يُغْنِيكَ عَنْ تَحْقِيقِ السَّعْدِ، وَحَلِّ إِشْكَالَاتِ أَبِي حَيَّانَ. بَدَأَ تَعَالَى هَذِهِ الْوَصَايَا بِأَكْبَرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْظَعِهَا وَأَشَدِّهَا إِفْسَادًا لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لَهُ، أَوِ الشُّفَعَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ فِي إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفِينَ لَهَا فِي الْأَعْمَالِ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ وَأَصْنَامٍ أَوْ قُبُورٍ - أَوْ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ الْأَحْكَامَ، وَيَتَحَكَّمُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - وَكَذَا مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ الْخَفِيُّ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ - وَكُلُّ ذَلِكَ وَاضِحٌ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَتَفْسِيرِهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَوَّلُ مَا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ - أَوْ - أَوَّلُ مَا وَصَّاكُمْ بِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَاحِقُ الْكَلَامِ، هُوَ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فِي الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ عَظِيمَةً فِي الْقَدْرِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَإِنَّمَا عِظَمُ الْأَشْيَاءِ الْعَاقِلَةِ وَغَيْرِ الْعَاقِلَةِ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مِنْ خَلْقِ اللهِ وَمُسَخَّرَةً بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ الْعَاقِلِ مِنْهَا مِنْ عَبِيدِهِ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) - أَوْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ صَغِيرَهُ أَوْ كَبِيرَهُ - وَمُقَابِلُهُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَا بِأَهْوَائِكُمْ، وَلَا بِأَهْوَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَمْثَالِكُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ

الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ. (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ وَالثَّانِي مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا كَامِلًا لَا تَدَّخِرُونَ فِيهِ وُسْعًا، وَلَا تَأْلُونَ فِيهِ جَهْدًا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْإِسَاءَةِ وَإِنْ صَغُرَتْ، فَكَيْفَ بِالْعُقُوقِ الْمُقَابِلِ لِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْقِرَانُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي أَوْسَعُ تَفْصِيلٍ فِيهِ فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ " أُفٍّ " لَهُمَا وَقَدِ اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْإِحْسَانِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَابِلِهِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْإِسَاءَةُ مُطْلَقًا، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فَيَحْتَاجَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فِي مَقَامِ الْإِيجَازِ ; لِأَنَّهَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْآدَابُ الْمَرْعِيَّةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَعَدَّى بِـ " الْبَاءِ " وَ " إِلَى " فَيُقَالُ: أَحْسِنْ بِهِ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَالْأُولَى أَبْلَغُ، فَهُوَ بِالْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى أَلْيَقُ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنْتَ بِهِ هُوَ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ بِرُّكَ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِكَ، وَيَلْتَصِقُ بِهِ مُبَاشَرَةً عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْكَ وَعَدَمِ انْفِصَالٍ عَنْكَ - وَأَمَّا مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تُسْدِي إِلَيْهِ بِرَّكَ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ يُسَاقُ إِلَيْهِ سَوْقًا. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي تَعْبِيرَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) (12: 100) . (وَالثَّانِي) التَّعْبِيرُ بِالْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَرْبَعِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ عَطَفَ فِيهِمَا ذُو الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِالتَّبَعِ - وَالْأَنْعَامِ وَالْإِسْرَاءِ. وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (46: 15) كَمَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مِنَ السَّبْعَةِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (حُسْنًا) كَآيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي رُوِيَتْ كَلِمَةُ إِحْسَانًا فِيهَا مِنَ الشَّوَاذِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ فِيهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنَا. وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وَلَوْ غَيْرَ مُكَرَّرٍ لَكَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ عِنَايَةِ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ، بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ وَالتَّعْدِيَةُ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَرَنَهُ بِعِبَادَتِهِ وَجَعَلَهُ ثَانِيهَا فِي الْوَصَايَا، وَأَكَّدَهُ بِمَا أَكَّدَهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي وَصِيَّةِ سُورَةِ لُقْمَانَ فَقَالَ: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (31: 14) وَوَرَدَ فِي مَعْنَى التَّنْزِيلِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَكْتَفِي مِنْهَا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "

الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا " وَفِي رِوَايَةٍ لِوَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ: " قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " فَقَدَّمَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ. ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَعَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي بِرِّ وَالِدَيْهِ وَالْإِحْسَانِ بِهِمَا كَانَ فَاسِدَ الْفِطْرَةِ مِضْيَاعًا لِلْحُقُوقِ كُلِّهَا فَلَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ لِأَحَدٍ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى جَعَلُوا مِنْ مُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَعَهُمَا كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ مَعَ السَّيِّدِ الْقَاسِي الظَّالِمِ، وَقَدْ أَطْمَعُوا بِذَلِكَ الْآبَاءَ الْجَاهِلِينَ الْمَرِيضِي الْأَخْلَاقِ حَتَّى جَرَّءُوا ذَا الدِّينِ مِنْهُمْ عَلَى أَشَدِّ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ ضُعَفَاءُ الدِّينِ مِنَ الْقَسْوَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فِي الصِّغَرِ، وَإِلْجَاءٌ لَهُمْ إِلَى الْعُقُوقِ فِي الْكِبَرِ، وَإِلَى ظُلْمِ أَوْلَادِهِمْ كَمَا ظَلَمَهُمْ آبَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ وَتَحَكُّمِهِمَا فِي شُئُونِهِمْ وَلَا سِيَّمَا تَزْوِيجُهُمْ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ صَفْحَةَ 70 وَمَا بَعْدَهَا ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَكَمْ أَفْسَدَتِ الْأُمَّهَاتُ بَنَاتِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّهِمَا وَاحْتِرَامِهِمَا احْتِرَامَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ، لَا احْتِرَامَ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَسَنُفَصِّلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا. (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أَيْ وَالثَّالِثُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ - مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ - أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمُ الصِّغَارَ مِنْ فَقْرٍ وَاقِعٍ بِكُمْ لِئَلَّا تَرَوْهُمْ جِيَاعًا فِي حُجُورِكُمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، أَيْ وَيَرْزُقُهُمْ بِالتَّبَعِ لَكُمْ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (17: 31) فَقَدَّمَ رِزْقَ الْأَوْلَادِ هُنَالِكَ عَلَى رِزْقِ الْوَالِدَيْنِ - عَكْسُ مَا هُنَا - لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَكُونُ الْأَوْلَادُ فِيهِ كِبَارًا كَاسِبِينَ. وَقَدْ يَصِيرُ الْوَالِدُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْكَسْبِ بِالْكِبَرِ. فَفَرَّقَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ وَالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ، فَقَدَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمَانَ الْكَاسِبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كَسْبَ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلرِّزْقِ خِلَافًا لِمَنْ يُزَهِّدُونَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِشِبْهِ كَفَالَتِهِ تَعَالَى لِرِزْقِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّكْتَةَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) (137) . (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أَيْ وَالرَّابِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْرَبُوا مَا عَظُمَ قُبْحُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْخِصَالِ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَنِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهَا سُمِّيَ فِي التَّنْزِيلِ فَاحِشَةً، فَهُوَ مِمَّا ثَبَتَتْ شِدَّةُ قُبْحِهِ شَرْعًا

وَعَقْلًا، وَلِذَلِكَ يَسْتَتِرُ بِفِعْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَهُمَا، وَقَلَّمَا يُجَاهِرُ بِهِمَا إِلَّا الْمُسْتَوْلِغُ مِنَ الْفُسَّاقِ الَّذِي لَا يُبَالِي ذَمًّا وَلَا عَارًا إِذَا كَانَ مَعَ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمَا لَدَى خِيَارِ النَّاسِ وَفُضَلَائِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ الزِّنَا وَيَعُدُّونَهُ أَكْبَرَ الْعَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ مِنَ الْحَرَائِرِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْهُنَّ نَادِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُجَاهِرُ بِهِ الْإِمَاءُ فِي حَوَانِيتَ وَمَوَاخِيرَ تَمْتَازُ بِأَعْلَامٍ حُمْرٍ فَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا أَرَاذِلُهُمْ، وَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ فَيَزْنُونَ سِرًّا مِمَّنْ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَخْدَانِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) (4: 25) وَالْخِدْنُ الصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيُعَبِّرُونَ بِمِصْرَ عَنْ خِدْنِ الْفَاحِشَةِ بِالرَّفِيقَةِ وَالرَّفِيقِ، وَعَنِ الْمُخَادَنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ، وَهُوَ عِنْدَ فُسَّاقِهِمْ فَاشٍ وَلَا سِيَّمَا الْأَغْنِيَاءُ مِنْهُمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِالزِّنَا فِي السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللهُ الزِّنَا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، أَيْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْفَوَاحِشِ بِبَعْضِ أَفْرَادِهَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ (قَالَ) : الْعَلَانِيَةُ. وَمَا بَطَنَ. . قَالَ: السِّرُّ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا ظَهَرَ مِنْهَا نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَرَأَيْتُمُ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَشَارِبَ الْخَمْرِ مَا تَقُولُونَ فِيهِمْ "؟ - قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الرَّهَاوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلَاهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَسْأَلَةُ النَّاسِ مِنَ الْفَوَاحِشِ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فَإِذَا نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ. نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا: وَلَدَتْ لَهُ: وَأَخْرَجَ هُوَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ. مَا ظَهَرَ مِنْهَا ظُلْمُ النَّاسِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ. أَيْ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَهَا فِي الْخَفَاءِ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ " فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي جُمْلَتِهِمْ يَحْمِلُونَ الْفَوَاحِشَ عَلَى عُمُومِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْهَا أَمْثِلَةٌ لَا تَخْصِيصٌ. وَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (120) مِنَ الْوُجُوهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا فَيُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (120) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا الْجُزْءِ، إِلَّا أَنَّ الْإِثْمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَاحِشَةِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ ضَارٍّ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فَحُشَ قُبْحُهُ أَمْ لَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحْسِنِينَ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (53: 32) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 33) قِيلَ: إِنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكُلِّيَّةَ وَهِيَ عَلَى التَّرَقِّي فِي قُبْحِهَا كَمَا سَيَأْتِي

فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا. (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ وَالْخَامِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَوِ الْعَهْدِ أَوِ الِاسْتِئْمَانِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا الْحَرْبِيَّ. وَيُطْلَقُ الْعَهْدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ وَإِيذَائِهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدَ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللهِ فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ خَرِيفًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا بِالْحَقِّ) هُوَ مَا يُبِيحُ الْقَتْلَ شَرْعًا كَقَتْلِ الْقَاتِلِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ. (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَصَايَا الْخَمْسِ الَّتِي تُلِيَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّامُ فِيهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُعْدِ مَدَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصَايَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ - أَوْ بَعْدَهَا عَنْ مُتَنَاوَلِ أَوْضَاعِ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْأُمِّيَّةِ. وَالْوَصِيَّةُ مَا يُعْهَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَرْكِ شَرٍّ بِمَا يُرْجَى تَأْثِيرُهُ، وَيُقَالُ: أَوْصَاهُ وَوَصَّاهُ. وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ عِبَارَةً عَمَّا يُطْلَبُ مِنْ عَمَلٍ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ. وَأَصْلُ مَعْنَى " وَصَى " الثُّلَاثِيِّ " وَصَلَ "، وَمُوَاصَاةُ الشَّيْءِ مُوَاصَلَتُهُ. وَهُوَ خَاصٌّ بِالنَّافِعِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. يُقَالُ: وَصَى النَّبْتُ اتَّصَلَ وَكَثُرَ، وَأَرْضٌ وَاصِيَةُ النَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُدُرَيْدٍ فِي وَصْفِ صَيِّبِ الْمَطَرِ. جَوْنٌ أَعَارَتْهُ الْجَنُوبُ جَانِبًا ... مِنْهَا وَوَاصَتْ صَوْبَهُ يَدُ الصَّبَا أَيْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْدَادِكُمْ وَبَاعِثِ الرَّجَاءِ فِي أَنْفُسِكُمْ لِأَنْ تَعْقِلُوا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَنْفَعَةُ فِي تَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ وَإِدْرَاكِ الْعُقُولِ لَهُ بِنَظَرِهَا، وَإِذَا هِيَ عَقَلَتْ ذَلِكَ كَانَ عَاقِلًا لَهَا وَمَانِعًا مِنَ الْمُخَالَفَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا تُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ لِلْأَنْظَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ مُصْلِحَةٌ. (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أَيْ وَالسَّادِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ فِيمَا حَرَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيتُمْ أَمْرَهُ أَوْ تَعَامَلْتُمْ بِهِ وَلَوْ بِوَسَاطَةِ وَصِيِّهِ أَوْ وَلِيِّهِ، إِلَّا بِالْفِعْلَةِ أَوِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا يُفْعَلُ بِمَالِهِ، مِنْ حِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ

152

وَتَنْمِيَتِهِ وَرُجْحَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ مَعَاشُهُ وَمَعَادُهُ، وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهِ وَتُوقِعُ فِيهِ، وَعَنِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فِيهِ، فَيَحْذَرُهَا التَّقِيُّ إِذْ يَعُدُّهَا هَضْمًا لِحَقِّ الْيَتِيمِ، وَيَقْتَحِمُهَا الطَّامِعُ إِذْ يَرَاهَا بِالتَّأْوِيلِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ لِعَدَمِ ضَرَرِهَا بِالْيَتِيمِ، أَوْ لِرُجْحَانِ نَفْعِهَا لَهُ عَلَى ضَرَرِهَا، كَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِوَسِيلَةٍ لَهُ فِيهِ رِبْحٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فِي عَمَلٍ لَوْلَاهُ لَمْ يَرْبَحْ وَلَمْ يَخْسَرْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ فِي الْيَتَامَى مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَتَفْسِيرِ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (2: 220) مِنَ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ هُنَا فِي تَحْرِيرِ مَسْأَلَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَمُخَالَطَتِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَالْمُعَامَلَةِ. (رَاجِعْ ص271 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) هُوَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ هَذَا الْقُرْبِ لِمَالِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْهِيبِ عَنِ التَّعَامُلِ فِيهِ - أَوْ غَايَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ النَّهْيَ مِنْ إِيجَابِ حِفْظِ مَالِهِ حَتَّى مِنْهُ هُوَ ; فَإِنَّ الْوَلِيَّ أَوِ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْمَحَ لِلْيَتِيمِ بِتَبْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِضَاعَتِهِ أَوِ الْإِسْرَافِ فِيهِ. وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهِ سِنَّ الرُّشْدِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ يَتِيمًا أَوْ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ، أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، أَوْ لَهُ وَاحِدٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْأَشُدُّ مَبْلَغُ الرَّجُلِ الْحِنْكَةَ وَالْمَعْرِفَةَ - وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِنَا أَوْ حُجَّةٌ لَهُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ: بَلَغَ الرَّجُلُ أَشُدَّهُ إِذَا اكْتَهَلَ، وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ أَقْوَالًا فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ بَلَغَتْ ثُلْثَيْ وَرَقَةٍ مِنْهُ، وَمُلَخَّصُ الْمَعْنَى أَنَّ لَهُ طَرَفَيْنِ أَدْنَاهُمَا الِاحْتِلَامُ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ سِنِّ الْقُوَّةِ وَالرُّشْدِ، وَنِهَايَتُهُ سِنُّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ الْكُهُولَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ لِلْمَرْءِ حِنْكَتُهُ وَتَمَامُ عَقْلِهِ - قَالَ - فَبُلُوغُ الْأَشُدِّ مَحْصُورُ الْأَوَّلِ مَحْصُورُ النِّهَايَةِ غَيْرُ مَحْصُورِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: يَعْنِي حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَالِاحْتِلَامُ يَكُونُ غَالِبًا بَيْنَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَشُدُّ سِنُّ الثَّلَاثِينَ، وَقِيلَ: سِنُّ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: السِّتِّينَ. وَالْأَخِيرُ بَاطِلٌ، وَمَا قَبْلَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (46: 15) وَلَكِنْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا لَا يَظْهَرُ هُنَا. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَيْهِ وَهَضْمٍ لَهُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ الْخَطَابَ فِيهِ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ خَاصَّةً، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ جَعْلُ (حَتَّى) غَايَةً لِلنَّهْيِ، وَجَعْلُ " الْأَشُدِّ " بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ سِنُّ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ بِالتَّجَارِبِ، وَالْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالِاحْتِلَامِ يَكُونُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ قَلِيلَ التَّجَارِبِ فَيُخْدَعُ كَثِيرًا. وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ

لَا يَحْتَرِمُونَ إِلَّا الْقُوَّةَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ إِلَّا لِلْأَقْوِيَاءِ، فَلِذَلِكَ بَالَغَ الشَّرْعُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالضَّعِيفَيْنِ: الْمَرْأَةِ، وَالْيَتِيمِ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْقُوَّةُ الَّتِي يَحْفَظُ بِهَا الْمَرْءُ مَالَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ قُوَّةَ الْبَدَنِ مَعَ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ قَلَّمَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ، وَأَمَّا هَذَا الزَّمَانُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ فِيهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ رَشِيدًا فِي أَخْلَاقِهِ وَعَقْلِهِ وَتَجَارِبِهِ لِكَثْرَةِ الْغِشِّ وَالْحِيَلِ، وَإِنَّ سَفَهَ الشُّبَّانِ الْوَارِثِينَ فِي مِصْرَ مَضْرِبُ الْمَثَلِ، فَأَكْثَرُ الشُّبَّانِ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَغْنِيَاءِ مُسْرِفُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، فَمَتَى مَاتَ مَنْ يَرِثُونَهُ أَقْبَلَ عَلَى مُعَاشَرَتِهِمْ أَخْدَانُ الْفِسْقِ وَسَمَاسِرَتُهُ وَمَنْهُومُو الْقِمَارِ، فَلَا يَتْرُكُونَهُمْ إِلَّا فُقَرَاءَ مَنْبُوذِينَ، وَقَلَّمَا يَسْتَيْقِظُ أَحَدُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِ إِلَّا مِنْ سِنِّ الْكُهُولَةِ الَّتِي يَكْمُلُ فِيهَا الْعَقْلُ وَتُعْرَفُ تَكَالِيفُ الْحَيَاةِ الْكَثِيرَةُ وَيُهْتَمُّ فِيهَا بِأَمْرِ النَّسْلِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّرْعُ لِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ سِنَّ الْحُلُمِ وَالرُّشْدِ مَعًا، وَظُهُورَ رُشْدِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ بِالِاخْتِبَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) إِلَى قَوْلِهِ: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (4: 6) وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أَيْ وَالسَّابِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَنْ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ لِلنَّاسِ أَوِ اكْتَلْتُمْ عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْمِيزَانُ إِذَا وَزَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِيمَا تَبْتَاعُونَ أَوْ لِغَيْرِكُمْ فِيمَا تَبِيعُونَ، فَلْيَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ وَافِيًا تَامًّا بِالْقِسْطِ أَيِ الْعَدْلِ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (83: 2، 3) أَيْ يُنْقِصُونَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ. فَهَذَا هُوَ النَّهْيُ الْمُقَابِلُ لِلْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ، فَالْجُمْلَةُ مُوجَزَةٌ، فَكَلِمَةُ (بِالْقِسْطِ) هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ الْإِيفَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ، أَيْ أَوْفُوا مُقْسِطِينَ أَوْ مُلَابِسِينَ لِلْقِسْطِ مُتَحَرِّينَ لَهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ يُقْسَطُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَأَيْنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ! لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الْمِائَةِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ بِلَادِنَا هَذِهِ بَائِعًا يُوفِي الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ لِمُبْتَاعٍ يُسَلِّمُ الْأَمْرَ لَهُ وَيَرْضَى بِذِمَّتِهِ. (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حُكْمِ مَا يَعْرِضُ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالْوَرَعِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ فِي الْإِيفَاءِ ; فَإِنَّ أَقَامَّةَ الْقِسْطِ أَمْرٌ دَقِيقٌ جِدًّا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَوَازِينَ كَمِيزَانِ الذَّهَبِ الَّذِي يَضْبِطُ الْوَزْنَ بِالْحَبَّةِ وَمَا دُونَهَا، وَفِي الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْحُبُوبِ وَالْخُضَرِ وَالْفَاكِهَةِ حَرَجٌ عَظِيمٌ يَخْطُرُ فِي بَالِ الْوَرِعِ السُّؤَالُ عَنْ حُكْمِهِ، فَكَانَ جَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا مَا يَسَعُهَا فِعْلُهُ بِأَنْ تَأْتِيَهُ بِغَيْرِ عُسْرٍ وَلَا حَرَجٍ، فَهُوَ لَا يُكَلِّفُ مَنْ يَشْتَرِي أَوْ يَبِيعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَنَحْوِهَا أَنْ يَزِنَهُ وَيَكِيلَهُ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ حَبَّةً وَلَا مِثْقَالًا، بَلْ يُكَلِّفُهُ أَنْ يَضْبِطَ الْوَزْنَ وَالْكَيْلَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ يُعْتَدُّ بِهِ عُرْفًا. وَقَاعِدَةُ الْيُسْرِ

وَحُصْرِ التَّكْلِيفِ بِمَا فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الْعُسْرِ، مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ هَذَا الشَّرْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَقْوَى أَسَاسٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَلَا يُسَاوِيهِ فِيهِ قَانُونٌ مِنْ قَوَانِينِ الْخَلْقِ، وَلَوْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ مُعَامَلَتِهِمْ وَعَظُمَتِ الثِّقَةُ وَالْأَمَانَةُ بَيْنَهُمْ، وَكَانُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ وَالْمُفْسِدِينَ. وَمَا فَسَدَتْ أُمُورُهُمْ وَقَلَّتْ ثِقَتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا ثِقَتُهُمْ بِالْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ إِلَّا بِتَرْكِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا، ثُمَّ تَجِدُ بَعْضَ الْمَارِقِينَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ يَهْذُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ دِينَنَا هُوَ الَّذِي أَخَّرَنَا وَقَدَّمَ غَيْرَنَا! ! . قَدْ قَصَّ التَّنْزِيلُ عَلَيْنَا فِيمَا قَصَّ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ لِنَعْتَبِرَ وَنَتَّعِظَ بِهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِمَا كَانَ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا التَّطْفِيفَ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ: " إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا هَلَكَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ وَقَالَ: إِنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَرَوَى غَيْرُهُ مَا يُؤَيِّدُهُ. (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أَيْ وَالثَّامِنُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ هُوَ أَنْ تَعْدِلُوا فِي الْقَوْلِ إِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فِي شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمٍ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَقُولُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ صَاحِبَ قَرَابَةٍ مِنْكُمْ، فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْأَفْعَالِ كَالْوَزْنِ وَالْكَيْلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ شُئُونُ النَّاسِ، فَهُوَ رُكْنُ الْعُمْرَانِ وَأَسَاسُ الْمُلْكِ وَقُطْبُ رَحَى النِّظَامِ لِلْبَشَرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُحَابِيَ فِيهِ أَحَدًا لِقَرَابَتِهِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ الْمُوجَزَ بِآيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ أُولَاهُمَا قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (4: 135) إِلَخْ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) (5: 8) إِلَخْ. فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ وَمُنْتَصَفِ الْجُزْءِ السَّادِسِ (ص370 ج 5 وَمَا بَعْدَهَا وَص226 ج 6 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) . (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أَيْ وَالتَّاسِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَنْ تُوفُوا بِعَهْدِ اللهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا عَهِدَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَبِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْوُجْدَانِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَمَا يُعَاهِدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَمَا يُعَاهِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْحَقِّ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ) (20: 115) وَقَالَ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (36: 60) وَقَالَ أَيْضًا وَهُوَ مِنَ الثَّانِي: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (16: 91) وَقَالَ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (2: 100) وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (2: 177) فَكُلُّ مَا وَصَّى اللهُ بِهِ وَشَرَعَهُ

لِلنَّاسِ فَهُوَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ. وَمَنْ آمَنَ بِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ فَقَدْ عَاهَدَ اللهَ - بِالْإِيمَانِ بِهِ - أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ فَهُوَ عَهْدٌ عَاهَدَ رَبَّهُ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) (9: 75، 76) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَاهَدَ الْإِمَامَ وَبَايَعَهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، أَوْ عَاهَدَ غَيْرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ، وَالسُّلْطَانُ يُعَاهِدُ الدُّوَلَ - فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ مِنْ عَهْدِ اللهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا عُقِدَ بِاسْمِهِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِهِ، وَكَذَا تَنْفِيذُ شَرْعِهِ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ هُنَا تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْفِعْلِ " أَوْفُوا " عَلَيْهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْحَصْرُ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ، وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُمْ أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ تَفْسِيرُهُمْ لِلْعَهْدِ، بِهَذِهِ الْوَصَايَا أَوْ بِكُلِّ مَا عَهِدَ اللهُ إِلَى النَّاسِ، عَلَى أَنْ تَدْخُلَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي قَاصِرٌ. أَمَّا بُطْلَانُ الْأَوَّلِ ; فَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنَ الْوَصَايَا الْمَقْصُودَةِ الْمَعْدُودَةِ وَلَهُ مَعْنًى خَاصٌّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ عَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا قُصُورُ الثَّانِي، فَظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ. فَالْعَهْدُ إِذًا عَامٌّ لِكُلِّ مَا شَرَعَ اللهُ لِلنَّاسِ، وَكُلِّ مَا الْتَزَمَهُ النَّاسُ مِمَّا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُ شَرْعَهُ، وَيُقَابِلُهُ مَا لَا يُرْضِي اللهَ مِنْ عَهْدٍ كَنَذْرِ الْحَرَامِ، وَالْحَلِفِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمُعَاهَدَةِ الْحَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِلْأُمَّةِ وَهَضْمٌ لِمَصَالِحِهَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي. فَحَصَرَ اللهُ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ فِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُرْضِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُ هَذَا الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْخِطُهُ. وَنَكْتَفِي مِنَ السُّنَّةِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا - إِذَا حَدَّثَ كَذِبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ". (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (تَذْكُرُونَ) مُخَفَّفَةً مِنَ الذِّكْرِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَمَا قِيلَ ; فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنَ الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ تُعْطِي مَعَانِيَ خَاصَّةً وَيُتَجَوَّزُ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَصِحُّ فِي بَعْضٍ، فَالذِّكْرُ يُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ عَلَى إِخْطَارِ مَعْنَى الشَّيْءِ أَوْ خُطُورِهِ فِي الذِّهْنِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَعَلَى النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ اللِّسَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ، وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (43: 44) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَبِهِ يُسَمَّى الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ذِكْرًا، وَمِنْهُ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

153

وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَمَعْنَاهُ تَكَلُّفُ ذِكْرِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، أَوِ التَّدَرُّجِ فِيهِ بِفِعْلِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّعَاظِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (40: 13) وَقَوْلُهُ: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (87: 10) وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ، وَمِثْلُهُ الِادِّكَارُ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَالِافْتِعَالُ يَقْرُبُ مِنَ التَّفَعُّلِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِفَادَةُ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلَّانِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الْمَتْلُوُّ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي - الْبَعِيدَةِ مَدَى الْفَائِدَةِ وَمَسَافَةِ الْمَنْفَعَةِ لِمَنْ قَامَ بِهَا - وَصَّاكُمُ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ رَجَاءَ أَنْ تَذْكُرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ لَكُمْ، فَيَحْمِلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، أَوْ رَجَاءَ أَنْ يُذَكِّرَهُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّوَاصِي الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (103: 3) وَلِكُلٍّ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسِيِّ وَاللِّسَانِيِّ وَجْهٌ هُنَا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا - وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَعَانِي التَّذَكُّرِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَصَّاكُمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذِكْرَ هَذِهِ الْوَصَايَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَنْ كَانَ كَثِيرَ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ أَوْ كَثِيرَ الشَّوَاغِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَنْ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِتِلَاوَةِ آيَاتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَبِغَيْرِ ذَلِكَ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَّعِظَ بِهَا مَنْ سَمِعَهَا وَقَرَأَهَا أَوْ ذَكَرَهَا أَوْ ذُكِّرَ بِهَا، وَبَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَامٌّ يُطْلَبُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا خَاصٌّ. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ وَالْعَاشِرُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ، هُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالشَّرْعِ الْحَنِيفِيِّ الْعَذْبِ الْمَوْرِدِ السَّائِغِ الْمَشْرَبِ بِمَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَصَايَا الَّتِي لَا يُكَابِرُ ذُو مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فِي حُسْنِهَا وَفَضْلِهَا - أَوْ - أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ بِهِ إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ: هُوَ صِرَاطِي وَمِنْهَاجِي الَّذِي أَسْلُكُهُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَنَيْلِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أُشِيرُ إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا ظَاهِرَ الِاسْتِقَامَةِ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وَلَا يَهْتَدِي تَارِكُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الْأُخْرَى الَّتِي تُخَالِفُهُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَتَتَفَرَّقُ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِي سَبِيلِ ضَلَالَةٍ مِنْهَا يَنْتَهِي بِهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَلَيْسَ أَمَامَ تَارِكِ النُّورِ إِلَّا الظُّلُمَاتُ. وَقَدْ أُضِيفَ الصِّرَاطُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى اللهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ. وَإِلَى الدُّعَاةِ إِلَيْهِ وَالسَّالِكِينَ لَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِضَافَتَهُ هُنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطِبُ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَفِعْلُهَا مُسْنَدٌ إِلَيْهِ تَعَالَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.

وَقَدْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالنَّهْيِ عَنْ مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَإِنَّ هَذَا صِرَاطِي) بِكَسْرِ هَمْزَةِ " إِنَّ " وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَأَمَّا كَسْرُهَا فَعَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ فِي بَيَانِ وَصِيَّةٍ هِيَ أُمُّ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ لِمَا قَبِلَهَا، وَلِغَيْرِهَا - وَأَمَّا الْفَتْحُ فَعَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ فَهُوَ يَقُولُ: وَلِأَجْلِ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ، عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْثِرُونَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الِاعْوِجَاجِ، وَتُرَجِّحُونَ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَأَكْثَرُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا " ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: " وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ "، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ الْجَنَّةُ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادُّ (بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ جَادَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ) وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادُّ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، فَمَنْ أُخِذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِّ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ أُخِذَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا " ضَرْبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ (أَيْ تَدْخُلُهُ) فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَاعِظَ هُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّاسُ بِالْوُجْدَانِ وَالضَّمِيرِ. وَقَدْ أَفْرَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهُوَ سَبِيلُ اللهِ، وَجَمَعَ السُّبُلَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ مَا خَالَفَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فَيَشْمَلُ الْأَدْيَانَ الْبَاطِلَةَ مِنْ مُخْتَرَعَةٍ وَسَمَاوِيَّةٍ مُحَرَّفَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ وَالْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ، وَبِهَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ هُنَا، وَالْمَعَاصِيَ كَمَا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَقَدْ نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ فِي صِرَاطِ الْحَقِّ وَسَبِيلِهِ، فَإِنَّ التَّفَرُّقَ فِي الدِّينِ الْوَاحِدِ هُوَ جَعْلُهُ مَذَاهِبَ يَتَشَيَّعُ لِكُلٍّ مِنْهَا شِيعَةٌ وَحِزْبٌ يَنْصُرُونَهُ وَيَتَعَصَّبُونَ لَهُ، وَيُخَطِّئُونَ مَا خَالَفَهُ، وَيَرْمُونَ أَتْبَاعَهُ بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، أَوِ الْكُفْرِ أَوِ الِابْتِدَاعِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِضَاعَةِ الدِّينِ بِتَرْكِ طَلَبِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ شِيعَةٍ فِيمَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهَا وَيُظْهِرُهَا عَلَى مُخَالِفِيهَا، لَا فِي الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى اسْتِبَانَتِهِ وَفَهْمِ نُصُوصِهِ بِبَحْثِ أَيِّ عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ تَعَصُّبٍ وَلَا تَشَيُّعٍ، وَالْحَقُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا مَحْبُوسًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَالِمٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ

فَكُلُّ بَاحِثٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْمُلْتَزِمِينَ لَهَا مُخَالِفُونَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِصِرَاطِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ الْوَاحِدُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ وَإِلَى مَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُمَا وَآثَرُوا عَلَيْهِمَا قَوْلَ أَيِّ مُؤَلِّفٍ لِكِتَابٍ مُنْتَمٍ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ اتِّبَاعُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الْمُوَحِّدَ لِأَهْلِ الْحَقِّ الْجَامِعَ لِكَلِمَتِهِمْ، وَتَوْحِيدِهِمْ وَجَمْعُ كَلِمَتِهِمْ هُوَ الْحَافِظُ لِلْحَقِّ الْمُؤَيِّدُ لَهُ وَالْمُعِزُّ لِأَهْلِهِ - كَانَ التَّفَرُّقُ فِيهِ بِمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَذُلِّهِمْ وَضَيَاعِ حَقِّهِمْ. فَبِهَذَا التَّفَرُّقِ حَلَّ بِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَا حَلَّ مِنَ التَّخَاذُلِ وَالتَّقَاتُلِ وَالضَّعْفِ وَضَيَاعِ الْحَقِّ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالْهَوَانِ مَا يَتَأَلَّمُونَ مِنْهُ وَيَتَمَلْمَلُونَ وَلَمْ يَرْدَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فَرْقٌ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) حِفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ أَدْنَى تَغْيِيرٍ وَأَقَلِّ تَحْرِيفٍ، وَضَبْطُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ نَظِيرٌ. (وَثَانِيهُمَا) وُجُودُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَتَّبِعُهُ بِالْعَمَلِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا بَشَّرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ قَلُّوا فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ، وَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكَثِّرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَئِمَّتِهِمْ فَقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) وَقَوْلِهِ: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (42: 3) وَنَحْوِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا سَبْحٌ طَوِيلٌ فِي بَحْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ كَتَفْسِيرِ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (3: 103) وَمَا بَعْدَهَا فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (4: 59) وَتَفْسِيرِ (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (4: 165) وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) وَتَفْسِيرِ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا) (6: 65) وَفِيهِ بَحْثٌ مُسْتَفِيضٌ فِي عَذَابِ

هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَيْهَا وَضَعْفِهَا بِالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مَظَانِّهِ وَفَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَسَيُعَادُ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (159) مِنْ بَعْدِ بِضْعِ آيَاتٍ. (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أَيْ ذَلِكُمُ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّهْيِ عَنْ سَبِيلِ الضَّلَالَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ الْمُعْوَجَّةِ، وَهُوَ جَامِعُ الْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْبَعِيدَةِ الْمَرْمَى، الْمُوصِلُ إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنَ السَّعَادَةِ الْعُظْمَى، وَصَّاكُمُ اللهُ بِهِ لِيُعِدَّكُمْ وَيُهَيِّئَكُمْ لِمَا يُرْجَى لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنِ اتِّقَاءِ كُلِّ مَا يُشْقِيهِ وَيُرْدِيهِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْجَامِعَ لِلتَّكَالِيفِ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنَ الطُّرُقِ خَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اتِّقَاءُ النَّارِ ; إِذْ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُ نَجَا النَّجَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَحَصَلَ عَلَى السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ التَّقْوَى تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَّقَى مِنَ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُهُ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي التَّنْزِيلِ فِي سِيَاقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَآدَابٍ وَقِتَالٍ، وَسُنَنِ اجْتِمَاعٍ، وَطَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَعِشْرَةٍ وَزَوَاجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهِيَ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ اتِّبَاعِ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَوْضِعِ خَتْمِ الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ بِالذِّكْرِ وَالتَّذَكُّرِ وَمَا قَبِلَهُمَا بِالْعَقْلِ. وَبَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ كُلِّهَا رَاجَعْتُ مَا لَدَيَّ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَرَأَيْتُ السَّيِّدَ قَدْ أَتَى بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ فِي نُكَتِ هَذِهِ الْخَوَاتِيمِ لِلْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَهَذَا نَصُّهُ: وَخُتِمَتِ الْآيَةُ الْأُولَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وَهَذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَقُرْبَانِ الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ (غَيْرَ) مُسْتَنْكِفِينَ وَلَا عَاقِلِينَ قُبْحَهَا، فَنَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ قُبْحَهَا فَيَسْتَنْكِفُوا عَنْهَا وَيَتْرُكُوهَا، وَأَمَّا حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِمْ وَإِيفَادُ الْكَيْلِ وَالْعَدْلُ فِي الْقَوْلِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَفْتَخِرُونَ بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ إِنْ عَرَضَ لَهُمْ نِسْيَانٌ، قَالَهُ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: إِحْسَانُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي أَيْضًا، فَكَيْفَ ذُكِرَ مِنَ الْأَوَّلِ؟ قُلْتُ: أَعْظَمُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ نِعْمَةُ اللهِ تَعَالَى، وَيَتْلُوهُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمُؤَثِّرَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْهُمَا نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ وَالْحِفْظِ عَنِ الْهَلَاكِ فِي وَقْتِ الصِّغَرِ، فَلَمَّا نَهَى عَنِ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى نَهَى بَعْدَهُ عَنِ الْكُفْرَانِ فِي نِعْمَةِ

الْأَبَوَيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يَرْتَكِبُوا الْكُفْرَانَ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَلَّا يَرْتَكِبُوا الْكُفْرَ. وَقَالَ الْإِمَامُ (الرَّازِيُّ) : السَّبَبُ فِي خَتْمِ كُلِّ آيَةٍ بِمَا خُتِمَتْ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَوَجَبَ تَعَقُّلُهَا وَتَفَهُّمُهَا. وَالتَّكَالِيفُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُمُورٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ. انْتَهَى. (قَالَ الْآلُوسِيُّ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَكْثَرَ التَّكْلِيفَاتِ الْأُوَلِ أُدِّيَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ، وَالْمَرْءُ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَلَّلَ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ بِمَا فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّكْلِيفَاتِ الْأُخَرِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَهَا قَدْ أُدِّيَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ الْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرًا كَمَا فِي النَّهْيِ، فَيَكُونُ تَأْكِيدَاتُ الطَّلَبِ وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ لِيَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَتَذَكَّرَ إِذَا نَسِيَ فَلْيُتَدَبَّرْ اهـ. وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذِهِ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةَ الشَّأْنِ بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِيهَا نَقْلًا عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَلَيْهِ خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟ - ثُمَّ تَلَا (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ - ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجُرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ آخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَلْقَى صَحِيفَةً مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاتَمٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ إِلَى مِنًى وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَوَقَفَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَمَضَارِبِهِمْ بِمِنًى فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَرَدُّوا السَّلَامَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقٌ، وَكَانَ مَفْرُوقٌ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي

154

وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ حَقَّ اللهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) إِلَى قَوْلِهِ: (تَتَّقُونَ) فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَوَاللهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (16: 90) الْآيَةَ. فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللهِ يَا قُرْشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ. وَقَالَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَيُعْجِبُنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ - يَعْنِي أَرْضَ فَارِسٍ وَأَنْهَارَ كِسْرَى - وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (33: 45، 46) الْآيَةَ. ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابِضًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ. (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ)

كَانَتِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُجَجِ اللهِ الْأَدَبِيَّةِ عَلَى حَقِيَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، قَفَّى بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أُصُولِ هَذَا الدِّينِ، وَدَحْضِ شُبُهَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُمْتَرِينَ، وَلَمَّا كَمُلَتْ بِذَلِكَ حُجَجُ السُّورَةِ وَبَيِّنَاتُهَا حَسُنَ أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا عَلَى مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْهِدَايَةِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَإِعْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا هُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَقَدِ افْتُتِحَ هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ بِذِكْرِ مَا يُشْبِهُ الْقُرْآنَ فِي شَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ مِمَّا اشْتُهِرَ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّشَابُهِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ اسْمُهُ التَّوْرَاةُ، وَلَهُمْ رَسُولٌ اسْمُهُ مُوسَى، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ يَتَمَنَّى لَوْ يُؤْتَى الْعَرَبُ مِثْلَمَا أُوتِيَ الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِثْلُ كِتَابِهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ انْتِفَاعًا ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَدْءِ هَذِهِ الْآيَةِ بِـ (ثُمَّ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا عُطِفَ بِهَا عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهِ. فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ عَطْفَ عَلَى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) بِحَذْفِ (قُلْ) وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَوَصَّاكُمْ بِهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا - ثُمَّ قُلْ لَهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى (وَصَّاكُمْ) بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدِيمَةٌ وَصَّى اللهُ بِهَا جَمِيعَ الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وَهُوَ أَبْعَدُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ إِيضَاحُهُ بِأَنَّ مُوسَى أُعْطِيَ الْكِتَابَ - بَعْدَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا - فِيهِ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلِيَّةَ تَجِيءُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ - وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَأْيَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا، وَقَالَ: إِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) عَطْفٌ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ

كَقَوْلِهِ: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) (46: 12) وَقَوْلِهِ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) (91) وَبَعْدَهَا (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) الْآيَةَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْعَطْفِ وَكَوْنِهِ بِـ (ثُمَّ) لَخَّصْنَاهُ بِأَقْرَبِ تَصْوِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَقْوَالَهُمْ بِتَصَرُّفٍ، جَعَلَهَا فِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ، كَمَا نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ بِإِيجَازٍ مُخِلٍّ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ مُرَادُهُ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ نَظَرًا. وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ أَنَّ (ثُمَّ) لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ لَا لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَمَا جَعَلَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهِ أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ بِثُمَّ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ كَمَا يُرَاعَى فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ وَعَطْفِ الْمُفْرَدِ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخَرَ كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (39: 6) وَالْبَيْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ تَرْتِيبٌ لِتَسَلْسُلِ السِّيَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَمْدُوحِ بِطَرِيقِ التَّرَقِّي بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَبْلَهُ فِي الْأَبِ ثُمَّ قَبْلَهُ فِي الْجِدِّ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جُمْلَةَ (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) فِعْلِيَّةٌ، وَجُمْلَةَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فِيهَا قِرَاءَتَانِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ هَمْزَةَ " إِنَّ "، وَإِنْشَائِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ جَعَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَيْهَا هُوَ الصَّوَابَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي صِحَّتِهِ وَفَصَاحَتِهِ اللَّائِقَةِ بِالتَّنْزِيلِ وَجَزَمَ بِأَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فِيهِ نَظَرٌ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّأْوِيلِ؟ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَقْفَةٌ لِصَاحِبِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا تَقْدِيرُ كَلِمَةِ (قُلْ) وَلَكِنَّ قَرِينَتَهُ ظَاهِرَةٌ. وَأَنَّ أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْرَاةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرِيعَةً كَامِلَةً، وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ لَيْسَا كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِ عِظَاتٌ وَأَمْثَالٌ، وَأَكْثَرُ الثَّانِي ثَنَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ. وَمِنَ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا التِّسْعَ أَوِ الْعَشْرَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَنَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْوَصَايَا الْعَشْرَ الْمَشْهُورَةَ كَانَتْ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ قَبْلَ تَفْصِيلِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَوَصَايَا الْقُرْآنِ أَجْمَعُ لِلْمَعَانِي، فَهِيَ تَبْلُغُ الْعَشَرَاتِ إِذَا فُصِّلَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ وَصَايَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ هَنَا عَيْنُ وَصَايَا التَّوْرَاةِ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ نَصَّ

وَصَايَا التَّوْرَاةِ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ لِيُعْرَفَ بِهِ صِحَّةُ قَوْلِنَا وَغِشُّ كَعْبٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ: " أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ (1) لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي (2) لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَلَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَلَا مَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ، لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَهٌ غَيُّورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ (3) لَا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِكَ بَاطِلًا، لِأَنَّ الرَّبَّ لَا يُبَرِّئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا (4) اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ، سِتَّةُ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ، لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ، لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ; لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ (5) أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ (6) لَا تَقْتُلْ (7) لَا تَزْنِ (8) لَا تَسْرِقْ (9) لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ (10) لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ ". وَلَمَّا كَانَ جُلُّ هَذِهِ الْوَصَايَا وَتِلْكَ هِيَ أُصُولَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، حَكَمْنَا بِأَنَّ كَلَامَ الْكَشَّافِ فِي تَقْدِيرِهِ الْعَطْفُ وَجِيهٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ يُعِدُّهُ تَكَلُّفًا. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) (42: 13) وَلَيْسَ الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى مُوصِيًا بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَّا التَّوْحِيدَ وَأُصُولَ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيَ عَنْ كَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْآيَةِ: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) كَمَا قَالَ فِي آخِرِ وَصَايَا الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَبِهَذَا التَّشَابُهِ يَقْوَى كَوْنُ الْخِطَابِ بِالْوَصِيَّةِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ خَاتَمُ الرُّسُلِ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الشُّورَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) مَعْنَاهُ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ فِي اتِّبَاعِهِ وَاهْتَدَى بِهِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (5: 3) وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ تَمَامًا كَامِلًا جَامِعًا لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَقَوْلِهِ:

(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (7: 145) جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ أَوْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِهِ - التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ لِابْنِ كَثِيرٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (2: 124) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (32: 24) وَالثَّانِي عَزَاهُ إِلَى ابْنِ جَرِيرٍ عَلَى جَعْلِ (الَّذِي) مَصْدَرِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) (9: 69) أَيْ كَخَوْضِهِمْ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... فِي الْمُرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْعَدُ عَنِ التَّكَلُّفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) عَامٌّ فِي بَابِهِ، أَيْ مُفَصِّلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ (وَهُدًى وَرَحْمَةً) أَيْ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ (لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أَيْ آتَاهُ الْكِتَابَ جَامِعًا لِمَا ذَكَرَ لِيَعِدَ بِهِ قَوْمَهُ، وَيَجْعَلَهُمْ مَحَلَّ الرَّجَاءِ لِلْإِيمَانِ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ كَرَامَتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بِوَحْيِهِ. (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) أَيْ وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ - أَنْزَلْنَاهُ كَمَا أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، جَامِعًا لِكُلِّ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ مُوسَى، فَالْمُبَارَكُ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ فِي الْخَيْرِ، قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ بَرْكِ الْبَعِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَزَايَا الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أَيْ فَاتَّبِعُوا مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ، وَاتَّقُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَحَذَّرَكُمْ إِيَّاهُ لِتَكُونَ رَحْمَتُهُ تَعَالَى مَرْجُوَّةً لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ هُدًى وَرَحْمَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا يَلِي تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِهِ. (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيلِ الَّذِي مَعْنَاهُ قَطْعُ طَرِيقِ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ وَالْمَعْنَى - عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِ " أَنْ " - أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا أَوْ مَنْعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ شِرْكِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ الْهَادِي إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَطَرِيقِ طَاعَتِهِ وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّ حَقِيقَةَ حَالِنَا وَشَأْنِنَا أَنَّنَا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ لِجَهْلِنَا بِلُغَاتِهِمْ وَغَلَبَةِ الْأُمِّيَّةِ عَلَيْنَا - وَالْحَصْرُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ عِلْمِهِمْ بِحَالِ الطَّائِفَتَيْنِ لِمُجَاوَرَتِهِمْ لَهُمْ - (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) لِأَنَّنَا أَذْكَى أَفْئِدَةً وَأَعْلَى هِمَّةً وَأَمْضَى عَزِيمَةً، وَقَدْ قَالُوا هَذَا فِي الدُّنْيَا كَمَا حَكَاهُ تَعَالَى

157

عَنْهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (35: 42، 43) إِلَخْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْبَشَرِ فِطْرَةً وَأَعْلَاهُمُ اسْتِعْدَادًا لِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وَكَانَ اعْتِقَادًا رَاسِخًا فِي عُقُولِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْ وُجْدَانِهِمْ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِ مَا رَوَاهُ التَّارِيخُ لَنَا مِنَ الْمُفَاخَرَاتِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ، وَإِذَا كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ كُلُّهَا تَعْتَقِدُ أَنَّ شَعْبَهُمْ أَزْكَى مِنْ جَمِيعِ الْأَعَاجِمِ فِطْرَةً، وَأَذْكَى أَفْئِدَةً وَأَعَزُّ أَنْفُسًا وَأَكْمَلُ عُقُولًا وَأَفْهَامًا وَأَفْصَحُ أَلْسِنَةً وَأَبْلَغُ بَيَانًا، فَمَا الْقَوْلُ بِقُرَيْشٍ الَّتِي دَانَتْ لَهَا الْعَرَبُ وَاعْتَرَفَتْ بِفَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْهُمْ؟ وَلَكِنَّ جُمْهُورَ سَادَةِ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاءَهَا قَدِ اسْتَكْبَرُوا بِذَلِكَ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، حَتَّى كَذَّبُوا بِأَعْظَمِ مَا فُضِّلَ - وَاللهِ - بِهِ جِيلُهُمْ وَقَوْمُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْيَالِ وَالْأَقْوَامِ بِالْحَقِّ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - وَصَدُّوا عَنْهُ وَصَدَفُوا عَنْ آيَاتِهِ، فَكَانَ إِقْسَامُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَإِنْ صَدَقَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً لَهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَسَمُ صَادِرًا عَنْ عَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ، فَلَا جُرْمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُنِيرِ لَاعْتَذَرُوا فِي الْآخِرَةِ بِهَذَا الْعُذْرِ، عَلَى أَنَّ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ ظَلُّوا يُطَالِبُونَ النَّذِيرَ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَهُوَ - أَيِ الْكِتَابُ - أَقْوَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عِلْمِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَدَلَالَاتَهَا وَضْعِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا تَشْبِيهٌ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ وَسَائِرِ الْغَرَائِبِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَاعْتُبِرَ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ طه: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (20: 133، 134) . (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِكُلِّ تَعِلَّةٍ وَعُذْرٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِلتَّعْظِيمِ، إِذِ الْبَيِّنَةُ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ، وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْعَقَائِدِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، وَفِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ بِمَا تَصْلُحُ بِهِ أُمُورُ الْبَشَرِ وَشُئُونُ الِاجْتِمَاعِ، وَهُدًى كَامِلٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجْذِبُهُ بِبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَإِلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ الَّذِي بَيْنَ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْبَشَرِ الَّذِينَ تَنْتَشِرُ فِيهِمْ هِدَايَتُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِمْ شَرِيعَتُهُ، حَتَّى الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ آمِنِينَ فِي ظِلِّهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، مُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي

حُقُوقِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ. عَائِشِينَ فِي وَسَطٍ خَالٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ وَتُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، هَكَذَا كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ. وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالْمُؤْمِنُونَ قَلِيلُونَ مُضْطَهَدُونَ، وَالْجَمَاهِيرُ مُكَذِّبُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ يَصُدُّونَ عَنِ الْكِتَابِ وَيَصْدِفُونَ. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَيْ وَإِذَا كَانَتْ آيَاتُ اللهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ وَالْهِدَايَةِ الشَّامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَكْتَفِ بِصُدُوفِهِ عَنْهَا وَحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْهَا، بَلْ صَدَفَ النَّاسَ، أَيْ صَرَفَهُمْ وَرَدَّهُمْ أَيْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ كُبَرَاءُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ: كَانُوا يَصْدِفُونَ الْعَرَبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مِنْهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْجَذِبُوا إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (26) وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَصَدَفَ بِمَعْنَى صَدَّ، وَاسْتُعْمِلَ مِثْلُهُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَفِي مَعْنَاهُمَا الصَّرْفُ وَالصَّدْعُ، وَلَا مَانِعَ عِنْدِي مِنِ اسْتِعْمَالِ صَدَفَ هُنَا لَازِمًا مُتَعَدِّيًا كَمَا كَانَتْ حَالُ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَعَانِيهِ إِذَا كَانَتِ الْعِبَارَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ - إِنْ لَمْ يُعَدَّ مِنْهُ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ - وَقَدْ قَالَ بِهِمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. عَلَى أَنَّ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي تَلَازُمًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّ الصَّادَّ لِغَيْرِهِ عَنْ شَيْءٍ يَكْرَهُهُ وَيُعَادِي الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَالْقَائِمَ بِهِ وَيَكُونُ هُوَ أَشَدَّ صُدُودًا وَإِعْرَاضًا عَنْهُ. وَإِنَّمَا يَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيَصُدُّ عَنْهُ غَيْرَهُ مَنْ يُحِبُّهُ وَيَأْخُذُ بِهِ إِذَا كَانَ مُرَائِيًا أَوْ خَادِعًا لِمَنْ يَنْهَاهُ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، كَالْوُعَّاظِ الْمُرَائِينَ، وَالتُّجَّارِ الْغَاشِّينَ. وَمِنَ الصَّدِّ اللَّازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (4: 61) وَمِنَ الْمُتَعَدِّي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ مُحَمَّدٍ أَوِ الْقِتَالِ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (47: 1) . (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) أَيْ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ النَّاسَ وَيَرُدُّونَهُمْ عَنْ آيَاتِنَا وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا سُوءَ الْعَذَابِ، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّدْفِ عَنْهَا وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بِذَلِكَ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ مَنْ صَدَفُوهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَبَبِ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ وَضَعَ الْمَوْصُولَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ فَقَالَ: (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) وَلَمْ يَقُلْ: سَنَجْزِيهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّدْفِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ طَرِيقِ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْتَعِدِّينَ لِاتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا كَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ

158

كَمًّا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِدَلَالَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ - فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (16: 88) أَيْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا سَيِّئًا شَدِيدًا بِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَوْقَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِهَذَا الصَّدِّ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (16: 89) فَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ بِمَعْنَى آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي السِّيَاقِ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أُصُولَ الدِّينِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فِي إِثْرِ تَفْصِيلِ السُّورَةِ لِجَمِيعِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالْإِعْذَارِ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ وَمَنْ يَتَّبِعُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، الَّذِينَ كَانُوا يُقْسِمُونَ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ النَّذِيرُ اسْتَكْبَرُوا وَزَادُوا نُفُورًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَرَنَ هَذَا الْإِعْذَارَ بِالْإِنْذَارِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِسُوءِ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي هَذِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ حَصَرَ فِيهَا مَا أَمَامَهُمْ وَأَمَامَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ بِمَا يُعَرِّفُهُمْ بِحَقِيقَةِ مَا يَنْتَظِرُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ مَوْتِ الرَّسُولِ، وَانْطِفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ بِمَوْتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمَامَهُمْ غَايَةٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِحَسَبَ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ - وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَأْتِيَهُمُ) - الْمَلَائِكَةُ، أَيْ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ فُرَادَى، أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ لِاسْتِئْصَالِهِمْ (وَهَذَا الْأَخِيرُ خَاصٌّ بِالْأُمَمِ الَّتِي يُعَانِدُ الرُّسُلَ سَوَادُهَا الْأَعْظَمُ بَعْدَ أَنْ يَأْتُوهَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ) أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ

أَيُّهَا الرَّسُولُ، قِيلَ: إِنَّ إِتْيَانَ الرَّبِّ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ إِتْيَانِ مَا وَعَدَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّصْرِ، وَأَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ فِي الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ: (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (59: 2) الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِالْعَذَابِ أَوِ الْجَزَاءِ مُطْلَقًا، فَهَاهُنَا مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تُشَابِهُ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهَا: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (16: 33) وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ إِتْيَانُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلَا شَبَهٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَتَعَرُّفُهُ إِلَى عِبَادِهِ وَمَعْرِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ إِيَّاهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) قَالَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) (2: 210) وَنَقَلْنَا فِيهِ عَنِ الْأُسْتَاذِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلًا نَفِيسًا فَلْيُرَاجَعْ فِي ص207 - 213 ج 2 ط. الْهَيْئَةِ. وَلَكِنْ يُضَعِّفُ هَذَا الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُهُ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَجُعِلَ الْأَخِيرَ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يُنْتَظَرُ، أَوِ الْأَوَّلُ لِعَظَمِ شَأْنِهِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِانْتِظَارُ بِحَسَبِ مَا فِي أَذْهَانِهِمْ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ وَرُؤْيَةَ رَبِّهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِ الرَّبِّ مَا اقْتَرَحُوهُ غَيْرَ هَذَيْنِ كَنُزُولِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ وَكَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَكَّةَ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ لِأَنَّ اقْتِرَاحَهُمْ كَانَ لِلتَّعْجِيزِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ هِيَ مَا يَنْتَظِرُونَهُ كَغَيْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْبَعْضِ شَيْءٌ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى الرُّسُلِ يَقْتَضِي فِي سُنَّةِ اللهِ هَلَاكَ الْأُمَّةِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (40: 85) وَاللهُ لَا يُهْلِكُ أُمَّةَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، بَلْ يُصَدِّقُ هَذَا بِكُلِّ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ لِرَائِيهَا الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ الْإِيمَانِ الْقَهْرِيِّ الَّذِي لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) أَيْ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ الْمُوجِبَةِ لِلْإِيمَانِ الِاضْطِرَارِيِّ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِهَا إِيمَانُهَا بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا وَعَمَلًا صَالِحًا مَا عَسَاهَا تَكْسِبُ مِنْ خَيْرٍ فِيهِ لِبُطْلَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ - أَيِ التَّكْلِيفُ - مَبْنِيٌّ عَلَى مَا وَهَبَ اللهُ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْإِرَادَةِ

وَالِاخْتِيَارِ، بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّكْلِيفِ. وَالْبَعْضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ قُبَيْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَهِيَ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى، وَلَا تَرَاهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا إِلَّا قُبَيْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ لَهَا آيَاتٍ كَآيَاتِ الْمَوْتِ بَعْضُهَا ظَنِّيٌّ وَبَعْضُهَا قَطْعِيٌّ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْإِيمَانِ الْقَهْرِيِّ وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ مَا تَرَى، فَإِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ كَلِمَةِ (نَفْسًا) الدَّالَّةِ عَلَى الشُّمُولِ لِكَوْنِهَا نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَبَيْنَ صِفَتِهَا هِيَ جُمْلَةُ (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) إِلَخْ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ (إِيمَانُهَا) وَعَطْفَ جُمْلَةِ (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) عَلَيْهَا قَدْ أَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَا بَسَطْنَا بِهِ الْمَعْنَى آنِفًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا الصَّحِيحُ السَّنَدِ وَالضَّعِيفُ الَّذِي لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَحْدَهُ، بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُبْهِمَتْ وَأُضِيفَتْ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَتَهْوِيلِهِ، هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا قُبَيْلَ تِلْكَ الْقَارِعَةِ الصَّاخَّةِ الَّتِي تَرُجُّ الْأَرْضَ رَجًّا، وَتَبُسُّ الْجِبَالَ بَسًّا. فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَبَطَلَ هَذَا النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ وَقَدْ كَانَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا بَعِيدًا عَنِ الْمَأْلُوفِ الْمَعْقُولِ، وَلَا سِيَّمَا مَعْقُولُ مَنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْعُقُولِ، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَى عُقُولِهِمْ أَنْ تَتَصَوَّرَ حَادِثًا تَتَحَوَّلُ فِيهِ حَرَكَةُ الْأَرْضِ الْيَوْمِيَّةُ فَيَكُونُ الشَّرْقُ غَرْبًا وَالْغَرْبُ شَرْقًا، وَلَا نَدْرِي أَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَغْيِيرًا آخَرَ فِي النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ أَمْ لَا؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَدَارَهَا بِالْقُطْبِ (أَيِ الْمِحْوَرِ) فَجَعَلَ مَشْرِقَهَا مَغْرِبَهَا وَمَغْرِبَهَا مَشْرِقَهَا. اهـ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْعِلْمِ الْمَعْقُولِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَقْوَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) اهـ. وَمِثْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ صَحِيحِهِ وَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مُطَوَّلًا فِيهِ ذِكْرُ آيَاتٍ أُخْرَى لِقِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رَفَعَهُ " ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ. طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ " وَهُوَ مُشْكَلٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْوَارِدَةِ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَإِيمَانِ النَّاسِ بِهِ، وَالْمُشْكَلَاتُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّ أَسْبَابِهَا فِيمَا صَحَّتْ أَسَانِيدُهُ وَاضْطَرَبَتِ الْمُتُونُ وَتَعَارَضَتْ أَوْ

أُشْكِلَتْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ الرُّوَاةِ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ، فَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ رَآهَا أَوْ رُوِيَتْ لَهُ بِالتَّوَاتُرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكْسَيَانِ النُّورَ بَعْدَ كُسُوفٍ وَظُلْمَةٍ وَيَعُودَانِ إِلَى الطُّلُوعِ مِنَ الْمَشْرِقِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا " يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ " وَلَكِنَّ رَفْعَهُ لَا يَصِحُّ وَيُعَارِضُهُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا رَوَاهُ مَرْفُوعًا " الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ إِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهَا بَعْضًا " قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقَالَ: " فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ ". هَذَا وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالسَّمَاعِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ رَوَى بَعْضَهَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ فَتَكُونَ مُرْسَلَةً. وَلَكِنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ تُثْبِتُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْجُمْلَةِ فَنَنْظِمُهَا فِي سِلْكِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَيُحْمَلُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالرِّوَايَةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ جِدَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يَسْتَدِلُّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ بِدُونِ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَلَا مَجَالَ فِي الْآيَةِ لِلْجَدَلِ عِنْدَ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا لَا يَعْدُو مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهُوَ أَنَّ مُشَاهَدَةَ بَعْضِ آيَاتِ الرَّبِّ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ كَمُشَاهَدَةِ الْآخِرَةِ قُبَيْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ مِنْهُمْ: لَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَنْفَعُ الْعَاصِيَ التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّاعَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ بِالشَّرْعِ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ - يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ الشُّمُولِيِّ، فَيَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَتْرُكَ الْمُؤْمِنُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَرْتَكِبَ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُ وَلَكِنَّهُ يُؤَاخِذُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (4: 17) وَكَمَا قَالَ: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3: 135) وَقَدْ يُؤْمِنُ وَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ عَاقِلٌ يَخْتَلِفُ فِي نَجَاةِ مِثْلِ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَلَّا يُبَالِيَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الذَّعَنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْفَرَائِضَ وَيَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ بِغَيْرِ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ، بِلَا خَوْفٍ وَلَا حَيَاءٍ مِنَ اللهِ وَلَا اهْتِمَامٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللهِ فِيهِ. وَلَيْسَ لِاسْتِحْلَالِ مَا ذُكِرَ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا، وَالْمُسْتَحِلُّ لِمِثْلِ هَذَا كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أَيِ انْتَظِرُوا أَيُّهَا الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ مَا تَتَوَقَّعُونَ إِتْيَانَهُ وَوُقُوعَهُ بِنَا وَاكْتِفَاءَ أَمْرِ الْإِسْلَامِ بِهِ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وَعْدَ رَبِّنَا لَنَا وَوَعِيدَهُ لَكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (10: 102) أَوِ انْتَظِرُوا مَا لَيْسَ أَمَامَكُمْ سَوَاءٌ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ وَلَا تُفَكِّرُونَ فِيهِ وَهُوَ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ إِنَّا مُنْتَظِرُوهَا عَلَى عِلْمٍ وَإِيمَانٍ - وَهِيَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْأَفْرَادِ، أَوْ إِتْيَانُ الرَّبِّ تَعَالَى - أَيْ أَمْرُهُ - بِمَا وَعَدَنَا مِنَ النَّصْرِ، وَأَوْعَدَكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْخُسْرِ، أَوْ إِتْيَانُهُ تَعَالَى لِحِسَابِ الْخَلْقِ، أَوْ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَصْدِيقِ رَسُولِهِ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. . . وَهَذَا الْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (11: 121، 122)

159

وَالْآيَةُ الْمُفَسَّرَةُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (32: 29، 30) . (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) قَدْ كَانَتْ خَاتِمَةُ مَا وَصَّى اللهُ تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ آنِفًا الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنَ السُّبُلِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَصَايَا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ الْمُشَابِهَةَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَوَصَايَاهُ، بِمَا عُلِمَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ أَكْمَلُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَكْمُلُ بِخَوَاتِيمِهَا. وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالْمُقَارِنَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْقُرْآنِ، مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتِعْدَادًا لِلْهِدَايَةِ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَسَى أَنْ يَثُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ إِلَى رَشَادِهِمْ، وَيُفَكِّرَ الْمُعَانِدُونَ فِي عَاقِبَةِ عِنَادِهِمْ، وَتَلَا ذَلِكَ تَذْكِيرُهُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ بِمَا يُنْتَظَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِكُلٍّ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ، وَلَمَّا تَمَّتْ بِذَلِكَ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، ذَكَّرَ - تَعَالَى جَدُّهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا هِيَ عُرْضَةٌ لَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ إِضَاعَةِ الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، بِمِثْلِ مَا أَضَاعَهُ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ بِالْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَحْزَابًا وَشِيَعًا، تَتَعَصَّبُ كُلٌّ مِنْهَا لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِمَامٍ فَيَضِيعُ الْعِلْمُ وَتَنْفَصِمُ عُرْوَةُ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ فَتُصْبِحُ أُمَمًا مُتَعَادِيَةً لَيْسَ لَهَا مَرْجِعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَجْمَعُ كَلِمَتَهَا فَيَحِلُّ بِهَا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي تَفَرَّقَتْ قَبْلَهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) مِنَ التَّفْرِيقِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَجَعْلُهُ فِرَقًا وَأَبْعَاضًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَارَقُوا) مِنَ الْمُفَارَقَةِ لِلشَّيْءِ وَهُوَ تَرْكُهُ وَالِانْفِصَالُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رُوِيَتْ عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ تَفْرِيقَ الدِّينِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَتَهُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ. فَمِنَ التَّفْرِيقِ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ، وَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْجَمِيعِ مُفَارَقَةً لِلدَّيْنِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (2: 85) الْآيَةَ وَمِثْلُهُ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ. عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تُقِيمُ الدِّينَ لِأَصْلِ الدِّينِ بِجُحُودِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ أَوْ تَأْوِيلِ هِدَايَتِهِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ. ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ

وَمُوسَى وَعِيسَى فَجَعَلُوهُ أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، وَكُلٌّ مِنْهَا مَذَاهِبُ لَهَا شِيَعٌ مُخْتَلِفَةٌ يَتَعَادُونَ وَيَتَقَاتَلُونَ فِيهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي مَزَّقَتْ وَحْدَةَ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَحْدَثَتْ مِنَ النِّحَلِ وَالْمَذَاهِبِ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَامَ حُجَجَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَبْطَلَ شُبَهَاتِ الشِّرْكِ ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَشَرْعَهُمْ. وَأَمَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ كَمَا تَفَرَّقَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَقَدْ فَصَّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3: 105) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَهُوَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمُ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ أَحَقُّ بِبَرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّحْذِيرِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الْآيَةَ. قَالَ هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. بَلْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً إِلَّا أَصْحَابَ الْبِدَعِ وَأَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. أَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ " وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا بِدْعَتَهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فَرَجَعُوا وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ. اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ - وَثُمَّ آثَارٌرُوِيَتْ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ بِأَنَّهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوِ الْخَوَارِجُ مُطْلَقًا، وَمُرَادُ قَائِلِيهَا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ لَا أَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ وَحْدَهُمْ. وَجَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ لِلْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ الشَّاطِبِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهَا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ، (قَالَ الشَّاطِبِيُّ) يُرِيدُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ

الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ. فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَوْمًا يَخْطُبُنَا فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جُعِلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ إِحْدَى حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دَيْنَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهُ يَعْنِي بُقُولِهِ " أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّ سَلَمَةَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ حَاجَّةً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتُخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا اهـ. مَا أَوْرَدَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي (ج1) وَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي بَحْثِ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ (ج3) فَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الدِّينِ فِيهَا يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَالَ، فَمَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِهَا تَدُلُّ عَلَى شُمُولِهَا لِلتَّفَرُّقِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَحُكُومَتِهِ وَتَوَلِّي أَهْلِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، فَعَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ، كَعَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالتُّرْكِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْمَلَاوِيِّ إِلَخْ بِحَيْثُ يُعَادِي الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوْرَةِ عَلَى عُثْمَانَ - وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَقْتَلِهِ - كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ ذِرَاعَ امْرَأَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْ بَيْنِ الْحَائِطِ وَالسِّتْرِ وَهِيَ تُنَادِي: أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا شِيَعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَاحِدَةٌ. هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ (فَرَّقُوا) وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَفَرُّقٍ فِي الدِّينِ مُفَارَقَةٌ لَهُ وَرِدَّةٌ عَنْهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ (فَارَقُوا) ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْمُفَارَقَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (30: 31، 32) وَفِيهَا الْقِرَاءَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْهُمْ تَحْذِيرُ أُمَّتِهِ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بِالْأَوْلَى لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ كَحُكْمِ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَضِمْنَ لَهُمْ جَنَّتَهُ وَرِضْوَانَهُ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ الْمُهْتَدِينَ بِهِمَا مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّقِينَ لِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى وَحْدَهُ أَمْرَ جَزَائِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِمْ وَالتَّفْرِيقِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَفَشَلِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَتَسَلُّطِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَلُبْسِهِمْ شِيَعًا يُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، بِمَا تُثِيرُهُ عَدَاوَةُ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْحُرُوبِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) (2: 253) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (5: 14) وَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) (6: 65) إِلَخْ وَبَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَبْعَثُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ بِتَفْرِيقِ الدِّينِ، أَوْ مُفَارَقَتِهِ اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي النَّارِ. تَطْبِيقٌ أَوْ طِبَاقٌ فِي أَسْبَابِ افْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ: (1) السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ. (2) عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ. (3) عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. (4) الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ. وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ.

فَالْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ، وَآرَاءُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَشُئُونِ الْمَعِيشَةِ وَأَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ. وَالدِّينُ فِي عَقَائِدِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ مُوحًى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْمَدَنِيَّةِ جَمْعُ قُلُوبِ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ بِأَقْوَى الرَّوَابِطِ وَأَوْثَقِ الْعُرَى الثَّابِتَةِ. وَالرَّأْيُ يُفَرِّقُهَا ; إِذْ قَلَّمَا يَتَّفِقُ شَخْصَانِ مُسْتَقِلَّانِ فِيهِ، فَأَنَّى تَتَّفِقُ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ وَاجْتِمَاعُ الْكَثِيرِينَ بِالتَّقْلِيدِ يَسْتَلْزِمُ تَفَرُّقًا شَرًّا مِنَ التَّفَرُّقِ فِي الرَّأْيِ عَنْ دَلِيلٍ ; لِأَنَّهُ تَفَرُّقُ جَهْلٍ لَا مَطْمَعَ فِي تَلَافِي ضَرَرِهِ إِلَّا بِزَوَالِهِ. تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي تَفَرُّقِ الْمَذَاهِبِ وَخَصُّوهُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُونَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالتَّحْقِيقُ الْعُمُومُ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَأَنَّهُمْ تَعَادَوْا فِي الدِّينِ تَعَادِيًا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِهِ وَضَعْفِ أَهْلِهِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُمْ دُونَ ضَرَرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ مُتَعَصِّبِيهِمْ أَدْخَلُوا خِلَافَ الْأُصُولِ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّزَوُّجَ بِالشَّافِعِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ ; لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي إِيمَانِهَا. وَعَلَّلَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بِقِيَاسِهَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَمُرَادُهُمْ بِشَكِّ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ جَمِيعِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ فِي إِيمَانِهِمْ ; قَوْلُهُمُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ! وَلَوْ سَلَكَ الْخَلَفُ فِي الدِّينِ مَسْلَكَ السَّلَفِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِمَا بِكُلِّ عَالِمٍ ثِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ لِعَالِمٍ مُعَيَّنٍ، لَمَا وَقَعُوا فِي هَذَا الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْجَهْلِ بِهِمَا وَهَجْرِهِمَا، وَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ يُزِيلُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَلَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا. وَقَدْ بَدَأَ أَصْحَابُ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ الْكَلَامِيَّةِ بِحْثَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: " إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ لِصَاحِبِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ بِصَاحِبِهِ) لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ " أَيِ الْكَلَبُ وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الدَّاءُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْكِلَابِ وَلِمَنْ عَضَّهُ الْمُصَابُ بِهِ مِنْهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ

عَمْرٍو وَأَوَّلُهُ " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ. . وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً " قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَعَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ بِلَفْظِ " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " وَقَفَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِمَا رُوِيَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّاطِبِيُّ الْوَجْهَ الْخَامِسَ مِمَّا وَرَدَ فِي النَّقْلِ مِنْ ذَمِّ الْبِدَعِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ; إِذِ الْبِدَعُ كُلُّهَا كَذَلِكَ. كَمَا وَعَدَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا، فَذَكَرَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَعِدَّةَ آثَارٍ بِمَعْنَاهُ وَرَجَّحَ شُمُولَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ آثَارِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِنْحَاءَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ ; فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَكَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ اهـ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الرَّأْيَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ دُونَ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَاءِ ; فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ فِي هَذَا كَمَا بَيَّنَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ (الِاعْتِصَامِ) أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَقَدْ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةً بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ. (أَقُولُ) : وَهَذَا مَذْهَبُنَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَقَدْ حَقَّقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنَ الِاعْتِصَامِ (ج3) أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (11: 118، 119) وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لَهُمْ فَيَكُونُونَ شِيَعًا وَأَحْزَابًا يَتَفَرَّقُونَ وَيَتَعَادَوْنَ فِي ذَلِكَ فَهُمْ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ،

وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ كَعُذْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَعَمِلُوا بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُونُوا يُجِيزُونَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ فَصَارَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْحُكْمِ. فَهَلْ يُجِيزُونَ لِشِيعَةٍ أَوْ حِزْبٍ أَنْ يَتَعَصَّبَ وَيُعَادِيَ وَيُخَاصِمَ وَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا لِظُنُونِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجِعُونَ عَنْهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهَا؟ ! . وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ حَدِيثَ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ رِوَايَةً رَآهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ جَعَلَ فِيهَا الْفِرَقَ 82 - إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ غَلَطًا مِنَ النُّسَّاخِ - وَقَالَ: كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَسَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: " الْجَمَاعَةُ ". ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ الِافْتِرَاقِ وَأَسْبَابِهِ وَاسْتِشْكَالِ كُفْرِ هَذِهِ الْفِرَقِ مَا عَدَا وَاحِدَةً مِنْهَا. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ كُلَّ مُبْتَدِعٍ بَلْ يَقُولُونَ بِإِيمَانِ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا الْفِرَقَ، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالًا فِي الْحَدِيثِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلَا سِيَّمَا آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) (153) الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ رَجَّحَ مَا كُنَّا نَرَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي النَّارِ مَا عَدَا الْجَمَاعَةَ الْمُلْتَزِمَةَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كُلَّهَا خَالِدَةٌ خُلُودَ الْكُفَّارِ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، وَمِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ، وَلَا يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ خُلُودَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْجَاحِدِينَ لِبَعْضِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ عَقَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلَ فِي أَبْحَاثٍ مُهِمَّةٍ كَبَحْثِ عَدِّ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ وَعَدَمِهِ، وَمَا قِيلَ فِي عَدَدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْسُنُ بِطَالِبِ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَالْمُشْكِلَاتِ فِي الْحَدِيثِ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ (مُحَمَّدِ بْنِ أَسْعَدَ الصَّدِيقِيِّ) لِلْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ، وَعَدَّ مَا أَطَالَ بِهِ إِيجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ. قَالَ فِي أَوَّلِهِ: لَا بُدَّ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مُوجَزٍ فَاسْمَعْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَفَادَنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ فِرَقٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا الَّتِي عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ. وَكَوْنُ الْأُمَّةِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا افْتِرَاقٌ عَلَى فِرَقٍ شَتَّى تَبْلُغُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا تَبْلُغُهُ ثَابِتٌ قَدْ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَكَوْنُ النَّاجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةً أَيْضًا حَقٌّ لَا كَلَامَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هُوَ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَهُوَ رَدٌّ، وَأَمَّا تَعْيِينُ أَيِّ فِرْقَةٍ هِيَ النَّاجِيَةَ أَيِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى مَا (كَانَ) النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يُذْعِنُ لِنَبِيِّنَا بِالرِّسَالَةِ تَجْعَلُ نَفْسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّ مِيرْبَاقِرَ الدَّامَادْ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرْقِ الْمَذْكُورَةِ

فِي الْحَدِيثِ هِيَ فِرَقُ الشِّيعَةِ وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ الْإِمَامِيَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ فَجَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَكُلٌّ يَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً: ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَمْثِلَةً مِمَّا يَقُولُهُ فَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمِينَ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَأَشْهَرُ فِرَقِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ غَيْرَهُمْ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِجَهْلِ أَكْثَرِهِمْ بِالنُّقُولِ. وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَ. ثُمَّ قَالَ: " فَكُلٌّ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَتَى رَأَتْ مِنَ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَتْ أَخَذَتْ فِي تَأْوِيلِهِ وَإِرْجَاعِهِ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا، فَكُلٌّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ وَكُلٌّ مُطْمَئِنٌّ بِمَا لَدَيْهِ وَيُنَادِي نِدَاءَ الْمُحَقِّقِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. فَإِنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَدْ جَاءَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ الْآنَ مِنْ غَيْرِ النَّاجِيَةِ، أَوْ أَنَّ الْفِرَقَ الْمُرَادَةَ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَبْلُغِ الْآنَ الْعَدَدَ. أَوْ أَنَّ النَّاجِيَةَ إِلَى الْآنَ مَا وُجِدَتْ وَسَتُوجَدُ. أَوْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِرَقِ نَاجِيَةٌ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ مُطَابِقٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا عَنْهُمْ كَالْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ عَنْهُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْفِرَقِ سَتُوجَدُ مِنْ بَعْدُ أَوْ وُجِدَ مِنْهَا بَعْضٌ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ عُلِمَ كَمَنْ يَدَّعِي أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ كَفِرْقَةِ النُّصَيْرِيَّةِ. وَمُوجَبُ هَذَا التَّرَدُّدِ أَنَّهُ مَا مِنْ فِرْقَةٍ إِلَّا وَيَجِدُهَا النَّاظِرُ فِيهَا مُعَضَّدَةً بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَالنُّصُوصُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ مِنَ الْأَطْرَافِ. وَمِمَّا يَسُرُّنِي مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ.

وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْأُسْتَاذِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ تَأْلِيفِهِ لِهَذِهِ الْحَاشِيَةِ أَيَّامَ اشْتِغَالِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فِي الْأَزْهَرِ مُمْتَازًا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَعَدَمِ التَّقْلِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّعَصُّبِ، مَعَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْقُصُهُ سَعَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِذًا لَجَزَمَ بِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاءُ الْأَثَرِ، الْمُهْتَدُونَ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ وَلَا تَزَالُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ. سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَرَّ وَمَنْ نَفَعَ وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُؤَوِّلُونَ شَيْئًا مِنْهُمَا لِيُوَافِقَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ يُؤَيِّدَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ قَدْ وَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَقِّ فَصَارَ مِنْهُمْ وَإِذًا لَمَا سَرَّهُ حَدِيثُ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ رِوَايَةٌ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَوَغَّلَ فِي مَذَاهِبِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ جَمِيعًا فَهَدَاهُ اللهُ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وَالرُّجُوعُ عَمَّا خَالَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ تَدْرِيجًا. وَإِنَّنَا نَرَاهُ هُنَا قَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَحْقِيقِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ إِشْكَالَاتٍ. (خَامِسُهَا) إِجْمَاعُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَكَوْنِهِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ الَّتِي تَوَاضَعَ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ، وَعَدَّ هَذَا تَعَصُّبًا مِنْ أَتْبَاعِ كُلِّ رَئِيسٍ وَأَخْذًا بِأَسْبَابِ الْعَنَتِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " الْحَقُّ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاظِرُ الْمُتَدَيِّنُ إِلَى إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ عَلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، ثُمَّ مِنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ يَأْخُذُ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ بِدُونِ فَحْصٍ فِيمَا تَكِنُّهُ الْأَلْفَاظُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ طَرِيقَ التَّحْقِيقِ فِي تَأْسِيسِ جَمِيعِ عَقَائِدِهِ بِالْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ، كَانَ مَا أَدَّتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ، لَكِنْ بِغَايَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِذَا فَاءَ مِنْ فِكْرِهِ إِلَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَوَجَدَهُ يُظَاهِرُهُ مُلَائِمًا لِمَا حَقَّقَهُ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَطْرُقْ عَنِ التَّأْوِيلِ وَيَقُولُ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (3: 7) فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ وَنَبِيِّهِ إِلَّا اللهُ وَنَبِيُّهُ، فَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ يَكُونُ نَسْجُهُ فَيَبُوءُ مِنَ اللهِ بِرِضْوَانٍ حَيْثُ أَسَّسَ عَقَائِدَهُ عَلَى السَّدِيدِ مِنَ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتَقْبَلَ الْأَخْبَارَ الْإِلَهِيَّةَ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَنَاوَلَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ التَّأْوِيلَ لِغَرَضٍ كَدَفْعِ مُعَانِدٍ، أَوْ إِقْنَاعِ جَاحِدٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا سَلِمَ بُرْهَانُهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّشْوِيشِ وَهَذَا هُوَ دَأْبُ مَشَايِخِنَا كَالشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ، لَا يَأْخُذُونَ قَوْلًا حَتَّى يُسَدِّدُوهُ بِبَرَاهِينِهِمُ الْقَوِيَّةِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَا يُعْنَى بِاسْمِ السُّنِّيِّ

وَالصُّوفِيِّ وَالْحَكِيمِ، وَكُلُّ مُتَحَزِّبٍ مُجَادِلٍ فَإِنَّمَا يَبْغِي الْعَنَتَ وَتَشْتِيتَ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ مُقَصِّرٍ فَعَلَيْهِ الْعَارُ وَالشَّنَارُ، فَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ، وَاحْذَرْ فَقَدْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَلَا بُدَّ فِي كَمَالِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ تَكْمِيلُ قُوَّةِ النَّظَرِ وَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْهِمَّةِ وَالسَّدَادِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا يَأْخُذُ وَيُعْطِي، فَهُوَ فِي النَّارِ أَوْ يَطْهُرُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ، وَسَالِكُ هَذَا الطَّرِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سُلُوكُهُ مِنْ قِبَلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ أُولِي الْفَضْلِ مِنَ الرَّاشِدِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَلِكَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ الْمُتَوَسِّطُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَكَ بِنَفْسِهِ مَدَارِجَ الْأَنْوَارِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَسْرَارِ حَتَّى جَلَسَ فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَهُوَ الصُّوفِيُّ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى وَالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا مَرَاتِبُ لَا تُحْصَى وَمَرَاقٍ لَا تُسْتَقْصَى، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا النُّورِ فَلَهُ النَّجَاةُ وَالْحُبُورُ كَانَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَلْنُمْسِكِ الْقَلَمَ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِيجَازُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَاسْلُكْ بِنَفْسِكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَانْظُرْ فِيمَا يَكُونُ لَكَ بِعَيْنِ الرَّشَادِ " اهـ. بَدْءُ تَفَرُّقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَوَّلُ خِلَافٍ نَجَمَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافَ عَلَى الْإِمَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُ زُعَمَاءِ الْأَنْصَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَكَانَ بَعْضُ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَخَافَ عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بُعْدِ الرَّأْيِ وَالْحَزْمِ أَنْ يَحْدُثَ صَدْعٌ فِي بِنْيَةِ الْأُمَّةِ قَبْلَ دَفْنِ رَسُولِهَا، فَبَادَرَ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْكِرُ مَكَانَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَبَقًا وَعِلْمًا وَفَهْمَا وَنَصْرًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَبِعَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَلَا ذَلِكَ عَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ تَأَخَّرَ فَتَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْأَمْرِ لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ التَّفَرُّقِ الَّذِي بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِاتِّفَاقَ هُوَ سِيَاجُ الدِّينِ وَحِفَاظُهُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ بَايَعُوا عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ تَنَازَلَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى غَيْرِهَا.

وَأَمَّا مُقَاوَمَةُ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ لِلْأُمَوِيِّينَ فَلِظُلْمِهِمْ وَجَعْلِهِمُ الْخِلَافَةَ مَغْنَمًا لَهُمْ وَإِرْثًا فِيهِمْ، وَمَغْرَمًا وَعَذَابًا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَهَدَمُوا بِذَلِكَ قَاعِدَةَ الْقُرْآنِ فِي الشُّورَى وَجَعَلُوا إِمَامَةَ الدِّينِ وَخِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُلْكًا عَضُوضًا - كَمَا أَنْبَأَتْ أَحَادِيثُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِمَامُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ إِذْ سُئِلَ عَنْ سَبَبِ مُوَالَاتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ جَدَّهُ الْأَعْلَى عَلِيًّا الْمُرْتَضَى أَوْلَى مِنْهُمَا بِالْخِلَافَةِ وَخُرُوجِهِ عَلَى هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ ; إِذْ قَالَ لِسَائِلِهِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَّاهُمَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، فَأَقَامَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فَتَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ الْأَعْلَى لِأَنَّهُمَا قَامَا بِمَا كَانَ هُوَ يَقُومُ بِهِ وَكَانَ هُوَ قَاضِيهُمَا وَمُسْتَشَارُهُمَا - فَهُوَ (أَيْ زَيْدٌ) يَتَوَلَّاهُمَا كَمَا تَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ وَهِشَامٌ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَالْإِمَامُ زَيْدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْفِدَائِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ الظُّلْمَ بِالثَّوْرَاتِ عَلَى الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ، إِلَى أَنْ يَثُلُّوا عُرُوشَهُمْ. وَيُرِيحُوا الْأُمَمَ مِنْ جَوْرِهِمْ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ فِي مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلَكِنَّهُمْ أَيَّدُوا الظَّالِمِينَ وَأَطَاعُوهُمْ بِشُبْهَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ حَتَّى ضَاعَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُهُ وَتَضَعْضَعَ كُلُّ مُلْكٍ لِأَهْلِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا تَحْكِيمَهَا وَتَطْبِيقَهَا. وَقَدْ رَفَضَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ الْإِمَامَ زَيْدًا إِذْ أَبَى قَبُولَ مَا اشْتَرَطُوهُ عَلَيْهِ لِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِذَلِكَ سُمُّوا الرَّافِضَةَ، وَلِمَاذَا اشْتَرَطُوا الْبَرَاءَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دُونَ عُثْمَانَ بَلْ دُونَ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ؟ ! إِنَّ أَكْثَرَ الشِّيعَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا وَلَوْ فَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوهُ وَعَرَفُوا بِمَعْرِفَتِهِ كَيْفَ جَرَفَهُمْ تَيَّارُ دَسَائِسِ الْمَجُوسِ أَصْحَابِ الْجَمْعِيَّاتِ السِّرِّيَّةِ الْعَامِلَةِ لِلِانْتِقَامِ لِلْمَجُوسِيَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَطْفَأَ نَارَهَا وَثَلَّ عَرْشَ مُلْكِهَا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، اللَّذَيْنِ كَانَا يُفَضِّلَانِ آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آلِهِمَا، فَتِلْكَ الْجَمْعِيَّاتُ الْمَجُوسِيَّةُ بَثَّتْ دَسَائِسَهَا فِي الشِّيعَةِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِزَالَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِ الَّذِي بُنِيَ عَلَى أَسَاسِهِ مَجْدُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. لَمْ تُوجَدْ فِي الدُّنْيَا جَمْعِيَّاتٌ أَدَقُّ نِظَامًا وَأَنْفَذُ سِهَامًا مِنْ جَمْعِيَّاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَإٍ الْيَهُودِيُّ وَمَجُوسُ فَارِسَ لِإِفْسَادِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَإِزَالَةِ مُلْكِ دُعَاتِهِ الْعَرَبِ فَقَدْ رَاجَتْ دَسَائِسُهَا فِي شِيعَةِ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمُلْكِ الْإِسْلَامِ، بَلْ رَاجَ بَعْضُهَا فِي سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ فَبَيْنَمَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّسَائِسُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا فِي الْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ كَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي أُمَّةِ الْفُرْسِ النَّبِيلَةِ، وَكُتُبُ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ تُدَوَّنُ فِي مُدُنِهَا بِأَقْلَامِ أَبْنَاءِ فَارِسَ وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مِنَ الْعَرَبِ، وَتُنْشَرُ فِي مَشَارِقِ

الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا تُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ وَلُغَتَهُ، وَقَدْ صَارَ لِأُولَئِكَ الْبَاطِنِيَّةِ دَوْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي مِصْرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ دَوْلَتُهُمْ فِي مِصْرَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا أَنْ تُعِيدَ الْمَجُوسِيَّةَ وَتَجْعَلَ لَهَا مُلْكًا ; لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا ظَاهِرٌ هُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الشِّيعَةِ الَّذِي كَانَ مَذْهَبًا سِيَاسِيًّا فَصَارَ مَذْهَبًا دِينِيًّا، وَلَهَا بَاطِنٌ سِرِّيٌّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا رُؤَسَاءُ الدُّعَاةِ - وَلَمَّا كَانَ الْمُنْتَحِلُونَ لَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ جَاهِلِينَ بِأَصْلِهَا وَبِمَا وُضِعَتْ لَهُ - غَلَبَتِ الصِّبْغَةُ الدِّينِيَّةُ فِيهَا عَلَى الصِّبْغَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَكَانَ عَاقِبَةُ دَعَوْتِهَا أَنْ مَرَقَ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَاتَّخَذُوا التَّعَالِيمَ الْبَاطِنِيَّةَ دِينًا يَدِينُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ وَيَعْبُدُونَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَتَأَوَّلُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأَوُّلًا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى تِلْكَ التَّعَالِيمِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ ثُمَّ الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِهِمْ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ جَدِّهِمْ وَإِزَالَةُ مُلْكِهِ مِنْ آلِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ تَجَدَّدَ لَهَا دِينٌ جَدِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ آلِ الْبَيْتِ وَهُوَ الْبَهَاءُ الْإِيرَانِيُّ وَالِدُ " عَبَّاس عَبْد الْبَهَاءِ " - وَبَقِيَ سَائِرُ الشِّيعَةِ مُسْلِمِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِأَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ رُسُلِ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزَالُ يَغْلُو فِي آلِ الْبَيْتِ غُلُوًّا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، وَيَطْعَنُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ بِذَلِكَ لِآلِ الْبَيْتِ، غَافِلًا عَنْ كَوْنِ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ كَانُوا أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ تَقِيَّةً مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ فَلِمَاذَا لَا يَكُفُّونَ هُمْ عَنِ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّعْنِ فِيهِمَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ؟ . أَضْعَفُوا الْإِسْلَامَ بِهَذَا التَّفَرُّقِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْ أَهْلِهِ، وَكُلُّ شِيعَةٍ وَفِرْقَةٍ تَظُنُّ أَنَّهَا بِهَذَا التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ تَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَتُؤَيِّدُهُ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ ضَعُفَ مُلْكُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، وَكَادَتِ الْإِفْرِنْجُ تَسْتَعْبِدُ الدُّوَلَ وَالْإِمَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ سُنِّيًّا وَمَا يُسَمَّى شِيعِيًّا إِمَامِيًّا وَمَا يُدْعَى شِيعِيًّا زَيْدِيًّا، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ عَرَفَ جُمْهُورُهُمْ بِهَذَا الْخَطَرِ حَقِّيَّةَ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ كَانَ مِنْ فَسَادِ السِّيَاسَةِ، وَسَتَجْمَعُهُمُ السِّيَاسَةُ كَمَا فَرَّقَتْهُمُ السِّيَاسَةُ، إِلَّا مَنِ ارْتَدُّوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْقَوْمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ وَالدِّينِ وَدَسَائِسُ الْأَجَانِبِ فِي الْمُسْلِمِينَ: ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ نَفْسُهَا وَلَا سِيَّمَا فِي الْفُرُوعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَعُدْ مِنْ وَسَائِلِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَلَا عَرْضِ الْجَاهِ بِالْمَنَاصِبِ وَالْجُلُوسِ عَلَى مِنَصَّاتِ الْحُكْمِ - وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ لِذَلِكَ - وَيَضْعُفُ الدِّينُ نَفْسُهُ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِحَقِيقَتِهِ صَارَ عَامًّا، وَصِنْفُ الْعُلَمَاءِ أَعْمَاهُمُ

التَّقْلِيدُ عَنِ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالسَّيْرِ بِالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ عَلَى مَا تَجَدَّدَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَمَا اسْتُهْدِفَتْ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْمَفَاسِدِ، حَتَّى اقْتَنَعَ حُكَّامُهَا الْجَاهِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ بِأَنَّ شَرِيعَتَهَا لَمْ تَعُدْ كَافِيَةً لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، فَصَارُوا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِيمَا اشْتَرَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِعَادَاتِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا فِي هَذَا التَّقْلِيدِ مِنَ الْمَفَاسِدِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، بَلْ حَسِبُوا بِجَهْلِهِمْ وَبِإِغْوَاءِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ بِهَذَا يَتَّفِصُّونَ مِنْ عِقَالِ الشَّرْعِ وَسَيْطَرَةِ رِجَالِهِ الْجَامِدِينَ، فَيَكُونُ أَمْرُ حُكُومَتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يَشَاءُونَ، وَيَكُونُونَ كَالدُّوَلِ الْأُورُوبِّيَّةِ فِي عِزَّتِهَا وَثَرْوَتِهَا، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ هَذَا الْإِغْوَاءِ أَنْ سَلَبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُغْوُونَ مُلْكَهُمْ وَجَعَلُوهُمْ أَسْلِحَةً وَآلَاتٍ بِأَيْدِيهِمْ، يُذِلُّونَ بِهِمْ أُمَمَهُمْ وَشُعُوبَهُمْ، وَيَضْرِبُونَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَقْضُوا عَلَى اسْتِقْلَالِ مَمْلَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهَا. أَوْ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا، وِفَاقًا لِمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ " وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ (سُلْطَتَهُمْ وَمُلْكَهُمْ) وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا " وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخِ اسْتِعْمَارِ الْأَجَانِبِ لِلْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ يَرَى مِصْدَاقَ هَذَا فِي غَرْبِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَشَرْقِهَا. وَقَدِ اجْتَهَدَ أُولَئِكَ الطَّامِعُونَ الْمُغْوُونَ بِإِفْسَادِ أَفْكَارِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقُلُوبِهَا، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي دَسِّ الدَّسَائِسَ لِإِفْسَادِ سَلَاطِينِهَا وَأُمَرَائِهَا، لِئَلَّا تَرْجِعَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فَتَجْتَمِعَ كَلِمَتُهَا وَتَصْلُحَ حُكُومَتُهَا، فَتَكُونَ أُمَمًا عَزِيزَةً يَتَعَذَّرُ اسْتِعْبَادُهَا. فَبَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ الدِّينِ لِتَشْكِيكِهَا فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتِمَالَتِهَا إِلَى دِينِهِمُ الَّذِي قَلَّ مَنْ بَقِيَ لَهُ ثِقَةٌ بِهِ مِنْ سَاسَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَكِّكُهَا فِي أَصْلِ الدِّينِ، أَيْ وُجُودِ الْإِلَهِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ. كَمَا بَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ السِّيَاسَةِ يُرَغِّبُونَهَا فِي قَطْعِ الرَّابِطَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَاسْتِبْدَالِ الرَّابِطَةِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ الْوَطَنِيَّةِ بِهَا. فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْفُرْسِ، ثُمَّ بَيْنَ التُّرْكِ وَبَيْنَ الْأَلْبَانِ وَالْعَرَبِ. بَلْ صَارَ أَهْلُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضُمُّهُ رَابِطَةُ الدِّينِ وَرَابِطَةُ اللُّغَةِ وَرَابِطَةُ الْعَادَاتِ وَغَيْرُهَا يَتَعَادَى بِاسْمِ الْوَطَنِيَّةِ، فَيَعُدُّ الْمِصْرِيُّ أَخَاهُ السُّورِيَّ وَالْحِجَازِيَّ دَخِيلًا فِي بِلَادِهِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّفَرُّقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّفْرِيقِ لِلدِّينِ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ مِنَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ شَرُّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِهِدَايَتِهِ فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا. غَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ بِفَسَادِ أُمَرَائِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَغَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمْ وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ، وَمَا ظَلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ أَنْ

أَنْذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَكَانُوا مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (18: 104) بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي كِتَابِهِ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ - وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُتَفَرِّقَةِ - وَأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ هَجَرُوا الْكِتَابَ حَتَّى إِنَّ رِجَالَ الدِّينِ مِنْهُمْ تَرَكُوا إِرْشَادَ الْحُكَّامِ وَالْأُمَّةِ بِهِ، بَلِ اسْتَغْنَوْا عَنْ هِدَايَتِهِ بِتَقْلِيدِ شُيُوخِهِمْ. وَأَيَّدُوا الْحُكَّامَ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَجْلِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ فَضَلَاتِ الرِّزْقِ وَمَظَاهِرِ الْجَاهِ. الْإِصْلَاحُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْوَحْدَةِ: وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَحْرِمِ الْأُمَّةَ مِنْ نَذِيرٍ يُجَدِّدُ هِدَايَةَ الرُّسُلِ، فَقَدْ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ حَكِيمًا مِنْ سُلَالَةِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي ذَلِكَ مُرِيدٌ لَهُ تَخَرَّجَ بِهِ فَكَانَ أَفْصَحَ لِسَانًا وَأَوْضَحَ بَيَانًا. وَقَدِ اسْتَفَادَتِ الْأُمَّةُ مِنْ إِصْلَاحِ هَذَيْنِ الْحَكِيمَيْنِ وَمَنْ جَرَى عَلَى أَثَرِهِمَا مَا بَعَثَ فِيهَا الِاسْتِعْدَادَ لِلْوَحْدَةِ وَالدَّعَايَةِ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ لَا تَتَرَبَّى بِالْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا أَعَدَّتِ الْأَنْفُسَ لَهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ. وَلَا سِيَّمَا أَنْفُسِ أَهْلِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْمَغْرُورِينَ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْمُلْكِ وَبَقَايَا مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَتْ مَغْرُورَةً بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُتَّكِلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَقْوَى دُوَلِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ كَشَعْبِهَا عَمَّا عَرَاهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُعَادُونَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَكَانَ السَّيِّدُ الْأَفْغَانِيُّ - وَهُوَ الْمُوقِظُ الْأَوَّلُ - يَقُولُ: إِنَّ انْكِسَارَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ الرُّوسِيَّةِ الْأَخِيرَةِ فِي عَهْدِهِ هُوَ الَّذِي أَعَدَّ الْمُسْلِمِينَ لِإِدْرَاكِ الْخَطَرِ الَّذِي يَحِيقُ بِهِمْ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ. وَقَالَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ رِجَالِهَا: إِنَّ انْتِصَارَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَلَى الدَّوْلَةِ أَخَّرَ مَا نَرْجُو مِنَ الْإِصْلَاحِ سِنِينَ كَثِيرَةً. وَنَقُولُ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ لَهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ ظَلُّوا سَادِرِينَ فِي غُرُورِهِمْ جَامِحِينَ فِي غَيِّهِمْ. إِلَى أَنِ انْكَسَرَتْ هَذَا الِانْكِسَارَ الْفَظِيعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَاحْتَلَّ الْأَجَانِبُ الْمُنْتَصِرُونَ عَلَيْهَا عَاصِمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ غُرُورِهَا (حَتَّى كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَكْبَرُ عَقَبَاتِ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِهَا وَاقْتَرَحْنَا عَلَيْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً اسْتِبْدَالَ عَاصِمَةٍ آسْيَوِيَّةٍ بِهَا) وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَيْهَا الْقَضَاءَ الْأَخِيرَ الْمُبْرَمَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمْضَى مَنْ أَنَابَتْ عَنْهَا فِي مُؤْتَمَرِ الصُّلْحِ تِلْكَ الْمُعَاهَدَاتِ النَّاطِقَةَ بِانْتِزَاعِ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَرْمَنِيَّةً وَيُونَانِيَّةً مِنْ سَلْطَنَتِهَا، وَجَعْلِ بَقِيَّةِ بِلَادِهَا وَهِيَ الْوِلَايَاتُ التُّرْكِيَّةُ مَعَ الْعَاصِمَةِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الدُّوَلِ الْقَاهِرَةِ فِي مَالِيَّتِهَا وَإِدَارَتِهَا.

آيَاتُ اللهِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالرَّجَاءُ بَعْدَ الْيَأْسِ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا مُتَّكَأٌ وَلَا مَلْجَأٌ يَأْوِي إِلَيْهِ الْغُرُورُ، وَلَا مَنْفَذٌ يَتَسَرَّبُ مِنْهُ الْأَمَلُ، عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمَعْهُودُ فِي عُرْفِ الدُّوَلِ. هُنَالِكَ يَئِسَ الضُّعَفَاءُ، وَاسْتَسْلَمُوا لِلْأَعْدَاءِ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُرِيَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ آيَاتِ عِنَايَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ الْيَائِسِينَ مِنْ رُوحِهِ وَضَلَالِ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ. فَأُلْهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ مِنْ قُوَّادِ الدَّوْلَةِ فِي الْأَنَاضُولِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَقِرَ الْمَوْتَ. وَأَنَّ كُلَّ مِيتَةٍ يَمُوتُهَا الْإِنْسَانُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الِاسْتِحْذَاءِ، وَالْمَهَانَةِ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلْأَعْدَاءِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ الْمُعْتَصِمَةَ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ، عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُعْتَدِيَةِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ، فَأَلَّفُوا جَمْعِيَّةً وَطَنِيَّةً وَضَعُوا لَهَا مِيثَاقًا تَوَاثَقُوا عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِهِ إِلَى أَنْ يُطَهِّرُوا جَمِيعَ الْبِلَادِ التُّرْكِيَّةِ مِنَ الِاحْتِلَالِ الْأَجْنَبِيِّ فَتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً خَالِصَةً لِأَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَتْ جُيُوشُ الِاحْتِلَالِ فِي بِلَادِهِمْ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَالطَّلْيَانِ وَالْيُونَانِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذِهِ الدُّوَلِ الظَّافِرَةِ بِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ جُنْدِ الْأَنَاضُولِ وَحْدَهُ قَدْ أَنْهَكَتْهُ الْحَرْبُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ بِلَادِ الرُّومَلِلِّي تُرْكِيَا عَلَى رَأْيِهِمْ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِالْآسِتَانَةِ الَّتِي نُزِعَ سِلَاحُهَا وَاحْتَلَّتْهَا هَذِهِ الدُّوَلُ بَرًّا وَبَحْرًا. وَقَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ أَنْ كَانَ الْفَلْجُ وَالظَّفَرُ لِهَذِهِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ بَقَايَا الْجَيْشِ الْعُثْمَانِيِّ الْكَبِيرِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعُثْمَانِيَّةِ، الَّذِي فَشَلَ مَعَ أَعْظَمِ جَيْشٍ وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَسِلَاحًا وَنِظَامًا وَهُوَ فِي أَوْجِ انْتِصَارِهِ - أَعْنِي الْجَيْشَ الْأَلْمَانِيَّ -. ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَيْشَ الْعُثْمَانِيَّ الْكَبِيرَ كَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ غُلَاةُ الْعَصَبِيَّةِ الطُّورَانِيَّةِ مِنَ الِاتِّحَادِيِّينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَا لُقِّنُوا مِنْ دَسَائِسَ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ، وَخِدَاعِ الْمَاسُونِيَّةِ، وَالْجَاهِلِينَ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ، وَحَقِيقَتِهِ. فَبَثُّوا دَعْوَةَ الْكُفْرِ وَأَبَاحُوا كَبَائِرَ الْفِسْقِ. وَفَرَّقُوا الْكَلِمَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ. وَفَتَكُوا بِالْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَ أَنْ جَنَّدُوا مِنْهَا زُهَاءَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ جُنْدٍ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِمْ. فَقَتَلُوا وَصَلَبُوا شَبَابَهَا وَكُهُولَهَا النَّابِغِينَ. وَنَفَوُا الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ وَالشُّيُوخَ الْعَاجِزِينَ. فَمَهَّدُوا السَّبِيلَ لِثَوْرَةِ الْحِجَازِ. وَخَسِرُوا مَا لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ الْقُصْوَى إِلَى الِاتِّحَادِ، فَأَنَّى يَنْتَصِرُونَ أَوْ يَنْتَصِرُ بِهِمْ مَنْ يُحَالِفُونَ؟ . وَأَمَّا جَيْشُ الْأَنَاضُولِ الَّذِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى قِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ زَعِيمُهُ الْأَكْبَرُ (مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا) أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لِأَحَدٍ مِنْ زُعَمَاءِ أُولَئِكَ الْغُلَاةِ بِدُخُولِ الْأَنَاضُولِ فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ لِئَلَّا يُفْسِدُوا عَلَى الْبِلَادِ أَمْرَهَا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ مِنَ الْوُجْهَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَرَفُوا قِيمَةَ الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَطَفِقُوا يَسْعَوْنَ إِلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبِلْشِفِيِّينَ الرُّوسِيِّينَ، لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى

مُقَاوَمَةِ الْمُسْتَعْمِرِينَ، وَجَعْلِ شُعُوبِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَقَدْ قَوِيَتْ آمَالُ هَذِهِ الشُّعُوبِ فِي الِاسْتِقْلَالِ، وَطَفِقُوا يَعْقِدُونَ الْمُعَاهَدَاتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُكُومَةِ مُصْطَفَى كَمَال، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ الشَّرْقِيَّةِ، غَيْرُ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ أَوْلَاهَا بِطَلَبِ الْوَحْدَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنْ خَدَعَهُ زُعَمَاؤُهُ. وَأَضَلَّهُ سَادَتُهُ وَكُبَرَاؤُهُ. عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ. وَشَرُّهُمْ مَنْ غَشَّ قَوْمَهُ وَصَرَفَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ. بِتَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَاعَدَةِ وَالِانْتِدَابِ عَلَى الِاسْتِعْمَارِ الْمُرَادِفِ لِلِاسْتِعْبَادِ. وَزَعْمِ أَنَّ السُّلْطَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَأَنَّ مُنَاصَبَتَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَوَلَاءَهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَسَيَعْلَمُ الْمَفْتُونُونَ بِغِشِّهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْوَمُ قِيلًا، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَصِيرًا، وَيَقُولُونَ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (33: 67، 68) . وَمِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَلْقَى الْفَشَلَ السِّيَاسِيَّ بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُحْتَلَّةِ لِبِلَادِ الْأَنَاضُولِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَالرُّومَلِلِّي فَسَالَمَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الطَّلْيَانُ، ثُمَّ صَالَحَ الْكَمَالِيَّيْنِ فِيهَا الْفِرِنْسِيسُ، وَخَذَلَ اللهُ تَعَالَى الْيُونَانَ الْمُجَاهِرَةَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُنْفَرِدَةَ بِالْحَرْبِ، اعْتِمَادًا عَلَى مُسَاعَدَةِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَحَوَّلْ عَنْ سِيَاسَتِهَا الْقَدِيمَةِ فِي ضَرْبِ الْأُمَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَخُلِقَ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَشَاكِلِ السِّيَاسِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَشْتَهِي مِنَ الْإِجْهَازِ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، وَالْجَرْيِ عَلَى قَاعِدَةِ مَا أَخَذَ الصَّلِيبُ مِنَ الْهِلَالِ لَا يَعُودُ إِلَى الْهِلَالِ حَتَّى عَجَزَتْ - عَلَى دَهَائِهَا وَحَزْمِهَا وَعُلُوِّ نُفُوذِهَا السِّيَاسِيِّ وَالْمَالِيِّ وَالْحَرْبِيِّ فِي أُورُبَّةَ كُلِّهَا - عَنْ حَلِّ أَيَّةِ مُشْكِلَةٍ مِنْهَا: وَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثٌ فَأَرَتْنَا قُدْرَةُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا مُنْتَهَى الْعَجْزِ عَنْ بُلُوغِ مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ وَالْأَيْدِ، فَقَدْ ثَارَتْ عَلَيْهَا أَرْلَنْدَةُ وَمِصْرُ وَفِلَسْطِينُ وَالْعِرَاقُ وَالْهِنْدُ ثَوْرَاتٍ مُخْتَلِفَةَ الْمَظَاهِرِ مُتَّفِقَةَ الْمَقَاصِدِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَضْعَفُهَا فِي الظَّاهِرِ أَقْوَاهَا فِي الْبَاطِنِ كَثَوْرَةِ الْهِنْدِ السَّلْبِيَّةِ بِالْمُقَاطَعَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، فَقَدْ دَعَا الزَّعِيمُ الْهِنْدِيُّ الْأَكْبَرُ (غَانْدِهِي) قَوْمَهُ إِلَى عِقَابِ حُكُومَتِهِمُ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْمُسْتَعْمِرَةِ عَلَى اسْتِبْدَادِهَا بِأُمُورِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهَا بِوُجْدَانِهِمْ وَشُعُورِهِمْ بِمُقَاطَعَةِ تِجَارَتِهَا وَتَرْكِ لُبْسِ مَنْسُوجَاتِهَا، فَرَدَّدَ صَدَى دَعْوَتِهِ جَمِيعُ الزُّعَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْهِنْدُوسِ عَلَى سَوَاءٍ، وَطَفِقُوا يَحْرِقُونَ مَا عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ هَذَا اللِّبَاسِ بَعْدَ نَزْعِهِ فِي الْمُحَافِلِ الْعَامَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَقِبَ الْخُطَبِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا،

وَلَوْ حَذَا الْمِصْرِيُّونَ حَذْوَهُمْ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْجَدِيدِ وَلَوْ مَعَ اسْتِبْقَاءِ التَّلِيدِ لَكَانَ ذَلِكَ أَقَرَبَ وَسِيلَةٍ إِلَى نَيْلِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْحُرِّيَّةِ مِنْ خُطَبِ الزَّعِيمِ سَعْدٍ بَاشَا الْبَلِيغَةِ وَمُفَاوَضَاتِ الْوَزِيرِ عَدْلِي بَاشَا الرَّسْمِيَّةِ. وَمِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَحُجَجَهِ أَيْضًا أَنْ سَخَّرَ الدَّوْلَةَ الرُّوسِيَّةَ الْجَدِيدَةَ لِمُظَاهَرَةِ التُّرْكِ وَشَدِّ أَزْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ عَلَى عَهْدِ الْقَيَاصِرَةِ هِيَ الْخَطَرَ الْأَكْبَرَ عَلَى السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِظُهُورِهَا عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ حُرُوبٍ، بَلِ انْبَرَتْ حُكُومَةُ (السُّوفْيَاتِ) الرُّوسِيَّةُ الْجَدِيدَةُ لِبَثِّ الدَّعْوَةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ وَسَائِرِ شُعُوبِ الشَّرْقِ الْمُسْتَعْبَدَةِ لِلْأَجَانِبِ بِأَنْ يَهُبُّوا لِطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الثَّوْرَةِ فِي الْهِنْدِ - وَجَعَلَ الْإِمَارَةَ الْأَفْغَانِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَقْهُورَةً مَحْصُورَةً بَيْنَ الْبِرِيطَانِيِّينَ فِي الْهِنْدِ وَبَيْنَ الرُّوسِ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً ذَاتَ سُفَرَاءَ لَدَى الدُّوَلِ الْأُورُبِّيَّةِ وَغَيْرِهَا - وَنَجَّى الدَّوْلَةَ الْإِيرَانِيَّةَ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي عَقَدَتْهَا مَعَ انْكِلْتِرَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ قَاضِيَةً عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِسُوءِ اخْتِيَارِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنْ رِجَالِهَا. بَلْ فَعَلَتْ دَوْلَةُ السُّوفْيَاتِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، عَقَدَتْ مُعَاهَدَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الثَّلَاثِ: التُّرْكِ، وَالْفُرْسِ، وَالْأَفْغَانِ. اعْتَرَفَتْ فِيهَا بِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُنَّ، وَأَرْجَعَتْ إِلَيْهِنَّ مَا كَانَتْ دَوْلَةُ الْقَيَاصِرَةِ قَبْلَهَا قَدْ سَلَبَتْهُنَّ، وَأَسْقَطَتْ لِلْمَدِينَاتِ مِنْهُنَّ لِلرُّوسِيَّةِ مَا كَانَ لَهَا مِنَ الدَّيْنِ عَلَيْهِنَّ، وَسَمَحَتْ لِلدَّوْلَةِ الْإِيرَانِيَّةِ بِمَا لَهَا فِي بِلَادِهَا مِنْ سِكَكِ الْحَدِيدِ؛ فَلِذَا كَانَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ مَعَ الشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ كُلِّهَا رَاضِيًا عَنْ حُكُومَةِ الرُّوسِ الْجَدِيدَةِ شَاكِرًا لَهَا مُثْنِيًا عَلَيْهَا، لَا يُثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ مَا أَصَابَ الْبِلَادَ الرُّوسِيَّةَ نَفْسَهَا مِنَ الْمَصَائِبِ بِتَنْفِيذِ نَظَرِيَّاتِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ فِيهَا، وَلَا مَا بَثَّتْهُ الدَّوْلَةُ الْبِرِيطَانِيَّةُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ذَمِّ هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا، بَلْ كَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَطْفِ عَلَيْهَا وَالشُّكْرِ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَبْعَدَ الشُّعُوبِ عَنِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَذَاهِبِهَا. فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الشُّعُوبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ رَبِّهَا، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي التَّعَاوُنِ الْمُمْكِنِ عَلَى دَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا وَطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْمُطْلَقِ لِكُلٍّ مِنْهَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَحَالِفَةً مُتَكَافِلَةً فِي سِيَاسَتِهَا، فَهِيَ بَالِغَةٌ بِتَوْفِيقِ اللهِ مُنْتَهَى مَا تُؤَمِّلُ وَتَرْجُو، وَإِنَّمَا الْخِزْيُ وَالسُّوءُ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِإِغْوَاءِ عَدُوِّ اللهِ الْيَائِسِينَ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) (18: 57) .

160

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَعَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ. جَاءَتْ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ وَأُصُولَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَتْ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينَ، وَفَنَّدَتْ مَا يُورِدُهُ الْكَفَّارُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَمَا بَيَّنَتْ بِالْبَرَاهِينِ فَسَادَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَأُصُولِ الْكُفْرِ وَأَبْطَلَتْ شُبُهَاتِ أَهْلِهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ أُصُولَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الرَّذَائِلِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْجَزَاءَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخِرَةِ، بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى فَوَائِدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا ذُيِّلَتْ بِهِ آيَاتُ الْوَصَايَا. وَمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَامًّا كَعُمُومِهَا، وَلَا مُبَيِّنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كَبَيَانِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَلَبِّسًا بِالصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ طَابِعُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَلَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا مِنَ الْعَطَايَا، فَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِهِ أَنْ تَكُونَ حَالَةً حَسَنَةً بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى آثَارِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ، فَهُوَ يُعْطِيهِ ذَلِكَ مُضَاعَفًا عَشَرَةَ أَضْعَافٍ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعَبِيدِهِ الْمُكَلَّفِينَ. (وَقَدْ قَرَأَ يَعْقُوبُ " عَشْرٌ " بِالتَّنْوِينِ وَ " أَمْثَالُهَا " بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَشْرَ لَا تَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ، فَقَدْ وَعَدَ بِالْمُضَاعَفَةِ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ التَّغَابُنِ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (64: 17) وَبِالْمُضَاعَفَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَثْرَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (2: 245) الْآيَةَ. ثُمَّ بِالْمُضَاعَفَةِ سَبْعُمِائَةَ ضِعْفٍ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا أَيْضًا: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (2: 261) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ نَفْسَهَا. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهَا أَوْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُضَاعَفَةَ كُلَّهَا خَاصَّةٌ

بِالْإِنْفَاقِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ عَامَّةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَتَنَاوَلُ مَا زَادَ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَا نَقَصَ عَنْهُ، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَفَاوُتِ الْمُنْفِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَالِاحْتِسَابِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ وَفِيمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَمَلِ كَالْإِخْفَاءِ سِتْرًا عَلَى الْمُعْطِي وَتَبَاعُدًا مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالْإِبْدَاءِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْقُدْوَةِ، وَتَحَرِّي الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، وَفِي الْأَحْوَالِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ كَالرِّيَاءِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَالْعِشْرَةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالْحَسَنَةِ، وَالْمُضَاعَفَةُ فَوْقَهَا تَخْتَلِفُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُحْسِنِينَ، فَقَدْ بَذَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نِصْفَ مَا يَمْلِكُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ عَطَاءَيْهِمَا. وَالدِّرْهَمُ مِنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ أَعْظَمُ مِنْ دِينَارِ الْغَنِيِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَمَنْ يَبْذُلُ الدِّرْهَمَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ نَفْسُهُ حَزِينَةً عَلَى فَقْدِهِ لَيْسَ كَمَنْ يَبْذُلُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مَسْرُورَةً بِالتَّوْفِيقِ لِإِيثَارِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِهِ عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (57: 10) وَتَفْصِيلُ التَّفَاوُتِ فِيمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مَا يُرْشِدُ إِلَى غَيْرِهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ أَمْثَالٍ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ لِيَتَّفِقَ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا. (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) أَيْ وَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّفَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ الْكُفْرُ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَلَا يُجْزَى إِلَّا عُقُوبَةَ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا. بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي تَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا وَتَقْدِيرِهِ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا بِالْعَدْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: الصِّفَةُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَمْ نَقُلِ الْفِعْلَةُ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَعْرَاضٌ تَزُولُ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَصْفًا لَهَا لَا يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (139) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي أَهْلِ السَّيِّئَاتِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْهُمْ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ الشِّدَّةِ فِي وَصْفِ عَذَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِالْجَزَاءِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَهٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ

بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا " إِلَخْ. وَالَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّهَا فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ النَّقْصُ مِنَ الشَّيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (18: 33) ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ تَعَدٍّ وَإِيذَاءٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ لَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا ذُكِرَ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ إِذْ لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَسْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُمَكِّنُهُ مِنَ الظُّلْمِ كَمَا يَفْعَلُ الْأَقْوِيَاءُ الْأَشْرَارُ فِي الدُّنْيَا بِالضُّعَفَاءِ. وَفِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالظُّلْمِ وَعَدَمِهِ جِدَالٌ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، يَتَأَوَّلُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآيَاتِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَقِّ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيُرَاجَعُ فِيهِ وَفِي مَعْنَى مُضَاعَفَةِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (4: 40) فَإِنَّهُ يُجَلِّي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَا فِي خِلَافِ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الضَّعْفِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الظُّلْمِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى عَقْلًا وَاسْتِحَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إِنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ - ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى كَتَبَهَا اللهُ لَهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ. وَأَخَذُوا هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ: " يَقُولُ اللهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " وَهَذَا يُفَسِّرُ كِتَابَةَ تَرْكِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأَمْرٍ سَلْبِيٍّ مَحْضٍ بَلْ لِعَمَلٍ نَفْسِيٍّ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ عَمَلِ السَّيِّئَةِ مِنْ أَجْلِ ابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَاتِّقَاءِ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ - فَقُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: " فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ

ثُمَّ أَتْبَعُهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةَ أَيَّامٍ بِسِتِّينَ يَوْمًا. وَمِنَ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الثَّوَابَ كُلَّهُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّفَضُّلَ الْمَنْفَعَةُ غَيْرُ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ التَّفَضُّلِ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْعَكْسُ أَوِ الْمُسَاوَاةُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ فَيَكُونُ عَبَثًا وَقَبِيحًا، مِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ الْأَمْثَالِ فِي جَزَاءِ الْحَسَنَةِ تَفَضُّلًا وَالثَّوَابُ غَيْرُهَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ هُوَ الثَّوَابَ وَالتِّسْعَةُ تَفَضُّلًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ أَعْظَمَ وَأَعْلَى شَأْنًا مِنَ التِّسْعَةِ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ التَّفَضُّلُ مَا زَادَ وَفَضَلَ عَلَى أَصْلِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَأَيُّ مَانِعٍ أَنْ يَزِيدَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ حِينَئِذٍ عَبَثًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَوْ كَانَ التَّفَضُّلُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ فَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ شَرْعِيَّةً وَأَجَابَ عَنْهَا أَجْوِبَةً ضَعِيفَةً قَالَ: (الْأَوَّلُ) كُفْرُ سَاعَةٍ كَيْفَ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ عَلَى نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ. (جَوَابُهُ) أَنَّهُ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَزْمُ مُؤَبَّدًا عُوقِبَ عِقَابَ الْأَبَدِ، خِلَافَ الْمُسْلِمِ الْمُذْنِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى عَزْمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَنَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) إِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَعْزِمُ أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْعَزْمُ الْمَذْكُورُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ عَرَضَتْ لَهُ عَقِيدَةٌ أَوْ فَعْلَةٌ مِمَّا عَدُّوهُ كُفْرًا سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ وَمَاتَ عَلَيْهَا، وَالْكَفْرُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جُحُودِ الْعِنَادِ وَرُبَّمَا كَانَ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ نَاجُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. (ثَانِيًا) أَنَّ كَوْنَ الْعِقَابِ الْأَبَدِيِّ عَلَى الْعَزْمِ الْمَذْكُورِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ، وَالْعَقْلُ لَا يُوجِبُهُ بَلْ لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ حُكْمًا مَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا يَرِدُ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ هُنَا تَبَعًا لِمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا مِنْ كَوْنِ الْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ تَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ. (ثَالِثُهَا) قَدْ تَنَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِمِثْلِ مَا نَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (128) وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَفْيُ كَوْنِ الْعَذَابِ أَبَدِيًّا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَثَانِيهُمَا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ.

ثُمَّ قَالَ: (الثَّانِي) إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ، تَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (جَوَابُهُ) أَنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ وَحُكْمِهِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ الْعِتْقَ كَفَّارَةً لِذُنُوبٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِنَّمَا لِعِنَايَتِهِ بِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْهَا لَهُ جَزَاءٌ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِهِ، يُشِيرُ إِلَيْهِ تَفَاوُتُ الْكَفَّارَةِ بِالصِّيَامِ. ثُمَّ قَالَ: (الثَّالِثُ) إِذَا أَحْدَثَ فِي رَأْسِ إِنْسَانٍ مُوضِحَتَيْنِ وَجَبَ فِيهِ أَرْشَانِ فَإِنْ رُفِعَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا صَارَ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوَضِحَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَاهُنَا ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ وَقَلَّ الْعِقَابُ فَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (وَجَوَابُهُ) أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِصَاصِ فِي شَجَّةِ الرَّأْسِ الْمُوضِحَةِ (وَهِيَ مَا كَشَفَ الْعَظْمَ) وَالْمُوضِحَتَيْنِ لَيْسَ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ نَصُّ الشَّرْعِ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَتَعَبَّدْنَا بِهِ تَعَبُّدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَرْشُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِذَا شَجَّ رَجُلٌ رَجُلًا مُوَضِحَتَيْنِ ثُمَّ أَزَالَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَالْمُوضِحَةِ الْوَاحِدَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَبَدَّلُ فَيَصِيرُ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ، وَإِنْ قَالَهُ مَعَهُ مِائَةُ فَقِيهٍ مِثْلُهُ. ثُمَّ قَالَ: (الرَّابِعُ) إِنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ إِذَا قَتَلَهُ وَفَوَّتَ كُلَّ الْأَعْضَاءِ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَوْلَ مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ (وَجَوَابُهُ) أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ. وَنَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ هُوَ وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ كَمَا زَعَمَ بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ إِذَا كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيٌّ لِدَمٍ وَيَرْضَى بِالدِّيَةِ. وَفَسَادُ قَتْلِ الْخَطَأِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ دُونَ فَسَادِ قَطْعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ أَوْ قَلْعِ الْعَيْنِ تَعَمُّدًا ; عَلَى أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِعُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا يُرَاعَى فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ مَا لَا مَحَلَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِشَرْطِهِ يُرَاعَى فِيهِ رَدْعُ الْمُجْرِمِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يُزِيلُ أَمْنَ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَيَسْلُبُ رَاحَتَهُمْ وَيُكَلِّفُهُمْ بَذْلَ مَالٍ كَثِيرٍ وَعَنَاءٍ عَظِيمٍ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ - وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي سَارِقُ الدِّينَارِ أَوْ رُبْعِ الدِّينَارِ وَسَارِقُ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحَسْبُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ هُنَا.

161

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْجَامِعَةِ فَكَانَتْ خَيْرَ الْخَوَاتِيمِ فِي بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. ذَلِكَ بِأَنَّنَا بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا أَجْمَعُ السُّورِ لِأُصُولِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهَا وَدَفْعِ الشُّبَهَ عَنْهَا، وَلِإِبْطَالِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهِ. وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ السُّورَةِ فِي أُسْلُوبِهَا وَمَعَانِيهَا ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا امْتَازَتْ بِهِ السُّورَةُ كَثْرَةُ بَدْءِ الْآيَاتِ فِيهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةِ (قُلْ) لِأَنَّهَا لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، كَمَا كَثُرَ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مَبْدُوءَةً بِكَلِمَةِ (وَقَالُوا) مَعَ التَّعْقِيبِ عَلَيْهَا بِكَشْفِ الشُّبْهَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ - تَرَى بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ فِي آخِرِ الْعُشْرِ الْأَوَّلِ وَأَوَّلِ الْعُشْرِ الثَّانِي مِنْهَا - فَجَاءَتْ هَذِهِ الْخَاتِمَةُ بِالْأَمْرِ الْأَخِيرِ لَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ الْقَوْلَ الْجَامِعَ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا فُصِّلَ فِي السُّورَةِ هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَدِينُهُ الْقَيِّمُ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، دُونَ مَا يَدَّعِيهِ الْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْمُحَرِّفُونَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَصِمٌ بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِيمَانًا وَتَسْلِيمًا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْلَصُ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَخْشَعُ الْعَابِدِينَ، بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَجْدِيدِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ بَعْدَ تَحْرِيفِهِ وَانْحِرَافِ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَأَنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُخَالِفُنَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مَبْنِيٌّ

عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (12: 106) وَأَنَّ الْجَزَاءَ عِنْدَ اللهِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ أَوْ مُؤَاخَذَتِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. وَأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى سُنَنًا فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ وَاخْتِبَارِهِمْ بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِقَابَ الْمُسِيئِينَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَهْدِمُ أَسَاسَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْوُسَطَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِمْ. (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتِمُ لِلنَّبِيِّنَ لِقَوْمِكَ وَسَائِرِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَهُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ: إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي وَأَوْصَلَنِي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ بِفَضْلِهِ وَاخْتِصَاصِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَذَا غَيْرُهَا إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَتَأْخِيرٍ ; لِأَنَّهُ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (48: 2) وَهُوَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى طَلَبِهِ مِنْهُ تَعَالَى فِي مُنَاجَاتِكُمْ إِيَّاهُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (1: 6) (دِينًا قِيَمًا) أَيْ إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يَصْلُحُ وَيَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ: فَقَوْلُهُ: (دِينًا) بَدَلٌ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَ (قِيَمًا) صِفَةٌ لَهُ. قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَكَانَ قِيَاسُهُ " قِوَمًا " كَعِوَضٍ وَلَكِنَّهُ أُعِلَّ تَبَعًا لِفِعْلِهِ " قَامَ " كَالْقِيَامِ وَأَصْلُهُ الْقَوَامُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَأَوَاخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الشَّيْءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ (سَيِّدٍ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُسْتَقِيمِ بِزِنَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ بِصِيغَتِهِ وَكَثْرَةِ مَادَّتِهِ وَقِيلَ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ، فَكَانَ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَيِّمًا، أَوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَهْلًا. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (5: 97) مَا يُفِيدُ الْقَارِئَ تَفْصِيلًا فِيمَا فَسَّرْنَا بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أَيْ أَعْنِي - أَوِ الْزَمُوا - مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ جَمِيعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْعِوَجِ وَالضَّلَالِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ تُنَافِي الشِّرْكَ، فَفِيهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 135) وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 67 و95) وَسُورَةِ النَّحْلِ (16: 120 و123) وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 79) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَجَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (4: 125) وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ حَنِيفًا هُنَا حَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَقِيلَ: مِنْ إِبْرَاهِيمَ.

هَذَا الدِّينُ دِينُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَقَرَّرَهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ هُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ الْعَرَبُ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَّلٌّ يَدَّعِي الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنَ الْعَرَبِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ، مُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ وُصِلَ وَصْفُهُ بِالْحَنِيفِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَكَذَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِادِّعَاءِ اتِّبَاعِهِ وَاتِّبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ الشِّرْكِيَّةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ يَسْرِي إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاحْتِرَاسَ فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (3: 67) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي إِرْشَادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (22: 30، 31) وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ يُونُسَ: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (10: 105) وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (30: 30 - 32) فَهَذَا بِمَعْنَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَسِيَاقِهِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. وَأَمَّا أَمَرُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَا هَدَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَيِّمِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (16: 120 - 123) فَحِكْمَةُ كُلٍّ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ اسْتِمَالَةُ الْعَرَبِ ثُمَّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِبَيَانِ أَنَّ أَسَاسَهُ وَقَوَاعِدَ عَقَائِدِهِ وَدَعَائِمَ فَضَائِلِهِ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى هُدَاهُ وَجَلَالَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (5: 48) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ

162

بِطُولِهَا لِمُنَاسِبَةِ آخِرِهَا لِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ السُّورِ الطُّوَالِ وَالْمَائِدَةُ آخَرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا. وَإِذْ عَلِمْنَا حِكْمَةَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا مَجَالَ بَعْدُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ، وَلَا أَنَّ مِلَّتَهُ أَكْمَلُ، إِذْ لَيْسَ هَذَا بِمُنَافٍ وَلَا بِمُعَارِضٍ لِنَصِّ آيَةِ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْعَالَمِينَ، عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هَذَا بَيَانٌ إِجْمَالِيٌّ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْعَمَلِ، بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ جِنْسُهَا الشَّامِلُ لِلْمَفْرُوضِ وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالنُّسُكُ فِي الْأَصْلِ الْعِبَادَةُ أَوْ غَايَتُهَا وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ وَعِبَادَةِ الذَّبَائِحِ وَالْقَرَابِينِ فِيهِ أَوْ مُطْلَقًا. وَفُسِّرَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) (2: 128) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (2: 200) فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِبَادَاتُ الْحَجِّ كُلُّهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَخْصِيصِ النُّسُكِ بِبَعْضِ الذَّبَائِحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (2: 196) فَالنُّسُكُ فِي هَذِهِ الْفِدْيَةِ ذَبْحُ شَاةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (22: 34) قَدْ عَيَّنَ التَّعْلِيلَ وَالسِّيَاقَ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالنُّسُكِ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ الْقَرَابِينُ أَوَتُنْحَرُ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَبَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي ذَلِكَ خَاصَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) (22: 67) فَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الدِّينِ أَوِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَا قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمَأْثُورِ بِالذَّبْحِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعِيدِ. وَحَقَّقَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَشَاعِرِ الْحَجِّ وَمَعَاهِدِهِ وَعَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَ فِيهَا لِلْأَصْنَامِ كَالنُّصُبِ. وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِي تَفْسِيرِ: (نُسُكِي) هُنَا فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ذَبِيحَتِي، وَعَنْ قَتَادَةَ: حَجَّتِي وَمَذْبَحِي. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ضَحِيَّتِي، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ذَبِيحَتِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: يَعْنِي الْحَجَّ. وَلَا يُنَافِي تَنَافِي تَفْسِيرِهِ بِالذَّبِيحَةِ الدِّينِيَّةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ فِدْيَةً أَوْ أُضْحِيَّةً فِي الْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي - إِلَى قَوْلِهِ - أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " الْحَدِيثُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: " يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِهِ وَقَوْلِي: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ". وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِلنُّسُكِ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَذَبْحِ النُّسُكِ كَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (108: 2) وَإِذَا فُسِّرَ النُّسُكُ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا يَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ سَبَبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ هُوَ كَوْنَهَا أَعْظَمَ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الشِّرْكُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَرُوحُهَا الدُّعَاءُ وَالتَّعْظِيمُ، وَتُوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الشِّرْكُ مِمَّنْ يُغَالُونَ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ أَوْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ وَالذَّبَائِحُ فَالشِّرْكُ فِيهِمَا أَظْهَرُ، وَقَلَّمَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي الصِّيَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ خَفِيٌّ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا صِيَامًا أَضَافُوهُ إِلَى بَعْضِ مُقَدَّسِيهِمْ كَصَوْمِ السَّيِّدَةِ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا صَدَقَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِي اتِّبَاعِهِمْ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَإِنَّهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ. وَقَدْ كَانَتِ الذَّبَائِحُ عِنْدَ الْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُقَرِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَيُهِلُّونَ بِهَا لَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخَرَجُوا بِقَرَابِينِهِمْ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ مِنْ كَفَّارَةٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَصَارُوا يُهِلُّونَ بِهَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُنْذِرُونَهَا لِأُولَئِكَ الْقِدِّيسِينَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ عِبَادَةِ الشِّرْكِ، فَمَنْ فَعَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَهَا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ " الْآيَةِ: 145 " وَسُورَتَيِ الْبَقَرَةِ " الْآيَةِ: 173 " وَالْمَائِدَةِ " الْآيَةِ: 3 ". وَمَا تَأْوِيلُ بَعْضِ الْمُعَمَّمِينَ لَهُمْ إِلَّا كَتَأْوِيلِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ. وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا وَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا تَمْتَازُ عَلَى الْعَادَاتِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى الْمَعْبُودِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَطَلَبًا لِمَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوِ الذَّابِحُ بِذَلِكَ وَيَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَهُ فَهُوَ مَعْبُودٌ لَهُ، سَوَاءٌ عَبَّرَ فَاعِلُهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، فَإِنْ تَوَجَّهَ أَحَدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ خَلْقُهُ كَانَ مُشْرِكًا، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ. إِنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لَا يَكُونَانِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ إِلَّا خَالِصَيْنِ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُعَدُّ

163

مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ. وَأَمَّا الْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ فَهُمَا مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَزَعَمَ الرَّازِيُّ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِمَا مَعَ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لِلَّهِ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا تَأْثِيرٌ. وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ السُّخْفِ بِعَصَبِيَّةِ الْمَذْهَبِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُنَافَاةِ قَوْلِهِ: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) لَهُ، وَعَنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ وَالْمُشْرِكُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فِي بَيَانِ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ. وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْتِهِ - وَكَذَا مَنْ تَأَسَّى بِهِ - لِلَّهِ وَحْدَهُ هُوَ أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَحَصَرَ نِيَّتَهُ وَعَزْمَهُ فِي حَبْسِ حَيَاتِهِ لِطَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ تَعَالَى، وَبَذْلِهَا فِي سَبِيلِهِ لِيَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَعِيشُ عَلَيْهِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كُلُّهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. زَادَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَوْ طَاعَاتِ الْحَيَاةِ وَالْخَيْرَاتِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْمَمَاتِ كَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ أَوِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ أَنْفُسِهِمَا اهـ. وَيُزَادُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْمَوْتِ كُلُّ مَا يَبْتَدِئُ ثَوَابُهُ بِهِ كَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْمَوْتِ وَمَا يَسْتَمِرُّ بَعْدَهُ - وَإِنْ وُجِدَ قَبْلَهُ - كَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فِي عَهْدِ الْحَيَاةِ، وَالتَّصَانِيفِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ. وَبِهَذَا تَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ غَرَضُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ مِنْ حَيَاتِهِ وَذَخِيرَتُهُ لِمَمَاتِهِ، يَجْعَلُهَا خَالِصَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ " اللهُ " وَ " رَبُّ الْعَالَمِينَ " لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يُطْلِقُونَهُمَا عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ وَلَا مَعْبُودَاتِ غَيْرِهِمُ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي أَشْرَكُوهَا مَعَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:، وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ (مَحْيَايْ) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ وَلَا يَزَالُ جَارِيًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِرَاقِيِّينَ حَتَّى فِي الشِّعْرِ. فَتَذَكَّرْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ أَنَّ الَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِلَّهِ وَمَمَاتُهُ لِلَّهِ، يَتَحَرَّى الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَطْلُبُ الْكَمَالَ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، لِيَكُونَ قُدْوَةً فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلًا لِرِضْوَانِ رَبِّهِ الْأَكْبَرِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ يَتَحَرَّى أَنْ يَمُوتَ مِيتَةً مُرْضِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحْرِصُ عَلَى الْحَيَاةِ لِذَاتِهَا، وَلَا يَخَافُ الْمَوْتَ فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي أَهْلِ الْجَوْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَهَذَا مُقْتَضَى الدِّينِ يَقُومُ بِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ، وَلَا يُفَكِّرُ فِيهِ مَنْ يَكْتَفُونَ بِجَعْلِهِ مِنْ قَبِيلِ الرَّوَابِطِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَأَيْنَ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ إِذَا أَقَامُوهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ؟ أُولَئِكَ الْمَادِّيُّونَ الَّذِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعُ بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالتَّعَدِّيَاتُ الْوَحْشِيَّةُ. يَعْدُو الْأَقْوِيَاءُ مِنْهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ لِاسْتِعْبَادِهِمْ، وَتَسْخِيرِهِمْ لِشَهَوَاتِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الدِّينِ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ

قَدْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ، وَفُتِنُوا بِزِينَةِ أَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَقُوَّتِهِمْ. وَلَمْ يُجَارُوهُمْ فِي فُنُونِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَلَوِ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَعَادُوا إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ لَنَالُوا سِيَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ قَدْ أَيْقَظَهُمْ مِنْ رُقَادِهِمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ أَجْدَادِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ. (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ فَيَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِكَةٌ مَا فِي عِبَادَتِهِ، بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَعَهُ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَتِهِ، أَوْ تُذْبَحَ لَهُ النِّسَائِكُ لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) وَبِذَلِكَ التَّجْرِيدِ فِي الْتَوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، أَمَرَنِي رَبِّي، وَلَا يُعْبَدُ الرَّبُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَ، دُونَ أَهْوَاءِ الْأَنْفُسِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعُقُولِ وَتَقَالِيدِ الْبَشَرِ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَالرُّتْبَةِ، وَأَوَّلُهُمْ فِي الزَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْمُذْعِنِينَ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَنَهْيِهِ، بِحَسَبَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى الَّتِي فَضَّلَهُ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَقَّنَهُ رَبُّهُ الْإِسْلَامَ، فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّامِلَةِ دَعْوَتُهَا لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَالْمَوْصُوفَةِ بَعْدَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ عُمُومُ بَعْثَتِهِ وَخَيْرِيَّةُ أُمَّتِهِ أَوَّلِيَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلِيَّتُهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ أَيْضًا، فَيَكُونُ أَوَّلًا فِي كُلٍّ مِنْ مَزَايَاهُ الْخَاصَّةِ وَرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْأَوَّلِ مِمَّا فَتَحَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْآنَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى بُرْهَانِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، بِمَا أَمَرَهُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللهِ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ بِالْحَقِّ، أَطْلُبُ رَبًّا آخَرَ أُشْرِكُهُ فِي عِبَادَتِي لَهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَبْحِ النِّسَائِكِ أَوْ نَذْرِهَا لَهُ، لِيَنْفَعَنِي أَوْ يَمْنَعَ الضُّرَّ عَنِّي، أَوْ لِيُقَرِّبَنِي إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعَ لِي عِنْدَهُ كَمَا تَفْعَلُونَ بِآلِهَتِكُمْ! وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عُبِدَ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَخَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْمَسِيحِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ الْمُذَكِّرَةِ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَصَانِعِيهَا (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (37: 96) ، فَإِذَا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ الْمُقَدِّرَ، وَهُوَ السَّيِّدَ الْمَالِكَ الْمُدَبِّرَ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَفَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَكَيْفَ أُسَفِّهُ نَفْسِي وَأَكْفُرُ رَبِّي بِجَعْلِ الْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ مِثْلِي رِبًّا لِي؟ ! وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ

164

مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِخَلْقِ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ دُونَ هُوتِهِ إِذِ اللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْحُلُولِ فِي الْأَجْسَادِ، وَالتَّحَوُّلِ فِي صُوَرِ الْعِبَادِ. (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَمُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ مِثْلُهَا، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 36 - 39) وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ لِلْبَشَرِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، لِأَنَّهَا هَادِمَةٌ لِأَسَاسِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهَادِيَةٌ لِلْبَشَرِ إِلَى مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ (وَهُوَ عَمَلُهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَسَاسَ الْوَثَنِيَّةِ طَلَبُ رَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ بِقُوَّةٍ مِنْ وَرَاءِ الْغَيْبِ، هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ وَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ - الْمُمْتَازَةِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا - بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ لِيُعْطِيَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ بِدُونِ كَسْبٍ وَلَا سَعْيٍ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِيَحْمِلُوا عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ حَتَّى لَا يُعَاقِبَهُمْ تَعَالَى بِهَا، أَوْ يَحْمِلُوا الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى رَفْعِهَا عَنْهُمْ وَتَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى إِعْطَائِهِمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ سُنَّتِهِ وَتَبْدِيلِهَا فِي أَمْثَالِهِمْ، أَوْ تَحْوِيلِهَا عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (35: 43) . فَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ عَامِلَةٍ مُكَلَّفَةٍ إِثْمًا إِلَّا كَانَ عَلَيْهَا جَزَاؤُهُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا تَحْمِلُ نَفْسٌ فَوْقَ حِمْلِهَا حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ إِنَّمَا تَحْمِلُ وِزْرَهَا وَحْدَهَا (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (2: 286) دُونَ مَا كَسَبَ أَوِ اكْتَسَبَ غَيْرُهَا. وَالْوِزْرُ فِي اللُّغَةِ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَوَزَرَهُ يَزِرُهُ - حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى: لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ غَيْرِهِ، فَالدِّينُ قَدْ عَلَّمَنَا أَنْ نَجْرِيَ عَلَى مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ مِنْ أَنَّ سَعَادَةَ النَّاسِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ عَمَلَ كُلِّ نَفْسٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا التَّأْثِيرَ الْحَسَنَ الَّذِي يُزَكِّيهَا إِنْ كَانَ صَالِحًا، أَوِ التَّأْثِيرَ السَّيِّئَ الَّذِي يُدَسِّيهَا وَيُفْسِدُهَا إِنْ كَانَ فَاسِدًا، وَأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّأْثِيرِ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِي عَمَلٍ أَوْ مُعَلِّمًا لَهُ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِ مَنْ أَرْشَدَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ زِيَادَةً عَلَى انْتِفَاعِهِ بِأَصْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَمَنْ كَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي عَمَلٍ أَوْ دَالًّا عَلَيْهِ وَمُغْرِيًا بِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ أَفْسَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنْ عَمَلِ الْهَادِينَ وَالْمُضِلِّينَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي

الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَجَلِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ " مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ. . . وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ. . . " وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُضِلِّينَ مِنَ النَّاسِ: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (16: 25) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) (29: 13) . وَلَكِنْ أُشْكِلَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ وَلَيْسَ فِي سَائِرِهَا، ذِكْرُ " بِبَعْضِ " وَالْمُرَادُ مِنَ النِّيَاحَةِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْبُكَاءِ الْمُجَرَّدِ، وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ إِذَا أَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ وَكَانَ مِمَّنْ يَرْضَى بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِنُوَاحِ الْحَيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَشْعُرَ بِبُكَائِهِ فَيُؤْلِمَهُ ذَلِكَ، لَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَذِّبُهُ بِهِ وَيُؤَاخِذُهُ عَلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتْ أُمُّ عَمْرِو بِنْتِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ فَحَضَرَتُ الْجِنَازَةَ فَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ بُكَاءً فَقَالَ: أَلَا تَنْهَى هَؤُلَاءِ عَنِ الْبُكَاءِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ " فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّكَ لَتُخْبِرُنِي عَنْ غَيْرِ كَاذِبٍ وَلَا مُتَّهَمٍ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَكْفِيكُمْ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) اهـ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ كُلَّ مَا يُرْوَى لَهَا مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَتَحْمِلُ رِوَايَةَ الصَّادِقِ عَلَى خَطَأِ السَّمْعِ أَوْ سُوءِ الْفَهْمِ - وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ قَصَّرُوا فِي إِعْلَالِ الْأَحَادِيثِ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرِّوَايَةِ الْآحَادِيَّةِ لِلْقَطْعِيِّ كَالْقُرْآنِ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ. وَمِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَهُ: دُعَاءُ أَوْلَادِهِ لَهُ، أَوْ حَجُّهُمْ وَتَصَدُّقُهُمْ عَنْهُ، وَقَضَاؤُهُمْ لِصَوْمِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَلْحَقَ اللهُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ. وَمَنْ قَالَ بِانْتِفَاعِ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ وَلَدَهُ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلَا الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ صَحَّ فِيهِ الْإِذْنُ بِالصَّدَقَةِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَبِالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْمُنْذَرَيْنِ مِنْهُمَا أَوِ الْمَفْرُوضَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَلْيَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَقَدْ شَبَّهَ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسُلَّمَ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ الْوَاجِبَيْنِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْعِبَادَةِ عَنْهُمَا، وَأَنَّ دَيْنَ اللهِ أَحَقُّ بِأَنْ يُقْضَى. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي السَّائِلِ، فَقِيلَ: رَجُلٌ. وَقِيلَ: امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَبٌ. وَقِيلَ: أُخْتٌ. وَقِيلَ: أُمٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي الْمَسْئُولِ فِيهِ هَلْ هُوَ الصِّيَامُ أَوِ الْحَجُّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَذَكَرَ الرَّاوِي وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ لِذَلِكَ ; وَلِهَذَا الْخِلَافِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلِيِّ فِيهِ، فَقِيلَ: كُلُّ قَرِيبٍ. وَقِيلَ الْوَارِثُ. وَقِيلَ: الْعَصَبَةُ. وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ الْوَلَدُ لِيَنْطَبِقَ عَلَى الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى. وَمِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَمَذْهَبُ أَشْهَرِ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْهَادَوِيَّةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ الْعِتْرَةِ. وَحَصَرَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ الْجَوَازَ بِالنَّذْرِ عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَصُومُ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَدَهُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهَا مِنْ ذِكْرِ الْأُخْتِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلطَّرِيقِ الصَّحِيحِ وَلِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَوْقُوفُ أَوْ فَتْوَاهُ الَّتِي رَوَاهَا النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ " لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُمْ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " وَمِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَانِعَةً مِنَ الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ الصَّحَابِيَّ لَا يُخَالِفُ رِوَايَتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَدَيْهِ مَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا كَكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً، وَمَذْهَبُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْحُجَّةَ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ لَا بِرَأْيِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الْعَمَلَ بِالرِّوَايَةِ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ تَأَوُّلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ تَرْكِهِ عَمْدًا. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَرِوَايَتِهِمَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْ فَتْوَاهُمَا بِأَلَّا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ هُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ بِالنَّصِّ مِنْ صِيَامِ الْوَلَدِ أَوْ حَجِّهِ أَوْ صَدَقَتِهِ عَنْ وَالِدَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا ثَابِتًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِنَذْرٍ، أَوْ إِرَادَةِ وَصِيَّةٍ كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي وَقَائِعِ فَتْوَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ. فَلَا مَحَلَّ إِذًا لِتَخْرِيجِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا الْجُمْهُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكِتَابُ اللهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قِيَاسُ عَمَلِ غَيْرِ الْوَلَدِ عَلَى عَمَلِهِ فَبَاطِلٌ، لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ عَلَى كَوْنِهِ قِيَاسًا مَعَ الْفَارِقِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ عَوَّدُونَا اسْتِدْرَاكَ مِثْلِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، كَشَيْخَيِ الْإِسْلَامِ وَالشَّوْكَانِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّينَ. فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا

إِلَى الْأَمْوَاتِ وَاسْتِئْجَارِ الْقُرَّاءِ وَحَبْسِ الْأَوْقَاتِ عَلَى ذَلِكَ بِدَعٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَمِثْلُهَا مَا يُسَمُّونَهُ إِسْقَاطَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي الدِّينِ لَمَا جَهِلَهَا السَّلَفُ، وَلَوْ عَلِمُوهَا لَمَا أَهْمَلُوا الْعَمَلَ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا لَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَوُقُوعُهُ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ فَتْحِ اللهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ مِنْ حِكَمِ الدِّينَ وَأَسْرَارِهِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ - كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبَدَهُ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ - بَلْ هُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يَهْتَمُّ النَّاسُ بِأَمْرِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَوْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ. (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ ثُمَّ إِنَّ رُجُوعَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى رَبِّكُمْ وَحْدَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِهِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ أَدْيَانِكُمْ، إِذْ كَانَ بَعْضُكُمْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ، وَبَعْضُكُمْ قَدِ اتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا مِنْ خَلْقِهِ، وَيَتَوَلَّى هُوَ جَزَاءَكُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَدِيمَتَيْنِ، وَيَضِلُّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي سِيَاقِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَذَكَرْنَا نَصَّهُ آنِفًا - وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّةِ عِيسَى: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (3: 55) وَمِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ بَعْدَ ذِكْرِ طَعْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ: (2: 113) وَلَهُ نَظَائِرُ بَعْضُهَا فِي الْإِنْبَاءِ بِالِاخْتِلَافِ أَوِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْإِنْبَاءِ بِالْعَمَلِ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةُ 22 و108) وَكُلُّهُ إِنْذَارٌ بِالْجَزَاءِ وَبَيَانٌ أَنَّهُ بِيَدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ الَّتِي نُعَبِّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ أَحَدًا كَانَ قَبْلَهُ فِي مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ مُلْكٍ - وَفِي الْخِطَابِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لِلْبَشَرِ جُمْلَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَهُ فِي الْأَرْضِ بِالتَّبَعِ لِأَبِيهِمْ آدَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ جَعَلَ سُنَنَهُ فِيهِمْ أَنْ تَذْهَبَ أُمَّةٌ وَتَخْلُفَهَا أُخْرَى. (ثَانِيهُمَا) أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ لِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْمُلْكِ وَاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (10: 14) وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَالَ تَعَالَى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (24: 55) وَهَذَا اسْتِخْلَافٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ عَامٌّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أُمَمٍ

سَبَقَتْ وَلَكُمْ فِي سِيرَتِهَا عِبَرٌ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْعَقْلِ وَالْجَهْلِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، لِيَخْتَبِرَكُمْ فِيمَا أَعْطَاكُمْ، أَيْ يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ فِي ذَلِكَ فَيَبْنِي الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ، بِمَعْنَى أَنَّ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي تَفَاوُتِ النَّاسِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ الْوَهْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا اسْتِعْدَادُ كُلٍّ مِنْهُمْ وَدَرَجَةُ وُقُوفِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ عِنْدَ وَصَايَا الدِّينِ وَحُدُودِ الشَّرْعِ وَوِجْدَانِ الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقَلْبِ، وَالْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، وَسَعَادَةُ النَّاسِ أَفْرَادًا وَأُسَرًا وَأُمَمًا، وَشَقَاوَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَابِعَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي مَوَاهِبِهِمْ وَمَزَايَاهُمْ وَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَطْلُبُهُ النَّاسُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنِعَمِهَا أَوْ رَفْعِ نِقَمِهَا، أَوْ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا وَهُوَ مَنُوطٌ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي ابْتَلَاهُمْ بِهَا بِحَسَبِ مَا قَرَّرَهُ شَرْعُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ الْمُجَرَّدِ، وَمَضَتْ بِهِ سُنَنُهُ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَبِقَدْرِ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ وَسُنَنِ الْكَوْنِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ يَكُونُ حَظُّهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ. فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مُقَرِّرَةٌ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَهَادِمَةٌ لِقَوَاعِدَ الشِّرْكِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّكَالِ النَّاسِ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَا اتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ مِنَ الْوُسَطَاءِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنْ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضَرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ ; وَلِهَذَا تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ أَوْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَشْقَى النَّاسِ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ نَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَتَرَى خُصُومَهُمْ دَائِمًا ظَافِرِينَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا شَرًّا مِنْهُمْ فِيمَا عَدَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الشِّرْكِ، فَرُبَّمَا تَرَى قَوْمًا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، يَعْتَمِدُونَ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ مِنْ شِفَاءِ مَرَضٍ وَسَعَةِ رِزْقٍ وَنَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى التَّوَسُّلِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَبْحِ النُّذُورِ لَهُمْ وَدُعَائِهِمْ وَالطَّوَافِ بِقُبُورِهِمْ وَالتَّمَسُّحِ بِهَا، وَتَجِدُ آخَرِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ اعْتِقَادِهِمْ وَعَمَلِهِمْ هَذَا وَهُمْ أَحْسَنُ مِنْهُمْ صِحَّةً، وَأَوْسَعُ رِزْقًا وَأَعَزُّ مُلْكًا، وَإِذَا قَاتَلُوهُمْ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسُودُونَهُمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ سُنَنَ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَأَنَّ الرَّغَائِبَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْأَعْمَالِ مَعَ مُرَاعَاةِ تِلْكَ السُّنَنِ، سَوَاءٌ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبَّ الْخَلْقِ هُوَ الْخَالِقُ وَالْوَاضِعُ لِنِظَامِ خَلْقِهِ بِتِلْكَ السُّنَنِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَنِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ أَمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَلَوِ اسْتَوَى شَعْبَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْجَرْيِ عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ الرَّبَّانِيَّةِ لِلِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا بِاللهِ مُسْتَمْسِكًا بِوَصَايَاهُ وَهِدَايَةِ دِينِهِ، وَالْآخَرُ كَافِرًا بِهِ غَيْرُ مُهْتَدٍ بِوَصَايَاهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُهْتَدِيَ يَكُونُ أَعَزَّ وَأَسْعَدَ فِي دُنْيَاهُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ النَّاجِيَ مِنَ الْعَذَابِ، الْفَائِزَ

بِالثَّوَابِ، وَمَنْ جَهِلَ مِصْدَاقَ ذَلِكَ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا، فَأَمَامَهُ تَارِيخُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْهَلُونَ تَارِيخَهُمْ كَمَا يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَمَائِمِ الدِّينِيَّةِ مِنْهُمْ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِالْإِجْمَالِ بَعَدَ شَرْحِ السُّورَةِ لَهُ بِالتَّفْصِيلِ، وَرُبَّمَا يُعِدُّ بَعْضُهُمُ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا، وَيَعْتَمِدُونَ فِي هَذَا عَلَى قُوَّةِ أَنْصَارِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ، وَعَنْ كَوْنِهِمْ صَارُوا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَحُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَعْدَاؤُهُ يَحْتَجُّونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمُ الْمُسَمَّى - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ - الْإِسْلَامَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ بَلْ ضِدَّهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ الْجَاهِلُونَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ فُرَادَى وَثُبَاتٍ - كَالتَّلَامِيذِ - بِمَا يَظْهَرُ لِلَّذِينِ يَقْتَبِسُونَ عُلُومَ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ وَعِلْمَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ لَهَا بِدَعُهُمْ وَتَقَالِيدُهُمُ الْخُرَافِيَّةُ. وَأَمَّا دِينُ اللهِ فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمُرْشِدُ الْأَعْظَمُ لَهَا وَلَوْ فَهِمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ لَكَانُوا أَسْبَقَ إِلَيْهَا. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَهْلَ مَرَاكِشَ: أَنْشَأْنَا مُنْذُ أَنْشَأْنَا الْمَنَارَ نُذَكِّرُهُمْ بِآيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ وَأَنْذَرْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ وَالزَّوَالِ بِفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ إِذَا لَمْ يُوَجِّهُوا كُلَّ هِمَّتِهِمْ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْعَصْرِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فَكَانَ يَبْلُغُنَا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ حُلُولِ النَّوَائِبِ بِهِمْ وَتَعْدِي الْأَجَانِبِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَبْرِ (مَوْلَايَ إِدْرِيسَ) فِي فَاسَ رَاجِينَ أَنْ يَكْشِفَ بِاسْتِنْجَادِهِمْ إِيَّاهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ أَنْذَرْنَاهُمْ بَطْشَةَ اللهِ بِتَرْكِ هَدْيِ كِتَابِهِ وَتَنَكُّبِّ سُنَنِهِ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَاتَّكَلُوا عَلَى مَيِّتٍ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ وَلَا لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ وَلَا ضَرَرٍ، وَكَمْ سَبَقَ هَذِهِ الْعِبْرَةَ مِنْ عِبَرٍ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) . نَزَلَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ نِعَمَ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مِمَّا يَفْتِنُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ - أَيْ يُرَبِّيهِمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ - لِيُظْهِرَ أَيُّهَمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الدَّارَيْنِ. قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (7: 168) وَقَالَ فِي خِطَابِ كُلِّ الْبَشَرِ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (21: 35) وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (11: 7، 67: 2) وَقَالَ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (18: 7) وَقَالَ فِي ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (25: 20) وَقَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (3: 186)

وَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (2: 155) وَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (47: 31) وَقَالَ: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (29: 1 - 3) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (27: 40) وَثَمَّ آيَاتٌ أُخْرَى. أَرْشَدَنَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ سُنَنِهِ فِي جَعْلِنَا خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وَرَفْعِ بَعْضِنَا دَرَجَاتٍ عَلَى بَعْضٍ، بِأَن ْ نَصْبِرَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَنَشْكُرَ فِي السَّرَّاءِ، وَالشُّكْرُ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ النِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مَا يُرْضِي الْمُنْعِمَ تَعَالَى وَتَظْهَرُ بِهِ حِكْمَتُهُ، وَتَعُمُّ رَحْمَتُهُ، كَإِنْفَاقِ فَضْلِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ لِتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ. وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ أَوْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ أَوْ حِكْمِيَّةٍ شُكْرٌ خَاصٌّ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ فَإِنَّهُ يُسِيءُ التَّصَرُّفَ فِي الْحَالَتَيْنِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ النَّاسَ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ وَالْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِمَّا يَهْدِي إِلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَلَكِنْ لَا تَكْمُلُ الْهِدَايَةُ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ شُرِعَ لِمُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ عَلَى حِفْظِ مَوَاهِبِ اللهِ تَعَالَى فِي الْفِطْرَةِ وَمَنْعِ الْهَوَى مِنْ إِفْسَادِهَا، وَصَدِّهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَمَالِهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِالصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ عَوْنٌ عَلَى الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ، وَمَنْجَاةٌ مِنْ جَمِيعِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ سَبَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَلَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا يَجِبُ لَكَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ مُلْكًا وَأَعْدَلَهُمْ حُكْمًا. وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا، وَأَشَدَّهُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَهُمْ ثَرْوَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ بِهِ سَلَفُهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرُهُمُ اللهُ بِأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ أَضَلَّهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْمَيِّتِينَ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (20: 123، 124) (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) (72: 16، 17) وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَنَعِيمُهَا أَدْوَمُ وَأَعْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ حَالِ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ حُظُوظَ الدُّنْيَا وَحْدَهَا، وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَيَسْعَى لَهَا سَعْيَهَا: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (17: 21) وَإِنَّمَا جَعَلَ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِئَلَّا تَعْظُمَ الْفِتْنَةُ بِجَعْلِ نَعِيمِهَا كُلِّهِ أَوْ مُعْظَمِهِ لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فَيَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لِضَعْفِهِمْ كُفَّارًا، قَالَ

165

تَعَالَى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (43: 32 - 35) . (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى سَرِيعُ الْعِقَابِ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ بِنِعَمِهِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ وَتَنَكَّبَّ سُنَنَهُ، وَسُرْعَةُ الْعِقَابِ تَصْدُقُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ الْعَامَّ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ مِنْ سُوءِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا مَا حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُوُنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ مَا حُرِّمَتْ إِلَّا لِضَرَرِهَا، وَهُوَ وَاقِعٌ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ وَأَكْثَرِيٌّ فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَلَكِنَّهُ يَطَّرِدُ فِي الْآخِرَةِ بِتَدْنِيسِهَا النَّفْسَ وَتَدْسِيَتِهَا كَمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا، وَقَدْ يَسْتَبْطِئُ النَّاسُ الْعِقَابَ قَبْلَ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ مَا فِي الْغَيْبِ مَجْهُولٌ لَدَيْهِمْ فَيَسْتَبْعِدُونَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ مَشْهُودٌ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (70: 6، 7) . وَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَى سُرْعَةِ عِقَابِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ غَفُورٌ لِلتَّوَّابِينَ الْأَوَّابِينَ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، بَلْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَجَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا وَقَدْ يَغْفِرُهَا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) وَقَدْ أَكَّدَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ هُنَا بِمَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِهِ الْعِقَابَ وَهُوَ اللَّامُ فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا وَيُكَفِّرَ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا. وَيَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَيَجْعَلَ لَنَا نَصِيبًا عَظِيمًا مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَيَكُونَ مِنْهُ تَوْفِيقُنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ هِدَايَةِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَنَكُونَ هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ تَمَّ تَفْسِيرُ رُبْعِهِ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. اسْتِدْرَاكٌ عَلَى تَفْسِيرِ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْحَرِيصُ عَلَى دِينِهِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا سُمُّوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُمْ سَارُوا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) وَتَلَقَّاهَا عَنْهُ بِالْعَمَلِ جَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَصَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي حَصْرِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ الدِّينِيِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ فِي شُذُوذِ أَفْرَادٍ عَمَّا ثَبَتَ عَمَلُ الْجُمْهُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَعَمَلُ الْجُمْهُورِ هُوَ السُّنَّةُ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ. وَالْأَقْوَالُ وَحْدَهَا لَا يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ بَيَانًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَالْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيٌّ الْمُرْتَضِي كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى

وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ لِمُحَاجَّةِ الْخَوَارِجِ: احْمِلْهُمْ عَلَى السُّنَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ ذُو وُجُوهٍ. فَمُرَادٌ بِالسُّنَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَاهَا الْمُوَافِقِ لِلُّغَةِ لَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِلْمُحَدِّثِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ الَّذِي يَشْمَلُ الْأَخْبَارَ الْقَوْلِيَّةَ وَغَيْرَهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ ذَاتُ وُجُوهٍ أَيْضًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ وُجُوهُهَا الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَكْثَرَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا دُونَهُ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَزَ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ الْعَمَلِيَّةِ وَوَكَّلَ بَيَانَهَا لِعَمَلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". أَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِتَذْكِيرِكَ بِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِمَا لَعَلَّكَ اطَّلَعْتَ أَوْ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُصَنَّفِينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 38، 39) فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَارَةً بِالتَّأْوِيلَاتِ السَّخِيفَةِ. وَتَارَةً بِدَعْوَى النَّسْخِ الْبَاطِلَةِ، وَتَارَةً بِدَعْوَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى لَا مِنْ شَرْعِنَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهِمَا بِالْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ كَوْنِ مَضْمُونِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَمُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا كَآيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا تَتِمَّةً لِتَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ سُورَةِ فَاطِرٍ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (35: 18) وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُعَلِّقَةِ لِلْفَلَاحِ وَالْخُسْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ هَكَذَا بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ الَّذِي تُعَدُّ دَلَالَتُهُ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ أَرْكَانِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْجَزَاءِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ أَيْضًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مُفَصَّلًا وَأَشَرْنَا فِيهِ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْآيَاتِ. أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ تَصْحِيحَ كُلِّ مَا فَشَا مِنَ الْبِدَعِ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ وَالْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ ضَلَالَةَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ مِنْهُمْ فَلَا هَمَّ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا أَخْذُ مَا يَرَوْنَهُ مُؤَيِّدًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَتَرْكُ مَا سِوَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَوْ دَعْوَى النَّسْخِ أَوِ احْتِمَالِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْعُمْيَانُ هُمُ الَّذِينَ جَوَّزُوا وَحْدَهُمْ لِلنَّاسِ إِهْدَاءَ عِبَادَاتِهِمْ لِلْمَوْتَى

وَلَكِنْ تَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ; إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى وَالْإِذْنِ لِلْأَوْلَادِ بِأَنْ يَقْضُوا مَا عَلَى وَالِدَيْهِمْ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ - تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِعِبَادَاتِ الْأَحْيَاءِ مُطْلَقًا، غَافِلِينَ عَنْ حَصْرِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فِي الْأَوْلَادِ الَّذِينَ خَصَّ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا. وَحَدِيثُ " صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " يَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَلِيِّ مِنْهُ الْوَلَدُ لِيُوَافِقَهَا مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا كُلِّهَا وَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّرِيحَةِ الْقَطْعِيَّةِ لِأَجْلِ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ الرَّاوِيَةَ لَهُ كَانَتْ تُصَرِّحُ بِعَدَمِ جَوَازِ صِيَامِ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِجَمْعِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْآيَاتِ وَلِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ. وَهُوَ هُنَا مُؤَيِّدٌ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا لَا حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الْجَمْعِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِطْلَاقِ الْجَوَازِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَحْيَائِهِمْ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَا يَنْتَقِلُ ثَوَابُهَا مِنَ الدَّاعِي إِلَى الْمَدْعُوِّ لَهُ وَلَمْ يُرْوَ فِي إِهْدَاءِ ثَوَابِ الدُّعَاءِ شَيْءٌ بَلْ ثَوَابُهُ لِلدَّاعِي وَحْدَهُ سَوَاءٌ اسْتَجَابَهُ اللهُ أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ الْمَدْعُوُّ لَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ، وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِمَا يَنْقُضُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، وَلَا بِمَا يُبْطِلُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ فَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِي صِفَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَنَكْتَفِي مِنَ الْعِلْمِ بِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَحَابِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكَافُلِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ لِلْأَوْلَادِ، وَوَلَدُ الْمَرْءِ مِنْ عَمَلِهِ فَانْتِفَاعُهُ بِعَمَلِهِ يَدْخُلُ فِي الْقَاعِدَةِ لَا أَنَّهُ يُعَارِضُهَا. وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ عَامًّا لَكَثُرَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ بِهِ، وَرُوِيَ مُسْتَفِيضًا أَوْ مُتَوَاتِرًا عَنْهُمْ لِتَوَافُرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; فَإِنَّ مِنْ دَأْبِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمُ الرَّاسِخَةِ الِاهْتِمَامَ بِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ مَوْتَاهُمْ. وَقَدْ نَقَلَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعِينَ كُلَّ مَا رَأَوْهُ وَعَلِمُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. كَتَبْتُ هَذَا لِأَنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَطَبْعِهِ رَاجَعْتُ مَا كَتَبَهُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ أَطْنَبَ فِيهَا وَأَطَالَ كَعَادَتِهِ بِمَا لَمْ يُطِلْ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا قَارَبَ، وَأَوْرَدَ كُلَّ مَا قِيلَ وَمَا تَصَوَّرَ أَنْ يُقَالَ فِي إِثْبَاتِ وُصُولِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ مُطْلَقًا، وَنَفْيِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِمَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ دُونَ غَيْرِهَا كَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَكَذَا مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ - وَذَكَرَ حُجَجَ كُلِّ فَرِيقٍ وَرَدَّ الْمُخَالِفِينَ عَلَيْهَا، وَأَكْثَرُهَا نَظَرِيَّاتٌ بَاطِلَةٌ وَلَكِنَّهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ وَدِقَّةِ فَهْمِهِ قَدْ غَفَلَ عَنْ كَوْنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَهَا

حُجَّةَ الْمُثْبِتِينَ الْوَحِيدَةَ عَلَى انْتِفَاعِ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ يُهْدَى إِلَيْهِمْ ثَوَابُهُ مِنْ عَمَلِ أَحْيَائِهِمْ قَدْ وَرَدَتْ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ وَرُخِّصَ لِلْأَوْلَادِ وَحْدَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِهَا عَنْ وَالِدَيْهِمْ وَهُوَ لَمْ يَنْسَ مِنْ حُجَجِ الْمَانِعِينَ لِوُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا عَدَمَ نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ وَلَكِنَّهُ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ أَتْبَاعِ السَّلَفِ قَدْ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِجَوَابٍ ضَعِيفٍ جِدًّا فَقَالَ: " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي السَّلَفِ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَلَا أَرْشَدَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ. فَلَوْ كَانَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ لِأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ وَلَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ ". " فَالْجَوَابُ أَنَّ مُورِدَ هَذَا السُّؤَالِ إِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، قِيلَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي مَنَعَتْ وَصُولَ ثَوَابِ الْقُرْآنِ وَاقْتَضَتْ وَصُولَ ثَوَابِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُصُولِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ ". " وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي السَّلَفِ، فَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَوْقَافٌ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ وَيُهْدِي إِلَى الْمَوْتَى، وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا كَانُوا يَقْصِدُونَ الْقَبْرَ لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا كَانَ أَحَدُهُمْ يُشْهِدُ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ وَلَا ثَوَابَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ، ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: لَوْ كُلِّفْتَ أَنْ تَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ هَذَا الصَّوْمِ لِفُلَانٍ - لَعَجَزْتَ فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى كِتْمَانِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُشْهِدُوا عَلَى اللهِ بِإِيصَالِ ثَوَابِهَا إِلَى أَمْوَاتِهِمْ ". " فَإِنْ قِيلَ: فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ دُونَ الْقِرَاءَةِ قِيلَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ بَلْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَهُمْ، فَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ فَأَذِنَ لَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ وَإِمْسَاكٍ وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ؟ وَالْقَائِلُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ; فَإِنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَمَا يُدْرِيهِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُشْهِدُونَ مَنْ حَضَرَهُمْ عَلَيْهِ؟ بَلْ يَكْفِي اطِّلَاعُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ لَا سِيَّمَا وَالتَّلَفُّظُ بِنِيَّةِ الْإِهْدَاءِ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا تَقَدَّمَ ". " وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّوَابَ مِلْكٌ لِلْعَامِلِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِهِ وَأَهْدَاهُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْصَلَهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَمَا الَّذِي خَصَّ مِنْ هَذَا ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَحَجَرَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُوصِلَهُ إِلَى أَخِيهِ؟

وَهَذَا عَمَلُ النَّاسِ حَتَّى الْمُنْكِرِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ " اهـ. أَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ: عَفَا اللهُ عَنْ شَيْخِنَا وَأُسْتَاذِنَا الْمُحَقِّقِ، فَلَوْلَا الْغَفْلَةُ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْوَاضِحَةِ لَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الَّتِي نَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِبَعْضِ مَا كَانَ يَرُدُّهَا هُوَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَغْفَلُ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. أَمَّا قَوْلُهُ لِمُورِدِ السُّؤَالِ إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ: مَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي مَنَعَتْ وَصُولَ ثَوَابِ الْقُرْآنِ إِلَخْ فَنُجِيبُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَتِنَا بِأَنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ نُصُوصُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي أَنَّ عَمَلَ كُلِّ عَامِلٍ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالسَّائِلُ إِنَّمَا يَعْتَرِفُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَضَاءِ صِيَامٍ وَحَجٍّ ثَبَتَا عَلَى أَحَدِ وَالِدَيْهِ، وَكَذَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّنْ لَمْ يُوصِ بِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ هَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَنْ وَالِدَيْهِمْ؟ فَأَذِنَ لَهُمْ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَ اللهِ عَنْهُمْ كَمَا يَقْضُونَ دُيُونَ النَّاسِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُمْ - فَهَذِهِ حُقُوقٌ ثَبَتَتْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، أَوْ صَدَقَةٌ كَانَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْ أَحَدِهِمُ الْوَصِيَّةَ بِهَا فَقَامَ مَقَامَهُمْ أَوْلَادُهُمْ فِيهَا أَوْ تَبَرَّعُوا عَنْهُمْ، فَهِيَ لَيْسَتْ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلَا مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ كَالْمَالِ الَّذِي كَانَ مِلْكَ الْمَيِّتِ وَانْتَقَلَ إِلَى وَلَدِهِ، أَوْ مِنْ كَسْبِ الْوَلَدِ الَّذِي عُدَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ كَسْبِ الْوَالِدِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ أَلْحَقَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (52: 21) وَبِهَذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَارِضَةٍ لِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَلَوْ عَارَضَتْهَا لَكَانَتْ هِيَ الْمَرْجُوحَةَ السَّاقِطَةَ بِهَا، فَبَطَلَ قَوْلُهُ: وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ - إِذِ الْعَمَلُ مُخْتَلِفٌ وَالْعَامِلُ الْمَأْذُونُ لَهُ بِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَمَاثُلَ. وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ عَدَمَ نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَنِ السَّلَفِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ - فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الْمَشْرُوعَةِ إِلَّا وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ فِيهِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، حَتَّى الصَّدَقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِتَفْضِيلِ إِخْفَائِهَا عَلَى الْإِبْدَاءِ تَكْرِيمًا لِلْفُقَرَاءِ وَسَتْرًا عَلَيْهِمْ، وَلِمَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ الْمُبَطِلَةِ لَهَا. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَوْتَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ حَتَّى إِنَّ الْمُرَاءَاةَ بِهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَقَعُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ لِغَيْرِهِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعِبَادِ الْمُمْتَازِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمَهُ خَوْفَ الرِّيَاءِ. ثُمَّ أَيْنَ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِرْشَادِ وَالْقُدْوَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِمَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي عَمَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ خَيْرِ الْعُصُورِ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْأَمْرَ بِالْبِرِّ كَمَا قِيلَ جَدَلًا إِنَّهُمْ أَخْفَوْا هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ وَحْدَهُ؟ كَلَّا، إِنَّهُمْ كَانُوا هُدَاةً بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَأْثِيرُ الْأَعْمَالِ فِي الْهِدَايَةِ أَقْوَى. وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ تَخْصِيصَ الْإِذْنِ فِي الْأَحَادِيثِ بِالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ دُونَ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ - فَجَوَابُهُ: أَنَّ عَدَمَ ابْتِدَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَسُؤَالُ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ نُصُوصِ الدِّينِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَوْهُ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَفْتُوهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي مَنْعِهِ. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ وَوُصُولِ ثَوَابِ الذِّكْرِ، فَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ مَنْ يَصُومُ عَنْ مَيِّتٍ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّيَامِ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ مِنَ الْوَلَدِ نِيَابَةً عَنِ الْوَالِدِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَمِلَهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ إِلَخْ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ مَا ذَكَرَ لِلسَّلَفِ أَجْدَرُ بِقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ، وَحَسْبُ النَّافِي نَفْيُهُ لِلنَّقْلِ عَنْهُمْ فِي أَمْرٍ تَدُلُّ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ الْعَقْلُ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَتِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَتَوَاتَرَ عَنْهُمْ أَوِ اسْتَفَاضَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّوَابَ مِلْكٌ لِلْعَامِلِ إِلَخْ. فَلَمْ نَكُنْ نَنْتَظِرُهُ مِنْ أُسْتَاذِنَا وَمُرْشِدِنَا إِلَى اتِّبَاعِ النَّقْلِ فِي أُمُورِ الدِّينِ دُونَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ النَّظَرِيَّةَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ ; فَإِنَّ الثَّوَابَ أَمْرٌ مَجْهُولٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَأُمُورِ الْآخِرَةِ كُلِّهَا، فَإِنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا. وَمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ بِشُرُوطِهَا لَا يَعْرِفُونَ كُنْهَهُ وَلَا مُسْتَحِقَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ ; وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْآيَاتِ وَلَا الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ ثَوَابَ عَمَلِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَمْلِكُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أَوِ الْقَمْحَ وَالتَّمْرَ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، بَلْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي إِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ لَهُ بِتَزْكِيَتِهَا وَجَعْلِهَا أَهْلًا لِجِوَارِهِ وَرِضْوَانِهِ كَمَا قَالَ: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (20: 75، 76) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (87: 14) إِلَخْ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (91: 9) (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (9: 103) وَقَالَ: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (6: 139)

فَذَكَرَ الْوَصْفَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى الصِّفَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالصِّدْقُ وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الصَّرِيحَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَةُ الْحِكْمَةِ وَسَائِرُ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِلْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِمِلْكِ نَفْسٍ لِنَفْسٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، تُؤَيِّدُ كُلُّهَا آيَةَ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَآيَاتِ النَّجْمِ وَغَيْرَهَا، وَتُبْطِلُ دَعْوَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِثَوَابِ عِبَادَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ كَالْمَالِ يُوهَبُ لَكَانَ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَبِيعُونَ ثَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ وَلِحِكْمَةِ دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَعَمَلُ الْخَلَفِ وَحْدَهُ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ كَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِعَمَلِ أَوْلَادِهِ يُنَافِي الْقَاعِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتَهَا فِي الْجَزَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تَطْبَعُهُ فِي النَّفْسِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ لَا يُزَكِّيهَا عَمَلُ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ - قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَمْرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَصْلِ، لَا بَلْ أَلْحَقُ بِهِ شَيْئًا يَنْقُضُهُ وَلَا يَذْهَبُ بِحِكْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُ بَعْضِ الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ جَعْلُهُ مِنْهُ بِالتَّبَعِ وَالسَّبَبِيَّةِ، كَمَا أَدْخَلَ فِي عُمُومِهِ انْتِفَاعَ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ بِعَمَلِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ أَوِ اقْتَدَى بِعَمَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ شَيْءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ يُحْتَجُّ بِهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ فَكُلُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ وَالِدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لَيْسَ أَعْيَانًا مَمْلُوكَةً لِلْعَامِلِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَوْعَانِ (أَحَدُهُمَا) مَا يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مُبَاشَرَةً وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. (وَثَانِيهُمَا) مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى فِيهَا نَفْعُ الْعَامِلِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ وَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ الَّذِي يَدْعُو لَهُ، أَوْ يَقْضِي دَيْنَ اللهِ أَوِ النَّاسِ أَوْ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَكُونُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْعَامِلِ فِي السَّبَبِيَّةِ لَهَا عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لِلسَّبَبِ، كَتَأْلِيفِ الْكِتَابِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَاعِفَةُ اللهِ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ.

خِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ: الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الـ16 وَهِيَ: هَلْ تَنْتَفِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى بِشَيْءٍ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ أَمْ لَا؟ وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهَا تَنْتَفِعُ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ فِي أَمْرَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ. (قَالَ) وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ عَلَى نِزَاعٍ: مَا الَّذِي يَصِلُ مِنْ ثَوَابِهِ! هَلْ هُوَ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ أَمْ ثَوَابُ الْعَمَلِ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَصِلُ ثَوَابُ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّمَا يَصِلُ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وُصُولُهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ الشَّيْءَ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ نِصْفَهُ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ. قَالَ: أَرْجُو. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْجَوَابِ، وَأَنَّ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ انْتِفَاعُ الْوَالِدَيْنِ بِعَمَلِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ فِي رَجَائِهِ خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ - ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِلُ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ، لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ؟ . (أَقُولُ) : رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ كِتَابَ الْفُرُوعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فَرَأَيْتُ فِيهِ خِلَافًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَحْسَنُهُ وَأَوْلَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ فِي بَحْثِ إِهْدَاءِ الثَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَهُ كَلَامًا فِي عَدَمِ جَوَازِ الْإِيثَارِ بِالْفَضَائِلِ وَالدِّينِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ بَعْضِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَتَقْدِيمِ وَالِدِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ - وَكَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيثَارِ بِمَا أَحْرَزَهُ وَمَا لَمْ يُحْرِزْهُ، ثُمَّ قَالَ: " وَقَالَ شَيْخُنَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إِهْدَاءُ ذَلِكَ إِلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا يَدْعُونَ لَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْهُمْ ; وَلِهَذَا لَمْ يَرَهُ شَيْخُنَا كَمَنْ لَهُ أَجْرُ الْعَالِمِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ بِخِلَافِ الْوَالِدِ لِأَنَّ لَهُ أَجْرًا لَا كَأَجْرِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْعَامِلَ يُثَابُ عَلَى إِهْدَائِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُهُ أَيْضًا، فَإِنْ جَازَ إِهْدَاؤُهُ فَهَلُمَّ جَرًّا، وَيَتَسَلْسَلُ ثَوَابُ الْعَامِلِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ، وَإِنْ قِيلَ يَحْصُلُ ثَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى لِلْعَامِلِ ثَوَابٌ فَلَمْ يُشَرِّعِ اللهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْفَعَ غَيْرَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا مَنفَعَةَ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ فَيَتَضَرَّرَ (كَذَا) وَلَا يَلْزَمُ دُعَاؤُهُ لَهُ وَنَحْوُهُ ; لِأَنَّهُ مُكَافَأَةٌ لَهُ كَمُكَافَأَتِهِ لِغَيْرِهِ، يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمُكَافَأَةِ وَلِلْمَدْعُوِّ لَهُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَضَرَّرْ وَلَمْ يَتَسَلْسَلْ وَلَا يَقْصِدُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ اللهِ " اهـ. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَقْدَمَ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ وَشُيُوخِ الْجُنَيْدِ، ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ عَنْ تَارِيخِ الْحَاكِمِ

مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا انْفَرَدَ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يُعِدُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ أَوْ عَمَلَهُ حُجَّةً أَوْ يَتَّخِذُهُ قُدْوَةً فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ بَعْدَ تَابِعِ التَّابِعِينَ - فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ السُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مُحَرِّرُ مَذَاهِبِ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَاخِرِ تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ، فَذَكَرَ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَفْعِ الدُّعَاءِ وَخِلَافَهُمْ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَاخْتِيَارَ الْوُصُولِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ " إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ " إِلَخْ. وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ بَلْ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا عَلِمْتَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُهُ أَوْ مِثْلَ ثَوَابِ مَا قَرَأْتُهُ زِيَادَةً فِي شَرَفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ مَعَ كَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْقُرَّاءِ لَا أَعْرِفُ لَهُمْ سَلَفًا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ كَمَا تَخَيَّلَهُ السَّائِلُ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ: اللهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا إِلَخْ. فَلَعَلَّ الْمُخْتَرِعَ الْمَذْكُورَ قَاسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ مَعْنَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ أَنْ تُتَقَبَّلَ قِرَاءَتُهُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَإِذَا أُثِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَانَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ نَظِيرُ أَجْرِهِ وَلِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي شَرَفِهِ وَإِنْ كَانَ شَرَفُهُ مُسْتَقِرًّا حَاصِلًا اهـ. وَنَقُولُ: حَسْبُنَا مِنَ الْحَافِظِ - أَثَابَهُ اللهُ - أَنَّ هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِمَامُ النَّقْلِ وَحَافِظُ السُّنَّةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ فَهُوَ قِيَاسٌ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ بِكَثْرَةِ مَنْ يَحُجُّهُ وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ، وَزِيَادَةُ ثَوَابِ الْمُعَلِّمِ الْمُرْشِدِ بِعَمَلِ مَنْ أَخَذَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ لَا يُسَمَّى شَرَفًا فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالسُّبْكِيِّ وَالْبَارِزِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَابْنِ عَقِيلٍ تَبَعًا لِعَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَكَانَ فِي طَبَقَةِ الْجُنَيْدِ وَلِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِهْدَاءُ ثَوَابِ الْقُرْآنِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي هُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمُجِيزِينَ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ قَاضِي شِهْبَةَ: يُمْنَعُ، وَابْنُ الْعَطَّارِ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: لَا يُرْوَى عَنِ السَّلَفِ وَنَحْنُ بِهِمْ نَقْتَدِي. ثُمَّ قَالَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا كَانَ يُهْدَى إِلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمَّا طَلَبَ الدُّعَاءَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَثَّ الْأُمَّةَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّبَعْتَ، وَإِنْ فَعَلْتَ فَقَدْ قِيلَ بِهِ اهـ.

كَلَامُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ. وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ: الْأَحْوَطُ التَّرْكُ. مِنْ كَنْزِ الرَّاغِبِينَ لِلْبُرْهَانِ التَّاجِيِّ مُلَخَّصًا، فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَحَيَّا اللهُ مُرَجِّحِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ الْأَحْوَطَ فَقَطْ بَلِ الْمُتَعَيَّنُ الَّذِي يَرُدُّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ وَيَضْرِبُ بِأَقْيِسَةِ الْمُخَالِفِينَ عُرْضَ الْحَائِطِ، لَا لِمُخَالَفَتِهَا هَدْيَ سَلَفِ الْأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِظُهُورِ بُطْلَانِهَا وَمُصَادَمَتِهَا لِلنُّصُوصِ أَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ إِهْدَاءِ الْعِبَادَاتِ أَوْ ثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى إِهْدَاءِ مَتَاعِ الدُّنْيَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلنَّصِّ، وَحَسْبُنَا اتِّبَاعُ السَّلَفِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ: فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ ... وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ ثُمَّ أَقُولُ: وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ فِقْهِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ فَاغْتَرَّ بِالْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّهُ اهْتَدَى إِلَى الصَّوَابِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى أَحَادِيثِ الْمُنْتَقَى فِي بَابِ مَا يُهْدَى مِنَ الْقُرَبِ إِلَى الْمَوْتَى، وَكُلُّهَا وَارِدَةٌ فِي تَصَدُّقِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ وَالْحَجِّ قَالَ: " وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إِلَيْهِمَا ثَوَابُهَا فَيُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 39) وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَّا لُحُوقُ الصَّدَقَةِ مِنَ الْوَلَدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ فَالظَّاهِرُ الْعُمُومَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ، فَيُوقَفُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا " ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ. هَذَا وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِأَحَادِيثَ اغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِكُلِّ مَا يُعْمَلُ لِأَجْلِهِمْ أَوْ يُهْدَى إِلَيْهِمْ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِمْ. (1) حَدِيثُ وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ أُوِحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ أَصْحَابَهُمَا يُعَذَّبَانِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِعَمَلِ الْأَحْيَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلًا وَلَا اسْتِئْنَاسًا فَإِنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ " مَنْ شُبْرُمَةُ؟ " قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ " حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ " حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ " قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ. وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: رَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ وَقْفَهُ وَقَالَ أَحْمَدُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ. وَأَقُولُ:

إِنَّ فِي سَنَدِهِ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ وَلَمْ يُنْسَبْ عَزْرَةُ إِلَى وَالِدٍ وَلَا بَلَدٍ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّ عَزْرَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. فَتَرَجَّحَ بِهَذَا أَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ تَمِيمٍ، لِأَنَّ قَتَادَةَ قَدِ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي التَّهْذِيبِ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَةِ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ فَوَقَعَ عِنْدَهُمَا عَزْرَةُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَوَى قَتَادَةُ أَيْضًا عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ هَذَا - فَقَتَادَةُ قَدْ رَوَى عَنْ ثَلَاثَةٍ كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ عَزْرَةُ، فَقَوْلُ النَّسَائِيِّ فِي التَّمْيِيزِ " عَزْرَةُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ " لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي عَزْرَةَ بْنِ تَمِيمٍ كَمَا سَاقَهُ فِيهِ الْمُؤَلِّفُ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ. (قُلْتُ) وَعَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ اهـ. وَنَقُولُ: قَدْ تَفَطَّنَّا لِمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فَوَجَدْنَا لِجَرْحِ النَّسَائِيِّ لَهُ مَخْرَجًا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ وُثِّقَا. وَالنِّسَائِيُّ مِمَّنْ وَثَّقُوا الْأَوَّلَ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَهُمَا، فَهُوَ إِمَّا ابْنُ تَمِيمٍ وَإِمَّا ابْنُ يَحْيَى الْمَجْهُولُ - فَكَيْفَ نَأْخُذُ بِحَدِيثٍ مَوْقُوفٍ انْفَرَدَ بِهِ مِثْلُ هَذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ مُخَالِفَةٍ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ. (3) حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ " اقْرَءُوا " يس " عَلَى مَوْتَاكُمْ " قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ " يس قَلْبُ الْقُرْآنِ لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ " قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالِاضْطِرَابِ وَبِالْوَقْفِ وَبِجَهَالَةِ حَالِ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِيهِ فِي السَّنَدِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ مَجْهُولُ الْمَتْنِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لِلْحَدِيثِ لِأَبِي دَاوُدَ وَالْأَخِيرَ لِأَحْمَدَ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ لَفْظَ ابْنِ مَاجَهْ " اقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " يَعْنِي " يس "، وَالنَّسَائِيُّ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي سُنَنِهِ بَلْ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ حِبَّانَ يَتَسَاهَلُ فِي التَّصْحِيحِ فَيُتَثَبَّتُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ لِلنُّقَّادِ فِي مُعَارَضَتِهِ فِيهِ فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ بِمُعَارَضَتِهِ وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهِ مُخَالِفًا لِلْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَشْمَلُهَا النُّصُوصُ الْعَامَّةُ وَبَيْنَ مَا تَدُلُّ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، بَلْ عَلَى حَظْرِهِ وَكَوْنِهِ بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ قِرَاءَةَ سُورَةِ يس عَلَى الْقُبُورِ قَدْ عَمَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَصَارَ كَالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّبَعَةِ لِمَا لِلْأَنْفُسِ مِنَ الْهَوَى فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ، أَيِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رُوَاةُ الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حِكْمَتَهُ سَمَاعُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى لِيَكُونَ آخِرَ مَا تَشْتَغِلُ بِهِ نَفْسُ الْمَيِّتِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (بَابِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَيِّتِ) وَابْنُ مَاجَهْ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِذَا احْتَضَرَ) وَقَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ عِبَارَةِ " عَلَى مَوْتَاكُمْ " أَيِ الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضِرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لِكُلِّ شَيْءٍ قَلَبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس " إِيذَانٌ بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُزَادُ بِهِ قُوَّةُ قَلْبِهِ وَيَشْتَدُّ تَصْدِيقُهُ بِالْأُصُولِ. فَهُوَ إِذًا عَمَلُهُ وَمَهَمُّهُ، قَالَهُ الْقَارِئُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرُّوحِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَعُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ بِمَا أَرْبَى بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ نَفَعَنَا اللهُ بِعُلُومِهِ " وَفِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزْنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمُحْتَضِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ". (الثَّانِي) انْتِفَاعُ الْمُحْتَضِرِ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَغِبْطَةِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (36: 26، 27) فَيَسْتَبْشِرُ الرُّوحُ بِذَلِكَ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ فَيُحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَلَهَا خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شَيْخِنَا أَبِي الْوَقْتِ عَبْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِنَا بِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَضَحِكَ وَقَالَ: (يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وَقَضَى. (الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّاسِ وَعَادَتُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يَقْرَءُونَ " يس " عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ. (الرَّابِعُ) أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " قِرَاءَتَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ لَمَا أَخَلُّوا بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ. (الْخَامِسُ) أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِاسْتِمَاعِهَا وَحُضُورِ قَلْبِهِ وَذِهْنِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا فِي آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا

هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ إِمَّا بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالِاسْتِمَاعِ وَهُوَ عَمَلٌ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِنَ الْمَيِّتِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا التَّحْقِيقُ كَافٍ فِي بَابِهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عِنْدَ دَفْنِهِ - وَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِهِ - فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى تَلْقِينِ التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالتَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ مُبَشِّرٌ الْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ اللَّجْلَاجِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحَدٌ غَيْرُ مُبَشِّرٍ هَذَا، وَغَايَةُ مَا قَالُوا فِيهِ إِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ غَيْرُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا يُخَصَّصُ عُمُومُهُ بِوُرُودِ الْقِرَاءَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ عِنْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشُّذُوذِ. وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ يُعْلَمُ سَبَبُ اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِ الْفُرُوعِ: (فَصْلٌ) لَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَفِي الْمَقْبَرَةِ نُصَّ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقِيلَ: تُبَاحُ. وَقِيلَ: تُسْتَحَبُّ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ. نُصَّ عَلَيْهِ كَالسَّلَامِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ وَقْتَ دَفْنِهِ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ اخْتَارَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ وَأَبُو حَفْصٍ (وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ) قَالَ شَيْخُنَا: نَقَلَهَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ (أَيْ أَصْحَابُ أَحْمَدَ) . . . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَبُو حَفْصٍ يُغَلِّبُ الْحَظْرَ (أَيْ كَوْنُهَا حَرَامًا) ثُمَّ هَاهُنَا ذَكَرَ وَصِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، الَّتِي هِيَ سَبَبُ رُجُوعِ أَحْمَدَ عَنْ حَظْرِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ فِي نَذْرِ الْقِرَاءَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَقَوْلُ الْمَرُّوذِيِّ بِنَاءً عَلَى الْحَظْرِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَقْرَأُ - ثُمَّ قَالَ: وَعَنْهُ (أَيِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَسَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ (أَيِ ابْنُهُ) يَحْمِلُ مُصْحَفًا إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَقْرَأُ فِيهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ وَلَا رُخَّصَ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا كَاعْتِيَادِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوِ الذِّكْرِ أَوِ الصِّيَامِ، قَالَ: وَاتِّخَاذُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَهَا وَلَوْ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا بِدَعَةٌ، وَلَوْ نَفَعَ الْمَيِّتَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ " اهـ. وَلِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْوَقْتِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ كَبُطْلَانِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِنْ تَشْيِيدِهَا وَالْبِنَاءِ وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي صَارَتْ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فِي عِدَادِ السُّنَنِ، بَلْ يَهْتَمُّونَ لَهُمَا مَا لَا يَهْتَمُّونَ لِلْفَرَائِضِ لِلْأَهْوَاءِ الْمَوْرُوثَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ قِرَاءَةِ سُورَةِ " يس " عَلَى الْمَوْتَى غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أُرِيدَ

بِهِ مَنْ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ قَطُّ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ وَعَمَّ الْبَدْوَ وَالْحَضَرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْمَوْتَى لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَكِنَّهُ صَارَ بِسُكُوتِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْعُلَمَاءِ وَبِإِقْرَارِهِمْ لَهُ ثُمَّ بِمُجَارَاةِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوِ الْفَرَائِضِ الْمُحَتَّمَةِ. وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) (82: 19) (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) (31: 33) وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ أَقْرَبَ أَهْلِ عَشِيرَتِهِ إِلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ أَنِ " اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا " فَقَالَ ذَلِكَ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَلِابْنَتِهِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ. وَأَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالثَّوَابُ مَا يَثُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ - إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فَلَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ. وَوَرَدَ مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَفِي غَيْرِهَا فَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ ثَوَابُهَا لِفَاعِلِهَا سَوَاءٌ اسْتُجِيبَ أَمْ لَا، وَيَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا اسْتِجَابَةُ كُلِّ دُعَاءٍ لِتَنَاقُضِ الْأَدْعِيَةِ وَلِاقْتِضَاءِ الِاسْتِجَابَةِ أَلَّا يُعَاقَبَ فَاسِقٌ وَلَا مُجْرِمٌ إِلَّا إِذَا اتَّفَقَ وُجُودُ أَحَدٍ لَا يَدْعُو لَهُ أَحَدٌ بِرَحْمَةٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ عَدَمِ صِدْقِهَا. وَوَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ جَوَازُ صَدَقَةِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ وَدُعَائِهِمْ لَهُمَا وَقَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ مَعَ النُّصُوصِ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَنْتَفِعَانِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمَا لِأَنَّ الشَّارِعَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمَا فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا مَا يَنُوبُونَ عَنْهُمَا فِيهِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِ اللهِ تَعَالَى كَدُيُونِ النَّاسِ، وَيَنَالُهُمَا مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُمَا خَيْرٌ، لَيْسَ هُوَ ثَوَابَ الدُّعَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مَدَارُ الْجَزَاءِ وَالنَّجَاةِ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا عَلَى عَمَلِ أَوْلَادِهِ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَ الْهُدَى، وَيَتَّقِيَ جَعْلَ الدِّينَ تَابِعًا لِلْهَوَى، فَلْيَقِفْ عِنْدَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَيَتَّبِعْ فِيهَا سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَعْرِضْ عَنْ أَقْيِسَةِ بَعْضِ الْخَلَفِ الْمُرَوِّجَةِ لِلْبِدَعِ. وَإِذَا زَيَّنَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ يُمَكِنُكَ أَنْ تَكُونَ أَهْدَى وَأَكْمَلَ عَمَلًا بِالدِّينِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَالصَّحِيحَةِ الَّتِي يَضْعُفُ الْخِلَافُ فِيهَا،

وَانْظُرْ أَيْنَ مَكَانُكَ مِنْهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ وَلَوْ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ أَنَّكَ بَلَغْتَ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَوَنَصِيفَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْذَرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ إِلَّا جَهُولٌ مَفْتُونٌ، أَوْ مَنْ بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْبِدَعِ، مُقَصِّرُونَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّنَنِ، وَمِنْهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَإِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا الْتَزَمُوا فِي الْمَقَابِرِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ، وَيَجْتَمِعُ لَدَيْهَا النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَطْفَالُ، وَلَا سِيَّمَا فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَتُذْبَحُ عِنْدَهَا الذَّبَائِحُ، وَتُطْبَخُ أَنْوَاعُ الْمَآكِلِ، فَيَأْكُلُونَ ثُمَّ يَشْرَبُونَ، وَيَبُولُونَ وَيَغُوطُونَ، وَيَلْغُونَ وَيَصْخَبُونَ وَيَقْرَأُ لَهُمُ الْقُرْآنَ، مَنْ يَسْتَأْجِرُونَ لِذَلِكَ مِنَ الْعُمْيَانِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَإِذَا كَانَ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُبَاحَاتِ يُعَدُّ هُنَالِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؟ . وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي حَظْرِ هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتِ فِي الْمَقَابِرِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ) لَكَفَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَآيَاتِ الْيَقِينِ تُوقَفُ لَهَا الْأَوْقَافُ الَّتِي يُسَجِّلُهَا وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا قُضَاةُ الشَّرْعِ الْجَاهِلُونَ، وَيَأْكُلُ مِنْهَا أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يَتْرُكُونَ بَعْضَ السُّنَنِ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَظُنَّ الْعَوَامُّ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْتِزَامِهَا تَأَسِّيًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْفَرَائِضِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَصَّرُوا فِي الْفَرَائِضِ، وَتَرَكُوا السُّنَنَ وَالشَّعَائِرَ، وَوَاظَبُوا عَلَى هَذِهِ الْبِدَعِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتْرُكُونِ لِأَجْلِهَا الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَوْ سُمِّيَتْ سُوَرُ الْقُرْآنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جُلِّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ سُورَةٍ أَوْ عَلَى أَهَمِّهِ لَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ سُورَةَ التَّوْحِيدِ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ عِلْمِ الْعَقَائِدِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَسَاسُهَا وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ مَعَ دَلَائِلِهَا، وَمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَلِرَدِّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ هَدْمِ هَيَاكِلِ الشِّرْكِ وَتَقْوِيضِ أَرْكَانِهِ، وَلِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَتَفْنِيدِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِآيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ، وَمُبَيِّنَةٍ لِوَظَائِفِ الرَّسُولِ وَدَعْوَتِهِ وَهَدْيِهِ

فِي النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَلِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَلِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِأُصُولِ الدِّينِ وَوَصَايَاهُ الْجَامِعَةِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ - وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى طُولِهَا قِصَّةٌ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ مِنَ الطُّولِ، وَيُونُسَ وَهُودٍ مَنَّ الْمِئِينَ، وَالطَّوَاسِينَ مِنَ الْمَثَانِي، بَلْ جَمِيعُ آيَاتِهَا فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْجَزَاءِ وَأُصُولِ الْبِرِّ وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَذُكِرَ فِيهَا مُوسَى وَالتَّوْرَاةُ لِلشَّبَهِ بَيْنَ رِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ وَبَيْنَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ وَصَايَا الْقُرْآنِ الْعَشْرُ وَوَصَايَا التَّوْرَاةِ الْعَشْرُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ حَالِ الرُّسُلِ عَامَّةً مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَتَسْلِيَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَإِنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَالِ نُذَكِّرُ الْقُرَّاءَ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الَّتِي يَغْفَلُ الْكَثِيرُونَ عَنْ جُمْلَتِهَا وَفَوَائِدِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا. أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ: أَمَّا مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ فَقَدْ فُصِّلَتْ أَبْلَغَ تَفْصِيلٍ بِأَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعَالِيَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، كَبَيَانَ صِفَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَفْعَالِهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ. وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَمَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ فِي الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الدَّارَيْنِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَنَاهِيكَ بِإِيرَادِ الْحَقِيقَةِ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، أَوْ وُرُودِهَا جَوَابًا بَعْدَ سُؤَالٍ، أَوْ تَجَلِّيهَا فِي وُرُودِ الْوَقَائِعِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَعْلَى الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلُهَا جَمْعًا بَيْنَ إِقْنَاعِ الْعُقُولِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيَقْتَرِنُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ، بِحُبِّ التَّعْظِيمِ وَخُشُوعِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَذْكُرُ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، فَيَكُونُ مَثَلُهَا فِيهِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الطِّينِ الْآسِنِ تُلْقَى فِي غَدِيرٍ صَافٍ. يَتَدَفَّقُ مِنْ صَخْرٍ. عَلَى حَصْبَاءَ كَالدُّرِّ. لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتَضَاءَلَ وَتَخْفَى. وَلَا تُكَدِّرَ لَهُ صَفْوًا. حَتَّى إِنَّهُ لَيُسْتَغْنَى، بِمُجَرَّدِ بَيَانِهَا، عَنْ وَصْفِ قُبْحِهَا وَالْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَكَيْفَ وَهِيَ تُقْرَنُ غَالِبًا بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لِمَا غَشِيَهَا مِنَ التَّلْبِيسِ. أَوْ يُقَفَّى عَلَيْهَا بِالْبُرْهَانِ الدَّامِغِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ. وَلَا تَغْفَلُ عَنْ أُسْلُوبِ إِحَالَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا أُوْدِعَ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ. وَتَذْكِيرِهِمْ بِمُعَارَضَتِهِ لِمَا أَلِفُوا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَفَسَادِ نَظَرِهِمْ. وَلَا عَنْ أُسْلُوبِ إِنْذَارِ سُوءِ الْمَغَبَّةِ فِي الْعَاجِلَةِ. وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ. أَضَلَّتِ الْفَلْسَفَةُ الْيُونَانِيَّةُ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْعُلْيَا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا اقْتَدَوْا بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ طَفِقُوا يُلَقِّنُونَ النَّشْءَ الْإِسْلَامِيَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَسْرُودَةً سَرْدًا مَعْدُودَةً عَدًّا.

مُعَرَّفَةً بِحُدُودٍ نَاقِصَةٍ، أَوْ رُسُومٍ دَارِسَةٍ مَقْرُونَةٍ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ وَتَشْكِيكَاتٍ جَدَلِيَّةٍ. لَا تُثْمِرُ إِيمَانَ الْإِذْعَانِ، وَلَا خَشْيَةَ الدَّيَّانِ، وَلَا حُبَّ الرَّحْمَنِ، بَلْ تُثِيرُ رَوَاكِدَ الشُّبُهَاتِ. وَتَتَعَارَضُ فِي إِثْبَاتِهَا دَلَائِلُ النَّظَرِيَّاتِ. تَأَمَّلْ كَيْفَ بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. ثُمَّ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَقَضَاءِ الْآجَالِ، وَكَيْفَ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ ذِكْرُ شِرْكِ الْكَافِرِينَ بِرَبِّهِمْ بِجَعْلِ بَعْضِ خَلْقِهِ عَدْلًا لَهُ. مَعَ أَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ لَا يُعَادِلُهُ أَحَدٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَعُطِفَ عَلَى الثَّانِي التَّنْبِيهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. تَذْكِيرًا لِلْمُسْتَعِدِّ لِلْفَهْمِ بِالْمَانِعِ لِيُجْتَنَبَ، وَالْمُقْتَضِي لِيُتَّبَعَ، وَإِيذَانًا لِلْعَاقِلِ بِأَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ لُبَابُ الدِّينِ وَرُوحُهُ نَوْعَيْنِ - تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ - بَيَّنَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ قَلِيلًا فِي النَّاسِ وَالشَّرَكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ دُونَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْكَثِيرَ الْفَاشِيَ، وَعَلَيْهِ سَوَادُ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ الْأَعْظَمِ، بُنِيَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ ذَاكَ، كَمَا بُنِيَتْ حُجَجُ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُعْتَرَفِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ، رَاجِعْ فِي فِهْرَسَيِ الْجُزْءَيْنِ السَّابِعِ وَالثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ بَحْثَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ بِحَثَ نَجَاةِ النَّاسِ وَسَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا التَّذْكِيرِ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودِينَ. وَاتِّخَاذَ الْكَوَاكِبِ أَرْبَابًا أَيْ مُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَالِقِينَ، وَهُوَ بَحْثٌ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ فِي قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ تَعَدَّدَتْ فِيهَا الْحُجَجُ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا، فَكَانَ أَجْدَرَ بِأَنْ يُوعَى فَيُحْفَظَ، وَيُعْقَلَ فَيُقْبَلَ. وَقَدْ أَسْهَبْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ فَاسْتَغْرَقَ خَمْسِينَ صَفْحَةً أَوْ أَكْثَرَ ص435 - 486 ج 7 ط الْهَيْئَةِ. وَمِنْ أَبْلَغِ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ تَقْرِيرِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ضَلَالِهِمْ عَنْهَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) (39) فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِهَا (فِي ص336 - 339 مِنْ ج7 تَفْسِيرٌ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) (71) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ص 435 - 442 ط الْهَيْئَةِ مِنْهُ أَيْضًا) .

وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى شَوَاهِدِ بَيَانِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِكَثْرَتِهَا مَعَ ظُهُورِهَا لِكُلِّ قَارِئٍ بِصِيغَتِهَا. وَلَعَلَّ أَرَقَّ أَسَالِيبِ الْإِقْنَاعِ، وَأَبْلَغَ وَسَائِلِ الْإِذْعَانِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ، إِحَالَةُ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَنَاشِئِ عُرُوضِ الشُّبَهَاتِ لِأَذْهَانِهِمْ، وَإِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمُحَاسَبَةِ عُقُولِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى تَعَارُضِ الْأَفْكَارِ وَتَنَاقُضِ الْأَقْوَالِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمُخَالَفَةِ التَّقَالِيدِ وَالْمُسَلَّمَاتِ، لِلْغَرَائِزِ وَالْمَلَكَاتِ. وَيَتْلُو هَذَا الْأُسْلُوبَ إِحَالَتُهُمْ عَلَى مِثَالِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ، وَالِاعْتِبَارِ بِسِيَرِ الْغَابِرِينَ. فَآيَاتُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ أَقْوَى مِنْ آيَاتِهِ فِي غَيْرِهَا (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51: 20، 21) . تَأَمَّلْ وَصْفَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ التَّاسِعَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ لِمَّا جَاءَهُمْ، وَالْحَزْمِ بِأَنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْحِسَّ وَيَشْتَبِهُونَ فِي اللَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ مُحِيطِ اللَّبْسِ، وَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) (109) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (111) ثُمَّ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لِاعْتِذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِ، جَاهِلِينَ لِهِدَايَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ لِذَكَاءِ عُقُولِهِمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 154 - 157. ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الْمُعْرِضِينَ بَعْدَ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُحُودِهِمْ (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ) (35) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (39) تَرَ كَيْفَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلَ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْعِلْمِ، وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِهِمْ، سَائِلًا إِيَّاهُمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ وَيُخْبِرُوا كَيْفَ حَالُهَا إِذَا أَتَاهَا عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْهَا السَّاعَةُ؟ أَغَيْرَ اللهِ يَدْعُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُمْ بِمَا يَعْلَمُونَهُ حَقَّ الْعِلْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشِّدَّةِ الْقُصْوَى يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْوُجْدَانِيُّ الَّذِي فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ الْوَهْمِيَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ص317 - 345 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . وَلَا تَغْفَلْ عِنْدَ مُرَاجَعَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ عَمَّا يُمَازِجُهَا أَوْ يُقَارِنُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأُسْلُوبِ الْآخَرِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَقِيَامِ حُجَجِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِذَا أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ وَضْعِ كِتَابٍ فِي فِقْهِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ مُرَتَّبٍ عَلَى أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ

وَالْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ فَهُنَاكَ نَسْتَوْفِي بَيَانَ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أُسْلُوبِ إِنْذَارِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةُ الْأَسَالِيبِ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ. الْأَسَالِيبُ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَأَمَّا مَسَائِلُ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالرُّسُلُ، فَنَسْتَغْنِي عَنِ التَّذْكِيرِ بِأَسَالِيبِ الْإِثْبَاتِ وَطُرُقِ الْإِقْنَاعِ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا فِيهِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى مُكَابَرَةِ الْمُعَانِدِينَ لِلْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، تَشْتَرِكُ فِيهِ حُجَجُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ حُجَجِ التَّوْحِيدِ وَسَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ هُنَا. وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ تَذْكِيرُ الْقَارِئِ ابْتِغَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي نَفْسِهِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُعَرِّفُهُ مَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَوَظَائِفَهُمْ، وَمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لِإِثْبَاتِ دَعْوَتِهِمْ، وَشُبُهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَانَ بُطْلَانِهَا. قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا مُقَدِّرًا وَرَبًّا مُدَبِّرًا، وَأَنَّ هَذَا الرَّبَّ الْخَالِقَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُشْكَرَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُفْرَ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ لِلتَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ سَوَاءٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِوُجُودِ اللهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَمْ لَا وَهْمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِ الْوَحْيِ وَشُبُهَاتٌ أُخْرَى عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَوَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَشَفَتْ مَا أَوْرَدُوا مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ. فَنَحْنُ نُلَخِّصُ أَوَّلًا مَا جَاءَ فِي مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعِهَا وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِيمَا أَثْبَتَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا فَنَقُولُ: مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرَّسُولِ إِنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا غَيْرَ مُكْتَسَبٍ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى مَا تَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَتَهَذَّبُ بِهِ أَخْلَاقُهُمْ، وَتَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْوَازِعُ لَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ وَالتَّسْلِيمُ الْإِذْعَانِيُّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا الْقَهْرُ وَالسَّيْطَرَةُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّعَادَةِ وَيَحْيَوْنَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ الْعُلْيَا فِي الْآخِرَةِ. وَصَفَ اللهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَبِأَنَّهُ بَصَائِرُ

لِلنَّاسِ، وَبِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَبِأَنَّهُ صِدْقٌ وَعَدْلٌ، وَبِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَدِينٌ قَيِّمٌ. وَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ نَفْسَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) (5) وَقَالَ: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) (66) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (114) وَقَالَ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (57) وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَلَا إِبْطَالُهُ - فَبِهَذَا الْوَصْفِ يُنَبِّهُ الْعُقَلَاءَ إِلَى أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ حَقِّيَّتِهِ بِفِكْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لِيَصِلُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَهِيَ غَايَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُنْصِفُ الْبَرِيءُ مِنَ الْأَهْوَاءِ فِي نَظَرِهِ، وَمِنْ قُيُودِ التَّقْلِيدِ فِي طَلَبِهِ لِلْحَقِّ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ فُصِّلَتْ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) كَذَلِكَ كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ. وَقَالَ: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (104) وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ كَالْبَصَرِ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّ فَتُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَعَلَى الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَفِي مَعْنَاهُ وَصْفُ الْوَحْيِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 203) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (45: 20) وَأَمَرَ رَسُولَهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ يُوسُفَ بِأَنْ يَقُولَ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) وَيُؤَيِّدُ هَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْعَقْلِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُبْتَدَعَةِ قَدْ بَعُدُوا عَنِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَاعْتَمَدُوا فِي الدَّعْوَةِ وَتَلْقِينِ الدِّينِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى. وَوَصَفَ الْقُرْآنَ فِي آيَةِ 155 بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ، أَيْ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ 157: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا) (161) وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الدِّينُ مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَالْقَيِّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى لَا يَفُوتَ صَاحِبَهُ. وَقَالَ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (195) أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ. فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ صِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَعَطْفِ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَدِيعِ الصُّنْعِ الْبَالِغِ مُنْتَهَى الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الَّذِي يُدْرَكُ جَمَالُهُ وَكَمَالُهُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُ بِهِ كَوْنَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا وَعَدْلًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْوَقَائِعُ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ لِإِدْرَاكِ حَقِّيَّةِ مَوْضُوعِهَا وَخَيْرِيَّتِهِ كَانُوا

أَكْمَلَ النَّاسِ عَقْلًا وَنَظَرًا وَفَهْمًا وَفَضْلًا كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. عَلَى أَنَّهُ أَرْشَدَ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ حَقِّيَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَحُسْنُهُ وَنَفْعُهُ فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يُتْرَكَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ لِأَجْلِ مُشَارَكَتِهِ لَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، أَوِ اسْتِبْعَادِ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ. الرَّسُولُ وَوَظَائِفُهُ أُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) (57) وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْعِلْمُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مُبَيِّنًا لَهُ بِهِ الْحَقَّ مُؤَيَّدًا بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) فَلَيْسَ فِي دِينِهِ تَحَكُّمٌ وَلَا إِكْرَاهٌ ; إِذْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (66) أَيْ لَيْسَ أَمْرُ هِدَايَتِكُمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِكُمْ مَوْكُولًا إِلَيَّ مِنَ اللهِ بِحَيْثُ أَكُونُ مُسَيْطِرًا عَلَيْكُمْ وَمُلْزِمًا إِيَّاكُمْ كَشَأْنِ الْوَكِيلِ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ. وَبَيَّنَ فِي الْآيَاتِ 104 - 107 أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، فَمَنْ أَبْصَرَ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ فَهُوَ الَّذِي سَيَسْعَدُ بِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا الْوِزْرُ إِذْ هُوَ الَّذِي يَشْقَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أَيْ بِمُوكَّلٍ بِإِحْصَائِهَا وَحِفْظِهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى جَدُّهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصْرِيفِهِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِهِ الدَّلَائِلَ وَتَبْيِينِهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِلَى أَنْ قَالَ: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ فِي ص 547 - 552 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالُهَا تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ الَّتِي حُصِرَتْ فِيهَا وَظِيفَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فِي التَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ الْمُنْقَسِمِ إِلَى التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (48) وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَصْرِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْجَاهِلُ أَوْ خَالِي الذِّهْنِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْهَادِمَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفَّارِ فِي الرُّسُلِ وَخَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمُ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُمْ وُكَلَاءُ اللهِ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدِهِمُ الْهُدَى وَالْحِرْمَانُ مِنْهُ وَالْإِسْعَادُ وَالْإِشْقَاءُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُهَا فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِخَاتَمِهِمْ، وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا ذُكِرَ الْحَصْرُ فِيهَا بِصِيغَةِ " إِنَّمَا " وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَهِيَ الصِّيغَةُ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالشَّيْءِ لِنُكْتَةٍ مِنَ النُّكَتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) (145) الْآيَةَ. وَكَمَا غَلَا الضَّالُّونَ فِي الرُّسُلِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ بِجَعْلِهِمْ وُكَلَاءَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْهِدَايَةِ وَالْجَزَاءِ كَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِقَابِ، غَلَوْا فِيهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَأَنَّهُمْ

يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الْأَرْضِ، فَيُوَسِّعُونَ عَلَى النَّاسِ الرِّزْقَ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ بِقُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ فِيهِمْ مُخَالِفَةٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاسِ، أَوْ بِحَمْلِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْلَاهُمْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَنَّهُمْ فِي تَفَوُّقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوْ أَعْظَمَ تَأْثِيرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ فَسَادَ هَذَا الْغُلُوِّ وَبُطْلَانَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَهُمْ بِالْوَحْيِ وَعَصَمَهُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي تَبْلِيغِ مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَمِمَّا يَحُولُ دُونَ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِثْرِ قَوْلِهِ: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (48) : (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (50) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ف ص352 - 360 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) فَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ بُطْلَانَ مَا سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَإِلْحَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، حَتَّى صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمَّى الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ آلِهَةً. شُبَهَاتُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يُقَابِلُهُ غُلُوُّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَتِهِمْ وَاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ الْغُلَاةُ أَفْرَطُوا فِي تَصْوِيرِ خُصُوصِيَّتِهِمْ، وَزَادُوا فِيهَا بِأَوْهَامِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فَرَّطُوا فِيهَا، فَلَمْ يَرَوْا لَهُمْ مَزِيَّةً يَمْتَازُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِهَا، أُولَئِكَ زَادُوا فِي بَيَانِ " حَقِيقَتِهِمْ فَضْلًا فَصَلَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا بَشَرِيَّتَهُمْ مَانِعَةً مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ النَّاسِ، إِذْ رَأَوْهُمْ بَشَرًا وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَزْعُمُ الْغُلَاةُ - قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (91) أَيْ إِنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ بِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِ الْبَشَرِ، لِاقْتِضَاءِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَائِرِ الْبَشَرِ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ، كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِيهِمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَوَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ، وَاقْتِضَاءَ حِكْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 509 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةُ كَوْنِهِمْ بَشَرًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى رِسَالَةِ الرُّسُلِ كَالْأَعْرَافِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَيس وَالتَّغَابُنِ، وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ السُّورِ بِلَفْظِ رَجُلٍ

بَدَلَ بِشَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) (10: 1، 2) إِلَخْ. وَهَذَا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَوَّلِ مَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (7: 63) وَيَلِيهِ حِكَايَةُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ (آيَةُ 67) . وَلَمَّا اسْتَبْعَدَ هَؤُلَاءِ الْوَحْيَ لِرَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (23: 33، 34) زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ أَنْ يُؤَيَّدَ بِمَ‍لَكٍ يَكُونُ مَعَهُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (25: 7) وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ جُمْهُورِ الْبَشَرِ لِرُؤْيَتِهِمْ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعِدُّ اللهُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ مِنْ كَمَلَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ إِذَا أُنْزِلَ الْمَلَكُ عَنْ جَعْلِهِ رَجُلًا، أَيْ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَتَبْقَى شُبْهَتُهُمْ فِي مَوْضِعِهَا. هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَمْ تُدَعَّمْ بِحُجَّةٍ وَلَمْ تُؤَيَّدْ بِبُرْهَانٍ، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ بِالْبَدَاهَةِ لِأَنَّهَا تَقْيِيدٌ لِمَشِيئَةِ الْمُرْسِلِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) وَقَدْ كَانَ أُولَئِكَ الْمُشْتَبِهُونَ مُؤْمِنِينَ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ. بَلْ كَوْنُ الرَّسُولِ إِلَى الْبَشَرِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَفْهَمُونَ أَقْوَالَهُ وَيَتَأَسَّوْنَ بِأَفْعَالِهِ هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ وَطَبِيعَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّ الْأَوْهَامَ الْجَهْلِيَّةَ تَقْلِبُ الْحَقَائِقَ وَتَعْكِسُ الْقَضَايَا حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْقَرَوِيِّينَ فِي زَمَانِنَا جَاءَ إِحْدَى الْمُدُنِ مَرَّةً فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ لِلِاحْتِفَالِ بِوَالٍ جَدِيدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ السَّلْطَنَةِ، فَرَغِبَ أَنْ يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْوَالِيَ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ أَمَامَهُ وَقِيلَ لَهُ هَذَا هُوَ اسْتَغْرَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا، وَقَالَ كَلِمَةً صَارَتْ مَثَلًا وَهِيَ: حَسِبْنَا الْوَالِيَ وَالِيًا فَإِذَا هُوَ إِنْسَانٌ أَوْ رَجُلٌ مِثْلُنَا. وَأَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ بَاشَا الدَّامَادُ أَنَّ بَعْضَ فَلَّاحِي الْأَنَاضُولِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ خَلْقَ السُّلْطَانِ مُخَالِفٌ لِخَلْقِ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنَّ لِحْيَتَهُ خَضْرَاءُ اللَّوْنِ، وَلِهَذَا الضَّعْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ يَلْبَسُ بَعْضُ رِجَالِ الْأَدْيَانِ أَزْيَاءَ خَاصَّةً مُؤَثِّرَةً، وَيُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لِأَجْلِ اسْتِجْلَابِ الْمَهَابَةِ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (6: 9) كَاشِفٌ لِهَذِهِ الْغُمَّةِ مِنَ الْوَهْمِ، وَهَادٍ إِلَى مَا يُوَافِقُ سُنَنَ الْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَاطِعٌ عَلَى الدَّجَّالِينَ طَرِيقَ الْجِبْتِ وَالْخُرَافَاتِ

الَّتِي يَخْدَعُونَ بِهَا أُولِي الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيسِينَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَالْوُزَرَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْحُجَّابِ وَالْأَعْوَانِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، يُقَرِّبُونَ مِنْهُ وَيُبْعِدُونَ عَنْهُ مَنْ شَاءُوا وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ كَمَا يَشَاءُونَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي الْآيَاتِ 7 و8 و9 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَرَدَّهَا أَكْمَلَ رَدٍّ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهِنَّ (ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ (111) أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَآتَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ مُقَابِلًا لَهُمْ، أَوْ حَشَرَهُ وَجَمَعَهُ لَهُمْ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ; لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ لَا مُرِيدُو حَقٍّ وَطُلَّابُ دَلِيلٍ يَعْرِفُونَهُ بِهِ. فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. تَعْجِيزُهُمُ الرَّسُولَ بِطَلَبِ الْآيَاتِ كَانَ الْجَاهِلُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَكَانَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى يَحْتَجُّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِشَهَادَةِ اللهِ لَهُ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، وَبِالْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِأَقْوَى طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَآيَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِهِ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 19 فِي ص282 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 25 ص 289 ج 7 ط. الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 37 ص 323 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ، وَفِيهِ بَيَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَدَلَّ عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أُوتِيهَا مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رِسَالَتِهِمْ، وَالْآيَةِ 50 (ص 351 - 356 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَكَذَا الْآيَةِ 5 مِنَ السُّورَةِ ص 252 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) . نَعَمْ إِنَّ آيَةَ الْقُرْآنِ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُ الدَّلَالَاتِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ وَمُرْشِدَةٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ فِي الْآيَاتِ وَلَا يَحْفِلُونَ بِأَمْرِ الِاسْتِدْلَالِ، بَلْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقُ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ لِلرَّسُولِ وَالْعَدَاوَةُ لَهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هُدًى وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَفَرِيقُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ أَلْفَوْا مَا وَرِثُوا عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُزَيِّفًا لَهُ وَمُضَلِّلًا لِأَهْلِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَمْدِهِ وَوَصْفِهِ بِمَا يُثْبِتُ

اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ، وَمُقَارَنَةِ ذَلِكَ بِمَا اتَّخَذَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ مِنْ نِدٍّ وَعِدْلٍ: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) (4) وَأَنَّى يَفْقَهُ الشَّيْءَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَنْظُرُ فِيهِ؟ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزَنُ لِإِعْرَاضِهِمْ وَيَوَدُّ لَوْ يُؤْتِيهِ اللهُ تَعَالَى آيَةً مِمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَإِنْزَالِ الْمَلَكِ أَوْ إِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ أَوْ إِعْطَائِهِ جَنَّةً فِيهَا يُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، فَهَوَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِكُلِّ آيَةٍ يُؤْتَوْنَهَا كَمَا كَذَّبَ أَمْثَالُهُمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبَيَّنَ لَهُ سُنَّتَهُ فِي عَذَابِ الْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ إِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَفِي خِذْلَانِهِمْ وَنَصْرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا صَبَرُوا عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَيَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا تَحَمَّلُوا مِنْ أَذَاهُمْ. وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَهُ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 7 - 9 ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ لح و25 و26 (ص 289 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لح و23 - 37 فِي ص 309 - 320 مِنْهُ) وَآيَةِ 50 (ص 351 مِنْهُ) و57 و58 (فِي ص 377 مِنْهُ) و65 - 67 (ص 408 - 419 مِنْهُ و109 و110 ص 553) إِلَى آخِرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ و111 فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ و124 - 126 (ص32 وَمَا بَعْدَهَا مِنْهُ) . طَعْنُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْقُرْآنِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَمَا فِي الْآيَةِ 25 (ص289 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَرَسْتَ " كَمَا فِي الْآيَةِ 105 (ص 548 مِنْهُ) فَهُوَ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ تَعْلِيلًا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَمْلَاهُ الْخَاطِرُ، وَتَبَادَرَ إِلَى فِكْرِ الْمُكَابِرِ، لَا عَنْ مَعْرِفَةٍ وَاطِّلَاعٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ - فَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَسْتَكْبِرُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَةِ مِنْ كَاتِبٍ أَوْ شَاعِرٍ مَا يَكْتُبُ أَوْ يَنْظِمُ فَيَنْسِبُهُ إِلَى أَحَدِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِذَلِكَ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّاعِرِ صِلَةٌ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. كَمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُحَرِّرُ الْمَنَارَ كُلَّهُ أَوِ التَّفْسِيرَ وَالْفَتَاوَى وَالْمَقَالَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةَ مِنْهُ. وَلَمْ يَجِدِ الْجَاحِدُونَ شُبْهَةً عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ وَقَدْ عَاشَ طُولَ عُمُرِهِ مَعَهُمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَهُمْ أَحَدٌ يَعْلَمُ أَخْبَارَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى أَلْجَأَتِ الْمُكَابَرَةُ بَعْضَهُمْ إِلَى عَزْوِ هَذَا التَّعْلِيمِ إِلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ جَاءَ مَكَّةَ يَشْتَغِلُ فِيهَا بِصُنْعِ السُّيُوفِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَ صِنَاعَتَهُ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (16: 103) فَإِنَّ ذَلِكَ الرُّومِيَّ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَهَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ بِبَيَانِهِ فِيهَا حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَتَتِمَّةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا تَرَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ افْتَتَحْنَا بِهِمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ لَيْسُوا أَرْبَابًا وَلَا شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْعِبَادِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَلَا فِي تَصَرُّفِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ. فَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا إِيمَانًا وَلَا رَشَدًا، بَلْ هُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَسَائِرِ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَاخْتَصَّهُمْ بِعِلْمٍ أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَعِدُّ مِنْهُمْ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقَّ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُعَانِدِينَ: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (8: 42) . وَقَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَا يُؤَيِّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَلَا مِنْ مَقْدُورِهِمْ لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِمْ كَسُنَّتِهِ فِي سَائِرِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِلْمِهِمْ كَذَلِكَ. فَلَا الْوَحْيُ الَّذِي اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاسْتِنْتَاجِ عُقُولِهِمْ، وَلَا الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ. تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (35) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 318 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) . وَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ وَلَا عِلْمُ الْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَلَكًا، وَحَصَرَ خُصُوصِيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ وَحْيِ رَبِّهِ فِي الْآيَةِ (50) الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَأَمْرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِالْإِنْذَارِ، ثُمَّ تَدَبَّرْ بَعْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَمَا أَمَرَهُ فِي شَأْنِ مُعَامَلَةِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَاتِ (51 - 55) وَقَارِنْ فِيهَا بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 35: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ 52: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) تَعْلَمِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمَقَامِ عُبُودِيَّةِ النُّبُوَّةِ، وَيُقَابِلُ هَذَا النَّهْيَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (70) إِلَخْ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ. الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ ذُكِرَتْ آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَارَةً خَبَرًا مُجَرَّدًا مُؤَكَّدًا كَقَوْلِهِ: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (129 وَقَوْلِهِ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (134) أَوْ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ فِي السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) (36) وَكَفَى بِالِاسْتِنَادِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّوْكِيدِ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) (164) . وَالْأُسْلُوبُ الْغَالِبُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِيرَادُهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ

عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَبْلَغُ الْآيَاتِ فِيهِ التَّذْكِيرُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) (22) إِلَى آخِرِ آيَةِ (24) وَقَوْلِهِ: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (27) إِلَى آخِرِ آيَةِ (32) وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَنْهُمْ وَحَصْرِهِمُ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ مَصِيرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي يُنْكِرُونَهَا لِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخَتَمَ السِّيَاقَ بِحَصْرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ وَتَفْضِيلِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (70) الْآيَةَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا جَاءَ فِي أُسْلُوبِ حَشْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ يَوْمَئِذٍ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَسُؤَالِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ يَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ) (128 - 130) وَقَدْ جَمَعَ فِي الْآيَاتِ) (133 - 135) بَيْنَ الْوَعِيدِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا. إِذَا اسْتَقْصَى الْقَارِئُ آيَاتِ الْبَعْثِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَرَاهَا تُخْبِرُ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مُقَرَّرٍ، هُوَ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ كَأَنَّهُ مُسَلَّمٌ ; لِإِنْذَارِ مَا يَقَعُ فِي يَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ عَسَى أَنْ يُتَّقَى، وَالْبِشَارَةِ بِمَا أُعِدَّ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّعِيمِ عَسَى أَنْ يُسْعَى لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى. وَيَظُنُّ الَّذِينَ اعْتَادُوا تَلَقِّيَ الْعَقَائِدِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِيَّاتِ الْجَدَلِيَّةِ، أَنَّ هَذِهِ دَعَاوَى غَيْرُ بُرْهَانِيَّةٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَسَالِيبُ خَطَابِيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَخْبَارٌ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى رِسَالَتِهِ. وَلَمْ يَأْتِ مُنْكِرُوهَا بِدَلِيلٍ عَلَى إِنْكَارِهَا وَلَا شُبْهَةٍ. فَيُحْتَاجَ إِلَى إِبْطَالِهَا بِالْحُجَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الْإِنْكَارِ اسْتِغْرَابَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وَلَمْ يُؤْلَفْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَغَفْلَةٌ مِنْ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَدَأَ هَذَا الْخَلْقَ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي ثُبُوتِهَا كَالْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ مَعَ التَّذْكِيرِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَحِكْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ كَالْآيَاتِ الثَّلَاثِ 133 - 135، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُنَا بِأُسْلُوبِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنِ الْمُنْكِرِينَ شَيْئًا مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَمَا ثَمَّ احْتِجَاجٌ، وَلَا مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ سَرْدِ الْآيَاتِ بِالْأَسَالِيبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا التَّأْثِيرَ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ أَنْ تَتَأَثَّرَ أَنْفُسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ بِمَا يَتَكَرَّرُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنْ كَلَامِ الصَّادِقِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ تَعَجُّبِهِمْ مِنْ خَبَرِ الْبَعْثِ وَتَفْنِيدُ ذَلِكَ بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَدَحْضِ

الشُّبْهَةِ. وَمِنْهَا سُورَةُ (يس) وَقَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَخُتِمَتْ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَفَاتِحِ الْغَيْبِ لِلرَّازِيِّ. وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فَوَاتِحِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا (الصَّافَّاتِ) وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ (ق) وَمِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي أَثْنَائِهَا: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (50: 15) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَنْبَغِي بَيَانُهُ، وَذَكَرْنَا فِيهِ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. فَلِلْقَارِئِ أَنْ يُرَاجِعَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ. عَالَمُ الْغَيْبِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَمِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُؤْمِنُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ بِالْمَلَائِكَةِ وَقَدْ عَبَدُوهُمْ، وَبِوُجُودِ الْجِنِّ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ لَهُمْ أَحْيَانًا بِصُوَرِ الْغِيلَانِ وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَعَزْفَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشِّعْرَ فِي هَوَاجِسِ الشُّعَرَاءِ. وَيَسْتَغْنَى الْقَارِئُ عَنْ ذِكْرِ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ بِمُرَاجَعَةِ كَلِمَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْغِيلَانِ وَالرُّوحِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي فِهْرِسِ هَذَا الْجُزْءِ وَمَا قَبْلَهُ وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَبِمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ اللهِ اللَّطِيفِ، وَمِنْهَا تَعْلَمُ أَنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ يَعُدْ يُسْتَغْرَبُ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلَا سِيَّمَا عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ وَعِلْمُ الْكَهْرُبَاءِ لَكِنْ مِنْ عَجَائِبِ تَفَاوُتِ أَفْهَامِ الْبَشَرِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ يُنْكِرُونَ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَأْلَفُوا، وَلَا يَرَوْنَ الْمَعْرُوفَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ قَدِ اكْتَشَفَهُ " الْهِرُّ " فُلَانٌ وَ " الْمِسْتَرُ " عِلَّانٌ مَثَلًا قَبِلُوهُ مُذْعِنِينَ. وَقَالُوا إِنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَهَذَا شَرُّ التَّقْلِيدِ. الْأُصُولُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ فِي السُّورَةِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ أَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِلْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنِ الرَّذَائِلِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ 159 - 153 وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ فِي الْآيَةِ 120 وَهَاؤُمُ انْظُرُوا أَهَمَّ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّ دِينَ اللهِ تَوْحِيدٌ وَاتِّفَاقٌ، فَتَفْرِيقُهُ بِالْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَجَعْلِ أَهْلِهِ شِيَعًا مُتَعَادِيَةً، مُفَارِقَةٌ لَهُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ هَدْيِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، يُوجِبُ بَرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاعِلِي ذَلِكَ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (159) وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ قَاعِدَةُ سِيَاسَةِ الدِّينِ وَحَيَاةِ أَهْلِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ يُضَاهِي التَّشْدِيدَ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ الْقَاعِدَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ.

(الْأَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ سَعَادَةَ النَّاسِ وَشَقَاوَتَهُمْ مَنُوطَتَانِ بِأَعْمَالِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يَكُونُ بِحَسْبِ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسْتَفَادُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالنَّصِّ أَوِ الْفَحْوَى. وَمِنْ أَصْرَحِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (139) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ وَاسْتَعِنْ عَلَى مُرَاجَعَةِ سَائِرِ الْآيَاتِ بِالْأَرْقَامِ الَّتِي بِجَانِبِ كَلِمَةِ " الْجَزَاءِ " مِنْ فِهْرِسِ الْجُزْأَيْنِ 7 و8 وَمِنْ أَهَمِّهَا مَا فِي ص 272 ج 7 ط الْهَيْئَةِ وَتَفْسِيرُ (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) (164) فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَعَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَعَظُمَتْ نَعْمَاؤُهُ. وَيَا خَسَارَةَ مَنْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ الْمُضَاعَفَةَ. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (رَاجِعِ الْآيَةَ 160) . (تَنْبِيهٌ) مَسْأَلَةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِجَعْلِ الْحَسَنَاتِ مُضَاعَفَةً دُونَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي جَزَاؤُهَا بِمِثْلِهَا إِنْ لَمْ يَنَلْ صَاحِبَهَا شَيْءٌ مِنْ عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَمَسْأَلَةُ سَعَةِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَسَبْقِهَا لِلْغَضَبِ - كُلُّ ذَلِكَ قَدْ عُدَّ مُشْكِلًا مَعَ تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ خُلُودًا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (128) فَرَاجِعْ (فِي صَ 58 وَمَا بَعْدَهَا جُ 8 طَ الْهَيْئَةِ) وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ. (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) جَزَاءُ سَيِّئَاتِ كُلٍّ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَحَسَنَاتُهُ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وِزْرَ غَيْرِهِ وَلَا يَنْجُو بِحَسَنَاتِ غَيْرِهِ (رَاجِعِ الْآيَةَ 164 وَتَفْسِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِيهَا وَالِاسْتِدْرَاكَ عَلَيْهِ وَيَأْتِي بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ رَقَمْ 165) . (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْجَزَاءُ يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ جَمِيعًا؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِتَرْكِ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ. بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ إِصْلَاحُ الْبَاطِنِ. (الْأَصْلُ السَّادِسُ) النَّاسُ عَامِلُونَ بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَكِنَّهُمْ خَاضِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَلَا إِجْبَارَ وَلَا اضْطِرَارَ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَمَلِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَبَيْنَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُعَدُّونَ بِهِ مُشَارِكِينَ لَهُ تَعَالَى فِي إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ كَامِلَةٌ، وَإِرَادَةُ الْعِبَادِ وَقُدْرَتُهُمْ مِنْ عَطَاءِ اللهِ، وَخَلْقُهُ حَسَبُ مَشِيئَتِهِ، فَهُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ نَوْعًا مِنَ الْخَلْقِ وَيَجْعَلَهُ ذَا قُدْرَةٍ مَحْدُودَةٍ وَمَشِيئَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَعْمَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. وَمَعْنَى خَلْقِهِ تَعَالَى الْأَشْيَاءَ بِقَدَرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ خَلَقَهَا بِنِظَامٍ جَعَلَ فِيهَا الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ مُنْكِرُو الْقَدَرِ. وَالْأُنُفُ - بِضَمَّتَيْنِ - الْأَمْرُ الَّذِي يَكُونُ بَادِئَ الرَّأْيِ عَنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا نِظَامٍ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَلَيْسَ فِي الْقَدَرِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى الْعَمَلِ أَلْبَتَّةَ. رَاجِعْ فِي فِهْرِسَيِ الْجُزْأَيْنِ

و8 وَكَذَا غَيْرُهُمَا كَلِمَاتٌ: مَشِيئَةٌ، وَالْجَبْرُ وَالْقَدَرُ، وَسُنَّةُ اللهِ أَوْ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَائِنَاتِ مِثَالُ ذَلِكَ صَ 252 و336 و414 و557 مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ طَ الْهَيْئَةِ وص3 و8 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَتَفْسِيرُ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) الْآيَةَ 125 ص 36 مِنْهُ وَآيَةِ (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (129) مِنْهُ وَتَفْسِيرُ 148 و149 (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ فِي فَقْدِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِمَشِيئَةِ الْإِضْلَالِ وَبِالْأَكِنَّةِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَيُوصَفُ أَصْحَابُهُ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ - لَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ اللهَ بِقُدْرَتِهِ طَبَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْكُفْرِ ابْتِدَاءً وَخَلْقًا أُنُفًا، حَتَّى صَارَ تَكْلِيفُهُمُ الْإِيمَانَ عَبَثًا، وَمِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي نِظَامِ الْمِقْدَارِ، وَارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ أَيْضًا، فَهِيَ إِذَا أَثَّرَ كَسْبُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَكَثِيرًا مَا نُذَكِّرُ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ فَأَوْقَعُوا النَّاسَ فِي الْحَيْرَةِ، بَلْ أَفْسَدُوا أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كَسْبِهَا وَمِلْكِهَا وَأَخْلَاقِهَا - رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ 7 - 9 ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ وَآيَةِ 20 ص 286 وَآيَةِ 25 ص 289 و35 ص 318 و46 ص 349 كُلُّهَا مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَتَفْسِيرَ 110 - 112 مِنْ آخِرِ السَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ وَأَوَّلِ الثَّامِنِ و122 و123 ص 25 و124 - 126 ص 32 و144 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. وَكَذَلِكَ سُنَنُ اللهِ فِي افْتِتَانِ بَعْضِ النَّاسِ - وَكَذَا الْجِنُّ - بِبَعْضٍ فِي الْآيَةِ 53 (ص 370) وَفِي لُبْسِهِمْ شِيَعًا وَإِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ فِي الْآيَةِ 65 ص 408 وَتَوْلِيَةِ بَعْضِ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي الْآيَةِ 129 وَفِي تَزَيُّنِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ فِي الْآيَةِ 108 (ص 553 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَآيَةِ 122 (ص25) وَآيَةِ 137 وَفِي مَكْرِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْمَدَائِنِ فِي الْآيَةِ 123 (ص 28 مِنْهُ) كُلُّ هَذِهِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي مَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا عَلَّمَهَا اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَشَرِ، وَتَأْثِيرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، حَتَّى لَا يَحْزَنُوا وَلَا يَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا يَقْتَضِي سَلْبَ الِاخْتِبَارِ، وَلَا وُقُوعَهَا بِالْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) مَا وَرَدَ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَسَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا، وَإِهْلَاكِهَا بِمُعَانِدَةِ الرُّسُلِ وَبِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَرْبِيَتِهَا بِالشَّدَائِدِ وَكَذَا بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ (رَاجِعْ ص 255 وَص 279 وَمَا بَعْدَهَا و307 و345 و414 مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ طَ الْهَيْئَةِ) . وَمَا يَجِيءُ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ بِهَذَا الصَّدَدِ. (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَسَائِلَ عَقَائِدِ الدِّينِ عِلْمٌ صَحِيحٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ ثَمَّ كَانَ

بَصَائِرَ لِلنَّاسِ، وَأُيِّدَ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَحْثِ الرِّسَالَةِ. وَالْيَقِينُ جَزْمٌ تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ لَا يُزَلْزِلُهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ. (الْأَصْلُ التَّاسِعُ) التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُنَافِي أَصْلَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ. فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي الدِّينِ هُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي دِينِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ أَوْ مُعَلِّمِهِ وَلَيْسَ عَلَى عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ فِيهِ، فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي أَتْبَاعِ الرَّسُولِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12 - 108) فَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ مِنْ كَوْنِ هَذَا الدِّينِ عِلْمًا مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَبَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ النَّعْيِ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَيْبِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ، وَوَصْفِهِمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ، وَبِكَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ - فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلتَّقْلِيدِ. وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى مَا يَدْعُونَ وَبِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَكَذَلِكَ. وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ آيَاتِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ 144: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وَالْعِبْرَةُ فِيهِ أَنَّهُ جَاءَ فِي خَاتِمَةِ تَقْرِيعِهِمْ عَلَى مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ كُلُّ تِلْكَ الْآيَاتِ هَادِمَةً لِلتَّقْلِيدِ، وَيُؤَيِّدُهَا آيَةُ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ بَعْدَهَا. وَقَدْ نَقَلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا كَلَامًا حَسَنًا فِي جَهْلِ الْمُقَلِّدِينَ وَإِيثَارِهِمْ كَلَامَ شُيُوخِهِمْ عَلَى كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِخَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي ص274 ج 7 ط الْهَيْئَةِ. (الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ التَّعَبُدِيَّانِ وَسَائِرَ شَرَائِعِ الْعِبَادَةِ وَشَعَائِرِهَا مِنْ حَقِّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ وَضَعَ لَهُمْ حُكْمًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى شَرْعِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللهِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأَضَلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 136 - 140. (الْأَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا يَطْعَمُونَهُ إِلَّا الْأَرْبَعَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ (145) وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَرَاجِعْ تَحَقُّقَ الْحَقِّ فِي تَفْسِيرِهَا. (الْأَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ) أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ بَاغِيًا أَيْ مُرِيدًا لَهَا، وَلَا عَادِيًا أَيْ مُتَجَاوِزًا حَدَّ الضَّرُورَةِ إِلَى التَّمَتُّعِ بِهَا. وَإِذَا كَانَ الِاضْطِرَارُ عِلَّةَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِشَرْطِهَا فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَضْطَرُّ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ، كَالِاضْطِرَارِ إِلَى الْخَمْرِ أَحْيَانًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَيْسَ مِنْهُ الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ.

(الْأَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ) السِّيَاحَةُ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) 11 أَنَّهُ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى وُجُوبِ السِّيَاحَةِ وَإِنْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَصْدِ الْمَنْصُوصِ فِي الْآيَاتِ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْأَصْلِ التَّالِي لِهَذَا. نَعَمْ إِنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مِصْدَاقِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا النَّاطِقَةِ بِمَا حَلَّ مِنْ عِقَابِ اللهِ بِالسَّاخِرِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ الْخَاصِّ لِنُزُولِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ كَآيَةِ الْأَنْعَامِ وَمِثْلِهَا فِي النَّحْلِ وَالنَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَيُوسُفَ وَفَاطِرٍ وَغَافِرٍ. وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 137) وَمِثْلُهَا آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ (30: 42) وَمِنْهُ مَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّائِحِينَ وَالسَّائِحَاتِ فِي سُورَتَيِ التَّوْبَةِ وَالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ فِيهِمَا بِالصِّيَامِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَكَذَا تَخْصِيصُ سَهْمٍ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَهُمُ الرُّحَّالُونَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ بِالْأَسْفَارِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَمَعَاهِدِ كَسْبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّ السَّبِيلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَانْظُرْ أَحْكَامَ السَّفَرِ وَفَوَائِدَهُ فِي الْأَصْلِ التَّالِي. (الْأَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ) النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَعَوَاقِبِ الْأَقْوَامِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ فِي أَثْنَاءِ السَّيْرِ فِي أَرْضِهَا وَرُؤْيَةِ آثَارِهَا وَسَمَاعِ أَخْبَارِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْنَا بِهَا آنِفًا عَلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهِيَ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (11) . وَهَذَا النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهِ شَرْعًا، وَكَوْنِهِ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ وَمَقْصُودًا مِنَ السِّيَاحَةِ وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِبَاحَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ لِلسَّفَرِ فَوَائِدَ أُخْرَى عَلَّلَ بِهَا الْأَمْرَ بِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إِذَا كَانَ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ فَوَائِدِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ لِطَلَبِ التَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ فَالسَّفَرُ لِطَلَبِهِ إِذَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهُ بِدُونِهِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. وَالسَّفَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمِنْهُ الْفُنُونُ وَالصِّنَاعَاتُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حِفْظُ الْبِلَادِ وَشُئُونُ الْمَعَاشِ وَالصِّحَّةِ. . . تَأْثَمُ الْأُمَّةُ كُلُّهَا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمْ كِفَايَةُ الْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ. وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا إِذَا قُصِدَ بِهِ عَمَلٌ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، كَالَّذِينَ يُسَافِرُونَ إِلَى أُورُبَّةَ لِأَجْلِ الْفِسْقِ. وَأَجْمَعُ الْآيَاتِ لِتَكْمِيلِ النَّفْسِ بِالسَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ الدِّرَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالنَّظَرِ وَالِاكْتِشَافِ

وَالِاعْتِبَارِ، وَطَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَالِاخْتِبَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (22: 46) . وَقَدْ نَبَّهَتْ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ الَّتِي تُسْتَفَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ وَاخْتِبَارِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَهِيَ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (3: 137) الْآيَةَ. وَنَبَّهَتْ آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ إِلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ الْبَحْثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدْءِ الْخَلْقِ مِنَ الْآثَارِ؛ لِيَكُونَ مِنْ فَوَائِدِهِ قِيَاسُ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (29: 20) الْآيَةَ. وَنَبَّهَتِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ آيَتَيْ سُورَةِ الرُّومِ إِلَى النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَآثَارِهَا الْخَاصَّةِ بِالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَمَوَارِدِ الثَّرْوَةِ الزِّرَاعِيَّةِ وَسَائِرِ شُئُونِ الْعُمْرَانِ، وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ وَأَسْبَابُهُ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْقُوَّةَ وَالثَّرْوَةَ لَا تَحُولُ دُونَ هَلَاكِ الْأُمَّةِ إِذَا اسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ بَالظُّلْمِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (30: 9) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهَا آيَةُ فَاطِرٍ (35: 44) وَهِيَ خَاصَّةٌ بِمَسْأَلَةِ الْقُوَّةِ، وَلَكِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، فَهِيَ تُرْشِدُ بِمَوْقِعِهَا إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ. وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَا سُورَةِ غَافِرٍ (40: 21 و82) فَهُمَا تُرْشِدَانِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِقُوَّةِ الْأُمَمِ وَآثَارِهَا فِي الْأَرْضِ، فَتُزِيدُ عَلَى مَا قَبْلَهَا الْإِرْشَادَ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ صِنَاعَاتِ الْأَوَّلِينَ وَطُرُقِ كَسْبِهِمْ، وَالِاعْتِبَارِ بِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ وَاقِيَةً لَهُمْ مَعَ قُوَّتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ أُصُولِ عُلُومِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ اخْتِصَارًا، وَهُوَ كَافٍ لِتَذْكِيرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَرْشَدَ الْبَشَرَ إِلَى جَمِيعِ وَسَائِلِ سَعَادَةِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ فِي أَمْرَيِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. (الْأَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ) جَعَلَ اللهُ الظُّلْمَ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ وَإِبَادَةِ الْأَقْوَامِ فَقَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (45) وَقَالَ: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (47) وَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (82) وَقَالَ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (135) وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ قَدْ بُيِّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الظُّلْمُ الْعَامُّ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الشَّاهِدِ الْأَخِيرِ فِي الْآيَةِ 135) . (الْأَصْلُ السَّادِسَ عَشَرَ) التَّرْغِيبُ فِي عُلُومِ الْكَائِنَاتِ وَالْإِرْشَادُ إِلَى الْبَحْثِ فِيهَا لِمَعْرِفَةِ

سُنَنِ اللهِ وَحِكَمِهِ، وَآيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ فِيهَا الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِأَجْلِ الِاسْتِفَادَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأُمَّةُ فِي مَعَاشِهَا وَسِيَادَتِهَا، وَتَشْكُرُ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنْ هِدَايَةِ السُّورَةِ أَصْلًا وَاحِدًا وَهُوَ أَصُولٌ تَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُصُولِ التَّذْكِيرُ وَالْإِشَارَةُ، وَيُمْكِنُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ إِرْشَادَ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ - مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ - وَالْفَلَكِيَّةِ وَالْجَوِّيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ. وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا الْآيَاتُ الْخَمْسُ الْمُتَّصِلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) (95) إِلَى قَوْلِهِ: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (99) لَكَفَى، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص524 - 537 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهَا فِي النَّبَاتِ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ 141) الْآيَاتِ. وَمِثْلُهَا فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً آيَةُ 38 الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. (الْأَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ) الْعِنَايَةُ بِحِفْظِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِمَا سَخَّرَهُ اللهُ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ، وَبِغَيْرِهِ. يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (38) فَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَظْرَ قَتْلِ الْكِلَابِ فَقَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا " الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ إِحْدَى الصَّحَابِيَّاتِ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمِ تَعْذِيبِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى أَبْلَغُ مِنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي مَحَلِّهَا وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ (ص 326 - 336 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ) إِثْبَاتُ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنْهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِاتِّقَائِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَكُفْرِ النِّعَمِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ. وَالْآيَةُ 32 نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا فَرَاجِعْهُ فِي (ص 303 - 309 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . وَالْمُرَادُ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ تَحْذِيرُ الْعَاقِلِ مِنْ جَعْلِ التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا كُلَّ هَمِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ أَوْ أَكْبَرَ هَمِّهِ فِيهَا، وَإِنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمُبَاحِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا لِلَّهِ وَمَا لِعِبَادِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ، عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ هَمِّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَأَجَلَهُ قَصِيرٌ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِالْمُنَغِّصَاتِ، وَعُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ، وَالَّذِي لَا هَمَّ لَهُ فَوْقَهُ يُسْرِفُ فِيهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ بِصَارِفَةٍ لَهُمْ عَنْ

افْتِرَاسِ أَقْوِيَائِهِمْ لِضُعَفَائِهِمْ، فَضْلًا عَنِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ هُمْ دُونَهُمْ فِي حَضَارَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، وَقَدِ انْتَهَوْا فِي الْخُبْثِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْفَتْكِ إِلَى غَايَةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا تَارِيخُ الْبَشَرِ فِي أَشَدِّ الْمُتَوَحِّشِينَ جَهْلًا. (الْأَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ) أَنَّ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْمُحَتَّمَةِ أَنْ يَتَحَامَى الْمُسْلِمُونَ سَبَّ مَا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ حَجَرًا كَانَ أَوْ شَجَرًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ إِنْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسُبَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ اللهَ تَعَالَى عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَيُثِيرُ الْعَدَاوَةَ وَيُورِثُ الْأَحْقَادَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَثِّفُ الْحِجَابَ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى قُبْحِ السَّبِّ فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالْمُسْلِمِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ " الْمُسْلِمُ لَيْسَ بِسَبَّابٍ وَلَا لَعَّانٍ " وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْأُخْرَى فِي الْمُعَامَلَاتِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (108) الْآيَةَ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 553 - 558 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنْ آخَرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَفِيهِ بَحْثُ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ. (الْأَصْلُ الْعِشْرُونَ) ابْتِلَاءُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعْلِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَزَايَا الْوَهْبِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ مِمَّا يُخْتَبَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ فِي التَّنَافُسِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَا يُفَضَّلُ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طُرُقَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ؛ وَلِذَلِكَ يَنْتَهِي الِاخْتِبَارُ تَارَةً بِارْتِقَاءِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَنَافِسِينَ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ. وَتَارَةً يَنْتَهِي بِالرَّزَايَا وَالنَّكَالِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَارَةً يَنْتَهِي بِارْتِفَاعِ فَرِيقٍ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَوِيِّ الْآخَرِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرْكَاتِ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ فِي مُنَافَسَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ وَمُنَافَسَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 165) فَعَسَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَتُوبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ عَلَيْهِمْ، فَيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَيُعِيدَ إِلَيْهِمْ مَا سَلَبَهُمْ مِنَ الْآلَاءِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (الْأَصْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ) التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ مَعَ مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَرَحْمَةَ الرَّبِّ الْغَفُورِ، بِإِيجَابِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَوَعْدِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا بِتَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ وَلَا إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا مُحَابَاةِ شَافِعٍ، وَالْآيَةُ 54 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَصٌّ فِي هَذَا الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ إِذْ قَالَ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وَأَمَّا إِيجَابُهَا بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّ مَبْدَأَ التَّوْبَةِ شُعُورٌ بِالْأَلَمِ وَالِامْتِعَاضُ مِنَ الذَّنْبِ، وَالْحَيَاءُ مِنَ اللهِ وَالْخَوْفُ مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْمِ النَّفْسِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ تَوْبِيخَ الضَّمِيرِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ بِسُنَّةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ تَرْكَهُ وَالْإِتْيَانَ بِعَمَلٍ يُضَادُّهُ وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَقَدْ عَرَّفَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ: بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الْمَعْصِيَةِ وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِسُخْطِ اللهِ وَعَذَابِهِ يُوجِبُ الْحَالَ وَهُوَ أَلَمُ النَّفْسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَهَذَا الْحَالُ يُوجِبُ الْعَمَلَ الشَّامِلَ لِتَرْكِ الذَّنْبِ وَتَكْفِيرِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُضَادًّا لَهُ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (ص 375 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) ثُمَّ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ الَّتِي يَحِيلُ عَلَيْهَا فِي تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ أَخَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ لِتَذْكِيرِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْكِتَابَ إِمَامَهَا، بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ التَّوْبَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ مَا هَدَاهَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِ اللهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَنْكِبُ مَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. هَذَا مَا تَيَسَّرَ التَّذْكِيرُ بِهِ مِنْ أُصُولِ عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَدْرِ مَا تَذَكَّرْنَاهُ وَقْتَ كِتَابَتِهِ. وَالْفِكْرُ فِي بِلْبَالٍ وَالْقَلْبُ فِي آلَامٍ، وَالزَّمَنُ غَيْرُ مُسَاعِدٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ الِاسْتِقْصَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ فِي اسْتِطَاعَةِ إِنْسَانٍ، فَهِيَ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَهَبُ اللهُ مِنْهَا الْأَوَاخِرَ مَا لَمْ يَهَبِ الْأَوَائِلَ، وَيَمْنَحُ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ مَالَا يَمْنَحُ الْأَقْوِيَاءَ. وَقَدْ أَدْمَجْنَا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى أَرْكَانِ الْعَقَائِدِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا أُصُولًا كَثِيرَةً لَوْ بُسِطَتْ لَطَالَ الْكَلَامُ كَأَنْوَاعِ شَهَادَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِصِدْقِهِ. وَمُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ 114، 115، وَأَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَتَغْرِيرُهُمْ وَالِانْخِدَاعُ بِهَا فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُمَا وَهُنَّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَلْمَمْنَا بِبَعْضِهِ وَبِهَذَا نَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَنَا الصَّوَابَ. وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَيُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَيُؤْتِيَنَا فِيهِ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ آمِينَ.

سُورَةُ الْأَعْرَافِ (وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ فِي الْعَدَدِ وَسَادِسَةُ السَّبْعِ الطُّوَلِ وَآيَاتُهَا 205 آيَاتٍ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ و206 عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ) الْأَعْرَافُ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَثْنَى قَتَادَةُ آيَةَ (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) (163) رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ حِبَّانَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ هُنَا إِلَى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (172) مَدَنِيٌّ. اهـ وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِالْمَعْنَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَكِّيًّا وَبَعْضُهَا مَدَنِيًّا وَبِهَذَا النَّظَرِ نَقُولُ: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قِصَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ وَهِيَ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُغَيَّا فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ عَامٍّ. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ. مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: سُورَةُ الْأَعْرَافِ أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَوْ كَانَ تَرْتِيبُ السَّبْعِ الطُّوَلِ مُرَاعًى فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَطْوَلِ فَالْأَطْوَلِ مُطْلَقًا لَقُدِّمَتِ الْأَعْرَافُ عَلَى الْأَنْعَامِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَهَا - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِثْلَهَا - فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا أَجْمَعُ لِمَا تَشْتَرِكُ السُّورَتَانِ فِيهِ وَهُوَ أَصُولُ الْعَقَائِدِ وَكُلِّيَّاتِ الدِّينِ الَّتِي أَجْمَلْنَا جُلَّ أُصُولِهَا فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِهَا، وَكَوْنِ مَا أُطِيلُ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ كَالشَّرْحِ لِمَا أُوجِزَ بِهِ فِيهَا أَوِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا عُمُومُ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَصُ الرُّسُلِ قَبْلَهُ وَأَحْوَالُ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا التَّنَاسُبِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ الْأُولَى (رَاجِعْ ص240 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَزِيدُهُ تَفْصِيلًا فِيمَا نَذْكُرُهُ فِي خَاتِمَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَاتِمَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. وَأَمَّا سَبَبُ تَأْخِيرِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي تَلْقِينِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ اسْتِعْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهِيَ أَجْمَعُ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ وَلِرَدِّ شُبُهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا يُرَاعَى مِنَ التَّرْتِيبِ فِي دَعْوَتِهِمْ وَمَا يُرَاعَى فِي تِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقُرْآنِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَا نَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ لَمَّا كَانَتْ لِبَيَانِ الْخَلْقِ وَفِيهَا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ 6: 2) وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ

الْقُرُونِ: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ 6: 6) وَأُشِيرَ إِلَى ذِكْرِ الْمُرْسَلِينَ وَتَعْدَادِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ وَكَانَ مَا ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ - جِيءَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى شَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ، فَبُسِطَ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ، وَفُصِّلَتْ قِصَصُ الْمُرْسَلِينَ وَأُمَمِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ أَكْمَلَ تَفْصِيلٍ. وَيَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) (6: 165) وَلِهَذَا صَدَّرَ السُّورَةَ بِخَلْقِ آدَمَ الَّذِي جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ: (جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (69) وَفِي قِصَّةِ ثَمُودَ: (جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) (74) وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (6: 54) وَهُوَ كَلَامٌ مُوجَزٌ وَبَسَطَهُ سُبْحَانَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (156) وَأَمَّا وَجْهُ ارْتِبَاطِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) (6: 153) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) (6: 155) وَافْتَتَحَ هَذِهِ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَأَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (6: 159) (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (6: 164) قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ فِي مُفْتَتَحِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) (6) إِلَخْ. وَذَلِكَ مِنْ شَرْحِ التَّنْبِئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) (6: 160) الْآيَةَ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمِيزَانِ افْتَتَحَ هَذِهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (8) ثُمَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ مَنْ خَفَّتَ وَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمُ اهـ. وَنَكْتَفِي بِهَذَا مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلَهُ هُنَا وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّهْلِ بَسْطُهُ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَنَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مُسْتَعِينِينَ بِإِلْهَامِهِ وَتَفْهِيمِهِ عَزَّ وَجَلَّ. (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)

الأعراف

(المص) هَذِهِ حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الرَّسْمِ بِشَكْلِ كَلِمَةٍ ذَاتِ أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّهَا تُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ سَاكِنَةً هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ غَيْرُ مُسَمَّى تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ هِيَ تَنْبِيهُ السَّامِعِ إِلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الصَّوْتِ مِنَ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهِيَ كَأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ " أَلَا " وَ " هَاءِ " التَّنْبِيهِ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ سُوَرٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الطُّوَلِ وَالْمِئِينَ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُوهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ لِدَعْوَتِهِمْ بِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ - وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ فِيهِمَا مُوَجَّهَةً إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - وَكُلُّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ إِلَّا سُورَةَ مَرْيَمَ وَسُورَتَيِ الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَسُورَةَ (ن) . وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّوَرِ يَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ. فَأَمَّا سُورَةُ مَرْيَمَ فَقَدْ فُصِّلَتْ فِيهَا قِصَّتُهَا بَعْدَ قِصَّةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا الْمُشَابِهَةِ لَهَا. وَيَتْلُوهُمَا ذِكْرُ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ مَبْدُوءًا كُلٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَعِيسَى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ تَفْصِيلِ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (11: 49) وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ بَعْدَ سَرْدِ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (12: 102) وَخُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " أَيْ سُورَةُ مَرْيَمَ " بِإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ اتِّخَاذِ اللهِ تَعَالَى لِلْوَلَدِ، وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَهِيَ بِمَعْنَى سَائِرِ السُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُتْلَى لِلدَّعْوَةِ وَيُقْصَدُ بِهَا إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَصِدْقِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ. وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةُ الرُّومِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدِ افْتُتِحَتْ بَعْدَ (الم) بِذِكْرِ أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَّعْوَةِ. فَالْأَوَّلُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ إِيذَاءُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ وَاضْطِهَادُهُمْ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُطْفِئُونَ نُورَ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِلُونَ دَعْوَتَهُ بِفِتْنَتِهِمْ لِلسَّابِقِينَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ

لَا نَاصِرَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ بِحَمِيَّةِ نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَكَانَ الْمُضْطَهَدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ بِظُهُورِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ يَمْتَازُ بِهَا الصَّادِقُونَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ. فَكَانَتِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِالْحُرُوفِ الْمُنَبِّهَةِ لِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ الرُّومِ هُوَ الْإِنْبَاءُ بِأَمْرٍ وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يَكُنْ وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى قَوْمِهِ - وَبِمَا سَيَعْقُبُهُ مِمَّا هُوَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ ذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ فَارِسَ غَلَبَتْ دَوْلَةَ الرُّومِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ طَالَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ سَيَدُولُ وَتَغْلِبُ الرُّومُ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (41: 26) . وَأَمَّا سُورَةُ " ن " فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (96: 1) وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ - حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ - بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: " سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: " مُعَلَّمٌ

مَجْنُونٌ " (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (51: 52، 53) . نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ (ن) هُنَا بِمَعْنَى الدَّوَاةِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْقَلَمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (96: 3، 4) وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُوتِ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ ذِكْرًا لِصَاحِبِ الْحُوتِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمَا كُتِبَتِ النُّونُ مُفْرَدَةً وَنُطِقَتْ سَاكِنَةً، بَلْ كَانَتْ تُذْكَرُ مُرَكَّبَةً وَمُعْرَبَةً كَقَوْلِهِ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) (21: 87) وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ، كَمَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ تِلْكَ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى مَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ تَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ تَذْهَبُ فِيهَا الْأَفْهَامُ مَذَاهِبَ تُفِيدُ أَصْحَابَهَا عِلْمًا أَوْ عِبْرَةً، بِشَرْطِ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْأَخِيرِ جَعَلَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ هَذِهِ الْأَحْرُفَ مُقْتَطَعَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا: أَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (المص) قَالَ أَنَا اللهُ أَفْضَلُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِيهِ قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيهِ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِيهِ قَالَ: أَنَا اللهُ الصَّادِقُ. وَرَوَى أَبْنَاءُ جَرِيرٍ، وَالْمُنْذِرُ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (المص) وَ (طه) وَ (طسم) وَ (حم عسق) وَ (ق) وَ (ن) وَأَشْبَاهُ هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى. وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ - وَالِاسْمُ الْمُرْتَجَلُ لَا يُعَلَّلُ - وَهُوَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (الم) مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ آنِفًا، وَهِيَ الَّتِي فُتِحَ عَلَيْنَا بِهَا فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ الَّذِي كُنَّا نُلْقِيهِ فِي مَدْرَسَةِ دَارِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ فِيهِ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ، إِذْ أَثْبَتْنَا أَنَّ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ وَبَلَاغِةِ التَّعْبِيرَ، الَّتِي غَايَتُهَا إِفْهَامُ الْمُرَادِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، أَنْ يُنَبِّهُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ إِلَى مُهِمَّاتِ كَلَامِهِ وَالْمَقَاصِدِ الْأُولَى بِهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِمَا يُرِيدُهُ هُوَ مِنْهَا، وَيَجْتَهِدُ فِي إِنْزَالِهَا مِنْ نَفْسِهِ فِي أَفْضَلِ مَنَازِلِهَا وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ لَهَا قَبْلَ الْبَدْءِ بِهَا لِكَيْلَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ جَعَلَتِ الْعَرَبُ مِنْهُ هَاءَ التَّنْبِيهِ وَأَدَاةَ الِاسْتِفْتَاحِ، فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ فِي

الْإِصْلَاحِ وَالْهُدَى؟ وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْخِطَابِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَتَكْيِيفِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ صَيْحَةِ التَّخْوِيفِ وَالزَّجْرِ، أَوْ غُنَّةِ الِاسْتِرْحَامِ وَالْعَطْفِ، أَوْ رَنَّةِ النَّعْيِ وَإِثَارَةِ الْحُزْنِ أَوْ نَغَمَةِ التَّشْوِيقِ وَالشَّجْوِ، أَوْ هَيْعَةِ الِاسْتِصْرَاخِ عِنْدَ الْفَزَعِ، أَوْ صَخَبِ التَّهْوِيشِ وَقْتَ الْجَدَلِ. وَمِنْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْإِشَارَاتِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي بِالْحَرَكَاتِ وَمِنْهُ كِتَابَةُ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْجُمَلِ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ أَوْ وَضْعُ خَطٍّ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.

هَذَا وَإِنَّنِي بَعْدَ أَنْ هُدِيتُ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ لِبَدْءِ سُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ بَحَثْتُ

عَنْ سَلَفٍ لِي فِي ذَلِكَ فَرَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ لِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ وَبَسْطِهِ لِكُلِّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ، فَأَلْفَيْتُهُ قَدْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ، وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةً، وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي. (وَنَقُولُ: قَدْ نَقَلَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَعْقُولِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْلُومٌ، وَنَقَلَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا 21 قَوْلًا، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهَا

قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (41: 26) وَتَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - لِمَا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ - أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمُ اهـ. ثُمَّ سُمِّيَ هَذَا حِكْمَةً فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا - عَلَى طَرِيقَةِ الْمُفَسِّرِينَ لَا الصُّوفِيَّةِ - اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي شَرْحِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ مَا نَصُّهُ " قَالَ الْحَرْبِيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُنْتَبِهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا فَأُمِرَ جِبْرِيلُ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِهِ: الم، وَحم لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَصْغَى إِلَيْهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ " أَلَا " وَ " أَمَّا " لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ لَهُ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ التَّنْبِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْعَدٌ، وَقَدْ كَانَ يَتَنَبَّهُ وَتَغْلِبُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الرُّوحِ الْأَمِينِ عَلَيْهِ وَدُنُوِّهِ مِنْهُ كَمَايُعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّنْبِيهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَوَجَّهُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ إِلَى مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، فَهُمْ مَقْصُودُونَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِالدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ التَّتَبُّعِ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْحِكْمَةَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهَا بِهِ

2

ابْتِدَاءً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَوْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ ابْنُ كَثِيرٍ لَمَا ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ إِذْ نَقَلَهُ مُوجَزًا مُجْمَلًا عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ رَجَّحَ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَيَانُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا جَمِيعُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ مُفَسِّرِي عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَلَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ. (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إِذَا قِيلَ إِنَّ (المص) اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كِتَابٌ) وَإِلَّا فَهَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ كِتَابٌ كَقَوْلِهِ: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) (2: 1، 2) وَتَنْكِيرُ (كِتَابٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الْمُشَارُ إِلَى بَعْضِهِ الْمُنَزَّلُ بِالْفِعْلِ، وَجُمْلَةُ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صِفَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ بَدْءُ نُزُولِهِ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (أُنْزِلَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنْزَلَ اللهُ أَوْ أَنْزَلْنَاهُ إِيجَازًا مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمُنْزِلَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الضَّمِيرِ أَوِ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) حَرَجُ الصَّدْرِ ضِيقُهُ وَغَمُّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَجِدُ السَّالِكُ فِيهِ سَبِيلًا وَاضِحًا يَنْفُذُ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَرَجَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدِ تَفْسِيرُهُ بِالشَّكِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الشَّكَّ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ حَرَجِ الصَّدْرِ وَضِيقِ الْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ (الْآيَةِ 125) وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قِيلَ: هِيَ نَهْيٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ. وَقِيلَ: حُكْمٌ مِنْهُ نَحْوَ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (94: 1) اهـ. وَالنَّهْيُ أَوِ الدُّعَاءُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِ مَانِعٌ كَعِنَايَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ شَأْنٍ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (73: 5) ثُمَّ نَزَلَ فِي تَفْسِيرِهِ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (59: 21) وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ الْوَحْيُ وَهُوَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَكَانَ يَكَادُ يَهِيمُ بِشِدَّةِ وَقْعِهِ وَعِظَمِ تَأْثِيرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَأَيُّ قَلْبٍ يَحْتَمِلُ وَصَدْرٍ يَتَّسِعُ لِكَلَامِ اللهِ الْعَظِيمِ، يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ شَرْحَهُ وَإِعَانَتَهُ عَلَى

حَمْلِهِ، وَهُوَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) فَهَذَا وَجْهُ مَظِنَّةِ وُقُوعِ الْحَرَجِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْهُ بِشَرْحِهِ لِصَدْرِهِ، وَيَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ تَكْوِينِيًّا. وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّفَ بِهِ هِدَايَةَ الثِّقْلَيْنِ وَإِصْلَاحَ أَهْلِ الْخَافِقَيْنِ، وَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِضِيقِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (15: 97) وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَهَا: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (16: 127) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (11: 12) وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَمْرٍ طَبْعِيٍّ كَهَذَا الِاجْتِهَادِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ بِوَعْدِ اللهِ وَالتَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَ مِنْ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْوَجِيهَانِ، مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. يُنَافِيَانِ مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَرَجِ بِالشَّكِّ، وَيُغْنِيَانِ عَمَّا تَمَحَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِهِ بِالتَّأْوِيلِ الشَّبِيهِ بِالْمَحَكِّ، وَمَا أَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ بِصَحِيحٍ حَتَّى بَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كُلُّ مَا صَحَّ مِنْهُ مَقْبُولٌ، إِلَّا إِذَا صَحَّ رَفْعُهُ إِلَى الْمَعْصُومِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) (10: 94) فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ الْمَأْلُوفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَحَالِّ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (10: 106) وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِهَا: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (43: 81) وَفِي ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنَ الصَّدْرِ، وَانْشِرَاحِهِ لِلنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) (61: 8) أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكِ حَرَجٌ مِنْهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ بِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَكَ النَّاسُ. وَالْإِنْذَارُ التَّعْلِيمُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْمُنْذَرِ وَالْعِقَابِ الَّذِي

يُنْذَرُهُ، أَيْ يُخَوَّفُ مِنْ وُقُوعِهِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) (78: 40) وَقَوْلُهُ: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَالْمَفْعُولَانِ يُذْكَرَانِ كِلَاهُمَا تَارَةً وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَقَدْ حُذِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ، أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ إِذْ تُبَلِّغُهُمْ دِينَ اللهِ وَكُلَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ يَعْصِي رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِيجَازٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (6: 92) وَقَدْ صَرَّحَ بِجَعْلِ الْإِنْذَارِ عَامًّا لِأُمَّةِ الْبَعْثَةِ كَافَّةً بُقُولِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوَنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (25: 1) وَكَثِيرًا مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ حَتْمًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (35: 18) وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (36: 11) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) (6: 51) الْآيَةَ. وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) (79: 42، 43) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (6: 68) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ 51) (: 55) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (29: 51) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (21: 84) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (38: 43) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (50: 8) . وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ

3

الْعَامِّ وَالذِّكْرَى الْخَاصَّةِ، أَوْ هُوَ ذِكْرَى - أَوْ حَالُ كَوْنِهِ ذِكْرَى - لِمَنْ آمَنُوا وَلِمَنْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِلْإِنْذَارِ الْعَامِّ، الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي يَكْثُرُ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، الَّذِي هُوَ خَالِقُكُمْ وَمُرَبِّيكُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ وَفَرْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ، وَالتَّحْلِيلِ لِمَا يَنْفَعُكُمْ، وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يَضُرُّكُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكُمْ مِنْكُمْ (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) تَتَّخِذُونَهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَكُمْ، بِمَا يُزَيِّنُ لَكُمْ ضَلَالَ تَقَالِيدِكُمْ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِكُمْ، فَتُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ، وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ مِنْكُمْ، مِنْ وَضْعِ أَحْكَامٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، أَوْ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَإِنَّمَا عَلَى الْعَالِمِ بِدِينِ اللهِ تَبْلِيغُهُ وَبَيَانُهُ لِلْمُتَعَلِّمِ لَا بَيَانَ آرَائِهِ وَظُنُونِهِ فِيهِ - وَلَا أَوْلِيَاءَ تَتَّخِذُونَهُمْ لِأَجْلِ إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذُنُوبِكُمْ، وَجَلْبِ النَّفْعِ لَكُمْ أَوْ رَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِصَلَاحِهِمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللهَ رَبُّكُمْ هُوَ الْوَلِيُّ، أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ تَذَكُّرًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فَلَا يُجْهَلَ وَيُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى، مِمَّا يَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَيَحْظَرُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ، أَوْ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ فَتَرْجِعُونَ عَنْ تَقَالِيدِكُمْ وَأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصُ عَنْ عَاصِمٍ " تَذَكَّرُونَ " بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا (تَتَذَكَّرُونَ) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ " يَتَذَكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُخْرَى فِيهَا. قَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ لُغَةً وَأَنْوَاعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا أَقْرَبُهَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (6: 129) وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَصْرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (6: 14) وَزِدْنَا هَذَا بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (6: 51)

وَكَذَا تَفْسِيرُ: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (6: 70) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ أُخْرَى مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا وَأَعَمِّهَا بَيَانًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (2: 257) الْآيَةَ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِوِلَايَةِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَوِلَايَةِ الطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ. وَنَكْتَفِي هُنَا بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَلِّي الْأَمْرِ - مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَإِلَهِهِمُ الْحَقِّ، وَهِيَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) شَرْعُ الدِّينِ، عَقَائِدُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. (وَثَانِيهِمَا) الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ فِي أُمُورِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي مَكَّنَ اللهُ مِنْهَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَالْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ، وَتَسْخِيرِ الْقُلُوبِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ حَصْرِ الْوِلَايَةِ فِي اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِهِ تَوَلِّي أُمُورِ الْعِبَادِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُهُمْ وَشَرْعُ الدِّينِ لَهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى، هُوَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي طَاعَةِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا أَحَلُّوا لَهُمْ وَزَادُوا عَلَى الْوَحْيِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا طَاعَةً دِينِيَّةً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُنْزِلْهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ طَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا الْأُمَرَاءِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَدَيُّنًا، وَمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَإِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى فَهْمِهِ وَمَا عَسَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ الْعَمَلِ عَلَى النَّصِّ، وَحِكْمَةُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ كَبَيَانِ سِمْتِ الْقِبْلَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهُمْ لَا يُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ لِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُتْبَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِنَصِّهِ أَوْ فَحَوَاهُ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ وَتَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي تَنْفِيذِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيمَا نَاطَهُ بِهِمْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْضِيَتِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَنَبْذِ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ

بِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) الْآيَةَ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَدْ أَذِنَ لَنَا أَلَّا نَأْخُذَ بِظَنِّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِظَنِّ غَيْرِهِ؟ وَمِنْهُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. قَالَ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَاعْتَبِرُوا) كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءَ بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَدْ نَقَلْنَا فِي بَحْثِ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّازِيَّ قَدْ رَدَّ فِي مَحْصُولِهِ كَوْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالًا آخَرَ بِالْآيَةِ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مُنَاقَشَةَ الْقِيَاسِيِّينَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.

4

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَشْوِيَّةَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ اهـ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ هَدَى إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَمُخَاطَبَتِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ تُنْكِرُ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْبَصِيرَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَعْلَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَحَلًّا لِنَظَرِيَّاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، وَمَوْقُوفًا إِثْبَاتُهَا عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ جَدَلِيَّةٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ أَصْحَابُهَا مِنْهَا غَيْرَ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنْ حَقِّ الْيَقِينِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا عَقْلِيًّا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِتَلَقِّي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مِنْهُ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَ بِهِ كُلَّ النَّاسِ، وَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا يَتَوَلَّوْنَهُ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى - الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقَوَاعِدِ لِأُصُولِ الدِّينِ - بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهَا وَلِمَا يَتْلُوهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَبَدَأَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) " كَمْ " خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ الْكَثْرَةَ وَالْقَرْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْيَةُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا (أَيْ مَعًا) وَيُسْتَعْمَلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (12: 82) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ

الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْقَرْيَةُ هَاهُنَا الْقَوْمُ أَنْفُسُهُمْ. اهـ. أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالتَّقْدِيرِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ تَهْلَكُ كَمَا يَهْلَكُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْمُضَافَ فِي قَوْلِهِ: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) فَيَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلَهَا بَأْسُنَا - بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْبَيَاتِ وَالْقَيْلُولَةِ، وَالْمَدِينَةُ لَا تَبِيتُ وَلَا تَقِيلُ، وَالْبَيَاتُ: الْإِغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَالْإِيقَاعُ بِهِ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ اسْمٌ لِلتَّبْيِيتِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُدَبِّرُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَنْوِيهِ لَيْلًا، وَمِنْهُ تَبْيِتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ. وَقِيلَ: يَأْتِي مَصْدَرًا لِبَاتَ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَقِيلُونَ، أَيْ يَنَامُونَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَسْتَرِيحُونَ وَإِنْ لَمْ يَنَامُوا، يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً. وَالْمَعْنَى: وَكَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا لِعِصْيَانِ رُسُلِهَا فِيمَا جَاءُوهَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا، فَكَانَ هَلَاكُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، بِأَنْ جَاءَ بَعْضَهُمْ بَأْسُنَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَيِّتِينَ أَوْ بَائِتِينَ لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ، وَجَاءَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ قَائِلُونَ آمِنُونَ نَهَارًا كَقَوْمِ شُعَيْبٍ. وَالْوَقْتَانِ وَقْتَا دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَ صَفْوَ اللَّيَالِي وَلَا مُوَاتَاةَ الْأَيَّامِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِالرَّخَاءِ فَيُعِدَّهُ آيَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ، وَقَدْ يُعْذَرُ بِالْغَفْلَةِ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا عُذْرَ وَلَا عَذِيرَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُرُورِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَعِزَّةِ عَصَبِيَّتِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آيَةُ رِضَى اللهِ عَنْهُمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) وَلَيْسَ أَمْرُهُمْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّتِي عَرَفَتْ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ سُنَنَ اللهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ تَغْتَرُّ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَلَا تَرْجِعُ عَنْ غَيِّهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْعَذَابُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ عَطْفَ " جَاءَهَا " عَلَى " أَهْلَكْنَا " بِالْفَاءِ يُفِيدُ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ وَقَعَ عَقِبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا تَفْصِيلِيًّا لِنَوْعَيْنِ مِنْهُ، أَحَدُهُمَا لَيْلِيُّ وَالْآخَرُ نَهَارِيٌّ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِهْلَاكِ إِرَادَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) (5: 6) إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا. وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا وَاوُ الْحَالِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَصْلُ: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِنُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِفْرَادِ، لَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا) (4: 43) حَيْثُ انْفَرَدْنَا بِبَيَانِ فَرْقٍ وَجِيهٍ بَيْنَ الْحَالَيْنِ هُنَالِكَ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَيَنْطَبِقُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ

5

الْإِمَامُ عَبَدُ الْقَاهِرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَاصٌّ بِمَا كَانَتِ الْحَالُ فِيهِ وَصْفًا لِفَاعِلِ الْعَامِلِ فِيهَا كَآيَةِ النِّسَاءِ وَمِثْلِ قَوْلِكَ: نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ وَأَنَا صَائِمٌ، وَهِيَ هُنَا وَصْفٌ لِمَفْعُولِهِ فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِالْإِعْرَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ هَلْ هِيَ لَامُ الْعَطْفِ أَوْ غَيْرُهَا، وَمَتَى تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هِيَ وَالضَّمِيرُ مَعًا وَمَتَى يَجِبُ أَحَدُهُمَا، وَهِيَ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ نَعْدُوهَا لِأَنَّهَا قَلَّمَا تُفِيدُ فِي الْمَعَانِي وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فَائِدَةً تُذْكَرُ. (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ، وَالِادِّعَاءُ نَفْسُهُ، وَالدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ، وَالْقَوْلُ مُطْلَقًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: وَدَعْوَى فُلَانِ كَذَا - أَيْ قَوْلُهُ اهـ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ - وَعَلَى مَا قَبْلُهُ: (فَمَا) كَانَتْ غَايَةَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الدِّينِ وَزَعْمِهِمْ فِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ - أَوْ كَانُوا يَدَّعُونَهُ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِرَادَةِ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ - إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْمَادَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) (3: 147) فَكَيْفَ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَمَا هُنَا. وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا يَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَعْتَرِفُ بِظُلْمِهِ وَجُرْمِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَمَا كُلُّ مُعَاقَبٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَجْهَلُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ عِقَابِهَا أَثَرًا لَازِمًا لَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا تَطَّرِدُ فِي الْأَفْرَادِ كَاطِّرَادِهَا فِي الْأُمَمِ، وَلَا تَكُونُ دَائِمًا مُتَّصِلَةً بِاقْتِرَافِ الذَّنْبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَشْعُرُ فَاعِلُهَا بِأَنَّهَا أَثَرٌ لَهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ السُّكَارَى مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْقُبُ الشُّرْبَ مِنْ صُدَاعٍ وَغَثَيَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ احْتِمَالُهُ وَتَرْجِيحُ لَذَّةِ النَّشْوَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُوَلِّدُهُ السُّكْرُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَالْجِهَازِ التَّنَاسُلِيِّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ النَّسْلِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَانْقِطَاعِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ) فَهِيَ تَحْصُلُ بِبُطْءٍ، وَقَلَّمَا يَعْلَمُ غَيْرُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا مِنْ تَأْثِيرِ السُّكْرِ. ثُمَّ قَلَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِ تَأْثِيرِهَا هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ تَحْمِلَ السَّكُورَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ دَاءَ الْخُمَارِ يُزْمِنُ وَحُبَّ السُّكْرِ يُضْعِفُ الْإِرَادَةَ، وَمَضَارُّ الزِّنَا الْجَسَدِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَفَاسِدُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّهِ الْجَسَدِيَّةِ، فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَفْطِنُ لَهَا. وَيَا لَيْتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ

بِضَرَرِ ذَنْبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ وَيَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَكْتَفِي بِالِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِذَنْبِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ لَا فِي دُنْيَاهُ، وَلَا فِي دِينِهِ، وَإِذَا كَانَ الرَّاسِخُ فِي الْفِسْقِ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ وَعَلِمَ بِهِ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ ضَرَرٌ أَوْ أَصَابَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي بِهِ؟ إِنَّمَا تَسْهُلُ التَّوْبَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهِيَ لِأُولِي الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ تَقْهَرُ إِرَادَتُهُمْ شَهَوَاتِهِمْ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ. وَأَمَّا ذُنُوبُ الْأُمَمِ فَعِقَابُهَا فِي الدُّنْيَا مُطَّرِدٌ، وَلَكِنَّ لَهَا آجَالًا وَمَوَاقِيتَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَفْرَادِ بَلْ أَشَدُّ، فَإِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَاخْتِلَالُ النِّظَامِ وَنَشَأَ التَّرَفُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ تَمْرَضُ أَخْلَاقُهَا فَتَسُوءُ أَعْمَالُهَا وَتَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَيَفْسُدُ أَمْرُهَا وَتَضْعُفُ مَنْعَتُهَا، وَيَتَمَزَّقُ نَسِيجُ وَحْدَتِهَا، حَتَّى تُحْسَبَ جَمِيعًا وَهِيَ شَتَّى - فَيُغْرِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ بِهَا، فَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ بِلَادِهَا، وَتَجْعَلُ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتِ أَمْزِجَتِهَا وَقُوَاهَا، وَقَلَّمَا تَشْعُرُ أُمَّةٌ بِعَاقِبَةِ ذُنُوبِهَا قَبْلَ وُقُوعِ عُقُوبَتِهَا، وَلَا يَنْفَعُهَا بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَارِفُونَ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعُمُّهَا الْجَهْلُ حَتَّى لَا تَشْعُرَ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِيهَا، فَتَرْضَى بِاسْتِذْلَالِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا رَضِيَتْ مِنْ قَبْلُ بِمَا كَانَ سَبَبًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي الْمَقْصُورَةِ: مَنْ سَاسَهُ الظُّلْمُ بِسَوْطِ بَأْسِهِ ... هَانَ عَلَيْهِ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ أَتَى وَمَنْ يَهُنْ هَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ ... وَعِرْضُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَى وَقَدْ تَنْقَرِضُ بِمَا يَعْقُبُهُ الْفِسْقُ وَالذُّلُّ مِنْ قِلَّةِ النَّسْلِ وَلَا سِيَّمَا فُشُوُّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ، أَوْ تَبْقَى مِنْهَا بَقِيَّةٌ مُدْغَمَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَثَرَ لَهَا تُعَدُّ بِهِ أُمَّةٌ. وَقَدْ تَتَوَالَى عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ حَتَّى تَضِيقَ بِهَا ذَرْعًا، فَتَبْحَثُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا تَجِدُهَا بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ إِلَّا فِي أَنْفُسِهَا، وَتَعْلَمُ صِدْقَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (42: 30) ثُمَّ تَبْحَثُ عَنِ الْعِلَاجِ فَتَجِدُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (11:13) وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّغْيِيرُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ فَتَصْلُحُ الْأُمُورُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ عَمُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَوَسَّلَ بِهِ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ بِتَقْدِيمِهِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِهِمْ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ إِنَّمَا يَرْتَفِعُ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُ بِهِمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُفْسِدُونَ. وَمَتَى عَلِمَتِ الْأُمَّةُ دَاءَهَا وَعِلَاجَهُ فَلَا تَعْدِمُ الْوَسَائِلَ لَهُ.

6

فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ أَيْنَ مَكَانُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِعُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى عِلَاجِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوشُهَا، وَخَوَتْ صُرُوحُ عَظَمَتِهَا عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَانَتْ أَجْدَرَ الشُّعُوبِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَاتِّقَائِهَا، وَأَسْبَابِ حِفْظِ الدُّوَلِ وَبَقَائِهَا، فَقَدْ أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ أَيْنَ هِيَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَرَكَ تَذْكِيرَهَا بِهِ الْعُلَمَاءُ، فَهَجَرَهُ الدَّهْمَاءُ، وَجَهِلَ أَحْكَامَهُ وَحِكَمَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، ثُمَّ نَبَتَتْ فِيهَا نَابِتَةٌ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أَقْنَعَهُمْ أَسَاتِذَتُهُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ لَا سَبَبَ لِهُبُوطِهَا وَسُقُوطِهَا إِلَّا اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، فَأَضَلُّوهُمُ السَّبِيلَ، وَلَفَتُوهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ، فَذَنْبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، وَذَنْبُ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَهُ، هَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةٌ لِلْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ الْخَادِعِينَ، وَأُولَئِكَ مُقَلِّدَةٌ لِشُيُوخِ الْحَشْوِيَّةِ الْجَامِدِينَ، فَمَتَى تَنْتَشِرُ دَعْوَةُ الْمُصْلِحِينَ أُولِي الِاسْتِقْلَالِ، فَتُجْمَعُ الْكِمْلَةُ بِمَا أُوتِيَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالِاعْتِدَالِ، عَلَى قَوْلِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) . (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ. (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ

وَلَا سِيَّمَا خَبَرُ الْمَشْهُورِ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِالْأَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي بَلَغَتْهَا دَعْوَةُ الرُّسُلِ، يَسْأَلُ تَعَالَى كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِ وَعَنْ تَبْلِيغِهِ لِآيَاتِهِ، وَبِمَاذَا أَجَابُوهُمْ وَمَا عَمِلُوا مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَنِ التَّبْلِيغِ مِنْهُمْ وَالْإِجَابَةِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ. بُيِّنَ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) (61: 130) وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (28: 65) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرِوُنَ) (13:29) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (16: 56) وَهُوَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الدِّينِ كَجَعْلِهِمْ لِمَعْبُودَاتِهِمْ نَصِيبًا مِمَّا رُزِقُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِهَا بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يُنْذِرُهُ الْقُبُورِيُّونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَأَعَمُّ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّحْلِ أَيْضًا: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (16: 93) وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّأْكِيدِ وَالْعُمُومِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (15: 92، 93) وَمِنْهُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (7: 36) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) (5: 109) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَنَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ " هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: جِبْرِيلُ خَاصَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ: فَإِنَّ الرُّسُلَ يُسْأَلُونَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (4: 41) وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا الرِّسَالَةَ، فَمَا هِيَ ذَنْبٌ يَتَوَقَّعُ إِنْكَارُهُ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ الْعَامِّ وَمَا يُسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ السُّؤَالَ الْعَامَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَهِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (28: 78) وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) (55: 39) قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (6: 129) إِلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَوْمِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالِاعْتِذَارِ

7

يَكُونُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عَنِ الذَّنْبِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ يُفَسِّرُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُ وَيَمْتَازَ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ قَالَ بَعْدَهَا: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) (55: 41) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ لَا يُسْأَلُونَ وَبِمَ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَازُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ حَمْلِ آيَةِ الْقَصَصِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ هَلْ أَذْنَبْتَ أَوْ هَلْ فَعَلْتَ كَذَا مِنَ الذُّنُوبِ؟ أَيْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُ بِذُنُوبِهِ وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَهُوَ يَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا فِي كِتَابِهِ مُتَمَثِّلًا فِي نَفْسِهِ، مَعْرُوضًا لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ - وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ لِمَ عَمِلَ كَذَا - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ تَفْسِيرِهِ هُنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (28: 11) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (12: 3) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (4: 108) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ. أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ

فِيهِمْ أَمْ ضَيَّعَهُ. حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ " وَمَا رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْمِقْدَامِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَكُونُ رَجُلٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا جَاءَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ " وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْظَرُ فِي صِلَاتِهِ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ " وَمَا رَوَاهُ هُوَ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ - قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ - تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَحُسَيْنٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُذْكَرُ كَثِيرًا فِي بَعْضِ خُطَبِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْبَزَّارَ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ " إِلَخْ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِي " عَلَّمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ - وَآخِرُهُ عِنْدَهُ "

8

وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ " - هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَعْنَى " دَانَ نَفْسَهُ " حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يُخَفَّفُ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا اهـ. وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ تَنْضَبِطُ وَتُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ وَإِقَامَةِ الْمِيزَانِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ. (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ. يُقَالُ وَزِنْتُهُ وَزْنًا وَزِنَةً. وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ اهـ. وَتَفْسِيرُهُ الْوَزْنُ بِالْمَعْرِفَةِ تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ يُرَادُ بِهِ تَعَرُّفُ مِقْدَارِ الشَّيْءِ بِالْآلَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْمِيزَانَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَبِالْقِسْطَاسِ وَهُوَ مِنَ الْقِسْطِ وَمَعْنَاهُ النَّصِيبُ الْعَادِلُ أَوْ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَدْلِ مَجَازًا، وَكَذَا الْمِيزَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ) (4: 17) وَقَوْلُهُ فِي الرُّسُلِ كَافَّةً: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (57: 25) وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتَقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ. إِذَا انْتَصَفَ. وَلَيْسَ لِفُلَانِ وَزْنٌ - أَيْ قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (18: 105) قَالَ الرَّاغِبُ وَقَوْلُهُ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (7: 8) فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّاسِ كَمَا قَالَ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (21: 47) أَيْ وَلِذَلِكَ. قَالَ عَقِبَهُ (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (21: 47) وَالتَّجَوُّزُ بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الرُّسُلَ وَالْأُمَمَ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَحِقُّ بِهِ الْأُمُورُ وَتُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ كُلِّ أَحَدٍ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْإِعْرَابِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَزْنَ الْحَقَّ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ، لَا أَنَّ الْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ حَقٌّ، فَالْحَقُّ صِفَةٌ لِلْوَزْنِ وَيَوْمَئِذٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قِيلَ: إِنِ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ لِكُلِّ امْرِئٍ مِيزَانٌ وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ الْمُحَاسَبِينَ وَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَافَرَ فُلَانٌ عَلَى الْبِغَالِ وَإِنْ رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مَوْزُونٍ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ رَجَحَتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ فِي دَارِ الثَّوَابِ (وَمَنْ خَفَّتْ مُوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)

أَيْ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْكُفْرِ وَكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، إِذْ حُرِمُوا السَّعَادَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهَا لَوْ لَمْ يُفْسِدُوا فِطْرَتَهَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَظْلِمُونَهَا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ إِلَى نِهَايَةِ أَعْمَارِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ، وَعُدِّيَ الظُّلْمُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةِ 103) وَفِي غَيْرِهَا. وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّهُ لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَلَاحِ، وَالْكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْخُسْرَانِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا فَهُوَ مُفْلِحٌ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِهَا، فَهَذَا الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فَرِيقُ الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ السَّعِيرِ، وَهُنَالِكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَتْبَعُ الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الْوَزْنَ التَّفْصِيلِيَّ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَزْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزَنًا) وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَحْثِ الْوَزْنِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ قِيمَةٌ وَلَا قَدْرٌ، وَهُوَ لَا يَنْفِي وَزْنَ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورَ خِفَّتِهَا وَخُسْرَانِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (23: 102 - 105) وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَتَيِ الْمَوَازِينِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ إِذْ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ فَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقِرُّونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا. وَهُوَ سَهْوٌ سَبَبُهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَ عَلِقَ بِذِهْنِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ حَسَنَاتٌ وَلَكِنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُهَا فَتَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَهِيَ تُحْصَى مَعَ السَّيِّئَاتِ وَتُضْبَطُ بِالْوَزْنِ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ مِقْدَارُ الْجَزَاءِ وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنَ التَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ بِمَا كَانَ مِنْ حِمَايَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّهِ لَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْخُصُوصِيَّةُ فِي نَوْعِ التَّخْفِيفِ وَمِقْدَارِهِ، إِذْ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُجَمَعِ عَلَيْهِ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ أَبِي جَهْلٍ كَعَذَابِ أَبِي طَالِبٍ لَوْلَا الْخُصُوصِيَّةُ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (4: 40) وَمِنَ الْمَشَاهِدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ فِي

أَنْدَادِهِمْ: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ 2: 165) - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ - وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَيَفْعَلُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْفَوَاحِشِ خَوْفًا مِنَ اللهِ. فَهَلْ يُسَوِّي الْحَكَمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُرْتَكِبِي الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْجِنَايَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا سِيَّمَا الْجَاحِدِينَ الْمُعَطِّلِينَ وَمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْهُمْ؟ حَاشَ لِلَّهِ. نَعَمْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ وَزْنَهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا مَعَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ دَخْلٌ فِي رُجْحَانِ مَوَازِينِهِمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْوَزْنِ وَالْمَوَازِينِ، هَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ التَّامِّ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ وَتَزْكِيَّتِهَا، وَفِي إِفْسَادِهَا وَتَدْسِيَّتِهَا، أَمْ هُنَاكَ وَزْنٌ حَقِيقِيٌّ، حِكْمَتُهُ إِظْهَارُ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَعَدْلِهِ فِي جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مُجَاهِدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ - وَكَذَا الْأَعْمَشُ وَالضَّحَّاكُ حَكَاهُ الرَّازِيُّ عَنْهُمَا - وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ: الْعَدْلُ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ حَسَنَاتُهُ. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ سَيِّئَاتُهُ اهـ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي فِيمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، بَلْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ - كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ عَنْهُ - أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ وَقَالُوا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ الْمُوَازِينَ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ لِيَرَى الْعِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً لِيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا. انْتَهَى. نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ آخَرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ (بَابُ قَوْلِ اللهِ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (21: 47) وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ) وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ، كَمَا يَجُوزُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَطُّ وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَوَازِينُ الْعَدْلُ. وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَلَهُ كِفَّتَانِ لَوْ وُضِعَ فِي إِحْدَاهُمَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَتْهُ - وَمِنْ طَرِيقِ

عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: ذُكِرَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: قِيلَ إِنَّمَا تُوزَنُ الصُّحُفُ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَإِنَّهَا أَعْرَاضٌ فَلَا تُوصَفُ بِثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ. وَالْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ حِينَئِذٍ تُجَسَّدُ أَوْ تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ فَتَصِيرُ أَعْمَالُ الطَّائِعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْمُسِيئِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي يُوزَنُ الصَّحَائِفُ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ قَالَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالصُّحُفُ أَجْسَامٌ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ صَحَّحَهُ وَفِيهِ " فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةِ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ " انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ " وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ " تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ النَّارَ - قِيلَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ " أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ. أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَقْصَى السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا وَرَدَ فِي الْمِيزَانِ أَوِ الْوَزْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ أَوْ جُلِّهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا إِلَّا مَا خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُعْتَمِدَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ وَلَا فِي أَنَّ لَهُ كِفَّتَيْنِ وَلِسَانًا فَلَا نَغْتَرُّ بِقَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يَتَسَاهَلُونَ بِإِطْلَاقِ كَلِمَةِ الْإِجْمَاعِ وَلَا سِيَّمَا غَيْرُ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَالزَّجَّاجُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي عَزْوِ كُلِّ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْخَلَفُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كَمَا عَلِمْتُ، فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَزْنَ بِمِيزَانٍ، هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَمْ لِكُلِّ شَخْصٍ أَوْ لِكُلِّ عَمَلٍ مِيزَانٌ؟ وَفِي الْمَوْزُونِ بِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ الْأَشْخَاصُ لَا الْأَعْمَالُ، وَفِي صِفَةِ الْمَوْزُونِ وَالْوَزْنِ، وَفِيمَنْ يُوزَنُ لَهُمْ، أَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَمْ لَهُمْ وَلِلْكُفَّارِ؟ وَفِي صِفَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

وَلِهَذَا الْخِلَافِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: (أَحَدُهَا) اخْتِلَافُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَنِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ. (ثَانِيهَا) الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهَا. (ثَالِثُهَا) الرَّأْيُ وَالتَّخَيُّلُ وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ فَإِنَّ الْخَلَفَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ خَاضُوا فِيمَا خَاضَ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ أَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْكَارِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تُوزَنُ وَأَنَّ عِلْمَ اللهِ بِهَا يُغْنِي عَنْ وَزْنِهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ رَدًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَتَطْبِيقِ أَخْبَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا فَزَعَمُوا أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّدُ وَتُوزَنُ أَوْ تُوضَعُ فِي صُوَرٍ مُجَسَّمَةٍ أَوْ أَنَّ الصَّحَائِفَ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَصَحَائِفَ الدُّنْيَا إِمَّا رِقٌّ (جِلْدٌ) وَإِمَّا وَرَقٌّ. وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَخْبَارِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُحَكِّمُ رَأْيَنَا فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنُؤْمِنُ إِذًا بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ وَزْنًا لِلْأَعْمَالِ قَطْعًا، وَنُرَجِّحُ أَنَّهُ بِمِيزَانٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ يُوزَنُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، لَا نَبْحَثُ عَنْ صُورَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عَنْ كِفَّتَيْهِ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمَا كَمَا صَوَّرَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي مِيزَانِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جُلُّ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَإِذَا كَانَ الْبَشَرُ قَدِ اخْتَرَعُوا مَوَازِينَ لِلْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَفَيَعْجَزُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَنْ وَضْعِ مِيزَانٍ لِلْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ؟ ! وَالنَّقْلُ وَالْعَقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الثَّابِتَةِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ: قَالَ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (6: 139) وَقَالَ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سِوَاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مِنْ دَسَّاهَا) (91: 7 - 10) وَفِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (87: 14، 15) وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ آخِرُهَا تَفْسِيرُ خَاتِمَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَةَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِعَدْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، إِذْ يَرَى فِيهِ عِبَادُهُ أَفْرَادًا

وَشُعُوبًا وَأُمَمًا ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةَ إِدْرَاكٍ وَوِجْدَانٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ فِي خَارِجِهَا ثَانِيًا، فِيَا لَهُ مِنْ مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ رَهِيبٍ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعِلْمِ اللهِ عَنْهُ. وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ " حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ " الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ " إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. (قَالَ) فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ - قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ

10

عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِبَاحَتِهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَإِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ لَعَلَّ أَقْوَاهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ وَجْهَ تَخْلِيصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَآمَنُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي نَجَاةِ مِثْلِهِ. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ - إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ - هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ - لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا. فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ

وَالثَّلَاثِينَ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَجَزَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَاتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَعَصَاهُمْ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبَلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ - فَتَأَمَّلْ دِقَّةَ بَلَاغَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا أَوْطَانًا تَتَبَوَّءُونَهَا وَتَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّاحَةِ فِي الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَهِيَ مَا تَكُونُ بِهِ الْعِيشَةُ وَالْحَيَاةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِهَا. أَيْ وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ فِيهَا ضُرُوبًا شَتَّى مِمَّا تَعِيشُونَ بِهِ عِيشَةً رَاضِيَةً وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ " لَكُمْ فِيهَا " عَلَى " مَعَايِشَ " مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَعَايِشِ كَوْنُهَا نِعَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّاسِ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لَهَا، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَا كَوْنُهَا مَجْعُولَةً وَمَخْلُوقَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْهُ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْمَعَايِشِ لَهُمْ أَهَمَّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَهُمْ فِيهَا - فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْمَعَايِشُ وَكَوْنُهَا فِي الْوَطَنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْمَرْءُ وَكَوْنُ الْمَرْءِ مَالِكًا لَهَا وَمُتَصَرِّفًا فِيهَا، وَلَا مَشَاحَةَ فِي أَنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَعِيشُ بِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَطَنِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْوَاعُهُ وَأَنَّ تَكُونَ كَثِيرَةً وَهُوَ مَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ وَلَا تَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي تَقْدِيمِ مَا يَنْبَغِي وَتَأْخِيرِ مَا يَنْبَغِي مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَايِشُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى وَأَنْعَامٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَمِيَاهٍ صَافِيَةٍ وَأَشْرِبَةِ مُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكَانَتْ بِذَلِكَ - تَقْتَضِي شُكْرًا كَثِيرًا - وَكَانَ الشَّكُورُ مِنَ الْعِبَادِ قَلِيلًا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) قَالَ تَعَالَى عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِهَا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أَيْ شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ لَا كَثِيرًا يُنَاسِبُ كَثْرَتَهَا وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا - وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا - وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَهُوَ هُنَا حِفْظُ حَيَاتِنَا الْبَدَنِيَّةِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالِاسْتِعَانَةُ بِذَلِكَ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِنَا الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَأْهِيلِهَا لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِأُصُولِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ 29. . .) الخ.

11

وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزِ، وَغَلَّطَهُ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يُهْمَزُ بَعْدَ أَلْفِ الْجَمْعِ إِلَّا الْيَاءُ الزَّائِدَةُ فِي الْمُفْرَدِ كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَيَاءُ مَعِيشَةٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْجَمْعِ كَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا خَطَأً مِنْهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ رَوَاهَا وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفْتَجِرَهَا افْتِجَارًا وَفِي الْمِصْبَاحِ قَوْلُ أَنَّهَا مِنْ مَعَشَ لَا مَنْ عَاشَ فَالْيَاءُ زَائِدَةٌ وَجَمْعُهَا مَعَائِشُ قَالَ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْ فِي الشَّوَاذِّ وَأَلْحَقَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَبَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَمْثَالِهَا كَمَصَائِبَ وَمَعَائِبَ، وَقَالُوا إِنَّهُ مِنْ تَشْبِيهِ مَفَاعِلَ بِفَعَائِلَ. وَنَقُولُ إِنَّ الْعَرَبَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَضَعَهُ غَيْرُهُمْ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَالْقُرْآنُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ كَلَامٍ فَأَوْلَى أَلَّا يُنْكَرَ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ لُغَةً عِنْدَ مَنْ رَوَاهَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا قُرْآنًا إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ. (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ أَصْلِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَاسْتِعْدَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْكَمَالِ بِإِغْوَاءِ

عَدُوِّ الْبَشَرِ الشَّيْطَانِ، وَيَلِيهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ الْإِغْوَاءُ وَالْفَسَادُ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى خَلَقْنَا جِنْسَكُمْ أَيْ مَادَّتَهُ مِنَ الصَّلْصَالِ وَالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالطِّينُ اللَّازِبُ الْمُتَغَيِّرُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَا مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ صُورَةَ بَشَرٍ سَوِيٍّ قَابِلٍ لِلْحَيَاةِ، أَوْ قَدَّرْنَا إِيجَادَكُمْ تَقْدِيرًا، ثُمَّ صَوَّرْنَا مَادَّتَكُمْ تَصْوِيرًا، وَمَعْنَى الْخَلْقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ الْمُقَدَّرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: خَلَقَ الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ (أَيِ الْجِلْدَ) وَالْخَيَّاطُ الثَّوْبَ - قَدَّرَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَخْلَقَ لِي هَذَا الثَّوْبَ (قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ أَوْجَدَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ أَوْجَبَتْهُ الْحِكْمَةُ اهـ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ اللُّغَوِيَّ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ وَهُوَ يُصَدِّقُ بِخَلْقِ آدَمَ وَبِخَلْقِ مَجْمُوعِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ يُقَدِّرُ اللهُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ الْمَادَّةَ الَّتِي يَخْلُقُهُ مِنْهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: (إِحْدَاهَا) وَرُوَاتُهَا كَثِيرُونَ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ فِيهِمَا: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. (وَالثَّانِيَةُ) خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ. أَخْرَجَهَا الْفِرْيَابِيُّ. (وَالثَّالِثَةُ) قَالَ: أَمَّا " خَلَقْنَاكُمْ " فَآدَمُ، وَأَمَّا " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " فَذُرِّيَّتُهُ. أَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهَا قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صَوَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَالْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْهِنْدُوسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ قَالَ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أَيْ قُلْنَا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَوَّيْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، مَا جَعَلْنَاهُ بِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَعَلَّمْنَاهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ لَا مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوِ الْجِنَّةُ (بِالْكَسْرِ) جِنْسًا لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ هُمْ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَأَشْقِيَاؤُهُمْ. وَهَذَا السُّجُودُ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ لِآدَمَ لَا سُجُودَ عِبَادَةً، إِذْ نَصُّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيُّ قَدْ تَكَرَّرَ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَا صَرَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قُوَى الْأَرْضِ الَّتِي تُدَبِّرُهَا الْمَلَائِكَةُ بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ الْقَصَصِيِّ، وَالْأَمْرُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَكْوِينِيٌّ قَدَرِيٌّ، لَا تَكْلِيفِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ

12

فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (41: 11) وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَفِي نِهَايَتِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ كَرَامَةٌ كَرَّمَ اللهُ بِهَا آدَمَ. وَقَالَ: كَانَتِ السَّجْدَةُ لِآدَمَ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَزَادَ أَنَّ إِبْلِيسَ حَسَدَ آدَمَ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَكْرِيمٌ امْتَحَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ طَاعَةَ ذَلِكَ الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ لَهُ فَظَهَرَتْ عِصْمَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَفَسَقَ إِبْلِيسُ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (17: 62) حَسَدَهُ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْفُسُوقِ عَنْ أَمْرِ اللهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالْكَهْفِ وَغَيْرِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ السُّؤَالِ التَّالِي. (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِآدَمَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرْتُكَ فِيهِ بِالسُّجُودِ؟ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أَيْ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّنِي أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينَ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَأَشْرَفُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَشْرَفِ أَنْ يُكَرِّمَ مَنْ دُونِهِ وَيُعَظِّمَهُ، أَيْ وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَبُّهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ ضُرُوبًا مِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ، مَا أَوْقَعَ اللَّعِينَ فِيهَا إِلَّا حَسَدُهُ وَكِبْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُعْمِيَانِ الْبَصَائِرَ. (الْأَوَّلُ) الِاعْتِرَاضُ عَلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ كَمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُهُ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ أَوْ حِكْمَةٌ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ بَحَثَ عَنْهَا بِالتَّفَكُّرِ وَالْبَحْثِ وَسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، وَصَبَرَ إِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، مُكْتَفِيًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ خَلْقِهِ، وَحِكَمِ شَرْعِهِ، وَفَوَائِدِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. (الثَّانِي) الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ اعْتِرَاضَهُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُذْعِنُ لَا يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ. (الثَّالِثُ) جَعْلُ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِاسْتِحْسَانِ الْعَبْدِ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ رَفْضٌ لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَتَرَفُّعٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَالٍ مِنْهُ إِلَى وَضْعِ نَفْسِهِ مَوْضِعَ النِّدِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ كُفْرٌ، وَفِي الْعَقْلِ حَمَاقَةٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الرَّئِيسَ لِأَيَّةِ حُكُومَةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ جَمْعِيَّةٍ أَوْ شَرِكَةٍ إِذَا كَانَ لَا يُطِيعُهُ الْمَرْءُوسُونَ لَهُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَآرَاءَهُمْ، لَا يَلْبَثُ أَمْرُهُمْ أَنْ يَفْسُدَ بِأَنْ تَخْتَلَّ الْحُكُومَةُ وَتَسْقُطَ، وَيَنْكَسِرَ الْجَيْشُ وَيَهْلَكَ، وَتَنْحَلَّ الشَّرِكَةُ وَتُفْلِسَ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ يَقُومُ بِإِدَارَتِهَا كَثْرَةٌ، يَرْجِعُ نِظَامُهَا إِلَى جِهَةٍ

وَاحِدَةٍ، كَبَوَارِجِ الْحَرْبِ وَسُفُنِ التِّجَارَةِ وَمَعَامِلِ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الصَّلَاحُ وَالنِّظَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى طَاعَةِ الرَّئِيسِ وَهُوَ لَيْسَ رَبًّا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِنِعَمِهِ، وَلَا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَبِيدِهِ؟ ! وَيُشَارِكُ إِبْلِيسَ فِي هَذَا الْجَهْلِ وَمَا قَبْلَهُ كَثِيرُونَ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُؤْمِنِينَ: يَتْرُكُونَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ مَثَلًا بِأَنَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صِيَامِهِمْ! ! عَلَى أَنَّ حِكَمَ الصِّيَامِ كَثِيرَةٌ جَلِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهَا مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ (ص117 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) . وَفِي الْمَنَارِ. رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ اسْجُدْ لِآدَمَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ". إِلَخْ. قَالَ جَعْفَرٌ فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ. (الرَّابِعُ) الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ بِالْمَادَّةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا التَّكْوِينُ. وَهَذَا جَهْلٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَوَادِّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ. وَأُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّرْكِيبِ عَنَاصِرٌ بَسِيطَةٌ قَلِيلَةٌ يُرَجَّحُ أَنَّهَا مُتَحَوِّلَةٌ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَنِّ الْكِيمْيَاءِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ أَصْلُهَا خَسِيسٌ، فَالْمِسْكُ مِنَ الدَّمِ، وَجَوْهَرُ الْأَلْمَاسِ مِنَ الْكَرْبُونِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفَحْمِ، وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُعَافَ مِنْ مَادَّةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَهَى وَيُحَبُّ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ اللهَبُ الْمُخْتَلِطُ بِالدُّخَّانِ فَمَا فَوْقَهُ دُخَّانٌ وَمَا تَحْتَهُ لَهَبٌ صَافٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْمَرْجِ مَعْنَاهَا الْخَلْطُ وَالِاضْطِرَابُ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ الصَّافِيَةُ خَيْرٌ مِنَ اللهَبِ الْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ. وَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، بَلْ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. (الْخَامِسُ) إِذَا سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ خَيْرِيَّةَ الشَّيْءِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَصَفَاتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ نَوْعِهِ وَمُشَخِّصَاتِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جِنْسِهِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الطِّينِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا فِيهَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلنَّارِ أَوْ لِمَارِجِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْمَزَايَا وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا.

(السَّادِسُ) أَنَّ اللَّعِينَ غَفَلَ عَمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ آدَمَ مِنْ خَلْقِهِ بِيَدِهِ، وَالنَّفْخِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعْلِ اسْتِعْدَادِهِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ تَشْرِيفِهِ بِأَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَجَعْلِهِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا أَفْضَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ إِبْلِيسٍ بِعُنْصُرِ الْخِلْقَةِ وَبِالطَّاعَةِ. فَهَذِهِ أُصُولُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ الَّتِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِيهَا حَسَدُهُ لِآدَمَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ وَنُظَرَاءَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مُرْتَكِسُونَ فِيهَا كُلِّهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، وَاسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ حِوَارٌ فِيهِ بَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْوِينِ (كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ) وَأَنَّ الْقِصَّةَ بَيَانٌ لِغَرَائِزِ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةَ الْأَرْضِ الْمُدَبَّرَةَ بِأَمْرِ اللهِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورِهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نِظَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (79: 5) مُسَخَّرَةً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِذْ خَلَقَ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مُسْتَعِدًّا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا كُلِّهَا بِعِلْمِهِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِعَمَلِهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ كَخَوَاصِّ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالنُّورِ وَالْأَرْضِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا، وَإِظْهَارِهِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِيهَا، وَمُسْتَعِدًّا لِاصْطِفَاءِ اللهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَإِقَامَةِ مَنِ اهْتَدَى بِهِمْ لِدِينِهِ وَمِيزَانِ شَرْعِهِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (2: 31) إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا عَلَى الْإِنْسَانِ بَلْ عَدُوًّا لَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ بِرُوحِهِ وَسَطٌ بَيْنِ رَوْحِ الْمَلَائِكَةِ الْمَفْطُورِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبَيْنَ رُوحِ الْجِنِّ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى شِرَارِهِمْ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ - التَّمَرُّدُ وَالْعِصْيَانُ، وَقَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا مِنْ رَبِّهِ فِي تَرْجِيحِ مَا بِهِ يَصْعَدُ إِلَى أُفُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا بِهِ يَهْبِطُ إِلَى أُفُقِ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ. وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ زِيَادَةُ " لَا " فِي جُمْلَةِ " مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ " إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ " ص ": (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (38: 75) وَقَدْ عُهِدَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ أَنْ تَجِيءَ " لَا " فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ لِتَقْوِيَتِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَكَذَا فِي غَيْرِ النَّفْيِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَحَاوُرِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (20: 92، 93) وَعَدُّوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) (6: 109) ،

13

وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (6: 151) وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَى النَّفْيِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى جَعْلِ " لَا " غَيْرَ زَائِدَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ. وَتَقَدَّمَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرْنَا آنِفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَنَعَ هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَالتَّضْمِينُ كَثِيرٌ مِنَ التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ النَّحْوِيُّونَ قِيَاسًا، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ كَثِيرًا بِالتَّعْدِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (4: 2) إِذْ ضَمِنَ الْأَكْلُ مَعْنَى الضَّمِّ فَعُدِّيَ بِ " إِلَى "، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَعْبِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (15: 32) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ مَعَهُمْ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ تَضْمِينَ الْمَنْعِ هُنَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالِاضْطِرَارِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا أَلْزَمَكَ أَوِ اضْطَرَّكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْفَصْلَ فِي حِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ جَمِيعًا بِـ " قَالَ " وَارِدٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ السُّؤَالَ يَتَشَوَّقُ لِمَعْرِفَةِ الْجَوَابِ. وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ فَيُجَابُ. (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ وَالسُّقُوطُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَا دُونِهِ، أَوْ مِنْ مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ إِلَى مَا دُونِهَا. فَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّنَبِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا آدَمَ وَكَانَتْ عَلَى نَشْزٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَابِسَةُ قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالظُّهُورِ فِي خِضَمِّ الْمَاءِ، فَخَيْرُ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِسُكْنَى الْإِنْسَانِ يَفَاعُهَا وَأَنْشَازُهَا، أَوِ الَّتِي أَسْكَنَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ جَنَّةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ لَهُ وَلِآدَمَ وَزَوْجِهِ بَعْدَ ذِكْرِ سُكْنَى الْجَنَّةِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَطه. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُلْحَقًا بِمَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْأَخْيَارِ قَبْلَ أَنْ يَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَكُونُ نَوْعَيْنِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ، كَمَا قِيلَ فِي جَنَّةِ آدَمَ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَيَاةِ النَّعِيمِ الْأُولَى لِلنَّوْعِ الَّتِي تُشْبِهُ نَعِيمَ الطُّفُولِيَّةِ لِأَفْرَادِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أَيْ فَمَا يَنْبَغِي لَكَ وَلَيْسَ مِمَّا تُعْطَاهُ مِنَ التَّصَرُّفِ أَنَّ تَتَكَبَّرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلْكَرَامَةِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مَكَانَةُ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ. وَالْكِبْرُ اسْمٌ لِلتَّكَبُّرِ وَهُوَ مَصْدَرُ تَكَبَّرَ أَيْ تَكَلَّفَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّنْ هِيَ فِي ذَاتِهَا أَصْغَرُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ الْكِبْرِ بِأَنَّهُ " بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِمَظْهَرِهِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ أَلَّا يُذْعِنَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ بَلْ يَدْفَعُهُ أَوْ يُنْكِرُهُ تَجَبُّرًا وَتَرَفُّعًا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى

عَدَمِ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِمَزِيَّتِهِ وَفَضْلِهِ، أَوْ بِتَنْقِيصِ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ مَا دُونَهَا هُوَ فَوْقَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَرَفَعَهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالْبَاطِلِ، أَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ بِقَصْدِ احْتِقَارِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِ. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ. أَيْ فَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ أَوِ الْمَكَانَةِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ: (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ أُولِي الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، أَظْهَرَ حَقِيقَتَكَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، بِإِظْهَارِهِ لِمَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِكَ مِنْ عِصْيَانِ الِاسْتِكْبَارِ. (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (3: 179) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى جَازَاهُ بِضِدِّ مُرَادِهِ، إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ مَنْزِلَتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، فَجُوزِيَ بِهُبُوطِهَا مِنْهَا إِلَى مَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْمُتَكَبِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُورَةٍ حَقِيرَةٍ يَطَؤُهُمْ فِيهَا النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يُبْغِضُهُمْ إِلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ - وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلتَّكْلِيفِ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ جَزْمِهِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلتَّكْوِينِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ قَالَ: " يَقُولُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ. مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُكَافَأَةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ". (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ قَالَ بِلِسَانٍ قَالَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ لِسَانِ حَالِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ عَلَى الْآخَرِ: رَبِّ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ فَأَكُونَ أَنَا وَذُرِّيَّتِي أَحْيَاءً مَا دَامُوا أَحْيَاءً وَأَشْهَدُ انْقِرَاضَهُمْ وَبَعْثَهُمْ (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ مُخْبِرًا، أَوْ قَالَ مُرِيدًا وَمُنْشِئًا كَمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اهـ. فَهُوَ يُؤَكِّدُ بِهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحِوَارِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ، لَا مُرَاجَعَةَ أَقْوَالٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ جُعِلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ السُّؤَالِ إِيجَازًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَكَانَ جَوَابُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (15: 36 - 38) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ

15

مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَرَادَ إِبْلِيسُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ فَقِيلَ لَهُ " إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ " قَالَ: النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَبَيْنَ النَّفْخَةِ وَالنَّفْخَةِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأُخْرِجَ الْأَوَّلُ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَلَمْ يُنْظِرْهُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى فِي الصُّورِ هِيَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي بِهَا يُبْعَثُونَ وَلَيْسَ بَعْدَهَا مَوْتٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَرَادَ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ تُسَمَّى نَفْخَةَ الْفَزَعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) (27: 87) وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (39: 68) وَلِاخْتِلَافِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ النَّفَخَاتِ ثَلَاثٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْبَعٌ. وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهُمَا ثِنْتَانِ: وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (79: 6، 7) فَهُمْ يَفْزَعُونَ فَيُصْعَقُونَ، أَيْ يَمُوتُونَ بِالْأُولَى وَهِيَ الرَّاجِفَةُ وَيُبْعَثُونَ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي تَرْدُفُهَا وَتَتْبَعُهَا. وَأَصْلُ الصَّعْقِ تَأْثِيرُ الصَّاعِقَةِ فِيمَنْ تُصِيبُهُ مِنْ إِغْمَاءٍ وَغَشَيَانٍ أَوْ مَوْتٍ هُوَ الْغَالِبُ ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَشَيَانِ مِنْ كُلِّ صَوْتٍ شَدِيدٍ وَعَلَى الْمَوْتِ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ. وَفِيمَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ عَلَى مَا اسْتَقْصَاهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ. وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَّا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلٍ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللهُ أَنْ يُصْعَقُوا؟ قَالَ: " هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ الْحَافِظُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرَيُّ اهـ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا بَلْ أَدْمَجَهُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشُهَدَاءِ اللهِ حُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَشْهَدُونَ فِي الْآخِرَةِ بِضَلَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِهَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمُ فِي اتِّبَاعِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْأَنْبِيَاءُ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ قَطْعًا، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَشْهَدُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (4: 41) وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُمْ، يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الصِّدِّيقِينَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ وَكُلُّ صَدِّيقٍ شَهِيدٌ، وَمِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا صَدِّيقٍ، وَلَكِنَّ كُلَّ شَهِيدٍ صَالِحٌ وَمَا كُلُّ صَالِحٍ بِشَهِيدٍ، فَبَيْنَ طَبَقَاتِ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (4: 69) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

16

الْمُطْلَقُ. وَإِذَا كَانَ الصَّعْقُ الْمُرَادُ هُوَ الْمَوْتُ فَلَا يَظْهَرُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَجْهٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَشَيَانُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي آيَةِ النَّمْلِ بِالْفَزَعِ وَكَانَتِ النَّفْخَةُ الْمُحْدِثَةُ لَهُ هِيَ الْأُولَى إِذْ يَتْلُوهُ مَوْتُ الْخَلْقِ وَخَرَابُ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ. وَظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا. فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَنْتَهِي إِنْظَارُهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ بَلْ يَمُوتُ عَقِبَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَتْلُوهَا خَرَابُ هَذِهِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (69: 13، 14) إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يَشْمَلُ زَمَنَ مُقَدِّمَاتِهِ فَيُسَمَّى كُلُّ ذَلِكَ يَوْمًا، كَمَا يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى زَمَنِ الْمُقَدِّمَاتِ وَحْدَهَا وَتَارَةً عَلَى زَمَنِ الْغَايَةِ وَحْدَهَا؛ إِذْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ كَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا مِنْ سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) (69: 15) الْآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقُ بِأَنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ مُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ قَالَ " فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ غَشَيَانٌ يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي مَوْقِفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ صَعْقُ النَّفْخَةِ الْأُولَى الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَإِلَّا كَانَ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مِمَّا عَلِمْتَ بَعْضَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ بِالَّذِي يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْظَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِغْوَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَتِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الْإِغْوَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الْغِوَايَةِ وَهِيَ ضِدُّ الرَّشَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ الْمُرْدِي مِنْ قَوْلِهِمْ غَوَى الْفَصِيلُ - كَهَوَى وَرَمَى، وَغَوِيَ كَهَوِيَ وَرَضِيَ - إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ فَهَزَلَ وَكَادَ يَهْلَكُ. وَصِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ مِنْ أَجْلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ أُقْسِمُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَأَلْزَمَنَّهُ فَأَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَأَقْطَعُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أُزَيِّنَ

17

لَهُمْ سُلُوكَ طُرُقٍ أُخْرَى أُشَرِّعُهَا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ لِيَضِلُّوا عَنْهُ، وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَيْ فَلَا أَدَعُ جِهَةً مِنْ جِهَاتِهِمُ الْأَرْبَعِ إِلَّا وَأُهَاجِمُهُمْ مِنْهَا، وَهَذِهِ جِهَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَمَا أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي يُرِيدُ إِضْلَالَهُمْ عَنْهُ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) (6: 153) الْآيَةَ مَا يُوَضِّحُ مَا هُنَا، وَفُسِّرَ فِي الْآثَارِ بِالْإِسْلَامِ، وَبِطَرِيقَيِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِصَدِّهِ عَنْهُمَا (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) لِنِعَمِكَ عَلَيْهِمْ فِي عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ وَمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ رُسُلِكَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَكُونُ الشُّكْرُ التَّامُّ الْمُمْكِنُ صِفَةً لَازِمَةً لِأَكْثَرِهِمْ بَلْ لِلْأَقَلِّينَ مِنْهُمْ، قِيلَ إِنَّهُ قَالَ هَذَا عَنْ ظَنٍّ فَأَصَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (34: 20) وَقِيلَ عَلَى عِلْمٍ بِالدَّلَائِلِ لَا بِالْغَيْبِ، وَالدَّلَائِلُ النَّظَرِيَّةُ غَيْرُ الْقَطْعِيَّةِ ظُنُونٌ. وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الشُّكْرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) وَهِيَ فَاتِحَةُ هَذَا السِّيَاقِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْبَعِ قَالَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قَالَ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) فَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَسْتَنُّ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) قَالَ: مُوَحِّدِينَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِأَصْلِ أُصُولِهِ وَمَنْبَتِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ. " مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ " مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا، " وَمِنْ خَلْفِهِمْ " - مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ " وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ": مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ " وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ " مِنْ جِهَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَهِيَ إِنَّمَا تُخَالِفُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ مُخَالَفَةَ تَنَاقُضٍ فِي اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَلِ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَ الْأَيْدِي مَا هُوَ حَاضِرٌ أَوْ مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ وَيَتَخَلَّفُ عَنْهُ وَهُوَ الدُّنْيَا أَمْ مَا هُوَ وَرَاءَ حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ وَهُوَ الْآخِرَةُ؟ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَنْهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ " مِنْ فَوْقِهِمْ " عَلِمَ أَنَّ اللهَ فَوْقَهُمْ، وَفِي لَفْظٍ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مَا هُوَ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مَعَ تَفْصِيلٍ مَا كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَهُمَا مِنْ تَلَامِيذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْفَوْقِيَّةُ مَعْنَوِيَّةٌ كَغَيْرِهَا، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْطِقُ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَمِنْ صِفَاتِهِ " الْعَلِيُّ " فَنُؤْمِنُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ بِمَا أَثْبَتْنَا بِهِ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَالشَّرُّ يُحَسِّنُهُ لَهُمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ

18

وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ " اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ". (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) يُقَالُ ذَأَمَ الْمَتَاعَ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَذَامَهُ بِالتَّخْفِيفِ يُذِيمُهُ ذَيْمًا وَذَامًا (بِالْقَلْبِ) إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ. وَيُقَالُ دَحَرَ الْجُنْدُ الْعَدُوَّ إِذَا طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ لِلَّفْظَيْنِ، وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالْخُرُوجِ قَدْ ذُكِرَ لِبَيَانِ سَبَبِهِ وَهَذَا لِبَيَانِ صِفَتِهِ، وَالْمَعْنَى اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكَ مَعِيبًا مَذْمُومًا مِنَ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ مَطْرُودًا مِنْ جَنَّتِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَجَعَلَهُ رَجِيمًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) جَهَنَّمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، أَخْبَرَ تَعَالَى خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يَتَّبِعْ إِبْلِيسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِيمَا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ؛ فَإِنَّ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ أَهْلَ دَارِ الْعَذَابِ يَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ ص: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (38: 85) وَيَدْخُلُ فِي خِطَابِهِ أَعْوَانُهُ فِي الْإِغْوَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالنُّصُوصُ فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلْءَ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَإِلَّا قِيلَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ وَيَعْفُو عَنْهُمْ. وَفِي سُورَتَيِ الْحِجْرِ وَص اسْتِثْنَاءُ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ إِغْوَائِهِ - لَعَنَهُ اللهُ - حِكَايَةً عَنْهُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَكْثَرِ هُنَا. وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (15: 42) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (17: 65) وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ شَرٍّ، وَمَا تَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ إِلَّا مُخْتَارًا مُرَجِّحًا لِلْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَلِلشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُضِلِّينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِيَ) (14: 22) وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْآتِيَةِ فِي نُصْحِ بَنِي آدَمَ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ خِطَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا التَّحَاوُرِ الطَّوِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ خِطَابٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَالْوَحْيِ لِرُسُلِ الْبَشَرِ أَمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَيْفَ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرِيمَ؟ وَتَحَكَّمُوا فِي الْجَوَابِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ فِي جَوَابِ أَسْئِلَتِهِ، وَاسْتَشْكَلُوا أَمْرَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمُ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (الْآَيَةَ 17: 64) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (7: 28) وَإِنَّمَا يُشْكِلُ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلتَّكْلِيفِ. وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْخِطَابَ لِلتَّكْوِينِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْوَاقِعِ مِنْ صِفَةِ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْتِعْدَادِهِمَا وَأَعْمَالِهِمَا الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا جَدَلٌ طَوِيلٌ، فَالْأَوَّلُونَ يُثْبِتُونَ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفُونَ رِعَايَةَ الرَّبِّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلٍّ مِنْ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ مَجْبُورًا فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَالْآخَرُونَ يُخَالِفُونَهُمْ، فَنَدَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْجَدَلِيَّةِ لِابْنَيْ بَجْدَتِهَا الرَّازِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ الشَّيَاطِينِ وَكَشْفِ شُبْهَةِ الْمُسْتَشْكِلِينَ لَهُ وَلِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ إِغْوَائِهِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ التَّكْوِينِ. حِكْمَةُ خَلْقِ اللهِ الْخَلْقَ وَاسْتِعْدَادُ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَنْ يَتَجَلَّى بِهَا الرَّبُّ الْخَالِقُ لَهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيَحْكُمَ وَيَجْزِيَ فَيَعْدِلَ وَيَغْفِرَ وَيَعْفُوَ وَيَرْحَمَ، إِلَخْ. فَهِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَمَجْلَى سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ، وَتُرْجُمَانُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (17: 44) لِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالنِّظَامِ، الدَّالَّيْنِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَوَحْدَانِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (27: 88) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (32: 7) كَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، مَدَارُهُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ الْأَحْيَاءَ أَوْ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ شَرًّا لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ أَعَظَمُ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ أَكْبَرَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي يُزِيلُ مَرَضَهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَوْ أَطْوَلُ إِيلَامًا مِنْهُ، وَقَدْ تَفُوتُهُ مَنْفَعَةٌ صَغِيرَةٌ يَكُونُ فَوْتُهَا سَبَبًا لِمَنْفَعَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، كَالَّذِي يَبْذُلُ مَالَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ فَيُكْرَمُ وَيَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ. وَحَظُّهُ مِنْ كَرَامَةِ الْأُمَّةِ وَعُمْرَانِ الْوَطَنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ. وَقَدْ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى تَحَقُّقِ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُقَابَلَاتُ وَالنِّسَبُ بَيْنَ بَعْضِهَا مُخْتَلِفَةً مِنْ تَوَافُقٍ وَتَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ أَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَأَنْ يُسِيءَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ

بَعْضُهُمْ مَفْطُورًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، دَائِبًا عَلَى عِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ، مُسْتَعِدًّا لِلْأَضْدَادِ فِي مَيْلِهِ وَطَبْعِهِ، يَتَنَازَعُهُ عَامِلَا الْكُفْرِ وَالشُّكْرِ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَقِيقَتَا التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَتَتَجَاذَبُهُ دَاعِيَتَا الْفُجُورِ وَالْبِرِّ، فَيَكُونُ لِشُكْرِهِ وَبِرِّهِ وَطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ مَعَ مُعَارَضَةِ الْمَوَانِعِ مَا لَيْسَ لِلْفُطُورِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيُفِيدُهُ الْعِصْيَانُ خَوْفًا وَرَهْبَةً، وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنِ اسْمَيِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ وَقَدْ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ وَيُصِرُّ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَيَكُونُ مَوْضِعًا لِعِقَابِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَآيَةٌ فِيهِ عَلَى تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (18: 50) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَصَرَّ عَلَى عِصْيَانِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى رَبِّهِ فَلَعَنَهُ وَأَخْزَاهُ، وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ عَدْلِهِ فِي عِقَابِهِ، وَقَصَّ قَصَصَهُمَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا بِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ النَّوْعَيْنِ، وَمَآلَ الْعَمَلَيْنِ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَابْتِلَاءً - اخْتِبَارًا - لِلْعَالِمِينَ يَمِيزُ اللهُ بِهِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ، وَيُزِيلُ بَيْنَ الطَّيِّبِينَ وَالْخَبِيثِينَ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمَا أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ، يَظْهَرُ بِهِ مَا أُودِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ، وَالْمَسُوسُ وَالسَّائِسُ، وَالْقَائِدُ وَالْجُنْدِيُّ، وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ، وَالزَّارِعُ وَالصَّانِعُ، وَالتَّاجِرُ وَالْعَامِلُ. فَلَوْلَا الْعُمَّالُ - مَثَلًا - لَمَا اتَّسَعَتْ مَسَائِلُ الْعُلُومِ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِمَا كَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَتْ نِعَمُ الْخَالِقِ وَسُنَنُهُ وَدَقَائِقُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَمَظَاهِرِ الْأَسْمَاءِ، وَمُوجِبَاتِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتْقَنٌ فِي صُنْعِهِ، مُظْهِرٌ

لِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَلَا بِشَرٍّ مَحْضٍ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (15: 85) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (38: 27) وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنْ مَعْصِيَتَيْ أَبَوَيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ظُهُورُ اسْتِعْدَادِهِمْ وَإِظْهَارُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ فِي حَالَيِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَحُسْنُ الْأُسْوَةِ، وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَالِابْتِلَاءُ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهُ مِمَّا بَيَّنَّا - وَإِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الْآخَرِ - فَلَا خَفَاءَ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى فِطْرَةِ نَوْعَيْهِمَا، الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِيهِمَا، فَجِنْسُ الْجِنِّ أَوِ الْجِنَّةِ الْغَيْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ نَوْعَانِ أَوْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مَلَكِيٌّ يُلَابِسُ بَعْضُهُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، وَصِنْفٌ شَيْطَانِيٌّ يُلَابِسُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (2: 268) الْآيَةَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمَثَلُ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُ طَبْعَهُ - كَمَثَلِ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِجَسَدِهِ وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ النَّقَاعِيَّاتِ، فَإِنَّ مِنْهَا جِنَّةَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الْقَابِلِ لَهَا بِضَعْفِهِ، وَالْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا الصِّحَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْجِنُّ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لِلرُّوحَانِيِّينَ: الْمُسْتَتِرَةُ عَنِ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا بِإِزَاءِ الْإِنْسِ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَكُلُّ مَلَائِكَةٍ جِنٌّ وَلَيْسَ كُلُّ جِنٍّ مَلَائِكَةً، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا جِنٌّ. وَقِيلَ: بَلِ الْجِنُّ بَعْضُ الرُّوحَانِيِّينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ: أَخْيَارٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَوْسَاطٌ فِيهِمْ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الْجِنُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) (72: 1) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (72: 14) وَالْجِنَّةُ جَمَاعَةُ الْجِنِّ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَحْدَةِ الْجِنْسِ؛ فَإِنَّهُ غَلَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ اسْمَانِ مُمَيَّزَانِ لَهُمَا لِتَضَادِّهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْجِنَّةَ - بِالْكَسْرِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (37: 158) بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ

الْآيَةِ عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (37: 149) الْآيَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْجِنَّةَ فِي الْآيَةِ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّسَبِ قَوْلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) أَيِ الْمَلَائِكَةُ (إِنَّهُمْ لَمُحْضِرُونَ) فِي النَّارِ مُقْدِمُونَ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ. اهـ. مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى. نَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا وَنُحِيلُ فِي زِيَادَةِ بَسْطِهِ وَإِيضَاحِهِ عَلَى مَا تَكَرَّرَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوَتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَارِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَكَذَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَوَسْوَسَتِهِمْ وَدَرَجَةِ تَأْثِيرِهَا فِي آيَاتِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي حِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ. وَمِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ إِذَا قُوبِلَ مَا هَاهُنَا بِمَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يُرَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ مِنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْفَصْلِ فِي بَدْءِ كُلٍّ مِنْهَا بِـ " قَالَ " عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَاهُنَا عَطَفَ أَمْرَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ بِالْهُبُوطِ وَأَمْرَهُ الْأَوَّلَ لَهُ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ، وَكَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ " فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي " عَلَى أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَفَصَلَ طَلَبَ إِبْلِيسَ لِلْإِنْظَارِ وَجَوَابَ الرَّبِّ لَهُ وَأَمْرَهُ الثَّانِيَ بِالْخُرُوجِ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَقَدْ وَصَلَ كُلًّا مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ وَجَوَابِهِ بِالْفَاءِ وَكَذَا فِي سُورَةِ ص، وَفَصَلَ تَعْلِيلَ إِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ بِإِغْوَاءِ الرَّبِّ لَهُ إِذْ قَالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) (15: 39) فَخَالَفَ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنِ اتَّفَقَتِ السُّورَتَانِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ. فَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّنَا عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُنَزَّلَةً لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ اخْتَلَفَتْ أَسَالِيبُهَا بَيْنَ إِيجَازٍ وَإِطْنَابٍ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، حَتَّى لَا تُمَلَّ لِلَفْظِهَا وَلَا لِمَعَانِيهَا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَحْكِيَّةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَبِّرَةٌ عَنِ الْمَعَانِي وَشَارِحَةٌ لِلْحَقَائِقِ وَلَيْسَتْ نَقْلًا لِأَلْفَاظِ الْمُحْكَى

عَنْهُمْ بِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ أَعَاجِمُ، وَلَمْ تَكُنْ لُغَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ كَلُغَةِ الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا - دَعْ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْقِصَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِحَقَائِقَ ثَابِتَةٍ فِي نَفْسِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ، وَمَا ثَمَّ أَقْوَالٌ قِيلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا - عَلِمْنَا هَذَا وَذَاكَ. وَلَكِنَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَالِيبِ وَطُرُقَ التَّعْبِيرِ فِيهِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا تَخْتَلِفُ إِلَّا لِنُكَتٍ تُفِيدُ مِنْ فَهْمِهَا فَائِدَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَمَا فَائِدَةُ مَا ذُكِرَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْلَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي مَوْضِعِهِ أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ بِالْفَصْلِ اسْتِئْنَافًا وَلَا يَحْتَاجُ فِي زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ إِلَى نُكْتَةِ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَجَدْتَ أَنَّ طَلَبَ إِبْلِيسَ الْإِنْظَارَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ مَقْرُونًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - فَلَا غَرْوَ إِذَا جُعِلَ طَلَبُهُ لِلْإِنْظَارِ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبِلَهُ مُتَفَرِّعًا عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِذْ طَرَدْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَأَطِلْ حَيَاتِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِكَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى جَوَابًا مَعْطُوفًا عَلَى طَلَبِهِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْحِكْمَةُ، لَا إِلَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ أُمْنِيَّتُهُ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى فِي إِنْظَارِ إِبْلِيسَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ هَذَا مِنْ طَلَبِهِ الْإِنْظَارَ. وَأَمَّا نُكْتَةُ حَذْفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّدْرِ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ وَالْقِصَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) وَالْفَاءُ تُوجِبُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبِلَهَا، وَالنِّدَاءُ أَوَّلًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَاسْتِئْنَافَ الْكَلَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ لَا يَقْتَضِيهَا مَا قَبْلَهَا، فَلَمْ تَحْسُنِ الْفَاءُ مَعَ قَوْلِهِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا نِدَاءٌ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَ مَا بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ وُصِلَ الْقَسَمُ فِيهِمَا بِالْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْفَاءِ اهـ.

19

(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي النَّشْأَةِ الْأَوْلَى لِلْبَشَرِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، أُنْزِلَتْ تَمْهِيدًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ بِمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي وَعْظِ بَنِي آدَمَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أَيْ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - كَمَا هُوَ نَصُّ التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ - عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ -

كَانَ بَعْدَ الْوَسْوَسَةِ لِآدَمَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالنِّدَاءُ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَالْأَمْرُ بِالسُّكْنَى قِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، يُقَابِلُهُ جَعْلُهُ أَمْرًا تَكْوِينِيًّا قَسْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَمْرِ إِبْلِيسَ، وَاللَّامُ فِي الْجَنَّةِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا أَوْ لَدَيْهَا آدَمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (ن) : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (68: 17) ؛ لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ قِصَّتِهِ الْمُكَرِّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْآخِرَةِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ لَهُ زَوْجٌ؛ أَيِ امْرَأَةٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَىأَلْقَى عَلَى آدَمَ سُبَاتًا انْتَزَعَ فِي أَثْنَائِهِ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَخَلَقَ لَهُ مِنْهُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهَا سُمِّيَتِ امْرَأَةً " لِأَنَّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ " وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ " عَلَى حَدِّ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (21: 37) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " أَيْ لَا تُحَاوِلُوا تَقْوِيمَ النِّسَاءِ بِالشِّدَّةِ، وَوَثَنِيُّوا الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِآدَمَ أُمَّا وَلَهَا فِي مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدِّسَةِ (بنارس) قَبْرٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ بِجَانِبِ قُبَّةِ قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّهِ عِنْدَهُمُ الرَّمْزُ إِلَى الطَّبِيعَةِ. وَالْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فِي السُّكْنَى وَالْمَعِيشَةِ بِاقْتِضَاءِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ الَّذِي يُعَدُّ مَا خَالَفَهُ شُذُوذًا. (فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) أَيْ فَكُلَا مِنْ ثِمَارِهَا حَيْثُ شِئْتُمَا - وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (2: 35) - وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التِّكْرَارُ لِلْقَصَصِ فَوَائِدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ فِي الْمَجْمُوعِ. (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (2: 187) فَهُوَ يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُغْرِي بِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا، " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَعْرِيفُ الشَّجَرَةِ كَتَعْرِيفِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ بِمَا يُعَيِّنُ شَخْصَهَا، وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ نَوْعُهَا وَلَا وَصْفُهَا، إِلَّا مَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوَّلِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مَا نَصُّهُ " 8 وَغَرَسَ الرَّبُّ الْإِلَهُ جَنَّةً مِنْ عَدْنٍ شَرْقًا وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ 9 وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلْأَكْلِ وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ " ثُمَّ قَالَ " 15 وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ

20

آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا 16 وَأَوْصَى الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا 17 وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " اهـ. وَقَدْ أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَمُتْ يَوْمَ أَكَلَهَا وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمَا، أَيْ بِفِعْلِهِمَا مَا يُعَاقَبَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْحِرْمَانِ مِنْ ذَلِكَ الرَّغَدِ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي الْمَعِيشَةِ. (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسْوَسَةُ الْخَطِرَةُ الرَّدِيئَةُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ وَهُوَ صَوْتُ الْحُلِيِّ، وَالْهَمْسُ الْخَفِيُّ قَالَ: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) (20: 120) وَقَالَ: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) (114: 4) وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَسْوَاسٌ اهـ. فَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَرْوَاحِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَكَلَّمَهُمَا وَأَقْسَمَ لَهُمَا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمَنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ تَمْثِيلًا لِبَيَانِ حَالِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي تُنْقَلُ فِيهَا يُفَسِّرُ الْوَسْوَسَةَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الطُّفُولَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ هَمًّا وَلَا نَصَبًا إِلَى طَوْرِ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ يَكُونُ كَثِيرَ التَّعَرُّضِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِهَا. وَقَدْ عَلَّلْتُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ بِأَنَّ غَايَتَهَا أَوْ غَرَضَهُ مِنْهَا أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا يُقَالُ: وَارَى الشَّيْءَ إِذَا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، وُورِيَ الشَّيْءُ غُطِّيَ وَسُتِرَ، وَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَمْرٍ شَائِنٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ. وَالسَّوْءَةُ السَّوْآءُ الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَسَوْءَةٌ لَكَ، وَوَقَعَتْ فِي السَّوْءَةِ السَّوْآءِ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ: لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ ... يَا لِقَوْمِي لِلسَّوْءَةِ السَّوْآءِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ بَدَتْ سَوْءَتُهُ وَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا اهـ. وَإِذَا أُضِيفَتِ السَّوْءَةُ إِلَى الْإِنْسَانِ أُرِيدَ بِهَا عَوْرَتُهُ الْفَاحِشَةُ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُهُ ظُهُورُهَا بِمُقْتَضَى الْحَيَاءِ الْفِطْرِيِّ مَا لَمْ يُفْسِدْهُ بِتَعَوُّدِ إِظْهَارِهَا مَعَ آخَرِينَ فَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمْ، وَجُمِعَتْ هُنَا عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِضَافَةِ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِهِ إِذْ يَسْتَثْقِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْمَعُونَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (66: 4) . وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْإِخْفَاءِ أَوِ الْمُوَارَاةِ لِسَوْآتِهِمَا عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) (20: 121) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أَيْ وَقَالَ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ لَهُمَا: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا مِنْهَا إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اتِّقَاءِ

21

أَنْ تَكُونَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا مَلَكَيْنِ، أَيْ كَالْمَلَكَيْنِ فِيمَا أُوتِيَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْخَصَائِصِ كَالْقُوَّةِ وَطُولِ الْبَقَاءِ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بِفَوَاعِلِ الْكَوْنِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْمُتْعِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّامِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الزَّجَّاجُ بِمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (20: 120) وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ - أَوِ اتِّقَاءِ أَنْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْهَمَهُمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُعْطِي الْآكِلَ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَرَائِزَهُمْ وَيَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي الْحَيَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ مِنَ الْعَالِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ دُونَ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُسَخَّرِينَ لِتَدْبِيرِ أُمُورِهَا الَّذِينَ كَانَ مَعْنَى سُجُودِهِمْ لَهُ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِنَوْعِهِ جَمِيعَ قُوَى الْأَرْضِ وَعَوَالِمِهَا - وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى عَدَمِ سُجُودِ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (38: 75) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالِينَ خَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ. (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ادَّعَى اللَّعِينُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلَّ الظَّنَّةِ فِي نُصْحِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. أَكَّدَ دَعْوَاهُ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ وَأَغْلَظِهَا، وَهِيَ الْقَسَمُ وَإِنَّ وَاللَّامُ وَتَقْدِيمُ (لَكُمَا) عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الدَّالُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَأَقْسَمَ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ كَقَاسَمَهُ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا قِسْمًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّيغَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ وَرَدَتْ لِلْمُفْرَدِ كَثِيرًا وَهَذَا مِنْهَا فَمَعْنَاهُ: وَحَلَفَ لَهُمَا، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ ... مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا وَوَجَّهُوهُ بِوُجُوهٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا أَقْسَمَا لَهُ أَنَّهُمَا يَقْبَلَانِ نَصِيحَتَهُ إِذَا أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِحٌ: وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمَا طَلَبَا مِنْهُ الْقَسَمَ فَجَعَلَ طَلَبَهُمَا الْقَسَمَ كَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِثْلُ هَذَا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُقْسِمَ لَهُمَا وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسِمَا لَهُ وَبَنَى قَسَمَهُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَأْلُوفِ. (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) دَلَّى الشَّيْءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلَى الْأَسْفَلِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا لِأَنَّ فِي الصِّيغَةِ مَعْنَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ - أَيْ فَمَا زَالَ يَخْدَعُهُمَا بِالتَّرْغِيبِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ بِذَلِكَ لَهُمَا بِهِ حَتَّى أَسْقَطَهُمَا وَحَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَطَاعَةِ الْفَاطِرِ بِمَا غَرَّهُمَا بِهِ، وَالْغُرُورُ الْخِدَاعُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمْ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّجْرِبَةِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ

22

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (6: 112) وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ بِخِدَاعِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقِيلَ: دَلَّاهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسِينَ بِغُرُورٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اغْتَرَّا وَانْخَدَعَا بِقَسَمِهِ وَصَدَّقَا قَوْلَهُ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا صَدَّقَاهُ وَاسْتَكْبَرَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّ تَصْدِيقَهُ كُفْرٌ، وَرَجَّحَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ بِتَزْيِينِ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبَّ التَّجْرِبَةِ وَاسْتِكْشَافَ الْمَجْهُولِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَمْنُوعِ، فَجَاءَ الْوَسْوَاسُ نَافِخًا فِي نَارِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ مُذَكِّيًا لَهَا، مُثِيرًا لِلنَّفْسِ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ النَّهْيِ، حَتَّى نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: (وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (20: 115) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ. (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ. (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ

23

الرَّغْدُ إِلَى حَيْثُ الشَّقَاءُ فِي الْمَعِيشَةِ وَالتَّعَبُ فِي جِهَادِ الْحَيَاةِ! وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ طه: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدْوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (20: 117) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا سَوَاءً مَا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ. (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَذَكَّرَا نَهْيَ الرَّبِّ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ وَعِصْيَانِنَا لَكَ كَمَا أَنْذَرْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْنَا ضَعْفَنَا وَعَجَزْنَا عَنِ الْتِزَامِ عَزَائِمِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا نَظْلِمُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِهِدَايَتِكَ لَنَا وَتَوْفِيقِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ، وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَبِقَبُولِنَا إِذَا نَحْنُ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَبِإِعْطَائِكَ إِيَّانَا مِنْ فَضْلِكَ، فَوْقَ مَا نَسْتَحِقُّ بِعَدْلِكَ، فَوَحَقِّكَ لَنَكُونَنَّ إِذًا مِنَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِتَزْكِيَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَتَّبِعُ سَبِيلَكَ، دُونَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ كَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الَّذِي أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَاحْتَجَّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَرَّ. هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ مَعْنَى كَلِمَاتِ آدَمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّهِ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (2: 37) قَالَهَا خَاشِعًا مُتَضَرِّعًا وَتَبِعَتْهُ زَوْجُهُ بِهَا، فَحَذْفُهُمَا لِمَفْعُولِ (تَغْفِرْ) - إِذْ لَمْ يَقُولَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا هَذَا أَوْ ظُلْمَنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلَّقَا النَّجَاةَ مِنَ الْخُسْرَانِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَشْمَلُ هَذَا الذَّنْبَ وَغَيْرَهُ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ بَيَانِ حَالِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُبَيَّنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي حَمْلِ الْإِنْسَانِ لِلْأَمَانَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ بِذَلِكَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (70: 19 - 22) إِلَخْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ قَدْ عُوقِبَا عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالتَّشْهِيرِ الدَّائِمِ بِإِعْلَامِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّتَهُمَا بِهِ، وَهَاكَ مَا أَجَابَهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى بِهِ، إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ السُّؤَالِ عَنْهُ: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالْمَلَامُ، أَيِ اهْبِطُوا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَكَانَةِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ - بَعْضُكُمْ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، عَدُوٌّ لِبَعْضٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ عَدُوًّا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَفِعًا إِلَى إِغْوَائِهِ وَإِيذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ عَدُوًّا بِأَلَّا يَغْفَلَ عَنْ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَلَا يَأْمَنَ وَسْوَسَتَهُ وَإِغْوَاءَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخَذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (35: 6) وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا

24

بِالذَّاتِ وَلِذُرِّيَّتِهِمَا بِالتَّبَعِ وَفِيهِ خِطَابُ الْمَعْدُومِ - وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُمَا فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا) (20: 123) إِلَخْ. وَفِي هَذِهِ التَّثْنِيَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِآدَمَ وَحَوَّاءَ. وَالثَّانِي أَنَّهَا لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَحَوَّاءُ تَبَعٌ لِآدَمَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمُخَاطَبِينَ عَدُوًّا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ، لَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ الَّتِي خُلِقَتْ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، فَعَجَبًا لِمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا! وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقَيِ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ عِقَابٌ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَأْوِيلٌ لِكَوْنِهَا ظُلْمًا مِنْهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعِقَابِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي طَبِيعَةِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْعَمَلِ السَّيِّئِ، مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ غَفَرَهُ تَعَالَى لَهُمَا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَجَعَلَتْهَا مَحَلًّا لِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (20: 121، 122) . (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ اسْتِقْرَارٌ أَوْ مَكَانٌ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمَتَاعٌ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعِيشَتِكُمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ زَمَنٍ مُقَدَّرٍ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ أَعْمَارُكُمْ وَتَقُومُ بِهِ قِيَامَتُكُمْ، وَالْمُسْتَقَرُّ يُطْلَقُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ، وَالْمَتَاعُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ هُنَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) فَهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُنَا فِيمَا خَاطَبَ بِهِ آخِرَنَا عَلَى لِسَانِ آخَرِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَهُ لِأَوَّلِنَا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ الْمُجْمَلَ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتَأْنَفَهُ كَسَابِقِهِ وَهُوَ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتُمْ مِنْهَا تَحْيَوْنَ مُدَّةَ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لِكُلٍّ مِنْكُمْ وَلِمَجْمُوعِ نَوْعِكُمْ - أَوْ نَوْعَيْكُمْ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَمَا يُرِيدُ الْخَالِقُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (20: 55) وَهِيَ تُشْبِهُ النَّشْأَةَ الْأُولَى إِذْ قَالَ: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (7: 29) وَقَالَ مُذَكِّرًا بِهَا: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (56: 60 - 62) .

مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (20: 123 - 126) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.

هَذَا مُلَخَّصُ مَضْمُونِ الْقِصَّةِ أَوْ مُلَخَّصُ بَقِيَّتِهَا، وَأَمَّا مُلَخَّصُ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا بِغَرَائِزِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْكَمَالِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا دُونَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ إِلَى النَّقَائِصِ، وَأَنَّ أَنْفَعَ مَا يُعِينُنَا عَلَى تَرْبِيَّتِهَا عَهْدُ اللهِ إِلَيْنَا بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَ مَعَهُ الشَّيْطَانَ وَلَا غَيْرَهُ، وَأَنْ نَذْكُرَهُ وَلَا نَنْسَاهُ فَنَنْسَى أَنْفُسَنَا، وَنَغْفُلُ عَنْ تَزْكِيَتِهَا، وَصَقْلِهَا بِصِقَالِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ مَا يُلَوِّثُهَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُتْرَكْ صَارَ صَدَأً وَطَبْعًا مُفْسِدًا لَهَا، وَمَا أَفْسَدَ أَنْفُسَ الْبَشَرِ وَدَسَّاهَا إِلَّا غَفْلَةُ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا. وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ. الْإِشْكَالَاتُ فِي الْقِصَّةِ: قَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الْإِشْكَالَاتِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّمَحُّلَاتِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ؟ وَكَيْفَ أَقْسَمَ لَهُ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يُخَالِفُ خَبَرَ اللهِ؟ وَكَيْفَ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ خَالِدًا فَطَمِعَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَكَيْفَ أَطَاعَهُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرُ وُجُوبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ - إِلَخْ. مَا هُنَالِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ كَانَتْ صُورِيَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْكَشْفِ أَوْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّكْوِينِ لَا لِلتَّكْلِيفِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَمَا جَلَّيْنَاهُ فِيهِ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا عِنْدَ بَدْءِ خَلْقِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا مَوْضِعَ لِلرِّسَالَةِ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّسُلِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعِصْمَةُ

الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضِ. وَلَا يَظْهَرُ دَلِيلُ الْعِصْمَةِ وَلَا حِكْمَتُهَا فِيهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ يَخَافُ مِنْ سُوءِ الْأُسْوَةِ عَلَيْهِ. هَذَا مَا أَلْهَمَهُ تَعَالَى مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخْرَى فِي الْقِصَّةِ وَمَا يُنَاسِبُهَا. وَلَمْ نُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآرَاءِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ وَلَا قَوْلِ رَسُولِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَوْ جُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا، وَقَدْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنَقْلِهَا، كَقِصَّةِ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ فِيهَا وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَوَّاءَ مِنَ الْحِوَارِ. كَلِمَةٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَغَيْرِهَا وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيَعْلَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِنْدَنَا وَمَا عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يُرَاجِعَ هُنَا سَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ الَّذِي نَشَرْنَاهُ مِنْهَا - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ أَحْيَلُ حَيَوَانِ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِحَوَّاءَ إِنَّهَا هِيَ وَزَوْجَهَا لَا يَمُوتَانِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَالَ لَهُمَا الرَّبُّ، بَلْ يَصِيرَانِ كَآلِهَةٍ يَعْرِفَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَنَّ حَوَّاءَ رَأَتْ أَنَّ الشَّجَرَةَ طَيِّبَةُ الْأَكْلِ بَهْجَةُ الْمَنْظَرِ مُنْيَةٌ لِلنَّفْسِ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا وَأَطْعَمَتْ زَوْجَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ فَخَاطَا لِأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ وَرَقِ التِّينِ " فَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ فِي الْجَنَّةِ " فَاخْتَبَآ مِنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الشَّجَرِ. فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ، فَاعْتَذَرَ بِتَوَارِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَسَأَلَهُ مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عُرْيَانٌ وَهَلْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَطْعَمَتْهُ. وَسَأَلَ الرَّبُّ الْمَرْأَةَ فَاعْتَذَرَتْ بِإِغْوَاءِ الْحَيَّةِ لَهَا " 14 فَقَالَ الرَّبُّ الْإِلَهُ لِلْحَيَّةِ: إِذْ صَنَعْتِ هَذَا فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَجَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ، عَلَى صَدْرِكِ تَمْشِينَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِكِ 15 وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَرْصُدِينَ عَقِبَهُ " وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إِنَّهُ يَكْثُرُ مَشَقَّاتُ حَمْلِهَا وَآلَامُ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا تَنْقَادُ إِلَى بَعْلِهَا وَهُوَ يَسُودُهَا. وَقَالَ لِآدَمَ إِنَّ الْأَرْضَ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بِمَشَقَّةٍ يَأْكُلُ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَيَعْرَقُ وَجْهُهُ يَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى يَعُودَ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ " 22 هُوَ ذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ فَيَحْيَا إِلَى الدَّهْرِ 3 فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَحْرُثَ الْأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا " اهـ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا تَرَى وَلَيْسَ فِيمَا وَرَدَ فِي

الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُشْكِلٌ فِيهَا. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصَارَى مِنْهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي الْحَيَّةِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى إِغْوَاءِ حَوَّاءَ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَغُرَنَّكَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَكْثَرُهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِلْكَيْدِ لَهُ، وَكَذَا الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. كَانَ الرُّوَاةُ يَنْقُلُونَ عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ مَا مَصْدَرُهُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَيَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. فَيَعُدُّونَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْقُلُونَ رِوَايَاتِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ. فَصَارَ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ الْمُخَالِفِ مِنَ الْمُوَافِقِ إِلَّا عَلَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ. وَكُلَّمَا قَلَّ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا. وَزَادُوا وَنَقَصُوا. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَلَا نُصَدِّقُ رِوَايَاتِهِمْ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا حَرَّفُوهُ أَوْ زَادُوهُ، وَلَا نُكَذِّبُهَا لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا أُوتُوهُ فَحَفِظُوهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا صَحَّ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ زَنَادِقَتِهِمْ، وَيَقِلُّ فِي صَحِيحِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَإِنْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي تُرْوَى أَكْثَرُ أَحَادِيثِهِ عَنْعَنَةً وَأَقَلُّهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كِتَابٌ فِي فَنِّ التَّفْسِيرِ نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ بَحْثًا طَوِيلًا فِي الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَالَ إِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَمِنْهُ فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ - وَهُوَ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ - وَقَدْ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: - " فَمَا كَانَ مِنْهُ مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ، وَمَا لَا بِأَنْ نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (أَيْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُمَا مِنْ خِيَارِهِمْ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمُعْظَمُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ نُقِلَتْ عَنْهُمَا) وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ

26

عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَأَمَّا الْقَسَمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ " اهـ (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) بَعْدَ أَنَّ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ قِصَّةَ نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى وَمَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهَا هَذِهِ النَّصَائِحَ الْهَادِيَةَ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ طُرُقِ تَرْبِيَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ تَنَاسُبِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ السِّيَاقِ - فَقَالَ: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الرِّيشُ: لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ، وَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ كَالطَّيْرِ فِي كَثْرَةِ أَنْوَاعِ رِيشِهَا وَبَهْجَةِ مَنَاظِرِهَا وَتَعَدُّدِ أَلْوَانِهَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَالزِّينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ (وَرِيَاشًا) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قِيلَ: الرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ، فَهُوَ كَشِعْبٍ

وَشِعَابٍ وَذِئْبٍ وَذِئَابٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الرِّيشُ وَالرِّيَاشُ بِمَعْنَى كَاللِّبْسِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ الرِّيَاشُ مُخْتَصٌّ بِالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيشُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ رَاشَهُ اللهُ يَرِيشُهُ رِيَاشًا وَرِيشًا. كَمَا يُقَالُ لَبِسَهُ يَلْبَسُهُ لِبَاسًا وَلِبْسًا (بِكَسْرِ اللَّامِ) (ثُمَّ قَالَ) وَالرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ الْمَتَاعِ مِمَّا يُلْبَسُ أَوْ يُحْشَى مِنْ فِرَاشٍ أَوْ دِثَارٍ وَالرِّيشُ إِنَّمَا هُوَ الْمَتَاعُ وَالْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ. وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي الثِّيَابِ وَالْكُسْوَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَالِ، يَقُولُونَ: أَعْطَاهُ سَرْجًا بِرِيشِهِ - أَيْ بِكُسْوَتِهِ وَجَهَازِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَحَسَنُ رِيشِ الثِّيَابِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرِّيَاشُ فِي الْخِصْبِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرِّيشَ الْمَالُ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ الْمَعَاشُ أَوِ الْجَمَالُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مَعًا، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِلِبَاسِ السَّتْرِ الَّذِي يُوَارِي الْعَوْرَاتِ وَلِبَاسِ التَّقْوَى. خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْبَعِيدُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ عَرَبُهُمْ وَعَجَمُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالشِّرْعَةِ الْقَوِيمَةِ، تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، بِمَا يَقْرَعُ الْآذَانَ، فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ أَنْ أَنْبَأَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ عُرْيِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ - بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَدْنَى الَّذِي يَسْتُرُ السَّوْءَةَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ إِلَى أَنْوَاعِ الْحُلَلِ الَّتِي تُشْبِهُ رِيشَ الطَّيْرِ فِي وِقَايَةِ الْبَدَنِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ وَالْجِمَالِ اللَّائِقَةِ بِجَمِيعِ ذُكْرَانِ الْبَشَرِ وَإِنَاثِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْنَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ عُلُوِّ سَمَائِنَا بِتَدْبِيرِنَا لِأُمُورِكُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِنَا، لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَهُوَ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلُّهُ الَّذِي يُعَدُّ فَاقِدُهُ ذَلِيلًا مَهِينًا - وَرِيشًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَسَاجِدِكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ وَمَجَامِعِكُمْ، وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَا يَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَالِامْتِنَانُ بِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْأُسْلُوبِ، أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ بِطْرِيقِ الْمَنْطُوقِ عَلَى مَا اخْتَرْنَا آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِبَنِي آدَمَ مَادَّتَهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَرِيشِ الطَّيْرِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَّمَهُمْ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَسَائِلَ صُنْعِ اللِّبَاسِ مِنْهَا كَالزِّرَاعَةِ وَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَالْخِيَاطَةِ. وَإِنَّ مِنَنَهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافُ مِنَنِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ شُعُوبِ بَنِي آدَمَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُمْ لَهُ أَعْظَمَ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِتْقَانِ صِنَاعَاتِ اللِّبَاسِ أَنَّ عَاهِلَ أَلْمَانِيَّةَ الْأَخِيرَ (قَيْصَرَهَا) دَخَلَ مَرَّةً أَحَدَ مَعَامِلِ الثِّيَابِ لِيُشَاهِدَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ

الْإِتْقَانِ فَجَزُّوا أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ صُوفَ بَعْضِ أَكْبَاشِ الْغَنَمِ - وَلَمَّا انْتَهَى مِنَ التِّجْوَالِ فِي الْمَعْمَلِ وَمُشَاهَدَةِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ فِيهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ قَدَّمُوا لَهُ مِعْطَفًا لِيَلْبَسَهُ تِذْكَارًا لِهَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ صُنِعَ مِنَ الصُّوفِ الَّذِي جَزُّوهُ أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ - فَهُمْ قَدْ نَظَّفُوهُ فِي الْآلَاتِ الْمُنَظِّفَةِ فَغَزَلُوهُ بِآلَاتِ الْغَزْلِ فَنَسَجُوهُ بِآلَاتِ النَّسْجِ فَفَصَلُوهُ فَخَاطُوهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ فَانْتَقَلَ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ مِنْ ظَهْرِ الْخَرُوفِ إِلَى ظَهْرِ الْإِمْبِرَاطُورِ. وَامْتِنَانُهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ بِلِبَاسِ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (18: 7) وَإِنْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِحْسَانَ الْعَمَلِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ بِالزُّهْدِ فِيهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَيُنَاقِضُ غَرَائِزَهَا، بَلْ هُوَ مُهَذِّبٌ وَمُكَمِّلٌ لَهَا. وَحُبُّ الزِّينَةِ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الدَّافِعَةِ لَهُمْ إِلَى إِظْهَارِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلِيقَةِ وَأَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (7: 32) فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى كَوْنِهَا ابْتِلَاءً أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ بِهَا طَالِبَهَا مَا يَقْصِدُ مِنْهَا؟ وَوَاجِدَهَا أَيَشْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَمَاذَا يَقْصِدُ وَيَنْوِي بِتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْهَا. وَفَاقِدُهَا أَيَصْبِرُ عَلَى فَقْدِهَا أَمْ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ وَحَاسِدًا لِأَهْلِهَا؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) فَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ اللِّبَاسُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَجَازِيُّ. فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَيَّنَ التَّقْوَى - أَيِ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى - وَذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَقَالَ: يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ تَفْسِيرُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ وَعَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ الْحَيَاءُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ. وَمُرَادُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ طِيبِ السَّرِيرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَهُ. وَرَوَوْا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ عَمَلًا سِرًّا إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهُ عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي أَنَّهُ قَالَ وَرِيَاشًا وَلَمْ يَقُلْ وَرِيشًا، وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ بِمَا يَلْبَسُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَا: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَلْبَسُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا. هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُلَخَّصَةٌ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَفِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَرْبِ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى

بِهَا الْعَدُوُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (16: 81) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (21: 80) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ التَّقْوَى هُنَا فِيمَا يَعُمُّ هَذَا وَذَاكَ. أَيْ تَقْوَى اللهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَتَقْوَى فَتْكِ الْعَدُوِّ بِلَبْسِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَنَحْوِهِمَا، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَارَضُ مَدْلُولَاتُهَا فِي الِاشْتِرَاكِ وَفِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ فِي لِبَاسِ التَّقْوَى أَنَّهُ لِبَاسُ النُّسُكِ وَالتَّوَاضُعِ كَدُرُوعِ الصُّوفِ وَمُرَقَّعَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا بَعْضُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرٌّ لَا خَيْرٌ لِأَنَّهَا لِبَاسُ شَهْوَةٍ وَشُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ. وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرِّيشُ. (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ بِإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ إِحْسَانِهِ إِلَى بَنِي آدَمَ وَكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُعِدَّهُمْ وَتُؤَهِّلَهُمْ لِتَذَكُّرِ فَضْلِهِ وَمِنَنِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهَا، وَاتِّقَاءِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ بِإِبْدَاءِ الْعَوْرَاتِ تَارَةً وَبِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ عُرَاةً وَمَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الضَّمِيرِ فِي الرَّبْطِ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا لِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا بِتَكْرَارِ الْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْلِ (ذَلِكَ) صِفَةَ لِبَاسٍ وَمِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لَهُ. (يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ. وَتَكْرَارُ النِّدَاءِ فِي مَقَامِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ التَّنْبِيهِ وَالتَّأْثِيرِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْعُرُ بِهِ فِي قَلْبِهِ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ قِصَّةُ الْجِنِّ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِذْ جَاءَ فِيهَا الْوَعْظُ وَالْإِنْذَارُ بِتَكْرَارِ النِّدَاءِ: يَا قَوْمَنَا. . . . يَا قَوْمَنَا. . . . وَوَعْظُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: يَا قَوْمِ. . . . . يَا قَوْمِ. . . . . وَقَدْ فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْجَدِّ الَّذِي صَارَ رَئِيسَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي انْحَصَرَ نَسَبُهَا فِيهِ كَقُرَيْشٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، وَعُثْمَانَ مُؤَسِّسِ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ عَلِيٍّ الْكَبِيرِ مُؤَسِّسِ دَوْلَةِ مِصْرَ الْجَدِيدَةِ. أَوِ الَّذِي لَهُ صِفَةٌ مُمْتَازَةٌ يَقْتَضِي الْمَقَامُ تَذْكِيرَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِهَا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِيهَا أَوْ لِلتَّعْرِيضِ

27

بِتَجَرُّدِهِ مِنْهَا مَثَلًا. كَأَنْ تَقُولَ لِبَعْضِ أَحْفَادِ الْخِدِيوِي تَوْفِيقٍ يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ هَذَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي مَقَامِ السَّخَاءِ وَسَعَةِ الْعَطَاءِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. وَلَوْ قُلْتَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا ابْنَ تَوْفِيقٍ كَانَ خَطَأً؛ فَإِنَّ تَوْفِيقًا لَمْ يَشْتَهِرْ بِصِفَةِ السَّخَاءِ وَكَثْرَةِ الْهِبَاتِ. وَتَسْمِيَةُ النَّاسِ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَجْدَادِ وَلَيْسَ هُوَ الْأَبُ. فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ. وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا. (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ. وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.

وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا اللِّبَاسُ حِسِّيًّا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنَوِيًّا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ الظُّفْرُ، وَأَنَّهُ نُزِعَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ تَذْكِرَةً وَزِينَةً، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ السَّوْءَتَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ. وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.

(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ (وَأَصْلُ الْقَبِيلِ: الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ) وَ (حَيْثُ) ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ. وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ. كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي

قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (15: 39 - 42) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (23) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (200، 201) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.

قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ. كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ. فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ

أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، لَمَا خَانُوا اللهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (8: 27، 28) . بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي10 أَغُسْطُسَ سَنَةَ 1903) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج 3 م 23 مِنَ الْمَنَارِ) . وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (72: 1) وَلَكِنْ

رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ. إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ

لَهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ الدَّجَّالِ الْمُفْتَرِي الْمُحْتَالِ حَتَّى أَقْنَعْنَهَا بِكَذِبِهِ بَعْدَ أَنْ خَسِرَتْ كُلَّ مَا كَانَتْ تَرْبَحُهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي سَبِيلِهِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (2: 275) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ

حَوْلَهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: جَاءَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَشِيدٌ. . . . وَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ وَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِهِ وَقُلْتُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ هَذَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا أَذْكُرُهُ وَشَفَاهُ تَعَالَى وَأَذْهَبَ عَنْهُ الرَّوْعَ ثَانِيَةً بِنَحْوِ مِمَّا أَذْهَبَهُ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،

30

وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ بِحَيْثُ يَهْتَدُونَ بِوَحْيِهِ وَيُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَآدَابِهِ حَتَّى يَبْعُدَ التَّنَاسُبُ وَالتَّجَانُسُ بَيْنَهُمَا. فَهَذَا الْجَعْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَهُ خَارِجًا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ وَنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا عَنْهُمْ، وَإِلَى الْخَالِقِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَسُنَنِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذِهِ الْوِلَايَةَ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِمُزَاوَلَةِ أَسْبَابِهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي قَرِيبًا: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (30) فَاكْتِسَابُ الْكُفَّارِ لِوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الشِّرِّيرَةِ مِنْ لَمَتِهِمْ، كَاكْتِسَابِ ضُعَفَاءِ الْبِنْيَةِ لِلْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهَا، كَالْقَذَارَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْفَاسِدَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ جَرَاثِيمِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا - فَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالْمُتَوَلُّونَ لِقُرَنَائِهِ مِنْ أَهْلِ الطَّاغُوتِ وَالدَّجَلِ وَالنِّفَاقِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، لَا بِطَاعَتِهِمْ فِي وَسْوَسَتِهِمْ فَقَطْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِيذُ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعِيذُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (72: 6) وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ الْيَوْمَ بِالْبَخُورِ وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (36: 60، 61) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الشَّيَاطِينِ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَشَدِّهِ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَسْفَلِهَا، فَهَلْ يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنَ الَّذِي يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ فِي مَصَالِحِهِ يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَ عَلَى الْجِنِّ وَجَعَلَهُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ كَالشَّيَاطِينِ لَتَصَرَّفُوا فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُونَ بِجِنَّةِ الْهَوَامِّ وَمَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ - وِفَاقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَّا أَشَدُّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْهُمْ - وَالْوَسْوَسَةُ مِنْهُمْ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِنَا لِقَبُولِهَا فَذَنْبُهَا عَلَيْنَا. وَمَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ مِنْ ضَرَرِهِمْ وَصَرْعِهِمْ فَأَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَدَجَلٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.

(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ آثَارِ وِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ إِنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي إِغْوَائِهِمْ فِي أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَشْعُرُونَ بِقُبْحِهَا. (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَإِذَا فَعَلَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ، قَبِيحًا مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْفَاحِشَةُ، وَذَلِكَ تَعَرِّيهِمْ لِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَتَجَرُّدُهُمْ لَهُ فَعُذِلُوا عَلَى مَا أَتَوْا مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَعُوتِبُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَى مِثْلِ مَا نَفْعَلُ آبَاءَنَا فَنَحْنُ نَفْعَلُ مِثْلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِمْ وَاللهُ أَمَرَنَا بِهِ فَنَحْنُ نَتَّبِعُ أَمْرَهُ فِيهِ اهـ. وَالْفَاحِشَةُ: كُلُّ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَفَسَّرَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ هُنَا بِطَوَافِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانُوا يَعْذِلُونَهُمْ وَيُقَبِّحُونَ فِعْلَتَهُمْ هَذِهِ كَانُوا يُجِيبُونَ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَمِمَّا رَوَاهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: نَطُوفُ كَمَا وَلَدَتْنَا أُمَّهَاتُنَا، فَتَضَعُ الْمَرْأَةُ عَلَى قُبُلِهَا النِّسْعَةَ (أَيِ الْقِطْعَةَ مِنْ سُيُورِ الْجِلْدِ) أَوِ الشَّيْءَ فَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْفَاحِشَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ شُبْهَتِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ بِبَيْتِ رَبِّهِمْ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ بِهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. فَأَمَّا اعْتِذَارُهُمْ بِالتَّقْلِيدِ فَقَدْ رَدَّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَالَ مُفَسِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُجِبْ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَهِيَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ حَاصِلٌ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَلَوْ كَانَ حَقًّا لَزِمَ الْقَوْلُ بِحَقِّيَّةِ الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. فَلَمَّا كَانَ

فَسَادُ هَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرًا لَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى الْجَوَابَ عَنْهُ، هَذَا تَقْرِيرُ الرَّازِيِّ، وَقَوْلُهُ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنُهُ حُجَّةً دَاحِضَةً فِي نَظَرِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ زَعْمَهُ أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِعَدَمِ الرَّدِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَقَدْ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (2: 170) وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّدِّ الصَّحِيحِ هُنَا بِرَدِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْمُتَضَمِّنُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِتِلْكَ الْفَحْشَاءِ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْحَضَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا الْقَوْلُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ مِنْ طَرِيقَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا خِلَافَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ أَيْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْفَحْشَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهَا هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ النَّقَائِصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (2: 268) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ مَنْ تَوَسَّعُوا فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ بِوَحْيٍ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولٍ مِنْ عِنْدِهِ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى لَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَالِاسْتِفَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ بِاتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ فِي آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ. وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ النَّقْلِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَالنَّفْيِ، تَوَجَّهَتِ الْأَنْفُسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ فَبَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ. قَائِلًا لِرَسُولِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أَيِ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْوَسَطُ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا نَظِيفًا لَائِقًا بِحَالِ لَابِسِهِ فِي النَّاسِ، لَا ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي تَفْرِيطِ التَّبَذُّلِ، وَلَا فِي إِفْرَاطِ التَّطَرُّسِ. وَسَيَأْتِي الْأَمْرُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْعِبَادَةِ وَلُبَابِهَا، الدَّالُّ عَلَى جَهْلِهِمْ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فَأَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - أَوْ وَقُلْ لَهُمْ: أَقِيمُوا إِلَخْ. إِقَامَةُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَتَوْفِيَتُهُ شُرُوطَهُ كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ.

وَالْوَجْهُ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا 30: 30) مِنَ الثَّانِي. وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ وَصِحَّةُ الْقَصْدِ؛ فَإِنَّ الْوَجْهَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ، وَمَا هُنَا مِنَ الثَّانِي وَإِنْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرُهُ بِالْأَوَّلِ أَيْضًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أَيْنَمَا كَانَ. وَالْمَعْنَى أَعْطُوا تَوَجُّهَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَصَرْفِ الشَّوَاغِلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِبَادَةُ طَوَافًا أَوْ صَلَاةً أَوْ ذِكْرًا أَوْ فِكْرًا - وَادْعُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، بِأَلَّا تَشُوبُوا دُعَاءَكُمْ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِبَادَتِكُمْ لَهُ بِأَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا إِلَى مَا وُضِعَ لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - وَلَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَحُبُّ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى عِبَادَتِكُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْكُمْ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِكُمْ فِيهَا. وَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ زَاعِمِينَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ وَيُقِيمَ وَجْهَهُ لَهُ حَنِيفًا، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الطَّاهِرِينَ الْمُكَرَّمِينَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَهُ وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَذَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ، وَشُبْهَتُهُمْ فِيهِ كَشُبْهَتِهِمْ فِي عَدَمِ الطَّوَافِ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ فِيهَا، وَجَعْلُهُمْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الدِّينِ وَنِسْبَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ وَقَوْلٌ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَوْحَى إِلَيْهِمْ مَا نَطَقَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِالْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، وَالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ - كَمَا أَمَرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَجَعَلَ الظَّاهِرَ عُنْوَانًا لِلْبَاطِنِ فِي طَهَارَتِهِ وَحُسْنِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَحَرِّي الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ. (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) هَذَا تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي إِثْرِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ وَمَنَاطِ الْأَمْرِ فِيهِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ أَصْلِ تَكْوِينِ الْبَشَرِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا لِلشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَعَدَمِ سُلْطَانِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، فَإِنَّهَا دَعْوَى مُتَضَمِّنَةٌ لِلدَّلِيلِ بِتَشْبِيهِ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ فَهُوَ يَقُولُ: كَمَا بَدَأَكُمْ رَبُّكُمْ خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِقُدْرَتِهِ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - حَالَةَ كَوْنِكُمْ فَرِيقَيْنِ - فَرِيقًا هَدَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، فَاهْتَدَوْا بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِقَامَةِ وُجُوهِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَدُعَائِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا - وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ لِاتِّبَاعِهِمْ إِغْوَاءَ الشَّيْطَانِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ:

ثَبَتَتْ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهَا الْكَسْبِيَّةِ، لَا أَنَّهَا جُعِلَتْ غَرِيزَةً لَهُمْ فَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى هَذَا تَعْلِيلُهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَادَ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ خِطَابِ الْمُحْتَجِّينَ مِنْهُمْ بِمَا يُبْطِلُ حُجَّتَهُمُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمْ - وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِيِّ وَالْعُدْوَانِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فِيمَا تُلَقِّنُهُمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى زُلْفَى، وَجَعْلِ الرَّبِّ تَعَالَى كَالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ، لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ. كَالْمَلِكِ الْجَاهِلِ مَعَ وُزَرَائِهِ وَحُجَّابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ شُبْهَتِهِمْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً، وَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ. وَأَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْبَشَرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَقَلُّ الْكُفَّارِ الْجَاحِدُونَ لِلْحَقِّ كِبْرًا وَعِنَادًا كَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ فِي عُصُورِهِمْ، وَحَاسِدِيهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَكَرَّمَهُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَاسْتَكْبَرَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) وَمِنْهُمْ كُبَرَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (6: 33) وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَضَالُّونَ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، أَوْ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (18: 103، 104) وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ عُذْرًا مَقْبُولًا لَكَانَ أَكْثَرُ كُفَّارِ الْأَرْضِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ مَعْذُورِينَ نَاجِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَدْ أَضَلَّ الْأُلُوفَ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ " فَتَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاتَّبَعُوا الْبِدَعَ الْمُسْتَحْدَثَةَ، فَإِذَا دَعَوْا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ قَالُوا: قَالَ الشَّيْخُ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ فُلَانٌ، وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَهْدَى مِنَّا بِالسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا

أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانُ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِّ لِيَتْبَعَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْحَثْ. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ فَاتَّبَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ طَاقَتُهُ وَكَانَ مُخَالِفًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَدْخُلُ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (2: 286) . وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِي حُجِّيَّةِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ كَوْنَهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْحُجَّةِ يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَلَغَهُ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ تَدْعُو إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَاتِّقَاءِ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِهَا، وَمَا أَجْهَلَهُمْ بِحَالِ الْعَصْرِ وَأَهْلِهِ وَبِالدَّعْوَةِ وَأَدِلَّتِهَا، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا مُنْذُ قُرُونٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَهِلُوهَا. قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ التَّعْلِيلِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ " بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا " وَالْأَوَّلُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى، شَامِلٌ لِلْمُعَانِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَالثَّانِي مُخْتَصٌّ بِالثَّانِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمُقَصِّرِ فِي النَّظَرِ وَالْبَاذِلُ غَايَةَ الْوُسْعِ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ الذَّمِّ عَلَى الْأَخِيرِ وَخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَمَذْهَبُ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَمْ يُدْرِكْ بِهِ الْحَقَّ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَدَعْ فِي الْقَوْسِ مَنْزَعًا فِي طَلَبِهِ، فَحَيْثُ يُعْذَرُ الْأَوَّلُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، يُعْذَرُ

31

الثَّانِي لِذَلِكَ. وَلَا يَرَوْنَ مُجَرَّدَ الْمَالِكِيَّةِ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ حُجَّةً. وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْتِزَامُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ مُعَانِدٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَظُهُورِ أَمْرِ الْحَقِّ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ - وَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الْيَوْمَ كَافِرٌ مُسْتَدِلٌّ - مِمَّا لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مُسْلِمٌ مُعَانِدٌ، أَوْ مُسْتَدِلٌّ بِمَا هُوَ أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. وَإِنَّهُ لَأَوْهَنُ الْبُيُوتِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَانِدُ وَمِنَ الْمَعْطُوفِ الْمُخْطِئُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَا اهـ. هَذَا وَإِنَّ الْمَعْذُورَ فِي الْخَطَأِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ كَالْمُصِيبِ، وَإِنَّ الَّذِي يَتَحَرَّى الْحَقَّ الْمَرْضِيَّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى الْمُنَجِّيَ فِي الْآخِرَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ بِإِخْلَاصِهِ فِي النَّظَرِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَمَعْرِفَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ إِذْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ فِي نَظَرِهِ عَلَى هَوًى. وَيَتَفَاوَتُ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ الْمُخْطِئُونَ بِتَفَاوُتِ حُظُوظِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَاجْتِنَابِ ضِدِّهِ، إِذْ بِذَلِكَ تَتَزَكَّى الْأَنْفُسُ، وَالْمَدَارُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَا هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا هُنَا. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا وَمُخْرِجُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةً وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ ... كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أَحِلُّهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَلْقَتْ ثِيَابَهَا فَطَافَتْ وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى قُبُلِهَا وَقَالَتْ: (الْبَيْتَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

32

إِلَى قَوْلِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِاللَّيْلِ عُرَاةً وَأَكْثَرُهَا مُطْلَقَةٌ. وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا حَجُّوا فَنَزَلُوا فِي أَدْنَى الْحِلِّ نَزَعُوا ثِيَابَهُمْ وَوَضَعُوا رِدَاءَهُمْ وَدَخَلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ رِدَاءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنَ الْحُمْسِ فَيُعِيرُهُ ثَوْبَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلُونَ، فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ يُضْرَبُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ قَتَادَةَ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ فِي الطَّوَافِ إِلَّا الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَيِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ: يَطُوفُونَ بِثِيَابِهِمْ - وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الِانْفِرَادِ بِهِ - وَيَأْتُونَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ لَا مِنْ بَابِهِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (2: 189) وَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (جَبَلُ قُزَحٍ) بِمُزْدَلِفَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَيُعَلِّلُونَ هَذَا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَعَرَفَةُ خَارِجُ حَدِّ الْحَرَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَلَمَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْفِرُ الْحَجَّاجُ مِنْ بَيْنِهِمَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَوْقِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عَرَفَةَ فَيَقِفُونَ فِيهَا فَخَابَ ظَنُّهُمْ، وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِيَازَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَبَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فِي " مِنًى " يَسْتَظِلُّ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ لَمَّا أَرَادُوا عَمَلَهُ لَهُ. وَقَالَ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا فِي نُزُولِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ اللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ مُبْطِلَةً لِتِلْكَ الضَّلَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَاحِشَةِ، وَمُقَرِّرَةً لِوُجُوبِ اتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ لِلسَّتْرِ وَلِزِينَةِ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قُلْنَا فِي مِثْلِهِ قَبْلَهُ وَنَزِيدُ أَنَّهُ يَشْمَلُ النِّسَاءَ بِالتَّبَعِ لِلرِّجَالِ شَرْعًا لَا لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَسَنَعُودُ إِلَى

هَذَا فِي تَفْسِيرِ آخِرِهَا، وَالزِّينَةُ: مَا يُزَيِّنُ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، فَهِيَ اسْمٌ مِنْ زَانَهُ يَزِينُهُ زَيْنًا، ضِدُّ شَانَهُ - أَيْ عَابَهُ - يَشِينُهُ شَيْنًا. وَأَخْذُهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّزَيُّنِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِأَخْذِ مَا يُزَيَّنُ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الثِّيَابُ الْحَسَنَةُ الْمُعْتَادَةُ، بِدَلِيلِ الْقَرِينَةِ وَالْإِضَافَةِ وَسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ - وَإِلَّا فَأَنْوَاعُ الزِّينَةِ فِي الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ - وَمِنْهَا الْمَالُ وَالْبَنُونُ - فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ الَّتِي يَتَحَبَّبْنَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ شَاغِلَةً عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأَقَلُّ هَذِهِ الزِّينَةِ مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ أَقْبَحَ مَا يَشِينُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَقَدِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا لِأَجْلِ جَعْلِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِصِحَّةِ الصَّلَاة ِ وَالطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّجَمُّلِ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ اللَّائِقِ عِنْدَ الصَّلَاةِ - وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَفِي الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزِّينَةِ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ النَّاسِ فِي تَزَيُّنِهِمُ الْمُعْتَدِلِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْمَلِ حَالَةٍ لَائِقَةٍ بِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا وَلَا إِسْرَافَ، فَمَنْ قَدَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ عَلَى عِمَامَةٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ، لَا يَكُونُ مُتَمَثِّلًا لِلْأَمْرِ بِالزِّينَةِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى إِزَارٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فَقَطْ (وَهِيَ عِنْدُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ السَّوْءَتَانِ فَقَطْ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) لِلرَّجُلِ وَمَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ بَيَانِ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ لَا شَرْطَ لِصِحَّتِهَا. وَإِنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، حَتَّى جُعِلَتِ النِّعَالُ مِنَ الزِّينَةِ وَهِيَ كَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكَهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّهُمْ يَفْرِشُونَهَا كَمَا يَفْرِشُونَ بُيُوتَهُمْ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالْبُسُطِ وَالطَّنَافِسِ. أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ (أَيْ أَرَادَ الصَّلَاةَ) فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ فِي صِلَاتِهِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ " وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي لِحَافٍ (ثَوْبٌ يُلْتَحَفُ بِهِ) وَاحِدٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ - قَالُوا: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبِسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا " وَأَخْرَجَ

الْعُقَيْلِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللهِ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قَالَ: " صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ " وَفِي مَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِضْعَةُ أَحَادِيثَ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ يُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: " أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ. ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللهُ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، وَذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَا فَقَالَ أُبَيٌّ: الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَفِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ - فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَأْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ - أَيْ لَمْ يُقَصِّرْ - وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ لَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ فَأَتَجَمَّلُ لِرَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) . وَالْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا مَا حَقَّقَهُ وَفَصَّلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ كَالنَّفَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (65: 7) فَمَنْ عِنْدَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلْيَسْتُرْ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَيُصَلِّ بِهِ - فَإِنْ لَمْ يَسْتُرْ إِلَّا الْعَوْرَةَ كُلَّهَا أَوِ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ - وَهِيَ السَّوْءَتَانِ - فَلْيَسْتُرْ بِهِ مَا يَسْتُرُهُ، وَمَنْ وَجَدَ ثَوْبَيْنِ مَهْمَا يَكُنْ نَوَعُهُمَا أَوْ أَكْثَرَ فَلْيُصَلِّ بِهِمَا، وَالْخُلَاصَةُ أَنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوْسَطِ حَالٍ حَسَنَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقْدُ الرَّجُلِ لِلثِّيَابِ اللَّائِقَةِ بِهِ بَيْنَ أَمْثَالِهِ حَتَّى الْعِمَامَةِ لِلْعَالِمِ. هَذَا الْأَمْرُ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - لَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُعْرَفُ بَعْضُ قِيمَتِهِ مِمَّا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُتَوَحِّشِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي الْحَرَجَاتِ وَالْغَابَاتِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ يَأْوُونَ إِلَى الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَالْقَبَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْوَثَنِيَّةِ

فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ وَجِبَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، كُلُّهُمْ يَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ نِسَاءً وَرِجَالًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَا وَصَلَ إِلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَعَلَّمَهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ بِإِيجَابِهِ لِلسَّتْرِ وَلِلزِّينَةِ إِيجَابًا شَرْعِيًّا، وَلَمَّا أَسْرَفَ بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْأُورُبِّيِّينَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ لِتَنْفِيرِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَحْوِيلِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَلِتَحْرِيضِ أُورُبَّةَ عَلَيْهِمْ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ فِي رَدِّهِ أَنَّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْهُ عَلَى أُورُبَّةَ بِنَشْرِهِ لِلْمَدَنِيَّةِ فِي أَهْلِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْعُرْيِ وَإِيجَابِهِ لُبْسَ الثِّيَابِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِرَوَاجِ تِجَارَةِ النَّسِيجِ الْأُورُبِّيَّةِ فِيهِمْ. بَلْ أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ كَانَ يَغْلِبُ فِيهَا مَعِيشَةُ الْعُرْيِ، حَتَّى إِذَا مَا اهْتَدَى بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ صَارُوا يَلْبَسُونَ وَيَتَجَمَّلُونَ ثُمَّ صَارُوا يَصْنَعُونَ الثِّيَابَ، وَقَلَّدَهُمْ جِيرَانُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْضَ التَّقْلِيدِ، وَهَذِهِ بِلَادُ الْهِنْدِ عَلَى ارْتِقَاءِ حَضَارَةِ الْوَثَنِيِّينَ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا يَزَالُ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ عُرَاةً أَوْ أَنْصَافَ أَوْ أَرْبَاعَ عُرَاةٍ، فَتَرَى بَعْضَ رِجَالِهِمْ فِي مَعَاهِدِ تِجَارَتِهِمْ وَصِنَاعَتِهِمْ بَيْنَ عَارٍ لَا يَسْتُرُ إِلَّا السَّوْءَتَيْنِ - وَيُسَمُّونَهُمَا " سَبِيلَيْنِ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ - أَوْ سَاتِرٍ لِنِصْفِهِ الْأَسْفَلِ فَقَطْ، وَامْرَأَةٍ مَكْشُوفَةِ الْبَطْنِ وَالْفَخِذَيْنِ أَوِ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنَ الْجِسْمِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَقَدِ اعْتَرَفَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ وَالْأَكْلَ فِي الْأَوَانِي. وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ فُقَرَائِهِمْ يَضَعُونَ طَعَامَهُمْ عَلَى وَرَقِ الشَّجَرِ وَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ سَتْرًا وَزِينَةً لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حُكَّامَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ مِنْ أَرْقَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَأْثِيرًا فِي وَثَنِيِّ بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْجَهْلُ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اللِّبَاسِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ نِسَاءُ مُسْلِمِي (سيام) اللَّاتِي لَا يَرَيْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَوْرَةً سِوَى السَّوْءَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَحَيْثُ يَقْوَى الْإِسْلَامُ يَكُونُ السَّتْرُ وَالزِّينَةُ اللَّائِقَةُ بِكَرَامَةِ الْبَشَرِ وَرُقِيِّهِمْ. فَمِنْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا عَرِفَ قِيمَةَ هَذَا الْأَصْلِ الْإِصْلَاحِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الدِّينُ الْمَدَنِيُّ الْأَعْلَى أَخْذَ الزِّينَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ - يَعْنِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ - لَمَا نَقَلَ أُمَمًا وَشُعُوبًا كَثِيرَةً مِنَ الْوَحْشِيَّةِ الْفَاحِشَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا الْفَضْلَ لَهُ مَنْ يَجْهَلُ التَّارِيخَ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهِلْهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي مُتَحَذْلِقَةِ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ فِي مَلْهًى أَوْ مَقْهًى أَوْ حَانَةٍ مُتَّكِئًا مُمِيلًا طَرْبُوشَهُ عَلَى رَأْسِهِ يَقُولُ: مَا مَعْنَى جَعْلِ أَخْذِ زِينَةِ النَّاسِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى وَحْيٍ إِلَهِيٍّ وَلَا شَرْعٍ دِينِيٍّ؟ وَقَدْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ إِرْشَادٌ عَالٍ أَيْضًا فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا عَصْرٍ مِنْ

الْأَعْصَارِ، وَكُلُّ مَا بَلَغُوهُ مِنْ سِعَةِ الْعِلْمِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ يُغْنِي الْمُهْتَدِي بِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ مُعْظَمِ وَصَايَا الطِّبِّ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ - وَالْمَعْنَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ النَّافِعَةِ الْمُسْتَلِذَّاتِ (وَلَا تُسْرِفُوا) فِيهَا وَلَا تَعْتَدُوا بَلِ الْزَمُوا الِاعْتِدَالَ (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْفَعَتِكُمْ، لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْإِسْرَافِ بِقَدْرِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، فَالنَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ حَذْفُ الْمَعْمُولِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُسْرِفُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ جِنْسَ الْمُسْرِفِينَ - أَيْ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ سُنَنَهُ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَشَرِيعَتَهُ فِي هِدَايَتِهِمْ، بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ضَرَرِ أَبْدَانِهِمْ، وَضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَضَارِّ الْإِسْرَافِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَفِي مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ إِذَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. وَالْمَخِيلَةُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ) الْخُيَلَاءُ وَالْإِعْجَابُ وَالْكِبْرُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ " وَلَا تُسْرِفُوا " قَالَ: فِي الثِّيَابِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مِنَ السَّرَفِ أَنْ يَكْتَسِيَ الْإِنْسَانُ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قَالَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَفِي أُخْرَى قَالَ: أَحَلَّ اللهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً. . وَلَمْ يَذْكُرِ اللِّبَاسَ وَالْمَخِيلَةَ تَظْهَرُ فِيهِ وَلَا تَظْهَرُ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنَّمَا قَدْ تَظْهَرُ فِي أَوَانِيهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَالْأَصْلُ فِي الْإِسْرَافِ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْحُدُودُ مِنْهَا طَبِيعِيٌّ كَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالظَّمَأِ وَالرَّيِّ، فَلَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِذَا أَحَسَّ بِالْجُوعِ وَمَتَى شَعَرَ بِالشِّبَعِ كَفَّ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلِذُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِالظَّمَأِ وَاكْتَفَى بِمَا يُزِيلُهُ رَيًّا فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لِاسْتِلْذَاذِ بَرْدِ الشَّرَابِ أَوْ حَلَاوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا فِي أَكْلِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ نَافِعًا لَهُ - وَمِنْهَا اقْتِصَادِيٌّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْتَغْرِقُ كَسْبَهُ، فَمَنْ نَفَيْنَا عَنْهُ الْإِسْرَافَ الطَّبِيعِيَّ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، قَدْ يَكُونُ مُسْرِفًا فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ نَوْعُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ مِمَّا لَا يَفِي دَخْلَهُ بِمِثْلِهِ - وَمِنْهَا عَقْلِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ، وَمِنْهَا عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَمِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمِنَ الشَّرَابِ الْخَمْرَ وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ مِنْهُمَا كَالسُّمُومِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ الْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ أَيِ الْخَالِصَ وَكَذَا الْغَالِبَ - عَلَى

الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ - فَهَذِهِ أَشْيَاءٌ مُحَرَّمَةٌ بِأَعْيَانِهَا، فَلَا تُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. وَحَرَّمَ مِمَّا يُلَابِسُهَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهَذَا وَمَا قَبِلَهُ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُ مِنَ السَّرَفِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى أَيْضًا عَنْ لِبَاسِ الشُّهْرَةِ وَعَنْ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِهِمْ. وَاعْتَبَرَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (65: 7) الْآيَةَ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْغَنِيِّ لِزَوْجَتِهِ الْغَنِيَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ غِذَاءٍ وَلِبَاسٍ، وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَتَحْدِيدُهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ عُرْفُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْهُمُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي طَاقَتِهِمْ - وَمَنْ تَجَاوَزَ طَاقَتَهُ مُبَارَاةً لِمَنْ هُمْ فِي الثَّرْوَةِ مِثْلُهُ مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَوْ لِمَنْ هُمْ أَغْنَى مِنْهُ وَأَقْدَرُ كَانَ مُسْرِفًا، وَكَمْ خَرَّبَتْ هَذِهِ الْمُبَارَاةُ وَالْمُنَافَسَةُ مِنْ بُيُوتٍ كَانَتْ عَامِرَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتُّبِعَتْ فِيهَا أَهْوَاءُ النِّسَاءِ فِي التَّنَافُسِ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَالْمُهُورِ وَتَجْهِيزِ الْعَرَائِسِ وَاحْتِفَالَاتِ الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ الْوَلَائِمِ وَالْوَضَائِمِ وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ تَلْبَسَ الْغِلَالَةَ أَوِ الْحُلَّةَ فِي زِيَارَتِهَا لِأَمْثَالِهَا مَرَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ زِيَارَةٍ مِنْ حُلَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا سَرَفٌ كَبِيرٌ وَضَرَرُهُ عَلَى الْأُمَّةِ أَكْبَرٌ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي تَأْتِي بِكُلِّ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْبِلَادِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَتَذْهَبُ ثَرْوَتُهَا إِلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى اسْتِذْلَالِهِمْ وَسَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ. وَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ فِي التَّقَشُّفِ: فَإِنَّ هَذَا الْهَدْيَ الْقُرْآنِيَّ هُوَ أَصْلُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ فَلَهُ سَبَبٌ يَعْرِفُهُ الْوَاقِفُ عَلَى جُمْلَةِ سِيرَتِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ إِلَى تِلْكَ السَّعَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا. عَلَى أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّقَشُّفِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ تَدَيُّنًا مَعْهُودٌ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ كَضِدِّهِ، وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَصْدُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ الشَّرْعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ مِنَ الْإِسْرَافِ ضَعِيفٌ وَمُعَارَضٌ بِالصِّحَاحِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ " إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَ " ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا

تَقُودُهُ إِلَى الْإِسْرَافِ وَإِلَى شُرُورٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ مَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْغُلُوِّ وَشَرَعُوا فِيهِ بِتَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ وَغَشَيَانِ النِّسَاءِ حَتَّى اسْتَأْذَنَ بَعْضُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِصَاءِ فَأَدَّبَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ تَفْصِيلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (5: 87) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ وَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ مَا عَنَى بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ بِنَقْلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الزُّهْدِ فِي الطَّعَامِ كَالْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ فَأَكْثَرُهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَوْضُوعُ وَالضَّعِيفُ وَأَقَلُّهُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ مِنْ خَشِنٍ وَمُسْتَلَذٍّ، لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسَرِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلِلْمُوسَرِينَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِهِ، وَقَدْ أُيْسِرُوا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ اللَّحْمُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِالطَّعَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمَاءِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَشْرَبُ إِلَّا النَّظِيفَ الْعَذْبَ، وَيُحِبُّ الْبَارِدَ الْحُلْوَ، حَتَّى كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَكَانَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ يَلْبَسُ مَا كَانَ يَلْبَسُ قَوْمُهُ. وَلَبِسَ مِنْ خَشِنِ اللِّبَاسِ وَمَنْ أَجْوَدِ أَنْوَاعِهِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ - فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ، الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ النَّافِعَةِ بُخْلًا وَشُحًّا أَوْ يُحَرِّمُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمًا دَائِمًا أَوْ فِي أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِضْعَافِ الْجِسْمِ - وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَمَا تَتَمَتَّعُ الْأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا فِي تَمَتُّعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَقِفُ عِنْدَ حَاجَةِ فِطْرَتِهَا دُونَهُمْ فَلَا تَعْدُوا فِيهَا دَاعِيَةَ غَرِيزَتِهَا الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا حَيَاتَهَا الْفَرْدِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا الْمُتْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوَابِلِ وَالْمُحَرِّضَاتِ لِلشَّهْوَةِ فَيُصَابُونَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِتَمَدُّدِ الْمَعِدَةِ، وَسُوءِ الْهَضْمِ وَفَسَادِ الْأَمْعَاءِ مِنَ التُّخْمَةِ، وَكَثْرَةِ الْفَضَلَاتِ فِي الْجِسْمِ الَّتِي تُحْدِثُ تَصَلُّبَ الشَّرَايِينِ الْمُعَجِّلَ بِالْهَرَمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي شَهْوَةِ دَاعِيَةِ النَّسْلِ الَّتِي بَيَّنَّا ضَرَرَ الِانْهِمَاكِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ سَتْرِ السَّوْءَتَيْنِ حَتَّى فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ لِأَجْلِ هَذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي زِينَةِ اللِّبَاسِ.

هَذَا وَإِنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ، فُرِّعَتْ مِنْهَا مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فَيَحْسُنُ الِاسْتِنَارَةُ بِهَا وَبِعِلْمِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ: وَاتِّبَاعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (4: 5) . (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) : حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ - يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ (2: 168) وَالْمَائِدَةِ (5: 90 - 91) . خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.

وَلَقَدْ كَانَتْ غَرِيزَةُ حُبِّ الزِّينَةِ وَغَرِيزَةُ حُبِّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ سَبَبًا لِتَوَسُّعِ الْبَشَرِ فِي أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَمَا يُرَقِّيهَا مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ وَإِظْهَارِ عَجَائِبِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْعَالَمِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْخَلْقِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّ مَا تَنْبُتُ لَهُ الْأَرْضُ مِنَ الْغِذَاءِ لِحِفْظِ حَيَاةِ أَفْرَادِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ النَّوْعِيَّةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، لَمَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ. وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ خَلْقِهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَكْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا إِلَّا بِدَافِعِ غَرِيزَةِ كَشْفِ الْمَجْهُولِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَمْنُوعِ؟ وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ حِرْمَانِهِمَا مِنَ الرَّاحَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي يَعِيشَانِ فِيهَا رَغَدًا بِغَيْرِ عَمَلٍ، إِلَّا لِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي جَعْلِ هَذَا النَّوْعِ عَالِمًا صِنَاعِيًّا تَدْفَعُهُ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَمَلِ وَيَدْفَعُهُ الْعَمَلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَيَدْفَعُهُ حُبُّ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ، وَيُثْمِرُ لَهُ التَّعَبُ الرَّاحَةَ؟ وَقَدْ عُرِفَ مِنِ اخْتِبَارِ قَبَائِلِ هَذَا النَّوْعِ وَشُعُوبِهِ فِي حَالَيْ بَدَاوَتِهِ وَحَضَارَتِهِ، أَنَّهُ يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ الزِّينَةِ فَوْقَ مَا يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ ضَرُورِيَّاتِ الْمَعِيشَةِ، وَكَثِيرًا مَا يُفَضِّلُهَا عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَالْمَرْءُ قَدْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لِيُوَفِّرَ لِنَفْسِهِ ثَمَنًا لِثَوْبٍ فَاخِرٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَجَامِعِ، وَمَاذَا تَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لِلزِّينَةِ مِنَ الرَّجُلِ، وَقَدْ تُؤْثِرُهَا عَلَى جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْأُخْرَى؟ وَإِنَّ تَوَسُّعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الَّتِي يُنَفِّسُونَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، هُوَ الَّذِي وَسَّعَ الطُّرُقَ لِاسْتِفَادَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ فَضْلِ أَمْوَالِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ الْغَوَّاصِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِحَارِ، وَعُمَّالَ الصِّيَاغَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالتَّطْرِيزِ وَالْبِنَاءِ وَالنَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ وَسَائِرِ الزِّينَاتِ، كُلَّهُمْ أَوْ جُلَّهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا يَعْمَلُونَ لَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ مَحْرُومُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ مَعِيشَةٍ وَزِينَةِ تَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا بِسَبَبِ تَنَافُسِ الْأَغْنِيَاءِ فِيهِ. فَحُبُّ الزِّينَةِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْعُمْرَانِ، وَإِظْهَارُ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَهِيَ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ فِي نَفْسِهَا، إِنَّمَا يُذَمُّ الْإِسْرَافُ فِيهَا وَالْغَفْلَةُ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا. وَمِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا جَعْلُهَا شَاغِلَةً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ سَائِرِ مَعَالِي الْأُمُورِ وَالْكِمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةٍ، دُنْيَوِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُخْرَوِيَّةً، وَمِنْهُ إِضَاعَةُ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ فِي التَّطَرُّزِ وَالتَّطَرُّسِ وَالتَّوَرُّنِ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ وَبَعْضُ الشُّبَّانِ، وَكَذَلِكَ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْمُومَةُ لَيْسَتْ لَوَازِمَ لِلزِّينَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ تَحْصُلُ بِحُصُولِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا، وَلَيْسَ الْحِرْمَانُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ عِلَّةً سَبَبِيَّةً وَلَا غَائِيَّةً لِلْقِيَامِ بِمَعَالِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا لِشُكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالرِّضَا عَنْهُ، وَلَا هُوَ أَعْوَنُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ يَقَعُ بِكُلٍّ مِنْ حُصُولِهِمَا وَالْحِرْمَانِ مِنْهُمَا، وَإِنَّ الْمَالِكَ لَهُمَا أَقْدَرُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَشُكْرِهِ وَتَزْكِيَةِ

نَفْسِهِ وَنَفْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْفَاقِدِ لَهُمَا. فَلَا وَجْهَ إِذًا لِتَحْرِيمِ الدِّينِ لَهُمَا، وَلَا لِجَعْلِهِ إِيَّاهُمَا عَائِقَيْنِ عَنِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ وَثَنِيُّوا الْبَرَاهِمَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَرَتْ عَدْوَاهُ التَّقْلِيدِيَّةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، وَسَرَتْ عَدْوَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا يَبُثُّونَ فِي الْأُمَّةِ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَرُوحَهُ وَسِرَّهُ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ. وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ. (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِأُمَّتِكَ: هِيَ - أَيِ الزِّينَةُ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ - ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِالتَّبَعِ لَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مِثْلَهُمْ. وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (فَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ " خَالِصَةٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ) - وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً مِنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ الْحَقَّ يُورِثُ أَهْلَهُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (2: 123، 124) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (72: 16) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانُوا أَحَقَّ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي تَرَقِّيهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ بِمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا أَحْكَمَ مِنْ صُنْعِهَا، وَعَلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِشُكْرِهِ عَلَيْهَا بِلِسَانِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ كُلَّمَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَيَزْدَادُ شُكْرًا لَهُ كُلَّمَا زَادَتْ نِعَمُهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَثَمَرَاتِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْنَا بِتَمْكِينِنَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَعَلَ لَنَا فِيهَا مِنَ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشُّكْرِ قَبُولَ النِّعْمَةِ وَاسْتِعْمَالَهَا فِيمَا وَهَبَهَا الْمُنْعِمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ شُكْرُ الْجَوَارِحِ وَلَا يَكْمُلُ شُكْرُ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَشُكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِلَّا بِشُكْرِ الْأَعْضَاءِ الْعَمَلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ " وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ جَعْلِ التَّنْظِيرِ فِيهِ بَيْنَ الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ وَالصَّائِمِ الصَّابِرِ دُونَ الْجَائِعِ

الصَّابِرِ، أَنَّ الْجُوعَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، وَلَكِنَّ الصِّيَامَ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ، فَهُوَ طَاعَةٌ كَالْأَكْلِ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشُّكْرِ. وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِدُونِ إِسْرَافٍ هُمَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ، وَلَهُمَا التَّأْثِيرُ الْعَظِيمُ فِي جَوْدَةِ النَّسْلِ الَّذِي تَكْثُرُ بِهِ الْأُمَّةُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُحْظِرُونَ الزَّوَاجَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَرْضَى وَيُعِدُّونَ زَوَاجَهُمْ خَطَرًا عَلَى صِحَّتِهِمْ، وَجِنَايَةً عَلَى نَسْلِهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسُوءِ حَالِ نَسْلِهَا وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، يَقْصِدُ بِحُسْنِ تَغْذِيَةِ بَدَنِهِ بِالطَّيِّبَاتِ كُلَّ مَا يَعْقِلُهُ مِنْ فَوَائِدِهَا، وَيَتَجَنَّبُ مَا نَهَى الله عَنْهُ مِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا وَمِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَتَكْثُرُ حَسَنَاتُهُ فِيهِ، فَلَا غَرْوَ إِذْ عُدَّ فِي أَكْلِهِ كَالصَّائِمِ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " أَيْ فِي الْمُلَامَسَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ كَثَوَابِ الصَّدَقَةِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ " - رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - وَالْكَافِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ فِي الْغَالِبِ إِلَّا التَّمَتُّعَ بِالشَّهْوَةِ غَيْرُ مُتَحَرٍّ لِلْحَلَالِ وَلَا لِحُسْنِ النِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ " الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ". وَاللِّبَاسُ الْجَيِّدُ النَّظِيفُ لَهُ فَوَائِدُ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ كَرَامَةِ الْمُتَجَمِّلِ بِهِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مِنْ وَرَاءِ الْأَعْيُنِ، وَفِيهِ إِظْهَارٌ لِنِعْمَةِ اللهِ بِهِ وَبِالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ فِي الْقُلُوبِ غَيْرُ شَأْنِ التَّجَمُّلِ فِي نَفْسِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُثَابُ بِنِيَّتِهِ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ مَحْمُودٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ: " أَلَكَ مَالٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ الْمَالِ " قَالَ: قَدْ آتَانِي اللهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ: " فَإِذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتُهُ " وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ أَتَيْتُ عَلِيًّا فَقَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا هَذِهِ الْحُلَّةِ؟ قُلْتُ مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: وَجَّهَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى ابْنِ الْكَوَّاءِ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَيَّ قَمِيصٌ رَقِيقٌ وَحُلَّةٌ، فَقَالُوا لِي: أَنْتَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَلْبَسُ مِثْلَ هَذِهِ الثَّيَابِ؟ قُلْتُ: أَوَّلُ مَا أُخَاصِمُكُمْ

بِهِ قَالَ اللهُ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وَ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَزِيدَ النَّوْفَلِيَّ كَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: مِنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَتَأْكُلُ الرُّقَاقَ وَتَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِكَ حَاجِبًا، وَقَدْ جَلَسْتَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ وَقَدْ ضُرِبَتْ إِلَيْكَ الْمَطِيُّ، وَارْتَحَلَ إِلَيْكَ النَّاسُ وَاتَّخَذُوكَ إِمَامًا وَرَضُوا بِقَوْلِكَ، فَاتَّقِ اللهَ تَعَالَى يَا مَالِكُ، وَعَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ، كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِالنَّصِيحَةِ مِنِّي كِتَابًا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ، سَلَامُ اللهِ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيَّ كِتَابُكَ فَوَقَعَ مِنِّي مَوْقِعَ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْأَدَبِ، أَمْتَعَكَ اللهُ بِالتَّقْوَى وَجَزَاكَ بِالنَّصِيحَةِ خَيْرًا. وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ لِي أَنِّي آكُلُ الرُّقَاقَ وَأَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَأَحْتَجِبُ وَأَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَلَا تَدَعُنَا مِنْ كِتَابِكَ فَلَسْنَا نَدَعُكَ مِنْ كِتَابِنَا وَالسَّلَامُ اهـ. إِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: أَنَّ تَرْكَ مَجْمُوعِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِمَنْ صَارَ يَقْتَدِي بِهِ مِثْلُهُ، أَوْ قَالَهُ تَوَاضُعًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْهُ. وَلَمْ يَكُنِ النَّوْفَلِيُّ مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ، بَلْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَانَ قَشَفُ بَعْضِ السَّلَفِ عَنْ قِلَّةِ، وَتَقَشَّفَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ الْقُدْوَةِ. وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْقَلْبِ، فَلَا يُنَافِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي الزِّينَةِ وَطَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا كَثْرَةِ الْمَالِ إِذَا أُنْفِقَ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَتَرْبِيَةِ الْعِيَالِ. وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الصُّوفِيَّةِ وَبَيَّنَهُ أَحَدُ أَرْكَانِ التَّحْقِيقِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُرِيدِيهِ شَكَوْا إِلَيْهِ إِقْبَالَ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَخْرِجُوهَا مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَى أَيْدِيكُمْ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّكُمْ. فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ هِيَ حَقُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَهُمْ بِالذَّاتِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَعْلَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا. وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ

عَلَيْهَا، ذَلِكَ الشُّكْرُ الَّذِي يَحْفَظُهَا لَهُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ فِيهَا بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَمِنْهُ تُفْهَمُ حِكْمَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أَيْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْعِلْمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا وَلَوْ بَعْدَ خِطَابِهِمْ بِهَا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لِحُكْمِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ أَفْرَادٌ وَأُمَمٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَشَرِ إِفْرَاطًا وَتَفْرِيطًا، لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَمَصَالِحَهُمْ وَطُرُقَ الْحَضَارَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَهَا تَعَالَى لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُوَافِقِ هَدْيُهَا لِفِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ فِي بَدَاوَتِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ وَإِفْرَاطِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ فِيهِمَا، قَبْلَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَعَادَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ خُلَاصَةُ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ، مَا كَانَ لِمِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهَا بِذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيُ اللهِ لَهُ. وَقَدْ قَصَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ قَدْ ذَكَرُوا مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَأْيِيدِهِمْ لِوُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ. فَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ بِكُلِّ الْعُلُومِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْهُمْ أَعْلَمُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ بِذَلِكَ. نَعَمْ هَكَذَا كَانَ، فَلَوْلَا الْقُرْآنُ لَمَا خَرَجَتِ الْعَرَبُ مِنْ ظُلُمَاتِ جَاهِلِيَّتِهَا وَبَدَاوَتِهَا وَوَثَنِيَّتِهَا إِلَى ذَلِكَ النُّورِ، الَّذِي صَلُحَتْ بِهِ وَأَصْلَحَتْ أُمَمًا كَثِيرَةً بِالدِّينِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْآدَابِ بِمَا أَحْيَتْ مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ وَفُنُونِهَا، وَأَصْلَحَتْ مِنْ فَاسِدِهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ تَعْرِيفُ الدِّينِ الْمَشْهُورِ بِأَنَّهُ: وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ نَجَاحُهُمْ فِي الْحَالِ، وَفَلَاحُهُمْ فِي الْمَآلِ. أَوْ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ الْكَثِيرُونَ عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الْحَضَارَةِ أَوْ يَجْهَلُوا أَنَّهُ الْقُرْآنُ. حَتَّى كَانَ الْجَهْلُ لِسَبَبِهَا سَبَبًا لِإِضَاعَتِهِ وَإِضَاعَتِهَا، وَأَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ وَأَفْقَرِهِمْ وَأَضْعَفِهِمْ، وَأَقَلِّهِمْ خِدْمَةً لِدِينِهِمْ - فَغَايَةُ دِينِهِمْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتُهَا وَسِيَادَتُهَا وَمُلْكُهَا، وَأَنْ يَكُونُوا فِيهَا شَاكِرِينَ لِلَّهِ عَلَيْهَا، قَائِمِينَ بِمَا يُرْضِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَكُلِّ مَا تَقْتَضِيهِ خِلَافَتُهُ فِي الْأَرْضِ وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ أَحَدُ حُكَمَاءِ دِينِهِمْ، ثُمَّ انْتَهَى هَذَا الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ سَبَبُ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلِهِمْ وَذَهَابِ مُلْكِهِمْ! وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ بُطْلَانَ هَذَا الْجَهْلِ الَّذِي قَلَبَ الْحَقِيقَةَ قَلْبًا وَحُجَّتُنَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارِيخُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَارِئِينَ قَلِيلُونَ، وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِنْهُمْ أَقَلُّ وَالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَنْدَرُ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.

33

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ التَّنْزِيلُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ تَحْرِيمَ زِينَةِ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ - قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا لِضَرَرٍ ثَابِتٍ لَازِمٍ لَهَا لَا لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَكُلُّهَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ لَا مِنْ مَوَاهِبِهِ وَنِعَمِهِ الْخَلْقَيْهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ دُونَ مَا هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ فَقَالَ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَكَذَبُوا عَلَى اللهِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ مَا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ نِعَمِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ وَكَذَا لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي فِي كُتُبِهِ، عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الضَّارَّةِ الَّتِي يَجْنُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَجَعَلَ تَحْرِيمَهَا هُوَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يُبَاحُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ بِـ (إِنَّمَا) وَهِيَ: 1، 2: الْفَوَاحِشُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ - فَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ الْفَعْلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ الَّتِي فَحُشَ قُبْحُهَا فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَكَانُوا يُطْلِقُونَهَا عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْبُخْلِ الشَّدِيدِ وَعَلَى الْقَذْفِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْبَذَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْقُبْحِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ فِي تَفْسِيرِ (6: 151) وَهِيَ مِنْ آيَاتِ الْوَصَايَا الْعَشْرِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ إِحَالَةٌ فِي تَفْسِيرِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ عَلَى تَفْسِيرِ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (6: 120) مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ. 3 و4: الْإِثْمُ وَالْبَغْيُ - تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِثْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَبِيحُ الضَّارُّ فَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي: الْكَبَائِرِ مِنْهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ. وَالصَّغَائِرِ كَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ لِغَيْرِ الْحَلِيلَةِ

وَهُوَ اللَّمَمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (53: 32) فَعَطَفَ الْفَوَاحِشَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لَا عَلَى الْإِثْمِ، فَعَطَفَ الْفَوَاحِشَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لَا عَلَى الْإِثْمِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْبَغْيِ عَلَى الْإِثْمِ هُنَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: طَلَبٌ لِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ أَوْ بِسَهْلٍ أَوْ مَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَقَالُوا: بَغَى الْجُرْحُ - إِذَا تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، أَوْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي فَسَادِهِ. وَمِنْهُ الْبَغْيُ فِي الْأَرْضِ الْوَارِدُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (10: 23) وَقَدْ صَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِالْفَسَادِ: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) (28: 77) وَإِذَا عُدِّيَ الْبَغْيُ بِـ " عَلَى " كَانَ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ وَمِنْهُ: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) (28: 76) (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) (38: 22) (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (49: 9) بَلْ ذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَغْيِ طَلَبُ تَجَاوُزِ الِاقْتِصَادِ فِي الْقَدْرِ أَوِ الْوَصْفِ سَوَاءً تَجَاوَزَهُ بِالْفِعْلِ أَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْعَدْلِ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَرْضِ إِلَى التَّطَوُّعِ. وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لَهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا وَفِي غَيْرِهِمَا يُؤَيِّدُ تَعْرِيفَنَا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ. كَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرَيْنِ: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) (55: 20) وَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) (18: 108) وَقَوْلِهِ: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) (3: 83) (أَفَحُكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (5: 50) (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) (6: 164) (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (9: 47) (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (7: 45) . وَمِنْهُ الْبِغَاءُ: وَهُوَ طَلَبُ النِّسَاءِ الْفَاحِشَةَ. وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَمِنْهُ: (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا) (7: 140) (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَابْغِنِي ضَالَّتِي - اطْلُبْهَا لِي، وَأَبْغِي ضَالَّتِي - أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهَا. قَالَ رُؤْبَةُ: " فَاذْكُرْ بِخَيْرٍ وَأَبْغِنِي مَا يُبْتَغَى " أَيِ اصْنَعْ بِي مَا يَجِبُ أَنْ يُصْنَعَ، وَخَرَجُوا بُغْيَانًا لِضَوَالِّهِمُ اهـ. وَكُلُّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِنَا. فَإِنَّ طَلَبَ الضَّالَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ حِيَازَةِ الْمَالِكِ طَلَبٌ لِمَا يَعْسُرُ، بَلْ نَاشِدُهَا يَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهُ بِالْفِعْلِ، وَرُؤْبَةُ يَطْلُبُ إِحْسَانًا وَكَرَامَةً لَيْسَتْ حَقًّا لَهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبَغْيَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْإِثْمُ الَّذِي فِيهِ تَجَاوُزٌ لِحُدُودِ الْحَقِّ، أَوِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَفْرَادِ النَّاسِ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ الْإِثْمُ بِالْعُدْوَانِ كَقَوْلِهِ: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2: 85) (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (5: 2) (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (5: 62) وَمِنْهُ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) (2: 173) أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ غَيْرَ طَالِبٍ لَهَا لِذَاتِهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ لِلْحَقِّ وَلَا عَادٍ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) . وَقَدْ قَيَّدَ الْبَغْيَ بِكَوْنِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِاسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ

الْمَعْرُوفَةِ أَوِ الْمَأْلُوفَةِ فِيمَا لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ، وَلَا هَضْمَ لِحُقُوقِ الْجَمَاعَاتِ وَلَا الْأَفْرَادِ، كَالْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا حُقُوقٌ، أَوِ الَّتِي تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ فِيهَا عَنْ بَعْضِ حُقُوقِهِمْ فَيَبْذُلُونَهَا عَنْ رِضًى وَارْتِيَاحٍ لِمَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ يَرْجُونَهَا بِبَذْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْدَ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنِ الْإِثْمَ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ، وَالْعُدْوَانُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْقَدْرِ وَالزِّيَادَةِ، فَهُوَ تَعَدِّي مَا أُبِيحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمُحَرَّمِ، كَالِاعْتِدَاءِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ عَمَّا لَهُ، وَبِإِتْلَافِ أَضْعَافِ مَا أُتْلِفَ عَلَيْهِ، أَوْ قَوْلِ أَضْعَافِ مَا قِيلَ فِيهِ. فَهَذَا كُلُّهُ تَعَدٍّ لِلْعَدْلِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا أُبِيحَ لَهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُ فَتَعَدَّاهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ إِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِجُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ فَتَنَاوَلَ الْكَأْسَ كُلَّهَا، أَوْ أُبِيحَ لَهُ نَظْرَةُ الْخِطْبَةِ وَالسَّوْمِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُدَاوَاةِ، فَأَطْلَقَ عِنَانَ طَرْفِهِ فِي مَيَادِينَ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ، وَأَسَامَ طَرْفَ نَاظِرِهِ فِي تِلْكَ الرِّيَاضِ وَالزُّهُورِ، فَتَعَدَّى الْمُبَاحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمَحْظُورِ، إِلَخْ مَا أَطَالَ بِهِ فِي وَصْفِ نَظَرِ الشَّهْوَةِ وَمَفَاسِدِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَغْيِ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا قُرِنَ بِالْعُدْوَانِ كَانَ الْبَغْيُ ظُلْمَهُمْ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ كَالسَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى وَالْعُدْوَانُ تَعَدِّيَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ اللهِ (قَالَ) فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: حَقُّ لِلَّهِ وَلَهُ حَدٌّ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ وَلَهُ حَدٌّ، فَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ تَجَاوُزُ الْحَدَّيْنِ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، أَوِ التَّقْصِيرُ عَنْهُمَا فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا اهـ. (5) : الشِّرْكُ بِاللهِ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا سُلْطَانٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا سُلْطَةً عَلَى الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) (6: 148) الْآيَةَ وَنَصٌّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ مُؤَيَّدٍ بِالْبُرْهَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) (23: 117) الْآيَةَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فِي دِينِهِ وَنَاطَ بِهِ تَصْدِيقَ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَرَدَّهَا، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْضُوعِهَا، حَتَّى كَأَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى الشِّرْكِ يُصَدَّقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ فَرْضِ الْمُحَالِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي فَضْلِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ عَلَى تَوْحِيدِهِ: (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (27: 64) عَلَى أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِمْ بُرْهَانٌ فِيمَا أَقَامَ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ الْبُرْهَانَ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَدَيْهِمْ مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، كَقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ

الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (10: 68) " إِنْ " هُنَا نَافِيَةٌ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَدْنَى دَلِيلٍ بِهَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مَعَ أَنَّ مَا تُبْطِلُ الْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ مِثْلَهُ يَحْتَاجُ مُدَّعِيهِ إِلَى أَقْوَى الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ وَأَعْظَمِهَا سُلْطَانًا عَلَى الْعُقُولِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ قَالَ: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا. 6: الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى فِي دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَمَنْشَأُ تَحْرِيفِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ، وَشُبْهَةُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ، النَّاسِخِ كِتَابُهُ الْمَعْصُومُ لِلْأَدْيَانِ الْمُبَدَّلَةِ، وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى الْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ، الْمُحَرَّرَةِ سُنَّةُ رَسُولِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُحْصَاةِ تَرَاجُمُ رُوَاتِهَا فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي أَهْلِهِ الِابْتِدَاعُ، وَتَتَعَارَضَ فِيهِ الْمَذَاهِبُ وَتَتَعَادَى الْأَشْيَاعُ، مَعَ نَهْيِ كِتَابِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَوَعِيدِهِ الْمُتَفَرِّقِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ النَّارِ، وَمَعَ بَيَانِهِ لِلْمَخْرَجِ مِنْ فِتْنَةِ التَّنَازُعِ، وَمُعَالَجَتِهِ لِأَدْوَاءِ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ. وَلَكِنَّهُمْ حَكَّمُوا الْأَهْوَاءَ حَتَّى فِي الْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ، فَاتَّبَعُوا كَمَا أَنْبَأَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (2: 213) . وَمِنْ غُمَّةِ الْجَهْلِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا، حَتَّى عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَرْوُونَ حَدِيثَ: " لَتَتْبَعُنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " مَنْ؟ ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: " شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا ". فَهُمْ يَقُولُونَ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي أَسْبَابِ هَذَا الِابْتِدَاعِ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي أَقْوَالِ مَنْ بَحَثَ فِيهَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَافِظِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ رَأْسَ الْبَلِيَّةِ فِي هَذَا الِابْتِدَاعِ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَبْتَدِعُ أَوْ يَتْبَعُ مُبْتَدِعًا فِي أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَدِلُّ عَلَى بِدْعَتِهِ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ مَبَادِئُ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، قُرُونِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ بِمَانِعٍ لَهَا إِذْ كَانَ مِنَ الْأَفْرَادِ، لَا مِنْ مَصْدَرِ الْقُوَّةِ وَالنِّظَامِ - الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ زَالَ الْعِلْمُ أَوْ كَادَ؛ إِذْ لَا عِلْمَ إِلَّا عِلْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَارَ مَحْصُورًا فِي أَفْرَادٍ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُمُ الْعَوَامُّ وَلَا يَتْبَعُهُمُ الْحُكَّامُ، ثُمَّ فَشَا النِّفَاقُ وَالدِّهَانُ. وَصَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ حِرْفَةً لِلْكَسَالَى وَالرُّذَّالِ.

رَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: " إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - إِذَا ظَهَرَ الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ، وَالْفُحْشُ فِي شِرَارِكُمْ، وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفِقَةُ فِي رُذَّالِكُمْ " أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ وَأَقَرَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ: فَسَادُ الدِّينِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ، اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَصَلَاحُ النَّاسِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ، تَابَعَهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ (قَالَ) وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّغَرِ فِي هَذَا صِغَرُ الْقَدْرِ لَا السِّنِّ اهـ. وَصَغِيرُ الْقَدْرِ هُوَ الْمَهِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَضِيلَةِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يُحْتَرَمُ بِهِ وَيُتَّخَذُ قُدْوَةً، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُسْتَرْزِقَةَ بِطَلَبِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْكَبِيرَ هُوَ الْكَبِيرُ بِعَقْلِهِ وَفَضْلِهِ، لَا بِنَسَبِهِ وَمَالِهِ. حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالرَّأْيُ وَالظَّنُّ لَيْسَ مِنَ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (53: 28) وَمَا شُرِعَ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِيهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَإِدَارِيَّةٍ، لَا فِي أُصُولِ دِينِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَا حُرِّمَ عَلَى عِبَادِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا، فَإِنَّ اللهَ أَكْمَلَ دِينَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ نَقْصًا يُكْمِلُهُ غَيْرُهُ بِظَنِّهِ وَرَأْيِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ أَنْ يُسْنِدَ رَأْيَهُ الِاجْتِهَادِيَّ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَيَقُولُ: هَذَا حُكْمُ اللهِ وَهَذَا دِينُهُ، بَلْ يَقُولُ: هَذَا مَبْلَغُ اجْتِهَادِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ فَإِنَّهُ يَجْتَنِبُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى عِبَادِ اللهِ شَيْئًا، أَوْ يُوجِبَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ نَصٍّ صَرِيحٍ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجْتَنِبُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ هَذَا مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ النُّصُوصِ، وَمَا أَكْثَرَ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذَا الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ تَهَجَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِيهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا لَهُ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ يَتَحَامَوْنَ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى حَتَّى فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ يَقْصِدُونَ بِالتَّوَسُّعِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ فَتْحَ أَبْوَابِ الْفَهْمِ لَا التَّشْرِيعِ الَّذِي أُلْصِقَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ أَكْرَهُ كَذَا - مِنْ بَابِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ - جَعَلَ أَتْبَاعُهُ

مِنْ بَعْدِهِ قَوْلَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَعَلُوا بَعْضَهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا خِطَابُ اللهِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا وَبَعْضَهَا لِلتَّنْزِيهِ، وَجَعَلُوا الِاقْتِضَاءَ فِيهَا غَيْرَ جَازِمٍ وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ فِي كِتَابِهِ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ هَذَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمَحْرَّمٌ تَحْرِيمُهُ عَارِضٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا أَحَقَّهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ. وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ. وَوَصْفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ. فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ. " وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا فِي مِثْلِهِ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشَدُّ. وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ فَقَالَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (16: 116) الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَلَّ اللهُ كَذَا وَحَرَّمَ اللهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي: التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ. " وَأَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ. فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ

34

بِلَا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزِلَةٍ مِنْهَا مُبَوَّأَةٍ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ كَصَرِيحِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا انْضَافَ إِلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُرْسِلِ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ صَرِيحٍ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ، وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟ فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا، إِلَّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَكَثْرَةِ إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ السُّنَّةَ بِالذَّاتِ تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ. وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا تَجْرِيدُ الْمُتَابَعَةِ، وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللهِ، بِالِاسْتِعَانَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَهَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ " وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ اهـ. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِمَّا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّالِثِ لِبَنِي آدَمَ، وَوَجْهُ وَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مَجَامِعَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَهِيَ أُصُولُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، فِي إِثْرِ إِبَاحَةِ أُصُولِ الْمَنَافِعِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ النَّافِعَةِ لَهُمْ، أَوْ إِيجَابِهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِسْرَافِ فِيهَا - وَسَبَقَ هَذِهِ وَتِلْكَ مَا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّانِي مِنْ بَيَانِ أَصْلِ الْأُصُولِ لِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَهُوَ الْقِسْطُ وَالْعَدْلُ فِي الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، وَعِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الدِّينِ وَعَقِيدَةِ الْبَعْثِ - وَلَمَّا وَصَلَ مَا هُنَالِكَ بِقَسْمِ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ

مُهْتَدِينَ وَضَالِّينَ - وَصَلَ مَا هُنَا بِبَيَانِ عَاقِبَةِ الْأُمَمِ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَوْ رَدِّهَا، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقَتِهَا بَعْدَ الْقَبُولِ أَوِ الزَّيْغِ عَنْهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَقُولِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) إِلَخْ دُونَ مَا حَرَّمْتُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ بِأَهْوَائِكُمْ وَجَهَالَاتِكُمْ - وَقُلْ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أَيْ أَمَدٌ مَضْرُوبٌ لِحَيَاتِهَا، مُقَدَّرٌ فِيمَا وَضَعَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مِنَ السُّنَنِ لِوُجُودِهَا، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَجَلُ مَنْ يَبْعَثُ اللهُ فِيهِمْ رُسُلًا لِهِدَايَتِهِمْ فَيَرُدُّونَ دَعْوَتَهُمْ كِبْرًا وَعِنَادًا فِي الْجُحُودِ، وَيَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ فَيُعْطَوْنَهَا مَعَ إِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَيُكَذِّبُونَ فَيَهْلَكُونَ، وَبِهَذَا هَلَكَ أَقْوَامُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ خَاصًّا بِأَقْوَامِ الرُّسُلِ أُولِي الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ لِأَقْوَامِهِمْ، وَقَدِ انْتَهَى بِبِعْثَةِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ) (21: 107) لَكِنَّ انْتِهَاءَهُ عِنْدَ اللهِ لَا يَمْنَعُ جَعْلَهُ إِنْذَارًا لِقَوْمِهِ خَاصَّةً بِهَلَاكِهِمْ إِنْ أُعْطَوْا مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِرْضَاءً لِعِنَادِهِمْ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُمْ إِيَّاهُ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأُمَمِ أَنَّ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَقْتَرِحُونَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَتَفْسِيرِهَا، وَهَذَا الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِحَيَاةِ الْأُمَمِ سَعِيدَةً عَزِيزَةً بِالِاسْتِقْلَالِ، الَّتِي تَنْتَهِي بِالشَّقَاءِ وَالْمَهَانَةِ أَوِ الِاسْتِعْبَادِ وَالِاسْتِذْلَالِ، إِنْ لَمْ تَنْتَهِ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ مَنُوطٌ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَالْعُمْرَانِ، وَأَسْبَابُهُ مَحْصُورَةٌ فِي مُخَالَفَةِ هَدْيِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، بِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ، وَبِاقْتِرَافِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، وَبِخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَبِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ بِإِرْهَاقِ الْأُمَّةِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، تَحَكُّمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (13: 11) . فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ السَّعِيدَةِ، ارْتَكَبَتْ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَالْمَفَاسِدَ الْمُبِيدَةَ، إِلَّا سَلَبَهَا اللهُ سَعَادَتَهَا وَعِزَّهَا، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا مَنِ اسْتَذَلَّهَا وَسَلَبَ مُلْكَهَا (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (11: 102) . وَأَمَامُنَا تَارِيخُ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ مُلْكُهُ كُلُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ بَعْضُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى رُشْدِهِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْهُ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ - وَإِنْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ وَسُنَنُهُ - لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَدِّدَهُ بِالسِّنِينَ وَالْأَيَّامِ، وَهُوَ مُحَدَّدٌ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) السَّاعَةُ: فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَالسَّاعَةُ الْفَلَكِيَّةُ اصْطِلَاحٌ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ 24 جُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُ كُلِّ أُمَّةٍ كَانَ عِقَابُهُمْ فِيهِ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ أَقَلَّ تَأَخُّرٍ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَجِيءْ، أَوْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَأْخِيرِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَقْدِيمِهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ " اسْتَقْدَمَ " وَرَدَ بِمَعْنَى قَدِمَ وَأَقْدَمَ وَتَقَدَّمَ كَمَا وَرَدَ " اسْتَجَابَ " بِمَعْنَى أَجَابَ، وَمِثْلُهُ " اسْتَأْخَرَ "، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كَوْنَ الْأَصْلِ فِي السِّينِ وَالتَّاءِ لِلطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةٍ لِلطَّلَبِ، وَالطَّلَبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ أَتَى سَبَبَ الشَّيْءِ كَانَ طَالِبًا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنِ اسْتِتْبَاعِهِ لَهُ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَرْتَكِبُ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ تَكُونُ طَالِبَةً لَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَابُدَّ أَنْ يَأْتِيَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّلَبَ هُوَ الَّذِي لَا يُرَدُّ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنَا أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تَمْلِكُ طَلَبَ تَأْخِيرِ الْهَلَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى إِرَادَتِهَا أَسْبَابُ الْهَلَاكِ، ذَلِكَ بِأَنْ تَتْرُكَ الْفَوَاحِشَ وَالْآثَامَ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ، وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِسْرَافَ فِي التَّرَفِ الْمُفْسِدِ لِلْأَخْلَاقِ، وَخُرَافَاتِ الشِّرْكِ الْمَفْسَدَةَ لِلْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ، وَكَذَا التَّكَالِيفَ التَّقْلِيدِيَّةَ بِتَكْثِيرِ مَا ابْتُدِعَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي لَمْ يُخَاطِبِ الرَّبُّ بِهَا الْعِبَادَ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الصَّلَاحَ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِالْجَزْمِ، وَغَيْرَ مَشْرُوطٍ بِهَذَا الشَّرْطِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (15: 4، 5) قُلْنَا: إِنَّ امْتِنَاعَ السَّبْقِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ طَلَبَهُ وَالسَّعْيَ لَهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِ مَقَادِيرِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يَتَغَيَّرُ، وَسُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّأْخِيرُ أَوْ طَلَبُهُ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَابِهِ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ بِالْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحُسْنِ، مِنْهَا مَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالتَّحْدِيدِ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِالتَّقْرِيبِ. كَقُوَّةِ الْحَرَارَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَجْسَامِ. وَقُوَّةِ الْمَوَادِّ الضَّاغِطَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الِانْفِجَارِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ. وَمِنْهَا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي يُمْسَكُ وَرَاءَ السُّدُودِ كَخَزَّانِ أَسْوَانَ. فَقُوَّةُ السَّدِّ وَمَقَادِيرُ الْمَاءِ وَقُوَّةُ ضَغْطِهِ مُقَدَّرَةً بِحِسَابٍ. وَكَذَا الْمَاءُ وَالْوَقُودُ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ مَرَاكِبُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَالْغَازُ الْمُحَرِّكُ لِلطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ فِي الْجَوِّ، يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مَسَافَةٍ مِنْهُ، وَالْجَزْمُ بِوُقُوفِ هَذِهِ الْمَرَاكِبِ بَعْدَ نَفَادِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ مُنَظَّمٍ بِعِلْمٍ صَحِيحٍ، يَأْتِي فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ ضَبْطُهُ وَتَحْدِيدُهُ بِقَدْرِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ، مِثْلِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَسُنَنِ الضَّغْطِ وَالْجَذْبِ، كَكَوْنِ جَاذِبِيَّةِ الثِّقْلِ عَلَى نِسْبَةِ

مُرَبَّعِ الْبُعْدِ. وَمِمَّا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالتَّقْرِيبِ، فَيُخْطِئُ فِيهِ الْمُقَدِّرُ وَيُصِيبُ، تَقْدِيرُ سَيْرِ الْأَمْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ كَالسُّلِّ الرِّئَوِيِّ، فَإِنَّ لَهُ دَرَجَاتٍ يُسْرِعُ قَطْعُ الْمَسْلُولِ لَهَا وَيُبْطِئُ بِقَدْرِ قُوَّةِ الْمَنَاعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ فِي جِسْمِهِ وَطُرُقِ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جَوْدَةِ الْهَوَاءِ وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ. وَكَمْ مِنْ مَرَضٍ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى إِمْكَانِ الشِّفَاءِ مِنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَعَهَا الْمُعَالَجَةُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ، كَالسَّرَطَانِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُ بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَيَتَعَذَّرُ فِي آخَرَ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ، قَدْ يَبْلُغُ فِيهَا الْفَسَادُ دَرَجَةً تَسْتَعْصِي فِيهَا مُعَالَجَتُهُ عَلَى أَطِبَّاءِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا تَنَبَّهَتْ قَبْلَ انْتِشَارِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَتَبْرِيحِهِ بِزُعَمَائِهَا وَدَهْمَائِهَا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ الْمُصْلِحِينَ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ مَنْ يُنْقِذُهَا فَيُرْشِدُهَا إِلَى تَغْيِيرِ مَا بِأَنْفُسِهَا مِنَ الْفَسَادِ فَيُغَيِّرُ اللهُ مَا بِهَا، وَهُوَ مِنِ اسْتِئْخَارِ الْهَلَاكِ أَوْ مَنْعِهِ عَنْهَا قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهَا. وَقَدْ سَبَقَ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ إِلَى الْكَلَامِ فِي آجَالِ الْأُمَمِ وَأَعْمَالِ الدُّوَلِ، وَبَيَانِ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْهَرَمِ، وَكَوْنِهِ إِذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ، فَأَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ وَأَخْطَأَ فِي بَعْضٍ، وَمِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ جَعْلُهُ عُمْرَ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَجْيَالٍ أَيْ 120 سَنَةً كَالْأَجَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَفْرَادِ عَلَى تَقْدِيرِ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي الْأَطِبَّاءِ. وَلَوْ قَالَ: عُمْرُ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ اللهِ. طُفُولِيَّةٌ، وَبُلُوغُ أَشُدِّ وَرُشْدٍ، وَشَيْخُوخَةٍ وَهَرَمٍ. وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِالسِّنِينَ لَسَدَّدَ وَقَارَبَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالِانْغِمَاسِ فِي حَمْأَةِ الرَّذَائِلِ وَالْفِسْقِ قَدْ بَلَغَ مِنْ أُمَمِ أُورُبَّةَ مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَمَا بَالَهَا تَزْدَادُ قُوَّةً وَعِزَّةً وَعَظَمَةً. حَتَّى صَارَتِ الْأُمَمُ الْمَغْلُوبَةُ عَلَى أَمْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَذِلَّةُ لَهَا، تَعْتَقِدُ أَنَّ تَقْلِيدَهَا فِي مَدَنِيَّتِهَا الْمَادِّيَّةِ وَحُرِّيَّةِ الْفِسْقِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ - إِلَّا تَعَدِّي الْفَرْدِ عَلَى حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ - هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهَا عَزِيزَةً سَعِيدَةً مِثْلَهَا. قُلْنَا: إِنَّ تَأْثِيرَ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَمِ يُشْبِهُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَفْرَادِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَمْزِجَةِ فِي احْتِمَالِ الْأَمْرَاضِ، وَاخْتِلَافِ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِلَاجِ، فَأَطِبَّاءُ الْأَبْدَانِ مُجْمِعُونَ عَلَى مَضَارِّ السُّكَّرِ الْكَثِيرَةِ وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِلْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْبَدَنِ الْقَوِيِّ دُونَ تَأْثِيرِهَا فِي الْبَدَنِ الضَّعِيفِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا يُبْطِئُ تَأْثِيرَ ضَرَرِهِ عَنْ تَأْثِيرِ الْكَثِيرِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا أَضَرُّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَطِبَّاءُ الِاجْتِمَاعِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْفِسْقِ وَالتَّرَفِ مُفْسِدٌ لِلْأُمَمِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْغُلُوَّ فِي الْمَطَامِعِ وَالْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنَازُعَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَلَكِنْ لَدَى هَذِهِ الدُّوَلِ كَثِيرًا مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، كَالْأَدْوِيَةِ وَطُرُقِ الْوِقَايَةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ

الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ، وَالرِّيَاضَةُ الشَّاقَّةُ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا إِضْعَافُ التَّرَفِ لِلْأَبْدَانِ. وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْقُوَى الْوَاقِيَةِ لِلْأُمَمِ النِّظَامُ وَمُرَاعَاةُ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى فِي نَفْسِ الظُّلْمِ، وَفِي إِخْفَائِهِ عَمَّنْ يَضُرُّ الظَّالِمِينَ عِلْمُهُمْ بِهِ وَلَوْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَإِتْقَانِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ فِي إِلْبَاسِ ظُلْمِهِمْ لِبَاسَ الْعَدْلِ، وَجَعْلِ بَاطِلِهِمْ عَيْنَ الْحَقِّ، وَإِبْرَازِ إِفْسَادِهِمْ فِي صُورَةِ الْإِصْلَاحِ، وَإِيجَادِ أَنْصَارٍ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظْلُومِينَ، بَلْ إِقْنَاعِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ، بِأَنَّ سِيَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ سِيَادَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ الْمِصْرِيِّ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الظُّلْمِ الْأَجْنَبِيِّ فِي مِصْرَ وَأَمْثَالِهَا. لَقَدْ كَانَ هَذَا الظُّلْمُ فَوْضَى فَهُذِّبَتْ ... حَوَاشِيهِ حَتَّى صَارَ ظُلْمًا مُنَظَّمَا وَقَدْ قُلْتُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَرَّةً: مَا بَالُ بَاطِلِ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فِي شُئُونِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ ثَابِتًا نَامِيًا لَا يَدْمَغُهُ الْحَقُّ؟ - أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ - فَقَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالتَّبَعِ لِلنِّظَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْحَقِّ، أَيْ فَهُوَ يَزُولُ إِذَا قُذِفَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مُؤَيَّدٍ بِنِظَامٍ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ لَهُ الْمُسْتَعْبِدُونَ لَهُمْ فِي الشَّرْقِ، مَعَ مُبَارَاتِهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ دُونَ التَّرَفِ وَالْفِسْقِ. بِيدَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَمْنَعُ انْتِقَامَ اللهِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْهُمْ، فَهُوَ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ اسْتِئْخَارِ الْعَذَابِ بِأَسْبَابِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ مَنْعِهِ. فَإِنَّمَا مَنْعُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَإِنَّ حُكَمَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمَنَارِ، وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَنَا فِي مَدِينَةِ (جِنِيفَ - سِوِيسْرَةَ) إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقَلَاءِ يَتَوَقَّعُونَ قُرْبَ هَلَاكِ أُورُبَّةَ فِي حَرْبٍ عَاجِلَةٍ شَرٍّ مِنَ الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي فَقَدَتْ بِهَا أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنْ قَتْلَى الْمَعَارِكِ، وَمِثْلَهُمْ مَا بَيْنَ قَتِيلِ مَرَضٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ، وَمُشَوَّهٍ أَضْحَى عَالَةً عَلَى الْوَطَنِ. وَإِنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ أَلَّا يَعْدُوَ هَلَاكُهَا هَذَا الْجِيلَ. وَمِنْهَا مَا قَالَهُ أَحَدُ ضُبَّاطِ الْإِنْكِلِيزِ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنْ حَدِيثٍ دَارَ بَيْنَهُمْ فِي عُمْرِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ الَّذِي ذَهَبَ بِإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِ، وَأَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ أَنَّهَا قَدْ تَعِيشُ ثَمَانِينَ عَامًا. وَقَدْ كُنْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ أَتَحَدَّثُ مَعَ بَعْضِ أَذْكِيَاءِ الْيَهُودِ فِي مَفَاسِدِ الْفَرَنْسِيسِ وَقِلَّةِ نَسْلِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّ أَجَلَهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ هَذَا الْجِيلَ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ جِيلَيْنِ اثْنَيْنِ. كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَإِنَّمَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوِ الْإِلْمَامِ بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ لَا فِي الْغَرْبِ وَلَا فِي الشَّرْقِ، هُوَ أَنَّ إِسْرَافَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ فِي الْفِسْقِ، وَإِصْرَارِ حُكُومَاتِهَا عَلَى سِيَاسَةِ الْإِفْرَاطِ فِي الطَّمَعِ وَالْمَكْرِ، وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى الِاسْتِعْمَارِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَأْيِيدِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَالِ، عَلَى الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْعُمَّالِ - كُلُّ ذَلِكَ مِنْ دُودِ الْفَسَادِ الْمُفْضِي إِلَى

الْهَلَاكِ. وَلْيُرَاجِعْ مَنْ شَاءَ مَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ السِّيَاسِيِّ السُّوِيسِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مِنْ رِحْلَتِي الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْمَنَارِ (ج 8 م 23) . عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الْأَخِيرَةَ قَدْ ثَلَّتْ عَرْشَ قَيَاصِرَةِ الرُّوسِ وَالنَّمِسَةِ، وَمَزَّقَتْ مَمَالِكَهُمَا كُلَّ مُمَزَّقٍ، كَمَا مَزَّقَتْ سَلْطَنَةَ آلِ عُثْمَانَ فَجَعَلَتْهَا فِي خَبَرِ كَانَ. وَأَسْقَطَتْ عَرْشَ عَاهِلِ الْأَلْمَانِ، وَصَارَتْ دَوْلَتُهُمْ جُمْهُورِيَّةً، وَثَلَّتْ عُرُوشَ مُلُوكٍ آخَرِينَ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِي أُورُبَّةَ لَمْ يَتَّعِظُوا وَلِمَ يَزْدَجِرُوا، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ وَالْأَخْلَاقِ وَفَلَاسِفَةُ التَّارِيخِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْهِمْ دَاءُ الْأُمَمِ الَّذِي هَلَكَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَنْبِهِمْ، وَلَا يَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ؟ . قُلْنَا: إِنَّ أَمْرَنَا فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَدْ أَنْذَرَنَا رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ مِثْلَ هَذَا فِي أَمْرِ دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا جَمِيعًا، وَلِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا لَيْسَ لِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ الْمَادِّيِّينَ، فَمِنَّا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ النُّذُرَ، وَمَنْ لَا يَعْقِلُهَا إِذَا سَمِعَهَا (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (8: 23) وَمَنْ يَتَمَارَوْنَ بِهَا أَوْ يَتَأَوَّلُونَهَا، وَمَنْ تُغْرِهِمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّقُونَهَا، فَتَعْدُوهُمْ أَوْ يَعْدُونَهَا، وَمَنْ يَجْهَلُونَ عِلَاجَ الْعِلَّةِ أَوْ يَعْجَزُونَ عَنْهُ، وَمَتَى أَزْمَنَ الدَّاءُ بَطُلَ فِعْلُ الدَّوَاءِ، وَإِذَا تَمَكَّنَتِ الْأَهْوَاءُ فِي الْأَنْفُسِ وَصَارَتْ مَلَكَاتٍ لَهَا، مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، وَغَلَبَتْهَا عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَهَذَا مُشَاهَدُ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمُ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَإِنَّكَ تَرَى بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ يَسْكَرُونَ وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ضَرَرِ السُّكْرِ، وَلَكِنَّ دَاعِيَتَهُ أَرْجَحُ فِي النَّفْسِ مِنْ وَازِعِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ. عَذَرْتُ طَبِيبًا عَلَى الشُّرْبِ مُذَكِّرًا لَهُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ضُرِّهِ - فَقَالَ لِأَنْ أَعِيشَ عَشْرًا بِلَذَّةٍ آثَرُ عِنْدِي مِنْ أَنْ أَعِيشَ عِشْرِينَ مَحْرُومًا مِنْهَا. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا مَضْمُونًا لَكَ، لَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ، وَلَكِنَّ عِلْمَكُمْ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. فَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الْخَمْرَ تُحْدِثُ لَكَ مِنَ الْأَسْقَامِ مَا تَعِيشُ بِهِ الْعِشْرِينَ فِي أَشَدِّ الْآلَامِ؟ فَسَكَتَ. وَقَدِ ابْتُلِيَ بِالصَّرَعِ وَغَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتُبْ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ كُنَّا بِهِدَايَةِ دِينِنَا أُمَّةً عَزِيزَةً قَوِيَّةً مُتَّحِدَةً، فَمَزَّقَتْنَا الْأَهْوَاءُ فَضَعُفْنَا ثُمَّ سَاعَدَ الزَّمَانُ بَعْضَ شُعُوبِنَا فَاعْتَزَّتْ وَعَلَتْ ثُمَّ انْخَفَضَتْ وَضَعُفَتْ، وَقَدْ قَامَ مِنَّا مَنْ يُنْذِرُنَا وَيُذَكِّرُنَا بِآيَاتِ رَبِّنَا وَيَدْعُونَا بِهَا إِلَى مَا يُحْيِينَا فَأَعْرَضَ أُمَرَاؤُنَا وَعُلَمَاؤُنَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ دَهْمَاؤُنَا (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) (54: 4، 5) (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (10: 101) .

هَذَا - وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي آجَالِ الْأَفْرَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ أَجَلًا فِي عِلْمِ اللهِ وَفِي تَقْدِيرِهِ (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (6: 2) فَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا نَفْيَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا كَوْنَ النَّاسِ مَجْبُورِينَ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَبِالْوَحْيِ جَمِيعًا وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ مِثَالٌ وَمِصْدَاقٌ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ فَاعِلًا فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَاشِفٌ لَهُ. وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْخَلْقِ فَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا بِالْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ فِي مُتَوَسِّطِ تَقْدِيرِ أَطِبَّاءِ عَصْرِنَا. وَهُمْ يُقَدِّرُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ عُمْرًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْ قُوَّةِ جِسْمِهِ وَأَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَوَظَائِفِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّقْدِيرِ أَنْ يَعِيشَ بِنِظَامٍ وَاعْتِدَالٍ وَتَقْوًى، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ اخْتَلَّ التَّقْدِيرُ وَبَعُدَ عَنِ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى. وَمَنْ قُتِلَ أَوْ غَرِقَ مَثَلًا قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لَهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ انْتِهَاءِ عُمْرِهِ الطَّبِيعِيِّ أَوِ التَّقْدِيرِيِّ. وَلَكِنْ بِأَجَلِهِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي نَقْصِ الْعُمْرِ وَإِطَالَتِهِ وَالْإِنْسَاءِ فِيهِ بِالْأَسْبَابِ الْعَمَلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجَلِ التَّقْدِيرِيِّ أَوِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَظْهَرِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ، وَهَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ طُولِ الْعُمْرِ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي مَنْشَؤُهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالرَّجَاءُ فِي مَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَضْعُفُ عَنْهُ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِالتَّجَارِبِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَكْدَارَ وَلَا سِيَّمَا الدَّاخِلِيُّ مِنْهَا كَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، يُضْعِفَانِ قُوَى النَّفْسِ الْحَيَوِيَّةِ وَيُهْرِمَانِ الْجِسْمَ قَبْلَ إِبَّانِ الْهَرَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً ... وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ وَلِلْهُمُومِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِثْلُهَا فِي تَقْصِيرِ الْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ قِلَّةُ الْغِذَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَدَنُ وَالْإِسْرَافُ فِيهِ وَفِي كُلِّ لَذَّةٍ. وَكَذَا فِي الرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ وَكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ لِلنَّجَاسَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْأَمْكِنَةِ الْقَذِرَةِ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ وَلَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي لِامْتِصَاصِ الرُّطُوبَاتِ وَقَتْلِ جَرَاثِيمِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَالْأُمَمُ الْعَلِيمَةُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تُحْصِي دَائِمًا عَدَدَ الْمَرْضَى وَالْمَوْتَى فِيهَا، وَتَضَعُ لَهَا نِسَبًا حِسَابِيَّةً تَعْرِفُ بِهَا مُتَوَسِّطَ الْآجَالِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِهَا ثُبُوتًا قَطْعِيًّا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الْوَفِيَّاتِ تَحْسِينُ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا، وَالتَّوَقِّي مِنَ الْأَمْرَاضِ بِاجْتِنَابِ أَسْبَابِهَا الْمَعْرُوفَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمُعَالَجَتُهَا بَعْدَ طُرُوئِهَا كَذَلِكَ. وَكُلُّ مَا ثَبَتَ وَوَقَعَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ

الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ قَدْ سَبَقَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْوَاقِعِ بِنَاقِضٍ لِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ فِي نَصِّ كِتَابِ رَبِّنَا تَعَالَى وَمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ، وَهَذَا مِنْ حُجَجٍ كَوْنِ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُقَرِّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ الَّذِي لَا يَزِيدُهُ تَرَقِّي عُلُومِ الْبَشَرِ وَتَجَارُبِهَا إِلَّا تَأْكِيدًا، وَنَاهِيكَ بِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ فِي مُنَاسَبَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْعَطْفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْفَائِدَةُ وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا الْجَزَائِيَّةِ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ إِذَا جَاءَ، وَهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنْ يَهْلَكُوا قَبْلَ مَجِيئِهِ. وَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِعَطْفِهِ عَلَى (لَا يَسْتَأْخِرُونَ) الَّذِي هُوَ جَزَاءُ قَوْلِهِ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (23: 43) وَأَمَّا حِكْمَةُ الْعُدُولِ عَنِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ هُنَا فَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلِ أَوْ تَأْخِيرَ الْهَلَاكِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ مُمْكِنٌ لِلْأُمَّةِ الَّتِي تَعْرِفُ أَسْبَابَهُ وَتَمْلِكُ الْعَمَلَ بِهَا، كَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفُجُورِ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهُوَ يَتَّضِحُ بِمَا ضَرَبْنَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ آنِفًا. (يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هَذَا النِّدَاءُ هُوَ الرَّابِعُ لِبَنِي آدَمَ كَافَّةً مُنْذُ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ هُوَ وَمَا قَبْلَهُ حِكَايَةٌ لِمَا خَاطَبَ اللهُ بِهِ كُلَّ أُمَّةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهَا وَبَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ أُصُولِ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِهِدَايَتِهِمْ بِهِ إِلَى مَا لَا غِنًى لَهُمْ عَنْهُ فِي تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ. وَقَدْ تَخَلَّلَ النِّدَاءُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بَعْضَ مَا يُنَاسِبُ أُمَّةَ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي آيَاتِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي الْخِطَابِ - وَأَمَّا هَذَا النِّدَاءُ فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ جُمْلَةِ الرُّسُلِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ بَيَانِ آجَالِ الْأُمَمِ؛ وَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَيْهِ بَيَانَ جَزَاءِ مَنِ اتَّبَعَ الرُّسُلَ

35

وَمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ - فَهَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) " إِمَّا " مُرَكَّبَةٌ مِنْ " إِنِ " الشُّرْطِيَّةِ وَ " مَا " الَّتِي تُفِيدُ تَأْكِيدَ الشَّرْطِ وَكَذَا الْعُمُومَ فِي قَوْلٍ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمُ الْبَشَرِ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِيَ الَّتِي أُنْزِلُهَا عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ مَا أَفْرِضُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ وَمَا أُحَرِّمُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُفْسِدَةِ - فَمَنِ اتَّقَى مَا نَهَيْتُ عَنْهُ وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْهِ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فِي الدُّنْيَا كَحُزْنِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَشْبَهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا (2: 38: 6: 48 فَيُرَاجَعُ. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الِاسْتِكْبَارُ عَنِ الْآيَاتِ هُوَ رَفْضُ قَبُولِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لِمَنْ جَاءَ بِهَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا مَتْبُوعًا لِلْمُسْتَكْبِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فَوْقَهُ، أَوْ أَقْوَامَهُمْ فَوْقَ قَوْمِهِ، أَوْ يُحِبُّونَ أَنْ يُرُوا النَّاسَ وَيُوهِمُوهُمْ ذَلِكَ، فَرُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرَى مِنَ الضَّعَةِ وَالْمَهَانَةِ أَنْ يَكُونَ مَرْءُوسًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أَوْ أَكْبَرُ سِنًّا، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ - وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضُ عَشِيرَتِهِ بَنِي هَاشِمٍ - وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَتْبَعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَآخَرِينَ، مَاتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَدَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَتْبَعَ رَجُلًا مِنْهُمْ إِلَّا بِالتَّبَعِ لِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ هُمْ لَهُ، وَلَكِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ النُّبُوَّةَ يَجِبُ حَصْرُهَا فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَذَلِكَ أُمَرَاءُ الْمَجُوسِ وَرُؤَسَاءُ دِينِهِمْ إِذْ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْعَرَبَ كَافَّةً إِلَّا مَنْ هَدَى اللهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَزَالُ بَعْضُ الشُّعُوبِ يَأْبَى الِاهْتِدَاءَ بِالْإِسْلَامِ اسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِ أَهْلِهِ، بَلْ نَرَى بَعْضَ غُلَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ التُّرْكِ كَذَلِكَ، حَتَّى نَقَلَتْ صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ قَوْمَهُ يَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَتَسَفَّلُوا لِاتِّبَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ قَالَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ إِثْمًا (! !) . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ مَنْ جَاءَ بِهَا حَسَدًا لَهُ عَلَى الرِّيَاسَةِ، وَتَفْضِيلًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ لِقَوْمِهِمْ عَلَى قَوْمِهِ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، لَا كَالَّذِينِ يُعَذَّبُونَ فِيهَا زَمَنًا مُعَيَّنًا عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا.

37

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَدْ بَلَّغُوا أُمَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي اتِّقَاءِ مَا يُفْسِدُ فِطْرَتَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِهِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي إِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ بِالطَّاعَاتِ - يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْنُ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ وَالْحُزْنُ عَلَى كُلِّ مَا يَقَعُ إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ تَكْذِيبَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالِاسْتِكْبَارَ عَنِ اتِّبَاعِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ فَوْقَ مَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ سَكَتَ عَنِ الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ هُنَا لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هَذَا بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي وَصْفِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا مَبْنِيًّا عَلَى السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا سِيَّمَا خَاتِمَتُهُ وَهِيَ خِطَابُ بَنِي آدَمَ بِالْجَزَاءِ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهِ مُجْمَلًا. قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ فِي

الْآيَاتِ السَّابِقَةِ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا مَا بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، أَوْ عَزَا إِلَى دِينِهِ أَيَّ حُكْمٍ لَمْ يُنَزِّلْهُ عَلَى رُسُلِهِ، أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِمَا هُوَ أَدَلُّ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَنِ اتِّبَاعِهَا، أَوِ الِاسْتِهْزَاءُ بِهَا، أَوْ تَفْضِيلُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ. (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) فِي الْكِتَابِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ كِتَابُ الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الرُّسُلِ (وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ) وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ: " مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ " فَإِنَّ الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ عَلَى الْأَعْمَالِ أَيْ وَالْوَعِيدَ بِدَلِيلِ بَيَانِهِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَهُوَ عَامٌ يَشْمَلُ جَزَاءَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهُ كِتَابُ الْمَقَادِيرِ الَّذِي كَتَبَ اللهُ فِيهِ نِظَامَ الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْهَا أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَمَا يَبْعَثُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ كَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ إِلَخْ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ الْمُفَصَّلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (6: 59) مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ النَّصِيبِ مِنَ الْآيَةِ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، وَفَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ النَّصِيبَ بِالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالْعَمَلِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَفَسَّرَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالْحَسَنُ بِالْعَذَابِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَمَا وُعِدُوا بِهِ فِي كِتَابِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي أُثْبِتَ فِي كِتَابِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَفْسِ النَّصِيبِ الَّذِي يَنَالُهُمْ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا أَمْ بِالْآخِرَةِ أَمْ عَامٌّ فِيهِمَا؟ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِمُوَافَقَتِهِ لِمِثْلِ قَوْلِهِ: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) (17: 20) وَقَوْلِهِ: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) (31: 24) وَبِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أَيْ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمُ الَّذِي كُتِبَ لَهُمْ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَى بِانْتِهَاءِ آجَالِهِمْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ - وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالتَّوَفِّي أَيْ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْأَجْسَادِ - (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أَيْ يَسْأَلُهُمْ رُسُلُ الْمَوْتِ حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَدْعُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الْمُضِرَّاتِ؟ ادْعُوهُمْ لِيُنْجُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ الْآنَ (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) أَيْ قَالُوا: غَابُوا عَنَّا فَلَا نَرْجُو مِنْهُمْ مَنْفَعَةً. وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ بِدُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ عِنْدَهُ تَعَالَى كَأَعْوَانِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَوُزَرَائِهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، جَاهِلِينَ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ

38

لَا يَسْتَغْنَوْنَ عَنِ الْأَعْوَانِ وَالْمُسَاعِدِينَ لِجَهْلِهِمْ بِأُمُورِ النَّاسِ وَعَجْزِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَقَضَائِهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 21 - 24، 93، 94) وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) فَيُرَاجَعَانِ فَفِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ وَلَا هُنَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي آخِرِ آيَةِ (144) مِنَ الْأَنْعَامِ أَيْضًا وَفَسَّرْنَا الِافْتِرَاءَ عَلَى اللهِ فِيهَا بِمِثْلِ مَا فَسَّرْنَاهُ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي آخِرِ آيَةِ (130) مِنْهَا. (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أَيْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أَوْ أَحَدُ مَلَائِكَتِهِ بِأَمْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ: ادْخُلُوا مَعَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ. أَوِ ادْخُلُوا فِي ضِمْنِ أُمَمٍ مِثْلِكُمْ قَدْ سَبَقَتْكُمْ كَائِنَةٍ فِي دَارِ الْعَذَابِ. وَقُدِّمَ الْجِنُّ لِأَنَّ شَيَاطِينَهُمْ مُبْتَدِئُو الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ وَلِلْإِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ. (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) هَذَا بَيَانٌ لِشَيْءٍ مِنْ حَالَتِهِمْ فِي دُخُولِ النَّارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بَعْدَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهِ. أَيْ كُلَّمَا دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي النَّارِ وَاسْتَقْبَلَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، لَعَنَتْ أُخْتَهَا فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ الَّتِي ضَلَّتْ هِيَ بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي كُفْرِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (29: 25) إِلَخْ. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) أَيْ حَتَّى إِذَا تَتَابَعُوا وَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ فِيهَا قَالَتْ أُخْرَى كُلٍّ مِنْهُمْ لِأُولَاهَا وَمُقَدَّمِيهَا فِي الرُّتْبَةِ وَالرِّيَاسَةِ أَوْ فِي الزَّمَنِ أَيْ لِأَجَلِهَا وَفِي شَأْنِهَا - وَإِنَّمَا الْخِطَابُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا عَنِ الْحَقِّ بِاتِّبَاعِنَا لَهُمْ وَتَقْلِيدِنَا إِيَّاهُمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَأَعْطِهِمْ ضِعْفًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ لِإِضْلَالِهِمْ إِيَّانَا فَوْقَ الْعَذَابِ عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَكُونَ عَذَابُهُمْ ضِعْفَيْنِ، ضِعْفًا لِلضَّلَالِ وَضِعْفًا لِلْإِضْلَالِ. (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) أَيْ يَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى لَهُمْ: لِكُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفٌ مِنَ الْعَذَابِ بِإِضْلَالِهِ فَوْقَ عَذَابِهِ عَلَى ضَلَالِهِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (16: 25) وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ عَذَابِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَوْ جَسَدِيٌّ وَنَفْسِيٌّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ النَّارَ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ بِأَنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا رَأَى الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْعِقَابِ ظَنُّوا أَنَّ عَذَابَهُمْ كَعَذَابِهِمْ فِيمَا يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ وَالضَّرِيعِ وَيَشْرَبُونَ مِنَ الْمَاءِ الْحَمِيمِ، وَفِيمَا تَلْفَحُهُمُ النَّارُ بِرِيحِهَا السَّمُومِ، وَفِيمَا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا الْيَحْمُومِ، فَمَثَلُهُمْ مَعَهُمْ كَمَثَلِ الْمَسْجُونِينَ فِي الدُّنْيَا، مِنْهُمُ الْمُجْرِمُ الْعَرِيقُ فِي إِجْرَامِهِ مِنْ تُحُوتِ النَّاسِ وَأَشْقِيَائِهِمْ، وَالرَّئِيسُ الزَّعِيمُ فِي قَوْمِهِ، الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فِي وَطَنِهِ، لَا يَشْعُرُ الْأَوَّلُ بِمَا يُقَاسِيهِ الْآخَرُ مِنْ عَذَابِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الذُّلِّ. بَلْ يَظُنُّ أَنَّ عُقُوبَتَهُمَا وَاحِدَةٌ فِي أَلَمِهَا كَمَا هِيَ صُورَتُهَا. وَحَمْلُ الْأُولَى عَلَى الرُّؤَسَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَتْبَاعِهِمُ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الزَّمَنِ أَوْ فِي دُخُولِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ شَأْنَ مُبْتَدِعِ الضَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الزَّمَنِ تَقَدُّمًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهَا وَلَوْ فِي عَصْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) (34: 31) إِلَى آخِرِ الْحِوَارِ، وَمِثْلِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي سِيَاقِ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ وَجَعْلِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ، أَوْ طَاعَتِهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَتَبَرُّؤِ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ (2: 165 - 167) وَقَدِ اسْتَشْهَدْنَا فِي تَفْسِيرِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فَيُرَاجَعُ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّ كُلَّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْهُدَى مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَفْتَحُوا لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا، مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِعَرْضِ كَلَامِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَخْذِ مَا وَافَقَهُمَا وَرَدِّ مَا عَدَاهُ. وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ، وَأَئِمَّةُ الْعِتْرَةِ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمُ الشِّيعَةُ كَالْإِمَامَيْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. لَمْ يُبِحْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ التَّقْلِيدَ - وَقَدْ حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ - فَهُمْ بُرَآءُ مِنْ جَمِيعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي دِينِ اللهِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَوَرَدَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْقَصَصِ وَالْأَحْزَابِ وَالصَّافَّاتِ وَص وَغَيْرِهِنَّ. وَأَمَّا حَمْلُ الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فِيهِ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ عَلَيْهِ: لَكِنْ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ضِعْفٌ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنَ اللَّفْظِ - لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَلِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِقَدْرِهِ مَثَلًا. نَعَمْ إِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ

بِالْقُذَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُضِلُّ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ مَنِ ابْتَدَعَ الضَّلَالَ أَوْ دَعَا إِلَيْهِ أَوْ كَانَ قُدْوَةً فِيهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ مِثْلَ وِزْرِ مَنْ أَضَلَّهُ سَوَاءً كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَمْ لَا، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ الضِّعْفَ الْآخَرَ عَلَى الْأَتْبَاعِ عِقَابٌ عَلَى التَّقْلِيدِ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكَرْخِيِّ. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْأُولَى: وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهُدَى ضَلَالٌ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعَذَابَ. أَيْ فَكَيْفَ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ الَّذِي قِيلَ فِي أَهْلِهِ: عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ هُنَا، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَقْتَضِي مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ عَلَى الْعَمَلِ الْمُقَلَّدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَنْبٌ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللهُ بِالْكِتَابِ. وَالْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الضِّعْفِ عَلَى الْأَتْبَاعِ بِأَنَّ اتِّخَاذَهُمُ الرُّؤَسَاءَ مَتْبُوعِينَ مِمَّا يَزِيدُ فِي طُغْيَانِهِمْ، أَوْ بِأَنَّهُ طَلَبٌ لِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْعِصْيَانِ - يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ ذُنُوبٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْ عِقَابِهَا بِأَنَّهُ ضِعْفٌ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ. ذَلِكَ بِأَنَّ الضِّعْفَ هُنَا هُوَ الزَّائِدُ عَلَى عِقَابِ الذَّنْبِ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُلَابِسُهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي مُحَاوَرَةِ الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَتْبُوعِينَ مِنْ سُورَةِ ص: (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) (38: 61) فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حِكَايَةً عَنِ التَّابِعِينَ الْمَرْءُوسِينَ فِي النَّارِ: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (33: 67، 68) . وَقَدْ كَانَ مِنْ سَبْقِ رَحْمَةِ اللهِ لِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَغَلَبَةِ فَضْلِهِ عَلَى عَدْلِهِ، أَنْ وَعَدَ بِمُضَاعَفَةِ جَزَاءِ الْحَسَنَاتِ لِذَاتِهَا دُونَ السَّيِّئَاتِ. كَمَا قَالَ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (6: 160) وَكَمَا قَالَ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (4: 40) وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِهِ فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَسُوءِ الْقُدْوَةِ، إِلَّا آيَةَ الْفَرْقَانِ فَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الشِّرْكِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمَعَاصِي: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (25: 68، 69) وَلَوِ انْفَرَدَتْ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْمُضَاعَفَةِ بِحُكْمٍ جَدِيدٍ لَا يَتَعَارَضُ مَعَهَا لَمْ تَكُنْ مُشْكِلَةً، وَلَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِهَا وَبِقَاعِدَةِ الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا،

39

إِلَّا مَنْ أَغْوَى غَيْرَهُ وَأَضَلَّهُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ فَكَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً لَهُ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُقَرِّرَةِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِقَابَ فِيهَا عَلَى مَجْمُوعِ الشِّرْكِ وَكَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مُقَسَّمٌ عَلَيْهِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءٌ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، فَكَانَ مُضَاعَفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِقَابِ الْمُشْرِكِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِفْ تِلْكَ الْكَبَائِرِ، أَوْ عِقَابِ مُقْتَرِفِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يُضَاعَفَ الْعَذَابُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ الْإِضْلَالِ وَسُوءِ الْقُدْوَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُجَاهِرًا بِضَلَالِهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِضْلَالُ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، وَقَدْ قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي كُلِّ مُجَاهَرَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ: (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ) (33: 68) فَإِنَّ لَفْظَ الضِّعْفِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُ أَحَدِهَا وُجُودَ الْآخَرِ كَالزَّوْجِ وَهُوَ تَرَكُّبُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ فَضِعْفُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُثَنِّيهِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى عَدَدٍ اقْتَضَى ذَلِكَ الْعَدَدَ وَمِثْلَهُ، فَضِعْفُ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَضِعْفُ الْعَشْرَةِ عِشْرُونَ، فَإِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْنِ مِنْ كَذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ اثْنَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْ وَاحِدٍ بِالْإِضَافَةِ كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ وَاحِدًا وَضِعْفَيْهِ أَيْ ثَلَاثَةً وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ. (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ أُخْرَاهُمْ أَوْ مِنْ جَوَابِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُمْ - وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّنَا نَحْنُ أَضْلَلْنَاكُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهَذَا أَدْنَى فَضْلٍ تَطْلُبُونَ بِهِ أَنْ يَكُونَ عَذَابُكُمْ دُونَ عَذَابِنَا وَالذَّنْبُ وَاحِدٌ، وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالضَّلَالِ الْمُقْتَضِي لَهُ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِكَسْبِكُمْ لَهُ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُهُ. وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (37: 27 - 33) . وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَأَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَّا أَوْ مِنَّا وَمِنْكُمْ ضِعْفًا مِنَ الْعَذَابِ، فَلَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْلٌ يُخَفَّفُ بِهِ عَنْكُمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مِثْلَنَا، فَنَحْنُ لَمْ نَكُنْ بِمُكْرِهِينَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ فَعَلْتُمُوهُ بِاخْتِيَارِكُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ لَكُمُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا لَوِ اهْتَدَيْتُمْ بِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَتَرَكْتُمُونَا فِي ضَلَالِنَا وَغِوَايَتِنَا، وَلَا يَنْفَعُكُمْ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لَنَا إِذَا لَمْ يُخَفَّفْ عَنْكُمْ عَذَابُكُمْ، فَإِنَّ كِلَانَا لَا يَشْعُرُ إِلَّا بِعَذَابِ نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)

40

(43: 39) . (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْبَيَانِ، قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) لِمُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفَتُّحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ قَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُقْبَلُ أَعْمَالُهُمْ وَلَا تُرْفَعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تُرْفَعُ أَعْمَالُ الصَّالِحِينَ. كَمَا قَالَ: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (35: 10) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْ عَمَلِهِمْ شَيْءٌ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ لِعَمَلٍ وَلَا دُعَاءٍ. وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. (وَالثَّانِي) أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ لَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ وَتُفْتَحُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرُوِيَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَخْبَارٌ مَرْفُوعَةٌ فِي قَبُولِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرَدِّ رُوحِ الْكَافِرِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ قَالَ: لَا لِأَرْوَاحِهِمْ وَلَا لِأَعْمَالِهِمْ. (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ (الْجَمَلُ) بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْبَعِيرُ الْبَازِلُ أَيِ الَّذِي طَلَعَ نَابُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ مَا هُوَ مَثَلٌ فِي عِظَمِ الْجِرْمِ وَهُوَ الْجَمَلُ الْكَبِيرُ فِيمَا هُوَ مَثَلٌ فِي الضِّيقِ وَهُوَ ثُقْبُ الْإِبْرَةِ - وَتُسَمَّى الْخِيَاطَ بِالْكَسْرِ وَالْمِخْيَطِ بِوَزْنِ الْمِنْبَرِ - وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَالْمُرَادُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ أَوْ تَأْيِيدُهُ. وَكَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْطَنُوا لِنُكْتَةِ هَذَا التَّعْلِيقِ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَمَلِ وَسَمِّ الْخِيَاطِ فَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فَيُجَابُونَ بِمَا يُؤَكِّدُ الْمُرَادَ. سُئِلَ عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ: هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ - وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: ابْنُ النَّاقَةِ الَّذِي يَقُومُ فِي الْمِرْبَدِ عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ. وَالْمِرْبَدُ (كَمِنْبَرٍ) مَحْبَسُ الْإِبِلِ وَكَذَا الْغَنَمِ، وَمَكَانٌ بِالْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ كَانَتْ تُحْبَسُ بِهِ أَوْ كَانَ سُوقًا لَهَا.

وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ تَفْسِيرُ الْجَمَلِ هُنَا بِالْحَبْلِ الْغَلِيظِ، وَهُوَ الْقَلْسُ الَّذِي يَكُونُ فِي السُّفُنِ لِشَبَهِهِ بِالْخَيْطِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى ضَبَطَهَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِأَوْزَانِ سُكْرٍ وَصُرَدٍ وَقُفْلٍ وَعُنُقٍ وَحَبْلٍ وَذَكَرٍ أَنَّهُ قُرِئَ بِهِنَّ. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي جِنْسَ الْمُجْرِمِينَ، أَيِ الَّذِينَ صَارَ الْإِجْرَامُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ. وَأَصْلُ مَعْنَاهُ قَطْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ إِفْسَادٍ، وَلَا سِيَّمَا إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَجْرَمَ جُرْمًا بِثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ نَزْوَةِ شَهْوَةٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (4: 17) وَقَالَ: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3: 135) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُسَمَّوْنَ مُجْرِمِينَ. (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) جَهَنَّمُ اسْمٌ لِدَارِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ، قِيلَ: أَعْجَمِيٌّ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رُكْبَةٌ جِهِنَّامٌ (بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ) أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. فَهُوَ بِمَعْنَى الْهَاوِيَةِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ جَعَلَ مَنْعَ صَرْفِهَا لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَالْمِهَادُ الْفِرَاشُ وَالْغَوَاشِي جَمْعُ غَاشِيَةٍ وَهِيَ مَا يُغْشِي الشَّيْءَ أَيْ يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَيُنَاسِبُ الْمِهَادُ مِنْهَا اللِّحَافَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُنَا، فَالْغِشَاءُ: الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَالْفَرَسُ الْأَغْشَى مَا تَسْتُرُ غُرَّتُهُ جَبْهَتَهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ جَهَنَّمَ مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُحِيطَةٌ بِهِمْ كَمَا فَعَلَ: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (104: 8) وَكَمَا قَالَ: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (29: 54) (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أَيْ وَمِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي جِنْسَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِشَرْطِهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمُجْرِمِينَ آنِفًا. وَأَفَادَتِ الْآيَتَانِ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي صِفَتَيِ الْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (2: 254) وَهَذَا تَحْقِيقُ الْقُرْآنِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ وَلِذَلِكَ خَالَفُوهُ فِي عُرْفِهِ.

42

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، يَبْدَأُ بِأَحَدِهِمَا لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ قَبْلَهُ وَيُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْآخَرِ؛ وَلِهَذَا عَطَفَ بَيَانَ جَزَاءِ السُّعَدَاءِ عَلَى بَيَانِ جَزَاءِ الْأَشْقِيَاءِ فَقَالَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَيْ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَهِيَ لَا عُسْرَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ إِذْ (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أَيْ لَا نَفْرِضُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ، وَهُوَ مَا لَا يَضِيقُ بِهِ ذَرْعُهُ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (مَعَ إِسْنَادِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ إِرَادَةِ الْيُسْرِ دُونَ الْعُسْرِ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ مِنْهَا، وَمِنْ عَدَمِ إِرَادَةِ الْحَرَجِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ نُصُوصٌ قَطْعِيَّةٌ فِي يُسْرِ الدِّينِ وَسُهُولَتِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا حِمْلًا ثَقِيلًا يَعْسُرُ تَعَلُّمُهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي وُسْعِ أَحَدٍ عَمَلُهُ (إِلَّا الْمُتَنَطِّعِينَ مِنَ الْعِبَادِ) حَتَّى إِنَّ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ تَلَقِّي مَا كَتَبُوهُ فِيهَا إِلَّا فِي عِدَّةِ أَشْهُرٍ. (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَيْ أُولَئِكَ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نَفْسُ الْإِنْسَانِ، وَتَزْكُو فَتَكُونُ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ، هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَدًا. وَقَدْ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ. (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) أَيْ وَنَزَعْنَا مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ حِقْدٍ وَضِغْنٍ مِمَّا يَكُونُ مِنْ عَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَفِي قُلُوبِهِمْ أَدْنَى لَوْثَةٍ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ وَأَهْلِهَا، وَيَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ تَنْغِيصِ النَّعِيمِ فِيهَا، تَجْرِي

43

مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فَيَرَوْنَهَا وَهُمْ فِي غُرُفَاتِ قُصُورِهِمْ تَتَدَفَّقُ فِي جَنَّاتِهَا وَبَسَاتِينِهَا فَيَزْدَادُونَ حُبُورًا لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ كَدَرٍ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزُونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظُلَامَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ غِلٌّ " وَرَوَى هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا سِيقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً فِي أَصْلِ سَاقِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَيَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْأُخْرَى فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَلَنْ يُشْعَثُوا وَلَنْ يُشْحَبُوا بَعْدَهَا أَبَدًا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) . وَعَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا عَامًّا مُطْلَقًا. (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " مَا كُنَّا " بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا مِنَ الْمُخَالِفِ لِرَسْمِ الْمَصَاحِفِ. أَيْ وَيَقُولُونَ شَاكِرِينَ لِلَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ غِبْطَتِهِمْ وَبَهْجَتِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا فِي الدُّنْيَا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ هَذَا النَّعِيمُ جَزَاءَهُ - فَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِلْعِلْمِ بِالسَّبَبِ - وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ، أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِنَا وَلَا مُقْتَضَى بَدِيهَتِنَا أَوْ فِكْرَتِنَا أَنْ نَهْتَدِيَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ إِلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّانَا لِاتِّبَاعِ رُسُلِهِ وَمَعُونَتِهِ لَنَا عَلَيْهَا وَرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ. عِلَاوَةً عَلَى هِدَايَةِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَنَا عَلَيْهَا، وَهِدَايَةِ مَاخَلَقَ لَنَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ، تَاللهِ (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَهَذَا مِصْدَاقُ مَا وَعَدَنَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ وَنُودُوا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَنْ قِيلَ لَهُمْ: تِلْكُمْ هِيَ الْجَنَّةُ الْبَعِيدَةُ الْمَنَالِ - لَوْلَا فَضْلُ ذِي الْجَلَالِ، وَالْإِكْرَامِ - الَّتِي وَعَدَ بِوِرَاثَتِهَا الْأَتْقِيَاءَ، أُورِثْتُمُوهَا بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الصَّالِحَاتِ، فَعَلَامَةُ الْبُعْدِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، إِذِ السِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَالتَّبَوُّءِ مِنْ غُرَفِ قُصُورِهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حِسِّيًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّدَاءَ يَكُونُ عِنْدَ مَا يَرَوْنَهَا مُنْصَرِفِينَ إِلَيْهَا مِنَ الْمَوْقِفِ، وَبَعْضُهُمْ زَمَنِيًّا مُرَادًا بِهِ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدُ ذِكْرِهَا، وَالْوَعْدُ بِهَا، وَهُوَ وَجِيهٌ. تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْ نَيْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْجَنَّةِ بِالْإِرْثِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا لِلشَّيْءِ مِنْ حَائِزٍ إِلَى آخَرَ، كَانْتِقَالِ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ وَانْتِقَالِ الْمَمَالِكِ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَكَذَا إِرْثٌ لِلْعِلْمِ وَالْكِتَابِ قَالَ تَعَالَى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) (27: 16) وَقَالَ: (وَرِثُوا الْكِتَابَ) (7: 169) وَقَالَ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (35: 32)

وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِيرَاثُهَا هُنَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَإِرْثُهَا فِي قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) (11، 10:23) عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ بِالْإِرْثِ عَنِ الْمِلْكِ الَّذِي لَا مُنَازِعَ فِيهِ. (وَثَانِيهِمَا) مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ حَقُّهُ إِذَا طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ وَسَعَى إِلَيْهِ فِي صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَا وَعَدَ بِهِ جَمِيعَ أَفْرَادِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَرَثَتِهِمُ النَّاشِرِينَ لِدَعْوَتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَمَنْ كَفَرَ خَسِرَ مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُعْطِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْإِرْثِ. وَالِاسْتِعْمَالَانِ مَجَازِيَّانِ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ لَا مُتَبَايِنَانِ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلٌ مُبِينٌ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَدَخَلُوا مَنَازِلَهُمْ، رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا فَقِيلَ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَيَقْتَسِمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ شَوْذَبَ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) (19: 63) وَرُوِيَ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا فِي تَفْسِيرِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ الْأَرْبَعَةُ - أَبْنَاءُ جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ وَمَرْدَوَيْهِ - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ " فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) . وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الْجَنَّةِ تُنَالُ بِالْعَمَلِ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ، بَعْضُهَا بِلَفْظِ الْإِرْثِ وَبَعْضُهَا بِلَفْظِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ - قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ - وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ ": وَلَهُ تَتِمَّةٌ، وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ - فَمَعْنَاهُ: أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ مَهْمَا يَكُنْ عَظِيمًا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةَ لِذَاتِهِ لَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ وَفَضْلُهُ، إِذْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ دُخُولٌ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " أَيْ لَا تُبَالِغُوا وَلَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَتَكَلَّفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْخُلُونَهَا بِفَضْلِهِ وَيَقْتَسِمُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ.

44

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا بَعْضَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ - فَرِيقِ الْجَنَّةِ وَفَرِيقِ السَّعِيرِ - مِنَ الْحِوَارِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي دَارِهِ، وَتَمَكُّنِهِ فِي قَرَارِهِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّارَيْنِ فِي عَالَمٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ هُوَ سُورٌ وَاحِدٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِشْرَافِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ؛ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِي سِجِّينٍ مِنْ هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، فَيُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا يَزِيدُ أَهْلَ الْجَنَّةِ عِرْفَانًا بِقِيمَةِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَزِيدُ أَهْلَ النَّارِ حَسْرَةً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ وَشَقَاءً عَلَى شَقَائِهِمْ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاتِّصَالِ الْقُرْبَ الْمَعْهُودَ عِنْدَنَا فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْمُتَخَاطِبِينَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا تُقَاسُ بِالذِّرَاعِ أَوِ الْبَاعِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تُحَدَّدُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْأَشْهُرِ أَوِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْآخِرَةِ أَنْ تَغْلِبَ فِيهِ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْمَادَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، فَيُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ هُوَ عَلَى بُعْدٍ شَاسِعٍ مِنْهُ وَيَرَاهُ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى غَرِيبًا بَعِيدًا عَنِ الْمَأْلُوفِ عِنْدَ أَجْدَادِنَا الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْآنَ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ مَنْ يَسْتَبْعِدُهُ بَعْدَ اخْتِرَاعِ الْبَشَرِ لِلْآلَاتِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا مِنْ أَبْعَادِ أُلُوفِ الْأَمْيَالِ، إِمَّا بِالْإِشَارَاتِ الْكَاتِبَةِ كَالتِّلِغْرَافِ السِّلْكِيِّ وَاللَّاسِلْكِيِّ، أَوْ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ كَالتِّلِيفُونِ السِّلْكِيِّ وَاللَّاسِلْكِيِّ، وَقَدْ نَبَّأَتْنَا أَخْبَارُ الِاخْتِرَاعَاتِ فِي الشَّمَالِ بِصُنْعِ آلَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالْخِطَابِ، إِنْ كَانَ لَمَّا يَتِمَّ صُنْعُهَا فَقَدْ كَادَ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعْهُودٌ فِي الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَلِيغَةِ، وَأَشْهَرُ نُكَتِهِ جَعْلُ الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ سَوْفَ يُنَادُونَ أَصْحَابَ النَّارِ حَتَّى إِذَا مَا وَجَّهُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِمْ سَأَلُوهُمْ سُؤَالَ تَبَجُّحٍ وَافْتِخَارٍ بِحُسْنِ حَالِهِمْ، وَتَهَكُّمٍ وَتَذْكِيرٍ بِمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةِ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَتَقْرِيرٍ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا بَلَّغُوهُمْ مِنْ وَعْدِ رَبِّهِمْ لِمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ قَائِلِينَ. قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ فِيهِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ حَقًّا؟ . قَالُوا: (وَعدَنَا رَبُّنَا) وَلَمْ يَقُولُوا لِأَهْلِ النَّارِ: (وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ) بَلْ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ - لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَحَلٌّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيْسُوا مَحَلًّا لَهُ، فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ كَمَا وُجِّهَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (13: 35) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (47: 15) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ) (40: 8) وَقَوْلِهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) (19: 61) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَعْدَ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي الْخَيْرِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ خَاصٌّ بِالشَّرِّ أَوِ السُّوءِ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ، وَمَا وَعَدَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ حَقًّا بِدُخُولِنَا الْجَنَّةَ وَدُخُولِكُمُ النَّارَ؟ وَهَذَا يُوَافِقُ قَاعِدَةَ حَذْفِ الْمَعْمُولِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُطْلَقُ الْوَعْدُ فِي الشَّرِّ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَوْعُودِ بِهِ صَرَاحَةً وَلَا ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَّا إِذَا قُيِّدَ بِتَعَلُّقِهِ بِالشَّرِّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهُ تَوَعُّدًا لِلتَّهَكُّمِ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الْخَيْرِ أَوْ لِلتَّغْلِيبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (22: 72) وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) (2: 268) عَلَى أَنَّ لِوَعْدِ الشَّيْطَانِ هُنَا نُكْتَةً أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ شَرٌّ فِي صُورَةِ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخِدَاعِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ لِلْمَرْءِ بِتَرْكِ الصَّدَقَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ اتِّقَاءً لِلْفَقْرِ بِذَهَابِ مَالِهِ، وَتَظْهَرُ مُقَابَلَةُ الْمُشَاكَلَةِ فِي وَعْدِ اللهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (9: 68 و72) وَالثَّالِثُ: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) (36: 52) أَشَارَ إِلَى الْبَعْثِ. وَلَكِنْ فِي التَّنْزِيلِ مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ، كَقَوْلِهِ فِي وَعِيدِ قَوْمِ صَالِحٍ: (ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (11: 65) وَلَهُ نَظَائِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ

قَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ، وَالْعُقَلَاءَ يَعُدُّونَهُ فَضْلًا، وَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مَعَ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْوَعِيدِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) (22: 47) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ. نَعَمْ قَدْ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ فِي الْوَعِيدِ الْمُقَيَّدِ وَلَوْ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى بِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ كَبَعْضِ الْمَعَاصِي، دُونَ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُقَيِّدُهُ شَيْءٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ وَلَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ حُذِفَ تَخْفِيفًا لِلْإِيجَازِ أَوْ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا أَوْعَدَكُمْ رَبُّكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالْعَذَابِ حَقًّا؟ وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمَا قَبْلَهُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا) هِيَ الْمُفَسِّرَةُ. (قَالُوا نَعَمْ) أَيْ قَالَ أَهْلُ النَّارِ: نَعَمْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَ رَبُّنَا حَقًّا. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ نُسِبَتْ إِلَى كِنَانَةَ وَهُذَيْلٍ (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) التَّأْذِينُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، وَاللَّعْنَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مَعَ الْخِزْيِ وَالْإِهَانَةِ. أَيْ فَكَانَ عَقِبَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَنْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قَائِلًا: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الْجَانِينَ عَلَيْهَا بِمَا أَوْجَبَ حِرْمَانَهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَارْتِكَاسَهَا فِي عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ بِمَا يَصِفُهُمْ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَنُكِّرَ الْمُؤَذِّنُ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِمَا يَقُولُهُ هُنَالِكَ لِلتَّخْوِيفِ مِنْهُ هُنَا، وَلَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ عِلْمًا صَحِيحًا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْوَحْيِ. وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي أُمُورِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلَا سِيَّمَا الْآخِرَةُ أَنْ يَتَوَلَّى مِثْلَ ذَلِكَ فِيهَا مَلَائِكَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْآلُوسِيُّ: هُوَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَاحِبُ الصُّورِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَقِيلَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُهُمَا يَأْمُرُهُ اللهُ بِذَلِكَ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِيَّةِ عَنِ الرِّضَا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ وَاضِعِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِرُوَاةِ الْآثَارِ لَمْ يَضَعُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ وَقَدْ كَانَ فِي أَئِمَّتِهِمْ مَنْ يُعَدُّ مِنْ شِيعَةِ عَلَيٍّ وَآلِهِ كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمِ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ عَدَّلَ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي رِوَايَتِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَبِلْنَاهَا، وَلَا نَرَى كَوْنَهُ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ مَانِعًا مِنْهَا، وَلَوْ كُنَّا نَعْقِلُ لِإِسْنَادِ هَذَا التَّأْذِينِ إِلَيْهِ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مَعْنًى يُعَدُّ بِهِ فَضِيلَةً أَوْ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَقَبِلْنَا الرِّوَايَةَ بِمَا دُونَ السَّنَدِ الصَّحِيحِ، مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا

45

أَوْ مُعَارَضًا بِرِوَايَةٍ أَقْوَى سَنَدًا أَوْ أَصَحَّ مَتْنًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ لَعْنَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ، أَوِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَرَفْعِ لَعْنَةٍ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) تَقَدَّمَ أَنَّ صَدَّ يَصُدُّ يَجِيءُ لَازِمًا بِمَعْنَى يُعْرِضُ وَيَمْتَنِعُ عَنِ الشَّيْءِ، وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى يَصُدُّ غَيْرَهُ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْإِيجَازَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا - أَيِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ وَيُضِلُّونَ النَّاسَ عَنْهَا، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ سُلُوكِهَا، وَيَبْغُونَهَا مُعْوَجَّةً أَوْ ذَاتَ عِوَجٍ، أَيْ غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ وَلَا مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لَا يَسْلُكَهَا أَحَدٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَوَجُ بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ عَوِجَ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَعْوَجُ، وَالِاسْمُ الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَعَاجَ يَعُوجُ إِذَا عَطَفَ، وَالْعِوَجُ فِي الْأَرْضِ أَلَّا تَسْتَوِيَ، وَفِي التَّنْزِيلِ: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) (20: 107) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعِوَجِ فِي الْحَدِيثِ اسْمًا وَفِعْلًا وَمَصْدَرًا وَفَاعِلًا وَمَفْعُولًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ شَكْلٍ مَرْئِيٍّ كَالْأَجْسَامِ، وَبِالْكَسْرِ بِمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ كَالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ يُقَالُ فِيهِمَا مَعًا، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. (ثُمَّ قَالَ) وَعَوِجَ الطَّرِيقُ وَعِوَجُهُ زَيْغُهُ، وَعِوَجُ الدِّينِ وَالْخُلُقِ فَسَادُهُ وَمَيْلُهُ عَلَى الْمُثُلِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْعَوَجَ (بِالتَّحْرِيكِ) يُقَالُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَالْعِوَجَ (بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ) يُقَالُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْفِكْرِ وَالْبَصِيرَةِ كَالدِّينِ وَالْمَعَاشِ. وَأَمَّا بَغْيُ الظَّالِمِينَ - أَيْ طَلَبُهُمْ - أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ عِوَجًا، أَيْ غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ وَلَا مُسْتَقِيمَةٍ فَيَكُونُ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى، فَأَصْحَابُ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ - وَهُوَ الشِّرْكُ - يَشُوبُونَ التَّوْحِيدَ بِشَوَائِبَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، أَعَمُّهَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا الدُّعَاءُ، فَلَا يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ غَيْرَهُ عَلَى أَنَّهُ شَفِيعٌ عِنْدَهُ وَوَاسِطَةٌ لَدَيْهِ أَوْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ (وَمَا أُمِروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (98: 5) (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (22: 31) (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (6: 161) (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (6: 79) بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ تَوًّا وَيَدْعُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ رَبُّهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ يَتَأَوَّلُونَ فَيَقُولُ الْعَامِّيُّ: الْمَحْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ، الْوَاسِطَةُ لَا تُنْكَرُ. وَيَقُولُ الْمُعَمَّمُ دَعِيُّ الْعِلْمِ: هَذَا تَوَسُّلٌ وَاسْتِشْفَاعٌ، لَا عِبَادَةَ وَلَا دُعَاءَ، وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَوْلِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ كَالشُّهَدَاءِ. وَقَدْ فَنَّدْنَا دَعْوَاهُمْ مِرَارًا. وَالظَّالِمُونَ بِالِابْتِدَاعِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِمَا يَزِيدُونَ فِي الدِّينِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ، الَّتِي لَمْ تَرِدْ

فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْبِدَعِ النَّظَرِيَّاتُ الْفِكْرِيَّةُ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْجَدَلِيَّةُ، وَمُحَاوَلَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَأَمَّا الِابْتِدَاعُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ وَالشَّعَائِرِ الْمَشْرُوعَةِ، فَمِنْهُ مَا كَانَ كَاحْتِفَالَاتِ الْمَوَالِدِ وَتَرْتِيلَاتِ الْجَنَائِزِ وَأَذْكَارِ الْمَآذِنِ - كَالزِّيَادَةِ فِي الْأَذَانِ - وَمَا كَانَ فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ فِي إِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا وَتَشْرِيفِهَا وَإِيقَادِ الْمَصَابِيحِ وَالسُّرُجِ مِنَ الشُّمُوعِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَوَاصَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِآرَاءٍ سَقِيمَةٍ، وَأَقْيِسَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ عَقِيمَةٍ، وَاسْتِحْسَانَاتٍ يُنْكِرُونَ أُصُولَهَا وَيَأْخُذُونَ بِفُرُوعِهَا. وَعَوَامُّهُمْ يَقُولُونَ: قَالَ فُلَانٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وَفَعَلَ فُلَانٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الصَّالِحِينَ، وَنَحْنُ لَا نَفْهَمُ كَلَامَ اللهِ وَلَا كَلَامَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا نَفْهَمُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ، بَلْ وُجِدَ وَلَا يَزَالُ يُوجَدُ مِنَ الْمُعَمَّمِينَ الْمُدَرِّسِينَ مَنْ يُصَرِّحُونَ فِي دُرُوسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ فِي زَمَانِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ بِكِتَابِ اللهِ وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِمَا نَقَلَهُ الْمُحَدِّثُونَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يُلَقِّنُهُ إِيَّاهُ أَيُّ عَالِمٍ يَنْتَمِي إِلَى مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ مَا يُلَقَّنَهُ عَنْ إِمَامِ الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مَبْنِيٍّ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَذْهَبًا كَعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ بِشَرْطِهِ، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْخِلَافِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ. وَالظَّالِمُونَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِالتَّشْكِيكِ فِيهَا بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ يَقْصِدُ بِهَا بُطْلَانَ الثِّقَةِ بِهَا وَالصَّدَّ عَنْهَا، وَمَذَاهِبُ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَنَافِذِ التَّشَيُّعِ وَالتَّصَوُّفِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ كَانَ لِوَاضِعِي تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ مِنَ الْفُرْسِ غَرَضٌ سِيَاسِيٌّ مِنْ إِفْسَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِهِ وَإِحْدَاثِ الشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ إِضْعَافُ الْعَرَبِ وَإِزَالَةُ مُلْكِهِمْ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِ فَارِسٍ وَسُلْطَانِ الْمِلَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، ثُمَّ رَسَخَ بِالتَّقْلِيدِ فِي طَوَائِفَ مِنْ أَجْنَاسٍ أُخْرَى حَتَّى الْعَرَبِ جَهِلُوا أَصْلَهُ، وَمِنَ الْأَفْرَادِ مَنْ يُحَاوِلُ إِفْسَادَ دِينِ قَوْمِهِ عَلَيْهِمْ لِيَكُونُوا مِثْلَهُ، فَلَا يَكُونُ مُحْتَقَرًا بَيْنَهُمْ، وَمِنْ زَنَادِقَةِ عَصْرِنَا مَنْ يُحَاوِلُونَ هَذَا لِظَنِّهِمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا كَالْإِفْرِنْجِ فِي حَضَارَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ إِلَّا إِذَا تَرَكُوا دِينَهُمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ الْإِفْرِنْجَ يَتَعَصَّبُونَ لِدِينِهِمْ وَيُنْفِقُونَ الْمَلَايِينَ فِي سَبِيلِ نَشْرِهِ. وَالظَّالِمُونَ فِي الْأَحْكَامِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِتَرْكِ تَحَرِّي مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنِ الْتِزَامِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، بِأَلَّا يُحَابِي أَحَدٌ لِعَقِيدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ، وَلَا لِغِنَاهُ أَوْ قُوَّتِهِ، وَلَا يَهْضِمُ حَقَّ أَحَدٍ لِضَعْفِهِ أَوْ فَقْرِهِ، وَلَا لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ

(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (5: 8) بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَغَى هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْعَادِلَةَ الْمُعْتَدِلَةَ عِوَجًا فِي أَسَاسِ نِظَامِهَا وَأُصُولِ أَحْكَامِهَا، فَجَعَلَ حُكُومَتَهَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكُومَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، ذَاتِ السُّلْطَةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ. وَالظَّالِمُونَ بَالَغُوا فِيهَا جَعَلُوا يُسْرَهَا عُسْرًا، وَسَعَتَهَا ضِيقًا وَحَرَجًا، وَزَادُوا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ، أَضْعَافَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، مِمَّا ضَاقَتْ بِهِ مُطَوَّلَاتُ الْأَسْفَارِ، الَّتِي تَنْقَضِي دُونَ تَحْصِيلِهَا الْأَعْمَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ غَايَةَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا الْفَقْرَ وَالْمَهَانَةَ، وَالذِّلَّةَ وَالِاسْتِكَانَةَ، خِلَافًا لِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ عِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَوْنِهِمْ أَوْلَى بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا مِنَ الْكَافِرِينَ. فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَنْ يَبْغُونَهَا عِوَجًا مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهَا وَالْمُدَّعِينَ لِهِدَايَتِهَا، وَأَمَّا أَعْدَاؤُهَا الصُّرَحَاءُ فَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي خَاتَمِ رُسُلِهِ جَهْرًا بِمَا يَخْلُقُونَ مِنَ الْإِفْكِ، وَمَا يُحَرِّفُونَ مِنَ الْكَلِمِ، وَمَا يَخْتَرِعُونَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَمَا يُنَمِّقُونَ مِنَ الْمُشَكِّكَاتِ وَأَمْرُهُمْ مَعْرُوفٌ، وَأَجْرَؤُهُمْ عَلَى الْبُهْتَانِ وَالزُّورِ وَتَعَمُّدِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ فَرِيقَانِ - دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ الطَّامِعُونَ فِي تَنْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ حِرْفَةً عَلَيْهَا مَدَارُ رِزْقِهِمْ، وَرِجَالُ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيُّونَ الطَّامِعُونَ فِي اسْتِعْبَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِعْمَارِ بِلَادِهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ظَهِيرٌ لِلْآخَرِ، فَالْحُكُومَةُ السُّودَانِيَّةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ حَرَّمَتْ مَجَلَّةَ الْمَنَارِ عَلَى مُسْلِمِي السُّودَانِ بِسَعْيِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَسَعَايَتُهُمْ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمْ لَا تَرُوجُ فِي قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْمَنَارَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) فَهُوَ خَاصٌّ بِمُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَهُمْ شَرُّ تِلْكَ الْفِرَقِ كُلِّهَا - أَيْ وَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ كُفْرًا رَاسِخًا قَدْ صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى إِجْرَامِهِمْ فَيَتُوبُوا مِنْهُ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (بِالْآخِرَةِ) عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ أَصْلَ كُفْرِهِمْ قَدْ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْهُ لَهُ تَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ التَّقْدِيمَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ بِلَعْنِ هَؤُلَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَصِفُهُمْ بِالظُّلْمِ، وَيُسْنِدُ إِلَيْهِمُ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَبَغْيِهَا عِوَجًا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَيَصِفُهُمْ بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ زَالَ الْكُفْرُ بِهَا، بِعَيْنِ الْيَقِينِ فِيهَا، وَفَاتَ زَمَنُ الصَّدِّ عَنْهَا، وَبَغْيِهَا عِوَجًا وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا تَصْوِيرُ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، لِيَتَذَكَّرُوهَا هُمْ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ التَّأْذِينَ بِهَا، وَيَعْلَمُوا عَدْلَ اللهِ بِعِقَابِهِمْ عَلَيْهَا. وَلِيَعْتَبِرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مَنْ يَتَصَوَّرُ حَالَهُمْ هَذِهِ فَكَانَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْدِلَ هُنَا عَنْ صِيغَةِ الْمَاضِي إِلَى صِيغَةِ الْحَالِ حَتَّى يُخَيَّلَ

46

أَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْكَلَامِ. كَمَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي تَحَاوُرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ إِلَى صِيغَةِ الْمَاضِي لِإِثْبَاتِ الْقَطْعِ بِهِ وَتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُمْ بِمَا ذُكِرَ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤَذِّنِ. (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) أَيْ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حِجَابٌ يَفْصِلُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ إِلَيْهِ. وَالْحِجَابُ مِنَ الْحَجْبِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ - كَالْكِفَافِ مِنَ الْكَفِّ وَالصِّوَانِ مِنَ الصَّوْنِ - وَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. وَالْحِسِّيُّ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ دُونَ الرُّؤْيَةِ كَالزُّجَاجِ وَمَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَحْدَهَا كَالسُّتُورِ، وَمَا يَمْنَعُهُمَا جَمِيعًا كَالْأَسْوَارِ وَالْحِيطَانِ. وَمِنَ الْحَجْبِ الْمَعْنَوِيِّ مَنْعُ الْإِرْثِ حِرْمَانًا أَوْ نُقْصَانًا، وَهُوَ الْحِجَابُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ هُوَ السُّورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسُ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (57: 13) الْآيَةَ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ فِي بَاطِنِهِ وَالنَّارَ مِنْ قِبَلِ ظَاهِرِهِ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) قَالَ: يَعْنِي بِالسُّورِ حَائِطًا بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ - يَعْنِي بَاطِنَ السُّورِ - فِيهِ الرَّحْمَةُ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يَعْنِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَرَوَى هُوَ وَرَوَاهُ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ قَبْلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا يُنَاكِحُونَهُمْ وَيُعَاشِرُونَهُمْ وَكَانُوا مَعَهُمْ أَمْوَاتًا، وَيُعْطَوْنَ النُّورَ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ إِذَا بَلَغُوا السُّورَ يُمَازُ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَالسُّورُ كَالْحِجَابِ فِي الْأَعْرَافِ فَيَقُولُونَ: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسُ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) . (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) الْأَعْرَافُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَجَمْعٌ لِكَلِمَتَيِ الْأَعْرَفِ وَالْعُرْفِ (بِوَزْنِ قُفْلٍ) وَيُطْلَقُ عَلَى أَعَالِي الْأَشْيَاءِ وَأَوَائِلِهَا وَكُلِّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ عُرْفُ الدِّيكِ وَعُرْفُ الْفَرَسِ وَهُوَ الشَّعْرُ عَلَى أَعْلَى الرَّقَبَةِ، وَعُرْفُ السَّحَابِ، رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِوَايَاتٌ: (1) الْأَعْرَافُ هُوَ الشَّيْءُ الْمُشْرِفُ: (2) سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ: (3) تَلٌّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَلَسَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. (4) السُّورُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَعْرَافَ هُوَ ذَلِكَ السُّورُ وَالْحِجَابُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ وَأَهْلِهِمَا، أَوْ أَعَالِيهِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا أُولَئِكَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ جَمِيعًا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِمَا - فِيمَا يَظْهَرُ - فَيَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْهُمَا بِسِيمَاهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ

48

: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (80: 38 - 41) وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَذِكْرُهُ عَبَثٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ التَّنْزِيلُ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ مَعْرِفَةُ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ هُنَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (7: 48) فَهَذِهِ سِيمَا خَاصَّةٌ لِأَنَّهَا لِأَفْرَادٍ مَخْصُوصِينَ، وَتِلْكَ سِيمَا عَامَّةٌ لِأَنَّهَا لِفَرِيقَيْنِ أَفْرَادُهُمَا غَيْرُ مَحْصُورِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ عَدَّهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: (الْأُولَى) أَنَّهُمْ بَعْضُ أَشْرَافِ الْخَلْقِ الْمُمْتَازِينَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ وَلَا مِنَ الْأَشْرَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ، بَلْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ خَرَجُوا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ إِذْنِ آبَائِهِمْ وَاسْتُشْهِدُوا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعْصِيَةُ آبَائِهِمْ - وَهَذَا خَاصٌّ يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَالثَّالِثَةُ) أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صِفَةٍ خَاصَّةٍ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ بَلْ مَنْزِلَةٍ بَيْنَهُمَا هِيَ الْأَعْرَافُ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَقْوَالٌ: (1) أَهْلُ الْفَتْرَةِ: (2) مُؤْمِنُو الْجِنِّ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ فِي أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ، وَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ: (3) أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ سِنِّ التَّكْلِيفِ: (4) أَوْلَادُ الزِّنَا: (5) أَهْلُ الْعَجَبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا وَجْهَ لَهُمَا الْبَتَّةَ. (6) آخِرُ مَنْ يَفْصِلُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَهُمْ عُتَقَاؤُهُ مِنَ النَّارِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ " أَقْوَامٌ كَانُوا قَدِ امْتَحَشُوا فِي النَّارِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، فَيُخْرِجُهُمُ اللهُ مِنْهَا وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ فِيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ " وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَلَهُمْ أَقْوَالٌ: (1) أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ اهـ. وَإِنَّمَا عَدُّهُ غَرِيبًا عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِتَسْمِيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا وَهُمْ

لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ. (2) أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّهُمْ شُهَدَاؤُهُ عَلَى الْأُمَمِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ. (3) أَنَّهُمْ عُدُولُ الْأُمَمِ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، فَكَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَشْهَدُ عَلَى أُمَّتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُهَدَاءُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَهُ - ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْأُمَمِ شُهَدَاءَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (4: 41) وَقَالَ فِي خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (2: 143) وَقَالَ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (39: 69) إِلَخْ. وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِفَضَائِلِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَالْتِزَامِهِمْ لِلْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَوْلَاهُمْ لَفُقِدَتِ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ. (4) أَنَّهُمُ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ ذُو الْجَنَاحَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَجْلِسُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الصِّرَاطِ يُعْرَفُونَ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ أَنَّ الضَّحَّاكَ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ نَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ، وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ، أَيْ فَيُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمْ أَوْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ عَلَى الصِّرَاطِ لِمَنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ، وَمَنْ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا خَاصَّةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالنَّوَاصِبِ وَأَيْنَ الْأَعْرَافُ مِنَ الصِّرَاطِ؟ هَذَا بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ جِدًّا. (5) قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا تُعْقَلُ حِكْمَتُهُ إِذَا رُدَّ إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ فِيهِ غَرَابَةً. وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ - بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الرِّجَالِ وَحْدَهُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَالتَّغْلِيبُ لَا يَظْهَرُ هُنَا، كَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ خِلَافًا لِأَبِي مِجْلَزٍ إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يَقْبَلُهُ كَأَنْ يَقُولَ: " عِبَادٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ " وَيُنَافِي كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، كَمَا يُنَافِي كَوْنَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

(وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ نَادَوْهُمْ بِقَوْلِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا السَّلَامَ يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ بِالنَّجَاةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ فَإِنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ بِالسِّيمَا إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ كُلٍّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ تَحِيَّةٌ مَحْضَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (56: 25، 26) وَلَا يَمْنَعُ هَذَا الْوَجْهُ وَلَا ذَاكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ وَرَدَ التَّنْزِيلُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِتَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنَعِمَ عُقْبَى الدَّارِ) (13: 23، 24) وَقَوْلُهُ: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَيْ نَادَوْهُمْ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا مَعَهُمْ وَهُمْ طَامِعُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِمَا بَدَا لَهُمْ مِنْ يُسْرِ الْحِسَابِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي الْمَوْقِفِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، لَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَدْخُلُوهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ ادْخُلُوا النَّارَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلَوْ نَادَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ انْتَهَى بِالْمَعْنَى لَا أَذْكُرُ أَيَّ الْمَكَانَيْنِ قَدَّمَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ. (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَفَادَ هَذَا التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ أَنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِالْقَصْدِ وَالرَّغْبَةِ وَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ رُؤْيَةَ أَصْحَابِ النَّارِ. فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَهُمْ، أَيْ حُوِّلَتْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَلْقَاهُمْ وَتُبْصِرُهُمْ فِيهَا - وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ تَوَخٍّ وَلَا رَغْبَةٍ، بَلْ بِصَارِفٍ يَصْرِفُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ بِمُقْتَضَى سُرْعَةِ تَحَوُّلِهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ - قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ حَيْثُ هُمْ وَلَا حَيْثُ يَكُونُونَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ لَا يَظْهَرُ صُدُورُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِعْظَامُ حَالِ الظَّالِمِينَ وَاسْتِفْظَاعُ مَآلِهِمْ، لَا حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ، وَيُجَابُ بِهَذَا الْأَخِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْأَنْبِيَاءُ هُمْ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ أَلْيَقُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَكَانُوا مَوْقُوفِينَ

مَجْهُولًا مَصِيرُهُمْ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمُ النَّارَ وَقَعَدَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ فَقَالَ لَهُمْ: فَاذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ يُحَاسِبُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) الْآيَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ وَيَرْجَحُ. قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ عُرِضَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إِلَى يَسَارِهِمْ رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ فَقَالُوا: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ (قَالَ) : فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أَمَةٍ نُورًا، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (66: 8) وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ النُّورَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا (قَالَ سَعِيدٌ) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً. ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَحْدَانُهُ أَعْشَارَهُ اهـ. فَهَذَا أَوْضَحُ بَيَانٍ مُفَصَّلٍ لِلْقَوْلِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ، وَلِلْأَثَرَيْنِ الْمَوْقُوفَيْنِ فِيهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْقِفِ وَقِيلَ أَنْ يَجْعَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ السُّورَ الَّذِي فُسِّرَتِ الْأَعْرَافُ بِهِ أَوْ بِأَعْيَالِهِ يُضْرَبُ بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنَ الْمَوْقِفِ يَسِيرُونَ بِنُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ كَلِمَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُمْ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَنِدَاءَهُمْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْعُنْوَانُ قَبْلَ وُجُودِهِمْ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى التَّأْوِيلِ بِجَعْلِهِ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: (أَعْصِرُ خَمْرًا) (12: 36) وَيُجَابُ عَنْ تَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُخَاطِبُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ دُونَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ.

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) هَذَا النِّدَاءُ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّينَ أَوْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِهِ عَمَّنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِهِ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) كَرَّرَ ذِكْرَهُمْ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ بِهِ فَلَمْ يَقُلْ: (وَنَادَوْا) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَكَوْنِ هَذَا النِّدَاءِ خَاصًّا فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ مُسْتَقِلًّا دُونَ مَا قَبْلَهُ الْمُوَجَّهِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي جُمْلَتِهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِغِنَاهُمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُحْتَقَرِينَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمْ، أَوْ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ عُصْبَةٍ تَمْنَعُهُمْ وَتَذُودُ عَنْهُمْ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ قَوِيًّا فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ هُنَالِكَ آخِرَةٌ (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمَعَذَّبِينَ) (34: 34، 35) وَمِنْهُمْ طُغَاةُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْإِسْلَامَ فِي مَكَّةَ وَاضْطَهَدُوا أَهْلَهُ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَا أَهْلِ النَّارِ الْعَامَّةِ كَسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمُ الْخَاصَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِسِيمَا الْمُسْتَكْبِرِينَ إِذْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ رَذِيلَةٌ خَاصَّةٌ صِفَةٌ وَعَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ " فَيَعْرِفُهُ فَيَشْفَعُ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ ثُمَّ يَمْسَخُهُ اللهُ ذِيخًا مُنْتِنًا لِيَزُولَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خِزْيُهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مَسْخَهُ ضَبْعًا مُنَاسِبٌ لِحَمَاقَتِهِ وَنَتْنِ الشِّرْكِ [رَاجِعْ ص449 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. أَيْ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ لِلْمَالِ وَكَذَا لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاسْتِكْبَارُكُمْ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَا أَفَادَكُمْ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ؟ . (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ

49

كَانُوا يَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَآلِ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُتَهَكِّمِينَ بِخِزْيِهِمْ وَفَوْزِ مَنْ كَانُوا يَحْتَقِرُونَهُمْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنَالُهُمْ بِرَحْمَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاكُمْ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أَيْ قِيلَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ مِمَّا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ مِنْ جَرَّاءِ شَيْءٍ يُنَغِّصُ عَلَيْكُمْ حَاضِرَكُمْ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَلَكِنَّهُ قَلَّ فِي كَلَامِ الْمُوَلِّدِينَ، حَتَّى لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي كَلَامِ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْمُنْشِئِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِهَؤُلَاءِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَخْ. وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ؛ إِذْ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ أَنْ يُخَاطِبُوا مَنْ هُمْ فَوْقَهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا بَعْدَهُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَلِيقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمُتَبَادَرُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ فِي النَّارِ قَدْ أَقْسَمُوا بِاللهِ لَا يَنَالُ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مِنَ اللهِ رَحْمَةٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ فَكَانُوا آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيمَا سَمِعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصِّحَاحِ فِي آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: أَنَّ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ - إِنْ صَحَّ وُجُودُ الْأَعْرَافِ حِينَئِذٍ - بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ - لَوْلَا مَا يُنَافِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ - يُرَجِّحُ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ هُنَالِكَ تَمْيِيزٌ وَتَفْضِيلٌ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ وَإِنْ أَوَّلَهُ، أَوْ مُسَلَّمٌ بِكَوْنِهِمْ فِي صُورَتِهِمْ. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يُرَجِّحَانِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ بِمَعُونَةِ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، يُوقَفُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ يَظْهَرُ فِيهَا عَدْلُ اللهِ تَعَالَى بِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ بِأَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَهُمْ، وَلَا بِأَصْحَابِ السَّيِّئَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ النَّارِ مَعَهُمْ وَلَوْ بَقَوْا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لَكَانَ عَدْلًا وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَدْلِ بِالْفَضْلِ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ إِخْرَاجِ مَنْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقِسْمَةِ الثُّنَائِيَّةِ (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (42: 7) . وَكُلٌّ مِنْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا التَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَهُ مُرَجِّحَاتٌ

50

وَمُعَارَضَاتٌ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ نِدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) (44) الْآيَةَ. وَنِدَاءِ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ الَّذِي يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الْآخِرَةِ تَقْتَضِي إِمْكَانَ إِفَاضَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ مِنَ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَهُ الْمَعْقُولَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ. وَإِفَاضَةُ الْمَاءِ صَبُّهُ وَمَادَّةُ الْفَيْضِ فِيهَا مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَمَا رَزَقَهُمُ اللهُ يَشْمَلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَ الْمَاءِ مِنْ أَشْرِبَةٍ وَ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ: (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) لِلتَّخْيِيرِ فَهِيَ لَا تَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَيُقَدِّرُ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مُنَاسِبًا لِلرِّزْقِ عَلَى حَدِّ " عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا " وَالصَّوَابُ أَنَّ الْفَيْضَ وَالْإِفَاضَةَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ فَيُقَالُ فَاضَ الرِّزْقُ وَالْخَيْرُ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ أَعْطَاهُ غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ - أَيْ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا اسْتَعَارَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَجْدُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَتَمَتَّعُونَ بِهَا مِنْ شَرَابٍ وَطَعَامٍ، وَقَدَّمُوا طَلَبَ الْمَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي " سُمُومٍ وَحَمِيمٍ " يَكُونُ شُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ أَشَدَّ مِنْ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ الطَّيِّبِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ فَيَقُولُ: يَا أَخِي أَغِثْنِي فَإِنِّي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الطَّلَبِ قَالَ: يَسْتَسْقُونَهُمْ وَيَسْتَطْعِمُونَهُمْ - وَفِي قَوْلِهِ: (حَرَّمَهُمَا) قَالَ: طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا. وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ وَالْبَيْهَقِيُّ

فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَرِبَ مَاءً بَارِدًا فَبَكَى فَسُئِلَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ ذَكَرْتُ آيَةً فِي كِتَابِ اللهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) (34: 54) فَعَرَفْتُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَشْتَهُونَ إِلَّا الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَا حَصْرَ فِيهَا. وَفِي الشُّعَبِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ سَقْيُ الْمَاءِ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) " وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ " سَقْيُ الْمَاءِ ". (قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الْحَرَامُ فِي اللُّغَةِ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الْمَنْعُ قِسْمَانِ: تَحْرِيمٌ بِالْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ كَتَحْرِيمِ اللهِ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ وَأَرْضِ الْحَرَمِ أَنْ يُؤْخَذَ صَيْدُهَا أَوْ يُقْطَعَ شَجَرُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا (أَيْ يُنْزَعَ حَشِيشُهَا الرَّطْبُ) . وَتَحْرِيمٌ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَهْرِ كَتَحْرِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا عَلَى الْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النارُ) (5: 72) أَيْ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ مَاءَ الْجَنَّةِ وَرِزْقَهَا عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا، فَلَا يُمْكِنُ إِفَاضَةُ شَيْءٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ لَهُمْ مَاءَهَا الْحَمِيمَ وَطَعَامَهَا مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ. وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ هَذَا الْحِرْمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ أَعْمَالًا لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ فَتَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ، بَلْ هِيَ إِمَّا لَهْوٌ وَهُوَ مَا يُشْغِلُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْجِدِّ وَالْأَعْمَالِ الْمُفِيدَةِ بِالتَّلَذُّذِ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ، وَإِمَّا لَعِبٌ وَهُوَ مَا لَا تُقْصَدُ مِنْهُ فَائِدَةٌ صَحِيحَةٌ كَأَعْمَالِ الْأَطْفَالِ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَكَانَ كُلُّ هَمِّهِمُ التَّمَتُّعَ بِشَهَوَاتِهَا وَلِذَّاتِهَا - حَرَامًا كَانَتْ أَوْ حَلَالًا - لِأَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا لَهَا سَعْيَهَا بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَتُرَقِّيهَا فَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا. بَلْ كَانَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ لَا مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا لِذَلِكَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِالتَّمَتُّعِ بِنِعَمِ اللهِ فِيهَا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (6: 29) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (32) وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ

51

فِيهَا وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَتَقْدِيمِ اللهْوِ عَلَى اللَّعِبِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَلْيُرَاجَعْ أَيْضًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (6: 70) وَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ فِي تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا. (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) هَذَا مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مَحْدُودٌ بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مِقْدَارٌ، وَالْمُرَادُ: نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمَنْسِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِدُهُ أَحَدُكُمَا كَمَا جَعَلُوا هَذَا الْيَوْمَ مَنْسِيًّا أَوْ كَالْمَنْسِيِّ بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّزَوُّدِ لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (2: 198) أَيْ لِهِدَايَتِهِ لَكُمْ - لَا لِلتَّشْبِيهِ - عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ. (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) بَلْ يَتَعَيَّنُ فِيهِ التَّعْلِيلُ، فَنِسْيَانُ اللهِ لَهُمُ الْمُرَادُ بِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ - مَعْلُولٌ بِنِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يَوْمِ الْجَزَاءِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ لَهُ وَبِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ بِدِينِهِ وَرَفْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَيَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا. ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ إِنْذَارٌ عَامٌّ وَمَوْضُوعُهُ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَى بَادِيَ بَدْءٍ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَلِهَذَا جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضَمَائِرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ وَيَكُونُ الْكِتَابُ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا لِلْجِنْسِ، وَأَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَوْقِعُهَا مِمَّا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ حُجَّةِ اللهِ عَلَى

52

عَلَى الْبَشَرِ كَافَّةً، وَإِزَاحَةُ عِلَلِ الْكُفَّارِ وَإِبْطَالُ مَعَاذِيرِهِمْ إِنْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ الْجَزَاءِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا الثَّانِي. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أَيْ وَلَقَدْ جِئْنَا هَؤُلَاءِ النَّاسَ بِكِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، كَامِلِ التِّبْيَانِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. فَصَّلْنَا آيَاتِهِ تَفْصِيلًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَسَعَادَتِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، حَالَ كَوْنِهِ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مَنَارَ هِدَايَةٍ عَامَّةٍ وَسَبَبَ رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الْعِلْمِيِّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِرَحْمَتِهِ. التَّفْصِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْحَقَائِقِ وَالْمَسَائِلِ الْمُرَادِ بَيَانُهَا مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِمَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ، وَاخْتِلَاطَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي الْأَفْهَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ذِكْرَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَلَا التَّطْوِيلَ بِبَيَانِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ، فَفِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِنَا: أَسْهَبَ حَيْثُ يَنْبَغِي الْإِسْهَابُ، وَأَوْجَزَ حَيْثُ يَكْفِي الْإِيجَازُ. مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ أَنَّ الْبَشَرَ قَدْ فُتِنُوا بِالشِّرْكِ، وَلَبِسَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْأَمْرُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَةِ الرَّبِّ خَالِقِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِ هُوَ الْوَاجِبُ لَهُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ، دُونَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ، الْمُقَرَّبِينَ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِمْ إِلَيْهِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ مَا يَعْجِزُ الْمَرْءُ عَنْ نَيْلِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَمَحْضُهَا، وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعْبُودًا وَإِلَهًا. وَشُبْهَتُهُمْ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مَعَ اللهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا يُرْضِيهِ. وَأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْهُ، مَأْخَذُ هَذَا مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الرَّعَايَا الضُّعَفَاءُ الْمُسْتَذِلُّونَ بِوُزَرَائِهِمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِحَوَاشِيهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ قَرَّرَ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ هَذَا الشِّرْكِ وَأَطْنَبَ فِي تَفْصِيلِهِ كُلَّ الْإِطْنَابِ. وَمِثَالُهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا مِمَّا يَكْفِي فِيهِ الْقُدْوَةُ وَالتَّأَسِّي بِالرَّسُولِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ بَيَانُ التَّنْزِيلِ، فَلِهَذَا لَمْ يُبَيِّنْهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُؤَدَّى بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِإِقَامَتِهَا أَيِ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَقْوَمِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَبَيْنَ حِكْمَتِهَا وَفَائِدَتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقَامَةِ لَهَا وَالْحِكْمَةِ فِي وُجُوبِهَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَمِثَالُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالِارْتِقَاءُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا فِيهِ التَّقْلِيدَ وَالْأَخْذَ بِأَقْوَالِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَرُؤَسَاءِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَلِهَذَا

53

كَرَّرَ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَضَلَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الظَّانِّينَ وَالْمُرْتَابِينَ، وَكَرَّرَ الْحَثَّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْبُرْهَانِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَنْ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَبِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْبُوعَ الْهُدَى وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْمَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَا شَقَاءَ الطَّاعِنِينَ فِي هِدَايَتِهِ. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أَيْ لَيْسَ أَمَامَهُمْ شَيْءٌ يَنْتَظِرُونَهُ فِي أَمْرِهِ إِلَّا وُقُوعَ تَأْوِيلِهِ. وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ الَّذِي يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ. فَالنَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا هُوَ عَاقِبَتُهُمَا. وَالْمَآلُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) قَالَ: عَاقِبَتَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَوَاقِبَهُ، مِثْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا وُعِدَ فِيهِ مِنْ مَوْعِدٍ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْ تَأْوِيلِهِ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ فَيَتِمُّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَئِذٍ إِلَخْ فَجَمَعَ كَلَامُهُ كُلَّ مَا لَهُ مَآلٌ يُنْتَظَرُ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ الصَّادِقَةِ الَّتِي وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهَا كُلًّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرٍ وَثَوَابٍ، وَالْكَافِرِينَ مِنْ خِذْلَانٍ وَعِقَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وَنِهَايَتُهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَزُولُ كُلُّ شُبْهَةٍ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ فِي الدُّنْيَا أَيْ تَرَكُوهُ كَالْمَنْسِيِّ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ فَتَمَارَيْنَا بِهِ وَأَعْرَضْنَا عَنْهُ، حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أَيْ يَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّمَنِّي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِهِ فَيَقَعُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ. وَبَعْدَ الْيَأْسِ فِيهَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، حَيْثُ يَقُولُونَ فِيهَا كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (26: 100 - 102) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءَ) (6: 94) الْآيَةَ - وَإِنَّمَا يَتَمَنَّوْنَ الشُّفَعَاءَ أَوْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُمْ أَوَّلًا لِأَنَّ قَاعِدَةَ الشِّرْكِ الْأَسَاسِيَّةَ أَنَّ النَّجَاةَ عِنْدَ اللهِ وَكُلَّ مَا يَطْلُبُ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَعْلَمُونَ هُنَالِكَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَعْمَلُوا فِيهَا غَيْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِمُ الْأُولَى، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِمَرْضَاتِهِ تَعَالَى بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (آيَتَيْ 27، 28) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَمَنِّيهِمْ

لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِحَالِهِمْ وَغَايَةِ تَمَنِّيهِمْ يَقُولُ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَدْسِيسهَا وَتَدْنِيسِهَا بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَمِ تَزْكِيَتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَيَوْمَئِذٍ يَضِلُّ وَيَغِيبُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ خَبَرِ الشُّفَعَاءِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ عِوَضٍ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي (س6: 12، 20) وَتَفْسِيرُ: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فِي (6: 24) وَنَحْوِهَا: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (6: 94) . (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْمَعَادِ، سَبَبَ هَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَعِبَادَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ، دُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ أَوِ ابْتَدَعَهُ لَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِخَمْسِ آيَاتٍ جَامِعَةٍ لِجُمْلَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدِّينِ بِإِيجَازٍ بَلِيغٍ ابْتَدَأَهَا بِآيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ الْهَادِيَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ بُرْهَانًا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ وَالْمُدَبِّرُ وَالْمُرَبِّي، وَالْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ، أَيِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ وَمُسَاعَدَةِ الْأَسْبَابِ لَهُ، فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ

بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُرْجَى أَنْ تُرْضِيَهُ، وَبِالنَّذْرِ لَهُ وَالذَّبْحِ بِاسْمِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ، سَوَاءً كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ خَاصًّا بِهِ أَوْ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْبُودٍ آخَرَ هُوَ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ. وَأَمَّا اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ (اللهُ) فَهُوَ اسْمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي يَنْفِي الْمُوَحِّدُونَ الْحُنَفَاءُ رُبُوبِيَّةَ غَيْرِهِ وَأُلُوهِيَّةَ سِوَاهُ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ أَكْبَرُ الْأَرْبَابِ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَأَعْظَمُ الْآلِهَةِ أَوْ مَرْجِعُهُمُ الَّذِي يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَمْثَالُهُمْ يَنْفُونَ وُجُودَ رَبٍّ سِوَاهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ. وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ يُطْلَقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْعَالَمِ الْعِلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ - وَإِنْ كَانَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فِيهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ - وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ خَالِقَ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَاحِدٌ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَرْبَابًا كَانُوا يُقَيِّدُونَ رُبُوبِيَّتَهُمْ بِأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرُهَا، وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (473، 474 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَيَخُصُّونَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ بَاسِمٍ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا الثَّنَوِيَّةَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَبَّيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ أَحَدُهُمَا: خَالِقُ النُّورِ وَفَاعِلُ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي: خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَمَصْدَرُ الشَّرِّ. فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمَا وَحْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ تُطْلَقُ السَّمَاوَاتُ عَلَى مَا دُونَ الْعَرْشِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وُصِفَتْ بِالسَّبْعِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ فَهِيَ مِنْ أَيَّامِ اللهِ الَّتِي يَتَحَدَّدُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ يَكُونُ فِيهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ كَامْتِيَازِ أَيَّامِنَا بِمَا يَحُدُّهَا مِنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ، وَأَيَّامِ الْعَرَبِ بِمَا كَانَ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْخِصَامِ، وَأَيَّامِ اللهِ الَّتِي أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِهَا هِيَ أَزْمِنَةُ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (22: 47) وَوَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (70: 4) وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ مِنْ أَيَّامِ أَرْضِنَا، الَّتِي يُحَدُّ لَيْلُ الْيَوْمِ وَنَهَارُهُ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مِنَ السَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ خَلْقِهَا فِي أَيَّامٍ مِنْهَا. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى خَلْقَهَا وَخَلْقَ السَّمَاءِ فِي سُورَةِ (حم السَّجْدَةِ - فُصِّلَتْ) بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَالَ: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونِ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (41: 9 - 12)

وَوَصَفَ أَصْلَ تَكْوِينِهِمَا وَحَالَ مَادَّتِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (21: 30) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ: (1) أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَانَتْ دُخَانًا أَيْ مِثْلَ الدُّخَانِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَ الْجَلَالُ الدُّخَانَ بِالْبُخَارِ الْمُرْتَفِعِ، وَذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ ظَلْمَانِيٌّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَادَّتَهَا أَوِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا. (2) أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ وَاحِدَةٌ ثُمَّ فَتَقَ اللهُ رَتْقَهَا أَيْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فَخَلَقَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْعُلَا. (3) أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَكُونُ الْيَابِسَةُ وَالْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِيهِمَا وَمَصَادِرُ الْقُوتِ وَهِيَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. (4) أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ خُلِقَتْ مِنَ الْمَاءِ. فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ كَالدُّخَانِ حِينَ فُتِقَتْ مِنْ رَتْقِ الْمَادَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ مُبَاشَرَةً أَوْ غَيْرَ مُبَاشَرَةٍ وَأَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِي هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَائِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بُخَارِيَّةً أَوْ دُخَانِيَّةً، وَإِنَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَكَوَّنَتْ فِيهِ الْيَابِسَةُ وَنَتَأَتْ مِنْهَا الرَّوَاسِي فَتَمَاسَكَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ أَجْنَاسُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهِيَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ. فَهَذِهِ أَزْمِنَةٌ لِأَطْوَارٍ مِنَ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُتَدَاخِلَةً. وَأَمَّا السَّمَاءُ الْعَامَّةُ وَهِيَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَدَ سَوَّى أَجْرَامَهَا مِنْ مَادَّتِهَا الدُّخَانِيَّةِ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ زَمَنَيْنِ كَالزَّمَنَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَ فِيهِمَا جِرْمُ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي مَوْضِعِهِ. هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ يَتَّفِقُ مَعَ الْمُخْتَارِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامُ السَّمَاوِيَّةُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ كَالدُّخَانِ، وَيُسَمُّونَهَا السَّدِيمَ، وَكَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً رَتْقًا ثُمَّ انْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُصَوِّرُونَ ذَلِكَ تَصْوِيرًا مُسْتَنْبَطًا مِمَّا عَرَفُوا مِنْ سُنَنِ الْخَلْقِ، إِذَا صَحَّ كَانَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ السَّدِيمِيَّةَ كَانَتْ مُؤَلَّفَةً مِنْ أَجْزَاءٍ دَقِيقَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ، وَأَنَّهَا قَدْ تَجَمَّعَ بَعْضُهَا وَانْجَذَبَ إِلَى بَعْضٍ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ مِنْهَا كُرَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ نَفْسِهَا، وَأَنَّ شِدَّةَ الْحَرَكَةِ

أَحْدَثَتْ فِيهَا اشْتِعَالًا فَكَانَتْ ضِيَاءً - أَيْ نُورًا ذَا حَرَارَةٍ، وَهَذِهِ الْكُرَةُ الْأُولَى مِنْ عَالَمِنَا هِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الشَّمْسَ. وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْكَوَاكِبَ الدَّرَارِيَّ التَّابِعَةَ لِهَذِهِ الشَّمْسِ فِيمَا نُشَاهِدُ مِنْ نِظَامِ عَالَمِنَا هَذَا قَدِ انْفَتَقَتْ مِنْ رَتْقِهَا، وَانْفَصَلَتْ مِنْ جِرْمِهَا، وَصَارَتْ تَدُورُ عَلَى مَحَاوِرِهَا مِثْلِهَا. وَمِنْهَا أَرْضُنَا هَذِهِ، فَقَدْ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً مِثْلَهَا. ثُمَّ انْتَقَلَتْ مِنْ طَوْرِ الْغَازَاتِ الْمُشْتَعِلَةِ إِلَى طَوْرِ الْمَائِيَّةِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ بِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْعُنْصُرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا بُخَارُ الْمَاءِ فَكَانَا يَرْتَفِعَانِ مِنْهَا فِي الْجَوِّ فَيَبْرُدَانِ فَيُكَوِّنَانِ بُخَارًا فَمَاءً يَنْجَذِبُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَبَخَّرُ مِنْهَا حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهَا طَوْرُ الْمَائِيَّةِ. ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الْيَابِسَةُ فِي هَذَا الْمَاءِ بِتَجْمِيعِ مَوَادِّهَا طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهَا الْمَعَادِنُ وَالْأَحْيَاءُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّبَاتِيَّةُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ أَجْزَاءِ الْمَادَّةِ وَتَجَمُّعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنِسَبٍ وَمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَحْثِ وَالْحَفْرِ أَنَّ بَعْضَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ خَالِيَةٌ مِنْ آثَارِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ جَمِيعًا فَعُلِمَ أَنَّ تَكَوُّنَهَا كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا فِيهَا. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فَصَّلُوهَا بِهِ مِمَّا رَأَوْهُ أَقْرَبَ النَّظَرِيَّاتِ إِلَى سُنَنِ الْكَوْنِ وَصِفَةِ عَنَاصِرِهِ الْبَسِيطَةِ وَحَرَكَتِهَا، وَتَكُونُ الْمَعَادِنُ مِنْهَا، وَالْمَادَّةُ الزُّلَالِيَّةُ ذَاتُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا كَانَتْ أَصْلَ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ كَالتَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَلُّدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (بُرُتُوبِلَاسْمَا) وَصِفَةِ تَكَوُّنِ الْخَلَايَا الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا الْأَجْسَامُ الْعُضْوِيَّةُ - كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِخَلْقِ الْعَوَالِمِ أَطْوَارًا بِسُنَنٍ ثَابِتَةٍ وَتَقْدِيرٍ مُنَظَّمٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ جُزَافًا، وَقَدْ أَرْشَدَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَامَّةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ مَا قَالُوهُ مِنْ فُرُوعِهَا وَمَسَائِلِهَا - بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (54: 49) وَقَوْلِهِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (25: 2) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (71: 13 - 17) فَمِنْ دَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِعِبَارَةٍ لَا يَتَحَيَّرُونَ فِي فَهْمِهَا وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا مُجْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ فَهْمُ مَا وَرَاءَهَا مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرَقِّي الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا يَظَنُّ الْآنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِفْرِنْجِ قَدِ انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَسَائِلِ نِظَامِ الْخَلْقِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُورَةَ كَانَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ مَغْمُورَةً فِي الْبِحَارِ فَحَصَلَ فِيهَا طِينٌ لَزِجٌ فَتَحَجَّرَ بَعْدَ الِانْكِشَافِ، وَحَصَلَ الشُّهُوقُ بِحَفْرِ السُّيُولِ وَالرِّيَاحِ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ فِيهَا الْجِبَالُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الظَّنَّ أَنَّا نَجِدُ

فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ إِذَا كَسَرْنَاهَا أَجْزَاءَ الْمَائِيَّةِ كَالْأَصْدَافِ وَالْحِيتَانِ اهـ. يَظُنُّ بَعْضُ قَصِيرِي النَّظَرِ وَضَعِيفِي الْفِكْرِ أَنَّ الْخَلْقَ الْأُنُفَ - (بِضَمَّتَيْنِ) : الْجُزَافُ - الَّذِي لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَدْرِيجَ نِظَامٍ - أَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَعَلَى عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الظَّنَّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا عُلِمَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ الْبَاحِثِينَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَسُنَنِهِ بِالْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ كُفْرُهُمْ ذُهُولًا وَاشْتِغَالًا عَنِ الصَّانِعِ بِدِقَّةِ الصَّنْعَةِ، وَتَجْوِيزًا لِحُصُولِ النِّظَامِ فِيهَا بِنَفْسِهِ مُصَادَفَةً وَاتِّفَاقًا، وَالصَّوَابُ الْمَعْقُولُ: أَنَّ النِّظَامَ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ. فَإِنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْعَالَمِ أَظْهَرُ الْبَرَاهِينِ عَلَى وَحْدَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَمَا لَا نِظَامَ فِيهِ هُوَ الَّذِي قَدْ يَخْطُرُ فِي بَالِ رَائِيهِ أَنَّ وُجُودَهُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ مِنْ قَذَفَاتِ الضَّرُورَةِ الْعَمْيَاءِ أَوْ بِفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَأَيُّ عَاقِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْمَةٍ مِنَ الْحَصَى يَرَاهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَبَيْنَ قَصْرٍ مَشِيدٍ، فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مُتْرَفُو الْأَغْنِيَاءِ مِنْ حُجُرَاتٍ وَمَرَافِقَ، أَفَيُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ النِّظَامُ الْعَامُّ فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ وَوَحْدَةُ السُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا بِالْمُصَادَفَةِ؟ أَوْ أَثَرِ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؟ ! كَلَّا. (فَإِنْ قِيلَ) : قَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ هِيَ مِنْ أَيَّامِ دُنْيَانَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا، وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: " خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ جُزَافًا وَدُفْعَةً وَاحِدَةً لِكُلِّ نَوْعٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِنَا الْقَصِيرَةِ. (فَالْجَوَابُ) : أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَهُوَ أَقْوَاهَا مَرْدُودٌ بِمُخَالَفَةِ مَتْنِهِ لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَأَمَّا سَنَدُهُ فَلَا يَغُرَّنَّكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَهُ بِهِ، فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ كَغَيْرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ الْمَصِّيصِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهُوَ قَدْ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ حَدَّثَ بَعْدَ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ، كَمَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِيرَادِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَفِيهِ اسْتِيعَابُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَاللهُ تَعَالَى قَالَ: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وَلِهَذَا تَكَلَّمَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ لَيْسَ مَرْفُوعًا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَيْ فَيَكُونُ رَفْعُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ مِنْ خَلْطِ حَجَّاجِ بْنِ الْأَعْوَرِ. وَقَدْ هَدَانَا اللهُ مِنْ قَبْلُ إِلَى حَمْلِ بَعْضِ مُشْكِلَاتِ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُعَنْعَنَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي أَدْخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُخْتَرَعَةِ وَخَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَذِبُهُ

وَدَجَلُهُ لِتَعَبُّدِهِ، وَقَدْ قَوِيَتْ حُجَّتُنَا عَلَى ذَلِكَ بِطَعْنِ أَكْبَرِ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَزَى إِلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ. عَلَى أَنَّ رُوَاةَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَخْرَجُوا عَنْ كَعْبٍ خِلَافَ هَذَا كَرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَدَأَ اللهُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبَعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَجَعَلَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ. وَثَمَّةَ آثَارٌ أُخْرَى عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَقْدِيرِ الْيَوْمِ مِنْهَا بِأَلْفِ سَنَةٍ. مِنْهَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْا تِلْكَ الْأَيَّامَ بِأَسْمَاءِ أَيَّامِنَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْنُونَ أَنَّهَا مِنْهَا، عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ الْأُولَى مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ الْأُولَى. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ آدَمَ خُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا رَوَاهُ عَنْ كَعْبٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ قَدْ كَانَ بَعْدَ أَنْ تَمَّ خَلْقُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ أَيَّامُهَا كَمَا نَعْلَمُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ كَمَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ " فُصِّلَتْ ". وَسَرْدُ الْآيَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ يُخَالِفُ بِتَفْصِيلِهِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً تَتَعَاصَى عَلَى التَّأْوِيلِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ خَدَمُوا الدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ عَلَى كَثْرَةِ مَسَائِلِهَا مَطْعَنًا فِي كَوْنِ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَحْيًا كَسَائِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَجَزَمُوا بِتَفْسِيرِ الْيَوْمِ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ وَإِنْ وَرَدَ فِي وَصْفِ كُلٍّ مِنْهَا: " وَكَانَ مَسَاءَ وَكَانَ صَبَاحَ " وَهَاكَ أَمْثَلُ حَلٍّ لِلْإِشْكَالِ عِنْدَهُمْ: قَالَ الدُّكْتُورُ بوست فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بَعْدَ تَلْخِيصِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ إِنَّ قِصَّةَ الْخَلِيقَةِ فِي هَذَيْنِ الْإِصْحَاحَيْنِ لَا تُطَابِقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْجِيُولُوجْيَا (أَيْ عِلْمَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ) وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَجَبْنَا: (أَوَّلًا) : إِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْخَلِيقَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا عِلْمِيًّا. (ثَانِيًا) : إِنَّهُ يُطَابِقُ قَوَاعِدَ الْعِلْمِ الرَّئِيسِيَّةَ مُطَابَقَةً غَرِيبَةً لَا يَسَعُنَا الْبَحْثُ عَنْهَا هُنَا مَلِيًّا، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَادَّةَ قَبْلَ النُّورِ وَلَازِمَةٌ لِظُهُورِ النُّورِ، وَأَنَّ النُّورَ الْمُنْتَشِرَ قَدْ سَبَقَ جَمْعَ الْمَادَّةِ عَلَى هَيْئَةِ شُمُوسٍ وَسَيَّارَاتٍ، وَأَنَّ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْوَاقِفِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ قَبْلَ فَصْلِ الْأَبْخِرَةِ عَنْ سَطْحِهَا وَتَكْوِينِ الْجِلْدِ، وَأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَقَتِ الْحَيَاةَ النَّبَاتِيَّةَ وَالْحَيَوَانِيَّةَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ آخِرُ الْخَلِيقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَبْحَاثًا لَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا هُنَا، وَلَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ لِلْخَلِيقَةِ لَمَا رَضِيَ مِنَّا بوست بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَى التَّوْرَاةِ. وَمِنَ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ

مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ صِفَةِ الْخَلْقِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَالِفَ الْوَاقِعَ إِذَا كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ: وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَجْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا. (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِ اسْتَوَى بَعْدَ تَكْوِينِ هَذَا الْمُلْكِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيُصَرِّفُ نِظَامَهُ حَسَبَ تَقْدِيرِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (10: 3) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (13: 2، 3) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا. الْعَرْشُ فِي الْأَصْلِ الشَّيْءُ الْمُسَقَّفُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَبَيَّنَّا اشْتِقَاقَهُ فِي تَفْسِيرِ الْجَنَّاتِ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى هَوْدَجٍ لِلْمَرْأَةِ يُشْبِهُ عَرِيشَ الْكَرْمِ، وَعَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ وَكُرْسِيِّهِ الرَّسْمِيِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ. وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ التَّسَاوِي وَاسْتِقَامَةُ الشَّيْءِ وَاعْتِدَالُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ: اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى السَّرِيرِ وَالْفِرَاشِ، وَانْتَهَى شَبَابُهُ وَاسْتَوَى، وَاسْتَوَى عَلَى الْبَلَدِ اهـ، وَقَالَ فِي مَادَّة عَ رَشَ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ إِذَا مَلَكَ، وَثَلَّ عَرْشُهُ إِذَا هَلَكَ اهـ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَاسْتَوَى عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ - كِنَايَةً عَنِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: مَبْسُوطُ الْيَدِ وَمَقْبُوضُ الْيَدِ، كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ اهـ. لَمْ يَشْتَبِهْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي مَعْنَى اسْتِوَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى عِلْمِهِمْ بِتَنَزُّهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، إِذْ كَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ وَانْفِرَادِهِ هُوَ بِتَدْبِيرِهِ. وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ وَصِفَتِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ، بَلْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عَرْشٍ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا خَلَقَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَنَّ لَهُ حَمَلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ كَمَا تَدُلُّ اللُّغَةُ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) (11: 7) وَلَكِنَّ عَقِيدَةَ التَّنْزِيهِ الْقَطْعِيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ كَانَتْ مَانِعَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ شُبْهَةَ تَشْبِيهٍ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ. كَيْفَ وَأَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الضَّعِيفَةِ لَفْظِيَّةً

أَوْ مَعْنَوِيَّةً تَمْنَعُ فِي لُغَتِهِمْ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْبَشَرِيِّ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَا يُعْقَلُ؟ فَكَيْفَ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْبَشَرِ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا وَكِنَائِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي كُلِّ مَا أَسْنَدَهُ الرَّبُّ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي وَرَدَتِ اللُّغَةُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَلْقِ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ تَشْبِيهِ الرَّبِّ بِخَلْقِهِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، لَا بِمَعْنَى الِانْفِعَالِ الْحَادِثِ الَّذِي نَجِدُهُ لِلْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا مَا نَعْهَدُهُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ مُلُوكِنَا. وَحَسْبُنَا أَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ وَصْفِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أَثَرَهُمَا فِي خَلْقِهِ، وَأَنْ نَطْلُبَ رَحْمَتَهُ وَنَعْمَلَ مَا يُكْسِبُنَا مَحَبَّتَهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَثُوبَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْتَفِيدُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى عَرْشِهِ كَوْنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ قَرَنَهُ فِي آخِرِ آيَةِ يُونُسَ بِقَوْلِهِ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (10: 3) وَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (32: 4) وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا صَدَّرْنَا بِهِ تَفْسِيرَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهَا كَأَمْثَالِهَا تُقَرِّرُ وَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ لِوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى مَعَهُ بِمَعْنَى مَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنَ الشَّفَاعَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ فِي الْجُمْلَةِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ. فَإِنْ صَحَّ كَانَ سَبَبُهُ شُبْهَةً بَلَغَتْهَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، إِذْ حَدَثَ مِنْ بَعْضِهِمُ الِاشْتِبَاهُ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ، كَمَا كَثُرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يَفْهَمُ اللُّغَةَ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَمْ يَتَلَقَّ الدِّينَ عَنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ. فَكَانَ الْمُشْتَبِهُ يَسْأَلُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فَيُجِيبُونَ بِمَا تَلَقَّوْا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ إِمْرَارِ النُّصُوصِ وَقَبُولِهَا كَمَا وَرَدَتْ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَاسْتِنْكَارِ السُّؤَالِ فِي صِفَاتِهِ عَنِ الْكَيْفِ. وَأَخْرَجَ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَبِيعَةَ شَيْخَ الْإِمَامِ مَالِكٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ، وَأَخْرَجَا أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ هَذَا السُّؤَالَ أَيْضًا فَوَجَدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ، وَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ لِلسَّائِلِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ لَهُ كَيْفَ: " وَكَيْفَ " عَنْهُ

54

مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. اهـ. كَأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُشَكِّكٌ غَيْرُ مُسْتَفْتٍ لِيَعْلَمَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٍ كَثِيرَةً وَقَالَ: وَإِنَّمَا يَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ - وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (42: 11) بَلِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَالَ: مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَنَفَى عَنِ اللهِ النَّقَائِصَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى اهـ. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلتَّدْبِيرِ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (يُغَشِّي) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنَ الْإِغْشَاءِ يُقَالُ غَشِيَ (كَرَضِيَ) فُلَانٌ أَصْحَابَهُ إِذَا أَتَاهُمْ، وَغَشِيَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ لَحِقَهُ وَغَطَّاهُ. وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ غِشْيَانُ الْمَوْجِ وَالْيَمِّ وَالدُّخَانِ وَالْعَذَابِ لِلنَّاسِ وَغِشْيَانُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ. وَأَغْشَاهُ وَغَشَّاهُ إِيَّاهُ بِالتَّشْدِيدِ جَعَلَهُ يَغْشَاهُ أَيْ يَلْحَقُهُ وَيغْلِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ. وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ. وَمِنْهُ إِغْشَاءُ اللَّيْلِ النَّهَارَ وَتَغْشِيَتُهُ وَغِشْيَانُهُ إِيَّاهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّيْلُ إِذَا يَغْشَى) (92: 1) أَيْ يُغْشِي النَّهَارَ، وَقَالَ: (وَاللَّيْلُ إِذَا يَغْشَاهَا) (91: 4) وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ أَيْ يَتْبَعُ ضَوْءُهَا وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ الَّذِي هُوَ الظُّلْمَةُ يَغْشَى النَّهَارَ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ يَتْبَعُهُ وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَيَسْتُرُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ حَثِيثُ السَّيْرِ، وَمَضَى حَثِيثًا - كَمَا فِي الْأَسَاسِ وَغَيْرِهِ - أَيْ مُسْرِعًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْقُبُهُ سَرِيعًا كَالطَّالِبِ لَهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ - كَمَا قَالُوا - وَهَذَا الطَّلَبُ السَّرِيعُ يَظْهَرُ أَكْمَلَ الظُّهُورِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِهَا تَحْتَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ نِصْفُهَا مُضِيئًا بِنُورِهَا دَائِمًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُظْلِمًا دَائِمًا. وَمَسْأَلَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي كُلِّ قُطْرٍ، وَمُخَاطَبَةُ أَهْلِهِ بِالتِّلِغْرَافِ بِأَنْ تَسْأَلَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ وَقْتَهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ مَثَلًا فَيُجِيبُوكَ، بَلِ الْبَرْقِيَّاتُ تَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ مُدُنَ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مُبَيِّنَةً ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَعْقُولِ،

وَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِنْ مُقَابِلِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَحَكَوُا الْقَوْلَ بِدَوَرَانِهَا عَلَى مَرْكَزِهَا وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ نَظَرِيَّاتٍ تُشَكِّكُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا وَلَا تَنْقُضُهُ - كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِمَا - وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (39: 5) أَدَلُّ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَا عَلَى دَوَرَانِهَا، فَإِنَّ التَّكْوِيرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللَّفُّ عَلَى الْمُسْتَدِيرِ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَوَرَانِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا الْوَاسِعِ حَوْلَ الْأَرْضِ وَإِمَّا بِاسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَلَى رُجْحَانِهِ. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) الْأَمْرُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُقَابِلُ لِلنَّهْيِ تَوَسُّعًا فِيهِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُذَلَّلَاتٍ خَاضِعَاتٍ لِتَصَرُّفِهِ مُنْقَادَاتٍ لِمَشِيئَتِهِ فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ مُبْتَدَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمُسَخَّرَاتٍ خَبَرُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ التَّسْخِيرِ بِأَمْرِهِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ غَيْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِي مَوْضِعِهِ. (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) " أَلَا " أَدَاةٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْقَوْلُ الَّذِي يُهْتَمُّ بِشَأْنِهِ، لِأَجْلِ تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَضْمُونِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى تَأَمُّلِهِ، وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ، وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ بِقَدَرٍ؛ أَيْ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ الْخَلْقَ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ لِذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَهُ فِيهَا الْأَمْرُ وَهُوَ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْوِينُ وَالتَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ فَهُوَ الْمَالِكُ، وَالْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا بَعْضَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِتَدْبِيرِهِ تَعَالَى لِلْأَمْرِ عَقِبَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَمِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ مَا سَخَّرَ اللهُ لَهُ الْمَلَائِكَةَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (79: 5) مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَسُنَنِهِ، وَمِنْهُ الْوَحْيُ يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ. وَيَشْمَلُهُمَا قَوْلُهُ: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مَثَلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) (65: 12) وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْخَلْقُ مَا دُونَ الْعَرْشِ وَالْأَمْرُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا فِي الْآيَةِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ أَنَّ عَالَمِ الْخَلْقِ مَا أَوْجَدَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ مَثَلًا، وَالْأَمْرُ مَا أَوْجَدَهُ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ: " كُنْ " كَالرُّوحِ وَأَصْلِ الْمَادَّةِ وَالْعُنْصُرِ الْأَوَّلِ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي عَالَمَ الشَّهَادَةِ وَالْحِسِّ بِعَالَمِ الْخَلْقِ وَعَالَمِ الْمُلْكِ وَيُسَمِّي عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الْأَمْرِ وَالْمَلَكُوتِ

(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ) (3: 59) أَيْ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَجِسْمُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وَرَوْحُهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى. (تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ تَعَاظَمَتْ وَتَزَايَدَتْ بَرَكَاتُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِمْ. وَالْحَقِيقِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِمْ. فَتَبَارَكَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الثَّابِتُ، فَهِيَ هُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ الشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ عَلَى عِبَادِهِ دُونَ مَا عَبَدُوهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَادَّةِ الْبَرَكَةِ فِي تَفْسِيرِ (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (6: 92) فَيُرَاجَعُ: (تَنْبِيهٌ) عَنَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِتَكَلُّفِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ عَلَى الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ، فَزَعَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ هِيَ الْأَفْلَاكُ الْمَرْكُوزُ فِيهَا زُحَلُ وَالْمُشْتَرَى وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالزَّهْرَةُ وَعُطَارِدُ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي رَكَزَتْ فِيهِ جَمِيعُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ، وَأَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ الَّذِي وَصَفُوهُ بِالْأَطْلَسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النُّجُومِ، وَتِلْكَ نَظَرِيَّاتٌ قَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَقَطَ كُلُّ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا مِنْ تَكَلُّفٍ وَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِرَدِّهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ حَمْلِ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي زَمَنِنَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَرْشَدَ الْبَشَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ وَتَرَكَ ذَلِكَ لِبَحْثِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ. وَهِدَايَةُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَسِيلَةً لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَوِ اهْتَدَى دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ بِهِدَايَتِهِ هَذِهِ لَمَا جَعَلُوا الْعِلْمَ وَسِيلَةً لِلْقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ وَقَهْرِ الْقَوِيِّ بِهِ لِلضَّعِيفِ. (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنْ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) بَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ تَعَالَى لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَكَّرَهُمْ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهَا مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ إِفْرَادُهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ رُوحُهَا وَمُخُّهَا الدُّعَاءُ فَقَالَ:

55

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) التَّضَرُّعُ تَفَعُّلٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ مَعْنَاهُ تَكَلُّفُهَا أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا أَوْ إِظْهَارُهَا وَاخْتَارَهُ الرَّاغِبُ، وَهِيَ مَصْدَرُ ضَرَعَ كَخَشَعَ إِذَا ضَعُفَ وَذَلَّ، وَتَلَوَّى وَتَمَلْمَلَ، وَمَأْخَذُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَعَ إِلَيْهِمْ إِذَا تَنَاوَلَ ضَرْعَ أُمِّهِ، وَإِنَّ حَاجَةَ الصَّغِيرِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ إِلَى الرِّضَاعِ مِنْ أَمِّهِ لَمِنْ أَشَدِّ مَظَاهِرِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ بِشُعُورِ الْوِجْدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اسْتِعْمَالُ التَّضَرُّعِ فِي التَّنْزِيلِ بِمَوَاطِنِ الشِّدَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ 42، 43، 63 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (76) وَذَلِكَ أَنَّ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الشِّدَّةِ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَلَهُ مَظْهَرَانِ: التَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ، وَالْخُفْيَةُ وَالْإِسْرَارُ. أَيِ ادْعُوا رَبَّكُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِكُمْ مُتَضَرِّعِينَ مُبْتَهِلِينَ إِلَيْهِ تَارَةً، وَمُسِرِّينَ مُسْتَخْفِينَ تَارَةً أُخْرَى، أَوْ دُعَاءُ تَضَرُّعٍ وَتَذَلُّلٍ وَابْتِهَالٍ، وَدُعَاءُ مُنَاجَاةٍ وَإِسْرَارٍ وَوَقَارٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الدُّعَاءَيْنِ وَقْتٌ، وَدَاعِيَةٌ مِنَ النَّفْسِ، فَالتَّضَرُّعُ بِالْجَهْرِ الْمُعْتَدِلِ تَحْسُنُ فِي حَالِ الْخَلْوَةِ وَالْأَمْنِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَ وَمِنْ سَمَاعِهِمْ لِصَوْتِهِ، فَلَا جَهْرُهُ يُؤْذِيهِمْ وَلَا الْفِكْرُ فِيهِمْ يَشْغَلُهُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، أَوْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دُعَاءَهُ بِحُبِّ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَالْإِسْرَارُ يَحْسُنُ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاعِرِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا وَرَدَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ مِنَ الْجَمِيعِ، كَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ وَتَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَتْرًا وَلِبَاسَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لِلْمُجْتَهِدِ فِي خَلْوَتِهِ يَطْرُدُ الْوَسْوَاسَ، وَيُقَاوِمُ فُتُورَ النُّعَاسِ، وَيُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَبُكَاءِ الْخُشُوعِ لِلرَّحْمَنِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَنَا. وَمِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَنْ جَعَلَ التَّضَرُّعَ وَالْخُفْيَةَ مُتَّفِقَيْنِ غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ، بِتَفْسِيرِ التَّضَرُّعِ بِالتَّخَشُّعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسَ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِيهِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ إِذَا لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إِلَى رَفْعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَفَضَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَإِذَا دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى الرَّفْعِ رَفَعَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ اهـ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْجَهْرِ وَنَاهِيكَ بِكَوْنِهِ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْجَهْرَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَرْضَى لِلرَّبِّ وَأَرْجَى لِلْقَبُولِ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (17: 110) . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقِهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ

الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّارُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ فَيَكُونَ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (19: 3) اهـ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءِ وَالصِّيَاحِ فِي الدُّعَاءِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ. (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَالِاعْتِدَاءُ تَجَاوُزُ الْحُدُودِ فِيهَا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، إِلَّا مَا كَانَ انْتِصَافًا مِنْ مُعْتَدٍّ ظَالِمٍ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَالِاعْتِدَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِحَسْبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا مَنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مُعْتَدِيًا (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (2: 229) . وَشَرُّ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَلَوْ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَنِيفَ مَنْ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلَا يَدْعُو مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) أَيْ لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا وَلِيًّا. وَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ فِيمَا يَعْجِزُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ بِغَيْرِ التَّدَاوِي وَتَسْخِيرِ قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ - فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى نَحْوِ " الْحَجُّ عَرَفَةُ " وَفِي مَعْنَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ يُقَوِّيهِ تَفْسِيرُهُ لِلصَّحِيحِ، وَقَدْ يُفَسِّرُونَهُ بِالْعِبَادَةِ فِي جُمْلَتِهَا دُونَ أَفْرَادِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (17: 56، 57) جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيمَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَأَمَّهُ وَعُزَيْرًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، أَيْ كُلُّهُمْ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الضُّرِّ أَوْ تَحْوِيلِهِ عَنْكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ هُمْ عَبِيدُ اللهِ يَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالزُّلْفَى - أَيُّهُمْ أَقْرَبُ - أَيْ أَقْرَبُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ

يَعْبُدُ اللهَ وَيَدْعُوهُ طَلَبًا لِلْوَسِيلَةِ عِنْدَهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَكَيْفَ يَدْعُونَ مَعَهُ أَوْ مَنْ دُونَهُ؟ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ " قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ " الْقُرْبُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " ثُمَّ قَرَأَ: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ) وَابْتِغَاءُ ذَلِكَ يَكُونُ بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْآيَاتُ الْمُنْكِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ وَكَوْنَهُ عِبَادَةً لَهُمْ وَشِرْكًا مِنَ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الْمُضِلِّينَ لِلْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا بَأْسَ بِدُعَائِكُمْ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا تَوَسُّلٌ بِهِمْ إِلَى اللهِ لِيُقَرِّبُوكُمْ مِنْهُ بِشَفَاعَتِهِمْ لَكُمْ عِنْدَهُ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي اللُّغَةِ وَجَهْلٌ بِهَا، فَأَهْلُ اللُّغَةِ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عِبَادَةً، وَالْوَسِيلَةُ فِي الدِّينِ هِيَ غَايَةٌ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْقُرْبُ مِنْهُ تَعَالَى، وَالتَّوَسُّلُ طَلَبُ ذَلِكَ، فَهُوَ التَّقَرُّبُ مِنْهُ بِمَا يَرْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ عِبَادَتِكَ لَهُ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِكَ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 39) وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِدُعَائِهِمْ أَنْ يُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَأَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ اللهُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ دُونَ الْأَمْوَاتِ، وَيُسَمَّى فِي اللُّغَةِ تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَعَهُ، وَمِنْهُ تَوَسُّلُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ بِالْعَبَّاسِ، بَدَلًا مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمَا يُشْرَعُ بَعْدَهَا مِنَ الدُّعَاءِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللهِ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُعَابُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعَابُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَنْتُمْ تُحَمِّلُونَ الْآيَاتِ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ! ! وَهَذَا الْقَوْلُ جَهْلٌ فَاضِحٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا ذَمَّ الشِّرْكَ إِلَّا لِذَاتِهِ، وَمَا ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِهِ، وَإِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا كَانُوا إِلَّا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّرْكِ أَحْبَطَ إِيمَانَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَحْبَطُ إِيمَانُ مَنْ أَشْرَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْرِكْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعِبَادِ وَحْدَهُ، فَهَذَا الْإِيمَانُ عَامٌّ قَلَّ مَنْ أَشْرَكَ فِيهِ، فَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّوَجُّهِ فِيهَا لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ الْمُسَخَّرِينَ بِأَمْرِهِ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (98: 5) . وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِاللَّفْظِ كَالتَّكَلُّفِ وَالسَّجْعِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ طَلَبُ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ

مِنْ وَسَائِلِ الْمَعَاصِي وَمَقَاصِدِهَا كَضَرَرِ الْعِبَادِ، وَأَسْبَابِ الْفَسَادِ، وَطَلَبِ الْمُحَالِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ كَطَلَبِ إِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَتَبْدِيلِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا، وَمِنْهُ طَلَبُ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، مَعَ تَرْكِ وَسَائِلِهِ كَأَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَالنِّظَامِ، وَالْغِنَى بِدُونِ كَسْبٍ، وَالْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (35: 43) . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قَالَ: فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَا يَسْأَلُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا - وَنَحْوًا مِنْ هَذَا - وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ خَيْرًا كَثِيرًا وَتَعَوَّذْتَ بِهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ - وَفِي لَفْظٍ - يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أَيْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَمَلٍ ضَائِرٍ وَلَا بِحُكْمٍ جَائِرٍ، مِمَّا يُنَافِي صَلَاحَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَعُقُولِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ مِنْ زِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَطُرُقِ مُوَاصَلَةٍ وَوَسَائِلِ تَعَاوُنٍ - لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ تَعَالَى لَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِغْلَالِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ، وَامْتِنَانِهِ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (45: 13) وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ فِيهَا، فَالْإِصْلَاحُ الْأَعْظَمُ إِنَّمَا هُوَ إِصْلَاحُهُ تَعَالَى لِحَالِ الْبَشَرِ، بِهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِكْمَالِ ذَلِكَ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِينَ، فَأَصْلَحَ بِهِ عَقَائِدَ الْبَشَرِ بِبِنَائِهَا عَلَى الْبُرْهَانِ، وَأَصْلَحَ بِهِ أَخْلَاقَهُمْ وَآدَابَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَصْلَحَ سِيَاسَتَهُمْ وَنَوَّعَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِشَرْعِ حُكُومَةِ الشُّورَى الْمُقَيَّدَةِ بِأُصُولِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَالْبَشَرُ سَادَةُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْهَا كَالْقَلْبِ مِنَ الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَا صَلَحُوا صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَشَدُّ الْفَسَادِ الْكِبْرُ وَالْعُتُوُّ، الدَّاعِيَانِ إِلَى الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ كَيْفَ أَصْلَحُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَجَزُوا عَنْ إِصْلَاحِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، بِمُعَادَاتِهِمْ أَكْمَلَ الْأَدْيَانِ، فَحَوَّلَتْ دُوَلُهُمْ كُلَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، إِلَى إِفْسَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَتَعَادَى شُعُوبُهُ بِالتَّنَازُعِ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِبَاحَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَبَذْلِ ثَرْوَةِ الْعَامِلِينَ مِنْ شُعُوبِهِمْ، فِي سَبِيلِ التَّنْكِيلِ بِالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

56

وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (56، 85) فَقَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ فِي فَسَادٍ فَأَصْلَحَهُمُ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ دَعَا إِلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ اهـ. وَالْإِفْسَادُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ أَظْهَرُ قُبْحًا مِنَ الْإِفْسَادِ عَلَى الْإِفْسَادِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْإِصْلَاحِ أَكْبَرُ حُجَّةً عَلَى الْمُفْسِدِ إِذَا هُوَ لَمْ يَحْفَظْهُ وَيَجْرِي عَلَى سَنَنِهِ. فَكَيْفَ إِذَا هُوَ أَفْسَدَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ وَضْعِهِ؟ وَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَإِلَّا فَالْإِفْسَادُ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ، فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى الْخُلُوفِ وَالْخَلَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، لِمَا كَانَ مِنْ إِصْلَاحِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، أَظْهَرُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ. (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أَعَادَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ بِقَيْدٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَنْ لَا يُعَرِّفُ نَفْسَهُ بِالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ الْقَدِيرِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلَا يَدْعُوهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَلَا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي غُفْرَانِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِفْسَادِ مِنْهُ إِلَى الْإِصْلَاحِ، إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ. وَالْمَعْنَى: وَادْعُوهُ خَائِفِينَ أَوْ ذَوِي خَوْفٍ مِنْ عِقَابِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ لِشَرْعِهِ الْمُصْلِحِ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِذَاتِ بَيْنِكُمْ، وَتَنَكُّبِكُمْ لِسُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي صِحَّةِ أَجْسَامِكُمْ وَشُئُونِ مَعَايِشِكُمْ - وَهَذَا الْعِقَابُ يَكُونُ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَاقِيهِ فِي الْآخِرَةِ - وَطَامِعِينَ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي حَالِ النَّفْسِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَنْ تَكُونَ غَارِقَةً فِي الشُّعُوبِ بِالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. يَصْرِفُ الْأَسْبَابَ، وَيُعْطِي بِحِسَابٍ وَغَيْرِ حِسَابٍ، فَإِنَّ دُعَاءَ الرَّبِّ الْكَرِيمِ بِهَذَا الشُّعُورِ، يُقَوِّي أَمَلَ النَّفْسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَأْسِ، عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، وَالْجَهْلِ بِوَسَائِلِ النَّجَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ إِلَّا هَذَا لَكَفَى، فَكَيْفَ وَهُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا، وَإِجَابَتُهُ مَرْجُوَّةٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ وَآدَابِهِ، وَأَوَّلُهَا عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِإِعْطَاءِ الدَّاعِي مَا طَلَبَهُ، كَانَتْ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. وَلَا أَرَى بَأْسًا بِأَنْ أَقُولَ غَيْرَ مُبَالٍ بِإِنْكَارِ الْمَحْرُومِينَ: إِنَّنِي قَلَّمَا دَعَوْتُ اللهَ دُعَاءً خَفِيًّا شَرْعِيًّا رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَّا اسْتَجَابَ لِي، أَوْ ظَهَرَ لِي وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا. (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى الْفِعْلِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْمُتْقِنِينَ لَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَمَنْ أَحْسَنَ فِي الْعِبَادَةِ نَالَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا نَالَ حُسْنَ النَّجَاحِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ، أَوْ أُعْطِيَ خَيْرًا مِمَّا طَلَبَهُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ قَبْلَهَا، مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ الْعَامَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا. فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (40: 60) .

وَالْإِحْسَانُ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِهَدْيِ دِينِ الْفِطْرَةِ، الدَّاعِي لِحَسَنَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَزَاءُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (55: 60) كَمَا أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَجَزَاءَهَا مِنْ جِنْسِهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (53: 31) وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَالْإِحْسَانُ وَاجِبٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِهِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَيُتَّقَى مَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابَ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشَدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فَدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (47: 4) أَيْ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَعْدَاءَكُمُ الْكُفَّارَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَقَاتِلُوهُمْ بِضَرْبِ الرِّقَابِ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الْقَتْلِ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّعْذِيبِ بِمِثْلِ ضَرْبِ الرَّأْسِ مَثَلًا - وَنَاهِيكَ بِتَهْشِيمِ الرُّءُوسِ وَتَقْطِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَطِبَّاءُ جِرَاحَةٍ يُخَفِّفُونَ آلَامَهَا - حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَكُمُ الْغَلَبُ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْخَانِ فِيهِمْ فَاتْرُكُوا الْقَتْلَ وَاعْمَدُوا إِلَى الْأَسْرِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَى الْأَسْرَى بِالْعِتْقِ مَنًّا، وَإِمَّا أَنْ تَفْدُوا بِهِمْ مَنْ أُسِرَ مِنْكُمْ فِدَاءً. وَكَذَلِكَ الْإِحْسَانُ فِي الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِهِ، وَمِنْهُ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ لِلْأَكْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْسُنَ فِيهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّبَ الْحَيَوَانُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْمَوْقُوذَةَ وَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَنْحَلَّ قُوَاهَا وَتَمُوتَ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْبَشَرِ يَعُدُّونَ الرَّحْمَةَ ضَعْفًا فِي النَّفْسِ تَجِبُ مُقَاوَمَتُهُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ، أَيْ بِإِفْسَادِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَوْدَعَ فِيهَا الرَّبُّ الرَّحِيمُ جُزْءًا مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يَتَرَاحَمُ بِهَا خَلْقُهُ وَيَتَعَاطَفُونَ، وَقَاعِدَةُ التَّرْبِيَةِ الْمَادِّيَّةِ أَنَّ أُمُورَ الْحَيَاةِ كُلَّهَا تِجَارَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ الْعَاجِلُ، فَإِذَا رَأَيْتَ امْرَأً أَوْ طِفْلًا أَوْ عَشِيرَةً أَوْ أَمَةً عُرْضَةً لِلْآلَامِ وَالْهَلَاكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُمْ فَلَا تُكَلِّفْ نَفْسَكَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ لَكَ أَوْ لِقَوْمِكَ رِبْحٌ مِنْ ظُلْمِ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوْ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ وَإِشْقَائِهِ بِالِاسْتِعْبَادِ، وَإِفْسَادِ الْأَخْلَاقِ وَإِرْهَاقِ الْأَجْسَادِ، فَافْعَلْ ذَلِكَ وَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَدُلُّكَ عَلَيْهَا الْعِلْمُ وَتُمَكِّنُكَ مِنْهَا الْقُوَّةُ، بَلْ هُمْ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى أَلَّا يَنَالُوا مِنْهُمْ شَيْئًا إِلَّا بِعَمَلٍ

يَعْمَلُونَهُ لَهُمْ، لِيَطْبَعُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَلَكَةَ طَلَبِ الرِّبْحِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَهَذَا حَسَنٌ إِذَا لَمْ يَنْزِعُوا مِنْهَا عَوَاطِفَ الرَّحْمَةِ وَحُبَّ الْإِحْسَانِ بِمُرَاغَمَةِ الْفِطْرَةِ وَإِفْسَادِهَا. عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَامَ بِنَاءُ الِاسْتِعْمَارِ الْإِفْرِنْجِيِّ فِي الْعَالَمِ، فَكُلُّ دَوْلَةٍ أُورُبِّيَّةٍ تَسْتَوْلِي عَلَى شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ تَعْنِي أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِإِفْسَادِ أَخْلَاقِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهِ وَاسْتِنْزَافِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَا تَعْمَلُهُ فِي بِلَادِهِ مِنْ عَمَلٍ عُمْرَانِيٍّ كَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ وَإِصْلَاحِ رَيِّ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ تَوْفِيرِ رِبْحِهَا مِنْهَا، وَتَمْكِينِهَا مِنْ سَوْقِ جُيُوشِهَا الَّتِي تَسْتَعْبِدُ بِهَا أَهْلَهَا، وَقَدْ قَرَأْنَا فِي هَذَا الْعَامِ مَقَالَاتٍ لِسَائِحَةٍ أَمِيرِكَانِيَّةٍ طَافَتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الشَّرْقِ الْأَقْصَى، وَصَفَتْ إِذْلَالَ الْمُسْتَعْمِرِينَ فِيهَا لِلْأَهَالِي بِنَحْوِ جَرِّهِمْ لِعَرَبَاتِهِمْ، وَالدَّوْسِ عَلَى رِقَابِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَنْفُسِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ سُمُومِ الْأَفْيُونِ وَالْكُحُولِّ (الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ السُّمِّ) ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ بِوَسَائِلَ نِظَامِيَّةٍ - فَذَكَرَتْ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْمَئِزُّ نُفُوسُ الرُّحَمَاءِ الْمُهَذَّبِينَ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْرِبُ مِنْهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي حَرْبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي بِلَادِهِمْ (أُورُبَّةَ) مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ؟ فَهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ قَتْلَى هَذِهِ الْحَرْبِ بَلَغَتْ عَشَرَةَ مَلَايِينَ شَابٍّ، وَالْمُشَوَّهِينَ الْمُعَطَّلِينَ مِنَ الْجِرَاحِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مِلْيُونًا، وَأَنَّ نَفَقَاتِ التَّدْمِيرِ قُدِّرَتْ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ جُنَيْهٍ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَهِيَ لَوْ أُنْفِقَتْ عَلَى إِصْلَاحِ كُلِّ مَمَالِكِ الْمَعْمُورَةِ لَكَفَتْ، وَلَا تَزَالُ الدُّوَلُ الظَّافِرَةُ الْمُسَلَّحَةُ تُرْهِقُ الَّذِينَ لَا سِلَاحَ بِأَيْدِيهِمْ وَتُحَاوِلُ الْإِجْهَازَ عَلَيْهِمْ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا، وَيُفْتَرَضُ الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِيهَا؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلَاهُمَا " أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا؟ " وَقَدْ شَهِدَ لَنَا الْمُؤَرِّخُونَ الْمُنْصِفُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. اللهُمَّ ارْحَمْنَا وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاحِمِينَ، وَأَجِرْنَا مِنْ شَرِّ الْمُفْسِدِينَ الْقُسَاةِ الظَّالِمِينَ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ (قَرِيبٌ) وَقَعَتْ خَبَرًا لِلرَّحْمَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُطَابِقًا لِلْمُبْتَدَإِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ هُنَا " قَرِيبَةٌ " وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا وَتَوْجِيهِهِ بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا مَا بَيْنَ لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ وَبَعْضُهَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. (مِنْهَا) أَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ فَلَا تُتْرَكُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. (وَمِنْهَا) . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ نُكْتَةً جَامِعَةً بَيْنَ التَّوْجِيهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ - أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ هُنَا مُذَكَّرٌ. قِيلَ: هُوَ الْمَطَرُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ الْعَامُّ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقُرْبِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ،

57

فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ إِحْسَانَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ لَنَا مُسَلْسَلًا عَنْ شَيْخِنَا الْقَاوُقْجِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (42: 17) وَ (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (33: 63) وَقَدْ يُعَلِّلُهُ فِيهِمَا بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِهَا وَهُمُ الْجُمْهُورُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ (قَرِيبٌ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ بِرَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، كَمَا أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَإِجَابَتِهِ مِنَ الدَّاعِينَ. وَكَثِيرًا مَا يُعْطَى الْمُضَافُ صِفَةَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَضَمِيرَهُ، وَمَهْمَا يَقُلْ فَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ وَرَدَ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَأَعْلَاهُ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا عَلَّلُوهُ بِهِ لِطَرْدِ قَوَاعِدِهِمْ قَالَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُعْجِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَقُلْ إِنَّ هَذَا مِنَ السَّمَاعِيِّ، وَمَا هُوَ بِبِدَعٍ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَنَّ رَحْمَتَهُ الْعَامَّةَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِهِمْ، ذَكَّرَنَا بِمَا نَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرًا مِنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي أَظْهَرِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ إِرْسَالُ الرِّيَاحِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الرِّزْقِ، وَسَبَبُ حَيَاةِ كُلِّ حَيٍّ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، فَقَالَ: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَ بِهِ تَعَالَى تَدْبِيرَهُ لِأَمْرِ الْعَالَمِ فِي إِثْرِ إِثْبَاتِهِ لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، فِي قَوْلِهِ:

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) إِلَخْ. وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ الْإِسْلَامُ. الرِّيحُ: الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي الْأَكْثَرِ وَقَدْ تُذَكَّرُ بِمَعْنَى الْهَوَاءِ، وَأَصْلُهَا رِوْحٌ بِالْوَاوِ وَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا - كَالْمِيزَانِ وَأَصْلُهَا مِوْزَانٌ لِأَنَّهَا مِنَ الْوَزْنِ - وَجَمْعُهَا رِيَاحٌ وَأَرْوَاحٌ وَكَذَا أَرْيَاحٌ وَهُوَ شَاذٌّ وَالْهَوَاءُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَحْيَاءِ، إِذْ وُجُودُهُ شَرْطٌ لِحَيَاةِ كُلِّ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، فَلَوْ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَرْضِ لَمَاتَ كُلُّ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَا تَتِمُّ مَنَافِعُهُ إِلَّا بِحَرَكَتِهِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا رِيحًا، وَسَنُذَيِّلُ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ بِنُبْذَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَأَهَمِّ مَنَافِعِهِ الْعَامَّةِ. وَمِنْ أَهَمِّهَا فِعْلُهُ فِي تَوْلِيدِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرِّيحَ) مُفْرَدَةً وَالْبَاقُونَ (الرِّيَاحَ) بِالْجَمْعِ، وَرُسِمَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَلِذَلِكَ أَمْثَالٌ، وَالرِّيَاحُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَرْبَعٌ بِحَسَبِ مَهَابِّهَا مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَسُمِّيَتَا بِاسْمِ جِهَةِ مَهَبِّهِمَا، وَالثَّالِثَةُ الصَّبَا وَالْقَبُولُ وَهِيَ الشَّرْقِيَّةُ، وَالرَّابِعَةُ الدَّبُورُ وَهِيَ الْغَرْبِيَّةُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَنْسِبُونَ رِيحَ الصَّبَا إِلَى نَجْدٍ، وَالْجَنُوبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَالشَّمَالَ إِلَى الشَّمَالِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَنْحَرِفُ عَنْ هَذِهِ الْمَهَابِّ الْأَصْلِيَّةِ فَتَكُونُ بَيْنَ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا تُسَمَّى النَّكْبَاءَ مُؤَنَّثَ الْأَنْكَبِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ نَكَبَ عَنِ الشَّيْءِ أَوْ عَنِ الطَّرِيقِ نَكْبًا وَنُكُوبًا إِذَا انْحَرَفَ وَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَمِنْهُ (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (23: 74) وَإِذَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ مِنْ مَهَابٍّ وَنَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ سَمَّوْهَا الْمُتَنَاوِحَةَ. وَمِنَ الْمَأْثُورِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الرِّيَاحَ تَشْتَرِكُ فِي إِثَارَةِ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الصَّبَا تُثِيرُهُ وَالشَّمَالَ تَجْمَعُهُ، وَالْجَنُوبَ تَدِرُّهُ وَالدَّبُورَ تُفَرِّقُهُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي وَصْفِ سَحَابٍ مُمْطِرٍ دَعَا لِبِلَادِهِ بِهِ: جَونٌ أَعَارَتْهُ الْجَنُوبُ جَانِبًا ... مِنْهَا وَوَاصَتْ صَوْبَهُ يَدُ الصَّبَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا خَبَتْ بُرُوقُهُ عَنَّتْ لَهُ ... رِيحُ الصَّبَا تُثِيرُ مِنْهُ مَا خَبَا وَإِنْ وَنَتْ رُعُودُهُ حَدَا بِهَا ... حَادَى الْجَنُوبِ فَحَدَتْ كَمَا حَدَا وَيَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الرِّيَاحِ فِي الْأَقْطَارِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنْهَا. فَالصَّبَا وَالْجَنُوبُ لَا يَأْتِيَانِ بِالْمَطَرِ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ لِأَنَّ مَهَبَّهُمَا الصَّحَارِي الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا وَلَا نَبَاتَ، وَإِنَّمَا تَأْتِي بِهِ الشَّمَالُ وَالدَّبُورُ لِأَنَّ مَهَبَّهُمَا مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ فَيَحْمِلَانِ بُخَارَ الْمَاءِ مِنْهُ وَمِنَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْوَجْهِ الْبَحْرِيِّ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ دِيَارُ الشَّامِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُثِيرُ سَحَابَ الْمَطَرِ فِيهَا الدَّبُورُ (الْغَرْبِيَّةُ) فَإِذَا هَبَّتِ الصَّبَا (الشَّرْقِيَّةُ) وَغَلَبَتِ انْقَشَعَ السَّحَابُ وَخَفَّتْ رُطُوبَةُ

الْجَوِّ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الرِّيحَ الْوَاحِدَةَ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ أَحْيَانًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ كَمَا تُبَشِّرُ بِهِ رِيحَانِ فِي قُطْرٍ آخَرَ، أَوْ أَنَّ الرِّيَاحَ بِأَنْوَاعِهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ فِي الْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، عَلَى أَنَّ الرِّيحَ يُرَادُ بِهَا عِنْدَ إِطْلَاقِهَا الْجِنْسُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ كَغَيْرِهِ: إِنْ عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا إِرْسَالَ الرِّيحِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ رَأَى أَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا فِي بَيَانِ آيَاتِ اللهِ أَوْ رَحْمَتِهِ وَلَا سِيَّمَا رَحْمَةُ الْمَطَرِ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْمُفْرَدَةُ فَذُكِرَتْ فِي عَذَابِ قَوْمِ عَادٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (3: 117) وَقَوْلِهِ: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) (14: 18) وَقَوْلِهِ: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (22: 31) وَنَحْوِهِ فِي التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: (فَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيِحِ) (17: 69) الْآيَةَ. وَلَكِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ بِالتَّقَابُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) (10: 22) الْآيَةَ، وَرَدَتْ فِي مَقَامِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِهَا لِسُلَيْمَانَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَبَإٍ وَصَ. (وَقَوْلُهُ) تَعَالَى: (بُشْرًا) قَرَأَهُ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الشِّينِ، مُخَفَّفُ بُشُرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرٌ كَنُذُرٍ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بَشْرًا بِالتَّخْفِيفِ حَيْثُ وَقَعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ بِمَعْنَى نَاشِرَاتٍ أَوْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ وَالنَّشْرَ مُتَقَارِبَانِ. (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَأَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّ بِهِ رَفَعَهُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَمَلْتَهُ فَقَدْ أَقْلَلْتَهُ، وَأَقْلَلْتُهُ عَنِ الْأَرْضِ رَفَعْتُهُ أَيْضًا، قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِلَّةِ بِالْكَسْرِ لِقَوْلِهِمْ أَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّهُ أَيْ وَجَدَهُ قَلِيلًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ: أَقَلَّ الْقُلَّةَ - وَهِيَ بِالضَّمِّ الْجَرَّةُ - فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قُلَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقِلُّهَا أَيْ يَحْمِلُهَا أَوْ يَرْفَعُهَا بِيَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّحَابُ الْغَيْمُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ بِالتَّاءِ فَيُقَالُ سَحَابَةٌ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُفْرَدُ وَصْفُهُ وَيُجْمَعُ، وَالثِّقَالُ مِنْهُ الْمُتَشَبِّعَةُ بِبُخَارِ الْمَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّبَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، لِعِبَادِهِ بِالْمَطَرِ، أَيْ قُدَّامَهَا مُبَشِّرَاتٍ بِهَا وَنَاشِرَاتٍ لِأَسْبَابِهَا حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ سَحَابًا ثِقَالًا وَرَفَعَتْهُ فِي الْهَوَاءِ (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أَيْ سَيَّرْنَاهُ وَسُقْنَاهُ بِهَا إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ أَيْ أَرْضٍ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِنَّمَا حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ الْحَيِّ فِيهَا " فَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى " كَمَا فِي آيَةِ فَاطِرٍ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ 35: 9)

قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ كَغَيْرِهِ: وَيُطْلَقُ الْبَلَدُ وَالْبَلْدَةُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عَامِرًا كَانَ أَوْ خَلَاءً، وَفِي التَّنْزِيلِ (إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ 35: 9) أَيْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ وَلَا مَرْعَى فَنُخْرِجُ ذَلِكَ بِالْمَطَرِ فَتَرْعَاهُ أَنْعَامُهُمْ، فَأُطْلِقَ الْمَوْتُ عَلَى عَدَمِ النَّبَاتِ وَالْمَرْعَى، وَأُطْلِقَ الْحَيَاةُ عَلَى وُجُودِهِمَا اهـ. أَقُولُ: وَغَلَبَ عُرْفُ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصِ الْبَلَدِ بِالْمَكَانِ الْآهِلِ بِالسُّكَّانِ فِي الْمَبَانِي. (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) أَيْ فَأَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ الْمَاءَ، فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ - أَوْ بِالْبَلَدِ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِيهِ، أَوْ بِالرِّيَاحِ وَالْمُخْتَارُ هُنَا كَوْنُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنَّ الرِّيحَ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ أَوِ الْأَرْضِ الرَّطْبَةِ وَتَرْفَعُهُ فِي الْجَوِّ، وَهِيَ سَبَبُ تَحَوُّلِ الْبُخَارِ إِلَى مَاءٍ بِتَبْرِيدِهَا لَهُ - فَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْبُخَارُ مَاءً أَثْقَلَ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَسْقُطُ مِنْ خِلَالِهِ إِلَى الْأَرْضِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي جَاذِبِيَّةِ الثِّقْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (30: 48) وَفِي سُورَةِ النُّورِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (24: 43) الْوَدْقُ: الْمَطَرُ، أَيْ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ وَأَثْنَائِهِ وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُرَادٌ بِالسَّمَاءِ فِيهِ السَّحَابُ لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَالسَّمَاءُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَا الْإِنْسَانَ وَيُفَسَّرُ بِالْقَرَائِنِ، وَمِنَ الْخَطَإِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَسْكَنُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى السَّحَابِ الَّذِي هُوَ كَالْغِرْبَالِ لَهَا وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُصَرِّحُ بِخِلَافِهِ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ وَالِاخْتِبَارُ؛ فَإِنَّ سُكَّانَ الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ يَبْلُغُونَ فِي تَوْقِهَا السَّحَابَ الْمُمْطِرَ ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَهُ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَيَكُونُ دُونَهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ سَمَاءً تَسْمِيَةً حَقِيقِيَّةً ثُمَّ أُطْلِقَتْ لَفْظُ السَّمَاءِ عَلَى الْمَطَرِ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ تَقُولُ: جَاءَ مَكَانَ كَذَا فِي إِثْرِ سَمَاءٍ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهَا آنِفًا: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (24: 43) فَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ السَّمَاءِ فِيهَا عَيْنَ السَّحَابِ وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جِهَةُ الْعُلُوِّ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا السَّحَابُ كَقَوْلِهِ: (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) (30: 48) وَقَوْلِهِ: (مِنْ جِبَالٍ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْجِبَالِ: قِطَعُ السَّحَابِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجِبَالَ شَبَهًا تَامًّا فِي عِظَمِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَشَنَاخِيبِهَا وَقُلَلِهَا، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْخَلْقِ تَشَابُهٌ كَالتَّشَابُهِ بَيْنَ السَّحَابِ

وَالْجِبَالِ. وَالْمَعْنَى: وَيُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ سُحُبٍ فِيهَا كَالْجِبَالِ بَرَدًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فِي شَكْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِيمَنْ يُصِيبُهُ، وَ (مِنْ) فِيهِ صِلَةٌ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ. وَمَا رُوِيَ مُخَالِفًا لِهَذَا فَمِنْ إِسْرَائِيلِيَّاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) عَطَفَ كُلًّا مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَى سَوْقِ السَّحَابِ وَمِنْ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَهُوَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْزَالُ الْمَاءِ يَعْقُبُ سَوْقَ السَّحَابِ الثِّقَالِ وَجَعْلَهُ كِسَفًا أَوْ رُكَامًا بِدَقَائِقَ مَعْدُودَةٍ قَلَّمَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى السَّاعَاتِ، وَسَبَبُ السُّرْعَةِ فِيهِ شِدَّةُ الرِّيحِ، وَيُقَابِلُهُ سَبَبُ الْبُطْءِ وَهُوَ ضَعْفُهَا. وَأَمَّا إِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ فَأَمَدُ التَّعْقِيبِ فِيهِ أَوْسَعُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ أَيَّامٍ تَخْتَلِفُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ. وَمِنَ التَّعْقِيبِ مَا يَكُونُ فِي أَشْهُرٍ أَوْ سِنِينَ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ: تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ - فَهُوَ يَصْدُقُ بِمَنْ يُولَدُ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ الْغَالِبَةِ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ بِالتَّقْرِيبِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُنَافِي التَّعْقِيبُ فِيهِ زِيَادَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَالثَّمَرَاتُ جَمْعُ ثَمَرَةٍ وَهِيَ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ (بِتَحْرِيكِ كُلٍّ مِنْهُمَا) وَالثَّمَرُ يُجْمَعُ عَلَى ثِمَارٍ - كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ - وَجَمْعُ الثِّمَارِ ثَمَرٌ - كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ - وَهُوَ يُجْمَعُ عَلَى أَثْمَارٍ - كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ - قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَالثَّمَرُ هُوَ الْحَمْلُ الَّذِي تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ سَوَاءً أَكَلَ أَوْ لَا. فَيُقَالُ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَثَمَرُ الْعَوْسَجِ، وَثَمَرُ الدَّوْمِ وَهُوَ الْمُقِلُّ، كَمَا يُقَالُ: ثَمَرُ النَّخْلِ، وَثَمَرُ الْعِنَبِ اهـ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِنْ قَوْلِ الرَّاغِبِ: الثَّمَرُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَطَعَّمُ مِنْ أَعْمَالِ الشَّجَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِكُلِّ الثَّمَرَاتِ: جَمِيعُ أَنْوَاعِهَا عَلَى اخْتِلَافِ طُعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا وَرَوَائِحِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ بَلَدٍ مَيِّتٍ يُنْزِلُ اللهُ فِيهِ الْمَاءَ يُخْرِجُ بِهِ جَمِيعَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّالِيَةِ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ وَمِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْبِلَادَ تَخْتَلِفُ أَرْضُهَا فِيمَا تُخْرِجُهُ وَفِي الْإِخْرَاجِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْضِ اللهِ كُلِّهَا. وَيَكْفِي فِي كُلِّ أَرْضٍ أَنْ تُخْرِجَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلِمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (13: 4) وَقَفَّى عَلَى التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ كَمَا قَالَ هُنَا: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أَيْ مِثْلِ هَذَا الْإِخْرَاجِ لِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ بِإِحْيَائِهَا بِالْمَاءِ نُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا قَادِرٌ عَلَى ذَاكَ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ هَذَا الشَّبَهَ فَيَزُولُ اسْتِبْعَادُكُمْ لِلْبَعْثِ الَّذِي عَبَّرْتُمْ عَنْهُ بِقَوْلِكُمْ: (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (36: 78) ؟ (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (37: 16) (أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) (37: 53) (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (50: 3) وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنْكَارِكُمْ لَا مَنْشَأَ لَهُ إِلَّا مَا تَحْكُمُونَ

بِهِ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، ذَاهِلِينَ عَنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ الْحَيِّ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَعَنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَيَاةِ النَّبَاتِ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ، فِي خُضُوعِهِمَا لِقُدْرَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْآيَةِ هُوَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْحَيُّ فِي عُرْفِهِمْ يُعْرَفُ بِالنَّمَاءِ وَالتَّغَذِّي كَالنَّبَاتِ، وَبِالْحِسِّ وَالتَّحَرُّكِ بِالْإِرَادَةِ كَالْحَيَوَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّ الْحَيَّ لَا يُولَدُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ أَدْنَى الْحَشَرَاتِ إِلَى أَعْلَاهَا، فَالنَّبَاتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ الْقَفْرَاءِ بَعْدَ سَقْيِهَا بِالْمَاءِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ بُذُورٌ أَوْ جُذُورٌ فِيهَا حَيَاةٌ كَامِنَةٌ لَا تَظْهَرُ مِنْ مَكْمَنِهَا إِلَّا بِالْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الْبُيُوضَ الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْحَيَوَانُ - أَدْنَاهَا كَالصِّئْبَانِ وَبُذُورِ الدِّيدَانِ، وَأَوْسَطُهَا كَبَيْضِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّاتِ، وَأَعْلَاهَا كَبُيُوضِ الْأَرْحَامِ - كُلُّهَا ذَاتُ حَيَاةٍ لَا تُنْتِجُ إِلَّا بِتَلْقِيحِ مَاءِ الذُّكُورِ لَهَا؟ . قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ وَاضِعِي اللُّغَةِ فَهِيَ اصْطِلَاحٌ جَدِيدٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ خُوطِبُوا بِعُرْفِهِمْ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فَفَهِمُوا، بَلْ إِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ خُرُوجِ النَّبَاتِ الْحَيِّ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، فَلَوْلَا تَغَذِّي الْبُذُورِ وَالْجُذُورِ بِمَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ بِسَبَبِ الْمَاءِ لَمَا نَبَتَتْ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ قَالُوا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَبْلَى كُلُّهُ إِلَّا عَجَبَ الذَّنَبِ وَهُوَ أَصْلُ الذَّنَبِ الْمُسَمَّى بِالْعُصْعُصِ أَوْ رَأْسِ الْعُصْعُصِ فَهُوَ كَنَوَاةِ النَّخْلَةِ تَبْقَى فِيهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً بَعْدَ فَنَاءِ الْجِسْمِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُ النَّاسُ مِنْ عَجَبِ الذَّنَبِ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَفْعَلُ هَذَا الْمَطَرُ فِي الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ صَرِيحٌ يُعَدُّ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى كَهَذِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْآحَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَا يُثْبِتُ بَقَاءَ عَجَبِ الذَّنَبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. . . وَيَبْقَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجَبُ الذَّنَبِ فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ لِلْمَرْفُوعِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ أَرْبَعُونَ " ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ (قَالَ) وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجَبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُرْسِلُ اللهُ فِيهَا عَلَى الْمَوْتَى مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ مِنْ مَاءٍ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَمَّى مَاءَ الْحَيَوَانِ فَيَنْبُتُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِذَلِكَ الْمَطَرِ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِمُ الرُّوحُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيُعَارِضُهُ كَوْنُ الْأَرْضِ تَصِيرُ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى كَمَا يَأْتِي

قَرِيبًا هَبَاءً مُنْبَثًّا وَهَذَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ يُعَارِضُ الْمَرْفُوعَ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مَطْعَنًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ نَفْسِهِ، فَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِجْمَالِهِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ عَجَبِ الذَّنَبِ لَا يَبْلَى بِطُولِ بَقَائِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى مُطْلَقًا، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ. وَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ وَسِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْإِمَامُ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بِفَنَائِهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: عَجَبُ الذَّنَبِ كَالرُّوحِ لَكِنْ صَحَّحَا الْمُزَنِيُّ لِلْبِلَى وَرَجَّحَا وَإِنَّمَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّبَاتِ وَبِالْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً. وَأَنَّ الْأَحْيَاءَ الْأُولَى وُجِدَتْ فِيهَا بِالتَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ الَّذِي انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَسَلْسُلِ الْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ مُسْتَعِدَّةً لَهُ كَمَا كَانَتْ وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ الْأَرْضَ تَفْنَى بِتَفَرُّقِ مَادَّتِهَا، ثُمَّ يُعِيدُهَا اللهُ كَمَا بَدَأَهَا. قَالَ تَعَالَى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (56: 4 - 6) فَهَذِهِ الرَّجَّةُ الَّتِي سَمَّاهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى بِالْقَارِعَةِ وَالصَّاخَّةِ. وَالْمَعْقُولُ أَنَّ كَوْكَبًا يَقْرَعُهَا بِاصْطِدَامِهِ بِهَا فَتُفَتَّتُ جِبَالُهَا وَتَكُونُ كَالْهَبَاءِ الْمُتَفَرِّقِ فِي الْجَوِّ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالسَّدِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (21: 104) (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (29) وَالْأَشْبَهُ أَنَّ تَشْبِيهَ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَالُ دُونَ التَّفْصِيلِ، فَكَمَا خَلَقَ اللهُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُبْتَدَأً ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ - يَخْلُقُ أَجْسَادَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُعَادًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا أَرْوَاحَهَا الَّتِي كَانَتْ بِهَا أَنَاسِيَّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُ يَجْعَلُهَا مُتَسَلْسِلَةً بِالتَّوَالُدِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى، إِذْ كَانَتِ الْأَجْسَادُ كَاللِّبَاسِ لِلْأَرْوَاحِ أَوِ السَّكَنِ لَهَا، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ قَدْ بَلَغُوا مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْ يُحَلِّلُوا بَعْضَ الْمَوَادِّ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ عَنَاصِرَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ يَرْكَبُوهَا، أَفَيَعْجِزُ خَالِقُ الْعَالَمِ كُلِّهِ أَوْ يُسْتَبْعَدُ عَلَى قُدْرَتِهِ أَنْ يُعِيدَ أَجْسَادَ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَهُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ ! . عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الرُّوحِيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى الْأَرْوَاحَ الْمُجَرَّدَةَ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَادَّةِ الْكَوْنِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وَأَنَّهَا بِذَلِكَ تُرَكِّبُ لِنَفْسِهَا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ جِسْمًا لَطِيفًا أَوْ كَثِيفًا تَحِلُّ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاؤُنَا بِالتَّشَكُّلِ فِي تَفْسِيرِ مَجِيءِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِشَكْلِ أَعْرَابِيٍّ وَأَحْيَانًا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَتَمَثُّلِهِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَادِّيُّونَ لَا يُصَدِّقُونَ الرُّوحَانِيِّينَ فِي هَذَا، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا قُصَارَى إِنْكَارِهِمْ أَنْ قَالُوا إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ

عِنْدَنَا. وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا غَيْرَ مُحَالٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّا وَهَبَ الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقِ، أَفَيَكُونُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَفْعَلَهُ الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْأَرْوَاحِ فِيهِ عَمَلًا؟ . لَيْسَ لِلْكُفَّارِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَسْتَبْعِدُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ قَدْ قَرَّبَهُ تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ كُبَرَاءِ الْغَرْبِ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مُحَالٌ. وَلَكِنْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ شُبْهَةٌ عَلَى حَشْرِ الْأَجْسَادِ تُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ لِكَيْ يَقَعَ الْجَزَاءُ بَعْدَهُ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي اقْتَرَفَ الْأَعْمَالَ. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْإِيرَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهَا مَادَّةُ الْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يَعْرِضُ لَهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّرْكِيبُ فَتَدَخُلُ الطَّائِفَةُ مِنْهَا فِي عِدَّةِ أَبْدَانٍ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَمِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَا تَأْكُلُهُ الْحِيتَانُ أَوِ الْوُحُوشُ وَمِنْهَا مَا يُحْرَقُ فَيَذْهَبُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَّصِلُ كُلُّ بُخَارِيٍّ - أَوْ غَازِيٍّ - مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَبُخَارِ الْمَاءِ وَعُنْصُرَيْهِ وَالْكَرْبُونِ، وَيَنْحَلُّ مَا يُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ فِيهَا ثُمَّ يَتَغَذَّى بِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي يَأْكُلُ بَعْضَهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَجْسَادِهَا، وَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ لُحُومِ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي تَغَذَّتْ مِنْ أَجْسَادِ النَّاسِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، فَلَا يَخْلُصُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ جَسَدٌ خَاصٌّ بِهِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ تَنْحَلُّ وَتَنْدَثِرُ بِالتَّدْرِيجِ، وَكُلَّمَا انْحَلَّ بَعْضُهَا بِالتَّبَخُّرِ وَبِمَوْتِ بَعْضِ الدَّقَائِقِ الْحَيَّةِ يَحِلُّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْغِذَاءِ بِنِسْبَةِ الدَّمِ الْمُتَحَوِّلِ مِنْ مُنْتَظِمَةٍ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَلَا يَمُرُّ بِضْعُ سِنِينَ عَلَى جَسَدٍ إِلَّا وَيَتِمُّ انْدِثَارُهُ وَتَجَدُّدُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لِلْجَسَدِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً وَأَجْزَاءً فَضْلِيَّةً، وَالَّذِي يُعَادُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْأَصْلِيُّ دُونَ الْفَضْلَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْأَصْلِيَّ عِبَارَةً عَنْ ذَرَّاتٍ صَغِيرَةٍ كَعَجَبِ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ أَنَّهُ كَحَبَّةِ خَرْدَلٍ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْدَعَهَا فِي صُلْبِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ بِصُورَةِ الذَّرِّ، كَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (172) الْآيَةَ - وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَجَوَّزَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرُ فِي الرِّسَالَةِ الْحُمَيْدِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذَّرُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِتَنَاهِي صِغَرِهِ كَالْأَحْيَاءِ الْمِجْهَرِيَّةِ أَيِ الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِنْظَارِ الْمُسَمَّى بِالْمِجْهَرِ (الميكروسكوب) . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْتِزَامَ الْقَوْمِ بِوُجُوبِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ لِكُلِّ حَيٍّ بِأَعْيَانِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا غَيْرُ لَازِمٍ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، فَجَمِيعُ قُضَاةِ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَبْدَانَ الْبَشَرِ تَتَجَدَّدُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ

غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَقُولُ إِنَّ الْعِقَابَ يَسْقُطُ عَنِ الْجَانِي بِانْحِلَالِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ الَّتِي زَاوَلَ بِهَا الْجِنَايَةَ وَتَبَدَّلَ غَيْرُهَا بِهَا. فَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا فَمَا نَحْنُ بِمُلْزَمِينَ قَبُولَ الْإِيرَادِ وَتَكَلُّفَ دَفْعِهِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذَا التَّبَدُّلِ، فَقَدْ تَبَدَّلَتْ أَجْسَادُنَا مِرَارًا وَلَمْ تَتَبَدَّلْ بِهَا حَقِيقَتُنَا وَلَا مَدَارِكُنَا، وَلَا تَأْثِيرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي زَاوَلْنَاهَا قَبْلَ التَّبَدُّلِ فِي أَنْفُسِنَا، بَلْ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّبَدُّلُ إِلَّا كَتَبَدُّلِ الثِّيَابِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَعْلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمِثْلِ هَذَا وَلَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ الْأَخِيرَةُ مَعْلُومَةً فِي عَصْرِهِمْ، قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ أَشْهَرُ كُتُبِ الْكَلَامِ فِي التَّحْقِيقِ بَعْدَ بَيَانِهِ لِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا مَا نَصُّهُ: " نَعَمْ رُبَّمَا يَمِيلُ كَلَامُهُ وَكَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَعَادَيْنِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِذَلِكَ الْبَدَنِ بَدَنًا فَيُعِيدُ إِلَيْهِ نَفْسَهُ الْمُجَرَّدَةَ الْبَاقِيَةَ بَعْدَ خَرَابِ الْبَدَنِ. وَلَا يَضُرُّنَا كَوْنُ غَيْرِ الْبَدَنِ الْأَوَّلِ بِحَسَبِ الشَّخْصِ وَلَا امْتِنَاعُ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ، وَمَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ جُرْدًا مُرْدًا، وَكَوْنِ ضِرْسِ الْكُفَّارِ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ يُعَضِّدُ ذَلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (4: 56) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (36: 81) إِشَارَةً إِلَى هَذَا. (فَإِنْ قِيلَ) : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُثَابُ وَالْمُعَاقَبُ بِاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْجُسْمَانِيَّةِ غَيْرَ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَةَ، وَارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ. (قُلْنَا) : الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْإِدْرَاكِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلرُّوحِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الْآلَاتِ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ، وَكَذَا الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ مِنَ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلشَّخْصِ مِنَ الصِّبَا إِلَى الشَّيْخُوخَةِ إِنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ وَإِنْ تَبَدَّلَتِ الصُّوَرُ وَالْهَيْئَاتُ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ جَنَى فِي الشَّبَابِ فَعُوقِبَ فِي الْمَشِيبِ إِنَّهَا عُقُوبَةٌ لِغَيْرِ الْجَانِي. (قَالَ) " لَنَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ دَلِيلُ السَّمْعِ، وَالْمُفْصِحَ عَنْهُ غَايَةَ الْإِفْصَاحِ مِنَ الْأَدْيَانِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْكُتُبِ الْقُرْآنُ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ إِثْبَاتَهُ بَلْ وُجُوبَهُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ - وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابُ الْعَاصِينَ، وَإِعْوَاضُ الْمُسْتَحِقِّينَ. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِإِعَادَتِهِمْ فَيَجِبُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَأَتَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَرُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى تَقْرِيرِ الْفَنَاءِ وَمَبْنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي كَوْنِ تَرْكِ الْجَزَاءِ ظُلْمًا لَا يَصِحُّ صُدُورُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَعَ إِمْكَانِ الْمُنَاقَشَةِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْمَعَادُ الرُّوحَانِيُّ، وَيَدْفَعُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ هِيَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَوِ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ لَا الرُّوحُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصِلُ الْجَزَاءُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ إِلَّا بِإِعَادَتِهَا.

(وَالْجَوَابُ) أَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ الْأَمْرَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ الرُّوحُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ عَلَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَهُوَ الْمَبْدَأُ لِلْكُلِّ، وَإِنِ اعْتُبِرَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَلْزَمُ أَنْ يُعَادَ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ الْكَائِنَةِ مِنْ أَوَّلِ التَّكْلِيفِ إِلَى الْمَمَاتِ وَلَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ. " وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْإِعَادَةَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَيَكُونُ وَاقِعًا. أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا عُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ أَوْ تَفَرَّقَ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِذَلِكَ. وَالْفَاعِلُ هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلِمَا تَوَاتَرَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرُهَا التَّأْوِيلَ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (36: 78، 79) . (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (36: 51) . (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (17: 51) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (75: 3، 4) (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (41: 21) (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (4: 56) (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) (50: 44) (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (100: 9) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنَ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا (وَهِيَ) كَثِيرَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِثْبَاتُ الْحَشْرِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ بِيَقِينٍ. (فَإِنْ قِيلَ) : الْآيَاتُ الْمُشْعِرَةُ بِالْمِيعَادِ الْجُسْمَانِيِّ لَيْسَتْ أَكْثَرَ وَأظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ تَأْوِيلُهَا قَطْعًا، فَلْنَصْرِفْ هَذِهِ أَيْضًا إِلَى بَيَانِ الْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَأَحْوَالِ سَعَادَةِ النُّفُوسِ وَشَقَاوَتِهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلَائِقِ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ النِّظَامِ الْمُفْضِي إِلَى صَلَاحِ الْكُلِّ، وَذَلِكَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْبِشَارَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ لَذَّةً وَكَمَالًا، وَالْإِنْذَارِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ أَلَمًا وَنُقْصَانًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَوَامٌّ تَقْصُرُ عُقُولُهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَرِفُوهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. فَوَجَبَ أَنْ تُخَاطِبَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا هُوَ مِثَالٌ لِلْمَعَادِ الْحَقِيقِيِّ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا لِلْعَوَامِّ، وَتَتْمِيمًا لِأَمْرِ النِّظَامِ. وَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ مَثَلٌ وَخَيَالَاتٌ لِلْفَلْسَفَةِ. (قُلْنَا) : إِنَّمَا يَجِبُ التَّأْوِيلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّاهِرِ وَلَا تَعَذُّرَ هَاهُنَا، سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْبَدَنِ الْمُعَادِ مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا عَيْنَهُ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ عَلَى

الْإِشَارَةِ إِلَى مِثَالِ مَعَادِ النَّفْسِ وَالرِّعَايَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ نِسْبَةً لِلْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْقَصْدِ إِلَى تَضْلِيلِ أَكْثَرِ الْخَلَائِقِ وَالتَّعَصُّبِ طُولَ الْعُمْرِ لِتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ وَإِخْفَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا هَذِهِ الظَّوَاهِرَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا عِنْدَكُمْ. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ مَعَ إِرَادَتِهَا مِنَ الْكَلَامِ وَثُبُوتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَثَلٌ لِلْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَذَا أَكْثَرُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَنْ يَنْفِيهِ اهـ. كَلَامُ التَّفْتَازَانِيِّ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا تَظْهَرُ لَهُ دِقَّةُ أَفْهَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ صَوَّرُوا الشُّبْهَةَ بِنَحْوٍ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الْعَصْرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَجَابُوا عَنْهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ جَوَابٍ آخَرَ، وَمَا قَالَهُ الْفَارَابِيُّ وَأَمْثَالُهُ فَهُوَ كَأَكْثَرِ فَلْسَفَتِهِمْ فِيمَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ جَهلًا بِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، وَضَلَالًا فِي تَأْوِيلِ الْأَدْيَانِ، فَالْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ، وَكَمَالُهُ بِحُصُولِ لَذَّاتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ جَمِيعًا وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ رُوحَانِيًّا مَحْضًا لَكَانَ مَلَكًا أَوْ شَيْطَانًا وَلَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِرَارًا. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ الْفَضْلِيَّةِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ، وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ بِالذَّرِّ أَوْ مَا يُشْبِهُ الَّذِي وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي صُلْبِ آدَمَ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ الْمُشَبَّهَةُ بِالذَّرِّ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَعْنِيهَا مَنْ يَقُولُونَ بِحَشْرِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا. وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهًا آخَرَ مِنَ النَّظَرِ الْعِلْمِيِّ وَهُوَ خَلْقُ اللهِ لِلْبَشَرِ فِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ جَرَاثِيمَ حَيَّةً تَتَسَلْسَلُ فِي سَلَائِلِهِمُ التَّنَاسُلِيَّةِ، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ أُصُولِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ أَخْفَى مَسَائِلِ الْخَلْقِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْمَبَاحِثِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ فِي حَالِهَا هَذِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْلٍ حَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ مِنْ جَرَاثِيمِ الْأَحْيَاءِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّبَاتِيَّةِ يَنْدَمِجُ فِيهِ جَمِيعُ مُقَوِّمَاتِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا إِذَا قُدِّرَ لَهُ أَنْ يُولَدَ وَيَنْمَى وَيَكْمُلَ خَلْقُهُ، فَنَوَاةُ النَّخْلَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ خَوَاصِّ النَّخْلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا حَتَّى لَوْنِ بُسْرِهَا وَشَكْلِهِ وَدَرَجَةِ حَلَاوَتِهِ عِنْدَمَا يَصِيرُ رَطْبًا فَتَمْرًا، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ كَيْفَ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْجَرَاثِيمُ فِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ مِنْهُمُ الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْأَنْوَاعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَالْقَائِلُونَ بِالْخَلْقِ التَّدْرِيجِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ النُّشُوءِ، وَالِارْتِقَاءِ، إِلَّا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ نَظَرِيَّةً فِي تَصْوِيرِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ مِنْ مَادَّةٍ زُلَالِيَّةٍ مُكَوَّنَةٍ مِنْ عَنَاصِرَ مُخْتَلِفَةٍ لَهَا قُوَى التَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَالُدِ، فِي وَقْتٍ كَانَتْ طَبِيعَةُ الْأَرْضِ فِيهَا غَيْرَ طَبِيعَتِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ وَمَا يُشْبِهُهُ مُنْذُ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ وَلَكِنْ كَيْفَ صَارَ لِمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى وَالْعُلْيَا، جَرَاثِيمُ مُشْتَمِلَةٌ

عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ لَا تَتَوَلَّدُ إِلَّا مِنْهَا؟ إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ بِهَذَا وَلَا بِمَا قَبْلَهُ (مَا أَشْهَدَتْهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (18: 51) . أَطَالَ شَيْخُنَا حُسَيْنُ الْجِسْرُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَأَثْبَتَ أَنَّهَا مِنَ الْمُمْكَنَاتِ إِذْ لَا مُحَالَ فِي إِيدَاعِ الْمَلَايِينِ الْكَثِيرَةِ مِنَ النَّسَمِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْحَيَّةِ بِعَدَدِ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ، وَارْتَأَى أَنَّ مُسْتَوْدَعَهَا مِنْ آدَمَ كَانَ فِي مَنِيِّهِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ بِالْوِقَاعِ (قَالَ) " فَتَحِلُّ فِي الْبُزُورِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مِبْيَضِ زَوْجَتِهِ فَيَكُونُ هَيَاكِلُهَا مِنْ تِلْكَ الْبُزُورِ مَعَ السَّائِلِ الْمَنَوِيِّ وَيُطَوِّرُهَا أَطْوَارًا حَتَّى تَبْلُغَ صُورَةَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَوَّلُ ذَرَّةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ نَقَلَهَا إِلَى بِزْرَتِهَا نَقَلَ مَعَهَا عَدَدَ الذَّرَّاتِ الَّتِي تَكُونُ أَوْلَادًا لَهَا ثُمَّ يَنْقِلُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ فِيمَا بَعْدُ عَنْ هَيْكَلِ هَذِهِ الذَّرَّةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي بَقِيَّةِ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ يَفْعَلُ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. . . وَعِنْدَ بُلُوغِ كُلِّ هَيْكَلٍ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ يُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى الرُّوحَ فَتَحِلُّ فِي ذَرَّتِهَا وَتَسْرِي فِيهَا وَفِي هَيْكَلِهَا الْحَيَاةُ وَالْحَرَكَةُ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ مَجْمُوعُ الرُّوحِ وَالذَّرَّةِ، وَهَذِهِ الذَّرَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي قَالَ بِهَا أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا الْبَاقِيَةُ مُدَّةَ الْعُمْرِ وَهِيَ الْمُعَادَةُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَهَا بِالْمَوْتِ، وَالْهَيْكَلُ هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ الَّتِي تَرُوحُ وَتَجِيءُ وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ. فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مَوْتَ الْإِنْسَانِ فَصَلَ عَنْ ذَرَّتِهِ الرُّوحَ، فَفَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ وَفَارَقَتِ الْهَيْكَلَ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ وَحَلَّهُمَا الْمَوْتُ، فَيَأْخُذُ الْهَيْكَلُ بِالِانْحِلَالِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالدُّخُولِ فِي تَرْكِيبِ غَيْرِهِ مَا يَجْرِي، وَالذَّرَّةُ مَحْفُوظَةٌ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى كَمَا تُحْفَظُ ذَرَّاتُ الذَّهَبِ مِنَ الْبِلَى وَالِانْحِلَالِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي تَرْكِيبِ حَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ هَيْكَلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ مَحْفُوظَةً غَيْرَ مُنْحَلَّةٍ، فَإِذَا انْحَلَّ ذَلِكَ الْهَيْكَلُ عَادَتْ مَحْفُوظَةً فِي أَطْبَاقِ الثَّرَى وَلَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ، غَايَةُ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لَهَا، وَانْحِلَالُ هَيْكَلِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى حَيَاتَهَا أَعَادَ الرُّوحَ إِلَيْهَا، فَتَعُودُ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ وَبَقِيَّةُ خَوَاصِّهَا وَإِنْ كَانَ هَيْكَلُهَا مُنْحَلًّا. وَمِنْ هُنَا تَنْحَلُّ شُبَهُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ الَّتِي وَرَدَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ قَبْلَ الْبَعْثِ. " ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ الْخَلْقَ لِلْحِسَابِ أَعَادَ تَكْوِينَ هَيَاكِلِ الذَّرَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ، سَوَاءً كَانَتْ هِيَ الْأَجْزَاءَ السَّابِقَةَ أَوْ غَيْرَهَا - إِذِ الْمَدَارُ عَلَى عَدَمِ تَبَدُّلِ الذَّرَّاتِ، وَأَحَلَّ الذَّرَّاتِ فِي تِلْكَ الْهَيَاكِلِ، وَبِتَعَلُّقِ الرُّوحِ بِهَا تَقُومُ فِيهَا وَفِي هَيَاكِلِهَا الْحَيَاةُ، وَيَقُومُ الْبَشَرُ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا فِي بَقِيَّةِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ تَفْصِيلِهِ ".

ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمَادِّيِّينَ الْأَمْثَالَ الْمُقَرِّبَةَ لِذَلِكَ بِأَنْوَاعِ جَنَّةِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ " الْمَيِكْرُوبَاتِ " وَحَيَاتِهَا فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا بِنِظَامٍ غَرِيبٍ، وَدُخُولِ الْمَرَضِيَّةِ مِنْهَا فِي أَجْسَادِ الْمَرْضَى وَسَرَيَانِهَا فِي دَوْرَةِ الدَّمِ، وَبِالْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةِ مِنْهَا فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ وَيُلَقِّحُ بَذُورَ الْأُنْثَى - وَقَالَ بَعْدَ تَلْخِيصِ مَا قَالُوهُ فِي صِفَتِهَا وَقَدْرِهَا وَحَرَكَتِهَا -: فَأَيُّ مَانِعٍ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةَ جَعَلَهَا الْخَالِقُ تَعَالَى تَحْمِلُ ذَرَّاتِ بَنِي آدَمَ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَتَسِيرُ بِهَا فِي السَّائِلِ الْمَنَوِيِّ حَتَّى تُلْقِيَهَا فِي الْبُزُورِ الْمُنْفَصِلَةِ مِنْ مِبْيَضِ الْمَرْأَةِ؟ . . . ثُمَّ عَلَّلَ بِهَذَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَبِ إِلَى الْأُمِّ خِلَافًا لِقَوْلِهِمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ بِزْرَةِ أُمِّهِ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّلْقِيحِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَمَلَ الْقَلْبِ وَتَعْلِيلَهُمْ لِحَرَكَتِهِ الْمُنْتَظِمَةِ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ مَرْكَزُ الذَّرَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَنَّهَا بِحُلُولِ الرُّوحِ فِيهَا تَتَحَرَّكُ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْمُنْتَظِمَةُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا دَوْرَةُ الدَّمِ، وَبَعْدَ إِيضَاحِ ذَلِكَ قَالَ: " وَخُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْحَقِيقِيَّ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ هُوَ الذَّرَّةُ الَّتِي تَحِلُّ فِي الْقَلْبِ وَتَحِلُّ فِيهَا الرُّوحُ فَتُكْسِبُهَا الْحَيَاةَ وَتَسْرِي الْحَيَاةُ إِلَى الْهَيْكَلِ، ثُمَّ الْهَيْكَلُ إِنَّمَا هُوَ آلَةٌ لِقَضَاءِ أَعْمَالِ تِلْكَ الذَّرَّةِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَلِاكْتِسَابِ مَعَارِفِهَا بِسَبَبِهِ، وَتِلْكَ الذَّرَّةُ مَعَ الرُّوحِ الْحَالَّةِ فِيهَا هِيَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمَعَادِ وَالْمُنَعَّمِ وَالْمُعَذَّبِ - إِلَى آخِرِ مَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ. " وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ نَجِدُ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْبَعْثِ وَسُؤَالِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ وَحَيَاةِ بَعْضِ الْبَشَرِ فِي قُبُورِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَقَطَتْ بِرُمَّتِهَا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَاللهُ أَعْلَمُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ صَرِيحَةٌ فِي إِعَادَةِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ أَوْ بَعْضِهِ كَالْعِظَامِ - كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ السَّعْدِ - وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَرَدَتْ لِدَفْعِ إِشْكَالَاتٍ أُخْرَى كَانَتْ تَعْرِضُ لِأَفْكَارِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي إِعَادَتِهَا، إِذْ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ لَا تَنْصَرِفُ أَفْكَارُهُمْ إِلَّا إِلَى إِعَادَةِ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمُشَاهَدِ لَهُمْ، فَيَقُولُونَ كَيْفَ تَعُودُ الْحَيَاةُ لِلْعِظَامِ بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ رَمِيمًا؟ فَتَدْفَعُ هَذِهِ النُّصُوصُ إِشْكَالَاتِهِمْ بِقُدْرَةِ اللهِ الشَّامِلَةِ وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ. (قَالَ) : وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّوَجُّهَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي إِعَادَةِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الذَّرَّاتُ لِتَدْفَعَ بِهِ الْإِشْكَالَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي تَقَدَّمَتْ فَلْيُتَأَمَّلْ، اهـ. ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِنَّ مَا حَرَّرَهُ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ عَمَّنْ يَعْرِضُ لَهُ. فَهَذَا مُلَخَّصُ رَأْيِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ كَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُحَاوَلَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَضْلِيَّةِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِكُلِّ فَرْدٍ ذَرَّةً حَيَّةً فِي بَدَنِهِ كَالْجِنَّةِ الَّتِي لَا تُرَى فِي الْمَاءِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِمَا بِغَيْرِ الْمِنْظَارِ الْمُكَبِّرِ (الْمِجْهَرِ) .

نَعَمْ إِنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَحْمِلَ الْحَيَوَانُ الْمَنَوِيُّ الَّذِي يُلَقِّحُ بُوَيْضَةَ الْمَرْأَةِ فِي الرَّحِمِ ذَرَّةً حَيَّةً هِيَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَيَوَانُ الْمَنَوِيُّ نَفْسُهُ هُوَ الَّذِي يُنَمَّى فِي الْبُوَيْضَةِ وَيَكُونُ إِنْسَانًا، وَأَنَّ أَصْلَهُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنِ ازْدِوَاجِ خَلِيَّتِهِ بِخَلِيَّتِهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَأَيُّهَا كَانَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِكِبَرِهِ وَنَمَائِهِ كَمَا تَكُونُ نَوَاةُ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً بَاسِقَةً مُثْمِرَةً، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْفَرْعُ عَيْنَ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ آخَرُ بِشَكْلٍ مُصَغَّرٍ فِي هَذَا الْهَيْكَلِ لَا فِي الْقَلْبِ وَلَا فِي الْمَنِيِّ، وَإِنَّمَا قَدْ يَكُونُ فِي هَيْكَلِهِ أَصْلٌ وَأُصُولٌ لِأَنَاسِيِّ آخَرِينَ يَكُونُونَ فُرُوعًا لَهُ إِذَا أَرَادَ اللهُ ذَلِكَ، كَمَا يَكُونُ لِلنَّخْلَةِ النَّابِتَةِ مِنَ النَّوَاةِ نَوَى كَثِيرَةً يُمْكِنُ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا نَخْلٌ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ أَنَّ سِرَّ حَرَكَةِ الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ لَا يَزَالُ مَجْهُولًا، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ الْوَارِدَ مِنْهُ إِلَى الْخِصْيَتَيْنِ هُوَ الَّذِي يُغَذِّيهِمَا، وَبِتَغَذِّيهِمَا بِهِ تَنْقَسِمُ خَلَايَاهُمَا فَتَتَوَلَّدُ الْحَيَوَانَاتُ الْمَنَوِيَّةُ مِنِ انْقِسَامِهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، تَتَغَذَّى بِالتَّوَالُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنِ انْقِسَامِ الْخَلَايَا الَّتِي تَتَكَوَّنُ بِنْيَتُهَا مِنْهَا، وَمِنْ غَرِيبِ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أَنَّ فِي كُلِّ خَلِيَّةٍ مِنْ خَلَايَا الْأَجْسَادِ الْحَيَّةِ نُوَيَّتَيْنِ (تَصْغِيرُ نَوَاةِ) صَغِيرَتَيْنِ تَتَوَلَّدُ الْخَلِيَّةُ الْجَدِيدَةُ بِاقْتِرَانِهِمَا، فَسُنَّةُ الزَّوَاجِ عَامَّةٌ فِي أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ وَفِي دَقَائِقِ بِنْيَةِ كُلٍّ مِنْهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ: وَسُنَّةُ الزَّوَاجِ فِي النِّتَاجِ بَلْ كُلُّ تَوَلُّدٍ تَرَاهُ فِي الدُّنَا فَاجْتَلَّهُ فِي الْحَيَوَانِ نَاطِقًا وَأَعْجَمًا وَفِي النَّبَاتِ الْمُجْتَنَى بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ بَدَتْ فِي بِنْيَةٍ زَادَ بِهَا الْحَيُّ امْتِدَادًا وَنَمَى خَلِيَّةٌ تُقْرَنُ فِي غُضُونِهَا نُوَيَّتَانِ فَإِذَا الْفَرْدُ زَكَا وَالْحَيَوَانَاتُ الْمَنَوِيَّةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الْخَلَايَا الْمُبَطَّنَةِ بِهَا الْخُصْيَةُ مِنْ دَاخِلِهَا بِسَبَبِ تَغْذِيَةِ الدَّمِ لَهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ سَبَبٍ خَفِيٍّ لِذَلِكَ كَذَرَّاتٍ حَيَّةٍ لَا تُرَى فِي الْمَنَاظِيرِ الْمُكَبِّرَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ، فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ مَنَاظِيرُ أَرْقَى مِنْهَا يَرَى فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَكْتِرْيَا مَا لَا يُرَى الْآنَ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَوَانَ الْمَنَوِيَّ لَهُ خَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ رَأْسٌ وَجِسْمٌ وَذَنَبٌ وَرَأْسُهُ هُوَ نَوَاةُ الْخَلِيَّةِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ شَدِيدُ الِاضْطِرَابِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ عَهْدِ بُلُوغِ الْحُلُمِ لَا قَبْلَهُ، فَإِذَا وَصَلَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى مَعَ الْمَنِيِّ الَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ تَبْحَثُ بِطَبِيعَتِهَا عَنِ الْبُوَيْضَةِ

58

الَّتِي فِيهِ، فَالَّذِي يَعْلُقُ بِهَا يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِيهَا وَهِيَ مِثْلُهُ ذَاتُ نَوَاةٍ أَوْ نُوَيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَحْصُلُ التَّلْقِيحُ بِاقْتِرَانِ النُّوَيَّتَيْنِ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُوَيْضَاتِ النَّسْلِ تَكُونُ فِي الْبِنْتِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهَا فَتُولَدُ وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنْهَا مَعْدُودَةٌ لَا تَزِيدُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَسْقُطُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ تَتَكَوَّنُ فِيهَا بُوَيْضَاتُ النَّسْلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِسَبَبِ دَمِ الْحَيْضِ، ذَلِكَ بِأَنَّ فِي دَاخِلِ الرَّحِمِ عُضْوَيْنِ مُصْمَتَيْنِ يُشْبِهَانِ خُصْيَتَيِ الرَّجُلِ يُسَمَّيَانِ الْمِبْيَضَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي دَاخِلِهِمَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً جِدًّا لَا تُرَى إِلَّا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُكَبِّرَةِ تَكُونُ فِي حُوَيْصِلَاتٍ يَقْتَرِبُ بَعْضُهَا مِنْ سَطْحِ الْمِبْيَضِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْفَجِرَ فَتَخْرُجُ مِنْهُ الْبُوَيْضَةُ إِلَى بُوقِ الرَّحِمِ، فَتَكُونُ مُسْتَعِدَّةً بِذَلِكَ لِتَلْقِيحِ الْحَيَوَانِ الْمَنَوِيِّ لَهَا، وَأَكْثَرُهَا يَضْمُرُ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ وَلَا يَنْفَجِرَ، وَإِنَّمَا يَنْفَجِرُ مَا يَنْفَجِرُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ كُلَّ حَيْضَةٍ تُفَجِّرُ حُوَيْصَلَةً وَاحِدَةً، تَكُونُ مِنْهَا بُوَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّنَاوُبِ بَيْنَ الْمِبْيَضَيْنِ مَرَّةً فِي الْأَيْمَنِ وَمَرَّةً فِي الْأَيْسَرِ، وَقَدِ اهْتَدَى أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ إِلَى أَنَّ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْأُنْثَى، وَأَنَّهُ مَتَى عُرِفَ بِوَضْعِ الْمَرْأَةِ أَوَّلَ وَلَدٍ لَهَا مَتَى كَانَ حَمْلُهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بَعْدَ ذَلِكَ دَوْرُ بُوَيْضَةِ الذَّكَرِ وَدَوْرُ بُوَيْضَةِ الْأُنْثَى فِي الْغَالِبِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ لِنَوْعِ الْمَوْلُودِ إِنْ قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمَا. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (6: 59) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا التَّوْأَمَانِ فَسَبَبُهُمَا إِمَّا انْفِجَارُ بُوَيْضَتَيْنِ فَأَكْثَرَ شُذُوذًا، وَإِمَّا اشْتِمَالُ الْبُوَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى نُوَيَّتَيْنِ يُلَقَّحَانِ مَعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ لِلِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَدَقَائِقِ حِكْمَتِهِ بَعْدَ تَوْفِيَةِ مَسْأَلَةِ الْبَعْثِ حَقَّهَا مِنَ الْبَحْثِ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ بَحْثُ التَّكْوِينِ فِي سِيَاقِ خَلْقِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ. ضَرَبَ اللهُ إِحْيَاءَ الْبِلَادِ بِالْمَطَرِ، مَثَلًا لِبَعْثِ الْبَشَرِ، ثُمَّ ضَرَبَ اخْتِلَافَ إِنْتَاجِ الْبِلَادِ، مَثَلًا لِمَا فِي الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ، لِلْغَيِّ وَالرَّشَادِ، فَقَالَ: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، أَيْ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَرْضَ مِنْهَا الطَّيِّبَةُ الْكَرِيمَةُ التُّرْبَةِ الَّتِي يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِسُهُولَةٍ. وَيُنَمَّى بِسُرْعَةٍ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْغَلَّةِ طَيِّبَ الثَّمَرَةِ، وَمِنْهَا الْخَبِيثَةُ التُّرْبَةِ كَالْحَرَّةِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا عَلَى قِلَّتِهِ وَخُبْثِهِ - إِنْ أَنْبَتَتْ - إِلَّا بِعُسْرٍ وَصُعُوبَةٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: النَّكِدُ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ إِلَى طَالِبِهِ بِتَعَسُّرٍ

وَيُقَالُ رَجُلٌ نَكَدٌ وَنَكِدٌ (أَيْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا) وَنَاقَةٌ نَكْدَاءُ. طَفِيفَةُ الدَّرِّ صَعْبَةُ الْحَلْبِ - وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِي خَبُثَ) حَذَفَ مَوْصُوفَهُ، أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ، وَهُوَ دُونَ الْخَبِيثِ فِي الْخُبْثِ، فَإِنَّ صِيغَةَ فَعِيلٍ مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الثَّابِتَةِ، وَالنَّكِدُ قَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ هَذَا مِنَ الْخُبْثِ. وَمِنْ دِقَّةِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ دِلَاتُهُمَا عَلَى التَّرْغِيبِ فِي طَلَبِ الرُّسُوخِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَجَنُّبِ أَدْنَى الْخُبْثِ وَالنَّقْصِ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " وَقَدْ فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي نَفَعَ وَانْتَفَعَ كَالْهَادِي وَالْمُهْتَدِي، وَالثَّالِثَ الَّذِي لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ كَالْجَاحِدِ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ مِنْ دُونِهِ كَالْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ غَيْرَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تَنْبُتُ وَحَالُهُ مَعْلُومَةٌ بَلْ لَهُ أَحْوَالٌ، فَمِنْهُ الْمُنَافِقُونَ وَمِنْهُ الْمُفَرِّطُونَ وَيَدُلُّ الْمَثَلَانِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ سَبَبٌ فِطْرِيٌّ لِهَذَا التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ تُفَضَّلَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ الْكَرِيمَةُ الْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةُ الْأَعْرَاقِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ دَنِيءٍ، وَكَذَا عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَعَلِّمَةِ غَيْرِ الْكَرِيمَةِ الْخُلُقِ وَلَا الطَّيِّبَةِ الْعِرْقِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْمَعَادِنِ، وَشَبَّهَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ بِخَضْرَاءِ الدِّمْنِ أَيْ حَشِيشِ الْمَزْبَلَةِ. وَمَنِ اخْتَبَرَ النَّاسَ رَأَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّيِّبِينَ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ الْخَبِيثِينَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَلَا الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَكِدًا، بَعْدَ إِلْحَافٍ أَوْ إِيذَاءٍ فِي الطَّلَبِ أَوْ إِدْلَاءٍ إِلَى الْحُكَّامِ وَمُرَاوَغَةٍ فِي الْخِصَامِ. (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي هَذَا التَّصْرِيفِ الْبَدِيعِ الْمِثَالِ الْمُوَضَّحِ بِالْأَمْثَالِ، نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ جَلِيَّةٍ تُبَيِّنُ مُرَادَنَا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نِعَمَنَا، بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُنَا، فَيَسْتَحِقُّونَ مَزِيدًا مِنْهَا، وَتَثْوِيبَنَا عَلَيْهَا. عَبَّرَ بِالشُّكْرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ وَبِالتَّذْكِيرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ.

اسْتِطْرَادٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْهَوَاءِ وَالرِّيَاحِ الْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْكِيمْيَاءِ بِالْغَازِ، لَا لَوْنَ لَهُ وَلَا رَائِحَةَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا مِنْ عُنْصُرَيْنِ غَازِيَّيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمُّونَ أَحَدَهُمَا (الْأُكْسُجِينَ) وَخَاصَّتُهُ تَوْلِيدُ الِاحْتِرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ وَإِحْدَاثُ الصَّدَإِ فِي الْمَعَادِنِ وَهُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ، وَثَانِيهِمَا (الْآزُوتُّ - أَوِ النِّيتْرُوجِينُ) وَهُوَ أَخَفُّ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ وَزْنًا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ خَوَاصِّهِ وَمِنْ عَنَاصِرَ أُخْرَى (كَالْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ (وَحَمْضِ الْكَرْبُونِ) وَهُوَ أَصْلُ مَادَّةِ الْفَحْمِ وَغَازِهِ السَّامِّ (وَالْهِلْيُومِ وَالنِّيُونِ وَالْكِرِيتُونِ) وَهِيَ عَنَاصِرُ اكْتُشِفَتْ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَتَكْثُرُ فِيهِ أَنْوَاعُ الْغَازَاتِ وَالْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ وَتَخْتَلِفُ كَثْرَةُ هَذِهِ الْمَوَادِّ وَقِلَّتُهَا بِاخْتِلَافِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا إِلَى مَسَافَةِ 300 كِيلُو مِتْرٍ بِالتَّقْرِيبِ. يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ عُنْصُرَ الْحَيَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَمْ تُوجَدِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا النَّبَاتِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْإِنْسَانُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ تَسْتَنْشِقُ الْهَوَاءَ فَيُطَهِّرُ مَا فِيهِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ دِمَاءَهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ فَيَخْرُجُ بِالتَّنَفُّسِ إِلَى الْجَوِّ فَيَتَغَذَّى بِهِ النَّبَاتُ. وَلَوِ احْتَبَسَ مَا يَتَّلِدُ فِي دَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السُّمُومِ الْآلِيَّةِ فِي صَدْرِهِ لَأَمَاتَهُ مَسْمُومًا كَمَا يَمُوتُ الْغَرِيقُ بِعَدَمِ دُخُولِ الْهَوَاءِ فِي رِئَتَيْهِ. فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مِصْبَاحِ زَيْتِ الْبِتْرُولِ الَّذِي يَمُدُّ أُكْسُجِينُ الْهَوَاءِ اشْتِعَالَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى فُوَّهَةِ زُجَاجَةِ الْمِصْبَاحِ غِطَاءً مُحْكَمًا يَنْطَفِئُ نُورُهُ سَرِيعًا؟ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ كَالسَّمَكِ فَإِنَّ الْهَوَاءَ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ كَافٍ لَهَا. وَالنَّبَاتُ يَمْتَصُّ الْكَرْبُونَ السَّامَّ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَتَغَذَّى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَدَعُ الْأُكْسُجِينَ لِلْحَيَوَانِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْهُ حَظَّهُ، وَيُفِيدُ فِي الْحَيَاةِ صِنْوَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ: وَالْبَاسِقَاتُ رَفَعَتْ أَكُفَّهَا تَسْتَنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَطْلُبُ النَّدَى تَمْتَلِجُ الْكَرْبُونَ مِنْ ضَرْعِ الْهَوَى تُؤْثِرُنَا بِالْأُكْسُجِينِ الْمُنْتَقَى وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ يُسَاعِدُ جُذُورَ النَّبَاتِ عَلَى امْتِصَاصِهَا الْغِذَاءَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ إِنَّ السُّمُومَ الَّتِي تَنْحَلُّ فِي الْبَدَنِ يَخْرُجُ قِسْمٌ عَظِيمٌ مِنْهَا مِنْ مَسَامِّهِ بُخَارًا أَوْ عَرَقًا فَيَمْتَصُّهَا الْهَوَاءُ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْجَوِّ الْوَاسِعِ، وَلَوِ انْسَدَّتْ مَسَامُّ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّئَتَيْنِ كَافِيًا لِوِقَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ مِيتَةِ التَّسَمُّمِ.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْهَوَاءِ الَّتِي يَغْفُلُ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ شُكْرِ الرَّبِّ عَلَيْهَا تَطْهِيرُهُ سَطْحَ الْأَرْضِ الَّتِي نَعِيشُ عَلَيْهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْقَذِرَةِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ فِيهَا مِنْ جِنَّةِ الْأَحْيَاءِ الضَّارَّةِ " مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ " فَهُوَ يَمْتَصُّهَا وَيَدْفَعُهَا فِي هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ فَيَتَفَرَّقُ شَمْلُهَا وَتَزُولُ قُوَّةُ اجْتِمَاعِهَا، وَقَدْ تَمُوتُ مُحْتَرِقَةً بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَيَنْبَغِي اتِّقَاءُ الْغُبَارِ الَّذِي يَحْمِلُهَا فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " تَنَكَّبُوا الْغُبَارَ فَإِنَّ مِنْهُ النَّسَمَةَ " وَهِيَ ذَاتُ النَّفْسِ الْحَيَّةِ بَلْ لَوْلَا الْهَوَاءُ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَجِفَّ ثَوْبٌ غُسِلَ، بَلْ لَكَانَتِ الْأَرْضُ مَغْمُورَةً بِالْمَاءِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ بِغَيْرِ الْهَوَاءِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفَةٌ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُزْدَوِجٌ بِالْآخَرِ فَالْهَوَاءُ يَتَخَلَّلُ الْمِيَاهَ، وَالْمُجَاوِرُ مِنْهُ لِلْأَرْضِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ وَهُوَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَقُرْبِهِ مِنْهَا، وَمِمَّا أَثْبَتَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ فِي الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَوِّ كَقُلَلِ الْجِبَالِ وَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّ عُنْصُرَ (الْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ يَكْثُرُ كَثْرَةً عَظِيمَةً فِي أَعْلَى كُرَةِ الْهَوَاءِ، وَيَقِلُّ الْأُكْسُجِينُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَكْثُرُ بِجِوَارِ الْأَرْضِ لِثِقْلِهِ النَّوْعِيِّ فَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ صِنْوِهِ النِّيتْرُوجِينِ وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْهَوَاءَ يَتَحَوَّلُ بِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالضَّغْطِ إِلَى مَاءٍ ثُمَّ إِلَى جَلِيدٍ - كَمَا أَنَّ الْمَاءَ يَتَبَخَّرُ بِالْحَرَارَةِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاءً أَوْ كَالْهَوَاءِ فِي لَطَافَتِهِ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَحْسَبُونَهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَعُلَمَاءُ الْعَرَبِ فَرَّقُوا بَيْنَ بُخَارِ الْمَاءِ وَكُرَةِ الْهَوَاءِ. وَلَكِنَّ اسْمَ الْبُخَارِ فِي لُغَتِهِمْ يَشْمَلُ كُلَّ الْمَوَادِّ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَصْعَدُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ " الْغَازَاتِ " وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِي الْهَوَاءِ مِنْ حَيْثُ حَجْمِهِ لَا ثِقْلِهِ 21 جُزْءًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ و87 فِي الْمِائَةِ مِنَ النِّيتْرُوجِينِ وَوَاحِدًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأَرْغُونِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ فِي الْهَوَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْأَرْضِ وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ لِحَيَاةِ أَكْثَرِ الْأَحْيَاءِ حَيَاةً صَالِحَةً مُعْتَدِلَةً، فَإِذَا زَادَ الْأُكْسُجِينُ زِيَادَةً كَبِيرَةً أَوْ نَقُصَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ بَلْ يَصِيرُ نَارًا مُحْرِقَةً أَوَسُمًّا زُعَافًا. فَكَوْنُ النِّيتْرُوجِينِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْأُوكْسُجِينِ فِي حَجْمِ الْهَوَاءِ ضَرُورِيٌّ لِتَعْدِيلِهِ وَجَعْلِهِ صَالِحًا لِذَلِكَ. وَالنِّيتْرُوجِينُ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَالِحًا لِلْحَيَاةِ - فَهُوَ إِذَا وُضِعَ فِيهِ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَمُوتَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ سَامٍّ - وَضَرُورَتُهُ لِلْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ تَعْدِيلِهِ لِلْأُكْسُجِينِ وَمَنْعِهِ إِيَّاهُ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ذَاتِهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْعُلْيَا مِنْهَا وَأَعْلَاهَا الْإِنْسَانُ، فَإِذَا خَلَا طَعَامُهَا مِنَ الْمَادَّةِ النِّيتْرُوجِينِيَّةِ لَمْ يَكْفِ لِحَيَاتِهَا بِهِ. وَالنِّيتْرُوجِينُ يُوجَدُ فِي أَجْسَامِ النَّبَاتِ كَمَا يُوجَدُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ وَبَيْضِهِ وَلَبَنِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ

فِيهِ، وَالنَّبَاتُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَسَائِرُ غِذَاءِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْمَوَادِّ النَّبَاتِيَّةِ، وَمُعْظَمُهَا مِنَ الْكَرْبُونِ، وَهُوَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَمِنِ امْتِصَاصِهِ لِغَازِ الْحَامِضِ الْكَرْبُونِيِّ مِنَ الْهَوَاءِ. فَهَذَا الْغَازُ عَلَى شِدَّةِ ضَرَرِهِ وَقُوَّةِ سُمِّهِ فِي الْهَوَاءِ لِمَنْ يَسْتَنْشِقُهُ لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي رُكْنِ الْمَعِيشَةِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ النَّبَاتُ. إِذَا كَثُرَ هَذَا الْحَامِضُ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ وَاحِدًا فِي الْمِائَةِ كَانَ ضَارًّا فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ 10 فِي الْمِائَةِ صَارَ شَدِيدَ الْخَطَرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَهُوَ يَكْثُرُ فِي الْمَبَانِي الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَالَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ الزَّيْتِيَّةُ وَالْغَازِيَةُ وَكَذَا الشُّمُوعُ فَإِنَّهَا تُوَلِّدُهُ بِاحْتِرَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا نَوَافِذُ مُتَقَابِلَةٌ يَدْخُلُ الْهَوَاءُ مِنْ بَعْضِهَا وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ هَوَاءَهَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَتَسَمَّمُ دَمُ مَنْ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ 16 مِتْرًا مُكَعَّبًا مِنَ الْهَوَاءِ فِي السَّاعَةِ، وَهُوَ يَنْفُثُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ 22 لِتْرًا مِنْ هَذَا الْغَازِ السَّامِّ (الْكَرْبُونِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ جَمِيعُ النَّاسِ الِاجْتِمَاعَ وَنَوْمَ الْكَثِيرِينَ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَصَابِيحُ مُوقَدَةٌ، وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ وَقُودِ الْفَحْمِ فِيهَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلِاخْتِنَاقِ كَمَا ثَبَتَ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً، إِلَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ تَمَّ اشْتِعَالُهُ وَذَهَبَ غَازُهُ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ. عَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْخَالِقَ الْحَكِيمَ قَدْ جَعَلَ الْهَوَاءَ مُرَكَّبًا مِنَ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَجْمِ وَالثِّقْلِ مُنَاسِبَةً لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا نَقُصَ أَحَدُهَا بِتَصَرُّفِ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ فِيهِ بِالتَّغَذِّي وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالنَّفْثِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ اخْتِلَالًا وَتَفَاوُتًا فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ كَانَ لَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مَا يُعِيدُ إِلَيْهِ اعْتِدَالَهُ وَيَحْفَظُهُ لَهُ، كَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي وَرَقِ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ، وَمِنْ تَمَوُّجِ الْبِحَارِ فِي تَوْلِيدِ الْأُكْسُجِينِ، وَحَمْلِ الرِّيَاحِ لَهُ إِلَى الصَّحَارِي الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَاءِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ. تَسْتَفِيدُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مِنَ الْهَوَاءِ بِفِطْرَتِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَسْبِيٍّ وَلَا إِلَى عَمَلٍ صِنَاعِيٍّ تَهْتَدِي بِهِمَا إِلَى الْتِزَامِ مَنَافِعِهِ وَاتِّقَاءِ مَضَارِّهِ إِلَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ - وَهُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ بِمَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ يُعْرَفُ - وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ وَالْعَمَلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ وَدَقَّتْ صِنَاعَتُهُ صَارَ أَشَدَّ حَاجَةً إِلَى الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَأَهْلُ الْبَدَاوَةِ أَقَلُّ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى حَيَاةِ الْفِطْرَةِ، وَأَقَلُّ جِنَايَةً عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ. يَبْنِي أَهْلُ الْحَضَارَةِ الدُّورَ فَيَجْعَلُونَ فِي كُلِّ دَارٍ بُيُوتًا كَثِيرَةً وَمَرَافِقَ مُخْتَلِفَةً، فَإِذَا لَمْ يُرَاعُوا

فِيهَا تَخَلُّلَ الْهَوَاءِ وَنُورِ الشَّمْسِ لَهَا فَسَدَ هَوَاؤُهَا، وَكَثُرَتْ فِيهَا جِنَّةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الَّتِي تَفْتِكُ بِأَهْلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي جُمْلَةِ مَا يُقِيمُونَ مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْمَعَامِلِ وَالْمَدَارِسِ وَالثُّكْنَاتِ لِلسَّكَنِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْجُنْدِ الَّتِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا الْمَدِينَةَ إِلَى مِثْلِ مَا يُرَاعَى فِي كُلِّ دَارٍ مِنْ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، كَسِعَةِ الشَّوَارِعِ وَالْجَوَادِ الْعَامَّةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهَا مِنَ النَّوَاشِطِ الْخَاصَّةِ بِطَائِفَةٍ مِنَ السُّكَّانِ بِحَيْثُ يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِالْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ عَامًّا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ حَدَائِقُ وَبَسَاتِينُ وَاسِعَةً مُبَاحَةً لِجَمِيعِ أَهْلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ إِلَى الشَّجَرِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، وَلِيَخْتَلِفَ إِلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَحْوَجُهُمْ إِلَيْهَا الْأَطْفَالُ يَتَفَيَّئُونَ ظِلَالَهَا وَيَسْتَنْشِقُونَ هَوَاءَهَا النَّقِيَّ الْمُنْعِشَ. فَإِذَا قَصَّرُوا فِي هَذَا انْتَابَتِ الْأَمْرَاضُ مَنْ يُقِيمُونَ فِي الدُّورِ الَّتِي لَا يُطَهِّرُهَا الْهَوَاءُ وَالنُّورُ، ثُمَّ تَسْرِي إِلَى مَنْ يُخَالِطُهُمْ مِنْ سَائِرِ طَبَقَاتِ السُّكَّانِ. وَخَيْرُ الْهَوَاءِ الْمُعْتَدِلِ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْجَفَافِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَارِّ إِفْرَازُ الْعَرَقِ مِنَ الْجِلْدِ وَهُوَ مُطَهِّرٌ لِبَاطِنِ الْبَدَنِ كَتَطْهِيرِ الْحَمَّامِ لِظَاهِرِهِ، بِمَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الْمَيِّتَةِ وَالْمَوَادِّ السَّامَّةِ، فَهَذِهِ الْفَائِدَةُ تُوَازِي ضَرَرَهُ فِي عُسْرِ التَّنَفُّسِ وَقِلَّةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي الرِّئَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ وَقِلَّةِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ، وَفِي ضَعْفِ الْهَضْمِ وَاسْتِرْخَاءِ الْجِسْمِ. وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَارِدِ تَشْدِيدُ الْأَعْصَابِ وَتَنْشِيطُ الْجِسْمِ، وَهُوَ يُحْدِثُ حَرَارَةً فِي الْبَاطِنِ بِكَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ مِنَ الْأُكْسُجِينِ فِي الْجَوْفِ (وَهُوَ مُوَلِّدُ الْحَرَارَةِ وَالِاشْتِعَالِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى كَثْرَةِ الْوَقُودِ الَّذِي يَحْرِقُهُ، وَهُوَ الْغِذَاءُ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْأَكْلُ وَيَقْوَى الْهَضْمُ فِي الْجَوِّ الْبَارِدِ، وَتَشْتَدُّ الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْعَمَلِ لِدَفْعِ الدَّمِ إِلَى الشَّرَايِينِ الَّتِي فِي ظَاهِرِ الْجِسْمِ لِتَدْفِئَتِهِ، فَهُوَ يُفِيدُ الْأَقْوِيَاءَ الْأَصِحَّاءَ وَيَضُرُّ الضُّعَفَاءَ وَالْمُصَابِينَ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الصَّدْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْفِيفُ الطَّعَامِ فِي زَمَنِ الْحَرِّ، وَاجْتِنَابُ الْإِكْثَارِ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا سِيَّمَا الْأَحْمَرُ مِنْهُ وَمِنَ الْحَلْوَى وَالْأَدْهَانِ، وَجَعْلُ مُعْظَمِ الْغِذَاءِ مِنَ الْبُقُولِ وَالْفَاكِهَةِ. وَمِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى وَلُطْفِ تَدْبِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ وَفِي اخْتِلَافِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مَا يُحْدِثُهُ هَذَا الِاخْتِلَافُ مِنَ الرِّيَاحِ وَمَا لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْأَحْيَاءِ وَلَا سِيَّمَا النَّاسُ. فَمِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْكَوْنِ أَنَّ الْحَرَارَةَ تُمَدِّدُ الْأَجْسَامَ فَيَخِفُّ وَزْنُهَا، وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ وَالْأَبْخِرَةَ وَالْغَازَاتِ مِنْهَا يَعْلُو مَا خَفَّ مِنْهَا عَلَى مَا ثَقُلَ، فَإِذَا وُضِعَ مَاءٌ وَزَيْتٌ فِي إِنَاءٍ يَكُونُ الزَّيْتُ فِي أَعْلَاهُ وَإِنْ وُضِعَ أَوَّلًا، وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهِ وَإِنْ وُضِعَ آخِرًا؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ أَخَفُّ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ السَّخِنُ يَكُونُ فِي أَعْلَى الْإِنَاءِ وَالْبَارِدُ فِي أَسْفَلِهِ، وَمَتَى سُخِّنَ كُلُّهُ يَكُونُ أَعْلَاهُ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ أَسْفَلِهِ. فَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ إِذْ سُخِّنَ الْهَوَاءُ الْمُجَاوِرُ لِلْأَرْضِ بِحَرَارَتِهَا لَا يَلْبَثُ

أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْجَوِّ وَيَحِلُّ مَحَلَّهُ هَوَاءٌ أَبْرَدُ مِنْهُ لِحِفْظِ التَّوَازُنِ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (67: 3) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي حُدُوثِ الرِّيَاحِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَرَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ عَلَى أَشُدِّهَا فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ وَسَطُ عَرْضِ الْأَرْضِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، حَيْثُ تَكُونُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَمُودِيَّةً فَيَكُونُ تَأْثِيرُ حَرَارَتِهَا فِي الْأَرْضِ عَلَى أَشُدِّهِ، ثُمَّ يَضْعُفُ تَأْثِيرُهَا فِي جِهَتَيِ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ حَيْثُ تَقَعُ الْأَشِعَّةُ مَائِلَةً بِقَدْرِ هَذَا الْمَيْلِ فَتَكُونُ الْحَرَارَةُ مُعْتَدِلَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَارِدَةً حَتَّى تَصِلَ فِي مِنْطَقَةِ الْقُطْبَيْنِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَلِيدِ الدَّائِمِ لِقِلَّةِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَائِلًا فِي الْأُفُقِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ سُنَّتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا نِصْفُهُ لَيْلٌ وَنِصْفُهُ نَهَارٌ، وَلَيْلُ كُلٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبَيْنِ نَهَارُ الْآخَرِ. وَتَحْدِيدُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَوْضِعُهُ عِلْمُ (الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوِ الرِّيَاضِيَّةِ) وَلِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْقُرْبِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، أَهَمُّهَا الْجِبَالُ وَالْأَنْجَادُ وَالْأَغْوَارُ وَالْقُرْبُ أَوِ الْبُعْدُ مِنَ الْبِحَارِ. لَوْلَا حَرَكَةُ الْهَوَاءِ وَحُدُوثُ الرِّيَاحِ بِمَا ذَكَرْنَا لَازْدَادَتْ حَرَارَةُ الْبِقَاعِ الْحَارَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى تَكُونَ مُحْرِقَةً لِكُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلَازْدَادَ قَرُّ الْبِقَاعِ الْبَارِدَةِ حَتَّى يَيْبَسَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا فَيَكُونُ جَلِيدًا كَمَا يَحْصُلُ لِأَسْمَاكِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الشَّمَالِيَّةِ، الَّتِي تُجَمَّدُ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ حَتَّى إِذَا مَا عَادَتْ مِيَاهُهَا إِلَى سَيَلَانِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ لَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاكُ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ وَسَائِرُ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ. بِالرِّيَاحِ يَنْتَفِعُ جَوُّ كُلٍّ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، مِنْ جَوِّ الْآخَرِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا، فَبِارْتِفَاعِ هَوَاءِ الْمِنْطَقَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْحَارِّ لِخِفَّتِهِ وَانْخِفَاضِ هَوَاءِ الْقُطْبَيْنِ لِثِقْلِهِ يَحْدُثُ فِي كُلٍّ مِنْ نِصْفَيْ كُرَةِ الْأَرْضِ تَيَّارَانِ هَوَائِيَّانِ بَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ وَطَرَفَيْهَا - كَمَا يَحْدُثُ فِي جَوِّ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مِنَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى إِلَى وَقْتِ الْأَصِيلِ أَوْ إِلَى اللَّيْلِ فَيَرْتَفِعُ وَيَأْتِي بَدَلَهُ هَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوِّنَا نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَرُّ الشَّدِيدُ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَخْلُفُهُ هَوَاءٌ بَارِدٌ مُعْتَدِلٌ أَيَّامًا أُخْرَى. وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْأَقْطَارِ الْمُجَاوِرَةِ لَنَا - فَكُلَّمَا كَانَتْ حَرَكَةُ الرِّيحِ شَدِيدَةً كَانَ مَدَاهَا أَبْعَدَ، وَأَقَلُّ حَرَكَةٍ فِي الْهَوَاءِ تُرِيكَ كَيْفَ يُعْدَلُ الْجَوُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْتَبِرَهُ فِي حُجْرَتِكَ إِذَا فَتَحْتَ نَافِذَةً فِيهَا وَأَخَذْتَ شَمْعَةً أَوْ ذُبَالَةً - فَتِيلَةً - مُوقَدَةً فَوَضَعْتَهَا فِي أَعْلَى النَّافِذَةِ مَرَّةً وَفِي أَسْفَلِهَا أُخْرَى، فَإِنَّكَ تَرَى النُّورَ فِي أَسْفَلِهَا مَائِلًا نَحْوَكَ وَفِي أَعْلَاهَا مَائِلًا عَنْكَ إِلَى خَارِجِ الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ الْحَارَّ الَّذِي فِي الْحُجْرَةِ هُوَ الْخَفِيفُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهَا وَيَدْخُلُ بَدَلَهُ هَوَاءُ الْجَوِّ الَّذِي هُوَ أَبْرَدُ مِنْ هَوَاءِ الْحُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْهَوَاءُ الْخَارِجِيُّ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ هَوَاءِ الْبُيُوتِ فِي أَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّيحِ السَّمُومِ

وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْرَفُ سَبَبُ اخْتِلَافِ النَّسِيمِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فِي سَوَاحِلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ تَارَةً مِنَ الْبَرِّ كَوَقْتِ اللَّيْلِ وَتَارَةً مِنَ الْبَحْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ أَقَلُّ تَأَثُّرًا بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا الرَّمْلِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ. هَذَا وَإِنَّ لِلرِّيَاحِ فِي اتِّجَاهِهَا بَيْنَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُطْبِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا شَرْقًا وَغَرْبًا أَسْبَابًا مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّ لِقُوَّةِ الرِّيَاحِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَقْطَارِ أَوْقَاتًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، كَالرِّيَاحِ الْمَوْسِمِيَّةِ الَّتِي تَشْتَدُّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ تَكُونُ الْبِحَارُ الشَّمَالِيَّةُ وَكَذَا الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ رَهْوًا أَوْ مُعْتَدِلَةَ الِاضْطِرَابِ تَبَعًا لِسُكُونِ الرِّيحِ وَاعْتِدَالِهَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَسْبَابَ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَكَوْنِ أَصْلِ الْمُنْتَظِمِ مِنْهَا أَرْبَعًا وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ الرِّيَاحَ التِّجَارِيَّةَ الْمُوَاتِيَةَ وَالْمُضَادَّةَ أَوِ الْعَكْسِيَّةَ وَالرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ - كُلُّ تِلْكَ الْأَسْبَابِ - مَعْرُوفَةٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ تَبَعًا لِعِلْمِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَبِهَيْئَةِ الْأَرْضِ وَحَرَكَتِهَا وَفُصُولِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَتَى تَهِبُّ الرِّيحُ فِي بِلَادِهِ وَمَتَى تَسْكُنُ وَمَتَى يَشْتَدُّ الْحَرُّ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الصَّيْفِ وَالْبَرْدُ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الشِّتَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الرِّيَاحِ نَقْلُهَا لِمَادَّةِ اللَّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ النَّبَاتِ إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنَّ مِنَ الشَّجَرِ مَا هُوَ ذَكَرٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أُنْثَى كَالنَّخْلِ، فَوَظِيفَةُ الْأَوَّلِ تَلْقِيحُ الْآخَرِ وَهَذَا إِنَّمَا يُثْمِرُ بِتَلْقِيحِ ذَاكَ لَهُ وَلَا يُثْمِرُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ، وَإِذَا أُجِيدَ التَّلْقِيحُ كَانَ سَبَبًا لِجَوْدَةِ الثَّمَرِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا مَا تَشْتَمِلُ كُلُّ شَجَرَةٍ مِنْهُ عَلَى أَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ الْمُلَقِّحَةِ وَأَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ الْمُثْمِرَةِ، وَالرِّيَاحُ تَنْقُلُ اللَّقَاحَ فِيمَا لَا تَتَّصِلُ ذُكُورُهُ بِإِنَاثِهِ نَقْلًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (15: 22) وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيمَا يَظْهَرُ، حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ اللَّقْحَ هُنَا مَجَازِيًّا بِتَشْبِيهِ تَأْثِيرِ الرِّيَاحِ فِي السَّحَابِ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَطَرُ بِتَأْثِيرِ اللَّقَاحِ فِي الْحَيَوَانِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الرِّيَاحِ فِي إِحْدَاثِ الْمَطَرِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي جَعَلْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ مُتَمِّمًا لَهُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَالْمَطَرُ هُوَ الْأَصْلُ لِمِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْيَنَابِيعِ وَالْآبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (39: 21) وَالْمَاءُ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيِ الْأُكْسُجِينِ وَالْأَيُدْرُوجِينِ، وَيُخَالِطُ مَاءَ الْمَطَرِ مِنْهُ وَهُوَ أَنْقَاهُ بَعْضُ مَا يَحْمِلُهُ الْهَوَاءُ مِنَ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْمَوَادِّ الْمُنْفَصِلَةِ مِنَ الْهَوَاءِ وَعَوَالِمِهَا، وَمِيَاهُ الْأَرْضِ يُخَالِطُهَا كَثِيرٌ مِنْ مَوَارِدِهَا وَبَعْضُهَا ضَارٌّ فِي الشُّرْبِ وَبَعْضُهَا نَافِعٌ وَلِذَلِكَ يَفْضُلُ بَعْضُ الْمِيَاهِ

59

بَعْضًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهَا يُنْقَلُ فِي الْقَوَارِيرِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى أَقْطَارٍ أُخْرَى وَيُبَاعُ فِيهَا غَالِيَ الثَّمَنِ لِلشُّرْبِ وَمَا يَضُرُّ شُرْبُهُ لِلرَّيِّ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ يَنْفَعُ لِغَيْرِ الشُّرْبِ، وَمِنْهَا الْمِيَاهُ الْمَعْدِنِيَّةُ الْمُسَهِّلَةُ وَالنَّافِعَةُ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ دُونَ بَعْضٍ. وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ، هُمَا الْأَصْلَانِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَلِلْحَرَارَةِ وَالنُّورِ فِيهِمَا، وَسُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي حَرَكَتِهِمَا وَانْتِقَالِهِمَا مَا عَلِمْتَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ (الْهَوَاءُ وَالْمَاءُ وَالنُّورُ وَالْحَرَارَةُ) أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ كُلِّهَا، وَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهَا عَامَّةً مَبْذُولَةً لَا يُمْكِنُ احْتِكَارُهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنَافِعِهَا مَا يُسَهِّلُ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِلْمَنَارِ أَنْ يَفْهَمَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَسَاطِينُ عُلَمَاءِ الْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ بِهَا عِلْمًا، وَهَذَا مِصْدَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (17: 85) . (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) .

قَصَصُ الرُّسُلِ الْمَشْهُورِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمَشْهُورِ ذِكْرُهُمْ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، قَدْ سَبَقَ التَّمْهِيدُ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِدَاءِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) - إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ 35 و36 - وَمِنْهُ يُعْلَمُ وَجْهُ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ. قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ خَبَرِهَا لِأَوَّلِ مَنْ وَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ إِذْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ، عَلَى كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عُلُومِ الْأُمَمِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ شَيْءٌ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلِمَةً فِي بَيْتِ شِعْرٍ مَأْثُورٍ أَوْ عِبَارَةً نَاقِصَةً مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ كَانُوا يَلْقَوْنَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ أَوِ الشَّامِ أَوْ مِمَّنْ تَهَوَّدُ أَوْ تَنَصَّرَ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ أَوْ جُلُّهُمْ ظَلُّوا عَلَى أُمِّيَّتِهِمْ. وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُهُ فِي بَدْءِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ لَا تَكَادُ تَجِيءُ إِلَّا مَعَ " قَدْ " لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ التَّوَقُّعِ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ هُمْ قَوْمُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْبَحْثِ فِي عَدَدِ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ وَهَلْ يُعَدُّ آدَمُ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ (ص501 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ هُمُ الَّذِينَ صَوَّرُوا بَعْضَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ ثُمَّ وَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِإِحْيَاءِ ذِكْرِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، ثُمَّ عَبَدُوا صُوَرَهُمْ وَتَمَاثِيلَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ (ص 454 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَغَيْرِهِ. (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أَيْ فَنَادَاهُمْ بِصِفَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ اسْتِمَالَةً لَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ، بِدُعَاءٍ يَطْلُبُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا الْمَطَالِبُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا التَّوَجُّهُ وَالدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ بِاللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَوَجَّهَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ - لَا اسْتِقْلَالًا وَلَا بِالتَّبَعِ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ التَّوَسُّطِ بِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، الَّذِي ضَلَّ بِهِ أَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْخَلْقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ إِلَهٍ) يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَعُمُومَهُ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ " مَا عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ

أَوْ أُكُلٍ " (بِضَمَّتَيْنِ) أَفَادَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مِمَّا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَلَوْ قَالَ: مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ أَوْ أُكُلٌ - لَصَدَقَ بِانْتِفَاءِ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مِمَّا يُقَدَّمُ عَادَةً لِمَنْ يُرِيدُ الْغَدَاءَ أَوِ الْعَشَاءَ مِنْ خُبْزٍ وَإِدَامٍ، فَإِنْ كَانَ لَدَى الْقَائِلِ بَقِيَّةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَائِدَةِ أَوْ قَلِيلٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ لَا يَكُونُ كَاذِبًا وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ هُنَا - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا لِرَجَاءِ النَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَجْلِ تَوَسُّطِهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى - بَلِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " غَيْرِهِ " بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ لِلَفْظِ " إِلَهٍ " وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ. (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هَذَا إِنْذَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَدْنَى شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِهَا، وَبَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِالرِّسَالَةِ. أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِذَا لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الطُّوفَانِ، وَيَضْعُفُ بِأَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بَلْ بَعْدَ طُولِ الْإِبَاءِ وَالرَّدِّ وَالْوُصُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْيَأْسِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَتِهِ حِكَايَةً عَنْهُ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (71: 5، 6) الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (11: 36) الْآيَاتِ - إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ الْعَظِيمِ عَذَابُ الدُّنْيَا مُطْلَقًا. (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الْمَلَأُ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رُوَاءً بِمَا يَكُونُ عَادَةً مِنْ تَأَنُّقِهِمْ بِالزِّيِّ الْمُمْتَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّمَائِلِ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ لِنُوحٍ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ بَيِّنٍ ظَاهِرٍ، بِنَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَةِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، الَّذِينَ هُمْ وَسِيلَتُنَا وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقْبَلُنَا بِبَرَكَتِهِمْ. وَيُعْطِينَا سُؤَالَنَا بِوَسَاطَتِهِمْ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَنَحْنُ لَا نَرَى أَنْفُسَنَا أَهْلًا لِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا، لِمَا نَقْتَرِفُهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُبْعِدُنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ الْأَقْدَسِ بِغَيْرِ شَفِيعٍ وَلَا وَسِيطٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ. حَكَمُوا بِضَلَالِهِ وَأَكَّدُوهُ بِالتَّعْبِيرِ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِإِنَّ وَاللَّامِ وَبِالظَّرْفِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْإِحَاطَةِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ مُحِيطَةٍ بِكَ لَا تَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الصَّوَابِ سَبِيلًا. وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ عَلَيْهِ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ. (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) نَادَاهُمْ بِاسْمِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ ثَانِيَةً تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ وَلَا لَهُمْ إِلَّا الْخَيْرَ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِقَ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى ضَلَالَةً، كَمَا

61

أَفَادَ التَّنْكِيرُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الضَّلَالِ، فَبَالَغَ فِي النَّفْيِ كَمَا بَالَغُوا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ (بِي) تَعْرِيضٌ بِضَلَالِهِمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى نَفْيِ الضَّلَالَةِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهَا لَهُ فِي ضِمْنِ تَبْلِيغِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى فَقَالَ: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَسْتُ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ فَقَطْ بَلْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَيْكُمْ لِيَهْدِيَكُمْ بِاتِّبَاعِي سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَيُنْقِذَكُمْ عَلَى يَدَيَّ مِنَ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ بِالشِّرْكِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي الْمُدَنِّسَةِ لِلْأَنْفُسِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَرْوَاحِ. وَالْقُدْوَةُ فِي الْهُدَى، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فِيمَا بِهِ أَتَى، وَمِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَلَّا يَدَعَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمُ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ بِجَهْلِكُمْ، حَتَّى يُبَيِّنَ لَكُمُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا جَاءَ بِهِ بِدَعْوَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَقَالَ: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو " أُبْلِغُكُمْ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ الْمُفِيدِ مِنَ التَّبْلِيغِ، لِلتَّدْرِيجِ وَالتَّكْرَارِ الْمُنَاسِبِ لِجَمْعِ الرِّسَالَةِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ: مِنْهُ الْعَقَائِدُ وَأَهَمُّهَا التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ، وَيَتْلُوهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَمِنْهُ) الْآدَابُ وَالْحِكَمُ وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَلَوْ آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ. (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) قَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ صَلَاحُ صَاحِبِهِ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ لَكُمُ الْوُدَّ أَيْ أَخْلَصْتُهُ، وَنَاصِحُ الْعَسَلِ خَالِصُهُ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ الْجِلْدَ خِطْتُهُ، وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ، وَالنِّصَاحُ (كَكِتَابٍ) الْخَيْطُ اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا نَصِيحَةَ أَمْحَضُ مِنْ نَصِيحَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّصِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا صَلَاحُ الْمَنْصُوحِ لَهُ لَا النَّاصِحِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَجَاءَتْ تَبَعًا فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ النَّصِيحَةُ خَالِصَةً، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الدِّينُ النَّصِيحَةُ - قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ - لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا حَالِيَّةٌ. أَيْ أُبَلِّغُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ بِمَا

63

أَعِظُكُمْ بِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَنَا فِي هَذَا وَذَاكَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيَّ لَا تَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا. أَوْ: وَأَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَشُئُونِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِهِ وَتَعَلُّقِهَا وَآثَارِهَا فِي خَلْقِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ - فَإِذَا نَصَحْتُ لَكُمْ وَأَنْذَرْتُكُمْ عَاقِبَةَ شِرْكِكُمْ وَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا جَحَدْتُمْ وَعَانَدْتُمْ فَإِنَّمَا أَنْصَحُ لَكُمْ عَنْ عِلْمٍ يَقِينٍ لَا تَعْلَمُونَهُ. (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) الْهَمْزَةُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْوَاوُ بَعْدَهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ مِنْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ؟ (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يُحَذِّرَكُمْ عَاقِبَةَ كُفْرِكُمْ، وَيُعَلِّمَكُمْ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ بِمَا تَفْهَمُونَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ - وَلِأَجْلِ أَنْ تَتَّقُوا بِهَذَا الْإِنْذَارِ مَا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْإِفْسَادِ فِي أَرْضِهِ - وَلْيُعِدْكُمْ بِالتَّقْوَى لِرَحْمَةِ رَبِّكُمُ الْمَرْجُوَّةِ لِكُلِّ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ وَاتَّقَى، عَلَّلَ مَجِيئَهُ بِالرِّسَالَةِ بِعِلَلٍ ثَلَاثٍ مُتَعَاقِبَةٍ مُرَتَّبَةٍ كَمَا تَرَى. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أَنَّ شُبْهَتَهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ هِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، كَأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَصِفَاتِهَا الْعَامَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِي الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا وَيَمْنَعُ الِانْفِرَادَ بِشَيْءٍ مِنْهَا! وَهَذَا بَاطِلٌ بِالِاخْتِبَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَضَلِيَّةِ، وَفِي الْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ عَظِيمٌ جِدًّا لَا يُشْبِهُهُمْ فِيهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا التَّسَاوِي بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَهَلْ يَمْنَعُ أَنْ يَخْتَصَّ الْخَالِقُ الْحَكِيمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْمَعْهُودِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْمُكْتَسَبِ بِالتَّعَلُّمِ؟ كَلَّا، إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَنَفَذَتْ بِهِ قُدْرَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) فَكَذَّبُوهُ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ فَأَنْجَيْنَاهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالَّذِينَ سَلَكَهُمْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (11: 40) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ - أَوِ الْمَعْنَى: أَنْجَيْنَاهُ وَأَنْجَيْنَاهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أَيِ السَّفِينَةِ (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) أَيْ وَأَغْرَقَنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بِالطُّوفَانِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، وَلِمَاذَا كَذَّبُوا؟ إِنَّهُمْ مَا كَذَّبُوا إِلَّا لِعَمًى فِي بَصَائِرِهِمْ حَالَ دُونَ اعْتِبَارِهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِرْسَالِ

65

الرُّسُلِ وَحِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَمُونَ جَمْعُ عَمٍ وَهُوَ ذُو الْعَمَى، وَأَصْلُهُ عَمِيَ بِوَزْنِ كَتِفَ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِعَمَى الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ، وَالْأَعْمَى يُطْلَقُ عَلَى الْفَاقِدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) .

قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هُودٌ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوُلِدَ لِهُودٍ أَرْبَعَةٌ: قَحْطَانُ وَمُقْحِطٌ وَقَاحِطٌ وَفَالِغٌ فَهُوَ أَبُو مُضَرَ، وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ، وَالْبَاقُونَ لَيْسَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالٍ سَمَّاهُمْ وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا - وَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ وَدٍّ وَسُوَاعَ وَيَغُوثَ وَنَسْرٍ، فَاتَّخَذُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ صَمُودُ وَصَنَمًا يُقَالُ لَهُ الْهَتَّارُ فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا، وَكَانَ هُودٌ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ، وَكَانَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَصْبَحِهِمْ وَجْهًا وَكَانَ فِي مِثْلِ أَجْسَادِهِمْ أَبْيَضَ بَادِيَ الْعَنْفَقَةِ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَكَذَّبُوهُ (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (41: 15) . . . وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْأَحْقَافِ، وَالْأَحْقَافُ الرَّمْلُ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ بِالْيَمَنِ. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ: كَانَتْ عَادٌ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ الذَّرِّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قُبِرَ هُودٌ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ عِنْدَ رَأْسِهِ سُمْرَةٌ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِحَالِهِ وَحَالِ قَوْمِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ هُودًا، كَمَا يُقَالُ فِي أُخُوَّةِ الْجِنْسِ كُلِّهِ يَا أَخَا الْعَرَبِ. وَلِلدِّينِ أُخُوَّةٌ رُوحِيَّةٌ كَأُخُوَّةِ الْجِنْسِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْقَرِيبِ أَوِ الْوَطَنِيِّ الْكَافِرِ أَخًا. وَحِكْمَتُهُ كَوْنُ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَنْ يُفْهِمَهُمْ وَيَفْهَمَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَعَدَّ الْبَشَرُ لِلْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ، أَرْسَلَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ كَافَّةً وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ لِتَوْحِيدِ الدِّينِ، الْمُرَادِ بِهِ تَوْحِيدُ الْبَشَرِ وَإِدْخَالُهُمْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً. (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا وَلَكِنَّ الْجُمْلَةَ هُنَاكَ عُطِفَتْ بِالْفَاءِ وَفُصِّلَتْ هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي مِنْ سَائِرِ الْقِصَصِ. وَالْفَرْقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ أَنَّ الْعَطْفَ هُنَالِكَ جَاءَ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ كَوْنُ التَّبْلِيغِ جَاءَ عَقِبَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقَصَصِ أَنْ يَجِيءَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ

الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُرَاجَعَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ كَمَا تَرَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا يَسْأَلُ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ أَمْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مَا عَلِمَ: فَمَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَاذَا قَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ؟ أَكَانَ أَمْرُهُ مَعَهُمْ كَأَمْرِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ أَمِ اخْتَلَفَ الْحَالُ؟ (أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ أَفَلَا تَتَّقُونَ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي لِتَنْجُوا مِنْ عِقَابِهِ؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَاسْتِبْعَادِ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ مَا كَانَ وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (11: 51) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا وَذَاكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأُخْرَى لِتَنْوِيعِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَلَلِ عَنِ الْقَارِئِ، وَقَدِ اقْتَبَسَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ الْمُكَرَّرَةِ فَتَحَرَّى فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَائِدَةٍ. (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وَصَفَ الْمَلَأَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْكُفْرِ دُونَ مَلَإِ قَوْمِ نُوحٍ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ (كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ) وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْحِلْمِ وَسَخَافَةُ الْعَقْلِ وَتَنْكِيرُهَا لِبَيَانِ نَوْعِهَا أَوِ الْمُبَالَغَةِ بِعِظَمِهَا، أَيْ قَالُوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ تَامَّةٍ رَاسِخَةٍ تُحِيطُ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَنَّكَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى دِينِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ، بَلْ قُمْتَ تَدْعُو إِلَى دِينٍ جَدِيدٍ تَحْتَقِرُ فِيهِ الْأَوْلِيَاءَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهِمْ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، اتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَسَيَأْتِي نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ إِلَخْ. وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا قَالَ وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ لِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سُفَهَاءُ لَا ثَبَاتَ لَكُمْ، وَإِنَّكُمْ حَقَّرْتُمْ أَوْلِيَاءَكُمْ وَآبَاءَكُمْ. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أَيْ فِي دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكَّدُوا ظَنَّهُمُ الْآثِمَ، كَمَا أَكَّدُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ تَسْفِيهِهِمُ الْبَاطِلَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ؛ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْكَاذِبِينَ وَجَعَلُوهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ، فَلَوْ قَالُوا إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَكَانُوا كَاذِبِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَأَمَّا حُكْمُهُمْ عَلَيْهِ بِالسَّفَاهَةِ فَكَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ. (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَيْسَ بِي أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ السَّفَاهَةِ وَشَوَائِبِهَا، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهِيَ أَمَانَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَارُ لَهَا إِلَّا أَهْلَ الْحَصَافَةِ بِرُجْحَانِ الْعَقْلِ وَسِعَةِ الْحِلْمِ وَكَمَالِ الصِّدْقِ وَإِلَّا لَفَاتَ مَا يَقْصِدُ بِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ تَقُمْ بِهَا لِلَّهِ الْحُجَّةُ.

68

(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَحَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، أَيْ أُبَلِّغُكُمُ التَّكَالِيفَ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِهَا، وَالْحَالُ أَنَّنِي أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ سَعَادَتَكُمْ، أَمِينٌ عَلَى مَا أَقُولُ فِيهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّنِي لَا أَكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَكَيْفَ أَكْذِبُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ نُوحٍ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ النُّصْحَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ ثَابِتٌ لَهُ عِنْدَهُمْ، لِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ سِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ؛ لِأَنَّهُمْ رَمَوْهُمْ بِالْكَذِبِ وَالسَّفَاهَةِ، وَقَوْمُ نُوحٍ إِنَّمَا رَمَوْهُ بِالضَّلَالَةِ. (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) أَيْ وَاذْكُرُوا فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنِعَمَهُ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسْطَةً وَسِعَةً فِي الْمُلْكِ وَالْحَضَارَةِ. أَوْ زَادَكُمْ بَسْطَةً فِي خَلْقِ أَبْدَانِكُمْ؛ إِذْ كَانُوا طُوَالَ الْأَجْسَامِ أَقْوِيَاءَ الْأَبْدَانِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ الْأَصْلِ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى قُوَّتِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَفُصِّلَتْ (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَاذْكُرُوا نِعَمَ اللهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ لَعَلَّكُمْ تَفُوزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ لِلشَّاكِرِينَ مِنْ إِدَامَتِهَا عَلَيْهِمْ وَزِيَادَتِهَا لَهُمْ، وَلَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا عَبَدْتُمُوهُ وَحْدَهُ وَلَمْ تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ جَعْلِهِ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فَإِنَّ هَذَا حِجَابٌ دُونَهُ، وَمَنْ حَجَبَ نَفْسَهُ عَمَّا كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا حُجِبَ عَنْ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يُحْجَبُ عَنْ رَبِّهِمُ الْكَافِرُونَ. لَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّاكِرُونَ. (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) الْمُرَادُ مِنَ الْمَجِيءِ الْإِتْيَانُ بِالرِّسَالَةِ حَسْبَ دَعْوَاهُ الصَّادِقَةِ فِي نَفْسِهَا الْكَاذِبَةِ فِي ظَنِّهِمُ الْآثِمِ. عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الْمَجِيءَ وَالذِّهَابَ وَالْقُعُودَ وَالْقِيَامَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَبَيَانِ حَالِهِ - يُقَالُ: جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ كَيْفَ يُحَارِبُونَ، وَذَهَبَ يُقِيمُ قَوَاعِدَ الْعُمْرَانِ، (وَنَذَرَ) بِمَعْنَى نَتْرُكَ، لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْ مَادَّتِهِ إِلَّا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ. وَالْمَعْنَى: أَجِئْتَنَا لِأَجْلِ أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَامِ، وَنَتْرُكَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ فَنُحَقِّرَهُمْ وَنَمْتَهِنَهُمْ بِرَمْيِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَنُحَقِّرَ أَوْلِيَاءَنَا وَشُفَعَاءَنَا عِنْدَ اللهِ بِتَرْكِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَهُمُ الْوَسِيلَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ وَالتَّعْظِيمِ لِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمْ وَالنَّذْرِ لَهُمْ وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ عِنْدَهُمْ؟ وَهَلْ يَقْبَلُ اللهُ عِبَادَتَنَا مَعَ ذُنُوبِنَا إِلَّا بِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ؟ اسْتَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَاسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ قَالُوا: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أَيْ فَجِئْنَا بِمَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تَوْحِيدِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي إِنْذَارِكَ أَوْ فِي أَنَّكَ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

71

وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِقَوْلِهِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (26: 135) (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) يُطْلَقُ الرِّجْسُ عَلَى الْقَبِيحِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى وَبِمَعْنَى الرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَوْ سَيِّئُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ وَفَسَّرَ الرِّجْسَ بِالْعَذَابِ قَالَ لِأَنَّهُ جَزَاءُ مَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرِّجْسِ، وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمَادَّةِ أَنَّ الرَّجْسَ بِالْفَتْحِ صَوْتُ الرَّعْدِ وَأَنَّهُ يُقَالُ: رَجَسَتِ السَّمَاءُ وَارْتَجَسَتْ: قَصَفَتْ بِالرَّعْدِ (قَالَ) وَالنَّاسُ فِي مَرْجُوسَةٍ، أَيْ فِي اخْتِلَاطٍ قَدِ ارْتَجَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمُ اهـ. وَمِثْلُهَا فِي هَذَا مَادَّةُ الرِّجْزِ وَمِنْهُ فِي " 34: 5، 45: 11 " (لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ) وَقَدْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، أَيْ ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ عَاتِيَةً كَانَتْ (تَنْزِعُ النَّاسَ) مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ تَرْمِيهِمْ بِهَا صَرْعَى (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (54: 20) قَدْ قُلِعَ مِنْ مَنَابِتِهِ وَزَالَ عَنْ أَمَاكِنِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرِّجْسِ وَالِارْتِجَاسِ وَالرِّجْزِ وَالِارْتِجَازِ وَقَوْلُهُ: (وَقَعَ) مَجَازٌ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَوَقَّعِ لِتَحَقُّقِهِ وَقُرْبِهِ، وَعَطَفَ الْغَضَبَ عَلَى الرِّجْسِ لِبَيَانِ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الِانْتِقَامُ الْحَتْمُ فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ، مَا كَانَ مِنْهُ حَتْمًا عِقَابُهُ كَهَذَا، وَمَا كَانَ مُمْكِنًا دَفْعُهُ بِالتَّوْبَةِ كَعِقَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. اللهُمَّ تُبْ عَلَى أُمَّتِنَا وَارْفَعْ عَنْهَا رِجْسَ الْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ، وَأَعْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ. (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) أَيْ أَتُخَاصِمُونَنِي وَتُمَارُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ وَضَعْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ، لِمُسَمَّيَاتٍ اتَّخَذُوهَا فَاتَّخَذْتُمُوهَا آلِهَةً زَاعِمِينَ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لَكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَكُمْ، وَكَيْفَ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ عِبَادُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَطَلَبِ مَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْهُ بِالْأَسْبَابِ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ فِي تَوْجِيهِ قُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (6: 79) وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَتِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا يُرْضِيهِ وَيَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ غَيْرُهُ إِلَّا الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ فَانْتَظِرُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَلَكِنَّنِي مُوقِنٌ وَأَنْتُمْ مُرْتَابُونَ، وَجَادٌّ وَأَنْتُمْ هَازِلُونَ.

72

(فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أَيْ فَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا أَنْجَيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُنَا (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) (46: 25) . (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) .

73

قِصَّةُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَطَنِ صَالِحًا. سُئِلَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يُقَالُ لَهُ أَخٌ؟ قَالَ: الْأَخُ فِي الدَّارِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَ (صَالِحًا) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِـ (أَخَاهُمْ) وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ آنِفًا فِي قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَمُودُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ قِيلَ: سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بْنِ عَامِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ ابْنُ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ. . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ مَائِهِمْ؛ فَالثَّمْدُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ. وَثَمُودُ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِإِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ إِذْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ وَيُصْرَفُ بِتَأْوِيلِ الْحَيِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِمُذَكَّرٍ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الْحِجْرَ (بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ -) بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنِ. وَعَنِ الْحَافِظِ الْبَغَوَيِّ فِي نَسَبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْفِ بْنِ مَاشِخَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاذِرَ بْنِ ثَمُودَ. وَمِثْلُهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي إِلَّا أَنَّهُ ضَبَطَ حَاذِرَ بِالْجِيمِ حَاجِرَ، وَزَادَ بَعْدَ ثَمُودَ بْنِ عَابِرِ بْنِ آدَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبِهِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ بِبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ وَهِدَايَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّ حَوَادِثَ الْأُمَمِ وَضَوَابِطَ التَّارِيخِ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ أَوْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ حُكِيَ هُنَا عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْآيَةَ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُمُ الْآيَةَ بَعْدَ رَدِّهِمْ لِدَعْوَتِهِ، وَتَصْرِيحِهِمْ بِالشَّكِّ فِي صِدْقِهِ، وَزَادَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ طَلَبَهُمُ الْآيَةَ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ الْمُعْتَادُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ وَهَذَا الْإِجْمَالِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ (الْأَعْرَافَ) نَزَلَتْ بَعْدَ تَيْنِكَ السُّورَتَيْنِ فَتَفْصِيلُهُمَا لِإِجْمَالِهَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَأْلُوفِ فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُلْتَزَمٍ فِي الْقُرْآنِ؛ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا تَرْتِيبُ نُزُولِهَا وَالْمَعْنَى: قَدْ جَاءَتْكُمْ آيَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَتَنْكِيرُ الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ - وَقَوْلُهُ: (مِنْ رَبِّكُمْ) لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا مِمَّا يَنَالُهَا كَسْبُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ تَعَالَى بِهِ الرُّسُلَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْخَوَارِقَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْكَوْنِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ خَوَارِقَ، وَلَا آيَاتٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى دَالَّةً عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَعَلَى كَمَالِ اتِّبَاعِ مَنْ دُونَهُمْ لَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ؛ إِذْ كَسْبُ الْعِبَادِ مَا زَالَ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِتَفَاوُتِ قُوَى عَضَلِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَقُوَى عُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ، وَتَفَاوُتِ عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ

وَلِذَلِكَ اشْتَبَهَتِ الْآيَاتُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنَ التَّأْثِيرِ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ. (هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَيِّنَةِ، أَيْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ تَعَالَى - أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ الْكَرِيمِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِبِلِ وَصِفَاتِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكٌ. وَالْمَعْنَى: أُشِيرُ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا آيَةً لَكُمْ خَاصَّةً لَكُمْ. وَبَيَّنَ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً بِقَوْلِهِ: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَمِثْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ فَهُوَ أَلِيمٌ وَعَظِيمٌ - وَفِي (هُودٍ) إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ بِالْقَرِيبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَسِّهِمْ إِيَّاهَا بِسُوءٍ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (54: 28) وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (26: 155) وَهُوَ قَبْلَ الْوَعِيدِ عَلَى مَسِّهَا بِسُوءٍ. وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مَا يُشْرَبُ. وَفِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) (91: 11 - 14) إِلَخْ. فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ آيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاقَةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ بِسُوءٍ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي أَكْلِهَا وَلَا فِي شُرْبِهَا، وَأَنَّ مَاءَ ثَمُودَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاقَةِ إِذَا كَانَ مَاءً قَلِيلًا، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهُ يَوْمًا وَتَشْرَبُهُ هِيَ يَوْمًا وَوَرَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيضُونَ عَنْهُ فِي يَوْمِهَا بِلَبَنِهَا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهِيَ تَصْدُقُ بِمَاءٍ مَعِينٍ مَعْرُوفٍ كَانَ لِشُرْبِهِمْ خَاصَّةً؛ إِذْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مُعَرَّفًا وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَرْفُوعًا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الثَّانِي فَفِيهَا أَنَّ الْمَاءَ كَانَ لَهُمْ وَلِمَاشِيَتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ مَنْقُوضٌ بِمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ تَعَدُّدِ عُيُونِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ صَالِحٍ لَهُمْ: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) (26: 146 - 148) وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ آبَارٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ حِينَ مَرُّوا بِدِيَارِ قَوْمِ صَالِحٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهَا وَيَهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْآبَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَقَدْ عَلِمَهَا بِالْوَحْيِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِي خَلْقِ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ أَوْ مِنْ هَضْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُبَاحَةُ لِلْأَنْعَامِ أَنْ تَرْعَى مَا يَنْبُتُ فِيهَا مِنَ الْكَلَإِ وَغَيْرِهِ دُونَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَيَحْمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ

74

بَيْنَ نَاقَةِ اللهِ وَأَرْضِ اللهِ، أَيْ: فَذَرُوا وَاتْرُكُوا نَاقَتَهُ تَأْكُلْ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَبَاحَهَا لِخَلْقِهِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّوءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَيِّ أَنَوْاعِ الْإِيذَاءِ لَهَا فِي نَفْسِهَا أَوْ أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ وَقَدْ عَقَرُوهَا! . (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) أَيْ وَتَذَكَّرُوا إِذْ جَعَلَكُمُ اللهُ تَعَالَى خُلَفَاءَ لِعَادٍ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ أَنْزَلَكُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا مَبَاءَةً وَمَنَازِلَ لَكُمْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا زَاهِيَةً، وَدُورًا عَالِيَةً، بِمَا حَذَقْتُمْ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ كَضَرْبِ الْآجُرِّ وَاللَّبِنِ وَالْجَصِّ وَهَنْدَسَةِ الْبِنَاءِ وَدِقَّةِ النِّجَارَةِ. وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ أَيْ بَعْضَهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (مِنَ الْجِبَالِ) (26: 149) بُيُوتًا بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ فَنِّ النَّحْتِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالصَّبْرِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ فِي الشِّتَاءِ لِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمَنْحُوتَةِ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَمْطَارُ وَالْعَوَاصِفُ، وَيَسْكُنُونَ السُّهُولَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَجْلِ الزِّرَاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْقُصُورُ فِيهَا مَتِينَةً وَلَا الطُّرُقُ مَرْصُوفَةً، بِحَيْثُ يَرْتَاحُ سُكَّانُهَا فِي أَيَّامِ الْأَمْطَارِ الشَّدِيدَةِ. (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أَيْ فَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ بِتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ، وَلَا تَسْتَبْدِلُوا الْكُفْرَ بِالشُّكْرِ فَتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يُقَالُ: عَثَى يَعْثَى وَعَثِيَ يَعْثِي، " مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَعَلِمَ " عَثْيًا وَعَثَيَانًا وَعَثَا يَعْثُو عَثَوًا بِمَعْنَى أَفْسَدَ وَكَفَرَ وَتَكَبَّرَ وَمِثْلُهُ مَقْلُوبَةٌ: عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعَيَثَانًا. وَفِيهِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مَعَ الْإِفْسَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَيْثُ وَالْعَثْيُ يَتَقَارَبَانِ نَحْوَ جَذَبَ وَجَبَذَ إِلَّا أَنَّ الْعَيْثَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْفَسَادِ الَّذِي يُدْرَكُ حِسًّا، وَالْعَثْيُ فِيمَا يُدْرَكُ حُكْمًا اهـ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَصَرَّفُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ تَصَرُّفَ عَثَيَانٍ وَكُفْرٍ بِمُخَالَفَةِ مَا يُرْضِي اللهَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِفْسَادِ ثَابِتِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا عَلِمْتَ. (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَسْبِقَ الْفُقَرَاءُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ النَّاسِ إِلَى إِجَابَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَإِلَى كُلِّ دَعْوَةِ إِصْلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ وَأَنْ يَكْفُرَ بِهِمْ أَكَابِرُ الْقَوْمِ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَالْأَغْنِيَاءُ الْمُتْرَفُونَ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَرْءُوسِينَ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي تُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْإِسْرَافَ الضَّارَّ. وَتُوقِفُ شَهَوَاتِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ. وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَرَى الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ

75

وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا إِذْ سَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ لِارْتِيَابِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ عِلْمٍ بُرْهَانِيٍّ، وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْتِحْسَانٍ مَا وَتَفْضِيلٍ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتِيَارٍ لِرِيَاسَتِهِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ. (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَمُذْعِنُونَ لَهُ بِالْفِعْلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ. وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ. وَتَخْضَعُ لَهُ الْإِرَادَةُ، وَتَعْمَلُ بِهَدْيِهِ الْجَوَارِحُ، وَكَانَ مُقْتَضَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، أَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، أَوْ إِنَّا بِرِسَالَتِهِ عَالِمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا إِذْعَانِيًّا لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، إِذْ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا صَادِقًا كَامِلًا صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمُ الرَّاسِخَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ بِالْبُرْهَانِ وَهُوَ يَنْفُرُ مِنْهُ بِالْوُجْدَانِ. فَيَجْحَدُهُ وَيُحَارِبُهُ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ. اسْتِكْبَارًا عَنْهُ أَوْ حَسَدًا لِأَهْلِهِ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) . (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ لَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ شَهَادَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ لِمَحْضِ الِاسْتِكْبَارِ. (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أَصْلُ الْعَقْرِ الْجَرْحُ، وَعَقْرُ الْإِبِلِ قَطْعُ قَوَائِمِهَا، وَكَانُوا يَعْقِرُونَ الْبَعِيرَ قَبْلَ نَحْرِهِ لِيَمُوتَ فِي مَكَانِهِ وَلَا يَنَدَّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّحْرِ، وَهُوَ طَعْنُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَلْقِهِ بِالْمَنْحَرِ. أُسْنِدَ الْعَقْرُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَبِيلَةِ - وَالْمُتَعَاطِي لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - لِأَنَّهُ بِتَوَاطُئِهِمْ وَرِضَاهُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْقَمَرِ: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) (54: 29) وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " فَانْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنْعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ " وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي جُمْلَتِهَا، كَمَا أَنَّهَا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَتِهَا، وَلَوْ بَقِيَ الصَّالِحُونَ فِيهَا لَأَصَابَهُمُ الْعَذَابُ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (8: 25) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَاقِرَ النَّاقَةِ قَالَ: لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي خِدْرِهَا فَيَقُولُونَ: أَتَرْضِينَ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ، وَعَلَى الصَّبِيِّ. . . حَتَّى رَضُوا أَجْمَعِينَ فَعَقَرُوهَا. (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيْ تَمَرَّدُوا مُسْتَكْبِرِينَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، ضَمِنَ الْعُتُوُّ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ، وَالْعُتُوُّ فِي اللُّغَةِ: التَّمَرُّدُ وَالِامْتِنَاعُ، وَيَكُونُ عَنْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَمِنْهُ عَتَا الشَّيْخُ وَبَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: إِذَا أَسَنَّ فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَاتَاةِ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ - وَعَنْ قُوَّةٍ وَعُتُوٍّ كَوَصْفِ الرِّيحِ

77

الشَّدِيدَةِ بِالْعَاتِيَةِ، وَمِنْهُ عُتُوُّ الْجَبَّارِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ، وَتُوصَفُ النَّخْلَةُ الْعَالِيَةُ بِالْعَاتِيَةِ لِامْتِنَاعِهَا عَلَى مَنْ يُرِيدُ جَنَاهَا إِلَّا بِمَشَقَّةِ التَّسَلُّقِ وَالصُّعُودِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللهِ - وَهُوَ أَبُو رُغَالٍ - فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ. (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) نَادَوْهُ بِاسْمِهِ تَهْوِينًا لِشَأْنِهِ وَتَعْرِيضًا بِمَا يَظُنُّونَ مِنْ عَجْزِهِ، وَقَالُوا! ائْتِنَا بِمَا أَوْعَدْتَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا تَزَالُ مُصِرًّا عَلَيْهِ وَمُعَلِّقًا لَهُ عَلَى مَسِّ النَّاقَةِ بِسُوءٍ - إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَتَدَّعِي أَنَّ وَعِيدَكَ تَبْلِيغٌ عَنْهُ - وَاسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُ عَامٌّ. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الرَّجْفَةُ الْمَرَّةُ مِنَ الرَّجْفِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يُقَالُ رَجَفَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ، وَرَجَفَتِ الْأَرْضُ زُلْزِلَتْ وَاهْتَزَّتْ وَرَجَفَ الْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ مِنَ الْخَوْفِ، وَفِي حَدِيثِ الْوَحْيِ: فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ يَرْجُفُ بِهَا فُؤَادُهُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (11: 67) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ: الصَّيْحَةُ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ رَجَفَتْ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ، وَقِيلَ: بَلِ الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ أَخَذَتْهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَالصَّيْحَةُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الصَّيْحَةَ سَبَبًا، لِلزَّلْزَلَةِ وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ مِثْلَ السَّيِّدِ الْآلُوسِيِّ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ يَنْقُلُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ بِمَا ذَكَرَ، وَيُصَحِّحُ بِحَقِّ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّيْحَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ بِالطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ، وَيَنْسَى كَالَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهَا الصَّاعِقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ: " حم السَّجْدَةِ - فُصِّلَتْ " وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) (41: 17) وَالثَّانِي: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (51: 44) وَلِنُزُولِ الصَّاعِقَةِ صَيْحَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، تَرْجُفُ مِنْ وَقْعِهَا الْأَفْئِدَةُ وَتَضْطَرِبُ أَعْصَابُ الْأَبْدَانِ، وَرُبَّمَا اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ وَتَصَدَّعَ مَا فِيهَا مِنْ بُنْيَانٍ وَسَبَبُهَا اشْتِعَالٌ يُحْدِثُهُ اللهُ تَعَالَى بِاتِّصَالِ كَهْرَبَائِيَّةِ الْأَرْضِ بِكَهْرَبَائِيَّةِ الْجَوِّ الَّتِي يَحْمِلُهَا السَّحَابُ، فَيَكُونُ لَهُ صَوْتٌ كَالصَّوْتِ الَّذِي يُحْدِثُهُ بِاشْتِعَالِ قَذَائِفِ الْمَدَافِعِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا الصَّاعِقَةُ فَهِيَ الشَّرَارَةُ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ فَتُحْدِثُ فِيهَا تَأْثِيرَاتٍ عَظِيمَةً بِقَدْرِهَا، كَصَعْقِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهِمْ، وَهَدْمِ الْمَبَانِي أَوْ تَصْدِيعِهَا، وَإِحْرَاقِ الشَّجَرِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الدَّلَائِلِ

79

عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ هَدَاهُمْ إِلَى اتِّقَاءِ ضَرَرِ الصَّوَاعِقِ فِي الْمَبَانِي الْعَظِيمَةِ بِوَضْعِ مَا يُسَمُّونَهُ قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ عَلَيْهَا، فَيَمْتَنِعُ بِسُنَّةِ اللهِ نُزُولُهَا بِهَا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْقَادِرُ الْمُقَدِّرُ قَدْ جَعَلَ هَلَاكَهُمْ فِي وَقْتٍ سَاقَ فِيهِ السَّحَابَ الْمُتَشَبَّعَ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى أَرْضِهِمْ بِأَسْبَابِهِ الْمُعْتَادَةِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ تِلْكَ الصَّاعِقَةَ لِأَجْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْوَاقِعُ فَالْآيَةُ قَدْ وَقَعَتْ وَصَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ فِي إِنْذَارِ قَوْمِهِ. (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) دَارُ الرَّجُلِ مَا يَسْكُنُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ " مُؤَنَّثَةٌ " وَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى عِدَّةِ بُيُوتٍ، وَالْبَلَدُ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَدَارُ الْإِسْلَامِ الْوَطَنُ الَّذِي تُنَفَّذُ فِيهِ شَرَائِعُهُ وَهِيَ دَارُ الْعَدْلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ الْحَقُّ، وَيُقَابِلُهَا دَارُ الْكُفْرِ وَدَارُ الْحَرْبِ. وَالْجُثُومُ لِلْإِنْسَانِ والطَّيْرِ كَالْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ، فَالْأَوَّلُ وُقُوعُ النَّاسِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَخَرُورُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالثَّانِي وُقُوعُ الطَّيْرِ لَاطِئَةً بِالْأَرْضِ فِي حَالِ سُكُونِهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ قَتْلِهَا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا وَقَدْ وَقَعَتِ الصَّاعِقَةُ بِهِمْ أَنْ سَقَطُوا مَصْعُوقِينَ، وَجَثَمُوا هَامِدِينَ خَامِدِينَ. " وَأَصْبَحُوا " إِمَّا بِمَعْنَى صَارُوا وَإِمَّا بِمَعْنَى دَخَلُوا فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ جَاثِمِينَ. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْهَلَ قَوْمَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ أَنْجَاهُ اللهُ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَأَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْبَاقِينَ الظَّالِمِينَ بَعْدَ إِنْجَائِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ صَيْحَةِ الصَّاعِقَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَجَاوِزَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَادِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ عَقِبَ هَلَاكِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الذِّكْرِ، كَتَقَدُّمِ مَدْلُولِهَا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنْ عُهِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَعَانِي لِنُكَتٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامٌ يُعْرَفُ فِيهِ التَّرْتِيبُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي الظُّهُورِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَتَيْنِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ إِعْذَارِ صَالِحٍ إِلَى قَوْمِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ وَمَحْضِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَمِنْ تَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ أَفْنَ الرَّأْيِ وَفَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِكُرْهِ النَّاصِحِينَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ - إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافِ عَنْهُمْ أَوْ عِنْدَهُ وَلَكِنْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ الَّذِي سَبَقَ مِثْلُهُ فِي قِصَّتَيْ نُوحٍ وَهُودٍ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَهُ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ، وَأُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ، وَآخَرُ مَرْوِيٌّ مَأْثُورٌ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَقُولُهُ الْمُتَحَسِّرُ عَلَى مَنْ مَاتَ جَانِيًا عَلَى حَيَاتِهِ بِالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، الْمُعَزِّي لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالْمُتَحَزِّنُ لِعَدَمِ قَبُولِهِ مَا بَذَلَ مِنَ النُّصْحِ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ؟ أَلَمْ أُحَذِّرْكَ عَاقِبَةَ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ فَمَاذَا أَفْعَلُ إِذَا كُنْتَ

80

تُفَضِّلُ لَذَّةَ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ، عَلَى هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ الْمُعْتَدِلَةِ فِي عَشَرَاتِ الْأَعْوَامِ؟ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُقَالُ فِي أَحْوَالِ الْحُزْنِ الْمُخْتَلِفَةِ خِطَابًا لِلْمَوْتَى بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ عُهِدَ مِنْهُمْ مُخَاطَبَةُ الدِّيَارِ، وَالطُّلُولِ وَالْآثَارِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نِدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي الْقَلِيبِ " يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! وَفُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ " قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ - أَوْ فِيهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً حَسْرَةً وَنَدَمًا اهـ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَذِّرِينَ لِعُبَّادِ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ أَصْحَابِهَا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ يَقِيسُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا وَرَدَ مِنْ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْبَرْزَخِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا مِنَ الصَّالِحِينَ يَسْمَعُ مِنْهُ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أُمُورَ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِيهَا. (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) .

قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرُ مَا يُعْرَفُ بِهِ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (صَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ) كَمَا فِي كُتُبِ الْأَنْسَابِ وَسِفْرِ التَّكْوِينِ، وَفِيهِ أَنَّ اسْمَ وَالِدِهِ (حَارَانُ) وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي (أُوَرِ الْكَلْدَانِيِّينَ) وَهِيَ فِي طَرْفِ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ جَنُوبِ الْعِرَاقِ الْغَرْبِيِّ مِنْ وِلَايَةِ الْبَصْرَةِ - وَكَانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ تُسَمَّى أَرْضَ بَابِلَ. وَأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ سَافَرَ مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إِلَى مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى جَزِيرَةَ قُورَا، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى الْآنَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَكَانٌ تُحِيطُ بِهِ دِجْلَةُ فَقَطْ (وَهُنَالِكَ كَانَتْ مَمْلَكَةُ أَشُورَ) فَإِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ مِنْ سُورِيَّةَ. ثُمَّ أَسْكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِ بِاخْتِيَارِهِ لَهَا لِجَوْدَةِ مَرَاعِيهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ - الْمُسَمَّى بِعُمْقِ السَّدِيمِ بِقُرْبِ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ الَّذِي سُمِّيَ بِبَحْرِ لُوطٍ أَيْضًا - الْقُرَى أَوِ الْمُدُنُ الْخَمْسُ: سَدُومُ وَعَمُورَةُ وَأَدْمَةُ وَصَبُوبِيمُ وَبَالِعُ الَّتِي سُمِّيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ صُوغَرَ لِصِغَرِهَا، فَسَكنَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَاصِمَتِهَا سَدُومَ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْآنَ أَيْنَ كَانَتْ تِلْكَ الْقُرَى مِنْ جِوَارِ بَحْرِ لُوطٍ إِذْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، فَمِنَ الْمُؤَرِّخِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْبَحْرَ غَمَرَ مَوْضِعَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَتْ عَمُورَةُ تَلِي سَدُومَ فِي الْكِبَرِ وَفِي الْفَسَادِ، وَهُمَا اللَّتَانِ يَحْفَظُ اسْمَهُمَا النَّاسُ إِلَى الْآنِ. وَاسْمُ لُوطٍ مَصْرُوفٌ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ كَنُوحٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مَادَّةِ لَاطَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ لَوْطًا أَيْ لَصَقَ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى كَلِمَةِ لُوطٍ بِالْعِبْرَانِيَّةِ " سَتْرٌ " فَهِيَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعْنَى مَادَّتِهَا الْعَرَبِيَّةِ عَنْ مَادَّتِهَا الْعِبْرِيَّةِ وَالسِّرْيَانِيَّةِ أُخْتَيِ الْعَرَبِيَّةِ الصُّغْرَيَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْهُ فَإِنَّ اللُّصُوقَ ضَرْبٌ مِنَ السَّتْرِ. وَيُرَاجَعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (74 س 6) [ص 445 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] قَالَ تَعَالَى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) النَّسَقُ الَّذِي قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا - وَلَكِنْ حُذِفَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِرْسَالِ وَرُكْنُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لُوطًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَاذْكُرْ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ مُوَبِّخًا لَهُمْ: أَتَفْعَلُونَ الْفِعْلَةَ الْبَالِغَةَ مُنْتَهَى الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ؟ (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) بَلْ هِيَ مِنْ مُبْتَدَعَاتِكُمْ فِي الْفَسَادِ، فَأَنْتُمْ فِيهَا قُدْوَةُ سُوءٍ، فَعَلَيْكُمْ وِزْرُهَا وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ يَتْبَعَكُمْ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ نَحْوِيٌّ أَوْ بَيَانِيٌّ يُؤَكِّدُ التَّوْبِيخَ بِبَيَانِ أَنَّهُ فَسَادٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَلِهِدَايَةِ الدِّينِ مَعًا، وَ " الْبَاءُ " فِي قَوْلِهِ: (بِهَا) لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ - أَقْوَالٌ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ أَحَدٍ) يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَعُمُومَهُ الْمُسْتَغْرِقَ

81

لِكُلِّ الْبَشَرِ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَصْدُقُ بِعَالِمِي زَمَانِهِمْ، وَلِكَوْنِهِمْ هُمُ الْمُبْتَدِعِينَ لَهَا اشْتَقَّ الْعَرَبُ لَهَا اسْمًا مِنْ لُوطٍ فَقَالُوا لَاطَ بِهِ لِوَاطَةً. (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُفَسِّرٌ لِلْإِتْيَانِ الْمُجْمَلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي عُهِدَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَدْعُو إِلَيْهِ الشَّهْوَةُ وَيَقْصِدُ بِهِ النَّسْلَ، وَتَعْلِيلُهُ هُنَا بِالشَّهْوَةِ وَتَجَنُّبِ النِّسَاءِ بَيَانٌ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْغَرِيزَةُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ. فَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِابْتِغَاءِ الشَّهْوَةِ وَحْدَهَا أَنَّهُمْ أَخَسُّ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ وَأَضَلُّ سَبِيلًا، فَإِنَّ ذُكُورَهَا تَطْلُبُ إِنَاثَهَا بِسَائِقِ الشَّهْوَةِ لِأَجْلِ النَّسْلِ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ نَوْعُ كَلٍّ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّيْرَ وَالْحَشَرَاتِ تَبْدَأُ حَيَاتَهَا الزَّوْجِيَّةَ بِبِنَاءِ الْمَسَاكِنِ الصَّالِحَةِ لِنَسْلِهَا فِي رَاحَتِهِ وَحِفْظِهِ مِمَّا يَعْدُو عَلَيْهِ - مِنْ عُشٍّ فِي أَعْلَى شَجَرَةٍ أَوْ وُكْنَةٍ فِي قُلَّةِ جَبَلٍ أَوْ جُحْرٍ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ أَوْ غِيلٍ فِي دَاخِلِ أَجَمَةٍ أَوْ حَرَجَةٍ؟ - وَهَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ لَا غَرَضَ لَهُمْ إِلَّا إِرْضَاءُ حِسِّ الشَّهْوَةِ وَقَضَاءُ وَطَرِ اللَّذَّةِ. وَمَنْ قَصَدَ الشَّهَوَاتِ لِذَاتِهَا، تَمَتُّعًا بِلَذَّاتِهَا، دُونَ الْفَائِدَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهَا، جَنَى عَلَى نَفْسِهِ غَائِلَةَ الْإِسْرَافِ فِيهَا، فَانْقَلَبَ نَفْعُهَا ضُرًّا، وَصَارَ خَيْرُهَا شَرًّا، يَجْعَلُ الْوَسِيلَةَ مَقْصِدًا، وَصَيْرُورَةَ الْإِسْرَافِ فِيهِ خُلُقًا؛ إِذِ الْفِعْلُ يَكُونُ حِينَئِذٍ عَنْ دَاعِيَةٍ ثَابِتَةٍ لَا عَنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ، فَلَا يَزَالُ صَاحِبُهُ يُعَاوِدُهُ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً لَهُ، فَتَكْرَارُ الْعَمَلِ يُكَوِّنُ الْمَلَكَةَ، وَالْمَلَكَةُ تَدْعُو إِلَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَجْهُ إِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ إِسْنَادِ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهِمْ بِفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّكْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ إِلَى إِسْنَادِ صِفَةِ الْإِسْرَافِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أَيْ لَسْتُمْ تَأْتُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بَعْدَ نَدَمٍ وَتَوْبَةٍ عَقِبَ كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ أَنْتُمْ مُسْرِفُونَ فِيهَا وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِكُمْ لَا تَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مَكَانُ هَذِهِ الْآيَةِ - وَمَا قَبْلَهَا عَيْنُ مَا قَبْلَهَا - (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (29: 29) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَكَانُ هَذَا الْإِضْرَابِ هُنَا: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (26: 166) أَيْ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ، وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (55:27) وَهُوَ يَشْمَلُ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَالْجَهْلَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السَّفَهِ وَالطَّيْشِ. وَمَجْمُوعُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْزَئِينَ بِفَسَادِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْعُدْوَانِ

82

وَالْجَهْلِ، فَلَا هُمْ يَعْقِلُونَ ضَرَرَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّسْلِ وَعَلَى الصِّحَّةِ وَعَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ الْعَامَّةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ - فَيَجْتَنِبُوهَا أَوْ يَجْتَنِبُوا الْإِسْرَافَ فِيهَا - وَلَا هُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ يَصْرِفُهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَمَا كَانَ الْعِلْمُ بِالضَّرَرِ وَحْدَهُ لِيَصْرِفَ عَنِ السُّوءِ وَالْفَسَادِ، إِذَا حُرِمَ صَاحِبُهُ الْفَضَائِلَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، بَلِ الْفَضَائِلُ الْمَوْهُوبَةُ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، عُرْضَةٌ لِلْفَسَادِ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، إِلَّا إِذَا رَسَخَتْ بِالْفَضَائِلِ الْمَكْسُوبَةِ بِتَرْبِيَةِ الدِّينِ، فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَاشِيَةٌ بَيْنَ أَعْرَفِ النَّاسِ بِمَفَاسِدِهَا وَمَضَارِّهَا فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَنْفُسِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ، حَتَّى الْبَاحِثِينَ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْهُمْ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَخْدَانِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ لَا تُحْدِثُ نَقْصًا فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ! ! وَنَقُولُ: يَا لَهَا مِنْ فَلْسَفَةٍ فَاسِقَةٍ أَلَيْسُوا يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مِنَ النَّاسِ حَتَّى أَشَدِّهِمُ اسْتِبَاحَةً لِلشَّهَوَاتِ كَالْإِفْرِنْجِ لِكَيْ لَا يَنْتَقِصُوهُمْ وَيَمْتَهِنُوهُمْ؟ أَوَ لَيْسُوا بِذَلِكَ يَشْعُرُونَ بِنَقْصِ أَنْفُسِهِمُ النَّاطِقَةِ وَدَنَسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَشْعُرِ الْفَاعِلُ، أَفَلَا يَشْعُرُ الْقَابِلُ؟ بَلَى وَلَكِنْ قَدْ يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَخْدَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ أَنَّهُمْ يُصَابُونَ بِدَاءِ الْأُبْنَةِ، حَتَّى إِذَا كَبُرَ أَحَدُهُمْ وَصَارَ لَا يَجِدُ مِنَ الْفُسَّاقِ مَنْ يَرْغَبُ فِي إِتْيَانِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ يَبْحَثُ هُوَ فِي الْخَفَاءِ عَمَّنْ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ مِنْ تُحُوتِ الْفُقَرَاءِ وَأَرَاذِلِ الْخَدَمِ، فَيَجْعَلُ لَهُ جَعْلًا أَوْ رَاتِبًا عَلَى إِتْيَانِهِ، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعَافَ هَذَا الْمُنْكَرَ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ إِرْضَاءِ صَاحِبِهِ (الْمَهِينِ عِنْدَهُ الْمُحْتَرَمِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ) فَيَنْشُدُ الْمَأْبُونَ غَيْرَهُ، وَلَا يَزَالُ يُذَلُّ وَيَخْزَى فِي مُسَاوَمَةِ أَفْرَادِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَفْتَضِحَ أَمْرُهُ فِي الْبَلَدِ، وَيَشْتَهِرَ بَلْ يُشْهَرُ بَيْنَ سَائِرِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّحُوتِ الَّذِينَ يَعْلُونَهُ لَا يَخْجَلُونَ مِنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِمْ مَعَهُ؛ وَلِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ بِالتَّصْرِيحِ، إِذَا لَمْ يُعْرِضُوا عَنْهُ عِنْدَمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ، أَفَنَسِيَ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ فَلَاسِفَةِ الْفِسْقِ هَذَا الْخِزْيَ؟ أَمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُدَنِّسُ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ بِنَقْصٍ؟ فَقُبْحُ اللُّوَاطَةِ وَفُحْشُهَا لَيْسَ بِكَوْنِهَا لَذَّةً بَهِيمِيَّةً كَمَا قِيلَ، إِذِ اللَّذَّةُ الْبَهِيمِيَّةُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا لِأَنَّهَا مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَمَبْدَأُ حِكْمَةِ بَقَاءِ النَّسْلِ، بَلْ فُحْشُهَا بِاسْتِعْمَالِهَا بِمَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَحِكْمَتَهَا، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَضَارِّ الْبَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ الْكَثِيرَةِ. (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أَيْ وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ عَنْ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالنَّصِيحَةِ شَيْئًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْحُجَّةِ وَلَا الِاعْتِذَارِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اعْتِيدَ فِي الْجِدَالِ، مَا كَانَ إِلَّا الْأَمْرَ بِإِخْرَاجِهِ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي رِجْسِهِمْ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى

مُعَاشَرَتِهِمْ وَلَا مَسَاكِنِهِمْ مَعَ هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ، فَإِنَّ النَّاقِصَ يَسْتَثْقِلُ مُعَاشَرَةَ الْكَامِلِ الَّذِي يَحْتَقِرُهُ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُ هَذَا الْإِخْرَاجَ، إِذَا هُوَ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْإِنْكَارِ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِمَنْ آمَنَ مَعَهُ فَيَعُودُ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ (أَخْرِجُوهُمْ) . (قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْقَرِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةِ النَّمْلِ فَفِيهَا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) (27: 56) بَدَلُ أَخْرِجُوهُمْ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، إِلَّا الْعَطْفَ فِي أَوَّلِهَا بِالْفَاءِ، كَآيَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْجَوَابُ، وَهِيَ: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (29: 29) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَتَى كَانَ الْكَلَامُ مَفْهُومًا كَانَ صَحِيحًا فَصِيحًا وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى جَامِدِي النُّحَاةِ وَإِعْرَابُهُ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ فِي حِكَايَةِ الْجَوَابَيْنِ تَعَارُضًا فِي الْمَعْنَى مَحْكِيًّا بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِمَا، فَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَمَا الَّذِي يَدْفَعُ هَذَا التَّعَارُضَ؟ (قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ؛ لِحَمْلِهِمَا عَلَى الْوُقُوعِ فِي وَقْتَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَاهُمْ كَثِيرًا، فَكَانَ يَسْمَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَلَامًا مِمَّنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ قِصَصَ الْقُرْآنِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا سَرْدُ حَوَادِثِ التَّارِيخِ بَلِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، فَيُذْكَرُ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْمَوَاعِظِ مَا لَا يُذْكَرُ فِي الْأُخْرَى، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ كُلُّ مَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعِظَ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. فَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ الضَّالِّينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ - يُكَرِّرُونَ لَهُمُ الْوَعْظَ بِمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَجْوِبَةً مُتَشَابِهَةً، وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَقُولُ غَيْرُهُ فَيُعْجِبُهُمْ وَيُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ فَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. كَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِمْ فِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِذَا رَضُوهُ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي إِسْنَادِ عَقْرِ النَّاقَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ وَإِنَّمَا عَقَرَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مَا لَمْ يَحْكِهُ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالنَّمْلِ، فَزَادَ عَلَى إِتْيَانِهِمُ الرِّجَالَ قَطْعَ السَّبِيلِ، وَإِتْيَانَهُمُ الْمُنْكَرَ فِي النَّادِي الْحَافِلِ، وَالْمَجْلِسِ الْحَاشِدِ. فَكَأَنَّهُمْ ضَاقُوا بِهِ حِينَئِذٍ ذَرْعًا وَاسْتَعْجَلُوهُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى عِصْيَانِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِإِخْرَاجِهِ. وَأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. (فَإِنْ قِيلَ) : هَذَا مَقْبُولٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ مَا وَجْهُ بَدْءِ جُمْلَةِ

الْجَوَابِ بِالْوَاوِ تَارَةً وَبِالْفَاءِ أُخْرَى، وَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَوْضِعِهِ؟ (قُلْنَا) : إِنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِكُلٍّ مِنَ " الْوَاوِ " وَ " الْفَاءِ " جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ فِي " الْفَاءِ " زِيَادَةَ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ رَبْطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا بِمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ تُلُوِّهِ لَهُ، فَهُوَ جِمَاعُ مَعَانِيهَا الْعَامَّةِ مِنَ التَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَجَزَاءِ الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ الْعَامُّ فِي هَذَا الِارْتِبَاطِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ أَثَرًا لِفِعْلٍ وَقَعَ قَبْلَهُ، وَكُلٌّ مِنْ آيَتَيِ النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ جَاءَ بَعْدَ إِسْنَادِ فِعْلٍ إِلَى الْقَوْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُولَى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (27: 55) وَفِي الثَّانِيَةِ: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (29: 29) فَلِذَلِكَ عُطِفَ الْجَوَابُ عَلَى مَا بَعْدَهُمَا بِالْفَاءِ. وَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وَإِسْنَادُ صِفَةِ الْإِسْرَافِ إِلَيْهِمْ فِيهَا مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الَّذِي كَانَ بِتَكْرَارِهِ عِلَّةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَانَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ مَعْلُولًا لَهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ لِعَطْفِ هَذِهِ بِالْوَاوِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اسْتَظْهَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَعْضِهِمْ قَدْ كَانَ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ بِهِ مِنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ، فَكَانَ بِهَذَا فِي مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ - فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، وَأَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَرَدَّدَهُ آخَرُونَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَهَذِهِ الدِّقَّةُ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُتَّحِدَةِ أَوِ الْمُتَشَابِهَةِ لِأَمْثَالِ هَذِهِ النُّكَتِ لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (رُوحَ الْمَعَانِي) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْوَاوِ فِي (وَمَا كَانَ) إِلَخْ. دُونَ الْفَاءِ كَمَا فِي النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ قَبْلَ الْفِعْلِ هُنَا وَالْفِعْلِ هُنَاكَ، وَالتَّعْقِيبُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْفِعْلِ حَسَنٌ دُونَ التَّعْقِيبِ بِهِ بَعْدَ الِاسْمِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ اهـ وَلَعَمْرِي إِنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّأَمُّلِ لِلَفْظِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ بِهِ أَوَّلًا وَلِمَعْنَاهُ بَعْدَ فَهْمِهِ ثَانِيًا، فَإِنْ ظَهَرَ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّ وَجْهَ الْحُسْنِ فِي التَّعْقِيبِ مَا بَسَطْنَاهُ انْتَهَى تَعَبُ التَّأَمُّلِ بِالْقَبُولِ إِنْ شَاءَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ عَبَثًا، وَإِلَّا كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ كَدَّ الذِّهْنِ وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ مَعًا، وَمَا كَتَبْتُ هَذِهِ النُّكْتَةَ، إِلَّا لِأَقُولَ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَنَّى بِذَكَاءِ أَصْحَابِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ مِنَ الْمُتَعَجِّبِينَ، وَإِنْ قَلَّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِمْ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَسَيَقِلُّ عَدَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَلَّ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَرِفَتْ قِيمَةَ الْعُمْرِ، فَضَنَّتْ بِهِ أَنْ يَضِيعَ جُلُّهُ فِي حَلِّ رُمُوزِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَهْلِ الرَّذَائِلِ أَنْ يُنْكِرُوهَا أَوْ يُسَمُّوهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَيَأْلَمُونَ مِمَّنْ يُعَيِّرُهُمْ بِهَا لِمَا جَبَلَ اللهُ عَلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ وَكُرْهِ النَّقْصِ، فَكَيْفَ عَلَّلَ قَوْمُ لُوطٍ

83

إِخْرَاجَهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِأَنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ مِنْ أَدْرَانِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالْكَمَالِ وَشَهَادَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالنَّقْصِ؟ . (فَالْجَوَابُ) : مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ: سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وَبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَافْتِخَارِهِمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَذَارَةِ، كَمَا يَقُولُ الشُّطَّارُ مِنَ الْفَسَقَةِ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ إِذَا وَعَظَهُمْ: ابْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ، وَأَرِيحُونَا مِنْ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ اهـ. وَمِثْلُهُ مَعْهُودٌ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ، وَلِلنَّقْصِ وَالرَّذَائِلِ دَرَكَاتٌ، كَمَا أَنَّ لِلْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ دَرَجَاتٌ، فَأُولَاهَا أَنْ يُلِمَّ بِالرَّذِيلَةِ وَهُوَ يَشْعُرُ بِقُبْحِهَا، وَيَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ مِنْهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مُسْتَتِرًا مُسْتَخْفِيًا، وَيَلِيهَا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، حَتَّى يَزُولَ شُعُورُهُ بِقُبْحِهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، وَيَكُونُ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلْمُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يُفَاخِرَ بِهَا أَهْلَهَا، وَيَحْتَقِرَ مَنْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ، وَهِيَ دَرَجَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَهْبِطُ إِلَيْهَا وَلَا بِسَفِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، بَلْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يَعْمَلُونَهَا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) أَيْ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ خَانَتْهُ بِوِلَايَةِ قَوْمِهِ الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مِنْ جَمَاعَةِ الْغَابِرِينَ أَيِ الْهَالِكِينَ، أَوِ الْبَاقِينَ الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَيَلِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ. يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى بَقَى وَبِمَعْنَى مَضَى وَذَهَبَ وَهَلَكَ. وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ أَهْلَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ أَمْ لَا، فَقَدْ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (51: 35، 36) . (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) أَيْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا عَجِيبًا أَمْرُهُ، وَهُوَ الْحِجَارَةُ الَّتِي رُجِمُوا بِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَطِرَ وَأَمْطَرَ أَنَّ مَعْنَى مَطِرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَصَابَتْهُمْ بِالْمَطَرِ، كَقَوْلِهِمْ غَاثَتْهُمْ وَوَبِلَتْهُمْ وَجَادَتْهُمْ وَرَهِمَتْهُمْ. وَيُقَالُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ كَذَا - بِمَعْنَى أَرْسَلَتْهُ عَلَيْهِمْ إِرْسَالَ الْمَطَرِ اهـ. وَعَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَطَرَ وَأَمْطَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ " مَطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الرَّحْمَةِ وَ " أَمْطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَذَابِ. نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَتَبِعَهُ الرَّاغِبُ وَالْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي الْقَامُوسِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُقَالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْهُمْ، وَسَمَاءٌ مَاطِرَةٌ وَمُمْطِرَةٌ - قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ أَمْطَرَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ اهـ. فَالْأَمْطَارُ حَقِيقَةٌ فِي

الْمَطَرِ مَجَازٌ فِيمَا يُشْبِهُهُ فِي الْكَثْرَةِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حِسِّيَّيْنِ أَوْ مَعْنَوِيَّيْنِ مِمَّا يَجِيءُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِالشَّرِّ، إِلَّا مِنْ تَكَرُّرِ الْآيَاتِ فِي إِرْسَالِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (8: 32) وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (46: 24) . نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا وَرَدَتْ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا نَقُولُ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَتِهَا قَوْلًا جَازِمًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ إِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِرْسَالَ إِعْصَارٍ مِنَ الرِّيحِ حَمَلَتْهَا وَأَلْقَتْهَا عَلَيْهِمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَهْلِ سَاحِلِ الْبَحْرِ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً طِينًا وَمَرَّةً سَمَكًا - أَيْ مَعَ الْمَطَرِ - وَسَأَلُوا: مِنْ أَيْنَ جَاءَ ذَلِكَ؟ فَقُلْنَا: أَمَّا التُّرَابُ فَأَثَارَتْهُ السَّافِيَاءُ مِنَ الرِّيحِ فَحَمَلَتْهُ إِلَى السَّحَابِ فَنَزَلَ مَعَ الْمَطَرِ طِينًا، وَأَمَّا السَّمَكُ فَهَذَا الْإِعْصَارُ الَّذِي يُرَى مُتَدَلِّيًا مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْبَحْرِ أَوْ مُرْتَفِعًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ كَعَمُودٍ مِنَ الدُّخَّانِ وَتُسَمُّونَهُ التِّنِّينَ، هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْمَاءَ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ، فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ فِيمَا رَفَعَهُ سَمَكٌ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْكُمْ لِقُرْبِكُمْ مِنَ الْبَحْرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحِجَارَةُ مِنْ بَعْضِ النُّجُومِ الْمُحَطَّمَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفَلَكِيُّونَ الْحِجَارَةَ النَّيْزَكِيَّةَ، وَهِيَ بَقَايَا كَوْكَبٍ مُحَطَّمٍ تَجْذِبُهُ الْأَرْضُ إِلَيْهَا إِذَا صَارَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَهِيَ تَحْتَرِقُ غَالِبًا مِنْ سُرْعَةِ الْجَذْبِ وَشِدَّتِهِ وَهِيَ الشُّهُبُ الَّتِي تُرَى فِي اللَّيْلِ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الِاحْتِرَاقِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَرْضِ سَاخَ فِيهَا، وَكَانَ لِسُقُوطِهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَقَدِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ وَوَضَعُوهَا فِي الْمَتَاحِفِ، وَلَمْ يُعْهَدْ أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً، وَالْآيَاتُ تُخَالِفُ الْمَعْهُودَ وَتَخْتَرِقُ الْمُعْتَادَ وَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِسُنَنٍ خَفِيَّةٍ فِي الْكَوْنِ بِفِعْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي سُورَتَيْ هُودٍ وَالْحِجْرِ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً. وَاخْتَلَفَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ السِّجِّيلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُهَا حِجَارَةٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (مُسَوَّمَةً) (11: 83) قَالَ: مُعَلَّمَةً. وَمِثْلِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حِجَارَةٌ فِيهَا طِينٌ، وَقَالَ: السَّوْمُ بَيَاضٌ فِي حُمْرَةٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالسِّجِّيلُ حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ وَأَصْلُهُ فِيمَا قِيلَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ اهـ. وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْحِجَارَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَقَلَعَتْهَا الْأَعَاصِيرُ مِنْ أَرْضٍ رَطْبَةٍ مِنَ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحِجَارَةُ النَّيَازِكِ لَا تَكُونُ إِلَّا جَافَّةً، بَلْ تَسْقُطُ حَامِيَةً مِنْ شِدَّةِ الْجَذْبِ ثُمَّ تَبْرُدُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ: السِّجِّيلُ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ فَارِسِيُّ الْأَصْلِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلَهَا، وَنُبَيِّنُ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا وَذَاكَ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا آيَةً.

84

(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ أَوْ يَقْرَؤُهَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَاقِبَةَ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَا تَكُونُ إِلَّا وَبَالًا وَعِقَابًا، فَإِنَّ الْأُمَمَ تُعَاقَبُ عَلَى ذُنُوبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ بِاطِّرَادٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ عِقَابَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلذَّنْبِ كَالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ فِي الْفِسْقِ يُفْسِدُ أَخْلَاقَ الْأُمَّةِ وَيَذْهَبُ بِبَأْسِهَا، أَوْ يَجْعَلُهُ بَيْنَهَا شَدِيدًا بِتَفَرُّقِ كَلِمَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْزَابِهَا وَتَعَادِيهِمْ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ تَسَلُّطُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا بِسَلْبِ اسْتِقْلَالِهَا، وَتَسْخِيرِهَا فِي مَنَافِعِهَا، حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِذَهَابِ مُقَوِّمَاتِهَا وَمُشَخِّصَاتِهَا، أَوِ انْدِغَامِهَا فِي الْأُمَّةِ الْغَالِبَةِ أَوِ انْقِرَاضِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يَحْدُثُ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجَوَائِحِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ النَّارِ وَالْمَوَادِّ الْمُصْطَهِرَةِ الَّتِي تَقْذِفُهَا الْبَرَاكِينُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَوْبِئَةِ - أَوِ الِانْقِلَابَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْحُرُوبِ وَالثَّوَرَاتِ وَالْفِتَنِ. وَهُنَالِكَ نَوْعٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدِ انْقَضَى زَمَانُهُ بِخَتْمِهِمْ بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (6: 65) [ص408 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] . حَظْرُ اللُّوَاطَةِ وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا وَمَفَاسِدُهَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّوَاطَةَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمَّاهَا فَاحِشَةً وَخَبِيثَةً، وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي لَعْنِ فَاعِلِهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَ بَعْضَهَا الْحَاكِمُ، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي أَمْرٍ قَطْعِيٍّ بِالنَّصِّ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ " صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " إِذَا ظُلِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَوْلَةَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا كَثُرَ الزِّنَا كَثُرَ السِّبَاءُ، وَإِذَا كَثُرَ اللُّوطِيَّةُ رَفَعَ اللهُ يَدَهُ عَنِ الْخَلْقِ فَلَا يُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكُوا " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُ النَّسَائِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ " قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَاسْتَنْكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ أَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ. ثُمَّ قَالَ عَنِ ابْنِ الطَّلَّاعِ فِي أَحْكَامِهِ تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ وَرَدِّهِ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَصِحُّ، وَأَنَّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ بِلَفْظِ " فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ " وَقَالَ عَاصِمٌ مَتْرُوكٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَكِنَّ الشَّوْكَانِيُّ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الْحَافِظَ قَالَ: رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَأَنَّ الشَّيْخَيْنِ احْتَجَّا بِعَمْرِو بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ الَّذِي ضَعُفَ بِهِ

ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ ابْنِ الطَّلَّاعِ وَتَعَقُّبَ الْحَافِظِ لَهَا وَأَوْرَدَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فِي أَحْكَامِهَا مَا نَصُّهُ: " وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ الْفَاعِلِ لِلُّوَاطِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَعْنِ فَاعِلِهِ (أَيْ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا) فَذَهَبَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ (يَعْنِي الَّذِينَ اسْتَشَارَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ) وَعَلِيٍّ (وَهُوَ مِنْهُمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ) إِلَى أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ وَلَوْ كَانَ بِكْرًا سَوَاءً كَانَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالنَّاصِرُ وَالْقَاسِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (يَعْنِي صَاحِبَ الْمُنْتَقَى) مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجْمِهِ اللُّوطِيَّةَ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ بِمَجْمُوعِهِ يُنْتَهَضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِ اللُّوطِيِّ فَرُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ثُمَّ يُحْرَقُ لِعِظَمِ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ (أَيْ عَمَلًا بِرَأْيِ عَلَيٍّ فِي الشُّورَى) وَذَهَبَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ إِلَى أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَذَهَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ يُلْقَى مِنْ أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْبَلَدِ (أَقُولُ: وَالرِّوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ وَأَهْوَنُهُمَا الثَّانِيَةُ لِأَنَّ أَبْنِيَتَهُمْ كَانَتْ وَاطِئَةً جِدًّا) وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَتْلِ، وَقَدْ حَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يُرْجَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ اللُّوَاطَةَ كَالزِّنَا فَحَدَّهُمَا وَاحِدٌ، وَبَحَثَ فِي تَخْصِيصِ اللُّوطِيِّ بِعِقَابٍ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَحِقُّ مُرْتَكِبَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، وَمُقَارِفَ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ الذَّمِيمَةِ، بِأَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً يَصِيرُ بِهَا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَيُعَذَّبَ تَعْذِيبًا يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْفَسَقَةِ الْمُتَمَرِّدِينَ، فَحَقِيقٌ بِمَنْ أَتَى بِفَاحِشَةِ قَوْمٍ مَا سَبَقَهُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَنْ يَصْلَى مِنَ الْعُقُوبَةِ بِمَا يَكُونُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالشَّنَاعَةِ مُشَابِهًا لِعُقُوبَتِهِمْ، وَقَدْ خَسَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ وَاسْتَأْصَلَ بِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكْرَهُمْ وَثَيِّبَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ وَالْمُرْتَضَى وَالْمُؤَيَّدُ بِاللهِ إِلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ اللُّوطِيُّ فَقَطْ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي خُصُوصِ اللُّوطِيِّ، وَالْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الزَّانِي عَلَى الْعُمُومِ اهـ. أَقُولُ: وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا التَّعْزِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ بِالْجَلْدِ وَالْحَبْسِ فِي أَنْتَنِ بُقْعَةٍ، وَبِالسِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) (4: 15) الْآيَتَيْنِ " 15، 16 " أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيَّ فَسَّرَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ بِالْمُسَاحِقَاتِ - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنَ الرِّجَالِ بِاللَّائِطِ وَالْمَلُوطِ بِهِ، وَأَنَّ الْجَلَالَ قَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللُّوَاطِ جَمِيعًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ رَجَّحَ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ عِقَابَ اللُّوَاطَةِ التَّعْزِيرُ، وَلَكِنْ بِمَا فِيهِ إِيذَاءٌ لَا مُطْلَقًا، فَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَبِمَا فِيهِ تَعْذِيبٌ وَمَا لَا تَعْذِيبَ فِيهِ، [رَاجِعْ ص 355 - 360 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] .

ابْتِلَاءُ مُتْرَفِي الْحَضَارَةِ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ لَيْسَ لَدَيْنَا أَثَارَةٌ مِنَ التَّارِيخِ فِي سَبَبِ ابْتِلَاءِ قَوْمِ لُوطٍ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ رُوَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ تَزَيَّا لَهُمْ فِي صُورَةِ أَجْمَلِ صَبِيٍّ رَآهُ النَّاسُ فَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ ثُمَّ جَرَوْا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا أَثَرٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ بَعْضُهَا عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَقِلَّةُ ثِمَارٍ فَتَوَاطَئُوا عَلَى مَنْعِ ثِمَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ بِأَنْ يُعَاقِبُوا كُلَّ غَرِيبٍ يَأْخُذُونَهُ فِي دِيَارِهِمْ بِإِتْيَانِهِ وَتَغْرِيمِهِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، قَالُوا: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَظْهَرُونَ بِبِلَادِكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ. فَفَعَلُوهُ فَأَلِفُوهُ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُنَزِّهُ أَنْفُسَهَا عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِالْأَوْلَى، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ تَشَاوُرِ الصَّحَابَةِ فِي الْعِقَابِ عَلَيْهَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ ضَوَاحِي بِلَادِ الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ. فَجَمَعَ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثَلٌ، فَأَشَارَ عَلِيُّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِأَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ - أَيْ بَعْدَ قَتْلِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ فَأَمْضَاهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ضَوَاحِي بِلَادِ الْعَرَبِ مَا يَلِي بِلَادَ فَارِسٍ مِنْهَا إِذْ كَانَ هُنَالِكَ، وَلَمْ نَعْلَمْ جِنْسَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَوَّلُ مَنِ اتُّهِمَ بِالْأَمْرِ الْقَبِيحِ - تَعْنَى عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ - رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَأَمَرَ عُمَرُ بَعْضَ شَبَابِ قُرَيْشٍ أَلَّا يُجَالِسُوهُ. أَيْ لِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ. هَذِهِ الْفَاحِشَةُ مِنْ سَيِّئَاتِ تَرَفِ الْحَضَارَةِ وَهِيَ تَكْثُرُ فِي الْمُسْرِفِينَ فِي التَّرَفِ، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَتَعَسَّرُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالنِّسَاءِ، كَثُكْنَاتِ الْجُنْدِ، وَالْمَدَارِسِ الَّتِي لَا تَشْتَدُّ الْمُرَاقَبَةُ الدِّينِيَّةُ الْأَدَبِيَّةُ فِيهَا عَلَى التَّلَامِيذِ، وَمِنْ أَسْبَابِ ابْتِلَاءِ بَعْضِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِي عُنْفُوَانِ حَضَارَتِهِمُ احْتِجَابُ النِّسَاءِ وَعِفَّتُهُنَّ مَعَ ضَعْفِ التُّرْبَةِ الدِّينِيَّةِ، وَكَثْرَةِ الْمَمَالِيكِ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَعَاجِمِ الْحِسَانِ الصُّوَرِ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ. قَالَ الْفَقِيهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ مِنْ كِتَابِهِ الزَّوَاجِرِ مَا نَصُّهُ: " وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ بِمَمْلُوكِهِ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ اللُّوطِيَّةِ الْمُجْرِمِينَ الْفَاسِقِينَ الْمَلْعُونِينَ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُتْرَفِينَ، فَاتَّخَذُوا حِسَانَ الْمَمَالِيكِ سُودًا وَبِيضًا لِذَلِكَ، فَعَلَيْهِمْ أَشَدُّ اللَّعْنَةِ الدَّائِمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَعْظَمُ الْخِزْيِ

وَالْبَوَارِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا دَامُوا عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ الْفَظِيعَةِ، الْمُوجِبَةِ لِلْفَقْرِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَانْمِحَاقِ الْبَرَكَاتِ، وَالْخِيَانَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَمَانَاتِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ قَدِ افْتَقَرَ مِنْ سُوءِ مَا جَنَاهُ، وَقَبِيحِ مُعَامَلَتِهِ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَارِئِهِ وَخَالِقِهِ، وَمُوجِدِهِ وَرَازِقِهِ، بَلْ بَارَزَهُ بِهَذِهِ الْمُبَارَزَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى خَلْعِ جِلْبَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ وَالتَّخَلِّي عَنْ سَائِرِ صِفَاتِ أَهْلِ الشَّهَامَةِ وَالْفُتُوَّةِ، وَالتَّحَلِّي بِصِفَاتِ الْبَهَائِمِ بَلْ بِأَقْبَحِ وَأَفْظَعِ صِفَةٍ وَخَلَّةٍ، إِذْ لَا نَجِدُ حَيَوَانًا ذَكَرًا يَنْكِحُ مِثْلَهُ، فَنَاهِيكَ بِرَذِيلَةٍ تَعَفُّ عَنْهَا الْحَمِيرُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ فِعْلُهَا بِمَنْ هُوَ فِي صُورَةِ رَئِيسٍ أَوْ كَبِيرٍ؟ كَلَّا بَلْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْ قَدْرِهِ، وَأَشْأَمُ مِنْ خَبَرِهِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيَفِ، وَأَحَقُّ بِالشُّرُورِ وَالسَّرَفِ، وَأَخُو الْخِزْيِ وَالْمَهَانَةِ، وَخَائِنُ عَهْدِ اللهِ وَمَالَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ، فَبُعْدًا لَهُ وَسُحْقًا، وَهَلَاكًا فِي جَهَنَّمَ وَحَرْقًا اهـ. وَقَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي: وَبَعْضُ الْفَسَقَةِ الْيَوْمَ - دَمَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى - يُهَوِّنُونَ أَمْرَهَا وَيُتَيَّمُونَ بِهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَخْذًا لِلثَّأْرِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمَدُ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَالُوا الصَّدَارَةَ بِأَعْجَازِهِمْ نَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِتَنَ بِالْمُرْدِ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ، أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ وَخَصَّهُ آخَرُونَ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ الَّذِي هُوَ ذَرِيعَةُ الْفَاحِشَةِ. رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَحُدَّ الرَّجُلُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ - وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الْعَذَارَى - وَعَنِ النَّجِيبِ بْنِ السُّدِّيِّ قَالَ كَانَ يُقَالُ: لَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ مَعَ الْمُرْدِ - وَعَنِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ: سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ اللُّوطِيُّونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ يَنْظُرُونَ، وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ، وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ - وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ (يَعْنِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلِّ قَطْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ نَجِسًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: دَخَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْحَمَّامَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ غُلَامٌ صَبِيحٌ فَقَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي أَرَى مَعَ كُلِّ امْرَأَةٍ شَيْطَانًا وَمَعَ كُلِّ غُلَامٍ بِضْعَةَ عَشَرَ شَيْطَانًا. يَعْنِي أَنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْإِغْرَاءَ بِالْغُلَامِ الْجَمِيلِ يَزِيدُ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْمَرْأَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ ضِعْفًا لِسُهُولَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَكَثْرَةِ وَسَائِلِهِ، وَهَلْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَدْخُلَ الْمَرْأَةُ الْحَمَّامَ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا دَخَلَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَكَمَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي غَيْرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّهُنَّ يَتَوَلَّيْنَ تَنْظِيفَ الرِّجَالِ فِي الْحَمَّامَاتِ. وَمِنْ وَسَائِلِ الِافْتِتَانِ بِالْمُرْدِ التَّعْلِيمُ وَالِانْتِسَابُ إِلَى طَرِيقَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَيُجْعَلُ الْخَيْرُ وَسِيلَةً إِلَى الشَّرِّ، وَكَمْ فُتِنَ أُسْتَاذٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ بِمُرِيدِهِ وَتِلْمِيذِهِ وَأَخْفَى هَوَاهُ حَتَّى فَسَدَتْ

حَالُهُ، وَسَاءَ مَآلُهُ، وَكَمْ تَهَتَّكَ مُتَهَتِّكٌ فَفُضِحَ سِرُّهُ، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ، كَالشَّيْخِ مُدْرِكٍ الَّذِي عَشِقَ عَمْرًا النَّصْرَانِيَّ أَحَدَ التَّلَامِيذِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ عَنْهُ عِلْمَ الْأَدَبِ، فَكَتَمَ هَوَاهُ زَمَنًا حَتَّى غَلَبَهُ فَبَاحَ بِهِ فَانْقَطَعَ الْغُلَامُ عَنْ مَجْلِسِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَصِيدَتَهُ الْمُزْدَوِجَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: إِنْ كَانَ ذَنْبِي عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ ... فَقَدْ سَعَتْ فِي نَقْضِهِ الْآثَامُ وَاخْتَلَّتِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ ... وَجَازَ فِي الدِّينِ لَهُ الْحَرَامُ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْفَاحِشَةِ أَنَّهَا: (1) جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ. (2) مَفْسَدَةٌ لِلشُّبَّانِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا تُنَالُ بِسُهُولَةٍ. (3) مَذَلَّةٌ لِلرِّجَالِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِيهِمْ مِنْ دَاءِ الْأُبْنَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى مَا فِيهِ مِنْ خِزْيٍ وَمَهَانَةٍ. (4) مَفْسَدَةٌ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي تُصْرَفُ أَزْوَاجُهُنَّ عَنْهُنَّ، حَتَّى يُقَصِّرُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِحْصَانِهِنَّ، حَدَّثَنِي تَاجِرٌ أَنَّهُ دَخَلَتْ دُكَّانَهُ مَرَّةً امْرَأَةٌ بَارِعَةُ الْجَمَالِ فَأَسْفَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا فَقَامَ لِخِدْمَتِهَا دُونَ أَعْوَانِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ دُهِشَ بِرَوْعَةِ حُسْنِهَا قَالَتْ لَهُ: انْظُرْ أَتَجِدُ فِيَّ عَيْبًا؟ قَالَ: إِنَّى لَمْ أَرَ مِثْلَكِ قَطُّ؟ قَالَتْ: وَلَكِنَّ زَوْجِي فُلَانًا يَتْرُكُنِي عَامَّةَ لَيَالِيهِ كَالشَّيْءِ اللُّقَا (هُوَ الَّذِي يُلْقَى وَيُرْمَى لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ) فِي غُرَفِ الدَّارِ وَيَلْهُو عَنِّي فِي الدَّوْرِ السُّفْلِيِّ بِغِلْمَانِ الشَّوَارِعِ حَتَّى مَسَّاحِي الْأَحْذِيَةِ، وَهُوَ لَا يَشْكُو مِنِّي شَيْئًا مِنْ خُلُقٍ وَلَا خَلْقٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي عَمَلٍ وَلَا خِيَانَةٍ فِي مَالٍ وَلَا عِرْضٍ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي أَعْلَمُ هَذَا وَلَا يُبَالِي بِهِ وَلَا يَحْسِبُ حِسَابًا لِعَوَاقِبِهِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ يُقِلُّ فِي النِّسَاءِ مَنْ تَصْبِرُ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ طَوِيلًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ (الْمِصْرِيَّةِ) الَّتِي تَرُوجُ فِي مُدُنِهَا أَسْوَاقُ الْفِسْقِ بِمَا لَهُ فِيهَا مِنَ الْمَوَاخِيرِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُدُنُ الَّتِي يَعْسُرُ فِيهَا السِّفَاحُ وَاتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ فَكَثِيرًا مَا يَسْتَغْنِي فِيهَا النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ كَمَا يَسْتَغْنِي الرِّجَالُ بِالْغِلْمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ نِسَاءِ قَوْمِ لُوطٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ حِينَ اسْتَغْنَى النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: عَذَّبَ اللهُ نِسَاءَ قَوْمِ لُوطٍ بِعَمَلِ رِجَالِهِمْ؟ قَالَ اللهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ: اسْتَغْنَى النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ. أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. (5) قِلَّةُ النَّسْلِ بِفُشُوِّهَا، فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِهَا الرَّغْبَةَ عَنِ الزَّوَاجِ فِي إِتْيَانِ الْأَزْوَاجِ

85

فِي غَيْرِ مَأْتَى الْحَرْثِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي حَظْرِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ سَبِيلِ النَّسْلِ وَلُعِنَ فَاعِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اللُّوطِيَّةَ الصُّغْرَى. (6) أَنَّهَا ذَرِيعَةٌ لِلِاسْتِمْنَاءِ وَلِإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ وَهُمَا مَعْصِيَتَانِ قَبِيحَتَانِ شَدِيدَتَا الضَّرَرِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْآدَابِ، وَمُحَرَّمَتَانِ كَاللُّوَاطَةِ وَالزِّنَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) فَقَصَدَ الشَّهْوَةَ لِذَاتِهَا يُفْضِي إِلَى وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا الزَّوْجَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَّخَذَةُ لِلنَّسْلِ، وَفِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ بِقَصْرِ لَذَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِ وَجَعْلِهِ وَسِيلَةً لِلْحَيَاةِ الْوَالِدِيَّةِ الَّتِي تُنَمَّى بِهَا الْأُمَّةُ وَيُحْفَظُ النَّوْعُ الْبَشَرِيُّ مِنَ الزَّوَالِ. وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ الشَّهْوَةِ مَقْصِدًا يَكْثُرُ مِنْ وَسَائِلِهَا مَا كَانَ أَقْرَبَ مَنَالًا وَأَقَلَّ كُلْفَةً، فَإِذَا اعْتِيدَ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَفَاسِدُ ذَلِكَ فَوْقَ مَا وَصَفْنَا. (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) .

قِصَّةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْعَرَبِ الْمُرْسَلِينَ وَاسْمُهُ مُرْتَجَلٌ وَقِيلَ: مُصَغَّرُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ كَسْرِهَا، وَمَا قِيلَ مِنْ حَظْرِ تَصْغِيرِ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَصْغِيرُ الِاسْمِ الْمَعْرُوفِ بِمَا يُوهِمُ الِاحْتِقَارَ، كَأَنْ تَقُولَ فِي شُعَيْبٍ " شُعَيْعِيبٌ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصَغَّرٍ فِي الْأَصْلِ، وَقَصْدُ الِاحْتِقَارِ لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِأَنَّهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبِيدُ اللهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ بَعْضِ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ شُعَيْبًا اسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِيكَائِيلُ وَاسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ خَبْرِيُّ بْنُ يَشْخُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ الشَّرْقِيِّ بْنِ الْقَطَامِيِّ وَكَانَ نَسَّابَةً عَالِمًا بِالْأَنْسَابِ قَالَ: هُوَ يتروب بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَشُعَيْبٌ بِالْعَرَبِيَّةِ ابْنُ عَيْفَا بْنِ يَوْبَبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْبَبُ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ أَوَّلُهُ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ وَبَعْدَ الْوَاوِ مُوَحَّدَتَانِ انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَلَعَلَّ يَشْخُرَ فِيهِ مُصْحَّفُ يَشْجُرَ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَغُشُّونَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَرْوُونَ لَهُمْ مِنْ كُتُبِهُمْ، وَالَّذِي فِي تَوْرَاتِهِمْ أَنَّ حِمَى مُوسَى كَانَ يُدْعَى رَعْوَئِيلُ كَمَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (2: 18) وَسِفْرِ الْعَدَدِ (10: 29) وَقَالُوا: إِنَّ " رَعْوَ " مَعْنَاهُ صَدِيقٌ فَمَعْنَى رَعْوَئِيلَ (صَدِيقُ اللهِ) أَيِ الصَّادِقُ فِي عِبَادَتِهِ، وَفِي (3: 1 خُرُوجٍ) أَنَّ اسْمَهُ يَثْرُونُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالنُّونِ، إِذْ قَالَ: وَكَانَ مُوسَى يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيِّهِ كَاهِنِ مَدْيَنَ وَمِثْلُهُ فِي (4: 18 مِنْهُ) وَضُبِطَ فِي تَرْجَمَةِ الأميركان بِكَسْرِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَفِي تَرْجَمَةِ الْجزويت " يَثْرُو " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِدُونِ نُونٍ، وَفِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلدُّكْتُورِ بُوسْتْ الْأَمِيرِكَانِيِّ: يَثْرُونُ (فَضْلُهُ) كَاهِنٌ أَوْ أَمِيرٌ مِدْيَانٌ وَهُوَ حَمُو مُوسَى (خر 3: 1) وَيُدْعَى أَيْضًا رَعْوَئِيلُ (خر 2: 18 وعد 1: 29) وَيُثْرُ (حَاشِيَةُ خر 4: 18) وَيُرَجَّحُ أَنَّ يَثْرُونَ كَانَ لَقَبًا لِوَظِيفَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ وَقَطُورَةَ (تَكُ 25: 2) اهـ. وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ يُثْرَ وَفَسَّرَهُ بِفَضْلٍ كَمَا فَسَّرَ يَثْرَوُنَ بِفَضْلِهِ - أَيْ فَضْلُ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَلَعَلَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَضَمِيرِ عَبْدِهِ عَلَمًا فِي زَمَانِنَا وَيَخْتَصِرُونَ بِهِ عَبْدَ اللهِ.

وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ زَوْجَةَ إِبْرَاهِيمَ قَطُورَةَ وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةَ أَوْلَادٍ مِنْهُمْ مُدَانُ وَمَدْيَنُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَكْسِرُونَ مِيمَ مَدْيَنَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَدْيَانُ، وَالْمَدْيَنِيُّونَ عَرَبٌ، وَالْعَرَبُ تَفْتَحُ مِيمَ الْكَلِمَةِ، وَفِي قَامُوسِ بُوسْتْ أَنَّ مَعْنَاهَا خِصَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ أَرْضَهُمْ كَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ خَلِيجِ الْعَقَبَةِ إِلَى مُوَآبَ وَطُورِ سَيْنَاءَ. وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ شِبْهِ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ إِلَى الْفُرَاتِ. وَقَالَ: إِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ كَانُوا مِنْ سُكَّانِ مَدْيَنَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ حُسِبُوا مَعَ الْعَرَبِ وَالْمُوآبِيِّينَ. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ حَمَلَةِ اللُّغَةِ وَالْبُخَارِىُّ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ: إِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ، وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ) فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَأَمَّا شُعَيْبٌ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: هُوَ ابْنُ مِيكِيلَ بْنِ يَشْجُرَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّ جَدَّهُ يَشْجُرَ بْنَ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ مِيكْيَلَ بْنِ يَشْجُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ. كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ صُفُّورَ بْنِ عُنُقَا بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَدْيَنُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُحْرِقَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ " أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ " فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَنِي عَنَزَةَ بْنِ أَسَدٍ فَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدِ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ فَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَ الْحَيُّ عَنَزَةَ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِمْ مَنْصُورُونَ رَهْطُ شُعَيْبٍ وَأَخْتَانُ مُوسَى " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مَجَاهِيلُ اهـ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: وَمَدِينُ - وَسُمِعَ مَدْيَانُ فِي الْأَصْلِ - عَلَمٌ لِابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُنِعَ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ اسْمٌ لِمَاءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ اسْمُ بَلَدٍ وَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ فَلَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ حِينَئِذٍ اهـ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوَّلُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْهُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَذَكَرَ هُنَالِكَ آيَةً، وَقَدْ عَيَّنَ الْآيَةَ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَجِيئِهَا وَهِيَ النَّاقَةُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا وَلَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى آيَةً كَوْنِيَّةً مُعَيَّنَةً لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُؤْمِنَ الْبَشَرُ بِدَلَالَةِ مِثْلِهِ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ إِنْذَارَ قَوْمِهِ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِقَاقِهِ وَعِنَادِهِ - هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَقَدْ صَدَقَ إِنْذَارُهُ هَذَا وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ. وَلَكِنْ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ ظُهُورَ صِدْقِ هَذَا الْإِنْذَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُذْعِنُ إِلَّا لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُلْزِمَةً لِلْحُجَّةِ قَاطِعَةً لِأَلْسِنَةِ الْعُذْرِ وَمُكَابَرَةِ الْحَقِّ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) فَإِنَّ عَطْفَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْفَاءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: (اعْبُدُوا اللهَ) لَعُطِفَ بِالْوَاوِ. بَدَأَ الدَّعْوَةَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ أَسَاسُ الْعَقِيدَةِ وَرُكْنُ الدِّينِ الْأَعْظَمِ، وَقَفَّي عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ إِذَا بَاعُوا، وَالنَّهْيِ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ إِذَا اشْتَرَوْا؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَكَانَ شَأْنُهُ مَعَهُمْ كَشَأْنِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ بَدَأَ بِنَهْيِ قَوْمِهِ عَنِ الْفَاحِشَةِ السُّوأَى الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِيهِمْ. كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ أَوْ وَزَنُوا عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَرُونَ مِنَ الْمُكَيَّلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ يَسْتَوْفُونَ حَقَّهُمْ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ مَا يَبِيعُونَ لَهُمْ يُخْسِرُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ أَيْ يُنْقِصُونَهُ، فَيَبْخَسُونَهُمْ أَشْيَاءَهُمْ وَيُنْقِصُونَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَالْبَخْسُ أَعَمُّ مِنْ نَقْصِ الْمُكَيَّلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَبِيعَاتِ كَالْمَوَاشِي وَالْمَعْدُودَاتِ

وَيَشْمَلُ الْبَخْسَ فِي الْمُسَاوَمَةِ وَالْغِشَّ وَالْحِيَلَ الَّتِي تُنْتَقَصُ بِهَا الْحُقُوقُ، وَكَذَا بَخْسُ الْحُقُوقِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَخْسَيْنِ فَاشٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَأَكْثَرُ التُّجَّارِ بَاخِسُونَ مُطَفِّفُونَ مُخْسِرُونَ، فِيمَا يَبِيعُونَ وَفِيمَا يَشْتَرُونَ وَأَكْثَرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَكُتَّابُ السِّيَاسَةِ بَخَّاسُونَ لِحُقُوقِ صِنْفِهِمْ، وَنَفَّاجُونَ فِيمَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَتَشَبَّعُونَ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا أَعْطَاهُ اللهُ بِبَاعِثِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْغُرُورِ. وَجُمْلَةُ (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى هَضْمِ الْغَرِيبِ وَبَخْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَشْمَلُ بَخْسَ الْأَفْرَادِ بَعْضَهُمْ أَشْيَاءَ بَعْضٍ، وَهَضَمَ الشَّعْبُ فِي جُمْلَتِهِ أَشْيَاءَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُعَامِلُونَهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ الْغَرِيبُ يَأْخُذُونَ دَرَاهِمَهُ وَيَقُولُونَ هَذِهِ زُيُوفٌ، فَيَقْطَعُونَهَا ثُمَّ يَشْتَرُونَهَا مِنْهُ بِالْبَخْسِ يَعْنِي النُّقْصَانَ، وَهَذِهِ النَّقِيصَةُ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَذُمُّ بَعْضًا وَيُنْكِرُ فَضْلَهُ كَالْأَفْرَادِ وَتَرَى التُّجَّارَ فِي عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ يُغَالُونَ مِنَ الْأَسْعَارِ لِلْغُرَبَاءِ مَا يُرَخِّصُونَ لِأَهْلِ الْبِلَادِ وَتَرَى بَعْضَ الْغُرَبَاءِ يَسْتَحِلُّونَ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِ الْمِصْرِيِّينَ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَ مِثْلَهُ فِي مُعَامَلَةِ أَبْنَاءِ جِلْدَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ فَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ الْإِفْرِنْجِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا يُجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ... وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا وَيَا لَيْتَهُمْ يُعَامِلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَمَنْ تَجْمَعُهُمْ مَعَهُمْ أَقْوَى الْمُقَوِّمَاتِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِمْ مَنْ يَبْخَسُونَ أَبْنَاءَ قَوْمِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَشْيَاءَهُمْ وَيَهْضِمُونَ حُقُوقَهُمْ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَجْنَبِيَّ وَيُعْطُونَهُ فَوْقَ حَقِّهِ. وَإِنَّمَا اسْتَذَلَّهُمْ لِلْأَجَانِبِ حُكَّامُهُمْ، فَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ مَبْخُوسُونَ لَا بَاخِسُونَ، وَمَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَذْمُومُونَ لَا مَحْمُودُونَ، وَمَكْفُورُونَ لَا مَشْكُورُونَ. (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آيَةِ (56) خِطَابًا لِأُمَّتِنَا فَفَسَّرْنَاهَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَنَقُولُ فِيمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا: إِنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُ إِفْسَادَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ بِالظُّلْمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى

الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ، وَإِفْسَادِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ بِالْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ النِّظَامِ. وَإِصْلَاحُهَا هُوَ مَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهَا وَحَالُ أَهْلِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ الْمُنَافِيَةِ لِخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَهَانَتِهِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ أَدْرَانِ الرَّذَائِلِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَنِّيَّةِ الْمُرَقِّيَّةِ لِلْعُمْرَانِ وَحُسْنِ الْمَعِيشَةِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (10) فَقَدْ أَصْلَحَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الْبَشَرِ بِنِظَامِ الْفِطْرَةِ وَكَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَرْضِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَوَارِحِ، وَبِمَا أَوْدَعَ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ، وَبِمَا بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْفِطْرَةِ، فَالْإِفْسَادُ إِزَالَةُ صَلَاحٍ أَوْ إِصْلَاحٍ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَالْإِصْلَاحُ مَا يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَهُوَ إِمَّا الْخَالِقُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، وَإِمَّا مَنْ سَخَّرَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وَالْحُكَّامِ الْعَادِلِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْقِسْطَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ يَنْفَعُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالتُّجَّارِ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ كَثِيرَةٍ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ وِفْقًا لِقَاعِدَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الْإِشَارَةُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، أَيْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ لَا تَكْلِيفَ إِعْنَاتٍ، فَرَبُّكُمْ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِمَا هُوَ نَافِعٌ لَكُمْ، وَلَا يَنْهَاكُمْ إِلَّا عَمَّا هُوَ ضَارٌّ بِكُمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَأَعَنْتَكُمْ وَلَكِنَّهُ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ لَكُمْ خَيْرِيَّةُ مَا ذَكَرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُ ذَلِكَ بَعْدَ بَيَانِ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ. فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِيمَانَ هُنَا بِالتَّصْدِيقِ اللُّغَوِيِّ، أَيِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بِهِ عِنْدَهُمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الدُّنْيَوِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ تَعَالَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ: إِنَّ

ذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا لِلْخَيْرِيَّةِ نَفْسِهَا بَلْ لِفِعْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأْتُوا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِي. فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا تَوَقُّفَ لِلْخَيْرِيَّةِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِهِ. وَقَدْ أَطَالُوا الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْآيَةِ حَتَّى زَعَمَ الْخَيَالِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ مِنْ خَيَالَاتِهِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ كَأَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فِي عِبَادَتِهِ لِمَا تَرَوْنَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ تَرْجُونَهُ أَوْ ضُرٍّ تَخَافُونَهُ - وَمِنْ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ. وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ - ذَلِكُمْ كُلُّهُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ وَمَعَادِكُمْ. وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ خَيْرِيَّتُهُ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ وَالِامْتِثَالَ وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ خَالَفَ الْهَوَى أَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَادِيَ الرَّأْيِ، بَلْ يَقْتَضِيهِ حَتَّى فِيمَا يَظُنُّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَصْلَحَتِهِ، فَتَحْصُلُ لَهُ فَوَائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عِلَّةٌ أَوْ سَبَبٌ لَهَا بِحَسَبِ حِكْمَةِ اللهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ. فَكَيْفَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ - كَكَوْنِ التَّوْحِيدِ وَاجْتِنَابِ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُطَهِّرُ عَقْلَهُ وَنَفْسَهُ فِي الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ وَتَعْتِقُ إِرَادَتَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مُسَخَّرًا لِإِرَادَةِ الْخَالِقِ وَسُنَنِهِ، وَإِنْ فَاقَهُ فِي عَظَمَةِ الْخَلْقِ أَوْ عِظَمِ الْمَنْفَعَةِ كَالشَّمْسِ، أَوْ بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوِ الْخَصَائِصِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ فِي الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ عَبَدُوا الْمُلُوكَ الْجَبَّارِينَ فَاتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزَالُ يُذَلُّ لَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ وَلَوْ فِي الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ خَوْفًا مِنْهُمْ، أَوْ رَجَاءً فِي رِفْدِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْمُوَحِّدِينَ، قَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (3: 175) فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لَا يَخْضَعُ لِأَحَدٍ لِذَاتِهِ إِلَّا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، وَإِنَّمَا يُطِيعُ رَسُولَهُ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) (4: 80) وَقَالَ خَاتَمُ رُسُلِهِ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ

وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَةٍ " فَلَا يَأْخُذْهُ " بَدَلَ تَخْيِيرِ التَّهْدِيدِ. وَفِي بَعْضِهَا " مِنْ حَقِّ أَخِيهِ " بَدَلًا مِنْ " بِحَقِّ مُسْلِمٍ " وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأَنَّ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهِدَ كَذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ هُوَ الْخَاضِعُ لِأَحْكَامِنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعَاهِدَ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَوْ بَيْنَ قَوْمِهِ مُعَاهَدَةٌ عَلَى السِّلْمِ وَالْمُرَادُ: أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرْبِيًّا فَهُوَ مُسَاوٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي احْتِرَامِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ وَعِرْضِهِ وَفِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَصْدُرُ بِذَلِكَ. وَالشَّاهِدُ الْمُرَادُ لَنَا مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ وَلَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللهِ إِنَّمَا يُنَفَّذُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دِيَانَةً وَالْحَدِيثُ لَيْسَ نَصًّا فِي وُقُوعِ الْخَطَإِ أَوْ جَوَازِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَا يَسْتَعِينَ أَحَدٌ بِخِلَابَةِ اللِّسَانِ لَدَى الْحُكَّامِ عَلَى الْقَضَاءِ لَهُ بِالْبَاطِلِ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ خَطَإِ الْأَنْبِيَاءِ فِي اجْتِهَادِهِمْ قَالُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا بِالْبَيِّنَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا. هَذَا مِثَالٌ لِكَوْنِ التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ وَتَكْرِيمِهِمْ وَإِعْلَاءِ شَأْنِهِمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ - قَدْ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَتَرَى غَيْرَ الْمُؤْمِنِ الْمُتَدَيِّنَ لَا يَلْتَزِمُ اجْتِنَابَ كُلِّ مَفْسَدَةٍ بَلْ يَسْتَبِيحُ مَا يَرَاهُ نَافِعًا لَهُ وَإِنْ كَانَ ضَارًّا بِغَيْرِهِ فَرْدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أُمَّةً بِأَسْرِهَا، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْأَمَانَةِ خَيْرًا مِنَ الْخِيَانَةِ، وَكَوْنِ الْقِسْطِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ خَيْرًا مِنَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَبَخْسِ الْحُقُوقِ - لَا يَكْفِي لِحَمْلِ الْجُمْهُورِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ يُعْرَضُ لَهُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ ضُرُوبٌ مِنَ الْأَشْكَالِ

فِي تَحْدِيدِ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقِسْطِ وَالْبَخْسِ، وَضُرُوبٌ مِنَ الْهَوَى فِي تَطْبِيقِ حُدُودِهَا أَوْ رُسُومِهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، وَضُرُوبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالشُّبَهَاتِ فِي الْمُسَاوَاةِ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْغَرِيبِ وَالصَّدِيقِ وَالْعَدُوِّ وَالضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ. وَأَمَّا الدِّينُ فَيُوجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِقَامَةَ الْعَدْلِ لِذَاتِهِ بِالْمُسَاوَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ) (5: 8) وَيَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) . لَمْ يَصِلِ الْبَشَرُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ التَّارِيخِ إِلَى عُشْرِ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي مُعَامَلَاتِهِ وَآدَابِهِ حَتَّى زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ وَالْمُفَكِّرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْعِلْمِ عَنِ الدِّينِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَحْدَاثِ بِإِقْنَاعِهِمْ بِمَنَافِعِ الْفَضَائِلِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ، وَمَضَارِّ الرَّذَائِلِ كَأَضْدَادِهَا، وَأَنَّ هَذَا أَهْدَى وَأَقْوَى إِقْنَاعًا مِنَ التَّبْشِيرِ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْإِنْذَارِ بِعَذَابِهَا. وَلَكِنَّا نَرَى رُؤَسَاءَ أَوْ وُزَرَاءَ أَرْقَى الْأُمَمِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ يَقْتَرِفُونَ أَفْحَشَ الرَّذَائِلِ بِالتَّأْوِيلِ لَهَا، وَتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا، وَبِالْخَفَاءِ وَالْحِيَلِ، وَمَا زَالُوا يُرَاءُونَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فَضَحَتْهُمْ وَفَضَحَتْ شُعُوبَهُمُ الْحَرْبُ الْأَخِيرَةُ، فَثَبَتَ بِهَا أَنَّهُمْ شَرُّ الْبَشَرِ وَأَعْرَقُهُمْ فِي الرَّذَائِلِ الْعَامَّةِ كَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالطَّمَعِ. وَالْمُبَارَاةِ فِي وَسَائِلِ إِفْسَادِ الشُّعُوبِ صِحَّةً وَأَخْلَاقًا وَاسْتِذْلَالًا، لِأَجْلِ الِاسْتِلْذَاذِ بِاسْتِبْعَادِهَا، وَالِاسْتِئْثَارِ بِثَمَرَاتِ أَعْمَالِهَا. عَلَى أَنَّهُمْ يَمُنُّونَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْذِبُونَهَا بِهِ إِلَى حَضَارَتِهِمُ الْمَلْعُونَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَاسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَجَعْلِ ذَلِكَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يُبَالِغُونَ فِي مَدْحِهَا، وَعُدَّ هَذَا الْإِطْلَاقُ سَبَبًا لِلْكَمَالِ فِيهَا. هَذَا وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْجَمْعَ بَيْنَ عُلُومِ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبَيْنَ دِينِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَالْعِفَّةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْمَسِيحِيَّةُ الَّتِي يَفْتَخِرُونَ بِوَصْفِ أُمَمِهِمْ بِهَا، وَهُمْ أَبْعَدُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ عَنْهَا - فَالتَّحْقِيقُ الَّذِي ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَالتَّجَارِبِ الدَّقِيقَةِ أَنَّ مَلَكَاتِ الْفَضَائِلِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْأَنْفُسِ إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ

86

فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ وَلِذَلِكَ تَقِلُّ السَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى أَهْلِهَا التَّدَيُّنُ الصَّحِيحُ كَبِلَادِ نَجْدٍ وَأَكْثَرِ بِلَادِ الْيَمَنِ عَلَى قِلَّةِ وَسَائِلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِيهِمَا، وَتَكْثُرُ فِي غَيْرِهَا عَلَى كَثْرَةِ تِلْكَ الْوَسَائِلِ. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ حُكُومَتِنَا الْمِصْرِيَّةِ أَنَّهَا تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي نِظَامِ التَّعْلِيمِ وَفِي إِطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَتَغْفُلُ عَمَّا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ. حَتَّى إِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي مَدَارِسِهَا اخْتِيَارِيٌّ لَا يُطَالَبُ بِهِ التَّلَامِيذُ وَالطُّلَّابُ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ. وَقَدْ فَشَتْ فِي الْبِلَادِ الْجَرَائِمُ مِنْ قَتْلٍ وَسَلْبٍ وَإِفْسَادِ زَرْعٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ، وَقَدِ اتُّخِذَتْ عِدَّةُ وَسَائِلَ لِتَقْلِيلِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ عِدَّةُ لِجَانٍ لِدَرْسِهَا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَأْتِ أَدْنَى عَمَلٍ لِمُقَاوَمَتِهَا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ لِلنَّابِتَةِ، وَبَثِّ الْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ فِي الْعَامَّةِ. وَهُوَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ أَقْوَى وَأَعَمُّ مِنَ الْوَازِعِ الْخَارِجِيِّ. وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَدَأَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ رُكْنُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ الَّذِي هَدَمَتْهُ الْوَثَنِيَّةُ، وَثَنَّى بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَالِهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا هَذَا النَّهْيُ عَنْ قَطْعِهِمُ الطُّرُقَ عَلَى مَنْ يَغْشَى مَجْلِسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَسْمَعُ دَعْوَتَهُ وَيُؤْمِنُ بِهِ فَلَمْ يُؤَخِّرْهُ لِأَنَّ اقْتِرَافَهُ دُونَ اقْتِرَافِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَبَخْسِ الْحُقُوقِ؛ بَلْ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا فِي الزَّمَنِ، فَالدَّعْوَةُ قَدْ وُجِّهَتْ أَوَّلًا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ثُمَّ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ يَزُورُ أَرْضَهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَبُونَ دَارًا هُمُ الْأَبْعَدِينَ اسْتِجَابَةً لَهُ فِي الْأَكْثَرِ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ. فَلَمَّا رَأَوْا غَيْرَهُمْ يَقْبَلُ دَعْوَتَهُ وَيَعْقِلُهَا وَيَهْتَدِي بِهَا شَرَعُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ، فَلَا يَدَعُونَ طَرِيقًا تُوَصِّلُ إِلَيْهِ إِلَّا قَعَدَ بِهَا مَنْ يَتَوَعَّدُ سَالِكِيهَا إِلَيْهِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، يَطْلُبُونَ بِالتَّمْوِيهِ وَالتَّضْلِيلِ أَنْ يَجْعَلُوا اسْتِقَامَتَهَا عِوَجًا وَهُدَاهَا ضَلَالًا، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (فِي الْآيَةِ) 45 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ص 427 فَلْيُرَاجَعْ) . رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) قَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الطَّرِيقِ فَيَقُولُونَ لِمَنْ أَتَى عَلَيْهِمْ: إِنَّ شُعَيْبًا كَذَّابٌ فَلَا يَفْتِنَنَّكُمْ عَنْ دِينِكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، بِكُلِّ صِرَاطٍ: طَرِيقٍ - تُوعِدُونَ، قَالَ: تُخَوِّفُونَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا شُعَيْبًا. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلصِّرَاطِ بِالطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُهُ بِالسَّبِيلِ الْمَجَازِيِّ

قَالَ: (بِكُلِّ صِرَاطٍ) بِكُلِّ سَبِيلِ حَقٍّ إِلَخْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِذَا آمَنُوا بِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ نَهَاهُمْ هُنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (أَوَّلُهَا) قُعُودُهُمْ عَلَى الطُّرُقَاتِ الَّتِي تُوصِّلُ إِلَيْهِ يُخَوِّفُونَ مَنْ يَجِيئُهُ لِيَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَيَسْمَعَ دَعْوَتَهُ. (ثَانِيهَا) صَدُّهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَآمَنَ بِهِ بِصَرْفِهِ عَنِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. (ثَالِثُهَا) ابْتِغَاؤُهُمْ جَعْلَ سَبِيلِ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةِ ذَاتَ عِوَجٍ بِالطَّعْنِ وَإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ الْمُشَكِّكَةِ فِيهَا أَوِ الْمُشَوِّهَةِ لَهَا، كَقَوْلِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصْلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) (11: 87) . فَهَاهُنَا ضَلَالَتَانِ - ضَلَالَةُ التَّقْلِيدِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَلَا تَزَالُ تَكْأَةَ أَكْثَرِ الضَّالِّينَ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَفِي فَهْمِهِ وَفِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ - وَضَلَالَةُ الْغُلُوِّ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهَا فِي زَمَنٍ مَا أَشَدَّ وَأَعَمَّ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ بِمَا بَثَّ الْإِفْرِنْجُ الْفَاتِنُونَ الْمُفْتِونُونَ لِدَعْوَتِهَا فِي كُلِّ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ حُكُومَةً كَالْحُكُومَةِ الْمِصْرِيَّةِ تُبِيحُ الزِّنَا لِشَعْبٍ يَدِينُ أَكْثَرُ أَهْلِهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَقَلُّهُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَكُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَتْهُ بِإِغْوَاءِ أَسَاتِذَتِهَا وَسَادَتِهَا مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ خَنَعَ الشَّعْبُ الْمُسْتَذَلُّ الْمُسْتَضْعَفُ لَهَا، وَسَكَتَ عُلَمَاؤُهُ وَمُرْشِدُوهُ الدِّينِيُّونَ فَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهَا أَفْرَادًا وَلَا جَمَاعَاتٍ، وَلَا يَتَظَاهَرُونَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى عَمَلِهَا بِالْخُطَبِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَا بِالنَّشْرِ فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ أَدَّى السُّكُوتُ عَنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ إِلَى أَنْ صَارَ الْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا يَكْثُرُ أَنْصَارُهُ وَالْمُسْتَحْسِنُونَ لَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اسْتِحْلَالَ الزِّنَا وَإِبَاحَتَهُ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ. وَعُلَمَاءُ الدِّينِ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكُفْرِ وَاضِعِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْقَوَانِينِ وَالْمُسْتَبِيحِينَ لَهَا مِنْ سِوَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَلَّمَا يَتَجَاوَزُونَ التَّنَاجِي فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، إِمَّا لِضَعْفِهِمْ أَوْ لِأَنَّ أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَمَنْصِبَ الْقَضَاءِ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْحُكَّامِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَمِنْ مَفَاسِدِ هَذَا السُّكُوتِ عَنْ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى شَرْعِيَّةِ كُلِّ مَا يَسْكُتُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الدِّينِ.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أَيْ وَتَذَكَّرُوا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ قَلِيلِي الْعَدَدِ فَكَثَّرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِمَا بَارَكَ فِي نَسْلِكُمْ فَاشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّبَاعِ وَصَايَاهُ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَتَرْكِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) مِنَ الشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَكُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِفَسَادِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عِبْرَةٌ فِي ذَلِكَ. (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ إِنْ كَانَ بَعْضُكُمْ قَدْ آمَنَ بِمَا أَرْسَلَنِي اللهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ لِلْإِصْلَاحِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِفْسَادِ، وَبَعْضُكُمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ بَلْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَسَتَكُونُ عَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ كُفَّارُكُمْ بِعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَسَيَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ، فَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. حُكْمُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ نَوْعَانِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُوحِيهِ إِلَى رُسُلِهِ، وَحُكْمٌ فِعْلِيٌّ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى عَدْلِهِ وَسُنَنِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (5: 1) فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَإِحْلَالِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ. وَمِنَ الثَّانِي مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (10: 109) وَفِي مَعْنَاهُ مَا خُتِمَتْ بِهِ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ فِي مَوْضُوعِ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (21: 108 - 112) وَإِنَّمَا حُكْمُهُ تَعَالَى بَيْنَ الْأُمَمِ بِنَصْرِ أَقْرَبِهَا إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، وَلْيَعْرِضُوا حَالَهُمْ وَحَالَ دُوَلِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ

وَعَلَى أَحْكَامِ اللهِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيَتُوبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، فَيُعِيدَ إِلَيْهِمْ مَا سُلِبَ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ مَقْتَهُ وَغَضَبَهُ عَنْهُمْ. اللهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا، وَاحْكُمْ لَنَا لَا عَلَيْنَا. إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

88

الْجُزْءُ التَّاسِعُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا تَتِمَّةُ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَبْدُوءَةٌ بِجَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْآثَامِ، وَأَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَرَدَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَمْثِلَةٍ مِنْ مُرَاجَعَةِ الْكَلَامِ، وَتَوَلَّاهُ الْمَلَأُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: كُبَرَاءُ رِجَالِهِمْ كَدَأْبِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، وَهُوَ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا أَيْ: قَالَ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَأَكَابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَعَتَوْا عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَقَدِ اسْتَضْعَفُوهُ: نُقْسِمُ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ أَنْتَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا الْجَامِعَةِ أَوْ مِنْ بِلَادِنَا كُلِّهَا، فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْبَلَدِ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى الْقُطْرِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ، أَوْ لَتَعُودُنَّ وَتَرْجِعُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا، وَمَا نَدِينُ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِنَا الْمَوْرُوثَةِ عَنْ آبَائِنَا فَتَكُونَ مِلَّةً لَكُمْ، وَمُحِيطَةً بِكُمْ مَعَنَا. ضُمِّنَ الْعَوْدُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى

بِـ " اللَّامِ " وَ " إِلَى " وَ " فِي "، وَمِنْهُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى (17: 69) يَعْنِي الْبَحْرَ، إِذِ الْخِطَابُ قَبْلَهُ لِمَنْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ (20: 55) يَعْنِي الْأَرْضَ، وَالْمَعْنَى: نُقْسِمُ لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِخْرَاجِكُمْ أَوْ عَوْدَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، قِيلَ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعَوْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمَجْمُوعِ، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ، عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ مِلَّةِ قَوْمِهِ فَيَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِهِ بِالْعَوْدَةِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَلَا فِي بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ أَمْرٌ سِلْبِيٌّ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، وَلَا يَعُدُّونَهُ بِهِ خَارِجًا عَنْهُمْ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إِمَّا انْصِرَافًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَوْلِ وَالْعَزِيمَةِ اهـ، وَمِنْهُ ذَمُّهُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى سَبْقَ الْكَوْنِ فِيهِ وَلَا عَدَمَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِذَنْ إِلَى تَصْحِيحِ التَّعْبِيرِ بِمَا قِيلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِالْمَصِيرِ، وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِالتَّغْلِيبِ، وَلَا سِيَّمَا فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ؟ يَعْنِي: أَنَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى حَالِ الْكَرَاهَةِ لَهَا النَّاشِئَةِ عَنِ اعْتِقَادِ بُطْلَانِهَا وَقُبْحِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ (لَوْ) لِلْغَايَةِ، أَوْ: أَتَأْمُرُونَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا، وَتُهَدِّدُونَنَا بِالنَّفْيِ مِنْ وَطَنِنَا، وَالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِنَا إِنْ لَمْ نَفْعَلْ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا يُحْذَفُ مُتَعَلِّقُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِنْكَارِ طَلَبِهِمْ، وَرَفْضِهِ بِدُونِ مُبَالَاةٍ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ جَهْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَأِ بِكُنْهِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَكَوْنِهِ عَقِيدَةً يُدَانُ اللهُ بِهَا، وَأَعْمَالًا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِأَدَائِهَا، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهَا، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا لِتَكْمُلَ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ بِالْتِزَامِهَا، وَجَهْلُهُمْ بِكَوْنِ حُبِّ الْوَطَنِ وَإِلْفِ السَّكَنِ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَلِجَهْلِهِمْ هَذَا ظَنُّوا أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يُؤْثِرُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ التَّمَتُّعَ بِالْإِقَامَةِ فِي وَطَنِهِ، وَمُجَارَاةِ أَهْلِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَرَذَائِلِهِمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ الْمُطَهِّرُ لِلنَّفْسِ مِنْ أَدْرَانِ الْخُرَافَاتِ، وَبِالْفَضَائِلِ الْمُرَقِّيَةِ لِلنَّفْسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ رَابِطَةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ وَعَصَبِيَّةٌ قَوْمِيَّةٌ، يَجْرِي أَصْحَابُهَا فِيهَا عَلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ وَمِلَّةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دِينٌ مَالِكٌ لِلنَّفْسِ، حَاكِمٌ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، يُقْصَدُ بِهِ الْكَمَالُ الْبَشَرِي الْأَعْلَى بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ إِقَامَتِهِ فِي وَطَنِهِ، وَإِصْلَاحِ أَهْلِهِ بِهِ

89

فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ بَدْءًا وَدَوَامًا، وَإِنْ مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّتَهُ فَفُتِنَ فِي دِينِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شُعَيْبٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ إِخْرَاجًا وَهُمْ كَارِهُونَ، كَمَا أُخْرِجَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (29: 26) وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْهِجْرَةَ عَلَى مَنْ يُسْتَضْعَفُ فِي أَرْضِ وَطَنِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِيهَا، وَيُوجِبُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْأَوْطَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْهِجْرَةَ مِنْهَا إِذَا مُنِعُوا حُرِّيَّتَهُمُ الشَّخْصِيَّةَ فِيمَا هُوَ دُونَ الدِّينِ وَالْوِجْدَانِ، بَلْ يَعِزُّ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنْ يُقِيمَ فِي وَطَنِهِ إِذَا مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْفِسْقِ وَالْآثَامِ، وَرُبَّ أُنَاسٍ عَزَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ وَطَنِهِمْ، فَآثَرُوا الْبَقَاءَ فِيهِ مَفْتُونِينَ فِي دِينِهِمْ، فَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِيَأْمَنُوا عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَظَلُّوا يُسِرُّونَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَلْقِينِهِ لِأَوْلَادِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهِ فَارْتَدَّتْ ذُرِّيَّتُهُمْ عَنْهُ فِي زَمَنِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْدِهِمْ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مُسْلِمِي الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ ثَلِّ الْأَسْبَانِيِّينَ لِعِرْضِ دَوْلَتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى التَّنَصُّرِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ بَعْضٌ وَبَقِيَ آخَرُونَ تَحْتَ وَعِيدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (4: 97 - 99) . وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَمُتَعَلِّقَ الْكَرَاهَةِ هَكَذَا: قَالَ أَتُخْرِجُونَنَا مِنْ وَطَنِنَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِمُفَارَقَتِهِ حَرِيصِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ؟ وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَاللَّفْظُ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ كَرَاهَةِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لِحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْكَرَاهَةِ، وَالْمَقَامُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُنَاسِبُ لِبَقِيَّةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ الْأَمْرَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا بِالرَّفْضِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ إِنْشَاءٌ فِي لَفْظِ الْخَيْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا قَسَمِيًّا لِرَفْضِ دَعْوَةِ الْمَلَأِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بَرِئْتُ مِنَ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ دِينِي، أَوْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَيَكُونُ مُقَابَلَةً لِقَسَمِهِمْ بِقَسَمٍ أَعْرَقَ مِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا خَرَجَ لَا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَأَكَّدَ بِقَدْ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْظَمَ افْتِرَاءَنَا عَلَى اللهِ تَعَالَى إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا، وَهَدَانَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَّبِعُ مِلَّتَكُمْ يُعَدُّ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، لَا بِهِدَايَةٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا بُرْهَانٍ مِنَ الْعَقْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ

افْتَرَى عَلَيْهِ وَضَلَّ عَنْ صِرَاطِهِ عَلَى عِلْمٍ؟ وَإِنَّ كُفْرَ الْجُحُودِ ـ وَهُوَ إِنْكَارُ الْحَقِّ وَغَمْطُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ـ هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِ أَفْظَعُ ضُرُوبِ الِافْتِرَاءِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَدْنَى عُذْرٍ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ النَّتِيجَةَ أَدَلُّ مِنَ الْعَوْدِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُونَهُ تَغْلِيبًا لِاسْتِثْنَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَقُولُ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عَدَّهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُونَ، وَيَفْعَلُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْمَلَهُ إِنْجَاءُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْهَا، بِمَعْنَى إِنْجَائِهِ مِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةٍ مَا كَانَ يُؤْمِنُ بِعَقِيدَتِهَا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَلَا كَانَ يَهْتَدِي بِعَقْلِهِ وَرَأْيِهِ إِلَى مِلَّةٍ خَيْرٍ مِنْهَا، فَكَانَ مَوْقِفُهُ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ فِي شَأْنِهَا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (93: 7) وَتَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (42: 52) الْآيَةَ. وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا هَذَا رَفْضٌ آخَرُ لِلْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُؤَكَّدٌ أَبْلَغَ التَّأْكِيدِ مَعْطُوفٌ عَلَى مُنَاسِبِهِ، وَالتَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا جَارٍ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ اللهِ رَبِّنَا الْمُتَصَرِّفِ فِي جَمِيعِ شُئُونِنَا، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا أَنْتُمْ وَلَا نَحْنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّنَا مُوقِنُونَ بِأَنَّ مِلَّتَكُمْ بَاطِلَةٌ ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ، وَمِلَّتَنَا هِيَ الْحَقُّ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ وَعُمْرَانُ الْأَرْضِ، وَالْمُوقِنُ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَةَ يَقِينِهِ وَلَا تَغْيِيرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِيَدِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ سُبْحَانَهُ، وَرَهْنِ مَشِيئَتِهِ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا فَعِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَمَشِيئَتُهُ تَجْرِي بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ يُقِيمُ حُجَّتَهُ بِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا دَامُوا نَاصِرِينَ لَهُ، وَقَائِمِينَ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَطْمَعُوا إِذًا أَنْ يَشَاءَ رَبُّنَا الْحَفِيُّ بِنَا عَوْدَتَنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا بِفَضْلِهِ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ بِنَا، وَمَا كَانَ تَعَالَى لِيُدْحِضَ حُجَّتَهُ وَيُبْطِلَ سُنَّتَهُ. فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُوئِسٌ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ عَوْدَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى وُقُوعَ الْعَوْدِ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ

وَلَا مِمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فِي حَالٍ مَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمَضَارِّ، وَمِنْهَا الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَاسْتَثْنَى حَالًا وَاحِدَةً وَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِتَوْكِيدِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِمُتَعَلِّقِ الْمَشِيئَةِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (87: 6، 7) أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى النَّفْيِ بِكَرَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ لَا بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْلَى، وَلَا يَخِلُّ بِتَوْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ جَوَازُ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالنَّفْيِ فِي كَلَامِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ عَوْدَتَهُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّةِ قَوْمِهِمْ، فَهُوَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَطَلَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ عَبَثٌ، يُؤَكِّدُهُ ذِكْرُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَفَادَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَوِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ لَهُمْ إِلَّا مَا عَوَّدَهُمْ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ؛ إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمِلَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ عِصْمَةِ رَسُولِهِمْ وَحِفْظِ جَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْعَوْدِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا بِمَعْنَى قَوْلِ عَبْدٍ أَمِينٍ أَرَادَ أَنْ يُغْوِيَهُ بَعْضُ الْمُغْوِينَ، وَيُغْرِيَهُ بِخِيَانَةِ سَيِّدِهِ الْحَفِيِّ بِهِ، وَصَرَفَ بَعْضَ مَالِهِ فِيمَا يَضُرُّهُ هُوَ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي تَصَرُّفِي إِلَّا أَنْ يَشَاءَ سَيِّدِي الصَّالِحُ الْمُصْلِحُ الْمُعْتَنِي بِشَأْنِي، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِأَمْرِي. فَالتَّعْبِيرُ لَيْسَ مَسُوقًا لِتَقْرِيرِ حُجَّةِ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى جَوَازِ مَشِيئَةِ اللهِ لِكُفْرِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَلَا حُجَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لَهُمْ، وَلِغَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِنَايَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَمُضِيِّ سُنَّتِهِ وَوَعْدِهِ بِتَأْيِيدِهِمُ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (37: 171 - 173) فَهُوَ لَنْ يَشَاءَ كُفْرَهُمْ بِالْفِعْلِ، بَلْ يَخْتَارُ لَهُمُ الْأَصْلَحَ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ لَا بِإِيجَابِ الْعَقْلِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ: السُّدِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي شِرْكِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا، وَاللهُ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا فَإِنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا اهـ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ وَفَضْلِهِ الْعَظِيمِ عَلَى رُسُلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَسُنَنُهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (6: 80)

وَقَدِ اخْتَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنْ إِنْ شَاءَ رَبِّي أَنْ يُصِيبَنِي فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ مِنْ قِبَلِ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ كَوُقُوعِ صَنَمٍ عَلَيَّ يَشُجُّنِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِقُدْرَتِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ، لَا بِقُدْرَةِ شُرَكَائِكُمْ وَلَا بِمَشِيئَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَشِيئَةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَلَّلَهُ بِهِ بَعْدَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ فَقَالَ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَيْ: وَمَعْبُودَاتُكُمْ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا إِلَخْ، وَاخْتَرْنَا هُنَا جَعْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ لَا الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا شَأْنَ لَهُ هُنَا، عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَحْوَالِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَوْقَاتِ. ثُمَّ أَكَّدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَكَّلْنَا أَمَرْنَا مَعَ قِيَامِنَا بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَنَا، فَهُوَ يَكْفِينَا أَمْرَ تَهْدِيدِكُمْ، وَكُلَّ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي اسْتِطَاعَتِنَا مِنْ جِهَادِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي يَعْرِفُهَا جَمِيعُ رُسُلِهِ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (65: 3) وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْكِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُرَاعَاةَ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَمَنْ يَتْرُكِ الْعَمَلَ بِالْأَسْبَابِ فَهُوَ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ، لَا مُتَوَكِّلٌ مَنْصُورٌ وَلَا مَأْجُورٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَنْ سَأَلَهُ أَيَتْرُكُ نَاقَتَهُ سَائِبَةً، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (3: 159) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَزْمُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَمِنْهَا مُظَاهَرَتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَئِذٍ بِلِبْسِ دِرْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَدَأَ جَوَابَهُ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى إِجْبَارِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُرِيدُهُ، وَثَنَى بِبَيَانِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ مَا أَهَمَّهُ، وَهُوَ فَوْقَ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَتَجْتَمِعُ لَهُ الْعِنَايَةُ الْكَسْبِيَّةُ وَالْوَهْبِيَّةُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي لَا يَكُونُ شَرْعِيًّا مَرْجُوَّ الْإِجَابَةِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا فِي الطَّاقَةِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَالتَّوَكُّلِ الْقَلْبِيِّ، فَقَالَ:

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ الْمَعْنَى لِمَادَّةِ (الْفَتْحِ) كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ: إِزَالَةُ الْإِغْلَاقِ وَالْإِشْكَالِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ كَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقُفْلِ وَالْغَلْقِ وَالْمَتَاعِ مِنْ صُنْدُوقٍ وَغِرَارَةٍ وَخُرْجٍ وَعُلْبَةٍ، وَالثَّانِي: هُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ كَفَتْحِ أَبْوَابِ الرِّزْقِ، وَالْمُغْلَقِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَالْمُبْهَمِ مِنْ قَضَايَا الْحُكْمِ، وَالنَّصْرِ فِي وَقَائِعِ الْحَرْبِ، وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالَاتٌ مِنَ الضَّرْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَلَكَ أَنْ تُقَسِّمَهُ إِلَى حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: الْفَتْحُ الَّذِي يَكُونُ بِالْكَلَامِ كَحُكْمِ الْقَاضِي، وَفَتْحِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَةَ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا أَوْ وَقَفَ عَنِ الْقِرَاءَةِ نَاسِيًا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَإِلَى حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، وَمِنْ مَجَازِ الْأَسَاسِ: فَتْحٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا جَدَّ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ: نَصَرَهُ، وَفَتَحَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ فُتَاحَتَهُ؛ أَيْ: حُكْمَهُ، قَالَ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي وَهْبٍ رَسُولَا ... بِأَنِّي عَنْ فُتُحَاتِهِمْ غَنِيُّ وَبَيْنَهُمْ فُتَاحَاتٌ؛ أَيْ: خُصُومَاتٌ، وَفُلَانٌ وَلِيَ الْفِتَاحَةَ - بِالْكَسْرِ - وَهِيَ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَفَاتَحَهُ: حَاكَمَهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنٍ، تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تَعَالَى أُفَاتِحُكَ، وَقَالَتْ أَعْرَابِيَّةٌ لِزَوْجِهَا: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ اهـ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ قُدَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَفَسَّرَ الْمُفَاتَحَةَ فِيهِ بِالْمُقَاضَاةِ، وَهُوَ يَدُلُّ لُغَةً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرَشِيَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ أَنَّهَا يَمَانِيَّةٌ، وَخَصَّهَا بَعْضُهُمْ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَذُو يَزَنٍ مِنْ أَسْمَائِهِمْ، وَالْمُنَاسِبُ أَنَّ كُلَّ فَتْحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَمِنْهُ النَّصْرُ، وَمِنَ الْآيَاتِ فِيهِ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (34: 26) وَمِنْهَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (26: 118) وَهَذَا عَيْنُ مُرَادِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ الْمُلَاقِي لِإِنْذَارِهِ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ (7: 87) إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: رَبَّنَا احْكُمْ وَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُكَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُبْطِلِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِكَ بِمَا يَقَعُ فِي التَّخَاصُمِ، وَتَنَزُّهِكَ عَنِ الظُّلْمِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ.

90

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ لَمَّا يَئِسَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ عَوْدَتِهِ فِي مِلَّتِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مُقَارَعَتِهِمْ، خَافُوا أَنْ يَكْثُرَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَحَذَّرُوهُمْ ذَلِكَ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ. هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَلَيْسَ جَوَابًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَصَلَ وَلَمْ يَعْطِفْ، بَلْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ لَهُ، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ وَصْفُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ، فَهُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى تَهْدِيدِهِ، وَإِنْذَارِهِ الْإِخْرَاجَ مِنْ قَرْيَتِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ فِيهِ، وَهَذَا مَا قَالُوهُ لِقَوْمِهِمْ إِغْوَاءً لَهُمْ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ، فَهُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ الِاسْتِكْبَارَ عَنِ اتِّبَاعِهِ أَوْ غَيْرِهِ، بَلْ لَوْ عَلِمَ أُولُو الرَّأْيِ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنَّ سَبَبَ صَدِّهِمْ عَنْهُ هُوَ الِاسْتِكْبَارُ وَالْعُتُوُّ لَمَا أَطَاعُوهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَلَّلُوا لَهُمْ صَدَّهُمْ عَنْهُ بِمَا يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُمْ، إِذْ قَالُوا لَهُمْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَخَاسِرُونَ، وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْخَسَارِ لِيُعَمِّمَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: خَاسِرُونَ لِشَرَفِكُمْ وَمَجْدِكُمْ بِإِيثَارِ مِلَّتِهِ عَلَى مِلَّةِ آبَائِكُمْ وَأَجْدَادِكُمْ، وَمَنَاطِ عِزِّكُمْ وَفَخْرِكُمْ، وَاعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ضَالِّينَ وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَخَاسِرُونَ لِثَرْوَتِكُمْ وَرِبْحِكُمْ مِنَ النَّاسِ بِمَا حَذَقْتُمُوهُ مِنْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَبَخْسِ الْغُرَبَاءِ أَشْيَاءَهُمْ لِابْتِزَازِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَيُّ خَسَارَةٍ أَكْبَرُ مِنْ خَسَارَةِ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ؟ فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِمْ: (لَئِنْ) مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ أَقْوَى مُؤَكِّدٌ لِلْكَلَامِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ وَتَصْدِيرُهَا بِـ " إِنَّ " وَقَرْنُ خَبَرِهَا بِـ " اللَّامِ " وَتَوْسِيطُ (إِذًا) الَّتِي هِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ لِمَضْمُونِهَا الْخَادِعَةِ لِسَامِعِيهَا، وَإِنَّ مِثْلَهَا مِمَّا يَرُوجُ بَيْنَ أَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَا سِيَّمَا زَمَنُ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَقْوَامِ

وَالْأَوْطَانِ، فَإِنَّنَا ابْتُلِينَا فِي دَعْوَتِنَا إِلَى الْإِصْلَاحِ بِمَنْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنَّا، وَعَنْ نَصِيحَتِنَا لِأَهْلِ مِلَّتِنَا بِأَنَّنَا لَمْ نُوَلَدْ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَا نَنْتَمِي إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَجْدَادِهِمْ، عَلَى أَنَّنَا نَنْتَمِي بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى إِلَى آلِ بَيْتِ نَبِيِّهِمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْقِبْطِ وَلَا الْعَرَبِ، وَإِنَّنَا نَرَى أَشَدَّ الشُّعُوبِ عَصَبِيَّةً لِلْوَطَنِ لَا يَجْعَلُونَهَا سَبَبًا لِلصَّدِّ عَنِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَلَا الدِّينِ وَمَذَاهِبِهِ، وَإِنَّمَا التَّنَافُسُ بَيْنَهُمْ فِي جَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَطَنَهُ أَعَزَّ وَأَقْوَى وَأَغْنَى وَأَقْنَى وَلَوْ بِاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنَ الْآخَرِ، نَرَى رِجَالَ الدِّينِ الْكَاثُولِيكِيِّ مِنَ الْأَلْمَانِ وَالْفَرَنْسِيسِ أَعْوَانًا عَلَى نَصْرِ الْكَثْلَكَةِ، وَنَشْرِهَا فِي بِلَادِهِمْ وَغَيْرِهَا، كَمَا نَرَى مِثْلَ هَذَا بَيْنَ رِجَالِ الْبُرُوتَسْتَانْتِيَّةِ مِنَ الْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ، كَدَأْبِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَعُلَمَاءُ كُلِّ شَعْبٍ يَتَسَابَقُونَ إِلَى اقْتِبَاسِ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْآخَرِ مِنَ اخْتِرَاعٍ أَوْ كَشْفٍ عَنْ حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ، أَوِ اهْتِدَاءٍ لِسُنَّةٍ كَوْنِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ لِلْخَلْقِ، وَيَعْزُونَ كُلَّ أَمْرٍ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا وَطَنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّغَايُرُ وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي إِبَّانِ ضَعْفِهِمْ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ، وَفُشُوِّ التَّحَاسُدِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ فِيهِمْ، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي إِبَّانِ ارْتِقَائِهَا الْعِلْمِيِّ حَتَّى الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ، إِذْ كَانَ مِثْلَ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ يَجِيءُ بَغْدَادَ عَاصِمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ الْكُبْرَى فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ رَئِيسًا لِأَعْظَمِ مَدْرَسَةٍ فِيهَا بَلْ فِي الْعَالَمِ (وَهِيَ النِّظَامِيَّةُ) وَلَا يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ كَوْنُهُ مِنْ قَرْيَةِ طُوسَ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ إِذْ تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنَّ تِلْكَ النَّزْعَةَ الشَّيْطَانِيَّةَ تَكَادُ تَزُولُ مِنْ مِصْرَ بِارْتِقَاءِ الْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، عَلَى كَوْنِ النَّزْعَةِ الْوَطَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ تَزْدَادُ قُوَّةً وَانْتِشَارًا. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِنَصِّهَا فِي بَيَانِ عَذَابِ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْآيَةِ: 78) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَكَانِهَا مِنَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ عَذَابِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ بَدَلَ الرَّجْفَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَالرَّجْفَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الرَّجْفِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَيَصْدُقُ بِرَجَفَانِ الْأَرْضِ وَهُوَ الزَّلْزَلَةُ، وَمِنْهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ (73: 14) وَبِرَجَفَانِ الْقُلُوبِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْخَوْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ: " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ " وَالرَّاجِحُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى: فَأَخَذَتْهُمُ الزَّلْزَلَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ بَارِكِينَ عَلَى رُكْبِهِمْ أَوْ مُنْكَبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَيِّتِينَ، فَهَذَا عَذَابُ أَهْلِ مَدَيْنَ عَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِالرَّجْفَةِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ، كَعَذَابِ ثَمُودَ فِي السُّورَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ شُعَيْبًا إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَهُمْ غَيْرُ مَدْيَنَ، فَإِنَّهُ وَصَفَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُ أَخُو مَدْيَنَ أَيْ فِي النَّسَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَصِفْهُ فِي سُورَةِ

92

الشُّعَرَاءِ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُ: نُوحًا، وَهُودًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (26: 176) قَالُوا: كَانُوا أَصْحَابَ غَيْضَةٍ بَيْنَ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى مَدْيَنَ إِلَخْ، فَأَفَادَ هَذَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلَ مَدْيَنَ، وَإِلَى مَنِ اتَّصَلَ بِهِمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَأَنَّ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَانَتْ وَاحِدَةً، وَكَانَ يُنْذِرُهُمْ مُتَنَقِّلًا بَيْنَهُمْ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَبْعُدُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ قَدْ أَخَذَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَكَانَ عَذَابُ مَدْيَنَ بِالرَّجْفَةِ وَالصَّيْحَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهَا، وَعَذَابُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِالسَّمُومِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ الَّذِي انْتَهَى بِظُلَّةٍ مِنَ السَّحَابِ، فَزِعُوا إِلَيْهَا يَبْتَرِدُونَ بِظِلِّهَا، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا بِهَا أَجْمَعُونَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ عِقَابَ الْفَرِيقَيْنِ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ يُقَالُ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ يَغْنَى بِوَزْنِ " رَضِيَ يَرْضَى " إِذَا نَزَلَ بِهِ وَأَقَامَ فِيهِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَيْدٍ أَوْ قَيْدَيْنِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَغَنِيَ فِي مَكَانِ كَذَا إِذَا طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِقَيْدِ طُولِ الْإِقَامَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي رَغَدِ عَيْشٍ. وَالْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاقِضٌ لِقَوْلِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وَقَوْلِهِمْ قَبْلَهُ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ: كَيْفَ انْتَهَى الْأَمْرُ فِيهَا؟ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَهْلِهَا؟ فَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا وَهَدَّدُوهُ وَأَنْذَرُوهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ قَرْيَتِهِمْ قَدْ هَلَكُوا، وَهَلَكَتْ قَرْيَتُهُمْ فَحُرِمُوهَا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا، وَلَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي ذَلِكَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ، وَالْأَمَدِ الْمَدِيدِ فَمَتَى انْقَضَى الشَّيْءُ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ يَتْبَعُهُ يَكُونُ خَاسِرًا، وَأَكَّدُوا زَعْمَهُمْ بِأَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ، كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ لِمَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِ مِلَّتِهِمْ، وَمِنْ مَالِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَلِمَا كَانُوا مَوْعُودِينَ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوْ آمَنُوا، دُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْفَائِزِينَ الْمُفْلِحِينَ، فَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ حَصْرَ الْخَسَارِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لَهُ بِالنَّصِّ، وَتَقْتَضِي نَفْيَهُ عَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِالْأَوْلَى، وَمُنَاسَبَةُ الْجَزَاءِ لِلذَّنْبِ يَجْعَلُ الْحِرْصَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِالْوَطَنِ وَالِاسْتِبْدَادِ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ الْأَبَدِيِّ مِنْهُ، وَجَعَلَ الْحِرْصَ عَلَى الرِّبْحِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ سَبَبًا لِلْخُسْرَانِ بِالْحِرْمَانِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي نُكْتَةِ الْفَصْلِ وَالتَّكْرَارِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْوَعْظِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، نَحْوَ: أَنْتَ

93

الَّذِي جَنَيْتَ عَلَيْنَا، أَنْتَ الَّذِي سَلَّطْتَ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا، أَنْتَ الَّذِي فَرَّقْتَ كَلِمَتَنَا، أَنْتَ الَّذِي أَوْقَعْتَ الشِّقَاقَ بَيْنَنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ وَتَكْرِيرِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مُبَالَغَةً فِي رَدِّ مَقَالَةِ الْمَلَأِ لِأَشْيَاعِهِمْ، وَتَسْفِيهًا لِرَأْيِهِمْ، وَاسْتِهْزَاءً بِنُصْحِهِمْ لِقَوْمِهِمْ، وَاسْتِعْظَامًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ اهـ، وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ دَلَالَةُ الْعِبَارَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا لِعَدَمِ تَأَمُّلِهَا، فَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدِّ فَظَاهِرَةٌ لِمَا يُدْرِكُهُ كُلٌّ مِنَ الْفَرْقِ فِي نَفْسِهِ بَيْنَ مَا مَثَّلْنَا بِهِ آنِفًا لِأُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ، وَبَيْنَ ذِكْرِ تِلْكَ الْمُسْتَنَدَاتِ بِالْعَطْفِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ تَكْرَارَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمُؤْذَنِ بِعِلَّةِ الْجَزَاءِ يُعِيدُ صُورَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الذِّهْنِ، وَيَكُونُ حُكْمًا جَدِيدًا بَعْدَ حُكْمٍ، وَلِلْحُكْمَيْنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا تَسْفِيهُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِذَلِكَ النُّصْحِ، فَهُوَ تَابِعٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَفِيهِ بَحْثٌ دَقِيقٌ فِي ذِكْرِ التَّوَلِّي عَنِ الْقَوْمِ، وَمُخَاطَبَتِهِمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَقَدِ اتَّحَدَ إِعْذَارُ الرَّسُولَيْنِ لِاتِّحَادِ حَالِ الْقَوْمَيْنِ وَعَذَابِهِمَا، وَلَكِنْ تَتِمَّةُ الْآيَةِ هُنَاكَ: وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ هُنَا: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ؟ وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَا قَدْ قَالَا هَذَا وَذَاكَ، فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُسْلُوبِ الِاحْتِبَاكِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنِي يَا قَوْمِ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي - أَيْ: مَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ - فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ هُنَا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا، وَأَفْرَدَهَا فِي قِصَّةِ صَالِحٍ بِحَسَبِ مَعْنَاهَا الْمَصْدَرِيِّ - وَنَصَحْتُ لَكُمْ بِمَا بَيَّنْتُهُ مِنْ مَعَانِيهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَإِنْذَارِ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ بِهَا فَكَيْفَ آسَى؟ أَيْ: أَحْزَنُ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ أَعْذَرْتُ إِلَيْهِمْ، وَبَذَلْتُ جُهْدِي فِي سَبِيلِ هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ، فَاخْتَارُوا مَا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا يَأْسَى مَنْ قَصَّرَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّصْحِ وَالْإِنْذَارِ. وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "

94

سُنَنُ اللهِ وَحِكَمُهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ وَأَمْثَالِهَا وَالِاعْتِبَارُ بِهَا " مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْعَقَائِدَ بِدَلَائِلِهَا، وَالْأَحْكَامُ مُؤَيَّدَةٌ بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا، وَالْقَصَصُ مَقْرُونَةٌ بِوُجُوهِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ التِّسْعَةِ الَّتِي قَفَى بِهَا عَلَى قَصَصِ الْقَوْمِ الْمُهْلِكِينَ. وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ الْوَاوُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السِّيَاقِ الَّذِي وَضَعْنَا لَهُ الْعُنْوَانَ عَلَى مَجْمُوعِ مَا قَبَلَهُنَّ مِنَ الْقَصَصِ، لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كَوْنِهِ حِكَمًا لَهُ وَعِبَرًا مُسْتَفَادَةً مِنْهُ، فَعَطْفُ الْجُمَلِ يَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْهَا، كَالسِّيَاقِ بِرُمَّتِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَصْلِ هُنَا، وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ الْجَامِعَةُ لِزُعَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْعَاصِمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُبْعَثُونَ فِي الْقُرَى الْجَامِعَةِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْبِلَادِ تَتْبَعُ أَهْلَهَا إِذَا آمَنُوا، وَالْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ كَالْحَرْبِ وَالْجَدْبِ وَشِدَّةِ الْفَقْرِ، وَالضَّرَّاءُ: مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ مَعِيشَتِهِ وَالْأَخْذِ بِهَا: جَعَلَهَا عِقَابًا، وَقَدْ تَكُونُ تَجْرِبَةً وَتَرْبِيَةً نَافِعَةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (6: 42) فَيُرَاجَعُ (فِي ص 345 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مَا هُنَا، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ مُخْتَلِفٌ، فَلَمَّا كَانَ مَا هُنَا قَدْ وَرَدَ عَقِبَ قَصَصِ طَائِفَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، جُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى قَاعِدَةً كُلِّيَّةً وَسُنَّةً مُطَّرِدَةً فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِيَعْتَبِرَ بِهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَا هُنَالِكَ قَدْ وَرَدَ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ خَاتَمِ الرُّسُلِ لِلدَّعْوَةِ وَمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، جَعَلَ خِطَابًا خَبَرِيًّا لَهُ، لِتَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ قَلْبِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِتَخْوِيفِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَإِنْذَارِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مُلَاحَظٌ هُنَا أَيْضًا، وَلَكِنْ بِالتَّبَعِ لِلِاعْتِبَارِ بِالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ شَأْنُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْهَالِكِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا فِي قَوْمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَنَا بِهِمُ الشَّدَائِدَ وَالْمَصَائِبَ بَعْدَ إِرْسَالِهِ أَوْ قُبَيْلَهُ، لِنَعُدَّهُمْ وَنُؤَهِّلَهُمْ بِهَا لِلتَّضَرُّعِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ؛ أَيِ الضَّعْفِ وَالْخُضُوعِ لَنَا وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِنَا بِكَشْفِهَا، فَـ " لَعَلَّ " تُفِيدُ الْإِعْدَادَ لِلشَّيْءِ، وَجَعْلَهُ مَرْجُوًّا، وَمِمَّا ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ أَنَّ الشَّدَائِدَ وَمَلَاحِجَ الْأُمُورِ مِمَّا يُرَبِّي النَّاسَ، وَيُصْلِحُ مِنْ فَسَادِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَشْغَلُهُ

الرَّخَاءُ وَهَنَاءُ الْعَيْشِ فَيُنْسِيهِ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالشَّدَائِدُ تُذَكِّرُهُ بِهِ، وَالْكَافِرُ بِالنِّعَمِ قَدْ يَعْرِفُ قِيمَتَهَا بِفَقْدِهَا، فَيَنْقَلِبُ شَاكِرًا بَعْدَ عَوْدِهَا، بَلِ الْكَافِرُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَنَبَّهَ الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ مَرْكَزَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِ الْخَلْقِ فِي دِمَاغِهِ، وَتَذَكُّرِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنْ وُجُودِ مَصْدَرٍ لِنِظَامِ الْكَوْنِ وَأَقْدَارِهِ، كَمَا وَقَعَ كَثِيرًا، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَقَدْ رُوِيَ لَنَا أَنَّ الْحَرْبَ الْعُظْمَى قَدْ كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي أَقَلِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَهُمْ أَهْلُ مَدِينَةِ بَارِيسَ، فَكَانَتِ الْمَعَابِدُ تُرَى مُكْتَظَّةً بِالْمُصَلِّينَ فِي أَثْنَاءِ شَدَائِدِ الْحَرْبِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ نُكْتَةَ خُلُوِّ جُمْلَةِ أَخَذْنَا أَهْلَهَا الْحَالِيَّةِ مِنَ الْوَاوِ، " وَقَدْ " هِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا كَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا فَعَلَ زَيْدٌ كَذَا إِلَّا، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، كَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَعَدَّهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي فِعْلِهِ لِأَجْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (28: 59) أَيْ: مُتَلَبِّسُونَ بِالظُّلْمِ مِنْ قَبْلُ لَا حَالَ الْإِهْلَاكِ فَقَطْ، وَإِذَا قِيلَ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ شَمِلَ إِعْدَادَهَا قَبْلَهُ لِأَجْلِهِ وَهِيَ الْحَالُ السَّابِقَةُ، وَإِعْدَادَهَا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَهِيَ الْحَالُ الْمُقَارَنَةُ، بَلْ هَذِهِ الْمُتَبَادَرَةُ إِلَى الذِّهْنِ هُنَا، كَقَوْلِكَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا أَجَابَنِي؛ أَيْ: عِنْدَ السُّؤَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: إِلَّا وَقَدْ أَجَابَنِي، وَيَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا وَقَدْ أَذِنَ لِي؛ أَيْ: قَبْلَ السُّؤَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُقَارَنَةً فِي الْآيَةِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَفَادَتْهُ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالسَّيِّئَةِ ثُمَّ بِالْحَسَنَةِ ثُمَّ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَاقِعًا كُلَّهُ بَعْدَ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي عَهْدِهِمْ، وَهُوَ قَدْ يَصْدُقُ فِي قَوْمِ نُوحٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهَا تَشْمَلُ الْحَالُ السَّابِقَةُ وَالْمُقَارَنَةُ، فَلْيَتَأَمَّلْ فَإِنَّنَا لَمْ نَرَ لِأَحَدٍ بَحْثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ حَقَّقَ أَنَّ الْحَالَ الْمُفْرَدَةَ تُفِيدُ الْمُقَارَنَةَ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ تُفِيدُ سَبْقَ مَضْمُونِهَا، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا، وَقَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّفْسِيرِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا (4: 43) الْآيَةَ: (فَرَاجِعْهُ فِي ص 92 وَمَا بَعْدَهَا ج 5 ط الْهَيْئَةِ) . ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أَيْ: ثُمَّ بَلَوْنَاهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَجَعَلْنَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ فِي مَكَانِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ كَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ، وَالْغِنَى فِي مَكَانِ الْفَقْرِ، وَالنَّصْرِ عَقِبَ الْكَسْرِ، حَتَّى عَفَوْا أَيْ: كَثَرُوا وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ: وَهُوَ مِنْ: عَفَا النَّبَاتُ وَالشَّحْمُ وَالشَّعْرُ وَنَحْوُهُ إِذْ كَثُرَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ عَنِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ النَّسْلِ وَبِهِ تَتِمُّ نِعَمُ الدُّنْيَا عَلَى الْمُوسِرِينَ،

95

وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا الِابْتِلَاءِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَفَى عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْعِبَرِ قَوْلُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقَوْلُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعَثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَقَوْلُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَكِنْ لَمْ تَزِدِ الْآلَاءُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ إِلَّا بُغْيًا وَبَطَرًا وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ: وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أَيْ: وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ فِطْرَتِهِمْ، وَانْطِمَاسِ بَصِيرَتِهِمْ وَفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَحْدَاثِ الزَّمَانِ، وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَتَقَلُّبِ شُئُونِ الْعُمْرَانِ، قَالُوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا مَا يَسُوءُ وَمَا يَسُرُّ وَتَنَاوَبَهُمْ مَا يَنْفَعُ وَمَا يَضُرُّ، وَنَحْنُ مِثْلُهُمْ يُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ فَتِلْكَ عَادَةُ الزَّمَانِ فِي أَبْنَائِهِ، فَلَا الضَّرَّاءُ عِقَابٌ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ عَلَى مَعَاصٍ تُقْتَرَفُ وَرَذَائِلَ تُرْتَكَبُ، وَلَا السَّرَّاءُ جَزَاءٌ مِنْهُ عَلَى صَالِحَاتٍ تُعْمَلُ وَفَضَائِلَ تُلْتَزَمُ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ جَهِلُوا سُنَنَهُ تَعَالَى فِي أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِي الْبَشَرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (13: 11) فَلَمَّا ذَكَّرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِهَا لَمْ يَتَذَكَّرُوا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا، بَلْ نَسُوا وَأَعْرَضُوا وَأَنْكَرُوا. فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَجْأَةً، وَهُمْ فَاقِدُونَ لِلشُّعُورِ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فَلَا عَرَفُوهَا بِعُقُولِهِمْ، وَلَا هُمْ صَدَّقُوا الرُّسُلَ فِي نَذْرِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (6: 44) وَذَلِكَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ وَالْجَاهِلِينَ، إِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ يَئِسُوا وَابْتَأَسُوا، وَإِذَا مَسَّهُمُ الْخَيْرُ أَشَرُّوا وَبَطَرُوا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْخَيْرُ قُوَّةً وَسُلْطَةً بَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ. أَصَابَ أَهْلَ بَيْتٍ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ السُّورِيَّةِ نَفْحَةٌ مِنْ جَاهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْهُدَى الصَّيَّادِيِّ أَحَدِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي عَصْرِهِ، فَنَهَبُوا بِجَاهِهِ الْأَمْوَالَ، وَانْتَهَكُوا الْأَعْرَاضَ، وَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ مَرَّةً فِي أَمْرِهِمْ فَقُلْنَا: أَلَمْ يَكُنْ خَيْرًا لِهَؤُلَاءِ لَوِ اغْتَنَمُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ بِاصْطِنَاعِ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَمَلِ الْبِرِّ النَّافِعِ لِلْوَطَنِ، فَإِنَّ جَاهَ أَبِي الْهُدَى لَيْسَ لَهُ دَوَامٌ، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ السَّيِّدُ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ لَا يَفْهَمُونَ هَذِهِ الْحِكَمَ وَلَا يَعْقِلُونَهَا، وَلَقَدْ أَصَابَ وَالِدُهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ رِيَاسَةً

إِدَارِيَّةً صَغِيرَةً كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَبَغَى وَبَطِرَ وَتَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَآذَى النَّاسَ، فَنَصَحْتُ لَهُ إِذْ كَانَ يُوادُّنِي وَيَحْتَرِمُنِي وَذَكَّرَتْهُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَقَالَ لِي: يَا سَيِّدُ، إِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ يَوْمًا يَرْقُصُ لَهُ فِيهِ الزَّمَانُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ فِيهِ، وَلَا يُضَيِّعَ الْفُرْصَةَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (17: 83، 84) وَقَالَ: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (42: 48) الْمُرَادُ بِالْفَرَحِ مَا كَانَ عَنْ بَطَرٍ وَغُرُورٍ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (10: 22، 23) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ حَقًّا فَهُمُ الَّذِينَ تَكُونُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ تَرْبِيَةً لَهُمْ وَتَمْحِيصًا، كَمَا تَكُونُ لِلْكَافِرِينَ عِقَابًا وَإِبْلَاسًا، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَظْهَرَهَا بَيَانُهُ إِيَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِذْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ يُقَصِّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ فَيَظْهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ، فَيُنْزِلُ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةَ الْمُبَيِّنَةَ لِلْحَقَائِقِ، وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْحُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ الَّتِي أَوَّلُهَا: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (3: 137 - 141) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (3: 140) وَلَكِنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْمُدَاوَلَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَحِكَمِهَا، وَيَتَحَرَّى الِاتِّعَاظَ، وَتَرْبِيَةَ نَفْسِهِ بِهَا، لَا كَمَا يَرَاهَا الْكَافِرُونَ وَالْجَاهِلُونَ بِظَوَاهِرِهَا وَصُوَرِهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْهَا تَتِمَّةٌ وَإِيضَاحٌ لَهَا، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَفِي مَعْنَاهَا أَحَادِيثُ كَقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّنَا نَرَى غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا عِبَرًا وَتَقْوًى لِلْمُضَارِّ، يَظْهَرُ أَثَرُهَا بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْمَصَائِبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، حَتَّى لَا تَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً، وَحَتَّى يَتَلَافَوْا شُرُورَهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَنَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ وَغَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ فُتِنَ بَعْضُهُمْ بِهَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِمْتَاعِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِدَفْعِ الشَّدَائِدِ،

وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ، إِلَّا إِذَا تَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَنَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ! ! كَمَا فُتِنُوا هُمْ بِالْمُسْلِمِينَ بِاحْتِقَارِهِمْ لِدِينِهِمْ تَبَعًا لِاحْتِقَارِهِمْ لَهُمْ، وَطَعْنًا فِيهِ بِمَا يَظُنُّونَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي إِذْلَالِهِمْ وَإِضْعَافِهِمْ، فَمَا قَوْلُكَ فِي ظُلْمِ الْفَرِيقَيْنِ لَهُ، وَفِي انْتِهَاءِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ الْأَخِيرَةِ بِاسْتِيلَاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَقْطَارٍ عَظِيمَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَكَوْنِ أَشَدِّ أَهْلِ هَذِهِ الْأَقْطَارِ اسْتِسْلَامًا لِلذُّلِّ وَخُضُوعًا لِلْقَهْرِ، هُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصَحُّ إِيمَانًا، وَأَحْسَنُ إِسْلَامًا؟ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِبَعْضِ زُعَمَاءِ شَعْبٍ سَلِمَ مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُحَاطُ بِهِ، فَظَنُّوا أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالْإِسْلَامِ سَبَبُ الْهَلَكَةِ وَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّ فِي الِانْسِلَالِ مِنْهُ الْمَنْجَاةَ وَارْتِقَاءَ الْمَمْلَكَةِ؟ ! قُلْنَا: إِنَّنَا كَشَفْنَا أَمْثَالَ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ فِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنَ الْمَنَارِ، وَبَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَرَكُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِي حُكُومَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ، وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمُ الَّذِينَ يَنْدُرُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِتَفْسِيرِهِ أَوْ عِلْمِ السُّنَّةِ، حَتَّى مَنْ سَلَّمُوا لَهُمْ بِمَنْصِبِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ، كَمَا تَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ، فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُ مِنْ دِينِهِ إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالسُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّى عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ بَعْضَ كُتُبِ الْكَلَامِ الْجَدَلِيَّةِ الَّتِي أَلِفَتِ الرَّدَّ عَلَى فَلْسَفَةٍ نُسِخَتْ وَبِدَعٍ بَادَ أَهْلُهَا، وَكُتُبِ الْفِقْهِ التَّقْلِيدِيَّةِ الْخَالِيَةِ مِنْ جُلِّ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مِثْلِ مَوْضُوعِ الْآيَاتِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ آيَاتِ الشَّوَاهِدِ، حَتَّى بَلَغَ الْجَهْلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمِّ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ بِحَيَاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ دَوْلَتِهِمْ، وَبَقَاءُ مُلْكِهِمْ أَوْ زَوَالُهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، أَنْ يَكْتُبَ الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فِيهَا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَئِمَّتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِهِمْ عَلَى تَهَافُتٍ ظَاهِرٍ، وَاخْتِلَافٍ فَاضِحٍ، عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ الْعِلْمُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمْ، وَمَلِكَةً مِنْ مَلَكَاتِهِمْ لَا وَرَقَةَ شَهَادَةٍ يَحْمِلُونَهَا مِمَّنْ سَبَقَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا يُعَدُّ عَالِمًا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، حَتَّى يُعْتَدَّ بِشَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ، بَلْهَ مَا عُرِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَقَوْلِ الْكَذِبِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، وَقَدِ اسْتَسْفَرَ بَعْضُ مُجَاوِرِي الْأَزْهَرِ الْمُقَدَّمِينَ لِامْتِحَانِ شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِعَرْضِ الرِّشْوَةِ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ لِيُسَاعِدَهُمْ فِي الِامْتِحَانِ فَضَرَبَهُ الْأُسْتَاذُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بِيَدَيْهِ، وَرَفَسَهُ بِرِجْلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَتُرِيدُ أَنْ أَغُشَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ وَبِأَمْثَالِكَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بَعْدَ هَذِهِ الشَّيْبَةِ وَانْتِظَارِ لِقَاءِ اللهِ؛ فَأَكُونَ مِمَّنْ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ وَلَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يُطَيِّبُهُمُ الْمَالُ وَيَحْفَلُونَ بِجَمْعِهِ وَلَوْ مِنَ الْحَلَالِ، لَكُنْتُ مِنْ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ؟ وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي هَدَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، وَأَعْطَاهُمُ الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ

كَانَ تَرْكُهُمْ لِهِدَايَتِهِ هُوَ الَّذِي سَلَبَهُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَلَبَ الْأَمْرُ، وَانْعَكَسَ الْوَضْعُ، وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ، فَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْجَاهِلُ اتَّبَعَ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي طَوْرِ جَهْلِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ، وَابْتِدَاعِ الِاحْتِفَالَاتِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ وَالْأَنْدَادِ، كَإِعْطَاءِ حَقِّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، وَطَلَبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ دَجَّالِي الْأَحْيَاءِ، وَقُبُورِ الْأَمْوَاتِ، فَغَشِيَهُمْ مَا غَشِيَ أُولَئِكَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَجَعَلَ الدِّينَ عَدُوًّا لِلْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّابِتَةُ الْعَصْرِيَّةُ الْمُتَفَرْنِجَةُ اتَّبَعَتْ سُنَنَ الْمُرْتَدِّينَ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ فِي شَرِّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ طَوْرِ فَسَادِ حَضَارَتِهِمْ، وَقَلَّدُوهُمْ حَتَّى فِيمَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، كَذَلِكَ ضَلَّ الْفَرِيقَانِ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَرَكَا فِي إِضَاعَةِ مَا بَقِيَ مِنْ مُلْكِ الْإِسْلَامِ. لَا عَالِمَ الشَّرْقِ بِدِينِهِ وَلَا ... مُقْتَبِسَ الْعِلْمِ مِنَ الْغَرْبِ هُدَى وَأَمَّا الْإِفْرِنْجُ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ وَاسِعٍ بِسُنَنِ اللهِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ وَسَائِرِ أُمُورِ الْكَوْنِ، قَدْ نَالُوا بِهِ مُلْكًا عَظِيمًا فِي الْأَرْضِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَجْهَلُ مَصْدَرَ هَذِهِ السُّنَنِ وَحِكَمَ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ حَقَّ الِاعْتِبَارِ بِمَا تَعَقَبَّ الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَهُمْ كَأَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ الَّذِينَ لَمْ تُفِدْهُمُ النِّعِمُ شُكْرَ الرَّبِّ الْمُنْعِمِ، وَلَمْ تُفِدْهُمُ النِّقَمُ تَقْوَى الرَّبِّ الْمُنْتَقِمِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلُوا نِعَمَهُ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَتَسْخِيِرِ قُوَى الْعَالَمِ لِاسْتِعْبَادِ الضُّعَفَاءِ، وَالسَّرَفِ فِي فُجُورِ الْأَغْنِيَاءِ، وَالتَّقَاتُلِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالثَّرَاءِ؛ وَلِذَلِكَ سَلَّطَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (6: 65) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا (ص 408 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . فَعُلِمَ بِمَا ذُكِرَ وَبِغَيْرِهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ الَّتِي تُوقِفُ أَهْوَاءَ الْبَشَرِ وَمَطَامِعَهُمْ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ أُمَمِ أُورُبَّةَ بَقِيَّةً قَلِيلَةً مِنْهَا تَتَفَاوَتُ فِي أَفْرَادِهِمْ قُوَّةً وَضَعْفًا لَحَشَرَتْهُمُ الْمَطَامِعُ وَالْأَحْقَادُ صَفًّا صَفًّا، فَدَكُّوا مَعَالِمَ أَرْضِهِمُ الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى الْعُمْرَانِ دَكًّا دَكًّا، فَجَعَلُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، بَلْ لَجَعَلُوهَا بَعْدَ دَكِّ صُرُوحِهَا وِهَادًا عَمِيقَةً، وَمَهَاوِيَ سَحِيقَةً، بِقَذَائِفِ الْمَدَافِعِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَشُقُّ الْأَرْضَ شَقًّا، وَتَسْحَقُ مَا فِيهَا سَحْقًا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ شَرَعُوا، فَإِمَّا أَنْ يُجَهِّزُوا وَإِمَّا أَنْ يَنْزَعُوا. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (11: 116، 117)

الْقُرُونُ: هِيَ الْأَجْيَالُ وَالشُّعُوبُ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ: أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ دِينٍ وَتَقْوًى وَعَقْلٍ وَحِكْمَةٍ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ - وَأَحْلَامٍ - يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ " وَالْأَحْلَامُ: الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحْضِيضِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى النَّفْيُ؛ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرُونِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِالْإِصْلَاحِ الْعَامِّ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ دِينِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ حُكَمَاءِ الْعُقَلَاءِ، الَّذِينَ فَسَّرَ بِهِمُ الْآمِرُونَ بِالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ (3: 21) وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ، وَاتَّبَعَ الْأَكْثَرُونَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ؛ أَيْ: أَزَالَ اللهُ مُلْكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَبَطَرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَتْبَاعِ هَذَا الْإِتْرَافِ فِي مُلْكِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمُصْلِحُ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْعَوَاصِمَ وَالْمَدَائِنَ بِظُلْمٍ مِنْهُ أَوْ بِشِرْكٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ جَرِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَوْقُوفًا أَيْضًا. وَهَؤُلَاءِ الْبَقِيَّةُ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ فَهُمْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَمَتَى قَلُّوا فِي أُمَّةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ، وَقَرُبَ انْتِقَامُ اللهِ مِنْهَا، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِوُجُودِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ كَانُوا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَقِلُّونَ فِي أُورُبَّةَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمُ الْفَيْلَسُوفُ هِرْبِرْت سِبِنْسَر الْإِنْجِلِيزِيُّ الَّذِي نَهَى الْيَابَانِيِّينَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِقَوْمِهِ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى إِصْلَاحِ بِلَادِهِمْ فِيهَا، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حِينَ تَلَاقَيَا بِمَدِينَةِ بِرِيتِنْ (فِي صَيْفِ سَنَةِ 1321 - 10 أُغُسْطُسَ سَنَةَ 1903) مَا تَرْجَمَتُهُ: مُحِيَ الْحَقُّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِ أُورُبَّةَ، وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهَا الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ فَذَهَبَتِ الْفَضِيلَةُ، وَهَذِهِ الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ ظَهَرَتْ فِي اللَّاتِينَ أَوَّلًا فَأَفْسَدَتِ الْأَخْلَاقَ، وَأَضْعَفَتِ الْفَضِيلَةَ، ثُمَّ سَرَتْ عَدْوَاهَا مِنْهُمْ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ، فَهُمُ الْآنَ يَرْجِعُونَ الْقَهْقَرِيَّ بِذَلِكَ، وَسَتَرَى هَذِهِ الْأُمَمَ يَخْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَنْتَهِي إِلَى حَرْبٍ طَامَّةٍ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهَا الْأَقْوَى، فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ.

قَالَ لَهُ الْإِمَامُ: إِنِّي آمِلٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ ذَلِكَ هِمَمُ الْحُكَمَاءِ (مِثْلِكُمْ) وَاجْتِهَادِهِمْ فِي تَقْرِيرِ مَبَادِئِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ. قَالَ الْفَيْلَسُوفُ: وَأَمَّا أَنَا فَلَيْسَ عِنْدِي مِثْلُ هَذَا الْأَمَلِ، فَإِنَّ هَذَا التَّيَّارَ الْمَادِّيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَ مَدُّهُ غَايَةَ حَدِّهِ. وَأَقُولُ: إِنَّنِي ذَاكَرْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى سِيَاسِيًّا أُورُبِيًّا فِي جِنِيفَ مِنْ بِلَادِ سُوِيسْرَةَ، فَرَأَيْتُهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَ سِبِنْسَرَ، بَلْ أَخْبَرَنِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ عُقَلَاءِ أُورُبَّةَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِالتَّرَفِ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْكُبْرَى كَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى أُورُبَّةَ، وَسَتَهْلَكُ بِالْحَرْبِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْحَرْبَ الْأَخِيرَةَ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدَةٍ، وَنَصَحَ لَنَا بِأَلَّا نُقَلِّدَ أُورُبَّةَ فِي مَدَنِيَّتِهَا الْمَادِّيَّةِ، وَأَنْ نُحَافِظَ عَلَى آدَابِ دِينِنَا وَفَضَائِلِهِ، وَأَنْ نَجْمَعَ كَلِمَتَنَا، وَنَجْعَلَ الزَّعَامَةَ فِينَا لِأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَّا، وَنَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ بِالْأُورُبِّيِّينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْنَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ إِنْسِيٌّ وَحْشِيٌّ بِجَسَدِهِ، وَمَلِكٌ رُوحَانِيٌّ بِعَقْلِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ، وَيَعْتَدِلُ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا نَصَحْنَا لِزُعَمَاءِ التُّرْكِ الْمَفْتُونِينَ بِمَدِينَةِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيَّةِ لِجَهْلِهِمْ بِمَا يَفْتِكُ بِهَا مِنْ دُودِ الْفَسَادِ بِأَنْ يُقِيمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ وَإِصْلَاحَهُ الَّذِي يَكْفُلُ لَهُمُ الْقُوَّةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْعُمْرَانَ، وَيَقِيهِمْ غَوَائِلَ هَذَا الْفَسَادِ كَالْبَلْشَفِيَّةِ الَّتِي ثَلَّتْ عَرْشَ قَيْصَرِيَّةِ الرُّوسِيَّةِ، فَقُلْنَا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّذِي صَنَّفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ - أَوِ - الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مَا نَصُّهُ: " أَيُّهَا الشَّعْبُ التُّرْكِيُّ الْحَيُّ! إِنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ قُوَّةً مَعْنَوِيَّةً فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُحْيِيَ مَدِينَةَ الشَّرْقِ، وَيُنِقُذَ مَدِينَةَ الْغَرْبِ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَا تَبْقَى إِلَّا بِالْفَضِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالدِّينِ، وَلَا يُوجَدُ دِينٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَإِنَّمَا عَاشَتِ الْمَدَنِيَّةُ الْغَرْبِيَّةُ هَذِهِ الْقُرُونَ بِمَا كَانَ فِيهَا مِنَ التَّوَازُنِ بَيْنَ بَقَايَا الْفَضَائِلِ الْمَسِيحِيَّةِ مَعَ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ وَالتَّعَالِيمِ الْكَنَسِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمُمَ لَا تَنْسَلُّ مِنْ فَضَائِلِ دِينِهَا، بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الشَّكِّ فِي عَقَائِدِهِ عَلَى أَذْهَانِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ فِي عِدَّةِ أَجْيَالٍ، وَقَدِ انْتَهَى التَّنَازُعُ، بِفَقْدِ ذَلِكَ التَّوَازُنِ، وَأَصْبَحَ الدِّينُ وَالْحَضَارَةُ عَلَى خَطَرِ الزَّوَالِ، وَاشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ مَدَنِيٍّ ثَابِتِ الْأَرْكَانِ، يَزُولُ بِهِ اسْتِعْبَادُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ، وَاسْتِذْلَالُ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفَقْرِ، وَخَطَرُ الْبَلْشَفِيَّةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَيُبْطِلُ بِهِ امْتِيَازَ الْأَجْنَاسِ،

96

لِتَحَقُّقِ الْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِحُكُومَةِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي بَيَّنَّاهَا بِالْإِجْمَالِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَنَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ لِلْمُسَاعَدَةِ عَلَى تَفْصِيلِهَا، إِذَا وَفَّقَ اللهُ لِلْعَمَلِ بِهَا ". " أَيُّهَا الشَّعْبُ التُّرْكِيُّ الْبَاسِلُ، إِنَّكَ الْيَوْمَ أَقْدَرُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَنْ تُحَقِّقَ لِلْبَشَرِ هَذِهِ الْأُمْنِيَةَ، فَاغْتَنِمْ هَذِهِ الْفُرْصَةَ؛ لِتَأْسِيسِ مَجْدٍ إِنْسَانِيٍّ خَالِدٍ، لَا يُذْكَرُ مَعَهُ مَجْدُكَ الْحَرْبِيُّ التَّالِدُ، وَلَا يَجْرِّمَنَّكَ الْمُتَفَرْنِجُونَ عَلَى تَقْلِيدِ الْإِفْرِنْجِ فِي سِيرَتِهِمْ، وَأَنْتَ أَهْلٌ لِأَنْ تَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ بِمَدَنِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ مَدَنِيَّتِهِمْ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْمَدَنِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الثَّابِتَةُ قَوَاعِدُهَا الْمَعْقُولَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقِيدَةِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا تُزَلْزِلُهَا النَّظَرِيَّاتُ الَّتِي تَعْبَثُ بِالْعُمْرَانِ، وَتُفْسِدُ نُظُمَ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى النَّاسِ ". نَصَحْنَا لِلشَّعْبِ التُّرْكِيِّ بِهَذَا، وَلَكِنَّ زُعَمَاءَهُ الْكَمَالِيِّينَ الْيَوْمَ كَزُعَمَائِهِ الِاتِّحَادِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَدْ فُتِنُوا بِهَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَجَهِلُوا كُنْهَ الْإِسْلَامِ وَالْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بَيَانَهَا، وَأَنْذَرْنَاهُمْ عَذَابَ اللهِ بِإِهْمَالِهَا، فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَطَفِقُوا يَطْمِسُونَ مَا بَقِيَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي حُكُومَتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَسَنَرَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ مَا كَانَ مَسْتُورًا مِنْ فَسَادِ سَرِيرَتِهِمْ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى لَنَا وَلَهُمْ صَلَاحَ الْحَالِ، وَحُسْنَ الْمَآلِ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَخْذَهُ لِأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ؛ بَيَّنَ لِأَهْلِ أُمِّ الْقُرَى - مَكَّةَ - وَلِسَائِرِ النَّاسِ مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ إِغْدَاقِ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ، وَاعْتَبَرُوا بِالسُّنَنِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا أَيْ: آمَنُوا بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُهُمْ مِنْ عِبَادَةٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاتَّقَوْا مَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي كَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَحْنَا بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْفَتْحِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّفْتِيحِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَالْمَعْنَى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَعْهَدُوهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا مُتَفَرِّقَةً، فَإِذَا أُرِيدَ بِبَرَكَاتِ السَّمَاءِ مَعَارِفُ الْوَحْيِ الْعَقْلِيَّةُ، وَأَنْوَارُ الْإِيمَانِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَنَفَحَاتُ الْإِلْهَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ فَائِدَةَ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَكُونُ تَكْمِيلَ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ رُوحًا وَجَسَدًا، وَغَايَتُهُ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -

وَإِذَا أُرِيدَ بِبَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ، كَمَا قِيلَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَبْوَابُ نِعَمٍ لَا تَكُونُ بَرَكَاتٍ لَهُمْ غَيْرَ الَّتِي عَهِدُوهَا فِي صِفَاتِهَا وَنَمَائِهَا وَثَبَاتِهَا وَحَالَتِهِمْ فِيهَا وَأَثَرِهَا فِيهِمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ بَرَكَاتٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْبَرَكَةِ تَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ وَالزَّكَاءِ مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ، وَعَلَى الثَّابِتِ وَالِاسْتِقْرَارِ مِنْ بَرَكَ الْبَعِيرُ، أَلَمْ تَقْرَأْ أَوْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هُودٍ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11: 84) فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَرَكَاتِ، وَجَعَلَ نِعْمَةَ الدُّنْيَا مَتَاعًا مُؤَقَّتًا لِلْكَافِرِينَ يَتْلُوهُ الْعَذَابُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْهُمْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ فِي تِلْكَ الْبَرَكَاتِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَفِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يُولَدْ، أَوْجَبَ لَهُمُ الْبَرَكَاتِ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يَعْنِي مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ. فَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ وَدِينَ الْحَقِّ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَتِهَا بِالْحَقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمَادِّيِّ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ (6: 44) فَذَلِكَ الْفَتْحُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ لِحَالِهِمْ، كَانَ أَثَرُهُ فِيهِمْ فَرَحَ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ بَدَلًا مِنَ الشُّكْرِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ فَكَانَ نِقْمَةً لَا نِعْمَةً، وَفِتْنَةً لَا بَرَكَةً. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ: فَإِنَّ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ يَكُونُ بَرَكَةً وَنِعْمَةً، وَيَكُونُ أَثَرُهُ فِيهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا مِنْهُ، وَالِاغْتِبَاطَ بِفَضْلِهِ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، وَفِي الْإِصْلَاحِ دُونَ الْإِفْسَادِ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى زِيَادَةَ النِّعَمِ وَنُمُوَّهَا فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنَ الثَّوَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، فَالْفَارِقُ بَيْنَ الْفَتْحَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْ جَعْلِ هَذَا مِنَ الْبَرَكَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمِنْ تَنْكِيرِهِ الدَّالِّ عَلَى أَنْوَاعٍ لَمْ يَعْهَدْهَا الْكُفَّارُ. وَمِمَّا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ هِدَايَةِ الْإِيمَانِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِلْبَشَرِ مُوَجَّهًا لِأَبَوَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ فِي سُورَةِ طَهَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (20: 123، 124) وَقَوْلُهُ فِي خِطَابِ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِخَوَاصِّ هَذَا النَّوْعِ، وَحِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِدِينِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ لِهِدَايَتِهِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (31، 32)

فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ. فَهَذَا بَيَانٌ لَكُوِنِ أَصْلِ الدِّينِ يَقْتَضِي سَعَادَةَ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي عَهْدِ آدَمَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِلْبَشَرِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ فِي سُورَتِهِ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ (11: 52) وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا حُجَجٌ عَلَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ - وَكَذَا كُلُّ دِينٍ إِلَهِيٍّ - سَبَبٌ لِلضَّعْفِ وَالْفَقْرِ! وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ الْخُرَافِيَّةِ، وَالْمَعَاصِي الْمُفْسِدَةِ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَكَانَ أَخْذُهُمْ بِالْعِقَابِ أَثَرًا لَازِمًا لِكَسْبِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ الْكَوْنِ، وَعِبْرَةً لِأَمْثَالِهِمْ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ إِنْذَارٌ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا مِنْ عَصْرِ النُّورِ الْأَعْظَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِتَعْتَبِرَ بِمَا نَزَلَ بِغَيْرِهَا كَمَا تَرْشُدُ إِلَيْهِ الرَّابِعَةُ مِنْهَا، وَأَهْلُ الْقُرَى فِيهَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ؛ أَيِ: الْأُمَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَضْعَ الْمُظْهَرِ فِيهِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ خَاصًّا بِأَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَذْكُرُ ضَمِيرَهُمْ، بَلْ هُوَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَيُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُظْهَرِ الْعُنْوَانُ الْعَامُّ لَهَا، لَا آحَادَ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، وَلَوْ ذَكَرَهَا بِضَمِيرِهَا أَوِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي يُعَيِّنُهَا؛ لَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِقَابَ كَانَ خَاصًّا بِهَا لَا دَاخِلًا فِي أَفْرَادِ سُنَّةٍ عَامَّةٍ، وَهَذَا عَيْنُ مَا كَانَ يَصْرِفُ الْأَقْوَامَ الْجَاهِلَةَ الْكَافِرَةَ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِعِقَابِ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى عَاصِمَةِ قَوْمِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، وَسَائِرِ قُرَى الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْثَتَهُ عَامَّةٌ

97

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَاقِلِ، وَالْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَغَرَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا؟ إِلَخْ. وَعَلَى الثَّانِي أَجَهِلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي بَلَغَتْهَا الدَّعْوَةُ - وَمِثْلَهَا مَنْ سَتُبْلُغُهَا - مَا نَزَلْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَغَرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا وَقْتَ بَيَاتِهِمْ - أَوْ إِتْيَانَ بَيَاتٍ - وَهُوَ الْهُجُومُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَهُوَ بَائِتٌ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ نَائِمُونَ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِغَايَةِ الْغَفْلَةِ وَكَوْنِ الْأَخْذِ عَلَى غِرَّةٍ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ عُذِّبُوا: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، أَوْ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى بِحَسَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَأَمِنُوا ذَلِكَ الْإِتْيَانَ أَوْ هَذَا؟ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْنَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِنُكْتَةِ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا، وَالضُّحَى انْبِسَاطُ الشَّمْسِ، وَامْتِدَادُ النَّهَارِ، وَيُسَمَّى بِهِ الْوَقْتُ، أَوْ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي شَبَابِ النَّهَارِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْلَّعِبُ - بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ - مَا لَا يَقْصِدُ فَاعِلُهُ بِسَبَبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ بَلْ يَفْعَلُهُ لِأُنْسٍ لَهُ بِهِ أَوْ لَذَّةٍ لَهُ فِيهِ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعُقَلَاءُ رِيَاضَةَ الْجِسْمِ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّعِبِ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيًّا بِحَسَبِ صُورَتِهِ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ صُورَتُهُ لَعِبٌ أَوْ هَزْلٌ، وَحَقِيقَتُهُ حِكْمَةٌ وَجَدٌّ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ كَالْعَمَلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَافِعٌ وَهُوَ ضَارٌّ، وَمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَهُوَ عَبَثٌ وَخَرْقٌ، وَقَدْ يَكُونُ إِطْلَاقُ اللَّعِبِ عَلَى أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ أَيْ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَهُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ لَعِبِ الْأَطْفَالِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ؟ ! فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى مِنَ الْغَابِرِينَ فَالظَّاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا آمِنِينَ إِتْيَانَ هَذَا الْعَذَابِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَانَ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ فَجْأَةً فِي وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِتَلَاقِيهِ وَتَدَارُكِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَظْهَرُ فِي شَأْنِهِمْ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهِ فِي أَهْلِ الْقُرَى الْحَاضِرِينَ، وَمَنْ سَيَكُونُ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ الْآتِينَ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَأْمَنُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ وُجُودَ النِّعَمِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى دَوَامِهَا، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ زَالَتْ بِكُفْرِ أَهْلِهَا، وَهَذَا مَا كَانَ يَجْهَلُهُ الَّذِينَ قَالُوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ، فَرَأَوْا صُورَةَ الْوَاقِعِ وَجَهِلُوا أَسْبَابَهُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَلَا يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْقُرْآنُ كُنْهَ الْأَمْرِ، وَسُنَنَ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَكِنَّ أَدْعِيَاءَ

99

الْقُرْآنِ، قَدْ صَارُوا أَجْهَلَ الْبَشَرِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَدَّعِي بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ جَهْلِهِمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ الْقُرْآنِ؟ ! ! أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَكْرُ: صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا تَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ، وَقَسَّمَهُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَدَقُّ قَوْلُنَا فِي تَفْسِيرِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (3: 54) وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يُحْتَسَبُ، وَقْفَيْنَا عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِبَيَانِ السَّيِّءِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْمَكْرِ، وَكَوْنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا كَالشَّأْنِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَرَّى إِخْفَاؤُهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ اغْتِرَارًا بِالظَّوَاهِرِ، كَأَنْ يَغْتَرَّ الْقَوِيُّ بِقُوَّتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِثَرْوَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَالْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، فَيُخْطِئُ تَقْدِيرُهُ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فَيَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ يَبْقَى، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ فِي ظَنِّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، كَمَا أَخْطَأَ الْأَلْمَانُ فِي تَقْدِيرِ قُوَّتِهِمْ وَقُوَّةِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الدُّوَلِ، فَلَمْ يَحْسَبُوا أَنْ تَكُونَ دَوْلَةُ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَكَانَ سَبَبَ أَمْنِهِمْ إِتْيَانَ بَأْسِنَا بَيَاتًا أَوْ ضُحًى وَهُمْ غَافِلُونَ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللهِ بِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَلَمْ يُقَدِّرُوا؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؟ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا كَانَ أَمْنُ الْعَالِمِ الْمُدَبِّرِ وَالصَّالِحِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى جَهْلًا يُورِثُ الْخُسْرَ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَهُوَ مُسْتَرْسِلٌ فِي مَعَاصِيهِ اتِّكَالًا عَلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ قَالَ تَعَالَى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (41: 23) فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَعْبَدُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِهِ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْمَنَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (20: 110) أَلَمْ تَرَ إِلَى الرُّسُلِ الْكِرَامِ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ مَشِيئَتَهُ حَتَّى فِيمَا عَصَمَهُمْ مِنْهُ؟ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا وَقَدْ كَانَ أَصْلَحُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَدْعُونَهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (3: 8) وَقَالَ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (35: 28) وَيُقَابِلُ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَتْبَعُهَا مَفَاسِدَ كَثِيرَةً.

100

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يُقَالُ: هَدَاهُ السَّبِيلَ أَوِ الشَّيْءَ، وَهَدَاهُ لَهُ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، إِذَا دَلَّهُ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ، وَأَهْلُ الْغَوْرِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ: هَدَى لَهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بَيَّنَهُ لَهُ، نَقَلَهُ فِي (لِسَانِ الْعَرَبِ) وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهَذَا التَّعْبِيرُ وَرَدَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طَهَ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (20: 128) وَفِي سُورَةِ (الم - السَّجْدَةِ) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (32: 26) وَالسِّيَاقُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِثْلَ السِّيَاقِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَتَا طَهَ وَالسَّجْدَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، وَلِلتَّقْدِيرِ وُجُوهٌ كُلُّهَا تُفِيدُ الْعِبْرَةَ، فَهُوَ مِمَّا تَذْهَبُ النَّفْسُ فِيهِ مَذَاهِبَ مِنْ أَقْرَبِهَا أَنْ يُقَالَ: أَكَانَ مَجْهُولًا مَا ذُكِرَ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى وَسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا فِي أَثَرِ جِيلٍ، أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ بِهِ، أَنَّ شَأْنَنَا فِيهِمْ كَشَأْنِنَا فِيمَنْ سَبَقَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِنَا فَلَوْ نَشَاءُ أَنْ نُصِيبَهُمْ وَنُعَذِّبَهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ أَصَبْنَاهُمْ كَمَا أَصَبْنَا أَمْثَالَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمِثْلِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى (أَصَبْنَاهُمْ) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: نُصِيبُهُمْ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ فِي الْعَصْرِ الْحَالِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْفِعْلِ، كَمَا ظَنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَنَعُوا هَذَا الْعَطْفَ، وَقَالُوا: الْمَعْنَى، وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَرِثُونَ مَا كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ، وَلَا يَكُونُوا مِنَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَا مِنَ الْمُتْرَفِينَ الْفَاسِقِينَ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْمُحَتَّمِ عِقَابَ الْأُمَمِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَلَمْ يَكُنْ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُصَادَفَاتِ، بَلْ هُوَ مِنَ السُّنَنِ الْمُطْرَدَةِ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَلَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَ وَلَا مُحَابَاةَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يُصَابُ بِذَنْبِهِ فَيَتَّعِظُ وَيَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ، وَفَرِيقٌ يُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَبْعِ السِّكَّةِ وَنَقْشِهَا بِصُورَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا، أَوْ مِنَ الطَّبْعِ الَّذِي بِمَعْنَى الْخَتْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (2: 7) وَالطَّابَعُ وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّبَعِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الصَّدَأُ الشَّدِيدُ يَعْرِضُ لِلسَّيْفِ وَنَحْوِهِ فَيُفْسِدُهُ يُقَالُ: طَبَعَ الطَّبَّاعُ السَّيْفَ وَالدِّرْهَمَ؛ أَيْ: ضَرَبَهُ، وَطَبَعَ الْكِتَابَ وَعَلَى الْكِتَابِ وَخَتَمَهُ إِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ الطَّابَعَ وَالْخَاتَمَ بَعْدَ إِتْمَامِهِ وَوَضْعِهِ فِي ظَرْفِهِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَمِنْهُ الطَّبْعُ وَالطَّبِيعَةُ وَهِيَ الصِّفَةُ الثَّابِتَةُ لِلشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ، فَالسَّجِيَّةُ نَقْشُ النَّفْسِ بِصُورَةٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ

لَا يُسَمَّى طَبِيعَةً، وَمِنْهُ طَبْعُ الْكُتُبِ فِي الْآلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَطْبَعَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالتَّغْيِيرَ كَالْخَطِّ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا أَحْبَارًا لَا تُمْحَى أَيْضًا. وَلَا يُسْتَعْمَلُ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا وَصَلَتْ مِنَ الْفَسَادِ إِلَى حَالَةٍ لَا تَقْبَلُ مَعَهَا خَيْرًا كَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ فِقْهُ الْأُمُورِ وَلُبَابُهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي اسْتِحْلَالًا وَاسْتِحْسَانًا لَهَا حَتَّى لَا يَعُودَ فِي النَّفْسِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 155) أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (9: 87) وَمِثْلُهُ فِي سُورَتِهِمْ، وَقَالَ هُنَا: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: فَهُمْ بِهَذَا الطَّبْعِ لَا يَسْمَعُونَ الْحُكْمَ وَالنَّصَائِحَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (10: 101) مَا يُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ مُلِئَتْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا مِنْ آرَاءٍ وَأَفْكَارٍ وَشَهَوَاتٍ مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى صَرَفَتْهُمْ عَنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْهُمْ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (18: 104) . قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِانْتِقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ؛ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا تُغْفَرُ كَذُنُوبِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ؛ وَسُنَّتَهُ فِيهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا أَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، ثُمَّ فِي وَعْظِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الِاتِّعَاظِ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَنْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ تَفْسِيرِهَا فَإِنَّمَا يُعْنَى بِإِعْرَابِهَا، وَالْبَحْثِ فِي أَلْفَاظِهَا، أَوْ جَدَلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَهَا خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، وَيُفَسِّرُونَ الْكَافِرِينَ بِمَنْ لَا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَطَالَمَا أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّنَا جَعَلْنَا الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ شَامِلَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَأْفُوكِينَ عَنْ تَدَبُّرِهَا الْمُرَادِ مِنْهَا جَاهِلِينَ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَظَنُّوا كَمَا ظَنُّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي الْأَقْوَامَ لِأَجْلِ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِجَاهِهِمْ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ تِجَارَةً لِلشُّيُوخِ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (2: 16) بَلْ كَانُوا فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ آنِفًا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (47: 24) ؟

101

أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِقَوْلِ رَسُولِهِمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا " أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (23: 68، 69) . تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وَجَّهَ الْخِطَابَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ تَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ فُؤَادِهِ بِمَا فِي قَصَصِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنَ الْعِبَرِ وَالسُّنَنِ الَّتِي بَيَّنَ فِقْهَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ فِي الْآيَاتِ السَّبْعِ الَّتِي قَبْلَهُمَا. قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ قَفَى بِهِ عَلَى جُمْلَةِ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَيَانِ حِكَمِهَا وَفِقْهِهَا فَكَانَتْ كَالْفَذْلَكَةِ لَهَا، فَالْقُرَى هُنَا هِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِمَّا جَاوَرَهَا، وَكَانَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاقَلُونَ بَعْضَ أَخْبَارِهِمْ مُبْهَمَةً مُجْمَلَةً، وَكَانَتْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى غِرَارٍ وَاحِدٍ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَارِي فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ النُّذُرِ، إِلَى أَنْ حَلَّ بِهِمُ النَّكَالُ، وَأُخِذُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كُلِّهَا وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْمُ مُوسَى فَإِنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِنَّمَا كَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فَعُذِّبُوا، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ قِصَّتَهُ. وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي بَعُدَ عَهْدُهَا، وَطَالَ الْأَمَدُ عَلَى تَارِيخِهَا، وَجَهَلَ قَوْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ حَقِيقَةَ حَالِهَا، نَقُصُّ عَلَيْكَ الْآنَ بَعْضَ أَنْبَائِهَا، وَهُوَ مَا فِيهِ الْعِبَرُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: نَقُصُّ لَا قَصَصْنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَعَ تِلْكَ الْقَصَصِ لَا بَعْدَهَا. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى رُسُلُهُمْ

بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِهِمْ، وَبِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ، بِأَنْ جَاءَ كُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ بِمَا أَعْذَرَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ بِمَا كَانُوا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا عِنْدَ بَدْءِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ بَعْثَتِهِ؛ بِسَبَبِ تَعَوُّدِهِمْ تَكْذِيبَ الْحَقِّ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ وَاهٍ جِدًّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَا كَانُوا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى خَطَئِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ شَأْنُ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَنْ يُصِرُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، فَهُمْ إِمَّا جَاحِدٌ مُعَانِدٌ ضَلَّ عَلَى عِلْمٍ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ يَأْبَى النَّظَرَ وَالْعِلْمَ، عَلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُخَالِفُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، فَالْعَجَبُ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ وَلَمْ يَفْهَمْ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَ ذِكْرِخُلَاصَةِ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (10: 74) فَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَ نُوحٍ مَنْ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا وَهُنَالِكَ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى فِي جُمْلَتِهِمْ وَمَجْمُوعِهِمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ قَوْمُ هُودٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ إِلَخْ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَيَلِيهِ هَذَا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَلْبَتَّةَ. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ أَيْ: مِثْلَ هَذَا الَّذِي وُصِفَ مِنْ عِنَادِ هَؤُلَاءِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فِي عُقُولِهِمْ، يَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ صَارَ الْكُفْرُ صِفَةً لَازِمَةً لَهُمْ، بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْنَسُوا بِالْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ؛ حَتَّى تَسْتَحْوِذَ أَوْهَامُهُ عَلَى أَفْكَارِهِمْ، وَيَمْلَأَ حُبُّ شَهَوَاتِهِ جَوَانِبَ قُلُوبِهِمْ، وَيَصِيرَ وِجْدَانًا تَقْلِيدِيًّا لَهُمْ، لَا يَقْبَلُونَ فِيهِ بَحْثًا، وَلَا يَسْمَعُونَ فِيهِ نَقْدًا، فَيَكُونُ كَالسِّكَّةِ الَّتِي طُبِعَتْ فِي أَثْنَاءِ لِينِ مَعْدَنِهَا بِصَهْرِهِ وَإِذَابَتِهِ ثُمَّ جَمَدَتْ فَلَا تَقْبَلُ نَقْشًا وَلَا شَكْلًا آخَرَ. وَمِنْ وُجُوهِ تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْآيَةِ إِعْلَامُهُ أَنَّ مَنْ وَصَلُوا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوِ التَّقَالِيدِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَإِهْمَالِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ وَضَحَتْ، وَلَا بِالْآيَاتِ وَإِنِ اقْتَرَحَتْ، فَقَدْ كَانَ كَفَّارُ مَكَّةَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ وَمَا اقْتَرَحُوا مِنْهَا حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، حَتَّى بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الْبَيَانُ فِي آيَاتٍ مِنْ أَوَائِلِ سُورَةِ

الْأَنْعَامِ وَأَثْنَائِهَا، وَمِمَّا يُنَاسِبُ مَا هُنَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (6: 109، 110) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى إِنْشَائِهَا، وَبِمَعْنَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الْمُوصِي، وَعَهِدْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَصَّيْتُهُ بِفِعْلِهِ أَوْ حِفْظِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهُوَ الْمُعَاهَدَةُ كَمَا يَكُونُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ تَلْتَزِمُ لَهُ شَيْئًا، وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (2: 40) أَيْ: أَوْفُوا بِمَا عَهَدْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَهْدَ اللهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: عَهْدُ اللهِ تَارَةً يَكُونُ بِمَا رَكَّزَهُ فِي عُقُولِنَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَبِأَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَتَارَةً بِمَا نَلْتَزِمُهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَالنُّذُورِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الْعَهْدُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَهْدٌ مِنْهُ يُطَالِبُ النَّاسَ بِهِ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَأَصْلُهَا الْمَيْلُ عَنْ جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ أَنْفُسَ الْبَشَرِ عَلَى الشُّعُورِ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ جَمِيعِ قُوَى الْعَالَمِ، وَعَلَى إِيثَارِ مَا تَرَاهُ حَسَنًا وَاجْتِنَابِ غَيْرِهِ، وَعَلَى حُبِّ الْكَمَالِ وَكَرَاهَةِ النَّقْصِ، وَلَكِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَهْدُ اللهِ الْمُفَصَّلُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ لِمُسَاعَدَةِ الْفِطْرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِزَالَةِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِعَهْدِ اللهِ الْعَامِّ، عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ بَيَانِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ وَالنَّشْأَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّعَادِي، أَعْنِي تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الَّتِي نَادَى بِهَا بَنِي آدَمَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ (26 إِلَى 35) وَمِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (36: 60) وَمِنْهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ الْكُبْرَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ 151 - 153 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا (6: 152) . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الْعَهْدَ بِالْمِيثَاقِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ

102

هَذِهِ السُّورَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى إِلَخْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُمَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بِالشَّدَّةِ وَالْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ ثُمَّ أَتَاهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ ذَمَّ اللهُ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وَيَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ لَمْ تُؤَدِّبْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَهَذَا فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ اللهَ تَعَالَى عِنْدَ الضِّيقِ بِأَنْ يَشْكُرُوا لَهُ وَيُوَحِّدُوهُ إِذَا أَنْجَاهُمْ كَمَا حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (19: 87) وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ؛ أَيْ: لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ عَهْدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ هُوَ الَّذِي جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْلَابِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ، وَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " يَقُولُ اللهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " الْحَدِيثَ اهـ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْعَهْدَ يَعُمُّ هُنَا كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي تَعَاهُدِهِمْ وَتَعَاقُدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِـ " مِنْ " كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عَهْدًا مَا يَفُونُ بِهِ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِمْ أَكْثَرَهُمْ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفُسُوقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ كُلِّ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ بِالنَّكْثِ وَالْغَدْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ آمَنَ وَالْتَزَمَ كُلَّ عَهْدٍ عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، أَوْ عَاهَدَهُ اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ تَعَاهَدَ عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَفِي بِبَعْضِ ذَلِكَ حَتَّى فِي حَالِ الْكُفْرِ؛ إِذْ لَا تَتَّفِقُ أَفْرَادُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ عَلَى الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ شُبَهَاتُ الْمُبَالَغَةِ بِمَا يَسْلُبُ أَحَدًا حَقَّهُ، أَوْ يُعْطِي أَحَدًا غَيْرَ حَقِّهِ، وَقَدْ نَوَّهْنَا بِهَذِهِ الدِّقَّةِ مِنْ قَبْلُ، وَغَفَلَ عَنْهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَزَعَمُوا هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ فِي الْكُلِّ

103

وَالْفِسْقُ فِي الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَيَتَسَاوَى مَفْهُومُهُمَا بِمَا فَسَّرْنَا بِهِ عُمُومَ الْعَهْدِ هُنَا، فَفِي التَّعْبِيرِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، إِذِ الْأَوَّلُ يُقَرِّرُ بِمَنْطُوقِهِ الثَّانِي الَّذِي يُقَرِّرُ بِمَفْهُومِهِ مَنْطُوقَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ بَيْنَ (وَجَدْنَا) الْأُولَى وَهِيَ بِمَعْنَى أَلْفَيْنَا، وَالثَّانِيَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى عَلِمْنَا، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سَلْبِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتِ الثَّانِي. ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ. (قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَضْبُطُونَ اسْمَ وَالِدِهِ بِالْمِيمِ فِي آخِرِهِ (عَمْرَامُ) وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَجَمِيعُ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ تَتَصَرَّفُ فِي نَقْلِ الْأَسْمَاءِ مِنْ لُغَاتِ غَيْرِهَا إِلَى لُغَتِهَا، وَمَعْنَى كَلِمَةِ (مُوسَى) الْمِنْتَاشُ مِنَ الْمَاءِ؛ أَيْ: الَّذِي أُنْقِذَ مِنْهُ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ " مُوسَى؛ لِأَنَّهُ أُلْقِيَ بَيْنَ مَاءٍ وَشَجَرٍ،

فَالْمَاءُ بِالْقِبْطِيَّةِ " مُو " وَالشَّجَرُ " سَى " وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ وَضَعَتْهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فِي تَابُوتٍ (صُنْدُوقٍ) أَقْفَلَتْهُ إِقْفَالًا مُحْكَمًا، وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ (بَحْرِ النِّيلِ) خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَحُكُومَتِهِ أَنْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَقْتُلُوهُ؛ إِذْ كَانُوا يَذْبَحُونَ ذُكُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وِلَادَتِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ إِنَاثَهُمْ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ؛ أَيْ: تَتَبَّعِيهِ؛ لِتَعْلَمَ أَيْنَ يَنْتَهِي؟ وَمَنْ يَلْتَقِطُهُ؟ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهَا أَمْرُهُ، فَمَا زَالَتْ أُخْتُهُ تُرَاقِبُ التَّابُوتَ عَلَى ضِفَافِ الْيَمِّ حَتَّى رَأَتْ آلَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ يَلْتَقِطُونَهُ إِلَى آخِرِ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَبَرِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ بَيْنَ مُطَوَّلَةٍ وَمُخْتَصَرَةٍ أَوَّلُهَا هَذِهِ السُّورَةُ (الْأَعْرَافُ) فَهِيَ أَوَّلُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّتُهُ، وَمِثْلُهَا فِي اسْتِقْصَاءِ قِصَّتِهِ طَهَ وَيَلِيهَا سَائِرُ الطَّوَاسِينِ الثَّلَاثَةِ (الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ) وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُ الْعِبَرِ مِنْ قِصَّتِهِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى كَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذُكِرَ اسْمُهُ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا بِالِاخْتِصَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَكِّيَّةِ، وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَذُكِرَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الطُّولِ وَالْمِئِينَ وَالْمُفَصَّلِ حَتَّى زَادَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى 130 مَرَّةً فَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَا مَلِكٌ كَمَا ذُكِرَ اسْمُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِصَّتَهُ أَشْبَهُ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقِصَّةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أُوتِيَ شَرِيعَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً، وَكَوَّنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ مِلْكٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَسَنُبَيِّنُ مَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ حُكْمِ التَّكْرَارِ، وَاخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا الْقِصَّةَ، فَهِيَ نَوْعٌ وَهُنَّ نَوْعٌ آخَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ أَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ مُتَشَابِهَةٌ فِي تَكْذِيبِ الْأَقْوَامِ فِيهَا لِرُسُلِهِمْ وَمُعَانَدَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ، وَفِي عَاقِبَةِ ذَلِكَ بِإِهْلَاكِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الْأُولَى بِدُونِ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا وَلُوطًا وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا وَقَدْ أَعَادَ فِي قِصَّةِ مُوسَى ذِكْرَ الْإِرْسَالِ لِلتَّفْرِقَةِ، وَلَكِنْ بِلَفْظِ الْبَعْثِ، وَهُوَ أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْإِثَارَةِ وَالْإِزْعَاجِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُهِمِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي بَعْثِ الْمَوْتَى، وَفِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ؛ أَيْ: بَعْثُ عِدَّةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي بَعْثَةِ نَبِيِّنَا وَمُوسَى خَاصَّةً، وَكَذَا فِي بَعْثِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْثِ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ وَعَذَّبَهُمْ وَسَبَاهُمْ حِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْبَعْثِ هُنَا يُؤَكِّدُ مَا أَفَادَتْهُ إِعَادَةُ الْعَامِلِ مِنَ التَّفْرِقَةِ

بَيْنَ نَوْعَيِ الْإِرْسَالِ، أَعْنِي أَنَّ لَفْظَهُ الْخَاصَّ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، كَمَا يُؤَكِّدُهَا عَطْفُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أُولَئِكَ بِـ " ثُمَّ " الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ وَالتَّرَاخِي إِمَّا فِي الزَّمَانِ، وَإِمَّا فِي النَّوْعِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الْإِرْسَالَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَأَعْقَبَهُ فِي قَوْمِ مُوسَى مُخَالِفٌ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ مُخَالَفَةَ تَضَادٍّ، فَقَدْ أُنْقِذَتْ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ تَعْبِيدُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لَهَا وَسَوْمُهُمْ إِيَّاهَا أَنْوَاعَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاهْتَدَتْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ، فَأَعْطَاهَا فِي الدُّنْيَا مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَعَدَّ بِذَلِكَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ فَأَيْنَ هَذَا الْإِرْسَالُ مِنْ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ، الَّذِي أَعْقَبَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ؟ وَقَدْ يَظْهَرُ لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَجْهٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْعَطْفِ عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ؛ فَإِنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَصَصِ مَنْ بَعْدَهُ قَدْ جُعِلَ تَابِعًا وَمُتَمِّمًا لَهَا بِعَدَمِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ " أَرْسَلْنَا " كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِلَّا فَإِنَّ شُعَيْبًا، وَهُوَ آخِرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَهُوَ حَمُوهُ، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهُوَ لَدَيْهِ مَعَ زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي سَيْنَاءَ، وَأَرْسَلَهُ مِنْهَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ حُكْمِهِ وَظُلْمِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ إِرْسَالَ نُوحٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَفَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ (10: 74) إِلَخْ، وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: ثُمَّ بَعَثْنَا مَنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (10: 75) وَمِنَ الْمَعْلُومِ عَقْلًا وَاسْتِنْبَاطًا أَنَّ التَّرَاخِيَ بَيْنَ بَعْثَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ زَمَانِيٌّ؛ إِذْ كَانَ بَعْدَ تَنَاسُلِ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَتَكَاثُرِهِمْ وَصَيْرُورَتِهِمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الرُّسُلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا أَوْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ نُوحٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا (16: 36) وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (40: 78) وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَخْصِيصِ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ، وَكَذَا مَنْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مُوسَى بِآيَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنَّا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَمَّا " فِرْعَوْنُ " فَهُوَ لَقَبُ مُلُوكِ مِصْرَ الْقُدَمَاءِ، كَلَقَبِ " قَيْصَرَ " لِمُلُوكِ الرُّومِ، وَ " كِسْرَى " لِمُلُوكِ الْفُرْسِ الْأَوَّلِينَ، وَ " الشَّاهْ " لِمُلُوكِ الْإِيرَانِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ لَقَبَ الْمَلِكِ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ كَلِمَةِ فِرْعَوْنَ وَمَعْنَاهُ، وَفِي اسْمِ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَزَمَنِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا، وَأَمَّا مَلَؤُهُ فَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ وَرِجَالَ الدَّوْلَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَعْبِدِينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِيَدِهِمْ أَمْرُهُمْ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا

مُسْتَعْبَدِينَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الظُّلْمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْغُرَبَاءِ كَانَ أَشَدَّ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي بِلَادِ أَجْدَادِهِمْ، وَلَوْ آمَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لَآمَنَ سَائِرُ قَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ بَلْ كَانَ هَذَا شَأْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ مَعَ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَائِرِينَ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَأَنَّ قَوْمَهُ تَبَعٌ لَهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ مُقَلِّدُونَ، وَلِذَلِكَ قَتَلَ السَّحَرَةَ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى، وَإِنَّمَا آمَنُوا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ، مُسْتَقِلِّي الْعَقْلِ، أَصْحَابَ فَهْمٍ وَرَأْيٍ، وَكَانَ السِّحْرُ مِنْ عُلُومِهِمْ وَفُنُونِهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، وَلَيْسَ كَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى فَإِنَّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَّةَ بِآيَاتِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا أَيْ: فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ بِالْكُفْرِ بِهَا كِبْرًا وَجُحُودًا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ذَلِكَ، وَإِثْمُ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ حُرِمُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِاتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ، كَمَا كَانَ يَكُونُ لَهُمْ مِثْلُ أُجُورِهِمْ لَوْ آمَنُوا بِالتَّبَعِ لَهُمْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُرْسَلًا إِلَى قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذَّاتِ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِالتَّبَعِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَقْصِدٌ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَسِيلَةٌ، وَقَدْ عُدِّيَ الظُّلْمُ فِي الْجُمْلَةِ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ فَصَارَ جَامِعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِأَحَدِهِمَا إِذْ لَوْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا لَعَبَّرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّضْمِينِ فَائِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَظَلَمُوا بِهَا لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أَيْ: فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ؛ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَاتِ ظُلْمًا جَدِيدًا، وَهُوَ مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْجُحُودِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ ثُمَّ بِالْغَرَقِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي مَحَلِّهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْلَغُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَالتَّالِي بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَاسْتِعْبَادِ الْبَشَرِ حِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللهِ، وَظَلَمُوا بِهَا عَمَلًا بِمُقْتَضَى فَسَادِهِمْ، وَهَذَا تَشْوِيقٌ لِتَوْجِيهِ النَّظَرِ لِمَا سَيَقُصُّهُ تَعَالَى مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ إِذْ نَصَرَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ شَعْبٍ مُسْتَضْعَفٍ مُسْتَعْبَدٍ لَهُمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ دَوْلَةً وَصَوْلَةً وَقُوَّةً، نَصَرَهُ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِإِبْطَالِ سِحْرِهِمْ، وَإِقْنَاعِ عُلَمَائِهِمْ وَسَحَرَتِهِمْ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِ آيَاتِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ نَصَرَهُ بِإِرْسَالِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْبِلَادِ ثُمَّ بِإِنْقَاذِ قَوْمِهِ وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ مَلَئِهِ وَجُنُودِهِ، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَحُجَّةٌ قَائِمَةٌ مُدَّةَ الدَّهْرِ، عَلَى الْقَائِلِينَ إِنَّمَا الْغَلَبُ لِلْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا الْمَغْرُورِينَ بِعَظَمَةِ دُوَلِ أُورُبَّةَ الظَّالِمَةِ لِمَنِ اسْتَضْعَفَتْهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ، وَعَلَى أُولَئِكَ الْبَاغِينَ بِالْأَوْلَى، فَأَوْلَى لَهُمْ أَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَهُمْ أَوْلَى. بَعْدَ هَذَا التَّشْوِيقِ وَالتَّنْبِيهِ قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مَا كَانَ مِنْ مَبْدَأِ أَمْرِ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِي انْتَهَى

104

إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، فَقَالَ: وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبْدَأُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ؛ لِتَفْهَمَ عِبَارَتَهَا كَمَا يَجِبُ، وَيَكُونُ سِيَاقُ الْقِصَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَفِيهَا بَحْثَانِ دَقِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِدْءُ الْقِصَّةِ بِالْعَطْفِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ. لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى وَجْهِ بِدْءِ الْآيَةِ بِالْعَطْفِ، وَبَيَانِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِثْلِهَا مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ، إِذْ قَالَ بَعْدَ أَمْرِ مُوسَى بِالذَّهَابِ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ مُبَيِّنًا كَيْفَ كَانَ امْتِثَالُهَا لِلْأَمْرِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (20: 48) فَجَاءَ بِهِ مَفْصُولًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِالْوَاوِ وَلَا بَأَوْ وَلَا بِالْفَاءِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَلَمْ يَقُلْ: " فَقَالَ " أَوْ " قَالَ " لَكِنَّهُ عَطَفَ تَبْلِيغَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهَا بِالْفَاءِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَصْلِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَدَيْنَا هُنَا عَطْفًا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَعَطْفًا بِالْوَاوِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَفَصْلًا بَيَانِيًّا فِي الْقَصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا يُشْبِهُ الْفَصْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَعَطْفُ التَّبْلِيغِ فِيهِ عَلَى الْإِرْسَالِ بِالْفَاءِ؛ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْقَصَصِ بَعْدَهُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا وَكَانَ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ قَوْمِ نُوحٍ عِبْرَةً لِقَوْمِ هُودٍ، وَكَانَا مَعًا عِبْرَةً لِقَوْمِ صَالِحٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، حَسُنَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ مَعَ قَوْمِهِ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَوَجْهُ الْعَطْفِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ قَفَى فِي قِصَّةِ مُوسَى هُنَا عَلَى ذِكْرِ إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِذِكْرِ نَتِيجَةِ هَذَا الْإِرْسَالِ وَعَاقِبَتِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلَمُوا بِهَا إِلَخْ، وَبُدِئَتِ الْقِصَّةُ بَعْدَهُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ وَمُقْدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسَبُ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا لَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةِ، أَوْ بَيْنَ التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمُقْدِّمَاتُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ النَّتِيجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهَذِهِ دِقَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مِثْلِهَا إِلَّا غَوَّاصُو بَحْرِ الْبَيَانِ، وَلَا يَكَادُونَ

105

يَجِدُونَ فَوَائِدَهَا إِلَّا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، وَأَعْجَبُ لِلْإِمَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَيْفَ غَفَلَ عَنْهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا. وَحِكْمَةُ بِدْءِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نَتِيجَتِهَا، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا وَهِيَ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ إِهْلَاكُ مُعَانِدِي الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بَعْدَ جُمْلَةِ تِلْكَ الْقَصَصِ لِتَشَابُهِهَا مَبْدَأً وَغَايَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةُ مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَوِيلَةٌ فَهِيَ تُسَاوِيهَا فِي هَذَا مِنْ حَيْثُ رِسَالَتُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَطْ، وَفِيهَا عِبَرٌ أُخْرَى فِيمَا تَشَابَهَ بِهِ أَمْرُ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ حَيْثُ إِرْسَالُهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِرْسَالُ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَتَوْفِيقُ اللهِ قَوْمَهُمَا لِلْإِيمَانِ وَنَشْرِ شَرِيعَتِهِمَا فِيمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِمْ، إِلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي نُكْتَةِ عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِـ " ثُمَّ "، وَنُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِـ " بَعَثْنَا " وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَوَاخِرَهَا تَبْشِيرَ مُوسَى وَكَذَا عِيسَى بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِذْ يَقُولُونَ: أَنْتَ حَقِيقُ كَذَا، وَأَنْتَ حَقِيقٌ بِأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، كَمَا يَقُولُونَ: أَنْتَ جَدِيرٌ بِهِ وَخَلِيقٌ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ اسْتِعْمَالُهُ بِـ " عَلَى " وَلَكِنْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالُ " عَلَى " بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِمْ: ارْكَبْ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْنَى السَّابِعِ مِنْ مَعَانِي " عَلَى " الْجَارَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَمِثْلُهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ. . .؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ الْجَارَّ الْمَحْذُوفَ مِنْ أَنَّ هُوَ الْيَاءُ، وَحَذْفُ الْجَارِ مِنْ " أَنْ " الْخَفِيفَةِ وَ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةِ قِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ؛ أَيْ: جَدِيرٌ بِذَلِكَ وَحَرِيٌّ بِهِ، قَالُوا: وَ " الْبَاءُ " وَ " عَلَى " يَتَعَاقَبَانِ، يُقَالُ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَلَى الْقَوْسِ، وَجَاءَ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حَقِيقًا قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْصِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ التَّضْمِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِي لِلْكَلِمَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ التَّعْدِيَةُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْعِبَارَةِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَحَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ أُخِلَّ بِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاقِ فِي وَصْفِ مُوسَى نَفْسَهُ بِالصِّدْقِ حَتَّى جُعِلَ قَوْلُ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَسْعَى لِيَكُونَ

هُوَ قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يَنْطِقَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُخَوَّلُ مِنْ تَكَلُّفٍ، وَإِنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَخِيرِ: إِنَّهُ هُوَ الْأَوْجَهُ الْأَدْخَلُ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيْ: وَاجِبٌ وَحَقٌّ عَلَى أَلَّا أُخْبِرَ عَنْهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ عِزِّ جَلَالِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ: بَلَّغَ مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ - أَيْ: سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَمُدَبِّرُ جَمِيعِ أُمُورِهِمْ - وَأَنَّهُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَقُولُ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا يَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالصِّدْقِ، وَالْتِزَامِ الْحَقِّ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيهِ، وَشَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَيْهِ بِمَالِهِ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ، فَاشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَقِيدَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ لِلْعَالِمِينَ كُلِّهِمْ رَبًّا وَاحِدًا، وَعَقِيدَةَ الرِّسَالَةِ الْمُؤَيَّدَةَ مِنْهُ تَعَالَى بِالْعِصْمَةِ فِي التَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ، وَقَدْ نَاقَشَهُ فِرْعَوْنُ الْبَحْثَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فَوَصَفَهُ مُوسَى بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي أَجْوِبَةِ عِدَّةِ أَسْئِلَةٍ أَوْرَدَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ هُوَ وَهَارُونَ عَنْ رَبِّهِمَا فِي سِيَاقِ سُورَةِ طَهَ، وَجَاءَ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِيهَا ذِكْرَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَانَ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِالرَّبِّ الْإِلَهِ الْغَيْبِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ شَابُوا الْعَقِيدَتَيْنِ بِنَزَغَاتِ الشِّرْكِ وَبَعْضِ الْخُرَافَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُوسَى قَدْ بَلَّغَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أُصُولَ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ: التَّوْحِيدَ، وَالرِّسَالَةَ، وَالْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَفِي كُلِّ سِيَاقٍ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى الْمُكَرَّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فَوَائِدُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى، وَأَبْسَطُهَا وَأَوْسَعُهَا بَيَانًا هَذِهِ السُّورَةُ (الْأَعْرَافُ) وَطَهَ وَالشُّعَرَاءُ وَالْقَصَصُ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ لِجُمْلَةِ الْقِصَّةِ لَا التَّفْصِيلُ لَهَا كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِبَيِّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ وَتَبْلِيغِهِ عَنْهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ، ظَاهِرَةِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْحَقِّ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَعَلَى أَنَّهَا - أَيِ: الْبَيِّنَةُ - لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ مُوسَى، وَلَا مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَنَى عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ: بِأَنْ تُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِكَ، وَتُعْتِقَهُمْ مِنْ رِقِّ قَهْرِكَ، لِيَذْهَبُوا مَعِي إِلَى دَارٍ غَيْرِ دِيَارِكَ، وَيَعْبُدُوا فِيهَا رَبَّهُمْ وَرَبَّكَ، وَبِمَ أَجَابَ فِرْعَوْنُ؟

106

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مَصْحُوبًا وَمُؤَيَّدًا بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَرْسَلَكَ كَمَا تَدَّعِي - الشَّرْطُ بِـ " إِنْ " يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ أَوِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهَا - فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِنِي بِهَا بِأَنْ تُظْهِرَهَا لَدَيَّ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ الْمُلْتَزِمِينَ لِقَوْلِ الْحَقِّ، وَهَذَا شَكٌّ آخَرُ فِي صِدْقِهِ، بَعْدَ الشَّكِّ فِي مَجِيئِهِ بِالْآيَةِ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ: فَلَمْ يَلْبَثْ مُوسَى أَنْ أَلْقَى عَصَاهُ الَّتِي كَانَتْ بِيَمِينِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ - وَهُوَ الذَّكَرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْحَيَّاتِ - مُبِينٌ؛ أَيْ: ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا يَسْعَى وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، تَرَاهُ الْأَعْيُنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْحَرَهَا سَاحِرٌ فَيُخَيَّلَ إِلَيْهَا أَنَّهَا تَسْعَى - كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَعْمَالِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ - وَنَزَعَ يَدَهُ؛ أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ وَضَعَهَا فِيهِ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ نَاصِعَةُ الْبَيَاضِ تَتَلَأْلَأُ لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَنْظُرُهُ، وَالنَّظَّارَةُ هُمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عَادَةً لِرُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بَيْضَهَا فِي طَهَ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ بِأَنَّهُ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَالْبَرَصِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي صِفَةِ الثُّعْبَانِ الَّذِينَ تَحَوَّلَتْ إِلَيْهِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي تَأْثِيرِهِ لَدَى فِرْعَوْنَ مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لَهَا سَنَدٌ، وَلَا يُوثَقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَمِنْهَا قَوْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنَّ الْعَصَا لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا حَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِيهِ غَرَابَةٌ فِي سِيَاقِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَقُولَ: إِنَّنِي أُرَجِّحُ تَضْعِيفَ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ لِوَهْبٍ عَلَى تَوْثِيقِ الْجُمْهُورِ لَهُ، بَلْ أَنَا أَسْوَأُ فِيهِ ظَنًّا عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضِلْعٌ مَعَ قَوْمِهِ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَلِلْعَرَبِ، وَيَدُسُّونَ لَهُمْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ التَّشَيُّعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ وَالِدَهُ مُنَبِّهًا فَارِسِيٌّ أَخْرَجَهُ كِسْرَى إِلَى الْيَمَنِ فَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَنَّ ابْنَهُ وَهْبًا كَانَ يَخْتَلِفُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَهُنَا مَوْضِعٌ لِشُبْهَةٍ فِي الْغَرَائِبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ - وَمِثْلُهُ عِنْدِي (كَعْبُ الْأَحْبَارِ) الْإِسْرَائِيلِيُّ - كِلَاهُمَا كَانَ تَابِعِيًّا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ لِلْغَرَائِبِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ مَنْقُولٌ وَلَا مَعْقُولٌ، وَقَوْمُهُمَا كَانَا يَكِيدُونَ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي فَتَحَتْ بِلَادَهُ الْفُرْسَ، وَأَجْلَتِ الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَاتِلُ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي فَارِسِيٌّ مُرْسَلٌ مِنْ جَمْعِيَّةٍ سِرِّيَّةٍ لِقَوْمِهِ، وَقَتَلَةُ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِدَسَائِسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ، وَإِلَى جَمْعِيَّةِ

109

السَّبَئِيِّينَ وَجَمْعِيَّاتِ الْفُرْسِ تَرْجِعُ جَمِيعُ الْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ، وَأَكَاذِيبِ الرِّوَايَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ كَانَ السِّحْرُ فَنًّا مِنْ فُنُونِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ يَتَعَلَّمُونَهُ فِي مَدَارِسِهِمُ الْعَالِيَةِ مَعَ سَائِرِ عُلُومِ الْكَوْنِ، وَكَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَقْرَانِهِمْ مِنَ الْبَابِلِيِّينَ وَكَذَا الْهُنُودُ وَغَيْرُهُمْ، وَلَا يَزَالُ يُؤْثَرُ عَنِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْهُمْ أَعْمَالٌ سِحْرِيَّةٌ غَرِيبَةٌ اهْتَدَى عُلَمَاءُ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى تَعْلِيلِ بَعْضِهَا أَوْ كَشْفِ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَزَالُونَ يَجْهَلُونَ تَعْلِيلَ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلسِّحْرِ أَنَّهُ أَعْمَالٌ غَرِيبَةٌ مِنَ التَّلْبِيسِ وَالْحِيَلِ تَخْفَى حَقِيقَتُهَا عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ؛ لِجَهْلِهِمْ بِأَسْبَابِهَا، فَمَتَى عُرِفَ سَبَبُ شَيْءٍ مِنْهَا بَطَلَ إِطْلَاقُ اسْمِ السِّحْرِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَقْوَامُ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَ آيَاتِ الرُّسُلِ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ، يَجْعَلُونَ هَذَا مَانِعًا مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ صَنْعَةٌ تَتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ، فَيُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا إِذَا أُتِيحَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَرُوجُ إِلَّا بَيْنَ الْجَاهِلِينَ، وَلَهُ الْمَكَانَةُ الْمَهِيبَةُ الْمُخِيفَةُ بَيْنَ أَعْرَاقِ الْقَبَائِلِ فِي الْهَمَجِيَّةِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعِرْفَانُ، بَلْ يُسَمَّى أَهْلُهُ بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى كَالْمُشَعْوِذِينَ وَالْمُحْتَالِينَ وَالدَّجَّالِينَ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَفِي بَعْضِ مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) : مَا يَعْمَلُ بِالْأَسْبَابِ الطَّبِيعَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْعَامِلِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَ مَنْ يَسْحَرُهُمْ بِهَا، وَمِنْهَا الزِّئْبَقُ الَّذِي قِيلَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَضَعُوهُ فِي حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ شَاءَ عُلَمَاءُ الطَّبِيعَةِ وَالْكِيمْيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يُجْلُوا أَنْفُسَهُمْ سَحَرَةً فِي بِلَادِ أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ الْهَمَجِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَاهِلَةِ الَّتِي يَرُوجُ فِيهَا السِّحْرُ الْعَتِيقُ لَأَرَوْهُمْ مِنْ عَجَائِبِ الْكَهْرَبَاءِ، وَغَيْرِهَا مَا يُخْضِعُونَهُمْ بِهِ لِعِبَادَتِهِمْ لَوِ ادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ، دَعْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ أَوِ الْوِلَايَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ السَّحَرَةُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْبِلَادِ عَلَى بَعْضِ السُّيَّاحِ الْغَرْبِيِّينَ لِيُرْهِبُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ، وَكَانُوا فِي مَكَانٍ بَارِدٍ، وَالْفَصْلُ شِتَاءٌ فَأَخَذَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ السُّيَّاحِ قِطْعَةً مِنَ الْجَلِيدِ وَجَعْلِهَا بِشَكْلٍ عَدَسِيٍّ بِقَدْرِ مَا يُرَى مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّنِي أَقْدِرُ بِهِ أَنْ أَجْعَلَ فِي يَدِي شَمْسًا كَشَمْسِ السَّمَاءِ ثُمَّ وَجَّهَ عَدَسَتَيْهِ إِلَى الشَّمْسِ

عِنْدَ بُزُوغِهَا، وَاكْتِمَالِ ضَوْئِهَا فَصَارَتْ بِانْعِكَاسِ النُّورِ بِهَا كَالشَّمْسِ لَمْ يَسْتَطِعِ السَّحَرَةُ أَنْ يُثَبِّتُوا نَظَرَهُمْ إِلَيْهَا فَخَضَعُوا لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَكَفُّوا شَرَّهُمْ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ. (النَّوْعُ الثَّانِي) : الشَّعْوَذَةُ الَّتِي مَدَارُ الْبَرَاعَةِ فِيهَا عَلَى خِفَّةِ الْيَدَيْنِ فِي إِخْفَاءِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَإِظْهَارِ بَعْضٍ، وَإِرَاءَةِ بَعْضِهَا بِغَيْرِ صُوَرِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْحَضَارَةِ بِكَثْرَةِ الْمُكْتَسِبِينَ بِهَا مِنَ الْوَطَنِيِّينَ وَالْغُرَبَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يُسَمِّيهَا سِحْرًا. (النَّوْعُ الثَّالِثُ) : مَا مَدَارُهُ عَلَى تَأْثِيرِ الْأَنْفُسِ ذَوَاتِ الْإِرَادَةِ الْقَوِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ الضَّعِيفَةِ ذَاتِ الْأَمْزِجَةِ الْعَصِيبَةِ الْقَابِلَةِ لِلْأَوْهَامِ وَالِانْفِعَالَاتِ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهِسْتِيرِيَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَهُ يَسْتَعِينُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَوْفَاقَ وَالطَّلْسَمَاتِ لِلْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ لِلْحُرُوفِ خَوَاصًّا وَتَأْثِيرَاتٍ ذَاتِيَّةً يَخْرُجُ عَمَلُ الْأَوْفَاقِ وَالنَّشَرَاتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ السِّحْرِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا اسْتُحْدِثَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ التَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ، وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ. وَمِمَّا سَبَقَ لَنَا بَيَانُهُ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْطِئَةُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ السِّحْرَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ الْجِنْسُ الْجَامِعُ لِمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ صِنَاعَةٌ تُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَبِالِاخْتِبَارِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَلِعُلَمَائِنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي السِّحْرِ بَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا كَلَامَ بَعْضِ كِبَارِ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، وَمِنْ أَخْصَرِهِ وَأَفَيْدِهِ قَوْلُ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ إِخْرَاجُ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ لِغَرِيبِ الْقُرْآنِ مَا نَصُّهُ: تَعْرِيفُ السِّحْرِ وَمَأْخَذُهُ مِنَ اللُّغَةِ: السَّحْرُ: طَرَفُ الْحُلْقُومِ وَالرِّئَةِ، وَقِيلَ: انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَبَعِيرٌ سَحْرٌ: عَظِيمُ السَّحْرِ، وَالسُّحَارَةُ (بِالضَّمِّ) : مَا يُنْزَعُ مِنَ السَّحْرِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَيَرْمِي بِهِ، وَجَعَلَ بِنَاءَهُ بِنَاءَ النِّفَايَةِ وَالسِّقَاطَةِ، وَقِيلَ: مِنْهُ اشْتُقَّ السِّحْرُ، وَهُوَ إِصَابَةُ السِّحْرِ، وَالسِّحْرُ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ. (الْأَوَّلُ) : خِدَاعٌ وَتَخْيِيلَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا نَحْوَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْبِذُ بِصَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَفْعَلُهُ لِخِفَّةِ يَدِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ النَّمَّامُ بِقَوْلٍ مُزَخْرَفٍ عَائِقٍ لِلْأَسْمَاعِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ (7: 116) وَقَالَ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ (20: 66)

وَبِهَذَا النَّظَرِ سَمُّوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاحِرًا فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ (43: 49) . (وَالثَّانِي) : اسْتِجْلَابُ مُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (26: 221، 222) وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (2: 102) . (وَالثَّالِثُ) مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْأَغْتَامُ، وَهُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ قُوَّتِهِ يُغَيِّرُ الصُّوَرَ وَالطَّبَائِعَ، فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، وَقَدْ تُصُوِّرَ مِنَ السِّحْرِ تَارَةً حُسْنُهُ فَقِيلَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا " وَتَارَةً دِقَّةُ فِعْلِهِ حَتَّى قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ وَسَمُّوا الْغِذَاءَ سِحْرًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُقُّ وَيَلْطُفُ تَأْثِيرُهُ اهـ. وَقَدْ عَقَدَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ عَلَى الرَّازِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْجَصَّاصِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَابًا خَاصًّا مِنْ تَفْسِيرِهِ الْجَلِيلِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) لِبَيَانِ مَعْنَى السِّحْرِ، وَحُكْمِ السَّاحِرِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعْلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (2: 102) قَالَ فِي أَوَّلِهِ: " الْوَاجِبُ أَنَّ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ نُعْقِبَهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحْرُ عِنْدَهُمْ بِالْفَتْحِ هُوَ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيَدٌ: أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ " قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ - وَالْآخَرُ: نُغَذَّى، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ، وَقَالَ آخَرُ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ " وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّحْرِ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ: الرِّئَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (26: 185) يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ وَيُسْقَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا (26: 186) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (25: 75) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ السِّحْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِطَاقَتِهَا وَرِقَّتِهَا، وَبِهَا مَعَ ذَلِكَ قِوَامُ الْإِنْسَانِ - فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ

ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ - وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ، وَتُخُيِّلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ، وَقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْتَدَحُ وَيُحْمَدُ، كَمَا رُوِيَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ". وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ رِوَايَتَهُ لِهَذَا الْحَدَثِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي زُهَاءِ وَرَقَةٍ كَبِيرَةٍ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ سِحْرَ سَحَرَةِ مُوسَى لِأَعْيُنِ النَّاسِ، وَتَخَيُّلَهُمْ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى، وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى، وَذَكَرَ مَا قِيلَ مِنْ حِيلَتِهِمْ فِي ذَلِكَ بِوَضْعِ الزِّئْبَقِ فِيهَا وَتَحْرِيكِ النَّارِ الْخَفِيَّةِ لِلزِّئْبَقِ فَكَانَ سَبَبَ حَرَكَتِهَا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُ قَرِيبًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً تَارِيخِيَّةً فِي أَصْلِ السِّحْرِ بِبَابِلَ، وَقَفَى عَلَيْهَا بِبَيَانِ أَنْوَاعِهِ فَقَالَ: كَلَامُ الْجَصَّاصِ فِي السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ. " وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، وَحُكْمَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّعَارُفِ وَالضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُنْتَحِلِيهِ، وَالْغَرَضُ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ مُدَّعُوهُ، فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقِ: إِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ (فَمِنْهَا سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ) الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ (2: 102) وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا، وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعَهُ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللهُ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى أَيَّامِ بِيُورَاسِبَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ، وَأَنَّ أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دَنْيَاوَنْدَ اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ، وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ، وَلَهُ قَصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ، وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْرِيدُونَ حَبَسَ بِيُورَاسِبَ فِي جَبَلِ دَنْيَاوَنْدَ الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ، وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَذَّرَنَاهُ، وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنِ الْمَجُوسِ، وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إِقْلِيمِ بَابِلَ لِلْفُرْسِ، فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا، وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ: الْمَاءَ، وَالنَّارَ، وَالْأَرْضَ، وَالْهَوَاءَ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ بِهَا قِوَامَ الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْمَجُوسِيَّةُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ كَشْتَاسِبَ حِينَ دَعَاهُ زَرَادُشْتُ فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شَرَائِطَ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بَابِلَ، وَلَمَّا ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى هَذِهِ الْإِقْلِيمِ كَانَتْ

تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وَإِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وَقَبْلَهُ إِلَى أَنْ زَالَ عَنْهُمُ الْمُلْكُ. " وَكَانَتْ عُلُومُ أَهْلِ بَابِلَ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمُ الْحِيَلَ وَالنِّيرَنْجَبَاتِ وَأَحْكَامَ النُّجُومِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانًا قَدْ عَلِمُوهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادَاتِهِمْ مِنْ مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ الْخَيْرِ أَوْ شَرٍّ، فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ الْمُشْتَرَى مِنَ الدَّخَنِ وَالرُّقَى وَالْعُقَدِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهَا، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ وَالْحَرْبِ وَالْمَوْتِ وَالْبَوَارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى زُحَلَ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ الْبَرْقَ وَالْحَرْقَ وَالطَّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى الْمِرِّيخِ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذَبْحِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، وَجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقَى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْظِيمِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضٍ فَيُعْطِيهِمْ مَا شَاءُوا مِنْ ذَلِكَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُلَامَسَةٍ سِوَى مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْقُرُبَاتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَمِنَ الْعَامَّةِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَعَادَهُ، وَيَرْكَبُ الْبَيْضَةَ وَالْمِكْنَسَةَ وَالْخَابِيَةَ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ يَمْضِي مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الْهِنْدِ وَإِلَى مَا شَاءَ مِنَ الْبُلْدَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ. " وَكَانَتْ عَوَامُّهُمْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى تَعْظِيمِهَا اعْتَقَدُوهُ، وَكَانَتِ السَّحَرَةُ تَحْتَالُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ، بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَبْلُغُ مَا يُرِيدُ إِلَّا مَنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ. " وَلَمْ تَكُنْ مُلُوكُهُمْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَتِ السَّحَرَةُ عِنْدَهَا بِالْمَحَلِّ الْأَجَلِّ لِمَا كَانَ لَهَا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنْ مَحَلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ؛ وَلِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ مَا تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ كَانُوا يَتَبَارُونَ بِالْعِلْمِ وَالسِّحْرِ وَالْحِيَلِ وَالْمَخَارِقِ؛ وَلِذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَصَا وَالْآيَاتِ الَّتِي عَلِمَتِ السَّحَرَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللهِ تَعَالَى، فَلَمَّا زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ، وَكَانَ مَنْ مَلَكَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ، كَانُوا يَدْعُونَ عَوَامَّ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ سِرًّا كَمَا يَفْعَلُهُ السَّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْأَحْدَاثِ الْأَغْمَارِ وَالْجُهَّالِ الْحَشْوِ. وَكَانُوا يَدْعُونَ مَنْ يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِصِحَّتِهِ، وَالْمُصَدِّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهُمَا) : التَّصْدِيقُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً. (وَالثَّانِي) : اعْتِرَافُهُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَقْدِرُ عَلَى ضَرِّهِ وَنَفْعِهِ. (وَالثَّالِثُ) : أَنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلَى

مِثْلِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنَانِ لِلنَّاسِ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعُونَ، وَبُطْلَانَ مَا يَذْكُرُونَ، وَيَكْشِفَانِ لَهُمْ مَا بِهِ يُمَوِّهُونَ، وَيُخْبِرَانِهِمْ بِمَعَانِي تِلْكَ الرُّقَى، وَأَنَّهَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ، بِحِيَلِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى التَّمْوِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَيُظْهِرَانِ لَهُمْ حَقَائِقَهَا، وَيَنْهَيَانِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، بِقَوْلِهِمَا لَهُمْ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ (2: 102) فَهَذَا أَصْلُ سِحْرِ بَابِلَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، وَيُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَيَعْزُونَهُا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ؛ لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنْهَا وَيُسَلِّمَهَا لَهُمْ. " فَمِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي مَظْهَرُهَا عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا، فَمِنْهَا مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا وَظُهُورِهَا، وَمِنْهَا مَا يَخْفَى وَيَلْطُفُ وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَى بَاطِنِهِ إِلَّا مَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَغَامِضٍ، فَالْجَلِيُّ مِنْهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَالْغَامِضُ الْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُهُ، وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَتَهُ وَتَكَلَّفَ فِعْلَهُ وَالْبَحْثَ عَنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا يَتَخَيَّلُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ إِذَا سَارَتْ فِي النَّهْرِ فَيَرَى أَنَّ الشَّطَّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّخْلِ وَالْبُنْيَانِ سَائِرٌ مَعَهُ، وَكَمَا يَرَى الْقَمَرَ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ فِي مَهَبِّ الْجَنُوبِ، وَكَدَوَرَانِ الدَّوَّامَةِ فِيهَا الشَّامَةُ فَيَرَاهَا كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ فِي أَرْجَائِهَا، وَكَذَلِكَ يَرَى هَذَا فِي الرَّحَى إِذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوَرَانِ، وَكَالْعُودِ فِي طَرَفِهِ الْجَمْرَةُ إِذَا أَدَارَهُ مُدِيرُهُ رَأَى تِلْكَ النَّارَ الَّتِي فِي طَرَفِهِ كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ، وَكَالْعِنَبَةِ الَّتِي يَرَاهَا فِي قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ كَالْخَوْخَةِ وَالْإِجَّاصَةِ عَظْمًا، وَكَالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَرَاهُ فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا جَسِيمًا، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ، وَكَمَا يُرَى الْمَرْئِيُّ فِي الْمَاءِ مُنْكَسِرًا أَوْ مُعْوَجًّا، وَكَمَا يُرَى الْخَاتَمُ إِذَا قَرَّبْتَهُ مِنْ عَيْنِكَ فِي سَعَةِ حَلْقَةِ السُّوَارِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا فَيَعْرِفُهَا عَامَّةُ النَّاسِ. " وَمِنْهَا مَا يَلْطُفُ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ تَعَاطَاهُ وَتَأَمَّلَهُ كَخَيْطِ السُّحَارَةِ الَّذِي يَخْرُجُ مَرَّةً أَحْمَرَ وَمَرَّةً أَصْفَرَ وَمَرَّةً أَسْوَدَ، وَمِنْ لَطِيفِ ذَلِكَ وَدَقِيقِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنْ جِهَةِ الْحَرَكَاتِ وَإِظْهَارِ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يُرِيَانِ عَصْفُورًا مَعَهُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَهُ ثُمَّ يُرِيكَهُ، وَقَدْ طَارَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَإِبَانَةِ رَأْسِهِ وَذَلِكَ لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، وَالْمَذْبُوحُ غَيْرُ الَّذِي طَارَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ قَدْ خَبَّأَ أَحَدَهُمَا وَأَظْهَرَ الْآخَرَ، وَيُخَبَّأُ لِخِفَّةِ الْحَرَكَةِ الْمَذْبُوحُ، وَيُظْهَرُ الَّذِي نَظِيرُهُ، وَيُظْهَرُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ إِنْسَانًا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَعَ سَيْفًا مَعَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةٌ. " وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحَرَكَاتِ لِلصُّوَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ

فَيَرَى فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَنْصَرِفُ بِحِيَلٍ قَدْ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، وَكَفَارِسٍ مِنْ صُفْرٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَلَا يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ. " وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُنْدِ خَرَجَ بِبَعْضِ نَوَاحِي الشَّامِ مُتَصَيِّدًا، وَمَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وَغُلَامٌ فَرَأَى ثَعْلَبًا فَأَغْرَى بِهِ الْكَلْبَ، فَدَخَلَ الثَّعْلَبُ ثُقْبًا فِي تَلٍّ هُنَاكَ، وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَأَمَرَ الْغُلَامَ أَنْ يَدْخُلَ فَدَخَلَ، وَانْتَظَرَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَوَقَفَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِ الثَّعْلَبِ وَالْكَلْبِ وَالْغُلَامِ، وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجْ، وَأَنَّهُ مُتَأَهِّبٌ لِلدُّخُولِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ إِلَى هُنَاكَ فَمَضَيَا إِلَى سِرْبٍ طَوِيلٍ حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا إِلَى بَيْتٍ قَدْ فُتِحَ لَهُ ضَوْءٌ مِنْ مَوْضِعٍ يَنْزِلُ إِلَيْهِ بِمِرْقَاتَيْنِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى الْمِرْقَاةِ الْأُولَى حَتَّى أَضَاءَ الْبَيْتَ حِينًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَنَظَرَ فَإِذَا الْكَلْبُ وَالْغُلَامُ وَالثَّعْلَبُ قَتْلَى، وَإِذَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ رَجُلٌ وَاقِفٌ مُقْنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَرَى هَذَا؟ لَوْ دَخَلَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَدْخَلَ أَلْفُ رَجُلٍ لَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ رُتِّبَ وَهُنْدِمَ عَلَى هَيْئَةٍ، مَتَى وَضَعَ الْإِنْسَانُ رِجْلَهُ عَلَى الْمِرْقَاةِ الثَّانِيَةِ لِلنُّزُولِ تَقَدَّمَ الرَّجُلُ الْمَعْمُولُ فِي الصَّدْرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلَ إِلَيْهِ، فَإِنْ وَصَلْتَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَمْ يَتَحَرَّكْ، فَاسْتَأْجَرَ الْجُنْدِيُّ أُجَرَاءَ وَصُنَّاعًا حَتَّى حَفَرُوا سِرْدَابًا مَنْ خَلْفِ التَّلِّ فَأَفْضُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَإِذَا رَجُلٌ مَعْمُولٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ أُلْبِسَ السِّلَاحَ وَأُعْطِيَ السَّيْفَ، فَقَلَعَهُ، وَرَأَى بَابًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ قَبْرٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مَيِّتٍ عَلَى سَرِيرٍ هُنَاكَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. " وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا مُصَوِّرُو الرُّومِ وَالْهِنْدِ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهَا صُورَةٌ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهَا إِنْسَانٌ، وَحَتَّى تُصَوِّرَهَا ضَاحِكَةً أَوْ بَاكِيَةً، وَحَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ الضَّحِكِ مِنَ الْخَجَلِ وَالسُّرُورِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ. " فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ التَّخَايِيلِ وَخَفْيِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ جَلِيِّهَا، وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حِيَلِهِمْ فِي الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَسِحْرِهِمْ، وَوُجُوهُ حِيَلِهِمْ بَعْضُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، وَبَعْضُهُ وَجَدْنَاهُ فِي كُتُبٍ قَدْ نُقِلَتْ حَدِيثًا مِنَ النَّبَطِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، مِنْهَا كِتَابٌ فِي ذِكْرِ سِحْرِهِمْ وَأَصْنَافِهِ وَوُجُوهِهِ، وَكُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُرْبَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَتَعْظِيمِهَا، وَخُرَافَاتٍ مَعَهَا لَا تُسَاوِي ذِكْرَهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا.

(وَضَرْبٌ آخَرَ) مِنَ السِّحْرِ، وَهُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ حَدِيثِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَطَاعَتِهِمْ لَهُمْ بِالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ، وَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْدِمَةِ أُمُورٍ، وَمُوَاطَأَةِ قَوْمٍ قَدْ أَعَدُّوهُمْ لِذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ يَجْرِي أَمْرُ الْكُهَّانِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ مَخَارِيقِ الْحَلَّاجِ مِنْ بَابِ الْمُوَاطَآتِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَا يَحْتَمِلُ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ لَذَكَرْتُ مِنْهَا مَا يُوقَفُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخَارِيقِ أَمْثَالِهِ وَضَرَرِ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ، وَفِتْنَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ غَيْرُ يَسِيرٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَابِ أَنَّ الْجِنَّ إِنَّمَا تُطِيعُهُمْ بِالرُّقَى الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءُوا، وَيُخْرِجُونَ الْجِنَّ لِمَنْ شَاءُوا، فَتُصَدِّقُهُمُ الْعَامَّةُ عَلَى اغْتِرَارٍ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ انْقِيَادِ الْجِنِّ لَهُمْ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَتْ تُطِيعُ بِهَا سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِالْخَبَايَا، وَبِالسَّرَقِ. " وَقَدْ كَانَ الْمُعْتَضِدُ بِاللهِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ اغْتَرَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِنِسَائِهِ وَأَهْلِهِ شَخْصٌ فِي يَدِهِ سَيْفٌ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُهُ وَقْتَ الظُّهْرِ، فَإِذَا طُلِبَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ، وَقَدْ رَآهُ هُوَ بِعَيْنِهِ مِرَارًا، فَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، وَدَعَا بِالْمُعَزَّمِينَ فَحَضَرَا وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَجَانِينَ وَأَصِحَّاءَ، فَأَمَرَ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ فَعَزَمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فَجُنَّ وَتَخَبَّطَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْحِذْقِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إِذْ أَطَاعَتْهُ الْجِنُّ فِي تَخْبِيطِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْمُعَزِّمُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى عَزَمَ عَلَيْهِ جَنَّنَ نَفْسَهُ وَخَبَطَ، فَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَقَامَتْ نَفْسُهُ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، إِلَّا أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الشَّخْصِ الَّذِي يَظْهَرُ

فِي دَارِهِ فَمَخْرَقُوا عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ عَلَّقُوا قَلْبَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ؛ فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَضَرَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ تَحَرَّزَ الْمُعْتَضِدُ بِغَايَةِ مَا أَمْكَنَهُ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنْ سُورِ الدَّارِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ مِنْ تَسَلُّقٍ وَنَحْوِهِ، وَبُطِحَتْ فِي أَعْلَى السُّورِ خَرَابٌ لِئَلَّا يُحْتَالَ بِإِلْقَاءِ الْمَعَالِيقِ الَّتِي يَحْتَالُ بِهَا اللُّصُوصُ. " ثُمَّ لَمْ يُوقَفْ لِذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى خَبَرٍ إِلَّا ظُهُورَهُ لَهُ الْوَقْتَ بَعْدَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ، وَهَذِهِ الْخَوَابِي الْمَبْطُوحَةُ عَلَى السُّورِ، وَقَدْ رَأَيْتُهَا عَلَى سُورِ الثُّرَيَّا الَّتِي بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فَسَأَلْتُ صَدِيقًا لِي كَانَ قَدْ حَجَبَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللهِ عَنْ أَمْرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَهَلْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُ؟ فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ لَمْ يُوقَفْ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ خَادِمًا أَبْيَضَ يُسَمَّى (يَقَقَ) وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى بَعْضِ الْجَوَارِي اللَّاتِي فِي دَاخِلِ دُورِ الْحَرِيمِ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَانَ إِذَا لَبِسَ بَعْضَ تِلْكَ اللِّحَى لَا يَشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا لِحْيَتُهُ، وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِحْيَةً مِنْهَا، وَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِ يَدِهِ سَيْفٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ السِّلَاحِ حَيْثُ يَقَعُ نَظَرُ الْمُعْتَضِدُ، فَإِذَا طُلِبَ دَخَلَ بَيْنَ الشَّجَرِ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ أَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَمَرَّاتِ أَوِ الْعَطَفَاتِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِ طَالِبِيهِ نَزَعَ اللِّحْيَةَ جَعَلَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ حُزَّتِهِ، وَيَبْقَى السِّلَاحُ مَعَهُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْخَدَمِ الطَّالِبِينَ لِلشَّخْصِ، وَلَا يَرْتَابُونَ بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ: هَلْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ أَحَدًا، فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهُ صَارَ إِلَيْهَا؟ فَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَكَانَ إِذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفَزَعِ فِي الدَّارِ خَرَجَتِ الْجَوَارِي مِنْ دَاخِلِ الدُّورِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَرَى هُوَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ وَيُخَاطِبُهَا بِمَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ مُشَاهَدَةَ الْجَارِيَةِ وَكَلَامَهَا، لَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبَهُ إِلَى أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَصَارَ إِلَى طَرْطُوسَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ وَتَحَدَّثَتِ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ، وَوُقِفَ عَلَى احْتِيَالِهِ، فَهَذَا خَادِمٌ قَدِ احْتَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ لَهَا أَحَدٌ مِنْ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْمُعْتَضِدِ بِهَا، وَأَعْيَاهُ مَعْرِفَتُهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَكُنْ صِنَاعَتُهُ الْحِيَلَ وَالْمَخَارِيقَ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ قَدْ جَعَلَ هَذَا صِنَاعَةً وَمَعَاشًا؟ (وَضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ) وَهُوَ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ بِهَا وَالْبَلَاغَاتِ وَالْإِفْسَادِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وَذَلِكَ عَامٌّ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَرَادَتْ إِفْسَادَ مَا بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فَسَارَتْ إِلَى الزَّوْجَةِ فَقَالَتْ لَهَا: إِنَّ زَوْجَكِ مُعْرِضٌ عَنْكِ وَقَدْ سُحِرَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنْكِ، وَسَأَسْحَرُهُ لَكِ حَتَّى لَا يُرِيدَ غَيْرَكِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَى سِوَاكِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ شَعْرِ حَلْقِهِ بِالْمُوسَى ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ إِذَا نَامَ وَتُعْطِينِيهَا فَإِنَّ بِهَا يَتِمُّ

الْأَمْرُ، فَاغْتَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا وَصَدَّقَتْهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الرَّجُلِ وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتَكَ قَدْ عَلَّقَتْ رَجُلًا، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى قَتْلِكَ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا فَأَشْفَقْتُ عَلَيْكَ، وَلَزِمَنِي نُصْحُكَ فَتَيَقَّظْ وَلَا تَغْتَرَّ، فَإِنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْمُوسَى، وَسَتَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهَا فَمَا فِي أَمْرِهَا شَكٌّ، فَتَنَاوَمَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا ظَنَّتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ عَمَدَتْ إِلَى مُوسَى حَادٍّ، وَأَهْوَتْ بِهِ لِتَحْلِقَ مِنْ حَلْقِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ فَرَآهَا، وَقَدْ أَهَوَتْ بِالْمُوسَى إِلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهَا أَرَادَتْ قَتْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا وَقُتِلَ، وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى. (وَضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ) وَهُوَ الِاحْتِيَالُ فِي إِطْعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلَّدَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالدُّخْنِ الْمُسْدِرَةِ السَّكْرَةِ، نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا طَعِمَهُ إِنْسَانٌ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ، وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ مَعَ أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ، وَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي طَعَامٍ حَتَّى يَأْكُلَهُ فَتَذْهَبَ فِطْنَتُهُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مِمَّا لَوْ كَانَ تَامَّ الْفِطْنَةِ لَأَنْكَرَهَا، فَيَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ مَسْحُورٌ. " وَحِكْمَةٌ كَافِيَةٌ تُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ " مَخَارِيقُ وَحِيَلٌ لِمَا يَدَّعُونَ لَهَا أَنَّ السَّاحِرَ وَالْمُعَزِّمَ لَوْ قَدَرَا عَلَى مَا يَدَّعِيَانِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَدَّعُونَ، وَأَمْكَنَهُمَا الطَّيَرَانُ وَالْعِلْمُ بِالْغُيُوبِ وَأَخْبَارِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْخَبِيئَاتِ وَالسَّرَقِ، وَالْإِضْرَارُ بِالنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَقَدَرُوا عَلَى إِزَالَةِ الْمَمَالِكِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ، وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْبُلْدَانِ بِقَتْلِ الْمُلُوكِ بِحَيْثُ لَا يَبْدَؤُهُمْ مَكْرُوهٌ، وَلَمَا مَسَّهُمُ السُّوءُ، وَلَامْتَنَعُوا مِمَّنْ قَصَدَهُمْ بِمَكْرُوهٍ، وَلَاسَتَغْنَوْا عَنِ الطَّلَبِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ أَسْوَأَ النَّاسِ حَالًا، وَأَكْثَرَهُمْ طَمَعًا وَاخْتِيَالًا وَتَوَاصُلًا لِأَخْذِ دَرَاهِمِ النَّاسِ، وَأَظْهَرَهُمْ فَقْرًا وَإِمْلَاقًا. عَلِمْتَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. " وَرُؤَسَاءُ الْحَشْوِ وَالْجُهَّالُ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ لِدَعْوَةِ السَّحَرَةِ وَالْمُعَزِّمِينَ، وَأَشَدِّهِمْ نَكِيرًا عَلَى مَنْ جَحَدَهَا، وَيَرَوْنَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا مُفْتَعَلَةً مُتَخَرِّصَةً يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا، كَالْحَدِيثِ الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُكِ؟ قَالَتْ: سِرْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ السِّحْرِ، فَقَالَا لِي: يَا أَمَةَ اللهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَأَبَيْتُ، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ، فَذَهَبْتُ لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْتُ: لَا فَعَلْتُ، وَجِئْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: مَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَا: مَا فَعَلْتِ، اذْهَبِي فَبُولِي عَلَيْهِ، فَذَهَبْتُ وَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرَجِي مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ حَتَّى صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ عَنْكِ

وَقَدْ أَحْسَنْتُ السِّحْرَ، فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَا: لَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِينَهُ فِي وَهْمِكِ إِلَّا كَانَ، فَصَوَّرْتُ فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَإِذَا أَنَا بِالْحَبِّ، فَقُلْتُ لَهُ: انْزَرِعْ، فَانْزَرَعَ وَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبُلًا، فَقُلْتُ لَهُ: انْطَحِنْ وَانْخَبِزْ إِلَى آخِرِ الْأَمْرِ حَتَّى صَارَ خُبْزًا، وَإِلَى كُنْتُ لَا أُصَوِّرُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَيْسَتْ لَكِ تَوْبَةٌ. " فَيَرْوِي الْقُصَّاصُ وَالْمُحَدِّثُونَ الْجُهَّالُ مِثْلَ هَذَا لِلْعَامَّةِ فَتُصَدِّقُهُ وَتَسْتَعِيدُهُ وَتَسْأَلُ بَعْضَهُمْ أَنْ يُحَدِّثَهَا بِحَدِيثِ سَاحِرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَيَقُولُ لَهَا: إِنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ أَخَذَ سَاحِرَةً فَأَقَرَّتْ لَهُ بِالسِّحْرِ فَدَعَا الْفُقَهَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حُكْمِهَا فَقَالُوا: الْقَتْلُ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: لَسْتُ أَقْتُلُهَا إِلَّا تَغْرِيقًا، قَالَ: فَأَخَذَ رَحَى الْبِزْرِ فَشَدَّهَا فِي رِجْلِهَا، وَقَذَفَهَا فِي الْفُرَاتِ فَقَامَتْ فَوْقَ الْمَاءِ مَعَ الْحَجَرِ تَنْحَدِرُ مَعَ الْمَاءِ فَخَافَا أَنْ تَفُوتَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: مَنْ يُمْسِكُهَا وَلَهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَرَغِبَ رَجُلٌ مِنَ السَّحَرَةِ كَانَ حَاضِرًا فِيمَا بَذَلَهُ، فَقَالَ: أَعْطُونِي قَدَحَ زُجَاجٍ فِيهِ مَاءٌ، فَجَاءُوهُ بِهِ فَقَعَدَ عَلَى الْقَدَحِ، وَمَضَى إِلَى الْحَجَرِ فَشَقَّ الْحَجَرَ بِالْقَدَحِ فَتَقَطَّعَ الْحَجَرُ قِطْعَةً قِطْعَةً فَغَرَقَتِ السَّاحِرَةُ - فَيُصَدِّقُونَهُ، وَمَنْ صَدَّقَ هَذَا فَلَيْسَ يَعْرِفُ النُّبُوَّةَ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا سَحَرَةً، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (20: 69) . وَقَدْ أَجَازُوا مِنْ فِعْلِ السَّاحِرِ مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ هَذَا وَأَفْظَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِيهِ: " إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ، وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ " وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَمِشْطٍ وَمُشَاقَةٍ حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ، وَهُوَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ فَاسْتُخْرِجَ، وَزَالَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ الْعَارِضُ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُكَذِّبًا لِلْكُفَّارِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتْبَعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (25: 8) وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ وَضْعِ الْمُلْحِدِينَ تَلَعُّبًا بِالْحَشْوِ وَالطَّغَامِ، وَاسْتِجْرَارًا لَهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْقَدْحِ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِعْلِ السَّحَرَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَجْمَعُ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِثْبَاتِ مُعْجِزَاتِهِمْ، وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (20: 69) فَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ مَنْ كَذَّبَهُ اللهُ وَأَخْبَرَ

بِبُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَانْتِحَالِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ بِجَهْلِهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي الْأَجْسَادِ، وَقَصَدَتْ بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَوْضِعِ سِرِّهَا، وَأَظْهَرَ جَهْلَهَا فِيمَا ارْتَكَبَتْ وَظَنَّتْ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ ضَرَّهُ، وَخَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الرُّوَاةِ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظُ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ. " وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّخْيِيلَاتِ، أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هِيَ عَلَى حَقَائِقِهَا وَبَوَاطِنِهَا كَظَهَائِرِهَا، وَكُلَّمَا تَأَمَّلْتَهَا ازْدَدْتَ بَصِيرَةً فِي صِحَّتِهَا، وَلَوْ جَهِدَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى مُضَاهَاتِهَا وَمُقَابَلَتِهَا بِأَمْثَالِهَا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ، وَمَخَارِيقُ السَّحَرَةِ وَتَخْيِيلَاتُهُمْ إِنَّمَا هِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْحِيلَةِ وَالتَّلَطُّفِ؛ لِإِظْهَارِ أُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغَ غَيْرِهِ، وَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ سَوَاءً " اهـ. هَذَا جُلُّ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي مَعْنَى السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ، وَعَقَدَ بَعْدَهُ بَابًا فِي ذِكْرِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِ، وَمَا يَجْرِي عَلَى مُدَّعِي ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. وَمِنْهَا الْقَتْلُ كُفْرًا فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلشِّرْكِ وَالْمُسْتَلْزِمَةِ لِلرَّيْبِ فِي مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنِّ، وَاسْتِخْدَامِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ يَتَوَسَّلُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْجِنِّ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ قَطْعًا، كَرَابِطِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى السَّوْأَتَيْنِ كَمَا عَلِمْتُ مِنْ بَعْضِ الْمُخْتَبِرِينَ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ بِكِتَابَةِ الْعَزَائِمِ وَالْحُجُبِ لِلْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَبَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَفَاسِدُ فِي ذَلِكَ كَبِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (7: 27) .

عَوْدٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ لَمَّا أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَيْ: أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَأَرْكَانُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ أَيْ: رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ - كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ عَلِيمٍ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أَيْ: قَدْ وَجَّهَ إِرَادَتَهُ لِسَلْبِ مُلْكِكُمْ مِنْكُمْ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ بِأَنْ يَسْتَمِيلَ بِهِ الشَّعْبَ الْمِصْرِيَّ، فَيَتْبَعَهُ فَيَنْتَزِعَ مِنْكُمُ الْمُلْكَ، وَيَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَكُمْ، وَيَلِي ذَلِكَ إِخْرَاجُ الْمَلِكِ وَعُظَمَاءِ رِجَالِهِ مِنَ الْبِلَادِ لِئَلَّا يُنَاوِئُوهُ لِاسْتِعَادَةِ الْمُلْكِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ مُتَغَلِّبَةُ التُّرْكِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوا جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنَ الْبِلَادِ التُّرْكِيَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُمْ. وَفِي مَعْنَى الْقَوْلِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ مَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ مُرَاجَعَتِهِمْ لِمُوسَى وَأَخِيهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (10: 78) . وَمَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا تَبَعًا لِقَوْلِهِ هُوَ، الَّذِي حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (26: 34، 35) أَيْ: رَدَّدُوا قَوْلَهُ، وَصَارَ يُلْقِيهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نَقْلِ كَلَامِ مُلُوكِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ وَتَرْدِيدِهِ إِظْهَارًا لِلْمُوَافَقَةِ عَلَيْهِ وَتَعْمِيمًا لِتَبْلِيغِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِكَلِمَةِ " بِسِحْرِهِ " كَمَا صَرَّحَ هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَهُ خَوْفًا وَانْزِعَاجًا، وَأَقَلَّ مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الطَّعْنِ فِي دَعْوَةِ مُوسَى، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا السَّحَرَةُ فِي تَنَاجِيهِمْ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ أَجْدَرُ بِذِكْرِهَا فَحَكَاهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ طَهَ: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (20: 62 - 64) . وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ لَيْسَ هُوَ الْمُقَابِلَ لِلنَّهْيِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِدْلَاءِ بِالرَّأْيِ فِي الشُّورَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ: وَتَآمَرَ الْقَوْمُ وَائْتَمَرُوا، مِثْلَ تَشَاوَرُوا وَاشْتَوَرُوا. وَمُرْنِي بِمَعْنَى أَشِرْ عَلَيَّ. قَالَ بَعْضُ فُتَّاكِهِمْ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي لَا أَقُولُ لِصَاحِبٍ إِذَا قَالَ مُرْنِي - أَنْتَ مَا شِئْتَ فَافْعَلِ وَلَكَنَّنِي أَفْرِي لَهُ فَأُرِيحُهُ بِبَزْلَاءَ تُنْجِيهِ مِنَ الشَّكِّ فَيْصَلِ وَقَالَ فِي مَادَّةِ (ب ز ل) وَمِنَ الْمَجَازِ: بَزَلَ الْأَمْرَ وَالرَّأْيَ: اسْتَحْكَمَ، وَأَمْرٌ بَازِلٌ، وَتَقُولُ: خَطْبٌ بَازِلٌ، لَا يَكْفِيهِ إِلَّا رَأْيٌ قَارِحٌ، وَإِنَّهُ لَذُو بَزْلَاءَ؛ أَيْ: ذُو صُرَيْمَةٍ مُحْكَمَةٍ، وَهُوَ نَهَّاضٌ بِبَزْلَاءَ؛ أَيْ: بِخُطَّةٍ عَظِيمَةٍ قَالَ: إِنِّي إِذَا شَغَلَتْ قَوْمًا فُرُوجُهُمْ ... رَحْبُ الْمَسَالِكِ نِهَاضٌ بَبَزْلَاءَ

111

(أَقُولُ) : وَمَعْنَى بَيْتَيِ الْفَاتِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا اسْتَشَارَهُ فَقَالَ لَهُ: مُرْنِي - أَيْ أَشِرْ عَلَيَّ - لَا يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ مَا تَشَاءُ إِعْرَاضًا عَنْ نُصْحِهِ أَوْ عَجْزًا مِنْهُ، بَلْ يَفْرِي؛ أَيْ: يَقْطَعُ لَهُ الرَّأْيَ الْمُحْكَمَ بِخُطَّةٍ بَزْلَاءَ؛ أَيْ: قَوِيمَةٍ مُحْكَمَةٍ، تُخْرِجُهُ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَتَكُونُ فَيْصَلًا؛ أَيْ: فَاصِلَةً بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَالْبَزْلَاءُ وَبُزُولُ الْأَمْرِ وَالرَّأْيِ مَأْخُوذٌ مِنْ بُزُولِ نَابِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَنْشَقَّ وَيَخْرُجَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ فَهُوَ بَازِلٌ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا لَقَبَ الْبَازِلِ عَلَى الرَّجُلِ الْقَوِيِّ الْمُحْكَمِ التَّجْرِبَةِ. قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ أَيْ: قَالَ الْمَلَأُ لِفِرْعَوْنَ حِينَ اسْتَشَارَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ أَرْجِهْ؛ أَيْ: أَرْجِئْ وَأَخِّرْ أَمْرَهُ وَأَمْرَ أَخِيهِ، وَلَا تَفْصِلْ فِيهِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَرْسِلْ فِي مَدَائِنِ مُلْكِكَ رِجَالًا أَوْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الشُّرْطَةِ وَالْجُنْدِ حَاشِرِينَ؛ أَيْ: جَامِعِينَ سَائِقِينَ لِلسَّحَرَةِ مِنْهَا - فَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ وَالسَّوْقُ - وَإِنَّمَا يُوجَدُ السَّحَرَةُ فِي الْمَدَائِنِ الْجَامِعَةِ الْآهِلَةِ بِدُورِ الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَإِنْ تُرْسِلْهُمْ: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ بِفُنُونِ السِّحْرِ مَاهِرٍ فِيهَا، وَهُمْ يَكْشِفُونَ لَكَ كُنْهَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فَلَا يَفْتَتِنُ بِهِ أَحَدٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (سَاحِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هُنَا، وَفِي يُونُسَ (سَحَّارٍ) بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لَهُ، وَجَاءَ ذَلِكَ بِالْإِمَالَةِ وَعَدِمَهَا، وَبِهَا قَرَأَ الْجَمِيعُ فِي الشُّعَرَاءِ، وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ هَكَذَا (سحر) لِيَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَوَجْهُهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ كُلَّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فِي مَدَائِنِ الْبِلَادِ خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمَهَرَةَ الْمُتَمَرِّنِينَ فِي السِّحْرِ الْمُكْثِرِينَ مِنْهُ - أَوْ أَنَّ بَعْضَ

113

مَلَئِهِ طَلَبَ هَؤُلَاءِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِإِتْيَانِ مُوسَى بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ (20: 57، 58) وَطَلَبَ آخَرُونَ حَشْرَ جَمِيعِ السَّحَرَةِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَعَلَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ الْمُقِلِّينَ مِنَ السِّحْرِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمُكْثِرِينَ مِنْهُ - فَبَيَّنَتِ الْقِرَاءَتَانِ كُلَّ مَا قِيلَ مَعَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ. وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ أَيْ: وَجَاءَ فِرْعَوْنَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ لَهُ أَعْوَانُهُ وَشُرْطَتُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَلَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ عَدَدَهُمْ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا رُوِيَ فِيهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ عَشَرَاتُ الْأُلُوفِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا عِنْدَنَا، وَلَا فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لِفِرْعَوْنَ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا عَظِيمًا يُكَافِئُ مَا يُطْلَبُ مِنَّا مِنَ الْعَمَلِ الْعَظِيمِ إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ لِمُوسَى، ذُكِرَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَنَّهُ جَوَابُ سَائِلٍ مَاذَا قَالُوا؟ وَجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ (26: 41) وَهُوَ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْإِخْبَارِ الدَّالِّ عَلَى إِيجَابِ الْأَجْرِ، وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْمُخْتَارُ لِيُوَافِقَ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ بِإِثْبَاتِهَا هُنَا وَهُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا: نَعَمْ؛ إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا

114

عَظِيمًا وَإِنَّكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْمَالِيِّ وَالْمَادِّيِّ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ جَانِبِنَا السَّامِي، فَيَجْتَمِعُ لَكُمُ الْمَالُ وَالْجَاهُ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى الدُّنْيَا وَمَجْدِهَا، أَكَّدَ لَهُمْ نَيْلَ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا زَادَهُمْ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ؛ لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَخَوْفِهِمْ مِنْ عَاقِبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: نَعَمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا؛ لَأَفَادَ إِجَابَةَ طَلَبِهِمْ، وَلَوْ قَالَ فِي مِنْحَةِ الْقُرْبَى: وَتَكُونُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، لَكَفَى، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِـ (إِنَّ) وَبِتَحْلِيَةِ الْخَبَرِ بِاللَّامِ، وَبِعَطْفِ التَّلْقِينِ؛ أَيْ عَطْفِ: " وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَرْفُ الْإِيجَابِ " نَعَمْ " وَهِيَ " إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا " الْحَالَةُ وَهِيَ كَوْنُكُمْ أَنْتُمُ الْغَالِبِينَ دُونَ مُوسَى لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (26: 42) وَحَذْفُهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهَا مَرَّةً دُونَ أُخْرَى فَأَفَادَ أَنَّهُ كَرَّرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ وَالْوَعْدَ وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ آخَرُ. قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَنَظَائِرِهِ؛ أَيْ: قَالَ الْسَّحَرَةُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ مَا وَعَدَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا عِنْدَكَ أَوَّلًا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لِمَا عِنْدَنَا مِنْ دُونِكَ، أَمَّا تَخْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ فَلِثِقَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِدَادِهِمْ بِسِحْرِهِمْ، وَإِرْهَابًا لَهُ، وَإِظْهَارًا لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَكُونُ أَبْصَرَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ بَعْدَ وُقُوفِهِ عَلَى مُنْتَهَى شَوْطِ خَصْمِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ التَّخْيِيرِ مُرَاعَاةُ الْأَدَبِ لَا وَجْهَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ مَقَامُهُمْ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمُ الَّذِي يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ فِيهِمْ، وَمَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ - كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَحْتَقِرُوا خَصْمَهُ لَا أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ إِذَا تَلَاقَوْا لِلْمُبَارَاةِ، وَهُوَ مَا وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهِ التَّعْلِيلَ، وَمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عِلَّتَهُ إِظْهَارُ التَّجَلُّدِ فَضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَرَوْا مِنْ مُوسَى شَيْئًا بِأَعْيُنِهِمْ يَقْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا أَنَّهُ أَلْقَى عَصَاهُ بِحَضْرَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا فَاسْتَعَدُّوا لِمُقَابَلَتِهِ بِعِصِيٍّ وَحِبَالٍ كَثِيرَةٍ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ وَإِلَى كُلِّ نَاظِرٍ أَنَّهَا ثَعَابِينُ تَسْعَى فَيُبْطِلُونَ سِحْرَهُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ مَلِكُهُمْ: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ (20: 58) . وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ عَنْ إِلْقَائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي الْبَدْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ تَغْيِيرُهُمْ لِلنَّظْمِ بِتَعْرِيفِ الْخَبَرِ وَتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ " نَحْنُ " وَتَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بِهِ، وَفِي سُورَةِ طَهَ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (20: 65) وَفِيهِ مِنَ التَّوْكِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي صَرَّحُوا بِذِكْرِهَا هُنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِجَعْلِ الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ " ثَالِثُهَا " وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّهُ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فِيمَا لَا يَخِلُّ بِأَدَاءِ الْمَعْنَى، وَلَا يُنَافِي الْبَلَاغَةَ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَزِيدَ تَفَنُّنٍ قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيَةَ دَقَائِقِ الْمَعْنَى مُكَرَّرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مُنْتَهَى الْعُسْرِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، فَلَوْ لَمْ يُؤَكَّدِ

116

الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ هَاهُنَا بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ " نَحْنُ " لَمَا أَفَادَ مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي أَوَّلِيَّةِ الْإِلْقَاءِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي سُورَةِ طَهَ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي وَحَّدَ بَيْنَهُمَا بِجَعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى رَغْبَةِ السَّحَرَةِ فِي التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَأَيُّ خَطِيبٍ أَوْ كَاتِبٍ يَقْدِرُ عَلَى إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِأُسْلُوبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ، وَأَيُّ مُتَرْجِمٍ تُرْكِيٍّ أَوْ إِفْرِنْجِيٍّ يَفْقَهُ هَذَا وَيُؤَدِّيهِ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ؟ قَالَ أَلْقُوا وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا (20: 66) وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَبْقِهِمْ لِلْإِلْقَاءِ، وَلَعَلَّهُ نَطَقَ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ الْإِضْرَابُ فَقَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ مِنْ دُونِي ثُمَّ أَعَادَ كَلِمَةً (أَلْقُوا) وَحْدَهَا؛ لِتَأْكِيدِ رَغْبَتِهِ، وَالْإِيذَانِ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ، وَفِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَظْهَرَ اسْمَ مُوسَى الَّذِي أَضْمَرَهُ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طَهَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِخِطَابِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِهِ بِالتَّخْيِيرِ، فَالْمَقَامُ فِيهَا مَقَامُ الْإِضْمَارِ حَتْمًا، وَأَمَّا إِظْهَارُهُ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِنِدَاءِ السَّحَرَةِ إِيَّاهُ وَتَخْيِيرِهِمْ لَهُ، فَأَوَّلُ آيَةِ يُونُسَ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا (10: 80) وَقَبْلَهَا طَلَبُ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ، وَمَجِيئُهُمْ وَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ الْأَجْرَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَإِجَابَتُهُ إِيَّاهُمْ، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ آيَةِ يُونُسَ بِمَا ذَكَرَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَإِنَّهَا فَائِدَةٌ نَافِلَةٌ ذَاتُ شَأْنٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يُلْقُونَ مَهْمَا عَظُمَ أَمْرُهُ وَكَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِلْقَاءِ مَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ مِنَ السِّحْرِ الْمُنْكَرِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِفِعْلِ السِّحْرِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمُوهُ فِيمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَأَرَادَ التَّوَسُّلَ بِهِ إِلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ السِّحْرِ لَا إِثْبَاتِهِ، وَإِلَى بِنَاءِ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَسِيلَةٌ لِإِبْطَالِهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (10: 81، 82) وَمِثْلُهُ تَوَسُّلُ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا إِلَى إِظْهَارِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ لِعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَى كُلًّا مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي (6: 77) ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَبًّا، وَإِسْمَاعُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّتِهَا، كُلُّهَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (6: 79) .

فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ: فَلَمَّا أَلْقَوْا مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ كَمَا فِي سُورَتَيِ الشُّعَرَاءِ وَطَهَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ، وَمِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفِي سُورَةِ طَهَ: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (20: 66) وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أَيْ: أَوْقَعُوا فِي قُلُوبِهِمُ الرَّهْبَ وَالْخَوْفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (20: 67، 68) وَأَصْلُ الِاسْتِرْهَابِ مُحَاوَلَةُ الْإِرْهَابِ وَطَلَبُ وُقُوعِهِ بِأَسْبَابِهِ، وَقَدْ قَصَدُوا ذَلِكَ فَحَصَلَ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ: مَظْهَرُهُ كَبِيرٌ، وَتَأْثِيرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ؛ خَيَّلُوا إِلَى الْأَبْصَارِ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ. ثُمَّ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخَشَبًا طِوَالًا " قَالَ " فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، ثُمَّ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، وَأَنَّ الْحَيَّاتِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا بِخَيَالِ سِحْرِهِمْ كَانَتْ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ 70 أَلْفًا، وَذَكَرَ غَيْرُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّهْوِيلِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَوْرَاتِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَنَّ فِرْعَوْنَ دَعَا الْحُكَمَاءَ وَالسَّحَرَةَ " فَفَعَلَ عَرَّافُو مِصْرَ أَيْضًا بِسِحْرِهِمْ كَذَلِكَ: طَرَحُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ فَصَارَتِ الْعِصِيُّ ثَعَابِينَ، وَلَكِنْ عَصَا هَارُونَ ابْتَلَعَتْ عِصِيَّهُمْ ". وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سِرَّ صِنَاعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمَا أَرَاهُ اسْتِنْبَاطًا عِلْمِيًّا لَا نَقْلًا تَارِيخِيًّا، قَالَ الْإِمَامُ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى. وَقَالَ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَيُّلًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أُدْمٍ؛ أَيْ: جِلْدٍ، مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَ الْمَوَاضِعِ أَسْرَابًا، وَجَعَلُوا أَزْوَاجًا مَلَئُوهَا نَارًا فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَيْهِ، وَحَمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إِذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ، فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِضَرْبٍ مِنَ الْحُلِيِّ: مَسْحُورٌ؛ أَيْ: مُمَوَّهٌ عَلَى مَنْ رَآهُ مَسْحُورًا بِهِ اهـ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سِحْرُهُمْ لِأَعْيُنِ النَّاسِ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ الصِّنَاعِيَّةِ إِذَا صَحَّ خَبَرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحِيلَةٍ أُخْرَى كَإِطْلَاقِ أَبْخِرَةٍ أَثَّرَتْ فِي الْأَعْيُنِ فَجَعَلَتْهَا تُبْصِرُ ذَلِكَ أَوْ يَجْعَلُ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ عَلَى صُورَةِ الْحَيَّاتِ، وَتَحْرِيكَهَا بِمُحَرِّكَاتٍ خَفِيَّةٍ سَرِيعَةٍ لَا تُدْرِكُهَا أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ وَتُسَمَّى السِّيمِيَاءَ.

117

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَقَدْ جَاءَ وَقْتُهَا، فَأَلْقَاهَا كَمَا أُمِرَ، فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْإِفْكِ، ذَكَرَ هُنَا وَفِي سُورَةِ طَهَ أَمْرَهُ لِمُوسَى بِالْإِلْقَاءِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ الْإِلْقَاءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ فَحَذَفَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ فِي السُّوَرِ وَالْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي لِلْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، قَرَأَ حَفْصٌ " تَلْقَفُ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الثُّلَاثِي، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ " تَتَلَقَّفُ "، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى لَقْفِ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ. مَا مَعْنَى لَقِفَ الْعَصَا لِلْإِفْكِ؟ الْإِفْكُ - بِالْكَسْرِ -: اسْمٌ لِمَا يُؤْفَكُ؛ أَيْ: يُصْرَفُ وَيُحَوَّلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّلْبِيسِ وَالشَّرِّ وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَبِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ أَفَكَ بِالْفَتْحِ " كَجَلَسَ وَضَرَبَ " وَيُقَالُ: أَفِكَ بِالْكَسْرِ " كَتَعِبَ " قَالَ فِي الْأَسَاسِ: أَفِكَهُ عَنْ رَأْيِهِ: صَرَفَهُ، وَفُلَانٌ مَأْفُوكٌ عَنِ الْخَيْرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِفْكُ كُلُّ مَصْرُوفٍ عَنْ وَجْهِهِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرِّيَاحِ الْعَادِلَةِ عَنِ الْمَهَابِّ: مُؤْتَفِكَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (69: 9) وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53: 53) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (9: 30) أَيْ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الصِّدْقِ فِي الْمَقَالِ إِلَى الْكَذِبِ، وَعَنِ الْجَمِيلِ فِي الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (51:9) ، أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَجِئْتَنَا لَتَأَفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا (46: 22) فَاسْتَعْمَلُوا الْإِفْكَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ صَرْفٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ - فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ لَمَّا قُلْنَا اهـ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ اسْتِعْمَالِ الْمَادَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ

الْإِفْكَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ، وَمَا يُؤَدِّي الْمُرَادُ مِنَ الْكَذِبِ كَالْإِبْهَامِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّجَوُّزَاتِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُوهِمُ السَّامِعَ أَوِ الْقَارِئَ لَهَا مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَعَمَلِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ. وَأَمَّا لَقْفُ الشَّيْءِ وَتَلَقُّفُهُ - بِالتَّشْدِيدِ - فَهُوَ تَنَاوُلُهُ بِحِذْقٍ وَسُرْعَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةَ ... فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ قَالَ الرَّاغِبُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ أَلْقَفُهُ " أَيْ مِنْ بَابِ عَلِمَ " وَتَلَقَّفْتُهُ تَنَاوَلْتُهُ بِالْحِذْقِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ بِالْفَمِ أَوِ الْيَدِ قَالَ: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ اهـ. وَمِنْ مَجَازِهِ تَلَقُّفُ الْعِلْمِ أَيْ: تَلَقِّيهِ بِسُرْعَةٍ وَحِذْقٍ، وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْفِكُونَ إِمَّا مَوْصُولَةٌ وَإِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَخَرَّجُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ مِنْ كَوْنِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْتَقَمَتْ حِبَالَ السَّحَرَةِ وَعِصِيَّهُمْ وَاسْتَرَطَتْهَا؛ أَيِ: ابْتَلَعَتْهَا فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْيَهُودِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ نَصِّ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَيُنَافِيهِ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ عَمَلَهُمْ هَذَا، فَأَتَتْ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ بُطْلَانِهِ وَحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ بِسُرْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ إِفْكُهُمْ عِبَارَةً عَنْ تَأْثِيرٍ أَحْدَثُوهُ فِي الْعَيْنِ، فَلَقْفُهَا إِيَّاهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَتِهِ وَإِبْطَالِهِ وَرُؤْيَةِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ عَلَى حَقِيقَتِهَا - وَإِنْ كَانَ تَحْرِيكًا لَهَا بِمُحَرِّكَاتٍ خَفِيَّةٍ سَرِيعَةٍ، فَكَذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ بِجَعْلِهَا مُجَوَّفَةً مَحْشُوَّةً بِالزِّئْبَقِ وَتَحْرِيكِهِ إِيَّاهَا بِفِعْلِ الْحَرَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَارًا أُعِدَّتْ لَهَا أَوِ الشَّمْسَ حِينَ أَصَابَتْهَا، فَلَقْفُهَا لِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِعَمَلٍ مِنَ الْحَيَّةِ أَخَرَجَتْ بِهِ الزِّئْبَقَ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَانْكَشَفَتْ بِهِ الْحِيلَةُ، قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِ الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ مَا مَعْنَاهُ أَوْ مُحَصِّلُهُ عَلَى مَا نَتَذَكَّرُ أَنَّ إِبْطَالَهَا لِسِحْرِ السَّحَرَةِ أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى إِلْقَائِهَا أَنْ رَأَى النَّاسُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ عَلَى أَصْلِهَا، وَلَوِ ابْتَلَعَتْهَا لَبَقِيَ الْأَمْرُ مُلْتَبِسًا عَلَى النَّاسِ؛ إِذْ قُصَارَاهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ السَّحَرَةِ وَمُوسَى قَدْ أَظْهَرَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَلَكِنَّ أَحَدَ الْغَرِيبَيْنِ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ فَأَخْفَاهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَلَا مَفْهُومٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ زَوَالُ غِشَاوَةِ السِّحْرِ وَتَخْيِيلِهِ حَتَّى رَأَى النَّاسُ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ الَّتِي أَلْقَاهَا السَّحَرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا حِبَالًا وَعِصِيًّا لَا تَسْعَى وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَأَنَّ عَصَا مُوسَى لَمْ تَزَلْ حَيَّةً تَسْعَى - هُوَ الَّذِي مَازَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعُرِفَتْ بِهِ الْآيَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحِيلَةُ الصِّنَاعِيَّةُ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّ عَصَا مُوسَى أَزَالَتْ هَذَا التَّخَيُّلَ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّقْفِ، وَلَكِنْ لَا نَعْلَمُ بِمَاذَا كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ إِلَهِيَّةٌ حَقِيقَةٌ لَا أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَ صِفَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهُ فِي ابْتِلَاعِ الْعَصَا لِلْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ إِذَا فُسِّرَتْ أَلْفَاظُهُ بِمَعَانِيهَا الْحَقِيقَةِ، فَالَّذِي بَطَلَ كَانَ عَمَلًا عَمِلُوهُ، وَكَيْدًا

119

كَادُوهُ، وَلَيْسَ شَيْئًا مَادِّيًّا أَوْجَدُوهُ، كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ طَهَ وَسُورَةِ يُونُسَ؛ أَيْ: فَثَبَتَ الْحَقُّ وَفَسَدَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّخْيِيلِ وَذَهَبَ تَأْثِيرُهُ. فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أَيْ: فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ فِي عِيدٍ لَهُمْ وَيَوْمِ زِينَةٍ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ، ضَرَبَهُ مُوسَى مُوعِدًا لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ كَمَا بَيَّنَ فِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (20: 59) لِتَكُونَ الْفَضِيحَةُ ظَاهِرَةً مُبَيَّنَةً لِجَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ فَغَلَبَهُمْ مُوسَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِ وَصُنْعِهِ. وَانْقَلَبُوا؛ أَيْ: عَادُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ صَاغِرِينَ أَذِلَّةً بِمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْخَيْبَةِ، أَوْ صَارُوا صَاغِرِينَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا بِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّحَرَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلِفِرْعَوْنَ بِالتَّبَعِ أَوْ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ السَّحَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ فَسَّرَهُ الْكَشَّافُ بِقَوْلِهِ: وَخَرُّوا سُجَّدًا كَأَنَّمَا أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ؛ لِشِدَّةِ خَرُورِهِمْ، وَقِيلَ: لَمْ يَتَمَالَكُوا مِمَّا رَأَوْا فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا اهـ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ظُهُورَ بُطْلَانِ سِحْرِهِمْ، وَإِدْرَاكَهُمْ فَجْأَةً لِحَقِيقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِلْمَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ قَدْ مَلَأَتْ عُقُولَهُمْ يَقِينًا وَقُلُوبَهُمْ إِيمَانًا فَكَانَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ الْبُرْهَانِيِّ الْكَامِلِ، وَالْوِجْدَانِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ هُوَ الَّذِي أَلْقَاهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَدْنَى مَكَانٍ لِفِرْعَوْنَ وَعَظَمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ صَغَارُهُ أَمَامَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آيَةِ سُورَةِ طَهَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (20: 70) فَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. (فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ قَالَ هُنَا " وَأُلْقِيَ " وَلَمْ يَقَلْ " فَأُلْقِيَ " لِيَدُلَّ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْضًا؟ (فَالْجَوَابُ) أَنَّ " أُلْقِيَ " هُنَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَغُلِبُوا فَهُوَ يُشَارِكُهُ بِمَا تُفِيدُهُ فَاؤُهُ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ، وَكَوْنِهِ مِثْلَهُ أَثَرًا لِبُطْلَانِ سِحْرِ السَّحَرَةِ، وَوُقُوعِ الْحَقِّ بِثُبُوتِ آيَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ لَدَلَّ عَلَى كَوْنِ السُّجُودِ أَثَرًا لِلْغَلَبِ وَالصَّغَارِ لَا لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَبُطْلَانِ كَيَدِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَافِيًا لِمَا فِي سُورَتَيْ طَهَ وَالشُّعَرَاءِ. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ الْجُمْلَةُ إِمَّا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ السَّحَرَةِ؛ أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ فِي سُجُودِهِمْ آمَنَّا، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. (فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ لَمْ يَذْكَرْ فِي سُورَةِ طَهَ إِيمَانَهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ وَلِمَ أَخَّرَ فِيهَا اسْمَ مُوسَى، وَقَدَّمَ اسْمَ هَارُونَ؟ (فَالْجَوَابُ) عَنْهُمَا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ السُّوَرِ بِمَا لَا يُعَارِضُ غَيْرَهُ مِمَّا وَرَدَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا، فَالْإِيمَانُ بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى هُوَ الْإِيمَانُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (26: 16) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْقُرْآنَ

123

لَيْسَ كِتَابَ تَارِيخٍ تُدَوَّنُ فِيهِ الْقَصَصُ بِحِكَايَتِهَا كُلِّهَا كَمَا وَقَعَتْ، وَيَذْكُرُ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهَا بِنَصِّهِ أَوْ بِتَرْجَمَتِهِ الْحَرْفِيَّةِ - وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، فَهُوَ يَذْكُرُ مِنَ الْقَصَصِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ، وَيَتَزَكَّى الْوِجْدَانُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتُؤَثِّرُ الْمَوْعِظَةُ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعَانِي مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ وَالتَّنْوِيعِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَفَوَاصِلِ الْآيِ، وَتَوْزِيعِ الْفَوَائِدِ وَتَفْرِيقِهَا، بِحَيْثُ يُوجَدُ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا. قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ إِيمَانِ السَّحَرَةِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ السُّؤَالُ، مَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَمَا قَالَ؟ وَهَاكَ الْبَيَانُ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ قَرَأَ حَفْصٌ: آمَنْتُمْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَيُحْتَمَلُ فِيهِ تَقْدِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قِيَاسِيٌّ يَعْتَمِدُ فِي فَهْمِهِ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يُوَافِقُ سَائِرَ الْقُرَّاءِ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ عِنْدَهُمُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أَثْبَتَ هَمْزَتَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَرُوِيَ فِي إِثْبَاتِهَا تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ بِالنُّطْقِ بِهِمَا، وَتَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقُرِئَ بِذَلِكَ فِي أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى أَآمَنْتُمْ بِمُوسَى أَوْ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَآمُرَكُمْ بِذَلِكَ؟ وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ (20: 71) وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِمُوسَى قَطْعًا؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّامِ تَضْمِينٌ يُفِيدُ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ وَالْخُضُوعِ الْمَعْنِيِّ، وَآمَنْتُمْ بِهِ مُتَّبِعِينَ لَهُ إِذْعَانًا لِرِسَالَتِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّضْمِينِ فِي الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنُؤْمِنُ لَبِشَرَيْنِ مِثْلَنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (23: 47) وَقَدِ اقْتَبَسَ الْمَعَرِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فِي قَوْلِهِ: أَعُبَّادُ الْمَسِيحِ يَخَافُ صَحْبِي ... وَنَحْنُ عَبِيدُ مَنْ خَلَقَ الْمَسِيحَا

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (26: 111) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (17: 90) وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا (12: 17) بَلْ هَذِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ؛ أَيْ: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَ فِرْعَوْنُ عِلَّةَ إِيمَانِهِمْ بِمَا ظَنَّهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَقِدَهُ قَوْمُهُ فِيهِمْ، فَقَالَ مُوَاصِلًا تَهْدِيدَهُ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا أَيْ: إِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالتَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ لَيْسَ إِلَّا مَكْرًا مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ بِمَا أَظْهَرْتُمْ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْغَلَبِ عَلَيْهِ مَعَ إِسْرَارِ اتِّبَاعِهِ بَعْدَ ادِّعَاءِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ زَادَ فِي سُورَةِ طَهَ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (20: 71) فَأَجْمَعْتُمْ كَيْدَكُمْ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا الْمِصْرِيِّينَ بِسِحْرِكُمْ - وَهُوَ مَا كَانَ اتَّهَمَ بِهِ مُوسَى وَحْدَهُ - وَيَكُونُ لَكُمْ فِيهَا مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا هُوَ لَنَا الْآنَ مِنَ الْمُلْكِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَلَى هَذَا الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: أُقْسِمُ لَأُقَطِّعَنَّ كَذَا وَكَذَا فِي عِقَابِكُمْ وَالتَّنْكِيلِ بِكُمْ، وَهُوَ قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، كَأَنْ يَقْطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى أَوِ الْعَكْسُ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُشَوَّهَةِ لِتَكُونُوا عِبْرَةً لِمَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْكَيْدِ لَنَا، أَوْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُلْطَانِنَا وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخُضُوعِ لِعَظَمَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعِقَابِ الَّذِي هَدَّدَ بِهِ الْبُغَاةَ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ كَوْنِ اتِّهَامِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ لَهُ وَلِلْمِصْرِيِّينَ، وَبِتَوَاطُئِهِمْ مَعَ مُوسَى لِلْإِدَالَةِ مِنْهُمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - إِنَّمَا كَانَ تَمْوِيهًا عَلَى قَوْمِهِ الْمِصْرِيِّينَ لِئَلَّا يَتَّبِعُوا السَّحَرَةَ فِي الْإِيمَانِ، وَيَقَعَ مَا خَافَهُ وَقَدَّرَهُ، وَاتَّهَمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ عَلَى عُتُوِّهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعُلُوِّهِ فِي الْأَرْضِ، قَدْ خَافَ عَاقِبَةَ إِيمَانِ الشَّعْبِ، وَافْتَقَرَ عَلَى ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ إِلَى إِيهَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ السَّحَرَةِ إِلَّا حُبًّا فِيهِمْ، وَدِفَاعًا عَنْهُمْ، وَاسْتِبْقَاءً لِاسْتِقْلَالِهِمْ فِي وَطَنِهِمْ، وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ كُلُّ مَلِكٍ، وَكُلُّ رَئِيسٍ مُسْتَبِدٍّ فِي شَعْبٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَقِضَ عَلَيْهِ بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِ عَلَى زَعِيمٍ آخَرَ بِدَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ سِيَاسِيَّةٍ، وَمَا مِنْ شَعْبٍ عَرَفَ نَفْسَهُ وَحُقُوقَهُ وَتَعَارَفَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى صَوْنِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إِلَّا وَتَعَذَّرَ اسْتِبْدَادُ الْأَفْرَادِ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا جَبَّارِينَ.

مَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ بَيَانِيَّةٌ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ التَّعْبِيرُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي السُّورَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَمِنْ مَبَاحِثِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّطَيُّرِ بَيْنَ سِيَاقِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْقِصَّةِ، وَسِيَاقِ غَيْرِهَا أَنَّهُ زَادَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ اللَّامَ فِي حَرْفِ التَّسْوِيفِ فَقَالَ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (26: 49) وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّسْوِيفَ فِي سُورَةِ طَهَ، قَالَ الْإِسْكَافِيُّ فِي هَذِهِ اللَّامِ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْرِيبِ مَا خَوَّفَهُمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَوْجُودٌ، وَقَالَ: " وَاللَّامُ لِلْحَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَوْفَ الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ الْفِعْلِ وَإِدْنَاؤُهُ مِنَ الْوُقُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (16: 124) فَجَمَعَ بَيْنَ اللَّامِ وَبَيْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (16: 77) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَكْثَرَ اقْتِصَاصًا لِأَحْوَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْثِهِ وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَانْتِهَاءِ حَالِهِ مَعَ عَدُوِّهِ، فَجُمِعَتْ لَفْظُ الْوَعِيدِ الْمُبْهَمُ مَعَ اللَّفْظِ الْمُقَرَّبِ لَهُ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ إِلَى اللَّفْظِ الْمُفْصِحِ لِمَعْنَاهُ، ثُمَّ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي السُّورَةِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مِنَ اقْتِصَاصِ الْحَالِ مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ عَلَى نَقْصِ مَا فِي مَوْضِعِ الْبَسْطِ وَالشَّرْحِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ مَعَ الْإِفْصَاحِ بِهِ. (قَالَ) : " فَأَمَّا فِي سُورَةِ طَهَ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّصْرِيحِ بِمَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ وَتَرَكَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَقَالَ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ. . . (20: 71) إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بَدَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يُعَادِلُهَا، وَيُقَارِبُ مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الَّتِي هِيَ مِثْلُهَا فِي اقْتِصَاصِ أَحْوَالِهِ مِنَ ابْتِدَائِهَا إِلَى حِينِ انْتِهَائِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (20: 71) فَاللَّامُ وَالنُّونُ فِي " لَتَعْلَمُنَّ " لِإِدْنَاءِ الْفِعْلِ وَتَوْكِيدِهِ، كَمَا أَتَى بِاللَّامِ فِي الشُّعَرَاءِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (26: 49) لِإِدْنَاءِ الْفِعْلِ وَتَقْرِيبِهِ، فَقَدْ تَجَاوَزَ مَا فِي السُّورَتَيْنِ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إِلَى اقْتِصَاصِ الْحَالَيْنِ مِنْ إِعْلَاءِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ " اهـ. أَقُولُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ فَائِدَتَهَا الْأُولَى الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا تَوْكِيدُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَكَتَ الْإِسْكَافِيُّ عَنِ التَّعْلِيلِ بِهَا عَلَى ظُهُورِهَا، وَعَدَمِ خَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَوَاهِدِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى تَوْجِيهِ مَا ذَكَرُوا لِهَذِهِ اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ؛ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْفَائِدَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، نَقَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي، وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ اعْتَرَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (16: 124) وَبِقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ (12: 13) فَإِنَّ الذَّهَابَ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَلَوْ كَانَ الْحُزْنُ حَالًا لَزِمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ عَلَى فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ أَثَرُهُ (قَالَ) : وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ - وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الثَّانِي؛ قَصَدَ أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، وَالْقَصْدُ: حَالٌ، اهـ.

124

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ التَّعْبِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِشْكَالِ، فَقَدْ قَالَ هُوَ: إِنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَإِدْنَائِهِ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِجَعْلِ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ حَقِيقَةً أَوْ بِجَعْلِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ قَرِيبًا جِدًّا حَتَّى كَأَنَّهُ حَالٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ: تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَتَيْنِ يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِمْ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِ هُوَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا. ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِدْقِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) مِنْ كَوْنِ فِرْعَوْنَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمُ الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ، سَوَاءٌ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيضَاحِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْارَكِ، وَرُبَّ جُمْلَةٍ أَوْ جُمَلٍ طَوِيلَةٍ تُؤَدَّى فِي الْقُرْآنِ بِجُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ فِي كَلِمَةٍ كَاللَّامِ هُنَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْلَفْظِيَّةِ فِي غَيْرِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ، وَكُلُّهَا دُونَ إِعْجَازِهِ فِي بَيَانِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ بِالتَّرْجَمَةِ؟ وَمِثْلُهُ فِي هَذَا مَا سَبَقَ، وَمَا يَأْتِي مِنْ تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ. (وَمِنْهَا) - أَيْ: مَبَاحِثُ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ السُّوَرِ - أَنَّهُ قَالَ هُنَا: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَقَالَ فِي (طَهَ: 71) وَ (الشُّعَرَاءِ: 49) وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْعَاطِفَيْنِ فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِالتَّعْقِيبِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " الْفَاءُ " بِالتَّرَاخِي الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " ثُمَّ " وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَفَادَ بِـ " ثُمَّ " مَعْنًى خَاصًّا، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) (26: 49) وَقَوْلِهِ: (فَلَأُقَطِّعَنَّ) (20: 71) أَنَّ الْوَعِيدَ سَيُنَفَّذُ حَالًا فِي الْمَجْلِسِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ - أَفَادَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (7: 124) أَنَّ التَّصْلِيبَ نَوْعٌ آخَرُ، وَمَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، أَوْ سَيَتَأَخَّرُ عَنِ التَّقْطِيعِ فِي الزَّمَنِ بِأَنْ يَظَلُّوا بَعْدَهُ مَطْرُوحِينَ عَلَى الْأَرْضِ إِهَانَةً لَهُمْ، ثُمَّ يُعَلَّقُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ التَّصْلِيبِ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَادَهَا فِي سُورَةِ طَهَ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَا مُنَاسِبٌ لِنَظْمِهَا، وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ كَمَا تُدْرِكُ بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ بُحُورِ الشِّعْرِ. وَأَوْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ الْفَنِّيَّ وَأَمْثَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى اجْتِنَابِنَا لِلِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: (1) أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، وَلَمْ نَرَ لَهَا بَيَانًا فِي التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ حَتَّى الَّتِي تَمْتَازُ بِالْعِنَايَةِ بِمِثْلِهَا. (2) بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الدِّقَّةِ فِي تَحْدِيدِ الْمَعَانِي، وَغَرَائِبِ الْإِيجَازِ وَالِاتِّفَاقِ فِي مَظِنَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ طَوِيلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (4: 82) إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ بَشَرٍ أَنْ يَحْكِيَ قِصَّةً كَقِصَّةِ مُوسَى

125

بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمِثْلِ هَذَا التَّحْدِيدِ لِلْمَعَانِي مَعَ سَلَامَتِهَا كُلِّهَا مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابَةً، وَقَابَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُنَقِّحًا لَهُ وَمُصَحِّحًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَرْتَجِلُ الْكَلَامَ ارْتِجَالًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَالْمُرْتَجِلِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَلَقَّاهُ فَيُؤَدِّيهِ كَمَا تَلَقَّاهُ، فَيَعْجَلُ بِهِ خَائِفًا أَنْ يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى لُقِّنَ فِيهِ نَبَأَ عِصْمَتِهِ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى كَفَلَ حِفْظَهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (87: 6) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (75: 16، 17) وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (20: 114) وَتِلْكَ ضُرُوبٌ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ، وَلِضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ أَكْبَرُ. (3) إِثْبَاتُ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَةٍ أُخْرَى تُؤَدِّي مَعَانِيهِ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُتَعَذَّرِ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا مِنْ لُغَتِهَا، فَتَرْجَمَتُهَا بِلُغَةٍ أُخْرَى أَوْلَى. وَقَدْ تَصَدَّى بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِتَرْجَمَتِهِ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ الْفَقِيرَةِ الْمُلَفَّقَةِ مِنْ عِدَّةِ لُغَاتٍ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ زُعَمَاءِ التُّرْكِ عَلَى مَا يَبْتَغُونَ مِنْ سَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (26: 195) كَمَا ثَبَتَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ. فَإِنِ انْخَدَعَ هَذَا الشَّعْبُ الْمُسْلِمُ بِهَذَا، سَهُلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَإِنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَمَا كَتَبَهُ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّفْسِيرِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبَعْدَ هَذَا يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِمَا شَاءُوا، وَيُورِدُونَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ الْمُشَوَّهِ الْمَأَخُوذِ مِنْ تَرْجَمَتِهِمُ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ - وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنْ جَعْلِ التُّرْكِ أُمَّةً لَا دِينِيَّةَ، وَلَكِنْ لَنْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَالشَّعْبُ التُّرْكِيُّ رَاسِخٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَتَى عَرَفَ كَيْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُضِلِّينَ فَإِنَّهُ يَنْبِذُهُمْ نَبْذَ النَّوَاةِ. تَتِمَّةُ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَهَاهُنَا يَرِدُ سُؤَالٌ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ السَّحَرَةِ عِنْدَمَا سَمِعُوا هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَبِمَ أَجَابُوا ذَلِكَ الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ؟ وَجَوَابُهُ هُنَا: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا، وَأَرَادُوا أَنَّهُمْ لَا يُبَالُونَ مَا يَكُونُ مِنْ قَضَائِهِ فِيهِمْ وَقَتْلِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، رَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ سَبَبًا لِقُرْبِ لِقَائِهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِحُسْنِ جَزَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا أَنْفُسَهُمْ وَفِرْعَوْنَ جَمِيعًا، وَأَرَادُوا: إِنَّنَا وَإِيَّاكَ سَنَنْقَلِبُ إِلَى رَبِّنَا، فَلَئِنْ قَتَلْتَنَا فَمَا أَنْتَ بِخَالِدٍ بَعْدَنَا، وَسَيَحْكُمُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَدْلِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَنَا

126

وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِ فِي دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَصْرِيحُ وَإِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (26: 50، 51) وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَلَا يُنَافِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلَ. وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ أَيْ - مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَضَرَبَ - إِذَا أَنْكَرْتُهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ (9: 74) ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ (85: 8) هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا (5: 59) الْآيَةَ. وَالنِّقْمَةُ: الْعُقُوبَةُ، قَالَ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (7: 136) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ هَذَا لِـ " نَقَمَ " أَدَقُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ: وَنَقِمْتُ مِنْهُ كَذَا: أَنْكَرْتُهُ وَعِبْتُهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلِيَّ مِنْهُ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا (85: 8) وَهُوَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَكَانَ النَّقْمُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَغْفُلُ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّحَرَةُ مِنْ نَقْمِ فِرْعَوْنَ مِنْهُمْ كَانَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ لِإِيمَانِهِمْ، وَالتُّهْمَةُ فِيهِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفَّذَ الْوَعِيدَ بِالِانْتِقَامِ بِالْفِعْلِ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا لَغَالِبُونَ (28: 35) أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَنْفِيذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَنِهَايَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِنَتِيجَتِهَا، وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِيهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّتِهِ الَّتِي مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلَهُ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ عَامَّةً بَعْدَ ذِكْرِ تَكْذِيبِ قَوْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (10: 39) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَهَارُونَ قَوْمُهُمَا خَاصَّةً، وَهُمُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ بَعْدَ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ عَقِبَ خَبَرِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ قَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: فَأَخَذْنَاهُ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (28: 40) ، وَقَدْ خَتَمَ تَعَالَى مَا قَصَّهُ هُنَا مِنْ كَلَامِ السَّحَرَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَنَذْكُرُهُ تَالِينَ دَاعِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَيْ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا صَبْرًا وَاسِعًا تُفِيضُهُ وَتُفْرِغُهُ عَلَيْنَا إِفْرَاغًا بِتَثْبِيتِكَ إِيَّانَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَأْيِيدِنَا بِرُوحِكَ فِيهِ كَمَا يُفْرَغُ الْمَاءُ مِنَ الْقِرَبِ، حَتَّى لَا يَبْقَى

فِي قُلُوبِنَا شَيْءٌ مِنْ خَوْفِ غَيْرِكَ، وَلَا مِنَ الرَّجَاءِ فِيمَا سِوَى فَضْلِكَ وَنَوَالِكَ. وَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ حَالَ كَوْنِنَا مُسْلِمِينَ لَكَ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، مُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَائِكَ، غَيْرَ مَفْتُونِينَ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِ مُطِيعِينَ لَهُ فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ. جَمَعُوا بِدُعَائِهِمْ هَذَا بَيْنَ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. يَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ كَمَالِ الصَّبْرِ - تَنْكِيرُهُ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَائِهِ بِالْإِفْرَاغِ، وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الدَّلْوِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا تَصْوِيرُنَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ فَمَأْخَذُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّجَارِبِ: أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ فِيهَا عَلَى احْتِمَالِ الْآلَامِ وَالْمَكَارِمِ بِغَيْرِ تَبَرُّمٍ وَلَا حَرَجٍ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اجْتِرَاحِ الْبَاطِلِ، وَلَا شَيْءَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ يُقَوِّي هَذِهِ الصِّفَةَ فِي النَّفْسِ، وَمَأْخَذُهُ مِنَ النَّقْلِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَوَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (29: 59) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (103: 3) وَمِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ قَوْلُهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) . وَلَدَيْنَا مِنْ نُقُولِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الَّذِينَ كَتَبُوا أَخْبَارَ الْحُرُوبِ الْأَخِيرَةِ بِعِلَلِهَا وَفَلْسَفَتِهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ شَجَاعَةً، وَأَشَدُّ صَبْرًا عَلَى مَشَاقِّ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ يَحْرِصُ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِسُنَنِ الْخَلْقِ، وَأَشَدُّهُمْ عِنَايَةً بِفُنُونِ الْحَرْبِ - كَالشَّعْبِ الْأَلْمَانِيِّ - عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ فِي جَيْشِهِمْ، وَلِلْبِرِنْسِ بِسْمَارْكَ مُؤَسِّسِ وَحْدَتِهِمْ، وَوَزِيرِهِمِ الْأَعْظَمِ بَلْ أَكْبَرُ سَاسَةِ أُورُبَّةَ - كَلِمَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَثْبَتْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنَارِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ (وَقَائِعِ بِسْمَارْكَ وَمُذَكِّرَاتِهِ) الَّتِي نَشَرَهَا كَاتِمُ سِرِّهِ مِسْيُو بُوش بَعْدَ مَوْتِهِ نَكْتَفِي مِنْهَا هُنَا بِقَوْلِهِ: " جَلَسَ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ فَرَأَى بُقْعَةً مِنَ الدُّهْنِ عَلَى غِطَاءِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَمَا تَنْتَشِرُ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي النَّسِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَذَلِكَ يَنْفُذُ الشُّعُورُ بِاسْتِحْسَانِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِ الشَّعْبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَمَلٌ فِي الْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ (أَيْ فِي الدُّنْيَا) ذَلِكَ لَمَا اسْتَكَنَّ فِي الضَّمَائِرِ مِنْ بَقَايَا الْإِيمَانِ - ذَلِكَ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ وَاحِدًا مُهَيْمِنًا يَرَاهُ وَهُوَ يُجَالِدُ وَيَمُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِدُهُ يَرَاهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: أَتَظُنُّ سَعَادَتُكُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ يُلَاحِظُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ؟ فَأَجَابَهُ الْبِرِنْسُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُلَاحَظَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ شُعُورٌ وَوِجْدَانٌ، هُوَ بَوَادِرُ تَسْبِقُ الْفِكْرَ، هُوَ مَيْلٌ فِي النَّفْسِ وَهَوًى فِيهَا، كَأَنَّهُ غَرِيزَةٌ لَهَا؛ وَلَوْ لَاحَظُوا لَفَقَدُوا ذَلِكَ الْمَيْلَ، وَأَضَلُّوا ذَلِكَ الْوِجْدَانَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَعِيشُ قَوْمٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِتَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ؟ أَوْ كَيْفَ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ

127

إِيمَانٌ بِدِينٍ جَاءَ بِهِ وَحْيٌ سَمَاوِيٌّ، وَاعْتِقَادٌ بِإِلَهٍ يُحِبُّ الْخَيْرَ، وَحَاكِمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْفَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ". ثُمَّ أَطَالَ فِي ذَلِكَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْلَا عَقِيدَتُهُ الدِّينِيَّةُ لَمَا خَدَمَ سُلْطَانَهُ وَعَاهِلَهُ (الْإِمْبِرَاطُورَ) سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ. وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خَافَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ عَاقِبَةَ تَرْكِهِ لِمُوسَى حُرًّا مُطْلَقًا فِي مِصْرَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَا قَالُوهُ لَهُ، وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ جَوَابِهِ فِي مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنْ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ أَيْ: قَالُوا لَهُ: أَتَتْرُكُ مُوسَى وَقَوْمَهُ أَحْرَارًا آمِنِينَ لِتَكُونَ عَاقِبَتَهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا قَوْمَكَ عَلَيْكَ فِي أَرْضِ مِصْرَ بِإِدْخَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ، أَوْ جَعْلِهِمْ تَحْتَ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمْ، وَيَتْرُكَكَ مَعَ آلِهَتِكَ كَالشَّيْءِ اللَّقَا، فَيَظْهَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ عَجْزُكَ وَعَجْزُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِ السَّحَرَةِ - إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ - وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِهِ وَآلِهَتِهِ: عَدَمُ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَتِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْعَادِيَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ أَنَّهُ كَانَ

لِلْمِصْرِيِّينَ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الشَّمْسُ، وَاسْمُهَا فِي لُغَتِهِمْ (رَعْ) وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ فِي لَقَبِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ سَلِيلُ الشَّمْسِ وَابْنُهَا، وَسَنَنْقُلُ بَعْدَ جَوَابِهِ لَهُمْ أَثَرًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الْآلِهَةِ. قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَيْ: قَالَ مُجِيبًا لِلْمَلَأِ: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَ قَوْمِهِ تَقْتِيلًا مَا تَنَاسَلُوا - فَتَعْبِيرُهُ بِالتَّقْتِيلِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّدْرِيجِ - وَنَسْتَبْقِي نِسَاءَهُمْ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهِ حَتَّى يَنْقَرِضُوا وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وَإِنَّا مُسْتَعْلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَانِ، قَاهِرُونَ لَهُمْ كَمَا كُنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْسَادًا فِي أَرْضِنَا، وَلَا خُرُوجًا مِنْ حَظِيرَةِ تَعْبِيدِنَا، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (40: 26) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَدَيْهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْ مُوسَى مِمَّنْ آمَنَ بِهِ سِرًّا، وَمِمَّنْ كَانَ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي (20: 39) وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا كَانَ لَهُ فِي أَنْفُسِ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالِاحْتِرَامِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى لَنَا دِفَاعَ وَاحِدٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ فَقَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (40: 28) . وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْعَادِيَاتِ الْمِصْرِيَّةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى هُوَ الْمَلِكُ (مِنْفِتَاحُ) وَكَانَ يُلَقَّبُ بِسَلِيلِ الْإِلَهِ (رَعْ) وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْوَحِيدِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِرَقْمِ 34025 الْمَحْفُوظُ فِي مَتْحَفِ مِصْرَ) أَنَّ مِصْرَ هِيَ السَّلِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِلْمَعْبُودِ (رَعْ) مُنْذُ وُجُودِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ " مِنْفِتَاحَ " سَلِيلَةٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْجَالِسُ عَلَى سُدَّةِ الْمَعْبُودِ " شُو " وَأَنَّ الْإِلَهَ " رَعْ " الْتَفَتَ إِلَى مِصْرَ فَوَلَدَ " مِنْفِتَاحَ " مَلِكَ مِصْرَ، وَشَيْءٌ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُنَاضِلًا عَنْهَا فَتَخَنَّعَ لَهُ الْوُلَاةُ، وَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنَ الْبَدْوِ رَأْسَهُ، فَخَضَعَ لَهُ الْقَيْرَوَانِيُّونَ وَالْحَيْثِيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَعَسْقَلَانُ وَجِزَالُ وَيَنْعِمَامُ. وَفِيهِ: وَانْفَكَّ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، وَأَصْبَحَتْ فَلَسْطِينُ خَلِيَّةً لِمِصْرَ وَالْأَرَاضِي كُلُّهَا مَضْمُومَةٌ فِي حِفْظِهِ، وَكُلُّ اسْمٍ وَعَفَهُ " أَضْعَفَهُ وَأَذَلَّهُ " الصَّيْدَنُ لَقَبُ (مِنْفِتَاحَ) سَلِيلِ الشَّمْسِ مُعْطَى الْمَعِيشَةِ كُلَّ نَهَارٍ مِثْلَ الشَّمْسِ اهـ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي ادِّعَاءَهُ الِانْفِرَادَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ الْعُلْيَا بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِنَا: انْقَطَعَ دَابِرُهُمْ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْمَجَازِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ.

128

وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنْ يَخَافَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَأَنْ يُطَمْئِنَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: اطْلُبُوا مَعُونَةَ اللهِ تَعَالَى، وَتَأْيِيدَهُ لَكُمْ عَلَى مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الْوَعِيدِ وَاصْبِرُوا، وَلَا تَجْزَعُوا، فَإِنْ سَأَلْتُمْ لِمَاذَا وَإِلَى مَتَى؟ أَقُلْ لَكُمْ: إِنَّ الْأَرْضَ - جِنْسَهَا، أَوِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ إِيَّاهَا، وَهِيَ فَلَسْطِينُ - لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَا لِفِرْعَوْنَ، فَهِيَ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأُمَمِ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ بِمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ إِرْثِ الْأَرْضِ كَالِاتِّحَادِ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْحَقِّ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ وَحَيُّهُ، وَأَيَّدَتْهُ التَّجَارِبُ، وَمُرَادُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ سَتَكُونُ لَكُمْ بِإِرْثِ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ لَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ شَرْعِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَتَوَهَّمُونَ وَيَتَوَهَّمُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَقَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَالضَّعِيفِ عَلَى ضَعْفِهِ، أَوْ أَنَّ الْآلِهَةَ الْبَاطِلَةَ ضَمِنَتْ لِفِرْعَوْنَ بَقَاءَ مُلْكِهِ، عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَظُلْمِهِ. مَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ وَصِيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ؟ وَهَلْ فَهِمُوهَا وَقَدَّرُوهَا قَدْرَهَا؟ وَبِمَ أَجَابُوهُ؟ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ إِرْسَالِهِ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ شَيْئًا، فَهُوَ يُؤْذِيهِمْ وَيَظْلِمُهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِ كَمَا كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أَوْ أَشَدُّ، وَهَذَا الْإِيذَاءُ مُبَيَّنٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا طَلَبَا مِنْ فِرْعَوْنَ إِطْلَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَيْ يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ لَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْبَحُوا لَهُ، قَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا تُعَطِّلَانِ الشَّعْبَ عَنْ أَعْمَالِهِ؟ وَأَمَرَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسَخِّرِي الشَّعْبَ وَمُدَبِّرِيهِ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ إِعْطَائِهِ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ لِيَعْمَلَ بِهِ اللَّبَنَ (الطُّوبَ النَّيَّ) الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ يُكَلِّفُوهُ جَمْعَ التِّبْنِ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَنْقُصُوا مِنْ عَدَدِ اللَّبَنِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَتَفَرَّقَ الشَّعْبُ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ؛ لِيَجْمَعُوا جُذَامَهُ عِوَضَ التِّبْنِ، فَعَجَزُوا عَنْ تَمَامِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّبَنِ، وَالْمُسَخَّرُونَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ: أَكْمِلُوا فَرِيضَةَ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا كُنْتُمْ تُعْطُونَ التِّبْنَ، فَجَاءَ مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُسَخَّرُونَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتَغَاثُوا فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَصْنَعُ (15) بِعَبِيدِكَ هَكَذَا؟ (16) إِنَّهُ لَا يُعْطَى لِعَبِيدِكَ تِبْنٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ لَنَا: اعْمَلُوا لَبَنًا، وَهَا أَنَّ عَبِيدَكَ يُضْرَبُونَ وَشَعْبَكَ يُعَامَلُونَ كَمُذْنِبِينَ (17) قَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَرَفِّهُونَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُونَ نَمْضِي وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ (18) وَالْآنَ فَامْضُوا اعْمَلُوا، وَتِبْنٌ لَا يُعْطَى لَكُمْ، وَمِقْدَارُ اللَّبَنِ تُقَدِّمُونَهُ (19) فَرَأَى مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ نُفُوسَهُمْ فِي شَقَاءٍ.

129

إِذْ قِيلَ: لَا تَنْقُصُوا مِنْ لَبِنِكُمْ شَيْئًا بَلْ فَرِيضَةُ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهَا (20) وَصَادَفُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَهُمَا وَاقِفَانِ لِلِقَائِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ عِنْدِ فِرْعَوْنَ (21) فَقَالُوا لَهُمَا: يَنْظُرُ الرَّبُّ وَيَحْكُمُ عَلَيْكُمَا كَمَا أَفْسَدْتُمَا أَمْرَنَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَعِنْدَ عَبِيدِهِ، وَجَعَلْتُمَا فِي أَيْدِيهِمْ سَيْفًا لِيَقْتُلُونَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَيْ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ الْمَرْجُوَّ مِنْ فَضْلِ رَبِّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمُ الَّذِي سَخَّرَكُمْ وَآذَاكُمْ بِظُلْمِهِ، وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَيَمْنَعَكُمْ فِرْعَوْنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، فَيَنْظُرَ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ بَعْدَ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاكُمْ فِيهَا؛ هَلْ تَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ أَمْ تَكْفُرُونَ؟ وَهَلْ تُصْلِحُونَ فِي الْأَرْضِ أَمْ تُفْسِدُونَ؟ لِيُجَازِيَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَقَدْ عَبَّرَ بِـ " عَسَى " وَلَمْ يَقْطَعْ بِالْوَعْدِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا وَيَتْرُكُوا مَا يَجِبُ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ لِئَلَّا يُكَذِّبُوهُ لِضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ بِمَا طَالَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمُلْكِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ. جَاءَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ بَعْدَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: (22) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ، وَقَالَ يَا رَبِّ: لِمَاذَا ابْتَلَيْتَ هَؤُلَاءِ الشَّعْبَ لِمَاذَا بَعَثْتَنِي؟ (23) فَإِنِّي مُنْذُ دَخَلْتُ عَلَى فِرْعَوْنَ؛ لِأَتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ الشَّعْبِ وَأَنْتَ لَمْ تُنْقِذْ شَعْبَكَ ". وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْهُ فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: " الْآنَ تَرَى مَا أَصْنَعُ بِفِرْعَوْنَ، إِنَّهُ بِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ " - وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَهْدًا بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ أَرْضَ كَنْعَانَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِينَ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ اسْتَعْبَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ فَذَكَرَ عَهْدَهُ - ثُمَّ قَالَ: (6) لِذَلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا الرَّبُّ لِأُخْرِجَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ، وَأُخَلِّصَكُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَأَفْدِيَكُمْ بِذِرَاعٍ مَبْسُوطَةٍ، وَأَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ، (7) وَأَتَّخِذَكُمْ لِي شَعْبًا، وَأَكُونَ لَكُمْ إِلَهًا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ الْمُخْرِجُ لَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ (8) وَسَأُدْخِلُكُمُ الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي مُقْسِمًا أَنْ أُعْطِيَهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَأُعْطِيهَا لَكُمْ مِيرَاثًا، أَنَا الرَّبُّ (9) فَكَلَّمَ مُوسَى بِذَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى لِضِيقِ أَرْوَاحِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِمُ الشَّاقَّةِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَهُوَ مِنْ تَرْجَمَةِ الْيَسُوعِيِّينَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَيَلِيهِ عَوْدَةُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ، وَمُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَامْتِنَاعِهِ، وَإِظْهَارِ الرَّبِّ الْآيَاتِ لَهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى كَمَا يَأْتِي مُجْمَلًا فِي الْآيَاتِ التَّالِيَةِ. (فَإِنْ قِيلَ) : ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ، وَسِيَاقُ التَّوْرَاةِ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِهَا قَبْلَهَا، وَبَعْدَ تَبْلِيغِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ - فَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ - أَعْنِي قَوْلَهُ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ

إِلَخْ؛ لِيُوَافِقَ التَّوْرَاةَ، وَتَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ؟ كَمَا قَالَ لَهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ؟ (قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُجَجٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَمِنْ غَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ الْكَاتِبِينَ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ كَمَا قَالَ مُصَدِّقًا لِكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - أَيْ: فِي الْأَصْلِ، قَدْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهَا، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ هُوَ - أَيِ: الْقُرْآنُ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، فَمَا أَقَرَّهُ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا صَحَّحَهُ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ الصَّحِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا فِيهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَكَوْنِ مُوسَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ، وَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ لَا هَارُونَ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ دَلَّتْ قَوَاعِدُهُ أَوْ نُصُوصُهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ أَنَّ الرَّبَّ جَعَلَ مُوسَى إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ أَخُوهُ هَارُونَ نَبِيَّهُ! ! فَأُصُولُ الْقُرْآنِ وَكَذَا التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فُقِدَتْ، وَأَنَّ عَزْرَا الْكَاتِبَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَبْدَلَ الْحُرُوفَ الْكِلْدَانِيَّةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ عَزْرَا قَدْ فُقِدَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ جَمِيعَ نُسَخِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ مُسْتَمَدَّةٌ مِمَّا كَتَبَهُ، وَفِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَصْلِ، وَيُسَمُّونَهُ مُشْكِلَاتٍ يَتَكَلَّفُونَ الْأَجْوِبَةَ عَنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا نَمُوذَجًا مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الْأَخِيرُ مِنَ التَّوْرَاةِ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ يَشُوعَ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ يَشُوعَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ وَيُؤَكِّدُهَا خَطَأُ الْمُفَسِّرِينَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِ، وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهَا، وَمِنْ سَائِرِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَالْعَادِيَاتِ الْمُتَسْخَرَجَةِ مِنْ آثَارِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ جُلُّ مَا يَعْرِفُونَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا سَمِعُوهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ، وَلَا بِصَادِقٍ أَمِينٍ. ثُمَّ مَا أَخَذُوهُ عَنْ كُتُبٍ تَارِيخِيَّةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِهَا، فَكَانَ أَكْثَرُ مَا كَتَبُوهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهَا مُشَوَّهًا لَهُ، وَحُجَّةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ عُلَمَائِنَا فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ يُقْرَأُ، وَلَا أَحَدَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ، قِيلَ: إِلَّا سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا

130

مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِمُ الْيَوْمَ " يَفُكُّونَ الْخَطَّ " فَأَنَّى لِمَنْ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الْمُفَصَّلَةَ السَّالِمَةَ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا الْعَقْلُ، أَوْ لَا تَتَّفِقُ مَعَ تَوْحِيدِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَائِلِهِمْ لَوْلَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ؟ ! وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمُقَدِّمَاتِ الْهَلَاكِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْجَازُ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ. وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِالْقَسَمِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لَامُهُ؛ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ، وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى تَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِدَالَةِ لِلْمَظْلُومِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الظَّالِمِينَ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَادَّةِ " الْأَخْذِ " فِي الْعَذَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (54: 42) فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (73: 16) يَعْنِي فِرْعَوْنَ مُوسَى فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (69: 10) وَآلُ فِرْعَوْنَ: قَوْمُهُ، كَمَا أَطْلَقَهُ الْمُفَسِّرُونَ، أَوْ خَاصَّتُهُ وَأَعْوَانُهُ فِي أُمُورِ الدَّوْلَةِ، وَهُمُ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَثُرَ ذِكْرُهُمْ فِي قِصَّتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُذْنِبُونَ الْمُعَانِدُونَ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْعَذَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُوَافِقِينَ وَمُقِرِّينَ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) وَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنٍ الِاجْتِمَاعِ الْعَامَّةِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَأَصْلُ اللُّغَةِ أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ يُضَافُونَ إِلَى اسْمِهِ، وَهُوَ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى أَعْلَامِ شُرَفَاءِ قَوْمِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ أَوْ وَجَمِيعِ أَتْبَاعِهِمْ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ آلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَتْبَاعِهِ، وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْآلُ

قِيلَ: مَقْلُوبٌ عَنِ الْأَهْلِ، وَيُصَغَّرُ عَلَى أُهَيْلٍ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَعْلَامِ النَّاطِقِينَ دُونَ النَّكِرَاتِ، وَدُونَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ. يُقَالُ: آلُ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: آلُ رَجُلٍ، وَلَا آلُ زَمَانِ كَذَا أَوْ مَوْضِعِ كَذَا، وَلَا يُقَالُ: آلُ الْخَيَّاطِ، بَلْ يُضَافُ إِلَى الْأَشْرَفِ الْأَفْضَلِ، يُقَالُ: آلُ اللهِ وَآلُ السُّلْطَانِ، وَالْأَهْلُ يُضَافُ إِلَى الْكُلِّ، يُقَالُ: أَهْلُ اللهِ وَأَهْلُ الْخَيَّاطِ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلُ زَمَنِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ الشَّخْصِ، وَيُصَغَّرُ أُوَيْلًا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ اخْتِصَاصًا ذَاتِيًّا إِمَّا بِقِرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بِمُوَالَاةٍ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ (3: 33) وَقَالَ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ 40: 46) قِيلَ: وَآلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَارِبُهُ، وَقِيلَ: الْمُخْتَصُّونَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الدِّينِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مُتَخَصِّصٌ بِالْعِلْمِ الْمُتْقَنِ وَالْعَمَلِ الْمُحْكَمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: آلُ النَّبِيِّ وَأُمَّتُهُ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّونَ بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا يُقَالُ لَهُمْ: آلُهُ، فَكُلُّ آلٍ لِلنَّبِيِّ أُمَّةٌ لَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ أُمَّةٍ لَهُ آلَهُ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: النَّاسُ يَقُولُونَ: الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ آلُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: كَذَبُوا وَصَدَقُوا، فَقِيلَ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَذَبُوا فِي أَنَّ الْأُمَّةَ كَافَّتَهُمْ آلُهُ، وَصَدَقُوا فِي أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا بِشَرَائِطِ شَرِيعَتِهِ آلُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (40: 28) أَيْ: مِنَ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ وَجَعَلَهُ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ النَّسَبُ أَوِ الْمَسْكَنُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُ الْقَوْمِ أَنَّهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ اهـ. بَعْدَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُمْ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُحْتَمِلٍ لِغَيْرِهِمْ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا (28: 8) وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (40: 28) وَأُطْلِقَ كَثِيرًا بِمَعْنَى مَلَئِهِ، وَخَاصَّةً أَتْبَاعُهُ أَوْ جُمْلَتُهُمْ كَقَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (2: 50) أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (40: 46) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (2: 49) وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (40: 45) وَلَقَدْ جَاءَ آلُ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (54: 41) كَذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ مَلَأِ فِرْعَوْنَ فِي إِرْسَالِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْمَلَأِ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْلَا أَنْ وَرَدَ ذِكْرُ قَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ لَحَمَلْنَا الْآلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَفِي أَمْثَالِهَا عَلَيْهِمْ دُونَ سَائِرِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (26: 10، 11) وَقَالَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (44: 17) إِلَخْ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ عَامَّةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْأَخْذِ بِالسِّنِينَ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يَنَالُ

133

فِرْعَوْنَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَخَاصَّةً مَلَئِهِ، فَالْمُرَادُ بِآلِهِ قَوْمُهُ، وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ فِي عَهْدِهِ، وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِظُلْمِهِ وَطُغْيَانِهِ؛ لِأَنَّ قُوَّتَهُ الْمَالِيَّةَ وَالْجُنْدِيَّةَ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللهُ أَحْرَارًا وَكَرَّمَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي تَكْرَهُ الظُّلْمَ وَالطُّغْيَانَ بِالْغَرِيزَةِ، فَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَلَّا يَقْبَلُوا اسْتِعْبَادَهُ لَهُمْ، وَجَعْلَهُمْ آلَةً لِطُغْيَانِهِ وَإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ بِعْثَةِ مُوسَى وَوُصُولِ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِمْ وَرُؤْيَتِهِمْ، لَمَّا أَيَّدَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا السُّنُونَ فَهِيَ جَمْعُ سَنَةٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْحَوْلِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْحَوْلِ الَّذِي فِيهِ الْجَدْبُ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ؛ أَيْ: إِلَّا إِذَا ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ الْعَدَدِ وَالْإِحْصَاءِ، وَالْأَخْذُ بِالسِّنِينَ صَرِيحٌ فِي إِرَادَةِ الْعِقَابِ بِالْجَدْبِ وَالضِّيقِ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْصُ الثَّمَرَاتِ، وَهَلْ يَدْخُلُ نَقْصُ الثَّمَرَاتِ فِي عُمُومِ الْمُرَادِ مِنَ السِّنِينَ، أَمْ هِيَ خَاصَّةٌ بِنَقْصِ الْغِلَالِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَقْوَاتِ دُونَ الْفَاكِهَةِ الَّتِي لَا تَكْفِي الْقُوتَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ؟ وَجْهَانِ: وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ نَصٌّ عَلَى شِدَّةِ الضِّيقِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا إِجْمَالٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ (7: 133) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. وَجُمْلَةُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ بِالْجَدْبِ وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ضَعْفَهُمْ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ وَعَجْزِ مَلِكِهِمُ الْجَبَّارِ الْمُتَغَطْرِسِ وَعَجْزِ آلِهَتِهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا اعْتَبَرُوا وَاتَّعَظُوا فَرَجَعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجَابُوا دَعْوَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ الشَّدَائِدَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُرَقِّقَ الْقُلُوبَ، وَتُهَذِّبَ الطِّبَاعَ، وَتُوَجِّهَ الْأَنْفُسَ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالتَّضَرُّعِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي اتُّخِذَتْ فِي الْأَصْلِ وَسَائِلَ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، ثُمَّ صَارَ يُنْسَى فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يُرَى، وَتُذْكُرُ هِيَ؛ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مُجَانِسَةٌ لِعَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ أَوْ أَكْثَرُهَا دُونَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، فَإِذَا بَلَغَ الشِّرْكُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْسُوا اللهَ تَعَالَى حَتَّى فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ فَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ. كَذَلِكَ كَانَ دَأْبُ آلِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ إِنْذَارِ مُوسَى إِيَّاهُمْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ وَهُوَ الْغَالِبُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ دُونَ غَيْرِنَا، وَنَحْنُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِمَا لَنَا مِنَ التَّفَوُّقِ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ: وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ - أَيْ: حَالَةٌ تَسُوؤُهُمْ كَجَدْبٍ أَوْ جَائِحَةٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أُخْرَى فِي الْأَبْدَانِ أَوِ الْأَرْزَاقِ - تَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَخِيهِ هَارُونَ أَوْ جَمِيعِ قَوْمِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أُصِيبُوا بِشُؤْمِهِ وَشُؤْمِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَنْ سَيِّئَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِقَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْإِفْرِنْجِ فِي ظُلْمِهِمْ لِمَنْ يَسْتَضْعِفُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ. أَصْلُ " يَطَّيَّرُوا " يَتَطَيَّرُوا فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَسَبَبُ اسْتِعْمَالِ التَّطَيُّرِ بِمَعْنَى التَّشَاؤُمِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِمَّا تَرَاهُ مِنْ حَرَكَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى إِنَّهَا تَزْجُرُهَا إِذَا

لَمْ تَمُرَّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا، فَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ تَيَمَّنَتْ؛ أَيْ: رَجَتْ وُقُوعَ الْيَمِينِ وَالْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ تَشَاءَمَتْ، وَتَوَقَّعَتِ الشَّرَّ وَالْمُصِيبَةَ، وَيُسَمَّى الطَّائِرُ الْأَوَّلُ السَّانِحَ، وَالْآخَرُ الْبَارِحَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَمُّوا الشُّؤْمَ طَيْرًا وَطَائِرًا، وَالتَّشَاؤُمَ تَطَيُّرًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ خُرَافَتِهِمْ: أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ابْتَدَأَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ (أَلَا) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهَا تَوْجِيهُ ذِهْنِ الْقَارِئِ لِمَا يُلْقَى بَعْدَهَا حَتَّى لَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، أَيْ: أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّؤْمَ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَى مُوسَى، وَعَدُّوهُ مِنْ آثَارِ وُجُودِهِ فِيهِمْ هُوَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ لِنِظَامِ الْكَوْنِ سُنَنًا تَكُونُ فِيهَا الْمُسَبِّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا حِكَمٌ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ يَنْزِلُ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ امْتِحَانٌ وَاخْتِبَارٌ لَهُمْ بِمَا يَسُوؤُهُمْ لِيَثُوبُوا وَيَرْجِعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَطُغْيَانِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حِكَمَ التَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي الْخَلْقِ، وَلَا أَسْبَابَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الصُّورِيَّةَ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةَ، وَكَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ بِـ " إِذَا " الدَّالَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَعَرَّفَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّهَا الْأَصْلُ الثَّابِتُ بِغَلَبَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ، وَعَبَّرَ بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ بِـ " إِنَّ " الَّتِي هِيَ أَدَاةُ الشَّكِّ - أَيْ: إِنَّ شَرْطَهَا إِمَّا مَشْكُوكٌ فِي وُقُوعِهِ، وَإِمَّا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لِنُدْرَتِهِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ - وَذَكَرَ السَّيِّئَةَ؛ لِإِفَادَةِ أَنَّ وُقُوعَهَا قَلِيلٌ وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْغَالِبِ، وَأَفَادَ بِالتَّعْبِيرَيْنِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْحَسَنَةَ عَلَى عَظَمَتِهَا وَكَثْرَتِهَا مَا زَادَتْهُمْ إِلَّا غُرُورًا بِحَالِهِمْ، وَتَمَادِيًا فِي ظُلْمِهِمْ، وَإِصْرَارًا عَلَى بَغْيِهِمْ، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَمْ تُفِدْهُمْ عِظَةً وَلَا عِبْرَةً، وَلَمْ تُحْدِثْ لَهُمْ تَوْبَةً، وَهَاكَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِمَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ تَعَالَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ أَصَرُّوا بَعْدَ إِيمَانِ كِبَارِ السَّحَرَةِ عَلَى عَدِّ آيَتَيْ مُوسَى مِنَ السِّحْرِ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ

(مَهْمَا) اسْمُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ تَجِئْنَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَحَقِّيَّةِ دَعْوَتِكَ؛ لِأَجْلِ أَنْ تَسْحَرَنَا بِهَا؛ أَيْ: تَصْرِفَنَا بِهَا - بِدِقَّةٍ وَلُطْفٍ فِي التَّأْثِيرِ - عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ دِينِنَا، وَمِنْ تَسْخِيرِنَا لِقَوْمِكَ فِي خِدْمَتِنَا، وَضَرْبِ اللَّبَنِ لِمَبَانِينَا - فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُصَدِّقِينَ، وَلَا لِرِسَالَتِكَ بِمُتَّبِعِينَ. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ أَيْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَصَائِبَ وَالنَّكَبَاتِ، حَالَ كَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ عَبْدِنَا مُوسَى بِأَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَفْصِيلًا لَا إِجْمَالًا؛ لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى صِدْقِهِ وَاضِحَةً لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَسْبَابٍ لَهَا لَا دَخْلَ لِرِسَالَتِهِ فِيهَا - فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ اسْتِكْبَارًا، مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَصِدْقِ دَعْوَتِهِ بَاطِنًا، وَكَانُوا قَوْمًا رَاسِخِينَ فِي الْإِجْرَامِ وَالذُّنُوبِ مُصِرِّينَ عَلَيْهَا فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهَا. جَاءَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ - أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَقَدْ عَدَّ هُنَا مِنْهَا خَمْسًا، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَعَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِيهِ. فَأَمَّا الطُّوفَانُ فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: مَا طَافَ بِالشَّيْءِ وَغَشِيَهُ، وَغَلَبَ فِي طُوفَانِ الْمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ أَوِ الْأَرْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثْرَةٍ تَغْشَى الْأَرْضَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ: الْأَمْطَارُ الْمُغْرِقَةُ الْمُتْلِفَةُ لِلزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: هُوَ كَثْرَةُ الْمَوْتِ، وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّوفَانُ: الْمَاءُ وَالطَّاعُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ هَيْمَانَ: حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَا، عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الطُّوفَانُ الْمَوْتُ " وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ هَيْمَانَ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللهِ طَافَ بِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (68: 19) اهـ. أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَرْفُوعُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ قَوْلُ مُخَالِفٍ لِلْمُتَبَادَرِ مِنَ اللُّغَةِ - فَيَحْيَى بْنُ هَيْمَانَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ هُوَ الْكُوفِيُّ الْعِجْلِيُّ كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: حَدَّثَ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِعَجَائِبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ صَدُوقًا لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقَدْ أُصِيبَ بِالْفَالِجِ فَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ؛ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنِ الْمَشَاهِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَهَذَا طَعْنٌ مُبِينٌ.

السَّبَبُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْثِيقِ الْبَزَّارِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ الْكُوفِيُّ الْقَاضِي مُدَلِّسٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَوْلَى الْآثَارِ بِالْقَبُولِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلُ الْمُوَافِقُ الْمُتَبَادَرَ مِنَ اللُّغَةِ؛ أَيْ: طُوفَانِ الْمَطَرِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَأَوْلَاهَا بِالْقَبُولِ مَا لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ مَا نَنْقُلُهُ عَنْهَا: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: (13) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: بَكِّرْ فِي الْغَدَاةِ، وَقِفْ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: " كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي (14) فَإِنِّي فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ مُنْزِلٌ جَمِيعَ ضَرَبَاتِي عَلَى قَلْبِكَ، وَعَلَى عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ؛ لِكَيْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَا (15) الْآنَ أَمُدُّ يَدِيَ وَأَضْرِبُكَ أَنْتَ وَشَعْبَكَ بِالْوَبَاءِ فَتَضْمَحِلُّ مِنَ الْأَرْضِ (16) غَيْرَ أَنِّي لِهَذَا أُبْقِيكَ؛ لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي؛ وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، (17) وَأَنْتَ لَمْ تَزَلْ مُقَاوِمًا لِشَعْبِي (18) هَا أَنَا (؟) مُمْطِرٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَدٍ بَرْدًا عَظِيمًا جِدًّا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي مِصْرَ مُنْذُ يَوْمِ أُسِّسَتْ إِلَى الْآنِ " ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوعَ الْبَرْدِ مَعَ نَارٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَصَفَ عَظَمَتَهُ وَشُمُولَهُ لِجَمِيعِ بِلَادِ مِصْرَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يَشْفَعَا إِلَى الرَّبِّ لِيَكُفَّ هَذِهِ النَّكْبَةَ عَنْ مِصْرَ، وَوَعَدَهُمَا بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ فِي خِتَامِ ذَلِكَ: (33) فَخَرَجَ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ إِلَى الرَّبِّ فَكَفَّتِ الرُّعُودُ وَالْبَرْدُ، وَلَمْ يَعُدِ الْمَطَرُ يَهْطِلُ عَلَى الْأَرْضِ " اهـ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ عِنْدَ الْوَعِيدِ، بَلْ ذَكَرَ هُنَا عِنْدَ كَفِّ النَّكْبَةِ. وَأَمَّا الْجَرَادُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، فَفِيهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَسَا قَلْبُهُ فَلَمْ يُطْلِقْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ الرَّبُّ مُوسَى - كَمَا فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ - " بِأَنَّهُ قَسَا قَلْبُهُ وَقُلُوبُ عَبِيدِهِ لِيُرِيَهُمْ آيَاتِهِ، وَلِكَيْ يَقُصَّ مُوسَى عَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ (كَذَا) مَا فَعَلَ بِالْمِصْرِيِّينَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُ بِإِرْسَالِ الْجَرَادِ عَلَيْهِمْ فَيَأْكُلَ مَا سَلَمَ مِنَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُحْسِهِ الْبَرْدُ، وَيَمْلَأَ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ، وَسَائِرَ بُيُوتِ الْمِصْرِيِّينَ فَفَعَلَ - فَرَضِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبَ الرِّجَالُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمَوَاشِي، فَمَدَّ مُوسَى عَصَاهُ بِأَمْرِ الرَّبِّ

عَلَى أَرْضِ مِصْرَ (15) فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَرْقِيَّةً سَاقَتِ الْجَرَادَ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ فَغَطَّى جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى أَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَأَكَلَ جَمِيعَ عُشْبِهَا، وَجَمِيعَ مَا تَرَكَهُ الْبَرْدُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي الشَّجَرِ، وَلَا فِي عُشْبِ الصَّحْرَاءِ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ " وَفِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ اسْتَدْعَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا الصَّفْحَ وَالشَّفَاعَةَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمَا أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ هَذِهِ التَّهْلُكَةَ فَفَعَلَا، فَأَرْسَلَ اللهُ رِيحًا غَرِيبَةً فَحَمَلَتِ الْجَرَادَ كُلَّهُ فَأَلْقَتْهُ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ، وَأَمَّا الْقُمَّلُ - بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ - فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ الدَّبَى، وَهُوَ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ دَوَابٌّ سُودٌ صِغَارٌ، وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهَا دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تَأْكُلُ الْإِبِلَ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْقُمَّلَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَمْنَانُ وَاحِدَتُهَا حَمْنَانَةٌ، وَهِيَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ - ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجَزَمَ الرَّاغِبُ بِأَنَّ الْقُمَّلَ صِغَارُ الذُّبَابِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَفِيهَا أَنَّ الْبَعُوضَ وَالذِّبَّانَ كَانَ مِنَ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي ضَرَبَ الرَّبُّ بِهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؛ لِيُرْسِلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى، فَفِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ مُوسَى أَنْذَرَ فِرْعَوْنَ أَنِ الذِّبَّانَ سَيَدْخُلُ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُفْسِدُهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُقِيمِينَ فِي أَرْضِ جَاسَّانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَأْثِيرِ الذِّبَّانِ. وَأَمَّا الضَّفَادِعُ فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ " (1) وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى ادْخُلْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقُلْ لَهُ: كَذَا قَالَ الرَّبُّ أَطْلِقْ شَعْبِي؛ لِيَعْبُدُونِي (2) وَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تُطَلِقَهُمْ فَهَا أَنَا (ذَا) ضَارِبٌ جَمِيعَ تُخُومِكَ بِالضَّفَادِعِ (3) فَيَفِيضُ النَّهْرُ ضَفَادِعَ فَتَصْعَدُ وَتَنْتَشِرُ فِي بَيْتِكَ، وَفِي مَخْدَعِ فِرَاشِكَ، وَعَلَى سَرِيرِكَ، وَفِي بُيُوتِ عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ، وَفِي تَنَانِيرِكَ وَمَعَاجِنِكَ " إِلَخْ. وَكَذَلِكَ كَانَ، وَلَكِنْ فِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَصْعَدُوا الضَّفَادِعَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِرَفْعِ الضَّفَادِعِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: (13) فَفَعَلَ الرَّبُّ كَمَا قَالَ مُوسَى، وَمَاتَتِ الضَّفَادِعُ مِنَ الْبُيُوتِ (؟) وَالْأَقْبِيَةِ وَالْحُقُولِ (14) فَجَمَعُوهَا أَكْوَامًا، وَأَنْتَنَتِ الْأَرْضُ مِنْهَا ". وَأَمَّا الدَّمُ، فَفَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِالرُّعَافِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ دَمٌ كَانَ فِي مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ فِيهَا أَوَّلُ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بَعْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا. فَفِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ " أَنَّ الرَّبَّ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُنْذِرَ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ فَفَعَلَ (19) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى قُلْ لِهَارُونَ: خُذْ عَصَاكَ، وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْهَارِهِمْ وَخُلُجِهِمْ وَمَنَاقِعِهِمْ وَسَائِرِ مَجَامِعِ مِيَاهِهِمْ، فَتَصِيرَ دَمًا، وَيَكُونُ دَمًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي الْخَشَبِ وَفِي الْحِجَارَةِ " وَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ فَعَلَا ذَلِكَ، وَأَنَّ سَمَكَ

134

النَّهْرِ مَاتَ، وَأَنْتَنَ النَّهْرُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمِصْرِيُّونَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ سَحَرَةَ مِصْرَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ (؟ ؟) وَأَنَّ الدَّمَ دَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. هَذِهِ الْخَمْسُ جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْآيَاتِ التِّسْعِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ فَلَا هُوَ يَنْفِيهَا وَلَا يُؤَيِّدُهَا، وَمُقْتَضَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْوَقْفُ فِيهَا إِلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهَا أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ أَوِ الضَّرَبَاتِ (الْبَعُوضَ) وَذَلِكَ أَنَّ هَارُونَ ضَرَبَ بِأَمْرِ الرَّبِّ تُرَابَ الْأَرْضِ " فَكَانَ الْبَعُوضُ عَلَى النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، وَكُلُّ تُرَابِ الْأَرْضِ (؟) صَارَ بَعُوضًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ " كَذَا فِي (8: 17 خر) وَفِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ! (وَمِنْهَا الْوَبَاءُ) وَقَعَ عَلَى دَوَابِّ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْعَامِهِمْ فَمَاتَتْ كُلُّهَا مِنْ دُونِ مَوَاشِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا شَيْءٌ (وَمِنْهَا الْبُثُورُ وَالْقُرُوحُ الْمُنْتَفِخَةُ) أَصَابَتِ النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ - وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتِ الْبَهَائِمُ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ بِأَسْرِهَا؟ - (وَمِنْهَا الظَّلَامُ) غَشَى جَمِيعَ الْمِصْرِيِّينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فِيهَا يَتَمَتَّعُونَ بِالنُّورِ وَحْدَهُمْ، (وَمِنْهَا إِمَاتَةُ جَمِيعِ أَبْكَارِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ) وَهِيَ الضَّرْبَةُ الْعَاشِرَةُ فَفِيهَا " وَقَالَ مُوسَى: كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِنِّي نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْتَازُ فِي وَسَطِ مِصْرَ فَيَمُوتُ كُلُّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى عَرْشِهِ إِلَى بِكْرِ الْأَمَةِ الَّتِي وَرَاءَ الرَّحَى، وَجَمِيعِ أَبْكَارِ الْبَهَائِمِ (مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ مُنْذُ أَيَّامٍ؟) وَيَكُونُ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ (11: 4 - 6 خر) . وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْآيَاتِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا مَعْطُوفًا عَلَيْهَا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: ارْتَجَزَ الرَّعْدُ إِذَا تَدَاوَكَ صَوْتُهُ كَارْتِجَازِ الرَّجَزِ. . وَالْبَحْرُ يَرْتَجِزُ بِآذِيهِ، أَيْ مَوْجِهِ. . فَمَادَّةُ الرِّجْزِ تَدُلُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ

كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (8: 11) أَيْ: وَسْوَسَتَهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَطَشُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الرَّجَزُ فِي الشِّعْرِ سُمِّيَ بِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اضْطِرَابِ الصَّوْتِ فِي إِنْشَادِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ عَذَابُ قَوْمِ لُوطٍ رِجْزًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (29: 34) وَفِي سُورَتَيْ سَبَأٍ وَالْجَاثِيَةِ إِنْذَارٌ لِلْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ، وَفُسِّرَ الرِّجْزُ هُنَا بِالْعَذَابِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطَّاعُونُ، وَكَأَنَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا " الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ - فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَلْفَاظٍ أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، مِنْهَا: " الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ " إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ " إِلَخْ، وَأَوَّلُهُ فِي بَعْضِهَا: " إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ " إِلَخْ، وَوَجْهُهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنَ الْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَضْطَرِبُ لَهَا الْقُلُوبُ لِشِدَّةِ فَتْكِهَا، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (2: 58، 59) وَهُوَ يَصْدُقُ بِطَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَزَلَ الطَّاعُونُ بِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِرَارًا، وَلَا يُوجَدُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَضَرْبَةُ الْقُرُوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّاعُونَ، وَمَوْتُ الْأَبْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالطَّاعُونِ أَيْضًا. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرِّجْزِ جِنْسُهُ، وَهُوَ كُلُّ عَذَابٍ تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ نِقْمَةٍ وَجَائِحَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَالْخَمْسِ الْمُبَيَّنَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنْهَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا هَذِهِ، وَيَعِدُهُ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ، وَيَذْبَحُوا لَهُ ثُمَّ يَنْكُثُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْزِ أَفْرَادَهُ وَافَقَ التَّوْرَاةَ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ مُوسَى عِنْدَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ بِكَشْفِهَا عَنْهُمْ، وَلَفْظُ " لَمَّا " لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ جُمْلَتَهُ، وَمَجْمُوعُ أَفْرَادِهِ أَوْ فَرْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ كَشْفِهِ قَدْ وَقَعَ مَرَّةً

135

وَاحِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُرَجِّحُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَكْثِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ (يَنْكُثُونَ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. وَمَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الْبِئْرِ الْبَعِيدَةِ الْقَعْرِ، وَحَاصُوا حَيْصَةَ الْحُمُرِ فَوَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ - وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِالرِّجْزِ - قَالُوا عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بِهِمْ: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاسْأَلْهُ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مِنْ أَمْرِ إِرْسَالِكَ إِلَيْنَا؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِكَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ عَهْدٌ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ (2: 124) أَوِ ادْعُهُ بِالَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوهُ بِهِ فَيُعْطِيكَ الْآيَاتِ وَيَسْتَجِيبُ لَكَ الدُّعَاءُ - أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ، وَنَحْنُ نُقْسِمُ لَكَ لَئِنْ كَشَفْتَهُ عَنَّا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ أَيْ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا - وَهُوَ عَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ - أَوْ فِي مَجْمُوعِهَا، وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي هَلَكُوا فِيهِ، إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ، وَيَحْنَثُونَ فِي قَسَمِهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ أَيْ: فَاجَئُوا بِالنَّكْثِ، وَبَادَرُوا إِلَى الْحِنْثِ، بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا رَيْثٍ، وَأَصْلُ النَّكْثِ فِي اللُّغَةِ نَقْضُ مَا غُزِلَ أَوْ مَا فُتِلَ مِنَ الْحِبَالِ؛ لِيَعُودَ أَنْكَاثًا وَطَاقَاتٍ مِنَ الْخُيُوطِ كَمَا كَانَ، وَالْأَنْكَاثُ مَا نُقِضَ مِنَ الْغَزْلِ لِيُغْزَلَ ثَانِيَةً: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (16: 92) . فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ أَيْ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُمْ بِأَنْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ - وَهُوَ الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَرَبِيَّةِ فِي الْأُلُوفِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا " وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى النِّيلِ وَغَيْرِهِ - وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْتَقَمْنَا تَفْسِيرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ (11: 45) وَعَلَّلَ هَذَا الِانْتِقَامَ كَمَا عَلَّلَ أَمْثَالَهُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ تَكْذِيبَ الْوَاحِدَةِ كَتَكْذِيبِ الْكَثِيرِ، وَيَقْتَضِيهِ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ أَحَدِ الرُّسُلِ كَتَكْذِيبِ الْجَمِيعِ إِذَا كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَتِهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَوْنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا فَلِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الِانْتِقَامِ بِالْفَاءِ فَلَيْسَ

تَعْلِيلًا آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْقِيبٌ عَلَى كَوْنِهِ وَقَعَ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بِتِلْكِ الْآيَاتِ كُلِّهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ ثُمَّ يُكَذِّبُونَ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ وَتَسْتَلْزِمُهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِذْ كَانَتْ فِي نَظَرِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالصِّنَاعَةِ، وَكَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِيهِمَا الْغَايَةَ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ، وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَأْتِيَ سَحَرَتُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمِثْلِهَا، وَيَحْمِلُونَ عَجْزَهُمْ عَلَى تَفَوُّقِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَيُعُدُّونَ إِسْنَادَهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِهِمُ الْأُمُورَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِحَسَبِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ حُكَمَاؤُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ خُضُوعِ عَامَّةِ الشَّعْبِ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ دَلَالَةُ آيَاتِ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ جَهْرًا كَكِبَارِ السَّحَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَكَتَمَ إِيمَانَهُ كَالَّذِي عَارَضَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فِي قَتْلِ مُوسَى بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ - كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَمِنْهُمْ مَنْ جَحَدَ بِهَا لِمَحْضِ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَأَكَابِرِ الْوُزَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي مُجَارَاةِ الْحُكُومَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لِلْعَوَامِّ عَلَى خُرَافَاتِهِمْ أَنَّ حُكُومَاتِ هَذَا الْعَصْرِ تُوَافِقُ الْعَامَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ. كَمَا تَفْعَلُ الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ فِي بَعْضِ الِاحْتِفَالَاتِ الْمَوْسِمِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ كَالْمَوَالِدِ بِالتَّبَعِ لِجُمْهُورِ الشَّعْبِ مِنْ كِبَارِ عُلَمَائِهِ إِلَى أَجْهَلِ عَوَامِّهِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي يُعَدُّ مُسْتَحِلُّهَا مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَالْجُمْهُورُ غَافِلُونَ عَنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِفَالِ بِهَا، وَشَدِّ الرَّحَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ فِي سَبِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ كُبْرَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِبْطَالِ دُرُوسِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا لِأَجْلِهَا، كَالْمَسْجِدِ الْأَحْمَدِيِّ فِي طَنْطَا، وَالْمَسْجِدِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ فِي دُسُوقَ، وَأَنَّ أَكْبَرَ ضَرَرِهَا تَشْوِيهُ الْإِسْلَامِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أُولِي الْعُلُومِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِمُ الْمُرْتَدُّونَ عَنْهُ، وَصَدُّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا عُرْفُ الْأُمَمِ أَنَّ دِينَ كُلِّ قَوْمٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالشَّعَائِرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنَّا إِقْنَاعُ بَعْضِ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمُقَرَّرِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَالسُّنَّةِ السُّنِّيَّةِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَاقْتَنَعُوا بِأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ لَهُمْ حَقٌّ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِأَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ نَقَلْتُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِنْجِلِيزِ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِي: إِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَا ذَكَرْتَ فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَكَانَ نَعُوم بِك شَقِير الْمُؤَرِّخُ السُّورِيُّ يَقُولُ لِي: اكْتُبْ عَقِيدَتَكَ، وَأَنَا أَمْضِي عَلَيْهَا بِخَطِّي أَنَّهَا عَقِيدَتِي.

137

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَاقِبَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَتَأْوِيلَهَا فِي الْمِصْرِيِّينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ عَاقِبَتِهَا وَتَأْوِيلَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْبَلِيغَةِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيَرُ عَنِ اسْتِخْلَافِ اللهِ قَوْمًا فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِالْإِيرَاثِ، أَيْ وَأَعْطَيْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ فِي مِصْرَ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْخِصْبِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَشَارِقُهَا مِنْ حُدُودِ الشَّامِ وَمَغَارِبُهَا مِنْ حُدُودِ مِصْرَ تَحْقِيقًا لِوَعْدِنَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (28: 5، 6) رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِيرِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هِيَ قُرَى الشَّامِ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَوْذَبٍ: فَلَسْطِينُ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِي الشَّامِ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْعَرِيشِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (21: 71) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (21: 81) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بَعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (17: 1) . وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ وَفَلَسْطِينَ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَتَرَاءَى أَنَّ إِرَادَةَ أَرْضِ مِصْرَ هِيَ الْظَاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (26: 57، 59) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (44: 25 - 28) لِأَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَأِ وَالْجُنْدِ مِنْ مِصْرَ وَتَرَكُوا

مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، إِلَى الْغَرَقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَحِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَظْهَرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ ذَاتِ الْجَنَّاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ، وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا إِزَالَةُ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَنْهَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ التَّفَكُّهِ بِنَعِيمِهَا، فَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ فَلَسْطِينَ إِلَى الشَّامِ تَابِعَةً لِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْتَعْمِرَةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا حُكَّامًا وَجُنُودًا لِئَلَّا تَنْتَقِضَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسْكُنَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِخَيْرَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ جُمْلَةً مِنَ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ الْوَحِيدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ذِكْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ كَانَتْ تَابِعَةً لِمِصْرَ. عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا مِنْ أَنَّ مُوسَى اسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ، وَتَمَتَّعَ هُوَ وَقَوْمُهُ بِالسِّيَادَةِ فِيهَا طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ، نَذْكُرُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ الْآيَاتِ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةٍ لِأَحَدِ مَبَاحِثِ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَعَقَائِدِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذَا نَصُّهُ (كَمَا فِي ص446، 447 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ) : " جَاءَ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ) صَفْحَةِ 88 لِمُؤَلِّفِهِ لِيَنْجَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الشَّهِيرَ نَقَلَ عَنْ (مَانِيثُونَ) هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمِصْرِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي مُلَخَّصُهَا " أَنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ هَزَمَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ - الَّذِي فَرَّ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ - حَكَمَ مِصْرَ 13 سَنَةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى فِرْعَوْنَ هُوَ وَابْنُهُ، وَمَعَهُمَا جَيْشٌ عَظِيمٌ فَقَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ " وَجَاءَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِبُوسْتَ مُجَلَّدِ 1ص410 أَنَّ هِيرُودُوتَسَ الْمُؤَرِّخَ الْيُونَانِيَّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ قَالَ: " إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ ضُرِبَ بِالْعَمَى مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى رُمْحَهُ فِي النَّهْرِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَمْوَاجُهُ وَقْتَ فَيْضِهِ؛ بِسَبَبِ نَوْءٍ شَدِيدٍ إِلَى عُلُوٍّ غَيْرِ اعْتِيَادِيٍّ " اهـ، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ هَذَا (وَهُوَ مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) هُوَ فِرْعَوْنُ الْخُرُوجِ، وَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِشَارَةً إِلَى غَرَقِهِ فِي زَمَنِ مُوسَى، لَكِنْ يَرَى الْقَارِئُ مِنْهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْغَرَقِ لَكَانَ الْغَرَقُ فِي النِّيلِ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى حَكَمَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ 13 سَنَةً فِي مِصْرَ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا مِنْ أَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتَا الْوَحِيدَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ الْمِصْرِيِّينَ اسْتَغَاثُوا بِمَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى بِالْخُرُوجِ حِينَئِذٍ مِنْ مِصْرَ، وَتَرْكِهَا لِأَهْلِهَا، وَعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَتَمُوا خَبَرَ غَرَقِ مَلِكِهِمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ دَعْوَى تَقَهْقُرِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ

وَأَخْرَجَ مُوسَى بِالْقُوَّةِ؛ سِتْرًا لِخِزْيِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، وَإِرْضَاءً لِمُلُوكِهِمْ وَأَسَرَ (جَمْعَ أُسُرِهِ بِالضَّمِّ) هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ، وَرُبَّمَا أَنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشُهْرَتُهَا بَيْنَهُمْ لَأَنْكَرُوهَا بِالْمَرَّةِ. " وَمِنْ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ غَرَقِ الْمِصْرِيِّينَ مُبَاشَرَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الَّتِي غَرَقَ فِيهَا فِرْعَوْنُ وَجَيْشُهُ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ سِنِينَ ". وَيَرَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ أَنَّ هَاتَيْنِ الرُّوَايَتَيْنِ صَادِقَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي النِّيلِ، وَمَسْأَلَةِ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ 13 سَنَةً، وَأَمَّا الْغَرَقُ فِي النَّيْلِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ مَثَلًا فِي سُورَةِ طَهَ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (20: 38، 39) ثُمَّ قَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرَقَ فِي نَفْسِ الْيَمِّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ مُوسَى وَهُوَ النِّيلُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (28: 7) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهَا بَعْدُ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودُهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (28: 40) . " وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا هُوَ وَقَوْمُهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ الْغَرَقِ فَهُوَ أَيْضًا الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَادَ أَيْ: فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ (17: 103، 104) وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (26: 57 - 59) وَيَجُوزُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ لِمُوسَى فِي الطُّورِ قَبْلَ تَرْكِهِ حُكْمَ مِصْرَ. " وَفِي زَمَنِ مُوسَى أَعْطَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - بَدَلًا عَنْ مِصْرَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا - الْمَمَالِكَ الَّتِي فِي شَرْقِ الْأُرْدُن كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي زَمَنِ يَشُوعَ أَعْطَاهُمْ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا (يش 13: 1) وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ هِيَ مِنْ أَخْصَبِ أَرَاضِي الْعَالَمِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا مِنْ قَبْلُ. " فَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِلْمُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ؟ وَمُغَايِرٌ لِلتَّوْرَاةِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا - حَتَّى الْآنَ - إِلَّا وَاسِعُو الِاطِّلَاعِ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ؟ " وَأَمَّا مَانِيثُو Manetho الْمَذْكُورُ هُنَا الَّذِي وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ كَاهِنًا لِمَعْبَدٍ مِنْ أَقْدَمِ الْمَعَابِدِ وَأَشْهَرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ مِصْرَ بِأَمْرِ بَطْلَيْمُوسَ فِيلَادَلْفُوسَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَدَقِّ مُؤَرِّخِي الْقُدَمَاءِ وَأَصْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَوْثَقِ الْمَصَادِرِ

وَأَصَحِّهَا فِي كِتَابَةِ تَارِيخِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّارِيخَ فُقِدَ مَعَ مَا فُقِدَ فِي حَرِيقِ مَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى مُقْتَطَفَاتٍ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَقَدْ أَيَّدَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمُقْتَطَفَاتِ مَا اكْتُشِفَ حَدِيثًا مِنَ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْمَكْتُوبَاتِ الْعَتِيقَةِ مَعَ أَنَّ آبَاءَ النَّصْرَانِيَّةِ كِيُوسِيبْيُوسَ حَرَّفُوا كَعَادَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا نَقَلُوهُ مِنْهَا لِتُطَابِقَ نُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ لِيَنْجُ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ " ص11 مِنْهُ اهـ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا تَمَامُ الشَّيْءِ: وُصُولُهُ إِلَى آخِرِ حَدِّهِ، وَكَلِمَةُ اللهِ: وَعْدُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ. فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرٍ: مَضَى عَلَيْهِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَتَمَّ إِلَى مَقْصِدِكَ، وَالْمَعْنَى: نَفَذَتْ كَلِمَةُ اللهِ، وَمَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَامَّةً كَامِلَةً؛ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ الَّتِي كَابَدُوهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ مَقْرُونًا بِأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّقْوَى لَهُ كَمَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْلِيغًا عَنْهُ تَعَالَى. رَاجِعْ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا الْآيَةَ، مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَإِذْ كَانَ قَدْ تَمَّ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ سَلَبَهُمُ اللهُ تِلْكَ الْأَرْضَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مُقْتَضَى الْوَعْدِ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ، وَنَفَذَ صِدْقًا وَعَدْلًا. وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ التَّدْمِيرُ: إِدْخَالُ الْهَلَاكِ عَلَى السَّالِمِ وَالْخَرَابِ عَلَى الْعَامِرِ، الْعَرْشُ: رَفْعُ الْمَبَانِي وَالسَّقَائِفِ لِلنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ الْمُتَسَلِّقِ كَعَرَائِشِ الْعِنَبِ، وَمِنْهُ عَرْشُ الْمَلِكِ، وَالْمُرَادُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَيْدِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَوَّلُ كَالْمَبَانِي الَّتِي كَانُوا يَبْنُونَهَا لِلْمِصْرِيِّينَ أَوْ يَصْنَعُونَ اللَّبَنَ لَهَا، وَمِنْهَا الصَّرْحُ الَّذِي أُمِرَ هَامَانُ بِبِنَائِهِ؛ لِيَرْقَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، وَالثَّانِي: كَالْمَكَايِدِ السِّحْرِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا السَّحَرَةُ؛ لِإِبْطَالِ آيَاتِهِ أَوِ التَّشْكِيكِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ (20: 69) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمِلَهُ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (40: 36، 37) وَالتَّبَابُ بِمَعْنَى الدَّمَارِ. وَأَمَّا أَسْبَابُ هَذَا التَّدْمِيرِ لِذَلِكَ الصُّنْعِ وَالْعُرُوشِ فَأَوَّلُهَا: الْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَغَيْرِهَا -، وَتُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ الضَّرَبَاتِ، وَفِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي ضَرَرِهَا وَتَخْرِيبِهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ - وَيَلِيهَا: إِنْجَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِرْمَانُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ اسْتِعْبَادِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا: هَلَاكُ مَنْ غَرَقَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَحِرْمَانُ الْبِلَادِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعُمْرَانِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْهَا، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى

بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَدْ أَنْذَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ ذَلِكَ لِيَتَّقُوا سُوءَ عَاقَبَتِهِ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْإِعْنَاتِ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَفَكَّرَ تَالِي الْقُرْآنِ فِي تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْوَحْيِ فِي مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ إِذْ تَصَدَّيَا لِأَعْظَمِ مَلِكٍ فِي أَعْظَمِ دَوْلَةٍ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرَةٍ لِقَوْمِهِمَا، وَمُعَبِّدَةٍ لَهُمْ فِي خِدْمَتِهَا مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَدَعَوَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وَتَعْبِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْذَرَاهُ وَهَدَّدَاهُ، وَمَا زَالَا يُكَافِحَانِهِ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى أَظْفَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْقَذَا قَوْمَهُمَا مِنْ ظُلْمِهِ وَظُلْمِ قَوْمِهِ. فَجَدِيرٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا إِلَى التَّفَكُّرِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، كَمَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ إِذَا هُمْ قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَأَلَّا يَسْتَعْظِمُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ قُوَّةَ الدَّوْلَةِ الظَّالِمَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْحَقِّ الَّتِي نَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَعْظَمِ الدُّوَلِ لَا تُغْلَبُ إِذَا نَصَرْنَاهَا، وَنَحْنُ مِئَاتُ الْمَلَايِينِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (47: 7) وَيَقُولُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَجَدَّدَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْيَهُودِ انْتِزَاعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِهَا الْعَرَبِ، وَتَنَازَعُ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ وَعْدِ اللهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَنْجَزَهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُعْتَبِرُ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَعْدِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا لِلْعَرَبِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَآلِهِمُ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَلَعْنَتُهُ وَخِزْيُهُ عَلَى الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ الْمُضِرِّينَ. فَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ لِلْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا كَانُوا مُتَّقِينَ، وَأَخْطَأَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ رَسُولِهِمْ فَأَدَّبَهُمِ اللهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ. أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُوسَى مِنْ مِصْرَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَرْضُ، بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَلَا سَعْيٍ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَبَّارِينَ، قَالُوا لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5: 24) فَحَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا عَرَضَ الْغُرُورُ لِبَعْضِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ بِمَا كَانَ مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالزَّادِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ كَمَا وُعِدُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا فِيمَا أُمِرُوا، فَلَمَّا أُصِيبُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ تَعَجَّبُوا وَاسْتَفْهَمُوا، فَأَجَابَهُمْ

اللهُ تَعَالَى بِمَا عَلِمُوا بِهِ أَنَّ وَعْدَهُ الْمُطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللهِ لِأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (58: 21) وَقَوْلُهُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) مُقَيَّدٌ بِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (47: 7) وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (8: 46) أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) إِلَى آخِرِ مَا فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَعَ سِيَاقِهَا مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ. نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ الْأَوَّلَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ لِذُرِّيَّتِهِ، فَجَعَلَهَا أَوَّلًا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ نَزَعَهَا مِنْهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ أَعْطَاهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ انْتَزَعَ السُّلْطَانَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَيْضًا بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَجَدَّدَ التَّنَازُعُ فِي رَقَبَتِهَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ - بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَنِي إِسْمَاعِيلَ - بِإِغْرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَوْقَعُوا الشِّقَاقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا، وَهُمْ أَحَذَقُ الْخَلْقِ فِي ضَرْبِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَسَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ قَوْمُنَا بِالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَّكِلنَّ عَلَى الْمُتَّجِرِينَ بِالْأَقْوَامِ، وَلَا يَنْخَدِعَنَّ بَعْدُ بِشَقَاشِقِ الْكَلَامِ، وَلَا يَنُوطُنَّ الزَّعَامَةَ بِأَصْحَابِ الْأَنْسَابِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ ثَبَتَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِأَعْدَاءِ الْبِلَادِ، وَسَالِبِي اسْتِقْلَالِهَا، وَوَاضِعِي الْخُطَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِانْتِزَاعِ رَقَبَتِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالِانْقِرَاضِ مِنْهَا بِتَعَذُّرِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، لَا بِالْإِبْعَادِ الْقَسْرِيِّ عَنْهَا، بِأَنْ يَكُونَ شَأْنُهُمْ فِي هَذَا كَسُكَّانِ أَمْرِيكَا قَبْلَ اسْتِعْمَارِ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ لَهَا. وَلَا مُنْجَاةَ لِعَرَبِ فَلَسْطِينَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ شَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا أَشَدُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَثَرْوَةً وَدَهَاءً وَكَيْدًا، وَعِلْمًا وَصَبْرًا وَجَلَدًا، إِلَّا بِاتِّحَادِهِمْ مَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِاسْتِبْسَالِ، وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الدِّفَاعِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ أُمَّتِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَمَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ الْمَعْنَوِيِّ عَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمَا، وَلَا أَمْنَ عَلَيْهِمَا، مَعَ إِحَاطَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِهِمَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطُوا خَطْوَةً وَاحِدَةً فِي طَرِيقِ الْوَحْدَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ خَطَوْا خَطْوَتَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ فِي سَبِيلِ الشِّقَاقِ، وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَ الْإِمَارَاتِ الْمُسَلَّحَةِ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، نَفَّرُوا بِهِمَا أَكْبَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهُمْ. (الْأُولَى) : مُوَالَاةُ صَاحِبِ الْحِجَازِ الَّذِي أَعَانَ الْإِنْكِلِيزَ عَلَى فَتْحِ بِلَادِهِمْ ثُمَّ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مُثَبِّتًا لِأَقْدَامِهِمْ فِيمَا جَاوَرَهَا، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِهَا، بِأَنْ أَقَرُّوهُ عَلَى انْتِحَالِهِ لِنَفْسِهِ مَلِكَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى سَعْيِهِ لِإِخْضَاعِ تِلْكَ الْإِمَارَاتِ لِحُكْمِهِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى قُوَّةِ الْغَاصِبِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَوْلَا وُجُودُ أَحَدِ أَوْلَادِهِ (عَبْدِ اللهِ) فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ

138

الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْغَاصِبَةِ لِفَلَسْطِينَ، وَالْمُنْتَزِعَةِ لِلسِّيَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا؛ لَأَمْكَنَ أَنْ يَتَّحِدَ عَرَبُهَا مَعَ عَرَبِ نَجْدٍ الْأَقْوِيَاءِ عَلَى إِنْقَاذِهَا، وَكَذَا مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ سَمَّى الْإِنْكِلِيزُ وَلَدَهُ (فَيْصَلًا) مَلِكًا عَلَيْهِمْ، بَلْ لَوْلَا افْتِتَانُهُ هُوَ بِمَا فَتَنُوهُ بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَلِكًا لِلْعَرَبِ، وَخَلِيفَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَا ثَبَتَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَدَمٌ لِلْمُسْتَعْمِرِينَ. (وَالثَّانِيَةُ) : مُبَايَعَةُ جُمْهُورٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ لَهُ بِالْخِلَافَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا - لَوْ صَحَّتْ كَمَا يَدَّعِي وَيَدَّعُونَ لَهُ - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَاتِ شَرْعًا أَنْ تَخْضَعَ لِحُكْمِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهَا، وَإِخْضَاعُهَا بِالْقُوَّةِ، وَهَلْ كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ سَعْيٌ إِلَى شِقَاقٍ، وَتَفَرُّقٍ شَرٍّ مِنْ هَذَا؟ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّحِدِينَ فَانْقَسَمُوا، وَصَارُوا أَحْزَابًا مُتَنَازِعَةً، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَغْيِيرَ الْحَالِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا شُرُوعٌ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّتِهِ مَعَ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِ الْعِبْرَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ لَغْوِ الْقَصَصِ وَالتَّارِيخِ. قَالَ عَزّ وَجَلَّ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ جَازَ الشَّيْءَ، وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ: عَدَّاهُ وَانْتَقَلَ عَنْهُ، وَالْعُكُوفُ عَلَى

الشَّيْءِ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ الْعُكُوفُ وَالِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُلَازَمَتُهُ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَعْكِفُونَ) بِكَسْرِ الْكَافِ مِنْ بَابِ جَلَسَ يَجْلِسُ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مِنْ بَابِ قَعَدَ يَقْعُدُ، وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الْمَعْدِنِ مِثَالًا لِشَيْءٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ خَيَالِيٍّ أَوْ مُذَكِّرًا بِهِ لِيُعَظَّمَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَنَمًا مِنْ عَجْوَةِ التَّمْرِ فَعَبَدُوهُ ثُمَّ جَاعُوا فَأَكَلُوهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّمْثَالِ: أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى صَنَمًا، وَقَدْ يَكُونُ لِلزِّينَةِ كَالَّذِي نَرَاهُ عَلَى جُدْرَانِ بَعْضِ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ أَوْ أَبْوَابِهَا أَوْ فِي حَدَائِقِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ غَيْرِ الدِّينِيِّ كَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي تُنْصَبُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَكِبَارِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا أَوِ الْقُوَّادِ وَالزُّعَمَاءِ؛ لِلتَّذْكِيرِ بِتَارِيخِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَيَكْثُرُ هَذَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ، وَقَلَّدَهُمْ بَعْضُ بِلَادِ الشَّرْقِ كَمِصْرَ، فَنَصَبَتْ حُكُومَتُهَا تَمَاثِيلَ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ بَيْتِ الْمَلِكِ الْحَاضِرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّعْظِيمِ السِّيَاسِيِّ أَوِ الْعِلْمِيِّ، وَبَيْنَ تَعْظِيمِ الْعِبَادَةِ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْأَوَّلِ إِمَّا رِفْعَةُ شَأْنِ الدَّوْلَةِ، وَتَمْكِينُ سُلْطَانِهَا عَلَى أَنْفُسِ الْأُمَّةِ بِمُشَاهِدَةِ صُوَرِ مُلُوكِهَا، وَكُبَرَاءِ رِجَالِهَا وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَهُوَ قَصْدٌ سِيَاسِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِهِ - وَإِمَّا بَعْثُ شُعُورِ حُبِّ الْعِلْمِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ نَفَعُوا أُمَّتَهُمْ، عَسَى أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَوْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَصْدٌ اجْتِمَاعِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ، وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْعِبَادَةِ فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّقَرُّبُ مِنَ الْمَعْبُودِ، وَطَلَبُ ثَوَابِهِ بِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبِ لَا الْكَسْبِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، فَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّ لَهُ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً أَوْ تَعْظِيمُ مَا يُذَكَرُ بِهِ مِنْ صُورَةٍ أَوْ تِمْثَالٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ؛ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُنَالُ بِالْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ -، وَهِيَ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِجَاهِهِ - كُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُعَظِّمُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ لِمَا يَذْكَرُ بِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ نَفْسِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّعْظِيمِ بِالْقَوْلِ كَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَالطَّوَافِ بِتِمْثَالِهِ أَوْ قَبْرِهِ، وَتَقْبِيلِهِ وَالتَّمَرُّغِ بِأَرْضِهِ - كَانَتِ الْعِبَادَةُ خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِنْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيَحْمِلَهُ بِجَاهِهِ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا يُرِيدُ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَهُ، وَلِلَّهِ تَعَالَى بِالِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّتِي لَا يُخْرِجُهَا تَغْيِيرُ التَّسْمِيَةِ عَنْ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ شِرْكًا. اسْتِطْرَادٌ فِقْهِيٌّ حَظَرَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ نَصْبَ التَّمَاثِيلِ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا شِرْكٌ أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، أَوْ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِهِ، وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّدَلِّي، فَأَغْلَظُهَا أَوَّلُهَا، وَأَخَفُّهَا ثَالِثُهَا. وَلِلتَّشَبُّهِ دَرَجَاتٌ فِي الْحَظْرِ أَشَدُّهَا مَا كَانَ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَأَهْوَنُهَا مَا كَانَ فِي الْعَادَاتِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا

فَنَجْتَنِبُ مِنْهُ مَا لَنَا غِنًى عَنْهُ، وَمَا كَانَ نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ بِنَفْسِهِ لَا نَأْخُذُهُ بِقَصْدِ التَّشَبُّهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ تَعْظِيمِ الْمُتَشَبِّهِ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَوْ يَسْتَلْزِمُ احْتِقَارَهَا أَوِ احْتِقَارَهُمْ وَالشُّعُورَ بِأَنَّهُمْ دُونَهُمْ، وَأَمَّا اقْتِبَاسُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ؛ لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهَا بِقَدْرِهَا فَلَيْسَ مِنَ التَّشَبُّهِ، وَلَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُقْتَبِسِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَلَا اقْتُبِسَتْ لِأَجْلِ التَّعْظِيمِ بَلْ لِفَائِدَتِهَا، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ مِمَّا تَعْتَزُّ بِهِ مِلَّةُ الْمُقْتَبِسِ الْمُسْتَفِيدِ وَأَهْلِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَلَ الْخَنْدَقِ عَنِ الْفُرْسِ؛ إِذْ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ وَاجِبًا شَرْعًا، وَمِنْهُ أَخْذُنَا لِفُنُونِ الْحَرْبِ وَصِنَاعَتِهَا وَآلَاتِهَا عَنِ الْإِفْرِنْجِ؛ إِذْ أَتْقَنُوهَا قَبْلَنَا، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِلَا نِزَاعٍ، فَالْأُمَّةُ الْحَيَّةُ تَقْتَبِسُ كُلَّ شَيْءٍ نَافِعٍ يُغَذِّي حَيَاتَهَا، وَيَزِيدُهَا قُوَّةً وَعِزَّةً، وَتَتَّقِي فِي ذَلِكَ كُلَّ مَا فِيهِ ضَعْفٌ لَهَا فِي مُقَوِّمَاتِهَا أَوْ مُشَخِّصَاتِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِخُصُومِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَطِنَ الْيَابَانُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَحَافَظُوا عَلَى شُئُونِهِمُ الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِمْ لِعُلُومِ الْفِرِنْجَةِ وَفُنُونِهَا، فَصَارُوا مِثْلَهُمْ فِي ثُلُثِ قَرْنٍ، وَغَفَلَ عَنْهُ التُّرْكُ وَالْمِصْرِيُّونَ فَأَضَاعُوا مِنْ مُلْكِهِمْ. وَلَيْسَ فِي نَصْبِ التَّمَاثِيلِ فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ ذَاتُ بَالٍ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِهَا تُبِيحُ لِلْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدَ الْوَثَنِيِّينَ وَالنَّصَارَى فِيهَا، وَلَوْ فِي جَعْلِهَا لِغَيْرِ رِجَالِ الدِّينِ بُعْدًا عَنْ شُبْهَةِ عِبَادَتِهَا، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَأْمَنُ هَذَا وَقَدْ عُبِدَتْ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، كَمَا عَبَدَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ أَشْخَاصًا مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَنَرَى الشِّيعَةَ الْمُعْتَدِلِينَ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا نَصْبَ التَّمَاثِيلِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ قَدِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تِمْثَالًا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي بِلَادِ إِيرَانَ كَمَا نَقَلَتْ صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الصُّوَرُ فَلَهَا فَوَائِدُ فِي الْحَرْبِ، وَحِفْظِ الْأَمْنِ، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي اللُّغَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا سِيَّمَا الطِّبُّ وَالتَّشْرِيحُ. . . فَلَا يَحْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ عِبَادَةً، وَلَا تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهَتْكِ الْقِرَامِ (السِّتَارِ) الَّذِي نَصَبَتْهُ (عَائِشَةُ) فِي حُجْرَتِهَا؛ إِذْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ، فَلَمَّا جَعَلَتْ مِنْهُ وِسَادَةً كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَعْمِلُهَا وَفِيهَا الصُّوَرُ؛ إِذْ كَانَ الِاتِّكَاءُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهَا امْتِهَانًا لَا تَعْظِيمًا، وَلَا يُشْبِهُ التَّعْظِيمَ الْوَثَنِيَّ. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِبَيَانِ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ مِرَارًا. عَوْدٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ: مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَنَّهُمْ تَجَاوَزُوهُ بِعِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَيْسِيرِ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ بِذَاتِهِ فَجَاوَزَهُ مُصَاحِبًا لَهُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّنَا أَيَّدْنَاهُمْ بِبَعْضِ مَلَائِكَتِنَا، فَجَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرُ بِأَمْرِنَا، فَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ

أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَرُؤَسَاءِ الْقُوَّادِ مَا يُنَفِّذُهُ بَعْضُ أَتْبَاعِهِمْ بِأَمْرِهِمْ، وَمَا يَقَعُ بِجَاهِهِمْ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. فَفَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ كَانَ بِعِنَايَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ. وَفِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ ذَكَرَ خَبَرَ ارْتِحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: " (20) وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودٍ مِنْ غَمَامٍ؛ لِيَهْدِيَهُمُ الطَّرِيقَ، وَلَيْلًا فِي عَمُودٍ مِنْ نَارٍ؛ لِيُضِيءَ لَهُمْ لِيَسِيرُوا نَهَارًا وَلَيْلًا (21) لَمْ يَبْرَحْ عَمُودَ الْغَمَامِ نَهَارًا أَوْ عَمُودَ النَّارِ لَيْلًا مِنْ أَمَامِ الشَّعْبِ " ثُمَّ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ بَعْدَ ذِكْرِ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (19) فَانْتَقَلَ مَلَاكُ اللهِ السَّائِرُ أَمَامَ عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَصَارَ وَرَاءَهُمْ وَانْتَقَلَ عَمُودُ الْغَمَامِ مِنْ أَمَامِهِمْ فَوَقَفَ (20) وَرَاءَهُمْ وَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ؛ فَكَانَ مِنْ هُنَا غَمَامًا مُظْلِمًا، وَكَانَ مِنْ هُنَاكَ يُنِيرُ اللَّيْلَ فَلَمْ يَقْتَرِبْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طُولَ اللَّيْلِ ". هَذَا بَعْضُ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ بِالْبَاءِ هُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِكَ: سَافَرْتُ بِهِ وَجِئْتُ بِهِ، وَإِسْنَادُ الْمَسِيرِ فِي عَمُودِ الْغَمَامِ إِلَى الرَّبِّ مَجَازِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (2: 210) (فَأَتَوْا) عَقِبَ تَجَاوُزِهِمْ إِيَّاهُ، وَدُخُولِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَرِّ الْأَسْيَوِي عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ يَعْبُدُونَهَا، فَمَاذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ إِذْ رَأَوْهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى كَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ أَنْقَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَأَرَاهُمْ آيَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ فِيهِمْ؟ هَلِ اسْتَهْجَنُوا شِرْكَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ؟ وَالْمَعْقُولُ مِمَّنْ رَأَى مَا رَأَوْا مِنْ سُوءِ مَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ، وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُوَحِّدِينَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا بِقُلُوبِهِمْ، بَلْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً حَنِينًا مِنْهُمْ إِلَى مَا أَلِفُوا فِي مِصْرَ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ وَتَمَاثِيلِهَا وَأَنْصَابِهَا وَقُبُورِهَا، فَعَلِمَ بِهَذَا الطَّلَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فَهِمُوا التَّوْحِيدَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى كَمَا فَهِمَهُ مَنْ آمَنَ مِنْ سَحَرَةِ الْمِصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَأَمْكَنَهُمُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَبَيْنَ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِنَاعَاتِ الْبَشَرِ وَعُلُومِهِمْ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فَكَانُوا مِنَ الْعَامَّةِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَلَّدَ الذُّلُّ أَفْهَامَهُمْ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا مُوسَى لِإِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ظُلِمَ فِرْعَوْنَ وَتَعْبِيدِهِ لَهُمْ، لَا لِفَهْمِهِمْ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُمْ بَعْضُ الْقَوْمِ لَا جَمِيعُهُمْ، فَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ الْخَالِصُ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ هُوَ غَايَةُ مَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ عِرْفَانُ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (51: 56) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ " اللَّامَ " لِلْغَايَةِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ عَقَلَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُنْهَ التَّوْحِيدِ لِمَا وَقَعَ مِنْ تَبَرُّمِهِمْ بِالتَّكَالِيفِ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ، وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي لَدَيْهِمْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالتَّفْصِيلِ لَهُ مَا هُوَ مِنْ

مُوَاطِنِ الْعَجَبِ، وَقَدِ ابْتَلَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَرَبَّاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَحَرَّمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى انْقَرَضَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي حِجْرِ الْوَثَنِيَّةِ، وَشَبَّ أَوِ اكْتَهَلَ أَوْ شَاخَ، فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَقَدْ رَأَيْنَا نَمُوذَجًا لِذَلِكَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَّتِنَا وُلِدُوا فِي مَهْدِ الظُّلْمِ، وَشَبُّوا فِي حِجْرِ النِّفَاقِ وَالْفِسْقِ، فَسَنَحَتْ لِأَعْلَمِهِمْ بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ فُرَصٌ مُتَعَدِدَةٌ، كَانَ يُرْجَى أَنْ يُحَرِّرُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ مِنْ رِقِّهَا السِّيَاسِيِّ وَيَسْتَقِلُّوا بِأَمْرِهِمْ فَأَضَاعُوهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَانَ هَذَا مِنْ عِبَرِ التَّارِيخِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ فَلَاحَ الْأُمَمِ بِأَخْلَاقِهَا وَعَقَائِدِهَا، وَأَنَّ الْعِلْمَ النَّاقِصَ شَرٌّ مِنَ الْجَهْلِ الْمُطْلَقِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ فِي الرَّجُلِ أَوِ الشَّعْبِ الْفَاسِدِ الْأَخْلَاقِ كَالسَّيْفِ فِي يَدِ الْمَجْنُونِ رُبَّمَا جَنَى بِهِ عَلَى صَدِيقِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا نَصَرَ بِهِ عَدُوَّهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَتَى عَلَيْهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَقِبَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُقِيمُونَ بِقُرْبِ حُدُودِ مِصْرَ، رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ مِنْ عَرَبِ لَخْمٍ، وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ: لَخْمٌ وَجُذَامٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ كَانَتْ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمَّا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ شُبِّهَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْبَقَرِ فَذَاكَ كَانَ أَوَّلَ شَأْنِ الْعِجْلِ؛ لِتَكُونَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ فَيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ (أَقُولُ) : وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَعْلَمُ أَنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عِجْلًا اسْمُهُ (أَبِيسُ) ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْبُدُونَهُ مَعَهُمْ كَغَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَيَرَوْنَ تَمَاثِيلَهُ مَنْصُوبَةً فِي مَعَابِدِهِمْ، وَأَنَّ السَّامِرِيَّ لَمْ يَصْنَعْ لَهُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا كَانَ مِنْ إِلْفِهِمْ لِعِبَادَتِهِ، وَتَأَثُّرِ أَعْصَابِهِمْ بِمَا وَرِثُوا مِنْ مَظَاهِرِ رَوْعَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ (2: 93) وَالْمُرَادُ عِجْلُ السَّامِرِيِّ، وَقَدْ عَلَّلَ إِشْرَابَهُمْ إِيَّاهُ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ؛ أَيْ: بِالْوِرَاثَةِ الْمُتَغَلْغِلَةِ فِي النَّفْسِ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَطُولُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَعْقَابِ وَالْأَنْسَالِ. أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا اسْتَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَلَّدَهُمْ فِيهِ بَعْضُ الْمُلُوكِ مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى السُّنَّةِ: مِنْ تَشْيِيدِ الْقُبُورِ، وَتَزْيِينِهَا بِالْعَمَائِمِ وَالسُّتُورِ، وَبِنَاءِ الْقِبَابِ فَوْقَهَا، وَاتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ يُصَلَّى إِلَيْهَا أَوْ لَدَيْهَا، وَإِيقَادِ السُّرُجِ وَالشُّمُوعِ عَلَيْهَا، أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا مَكَانَةً دِينِيَّةً كَبِيرَةً فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَعُدُّونَ مَنْ رَوَى لَهُمُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي لَعْنِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبْتَدِعًا فِيهِ أَوْ مَارِقًا مِنْهُ، وَيَنْبِزُونَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِلَقَبِ " وَهَّابِيٍّ " إِذْ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ سُمِّيَتِ الْوَهَّابِيَّةَ قَدْ عَمَدُوا إِلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ بِأَيْدِيهِمْ، لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِزَالَتِهَا إِنْكَارُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الْمُصْلِحِينَ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ

بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ يَعْنِي الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ، وَلَوْ مَعَ الْعَجْزِ عَمَّا فَوْقَهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، إِذَا عَلِمْنَا هَذَا الشَّأْنَ مِنْ شُئُونِ الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ فَلَا نَعْجَبُ أَنْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ حَدِيثِي الْعَهْدِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْإِسْلَامِ، مِثْلُ مَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ مَظَاهِرِ الْوَثَنِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ. رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَكْثَرُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قِبَلَ حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ لَتَرْكَبُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ " وَرَوَى نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي طَلَبُوا فِيهِ ذَلِكَ بَيْنَ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْآنَ ذَوَاتِ أَنْوَاطٍ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ كَشَجَرَةِ " السِّتِّ الْمُنْدِرَةِ " وَشَجَرَةِ الْحَنَفِيِّ بِمِصْرَ، وَنَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْقُبُورِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْآبَارِ يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا، وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا، وَيُقَبِّلُونَهَا وَيَتَمَرَّغُونَ بِأَعْتَابِهَا، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهَا خَاضِعِينَ ضَارِعِينَ، خَاشِعِينَ دَاعِينَ رَاجِينَ شِفَاءَ الْأَدْوَاءِ، وَالِانْتِقَامَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالْغِنَى وَالثَّرَاءَ، وَحَبَلَ الْعَقِيمِ، وَرَدَّ الضَّالَّةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ، خِلَافٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ آلِهَةً، وَأَنَّ جُلَّ مَا يَأْتُونَهُ عِنْدَهَا يُسَمَّى عِبَادَةً، وَأَنَّهُ شِرْكٌ جَلِيٌّ لَا يُغْفَرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِرْكِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ إِلَّا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، فَأُولَئِكَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْمَائِهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهَؤُلَاءِ تَحَامَوْا إِطْلَاقَ لَفْظِ الْإِلَهِ وَالْمَعْبُودِ وَالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاسْتَبَاحُوا غَيْرَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ وَالْوَسِيلَةِ وَالتَّوَسُّلِ، وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَأَنَّ اللهَ تَعَبَّدَ النَّاسَ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ دُونَ حَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَفِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ: يَشْمَلُ كُلَّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يُوَجَّهُ إِلَى مُعَظَّمٍ يُرْجَى نَفْعُهُ أَوْ يُخْشَى ضَرُّهُ وَحْدَهُ - وَهَذَا تَوْحِيدٌ لَهُ - أَوْ يُرْجَى وَيُخَافُ بِالتَّأْثِيرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ - بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجَاءُ فِيهِ أَوِ الْخَوْفُ مِنْهُ لِأَمْرٍ غَيْبِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذَا آنِفًا وَقَبْلَهُ مِرَارًا، وَيَظُنُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مِلَلِ الْوَثَنِيِّينَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّكُونَ بِهَا لِذَاتِهَا، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ بِقُدْرَتِهَا وَإِرَادَتِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ

يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى الْخَالِقِ كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ فِي الْهِنْدِ. مَاذَا كَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَطَرِيقَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالْخَصَّافِ: يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الْعِلْمِ، وَالْجَهْلِ الَّذِي هُوَ سَفَهُ النَّفْسِ وَطَيْشُ الْعَقْلِ، وَأَهَمُّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ جَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَا التَّقَيُّدِ بِمَظْهَرٍ مِنَ الْمَظَاهِرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَلَا سِيَّمَا مَظْهَرُ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ الْجَاهِلُونَ مِنْ قَبْلُ بِنَفْعِهَا أَوِ الْخَوْفِ مِنْ ضَرَرِهَا، فَالْأَوَّلُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنِّيلِ وَالْعِجْلِ أَبِيسَ، وَالثَّانِي كَالثُّعْبَانِ، ثُمَّ جَهْلِ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْبَشَرَ فَجَعَلَهُمْ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وَدُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ كِفَاحًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَيُقْصَدُ وَحْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِمَامَا الْمُوَحِّدِينَ، إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (6: 79) وَأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (3: 20) . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَهْلِ هُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130) وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى الْقَوْمِ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ بِمَا هُوَ كَالْمُتَحَقَّقِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَالِهِمْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِمَقَالِهِمْ، يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِسُوءِ حَالِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ وَسَفَاهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ مَا طَلَبُوهُ فِي نَفْسِهِ عَسَى أَنْ تَسْتَعِدَّ عُقُولُهُمْ لِفَهْمِهِ، وَاسْتِبَانَةِ قُبْحِهِ، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ التَّبَارُ وَالتَّبْرُ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالتَّتْبِيرُ: الْهَلَاكُ. يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ مِنْ بَابِي تَعِبَ وَنَصَرَ، وَتَبَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: أَهْلَكَهُ وَدَمَّرَهُ؛ أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْكُفُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ مَقْضِيٌّ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ بِالتَّبَارِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ؛ أَيْ: هَالِكٌ وَزَائِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، فَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ لَهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْبِشَارَةَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَوَالِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَانَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ طَلَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَكٍّ مِنْهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ

اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ إِلَهًا يُعَظِّمُونَهُ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِتَعْظِيمِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالدِّيَانَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلَهُمْ كَمَا آذَنَتْ بِهِ الْآيَاتُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَقُولَ الْعَاقِلُ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً وَخَالِقًا مُدَبِّرًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِجَعْلِ مُوسَى وَتَدْبِيرِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْعَقْلِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (39: 3) إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرًا؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى كُفْرٌ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا فِي ذَلِكَ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوِ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَا كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَهْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ، فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَهِيَ بِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ (فَإِنْ قَالُوا) إِذَا كَانَ مُرَادُهُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى فَمَا الْوَجْهُ فِي قُبْحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؟ (قُلْنَا) : فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَتَّخِذُوهَا آلِهَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا كَالْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ اهـ. أَقُولُ: مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَقَعَ أَمَامَ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ الْعَقَائِدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ أَسْئِلَتُهُ وَأَجْوِبَتُهُ وَالتَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْخَطَأِ الْغَفْلَةُ عَنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا بِلَوَازِمِ مَعْنَاهَا الْعُرْفِيَّةِ كَلَفْظِ " الْإِلَهِ " فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ مُطْلَقًا لَا الْخَالِقُ وَلَا الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَلَا بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَمَّوْا أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّاتَ أَوِ الْعُزَّى أَوْ هُبَلًا خَلَقَ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ أَوْ يُدَبِّرُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا تَدْبِيرُ أُمُورِ الْعَالَمِ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى لَفْظِ الرَّبِّ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ آلِهَتَهُمْ لَيْسَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ شَيْءٌ، وَإِنَّ شِرْكَهُمْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَابْتِغَاءِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ بِعِبَادَةِ مَا عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ،

140

تَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَلِذَلِكَ يَحْتَجُّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ غَيْرَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا يُعْبَدُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى مَا يُنْكِرُونَ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذَا مِرَارًا بِالشَّوَاهِدِ نَكْتَفِي بِهَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا. ثُمَّ إِنْ عِبَارَةَ طُلَّابِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا بِنَصِّهَا فِي لُغَتِهِمْ، فَنَبْحَثُ فِيهَا أَخْطَأٌ أَمْ صَوَابٌ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا بِلُغَةِ كِتَابِهِ فَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ قَطْعًا، فَإِنَّ الْإِلَهَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ هُوَ الْمَعْبُودُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا، وَإِنَّمَا جَهَّلَهُمْ مُوسَى بِطَلَبِ عِبَادَةِ أَحَدٍ مَعَ اللهِ لَا بِتَسْمِيَةِ مَا طَلَبُوا مِنْهُ صَنْعَهُ إِلَهًا، فَإِنَّهُ هُوَ سَمَّى الْمَعْبُودَ الْمَصْنُوعَ إِلَهًا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ لِلسَّامِرِيِّ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنَحْرِقَنَّهُ (20: 97) الْآيَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ قَبِلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مَجْعُولَةً مَصْنُوعَةً مُتَّخَذَةً مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَالْمَعْدِنِ. أَنَسِيَ إِمَامُ النُّظَّارِ وَصَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ تَسْمِيَةِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْآلِهَةِ؟ أَمْ نَسِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (37: 95، 96) وَمِنْ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (26: 69 - 74) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَظْهَرِ هَفَوَاتِهِ الْكَثِيرَةِ بُطْلَانًا؛ وَسَبَبُهُ امْتِلَاءُ دِمَاغِهِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - بِنَظَرِيَّاتِ الْكَلَامِ، وَجَدَلِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ، وَغَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الْإِلَهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَأَطْلُبُ لَكُمْ مَعْبُودًا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، بِمَا جَدَّدَ فِيكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسُنَّةِ الْمُرْسَلِينَ، فَمَاذَا تَبْغُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ؟ ! وَالِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ الْمُشَرَّبِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَارُ ابْتِغَاءِ إِلَهٍ غَيْرِ اللهِ الْمُسْتَحِقِّ وَحْدَهُ لِلْعِبَادَةِ، لَا إِنْكَارَ تَسْمِيَةِ الْمَعْبُودِ الْمَصْنُوعِ إِلَهًا، وَ " أَبْغِي " يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (9: 47) . بَدَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ لِقَوْمِهِ بِإِثْبَاتِ جَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ فَسَادِ مَا طَلَبُوهُ، وَكَوْنِهِ عُرْضَةً لِلتَّبَارِ وَالزَّوَالِ، وَبَاطِلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا الطَّالِبُ عَلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ فِيمَا طَلَبَ، وَلَا الْمَطْلُوبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (22: 73) فَهَذَا مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ.

ثُمَّ انْتَقَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ جَعْلُ الْإِلَهِ لَهُمْ، وَهُوَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَطْلُوبِ لِأَجْلِهِ هَذَا الْجَعْلُ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - وَمُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَالَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَذَيْنِكَ الْبَاطِلَيْنِ غَايَةُ الْمُبَايَنَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا جَوَابًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِمَا قَبِلَهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ عَطْفًا، وَلَا أَنْ يَعُدَّ مَعَهُ عَدًّا، وَلِهَذَا أَعَادَ فِيهِ كَلِمَةَ (قَالَ) كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْأَهَمِّ الْأَفْضَلِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ، فَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ فَغَيْرُ اللهِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ، فَهُوَ يَشْمَلُ أَخَسَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْجَزَهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْأَصْنَامِ، وَيَشْمَلُ أَفْضَلَهَا وَأَكْمَلَهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِيُثْبِتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَخْلُوقٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ عَلَا قَدْرُهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَأَنَّ تَجْهِيلَهُمْ بِمَا طَلَبُوا لَا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَالْأَصْنَامِ خَسِيسٌ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّبَارِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ - لَا لِهَذَا فَقَطْ - بَلْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، مَهْمَا يَكُنْ غَيْرُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمُفَضَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ عِبَادَةِ الْأَخَسِّ دَلِيلٌ عَلَى مُنْتَهَى الْخِسَّةِ وَالْجَهْلِ، إِذْ لَا شُبْهَةَ تُوهِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِثَابَةِ أَوِ التَّقْرِيبِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَشُبْهَةِ مَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ مَنْ قَصُرَ بِهِ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى خُبْثِهِ وَرِجْسِهِ، جَاهِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْ يَتُوبُوا؛ أَيْ: يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَأَنْ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ كَدُعَائِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْ يَخُصُّوهُ مِثْلَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (1: 5) . وَبَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ اللهِ إِلَهًا ذَكَرَ مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَبْغِيكُمْ إِلَهًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرِ الْإِمْرِ وَالشَّيْءِ الْإِدِّ، وَالْمُنْكَرِ الْفَظِيعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلٌ بِقِيمَتِهِ، وَبِمَعْنَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا رَأَوْهُ مِنْ جِهَادِهِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ لَهُ فِي شَخْصِ أَخِيهِ وَلَا فِي شَخْصِهِ، بَلْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: طَلَبُ إِلَهٍ مَعَ اللهِ، وَكَوْنُهُ بِجَعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ تَبْغُونَ إِلَهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ (13: 83) . ثُمَّ أَيَّدَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَرْقَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ، وَمِنَ السِّيَادَةِ عَلَى بَعْضِ الشُّعُوبِ، وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْهُمْ، وَتَجْدِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِمْ، وَإِيتَائِهِمَا مِنَ الْآيَاتِ

141

مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَثَرُهُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مُطْلَقًا بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوا، فَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْقُرُونِ الْأَوْلَى، وَأَقْوَامِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى مَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ، فَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَقَالَ: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي (20: 52) وَالْقُرُونُ الْآخِرَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ لِغَنِيٍّ أَوْ عَالِمٍ إِنَّكَ أَغْنَى أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ، أَوْ لِمَلِكٍ: إِنَّكَ أَقْوَى الْمُلُوكِ، أَوْ فِي شَعْبٍ إِنَّهُ أَرْقَى الشُّعُوبِ - فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا تَفْضِيلَ مَنْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَأَهْلُ الْحَضَارَةِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَجْيَالَ الْآتِيَةَ سَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الْجِيلِ، وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَتَرْتَقِي إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ هَذَا الْعِلْمَ بِمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مَظَاهِرِهِ الْحَدِيثَةِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا وَالْبَاقُونَ (أَنْجَيْنَاكُمْ) وَذَكَرُوا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مُتَمِّمًا لِكَلَامِ مُوسَى، وَمُبِيِّنًا الْمُرَادَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا الِالْتِفَاتُ نَظَائِرُ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ طه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (20: 53) إِلَخْ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فِي جَوَابِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْلُهُ: (فَأَخْرَجْنَا) الْتِفَاتٌ عَنِ الْحِكَايَةِ، وَانْتِقَالٌ إِلَى كَلَامِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ خَاطَبَ بِهِ مَنْ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَحْيَ مِنْ خَلْقِهِ، تَنْبِيهًا لَهُمْ بِتَلْوِينِ الْكَلَامِ، وَبِمَا فِي مُخَاطَبَةِ الرَّبِّ لَهُمْ كِفَاحًا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ إِلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُسْدِي لِهَذَا الْإِنْعَامِ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّ مُوسَى قَالَهَا لِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ الْآخَرِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَّرَ بِهَا قَوْمَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ. (الثَّانِي) أَنَّ قِرَاءَةَ الِالْتِفَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْنَدَ الْإِنْجَاءَ فِيهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَخِيهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَعْلِهِ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْجَاءَ بِسَبَبِ رِسَالَتِهِمَا وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لَهُمَا بِتِلْكَ الْآيَاتِ.

وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَاكُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِفَضْلِهِ، أَوْ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ بِإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّانَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَبِمَا أَيَّدَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، بِجَعْلِكُمْ عَبِيدًا مُسَخَّرِينَ لِخِدْمَتِهِمْ كَالْبَهَائِمِ فَلَا يَعُدُّونَكُمْ مِنْهُمْ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ شَرَّ أَنْوَاعِهِ بِقَوْلِهِ " يُقَتِّلُونَ " مَا يُوَلَدُ لَكُمْ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَسْتَبْقُونَ نِسَاءَكُمْ بِتَرْكِ الْإِنَاثِ لَكُمْ لِتَزْدَادُوا ضَعْفًا بِكَثْرَتِهِنَّ - وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ - وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ عَلَيْكُمْ، وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى أُولَئِكَ الْغَالِينَ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِكُمْ كَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي سَتَرِثُونَهَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ؛ أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمُ الْمُنْفَرِدِ بِتَرْبِيَتِكُمْ، وَتَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ لَيْسَ وَرَاءَهُ بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، فَإِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّمَانِ مَنْ يُعْطَى النِّعْمَةَ بَعْدَ النِّقْمَةِ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مَنْ يَرَى مِنْ آيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي الْآفَاقِ مَا يُوقِنُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِيهِ؛ أَيْ: فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّنْ رَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى يَدِهِ - وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا أَقَلُّ تَأْثِيرٍ - أَنْ يَجْعَلَ لَكُمْ إِلَهًا مِنْ أَخَسِّ الْمَخْلُوقَاتِ تَجْعَلُونَهُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى عَابِدِيهَا وَمَنْ هُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ؟ ! . وَقَدْ غَفَلَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ عَنْ كَوْنِ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ الْمُؤَيَّدَةِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ خِطَابِيٌّ، لَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ احْتِجَاجِ مُوسَى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَامِّ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي دَلَالَتِهَا، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَغَفَلَ أَيْضًا عَنْ كَوْنِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَقَطْ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ فِي هَذَا الْآلُوسِيُّ فَقَالَ: وَفِي إِقَامَةِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ الْقَائِلِينَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (39: 3) وَالْمُجِيبِينَ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ يَخْلُقُهُنَّ اللهُ خَفَاءً، وَالظَّاهِرُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْوَثَنِيِّةِ كَمَا لَا يَخْفَى اهـ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُودِ رَبَّيْنِ إِلَهَيْنِ اشْتَرَكَا فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِهِ، أَحَدُهُمَا رَبُّ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَالثَّانِي رَبُّ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ، وَيُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ خَالِقَانِ مُدَبِّرَانِ أَوْ أَكْثَرُ؛ لَامْتَنَعَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ نِظَامٌ يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُ إِذَا فُرِضَ جَوَازُ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ الشَّيْءِ كَتَعَدُّدِ الْخَالِقِينَ يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّدْبِيرُ وَالْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَتَعَدُّدُهَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا تَعَدُّدَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا بِأَنْ يَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ضِدٍّ وَنَقِيضٍ، وَأَيُّ فَسَادٍ فِي النِّظَامِ، وَمُوجِبٍ لِلِاخْتِلَالِ أَشَدُّ مِنْ هَذَا؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِذَا جَازَ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهَ لَفَسَدَتَا (21: 22) قَدْ بُنِيَ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ مَوْجُودَتَانِ وَالنِّظَامَ فِيهِمَا مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِقَامَةُ النِّظَامِ وَصَلَاحُ التَّدْبِيرِ الصَّادِرِ عَنْ عُلُومٍ وَإِرَادَاتِ قَدَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَارِضَةٍ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَوْنِ نَفْسُهُ عَنْهَا بِالْأَوْلَى. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ الْأَخِيرَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " فِي أَوَّلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مَعَهُ مِنْ قَبِيلِ سَرْدِ الصِّفَاتِ أَوِ الْأَعْدَادِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْفَصْلُ أَيْ: كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ (9: 112) إِلَخْ. وَقَوْلُهُمْ: الْأَوَّلُ كَذَا - الثَّانِي كَذَا إِلَخْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِعَادَةُ " قَالَ " لِامْتِنَاعِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ كِلَيْهِمَا بِدُونِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ " قَالَ " مَفْصُولَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِقْلَالِ فِي الْجَوَابِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَطْفِ الْقَوْلِ وَعَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُونِهِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا حَقَّقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ. وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي أَسَالِيبِ هَذِهِ اللُّغَةِ يَشْعُرُ بِأَنَّ الْبَدْءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ هُنَا بِدُونِ " قَالَ " غَيْرُ مُسْتَعْذَبٍ وَلَا مُسْتَسَاغٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ هَذَا وَنُكْتَتَهُ - بَحَثَ طُلَّابُ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ نُكْتَةِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ فَلَمَحَ بَعْضُهُمْ مَا قَرَّرْنَاهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْهُ وَاضِحًا لِيُبَيِّنَهُ. قَالَ الْآلُوسِيُّ: قِيلَ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ؛ وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ أُعِيدَ لَفْظُ (قَالَ) اهـ. فَنَقَلَ هَذِهِ النُّكْتَةَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ " قِيلَ " إِذْ كَانَتْ أَخْفَى عِنْدَهُ مِنْهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا الَّذِي قَالَ: وَلَعَلَّهُ. . . فَلَمْ يَجْزِمْ - ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ: هُوَ شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ - تَعَالَى - الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَا طَلَبُوا عِبَادَتَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ أَصْلًا، لِكَوْنِهِ هَالِكًا بَاطِلًا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا " قَالَ " مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اهـ. ثُمَّ نَقَلَ تَعْلِيلًا آخَرَ لِلشِّهَابِ وَهُوَ: أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " مَعَ اتِّحَادِ مَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ (؟) لِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالتَّمَانُعِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ عَوَامُّ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْمُعْتَرِضَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى لَمْحِ مَا لَمَحَ صَاحِبُهَا، إِذْ لَوْ سَلَّمَ لِلْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ إِلَخْ. وَلِلثَّانِي أَنَّهَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ لَا بُرْهَانِيٌّ، لَمَّا كَانَ هَذَا وَلَا ذَاكَ مُقْتَضِيًا لِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَوْقِعِهِ، وَامْتِنَاعِ كُلٍّ مِنْ فَصْلِهِ بِدُونِ الْقَوْلِ، وَوَصْلِهِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِمُلْهَمِ الصَّوَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ قَوْلِ الشَّبَابِ آنِفًا، وَضَعْفِ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.

142

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي بَيَانِ بَدْءِ وَحْيِّ الشَّرِيعَةِ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ بَدَأَ الْوَحْيُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ فِي جَانِبِ الطَّوْرِ الْأَيْمَنِ مِنْ سَيْنَاءَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ هُنَا بَدْءُ وَحْيِّ كِتَابِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَى اللهُ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً قَادِرَةً عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يُشَرِّعُهُ اللهُ لَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأُمَّةُ الْمُسْتَعْبَدَةُ لِلْأَجْنَبِيِّ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ شَرِيعَتِنَا الْمُطَهَّرَةِ، وَأَكْثَرَ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ لَمْ تُشْرَعْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ؟ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَمَّا شُرِعَتْ فِي مَكَّةَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلُهُ وَسَلَّمَ يُصَلِّي هُوَ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ فِي الْبُيُوتِ سِرًّا اتِّقَاءَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِسَلَا جَزُورٍ - أَيْ: كَرِشِ بَعِيرٍ بِفَرَثِهِ - فَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ

سَاجِدٌ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَ رَأْسِهِ حَتَّى جَاءَتِ ابْنَتُهُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَأَلْقَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ؟ وَهَمَّ أَبُو جَهْلٍ مَرَّةً أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَكَفَّهُ اللهُ عَنْهُ؟ قَالَ - تَعَالَى -: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هَذَا السِّيَاقُ مَعْطُوفٌ عَلَى السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ الْآيَاتِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ (وَعَدْنَا) مِنَ الْوَعْدِ وَالْبَاقُونَ (وَاعَدْنَا) مِنَ الْمُوَاعَدَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ضَرَبَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْعِدًا لِمُكَالَمَتِهِ، وَإِعْطَائِهِ الْأَلْوَاحَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَقَبِلَ ذَلِكَ ثُمَّ صَعِدَ جَبَلَ سَيْنَاءَ فِي أَوَّلِ الْمَوْعِدِ، وَهَبَطَ فِي آخِرِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الشَّيْءِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَالتَّلَاقِي فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَبَيْنَ الْوَعْدِ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ لِآخَرَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْوَفَاءِ، كَقَوْلِكَ لِآخَرَ: سَأَدْعُو اللهَ لَكَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَلًا - فَهَذَا وَعْدٌ مَحْضٌ، وَذَاكَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ كَعِبَارَةِ الْآيَةِ، وَالْمِيقَاتُ أَخَصُّ مِنَ الْوَقْتِ، فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ كَمَوَاقِيتِ الْحَجِّ. وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (5: 51) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ هُنَا مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَافَ مَكِّيَّةٌ وَالْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا فِي النُّزُولِ، وَالْمُرَادُ بِاللَّيْلَةِ مَا يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَاعَدَنِي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ وَأَخْلِفَ هَارُونَ فِيكُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللهُ عَشْرًا فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهُ اللهُ - وَذَكَرَ قِصَّةَ عِجْلَ السَّامِرِيِّ - وَرَوَى الثَّانِي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَكَثَ عَلَى الطَّوْرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فِي الْأَلْوَاحِ، فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحدثْ فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطَّوْرِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا الزَّمَنَ ضُرِبَ لِمُنَاجَاةِ مُوسَى رَبَّهُ فِي الْجَبَلِ مُنْقَطِعًا فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ فِي غَيْبَةِ مُوسَى وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِهَارُونَ: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (20: 91) وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَفَعَهُ - " لَمَّا أَتَى مُوسَى رَبَّهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صَامَ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ فَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فَمِهِ - رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ - فَتَنَاوَلَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ قَالَ:

أَيْ رَبِّ، كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: أَوْ مَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ فَمَ الصَّائِمِ عِنْدِي أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟ اذْهَبْ فَصُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى الَّذِي أَمَرَهُ رَبُّهُ " وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَمَتْنُهُ مَعَارِضٌ بِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ وَمِنَ الرِّوَايَاتِ بِمَعْنَاهَا. وَيَسْتَدِلُّ الصُّوفِيَّةُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَيَّامِ خَلْوَتِهِمُ الَّتِي يَصُومُونَ أَيَّامَهَا الْأَرْبَعِينَ لَا يُفْطِرُونَ إِلَّا عَلَى حَبَّاتِ الزَّبِيبِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَأْنَسَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِلتَّفَرُّغِ لِذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بِالصَّلَاةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَيُجْعَلُ مَقْصِدًا لَا وَسِيلَةً. وَهَذَا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ (24: 12 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ فَأُعْطِيكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ (13) فَقَامَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ (14) وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَقَالَ لَهُمْ: اجْلِسُوا هَاهُنَا، وَهُو ذَا هَارُونُ وَحُورُ مَعَكُمْ، فَمَنْ كَانَ صَاحِبُ دَعْوَى فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمَا (15) فَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ فَغَطَّى السَّحَابُ الْجَبَلَ وَحَلَّ مَجْدُ الرَّبِّ عَلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ وَغَطَّاهُ السَّحَابُ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ دَعَى مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ (17) وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً) اهـ. وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ مَا نَصُّهُ أَيْضًا (34: 27 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اكْتُبْ لِنَفْسِكَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ إِسْرَائِيلَ (28) وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً، فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) اهـ. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي: أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ الذَّهَابَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ الْكَبِيرَ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِصْلَاحِ فِيهِمْ؛ إِذْ كَانَتِ الرِّيَاسَةُ فِيهِمْ لِمُوسَى، وَكَانَ هَارُونُ وَزِيرَهُ وَنَصِيرَهُ وَمُسَاعِدَهُ كَمَا سَأَلَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (20: 29 - 32) وَأَوْصَاهُ بِالْإِصْلَاحِ فِيهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، وَنَهَاهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِفْسَادُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا جَلِيٌّ وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسِيلَةٌ وَمَقْصِدٌ، فَمِنْهَا الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، وَمِنْهَا الذَّرَائِعُ الْمُشْتَبِهَاتُ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، وَيَأْخُذُ التَّقِيُّ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ يَشْمَلُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَمُسَاعَدَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَمُعَاشَرَتَهُمْ وَالْإِقَامَةَ مَعَهُمْ فِي حَالِ اقْتِرَافِهَا، وَلَوْ بَعْدَ الْعَجْزِ

143

عَنْ إِرْجَاعِهِمْ عَنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَيَصِحُّ نَهْيُهُمْ عَنْهُ تَحْذِيرًا مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَالَّذِي وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي قِصَّةِ عِجْلِ السَّامِرِيِّ الَّذِي حَكَّاهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طه بِقَوْلِهِ: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (20: 92 - 94) فَالرِّسَالَةُ كَانَتْ لِمُوسَى بِالْأَصَالَةِ، وَلِهَارُونَ بِالتَّبَعِ؛ لِيَكُونَ وَزِيرًا لَا رَئِيسًا، وَمُوسَى هُوَ الَّذِي أُعْطِيَ الشَّرِيعَةَ (التَّوْرَاةَ) وَكَانَ هَارُونُ مُسَاعِدًا لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا كَانَ مُسَاعِدًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ فِرْعَوْنَ الدَّعْوَةِ، وَإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ " وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخْلُفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: رَضِيتُ رَضِيتُ. وَإِنَّمَا قَالَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ ضَعِيفٍ وَمَرِيضٍ إِلَّا مَنِ اسْتَأْذَنَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِضُ وَالْإِمَامِيَّةُ، وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ حَقًّا لَعَلِيٍّ، وَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَفَّرَتِ الرَّوَافِضُ سَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيمِهِمْ غَيْرَهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِ حَقِّهِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْخَفُ مَذْهَبًا، وَأَفْسَدُ عَقْلًا مِنْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. . . . . . إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ لِأُذَكِّرَ الْقَارِئَ بِأَنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَقُولَا مَا قَالَا عَنِ اعْتِقَادٍ، بَلْ كَانُوا مِنْ جَمْعِيَّاتِ الْمَجُوسِ، وَالسَّبَئِيِّينَ الَّذِينَ يَبْغُونَ الْفِتْنَةَ لِإِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَإِزَالَةِ مُلْكِ الْعَرَبِ بِالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ، وَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كُلَّمَا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْتَارُ أَفْضَلَهُمْ لِذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْمَنْقَبَةِ لَعَلِيٍّ مَا هُوَ فَوْقَ اسْتِخْلَافِهِ، وَهُوَ جَعْلُهُ أَخًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِخْلَافُهُ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ هَارُونَ مَاتَ قَبْلَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - قَطْعًا. وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أَيْ: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتْنَاهُ لَهُ لِلْكَلَامِ وَإِعْطَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ الْعَالِيَةُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ فَضِيلَتَيِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ فَقَالَ:

رَبِّ أَرِنِي ذَاتَكَ الْمُقَدَّسَةَ بِأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى حَمْلِ تَجَلِّيكَ مَا أَقْدَرُ بِهِ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ وَرُؤْيَتِكَ، وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِكَ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ أَيْ: دُونَ مَا هُوَ فَوْقَ إِمْكَانِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6: 103) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص543 - 547 ج7 تَفْسِيرِ ط. الْهَيْئَةِ) . قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي أَيْ: إِنَّكَ لَا تَرَانِي الْآنَ، وَلَا فِيمَا تَسْتَقْبِلُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ النَّفْيِ، وَيُخَفِّفُ عَنْ مُوسَى شِدَّةَ وَطْأَةِ الرَّدِّ، بِإِعْلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ سُنَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى شَيْءٌ فِي هَذَا الْكَوْنِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنَّنِي سَأَتَجَلَّى لَهُ فَإِنْ ثَبَتَ لَدَى التَّجَلِّي بَقِيَ مُسْتَقِرًّا فِي مَكَانِهِ فَسَوْفَ تَرَانِي، لِمُشَارَكَتِكَ لَهُ فِي مَادَّةِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ فِي قُوَّتِهِ وَرُسُوخِهِ لَا يَثْبُتُ، وَلَا يَسْتَقِرُّ لِهَذَا التَّجَلِّي؛ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِ مَادَّتِهِ لِقُوَّةِ تَجَلِّي خَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَرَانِي أَيْضًا، وَأَنْتَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي كَوْنِكَ مَخْلُوقًا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَخَاضِعًا لِلسُّنَنِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي قُوَّتِهَا، وَضَعْفِ اسْتِعْدَادِهَا وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (4: 28) وَقَبُولِهَا لِلْفَنَاءِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ طَمِعَ فِي الرُّؤْيَةِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حِينَ قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ تَرَانِي لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَا مُوسَى إِنَّهُ لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا، قَالَ مُوسَى: رَبِّ أَنْ أَرَاكَ ثُمَّ أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَلَّا أَرَاكَ ثُمَّ أَحْيَا فَقَالَ اللهُ: يَا مُوسَى انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ يَقُولُ: فَإِنْ ثَبَتَ مَكَانَهُ لَمْ يَتَضَعْضَعْ، وَلَمْ يَنْهَدْ لِبَعْضِ مَا يَرَى مِنْ عِظَمِي فَسَوْفَ تَرَانِي أَنْتَ لِضَعْفِكَ وَذِلَّتِكَ، وَإِنَّ الْجَبَلَ تَضَعْضَعَ، وَانَهْدَّ بِقُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ وَعِظَمِهِ فَأَنْتَ أَضْعُفُ وَأَذَلُّ اهـ. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا يُقَالُ: جَلَا الشَّيْءُ وَالْأَمْرُ وَانْجَلَى وَتَجَلَّى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَجَلَّاهُ فَتَجَلَّى - إِذَا انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَوَضُحَ بَعْدَ خَفَاءٍ فِي نَفْسِهِ ذَاتِيٍّ أَوْ إِضَافِيٍّ أَوْ خَفَاءٍ عَلَى مُجْتَلِيهِ وَطَالَبِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ التَّجَلِّي وَالظُّهُورُ بِالذَّاتِ، وَبِغَيْرِ الذَّاتِ مِنْ صِفَةٍ أَوْ فِعْلٍ يَزُولُ بِهِ اللَّبْسُ وَالْخَفَاءُ، وَفِي صِيغَةِ التَّجَلِّي مَا لَيْسَ فِي صِيغَةِ الْجَلَاءِ، وَالِانْجِلَاءُ مِنْ مَعْنَى التَّدْرِيجِ وَالْكَثْرَةِ النَّوْعِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِيَّةِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (92: 1، 2) فَاللَّيْلُ يَغْشَى النَّهَارَ وَيَسْتُرُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى النَّهَارُ وَيَظْهَرُ بِالتَّدْرِيجِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - تَجَلِّيَاتٍ مُخْتَلِفَةً كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْدَّكُّ: الدَّقُّ أَوْ ضَرْبٌ مِنْهُ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: دَكَكْتُهُ دَقَقْتُهُ، وَدَكَّ الرَّكِيَّةِ كَبَسَهَا، وَجَمَلٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ: لَا سَنَامَ لَهُمَا، وَانْدَكَّ السَّنَامُ: افْتَرَشَ عَلَى الظَّهْرِ، وَنَزَلْنَا بِدَكْدَاكٍ: رَمْلٌ مُتَلَبِّدٌ بِالْأَرْضِ اهـ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الدَّقِّ وَالدَّكِّ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ الْمَوْرُوثِ عَنِ الْعَرَبِ - أَنَّ الدَّقَّ مَا يُخْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ لِيَتَفَتَّتَ، وَيَكُونُ أَجْزَاءً دَقِيقَةً وَمِنْهُ الدَّقِيقُ، وَكَانَ الْقَمْحُ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ الْأُولَى يُدَقُّ بِالْحِجَارَةِ فَيَكُونُ دَقِيقًا، ثُمَّ اهْتَدَوْا إِلَى الْأَرْحِيَةِ الَّتِي تَسْحَقُهُ وَتَطْحَنُهُ، وَأَمَّا الدَّكُّ فَهُوَ الْهَدْمُ وَالْخَبْطُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الشَّيْءُ الْمَدْكُوكُ مُلَبَّدًا وَمُسْتَوِيًا، يُقَالُ: أَرْضٌ مَدْكُوكَةٌ، وَطَرِيقٌ مَدْكُوكَةٌ، وَدَكَّ الْحُفْرَةَ وَالرَّكِيَّةَ (أَيِ الْبِئْرَ غَيْرَ الْمَطْوِيَّةِ) دَفَنَهَا وَطَمَّهَا، وَلَا تَزَالُ سَلَائِلُ الْعَرَبِ تَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْمَادَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُسَمُّونَ مَا يُوضَعُ فِي الْحُفْرَةِ أَوِ الرَّكِيَّةِ مِنَ الْحَصَا وَالْحَصْبَاءِ؛ لِأَجْلِ تَسْوِيَتِهَا " الدَّكَّةَ ". قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ؛ أَيْ: أَرْضًا مُسْتَوِيَةً كَالنَّاقَةِ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، وَالْجُمْهُورُ (جَعَلَهُ دَكًّا) بِالْمَصْدَرِ؛ أَيْ: مَدْكُوكًا دَكًّا، وَمِثْلُهُ فِي السَّدِّ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْخُرُورُ وَالْخَرُّ: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ وَالِانْكِبَابُ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (17: 107) وَالصَّعِقُ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ: صِفَةٌ مِنَ الصَّعَقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ نُزُولِ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ إِغْمَاءٍ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ بِإْطْلَاقِهِ عَلَى مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: صَعِقَ صَعَقًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: مَاتَ، وَصَعِقَ: غُشِيَ عَلَيْهِ لِصَوْتٍ سَمِعَهُ، وَالصَّعْقَةُ الْأُولَى: النَّفْخَةُ، وَالصَّاعِقَةُ: النَّازِلَةُ مِنَ الرَّعْدِ، وَالْجَمْعُ صَوَاعِقُ، وَلَا تُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا دَكَّتْهُ وَأَحْرَقَتْهُ اهـ. وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقًا لِمَتْنِ اللُّغَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قَالَ: مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ الْخِنْصَرِ جَعْلَهُ دَكًّا قَالَ: تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا قَالَ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ اهـ. وَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ - أَيِ الْجَبَلُ - كَانَ حَجَرًا أَصَمَّ فَلَمَّا تَجَلَّى لَهُ صَارَ تَلًّا تُرَابًا دَكًّا مِنَ الدَّكَاوَاتِ - أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ صَيْرُورَتَهُ تُرَابًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الدَّكَّاءِ وَالْمَدْكُوكِ لَا يُنَافِي اسْتِقْرَارَ الْجَبَلِ مَكَانَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ أَيْضًا أَنَّهُ سَاخَ، أَيْ: غَاصَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ: أَنَّهُ رُجَّ بِالتَّجَلِّي رَجًّا بُسَّتْ بِهَا حِجَارَتُهُ بَسًّا، وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ رَبْوَةً دَكَّاءَ كَالرَّمْلِ الْمُتَلَبِّدِ. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَقَلَّ التَّجَلِّي وَأَدْنَاهُ انْهَدَّ وَهَبَطَ مِنْ شِدَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَصَارَ كَالْأَرْضِ الْمَدْكُوكَةِ أَوِ النَّاقَةِ الدَّكَّاءِ - وَسَقَطَ مُوسَى عَلَى وَجْهِهِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ كَمَنْ أَخَذَتْهُ الصَّاعِقَةُ، وَالتَّجَلِّي وَإِنَّمَا كَانَ الْجَبَلُ دُونَهُ، فَكَيْفَ لَوْ كَانَ لَهُ؟ !

وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاهِيَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ غَرَائِبٌ وَعَجَائِبٌ أَكْثَرُهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَمْثَلُ الْمَرْفُوعِ مِنْهَا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ: - وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِ خِنْصَرِهِ - فَسَاخَ الْجَبَلُ " وَفِي لَفْظٍ زِيَادَةُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَقَالَ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ لِثَابِتٍ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا؟ فَضَرَبَ صَدْرَهُ - أَيْ صَدْرَ حُمَيْدٍ - وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ؟ يُحَدِّثُنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ أَنْتَ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا! " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَأَبْنَاءُ جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرُ وَأَبِي حَاتِمٍ وَعَدِيٌّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ - وَصَحَّحَهُ - وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ عِنْدَ مُصَحِّحِيهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَهُ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ لَا يَصِحَّانِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ التَّجَلِّي وَأَدْنَاهُ، وَسَيَأْتِي مِنَ الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُ مَعْنَاهُ. وَمَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَأَوْهَاهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " لَمَّا تَجَلَّى اللهُ لِلْجَبَلِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ. . . " وَذَكَرَ أَسْمَاءَهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ. أَقُولُ: وَلَا يَدْخُلُ مِنْ أَلْفَاظِ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا فِي شَيْءٍ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: (فَلَمَّا أَفَاقَ) مُوسَى مِنْ غَشْيِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِفَاقَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورِ لِلصَّعِقِ بِالْغَشْيِ، وَبُطَلَانِ تَفْسِيرِ قَتَادَةَ لَهُ بِالْمَوْتِ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ شُذَّاذِ الصُّوفِيَّةِ وَادَّعُوا أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فَمَاتَ، أَوْ مَاتَ ثُمَّ رَأَى رَبَّهُ، وَلَوْ مَاتَ لَقَالَ - تَعَالَى - " فَلَمَّا بُعِثَ " إِلَخْ. كَمَا قَالَ فِي السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَهَبُوا مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللهُ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَإِنَّهُ قَالَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2: 56) كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي خَبَرُهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ - قَالَ سُبْحَانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ وَتَقْدِيسًا عَمَّا لَا يَنْبَغِي فِي شَأْنِكَ مِمَّا سَأَلْتُكَ أَوْ مِنْ لَوَازِمِهِ - أَوْ كَمَا حَكَى - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ (11: 47) وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي أَهْلِ السُّنَّةِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ التَّنْزِيهِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَنَفْيُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّ مَا سَأَلَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي نَفْسِهِ، وَغَيْرُ وَاقِعٍ أَلْبَتَّةَ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرُّجُوعُ عَمَّا طَلَبَ إِلَى الْوُقُوفِ مَعَ الرَّبِّ - تَعَالَى - عِنْدَ مُنْتَهَى حُدُودِ الْأَدَبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ تُبْتُ إِلَيْكَ أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ: وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لَهُ اتِّجَاهٌ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَاهُنَا أَثَرًا طَوِيلًا فِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ بْنِ يَسَارٍ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. خُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَالَ فَضِيلَةَ تَكْلِيمِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فَسَمِعَ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، طَلَبَ مِنَ الرَّبِّ - تَعَالَى - أَنْ يَمْنَحَهُ شَرَفَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ حَتْمًا أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا كَلَامُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَكَمَا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ كَلَامٌ بِتَخْصِيصٍ رَبَّانِيٍّ - اسْتَشْرَفَ لِرُؤْيَةِ ذَاتٍ لَيْسَ كَمِثْلِهَا شَيْءٌ مِنَ الذَّوَاتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ تَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى التَّكْلِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ عَقْلُ مُوسَى - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ - مَانِعًا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ وَعِلْمُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَهُمَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا أَيْضًا - مَانِعَيْنِ لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ لَهُ: لَنْ تَرَانِي وَلِكَيْ يُخَفِّفَ عَلَيْهِ أَلَمَ الرَّدِّ وَهُوَ كَلِيمُهُ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ: وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي (20: 41) أَرَاهُ بِعَيْنَيْهِ وَمَجْمُوعِ إِدْرَاكِهِ مِنْ تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ لَا مِنَ الْجُودِ الرَّبَّانِيِّ، فَنَزَّهَ اللهَ وَسَبَّحَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، فَبَشَّرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ - أَيْ: بِدُونِ رُؤْيَتِهِ -، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهُ، وَيَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الِاصْطِفَاءُ: اخْتِيَارُ صَفْوَةِ الشَّيْءِ، وَصَفْوُهُ؛ أَيْ: خَالِصُهُ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ الصَّفِّيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الْإِمَامُ أَوِ الْقَائِدُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا وَيَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، كَاخْتِيَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ الْمَعْرُوفَ بِذِي الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَتَعْدِيَةُ الِاصْطِفَاءِ هُنَا بِـ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّفْصِيلِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكُ مُفَضِّلًا إِيَّاكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ بِالرِّسَالَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ " بِرِسَالَتِي " وَالْبَاقُونَ " بِرِسَالَاتِي " فَإِفْرَادُهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنَ الْإِرْسَالِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، وَقِيلَ بِتَعَدُّدِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مَا أَوْحَاهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى مُوسَى، وَهُوَ مَوْضُوعُ رِسَالَتِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ بِالتَّوْرَاةِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاصْطَفَيْتُكَ بِكَلَامِي: أَيْ بِتَكْلِيمِي لَكَ بَعْدَ وَحْيِ الْإِلْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ مَلَكٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهُوَ مَا طَلَبَ

144

رَفْعُهُ لِتَحْصِيلِ الرُّؤْيَةِ مَعَ الْكَلَامِ، وَوَحْيُ اللهِ - تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (42: 51) فَهَذَا النَّوْعُ الْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْلَى، وَقَدْ أُعْطِيَ لِمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (4: 164) . فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الشَّرِيعَةِ - التَّوْرَاةِ - وَكُنْ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الشُّكْرِ لِنِعْمَتِي بِهَا عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَذَلِكَ بِإِقَامَتِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزِيمَةٍ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَكَذَا لِسَائِرِ نِعَمِي، فَإِنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الصِّفَةِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالرُّسُوخِ فِيهِ. (فَصْلٌ) (فِي اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي الرُّؤْيَةِ وَكَلَامِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِمَا) كَانَ جَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يَفْهَمُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا، وَلَا يَرَوْنَ فِيهَا إِشْكَالًا، وَهُمْ أَعْلَمُ الْعَرَبِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ، وَبِمُرَادِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ آيَاتِهِ فِيهِ، لِتَلَقِّيهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِ الْمَأْمُورِ فِيهَا بِبَيَانِهَا لِلنَّاسِ، ثُمَّ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ مَنْ كَانُوا عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَصَارُوا يَتَلَقُّونَ لُغَتَهُ بِالتَّلْقِينِ، وَيَقْتَبِسُونَهَا بِمُعَاشَرَةِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ ثُمَّ بِالتَّعْلِيمِ الْفَنِّيِّ، ثُمَّ صَارَتِ السَّلَائِلُ الْعَرَبِيَّةِ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَتْ فِي الْجَمِيعِ الِاصْطِلَاحَاتُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْفَنِّيَّةُ لَمَّا وَضَعُوا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَأُصُولِ الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَاللُّغَوِيَّةِ: كَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَيَانِ، وَلَمَّا تَرْجَمُوا مِنْ كُتُبِ عُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَمَا زَادُوا فِيهَا مِنَ الرِّيَاضِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ وَسَائِرِ سُنَنِ الْمَوْجُودَاتِ، فَامْتَزَجَتْ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَصَارَتْ آلَاتٍ لِفَهْمِهِمَا، وَسَبَبًا لِلْخَطَأِ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْمُرَادِ مِنْهُمَا. ثُمَّ حَدَثَ مَا هُوَ أَدْعَى إِلَى الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ، وَهُوَ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا جَاءَ فِي التَّفَرُّقِ وَالتَّفْرِيقِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، فَصَارَ كُلُّ مُنْتَمٍ إِلَى شِيعَةٍ وَحِزْبٍ لَا يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِالْمِنْظَارِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِمَذْهَبِ الْحِزْبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمُدَّعِي الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْبَدَاهَةُ قَاضِيَةٌ بِالتَّضَادِّ بَيْنَ التَّقَيُّدِ بِالْمَذَاهِبِ وَالِاسْتِقْلَالِ الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ. وَهُنَالِكَ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ حَشْرُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَالرِّوَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْوَاهِيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَتَقَاصُرِ الْأَكْثَرِينَ عَنْ تَمْحِيصِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ قَدِ اشْتَبَهَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.

فَبِهَذِهِ الْأَسْبَابِ أَبْطَلُوا مَزِيَّةَ كِتَابِ اللهِ وَخَاصِّيَّتَهُ فِي رَفْعِ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ الْمُفْسِدَيْنِ لِأَمْرِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَيْضًا، قَالَ - تَعَالَى -: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ (2: 213) وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (4: 59) . فَالرَّدُّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ لِإِزَالَةِ التَّنَازُعِ وَحَسْمِ الْخِلَافِ تَفَادِيًا مِنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّفَرُّقِ الْمُنَافِي لِوَحْدَةِ الدِّينِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ فَوْقَ التَّنَازُعِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ، وَإِلَّا كَانَ الدَّوَاءُ عَيْنِ الدَّاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مَوْضُوعُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْهُ كَانَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ - إِنْ كَانَ قَدْ عُدَّ مِنْ أَهْلِهِ - وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَةِ بَعْضِهَا، وَفِي فَهْمِ بَعْضٍ، وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الَّتِي يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِ مَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ ضَرُورِيٌّ لَا يَتَنَاوَلُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (3: 105) . وَنُجِيبُ عَنْ هَذَا - أَوَّلًا - بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ الْفِتَنِ وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ كِبَارِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ حُكْمٍ كَلَامُ أَصْحَابِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا آيَةً تُخَالِفُهُ (! !) الْتَمَسُوا لَهَا نَاسِخًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا أَوَّلُوهَا، وَإِنْ وَجَدُوا حَدِيثًا مُخَالِفًا لَهُ (! !) بَحَثُوا فِي إِسْنَادِهِ، فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ مَطْعَنًا نَبَذُوهُ، وَإِلَّا فَعَلُوا فِي التَّفَصِّي مِنْهُ مَا يَفْعَلُونَ فِي التَّفَصِّي مِنَ الْقُرْآنِ (! !) وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ كِبَارِ النُّظَّارِ خَالَفُوا الْمَذْهَبَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْأُصُولِيَّةِ بِالدَّلِيلِ، وَبَعْضِ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ رَجَّحُوا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ شِئْتَ فَرَاجِعْ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى رَدِّهِمْ لَهَا فِي " كِتَابِ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ " لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ. وَ - ثَانِيًا - بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُكَلِّفُهُمْ أَلَّا يَجْعَلُوا مَا لَيْسَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ سَبَبًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي، وَتَأْلِيفُ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ الَّتِي يُلَقِّنُ أَتْبَاعُ كُلٍّ مِنْهَا فَهْمَ رَجُلٍ أَوْ رِجَالٍ يُسَمُّونَهُ مَذْهَبَهُمْ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَعَهُ الرَّدُّ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَتَفْسِيقِهِمْ أَوْ تَكْفِيرِهِمْ، وَبِهَذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ ضَارًّا وَمُفْسِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (6: 159) الْآيَةَ. وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ، وَيَتَبَارُونَ بِالسِّبَابِ، وَيَتَهَاجَوْنَ بِالْأَشْعَارِ، كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ بَعْدَ تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا: ثُمَّ تَعْجَبُ مِنَ الْمُتَّسِمِّينَ بِالْإِسْلَامِ، الْمُتَّسِمِّينَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَيْفَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْعَظِيمَةَ مَذْهَبًا؟ وَلَا يَغُرُنَّكَ تَسَتُّرَهُمْ بَالْبَلْكَفَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَنْصُوبَاتِ أَشْيَاخِهِمْ - يَعْنِي بِالْبَلْكَفَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - يُرَى بِلَا كَيْفٍ؛ أَيْ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنْ كَوْنِ الْمَرْئِيِّ جِسْمًا كَثِيفًا تُحِيطُ بِهِ أَشِعَّةُ الْبَصَرِ - ثُمَّ قَالَ: وَالْقَوْلُ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَدْلِيَّةِ فِيهِمْ: وَجَمَاعَةٌ سَمُّوا هَوَاهُمْ سُنَّةً ... لِجَمَاعَةٍ حُمُرٍ لَعَمْرِي مُوَكَّفَةِ قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا ... شُنْعَ الْوَرَى فَتَسْتُرُوا بِالْبَلْكَفَةِ يَعْنِي بِالْعَدْلِيَّةِ جَمَاعَتَهُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. فَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا مُنَافِيًا لِلِاتِّسَامِ بِالْإِسْلَامِ، وَالتَّسَمِّي بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ فِي الرُّؤْيَةِ بِالتَّصْرِيحِ كَمَا يَنْفِيهِ هُوَ، فَلَوْلَا تَعَصُّبُ الْمَذْهَبِ لَمَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ بِدَلَالَةِ اللُّزُومِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي قَالُوا فِيهَا " لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ " قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْتِزَامِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ لَهُ، وَأَمَّا مَا صَرَّحَ بِنَفْيِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَذَمَّهُ بِهِ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. وَلَوْ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ وَشَاعِرَ الْعَدْلِيَّةِ لَمْ يَقُولَا مَا قَالَا مِنَ الطَّعْنِ وَالْهَجْوِ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ، بِأَنِ اكْتَفَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ بِمَا أَوَّلَهَا بِهِ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ الْجَلِيَّةِ، لَمَا جُوزِيَا عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمَا أَوْ أَكْثَرَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ فِي (الِانْتِصَافِ) حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ: وَجَمَاعَةٌ كَفَرُوا بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ ... حَقًّا وَوَعْدُ اللهِ مَا لَنْ يَخْلُفَهُ وَتَلَقَّبُوا عَدْلِيَّةً قُلْنَا أَجَلْ ... عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ، فَحَسْبُهُمْ سَفَهْ وَتَلَقَّبُوا النَّاجِينَ، كَلَّا إِنَّهُمْ ... إِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي لَظَى فَعَلَى شَفَهْ وَلِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ صَاحِبِ (جَمْعِ الْجَوَامِعِ) وَغَيْرِهِ مِثْلُ هَذَا الشِّعْرِ الْمُحْزِنِ، وَالْبَادِئُ بِالشَّرِّ أَظْلَمُ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَجُوا عَدْلِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ بِمِثْلِ مَا هَجَا بِهِ شَاعِرُهُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ كَافَّةً، هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ، وَيُشَنِّعُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِيِّينَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ التَّفْوِيضِ كَالنُّصُوصِ فِي عُلُوِّ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا إِجْمَاعَ السَّلَفِ أَوْ جُمْهُورِهِمُ الْأَعْظَمِ فِي إِمْرَارِهَا، كَمَا جَاءَتْ مَعَ تَنْزِيهِمِ الرَّبِّ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْحَدِّ وَالْحُلُولِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ

عَقِيدَتِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (42: 11) بَلْ أَوَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَفْسُهُ نُصُوصَ الْمَعِيَّةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ (57: 4) فَخَصَّهُ بِالْعِلْمِ. فَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَيُعَظِّمُونَهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّنْزِيهِ حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِهِمْ إِلَى التَّعْطِيلِ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْبِيهِ فِعْلًا، كَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ خَلَوْا مِنَ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا عَدَا اسْمَ الْجَلَالَةِ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ قَدْ وُضِعَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِلتَّعْبِيرِ بِهِ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشُئُونِهَا، فَالْفَرِيقَانِ أَرَادَا تَعْظِيمَ الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَسَدَّ ذَرِيعَةِ الْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ، هَؤُلَاءِ خَافُوا التَّعْطِيلَ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ تَحَكُّمِ الْأَهْوَاءِ فِي تَأْوِيلِهَا - وَأُولَئِكَ خَافُوا الْوُقُوعَ فِي تَشْبِيهِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةٍ مَا يُعَدُّ نَقْصًا فِي حَقِّهِ، فَالنِّيَّةُ كَانَتْ حَسَنَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرِ الطَّرَابُلُسِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي دَرْسِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ شَرْحَيِ السَّنُوسِيَّةِ وَالْجَوْهَرَةِ. وَلَكِنِ الَّذِينَ ضَلُّوا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ كَثِيرُونَ حَتَّى خَرَجَتْ بِهِ عِدَّةُ فِرَقٍ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْضُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَبَعْضُهُمْ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، كَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ تَرَكُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَصِيَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ غَيْرَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا فِي التَّأْوِيلِ إِلَى مَا وَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ، فَادَّعُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللهَ - تَعَالَى - عِيَانًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْلَمُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى رَفْعَ التَّكْلِيفِ عَمَّنْ بَلَغَ مَقَامَاتَهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِي وُحْدَةِ الْوُجُودِ إِلَى ادِّعَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَالْبَقَرِ، وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، وَمَا يَسْتَحِي أَوْ يَتَنَزَّهُ قَلَمُ الْمُتَدَيِّنِ الْأَدِيبِ عَنْ ذِكْرِهِ -، وَإِلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَعَادِلٍ وَجَائِرٍ، وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَطُهُورٍ وَرِجْسٍ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ أَوْ مَزَاعِمِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عَقَائِدَا ... وَأَنَا اعْتَقَدْتُ جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَلَمْ يَقَعْ مِنْ فِرْقَةٍ تَأْخُذُ بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فِي مِثْلِ هَذَا الضَّلَالِ الْبَعِيدِ، فَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمْ غُلَاةُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِيمَانًا، وَأَصَحِّهِمْ إِسْلَامًا، وَمَا رَمَوْا بِهِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي نَفَاهُ النَّصُّ وَالْعَقْلُ ظُلْمٌ؛ سَبَبُهُ التَّعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ. فَإِذَا كَانُوا يَثْبُتُونَ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - كُلَّ مَا أَثْبَتَهُ

لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى فِيمَا يُفَوِّضُونَ كُنْهَهُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَا تُحِيطُ بِهِ، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (42: 11) وَهُوَ مِمَّا يَعْقِلُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَ ضِدَّهُ؟ كَلَّا إِنْ تَعَصَّبَ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ مُتَأَوِّلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ افْتَاتُوا عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ مِمَّا نَفُوهُ مِنْ لَوَازِمِ مَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَضْحَكُ إِلَخْ. مَعَ اسْتِصْحَابِ نَصِّ التَّنْزِيهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ فِي التَّحَكُّمِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يُكَلِّفِ اللهُ - تَعَالَى - أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةَ الْكَلَامِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رُسُلُهُ - صَلَوَاتِ اللهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ - وَأَصْلُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ إِلَى خَلْقِهِ هُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَّعَهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَرِّعَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ بِدُونِ إِذْنِهِ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ شَرَّعَ الدِّينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْفَلْسَفَةُ الْكَلَامِيَّةُ مِنْ دَقَائِقِ النَّظَرِيَّاتِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالْغَوْصِ عَلَيْهَا أَفْرَادٌ مَعْدُودُونَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْأُمَمِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَاخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَيِّنَةِ، فَعَصَوُا اللهَ - تَعَالَى - فِي نَهْيِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُلِّفُوهَا، وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَكَمْ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا؟ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا يَقُولُونَ فَكَمْ عَدَدُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمْ؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ لَدَى كُلِّ مَنِ احْتَكَرَ الْحَقَّ فِيهَا لِنَفْسِهِ إِلَى تَلْقِينِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَرَاهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ سِوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ غَيْرَهُ، فَفِهْمُ الدِّينِ مُتَعَذَّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ سَهْلًا وَيَسِيرًا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ هَذَا الدِّينَ وَهَذِهِ الْمِلَّةَ، كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَصِفُونَ اللهَ - تَعَالَى - بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ عِلْمَ الْكَلَامِ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً سَيِّئَةً، وَمَنْ خَاضَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ؛ فَلِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبِدَعِ وَإِزَالَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُشْكِلَةِ فِي الدِّينِ لَا لِذَاتِهِ، وَأَرَادُوا بِهِ إِزَالَةَ الْخِلَافِ فَزَادَهُمْ خِلَافًا وَافْتِرَاقًا، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَيَحْصُرُهَا كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَذْهَبِهِ، وَلَا سَلَامَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِالرُّجُوعِ فِي الدِّينِ الْمَحْضِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى مَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ

وَالتَّجَارِبُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنْ يَنْبِذُوا جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ مَثَارَ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُوا قَوْلَ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَلَا فَهْمِهِ سَبَبًا لِلتَّعَدِّي وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ بَلْ يَعُدُّوا كُلَّ مَا لَيْسَ قَطْعِيًّا مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، وَاجْتِمَاعِ سَلَفِهِمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ مَنْ قَامَ دَلِيلُهُ عِنْدَهُ وَمَنْ وَثِقَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) مِرَارًا. فَبِهَذَا يَزُولُ ضَرَرُ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَيَتَرَاجَعُ الْجَمِيعُ إِلَى وَحْدَةِ الدِّينِ وَأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، فَيَنَالُوا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا ثُمَّ الْآخِرَةِ مَا شَرَّعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِأَجْلِهِ. بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ نَقُولُ: إِنْ مَسْأَلَةَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ تَأْوِيلٍ وَتَفْوِيضٍ، اجْتِنَابًا مِنْ قَوْمٍ لِلتَّعْطِيلِ، وَمِنْ آخَرِينَ لِلتَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ لِلَّهِ - تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فَرُبَّمَا قِيلَ بَادِيَ الرَّأْيِ إِنَّ آيَاتِ النَّفْيِ فِيهَا أَصْرَحُ مِنْ آيَاتِ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَرَانِي وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (6: 103) فَهُمَا أَصْرَحُ دَلَالَةً عَلَى النَّفْيِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (75: 22، 23) عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً (36: 49) وَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ (7: 53) وَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ (2: 210) وَثَبَتَ أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا بِـ " إِلَى " وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُهُمْ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ - وَهُوَ تَوْجِيهُ الْبَاصِرَةُ إِلَى مَا تُرَادُ رُؤْيَتُهُ - أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى الْوُجُوهِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُصَحِّحُ إِسْنَادُ النَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَّا الْعُيُونَ الْبَصَّارَةَ، وَهُوَ فِي الدِّقَّةِ كَمَا تَرَى، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي فَهْمِهَا الْعُلَمَاءُ قَبْلَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرَ (نَاظِرَةٌ) بِقَوْلِهِ: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنَ حَجَرٍ: سَنَدُهُ إِلَى مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ، وَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ فَهْمَ مُجَاهِدٍ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ وَالشِّيعَةَ يَرَوْنَهُ صَحِيحًا، أَوْ لَيْسَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَمْتَنِعُ جَعْلُ تَأْوِيلِهِ عُذْرًا لِلْمُخَالِفِينَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْذُرُ أَصْحَابَهُ فِي اخْتِلَافِ فَهْمِهِمْ لِلنُّصُوصِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى مَا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَجْهٌ وَجِيهٌ، كَأَخْذِ الْآخَرِينَ بِفَحْوَاهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ، فَصَلَّى هَؤُلَاءِ فِي الطَّرِيقِ، وَأَدْرَكُوا مَعَهُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْمَوْعِدِ، وَلَمْ يُصَلِّ أُولَئِكَ الْعَصْرَ إِلَّا فِيهَا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي رَجَّحَتْ إِثْمَهُمَا عَلَى مَنَافِعِهِمَا فَتَرَكُوهُمَا، وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا مَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِنَابِهِمَا.

فَإِذَا مَحَّصْنَا أَسْبَابَ الْخِلَافِ مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ وَحْدَهَا وَجَدْنَا لِكُلٍّ مِنَ النُّفَاةِ لِلرُّؤْيَةِ وَالْمُثْبِتِينَ لَهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرًا عِنْدَ الْآخَرِ بِمَنْعِ جَرِيمَةِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، وَجَعْلِ أَهْلِهِ أَحْزَابًا وَشِيَعًا مُتَعَادِيَةً غَيْرَ مُبَالِيَةٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي كَادَ يَجْعَلُهُ كَالْكُفْرِ مَا دَامَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدِّينِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْخِلَافَ مَحْصُورٌ فِي اخْتِلَافِ الْفَهْمِ. وَمَا كَفَّرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بَعْضَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ وَغُلَاةِ التَّأْوِيلِ لِصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَغَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ إِلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ زَنَادِقَةً لَبِسُوا لِبَاسَ الْإِسْلَامِ لِلْإِفْسَادِ، وَبَثِّ دَعْوَةِ الْإِلْحَادِ، وَالتَّجْرِئَةِ عَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي تَلَقَّاهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ، أَوْ تَحْرِيفِهَا بِالتَّأْوِيلِ عَمَّا فَهِمُوهُ أَوْ عَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالْعَمَلِ " إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ وَبِشْرِ الْمِرِّيسِيِّ وَبَعْضِ الْمَجُوسِ، وَمِنْ سَلَائِلِهِمْ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ قَدْ بَثُّوا فِي الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةَ الْكَفْرِ أَوِ الْبِدَعَ الدَّاعِيَةَ إِلَى النِّفَاقِ، أَوِ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الشِّقَاقِ، فَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَفَّرَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ لِاعْتِقَادِهِ فِيمَا نَرَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ زَنْدَقَةٍ، لَا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ نَفْسَهُ زَنْدَقَةٌ، بِحَيْثُ يَرْتَدُّ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلِهِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ آيَاتِ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُحَكَّمُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي إِثْبَاتِهَا؛ إِذِ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ، دُونَ الْآخَرِ الْمُسْتَلْزِمِ عِنْدَهُ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاجِبِ تَأْوِيلُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ لَا لِرَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْذُرُونَ الْمُتَأَوِّلَ وَكَذَا الْجَاحِدَ لِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُكَفِّرُونَهُ بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ، وَلَا يَعُدُّونَ الْبِدْعَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ فِي الرِّوَايَةِ قَالُوا: إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا دَاعِيَةً؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِحْدَاثٌ لِفِتْنَةٍ وَتَفْرِيقٍ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَا أُثِرَ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خِلَافُهُ كَالرُّؤْيَةِ؟ ثُمَّ مَا الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَمُخَالَفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَدَعَاوَى الْبَاطِنِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ، وَمِثْلِهَا دَعْوَى الْمَسِيحِيَّةِ الْقَادَيَانِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ الَّتِي يُلَقَّبُ أَهْلُهَا بِالْأَحْمَدِيَّةِ، أَنَّ رَئِيسَ نِحْلَتِهِمْ (مِيرْزَا غُلَامُ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيِّ) هُوَ الْمَسِيحُ الْمُبَشَّرُ بِعَوْدَتِهِ إِلَى الدُّنْيَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَنُسِخَتْ فَرْضِيَّةُ الْجِهَادِ عَلَى لِسَانِهِ، فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْأَجَانِبِ الْمُسْتَعْبِدِينَ لَهُمْ، السَّالِبِينَ لِاسْتِقْلَالِهِمُ الْمُبْطِلِينَ لِشَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لِشَعْبٍ إِسْلَامِيٍّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدَافِعَ بِالْقِتَالِ عَنْ مِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْقَادَيَانِيُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِ خِدْمَةً لِلْإِنْكِلِيزِ، وَلَا يَزَالُ الْبَابُ مَفْتُوحًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِ لِمِثْلِ هَذَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ وَحْيَ النُّبُوَّةِ مُتَّصِلٌ فِي خُلَفَائِهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَالْقَوْلُ بِهَذَا خُرُوجٌ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ

لَا تَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا زَكَاةٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا صِيَامٌ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا الضَّلَالِ الْمُبِينِ إِلَّا التَّوَسُّعُ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلًّا مِنْ مُثْبِتِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَنُفَاتِهَا قَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَطْعِيَّةٌ، حَتَّى إِنَّ النَّافِيَ جَعَلَ نُصُوصَ الْإِثْبَاتِ دَالَّةً عَلَى النَّفْيِ، وَالْمُثْبِتَ جَعَلَ نُصُوصَ النَّفْيَ دَالَّةً عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِ بَعْضِ النُّفَاةِ إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ أَيْ تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (42: 53) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (53: 42) أَيْ: لَا إِلَى سِوَاهُ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ نَظَرِهِمْ إِلَى غَيْرِ رَبِّهَا مَمْنُوعٌ عَقْلًا وَنَقْلًا وَجَبَ حَمْلُ النَّظَرِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ وَهُوَ الِانْتِظَارُ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَنْتَظِرُ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ (رَاجِعِ الْكَشَّافَ) . وَيُقَابِلُ هَذَا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (6: 103) عَلَى رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِدْرَاكَ مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ، وَإِدْرَاكُ الْأَبْصَارِ إِنَّمَا إِحَاطَتُهَا بِالْمَرْئِيِّ، فَنَفْيُ الْإِدْرَاكِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الَّتِي تَرَاهُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ الَّتِي يَرَاهَا، وَيُحِيطُ بِهَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (20: 110) أَيْ: هُوَ يُحِيطُ بِهِمْ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (85: 20) وَهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا؛ لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْمُحَاطِ بِهِ بِالْمُحِيطِ مُحَالٌ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الْعِلْمِ بِهِ لَا نَفْيُهُ، كَآيَةِ نَفْيِ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ، وَكُلٌّ مِنْهَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ أَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ يُقْصَدُ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، وَأَنَّ نَفْيَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِمَعْنَى عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ ذَلِكَ الْعَامِّ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ لَا يَشْبَعُ - فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلْأَكْلِ وَنَفْيٌ لِلشِّبَعِ. هَذَا تَوْجِيهٌ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَتَحَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ عَلَيْنَا، وَقَدْ رَأَيْنَا لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ تَوْجِيهًا آخَرَ، مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَقَامِ التَّمَدُّحِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِالْأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّةِ لَا بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَمَا تَمْدَّحَ - تَعَالَى - بِأَمْرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا، كَنَفْيِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَنَفْيِ الْمَوْتِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَنَفْيِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ تَوْحِيدِهِ وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَنَفْيِ الْمِثْلِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. . . قَالَ: فَكَذَلِكَ نَفْيُ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، وَالرَّبُّ - جَلَّ جَلَالُهُ - يَتَعَالَى أَنْ يَتَمَدَّحَ بِمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَالْمَعْنَى إِذَنْ أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ - كَنَظَائِرِهِ - فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ لَا يُدْرَكُ بِحَيْثُ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لُغَةً بِمَا نَسْتَغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ بِمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لِلْإِدْرَاكِ، وَأَلْمَمْنَا بِمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَوَعَدْنَا بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ. (وَجَوَابُنَا) عَمَّا ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الدَّقَائِقَ اللُّغَوِيَّةَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَكَذَا أَهْلُ السَّلِيقَةِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَكَيْفَ يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا:إِنَّهُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؟ وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّطْوِيلِ بِبَيَانِ حُجَجِ كُلِّ فَرِيقٍ إِقْنَاعُ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْإِخْلَاصِ فِي جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَتَّى الْمَوْلُودِينَ فِي مُهُودِ الْمَذَاهِبِ، وَالنَّاشِئِينَ فِي حُجُورِ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ، أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي التَّوْفِيقِ وَالتَّأْلِيفِ، وَمَنْعِ جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ، فَضْلًا عَنْ جَعْلِهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّكْفِيرِ أَوِ التَّفْسِيقِ، وَلْيَعْذُرْنَا مَنْ يَرَانَا نُخَالِفُ فَهْمَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ فِي تَرْجِيحِنَا لِلْمَأْثُورِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهَا، وَفِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ لْيَعْذُرْنَا إِخْوَانُنَا السَّلَفِيُّونَ فِي تَقْرِيبِ مَذْهَبِ السَّلَفِ إِلَى الْعُقُولِ الَّتِي لَا يُرْجَى أَنْ تَهْتَدِيَ بِهِ وَتَأْخُذَهُ بِالْقَبُولِ إِلَّا بِإِثْبَاتِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَإِيضَاحِهِ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهَا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِفَتْوَى نُشِرَتْ فِي ص 282 - 288 مِنَ الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تُضَافَ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ، وَأَنْ يُلَخَّصَ الْمَوْضُوعُ فِي قَضَايَا مَعْدُودَةٍ تَكُونُ أَضْبُطُ لَهُ وَأَجْمَعُ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرَارٌ فَإِنَّ التَّكْرَارَ فِي إِيضَاحِ الْحَقَائِقِ ضَرُورِيٌّ. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ قَضَايَا جَامِعَةً فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهَا. قَضَايَا جَامِعَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ: (1) إِنَّ إِثْبَاتَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الْمُخَالَفَةِ لِهَذِهِ الدَّارِ فِي شُئُونِهَا وَشُئُونِ أَهْلِهَا وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا بِالْقُيُودِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِهَا الْمُثْبِتُونَ لَهَا مِنْ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ - لَيْسَ مِنَ الْمُحَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا بِالْبَرَاهِينِ

الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ حُذَّاقِ النُّظَّارِ عِنْدَ وُصُولِ الْبُرْهَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا وَلَا ذَاكَ. (2) إِنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فِيهَا لَيْسَتْ نُصُوصًا قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ فِي الْإِثْبَاتِ وَحْدَهُ وَلَا فِي النَّفْيِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ قَلِيلٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْخَلَفِ، فَفَهْمُ عَائِشَةَ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَمُجَاهِدٍ لِآيَةِ الْقِيَامَةِ مُخَالِفٌ لِرَأْيِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ؛ فَهِيَ إِذَنْ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ فِيهَا بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِثْبَاتُ وَمَا ظَاهِرُهُ النَّفْيُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ تَرْجِيحِهِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، أَوِ اتِّبَاعًا وَتَقْلِيدًا. فَالْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرِكَةُ الْإِلْزَامِ، فَلَا وَجْهَ لِطَعْنِ أَحَدٍ مِنْهُمَا فِي دِينِ الْآخَرِ، وَلَا فِي عِلْمِهِ بِهَا. (3) إِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ، وَفِيهَا مَا قَدْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَيَأْتِي فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَتَّى مِنَ الْمَنْسُوبِينَ مِنْهُمْ إِلَى السُّنَّةِ، كَالْأَشْعَرِيَّةِ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهُمْ مِنَ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ: وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا (4) إِنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُفَوِّضُونَ فِي جُمْلَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ وَأَفْعَالِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَحَكُّمٍ فِي تَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا، وَيُنَزِّهُونَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِيمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالشُّئُونِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِنَّ جُمْهُورَ الْخَلَفِ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ يَتَأَوَّلُونَ مَا عَدَا صِفَاتِ الْمَعَانِي، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تَرَاهُمْ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَرُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَنَابِلَةِ بِأَشَدِّ مَا يُشَنِّعُونَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى كَوْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُسِلُّونَهُ مِمَّنْ يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ سَلًّا، وَيُبَرِّئُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَرْعًا وَأَصْلًا. (5) إِنَّ مِنْ أَصَحِّ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْقَضَايَا الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: " ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ - قَالَ مَسْرُوقٌ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلِ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (81: 23) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى

(53: 13) فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا إِلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَتْ أَوْ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6: 103) أَوْ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (42: 51) ؟ قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ (5: 67) قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ (27: 65) . فَعَائِشَةُ وَهِيَ مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ تَسْتَدِلُّ بِنَفْيِ الْإِدْرَاكِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ مَعَ مَا عَلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتَسْتَدِلُّ عَلَى نَفْيِهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَدْ حَمَلُوا هَذَا وَذَاكَ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ إِدْرَاكَ الْأَبْصَارِ لِلرَّبِّ - سُبْحَانَهُ - مُحَالٌ فِي الْآخِرَةِ كَالدُّنْيَا، وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ لِمُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَقْوَى خَلْقُهُ الدُّنْيَوِيُّ الْمُعَدُّ لِلْفَنَاءِ، وَلَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ الرَّبِّ - تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَوِّيهِ بَعْضُ الشَّوَاهِدِ الْأُخْرَى، وَفِي بَحْثٍ ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَتْوَى. (6) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةٍ النَّارُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَالْمَعْنَى: أَنَّ النُّورَ الْعَظِيمَ هُوَ الْحِجَابُ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُوَ بِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ مُلْتَهِبٌ كَالنَّارِ؛ وَلِذَلِكَ رَأَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ نَارًا فِي شَجَرَةٍ تَوَجَّهَ هَمُّهُ كُلُّهُ إِلَيْهَا فَنُودِيَ بِالْوَحْيِ مِنْ وَرَائِهَا، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْجَبَلَ كَانَ فِي وَقْتِ تَكْلِيمِ الرَّبِّ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِيتَائِهِ الْأَلْوَاحَ مُغَطًّى بِالسَّحَابِ "

وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ " خُرُوجٌ (24: 17) . وَرَأَى النَّبِيُّ الْخَاتَمُ الْأَعْظَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نُورًا مِنْ غَيْرِ نَارٍ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ حِجَابًا دُونَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا، فَقَدْ سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " رَأَيْتُ نُورًا " وَمَعْنَاهُمَا مَعًا رَأَيْتُ نُورًا مَنَعَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ لَا أَنَّهُ - تَعَالَى - نُورٌ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ لَا يُرَى، وَهَذَا يَتَلَاقَى وَيَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ " حِجَابُهُ النُّورُ " وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا أَحَادِيثَ النُّورِ شَاهِدًا وَاحِدًا فِي مَوْضُوعِنَا، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ ذَاتِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَامْتِنَاعِهَا، كَمَا تَمْتَنِعُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ تَكُونُ الشَّمْسُ دُونَهُ حِجَابًا لَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي تَنْفُذُ أَشِعَّةُ نُورِ بَصَرِهِ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَنَارِهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا فَتُبْصِرُهُ؟ وَمَا هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي يَرَاهَا عَلَى بُعْدٍ قَدَّرَهُ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ بِأَكْثَرِ مِنْ تِسْعِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ، وَسَائِرُ الشُّمُوسِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالَّتِي لَا يَرَوْنَهَا إِلَّا بَعْضَ مَا أَفَاضَهُ - تَعَالَى - مِنَ النُّورِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُبُحَاتُ نُورِ وَجْهِهِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، فَلَا تُذْكَرُ مَعَهَا أَنْوَارُ الشُّمُوسِ إِلَّا مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي وَرَدَ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى (16: 60) . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رُؤْيَةُ إِدْرَاكٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى لَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَفَسَّرُوا وَجْهَ اللهِ بِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يُوَاجِهُ بِهِ الشَّخْصُ غَيْرَهُ، وَفِيهِ مَعَارِفُهُ؛ أَيْ: مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - لَوْ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ حِجَابَ النُّورِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عِنْدَ ارْتِقَائِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَجَلَّى - سُبْحَانَهُ - لِلْخَلْقِ كَافَّةً بِدُونِ هَذَا النُّورِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: لَأَحْرَقَتْهُمْ كُلُّهُمْ فَإِنَّ بَصَرَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ آخَرَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعِلْمُ هُوَ اكْتِشَافُ الْحِجَابِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأُ التَّكْوِينِ وَمَصْدَرُ التَّطَوُّرِ وَالتَّلْوِينِ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (71: 13، 14) وَخَلْقُ النَّاسِ وَكَذَا سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْوَارًا، قَدْ فُصِّلَ فِي عُلُومِ سُنَنِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ؛ فَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى أَطْوَارًا، وَفِي خَلْقِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ أَطْوَارٌ، وَفِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ لِلْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا أَطْوَارٌ، وَهِيَ بَعْدَ الْمَادَّةِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَوْلَمَ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (21: 30) وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (41: 11) إِلَخْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا أَوِ الْمُشَبَّهَةَ بِالدُّخَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِالْغَمَامِ الْمُشَابِهِ لِلدُّخَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (2: 210) فَهَذَا كَلَامٌ عَنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى، وَذَاكَ كَلَامٌ فِي بَدْئِهِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ (29: 20) وَقَالَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (21: 104) إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْغَلُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَاقَبَتِهِ مِنْ أَطْوَارِ الْخَلْقِ وَشُئُونِهِ فَهُوَ حِجَابٌ لَهُ عَنْهُ، فَالْحُجُبُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ كَثِيرَةٌ، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ حُجُبٌ دُونَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَهَا بَائِنٌ مِنْهَا لَا تُشْبِهُهُ وَلَا يُشْبِهُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَسَائِلِ مَعْرِفَتِهِ وَشُكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا تَكُونُ حُجُبًا إِلَّا دُونَ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ حُجُبًا لَهُ دُونَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَاهِدٍ آخَرَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا " سَأَلْتُ جِبْرِيلَ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ قَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَلَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ " وَرَوَاهُ عَنْهُ سَمَّوَيْهِ بِلَفْظِ: " سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَنَارٍ " وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: " لِلَّهِ دُونَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا لَوْ دَنَوْنَا مِنْ أَحَدِهَا لَأَحْرَقَتْنَا سُبُحَاتُ وَجْهِ رَبِّنَا " وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْإِسْنَادِ لِمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الصِّحَاحِ. وَعُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ يَرَوْنَ بِمَا اكْتَشَفُوهُ بِمَنَاظِيرِهِمِ الْمُكَبِّرَةِ عِيَانًا أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي نَرَاهَا أَوْ مَا عَدَا الدَّرَارِيَّ وَالْأَقْمَارَ مِنْهَا كُلَّهَا شُمُوسٌ، مِنْهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ شَمْسِ عَالَمِنَا هَذَا وَأَبْعَدُ مِنْهَا بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ مِنْ سِنِي سَيْرِ النُّورِ الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ زُهَاءَ مِائَةِ مِلْيُونِ مِيلٍ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشْرِ دَقَائِقَ، وَالنُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا دُونَ الْعَرْشِ. (7) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا " جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ " قَالُوا: إِنَّ الرِّدَاءَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِجَابِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا، وَقَدْ جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ رُؤْيَةِ الذَّاتِ بِدُونِ حِجَابٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ نَقْلًا عَنِ الْكِرْمَانِيِّ بَعْدَ عَدِّهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللهِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَجَابَ - أَيْ:

الْكِرْمَانِيُّ - بِأَنَّ مَفْهُومَهُ بَيَانُ قُرْبِ النَّظَرِ؛ إِذْ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَعَبَّرَ عَنْ زَوَالِ الْمَانِعِ عَنِ الْأَبْصَارِ بِإِزَالَةِ الرِّدَاءِ - وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ مَانِعٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: " إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ " فَإِنَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِهِ. . . إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ - وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَنْبَغِي لِحُفَّاظِ السُّنَّةِ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِثْلَهُ، وَمَا هُوَ أَمْثَلُ مِنْهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ اعْتَمَدَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ جَعْلَ رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ هَنَا عَيْنَ الْحِجَابِ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى هَذَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَهُ بِهِ - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: تَلَا لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (10: 26) وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُرَى بِدُونِ حِجَابٍ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْمَوْقِفِ وَمُلَاقَاتَهُ كَانَتْ مَعَ الْحِجَابِ، كَهَذِهِ الْمُلَاقَاةِ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَمَّا يَطْلُبُونَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: إِنَّنَا إِذَا قَطَعْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحِجَابِ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ الْمَانِعُ مِنَ النَّظَرِ، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ هُوَ حِجَابُ النُّورِ الْمَانِعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَالنَّظَرُ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ يُكْشَفُ فَيَقَعُ النَّظَرُ، فَيَرَى النَّاظِرُونَ النُّورَ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمَانِعَ مِنْ رُؤْيَةِ الذَّاتِ. وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْبَحْثِ. (8) وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي تَجَلِّيهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الصُّوَرِ، وَأَقْوَاهَا وَأَصَحَّهَا حَدِيثَا أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - الطَّوِيلَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِيهِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " هَلْ يُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ " فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ: يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي صُورَةٍ غَيْرَ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيَلِيهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ وَالْجَوَازِ عَلَيْهِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ إِلَخْ. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ " هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ " وَذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَمَرَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ تَشْبِيهُ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَيْضًا؛ أَيْ: فِي كَوْنِهِ لَا مُضَارَّةَ فِيهِ، وَلَا فِي التَّزَاحُمِ عَلَيْهِ - لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ - وَفِيهِ ذِكْرُ مَنْ عَبَدَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَدُخُولِ كُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ النَّارَ، وَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ: " حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ - تَعَالَى - مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ: فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةً فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى فِي الصُّورَةِ، سَتَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَيُخَالِفُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ التَّعْبِيرِ، وَرَوَاهُمَا غَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ تُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا وَتُخَالِفُهُ بِتَعْبِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَالْمَعْنَى الْعَامُّ وَاحِدٌ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ رِوَايَةُ " فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ " وَهِيَ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ " فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ " الْمُوَافَقَةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (68: 42) وَلَكِنَّ تَنْكِيرَ السَّاقِ وَإِسْنَادَ كَشْفِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَوْسَعُ مَجَالًا لِلتَّأْوِيلِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَإِسْنَادِ كَشْفِهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَالتَّشْمِيرِ عَنِ السَّاعِدِ مَثَلَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْجِدِّ وَالِاهْتِمَامِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الْفِرَارُ مِنْ شَيْءٍ مُخَوِّفٍ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْعَدْوُ السَّرِيعُ فَلَا يَتَعَثَّرُ بِثَوْبِهِ، وَسَبَبُ الثَّانِي أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا بِاتْقَانٍ وَسُرْعَةٍ يُشَمِّرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى لَا يَعُوقَهُ كُمَّاهُ، وَفِي مَجَازِ الْأَسَاسِ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَكَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ. قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا وَمِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أَرْزَاقِهَا فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا اهـ. أَقُولُ: فَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عِبَارَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ امْتِحَانِ اللهِ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ وَالتَّنْزِيلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ حَدِّهِ بِتَيْسِيرِهِ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ السُّجُودَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَفْظَ السَّاقِ وَرَدَ بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالنَّفْسِ.

وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَرْبِ الشُّرَاةِ: " لَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَوْ تَلِفَتْ سَاقِي " قَالُوا: أَيْ نَفْسِي. وَعَلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَشْفُ السَّاقِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ كَشْفِ الْحِجَابِ، وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ (68: 42) قَالَ: عَنِ الْغِطَاءِ فَيَقَعُ مَنْ كَانَ آمَنَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَيُدْعَى الْآخَرُونَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يُبْصِرُونَهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَجَدِّهِ، هِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللهُ الْأَمْرَ وَتَبْدُوَ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ: هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْمُفْظِعُ مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ فِيهِمْ وَالْحَرْبُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِمْ قَالُوا لِشِدَّةِ ذَلِكَ: قَدْ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، فَذَكَرَ اللهُ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ الْجَلِيِّ، لَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْخَفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَيْ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ إِلَّا إِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْضَاوِيُّ أَصْلًا آخَرَ لِكَشْفِ السَّاقِ تَتَّجِهُ بِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى كَشْفِ الْحِجَابِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَتِهِ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِحُسْنِ بَيَانِهِ لَهُ وَهُمَا قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَيَعْظُمُ الْخَطْبُ. وَكَشْفُ السَّاقِ مَثَلٌ فِي ذَلِكَ وَأَصْلُهُ تَشْمِيرُ الْمُخَدَّرَاتِ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ قَالَ حَاتِمٌ: أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا أَوْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَتِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ عِيَانًا، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَاقِ الشَّجَرِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ أَوِ التَّعْظِيمِ اهـ. وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثَيْنِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْكَارِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي بَعْضِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضٍ فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ النُّجْعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَارَبَ، قَالَ بَعْضُ الْمُؤَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ تَعَالَى رُؤْيَتُهُ - أَقُولُ: وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ كَالرُّؤْيَةِ فِي إِيهَامِ التَّشْبِيهِ، فَلَمْ يَخُصَّ دُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْتِي مَلَكٌ بِأَمْرِهِ لِامْتِحَانِهِمْ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ الْجَمْعُ بَيْنَ إِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ الْمَلَكِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (6: 158) وَقَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (89: 22) عَلَى وَجْهٍ، فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِلْهَرَبِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّبِّ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ مَعَ هَذَا - فَالْأَوْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ: إِنَّهُ إِتْيَانٌ يَلِيقُ بِهِ، لَا كَإِتْيَانِ الْخَلْقِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الصُّورَةِ وَأَوَّلُوهَا أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَقَعُ بِهِ التَّجَلِّي مِنْ حِجَابٍ وَمِنْهُ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الصُّورَةِ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لِحَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ. (مِنْهَا) كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ " أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا " (وَمِنْهَا) " فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ " (وَمِنْهَا) " فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ " (وَمِنْهَا) " ثُمَّ يَتَبَدَّى اللهُ لَنَا فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ " وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ " ثُمَّ نَرْفَعُ رُؤُوسَنَا وَقَدْ عَادَ لَنَا فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَنَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ رَبُّنَا " وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ " فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ رَبُّهُمْ ". ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَظَمَتِهِ مَعَ التَّنْزِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَمِنْهُ أَنْ يَجِيئَهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ الْحَدَثِ، وَلَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَمْتَحِنَهُمْ " فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَكُ أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ - رَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَخْلُوقِ مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبُّهُمْ فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْهُ " وَقَالَ فِي شَرْحِ " فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ": الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ هُنَا الصِّفَةُ، وَمَعْنَاهُ: فَيَتَجَلَّى اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَهُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَةٌ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصُّورَةِ عَنِ الصِّفَةِ لِمُشَابَهَتِهَا إِيَّاهَا وَلِمُجَانَسَةِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورَةِ اهـ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ تَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى عَنِ الْقُرْطُبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَقْرُبُ مِمَّا اعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ. وَغَرَضُنَا مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَدْ أَوَّلُوا بَعْضَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ كَمَا أَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ، فَلَا مُقْتَضَى لِلتَّعَادِي وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَبَعْضُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَعْرَقُ فِي التَّكَلُّفِ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا سَاغَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا يَسُوغُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ التَّأْوِيلِ تَقْرِيبَ الْمَعَانِي إِلَى الْأَذْهَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّشْكِيكِ فِي النُّصُوصِ، فَإِنَّ الْوَاقِفِينَ عَلَى عُلُومِ هَذَا الْعَصْرِ وَفُنُونِهِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ مَا اشْتَدَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي فَتْوَى الْمَنَارِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ فِيهِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ هُنَا، وَسَنَذْكُرُ الْفَتْوَى بِنَصِّهَا.

(9) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بَيْنَ إِثْبَاتٍ وَنَفِيٍ وَوَقْفٍ، وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي الرُّؤْيَةِ هَلْ هِيَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَمْ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمِعْرَاجِ نَفْسِهِ هَلْ كَانَ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا، أَمْ مُشَاهَدَةً رُوحِيَّةً بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ؟ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِيهَا، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَامًّا وَخَاصًّا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ صَحِيحَةٌ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ كَحَدِيثِ " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ " الْمُتَقَدَّمِ فِي النَّفْيِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَحَدِيثِ " وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. أَمَّا الصَّحَابَةُ؛ فَاشْتَهَرَ الْإِثْبَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَقَبِلَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا يُدَقِّقُونَ فِي تَمْحِيصِ رِوَايَاتِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. وَاشْتَهَرَ الْمَنْعُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهَا فِيهِ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ، وَتَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا فِيهِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّ مَسْرُوقًا لَمَّا سَأَلَهَا هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ. وَرُوِيَ النَّفْيُ عَنْ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ عَنُوا بِالتَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِيهَا؛ لِإِثْبَاتِ مَا سَبَقَ إِلَى اعْتِقَادِهِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ كَالْحَافِظِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، فَرَجَّحَا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَقْوَى دَلِيلًا، بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَتَأَوَّلَتْ آيَةَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (6: 103) وَآيَةَ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا (42: 51) إِلَخْ، وَقَدْ غَفَلَا عَمَّا لَمْ يَجْهَلَا مِنْ حَدِيثِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَوْلُهَا لِمَسْرُوقٍ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ آيَةِ سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ لَفْظُهَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ، وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: " أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: لَا؛ إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا " إِلَخْ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِي الرِّوَايَاتِ لِأَجْلِ التَّمْحِيصِ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، فَبَيَّنَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْضُهَا مُطْلَقٌ وَبَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ لَا الْبَصَرِيَّةُ، فَإِذَا حَكَّمْتَ فِيهَا قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ زَالَ التَّعَارُضُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: جَاءَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ " أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ " إِلَخْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ " هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ " (وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (53: 11 - 13) قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ يَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَمِعَ حَدِيثَ قِسْمَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي عَرَفَةَ! ! . فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْإِثْبَاتِ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ مَا قِيلَ خَطَأً فِي نَفْيِ عَائِشَةَ: إِنَّهُ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ مُعَارِضٌ مَرْجُوحٌ بِمَا صَحَّ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِآيَتَيْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا فِي رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ عِكْرِمَةَ عَنْهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُعَاوِيَةُ: " إِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ " كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الْمَغَازِي لَا فِي الْحَدِيثِ، فَالْإِثْبَاتُ الْمُطْلَقُ عَنْهُ مَرْجُوحٌ رِوَايَةً، كَمَا هُوَ مَرْجُوحٌ دِرَايَةً. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ يَقَظَةً، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ، وَهَذِهِ نُصُوصُهُ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ إِنَّمَا يَعْنِي رُؤْيَةَ الْمَنَامِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ رَآهُ، فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقَعِ النِّزَاعُ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ رَآهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ مَوْضُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. اهـ.

فَتْوَى الْمَنَارِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (مِنْ ص282 م 19) (التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -) إِنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: رُوحَانِيٌّ وَجُسْمَانِيٌّ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَبْقَوْنَ بَشَرًا أُولِي أَرْوَاحٍ وَأَجْسَادٍ، وَلَكِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ عِنْدَهُمْ أَعْلَى مِنَ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمِنَ الثَّابِتِ بِالِاخْتِبَارِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ وَالْحُكَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَادِّيُّونَ وَالرُّؤَسَاءُ السِّيَاسِيُّونَ - كُلُّهُمْ يُفَضِّلُونَ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحِيَّةَ وَالْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، عَلَى اللَّذَّاتِ الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَزْهَدُ فِي أَطَايِبِ الطَّعَامِ، وَكُئُوسِ الْمُدَامِ، وَيَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، ذَاهِلًا عَنْ حُقُوقِ حَلِيلَتِهِ، تَلَذُّذًا بِحَلِّ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ وَاكْتِشَافِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ، أَوْ بِالنَّفْثِ فِي عُقَدِ السِّيَاسَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ أَعْبَاءُ الرِّيَاسَةِ. أَلَا وَإِنَّ أَعْلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرُّوحِيَّةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَالْعِلْمُ بِمَظَاهِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى سُنَنِهِ وَأَسْرَارِهِ فِيهَا، وَكَشْفُ الْحُجُبِ عَمَّا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَفِي النِّظَامِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مَجْلَى صِفَاتِ بَارِئِهَا، وَهُوَ مُنْتَهَى الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. وَمَا زَالَ أَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَالْآيَاتِ عَلَى كَمَالِ مُبْدِعِهَا وَمُبْدِئِهَا وَمُصَرِّفِهَا، وَتَتَطَلَّعُ عُيُونُ عُقُولِهِمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْحَادِثِ (وَهُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ) عَنِ الْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ الْوَاجِبِ، وَيَهْتَمُّونَ بِارْتِقَاءِ الْأَسْبَابِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَوَّلِ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ مِنْهَا، وَكَيْفَ ابْتَدَأَتْ سِلْسِلَةُ الْأَسْبَابِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحَوُّلِ الْبَسَائِطِ، وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ طَمَعًا فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْوُجُودِ الْأَعْلَى عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ أَدْنَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ السُّفْلَى، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكَمَاءُ فِي إِمْكَانِ وُصُولِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ الْأَزَلِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ عَنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ، وَتَوَقَّعَ حُصُولَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْأَنَامِ.

وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا هَدَانَا إِلَيْهِ دِينُ اللهِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ إِدْرَاكَ أَبْصَارِ الْخَلْقِ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِمْ بِهِ مِنَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ فِيهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6: 103) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (20: 110) وَلَكِنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ، لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَجْزَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، الَّتِي تَرْتَقِي إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّجَلِّي وَالرُّؤْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةً، فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ جَلِيلَةٌ وَاضِحَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمِرَاءُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَفَلْسِفِينَ وَبَيْنَ عُلَمَاءِ الْآثَارِ فِي كَلِمَةِ " الرُّؤْيَةِ " فَأَثْبَتَهَا أَهْلُ الْأَثَرِ لِدَلَالَةِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهَا، وَمَنَعُوا قِيَاسَ رُؤْيَةِ الْبَارِي - تَعَالَى - عَلَى رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِدَعْوَى اسْتِلْزَامِهَا التَّحَيُّزَ وَالْحُدُودَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَقَالُوا: إِنَّنَا لَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا كَعِلْمِنَا عَنِ انْطِبَاعِ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ فِي النَّفْسِ، وَلَا مُكْتَسِبًا لَهُ بِالْحَوَاسِّ أَوِ الْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنُّصُوصِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَائِرِ شُئُونِهِ، وَبَيْنَ تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ الْمَمْنُوعَةِ بِدَلَائِلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (42: 11) . وَنَفَاهَا (بَعْضُ) أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْفَلْسَفَةِ بِنَاءً عَلَى قِيَاسِ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَدَعْوَى مُنَافَاةِ الرُّؤْيَةِ لِلتَّنْزِيهِ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعَقِيدَةِ وَرُكْنِهَا الرَّكِينِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الرُّؤْيَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَاءُ اللهِ - تَعَالَى - بِتَجَلِّيهِ عَلَيْهِمْ تَجَلِّيًا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ أَعْلَى مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ أَنْفُسُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّ أَعْظَمَ عِقَابٍ لِأَهْلِ النَّارِ حَجْبِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ هَذَا التَّجَلِّي وَالْعِرْفَانِ الْخَاصِّ بِدَارِ الْكَرَامَةِ وَالرَّاضُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِتَأْوِيلِ مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُتَّقِينَ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (33: 44) وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِرِينَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (83: 15) كَمَا يَعْتَنُونَ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (75: 22، 23) بِأَنَّ النَّظَرَ مَعْنَاهُ الِانْتِظَارُ وَالرَّجَاءُ، وَمَا رَدَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآيَةِ يَطْلُبُ مِنَ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَحَوَاشِيهِمَا وَسَائِرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَمِنْ كُتِبِ الْكَلَامِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ. وَكَمْ بَيْنَ حُذَّاقِ الْجِدَالِ تَنَازُعٌ ... وَمَا بَيْنَ عُشَّاقِ الْجَمَالِ تَنَازُعُ وَمِنْ غَرَائِبِ جَدَلِهِمْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ بِطَلَبِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رُؤْيَةَ رَبِّهِ،

وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَرَانِي. . . الْآيَةَ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بِسُؤَالِ الْكَلِيمِ إِيَّاهَا، وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُؤَالَهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ - وَبِتَعْلِيقِ الرُّؤْيَةِ عَلَى جَائِزٍ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِعَدَمِ إِجَابَةِ الْكَلِيمِ إِلَيْهَا، وَتَعْلِيقِهَا عَلَى مَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ لَيْسَتْ نَصًّا قَاطِعًا فِي مَذْهَبِهِ، فَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مَا هُوَ نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فِي الرُّؤْيَةِ، وَتَشْبِيهِهَا بِرُؤْيَةِ الْبَدْرِ وَالشَّمْسِ فِي الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، وَكَوْنِهَا لَا مُضَارَّةَ فِيهَا وَلَا تَضَامَّ وَلَا ازْدِحَامَ، وَفِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ، وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَكَانَ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ إِشَارَتِهِ إِلَى ذَلِكَ: وَأَكْثَرُهَا جِيَادٌ، وَزَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، وَحَمْلَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَكَانَ بَعْضُ مَا قَالُوهُ تَأْوِيلًا أَبْعَدَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُنْكِرِينَ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْسِيرِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَا نَصَّهُ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْصُلُ لِلرَّائِي الْعِلْمُ بِاللهِ - تَعَالَى - بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهُوَ عَلَى وِفْقِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: " كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ " إِلَّا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْإِنْسَانِ نِسْبَتُهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ؛ نِسْبَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ نَوْعُ كَشْفٍ وَعِلْمٍ إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَوْضَحُ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَعَقَّبَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْوِيضِ وَعَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَوْضَحَهُ فِي كِتَابِ " الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ " بِمَا يُعْهَدُ مَنْ قَرَأَ الْإِحْيَاءَ مِنْ بَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ. هَذَا وَإِنَّ إِحْصَاءَ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَسَرْدَ كَلَامِ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ وَبَيَانَ الرَّاجِحِ مِنْهُ وَالْمَرْجُوحِ يَسْتَغْرِقُ عِدَّةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَنَارِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ مِنَّا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ

صَحَابِيًّا، دَعِ الْمَوْقُوفَ وَالْآثَارَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مُعَارَضَتِهَا شَيْءٌ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: " قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - يَا أُمَّتَاهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ، مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذِبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذِبَ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ - ثُمَّ قَرَأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6: 103) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (42: 51) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذِبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا (31: 34) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ - أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ فَقَدْ كَذِبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أَنْزِلُ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (5: 67) الْآيَةَ، وَلَكِنْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ " اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتِ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَخْ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَبَعًا لِابْنِ خُزَيْمَةَ ذَاهِلًا عَمَّا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي شَرَحَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عِنْدَهُ زِيَادَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ: قَالَ مَسْرُوقٌ " وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ " إِلَخْ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَائِشَةَ تَنْفِي دَلَالَةَ سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَتَنْفِي جَوَازَ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا أَوْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَيُعَارِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي النَّفْيِ حَتَّى يُرَجَّحَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَقَدْ قَالَ بِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عَائِشَةَ لَيْسَتْ أَعْلَمُ عِنْدِنَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِلنَّبِيِّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بَحْثٌ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَنْبَطَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ يُقَالُ إِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ عَائِشَةَ إِلَّا وَالِدُهَا الصِّدِّيقُ وَعَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي طَبَقَتِهَا مِنْهُمُ الْعَبَادِلَةُ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ مَوْضُوعٌ، حَتَّى إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْهَا نَفْسُهَا فِيهِ أَقْوَى سَنَدًا. وَيَقُولُ النُّفَاةُ: لَوْ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَا خَفِيَ نَبَأُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْعِلْمِ، وَسُؤَالِهَا إِيَّاهُ عَنْ آيَةِ النَّجْمِ،

وَقَدْ يَقُولُ النُّفَاةُ أَيْضًا: لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ عَقِيدَةً يُطَالِبُ الْمُسْمِلُونَ بِالْإِيمَانِ بِهَا لَمَا جَهِلَتْهَا عَائِشَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَةِ إِثْبَاتِ الْمُثْبِتِينَ لَهَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يُعَدَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا لِبَعْضِ الْخَوَاصِّ إِذْ لَا يَضُرُّ الْعَامَّةَ جَهْلُهَا، فَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً يُدْعَى إِلَيْهَا مَعَ التَّوْحِيدِ. وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنِ اسْتِنْبَاطِ عَائِشَةَ وَأَقْوَاهُ عِنْدَ الْمُثْبِتِينَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُرِيدُ بِهِ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَلَا تُقَاسُ شُئُونُ الْبَشَرِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى شُئُونِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْعَالَمِ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ تُخَالِفُ سُنَنَ هَذَا الْعَالَمِ وَنَوَامِيسِهِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَمَاءُ الْجَنَّةِ غَيْرُ آسِنٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَا يُخَالِطُهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فِي مَقَرِّهِ أَوْ جَوِّهِ، وَخَمْرُهَا لَيْسَ فِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعَقْلَ، وَلَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، وَلَبَنُهَا لَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ، وَلَا تُخَالِطُهُ جِنَّةٌ (مَيْكْرُوبَاتٌ) أَمْرَاضٌ، وَكَذَلِكَ فَاكِهَتُهَا وَثَمَرَاتُهَا هِيَ عَلَى كَوْنِهَا أَعْلَى وَأَشْهَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا لَا تَفْسَدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءَ، وَكَذَلِكَ أَمْزِجَةُ أَهْلِهَا هِيَ أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فَيَكُونُ هَضْمُهُمْ بِالتَّبَخُّرِ وَرَشْحِ الْعَرَقِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ لَهَا رِيحُ الْمِسْكِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْعَصْرِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمِرِّيخِ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ كَالْبَشَرِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَكْبَرَ مِنَّا أَجْسَامًا وَأَسْرَعَ مِنَ الْخَيْلِ الْعَادِيَّةِ فِي حَرَكَتِهِمُ الْعَادِيَّةِ، هَذَا، وَعَالَمُ الْمِرِّيخِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعَالِيَةِ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ فِي شَأْنِهِ يُقَرِّبُ تَصَوُّرَ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَذْهَانِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ أَخْبَارَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَمَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِمَا اكْتَشَفَ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَخَوَاصِّ الْكَهْرُبَاءِ وَالرَّادْيُومِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مَشْهُودًا مَقْطُوعًا بِهِ لَمَا صَدَّقُوهُ. قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ حَقَّ الْقِيَامِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (32: 17) وَوَضَّحَ ذَلِكَ رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " وَرَوَى أَهْلُ الْكِتَابِ مِثْلَ هَذَا عَنْ سَيِّدِنَا عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَعْلَى وَأَسْمَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا حَتَّى الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِ النَّاسِ وَغَرَائِزِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِضَرُورَةِ تَقْرِيبِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ مِنَ الْفَهْمِ، فَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى أَعْلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ الشُئُونِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَنُشَبِّهَهُ بِشُئُونِ الدُّنْيَا؟ فَنَجْعَلَ تَجَلِّيَ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِأُولَئِكَ الْعِبَادِ الْمُكْرَمِينَ

الَّذِينَ رَقَّاهُمْ وَكَمَّلَهُمْ وَأَهَّلَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ تَحَيُّزًا وَمُشَابَهَةً لِلْخَلْقِ؟ وَنَجْعَلَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّجَلِّي مِنَ الْعِلْمِ الْأَكْمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعُلْيَا الَّتِي تَسْتَغْرِقُ أَرْوَاحَهُمْ وَجَمِيعَ مَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِدْرَاكًا لِكُنْهِ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ بِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - ثُمَّ نَعْذِرُ أَنْفُسَنَا عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ سُمِّيَ رُؤْيَةً وَمُعَايَنَةً، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ هُنَالِكَ كَرُؤْيَتِنَا الَّتِي الَّتِي تَعْهَدُهَا هُنَا؟ ! سُبْحَانَ اللهِ! أَيَكُونُ كُلُّ مَا هُنَالِكَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مُخَالِفًا لِمَا لَهُ اسْمُهُ مِنْهَا هُنَا إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِ الْخَالِقِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشَابِهًا لِشُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ؟ أَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَدَّعِي أَصْحَابُهُ اتِّبَاعَ الْمَعْقُولِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ جَمَدُوا عَلَى بَعْضِ أَحَادِيثِ الْآحَادِ مِنَ الْمَنْقُولِ؟ ! وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ جَمَدُوا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِي صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى وُشُئُونِهِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، فَتَرَاهُمْ يَصْرِفُونَهَا عَنْ مَعَانِيهَا، وَيُعَطِّلُونَ مَدْلُولَاتِهَا الْمَقْصُودَةَ؛ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَدْلُولَاتُهَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَدْلُولَاتِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. ثُمَّ تَحَكَّمُوا فَأَثْبَتُوا بَعْضَ صِفَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى بِدُونِ تَأْوِيلٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّشْبِيهَ، وَأَوَّلُوا أَكْثَرَهَا كَالْكَلَامِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَخْ، وَهَذَا عَيْنُ التَّعْطِيلِ - وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ لَهُ تَعَالَى كُلَّ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُنَزِّهُونَهُ فِيهِ كُلِّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَلَا يَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلَامِ، فَكُلُّهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ مَعَ التَّنْزِيهِ - فَعِلْمُهُ لَيْسَ كَعِلْمِ الْبَشَرِ مُنْتَزَعًا مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ بِالْحِسِّ أَوِ الْفِكْرِ -، وَكَلَامُهُ لَيْسَ كَيْفِيَّةً عَرْضِيَّةً يَحْصُلُ بِتَمَوُّجِ الْهَوَاءِ بِتَأْثِيرِ الصَّوْتِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِّ - وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ وَشُئُونِهِ تَعَالَى. فَتَجَلِّيهِ لِخَوَاصِّ خَلْقِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَيْسَ كَظُهُورِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ لَا يُشَابِهُ مَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عَالَمِ الْحِسِّ أَنَّ إِيقَادَ مِصْبَاحِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ أَوْ زَيْتِ الْبِتْرُولِ لَا يُشْبِهُ إِيقَادَ مِصْبَاحِ الْكَهْرُبَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّانِي مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَوَّلِ - وَنَجْزِمُ بِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْكَهْرُبَاءَ أَلْبَتَّةَ - فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَلَّا نَسْتَغْرِبَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فِي اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّةِ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرُّؤْيَةِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَمْثَالِ، وَحَسْبُ الْمَحْرُومِ مِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَمْثَالِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (29: 43) . (انْتَهَتِ الْفَتْوَى)

(خُلَاصَةٌ وَتَتِمَّةٌ تَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ وُضُوحًا، وَمَذْهَبَ السَّلَفِ ثُبُوتًا) (1) الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْقَطْعِيَّةِ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ يَجْعَلُهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُدْعَى إِلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ يَجْهَلُهَا أَوْ يُنْكِرُهَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ غَرِيبِ الْعِلْمِ إِلَّا عَلَى الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كِبَارُ الْعَارِفِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِمَنْ دُونَهُمْ - وَكَذَلِكَ كَانَ - حَتَّى إِنَّ كِبَارَ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءَ الْبَيَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالْقِيَامَةِ. فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُثْبِتَةً وَبَعْضُهُمْ نَافِيَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ لُغَةً، وَأَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ فِي غَيْرِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ وَاقِعَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَحْرِيمُ مَا تَغْلِبُ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَيُرَجَّحُ الضَّرَرُ فِيهِ عَلَى النَّفْعِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ بِهَذَا التَّرْجِيحِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (2: 219) وَهُوَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ فَتَرَكُوهُمَا، وَلَمْ يُكَلِّفْ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ تَرْكَهُمَا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؛ إِذْ نَطَقَتْ بِأَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَصَرَّحَتْ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ. وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ بِنَصٍّ غَيْرِ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ حِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِأَنَّ شِدَّةَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ تَرْكَهُمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضِعَافِ الْإِيمَانِ تَرْكُهُمَا، وَيَتَعَسَّرُ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْفِرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَرَحْمَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا بِالتَّدْرِيجِ وَلَا سِيَّمَا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ آيَةً تَقْتَضِي تَرْكَ الْخَمْرِ فِي عَامَّةِ النَّهَارِ وَنَاشِئَةِ اللَّيْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (4: 43) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا الْبَلِيغَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ - وَآيَةً يَفْهَمُ مِنْهَا دَقِيقُ الْعِلْمِ قَوِيُّ الْإِيمَانِ التَّحْرِيمَ فَيَتْرُكُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهِيَ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ بِالِاجْتِنَابِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ. لَوْلَا غَفْلَةُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي عِلْمِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَفِي دِينِهِ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَتِلْكَ الْقَاعِدَةِ، لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمُ الْآخَرَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا عَصَبِيَّةً مَذْهَبِيَّةً، وَلَعَلِمَ الْمُثْبِتُونَ لَهَا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَوْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً عَامَّةً وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ لَبَيَّنَ

ذَلِكَ فِي آيَةٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَرَّفَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ": وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَأَمَرَ بِتَلْقِينِ هَذَا لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَتَوَاتَرَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِذًا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَمَا اسْتَنْكَرَتْ عَائِشَةُ سُؤَالَ مَسْرُوقٍ إِيَّاهَا عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ حَتَّى قَفَّ شَعْرُهَا مِنِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا اسْتَنْكَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ حُصُولَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا امْتِيَازًا لَهُ؛ لِأَنَّ رُوحَهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ أَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ فَيَطِيقُ مَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُ حَتَّى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَاسَتْ هَذَا الِامْتِيَازَ عَلَى النَّاسِ بِامْتِيَازِهِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ - عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؛ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا فِي عَالَمِ الْأَرْضِ. فَالْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لِعَدَمِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا مِمَّا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْعُقُولُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " وَعُمُومُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكْذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ " وَرُوِيَا مَرْفُوعَيْنِ وَلَكِنْ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ - وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ فِي الثَّانِي مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرُ، وَمَا لَا يَعْقِدُ لَا مَا يُقَابِلُ الْجَهْلَ؛ إِذْ يَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَقَدْ زَادَ فِيهِ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ " وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ آنِفًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفَسَّرَ مَا لَا يُنْكِرُونَ بِمَا لَا يَشْتِبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، وَلَا يَسْلَمُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتِثْنَاءُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ عَنْ أَحَدٍ؛ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ آيَاتِ الرُّؤْيَةِ، لَيْسَ فِيهَا مَثَارٌ لِلْفِتْنَةِ، مَعَ عَقِيدَةِ التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ، وَقَاعِدَةِ التَّفْوِيضِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا السَّلَفُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحُولُ دُونَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا لِمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، كَمَا نَصَّ فِي آيَةِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَنَا إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمْ يُكَفِّرْ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ هُوَ الزَّيْغُ وَالزَّنْدَقَةُ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيثَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ أَحْمَدُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَمَالِكٌ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي الْغَرَائِبِ، وَمِنْ قَبْلِهِمْ

أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ (أَيْ: بِالثَّانِي) مَا يَقَعُ مِنَ الْفِتَنِ وَنَحْوُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيثَ أَنَسٍ لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةٍ الْعُرَنِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهَا وَسِيلَةً إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُقَوِّي الْبِدْعَةَ، وَظَاهِرُهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَادٍ. فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوبٌ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. (أَقُولُ) : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ مِنَ الْأُصُولِ، أَعْنِي التَّعَارُضَ بَيْنَ مَا أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ بَيَانِ الْعِلْمِ، وَإِظْهَارِ الشَّرْعِ وَمَا حَرَّمَ مِنَ الْكِتْمَانِ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (3: 187) وَبَيَّنَ مَا حَرَّمَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفِتْنَةِ، وَمَا وَجَبَ مِنْ سَدِّ ذَرَائِعِهَا مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَحْقِيقًا لِهَذَا الْبَحْثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ.

(2) الرُّؤْيَةُ فِي الْعَمَلِ النَّوْمِيِّ: قَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُكَرَّرَةِ وَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ فِي حَالِ النَّوْمِ الْمُعَطِّلِ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ أَعْمَالًا دَقِيقَةً كَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَتَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ بِسُرْعَةٍ وَمَهَارَةٍ يَعْجَزُونَ عَنْ مِثْلِهَا فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ كَانَ يَخْرُجُ أَحَدُهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ وَهُوَ مُغْمَضُ الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ يَفْتَحُهُمَا وَلَا يَرَى بِهِمَا إِلَّا مَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ إِلَيْهِ، كَبَعْضِ الصَّيَادِلَةِ الَّذِي رَاقَبَهُ طَبِيبٌ عَرَفَ حَالَهُ فَرَآهُ يَقْرَأُ وَصْفَاتَ الْأَطِبَّاءِ وَيُرَكِّبُ مَا جَاءَ فِيهَا، فَأَلْقَى إِلَيْهِ فِيهَا وَصْفَةَ دَوَاءٍ سَامٍّ يَقْتُلُ شَارِبَهُ فِي الْحَالِ، فَقَرَأَهَا وَأَعَادَ التَّأَمُّلَ فِيهَا، وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ أَوْ سَبَقُ قَلَمٍ مِنَ الطَّبِيبِ فَأَنَا لَا أُرَكِّبُهُ وَأَلْقَاهَا، وَرَاقَبَ بَعْضُهُمْ رَجُلًا آخَرَ كَانَ يُخْبَرُ أَنَّ نُقُودَهُ تُسْرَقُ مِنْ صُنْدُوقِهِ الْحَدِيدِيِّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَاتَ عِنْدَهُ فَرَآهُ قَدْ قَامَ مِنْ فِرَاشِهِ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي النَّوْمِ، وَفَتَحَ صُنْدُوقَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ النُّقُودِ وَخَرَجَ بِهَا، فَتَبِعَهُ حَتَّى جَاءَ مَكَانًا خَرِبًا فَتَسَلَّقَ جِدَارًا مِنْ جُدُرِهِ الْمُتَدَاعِيَةِ، وَمَشَى عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ ثُمَّ نَزَلَ فِي دَاخِلِهِ وَحَفَرَ فِي الْأَرْضِ حُفْرَةً، وَوَضَعَ فِيهَا مَا حَمَلَهُ مِنَ النُّقُودِ، وَعَادَ فَتَسَلَّقَ الْجِدَارَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مُسْرِعًا وَالْمُرَاقِبُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَهُ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ فِي النَّهَارِ عَدَّ الدَّرَاهِمَ، وَأَخْبَرَ الرَّجُلَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُ لِيَكْشِفَ لَهُ حَالَ مَنْ يَسْرِقُ صُنْدُوقَهُ بِمَا نَقَصَ مِنْهَا، فَحَدَّثَهُ هَذَا بِمَا رَآهُ فَعَجِبَ وَأَنْكَرَهُ فَذَهَبَا إِلَى الْمَكَانِ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الرَّجُلُ أَنْ يَتَسَلَّقَ الْجِدَارَ وَيَمْشِيَ عَلَيْهِ مُسْرِعًا كَمَا فَعَلَ وَهُوَ نَائِمٌ، وَلَكِنَّهُمَا تَكَلَّفَا ذَلِكَ وَتَرَيَّثَا فِيهِ حَتَّى وَصَلَا إِلَى مَكَانِ طَمْرِ النُّقُودِ، وَبَحَثَا عَنْهَا فَوَجَدَاهَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَرُئِيَ بَعْضُ غِلْمَانِ أُسْرَتِنَا مِرَارًا يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ، وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ يَعُودُ وَهُوَ نَائِمٌ، وَدَخَلَ الْمَطْبَخَ مَرَّةً فَنَظَّفَ بَعْضَ الْآنِيَةِ فِيهِ، وَعَادَ إِلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ نَائِمٌ. وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِمَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنْ لِلْإِنْسَانِ نَفْسَيْنِ أَوْ رُوحَيْنِ تُفَارِقُهُ إِحْدَاهُمَا فِي حَالِ النَّوْمِ فَقَطْ وَتُفَارِقُهُ الثِّنْتَانِ مَعًا بِالْمَوْتِ، وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (39: 42) . (3) الرُّؤْيَا وَالْأَحْلَامُ: الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةُ وَالْأَحْلَامُ مِنْهَا خَوَاطِرُ تَتَمَثَّلُ وَاقِعَةً فِي حَالِ النَّوْمِ، وَسَبَبُهَا اشْتِغَالُ الْفِكْرِ بِهَا أَوْ أَسْبَابٌ تَعْرِضُ لِلنَّائِمِ فَيَتَخَيَّلُهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مَا يُشْبِهُهَا وَاقِعًا، وَهِيَ أَضْغَاثُ الْأَحْلَامِ، وَمِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي أَوَّلَهَا لَهُ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ وَقَعَ مَعَنَا وَمَعَ غَيْرِنَا، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ثُبُوتًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِالرَّغْمِ مِنْ أُنُوفِ الْمُكَابِرِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ بِالتَّجَارِبِ الْقَطْعِيَّةِ، وَأَعْلَاهُ وَأَكْمَلَهُ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَبَادِئِ الْوَحْيِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْمَنَامِ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَظَنَّ

بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْيَقَظَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا. (4) الرُّؤْيَةُ فِي النَّوْمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ: النَّوْمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ قَدِ اشْتَهَرَ وَكَثُرَ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِتَنْوِيمٍ صِنَاعِيٍّ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ إِرَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَتَأْثِيرِهِمْ فِي أَنْفُسِ مَنْ يُنَوِّمُونَهُ أَوْ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا مَحَلَّ لِبَسْطِهَا هُنَا، وَالنَّائِمُ بِهِ يَغِيبُ إِدْرَاكُهُ وَشُعُورُهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا مُنَوِّمِهِ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَكُونُ رَهْنَ تَصَرُّفِهِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ خَضَعَ لِإِرَادَتِهِ بِقَدْرِ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ الْمُنَوِّمَ يَسْأَلُ النَّائِمَ عَنْ أَشْيَاءَ غَائِبَةٍ أَوْ مَسْتُورَةٍ: مَا هِيَ وَأَيْنَ هِيَ؟ فَعِنْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنْهَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَيَرَاهَا وَيُخْبِرُهُ عَنْهَا فَيَصْدُقُ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِلشَّيْءِ لَا عَمَلَ لِلْأَعْيُنِ فِيهَا: إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ خَصَّتْ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ بِاسْمِ الرُّؤْيَا - بِالْأَلِفِ - وَمَا يَقَعُ فِي الْيَقَظَةِ بِاسْمِ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ تُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ، وَلَعَلَّهَا لَوْ عَرَفَتِ النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ مِمَّا ذَكَرْنَا هُنَا لَسَمَّتْهُ رُؤْيَا أَيْضًا. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (17: 60) قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٌ أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ نَقُولُ: وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهَا (رُؤْيَا) لَا " رُؤْيَةً " وَالتَّحْقِيقُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي حَالَةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَ فِيهَا سُلْطَانُ الرَّوْحِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي الْجَسَدِ فَصَارَ خَفِيفًا لَطِيفًا كَالْأَجْسَامِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَتَمَثَّلَ فِيهَا الرُّوحُ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ كَمَا قِيلَ، وَلَا فِي الْمَنَامِ كَمَا فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ مَنْ قَالُوا إِنَّهُمَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ؛ إِذْ إِطْلَاقُهُمْ لَا يُنَافِي هَذَا الْقَيْدَ - وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ الَّذِي حَلَّتْهُ رُوحُهُ الشَّرِيفَةُ لَيَلْتَئِذُ غَيْرَ جَسَدِهِ الْمُعْتَادِ؛ لِيُنَاسِبَ الْعَالَمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ - فَكَيْفَ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ أَثَّرَتْ فِيهِ الرُّوحُ فَلَطَّفَتْهُ وَجَعَلَتْهُ كَالْأَثِيرِ فِي لُطْفِهِ وَقُوَّتِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَبَقِيَ السُّلْطَانُ لِلرُّوحِ، فَجِبْرِيلُ الَّذِي تَمَثَّلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَةِ دِحْيَةَ، وَلِمَرْيَمَ بِصُورَةِ شَابٍّ جَمِيلِ الصُّورَةِ هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَتِهِ سَادًّا الْأُفُقَ الْأَعْلَى، وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهِمَا: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (53: 10) يُوَضِّحُ هَذَا مَا يَأْتِي:

(5) تَشَكُّلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَرُؤْيَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ أَفْضَلِ الْبَشَرِ وَأَصْدَقِهِمْ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَبَعْضِ أَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ فِي صُوَرٍ لَطِيفَةٍ أَوْ كَثِيفَةٍ، وَثَبَتَ تَمَثُّلُهُمْ لَهُمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْوَحْيِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ مَلَكَ الْوَحْيِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْقَطْعِ أَنَّهُ رَآهُ فِي الصُّوَرِ الَّتِي كَانَ يَتَشَكَّلُ فِيهَا مِرَارًا تُعَدُّ بِالْمَئِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي عَدَدِ نُزُولِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَسُوَرِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ صُورَةُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمِنْهَا صُورَةُ الرَّجُلِ الْغَرِيبِ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إِلَخْ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّوَرِ الْكَثِيفَةِ رَآهُ فِيهِ مَنْ حَضَرَ مَجِيئَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَمِنْهَا صُوَرٌ لَطِيفَةٌ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فِيهَا غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْوَحْيِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: " وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ " يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُثِّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ فَرَآهُمَا وَلَمْ يَرَهُمَا غَيْرُهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَاهُ مِثَالًا لَهُمَا، وَهَذَا غَيْرُ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهُ بِإِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ. وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ جِبْرِيلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَأَى بَعْضَ الشَّيَاطِينِ أَيْضًا مُتَمَثِّلَةً فِي صُوَرٍ، وَكَانَ يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ لِلشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي رُؤْيَةَ حَقِيقَتِهِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ جِنْسٌ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْوَاعٍ تَحْتَهَا أَصْنَافٌ وَشُخُوصٌ لَهَا أَمْثَالٌ. فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يَرَى مَخْلُوقًا مِثْلَهُ رُؤْيَةً لَا يُدْرِكُ بِهَا كُنْهَهُ، وَلَا يُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنَانِ مِثْلَهُ، وَهَذَا مِمَّا يُؤْمِنُ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالشِّيعَةُ وَالْأَبَاضِيَّةُ كَغَيْرِهِمْ فَهَلْ يَسْتَنْكِرُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الرَّبِّ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بِلَا كَيْفٍ وَلَا مِثَالٍ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ كَمَا اسْتَنْكَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ شَاعِرُهُمْ: قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا ... شُنْعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَةِ أُمْ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُصِرَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْيِيدِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ وَأَعْيُنِ الرُّؤُوسِ، وَاسْتِنْكَارُ تَسْمِيَتِهَا رُؤْيَةً رُوحِيَّةً مَعَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ لِلنَّفْسِ لَا لِلْجَسَدِ، كَمَا تَرَى تَوْضِيحَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ.

(6) الْكَشْفُ وَكَوْنُ الْإِدْرَاكِ لِلنَّفْسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِدْرَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلرُّوحِ، وَإِنَّ الْحَوَاسَّ وَالدِّمَاغَ آلَاتٌ حِسِّيَّةٌ لِلْعِلْمِ بِبَعْضِ الْحِسِّيَّاتِ بِحَسَبِ سُنَنِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّوَاهِدِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى مِنْ وَرَاءِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ، وَهِيَ رُؤْيَةٌ رُوحِيَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِبَصَرِ الْعَيْنَيْنِ وَلَا بِالْمُقَابَلَةِ، وَثَبَتَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا لِبَعْضِ الْمُكَاشِفِينَ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ مَا يَقَعُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِقُوَّةِ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا وَقَعَ لِمُؤَلِّفِ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي صِغَرِهِ، فَقَدْ رَأَى جَدَّتَهُ لِأُمِّهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مُسَجًّى فِي بُسْتَانٍ لَهَا تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ جَائِيَةً إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا مَا رَآهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَى مَدْخَلِ الْبُسْتَانِ مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ نَادَاهَا فَأَجَابَتْهُ، وَيَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا تَخَيُّلًا صَادَفَ الْوَاقِعَ، وَلَهُ أَمْثَالٌ وَنَظَائِرُ لَوْلَاهَا لَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ - وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْهُ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ مَا كُنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُصَادَفَةِ لِئَلَّا يَقِيسُوا عَلَيْهِ دَجَلَ الْمُحْتَالِينَ، وَلِئَلَّا نَقَعَ فِي الْغُرُورِ، وَلَكِنَّ مَجْمُوعَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا تَخَيُّلٍ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَى، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي أَحْوَالٍ مَرَضِيَّةٍ كَالْمَرِيضِ الَّذِي كَانَ يُعَالِجُهُ الطَّبِيبُ شِبْلِي شُمَيِّل بِمِصْرَ، وَكَانَ يُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ غَائِبَةٍ وَبِأُمُورٍ قَبْلَ وُقُوعِهَا فَيَصْدُقُ بِالضَّبْطِ الدَّقِيقِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ قَرِيبًا لَهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُرِيدُ السَّفَرَ إِلَى مِصْرَ؛ لِزِيَارَتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَآهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى مَحَطَّةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدَخَلَ الْقِطَارَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ وَكُسُورٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْقِطَارِ فِي مَحَطَّةِ الْقَاهِرَةِ وَخَرَجَ مِنْهَا وَرَكَبَ مَرْكَبَةً لِتَحْمِلَهُ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الدَّارِ - وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا، وَكَانَ الطَّبِيبُ شِبْلِي يُنْكِرُ مِثْلَ هَذَا، وَيُنْكِرُ وُجُودَ أَرْوَاحٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِالْوُجُودِ تُلَابِسُ الْأَجْسَادَ وَتُفَارِقُهَا مُدْرِكَةً بِالذَّاتِ - أَيْ: غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ فِي إِدْرَاكِهَا بِوُجُودِهَا فِي الْجَسَدِ وَاكْتِسَابِهَا الْعِلْمُ مِنْ حَوَاسِّهِ وَعَصَبِ دِمَاغِهِ - وَقَدْ صَارَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَتَبَهَا بِقَلَمِهِ، وَسَمِعْنَاهَا مِنْ فَمِهِ، يُشَبِّهُ دِمَاغَ الْإِنْسَانِ بِالْآلَةِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ لِلتِّلِغْرَافِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّتِي تَتَلَقَّفُ مِنْ كَهْرُبَاءِ الْجَوِّ مَا يُرْسِلُهُ هَذَا التِّلِغْرَافُ مِنْ أَخْبَارِ السُّفُنِ أَوِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ مَرِيضِهِ بِهِ أَنْ سَيَرْعَفُ أَنْفُهُ فِي سَاعَةِ كَذَا مِنْ نَهَارِ غَدٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ دَمِهِ مَا يَبْلُغُ وَزْنُهُ كَذَا. فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا يَتَنَاوَلُهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللهُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَوْلَا مَا يَشْغَلُهَا عَنْهُ مِنْ مَدَارِكَ الْحَوَاسِّ وَالْعُقُولِ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ - لَا مِنَ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِعِلْمِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

أَنْوَاعُ الْمُدْرِكَاتِ وَعَنَاصِرِ الْكَوْنِ وَأَحْوَالِهَا: إِنَّ مُدْرِكَاتِ الْبَشَرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ لَا تَتَعَلَّقُ فِي حَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ، بَلْ هُنَاكَ حُجَجٌ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ - أَمَّا الْوَحْيُ فَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قِسْمَانِ، أَوْ أَنَّ الْكَوْنَ قِسْمَانِ: عَالَمُ الْغَيْبِ، وَعَالَمُ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَمِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِ، وَأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا نُدْرِكُهَا، وَلَا تَشْعُرُ بِهَا حَوَاسُّنَا وَمَشَاعِرُنَا، إِمَّا لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهَا لِإِدْرَاكِهَا أَلْبَتَّةَ - كَمَا أَنَّ بَعْضَهَا لَا يُدْرِكُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْآخَرُ مِنَ الْهَيْئَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ مَثَلًا - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْحَاسَّةِ فِينَا عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا لِفَقْدِ بَعْضِ شُرُوطِ إِدْرَاكِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ الْمُمْكِنَ الَّذِي نَعْرِفُهُ فِي الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَمْ يَدْرِكْ كُنْهَهُ عُقُولُنَا، بَلْ دَلَّ عَلَى وُجُودٍ آخَرَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ بِالْأَثِيرِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ - عِلْمُ التَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثُ الْعَمَلِيِّ فِي الْوُجُودِ - فَقَدْ أَثْبَتَ وُجُودَ أَحْيَاءً كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ ذَاتِ تَأْثِيرٍ عَظِيمٍ فِي حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ مِنْ نَفْعٍ وَضَرٍّ تُرَى بِالْمَرَايَا الْمُكَبِّرَةِ دُونَ الْبَصَرِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنَّ فِيهِ مَوَادَّ أُخْرَى لَطِيفَةً هِيَ مِنْ أُصُولِ عَنَاصِرِهِ الَّتِي لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهُ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ لَا تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَلَا بِالْعَقْلِ بَادِئَ بَدْءٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِأَعْمَالِ التَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ وَآلَاتِهَا، وَاسْتُخْدِمَتْ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَهِيَ كَالْعَنَاصِرِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْمَاءُ وَالْهَوَاءُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ الْعِلْمِيَّةِ مَا صَارَ الْعِلْمُ بِهِ قَطْعِيًّا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْحِسِّيَّاتِ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ الْجَامِدَ يَتَحَوَّلُ بِالْحَرَارَةِ إِلَى مَائِعٍ كَمَا يَكُونُ الْجَلِيدُ وَالثَّلْجُ مَاءً، وَأَنَّ الْمَائِعَ يَتَحَوَّلُ بِهَا إِلَى بُخَارٍ، وَهُوَ مَا نُشَاهِدُهُ كَالدُّخَانِ اللَّطِيفِ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ تَسْخِينِهِ، وَمِنْ كُلِّ مَائِعٍ فِيهِ مَاءٌ، وَأَنَّ هَذَا الْبُخَارَ الْمَائِيَّ وَغَيْرَهُ يَتَحَوَّلُ بِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ إِلَى مَادَّةٍ لَا تُرَى كَالْهَوَاءِ وَيُسَمُّونَهَا غَازًا، وَأَنَّ الْأَجْسَامَ الْجَامِدَةَ كَالذَّهَبِ وَالْقَصْدِيرِ، وَالْمَائِعَةَ كَالْمَاءِ، وَالْغَازِيَّةَ كَالْهَوَاءِ مِنْهَا الْبَسِيطُ وَمِنْهَا الْمُرَكَّبُ، وَأَنَّ الْبَسَائِطَ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْمُرَكَّبَاتُ مَحْدُودَةٌ تُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَصَارَ فِي قُدْرَةِ الشَّرِّ أَنْ يُحَلِّلُوا الْمُرَكَّبَ، وَيُفَرِّقُوا بَسَائِطَهُ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ بِصِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ وَآلَآتِهَا، وَأَنْ يُحَوِّلُوا الْجَوَامِدَ مِنْ صِفَتِهَا فَيَجْعَلُوهَا غَازَاتٍ، وَأَنْ يَجْعَلُوا مِنَ الْغَازَاتِ وَمِنَ السَّائِلَاتِ جَوَامِدٌ، وَهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا أَغْذِيَةً وَأَدْوِيَةً وَسَمُّومًا قَاتِلَةً، بَلِ اسْتَخْرَجُوا مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ ذَهَبًا إِبْرِيزًا. هَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي صَارَتْ مِنْ صَنَائِعِ الْبَشَرِ تُقَرِّبُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مَا صَحَّ عَنِ الرُّسُلِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْجِنِّ يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرٍ كَثِيفَةٍ تُرَى بِالْأَبْصَارِ وَبِصُوَرٍ لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ؛ أَيْ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى أَرْوَاحَهُمْ قُوَّةً يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي مَادَّةِ الْكَوْنِ وَفِي

أَنْفُسِهِمْ بِأَعْظَمَ مِنْ تَصَرُّفِ عَالِمِ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَدْ أَعْطَى اللهُ - تَعَالَى - الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قُدْرَةً عَلَى تَأْلِيفِ جِسْمٍ لِرُوحِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ إِذَا شَاءَ، وَحَلِّهِ وَتَفْرِيقِهِ مَتَى شَاءَ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا التَّقْرِيبَ مِنْ قَبْلُ، وَغَرَضُنَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِهِ هُنَا إِيضَاحُ مَسْأَلَةِ تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الصُّوَرِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَكَوْنِ رُؤْيَتِهِ لَا تَقْتَضِي تَشْبِيهَهُ بِخَلْقِهِ كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ وَالْمُدْرِكَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (17: 85) . (8) مَذَاهِبُ الصُّوفِيَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ: الصُّوفِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، وَهُمْ لَا يُقَلِّدُونَ إِمَامًا وَاحِدًا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ مِنْهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمِنْهُمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَكْثُرُ فِيهِمُ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ غَفَلَ مَنْ لَمْ يَعُدَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ الرُّوحِيِّينَ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَإِلَى قُدَمَاءِ الشِّيعَةِ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَجُمْهُورُهُمْ يُجِلُّونَ الصَّحَابَةَ وَلَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءَ السَّلَفِ، وَلَا سِيَّمَا الْعُبَّادَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَدِلُونَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبُ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) وَمِنْهُمُ الْغُلَاةُ الَّذِينَ مَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَزَغَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَزَيْغِهِمْ، وَهُمْ غُلَاةُ الرَّافِضَةِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ إِلَى الْبَهَائِيَّةِ وَزُعَمَاؤُهُمْ مِنَ الْفُرْسِ، وَمِنْهُمُ الْبَكْتَاشِيَّةِ وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَتُهُمْ فِي بِلَادِ التُّرْكِ وَالْأَلْبَانِ، وَيُقَابِلُهُمْ صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِنْهُمْ يَقُولُونَ فِي الرُّؤْيَةِ مَا يَقُولُ سَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا الْمُعْتَدِلُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ، فَتَرَى أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَدْ فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَشَأْنُ سَائِرِ مُقَلَّدَتِهِمْ كَشَأْنِ سَائِرِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَقِلُّونَ فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ مِنْهُمْ يُدْخِلُونَهَا فِي مَسَائِلِ الْوَحْدَةِ، فَغُلَاةُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرٌ وَمَجَالِي، فَهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِلَّا فَالرَّائِيُّ وَالْمَرْئِيُّ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، يَعْنُونَ أَنَّ الرَّبَّ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدَ عَيْنُ الرَّبِّ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَرَى نَفْسَهُ بِمَا يَتَجَلَّى فِيهِ مِنْ صُوَرِ عَبِيدِهِ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، هَذَا تَنَاقُضٌ وَهَذَيَانٌ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، وَحَسْبُنَا مَا نَنْشُرُهُ فِي الْمَنَارِ مِنْ إِبْطَالِهِ وَتَنَاقُضِهِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا أَصْحَابُ وَحْدَةِ الشُّهُودِ مِنْهُمْ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا تَجَلِّيًا غَيْرَ كَامِلٍ، وَفِي الْآخِرَةِ تَجَلِّيًا كَامِلًا فَيَفْنَى الْعَبْدُ بِهَذَا التَّجَلِّي عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَى رَبِّهِ فَلَا يَرَى غَيْرَهُ، وَهُوَ يَرَاهُ بِكُلِّ رُوحِهِ الْمُدْرِكَةِ لَا بِعَيْنَيْهِ فَقَطْ، وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفَارِضِ فِيهِ إِذَا مَا بَدَتْ لَيْلَى فَكُلِّي أَعْيُنٌ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ بِآلَةِ الْبَاصِرَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَرْوَاحِ الْمَحْبُوسَةِ فِي هَيَاكِلِ

الْأَجْسَادِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَهِيَ كَالْمَحْبُوسِ فِي سِجْنٍ لَهُ نَوَافِذُ وَكُوًى قَلِيلَةٌ يَرَى مِنْهَا بَعْضَ مَا يُحَاذِيهَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا وَرَاءَ السِّجْنِ، وَهُمْ يُثْبِتُونَ تَجَلِّيهِ تَعَالَى فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُحَالًا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ؛ بَلْ يُبْقُونَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهَا كَجُمْهُورِ السَّلَفِ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَقْوَالٌ وَشَوَاهِدُ مُشْتَرِكَةٌ مَعَهَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْسُرُ التَّزْيِيلُ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَانْتُقِدَ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ فِي سَنَدِهِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ كُنْتُ مُتَعَلِّقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ؛ أَيْ: فَلَا تُوَجِّهُ إِرَادَتُهُ هَذِهِ الْجَوَارِحَ إِلَّا إِلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ، وَلَا يَنْسَى مُرَاقَبَتَهُ فِي أَعْمَالِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَوَحْدَةِ الشُّهُودِ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَعَارَتْهُ طَرْفًا رَآهَا بِهْ ... فَكَانَ الْبَصِيرُ بِهَا طَرْفَهَا وَلِلشَّيْخِ مُحْيِ الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ كَلَامٌ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي الْوَحْدَةِ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعَمِائَةِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَهُوَ: كَلِمَةٌ لِابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الرُّؤْيَةِ: " قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (6: 103) وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَنْ تَرَانِي وَكُلُّ مَرْئِيٍّ لَا يَرَى الرَّائِيَ - إِذَا رَآهُ - مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَنْزِلَتِهِ وَرُتْبَتِهِ فَمَا رَآهُ وَمَا رَأَى إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَفَاضَلَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الرَّائِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَرْئِيُّ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هُوَ مَجْلَى رُؤْيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ؛ لِذَلِكَ وَصَفُوهُ أَنَّهُ يَتَجَلَّى وَأَنَّهُ يُرَى، وَلَكِنْ شُغِلَ الرَّائِي بِرُؤْيَتِهِ نَفْسَهُ فِي مَجْلَى الْحَقِّ حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ تَبْدُ لِلرَّائِي صُورَتُهُ أَوْ صُورَةُ كَوْنٍ مِنَ الْأَكْوَانِ رُبَّمَا كَانَ يَرَاهُ، فَمَا حَجَبَنَا عَنْهُ إِلَّا أَنْفُسُنَا، فَلَوْ زِلْنَا عَنَّا مَا رَأَيْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَبْقَى ثَمَّ بِزَوَالِنَا مَنْ يَرَاهُ؟ وَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَزَلْ فَمَا نَرَى إِلَّا أَنْفُسَنَا فِيهِ وَصُوَرَنَا وَقَدَرَنَا وَمَنْزِلَتَنَا، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَا رَأَيْنَاهُ، وَقَدْ نَتَوَسَّعُ فَنَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَنُصَدِّقُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قُلْنَا، رَأَيْنَا الْإِنْسَانَ صَدَقْنَا فِي أَنْ نَقُولَ رَأْيَنَا مَنْ مَضَى مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ بَقِيَ وَمَنْ فِي زَمَانِنَا مِنْ كَوْنِهِمْ إِنْسَانًا لَا مِنْ حَيْثُ شَخْصِيَّةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ أَجْمَعُهُ وَآحَادُهُ عَلَى صُورَةِ حَقٍّ، وَرَأَيْنَا الْحَقَّ فَقَدْ رَأَيْنَا وَصَدَقْنَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ التَّمْيِيزِ فِي عَيْنِ عَيْنٍ لَمْ نَصْدُقْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ إِلَهٌ، فَعَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَحَدَنَا لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْغِطَاءَ لَا يَنْكَشِفُ عَنِ الْبَصَرِ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَالْبَصَرُ مِنَ الْعَبْدِ هَوَيَّةُ الْحَقِّ فَعَيْنُكَ غِطَاءٌ عَلَى بَصَرِ الْحَقِّ، فَبَصَرُ الْحَقِّ أَدْرَكَ الْحَقَّ وَرَآهُ لَا أَنْتَ، فَإِنَّ اللهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6: 103) وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَوِيَّةٍ تَكُونُ عَيْنُ بَصَرِ الْعَبْدِ، وَبَصَرُ الْعَبْدِ لَا يُدْرِكُ اللهَ، وَلَيْسَ فِي الْقُوَّةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْبَصَرَيْنِ، وَالْخَبِيرُ عَلِمَ الذَّوْقَ فَهُوَ الْعَلِيمُ خِبْرَةً أَنَّهُ بَصَرُ الْعَبْدِ فِي بَصَرِ الْعَبْدِ، وَكَذَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَقَدِ اسْتَوَى الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ فِي كَوْنِهِ - الْحَقَّ تَعَالَى - بَصَرُهُمَا وَمَا عِنْدَهُمَا شَيْءٌ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (42: 11) اهـ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَنِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَعَلَى جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكَلَامُهُ مُتَعَارِضٌ بَعْضُهُ بِتَأَوُّلٍ بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِدُونِ تَكَلُّفٍ. كَلِمَةٌ فِي النُّورِ وَالْحُجُبِ وَالتَّجَلِّي فِي الصُّوَرِ: قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ، شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) لِلْهَرَوِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَنْزِلَةِ (اللَّحْظِ) مَا نَصَّهُ: " وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ، وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ، فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ، وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ، وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ " تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا "، وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ، فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّيَ حَقِيقَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ، وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ، وَيَنْظُرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ، وَلَمْ تَعْدَمِ الْكَوَاكِبُ، وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا، وَهَكَذَا نَرَى الْمِعْرَفَةَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَقَوَى سُلْطَانُهَا وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبُ عَنِ الْقَلْبِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئِ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ فَيَغْلَطُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَظُنُّهُ نُورُ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ ثُمَّ هَيْهَاتَ نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي. "

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَيَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ، وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللهِ امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ، لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فَإِنَّ صِفَاتَهُ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتَهُ لَا تَحِلُّ فِيهِ، فَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا اتِّحَادَ وَلَا حُلُولَ وَلَا مُمَازَجَةَ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا " اهـ. أَقُولُ: هَذَا التَّصَوُّفُ الْمُرَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَصَوُّفُ ابْنُ عَرَبِيٍّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفْيِ كُلٍّ مِنْهَا لِلْحُلُولِ، أَنَّ هَذَا يَقُولُ: إِنَّ الْخَلْقَ وَالْخَالِقَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالشَّيْءُ لَا يَحِلُّ فِي نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: إِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْمُبَايَنَةُ التَّامَّةُ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي فَوَائِدِ الذَّكْرِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهُوَ: " إِنَّ الذِّكْرَ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي الدُّنْيَا، وَنُورٌ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنُورٌ لَهُ فِي مَعَادِهِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ فِي اسْتِنَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْقُبُورِ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللهِ - تَعَالَى - قَالَ - تَعَالَى -: أَوَ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا (6: 122) فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي اسْتَنَارَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ، وَالْآخَرُ هُوَ الْغَافِلُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - الْمُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ وَالْفَلَّاحُ كُلُّ الْفَلَاحِ فِي النُّورِ، وَالشَّقَاءُ كُلُّ الشَّقَاءِ فِي فَوَاتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَالِغُ فِي سُؤَالِ رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حِينَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي لَحْمِهِ وَعِظَامِهِ وَعَصَبِهِ وَشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَخَلْفِهِ وَأَمَامِهِ حَتَّى يَقُولَ: " وَاجْعَلْنِي نُورًا " فَسَأَلَ رَبَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ النُّورَ فِي ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُحِيطًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَاتَهُ وَجُمْلَتَهُ نُورًا، فَدِينُ اللهِ - تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، وَرَسُولُهُ نُورٌ، وَدَارُهُ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَهُوَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَأَشْرَقَتِ الظُّلُمَاتُ لِنُورِ وَجْهِهِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الطَّائِفِ: " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ

وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ وَجْهِهِ " وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْأَثَرِ: نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، ذَكَرَهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (39: 69) فَإِذَا جَاءَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَشْرَقَتْ بِنُورِهِ الْأَرْضُ، وَلَيْسَ إِشْرَاقُهَا لِشَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ فَإِنَّ الشَّمْسَ تُكَوَّرُ، وَالْقَمَرَ يُخْسَفُ وَيَذْهَبُ نُورُهُمَا، وَحِجَابُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - النُّورُ. قَالَ أَبُو مُوسَى " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَيَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " ثُمَّ قَرَأَ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا (27: 8) فَاسْتِنَارَةُ ذَلِكَ الْحِجَابِ بِنُورِ وَجْهِهِ، وَلَوْلَاهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ وَنُورِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَلِهَذَا لَمَّا تَجَلَّى - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِلْجَبَلِ، وَكَشَفَ مِنَ الْحِجَابِ شَيْئًا يَسِيرًا سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ وَتَدَكْدَكَ، وَلَمْ يَقُمْ لِرَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ قَالَ: ذَلِكَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَهْمِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَدَقِيقِ فِطْنَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْلِّمَهُ اللهُ التَّأْوِيلَ، فَالرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ إِدْرَاكُ الْأَبْصَارِ لَهُ، وَإِنْ رَأَتْهُ فَالْإِدْرَاكُ أَمْرٌ وَرَاءَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذِهِ الشَّمْسُ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - نَرَاهَا وَنُدْرِكُهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فَقَالَ أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَتُدْرِكُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاللهُ - تَعَالَى - أَعْظَمُ وَأَجَلُّ " اهـ. قَدْ أَشَارَ هَذَا الْعَالِمُ الْمُحَقِّقُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَجِيزَةِ مِنْ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ فِي مَوْضُوعِهَا إِلَى جُمْلَةِ

مَا وَرَدَ فِي " النُّورِ " مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ نُورًا، وَوَرَدَ النُّورُ فِي أَسْمَاءِهِ الْحُسْنَى الْمَأْثُورَةِ، وَأَسْنَدَ النُّورَ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ فِي قَوْلِهِ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (24: 35) وَأَسْنَدَهُ رَسُولُهُ إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ " وَمِثْلُهُ فِي آثَارٍ أُخْرَى وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ الْوَجْهَ بِالذَّاتِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ النُّورِ غَيْرَ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (39: 69) وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (61: 8) عَلَى أَنَّ نُورَهُ فِي الْأَخِيرَةِ كِتَابُهُ وَوَحْيُهُ وَكَلَامُهُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَظْهَرِ مَا فِيهِ آيَاتُ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (5: 44) وَمِثْلَهُ إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (5: 16) عَلَى وَجْهٍ، وَوَرَدَ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى مَرْوِيًّا عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَقَوْلِ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى " (1: 5) وَهَذِهِ هِيَ الْبُشْرَى الَّتِي سَمِعْنَاهَا مِنْهُ وَنُبَشِّرُكُمْ بِهَا: أَنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ أَلْبَتَّةَ " وَأُطْلِقَ النُّورُ عَلَى الْمَسِيحِ نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ إِنْجِيلَيْ لُوقَا وَيُوحَنَّا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النُّورَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْأَوَّلُ يُرَى بِالْبَصَرِ وَيَرَى بِهِ الْبَصَرُ سَائِرَ الْمُبْصِرَاتِ، وَالثَّانِي يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَتَدْرِكُ بِهِ الْبَصِيرَةُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، كَذَلِكَ نُورُ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَأَمَّا نُورُ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْ أُضِيفَ إِلَى وَجْهِهِ وَأُسْنِدَ إِلَى ذَاتِهِ فَهُوَ فَوْقَ هَذَا وَذَاكَ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَهُوَ غَيْرُ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ وَإِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَلَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِكِ هَذَا الْعَجْزُ عَنْ إِدْرَاكِ نُورِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَإِنَّ هَذَا النُّورَ الْحِسِّيَّ الَّذِي تَرَاهُ بِعَيْنِكَ لَا تَدْرِكُ حَقِيقَتَهُ، وَلَمْ يُدْرِكْهَا أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكَ إِلَى الْآنِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنَّ يَضَعَ لَهُ تَعْرِيفًا يُحَدِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مِنْ نَارِ الْأَرْضِ وَنَيِّرَاتِ السَّمَاءِ، ثُمَّ عَرَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ وَالرَّادْيُو، فَدَخَلَ بِذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَوْقَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا الْبَشَرُ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُبَالَغَةً، وَقَدْ كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّ وَرَاءَ مُدْرَكِ عُقُولِ الْبَشَرِ عُلُومًا صَحِيحَةً مُنْطَبِقَةً عَلَى حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ لَا مَحْضَ نَظَرِيَّاتٍ فِكْرِيَّةٍ فَيَقُولُ مُدَّعُو الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ: إِنَّ هَذِهِ خُرَافَاتٌ خَيَالِيَّةٌ، قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ: فَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ ... مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ فَأَيُّ عَقْلٍ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يُوقِدَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَابِيحِ فِي دَارٍ أَوْ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَنْ يُطْفِئَهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصَابِيحَ تُوقَدُ بِلَا زَيْتٍ وَلَا نَارٍ، وَإِنَّمَا تُشْعَلُ بِتَحْرِيكِ هَنَةٍ صَغِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا وَلَكِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ. . بِهَا بِسِلْكٍ دَقِيقٍ.

وَأَيُّ عَقْلٍ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْبَشَرَ يَتَخَاطَبُونَ وَيَسْمَعُ بَعْضُهُمْ كَلَامَ بَعْضٍ عَلَى بُعْدِ أُلُوفٍ مِنَ الْأَمْيَالِ؟ وَهَذَا بَعْضُ خَوَاصِّ هَذِهِ الْكَهْرُبَاءِ. نَعَمْ إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَرَّرُوا أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا الْمُسْتَحِيلَاتِ، فَوَرَدَ نَظَائِرُهَا فِي أَخْبَارِ الْآخِرَةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الدِّينِ شَيْئًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِالْبُرْهَانِ، وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَ الْكُفَّارِ بِالرُّسُلِ لَمْ تَسْتَطِعْ عُقُولُهُمْ تَصَوُّرَهَا، وَلَا التَّصْدِيقَ بِهَا - بَلْ نَرَى ضُعَفَاءَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ يَظُنُّونَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كِتَابِ الْوَابِلِ الصَّيِّبِ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَهُمَا إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ - لِأَجْلِ هَذَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ الْحَاشِيَةَ الْوَجِيزَةَ الْمُثَبَّتَةَ مَعَهُ هُنَا عِنْدَ طَبْعِ الْكِتَابِ فِي (مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ) لِيَعْلَمُوا أَنَّ مُنْتَهَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا، وَيُبْطِلُ قَاعِدَةَ الْمُتَأَوِّلَةِ فِي جَعْلِ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِ عُقُولِهِمْ وَقَضَايَا مَعْلُومَاتِهِمُ الْكَلَامِيَّةِ الْقَلِيلَةِ أَصْلًا تَرْجِعُ إِلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ فِي مَجْمُوعِ الْحَدِيثِ لَمْ يَفْهَمُوهَا فَاضْطَرَبُوا فِيهَا وَلَهُمُ الْعُذْرُ، فَإِنَّهَا عَلَى غَرَابَةِ مَوْضُوعِهَا وَجِيزَةٌ لَمْ تُوَضِّحِ الْمَقَامَ لِأَمْثَالِهِمْ كَمَا كَانَ يَجِبُ، وَلَكِنْ لَهَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْمَبَاحِثِ فِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - نَظَائِرُ تُغْنِي مَنِ اسْتَحْضَرَهَا عَنِ الْإِيضَاحِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهِ، وَإِنَّهُ لَمْ تَخْلُ مِنْ تَكْرَارٍ لِبَعْضِ الْقَضَايَا. تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِنْهَا ظَوَاهِرَهَا وَبَعْضَ خَوَاصِّهَا، وَسُنَنَ الْخَالِقِ فِيهَا فَهُمْ أَوْلَى بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ سُبْحَانَهُ وَعَرَفُوا صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي خَلْقِهِ وَآيَاتِهِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُنْزِلَةِ عَلَى رُسَلِهِ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، فَهُوَ تَعَالَى ظَاهِرٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَاطِنٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَجْبِ عَبْدِهِ بِهِ عَنْهُ. إِنَّ اشْتِغَالَ الْعَبْدِ بِشُئُونِ الْخَلْقِ يَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَعَنْ مُرَاقَبَتِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ وَعَنْ شُكْرِهِ إِذَا هُوَ اشْتَغَلَ بِهَا لِذَاتِهَا، وَمَا لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِمَعْرِفَتِهِ وَوَسَائِلُ لِمُرَاقَبَتِهِ وَبَوَاعِثُ لِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ إِذَا هُوَ نَظَرَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنَّ تَجَلِّيَهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِقَدْرِ هَذَا، كَمَا أَنَّ حَجْبَ الْفُجَّارِ عَنْهُ يَكُونُ بِقَدْرِ مُقَابَلَةِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ جَزَاءًا وِفَاقًا فَسِعَةُ الْعِلْمِ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَنِظَامِهِ وَمَنَافِعِهِ قَدْ تَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ سِعَةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْكَمَالِ الَّذِي يُقَرِّبُ مِنْهُ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَسَبَابِ الْجَهْلِ بِاللهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَرَفُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَسْرَارِ هَذَا الْعَالَمِ

قَدْ نَظَرُوا فِيهِ بِنُورِ اللهِ وَاهْتَدَوْا فِي مَبَاحِثِهِمْ بِهِدَايَةِ وَحْيِهِ لَوَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْكَمَالِ عَلَى أَنَّ ارْتِقَاءَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ وَنَجَاحَهُمُ الْمُتَّصِلَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَا بِهِمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ لِلْبَشَرِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ لَهُمْ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوْلَمَ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (41: 53، 54) . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ سَيَجِدُونَ فِي حَقَائِقِ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا بِاتِّصَالِ أَبْحَاثِهِمْ وَتَتَابُعِهَا مِصْدَاقًا لِهَذَا الْكِتَابِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى -، وَكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ الْمُقَيَّدُونَ بِنَظَرِيَّاتِ عُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ وَعُلُومِهِمُ النَّاقِصَةِ، كَالْأَرْوَاحِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَتَمَثُّلِهِمْ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَجِلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ، وَارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ الَّتِي كَانَتْ تَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، وَأَنَّ فِيمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الْيَوْمَ مَا يَقْرِّبُ ذَلِكَ مِنَ الْمَدَارِكِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَشْغَلُ هَؤُلَاءِ الْبَاحِثِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ مَسْأَلَةُ بَدْءِ الْخَلْقِ كَيْفَ كَانَ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّابِحَةَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً سَدِيمِيَّةً تُشْبِهُ الدُّخَانَ فَانْفَتَقَتْ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَكَانَتْ أَجْرَامًا مُتَعَدِّدَةً - وَقَدْ جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ بِقُرُونٍ وَأَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ اهْتَدَوْا فِي هَذَا الْجَبَلِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْمَادَّةِ الَّتِي انْفَتَقَ رَتْقُهَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ عَشَرَاتِ الْعَنَاصِرِ - قَدْ كَانَ مَصْدَرُهَا هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا عُلُومُ الْبَشَرِ وَأَعْمَالُهُمْ فِي طَوْرٍ غَرِيبٍ عَجِيبٍ، وَلَا تَزَالُ عَجَائِبُهَا كُلُّ يَوْمٍ فِي ازْدِيَادٍ. وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْحَاشِيَةِ الَّتِي عَلَّقْنَاهَا عَلَى عِبَارَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي النُّورِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ أَخِيرًا مِنْ أَنَّ لِلْكَهْرُبَائِيَّةِ دَقَائِقَ - أَوْ ذَوَاتٍ أَوْ ذُرَيْرَاتٍ أَوْ جَوَاهِرَ فَرْدَةً - مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا سُمَّوْهَا (الْإِلِكْتِرُونَاتِ) وَرَجَّحُوا أَنَّهَا هِيَ قَوَامُ كُلِّ جَوَاهِرِ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا بِنَاءُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ اهْتِزَازَ هَذِهِ الذَّرَّاتِ أَوِ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ هُوَ سَبَبُ طَيْفِ النُّورِ، وَأَنَّ لَهُ اهْتِزَازَاتٍ مُخْتَلِفَةً، وَأَنَّهَا هِيَ مَنْشَأُ تَغَيُّرِ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكِيمْائِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ قَرَّرُوا الْقَوْلَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْمَادَّةِ هِيَ سَبَبُ جَمِيعِ التَّغَيُّرَاتِ وَالتَّطَوُّرَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، إِذْ هِيَ مَنْشَأُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تُحَوِّلُ الْجَوَامِدَ إِلَى مَائِعَاتٍ وَالْمَائِعَاتِ إِلَى غَازَاتٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ الْكَائِنَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ مِسَاحَتُهَا بِحَسَبِ بَعْضِ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِلْيُونَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي النُّورِ، وَهُوَ يَقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ 186330 مِيلًا فِي أَقْرَبِ تَقْدِيرٍ وَأَحْدَثِهِ، وَفِي الدَّقِيقَةِ 7179800 وَفِي السَّاعَةِ

أَيْ: أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مِيلٍ فَكَمْ يَقْطَعُ فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ كَمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (17، 58) . إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُوَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ إِلَى الْآنِ يَقْرُبُ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتُهُ كَمَا قَالُوا: مَنْشَأُ التَّكْوِينِ وَالتَّطَوُّرِ فِي عَالَمِ الْإِمْكَانِ بِسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَكَوْنِهَا مَصْدَرُ النُّورِ، فَارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ بِهَا، وَانْتِظَامُهُ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهَا مَعْقُولٌ، وَأَمَّا تَوَلُّدُ الْعَنَاصِرِ مِنْهَا وَتَجَمُّعُهَا وَصَيْرُورَتُهَا سَدِيمًا كَالدُّخَانِ أَوِ الْغَمَامِ أَوْ بُخَارِ الْمَاءِ فَهُوَ طَوْرٌ ثَانٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَوَلُّدِ بَعْضِ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ مِنْ بَعْضٍ وَارْتِقَاءِ ذَلِكَ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى جَوَاهِرِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ الْفَرْدَةِ فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ آخِرَ حِجَابٍ مَادِيٍّ مِمَّا حَالَ بَيْنَ الْمَادِّيِّينَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا انْكَشَفَ هَذَا الْحِجَابُ، وَانْتَهَى بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ. وَلَكِنَّ الْحُجُبَ كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْكَهْرُبَاءِ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الْآنَ، فَهِيَ بِاعْتِرَافِهِمْ مُرَكَّبَةٌ، وَمُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُوجَبَةٍ وَسَالِبَةٍ، وَآثَارُهَا مِنْ إِثَارَةِ الْحَرَكَةِ وَتَوْلِيدِ النُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجَبِ وَالسَّالِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - ابْتِدَاءً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ آخَرَ، أَوْ بِسَبَبٍ رُوحِيٍّ سَابِقٍ عَلَيْهَا فِي الْخَلْقِ وَرُؤْيَتِهِ كِفَاحًا بِدُونِ حِجَابٍ أَلْبَتَّةَ - فَهَذَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ مِنَ التَّقْرِيبِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ فِي الْحُجُبِ، وَمِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنَ السَّهْوِ جَعَلْنَا إِيَّاهَا عَلَى إِجْمَالِهَا وَإِبْهَامِهَا فِي مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ قُرَّائِهَا لَا إِلْمَامَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ فِيهِ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَتَكَرَّرَ التَّنْبِيهُ فِيهِمَا عَلَى أَنَّنَا إِنَّمَا نَذْكُرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَنَارِ وَفِي تَفْسِيرِهِ لِتَقْرِيبِ مَعَانِي النُّصُوصِ مِنْ عُقُولِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَفْتُونِينَ بِهَا، فَإِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبْعَدَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَأْلُوفِ الْبَشَرِ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ يَتَّفِقُ مَعَ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ الْعِلْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ، فَالْمَرْجُوُّ أَنْ يَكُونَ أَجْذَبَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَكْثُرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمِنْهُ مَا صَارَ حَقَائِقَ وَاقِعَةً، وَمِنْهُ مَا قَرُبَ مِنْهَا حَتَّى وَرَدَتِ الْأَنْبَاءُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْعِلَاجِ بِالْكَهْرُبَائِيَّةِ يُعِيدُ إِلَى الشُّيُوخِ قُوَّةَ الشَّبَابِ وَنَضَارَتِهِ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ شَبَابٌ لَا يَهْرَمُونَ، وَسَنُقَرِّبُ مَسْأَلَةَ الرُّؤْيَةِ بِأَوْضَحِ مِثَالٍ فِي بَحْثِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقَدْ صَرَّحْنَا مِرَارًا بِأَنَّ كُلَّ مَا نُورِدُهُ مِنْ تَقْرِيبٍ وَتَأْلِيفٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمِنْ تَفْسِيرٍ أَوْ تَأْوِيلٍ لِرَدِّ شُبَهَاتِ الزَّائِغِينَ، فَإِنَّنَا لَا نَخْرُجُ بِهِ عَنْ قَاعِدَتِنَا فِي الْمُعْتَقَدِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ.

وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ مِثْلُ بَحْثِنَا هَذَا عَلَى قَاعِدَتِنَا هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (2: 210) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي، بَعْضُهُ لَنَا وَبَعْضُهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَيُرَاجَعْ فِي - ص 209 - 213 ج2 ط الْهَيْئَةِ - (تَنْبِيهٌ) إِنَّ إِدْخَالَ مَبَاحِثِ عُلُومِ الْكَوْنِ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ مِنْ أَهَمَّ أَرْكَانِهِ، وَالْعَمَلُ بِهُدَى الْقُرْآنِ فِيهِ، فَهُوَ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَكَانَ سَلَفُنَا مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ يَذْكُرُونَ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَكَذَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى الَّذِينَ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَلَا رِوَايَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يَنْتَقِدُ عَلَيْهِمْ. " الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الْخَاتِمَةُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ ": خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ رُؤْيَةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَى وَأَكْمَلُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي يَرْتَقِي إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَنَّهَا أَحَقُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (32: 17) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " وَأَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ وَهِيَ " أَنَّهَا رُؤْيَةٌ بِلَا كَيْفٍ " وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اضْطِرَابُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ فِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا، سَوَاءً مِنْهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَسَاطِينُ الْبَيَانِ، وَنُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَرُوَاةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَمُرْتَاضُو الصُّوفِيَّةِ وَأُولُو الْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ، فَلَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ فَصْلٍ قَطْعِيٍّ تُقْنِعُ بِهِ بَقِيَّةَ الطَّوَائِفِ بِدَلِيلِهَا اللُّغَوِيِّ أَوِ الْأُصُولِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ أَوْ فَهْمُ النَّصِّ النَّقْلِيِّ أَوْ تَسْلِيمِ إِلْهَامِهَا الْكَشْفِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ نَظْرَ اسْتِقْلَالٍ وَإِنْصَافٍ يَجْزِمُ بِأَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ بِهِ النَّقْلُ، وَتَفْوِيضِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ وَيُؤَيِّدُهُ الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ، فَهُوَ الْأَسْلَمُ وَالْأَحْكَمُ وَالْأَعْلَمُ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. (خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ) . اضْطَرَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ كَمَا اضْطَرَبُوا فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ وَشُئُونِهِ فَذَهَبَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ عَقَائِدِهِمْ عَلَى اقْتِضَاءِ التَّنْزِيهِ لِلتَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ (الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ) وَلِهَذَا قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَالْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَهُوَ مِثْلُهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ كَمَا

تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَلَا نُعِيدُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا نَكْتُبُ شَيْئًا نُقَرِّبُ بِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأَفْهَامِ، بَعْدَ تَفْنِيدِ تَقَالِيدِ عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدْ عَقَّدُوهَا تَعْقِيدًا شَدِيدًا بِمَا حَاوَلُوا بِهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ نُصُوصِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِمْ: إِنِ الْكَلَامَ نَفْسِيٌّ وَلَفْظِيٌّ، فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ تُؤَدَّى بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي تُكْتَبُ بِالْقَلَمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي تُكَيِّفُهَا الْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا مَنَعَ السَّلَفُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُسَمَّى كَلَامَ اللهِ بِمَعْنَى دَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ اللهِ الْقَدِيمَةِ، فَلِهَذَا الِاشْتِرَاكِ يُخْشَى أَنْ يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْمَلْفُوظَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةِ مَخْلُوقٌ. وَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَرْدُودَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ كَأَمْثَالِهَا مِنْ تَأْوِيلِ سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا مَدْلُولَ لَهُ إِلَّا مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا الْقَدِيمُ وَهِيَ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتُهُ، وَسَائِرُهَا حَادِثَةٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ " كَلَامِ اللهِ " فِي مَوَاضِعَ لَا مَدْلُولَ لَهَا إِلَّا مَا يُسَمُّونَهُ هُمُ الْكَلَامَ اللَّفْظِيَّ - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (9: 6) فَالْمُرَادُ بِكَلَامِ اللهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ صِفَةَ اللهِ - تَعَالَى -؛ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ (2: 75) يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ (48: 15) يَعْنِي وَعْدَهُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُبَدِّلُونَ، وَأُولَئِكَ يُحَرِّفُونَ صِفَةَ اللهِ - تَعَالَى -. وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَمَاهِيرُ الْكَثِيرُونَ لِصُدُورِهَا عَنْ بَعْضِ كِبَارِ النُّظَّارِ، الَّذِينَ مَلَأَتْ شُهْرَتُهُمُ الْأَقْطَارَ، فَأَعْجَبَ الْبَاحِثُونَ مِنْهُمْ بِهَا، وَقَلَّدَهُمُ الْأَكْثَرُونَ فِيهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا أَسَاطِينُ الْمَذْهَبِ بَعْدَ تَمْحِيصِهَا وَمُقَابَلَتِهَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالنُّصُوصِ، فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ الْمُخْلِصِينَ رَجَعُوا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي أَوَاخِرَ أَعْمَارِهِمْ، وَلَكِنْ بَقِيَ عَامَّةُ الْأَشْعَرِيَّةِ مُتَّبِعِينَ لِمَا قَرَّرُوهُ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، كَدَأْبِ الْجَمَاعَاتِ فِي كُلِّ مَا يَتَّخِذُونَهُ مَذْهَبًا لَهُمْ، عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ كَانَ فِي الْأَغْلَبِ التَّدْرِيجُ وَالْمَزْجُ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا الْأَفْرَادَ مِنْ أَهْلِ الدَّلِيلِ. وَقَدْ أَعْجَبَنِي مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارِ الْمُنِيبِينَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ الْجُوَيْنِيِّ وَالِدِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَوَاتِهَا الَّتِي يَتَأَوَّلَهَا أَصْحَابُهُ الْأَشَاعِرَةُ لِتَصْرِيحِهِ وَرَدِّهِ عَلَى شُيُوخِهِ قَالَ: "

إِنِّي كُنْتُ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ مُتَحَيِّرًا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ، وَمَسْأَلَةُ الْفَوْقِيَّةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا فِي الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ وَتَحْرِيفِهَا، أَوْ إِمْرَارِهَا وَالْوُقُوفِ فِيهَا، أَوْ إِثْبَاتِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فَأَجِدُ النُّصُوصَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاطِقَةٌ مُنْبِئَةٌ بِحَقَائِقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَكَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، ثُمَّ أَجِدُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَوِّلُ الِاسْتِوَاءَ بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَيُؤَوِّلُ النُّزُولَ بِنُزُولِ الْأَمْرِ، وَيُؤَوِّلُ الْيَدَيْنِ بِالْقُدْرَتَيْنِ أَوِ النِّعْمَتَيْنِ، وَيُؤَوِّلُ الْقَدَمَ بِقَدَمِ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجِدُهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - مَعْنًى قَائِمًا بِالذَّاتِ بِلَا حَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ. " وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْ بَعْضِهَا قَوْمٌ لَهُمْ فِي صَدْرِي مَنْزِلَةٌ مِثْلَ طَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ الشَّافِعِيِّينَ؛ لِأَنِّي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ عَرَفْتُ فَرَائِضَ دِينِي وَأَحْكَامِهِ فَأَجِدُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ الْأَجِلَّةِ يَذْهَبُونَ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَهُمْ شُيُوخِي، وَلِي فِيهِمُ الِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِفَضْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، ثُمَّ إِنَّنِي مَعَ ذَلِكَ أَجِدُ فِي قَلْبِي مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ حَزَازَاتٍ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبِي إِلَيْهَا، وَأَجِدُ الْكَدَرَ وَالظُّلْمَةَ مِنْهَا، وَأَجِدُ ضِيقَ الصَّدْرِ وَعَدَمَ انْشِرَاحِهِ مَقْرُونًا بِهَا، فَكُنْتُ كَالْمُتَحَيِّرِ الْمُضْطَرِبِ فِي تَحَيُّرِهِ، الْمُتَمَلْمِلِ مِنْ قَلْبِهِ فِي تَقَلُّبِهِ وَتَغَيُّرِهِ. " وَكُنْتُ أَخَافُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ مُخَالَفَةَ الْحَصْرِ وَالتَّشْبِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا طَالَعْتُ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِدُهَا نُصُوصًا تُشِيرُ إِلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَأَجِدُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَرَّحَ بِهَا مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ وَاصِفًا لَهُ بِهَا، وَأَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِهِ الشَّرِيفِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ وَالْأَعْرَابِيُّ الْجَافِي، ثُمَّ لَا أَجِدُ شَيْئًا يَعْقُبُ تِلْكَ النُّصُوصِ الَّتِي كَانَ يَصِفُ رَبَّهُ بِهَا لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا مِمَّا يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا وَيُؤَوِّلُهَا كَمَا تَأَوَّلَهَا هَؤُلَاءِ مِنْ مَشَايِخِي الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِثْلَ تَأْوِيلِهِمُ الِاسْتِيلَاءَ بِالِاسْتِوَاءِ، وَنُزُولِ الْأَمْرِ لِلنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي صِفَتِهِ لِرَبِّهِ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ وَالْيَدَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ مَقَالَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَانِيَ أُخَرَ بَاطِنَةً غَيْرَ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَدْلُولِهَا. بَعْدَ هَذَا شَرَعَ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ فِي إِيرَادِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ عُلُوِّ الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَلِبَعْضِ حُفَّاظِ السُّنَّةِ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ خَاصَّةٌ كَابْنِ قُدَامَةَ وَالذَّهَبِيِّ، وَكِتَابَاهُمَا مَطْبُوعَانِ عِنْدَنَا، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجْهَةِ النَّظَرِ الْعِلْمِيَّةِ: "

وَمَنْ عَرَفَ هَيْئَةَ الْعَالَمِ وَمَرْكَزِهِ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا جِهَتَا الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ ثُمَّ اعْتَقَدَ بَيْنُونَةَ خَالِقِهِ عَنِ الْعَالَمِ فَمِنْ لَوَازِمِ الْبَيِّنَةِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ جِهَاتِ الْعَالَمِ فَوْقٌ، وَلَيْسَ السُّفْلُ إِلَّا الْمَرْكَزُ وَهُوَ الْوَسَطُ ". ثُمَّ إِنَّهُ وَضَّحَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ بَيَانِ مَسْأَلَةِ صِفَةِ الْعُلُوِّ: (فَصْلٌ) إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَاعْتَقَدْنَاهُ تَخَلَّصْنَا مِنْ شُبَهِ التَّأْوِيلِ وَعَمَاوَةِ التَّعْطِيلِ، وَحَمَاقَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَأَثْبَتْنَا عُلُوَّ رَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَفَوْقِيَّتَهُ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَالْحَقُّ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَالصُّدُورُ تَنْشَرِحُ لَهُ، فَإِنَّهُ التَّحْرِيفُ تَأْبَاهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ مِثْلَ تَحْرِيفِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَعِيٌّ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِنَعْرِفَهُ بِهَا، فَوُقُوفُنَا عَنْ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا عُدُولٌ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِنَا إِيَّاهَا، فَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسُهُ بِهَا إِلَّا لِنُثْبِتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَنَا، وَلَا نَقِفُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ، فَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْإِثْبَاتِ بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا وُقُوفٍ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. (فَصْلٌ) وَالَّذِي شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لَهُ فِي حَالِ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَوَّلُوا الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنُّزُولَ بِنُزُولِ الْأَمْرِ، وَالْيَدَيْنِ بِالنِّعْمَتَيْنِ وَالْقُدْرَتَيْنِ، هُوَ عِلْمِي بِأَنَّهُمْ مَا فَهِمُوا فِي صِفَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى - إِلَّا مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِينَ، فَمَا فَهِمُوا عَنِ اللهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ، وَلَا نُزُولًا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَدَيْنِ تَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَطَّلُوا مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهِ، وَنَذْكُرُ بَيَانَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. " لَا رَيْبَ أَنَّا نَحْنُ وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ لِلَّهِ، وَنَحْنُ قَطْعًا لَا نَعْقِلُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا هَذَا الْعَرَضَ الَّذِي يَقُومُ بِأَجْسَامِنَا، وَكَذَلِكَ لَا نَعْقِلُ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِلَّا أَعْرَاضًا تَقُومُ بِجَوَارِحِنَا، فَكَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: حَيَاتُهُ لَيْسَتْ بِعَرَضٍ وَعِلْمُهُ كَذَلِكَ وَبَصَرُهُ، كَذَلِكَ هِيَ صِفَاتٌ كَمَا تَلِيقُ بِهِ لَا كَمَا تَلِيقُ بِنَا، فَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ:حَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ وَلَيْسَتْ مُكَيَّفَةً، وَعِلْمُهُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ مُكَيَّفًا، وَكَذَلِكَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مَعْلُومَانِ، وَلَيْسَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَعْرَاضًا بَلْ هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِهِ. " وَمِثْلُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَوْقِيَّتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَنُزُولُهُ، فَفَوْقِيَّتُهُ مَعْلُومَةٌ أَعْنِي ثَابِتَةً كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ السَّمْعِ وَحَقِيقَةِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُمَا مَعْلُومَانِ وَلَا يُكَيَّفَانِ، كَذَلِكَ فَوَقَيَّتُهُ مَعْلُومَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُكَيَّفٍ بِحَرَكَةٍ أَوِ انْتِقَالٍ يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ -

كَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ - صِفَاتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَالثُّبُوتُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْيِيفُ وَالتَّحْدِيدُ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِهَا مُبْصِرًا مِنْ وَجْهٍ أَعْمَى مِنْ وَجْهٍ، مُبْصِرًا مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ وَالْوُجُودُ، أَعْمَى مِنْ حَيْثُ التَّكْيِيفُ وَالتَّحْدِيدُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ لِمَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهِ وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيفِ وَالتَّشْبِيهِ وَالْوُقُوفِ، وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُ الرَّبِّ - تَعَالَى - مِنَّا فِي إِبْرَازِ صِفَاتِهِ لَنَا لِنَعْرِفَهُ بِهَا، وَنُؤْمِنَ بِحَقَائِقِهَا، وَنَنْفِيَ عَنْهَا التَّشْبِيهَ، وَلَا نُعَطِّلَهَا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالسَّمْعِ، وَلَا بَيْنَ النُّزُولِ وَالْبَصَرِ، الْكُلُّ وَرَدَ فِي النَّصِّ. " فَإِنْ قَالُوا لَنَا فِي الِاسْتِوَاءِ شَبَّهْتُمْ، نَقُولُ لَهُمْ فِي السَّمْعِ شَبَّهْتُمْ، وَوَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِالْعَرَضِ فَإِنْ قَالُوا لَا عَرَضَ بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، قُلْنَا فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ لَا حَصْرَ بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، فَجَمِيعُ مَا يُلْزِمُونَنَا بِهِ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْقَدَمِ وَالضَّحِكِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ التَّشْبِيهِ نُلْزِمُهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ، فَكَمَا لَا يَجْعَلُونَهَا هُمْ أَعْرَاضًا كَذَلِكَ نَحْنُ لَا نَجْعَلُهَا جَوَارِحَ وَلَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْصَافِ أَنْ يَفْهَمُوا فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَحْتَاجُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. " فَإِنْ فَهِمُوا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَفْهَمُوا فِي الصِّفَاتِ السَّبْعِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْأَعْرَاضِ، فَمَا يَلْزَمُنَا بِهِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالْجِسْمِيَّةِ فَنُلْزِمُهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْعَرَضِيَّةِ، وَمَا يُنَزِّهُونَ رَبَّهُمْ بِهِ فِي الصِّفَاتِ السَّبْعِ يَنْفُونَ عَنْهُ عَوَارِضَ الْجِسْمِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْمَلُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْسِبُونَنَا فِيهَا إِلَى التَّشْبِيهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَنْ أَنْصَفَ عَرَفَ مَا قُلْنَا وَاعْتَقَدَهُ، وَقَبِلَ نَصِيحَتَنَا وَدَانَ لِلَّهِ بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ هَذِهِ وَتِلْكَ، وَنَفَى عَنْ جَمِيعِهَا التَّشْبِيهَ وَالتَّعْطِيلَ وَالتَّأْوِيلَ وَالْوُقُوفَ، وَهَذَا مُرَادُ اللهِ - تَعَالَى - لَنَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتِلْكَ جَاءَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا تِلْكَ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَحَرَّفْنَا هَذِهِ وَأَوَّلْنَاهَا كُنَّا كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ وَكِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -. (فَصْلٌ) وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا وَبَانَ انْجَلَتِ الثَّلَاثُ الْمَسَائِلُ بِأَسْرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ مِنَ النُّزُولِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَأَمْثَالِهَا، وَمَسْأَلَةُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعُلُوِّ فَقَدْ قِيلَ فِيهَا مَا فَتَحَهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ فَتُسَاقُ مَسَاقَ مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ، وَلَا نَفْهَمُ مِنْهَا مَا نَفْهَمُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ بِوَصْفِ الرَّبِّ - تَعَالَى - بِهَا كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ: فَيَنْزِلُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَبِعَظْمَتِهِ، وَيَدَاهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَوَجْهُهُ الْكَرِيمُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَكَيْفَ نُنْكِرُ الْوَجْهَ الْكَرِيمَ وَنُحَرِّفُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ: "

أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ " وَإِذَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْوَجْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالنُّصُوصِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْيَدَيْنِ وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَلِيقُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبِعَظَمَتِهِ لَا مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، تَعَالَى الله عَنْ تِلْكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. (ثُمَّ قَالَ) : وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَتُسَاقُ هَذَا الْمَسَاقَ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبِجَمِيعِ حُرُوفِهِ فَقَالَ - تَعَالَى -: الم وَقَالَ: المص وَقَالَ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " فَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرْبٍ " وَفِي الْحَدِيثِ " لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، لَامٌ حَرْفٌ، مِيمٌ حَرْفٌ " فَهَؤُلَاءِ مَا فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا بِالْحُرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا بِالصَّوْتِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ، عَمِلُوا فِي هَذَا مِنَ التَّخَبُّطِ كَمَا عَمِلُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ. " وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَارِحَ، وَلَا إِلَى لَهَوَاتٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ صَوْتٌ كَمَا يَلِيقُ بِهِ يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمُقَدَّسُ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ: كَلَامُ اللهِ - تَعَالَى - يَلِيقُ بِهِ وَصَوْتُهُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا نَنْفِي الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ عَنْ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لِافْتِقَارِهِمَا مِنَّا إِلَى الْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ لَهُ وَيَسْتَرِيحُ الْإِنْسَانُ بِهِ مِنَ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ بِقَوْلِهِ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ. " فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ هُوَ عَيْنُ قِرَاءَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَيْنُ تَكَلُّمِهِ هُوَ؟ قُلْنَا لَا؛ بَلِ الْقَارِئُ يُؤَدِّي كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُؤَدِّيًا مُبَلِّغًا، وَلَفْظُ الْقَارِئِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَفِي الْقُرْآنِ لَا يَتَمَيَّزُ اللَّفْظُ الْمُؤَدِّي عَنِ الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، وَلِهَذَا مَنَعَ السَّلَفُ عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ " لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ، كَمَا مَنَعُوا عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " فَإِنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ مَخْلُوقٌ، وَفِي التِّلَاوَةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَيْلَا يُؤَدِّيَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَمَا أَمَرَ السَّلَفُ بِالسُّكُوتِ عَنْهُ؛ يَجِبُ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ. (يَقُولُ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّ لَدَيْنَا فِي تَقْرِيبِ صِفَةِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَفْهَامِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ مُسْتَعَارٌ مِمَّا وَضَعَهُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَنَفْهَمُ بِهَذِهِ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَنَعْرِفُ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْمُبَايَنَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ ذَلِكَ تَعْبِيرًا بَلِيغًا فِي قَوْلِهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ: "

إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا، وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ طَرْفُ فَهْمِهِمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا، فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطَرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تَفْهَمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ، فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ، فَقُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ هِيَ الْقُدْرَةُ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ " ثُمَّ ذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ وَالرِّضَا وَالْغَضَبَ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَمَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَأَوَّلُهَا أَصْحَابُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ تَحَكُّمًا مِنْهُمْ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ لَنَا كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِنَا، وَشَأْنٌ مِنْ شِئُونِنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُنَا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنِ انْكِشَافِ الْمَعْلُومَاتِ لِلنَّفْسِ، وَتَعَلُّقَ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِهَا وَتَصْوِيرِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي النَّفْسِ أَوْ لِمَنْ نُرِيدُ كَشْفَهَا لَهُ، تَقُولُ: حَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا، وَقُلْتُ فِي نَفْسَيْ كَذَا، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، " وَكُنْتُ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً " يَعْنِي: هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا لِأَقُولَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: عِنْدِي حَدِيثٌ أُرِيدُ الْيَوْمَ أَذْكُرُهُ ... وَأَنْتَ تَعْلَمُ دُونَ النَّاسِ فَحْوَاهُ وَأَمَّا أَدَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ نُرِيدُ إِعْلَامَهُ بِبَعْضِ مَا نَعْلَمُ فَلَهُ طُرُقٌ أَعَمُّهَا تَعْبِيرُ اللِّسَانِ، وَيَلِيهِ تَعْبِيرُ الْقَلَمِ، وَالْأَوَّلُ غَرِيزَةٌ فِي النُّطْقِ خَاصٌّ بِالْبَشَرِ بِمُقْتَضَاهَا تَوَاضَعُوا عَلَى الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِي الْمَعْلُومَاتِ، فَاتَّسَعَتْ بِقَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَةِ عُلُومِهِمْ، وَالثَّانِي صِنَاعَةٌ هَدَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ بِشُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى إِيصَالِ مَعْلُومَاتِهِمْ إِلَى الْبَعِيدِ عَنْهُمُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُمُ اللِّسَانِيِّ، وَإِلَى حِفْظِهَا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، وَقَدِ اسْتَحْدَثُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ آلَةَ الْخِطَابِ الْبَعِيدِ بِاللِّسَانِ سُمَّوْهَا (التِّلِيفُونَ) وَسَمَّيْنَاهَا (الْمِسَرَّةَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - تُوَّصِلُ الْكَلَامَ مَنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَمِنْ بَلَدٍ أَوْ قُطْرٍ إِلَى آخَرَ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ آلَاتِ الْمُتَخَاطِبِينَ، وَقَدِ اسْتَغْنَوْا أَخِيرًا عَنْ هَذِهِ الْأَسْلَاكِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَاسْتَحْدَثُوا آلَةً لِحِفْظِ الْأَصْوَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِعَادَتِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا سُمَّوْهَا (الْفُونُغْرَافَ) وَكَانُوا اسْتَحْدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ آلَةً لِنَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْبِلَادِ وَالْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ

مُوَصِّلَةٍ بَيْنَ الْآلَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْكَلَامِ وَالْقَابِلَةِ لَهُ بِمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَطِّ لَا الصَّوْتِ، وَهِيَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالتِّلِغْرَافِ. فَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَدَاءٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يَقُومُ فِي نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَيُرِيدُ إِيصَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ حَقِيقَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَالْمُخَضْرَمِينَ وَالْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُمَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ، وَلِلْأَخْطَلِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ تَدَاوَلَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَاسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَهُ هُوَ حَقِيقَةُ مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ: إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا وَلَيْسَ هَذَا بِحُجَّةٍ لُغَوِيَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَقُصَارَى الِاحْتِجَاجِ بِشِعْرِ الشَّاعِرِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَتَرْكِيبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَأْيَهُ فِيهِ صَحِيحًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ كُلَّ مَا يَقُولُهُ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ، وَلَا فِي اعْتِقَادِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شِعْرًا، فَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ لِمَادَّةِ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْمَعَانِي كَلَامٌ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ: سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِكَذَا، وَكَلَّمْتُهُ وَكَالَمْتُهُ، وَكَانَا مُتَصَارِمَيْنِ فَصَارَا يَتَكَالَمَانِ، وَمُوسَى كَلِيمُ اللهِ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةٍ فَصِيحَةٍ وَبِكَلِمَاتٍ فِصَاحٍ وَبِكَلْمٍ اهـ. فَلِكَلَامِ الْإِنْسَانِ صِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي نَفْسِهِ يُنَاجِيهَا بِهَا، وَيُصَوِّرُ فِيهَا مَا يُنَظِّمُهُ أَوْ يُقَدِّرُهُ وَيُزَوِّرُهُ؛ لِيُخَاطِبَ بِهِ غَيْرَهُ، وَصِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي لِسَانِهِ، وَصِفَةٌ أَوْ صُورَةٌ فِيمَا يَرْسُمُهُ بِقَلَمِهِ عَلَى الْوَرَقِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يُحَرِّكُ بِهِ آلَةَ التِّلِغْرَافِ السِّلْكِيِّ أَوْ غَيْرِ السِّلْكِيِّ مُخَاطِبًا لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ تَحْدُثُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ زَمَنًا قَصِيرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ أَطْوَلُ مِمَّا يُظَنُّ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يَنْقُشُهُ الْمَكْرَفُونُ فِي لَوْحِ آلَةِ الْفُونُغْرَافِ تَكُونُ مَحْفُوظَةً فِيهِ إِلَى أَنْ تُعِيدَهُ الْآلَةُ كَمَا أُلْقِيَ فِيهَا صَوْتًا مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي. وَكَلَامُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يُنْشِئُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقَةٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَيُنْقَلُ عَنْ قَلِيلٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤَدُّونَ بَعْضَ كَلَامِهِمُ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى بَعْضِ الْمُسْتَعِدِّينَ بِقُوَّةِ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَطَّلِعُونَ عَلَى بَعْضِ مَا يَجُولُ فِي أَنْفُسِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَنْهُمْ فَلْيُعِدِ الِاعْتِبَارَ بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَمَهْمَا تَكُنِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي وَصَلَ بِهَا عَلْمُ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ يَصِيرُ مِثْلَهُ فِي تَصَوُّرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي تَصْوِيرِهِ لِغَيْرِهِ بِالْوَسَائِلِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَلَا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهُ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

تَأْلَّفَ نَظْمُ هَذَا الْبَيْتِ فِي نَفْسِ لَبِيَدٍ بِمُقْتَضَى الصَّنْعَةِ وَالْغَرِيزَةِ الَّتِي بِهَا يُصَوِّرُ الْإِنْسَانُ مَا فِي عِلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَسَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ فَنَقَلُوهُ عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ بِأَقْلَامِهِمْ، وَلَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَتَنَاقَلُوهُ بِالتِّلِيفُونِ وَالتِّلِغْرَافِ، وَلَكِنَّهُ فِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ وَبِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ، نَقَلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ لَبِيَدٍ قَالَهُ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَلَيْسَ كَلَامُ أَحَدٍ مِمَّنْ يَنْشُدُهُ الْيَوْمَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُرَقِّمُهُ بِقَلَمِهِ أَوْ يُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالتِّلِغْرَافِ أَوْ غَيْرِهِ. إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا كُلَّهُ فِي كَلَامِ الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ عَلَى ضَعْفِهِ وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللهُ - تَعَالَى - لِنَفْسِهِ - وَتَذَكَّرْتَ مَعَ هَذَا كَمَالَ الْخَالِقِ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ - وَأَنَّهُ كَلَّفَكَ الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَبِاتِّصَافِهِ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ - فَأَيُّ عَثْرَةٍ يَعْثُرُ بِهَا عَقْلُكَ إِذَا آمَنْتَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مِرْآةُ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ، وَأَنَّهُ بَلَّغَ بَعْضَ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا شَاءَ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِيُوحُوهُ إِلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبِرِّ؛ لِيُبَلِّغُوهُ لِأُمَمِهِمْ. كَمَا خَاطَبَ مُوسَى بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ عَلَى اخْتِلَافِ تَبْلِيغِهِ وَحِفْظِهِ، فَقِيَامُهُ بِذَاتِ اللهِ - تَعَالَى - غَيْرُ تَمَثُّلِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ، وَفِي نَفْسِ مُوسَى حِينَ سَمِعَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَدَاءُ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ وَنُزُولُهُ بِهِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ أَدَاءِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَقِيَامُهُ فِي نَفْسِ الْمَلَكِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ قِيَامَهُ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي لَوْحِ الْفُونُغْرَافِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الصُّحُفِ، وَكَوْنُهُ عَلَى اخْتِلَافِ صُوَرِهِ، وَطُرُقِ أَدَائِهِ وَاحِدًا فِي كَوْنِهِ كَلَامُ اللهِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، كَمَا قُلْنَا فِي بَيْتِ لَبِيَدٍ مِنْ كَوْنِ إِنْشَادِنَا لَهُ، وَكِتَابَتِنَا إِيَّاهُ الْيَوْمَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ كَلَامَ لَبِيَدٍ الْقَدِيمَ النِّسْبِيَّ غَيْرَ الْأَزَلِيِّ - وَكَلَامُ اللهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ حَقِيقَةٌ أُولَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو الْعَقْلَ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ الْمُحْدَثِينَ يَتَنَاقَلُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَسَائِرِ آلَاتِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَلَا إِلَى التَّقَصِّي مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ذُو حُرُوفٍ مُرَتَّبَةٍ، وَلَا بِأَنَّ تَلَقِّيَهُ يُسَمَّى سَمَاعًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (9: 6) . إِذَا جَعَلْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَسِيلَةً لِفَهْمِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى مَعَ اجْتِنَابِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ جَمِيعًا وِفَاقًا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَعَ التَّقْرِيبِ بِالْمِثَالِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ هَذَا الْعَصْرِ فِي عُلُومِهِ وَفُنُونِهِ فَلَكَ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَجْعَلَهُ مِثَالًا يُقَرِّبُ مِنْ عَقْلِكَ مَعْنَى تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْحُجُبِ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ وَالْحُجُبِ. قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ حَقِيقَةً، وَلَكَ - مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ - أَنْ تَقُولَ صُورَةً، هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ، وَمَبْدَأُ إِظْهَارِ مَا شَاءَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَظْهَرَهُ مِنْ عِلْمِهِ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ لَهُ صُوَرًا

145

أُخْرَى فِي أَنْفُسِ مَنْ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ مِلْكِيَّةٍ وَبَشَرِيَّةٍ وَصُوَرًا أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ، وَفِي الْخَطِّ عَلَى الْكَاغِدِ، وَفِي النَّقْشِ عَلَى أَلْوَاحِ الْفُونُغْرَافِ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ عَلَى مَا بَيْنَهَا مِنَ التَّبَايُنِ التَّامِّ مَظَاهِرُ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَا أَرَادَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ إِظْهَارَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِكَلَامِهِ كَبَيْتِ لَبِيَدٍ الشَّاعِرِ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (112: 1 - 4) . فَمِنْ تَلَقَّى هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ لِسَانِ الْقَارِئِ، أَوْ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا السُّورَةُ بِحُرُوفٍ مِنَ الْخَطِّ الْكُوفِيِّ أَوِ النَّسْخِيِّ أَوِ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، عُلِمَ بِهَا مِنْ كَلَامِ اللهِ عَيْنُ مَا عَلِمَهُ جِبْرِيلُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الرُّسُلِ فِي التَّلَقِّي عَنِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوِ التَّلَقِّي عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنْ هُوَ الْمُظْهِرُ لِمَعَانِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا عَمَلَ وَلَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ لَهَا فِي تَأْلِيفِ عِبَارَتِهَا لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَلَا الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَّغُوهَا لِلتَّابِعِينَ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَلَا تَعْطِيلَهُ وَلَا حُدُوثَهُ، وَلَا تَشْبِيهَهُ بِكَلَامِ خَلْقِهِ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُ عِلْمَ خَلْقِهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ نَكُونَ قَدْ أَدْرَكْنَا كُنْهَ هَذِهِ الصِّفَةِ بِفَهْمِنَا لِمَا بَلَّغَنَا تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ، كَمَا أَنَّ إِطْلَاعَهُ إِيَّانَا عَلَى مَا عَلِمَهُ فِي الْأَزَلِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ - لَا يَقْتَضِي إِدْرَاكَ كُنْهِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ كُنْهَ كَلَامِنَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا فِي الْهَوَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَعَرُّفِهِ لِمَنْ شَاءَ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَلَا مُشَابَهَتَهُ لِلصُّوَرِ وَلَا لِحِجَابِ النُّورِ، وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا إِدْرَاكِ كُنْهِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَعْرِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَمَعْرِفَةِ بَعْضِهِمْ لِكَلَامِهِ بِتَبْلِيغِ اللِّسَانِ دُونَ الْكِتَابَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ دُونَ اللِّسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ، وَإِنَّمَا النَّقْصُ مَا تَخَيَّلَهُ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ مِنْ جَعْلِ الْخَالِقِ تَعَالَى مَعْنًى سِلْبِيًّا. (تَتِمَّةُ السِّيَاقِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ) أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُ مَنَعَ مُوسَى رُؤْيَتَهُ - يَعْنِي فِي الدُّنْيَا - وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا فِيهَا بِمَا آتَاهُ يَوْمَئِذٍ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ: أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُ أَلْوَاحًا كَتَبْنَا لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَوْعِظَةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الْقُلُوبِ تَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَهِيَ أُصُولُ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، وَأَحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلُهَا، ذَكَرَهَا مَعْدُودَةً مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى إِمَّا عَلَى

مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَصُنْعِهِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بِأَمْرِهِ وَوَحْيِهِ، سَوَاءً كَانَ الْكَاتِبُ لَهَا مُوسَى أَوِ الْمَلَكُ (- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْأَلْوَاحَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْرَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ كَانَتْ قَبْلَ التَّوْرَاةِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ وَحْيِ التَّشْرِيعِ فَكَانَتْ أَصْلَ التَّوْرَاةِ الْإِجْمَالِيَّ، وَكَانَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ تَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَيُخَاطِبُهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَلْوَاحِ فَقِيلَ كَانَتْ عَشْرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَقِيلَ: اثْنَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي اللُّغَةِ لِلَّوْحَيْنِ أَلْوَاحٌ، وَهَذَا كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ خِلَافِهِمْ فِيهَا، وَأَمَّا تِلْكَ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي جَوْهَرِهَا مِقْدَارُهَا وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا وَكِتَابَتُهَا وَمَا كُتِبَ فِيهَا؛ كُلُّهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي بَثَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَاغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ، وَقَدْ لَخَّصَ السُّيُوطِيُّ مِنْهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ ثَلَاثَ وَرَقَاتٍ - أَيْ: سِتَّ صَفَحَاتٍ - وَاسِعَاتٍ مِنَ الْقِطَعِ الْكَبِيرِ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى دُرَّةً، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا أَنَّ الْأَلْوَاحَ مِنَ الْيَاقُوتِ أَوْ مِنَ الزُّمُرُّدِ أَوْ مِنَ الزَّبَرْجَدِ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا أَنَّهَا مِنَ الْحَجَرِ وَمِنَ الْخَشَبِ، وَقَدْ تَبِعَ فِي هَذَا عُمْدَتَهُ فِي التَّفْسِيرِ ابْنَ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضَهَا الْأَلُوسِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: اصْطَحَبَ قَيْسُ بْنُ خَرَشَةَ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا صِفِّينَ وَقَفَ كَعْبٌ ثُمَّ نَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَيُهْرَاقَنَّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ لَا يُهْرَاقُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، فَقَالَ قَيْسٌ مَا يُدْرِيكَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، مَا يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَلُوسِيُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَوْسَعِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْعُمُومِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَوْضُوعٌ عَلَى كَعْبٍ، وَإِنْ كُنْتُ أُخَالِفُ الْجُمْهُورَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْدِيلِهِ، وَتَأَوَّلَ الْأَلُوسِيُّ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ الظَّاهِرَ بُطْلَانُهُ بِالْبَدَاهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرَّمْزِ كَمَا نَدَّعِيهِ فِي الْقُرْآنِ اهـ. وَمَا ذَكَرْتُ هَذَا إِلَّا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ فِتْنَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ إِلَى أَيِّ حَدٍ وَأَيِّ زَمَنٍ وَصَلَ تَأْثِيرُهَا السَّيْءِ، حَتَّى إِنَّ هَذَا النَّقَّادَةَ قَدِ اغْتَرَّ بِمِثْلِ هَذَا مِنْهَا، وَتَأْوِيلُهُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ مِثْلُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّ بِعِلْمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَوْ فِي الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ فِيهِ (أَيِ: الْقُرْآنِ) مَا يَقَعُ فِيهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ وَالْخَيَالِيِّينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (9: 38) فِي 329 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ. هَذَا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي شَأْنِ الْأَلْوَاحِ فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ

(23: 12 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ فَأُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتُعَلِّمَهُمُ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) وَجَاءَ فِي وَصْفِ اللَّوْحَيْنِ مِنْهُ (32: 15 ثُمَّ انْثَنَى مُوسَى وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ وَلَوْحَا الشَّهَادَةِ فِي يَدِهِ: لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ عَلَى جَانِبَيْهِمَا، مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كَانَا مَكْتُوبَيْنِ وَاللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ، وَالْكِتَابَةُ هِيَ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْنِ) وَفِيهِ أَنَّ مُوسَى رَمَى بِاللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ عِنْدَمَا رَأَى الْعِجْلَ الَّذِي عَبَدَهُ قَوْمُهُ فِي أَيَّامِ مُنَاجَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ (34: 1 ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَنْحِتُ لَكَ لَوْحَيْ حَجَرٍ كَالْأَوَّلَيْنِ فَاكْتُبُ عَلَيْهَا الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْحَجَرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا - فَنَحَتَ لَوْحَيْ حَجَرٍ كَالْأَوَّلَيْنِ، وَبَكَّرَ مُوسَى فِي الْغَدَاةِ، وَصَعِدَ إِلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ لَوْحَيِ الْحَجَرِ) وَيَلِيهِ أَنَّ الرَّبَّ هَبَطَ فِي الْغَمَامِ، وَوَقَفَ عِنْدَهُ هُنَاكَ وَمَرَّ قُدَّامَهُ وَوَعَدَهُ وَوَصَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَوَامِرَ وَنَهَاهُ عَنْ أُمُورٍ وَيَلِي ذَلِكَ (وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَكْتُبُ لَكَ هَذَا الْكَلَامَ لِأَنِّي بِحَسَبِهِ عَقَدْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا، وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلَامَ الْعَهْدِ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) - وَهَاهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ - " فَكَتَبَ " إِلَى الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مُوسَى، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ مَا تَقَدَّمَ عَنْ (32: 16) لَكَانَ هَذَا مُتَعَيَّنًا بِقَرِينَةِ قَوْلِ الرَّبِّ لَهُ قَبْلَهُ: أَكْتُبُ لَكَ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَهُ نَظَائِرُ، وَأَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَدْ نَقَلْنَا نَصَّهَا فِي تَفْسِيرِ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (6: 154) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَقِبَ وَصَايَا الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا. وَمِنْ هَذَا الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا يُعْلَمُ مَا فِي تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلتَّوْرَاةِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ وَغَلَطٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ إِلَّا التَّحْرِيفَ الْمَعْنَوِيِّ - فَمَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ مِنْ تَعْيِينِ جَوْهَرِ الْأَلْوَاحِ وَمِسَاحَتِهَا وَكِتَابَتِهَا، وَمَا كُتِبَ فِيهَا مِنْ وَصْفِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذِهِ التَّوْرَاةَ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَرَادَ بِهِ وَاضِعُوهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْلِمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ مَا يَصُدُّ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ دَعْوَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَلَمْ يَدْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ كُلَّ مَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ الْيَهُودِيِّ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنَّهُ لَمْ يَرُجْ مِنْهُ عَلَى جَهَابِذَةِ نَقْدِ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلِهِ مُقَدَّرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لِمُوسَى، وَالْخِطَابُ قَبْلَهُ لِلنَّبِيِّ الْخَاتَمِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمَعْنَى: كَتَبَنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مَا ذُكِرَ وَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ - أَوْ وَقُلْنَا لَهُ: هَذِهِ رِسَالَتُنَا أَوْ وَصَايَانَا وَأُصُولُ شَرِيعَتِنَا وَكُلِّيَّاتُهَا فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ؛ أَيْ: حَالُ

كَوْنِكَ مُلْتَبِسًا بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَحَزْمٍ، أَوْ أَخْذًا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَكْوِينُ شَعْبٍ جَدِيدٍ بِتَرْبِيَةٍ جَدِيدَةٍ شَدِيدَةٍ مُخَالِفَةٍ كُلَّ الْمُخَالَفَةِ لِمَا نَشَأَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالْإِنْسِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَمَفَاسِدِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَوَلِّي تَرْبِيَةَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَالْمُرْشِدُ لَهُمْ صَاحِبَ عَزِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَبَأْسٍ شَدِيدٍ وَعَزْمٍ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ سِيَاسَتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَيَفْشَلُ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ فِيهِمْ. وَأَمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا قِيلَ إِنَّ (أَحْسَنِ) هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحُسْنِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَفْضِيلِ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: اسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ - أَيْ: وَأَمُرْ قَوْمَكَ بِالِاسْتِمْسَاكِ وَالِاعْتِصَامِ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِي الْأَلْوَاحِ الَّتِي هِيَ كَامِلَةُ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالِاعْتِبَارِيُّ وَالْإِضَافِيُّ، فَأُصُولُ الْعَقَائِدِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ وَتَنْزِيهُهُ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، قِيلَ: إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْأَخْذِ الشُّرُوعُ وَالِابْتِدَاءُ - وَالْأَوَامِرُ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَاهِي، وَيَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَتَحَلَّى بِهِ الْعَقْلُ، وَتَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ، وَتَرْكُ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ مَحْضٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَثَرًا لِلْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا - وَالْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ نَوَافِلُ، وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِمْ: وَالْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (39: 55) وَالْمَجَالُ فِيهِ أَوْسَعُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى خَلْقِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِإِكْمَالِهِ تَعَالَى الدِّينَ بِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَزَايَاهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ؛ أَيْ: لِلنَّاسِ كَافَّةً، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ (39: 54) ثُمَّ إِنَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ فِيهِ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ، وَفِيهِ مِنَ النَّدْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ مُقَابِلِهِ كَالصَّدَقَةِ بِالدِّينِ بَدَلَ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَالْعَفْوِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِصَاصِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِهِ لِقَوْمِ مُوسَى بِالتَّبَعِ لَهُ، وَإِذَا وَجَّهَ الْأَمْرَ فِيمَا قَبْلَهُ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِصَّتِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَأْخُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَتَتَّبِعُوا أَحْسَنَهُ كُنْتُمْ فَاسْقِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَيَحِلُّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِالْفَاسِقِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَنْجَاكُمُ اللهُ مِنْهُمْ وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.

وَسَيُرِيكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ بَعْدَكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، أَوِ الْفَاسِقِينَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالْمُبَارَكَةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَسَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكُمْ لَهُ وَأَخْذِكُمْ مِيثَاقَهُ بِقُوَّةٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: سَأُرِيكَ غَدًا مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَنِي - عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، ثُمَّ نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ - أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - وَأُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: مَنَازِلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ، وَمِنْ مَبَاحِثِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ أَنَّ كَلِمَةَ (سَأُرِيكُمْ) زِيدَ فِيهَا وَاوٌ قَبْلَ الرَّاءِ لِئَلَّا تُشْتَبَهُ بِـ " سَأَرَاكُمْ " إِذْ كَانُوا يَرْسُمُونَهَا بِالْيَاءِ غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَا ضَبْطُ الْكَلِمَةِ كَالضَّمَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَالْعِبْرَةُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا كُلُّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ يَجِبُ أَخْذُهُ بِقُوَّةٍ وَإِرَادَةٍ وَجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ؛ لِتَنْفِيذِ مَا هَدَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَتَكْوِينِ الْأُمَّةِ تَكْوِينًا جَدِيدًا صَالِحًا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ وَالْمُنَفِّذِ لَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لِيَكُونَ لِقَوْمِهِ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي سَائِرِ الِانْقِلَابَاتِ وَالتَّجْدِيدَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَالدِّينُ أَحْوَجُ إِلَى الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَخْذِ الْكِتَابِ أَوْ مِيثَاقِ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ، أَمْرًا مَقْرُونًا بِتَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ وُقُوعِ جَبَلِ الطُّورِ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 63 و93) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَقَدْ أَخَذَ سَلَفُنَا الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَ لَهَا مِنَ الْقُوَى الْعَدَدِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالنِّظَامِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَادُوا بِالْعَمَلِ بِهِدَايَتِهِ كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - لَا بِالتَّغَنِّي بِقِرَاءَتِهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَلَا بِالتَّبَرُّكِ الْمَحْضِ بِالْمُصْحَفِ، كَمَا يَفْعَلُ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ الصَّالِحِ، إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ فَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَا يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَيَشْقَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَهَجْرِ هِدَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (2: 26و27) . (ثَانِيهَا) أَنَّ سَبَبَ تَخْوِيفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الْمِيثَاقَ الْإِلَهِيَّ بِوِقٌوعِ الْجَبَلِ بِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ شَاقَّةٍ حَرِجَةٍ، وَحِكْمَةُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذِلِّينَ بِاسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ مُنْذُ أَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ أَوِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ وُعِدُوا بِأَنْ يَغْلِبُوهُمْ

عَلَى بِلَادِهِمْ جَبَّارِينَ أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ أَنْ تَتَرَبَّى أَفْرَادُهُمْ وَشُعُوبُهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالِارْتِيَاضِ بِالصَّبْرِ، وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَرِيقِ التِّيهِ وَهُوَ الْجَنُوبِيُّ مِنْ بَرِّيَّةِ سَيْنَاءَ دُونَ الطَّرِيقِ الشَّمَالِيِّ الْقَرِيبِ مِنْ مُدُنِ فِلَسْطِينَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةً بِقِتَالِ جَبَّارِي الْكَنْعَانِيِّينَ وَقْتَئِذٍ، فَكَتَبَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَلَكَ فِي أَثْنَائِهَا الَّذِينَ اسْتَذَلَّهُمُ الْمِصْرِيُّونَ، وَنَشَأَ مِنْ صِغَارِهِمْ وَمَوَالِيدِهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ تَرَبَّى فِي حَجْرِ الشَّرْعِ الْجَدِيدِ، وَالتِّيهِ الشَّدِيدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (ص 274 - 279 ج6 تَفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ) . (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ قَدْ عَظُمَ مُلْكُهُمْ بِإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِمْ بِقُوَّةٍ، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْغُرُورُ عَلَى الْعَمَلِ، وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ يَنْصُرُهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ لِنَسَبِهِمْ وَلَقَبِهِمْ وَهُوَ " شَعْبُ اللهِ " فَسَقُوا وَظَلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ بِهِمُ الْبَلَاءَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْبَابِلِيِّينَ الْأَقْوِيَاءَ، فَثَلُّوا عَرْشَهُمْ وَتَبَّرُوا مُلْكَهُمْ، ثُمَّ ثَابُوا إِلِى رُشْدِهِمْ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ، وَأَعَادَ لَهُمْ بَعْضَ مُلْكِهِمْ وَعِزِّهِمْ، ثُمَّ ظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى فَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَظَلُّوا عِدَّةَ قُرُونٍ مُتَّكِلِينَ عَلَى الْمَسِيحِ الْمَوْعُودِ لِيُعِيدَ لَهُمْ مُلْكَهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، ثُمَّ رَبَّتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَنَوَّرَهُمُ الْعِلْمُ الْعَصْرِيُّ فَطَفِقُوا يَسْتَعِدُّونَ لِاسْتِعَادَةِ هَذَا الْمُلْكِ بِكُلِّ مَا فِي الْإِمْكَانِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الْمَالُ وَالنِّظَامُ وَالْكَيْدُ وَالدَّهَاءُ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِمُ السَّعْيُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمَا فَصَّلْنَاهُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَوْرَثَنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (7: 137) . (رَابِعُهَا) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ وَسُنَنَ النَّصَارَى شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فِي الضُّرِّ دُونَ النَّفْعِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - قَدِ اغْتَرُّوا بِدِينِهِمْ كَمَا اغْتَرُّوا، وَاتَّكَلُوا عَلَى لَقَبِ " الْإِسْلَامِ " وَلَقَبِ " أُمَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا يَثُوبُوا إِلَى رُشْدِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ سَلَبُوا مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ لَمْ يَسُوسُوهُمْ بِشِدَّةٍ مُرِيبَةٍ كَافِيَةٍ، بِلِ اجْتَهَدُوا فِي إِفْسَادِ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَإِيقَاعِ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بَلْ أَفْسَدُوا كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسْتَوْلُوا عَلَى مُلْكِهِمْ مِنْهُمْ، بِتَوَلِّيهِمِ التَّرْبِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ، كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ثَلِّ عُرُوشِهِمْ، وَالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالتَّدْرِيجِ كَالْعُثْمَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى - وَلَا يَزَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجُونَ الْمُخَرِّبُونَ يَجِدُّونَ فِي قَتْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ، وَيُفْسِدُونَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُصْلِحُونَ أَلَّا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (2: 12) .

146

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ انْتَهَى بِالْآيَةِ قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ اسْتِئْنَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا، بَيَّنَ اللهُ فِيهِ بِخَاتَمِ رُسُلِهِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا سُنَنَهُ فِي ضَلَالِ الْبَشَرِ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْغَابِرِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَيَنْطَبِقُ عَلَى رُؤَسَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ جَزَاءَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، قَالَ: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الْبَشَرِ لِدُعَاةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَسَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْكِبْرُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكِبْرِ أَنْ يَصْرِفَ أَهْلَهُ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِ، فَهُمْ يَكُونُونَ دَائِمًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ الْغَافِلِينَ عَنْهَا، وَتِلْكَ حَالُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الضَّالِّينَ كَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَامَّةً مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِإِعْلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الطَّاغِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ لَنْ يَنْظُرُوا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا، وَالدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا أَقَامَتْهُ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ الْكَثِيرَةُ، وَلَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا أَيَّدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ بِهِ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، لِتَكَبُّرِهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْبَاطِلِ، فَوُجْهَةِ نَظَرِهِمْ تَنْحَصِرُ فِي تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ سَادَةُ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَأَقْوِيَاؤُهَا، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ سِنًّا وَقُوَّةً وَثَرْوَةً وَعَصَبِيَّةً، وَالْمَعْنَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنْ قَوَّمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا صَرَفْتُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ عَنْ آيَاتِي الَّتِي آتَيْتُهَا رَسُولِي

مُوسَى - وَالتَّكَبُّرُ صِيغَةُ تَكَلُّفٍ أَوْ تَكَثُّرٍ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي هُوَ غَمْطُ الْحَقِّ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ لَهُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَهُوَ شَأْنُ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَخْضَعَ لِحَقٍّ، أَوْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِشَخْصٍ، وَالْأَصْلُ الْغَالِبُ فِي التَّكَبُّرِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ إِعْلَاءَ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ إِكْثَارَهُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ كَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْمُبْطِلِينَ، وَإِهَانَةِ الْجَبَّارِينَ، وَاحْتِقَارِ الْمُحَارِبِينَ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِغَيْرِ الْحَقِّ يَكُونُ عَلَى هَذَا صِلَةً لِلتَّكَبُّرِ، وَهُوَ قَيْدٌ لَهُ، وَإِلَّا كَانَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَكَبَّرُونَ حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ مُنْغَمِسِينَ فِي الْبَاطِلِ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْهُ، وَقَدْ تَظْهَرُ لَهُمْ آيَاتُهُ وَيَجْحَدُونَهَا وَهُمْ بِهَا مُوقِنُونَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي آلِ فِرْعَوْنَ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (27: 14) وَقَالَ فِي طُغَاةِ قُرَيْشٍ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) . وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا هَذَا إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ (سَأَصْرِفُ) أَيْ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي الْمُنَزَّلَةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فَيَنْصَرِفُونَ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا - وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى (يَتَكَبَّرُونَ) فَيَكُونُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِصِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ وَتُثْبِتُ وُجُودَهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَأَفْرَادِهَا إِنَّمَا تُفِيدُ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ أَوْ شَاكٌّ أَوْ سَيِّءُ الْفَهْمِ، فَإِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ بَعْضِهَا فَقَدْ تَظْهَرُ لَهُ دَلَالَةُ غَيْرِهِ، وَفِي هَذَا إِعْلَامٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ التَّعْجِيزَ، لَا اسْتِبَانَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، فَهُمْ إِنْ أُجِيبُوا إِلَى طَلَبِهِمْ لَا يُؤَمِنُونَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا. وَإِنْ يَرَوْا سَيَبُلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا الرُّشْدُ: الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَضِدَّهُ الْغَيُّ؛ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ لُغَاتٍ: ضَمُّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هُنَا - وَفَتْحُهُمَا؛ وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ - وَالرَّشَادُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ - غَافِرٍ - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (40: 29) وَمِثْلُهَا السُّقْمُ وَالسَّقَمُ وَالسِّقَامُ - الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ صِفَةٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَرَنُوا عَلَى الضَّلَالِ وَاسْتَمْرَءُوا مَرْعَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، أَنْ يَنْفِرُوا مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُهُمْ سَبِيلَهُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ، جَعَلَهَا سَبِيلًا لَهُ بِإِيثَارِهَا وَتَفْضِيلِهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْغَيِّ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْلُكُ الْغَيَّ عَلَى جَهْلٍ، فَإِذَا عَلِمَ بِمَا تَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَرَأَى لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا مِنْهَا، تَرَكَهَا وَاخْتَارَ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَلَيْهَا. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَرٌّ مِمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ هَذِهِ إِيجَابِيَّةٌ وَتِلْكَ

سِلْبِيَّةٌ، وَبَيْنَهُمَا حَالٌ أُخْرَى وَهِيَ حَالُ مَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ وَزَكَاءِ النَّفْسِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى سُلُوكِ الرُّشْدِ إِذَا رَآهُ لِضَعْفِ هِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ الْغَيَّ وَالْفَسَادَ وَإِذَا لَمْ يَصِلْ مِنِ اعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ وَظُلْمَةِ الْبَصِيرَةِ إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى الرُّشْدِ، وَإِيثَارِ سَبِيلِهِ وَاخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهِ إِذَا رَآهَا، بِحَيْثُ لَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا جَهْلُ سَبِيلِهِ أَوِ الْعَجْزُ عَنْ سُلُوكِهَا. فَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ أَوِ الصِّفَاتُ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ يَسْلُكُهَا، وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ يَعْنِي أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْهُمْ مَطْبُوعِينَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ طَبْعًا، وَلَمْ يَجْبُرْهُمْ وَيُكْرِهْهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ لِلتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الرُّشْدِ، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا دُونَ أَهْوَائِهِمْ لَا يُعْطُونَهَا حَقَّهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ، لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَهْوَائِهِمْ وَعُصْبَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِآبَائِهِمْ، وَبِذَلِكَ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْهُدَى، فَالْغَفْلَةُ هُنَا: هِيَ الْغَفْلَةُ الْمَطْبُوعَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْفِطْنَةِ، لَا أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَفْلَةِ، بَلْ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الضَّالُّونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْغَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَا تَهْدِي إِلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى الْبَاقِيَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى - فِي وَصْفِهِمْ: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (14: 3) وَيَقُولُ: قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (4: 167) إِذْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَالْغُرُورِ بِهِ، وَاحْتِقَارِهِمْ مَا سِوَاهُ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَوْجِيهِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مُتَفَرْنِجَةُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، يَحْتَقِرُونَ هِدَايَةَ الدِّينِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ فِي تَهْذِيبِ النَّفْسِ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ، وَصَدِّهَا عَنِ الشُّرُورِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ وَأَضَلَّهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَصْرٍ وَصَلَ فِيهِ الْغَرْبِيُّونَ إِلَى غَايَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ عَاشَ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُمْ عَبْدًا لِشَهَوَاتِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَلُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا يَتَّبِعُوا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَقُوَّتِهَا وَصِنَاعَاتِهَا وَفُنُونِهَا مَا كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (59: 2) . ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ الْآيَاتِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ مِنْ بَرَاهِينَ عَقْلِيَّةٍ

148

نَظَرِيَّةً كَانَتْ أَوْ عِلْمِيَّةً أَوْ كَوْنِيَّةً، كَآيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمِنْهَا مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَظْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا؛ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَمُنْكِرَاتِ الْأَعْمَالِ، وَاللِّقِاءُ مَصْدَرُ لَقِيَ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، وَلَاقَاهُ كَالْمُلَاقَاةِ إِذَا صَادَفَهُ أَوْ قَابَلَهُ أَوِ انْتَهَى إِلَيْهِ، يُقَالُ: لَقِيَ زَيَدًا وَلَاقَاهُ وَلَقِيَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا لِقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصْبًا (18: 62) وَمَنْ يُلْقِ خَيْرًا يَحْمِدِ النَّاسُ أَمَرَهُ، وَلَقِيَ جَزَاءَهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمُلَاقَاةُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِبَارَةٌ عَنِ الْقِيَامَةِ وَعَنِ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ (2: 223) قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ (2: 249) . وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى عَلَى رُسُلِنَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ وَلَا اهْتَدَوْا بِهَا، وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ - عَلَى الْخَيْرِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الشَّرِّ بِالْعِقَابِ - فَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، لَا يُجْزَوْنَ هُنَالِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مَعًا أَوِ النَّفْسِيَّةِ فَقَطْ (كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ) فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقٍّ وَخَيْرٍ زَكَّاهَا وَأَصْلَحَهَا، أَوْ مِنْ بَاطِلٍ وَشَرٍّ دَسَّاهَا وَأَفْسَدَهَا - إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ فِي الْجَزَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنَّمَا مَضَّتْ سُنَّتُهُ بِجَعْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا لِلْعَمَلِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا " تُرَاجَعْ كَلِمَةُ جَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ ". وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ

(قِصَّةُ اتِّخَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْعِجْلِ) فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَبَلِ الطُّورِ، اتَّخَذَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِجْلًا مَصُوغًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَبَدُوهُ مَنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى -، لَمَّا كَانَ رُسِخَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ فَخَامَةِ مَظَاهِرِ الْوَثَنِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ فِي مِصْرَ، ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ هُنَا مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ خَبَرِ الْمُنَاجَاةِ وَأَلْوَاحِ الشَّرِيعَةِ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الزَّمَنِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ الْحُلِيُّ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ جَمْعِ حَلْيٍ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ فَهُوَ كَثُدِيٍّ جَمْعًا لِثَدْيٍ، وَهَذَا الْحُلِيُّ اسْتَعَارَهُ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نِسَاءِ الْمِصْرِيِّينَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَمَلَكُوهُ بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِرَابِ أَوِ الْجَوَامِيسِ، فَهُوَ كَالْحُوَارِ لِوَلَدِ النَّاقَةِ، وَالْمُهْرِ لِوَلَدِ الْفَرَسِ، وَالْحَمَلِ لِوَلَدِ الشَّاةِ، وَالْجَدْيِ لِوَلَدِ الْعَنْزِ، إِلَخْ، وَالْجَسَدُ الْجُثَّةُ وَبَدَنُ الْإِنْسَانِ حَقِيقَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا، وَالْأَحْمَرُ كَالذَّهَبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالدَّمِ الْجَافِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْجَسَدُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمُتَغَذِّيَةِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ جَسَدٌ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَالْجَسَدُ: الْبَدَنُ، نَقُولُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ مِنَ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ. ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ جَسَدٌ. غَيْرُهُ: وَكُلُّ خَلْقٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَعْقِلُ فَهُوَ جَسَدٌ. وَكَانَ عِجْلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَسَدًا يَصِيحُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَكَذَا طَبِيعَةُ الْجِنِّ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ (20: 88) " جَسَدًا " بَدَلٌ مِنْ عِجْلٍ؛ لِأَنَّ الْعِجْلَ هُنَا هُوَ الْجَسَدُ، وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى الْحَذْفِ؛ أَيْ: ذَا جَسَدٍ، وَقَوْلُهُ: لَهُ خُوَارٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ رَاجِعَةً إِلَى الْعِجْلِ، وَأَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْجَسَدِ، وَجَمْعُهُ أَجْسَادٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: عِجْلًا جَسَدًا قَالَ: أَحْمَرُ مَنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الْجَسَدُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ إِنَّمَا مَعْنَى الْجَسَدِ مَعْنَى الْجُثَّةِ فَقَطْ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ (21: 8) قَالَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ يَعْنِي عَلَى جَمَاعَةٍ، قَالَ وَمَعْنَاهُ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَجْسَادٍ إِلَّا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ (25: 7) فَأُعْلِمُوا أَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، الْمُبِرِّدُ وَثَعْلَبٌ: الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا، (قَالَا) وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا، (قَالَا) وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ، وَمَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَعْنَاهُ إِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْكَ لِأَقْبَلُ مِنْكَ (قَالَا) : وَإِنْ كَانَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا (قَالَا) وَهُوَ كَقَوْلِكَ: مَا زِيدٌ بِخَارِجٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَ اللَّيْثُ قَوْلَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَالْمَلَائِكَةِ، (قَالَ) وَهُوَ غَلَطٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ (قَالَ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ

يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَلَيْسُوا جَسَدًا فَإِنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ. انْتَهَى، وَقَوْلُهُمْ: مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ؛ أَيِ: الْإِثْبَاتُ. وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ: رُغَاءُ الْإِبِلِ، وَثُغَاءُ الْغَنَمِ، وَيُعَارُ الْمَعْزِ، وَمُوَاءُ الْهِرِّ، وَنُبَاحُ الْكَلْبِ. . إِلَخْ. وَعُلِمَ مِنَ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَه أَنَّ السَّامِرِيَّ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُمْ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أَوْزَارِ زِينَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَاهَا فِي النَّارِ فَصَاغَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا؛ أَيْ: تِمْثَالًا لَهُ صُورَةُ الْعِجْلِ وَبَدَنُهُ وَصَوْتُهُ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ذَلِكَ هُنَا إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ رَأْيُ جُمْهُورِهِمُ الَّذِينَ طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ الْعِجْلِ هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. رُوِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ خَارَ خَوْرَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُثَنِّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَلَّتْ فِيهِ الْحَيَاةُ؛ عَلِّلُوهُ بِأَنَّ السَّامِرِيَّ رَأَى جِبْرِيلَ حِينَ جَاوَزَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَفِي وَرَايَةٍ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى مُوسَى (- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) رَاكِبًا فَرَسًا مَا وَطِئَ بِهَا أَرْضًا إِلَّا حَلَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ وَاخْضَرَّ النَّبَاتُ، فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِهَا قَبْضَةً فَنَبَذَهَا فِي جَوْفِ تِمْثَالِ الْعِجْلِ فَصَارَ حَيًّا لَهُ خُوَارٌ، وَفَسَّرُوا بِهَذَا مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طَه وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ خُوَارَهُ كَانَ بِتَأْثِيرِ دُخُولِ الرِّيحِ فِي جَوْفِهِ وَخُرُوجِهَا مِنْ فِيهِ، كَقَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيًّا، وَالرِّوَايَاتُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ وَقَفَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَه رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فِيهَا ضَرْبٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالضَّلَالَاتِ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طَه إِنْ شَاءَ اللهُ وَقُدِّرَ لَنَا الْحَيَاةُ. قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ ضَلَالَتِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى جَهَالَتِهِمْ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ أَيْ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ فَاقِدٌ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَخَاصَّةً مَا لَهُ مَنْ حَقِّ الْعِبَادَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا يُكَلِّمُ بِهِ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَيُعَلِّمُهُ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفُوهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَسَبِيلِ عِبَادَتِهِ كَمَا يُكَلِّمُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَسُولَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَهْدِيهِ سَبِيلَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَقُومُ بِهَا مَصَالِحُهُمْ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا، وَأَنْ يُكَلِّمَ عِبَادَهُ، وَيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ بِاخْتِصَاصِهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَإِعْدَادِهِ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ، وَتَلَقِّي وَحْيِهِ، وَتَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ، وَفِي سُورَةِ طَه: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يُرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (20: 89) فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ: هِدَايَةُ الْوَحْيِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ الْإِلَهِ هِدَايَةُ الْإِرْشَادِ الَّتِي مَرْجَعُهَا صِفَةُ الْكَلَامِ، وَلَا الضَّرُّ وَالنَّفْعُ اللَّذَيْنِ هُمَا مُتَعَلِّقُ صِفَتَيِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:

اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ أَيِ: اتَّخَذُوهُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَلَا يَهْدِيهِمْ لِمَا فِيهِ رَشَادُهُمْ، وَلَا يَمْلِكُ دَفْعَ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَا إِسْدَاءَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ؛ أَيْ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا شِبْهِ دَلِيلٍ، بَلْ عَنْ تَقْلِيدٍ لِمَا رَأَوْا عَلَيْهِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ " أَبِيسَ " مِنْ قَبْلُ، وَلِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْعَاكِفِينَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ بَعْدُ، وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِهَذَا الِاتِّخَاذِ الْجَهْلِيِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ يُقَالُ: سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ - بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - وَكَذَا بِفَتْحِ أَوَّلِ الثُّلَاثِيِّ عَلَى قِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ، وَشُذُوذٍ فِي الْقِرَاءَةِ - أَيْ: نَدِمَ، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ مَسْقُوطٌ فِي يَدِهِ، وَسَاقِطٌ فِي يَدِهِ أَيْ: نَادِمٌ - كَمَا فِي الْأَسَاسِ - وَلَكِنَّهُ فَسَّرَهُ فِي الْكَشَّافِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَفِي اللِّسَانِ: وَسُقِطَ فِي يَدِ الرَّجُلِ: زَلَّ وَأَخْطَأَ، وَقِيلَ: نَدِمَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ النَّادِمِ عَلَى مَا فَعَلَ الْحَسِرِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ وَأُسْقِطَ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ الْفَارِسِيُّ: ضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ عَلَى أَكُفِّهِمْ مِنَ النَّدَمِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ إِذًا مِنَ السُّقُوطِ، وَقَدْ قُرِئَ " سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ " كَأَنَّهُ أَضْمَرَ النَّدَمَ؛ أَيْ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْيَدِ: قَدْ حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ هَذَا مَكْرُوهٌ، فَشَبَّهَ مَا يَصِلُ فِي الْقَلْبِ وَفِي النَّفْسِ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ، وَيُرَى بِالْعَيْنِ اهـ. زَادَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَخُصَّتِ الْيَدُ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأُمُورِ بِهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ (22: 10) أَوْ لِأَنَّ النَّدَمَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي الْقَلْبِ فِي الْيَدِ بَعَضِّهَا، وَالضَّرْبِ بِهَا عَلَى أُخْتِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي النَّادِمِ: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ (18: 42) ، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ (25: 27) وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ، وَفِي الْعُبَابِ: هَذَا نَظْمٌ لَمْ يُسْمَعْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا عَرَفَتْهُ الْعَرَبُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ نُزُولُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَوُقُوعُهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْخَطَأِ مِنَ الْكَلَامِ سَقْطٌ؛ لِأَنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَسْقُطُ، وَذَكَرَ الْيَدَ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ يَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْيَدِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَلِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ الْعُظْمَى، فَرُبَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهَا مَا لَمْ تُبَاشِرْهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ اهـ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ نَدَمُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أَيْ: وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ تَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالُهُمْ بِهِ، وَتَحَقَّقَ بِمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ مُوسَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا أَيْ: أَقْسَمُوا إِنَّهُ لَا يَسَعُهُمْ بَعْدَ هَذَا الذَّنْبِ إِلَّا رَحْمَةُ رَبِّهِمُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قَائِلِينَ: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا بِقَبُولِ تَوْبَتِنَا وَالتَّجَاوُزِ عَنْ جَرِيمَتِنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا؛ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ، وَلِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ؛ وَهِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ.

149

وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيمِ النَّدَمِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَبَيُّنِ الضَّلَالَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْدَمَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ مَا مَعْنَاهُ مُوَضِّحًا: إِنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوِ الْأَمْرَ حَقٌّ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْجَزْمِ بِضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ لَا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْأَغْلَبِ، بَلِ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْجَزْمِ بِصِحَّتِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الشَّكِّ فِيهَا ثُمَّ إِلَى الظَّنِّ بِالضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ، ثُمَّ إِلَى الْجَزْمِ بِهِ، ثُمَّ إِلَى تَبَيُّنِهِ وَالْيَقِينِ فِيهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ صَوَابٌ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ رُبَّمَا وَقَعَ لَهُمْ حَالَ الشَّكِّ فِيهِ، فَيَكُونُ تَبَيُّنُ الضَّلَالِ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّدَمِ اهـ. وَأَقُولُ: جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ الْمُفَصَّلِ مِنْ سُورَةِ طَه أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَذَكَّرَهُمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (20: 91) فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَأَنَّبَ هَارُونَ (قَالَ) فِيمَا قَالَهُ لَهُ: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (20: 92، 93) لَكَ (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (7: 142) فَعِنْدَ تَصْرِيحِ مُوسَى بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا، وَرُؤْيَتِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَضَبِهِ وَإِلْقَائِهِ بِالْأَلْوَاحِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ وَلِحْيَتِهِ وَجَرِّهِ إِلَيْهِ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّدَمُ عَنْ تَقْلِيدٍ وَطَاعَةٍ لِمُوسَى لَا عَنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ ضَلَالٌ، فَالرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَدْ حَصَلَ بَعْدَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ، وَنَسْفِهِ فِي الْيَمِّ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَمِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ مَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بِزَمَانٍ وَلَا رُتْبَةٍ أَنْ يُقَدَّمَ فِي سَرْدِهِ وَفِي نَسَقِهِ الْأَهَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ النَّدَمِ هُنَا لِسَبْقِهِ فِي الزَّمَنِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِشْعَارِهِمُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ عَلَى نَدَمِهِمْ وَتَوْبَتِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا مَحْوُ الذَّنْبِ وَتَرْكُ الْعِقَابِ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ صَارُوا عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوُجُوبِ تَخْصِيصِ الرَّبِّ بِالْعِبَادَةِ - قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالضَّلَالِ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ إِلَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ؛ وَهُوَ التَّوْبَةُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْعَمَلِ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَلُّوا عَلَى عِلْمٍ وَلَمْ يَتُوبُوا؛ أَشَدُّ النَّاسِ عِقَابًا - فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ النَّدَمِ أَهَمُّ مِنَ الْعِلْمِ بِالضَّلَالِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ الَّذِي لَمْ نَرَهُ لِأَحَدٍ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنَّهَا سَبَبُهَا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَا يَكْفِيَانِ لِلْمَغْفِرَةِ بِدُونِهَا، وَلَا غَرْوَ فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ " قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ

150

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ " وَأَمْثَلُ الْأَجْوِبَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثْرَةُ الصَّرِيحَةُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ أَنَّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ عَمَلَ أَيُّ عَامِلٍ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ لِذَاتِهِ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْكَامِلِ الدَّائِمِ، بَلْ لَا يَفِي عَمَلُ أَحَدٍ بِبَعْضِ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالرَّحْمَةِ وَاقْتِسَامَهَا بِالْأَعْمَالِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّ مِنْهَا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16: 32) . وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ مَادَّةِ " أس ف " مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْأَسَفَ شِدَّةُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ، وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَشْتَرِطُونَ شِدَّتَهُمَا، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: أَسِفَ أَسَفًا مِنْ بَابِ تَعِبَ وَحَزِنَ وَتَلَهَّفَ فَهُوَ أَسِفَ مِثْلَ تَعِبَ، وَأَسِفَ مِثْلَ غَضِبَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: آسَفْتُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَفُ؛ الْحُزْنُ وَالْغَضَبُ مَعًا، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَقِيقَتُهُ: ثَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ بِشَهْوَةِ الِانْتِقَامِ، فَمَتَى كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ دُونَهُ انْتَشَرَ فَصَارَ غَضَبًا، وَمَتَى كَانَ عَلَى مَنْ فَوْقِهِ انْقَبَضَ فَصَارَ حُزْنًا؛ وَلِذَلِكَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ، فَقَالَ: مَخْرَجَهُمَا وَاحِدٌ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ نَازَعَ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ أَظْهَرَ غَيْظًا وَغَضَبًا، وَمَنْ نَازَعَ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَظْهَرَ حُزْنًا وَجَزَعًا، وَبِهَذَا النَّظَرِ قَالَ الشَّاعِرُ: فَحُزْنُ كُلِّ أَخِي حُزْنٍ أَخُو الْغَضَبِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَسَفَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا هُوَ الْغَضْبَانُ فَهُوَ إِذًا مُتَرَادِفٌ، وَقَدْ فَاتَهُ هُنَا مَا نَعْهَدُ مِنْ تَحْقِيقِهِ لِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَصِحُّ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْحُزْنِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ، وَإِنَّمَا الْحُزْنُ أَلَمُ النَّفْسِ بِفَقْدِ مَا تُحِبُّ مِنْ مَالٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَهْوَةِ الِانْتِقَامِ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْأَسَفِ بِمَعْنَى الْحُزْنِ؛ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ (12: 84) وَمِنْ شَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى الْغَضَبِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ (43: 55) وَلَا يُوصَفُ رَبُّنَا تَعَالَى بِالْحُزْنِ وَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَغَضَبُهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَغَضَبِ الْبَشَرِ أَلَمًا فِي النَّفْسِ، وَلَا أَثَرَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ، تَعَالَى رَبُّنَا عَنْ هَذِهِ الِانْفِعَالَاتِ وَالْآلَامِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ تَلِيقُ بِهِ هِيَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَالْأَسِفِ فِي صِفَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسَفَ بِمَعْنَى الْحُزْنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى مِنَ الطُّورِ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ إِذْ رَأَى أَنَّهُ ضَعُفَ فِي سِيَاسَتِهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فِي خِلَافَتِهِ فِيهِمْ، حَزِينًا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرِ الشِّرْكِ، وَإِغْضَابِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: قَالَ بِئْسَمَا خَلَّفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَيْ: بِئْسَ خِلَافَةً خَلَفْتُمُونِيهَا مِنْ بَعْدِ ذَهَابِي عَنْكُمْ إِلَى مُنَاجَاةِ الرَّبِّ - تَعَالَى -، مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِي مَعَكُمْ أَنْ لَقَّنْتُكُمُ التَّوْحِيدَ، وَكَفَفْتُكُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَبَيَّنْتُ لَكُمْ فَسَادَهُ وَبُطْلَانَهُ وَسُوءَ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ؛ حَيْثُ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ تَمَاثِيلِ الْبَقَرِ - فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَخْلُفُونِي بِاقْتِفَاءِ سِيرَتِي، وَلَكِنَّكُمْ خَلَفْتُمُونِي بِضِدِّهَا، إِذْ صَنَعْتُمْ لَكُمْ صَنَمًا كَأَصْنَامِ أُولَئِكَ

الْقَوْمِ أَوْ كَأَحَدِ أَصْنَامِ الْمِصْرِيِّينَ فَعَبَدَهُ بَعْضُكُمْ، وَلَمْ يَرْدَعْكُمْ عَنْ ذَلِكَ سَائِرُكُمْ - فَالتَّوْبِيخُ عَامٌّ، وَفِيهِ تَعَرُّضٌ خَاصٌّ بِهَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَعَجِلَهُ سَبَقَهُ، وَأَعْجَلَهُ اسْتَعْجَلَهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيِ: اسْتَبَقْتُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ عَجِلْتُ الشَّيْءَ أَيْ: سَبَقْتُهُ وَأَعْجَلْتُهُ اسْتَحْثَثْتُهُ اهـ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: يُقَالُ عَجِلَ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا تَرَكَهُ غَيْرَ تَامٍّ، وَنَقِيضُهُ تَمَّ عَلَيْهِ، وَأَعْجَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَيُضَمَّنُ مَعْنًى سَبَقَ فَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، فَيُقَالُ: عَجِلْتُ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى أَعَجِلْتُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ؛ وَهُوَ انْتِظَارُ مُوسَى حَافِظِينَ لِعَهْدِهِ، وَمَا وَصَّاكُمْ بِهِ، فَبَنَيْتُمُ الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْمِيعَادَ قَدْ بَلَغَ آخِرَهُ، وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ فَحَدَّثْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِمَوْتِي فَغَيَّرْتُمْ كَمَا غَيَّرَتِ الْأُمَمُ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمْ حِينَ أَخْرَجَ لَهُمُ الْعِجْلَ وَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى (20: 88) : إِنَّ مُوسَى لَنْ يَرْجِعَ، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ اهـ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَوْلُهُ: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيِ: اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - اهـ، وَقَدْ نَقَلَ الْآلُوسِيُّ كَلَامَ الْكَشَّافِ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ كَعَادَةِ أَكْثَرِ الْمُؤَلِّفِينَ بَعْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ يَعْقُوبُ إِلَى أَنَّ السَّبْقَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ، وَالْأَمْرُ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعَجِلْتُمْ وَعْدَ رَبِّكُمُ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنَ الْأَرْبَعِينَ؟ فَالْأَمْرُ عَلَيْهِ: وَاحِدُ الْأُمُورِ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْبَعِينَ: مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَنَّهَا اللَّيَالِي الَّتِي وَعَدَ مُوسَى رَبَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أَيْ: وَطَرَحَ الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدَيْهِ؛ لِيَأْخُذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ مِمَّا كَانَ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَسَفِهِ لِمَا فَعَلَ قَوْمُهُ مِنَ الشِّرْكِ بِهِ، وَلِمَا ظَنَّ مِنْ تَقْصِيرِ أَخِيهِ، وَأَخَذَ بِشَعْرِ رَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ بِذُؤَابَتِهِ، إِذْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِ مُوسَى أَنْ يَرْدَعَهُمْ وَيَكُفَّهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِنْ قَدَرَ كَمَا فَعَلَ هُوَ بِتَحْرِيقِهِ، وَإِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ - وَأَنْ يَتَّبِعَهُ إِلَى جَبَلِ الطُّورِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طه قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (20: 92 و93) وَالِاجْتِهَادُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الْغَضَبِ لِلْحَقِّ بِالْحَقِّ كَمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْعُرُ بِمَا لَا يَشْعُرُ بِهِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحِلْمُ وَلِينُ الْعَرِيكَةِ كَهَارُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ تَكَسُّرِ بَعْضِهَا هَلْ يَتَضَمَّنُ تَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِ كَلَامِ اللهِ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ وَلَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ؟ بَلْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ فِي نَفْسِهِ إِهَانَةً لِلْأَلْوَاحِ فَوَجَبَ بَيَانُ الْمَخْرَجِ مِنْهُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ: أَنَّ إِلْقَاءَ الْأَلْوَاحِ لَا يَقْتَضِي إِهَانَةً لَهَا، كَمَا أَنَّ إِلْقَاءَ الْعَصَا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى السَّحَرَةِ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَالْإِلْقَاءُ فِي نَفْسِهِ

لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لُغَةً وَلَا عَادَةً، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِقَصْدٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ هُنَا قَطْعًا - وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مَظَنَّةً لَهُ. فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَمَاذَا كَانَ جَوَابُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طه " ابْنَ أُمِّ " بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ، وَهِيَ تُطْرَحُ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَعَلَّلُوهَا بِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ، وَبِالتَّشْبِيهِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " ابْنَ أُمِّي " بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: قِيلَ: كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْأُمِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْعَطْفِ وَالرِّقَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا، وَلِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَاسَتْ فِيهِ الْمَخَاوِفَ وَالشَّدَائِدَ فَذَكَّرَهُ بِحَقِّهَا اهـ، وَهُوَ حَسَنٌ إِلَّا قَوْلَهُ فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاسْمُ أُمِّهِمَا (يوكابد) بِنْتُ لَاوِي كَمَا فِي التَّوْرَاةِ عِنْدَهُمْ. وَالْمَعْنَى: يَا ابْنَ أُمِّي لَا تَعْجَلْ بِمُؤَاخَذَتِي وَتَعْنِيفِي فَإِنَّنِي لَمْ آلُ جَهْدًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَضْعَفُونِي فَلَمْ يَرْعَوُوا لِنُصْحِي وَلَمْ يَمْثُلُوا أَمْرِي، بَلْ قَارَبُوا أَنْ يَقْتُلُونِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِي مِنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالْإِهَانَةِ مَا يُشْمِتُ بِيَ الْأَعْدَاءَ، وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ تُلِزَّنِي بِهِمْ فِي قَرْنٍ مِنَ الْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فَلَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالْأَعْدَاءِ وَالظَّالِمِينَ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دُونَ مُوسَى فِي قُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَشِدَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَاذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاسْتِعْطَافِ فِي قَلْبِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي أَيِ: اغْفِرْ لِي مَا أَغْلَظْتُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاغْفِرْ لَهُ مَا عَسَاهُ قَصَّرَ فِيهِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْقَوْمِ، لِمَا تَوَقَّعَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ حَتَّى الْقَتْلِ: وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِجَعْلِهَا شَامِلَةً لَنَا، وَاجْعَلْنَا مَغْمُورِينَ فِيهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " وَارْحَمْنَا " وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهَذَا ثَنَاءٌ؛ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الثِّقَةِ فِي الرَّجَاءِ، وَالدُّعَاءُ فِي جُمْلَتِهِ أَقْوَى فِي اسْتِعْتَابِ هَارُونَ مِنَ الِاعْتِذَارِ لَهُ، وَأَدَلُّ عَلَى تَخْيِيبِ أَمَلِ الْأَعْدَاءِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُثِيرُ حَفِيظَةَ الشَّمَاتَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: لِيُرْضِيَ أَخَاهُ وَيُظْهِرَ لِأَهْلِ الشَّمَاتَةِ رِضَاهُ عَنْهُ - فَلَا تَتِمُّ لَهُمْ شَمَاتَتُهُمْ - وَاسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ إِلَى أَخِيهِ، وَلِأَخِيهِ أَنْ عَسَى فَرَّطَ فِي حُسْنِ الْخِلَافَةِ، وَطَلَبَ أَلَّا يَتَفَرَّقَا عَنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا تَزَالُ مُنْتَظِمَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اهـ.

بَرَّأَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ جَرِيمَةِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مُتَّخِذِيهِ وَعَابِدِيهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هَيْمَنَ بِهَا عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَصَحَّحَ أَغْلَاطَ مُحَرِّفِيهَا، وَهُوَ يَحْثُو التُّرَابَ فِي أَفْوَاهِ الطَّاعِنِينَ فِيهِ، وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ (بَرَّأَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -) بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ أَخَذَ عَنِ التَّوْرَاةِ مَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَعْدَى الْمُعَانِدِينَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (29: 48) ، وَقَوْلُهُ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ لَكَذَّبَهُ فِي هَذَا أُولَئِكَ الْجَاحِدُونَ وَالْمُعَانِدُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا، وَالْغَرَضُ هُنَا إِقَامَةُ حُجَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلَ عَنِ التَّوْرَاةِ لَوَافَقَهَا فِي كُلِّ مَا نَقَلَهُ، وَهُوَ قَدْ خَالَفَهَا فِي مَوَاضِعَ بِمَا جَعَلَهُ مُنَزِّلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُهَيْمِنًا وَرَقِيبًا عَلَيْهَا، وَمُصَحِّحًا لِأَهَمِّ مَا وَقَعَ مِنَ التَّحْرِيفِ فِيهَا، وَمِنْهُ تَبْرِئَةُ هَارُونَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ الَّتِي عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَجَعَلَتْهُمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً كَجَعْلِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الصَّانِعُ لِلْعِجْلِ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ قَالَ: (1) وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا؛ لِأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لَا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ (2) فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا (3) فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي كَانَتْ فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ (4) فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالْأَزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلًا مَسْبُوكًا فَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكِ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ (5) فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: غَدًا عِيدٌ لِلْرَّبِّ (6) فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحَرَّقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلَامَةٍ وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ (7) فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: اذْهَبِ انْزِلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتُهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ (8) زَاغُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتَهُمْ بِهِ صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلًا مَسْبُوكًا وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكِ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ ". وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّ هَذَا الشَّعْبَ صَلْبُ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّ غَضَبَهُ

152

اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ لِيَفْتِنَهُمْ، وَأَنَّ مُوسَى اسْتَرْحَمَهُ أَلَّا يَفْعَلَ وَلَا يُشْمِتَ بِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَذَكَّرَهُ وَعْدَهُ سُبْحَانَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِتَكْثِيرِ نَسْلِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ عَوْدَةِ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَمَا فَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: " 19 وَكَانَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ إِلَى الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ أَبْصَرَ الْعِجْلَ وَالرَّقْصَ فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ 20 ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ 21 وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ مَاذَا صَنَعَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِّيَّةً عَظِيمَةً 22 فَقَالَ هَارُونُ لَا يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي عَلَيَّ، أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ إِنَّهُ فِي شَرٍّ 23 فَقَالُوا لِيَ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا " إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ طَلَبَ مُوسَى مِنَ الرَّبِّ أَنْ يَغْفِرَ لِقَوْمِهِ، وَأَمَرَ الرَّبُّ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ - وَأَنَّ بَنِي لَاوِي فَعَلُوا ذَلِكَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا اسْتَحَقَّهُ الْقَوْمُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، قَفَّى بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى مَعَ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ ذَاكَ أَوْ قَرَأَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - يَوْمَئِذٍ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ فِيهِ: مَا اشْتَرَطَهُ تَعَالَى فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عَوْدَةِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاتِهِ فِي الْجَبَلِ. وَالذِّلَّةُ؛ مَا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَظَنِّهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ بِرُؤْيَتِهِمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فَيَحْتَقِرَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ خَاصَّةٌ بِالسَّامِرِيِّ، وَهِيَ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَاجْتِنَابِ النَّاسِ بِقَوْلِ

مُوسَى لَهُ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ (20: 97) أَيْ: لَا أَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّنِي أَحَدٌ. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ إِذَا فُضِحُوا بِظُهُورِ افْتِرَائِهِمْ كَمَا فُضِحَ هَؤُلَاءِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ خَاصًّا بِافْتِرَاءِ الْبِدَعِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، وَهَكَذَا رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ " وَكَذَلِكَ تَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " وَقَالَ: هِيَ وَاللهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ. إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ افْتِرَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى مَا قَيَّدْنَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَفَلَ لَهُمُ النَّصْرَ، أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَّةُ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ أَوْ دَارِ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَهِيَ كَظُلَّةٍ مِنَ الدُّخَانِ، أَوْ قَزَعَةٍ مِنَ السَّحَابِ تَحْدُثُ فِي حِنْدِسِ لَيْلَةٍ مُطْبِقَةِ السَّحَابِ، حَالِكَةِ الْإِهَابِ، لَا تَكَادُ تَظْهَرُ، فَيَكُونُ لِأَصْحَابِهَا احْتِقَارٌ يُذْكَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ فِي الْقِصَّةِ خَاطَبَ اللهُ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ؛ لِإِنْذَارِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ مَا سَيَكُونُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ وَعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ، وَوَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ وَكَوْنِهِمْ خَلَفًا لَهُمْ فِي افْتِرَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى اللهِ فِي عَهْدِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. كَمَا عَيَّرَهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَتْلِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَرَائِمِ سَلَفِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ سَيَنَالُ أَوْلَادُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُرِيدَ بِالْغَضَبِ وَالذِّلَّةِ مَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، أَوْ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ اهـ. وَتَوْجِيهُنَا أَظْهَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَحْدَهَا، وَيُرَادُ: سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ فِي الْآخِرَةِ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (2: 61) اهـ، وَأَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَعَذَابُ الْآخِرَةِ مُقَدَّرٌ فِي الْكَلَامِ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الدُّنْيَا، عَلَى مَا عُلِمَ مِنِ اطِّرَادِهِ بِنُصُوصٍ أُخْرَى. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حُكْمِ مَنْ تَابَ وَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَهَا هُوَ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ثُمَّ تَابُوا وَرَجَعُوا مِنْ بَعْدِهَا إِلَى اللهِ

154

تَعَالَى بِأَنْ رَجَعَ الْكَافِرُ عَنْ كُفْرِهِ وَتَرَكَهُ وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَرَجَعَ الْعَاصِي عَنْ عِصْيَانِهِ، وَأَخْلَصَ الْإِيمَانَ وَزَكَّاهُ بِالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَغَفُورٌ لَهُمْ؛ أَيْ: لَسَتُورٌ عَلَيْهِمْ، مَحَّاءٌ لِمَا كَانَ مِنْهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ؛ أَيْ: مُنْعِمٌ عَلَيْهِمْ بِالْجَنَّةِ، هَكَذَا صَوَّرَ الْمَعْنَى فِي الْكَشَّافِ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُتَّخِذُو الْعِجْلِ وَمَنْ عَدَاهُمْ، عَظَّمَ جِنَايَتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهَا تَعْظِيمَ رَحْمَتِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ جَلَّتْ وَعَظُمَتْ فَإِنَّ عَفْوَهُ وَكَرَمَهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ الشَّرِيطَةِ وَهِيَ وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَمَا وَرَاءَهُ طَمَعٌ فَارِغٌ، وَأَشْعَبِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا حَازِمٌ اهـ. وَأَقُولُ إِنَّ طَمَعَ أَكْثَرِ الْفُسَّاقِ بِالْمَغْفِرَةِ قَدْ ذَهَبَ بِحُرْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى اسْتَحَلَّ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَانُوا شَرًّا مِمَّنْ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ (3: 24) وَمَا طَمَعُهُمْ بِثَمَرَةِ إِيمَانٍ، بَلْ أَمَانِيَّ حُمْقٍ وَجَدَلٍ عَلَى أَطْرَافِ اللِّسَانِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ثُمَّ قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى بَعْدَ غَضَبِهِ فَقَالَ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةً لِلَّذِينِ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ السُّكُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَرْكُ الْكَلَامِ فَهُوَ هُنَا مَجَازُ تَشْبِيهٍ أَوْ تَمْثِيلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْوِيرِ الْغَضَبِ بِشَخْصٍ ذِي قُوَّةٍ وَرِيَاسَةٍ يَأْمُرُ وَيَنْهَى فَيُطَاعُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَثَلٌ كَأَنَّ الْغَضَبَ كَانَ يُغْرِيهُ عَلَى مَا فَعَلَ وَيَقُولُ لَهُ: قُلْ لِقَوْمِكَ كَذَا، وَأَلْقِ الْأَلْوَاحَ، وَجُرَّ بِرَأْسِ أَخِيكَ إِلَيْكَ - فَتَرَكَ النُّطْقَ بِذَلِكَ وَقَطَعَ الْإِغْرَاءَ، (قَالَ) : وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كُلُّ ذِي طَبْعٍ سَلِيمٍ وَذَوْقٍ صَحِيحٍ إِلَّا لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ شُعَبِ الْبَلَاغَةِ، وَإِلَّا فَمَا لِقِرَاءَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ " وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ " (وَهِيَ مِنَ الشَّوَاذِّ) لَا تَجِدُ النَّفْسُ عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْهِزَّةَ، وَطَرَفًا مِنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ اهـ.

155

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ غَضَبُ مُوسَى بِاعْتِذَارِ أَخِيهِ، وَلَجَأَ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ يَدْعُو رَبَّهُ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمَا عَادَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الَّتِي أَلْقَاهَا فَأَخَذَهَا، وَفِي نُسْخَتِهَا - أَيْ: مَا نُسِخَ وَكُتِبَ مِنْهَا فَهِيَ مِنَ النَّسْخِ كَالْخُطْبَةِ مِنَ الْخِطَابِ - هُدًى وَإِرْشَادٌ مِنَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِلَّذِينِ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ وَيَخْشَوْنَ عِقَابَهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالِاسْتِعْدَادِ، أَوْ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا الِاخْتِيَارُ صِيغَةُ تَكَلُّفٍ مِنْ مَادَّةِ الْخَيْرِ كَالِانْتِقَاءِ مِنَ النِّقْيِّ - بِالْكَسْرِ - وَحَقِيقَتُهُ دُهْنُ الْعِظَامِ، وَمَجَازُهُ لُبَابُ كَلِّ شَيْءٍ، وَالِاصْطِفَاءُ مِنَ الصَّفْوِ - وَالِانْتِخَابُ مِنَ النَّخْبِ، وَأَصْلُهُ انْتِزَاعُ الصَّقْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ قَلْبَ الطَّائِرِ، ثُمَّ صَارَ يُقَالُ

لِكُلِّ مَنِ انْتَزَعَ لُبَّ الشَّيْءِ وَخِيَارِهِ: نَخَبَهُ وَانْتَخَبَهُ، وَتُطْلَقُ النُّخْبَةُ (بِالضَّمِّ مَعَ سُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا) عَلَى الْجَيِّدِ الْمُخْتَارِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا أَطْلَقُوا النَّخِبَ وَالنَّخِيبَ وَالْمُنْتَخَبَ عَلَى الْجَبَانِ الَّذِي لَا فُؤَادَ لَهُ، وَالْأَفِينُ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ، كَأَنَّهُ انْتُزِعَ فُؤَادُهُ وَعَقْلُهُ بِالْفِعْلِ. وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: وَانْتَخَبَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ لِلْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ، وَدَعَاهُمْ لِلذَّهَابِ مَعَهُ إِلَى حَيْثُ يُنَاجِي رَبَّهُ مِنْ جَبَلِ الطُّورِ، فَالِاخْتِيَارُ يَكُونُ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَشَيْءٍ مُخْتَارٍ مِنْهُ، فَيَتَعَدَّى لِلثَّانِي بِـ " مِنْ "، وَكَأَنَّ نُكْتَةَ حَذْفِ " مِنْ " الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ خِيَارَ قَوْمِهِ كُلَّهُمْ لَا طَائِفَةً مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَيْ: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ رَجْفَةُ الْجَبَلِ وَصُعِقُوا قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ إِنَّنِي أَتَمَنَّى لَوْ كَانَتْ سَبَقَتْ مَشِيئَتُكَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِمْ مَعِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ فَأَهْلَكْتَهُمْ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ، حَتَّى لَا أَقَعُ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُوا: قَدْ ذَهَبَ بِخِيَارِنَا لِإِهْلَاكِهِمْ - أَيْ: وَإِذْ لَمْ تَفْعَلْ مِنْ قَبْلُ فَأَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ أَلَّا تَفْعَلَ الْآنَ - وَهَذَا مَفْهُومُ التَّمَنِّي فَقَدْ أَرَادَهُ مُوسَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَطَقَ بِهِ إِذَا كَانَتْ لُغَتُهُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلُغَتِنَا، وَكَانَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ التَّمَنِّي الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدَ أَنْ أَفَاقَ مُوسَى مِنْ صَعْقَةِ تَجَلِّي رَبِّهِ لِلْجَبَلِ عَقِبَ سُؤَالِهِ الرُّؤْيَةَ؛ إِذْ كَانَ مَنْ مَعَهُ مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَهُ فِي مَكَانٍ وَضَعَهُمْ فِيهِ غَيْرِ مَكَانِ الْمُنَاجَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ أَوْ كَانَ بَعْدَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ ذَهَبُوا لِلِاعْتِذَارِ وَتَأْكِيدِ التَّوْبَةِ وَطَلَبِ الرَّحْمَةِ؟ وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ أَخْذِ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ، هَلْ كَانَ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - جَهْرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ سَبَبًا آخَرَ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَاخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا فَوَفَدَ بِهِمْ لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ، وَكَانَ فِيمَا دَعَوُا اللهَ أَنْ قَالُوا: اللهُمَّ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ قَبْلِنَا وَلَا تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ بَعْدِنَا. فَكَرِهَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ مُوسَى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: لَنْ

نُؤْمِنَ لَكَ يَا مُوسَى حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا لَقِيتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ؟ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَاسْأَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ فِيمَا ذُكِرَ لِي - حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَخَرَجُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: يَا مُوسَى اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّنَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَةِ مُوسَى نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (2: 55) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فَالْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قَدْ سَفِهُوا أَتُهْلِكُ مِنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اهـ. أَقُولُ: كُلُّ مَا نُقِلَ عَنْ مُفَسِّرِي الْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا مَأْخُوذٌ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يُرَجِّحُ مَنْ بَعْدَهُمْ بَعْضَ أَقْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْآيَاتِ وَأَسَالِيبِهَا وَتَنَاسُبِهَا مَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ ذَكَرَتْ خَبَرَ السَّبْعِينَ مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ نَقَلْنَا الْمُهِمَّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ، وَمَجْمُوعُ عِبَارَاتِهَا مُضْطَرِبَةٌ، فَفِيهَا أَنَّ السَّبْعِينَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ وَنَادَابَ وابيهو " رَأَوْا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهَ صَنِفَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الْأَزْرَقِ الشَّفَّافِ، وَكَذَا السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوُا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا " (خُرُوجُ 24: 10، 11) وَفِيهَا أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِمُوسَى إِذَا طَلَبَ مِنْهُ رُؤْيَةَ مَجْدِهِ " لَا تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ " ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ - أَيِ: الرَّبَّ - يَضَعُهُ فِي نَقْرَةِ صَخْرَةٍ وَيَسْتُرُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَجْتَازَ - أَيِ: الرَّبُّ - قَالَ " ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى " (خُرُوجٌ 23: 18 - 23) . وَفِي سِفْرِ الْعَدَدِ وَقَائِعُ، ذُكِرَ فِيهَا غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَاتِّهَامِ اللَّاوِيِّينَ مِنْهُمْ لِمُوسَى وَهَارُونَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَالتَّرَفُّعِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُقَدَّسُونَ، وَالرَّبَّ فِي وَسَطِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ أَهْلَكَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مُوسَى يَسْتَغِيثُهُ لِيَرْفَعَ

الْهَلَاكَ عَنْهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرَ عَدَدِ السَّبْعِينَ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ عَدَدِ 250 رَجُلًا، وَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ 16 مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ وَهَاكَ بَعْضَهُ: (20) وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا (21) افْتَرِزَا مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ فِي لَحْظَةٍ (22) فَخَرَّا عَلَى وَجْهَيْهِمَا وَقَالَا اللهُمَّ إِلَهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ هَلْ يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ؟ (23) فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا (24) اطْلَعُوا مِنْ حَوَالِي مَسْكَنِ قَوْرَحَ وَدَاثَانَ وَابِيرَامَ (25) فَقَامَ مُوسَى وَذَهَبَ إِلَى دثانَ وَابِيرَامَ وَذَهَبَ وَرَاءَهُ شُيُوخُ إِسْرَائِيلَ (26) فَكَلَّمَ الْجَمَاعَةَ قَائِلًا اعْتَزِلُوا عَنْ خِيَامِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْبُغَاةِ وَلَا تَمُسُّوا شَيْئًا مِمَّا لَهُمْ لِئَلَّا تُهْلَكُوا بِجَمِيعِ خَطَايَاهُمْ (27) فَطَلَعُوا مِنْ حَوَالِي مَسْكَنِ قَوْرَحَ وَدَاثانَ وَابِيرَامَ وَخَرَجَ دَاثانُ وَابِيرَامُ وَوَقَفَا فِي بَابِ خَيْمَتَيْهِمَا مَعَ نِسَائِهِمَا وَبَنِيهِمَا وَأَطْفَالِهِمَا (28) فَقَالَ مُوسَى بِهَذَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي لِأَعْمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِي (29) إِنْ مَاتَ هَؤُلَاءِ كَمَوْتِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ فَلَيْسَ الرَّبُّ قَدْ أَرْسَلَنِي (30) وَلَكِنْ إِنِ ابْتَدَعَ الرَّبُّ بِدْعَةً وَفَتَحَتِ الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَكُلَّ مَالِهِمْ فَهَبَطُوا أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدِ ازْدَرَوْا بِالرَّبِّ (31) فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّكَلُّمِ بِكُلِّ هَذَا الْكَلَامِ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَهُمْ (32) وَفَتَحَتِ الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَنْ كَانَ لِقَوْرَحَ مَعَ كُلِّ الْأَمْوَالِ (33) فَنَزَلُوا هُمْ وَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُمْ أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ فَبَادُوا مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ (34) وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ هَرَبُوا مِنْ صَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَعَلَّ الْأَرْضَ تَبْتَلِعُنَا (35) وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكْمَلَتِ الْمِئَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا الَّذِينَ قَرَّبُوا الْبَخُورَ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَمَبْدَأُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ 16 وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ أَخَذَهُمُ الْوَبَاءُ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا. وَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَذِكْرِ مَسْأَلَةِ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِرُؤْيَةِ اللهِ جَهْرَةً، وَأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ غَيْرُ الْأُولَى، وَنَقَلْنَا هُنَالِكَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ اخْتِيَارَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ السَّبْعِينَ، فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مُخْتَصَرٌ بِقَدْرِ الْعِبْرَةِ كَسُنَّتِهِ، وَأَنَّ السَّبْعِينَ هُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا أَوَّلًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَاتِبُ عَدَدَهُمْ ثُمَّ هَلَكَ غَيْرُهُمْ فَكَانَ الْجَمِيعُ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَوْلُ مُوسَى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْرَحَ وَجَمَاعَتِهِ مِنَ اللَّاوِيِّينَ الْمَغْرُورِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ، وَهَلِ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً لِغُرُورِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَمْ غَيْرُهُمْ؟ وَإِنْ كَانَتْ فِي عَابِدِي الْعِجْلِ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُقَلَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَصْحَابِ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا عَبَدَهُ السُّفَهَاءُ؛ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ.

إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ " إِنْ " نَافِيَةٌ، وَالْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ مُطْلَقًا أَوْ بِالْأُمُورِ الشَّاقَّةِ، وَالْبَاءُ فِي " بِهَا " لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أَيْ: مَا تَمْلِكُ الْفِعْلَةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِأَخْذِ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ إِلَّا مِحْنَتُكَ وَابْتِلَاؤُكَ الَّذِي جَعَلْتَهُ سَبَبًا لِظُهُورِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ وَمَا طُوِيَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنْ ضَلَالٍ وَهِدَايَةٍ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ وَمَثُوبَةٍ، وَسُنَّتُكَ فِي جَرَيَانِ مَشِيئَتِكَ فِي خَلْقِكَ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَالنِّظَامِ الْحَكِيمِ فِي الْخَلْقِ، تُضِلُّ بِمُقْتَضَاهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ، وَلَسْتَ بِظَالِمٍ لَهُمْ فِي تَقْدِيرِكَ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وَلَسْتَ بِمُحَابٍ لَهُمْ فِي تَوْفِيقِكَ، بَلْ أَمْرُ مَشِيئَتِكَ دَائِرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَلَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أَيْ: أَنْتَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِنَا، وَالْقَائِمُ عَلَيْنَا بِمَا تَكْتَسِبُ نُفُوسُنَا فَاغْفِرْ لَنَا مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعِقَابُ مِنْ مُخَالَفَةِ سُنَّتِكَ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَعِبَادَتِكَ، بِأَنْ تَسْتُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَتَجْعَلَهُ بِعَفْوِكَ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنَّا، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْخَاصَّةِ فَوْقَ مَا شَمَلْتَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ الْعَامَّةِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ حِلْمًا وَكَرَمًا وَجُودًا فَلَا يَتَعَاظَمُكَ ذَنْبٌ، وَلَا يُعَارِضُ غُفْرَانَكَ مَا يُعَارِضُ غُفْرَانَ سِوَاكَ مِنْ عَجْزٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ هَوَى نَفْسٍ - وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَغْفِرَةِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ - أَيْ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ رَحْمَةً وَأَوْسَعُهُمْ فِيهَا فَضْلًا وَإِحْسَانًا، فَإِنَّ رَحْمَةَ جَمِيعِ الرَّاحِمِينَ مِنْ خَلْقِكَ، نَفْحَةٌ مُفَاضَةٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ. حُذِفَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ التَّذْيِيلِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبِ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّنَاءُ بِهِمَا مَعًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُولَى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ قَطْعًا، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَارِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ الِاكْتِفَاءَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ وَلَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَلْزِمُ الْمَغْفِرَةَ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ سَلْبِيٌّ؛ وَهُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ فَوْقَ ذَلِكَ فَهِيَ إِحْسَانٌ إِلَى الْمُذْنِبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَلَا يَلِيقُ خَلْعُ الْحُلُلِ النَّفْسِيَّةِ، إِلَّا عَلَى الْأَبْدَانِ النَّظِيفَةِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ (7: 151) الْآيَةَ، وَقَالَ نُوحٌ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ سُؤَالِهِ النَّجَاةَ لِوَلَدِهِ الْكَافِرِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (11: 47) وَعَلَّمَنَا تَعَالَى مِنْ دُعَائِهِ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا (2: 286) وَقَلَّمَا ذُكِرَ اسْمُ (الْغَفُورِ) فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ إِلَّا مَقْرُونًا بِاسْمِهِ (الرَّحِيمِ) وَمِنْ غَيْرِ الْأَكْثَرِ قَرْنُهُ بِالشَّكُورِ وَبِالْحَلِيمِ وَالْوَدُودِ وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُنَّ مِنْ مَعْنَى الرَّحِيمِ، وَوَرَدَ قَرْنُهُ بِالْعَفُوِّ وَبِالْعَزِيزِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ. وَدُعَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُنَا لِنَفْسِهِ مَعَ قَوْمِهِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ قَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُنَاجَاةِ

وَالْمَعْرِفَةِ الْكَامِلَةِ، وَمَنْ كَانَ أَعْرَفُ بِاللهِ وَأَكْمَلُ اسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ، كَانَ أَشَدَّ شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ تَقْصِيرًا صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذُنُوبِ الْغَافِلِينَ وَالْجَاهِلِينَ أَوْ مِنْ بَابِ " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ " فَإِنْ كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ عَقِبَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَوَجْهُ طَلَبِهِ لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِنَفْسِهِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ ذَاكَ كَانَ ذَنْبًا لَهُ، صَرَّحَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ طَلَبِ السَّبْعِينَ رُؤْيَةً لِلَّهِ جَهْرَةً فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ مُشْتَرِكٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَثَرِ حَادِثَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَدْ عَلِمَ مَا كَانَ مِنْ شِدَّتِهِ فِيهَا عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ طَلَبَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَخِيهِ الْمَغْفِرَةَ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالرَّحْمَةِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ تَمَرُّدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي عَاقَبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِإِهْلَاكِ بَعْضِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَإِدْخَالُ نَفْسِهِ مَعَهُمْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعْطَافِ، إِذْ لَمْ يُنْقَلُ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (تَخْطِئَةُ مَنِ اتَّهَمَ الْكَلِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْجُرْأَةِ عَلَى رَبِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ) كُنْتُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِطَلَبِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامَ أَسْمَعُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقُلْ لِرَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ إِلَّا وَقَدْ كَانَ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَالْإِدْلَالِ الَّذِي يُطْلِقُ اللِّسَانُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَقَالِ، وَأَنَّ هَذَا خَيْرُ جَوَابٍ عَمَّا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ تَابَ مِنْهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَالَ الْآلُوسِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ إِقْدَامَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنْ يَقُولَ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللهِ غُفْرَانَهَا وَالتَّجَاوُزَ عَنْهَا مِمَّا يَأْبَاهُ السَّوْقُ، عِنْدَ أَرْبَابِ الذَّوْقِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ، لِيَسْتَغْفِرَهُ عَنْهُ، وَفِي نِدَائِهِ السَّابِقِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ اهـ. وَأَقُولُ: لَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِالْجُرْأَةِ وَلَا بِالْإِدْلَالِ، وَمَا كَانَ هَذَا بِالَّذِي يَخْطُرُ لِلْعَرَبِيِّ الْقُحِّ بِبَالٍ، وَلَا لِلْعَالِمِ الدَّقِيقِ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَأَسَالِيبِ الْمَقَالِ، وَسَبَبُهُ كَلِمَةُ " الْفِتْنَةِ " فَقَدِ اشْتُهِرَ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ فِيمَا أَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا إِغْرَاءُ الشَّرِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَرَاهُمْ يَتَنَاقَلُونَ اسْتِعْمَالَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (2: 191) بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَهُ أَصْلٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْحَرْبِ، وَيُوَصَفُ الشَّيْطَانُ بِالْفَتَّانِ، وَلَكِنْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْمَعَانِي الْفَرْعِيَّةِ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي تَفَرَّعَا هُمَا وَأَمْثَالُهُمَا وَأَضْدَادُهُمَا مِنْهُ - الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ وَلَا سِيَّمَا الشَّاقَّ، الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ جَيِّدُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ مِنْ رَدِيئِهِ، كَعَرْضِ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ: لِتَصْفِيَةِ الْغِشِّ مِنَ النُّضَارِ، وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ، بَلْ كُلُّ مَا أُدْخِلَ النَّارَ يُسَمَّى مَفْتُونًا، كَمَا يُقَالُ، دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ مَفْتُونٌ، وَيُسَمَّى حَجَرُ الصَّائِغِ الْفَتَّانَةَ، وَقَدْ وَرَدَ تَسْمِيَةُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ عَقِبَ الْمَوْتِ بَفَتَّانِيِ الْقَبْرِ، وَفَسَّرُوا فِتْنَةَ الْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ

(8: 28) أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا قَدْرُ وُقُوفِكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَالْتِزَامِكُمُ الْكَسْبَ الْحَلَّالَ، وَقَالَ - تَعَالَى -: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (21: 35) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَتْنَ وَالْفُتُونَ مَصْدَرَيْ فَتَنَ مَعْنَاهُمَا الِابْتِلَاءُ لِلِاخْتِبَارِ وَظُهُورِ حَقِيقَةِ حَالِ الْمَفْتُونِينَ أَوْ لِتَصْفِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمْ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لِمُوسَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (20: 85) فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ رَبِّهِ لَهُ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ فَلَا جُرْأَةَ فِيهَا وَلَا إِدْلَالَ، دَعْ مَا يَرُدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مُنَافَاتِهَا لِمَوْقِفِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ - وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لَهُ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طَه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (20: 40) أَيِ: اصْطَفَيْنَاكَ مِنَ الشَّوَائِبِ حَتَّى صِرْتَ أَهْلًا لِاصْطِنَاعِنَا وَرِسَالَتِنَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَبْلُ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: وَأَثْبِتْ وَأَوْجِبْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ حَيَاةً حَسَنَةً فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ وَبَسْطِ الرِّزْقِ، وَعِزِّ الِاسْتِقْلَالِ وَالْمُلْكِ، وَالتَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ، وَمَثُوبَةً حَسَنَةً فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِكَ وَنِيلِ رِضْوَانِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيمَا عَلَّمَنَا مِنْ دُعَائِهِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (2: 201) فَإِنْ ثَمَرَةَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: هَادَ يَهُودُ هَوْدًا (أَيْ: مِنْ بَابِ قَالَ) وَتَهَوَّدَ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ هَائِدٌ، وَقَوْمُ هُودٍ - مِثْلَ حَائِكٍ وَحُوكٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ - قَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنِّي أُمُرُؤٌ مِنْ مَدْحِهِ هَائِدُ وَفِي التَّنْزِيلِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ أَيْ: تُبْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ " إِلَى "؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى رَجَعَنَا. ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هَادَ إِذَا رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ أَوْ مِنْ شَرٍّ إِلَى خَيْرٍ، وَدَاهَ إِذْ عَقَلَ، وَيَهُودُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ قَالَ: أُولَئِكَ أُولِي مِنْ يَهُودَ بِمَدْحِهِ ... إِذَا أَنْتَ يَوْمًا قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ وَقِيلَ: إِنَّمَا هَذِهِ الْقَبِيلَةُ يَهُوذُ فَعُرِّبَتْ بِقَلْبِ الذَّالِ دَالًّا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا تُبْنَا إِلَيْكَ مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ طَلَبِ الْآلِهَةِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَقْصِيرِ خِيَارِنَا فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ طَلَبِ رُؤْيَتِكَ أَوْ مِنْ تَمَرُّدِ الْمَغْرُورِينَ عَلَى شَرِيعَتِكِ، وَكُفْرِ نِعْمَتِكَ - تُبْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْكَ فِي جُمْلَتِنَا مُسْتَغْفِرِينَ مُسْتَرْحَمِينَ كَمَا فَعَلَ أَبُونَا آدَمَ إِذْ تَابَ إِلَيْكَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَتُبْتَ عَلَيْهِ وَهَدَيْتَهُ وَاجْتَبَيْتَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَكَ فِي وَلَدِهِ - يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَضْلُ قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ التَّائِبِ الْمُنِيبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ لِلْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ وَحْيِهِ إِلَى مُوسَى فِي سُورَةِ طَه وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) وَبِمَاذَا أَجَابَهُ اللهُ - تَعَالَى -؟

156

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ سَبْقِ رَحْمَتِي غَضَبِي أَنْ أَجْعَلَ عَذَابِي خَاصًّا أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَهِيَ مِنْ صِفَاتِي الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الْعَالَمِ مُنْذُ خَلَقْتُهُ، وَالْعَذَابُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِي بَلْ مِنْ أَفْعَالِي الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى صِفَةِ الْعَدْلِ؛ وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَعَنْ تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْعَامَّةُ الْمَبْذُولَةُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلَوْلَاهَا لَهَلَكَ كُلُّ كَافِرٍ وَعَاصٍ عَقِبَ كُفْرِهِ وَفُجُورِهِ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ (35: 45) وَهُنَالِكَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ يُوجِبُهَا وَيَكْتُبُهَا تَعَالَى لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَيَبْذُلُ مَا شَاءَ مِنْهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ مِنْهُ، وَمَا كِتَابَتُهُ إِلَّا فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، وَأَمَّا الْعَذَابُ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَثْبَتَهُ، وَتَوَعَّدَ بِهِ فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَتَيِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَدْ أَفْرَطَ فِي النَّظَرِ إِلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ، وَغَفَلُوا عَنِ النَّظَرِ فِي مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَآخَرُونَ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضُ غُلَاةِ التَّصَوُّفِ؛ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَذَابَ صُورِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُذُوبَةِ، وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ مَنْ هُمْ أَحَبُّ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ - جَعَلَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ -. وَأَفْرَطَ آخَرُونَ فِي النَّظَرِ إِلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ تَعَالَى تَعْذِيبَ الْعُصَاةِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ لَا الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَلَوْلَا أَنْ صَارَ هَذَا وَذَاكَ مَذْهَبًا لَسَهُلَ جَمْعُ كَلِمَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّحْمَنِ، وَلَمَا قَالَ مِثْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنْ جَهَابِذَةِ الْبَيَانِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ أَيْ: مَنْ وَجَبَ عَلَيَّ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَسَاغٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى. فَقَدْ فَسَّرَ مَنْ يَشَاءُ تَعَالَى تَعْذِيبَهُ بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْذِيبُهُ، وَجَمَاعَتُهُ يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وُجُوبٌ عَقْلِيٌّ لَا يَدْخُلُ الْإِمْكَانُ سِوَاهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَافِي الْمَشِيئَةَ مُنَافَاةً قَطْعِيَّةً فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِهِ؟ ! ‍ يَا لَيْتَ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَنْتَحِلْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي خِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَإِذًا لَكَانَ كَشَّافُهُ حُجَّةً عَلَى أَصْحَابِهَا وَمَرْجِعًا لَهُمْ فِي تَحْرِيرِ مَعَانِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ؛ إِذْ كَانَ مِنْ أَدَقِّ عُلَمَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ فَهْمًا وَأَحْسَنِهِمْ بَيَانًا وَلَمَا فَهِمَ، وَمَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - نَظَرِيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ، بِمَعْنَى كِتَابَتِهِ وَجَعْلِهِ أَمْرًا مَقْضِيًّا، وَلَيْسَ فِي إِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ مَا فِي إِيجَابِ عُقُولِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى اسْتِعْلَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى - أَوْ مِنْ إِيهَامِ كَوْنِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَحْكُومًا

بِمَا يُنَافِي سُلْطَانَهُ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، بَلْ لَا سُلْطَانَ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُ غَيْرِهِ بِهِ وَمِنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ إِلَّا مُرَاعَاةَ الْأَدَبِ لَكَفَى. فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ؛ أَيْ: وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَسَأَكْتُبُ رَحْمَتِي كَتْبَةً خَاصَّةً، وَأُثْبِتُهَا بِمَشِيئَتِي إِثْبَاتًا لَا يَحُولُ دُونَهُ شَيْءٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ وَالتَّمَرُّدَ عَلَى رَسُولِهِمْ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَخَصَّ الزَّكَاةَ بِالذِّكْرِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ حُبِّ الْمَالِ تَقْتَضِي بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَالِاخْتِبَارِ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُونَ لِلزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنَ التَّارِكِينَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ حُبِّ الْيَهُودِ لِلدُّنْيَا وَافْتِتَانِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَنْعِ بَذْلِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ: وَسَأَكْتُبُهَا كَتْبَةً خَاصَّةً لِلَّذِينِ يُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِنَا وَصِدْقِ رُسُلِنَا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ، مَبْنِيٍّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيقَانِ دُونَ التَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَعَصَبِيَّاتِ الْأَقْوَامِ. وَنُكْتَةُ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ (الَّذِينَ) مَعَ الضَّمِيرِ (هُمْ) إِمَّا جَعْلُ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ عَامًّا لِقَوْمِهِ الَّذِينَ دَعَا لَهُمْ - مَنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْتِزَامِ التَّقْوَى، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ - وَجَعْلُ الثَّانِي خَاصًّا بِمَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَتَّبِعُونَهُ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ - وَإِمَّا لِبَيَانِ الْفَصْلِ بَيْنَ مَفْهُومِ الْإِسْلَامِ وَمَفْهُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (2: 55) لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْعَامَّةِ وَلَا الْخَاصَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَهَا، بَلْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمِصْرِيِّينَ - وَبَيَانُ أَنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِسْلَامِ؛ وَهُوَ إِتْبَاعُ الرُّسُلِ بِالْفِعْلِ - وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِالْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ الْمَانِعِ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى الشِّرْكِ بِمِثْلِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَالْمُقْتَضَى لِاتِّبَاعِ مَنْ يَأْتِي مِنَ الرُّسُلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَفِي هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِصِفَةِ مَنْ يَكْتُبُ تَعَالَى لَهُمُ الرَّحْمَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ اسْتِجَابَةَ دُعَائِهِ بِشَرْطِهِ، وَيَلِيهِ بَيَانُ أَحَقِّ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ؛ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ إِلَى أُمَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فَصَلَ الِاسْمَ الْمَوْصُولَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَخِيرِ أَوْ لِلْمَوْصُولَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ مَعًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ، وَلَوْ وَصَلَهُ فَقَالَ: " وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ " إِلَخْ. لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ فِي الْمَفْهُومِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَخِيرِ مَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَيَتَّبِعُونَهُ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ

وَبَعْدَ زَمَنِهِ، وَيُرَادُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولَيْنِ فِي زَمَنِ مُوسَى، وَمَا بَعْدَهُ إِلَى زَمَنِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَمَعْنَى الْفَصْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ اتِّحَادُ الْمَوْصُولَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي الْمَفْهُومِ وَالْمَاصَدَقِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ كَتْبَةً خَاصَّةً هِيَ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَاتُ الْمَوْصُولَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ نِسْبَةً إِلَى الْأُمِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُسَمُّونَ الْعَرَبَ بِالْأُمِّيِّينَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ لَقَبًا لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ دُونَ أَهْلِ الْيَمَنِ. لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْخَوَنَةِ مِنَ الْيَهُودِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ (3: 75) الْعُمُومُ وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (62: 2) وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَعَثَ نَبِيًّا أُمِّيًّا غَيْرَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ لَا يُشَارِكُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالْأُمِّيَّةُ آيَةٌ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ، فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِأَعْلَى الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَهِيَ مَا يَصْلُحُ مَا فَسَدَ مِنْ عَقَائِدِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَعَمِلَ بِهَا فَكَانَ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَتَعْرِيفُ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ الْمَوْصُوفِ بِالْأُمِّيَّةِ كِلَاهُمَا لِلْعَهْدِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّسُولُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ الرَّسُولِ عَلَى النَّبِيِّ هُنَا كَوْنُهُ أَهَمُّ وَأَشْرَفُ أَوْ أَنَّهُمَا ذُكِرَا هُنَا بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ كَقَوْلِهِ: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ نُكْتَةِ التَّقْدِيمِ أَظْهَرُ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ وَصْفٌ مُمَيَّزٌ لِلرَّسُولِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اتِّبَاعُهُ مَتَى بُعِثَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (3: 81) إِلَى آخِرِ آيَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالنَّبِيُّ فِي اللُّغَةِ (فَعِيلٌ) مِنْ مَادَّةِ النَّبَأِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، أَوْ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ وَعُلُوِّ الشَّأْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ لَا تَهْمِزُهُ بَلْ نُقِلَ أَنَّهُ لَمْ يَهْمِزْهُ إِلَّا أَهْلُ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ قَالَ لَهُ: يَا نَبِيءَ اللهِ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَالنَّبِيُّ مَنْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْبَأَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِكَسْبِهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ حُكْمٍ يَعْلَمُ بِهِ عَلِمَا ضَرُورِيًّا أَنَّهُ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالرَّسُولُ نَبِيٌّ أَمَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِتَبْلِيغِ شَرْعٍ وَدَعْوَةِ دِينٍ وَبِإِقَامَتِهِ بِالْعَمَلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَحْيِ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا يُقْرَأُ وَيُنْشَرُ، وَلَا شَرْعًا جَدِيدًا يُعْمَلُ بِهِ وَيُحْكَمُ بَيْنَ النَّاسِ

157

بَلْ قَدْ يَكُونُ تَابِعًا لِشَرْعِ غَيْرِهِ كَالرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ عَمَلًا وَحُكْمًا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا (5: 44) الْآيَةَ. وَقَدْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِهِ كَمَا نَسَخَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَأَقَرَّ أَكْثَرَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً لِمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (3: 50) وَسِيرَتُهُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَفِيهَا أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ (أَيِ: التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ تَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتَ فَخَصَّهُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلْ نَرَى فِرَقَ النَّصَارَى الرَّسْمِيِّينَ بَعْدَ تَكْوِينِ نِظَامِ الْكَنِيسَةِ قَدْ تَرَكُوا مَا عَدَا الْوَصَايَا الْعَشْرِ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَاسْتَبْدَلُوا يَوْمَ الْأَحَدِ بِيَوْمِ السَّبْتِ فِيمَا حَرَّمَتِ الْوَصَايَا مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ، وَخَالَفَ الْأَكْثَرُونَ وَصِيَّةَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ عَلَى هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ فِي عُرْفِ شَرْعِنَا مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ، وَإِذَا أُطْلِقَ الرَّسُولُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَعَمُّ مِنَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ. فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَجِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ كَأَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ فِي نَصِّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ جَوَازُ تَسْمِيَتِهِ رَسُولًا فِي عُرْفِ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا الْعُرْفِ عَدُّوهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَجِبُ مَعْرِفَةُ رِسَالَتِهِمْ، وَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ تَأْوِيلَاتٍ تَجِدُهَا هُنَالِكَ. وَصَفَ اللهُ الرَّسُولَ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ بِصِفَاتٍ وَنُعُوتٍ: أَوَّلُهَا - (أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْكَامِلُ) ثَانِيهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَجِدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ صِفَتَهُ وَنُعُوتَهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا

ذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَالسِّيَاقُ فِي قَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ بِالذَّاتِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ: لَمْ أُبْعَثْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ تَلَامِيذَهُ أَنْ يُكْرِزُوا بِالْإِنْجِيلِ فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا، إِذْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ (الْيَهُودِيَّةَ) وَالْعِبَارَةُ الْأَوْلَى نَصٌّ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا بِاسْمِهِ وَنُعُوتِهِ الشَّرِيفَةِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ هُوَ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ أَوْ وَصْفَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَالظَّرْفُ (عِنْدَهُمْ) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَأَنَّ شَأْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ لَا يَغِيبُ عَنْهُمْ اهـ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ. ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا - قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ بِعْثَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ. وَالْمَعْرُوفُ مَا تَعْرِفُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ حُسْنَهُ، وَتَرْتَاحُ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ لَهُ لِنَفْعِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَاقِلُ الْمُنْصِفُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَالْمُنْكَرُ مَا تَنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالْمُنْكَرِ بِمَا نَهَتْ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْمَاءِ بِالْمَاءِ. وَكَوْنُ مَا قُلْنَاهُ يُثْبِتُ مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ وِفَاقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَخِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ مَرْدُودٌ إِطْلَاقُهُ بِأَنَّنَا إِنَّمَا نُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَنُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ اتِّبَاعًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَهْمِ السَّلَفِ لَهُمَا فَلَا نُنْكِرُ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِحُسْنِ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَلَا نُقَيِّدُ التَّشْرِيعَ بِعُقُولِنَا، وَلَا نُوجِبُ عَلَى اللهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِشَيْءٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ إِنْ شَاءَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ شَاءَ، وَأَنَّ مِنَ الشَّرْعِ مَا لَمْ تَعْرِفِ الْعُقُولُ حُسْنَهُ قَبْلَ شَرْعِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى يُطَاعُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (16: 36) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ، وَأَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا

سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبَشَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ. خَامِسُهَا وَسَادِسُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الطَّيِّبُ مَا تَسْتَطِيبُهُ الْأَذْوَاقُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ التَّغْذِيَةُ النَّافِعَةُ، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا أُخِذَ بِحَقٍّ وَتَرَاضٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا تَمُجُّهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ ذَوْقًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، أَوْ تَصُدُّ عَنْهُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ لِضَرَرِهِ فِي الْبَدَنِ كَالْخِنْزِيرِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنْ أَكْلِهِ الدُّودَةُ الْوَحِيدَةُ، أَوْ لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ - أَيْ: لَا مَا يَذْبَحُ لِتَكْرِيمِ الضِّيفَانِ؛ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ سُلْطَانٍ - وَالَّذِي يَحْرُمُ ذَبْحُهُ أَوْ أَكْلُهُ لِتَشْرِيعٍ بَاطِلٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ - كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ وَالسُّحْتِ. وَقَدْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - حَرَّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلْتَ لَهُمْ (4: 160) الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَحَرَّمُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُخْرَى لَمْ يُحْرِّمْهَا اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، وَأَحَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ أَكْلَ أَمْوَالٍ غَيْرَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ اسْتِحْلَالِ بَعْضِهِمْ أَكَلَ مَا يَأْتَمِنُهُمْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (3: 75) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. سَابِعُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْإِصْرُ: الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ؛ أَيْ: يَحْبِسُهُ مِنَ الْحَرَاكِ لِثِقَلِهِ، وَهُوَ مَثَلٌ لِثِقَلِ تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ نَحْوَ اشْتِرَاطِ قَتْلِ الْأَنْفُسِ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ مَثَلٌ لِمَا كَانَ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَ لِلثَّانِي عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْ شِدَّةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمِيرَيْهِ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: " بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا " وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. حَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِيمَا أُخِذُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ كَالَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالًا يَئِطُّ مِنْهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُوثَقٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ فِي عُنُقِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى حِكْمَةَ أَخْذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

خَفَّفَ عَنْهُمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الرُّوحِيَّةِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْأُولَى، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي الْأُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا وَذَاكَ قَدْ جَعَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - تَرْبِيَةً مَوْقُوتَةً لِبَعْضِ عِبَادِهِ، لِيَكْمُلَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلشَّرِيعَةِ الْوُسْطَى الْعَادِلَةِ السَّمْحَةِ الرَّحِيمَةِ الَّتِي يَبْعَثُ بِهَا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَطْلُبُ التَّعْزِيرَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الرَّدِّ وَالضَّرْبِ وَالْمَنْعِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْزِيرُ النُّصْرَةُ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَزَّرُوهُ: عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ. لَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرُسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (48: 9) وَالْأَقْرَبُ إِلَى فِقْهِ اللُّغَةِ مَا حَقَّقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ هُنَا قَالَ: (وَعَزَّرُوهُ) وَمَنَعُوهُ حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَيْهِ عَدُوٌّ، وَأَصْلُ الْعَزْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ عَنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ أَلَا تَرَى إِلَى تَسْمِيَتِهِ الْحَدَّ، وَالْحَدُّ هُوَ الْمَنْعُ اهـ. جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - بَعْدَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبَيلِ الْأَضْدَادَ. وَالْعَزْرُ النَّصْرُ بِالسَّيْفِ. وَعَزَّرُوهُ عَزْرًا، وَعَزَّرَهُ (تَعْزِيرًا) أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ وَنَصَرَهُ، قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَقَالَ - تَعَالَى -: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (5: 12) جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: لِتَنْصُرُوهُ بِالسَّيْفِ، وَمَنْ نَصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ فَقَدْ نَصَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: عَظَّمْتُمُوهُمْ، وَقِيلَ: نَصَرْتُمُوهُمْ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَاللهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَزْرَ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا؛ أَيْ: أَدَّبْتُهُ، إِنَّمَا تَأْوِيلُهُ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ، كَمَا إِذَا نَكَّلْتُ بِهِ؛ تَأْوِيلُهُ: فَعَلْتُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُنَكَّلَ مَعَهُ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، فَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُمُوهُمْ نَصَرْتُمُوهُمْ بِأَنْ تَرُدُّوا عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ الْأَجْوَدُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ، وَالنُّصْرَةُ إِذَا وَجَبَتْ فَالتَّعْظِيمُ دَاخِلٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ أَوِ الذَّبُّ عَنْ دِينِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا - أَيْ: يُؤْمِنُونَ - بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ عِنْدَ مَبْعَثِهِ؛ أَيْ: مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَمِنْ كُلِّ قَوْمٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْهُمْ؛ بَلْ أَطْلَقَ - وَيُعَزِّرُونَهُ بِأَنْ يَمْنَعُوهُ وَيَحْمُوهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا كَمَا يَحْمُونَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ مَعَ الْكُرْهِ وَالِاشْمِئْزَازِ وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَالسِّنَانِ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الْأَعْظَمَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ أَيِ الْفَائِزُونَ بِالرَّحْمَةِ الْعُظْمَى وَالرِّضْوَانِ، دُونَ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَمِنْهُمُ الْفَائِزُونَ بِدُونِ مَا يَفُوزُ بِهِ هَؤُلَاءِ، كَأَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمُ الْخَائِبُونَ الْمَخْذُولُونَ؛ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

(فَصْلٌ فِي بَيَانِ بِشَارَاتِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا) بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَنَا ذِكْرُ بِشَارَاتِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَبَعْضُهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَهَارِسِهِمَا، وَنُرِيدُ هُنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَافِيًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنَاسِبُ لَهُ أَتَمَّ الْمُنَاسَبَةِ، فَنَقُولُ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَنَاقَلُونَ خَبَرَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَذْكُرُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ مَنْ كُتُبِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا بَعَثَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ -، وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا قِصَّةُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَمَّا الَّذِينَ أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَكْتُمُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَيُؤَوِّلُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَيَكْتُمُونَهُ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرْبَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا الْإِفْرِنْجَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ؛ لِذَلِكَ وَضَّحَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) بِأُمُورٍ جَعَلَهَا مُقَدِّمَاتٍ لِبِشَارَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْنَا أَنْ نَقْتَبِسَهَا بِنَصِّهَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي سِيَاقِ مَسَالِكِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَصُّهُ: (الْمَسْلَكُ السَّادِسُ) أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ عَنْ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَلَمَّا كَانَ الْقِسِّيسُونَ يُغَلِّطُونَ الْعَوَامَّ فِي هَذَا الْبَابِ تَغْلِيطًا عَظِيمًا، اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أُقَدِّمَ عَلَى نَقْلِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أُمُورًا ثَمَانِيَةً تُفِيدُ النَّاظِرَ بَصِيرَةً. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ مِثْلَ: أَشْعِيَا وَأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَحِزْقِيَالَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الْآتِيَةِ، كَحَادِثَةِ بُخْتُ نَصَّرَ، وَقُورَشَ وَالْإِسْكَنْدَرِ وَخُلَفَائِهِ. وَحَوَادِثِ أَرْضِ أَدُومَ وَمِصْرَ وَنِينَوَى وَبَابِلَ، وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَلَّا يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ خُرُوجِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ وَقْتَ ظُهُورِهِ كَأَصْغَرِ الْبُقُولِ، ثُمَّ صَارَ شَجَرَةً عَظِيمَةً تَنْأَوِي طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا، فَكَسَرَ الْجَبَابِرَةَ وَالْأَكَاسِرَةَ، وَبَلَغَ دِينُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَغَلَبَ الْأَدْيَانَ وَامْتَدَّ دَهْرًا بِحَيْثُ مَضَى عَلَى ظُهُورِهِ مُدَّةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَيَمْتَدُّ إِنْ

شَاءَ اللهُ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَظَهَرَ فِي أُمَّتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْحُكَمَاءِ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالسَّلَاطِينِ الْعِظَامِ. وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ كَانَتْ أَعْظَمُ الْحَوَادِثِ وَمَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَادِثَةِ أَرْضِ أَدُومَ وَنِينَوَى وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الضَّعِيفَةِ وَتَرَكُوا الْأَخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ! ؟ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَدَّمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ لَا يَشْتَرِطُ فِي إِخْبَارِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِالتَّفْصِيلِ التَّامِّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْقَبِيلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَتَكُونُ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَلًا عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَاصِّ فَقَدْ يَصِيرُ جَلِيًّا بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا يَعْرِفُونَ مِصْدَاقَهُ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُتَقَدَّمَ أَخْبَرَ عَنِّي، وَظُهُورُ مُصَدِّقِ ادِّعَائِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ الِادِّعَاءِ وَظُهُورِ صِدْقِهِ يَصِيرُ جَلِيًّا عِنْدَهُمْ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلِذَلِكَ يُعَاتَبُونَ كَمَا عَاتَبَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: (52 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لِأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ، مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا، وَعَلَى مَذَاقِ الْمَسِيحِيِّينَ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا 19 (وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورْشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ، لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ 20 (فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحُ) 21 (فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَقَالَ: أَنَا لَسْتُ إِيلِيَا، فَسَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟) فَأَجَابَ: لَا) 22 فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينِ أَرْسَلُونَا مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟) 23 (قَالَ أَنَا صَوْتٌ صَارِخٌ فِي الْبَرِّيَّةِ قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ أَشْعِيَا النَّبِيُّ) 24 (وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفِرِيسِيِّينَ) 25 (فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمَّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلَا إِيلِيَا وَلَا النَّبِيَّ؟ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ 21، 25 لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ، فَالْكَهَنَةُ وَالْلَاوِيُّونَ كَانُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَعَرَفُوا أَيْضًا أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ لَكِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَنَّهُ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ إِيلِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ

الْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً فِي كُتُبِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ لِلْخَوَاصِّ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كَوْنِهِ مَسِيحًا، سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ عَنْ كَوْنِهِ إِيلِيَا أَيْضًا سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؛ أَيِ: (الْمَعْهُودُ) وَلَوْ كَانَتِ الْعَلَامَاتُ مُصَرَّحَةً لَمَا كَانَ لِلشَّكِّ مَحَلٌّ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ إِيلِيَا حَتَّى أَنْكَرَ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا، وَقَدْ شَهِدَ عِيسَى أَنَّهُ إِيلِيَا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى قَوْلُ (؟) عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا 14 (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا 10 (وَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ فَمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا) 11 (فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ إِيلِيَا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ) 12 (وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَذَلِكَ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ) 13 (حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمِدَانِ) وَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُعَرِّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، وَفَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ أَيْضًا لَمْ يَعْرِفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَأَعْظَمُ رُتْبَةٍ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانُوا اعْتَمَدُوا مِنْ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَأَوْهُ مِرَارًا، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ إِلَهِهِمْ وَمَسِيحِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ 33 مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ يَحْيَى هَكَذَا (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمَّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمَّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ) عَلَى زَعْمِ الْقِسِّيسِينَ أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَمْ يَنْزِلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ، لَعَلَّ كَوْنَ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعَذْرَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسِيحِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرُ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ يَحْيَى أَشْرَفُ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِشَهَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَإِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَهُهُ وَرَبُّهُ عَلَى زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ كَوْنُهُ إِيلِيَا يَقِينِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا النَّبِيُّ الْأَشْرَفُ نَفْسَهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَهَهُ وَرَبَّهُ إِلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ مُدَّةَ حَيَاةِ يَحْيَى أَنَّهُ إِيلِيَا، فَمَاذَا رَتَّبَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْعَوَامُّ عِنْدَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ بِخَبَرِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ وَتَرَدُّدُهُمْ فِيهِ؟ وقيافا رَئِيسَ الْكَهَنَةِ كَانَ نَبِيًّا عَلَى شَهَادَةِ يُوحَنَّا، كَمَا هُوَ - مُصَرَّحٌ

بِهِ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ، وَهُوَ أَفْتَى بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرِهِ وَأَهَانَهُ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَلَوْ كَانَتْ عَلَامَاتُ الْمَسِيحِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرَّحَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ (فِيهَا) عَلَى أَحَدٍ، مَا كَانَ مَجَالٌ لِهَذَا النَّبِيِّ الْمُفْتِي بِقَتْلِ إِلَهَهُ، وَبِكُفْرِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَتْلِهِ وَكُفْرِهِ. وَنَقَلَ مَتَّى وَلُوقَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَاجِيلِهِمْ خَبَرَ أَشْعِيَا فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَقَرَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا هَكَذَا (صَوَّتَّ الْمُنَادِي فِي الْبَرِّيَّةِ سَهِّلُوا طَرِيقَ الرَّبِّ أَصْلِحُوا فِي الْبَوَادِي سَبِيلًا لِإِلَهِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِيَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ وَلَا مَكَانِ خُرُوجِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَمَا ظَهَرَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ وَخَوَاصَّهُمْ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ النِّدَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ يَعُمُّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَادِي مِثْلَ نِدَاءِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ، وَسَيَظْهَرُ لَكَ فِي (الْأَمْرِ السَّادِسِ) حَالُ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِصِفَتِهِ مُفَصَّلًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَجَالُ التَّأْوِيلِ لِلْمُعَانِدِ. قَالَ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2: 42) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (بِالْبَاطِلِ) أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ، بِسَبَبِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا، وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّيَالَكُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: هَذَا فَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَتَى بِلَفْظِةٍ مُعْرَضَةٍ، وَإِشَارَةٍ مُدْرَجَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا انْفَكَّ كُتَّابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ بِإِشَارَاتٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْجَلِيًّا لِلْعَوَامِّ لَمَّا عُوتِبَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي كِتْمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ مِنَ الْعِبْرَانِيِّ إِلَى السُّرْيَانِيِّ، وَمِنَ السُّرْيَانِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مُحَصِّلَةَ أَلْفَاظٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ

إِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِتَعْرِيضٍ هُوَ عِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ خَفِيٌّ. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. (الْأَمْرُ الثَّالِثُ) ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا، لِمَا عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلُوا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ وَلَمَّا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ وَلِمَا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟ أَيِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ مُنْتَظَرًا مِثْلَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بِحَيْثُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ كَانَتْ كَافِيَةً، وَفِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا 40 (فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا: هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ) 41 (وَآخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ) وَظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ الْمَسِيحِ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِالْمَسِيحِ. (الْأَمْرُ الرَّابِعُ) ادِّعَاءُ أَنَّ الْمَسِيحَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ بَاطِلٌ، لِمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِلنَّبِيِّ الْمَعْهُودِ الْآخَرِ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِالْبُرْهَانِ مَجِيئُهُ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَهُوَ بَعْدُهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ الْحَوَارِيِّينَ وَبُولَسَ، بَلْ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا 27 (وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ انْحَدَرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ) 28 (وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسَ وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ الَّذِي صَارَ فِي أَيَّامِ كَلَوِدْيُوسَ قَيْصَرَ) فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ عَلَى تَصْرِيحِ إِنْجِيلِهِمْ. وَأَخْبَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ عَنْ وُقُوعِ الْجَدْبِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا 10 (وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّامًا كَثِيرَةً انْحَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَغَابُوسُ 11) فَجَاءَ إِلَيْنَا وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولَسَ وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا يَقُولُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ. هَكَذَا سَيَرْبُطُهُ الْيَهُودُ فِي أُورْشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الْأُمَمِ) وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ أَغَابُوسَ نَبِيًّا، وَقَدْ يَتَمَسَّكُونَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الِادِّعَاءِ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ الْمَنْقُولِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (احْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثَبَاتِ الْحُمْلَانِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ) وَالتَّمَسُّكُ بِهِ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ لَا الْأَنْبِيَاءِ الصَّدَقَةِ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ

قَيَّدَ بِالْكَذَبَةِ. نَعَمْ، لَوْ قَالَ: احْتَرِزُوا مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ يَجِيءُ بَعْدِي، لَكَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَجْهٌ لِلتَّمَسُّكِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ لِثُبُوتِ نُبُوَّةِ الْأَشْخَاصِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ الْأَنْبِيَاءُ الْكَذَبَةُ الْكَثِيرُونَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى بَعْدَ صُعُودِهِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الرَّسَائِلِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ فورنيثوس هَكَذَا 12 (وَلَكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لِأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِيمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ) 13 (لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ) فَمُقَدِّسُهُمْ يُنَادِي بِأَعْلَى نِدَاءٍ أَنَّ الرُّسُلَ الْكَذَبَةَ الْغَدَّارِينَ ظَهَرُوا فِي عَهْدِهِ وَقَدْ تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ. وَقَالَ آدمُ كلارك الْمُفَسِّرُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ (هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ كَانُوا يَدَّعُونَ كَذِبًا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَمَا كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا يَعِظُونَ وَيَجْتَهِدُونَ لَكِنْ مَقْصُودَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ) وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَحْبَابُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ) فَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ قَدْ ظَهَرُوا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا 9 (وَكَانَ قُبُلًا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ قَائِلًا إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ) 10 (وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَّبِعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةِ) وَفِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا (وَلَمَّا اجْتَازَا الْجَزِيرَةَ إِلَى بَاقُوسَ وَجَدَا رَجُلًا سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا اسْمُهُ باريشوع) وَكَذَا سَيَظْهَرُ الدَّجَّالُونَ الْكَذَّابُونَ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، كَمَا أَخْبَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَقَالَ: لَا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى. فَمَقْصُودُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّحْذِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَالْمُسَحَاءِ الْكَذَبَةِ لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا) وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ثِمَارُهُ عَلَى مَا عَرَفْتُ فِي الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَطَاعِنِ الْمُنْكِرِينَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَهُودَ يُنْكِرُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَيُكَذِّبُونَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ أَشَرُّ مِنْهُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَكَذَا أُلُوفٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ صِنْفِ الْقِسِّيسِينَ وَكَانُوا مَسِيحِيِّينَ ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ لِاسْتِقْبَاحِهِمْ إِيَّاهَا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَبِمِلَّتِهِ وَأَلَّفُوا رَسَائِلَ كَثِيرَةً لِإِثْبَاتِ آرَائِهِمْ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ فِي أَكْنَافِ الْعَالَمِ وَيَزِيدُ مُتَّبِعُوهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي دِيَارِ أُورُبَّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْكَارَ الْيَهُودِ هَؤُلَاءِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ

السَّلَامُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، فَكَذَا إِنْكَارُ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا. (الْأَمْرُ الْخَامِسُ) الْإِخْبَارَاتُ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ عَلَى تَفَاسِيرِ الْيَهُودِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ هُمْ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَالْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى تَفَاسِيرِهِمْ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ، وَيُفَسِّرُونَهَا وَيُؤَوِّلُونَهَا بِحَيْثُ تَصْدُقُ فِي زَعْمِهِمْ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَنَقَلَ هُنَا عِبَارَةً عَنْ مِيزَانِ الْحَقِّ بِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ) : كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَاتِ الْيَهُودِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَغَيْرُ لَائِقَةٍ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ، كَذَلِكَ تَأْوِيلَاتُ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَنَا، وَسَتَرَى أَنَّ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَنْقُلُهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ صِدْقًا مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا بَأْسَ عَلَيْنَا إِنْ لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى تَأْوِيلَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوْا فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوَلَيْسَتْ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَالْمَسِيحِيُّونَ يَدَّعُونَ أَنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يُبَالُونَ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَكَذَا نَحْنُ لَا نُبَالِي بِمُخَالَفَةِ الْمَسِيحِيِّينَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قَالُوا إِنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَتَرَى أَيْضًا أَنَّ صِدْقَهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْيَقُ مِنْ صِدْقِهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَادِّعَاؤُنَا أَحَقُّ مِنِ ادِّعَائِهِمْ. (الْأَمْرُ السَّادِسُ) مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِاعْتِقَادِ الْمَسِيحِيِّينَ ذَوُو إِلْهَامٍ، وَقَدْ نَقَلُوا الْإِخْبَارَاتِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَكُونُ هَذَا النَّقْلُ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْإِلْهَامِ، فَأَذْكُرُ نُبَذًا مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ؛ لِيَقِيسَ الْمُخَاطَبُ حَالَ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ سَلَكَ أَحَدٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ مَسْلَكَ الِاعْتِسَافِ، وَتَصَدَّى لِتَأْوِيلِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ أَوَّلًا الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِيَظْهَرَ لِلْمُنْصِفِ اللَّبِيبِ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْجَانِبَانِ، وَيُقَابِلُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَإِنْ غَمُضَ النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِخْبَارَاتِ الْعِيسَوَيِّةِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمُؤَلِّفُونَ الْمَذْكُورُونَ، وَأَوَّلُ الْإِخْبَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى عَجْزِهِ وَتَعَصُّبِهِ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي وَالْخَامِسِ أَنَّ

الْمُعَانِدَ لَهُ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّأْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْتُ عَلَى نُبُذٍ مِمَّا نَقَلَهُ مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْبَعْضَ مِنْهَا غَلَطٌ يَقِينًا، وَالْبَعْضَ مِنْهَا مُحَرَّفٌ، وَالْبَعْضَ مِنْهَا لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَّا بِالِادِّعَاءِ الْبَحْتِ وَالتَّحَكُّمِ الصَّرْفِ، ظَهَرَ أَنَّ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ الَّذِينَ لَيْسُوا ذَوِي إِلْهَامٍ وَوَحْيٍ يَكُونُ أَسْوَأَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهَا. (الْخَبَرُ الْأَوَّلُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَقَدْ عَرَفْتَ فِي بَيَانِ الْغَلَطِ الْخَمْسِينَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ مَرْيَمَ عَذْرَاءَ

وَقْتَ الْحَبْلِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالْمُنْكِرِينَ، وَلَا يَتِمُّ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ وِلَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ فِي نِكَاحِ يُوسُفِ النَّجَّارِ عَلَى تَصْرِيحِ الْإِنْجِيلِ، وَالْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ وَلَدُ يُوسُفِ النَّجَّارِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ 55 مِنَ الْبَابِ 13 مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَالْآيَةُ 45 مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ 42 مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَإِلَى الْآنِ يَقُولُونَ هَكَذَا، بَلْ أَشْنَعَ مِنْهُ. وَالْعَلَامَةُ الْأُخْرَى الْمُخْتَصَّةُ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ. (الْخَبَرُ الثَّانِي) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ مِيخَا، وَلَا تُطَابِقُ عِبَارَةُ مَتَّى عِبَارَةَ مِيخَا، فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّ مُحَقِّقِيهِمُ اخْتَارُوا تَحْرِيفَ عِبَارَةِ مِيخَا؛ لَكِنِ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِنْجِيلِ فَقَطْ وَ (هُوَ) عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلٌ. (الْخَبَرُ الثَّالِثُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟

(الْخَبَرُ الرَّابِعُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ 17، 18 مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ (1، 2) (الْخَبَرُ الْخَامِسُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ غَلَطٌ، كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.

(الْخَبَرُ السَّادِسُ) الْآيَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّهُ غَلَطٌ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ يُوجَدُ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ زَكَرِيَّا، وَلَا مُنَاسِبَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا مَتَّى؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ مَا ذَكَرَ اسْمَيْ عَصَوَيْنِ وَرَعْيِ قَطِيعٍ (فَإِنَّهُ) يَقُولُ هَكَذَا - تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ 1844 - (12 وَقُلْتُ لَهُمْ، إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَهَاتُوا أَجْرِي وَإِلَّا فَكُفُّوا، فَوَزَنُوا أَجْرِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ) 13 (وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ أَلْقِهَا إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ ثَمَنًا كَرِيمًا ثَمِّنُونِي بِهِ، فَأَخَذْتُ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ أَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ) فَظَاهِرُ كَلَامِ زَكَرِيَّا أَنَّهُ بَيَانُ حَالٍ لَا إِخْبَارٌ عَنِ الْحَادِثَةِ الْآتِيَةِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِذُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الصَّالِحِينَ مِثْلَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا مِنَ الْكَافِرِينَ مِثْلَ يَهُوذَا. (الْخَبَرُ السَّابِعُ) مَا نَقَلَهُ بُولِسُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّهُ غَلَطٌ لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (وَالْخَبَرُ الثَّامِنُ) الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بَمَكْتُوبَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزَّبُورِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ، لَكِنَّهُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ وَتَحَكُّمٌ بَحْتٌ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ هَذَا الزَّبُورِ هَكَذَا (2 أَفْتَحُ بِالْأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بِالَّذِي كَانَ قَدِيمًا 3 كُلُّ مَا سَمِعْنَاهُ وَعَرَفْنَاهُ وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا 4 وَلَمْ يُخْفُوهُ عَنْ أَوْلَادِهِمْ إِلَى الْجِيلِ الْآخَرِ إِذْ يُخْبِرُونَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّاتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي صَنَعَ 5 إِذْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ فِي يَعْقُوبَ وَوَضَعَ النَّامُوسَ

فِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ الَّذِي أَوْصَى آبَاؤُنَا لِيَعْرِفُوا بِهِ أَبْنَاءَهُمْ 6 لِكَيْ مَا يَعْلَمُ الْجِيلُ الْآخَرُ بَيْنَهُمُ الْمَوْلُودِينَ 7 فَيَقُومُونَ أَيْضًا وَيُخْبِرُونَ بِهِ أَبْنَاءَهُمْ 8 لِكَيْ يَجْعَلُوا اتِّكَالَهُمْ عَلَى اللهِ، وَلَا يَنْسَوْا أَعْمَالَ اللهِ وَيَلْتَمِسُوا وَصَايَاهُ 9 لِئَلَّا يَكُونُوا مِثْلَ آبَائِهِمُ الْجِيلِ الْأَعْرَجِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِمْ قَلْبُهُ وَلَا آمَنَتْ بِاللهِ رُوحُهُ) . وَهَذِهِ الْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَرْوِي الْحَالَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنَ الْآبَاءِ لِيُبْلِّغَهَا إِلَى الْأَبْنَاءِ عَلَى حَسَبِ عَهْدِ اللهِ، لِتَبْقَى الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةً، وَبَيَّنَ مَنِ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ حَالَ إِنْعَامَاتِ اللهِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَشَرَارَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِهَا، ثُمَّ قَالَ (66 وَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَالنَّائِمِ مِثْلَ الْجَبَّارِ الْمُفِيقِ مِنَ الْخَمْرِ 67 فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ فِي الْوَرَاءِ وَجَعَلَهُمْ عَارًا إِلَى الدَّهْرِ 68 وَأَبْعَدَ مَحَلَّهُ يُوسُفَ وَلَمْ يُخْبِرْ سِبْطَ أَفَرَامَ 69 بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا لِجَبَلِ صَهْيُونَ الَّذِي أَحَبَّ 70 وَبَنَى مِثْلِ وَحِيدِ الْقَرْنِ قَدَّسَهُ وَأَسَّسَهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَبَدِ 71 وَاخْتَارَ دَاوُدُ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ مَرَاعِي الْغَنَمِ 72 وَمِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَخَذَهُ لِيَرْعَى يَعْقُوبُ عَبْدَهُ وَإِسْرَائِيلُ مِيرَاثَهُ 73 فَرَعَاهُمْ بِدَعَةً قَبْلَهُ وَيَفْهَمُ يَدَيْهِ أَهْدَاهُمْ) . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّهُ هَذَا الزَّبُورُ فِي حَقِّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (الْخَبَرُ التَّاسِعُ) فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (14 لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِأَشْعِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ 15 أَرْضَ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ 16 الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا (1 - فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ اسْتَخَفَّتْ أَرْضُ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِي، وَفِي الْآخَرِ تَثَقَّلْتَ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ 2 الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ رَأَى نُورًا عَظِيمًا السَّاكِنُونَ فِي بِلَادِ ظِلَالِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَفَرَّقَ مَا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا، لَا دَلَالَةَ لِكَلَامِ أَشْعِيَا عَلَى ظُهُورِ شَخْصٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخْبِرُ أَنَّ حَالَ سُكَّانِ أَرْضِ زَبْلُونَ وَنَفْتَالِي كَانَ سَقِيمًا فِي سَالِفِ الزَّمَانِ ثُمَّ صَارَ حَسَنًا، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَغُ الْمَاضِي أَعْنِي: اسْتَخَفَّتْ، وَتَثَقَّلَتْ، وَرَأَى وَأَشْرَقَ، وَإِنْ عَدَلْنَا عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَجَازِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَقُلْنَا: إِنَّ رُؤْيَةَ النُّورِ وَإِشْرَاقَهُ عَلَيْهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُرُورِ الصُّلَحَاءِ بِأَرْضِهِمْ، فَادِّعَاءُ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا الْخَبَرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَطْ تَحَكُّمٌ صِرْفٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَرَّ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلِيَاءَ أُمَّتِهِ أَيْضًا الَّذِينَ زَالَتْ ظُلْمَةُ الْكَفْرِ وَالتَّثْلِيثِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَارِ بِسَبَبِهِمْ، وَظَهَرَ نُورُ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ

الْمَسِيحِ كَمَا يَنْبَغِي. وَأَكْتَفِي خَوْفًا مِنَ التَّطْوِيلِ عَلَى (؟) هَذَا الْقَدْرِ. وَنَقَلْتُ الْأَخْبَارَ الْأُخَرَ أَيْضًا فِي (إِزَالَةِ الْأَوْهَامِ) وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفَاتِي وَبَيَّنْتُ وُجُوهَ ضَعْفِهَا. (الْأَمْرُ السَّابِعُ) إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُمْ يُتَرْجِمُونَ غَالِبًا الْأَسْمَاءَ فِي تَرَاجِمِهِمْ، وَيُورِدُونَ بَدَلَهَا مَعَانِيهَا، وَهَذَا خَبْطٌ عَظِيمٌ وَمَنْشَأٌ لِلْفَسَادِ، وَأَنَّهُمْ يَزِيدُونَ تَارَةً شَيْئًا بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَلَا يُشِيرُونَ إِلَى الِامْتِيَازِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي تَرَاجِمِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ بِأَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجَدَ شَوَاهِدَ تِلْكَ الْأُمُورِ كَثِيرَةً، وَأَنَا أُورِدُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ بَعْضًا مِنْهَا. 1 - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1625 وَسَنَةَ 1831 هَكَذَا (لِذَلِكَ دَعَتِ اسْمُ تِلْكَ الْبِيرِ بِيرِ الْحَيِّ النَّاظِرْنِيِّ) فَتَرْجَمُوا اسْمَ الْبِئْرِ الَّذِي كَانَ فِي الْعِبْرَانِيِّ بِالْعَرَبِيِّ. 2 - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 (هَكَذَا سَمَّى إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَكَانٌ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 (دَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الرَّبَّ يَرَى) فَتَرْجَمَ الْمُتَرْجِمُ الْأَوَّلُ الِاسْمَ الْعِبْرَانِيِّ بِمَكَانٍ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَالْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالرَّبِّ يَرَى. 3 - وَفِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1652 وَفِي سَنَةِ 1844 هَكَذَا (فَكَتَمَ يَعْقُوبُ أَمْرَهُ عَنْ حَمْيِهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو (التَّرْجَمَةُ الْأُورْدِيِّةِ) الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1825 لَفْظُ لَابَانِ مَوْضِعُ حَمِيهِ، فَوَضَعَ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ لَفْظَ الْحَمْيِ مَوْضِعَ الِاسْمِ. 4 - وَفِي الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1625 وَسَنَةَ 1844 (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالْمُدَبِّرُ مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتِظَرُ الْأُمَمُ) فَقَوْلُهُ: (الَّذِي لَهُ الْكُلُّ) تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافَقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّسْمُ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ (وَهَذَا الْمُتَرْجِمُ تَرْجَمَ لَفْظَ شيلوه (بِالَّذِي هُوَ لَهُ) وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ السُّرْيَانِيَّةِ، وَتَرْجَمَ هَذَا اللَّفْظَ مُحَقِّقُهُمُ الْمَشْهُورُ ليكرك بِعَاقِبَتِهِ، وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1825 وَقَعَ

لَفْظُ شيلَا، وَفِي التَّرْجَمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ وَلتكيت (الَّذِي سَيُرْسِلُ) فَالْمُتَرْجِمُونَ تَرْجَمُوا لَفْظَ شيلوه بِمَا ظَهَرَ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لِلشَّخْصِ الْمُبَشَّرِ بِهِ. 5 - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1625 وَسَنَةَ 1844 (فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أهيه أشراهيه) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 (قَالَ لَهُ الْأَزَلِيَّ الَّذِي لَا يَزَالُ) فَلَفْظُ أهيه أشراهيه كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الذَّاتِ، فَتَرْجَمَهُ الْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالْأَزَلِيِّ الَّذِي لَا يَزَالُ. 6 - وَفِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1625 وَسَنَةَ 1844 هَكَذَا (تَبْقَى فِي النَّهْرِ فَقَطْ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 هَكَذَا (تَبْقَى فِي النِّيلِ فَقَطْ) . 7 - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1625 وَسَنَةَ 1844 هَكَذَا (فَابْتَنَى مُوسَى مَذْبَحًا وَدَعَا اسْمُهُ الرَّبُّ عَظَمَتِي) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 (وَبَنَى مَذْبَحًا وَسَمَّاهُ اللهُ عِلْمِي) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو مُوَافِقَةٌ لِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ فَأَقُولُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الِاخْتِلَافِ إِنَّ الْمُتَرْجِمِينَ تَرْجَمُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ. 8 - وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هَكَذَا (مِنْ مَيْعَةٍ فَائِقَةٍ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 (مِنَ الْمِسْكِ الْخَالِصِ) وَبَيْنَ الْمَيْعَةِ وَالْمِسْكِ فَرْقُ مَا فَسَّرُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ. 9 - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (أَيِ: التَّثْنِيَةِ) فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُنَاكَ (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 هَكَذَا (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى رَسُولُ اللهِ) فَهَؤُلَاءِ الْمُتَرْجِمُونَ لَوْ بَدَّلُوا فِي الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَفْظَ رَسُولِ اللهِ بِلَفْظٍ آخَرَ فَلَا اسْتِبْعَادَ مِنْهُمْ. 10، 11 تَرَكْنَا الشَّاهِدَيْنِ لِلِاخْتِصَارِ. 12 - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 وَسَنَةَ 1844 هَكَذَا (فَإِنْ أَرَدْتُمْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 (فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوهُ فَهَذَا هُوَ الْمُزْمَعُ بِالْإِتْيَانِ)

فَالْمُتَرْجِمُ الْأَخِيرُ بَدَّلَ لَفْظَ إِيلِيَا بِهَذَا، فَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ لَوْ بَدَّلُوا أَسْمَاءَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِشَارَةِ فَلَا عَجَبَ. 13 - وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 وَسَنَةَ 1831 وَسَنَةَ 1844 هَكَذَا (لَمَّا عَلِمَ يَسُوعُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1860 (لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ) فَبَدَّلَ الْمُتَرْجَمَانِ الْأَخِيرَانِ لَفْظَ يَسُوعَ - الَّذِي كَانَ عِلْمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّبِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّعْظِيمِيَّةِ، فَلَوْ بَدَّلُوا اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَلْفَاظِ التَّحْقِيرِيَّةِ لِأَجْلِ عَادَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَلَا عَجَبَ. وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى تَرْجَمَةِ الْأَسْمَاءِ وَإِيرَادِ لَفْظٍ آخَرَ بَدَلَهَا: 1 - فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: ايلِي ايلِي، لِمَاذَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلَهَيْ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا الْوي الْوي لِمَاذَا شَبَقْتَنِي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) فَلَفْظُ: أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، وَكَذَا لَفْظُ " الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي " فِي إِنْجِيلِ مُرْقُسَ، لَيْسَا مِنْ كَلَامِ الشَّخْصِ الْمَصْلُوبِ يَقِينًا، بَلْ أَلْحَقَا بِكَلَامِهِ. 2 - فِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (لَقُبُهَا بِبِوَانِ رِجْسِ أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ) فَلَفْظُ " أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ " لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ. 3 - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَقَالَ لَهَا طليثا قومي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا صَبِّيَةَ لَكِ أَقُولُ قَوْمِي) فَهَذَا التَّفْسِيرُ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. 4 - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَأَوَّهَ وَقَالَ: افثا يَعْنِي انْفَتَحَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ: افاثا، الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ لَهُ: انْفَتَحَ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1860 هَكَذَا (وَرَفْع نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهُ: افثا أَيِ: انْفَتَحَ) وَمِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّةُ اللَّفْظِ الْعِبْرَانِيِّ أَهْوَ افثا أَوِ افاثا أَوِ انْفَتَحَ لِأَجَلِ

اخْتِلَافِ التَّرَاجِمِ الَّتِي مَنْشَأُ اخْتِلَافِهَا عَدَمُ صِحَّةِ أَلْفَاظِ أُصُولِهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ لَفْظَ أَيِ: انْفَتَحَ أَوِ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمَسِيحِيَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي نَقَلْتُهَا مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ إِلَى هَاهُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ الَّذِي كَانَ لِسَانَ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْيُونَانِيِّ، وَهُوَ قَرِيبُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِبْرَانِيًّا ابْنَ عِبْرَانِيَّةٍ نَشَأَ فِي قَوْمِهِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَنَقْلُ أَقْوَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ فِي الْيُونَانِيِّ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِ أَقْوَالِهِ مَرْوِيَّةً بِرِوَايَةِ الْآحَادِ. 5 - فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنِ انْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (فَقَالَا لَهُ: رَبِّي الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ) فَقَوْلُهُ: الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ - إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمَا. 6 - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 وَسَنَةَ 1844 (قَدْ وَجَدْنَا مسيا الَّذِي تَأْوِيلُهُ الْمَسِيحُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 (مَا مَسِيحُ رَاكَّةٌ تَرْجَمَةُ آنَ كرسطوس ميباشمد يا فتيم) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1814 تُوَافِقُ الْفَارِسِيَّةُ، فَيُعْلَمُ مِنَ التَّرْجَمَتَيْنِ الْعَرَبِيَّتَيْنِ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هومسيا وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، وَمِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَأُرْدُو (أَيِ: التَّرْجَمَةِ الْأُورْدِيَّةِ) أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ هُوَ الْمَسِيحُ وكرسطوس تَرْجَمَتُهُ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1839 أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ خرسته، وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَيُّ لَفْظٍ كَانَ الْأَصْلَ؟ أَمسيا أَمِ الْمَسِيحُ أَمْ خرسته؟ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقِينًا، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّفْظُ وَالتَّفْسِيرُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْأَصْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِهِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ أَيَّامًا كَانَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أندراوس. 7 - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ بُطْرُسَ الْحَوَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 هَكَذَا (أَنْتَ تُدْعَى بِبُطْرُسَ الَّذِي تَأْوِيلُهُ الصَّخْرَةُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 (سَتُسَمَّى أَنْتَ بِالصَّفَا الْمُفَسِّرِ بِبُطْرُسَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 (ترابكيفاس كه تَرْجَمَةُ: آن سنك است تداخوا هند كرد) . أَمْطَرَ اللهُ حِجَارَةً عَلَى تَحْقِيقِهِمْ وَتَصْحِيحِهِمْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُفَسِّرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَنِ الْمُفَسَّرِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ حَالُ تَرَاجِمِهِمْ وَحَالُ تَحْقِيقِهِمْ فِي لَقَبِ إِلَهِهِمْ وَلَقَبِ خَلِيفَتِهِ كَمَا عَلِمْتَ فَكَيْفَ نَرْجُو مِنْهُمْ صِحَّةَ بَقَاءِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ لَقَبٍ مِنْ أَلْقَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! .

(ثُمَّ قَالَ بَعْدَ إِيرَادِ شَوَاهِدَ أُخْرَى مَا نَصُّهُ) : فَإِذَا كَانَتْ خَصْلَةُ أَهْلِ الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ مَا عَرَفْتَ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ أَهْلِ الدِّيَانَةِ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنِ التَّحْرِيفَ الْقَصْدِيَّ بِالتَّبْدِيلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ خِصَالِهِمْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، فَبَعْضُ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْعُلَمَاءُ الْأَسْلَافُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ الْإِمَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ تَجِدْهَا مُوَافَقَةً فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لِلتَّرَاجِمِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ فَسَبَبُهُ غَالِبًا هَذَا التَّغْيِيرُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ نَقَلُوا عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي عَهْدِهِمْ، وَبَعْدَ زَمَانِهِمْ وَقَعَ الْإِصْلَاحُ فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ السَّبَبُ اخْتِلَافُ التَّرَاجِمِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّنَا نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ إِلَى الْآنِ فِي تَرَاجِمِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى مِيزَانِ الْحَقِّ إِلَخْ. (الْأَمْرُ الثَّامِنُ) إِنَّ بُولُسَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي رُتْبَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْكَذَّابِينَ وَمُعَلِّمِي الزُّورِ وَالرُّسُلِ الْخَدَّاعِينَ الَّذِينَ ظَهَرُوا بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ عُرُوجِ الْمَسِيحِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الَّذِي خَرَّبَ الدِّينَ الْمَسِيحِيَّ، وَأَبَاحَ كُلَّ مُحَرَّمٍ لِمُعْتَقِدِيهِ، وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مُؤْذِيًا لِلطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ جَهْرًا، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْإِيذَاءَ الْجَهْرِيَّ لَا يَنْفَعُ نَفْعًا مُعْتَدًّا بِهِ؛ دَخَلَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَادَّعَى رِسَالَةَ الْمَسِيحِ، وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ الظَّاهِرِيَّ، فَفَعَلَ فِي هَذَا الْحِجَابِ مَا فَعَلَ، وَقَبِلَهُ أَهْلُ التَّثْلِيثِ لِأَجْلِ زُهْدِهِ الظَّاهِرِيِّ، وَلِأَجْلِ إِفْرَاغِ ذِمَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا قَبِلَ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمَسِيحَيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي " منتش " الَّذِي كَانَ زَاهِدًا مُرْتَاضًا، وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْفَارْقَلِيطُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَقَبِلُوهُ لِأَجْلِ زُهْدِهِ وَرِيَاضَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا. قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا مُجِيبًا لِبَعْضِ الْقِسِّيسِينَ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ هَكَذَا: " قُلْنَا ذَلِكَ - أَيْ: بُولُسَ - هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْكُمْ أَدْيَانَكُمْ، وَأَعْمَى بَصَائِرَكُمْ وَأَذْهَانَكُمْ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ دِينَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ، الَّذِي لَمْ تَسْمَعُوا لَهُ بِخَبَرٍ، وَلَا وَقَفْتُمْ مِنْهُ عَلَى أَثَرٍ، هُوَ الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَحَلَّلَ لَكُمْ كُلُّ مُحَرَّمٍ كَانَ فِي الْمِلَّةِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ أَحْكَامُهُ عِنْدَكُمْ وَتَدَاوَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ (تَخْجِيلِ مَنْ حَرَّفَ الْإِنْجِيلَ) فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِهِ فِي بَيَانِ فَضَائِحِ النَّصَارَى فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا هَكَذَا " وَقَدْ سَلَّهُمْ بُولُسُ هَذَا مِنَ الدِّينِ بِلَطِيفِ خِدَاعِهِ؛ إِذْ رَأَى عُقُولَهُمْ قَابِلَةٌ لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهَا، وَقَدْ طَمَسَ هَذَا الْخَبِيثُ رُسُومَ التَّوْرَاةِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ، وَهَكَذَا أَقْوَالُ عُلَمَائِنَا الْآخَرِينَ. فَكَلَامُهُ عِنْدَمَا مَرْدُودٌ وَرَسَائِلُهُ الْمُنْضَمَّةُ بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ

كُلُّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ، وَلَا نَشْتَرِي قَوْلَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَلَا أَنْقُلُ عَنْ أَقْوَالِهِ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْنَا. وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ أَقُولُ: إِنَّ الْأَخْبَارَ الْوَاقِعَةَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوجَدُ كَثِيرَةً إِلَى الْآنِ أَيْضًا مَعَ وُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَمَنْ عَرَفَ أَوَّلًا طَرِيقَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي ثُمَّ نَظَرَ ثَانِيًا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إِلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَقَابَلَهَا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْأَمْرِ السَّادِسِ - جَزَمَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَأَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ عَنِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ بِشَارَةً. (الْبِشَارَةُ الْأُولَى) فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (17 فَقَالَ الرَّبُّ لِي نَعَمْ جَمِيعُ مَا قَالُوا 18 وَسَوْفَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ وَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ آمُرُهُ بِهِ 19، وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْ ذَلِكَ 20 فَأَنَا النَّبِيُّ الَّذِي يَجْتَرِي بِالْكِبْرِيَاءِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي اسْمِي مَا لَمْ آمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ أَمْ بِاسْمِ آلِهَةِ غَيْرِي فَلْيَقْتُلْ 21 فَإِنْ أَجَبْتَ وَقُلْتَ فِي قَلْبِكَ كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُمَيِّزَ الْكَلَامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ 22 فَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ آيَةً أَنَّ مَا قَالَهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي اسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ فَالرَّبُّ لَمْ يَكُنْ تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَوَّرَهُ فِي تَعَظُّمِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَخْشَاهُ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ لَيْسَتْ بِشَارَةً بِيُوشَعَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَزْعُمُ الْآنَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَلَا بِشَارَةً بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا زَعَمَ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ بَلْ هِيَ بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ. (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ مُبَشَّرًا بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ هَذَا الْمُبَشِّرُ بِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ الْمَسِيحِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ يُوشَعَ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ مِثْلَكَ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا مِثْلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) وَهِيَ هَكَذَا (10 وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَ ذَلِكَ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ) إِلَخْ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ يُوشَعَ وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاحِبُ كِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ وَيُوشَعُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَتِهِ، وَكَذَا لَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى -

عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إِلَهًا وَرَبًّا - عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى - وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَبْدًا لَهُ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى زَعْمِهِمْ - صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَةِ الْخَلْقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بُولُسُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غَلَاطْيَةَ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَتِهِمْ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ الْجَحِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ، وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا دَخَلَ الْجَحِيمَ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُلِبَ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ بِالصَّلْبِ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَأَحْكَامِ الْغُسْلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ بِخِلَافِ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا فَارِغَةٌ عَنْهَا عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَا الْإِنْجِيلُ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ نَفَّاذًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " وَلَا شْكَّ أَنَّ الْأَسْبَاطَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرِينَ عِنْدَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ كَوْنَ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ " مِنْهُمْ " لَقَالَ مِنْهُمْ لَا " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ أَلَّا يَكُونَ الْمُبَشَّرُ بِهِ لَهُ عَلَاقَةُ الصُّلْبِيَّةِ وَالْبَطْنِيَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْإِخْوَةِ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ فِي وَعْدِ اللهِ لِهَاجَرَ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَعِبَارَتُهَا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (وَقِبْلَةُ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ بِنَصْبِ الْمَضَارِبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1811 هَكَذَا (بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ) وَجَاءَ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (مُنْتَهَى إِخْوَتِهِ جَمِيعِهِمْ سَكَنٌ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطُبُوعَةِ سَنَةَ 1811 هَكَذَا (أَقَامَ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ) وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَةِ هَاهُنَا بَنُو عِيسُو وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ هَكَذَا: (ثُمَّ أَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادِسَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ قَائِلًا: هَكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ كُلَّ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَنَا) وَفِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (3 وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ 4 ثُمَّ أَوْصِ الشَّعْبَ إِنَّكُمْ سَتَجُوزُونَ فِي تُخُومِ إِخْوَتِكُمْ بَنِي عِيسو الَّذِينَ فِي سَاعِيرَ وَسَيَخْشَوْنَكُمْ 5 فَلَمَّا جُزْنَا إِخْوَتَنَا بَنِي عِيسُو الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سَاعِيرَ إِلَخْ) وَالْمُرَادُ بِإِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَنُو عِيسُو، وَلَا شْكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَعْضٍ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ وَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَانِعٌ قَوِيٌّ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَا تَصْدُقْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَلَيْهِمَا.

(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " سَوْفَ أُقِيمُ " وَيُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَاخِلًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ! . (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ: " أَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ " وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَإِلَى أَنَّهُ يَكُونُ أُمِّيًّا حَافِظًا لِلْكَلَامِ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى يُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِانْتِفَاءِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِيهِ. (الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ: وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْهُ، فَهَذَا الْأَمْرُ لَمَّا ذُكِرَ لِتَعْظِيمِ هَذَا النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَازَ ذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْمُنْكِرِ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ الْكَائِنُ فِي جَهَنَّمَ، أَوِ الْمِحَنُ وَالْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ الْمُنْكِرِينَ مِنَ الْغَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِانْتِقَامَ لَا يَخْتَصُّ بِإِنْكَارِ نَبِيٍّ دُونَ نَبِيٍّ، بَلْ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِالِانْتِقَامِ الِانْتِقَامُ التَّشْرِيعِيُّ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مَأْمُورًا مِنْ جَانِبِ اللهِ بِالِانْتِقَامِ مِنْ مُنْكِرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ خَالِيَةٌ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَالْجِهَادِ. (الْوَجْهُ السَّابِعُ) فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (19 فَتُوبُوا وَارْجِعُوا كَيْ تُمْحَى خَطَايَاكُمْ 20 حَتَّى إِذَا تَأَتِي أَزْمِنَةُ الرَّاحَةِ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِ الرَّبِّ وَيُرْسِلُ الْمُنَادَى بِهِ لَكُمْ وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ 21 الَّذِي إِيَّاهُ يَنْبَغِي لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي يَسْتَرِدُّ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ 22 إِنَّ مُوسَى قَالَ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِكُمْ مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ 23 وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ لَا تَسْمَعُ ذَلِكَ النَّبِيَّ تَهْلَكُ مِنَ الشَّعْبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ. . . (حَذَفْنَا النَّصَّ الْفَارِسِيَّ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يَذْكُرُهُ مِنْ مَضْمُونِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ) : فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ سِيَّمَا بِحَسَبِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ غَيْرَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّ الْمَسِيحَ لَا بُدَّ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى زَمَانِ ظُهُورِ هَذَا النَّبِيِّ، وَمَنْ تَرَكَ التَّعَصُّبَ الْبَاطِلَ مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ - وَتَأَمَّلَ فِي عِبَارَةِ بُطْرُسَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ بُطْرُسَ يَكْفِي لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السَّبْعَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلَ صِدْقٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيُمَاثِلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ (1) كَوْنُهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ. (2) كَوْنُهُ ذَا وَالِدَيْنِ (3) كَوْنُهُ ذَا نِكَاحٍ وَأَوْلَادٍ (4) كَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى السِّيَاسَاتِ الْمَدَنِيَّةِ. (5) كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ (6) اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْعِبَادَةِ فِي شَرِيعَتِهِ. (7) وُجُوبُ الْغُسْلِ لِلْجُنُبِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي شَرِيعَتِهِ (8) اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ مِنْ

الْبَوْلِ وَالْبُرَازِ فِيهَا. (9) حُرْمَةُ غَيْرِ الْمَذْبُوحِ وَقَرَابِينِ الْأَوْثَانِ فِيهَا. (10) وَكَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. (11) أَمْرُهُ بِحَدِّ الزِّنَا. (12) تَعْيِينُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَالْقِصَاصِ (13) كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهَا. (14) تَحْرِيمُ الزِّنَا. (15) أَمْرُهُ بِإِنْكَارِ مَنْ يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ (16) أَمْرُهُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ (17) أَمْرُهُ الْأُمَّةَ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، لَا ابْنَ اللهِ أَوِ اللهَ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ (18) مَوْتُهُ عَلَى الْفِرَاشِ. (19) كَوْنُهُ مَدْفُونًا كَمُوسَى (20) عَدَمُ كَوْنِهِ مَلْعُونًا لِأَجْلِ أُمَّتِهِ. وَهَكَذَا أُمُورٌ أُخَرُ تَظْهَرُ إِذَا تُؤَمِّلَ فِي شَرِيعَتِهِمَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (73: 15) وَكَانَ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ أُمِّيًّا جَعَلَ كَلَامَ اللهِ فِي فَمِهِ، وَكَانَ يَنْطِقُ بِالْوَحْيِ كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) وَكَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ، وَقَدِ انْتَقَمَ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَالْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَظَهَرَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسِيحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى ظُهُورِهِ لِيَرُدَّ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَمْحَقَ الشِّرْكَ وَالتَّثْلِيثَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ مِنْ كَثْرَةِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ قَدْ أَخْبَرَنَا عَلَى أَتَمِّ تَفْصِيلٍ وَأَكْمَلِ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى رَيْبٌ مَا بِكَثْرَتِهِمْ وَقْتَ قُرْبِ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهَذَا الْوَقْتُ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَسَيَظْهَرُ الْإِمَامُ وَيَظْهَرُ الْحَقُّ عَنْ قَرِيبٍ، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، جَعَلْنَا اللهُ مِنْ أَنْصَارِهِ وَخُدَّامِهِ آمِينَ. (الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّهُ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى اللهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ يُقْتَلُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا حَقًّا لَكَانَ قُتِلَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَيْضًا: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (69: 44 - 46) وَمَا قُتِلَ، بَلْ قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (5: 67) وَأَوْفَى وَعْدَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى لَقِيَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ فِي حَقِّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا كَاذِبًا كَمَا يَزْعُمُهُ الْيَهُودُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ. (الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ اللهَ بَيَّنَ عَلَامَةَ النَّبِيِّ الْكَاذِبِ (وَهِيَ) أَنَّ أَخْبَارَهُ عَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَخْرُجُ صَادِقَةً، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَنِ الْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ، وَظَهَرَ صِدْقَهُ فِيهَا فَيَكُونُ نَبِيًّا صَادِقًا لَا كَاذِبًا.

(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ سَلَّمُوا كَوْنَهُ مُبَشَّرًا بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْلَمَ، وَبَعْضُهُمْ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ - كَمَا أَنَّ قيافا وَكَانَ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ وَنَبِيًّا عَلَى زَعْمِ يُوحَنَّا عَرَفَ أَنَّ عِيسَى هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بَلْ أَفْتَى بِكُفْرِهِ وَقَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ - كَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُخَيْرِيقٍ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ إِلْفَةُ دِينِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ (غَزْوَةِ) أُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَاللهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ. قَالُوا: فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ؟ قَالَ: لَا سَبْتَ ثُمَّ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَعَهِدَ إِلَى مَنْ وَرَائَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا أَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مُخَيْرِيقٍ خَيْرُ يَهُودَ " وَقَبَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَهُ، فَعَامَّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " أَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ: أَخْرِجُوا إِلَيَّ أَعْلَمَكُمْ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَاشَدَهُ بِدِينِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَطْعَمَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَظَلَّلَهُمْ مِنَ الْغَمَامِ: أَتَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ، وَأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ، وَأَنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنْ حَسَدُوكَ. قَالَ: " فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ "؟ قَالَ: أَكْرَهُ خِلَافَ قَوْمِي، عَسَى أَنْ يَتَّبِعُوكَ وَيُسْلِمُوا فَأُسْلِمُ - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ قُبَاءَ غَدَا عَلَيْهِ أَبِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ مُغَلِّسَيْنِ فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَأَتَيَا كَالَّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهَوِينَا فَهَشَشْتُ إِلَيْهِمَا فَمَا الْتَفَتَ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمَا مَعَ مَا بِهِمَا مِنَ الْهَمِّ، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ؟ (أَيِ: الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ) قَالَ: نَعَمْ وَاللهِ، قَالَ: أَتُثْبِتُهُ وَتَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاللهِ مَا بَقِيتُ أَبَدًا " - فَتِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٍ. (فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أُخُوَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّ بَنِي عِيسُو وَبَنِي أَبْنَاءِ قَطُورَا زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ إِخْوَتِهِمْ أَيْضًا (قُلْتُ) : نَعَمْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا بِخِلَافِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُمْ كَانَ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِهَاجَرَ عَلَيْهِمَا

السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِصْدَاقُ هَذَا الْخَبَرِ بَنِي عِيسُو عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى دُعَاءِ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ. وَلِعُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ اعْتِرَاضَانِ نَقَلَهُمَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِحَلِّ الْإِشْكَالِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْسَارِ. (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ 15 مِنَ الْبَابِ 18 مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ) إِلَخْ. فَلَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ " يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. (وَالثَّانِي) أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسَبَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْآيَةِ 46 مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّي) . (أَقُولُ) : آيَةُ التَّثْنِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ وَتَرَاجِمِ أُرْدُو هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ نَبِيًّا مِثْلِي فَاسْمَعْ مِنْهُ) وَالْقِسِّيسُ أَيْضًا نَقَلَهَا هَكَذَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي مَقْصُودَنَا؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهَا تَكَامَلَ أَمْرُهُ قَدْ كَانَ حَوْلَهُ بِلَادُ الْيَهُودِ كَخَيْبَرَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ إِخْوَتِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " مِنْ بَيْنِكَ " بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمُتَّبِعِيهِ الْقَائِلِينَ بِكِفَايَةِ عَلَاقَةِ الْمُلَابَسَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْبَدَلِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَخُوهُ، وَجَاءَنِي زَيْدٌ غُلَامُهُ، وَبَدْلُ إِضْرَابٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَالِكٍ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَعَادَ هَذَا الْوَعْدَ مِنْ كَلَامِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ "، وَنَقَلَ بُطْرُسُ الْحَوَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ كَمَا عَلِمْتَ فِي الْوَجْهِ السَّابِعِ، وَكَذَا نَقَلَهُ استفانوس أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي نَقْلِهِ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا: (هَذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ لَهُ تَسْمَعُونَ) فَسُقُوطُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَاحْتِمَالُ الْبَدَلِ قَوِيٌّ جِدًّا. وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِفْسَارِ: إِنَّ لَفْظَ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيٌّ زِيدَ تَحْرِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُخَاطِبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَا الْبَعْضَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْقَوْمِ، فَصَارَ لَفْظٌ مِنْ إِخْوَتِكَ لَغْوًا مَحْضًا لَا مَعْنَى لَهُ، لَكِنَّ لَفْظَ مِنْ إِخْوَتِكَ جَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ أَيْضًا، فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَلَفْظُ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيًّا زِيدَ تَحْرِيفًا (الثَّانِي) أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَقَلَ كَلَامَ اللهِ لِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ مُوسَى مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ اللهُ - (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّمَا نَقَلُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ ". وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُحَرِّفَ إِذَا حَرَّفَ فَلَمْ يُحَرِّفِ الْكَلَامَ كُلَّهُ؟ (قُلْتُ) :

نَحْنُ نَرَى فِي مَحَاكِمِ الْعَدَالَةِ دَائِمًا أَنَّ الْقَبَالَجَاتِ الْمُحَرَّفَةَ يَثْبُتُ تَحْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الْمُحَرَّفَةِ فِيهَا مِنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّ شُهُودَ الزُّورِ يُؤْخَذُ بِبَعْضِ بَيَانَاتِهِمْ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ عَلَى أَنَّ عَادَةَ اللهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَبِأَنَّهُ يُظْهِرُ خِيَانَةَ خَائِنِ الدِّينِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَادَةِ يَصْدُرُ عَنِ الْخَائِنِ شَيْءٌ مَا تَظْهَرُ بِهِ خِيَانَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ مِلَّةٌ يَكُونُ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ خَائِنِينَ. فَالْخَائِنُونَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كُتُبَ الْعَهْدَيْنِ كَانَ لَهُمْ لُحَّاظٌ مَا مِنْ جَانِبِ بَعْضِ الْمُتَدَيِّنِينَ فَلِذَلِكَ مَا بَدَّلُوا الْكُلَّ. انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ. وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: إِنَّ آيَةَ الْإِنْجِيلِ هَكَذَا (لِأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لِأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي) وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ فِي حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ بَلِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّهِ (مُطْلَقًا) وَهَذَا يَصْدُقُ إِذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا الْأَمْرَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي ذَيْلِ بَيَانِ الْبِشَارَةِ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّنَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي عَرَفْتَهَا، وَقَدِ ادَّعَى هَذَا الْمُعْتَرِضُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمِيزَانِ أَنَّ الْآيَةَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، نَعَمْ لَوْ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا أَشَارَ فِي أَسْفَارِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلَى لَكَانَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ مَجَالٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ. (الْبِشَارَةُ الثَّانِيَةُ) الْآيَةُ 21 مِنَ الْبَابِ 32 مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (هُمْ أَغَارُونِي بِغَيْرِ إِلَهٍ وَأَغْضَبُونِي بِمَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَنَا أَيْضًا أُغَيِّرُهُمْ بِغَيْرِ شَعْبٍ وَبِشَعْبٍ جَاهِلٍ أُغْضِبُهُمْ) وَالْمُرَادُ بِشَعْبٍ جَاهِلٍ الْعَرَبُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ سِوَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَانُوا مُحَقَّرَينَ عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ هَاجَرَ الْجَارِيَةِ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَغَارُونِي بِعِبَادَةِ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ فَأُغَيِّرُهُمْ بِاصْطِفَاءِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مُحَقَّرُونَ وَجَاهِلُونَ، فَأَوْفَى بِمَا وَعَدَ، فَبَعَثَ مِنَ الْعَرَبِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَدَاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (62: 2) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ

كَمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ بُولُسَ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنَ الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَانُوا فَائِقِينَ عَلَى أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَكَانَ مِنْهُمْ جَمِيعُ الْحُكَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلَ سُقْرَاطَ وَبِقِرَاطَ وَفَيثَاغُورْسَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرَسْطَاطَالِيسَ وَأَرْشَمِيدِسَ وَبِلِينَاسَ وَأَقْلِيدِسَ وَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِمِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَفُرُوعِهَا قَبْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ الْيُونَانِيُّونَ فِي عَهْدِهِ عَلَى غَايَةِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي فُنُونِهِمْ، وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَصَصِهَا، وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ سبتوجنت الَّتِي ظَهَرَتْ بِاللِّسَانِ الْيُونَانِيِّ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْنِ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْمِلَّةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَفَحِّصِينَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْحِكَمِيَّةِ الْجَدِيدَةِ كَمَا قَالَ مُقَدِّسُهُمْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ قورنيثوس هَكَذَا: (22 لِأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً 23 وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نُكَرِّزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ، فَكَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ إِمَّا مُؤَوَّلٌ أَوْ مَرْدُودٌ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّامِنِ أَنَّ قَوْلَهُ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا. (الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةُ) فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (2 وَقَالَ: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَمَعَهُ أُلُوفُ الْأَطْهَارِ فِي يَمِينِهِ سَنَةً مِنْ نَارٍ، فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ إِعْطَاؤُهُ الْإِنْجِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) وَاسْتِعْلَانُهُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ إِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ فَارَانَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَيَانِ حَالِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (21: 20 وَكَانَ اللهُ مَعَهُ وَنَمَا وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَصَارَ شَابًّا يَرْمِي بِالسِّهَامِ 21 وَسَكَنَ بَرِّيَّةَ فَارَانَ وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ) وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمَكَّةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ فَارَانَ أَيْضًا، فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ لَا يُقَالُ جَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌّ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ

أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْوَحْيَ اتَّبَعَ تِلْكَ (النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى) فِي طُورِ سَيْنَاءَ. فَكَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي سَاعِيرَ وَفَارَانَ. (الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةُ) فِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَعَدَ اللهُ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا (وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ أَسْتَجِيبُ لَكَ، هُوذَا أُبَارِكُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُكَثِّرُهُ جِدًّا فَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا وَأَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ) قَوْلُهُ: " أَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " يُشِيرُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - حَاكِيًا دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ أَيْضًا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2: 129) . وَقَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ: وَقَدْ تَفَطَّنَ بَعْضُ النُّبَهَاءِ مِمَّنْ نَشَأَ عَلَى لِسَانِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَ بَعْضَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: يَخْرُجُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ اسْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَدَدِ عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: (الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ جِدًّا جِدًّا بِتِلْكَ اللُّغَةِ " بِمَا دماد " وَعَدَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ وَالْمِيمَ الثَّانِيَةَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعُونَ وَالْحَاءُ ثَمَانِيَةٌ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ. (وَالثَّانِي) قَوْلُهُ " لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " بِتِلْكَ اللُّغَةِ " لغوي غدول " فَاللَّامُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُونَ وَالْغَيْنُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ الْجِيمِ - إِذْ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ جِيمٌ وَلَا صَادٌ - وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَالْيَاءُ عَشَرَةٌ وَالْغَيْنُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ فَمَجْمُوعُ هَذِهِ أَيْضًا اثْنَانِ وَتِسْعُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ بِتَلْخِيصٍ مَا. وَعَبْدُ السَّلَامِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ السُّلْطَانِ الْمَرْحُومِ بَايَزِيدَ خَانَ، وَصَنَّفَ رِسَالَةً صَغِيرَةً سَمَّاهَا بِالرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ فَقَالَ فِيهَا: " إِنَّ أَكْثَرَ أَدِلَّةِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِحَرْفِ الْجُمَلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ حَرْفُ أَبْجَدٍ، فَإِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ حِينَ بَنَى سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: يَبْقَى هَذَا الْبِنَاءُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا لَفْظَةَ " بزأت " ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي بمادماد لَيْسَتْ

نَفْسَ الْكَلِمَةِ بَلْ هِيَ أَدَاةٌ وَحَرْفٌ جِيءَ بِهِ لِلصِّلَةِ فَلَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ لَاحْتَاجَ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَى بَاءٍ ثَانِيَةٍ وَيُقَالُ: بيماد ماد (قُلْنَا) : مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ الْبَاءَانِ (إِحْدَاهُمَا أَدَاةٌ) (وَالْأُخْرَى) مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ تُحْذَفُ الْأَدَاةُ، وَتَبْقَى الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَعْدُودَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. أَقُولُ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مادماد كَمَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ. (الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةُ) جَاءَ فِي تَرْجَمَاتٍ سَنَةِ 1722 وَسَنَةِ 1831 وَسَنَةِ 1844 الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (49: 10 فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا. وَالْمُدَبِّرُ مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتَظِرُ الْأُمَمُ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ 1811 (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّاسِمِ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَلَفْظُ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ أَوِ الَّذِي هُوَ لَهُ تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا اللَّفْظِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ السَّلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ هَكَذَا (لَا يَزُولُ الْحَاكِمُ مِنْ يَهُوذَا وَلَا رَاسِمٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَجِيءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَمَامِ حُكْمِ مُوسَى وَعِيسَى؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ هُوَ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ يَعْقُوبَ مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى إِلَّا مُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّاسِمِ هُوَ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُوسَى إِلَى زَمَانِ عِيسَى مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَّا عِيسَى، وَبَعْدَهُمَا مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَالرَّاسِمِ مَا جَاءَ إِلَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ - أَيِ: الْحُكْمُ - بِدَلَالَةِ مَسَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) فَهِيَ عَلَامَةٌ صَرِيحَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الشُّعُوبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الزَّبُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحْكَامَ فِيهِ، وَدَاوُدُ النَّبِيُّ تَابِعٌ لِمُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنْ خَبَرِ يَعْقُوبَ هُوَ صَاحِبُ " الْأَحْكَامِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. أَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ جَبْرِيَّةٌ انْتِقَامِيَّةٌ وَمِنَ الرَّاسِمِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ لَيْسَتْ بِجَبْرِيَّةٍ وَلَا انْتِقَامِيَّةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنَ الْقَضِيبِ السَّلْطَنَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَمِنَ الْمُدَبِّرِ الْحَاكِمُ الدُّنْيَوِيُّ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ مِنْ فِرْقَةِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَمِنْ بَعْضِ تَرَاجِمِهِمْ - فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بشيلوه مَسِيحُ الْيَهُودِ كَمَا هُوَ مَزْعُومُهُمْ، وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا هُوَ مَزْعُومُ النَّصَارَى. (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ

وَالْحَاكِمَ الدُّنْيَوِيَّ زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ مُدَّةٍ هِيَ أَزْيَدُ مَنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَى الْآنِ حَسِيسُ مَسِيحِ الْيَهُودِ (وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا أَيْضًا قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمِقْدَارِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَهُوَ أَجْلَى بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَابِلَ وَكَانُوا فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً لَا سَبْعِينَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ تَغْلِيظًا لِلْعَوَامِ - كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ انتيوكس مَا وَقَعَ فَإِنَّهُ عَزَلَ أَنْيَاسَ حِبْرَ الْيَهُودِ وَبَاعَ مَنْصِبَهُ لِأَخِيهِ يَاسُونَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ يُقَدِّمُهَا لَهُ خَرَاجًا كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَبَاعَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ مِينْالَاوِسَ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةً، ثُمَّ شَاعَ خَبَرُ مَوْتِهِ فَطَلَبَ يَاسُونَ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِنَفْسِهِ الْكَهَنُوتَ، وَدَخَلَ أُورْشَلِيمَ بِأُلُوفٍ مِنَ الْجُنُودِ فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّهُ عَدُوًّا لَهُ - وَهَذَا الْخَبَرُ كَانَ كَاذِبًا - فَهَجَمَ أنتيوكس عَلَى أُورْشَلِيمَ وَامْتَلَكَهَا ثَانِيَةً فِي سَنَةِ 170 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَبَاعَ مِثْلَ ذَلِكَ عَبِيدًا وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ فِي بَيَانِ الْجَدْوَلِ التَّارِيخِيِّ فِي الصَّفْحَةِ 481 مِنَ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1852 مِنَ الْمِيلَادِ (إِنَّهُ نَهَبَ أُورْشَلِيمَ وَقَتَلَ ثَمَانِينَ أَلْفًا) اهـ، وَسَلَبَ مَا كَانَ فِي الْهَيْكَلِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قِيمَتُهَا ثَمَانِمِائَةِ وَزْنَةِ ذَهَبٍ، وَقَرَّبَ خِنْزِيرَةً وَقُودًا عَلَى الْمَذْبَحِ لِلْإِهَانَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى إِنْطَاكِيَّةَ وَأَقَامَ فَيَلْبِسُ أَحَدُ الْأَرَاذِلِ حَاكِمًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ - وَفِي رِحْلَتِهِ الرَّابِعَةِ إِلَى مِصْرَ أَرْسَلَ أَبُولُوينُوسَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جُنُودِهِ وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا أُورْشَلِيمَ، وَيَقْتُلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَيَسُبُّوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَانْطَلَقُوا إِلَى هُنَاكَ، وَبَيْنَمَا كَانَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ مُجْتَمِعِينَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ السَّبْتِ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ إِلَّا مَنْ أَفْلَتَ إِلَى الْجِبَالِ أَوِ اخْتَفَى فِي الْمُغَاوِرِ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ الْمَدِينَةِ وَأَحْرَقُوهَا وَهَدَمُوا أَسْوَارَهَا وَخَرَّبُوا مَنَازِلَهَا، ثُمَّ ابْتَنَوْا لَهُمْ مَنْ بَسَائِطِ ذَلِكَ الْهَدْمِ قَلْعَةً حَصِينَةً عَلَى جَبَلِ أَكْرَا، وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ تَشْرُفُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ نَوَاحِي الْهَيْكَلِ، وَمَنْ دَنَا مِنْهُمْ يَقْتُلُونَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ أَنْتِيُوكسُ أَثَانِيُوسَ لِيُعَلِّمَ الْيَهُودَ طُقُوسَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْيُونَانِيَّةِ، وَيَقْتُلَ كُلَّ مَنْ لَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، فَجَاءَ أَثَانِيُوسُ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ الذَّبِيحَةَ الْيَوْمِيَّةِ، وَنَسَخَ كُلَّ طَاعَةٍ لِلدِّينِ الْيَهُودِيِّ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا وَجَدَهُ مِنْ نُسْخِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِالْفَحْصِ التَّامِّ وَكَرَّسَ الْهَيْكَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَنَصَبَ صُورَةَ ذَلِكَ عَلَى مَذْبَحِ الْيَهُودِ، وَأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ وَجَدَهُ مُخَالِفًا أَمْرَ أَنْتِيُوكسَ، وَنَجَا مَتَاثَيَاسُ الْكَاهِنُ مَعَ أَبْنَائِهِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الدَّاهِيَةِ، وَفَرُّوا إِلَى وَطَنِهِمْ مُودِينَ فِي سِبْطِ دَانٍ، فَانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ - عَلَى اسْتِطَاعَتِهِ - كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوَارِيخِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ وَالْحُكُومَةِ امْتِيَازُ الْقَوْمِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمِ الْآنَ

(قُلْنَا) : هَذَا الْأَمْرُ كَانَ بَاقِيًا إِلَى ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا فِي أَقْطَارِ الْعَرَبَ ذَوِي حُصُونٍ وَأَمْلَاكٍ غَيْرَ مُطِيعِينَ لِأَحَدٍ، مِثْلَ يَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّوَارِيخُ، وَبَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَصَارُوا فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مُطِيعِينَ لِلْغَيْرِ - فَالْأَلْيَقُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بشيلوه النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَسِيحَ الْيَهُودِ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الْبِشَارَةُ السَّادِسَةُ الزَّبُورُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ هَكَذَا (1 - فَاضَ قَلْبِي كَلِمَةً صَالِحَةً أَنَا أَقُولُ أَعْمَالِي لِلْمَلِكِ 2 لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ سَرِيعُ الْكِتَابَةِ 3 بَهِيٌّ فِي الْحُسْنِ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ 4 انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ لِذَلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الدَّهْرِ 4 تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخِذِكَ أَيُّهَا الْقَوِيُّ بِحُسْنِكَ وَجَمَالِكَ 5 اسْتَلَّهُ وَانْجَحْ وَامْلُكْ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالصِّدْقِ وَتَهْدِيكَ بِالْعَجَبِ يَمِينُكَ 6 نَبْلُكَ مَسْنُونَةٌ أَيُّهَا الْقَوِيُّ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ، الشُّعُوبُ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ 7 كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ، عَصَا الِاسْتِقَامَةِ عَصَا مُلْكِكَ 8 أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ 9 الْمُرُّ وَالْمَيْعَةُ وَالسَّلِيخَةُ مِنْ ثِيَابِكَ، مِنْ مَنَازِلِكَ الشَّرِيفَةِ الْعَاجِ الَّتِي أَبْهَجَتْكَ 10 بَنَاتُ الْمُلُوكِ فِي كَرَامَتِكَ، قَامَتِ الْمَلِكَةُ مِنْ عَنْ يَمِينِكَ مُشْتَمِلَةً بِثَوْبٍ مُذَهَّبٍ مُوَشَّى 11 اسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي وَأَنْصِتِي بِأُذُنَيْكِ وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبِنْتَ أَبِيكِ 12 فَيَشْتَهِي الْمَلِكُ حُسْنَكِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكِ وَلَهُ تَسْجُدِينَ 13 بَنَاتُ صُورٍ يَأْتِينَكَ بِالْهَدَايَا، لِوَجْهِكَ يُصَلِّي كُلُّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ 14 كُلُّ مَجْدِ ابْنَةِ الْمَلِكِ مِنْ دَاخِلِ مُشْتَمِلَةٍ بِلِبَاسِ الذَّهَبِ الْمُوَشَّى 15 يَبْلُغْنَ إِلَى الْمَلِكِ عَذَارَى فِي أَثَرِهَا قَرِيبَاتُهَا إِلَيْكَ يَقْدُمْنَ 16 يَبْلُغْنَ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ يَدْخُلْنَ إِلَى هَيْكَلِ الْمَلِكِ 17 وَيَكُونُ بَنُوكَ عِوَضًا مِنْ آبَائِكَ وَتُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ عَلَى سَائِرِ الْأَرْضِ 18 سَأَذْكُرُ اسْمَكَ فِي كُلِّ جِيلٍ وَجِيلٍ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَعْتَرِفُ لَكَ الشُّعُوبُ إِلَى الدَّهْرِ وَإِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ) . مِنَ الْمُسَلَّمِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُبَشِّرُ فِي هَذَا الزَّبُورِ بِنَبِيٍّ يَكُونُ ظُهُورُهُ بَعْدَ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ إِلَى هَذَا الْحِينِ عِنْدَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الزَّبُورِ، وَيَدَّعِي عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَدَّعِي أَهْلُ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَقُولُ: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذَا الزَّبُورِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ: 1 - كَوْنُهُ حَسَنًا 2 - كَوْنُهُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ 3 - كَوْنُ النِّعْمَةِ مُنْسَكِبَةً عَلَى شَفَتَيْهِ 4 - كَوْنُهُ مُبَارَكًا إِلَى (آخَرِ) الدَّهْرِ 5 - كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ 6 - كَوْنُهُ قَوِيًّا 7 - كَوْنُهُ ذَا حَقٍّ وَدَعَةٍ وَصِدْقٍ 8 - كَوْنُ هِدَايَةِ يَمِينِهِ بِالْعَجَبِ 9 - كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً 10 - سُقُوطُ الشَّعْبِ تَحْتَهُ 11 -

كَوْنُهُ مُحِبًّا لِلْبِرِّ وَمُبْغِضًا لِلْإِثْمِ 12 - خِدْمَةُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ إِيَّاهُ 13 - إِتْيَانُ الْهَدَايَا إِلَيْهِ 14 - انْقِيَادُ كُلِّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ لَهُ 15 - كَوْنُ أَبْنَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ بَدَلَ آبَائِهِمْ 16 - كَوْنُ اسْمِهِ مَذْكُورًا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ 17 - مَدْحُ الشُّعُوبِ إِيَّاهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا تُوجَدُ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجِدَارِ " وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ " أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ ". وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كَلَامِهِ الْمُحْكَمِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (2: 253) الْآيَةَ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (2: 253) مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ رَفْعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ الْهُمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ أَيْ لَا أَقُولُ ذَلِكَ فَخْرًا لِنَفْسِي بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ رَبِّي. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ حَتَّى أَقَرَّ بِفَصَاحَتِهِ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، وَقَالَ الرُّوَاةُ فِي وَصْفِ كَلَامِهِ: إِنَّهُ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، فَكَانَ مِنَ الْفَصَاحَةِ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ وَالْمَوْضِعِ الْأَكْمَلِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (33: 56) وَأُلُوفُ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (وَغَيْرِهَا) . وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَظَاهِرٌ، وَقَدْ قَالَ هُوَ بِنَفْسِهِ " أَنَا رَسُولُ اللهِ بِالسَّيْفِ ". وَأَمَّا السَّادِسُ: فَكَانَتْ قُوَّتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رُكَانَةَ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَقَالَ: " يَا رُكَانَةُ أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ "؟ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ وَاللهِ مَا تَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْتُكَ. فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ قَالَ! نَعَمْ. فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَضَجْعَهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ عُدْ. فَصَرَعَهُ أَيْضًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ ذَا لِعَجَبٌ! فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ إِنِ اتَّقَيْتَ اللهَ وَتَبِعْتَ أَمْرِي " قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: " أَدْعُو لَك هَذِهِ الشَّجَرَةَ " فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: " ارْجِعِي مَكَانَكِ " فَرَجَعَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ

فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى. وَرُكَانَةُ هَذَا كَانَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْمُصَارِعِينَ الْمَشْهُورِينَ. وَأَمَّا شَجَاعَتُهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلَا أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " وَإِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدْوِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا ". وَأَمَّا السَّابِعُ: فَلِأَنَّ الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: " قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ قُلْتُمْ إِنَّهُ سَاحِرٌ، لَا وَاللهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ " وَسَأَلَ هِرَقْلُ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا. وَأَمَّا الثَّامِنُ: فَلِأَنَّهُ رَمَى يَوْمَ بَدْرِ، وَكَذَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وُجُوهَ الْكَفَّارِ بِقَبْضَةِ تُرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا شُغِلَ بِعَيْنِهِ، فَانْهَزَمُوا وَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا فَأَمْثَالُ هَذِهِ مِنْ عَجِيبِ هِدَايَةِ يَمِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا التَّاسِعُ: فَلِأَنَّ كَوْنَ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ أَصْحَابَ النَّبْلِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ مَرْغُوبًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ " سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجَزْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ " وَيَقُولَ: " ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا " وَيَقُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ". وَأَمَّا الْعَاشِرُ: فَلِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا فِي دِينِ اللهِ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ. وَأَمَّا الْحَادِيَ عَشَرَ: فَمَشْهُورٌ يَعْتَرِفُ بِهِ الْمُعَانِدُونَ أَيْضًا كَمَا عَرَفْتَ فِي الْمَسْلَكِ الثَّانِي. وَأَمَّا الثَّانِيَ عَشَرَ: فَقَدْ صَارَتْ بَنَاتُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ خَادِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَمِنْهَا شَهْرَيَارُ بِنْتُ يَزْدِجِرْدَ كِسْرَى فَارِسَ كَانَتْ تَحْتَ الْإِمَامِ الْهُمَامِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:

وَأَمَّا الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ وَمُنْذِرَ بْنَ سَاوِي مَلِكَ الْبَحْرِينِ وَمَلِكَ عَمَّانَ انْقَادُوا وَأَسْلَمُوا، وَهِرَقْلَ قَيْصَرَ الرُّومِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ، وَالْمُقَوْقِسَ مِلَكَ الْقِبْطِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثَ جَوَارٍ وَغُلَامًا أَسْوَدَ وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ وَحِمَارًا أَشْهَبَ وَفَرَسًا وَثِيَابًا وَغَيْرَهَا. وَأَمَّا الْخَامِسَ عَشَرَ: فَقَدْ وَصَلَ مِنْ أَبْنَاءِ الْإِمَامِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى الْخِلَافَةِ وَأُلُوفٌ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالشَّامِ وَفَارِسَ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَفَازُوا بِالسَّلْطَنَةِ وَالْإِمَارَةِ الْعَالِيَةِ، وَإِلَى الْآنَ أَيْضًا فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَفِي غَيْرِهِمَا تُوجَدُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَنْ نَسْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَظْهَرُ إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَهْدِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ نَسْلِهِ وَيَكُونُ خَلِيفَةَ اللهِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فِي عَهْدِهِ الشَّرِيفِ. وَأَمَّا السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّهُ يُنَادِي أُلُوفَ أُلُوفٍ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْمَحْصُورِينَ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَالْقُرَّاءُ يَحْفَظُونَ مَنْشُورَهُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يُفَسِّرُونَ مَعَانِيَ فُرْقَانِهِ، وَالْوُعَّاظُ يُبَلِّغُونَ وَعْظَهُ، وَالْعُلَمَاءُ وَالسَّلَاطِينُ يَصِلُونَ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَيَمْسَحُونَ وُجُوهَهُمْ بِتُرَابِ رَوْضَتِهِ وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَهُ. وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَدَّعِيهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ ادِّعَاءً بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى الْخَبَرِ الْمُنْدَرِجِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا نَصُّهُ: لَيْسَ لَهُ مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، وَرَأَيْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْظَرٌ وَاشْتَهَيْنَاهُ مُهَانًا، وَآخِرُ الرِّجَالِ رَجُلُ الْأَوْجَاعِ مُخْتَبَرًا بِالْأَمْرَاضِ، وَكَانَ مَكْتُومًا وَجْهُهُ، وَمَزْدُولًا وَلَمْ نَحْسَبْهُ وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ كَأَبْرَصَ، وَمَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَخْضُوعًا، وَالرَّبُّ شَاءَ أَنْ يَسْحَقَهُ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ ضِدُّ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِي الزَّبُورِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ حَسَنًا، وَلَا كَوْنُهُ قَوِيًّا، وَكَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ، وَلَا كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً، وَلَا انْقِيَادُ الْأَغْنِيَاءِ لَهُ، وَلَا إِرْسَالُهُمْ إِلَيْهِ الْهَدَايَا، بَلْ هُمْ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى أَخَذُوهُ وَأَهَانُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَرَبُوهُ بِالسِّيَاطِ ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَمَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا ابْنٌ، فَلَا يَصْدُقُ دُخُولُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا كَوْنُ أَبْنَائِهِ بَدَلَ آبَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ.

(فَائِدَةٌ) تَرْجَمَةُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا مُطَابِقَةً لِلتَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ لِلزَّبُورِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدِي، وَلِتَرَاجِمِ أُرْدُو لِلزَّبُورِ، وَمُوَافِقَةً لِنَقْلِ مُقَدِّسِهِمْ بُولِسَ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ رِسَالَتِهِ الْعِبْرَانِيَّةِ هَكَذَا تَرْجَمَةً عَرَبِيَّةً سَنَةَ 1821 وَسَنَةَ 1831 وَسَنَةَ 1844 (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ، وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ؛ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1828 وَسَنَةَ 1841 وَتَرَاجِمُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةُ 1839 وَسَنَةَ 1840 وَسَنَةَ 1841 مُطَابِقَةٌ لِلتَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي تَكُونُ مُخَالِفَةً لِمَا نَقَلْتُ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيَكْفِي لِرَدِّهَا إِلْزَامًا كَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي مُقَدِّمَةِ الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْإِلَهِ وَالرَّبِّ وَأَمْثَالِهِمَا جَاءَ عَلَى الْعَوَامِّ فَضْلًا عَلَى الْخَوَاصِّ، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ مِنَ الزَّبُورِ الثَّانِي وَالثَّمَانِينَ هَكَذَا (أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعُلَى كُلُّكُمْ) فَلَا يَرِدُ مَا قَالَ صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هَكَذَا (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الشَّرَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ بِدُهْنِ الْبَهْجَةِ أَفْضَلُ مِنْ رُفَقَائِكَ) وَلَا يُقَالُ لِشَخْصٍ غَيْرِ الْمَسِيحِ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ إِلَخْ. لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا صِحَّةَ تَرْجَمَتِهِ لِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِكَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ. (وَثَانِيًا) لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَقُولُ: ادِّعَاؤُهُ صَرِيحُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ اللهِ هَاهُنَا بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَهِكَ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ لَا إِلَهَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ يَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (قَدْ حَذَفْنَا هُنَا 6 بِشَارَاتٍ مِنْ 7 - 12 لِلِاخْتِصَارِ) (الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (1 وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعَمَّدَانُ يُكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِ 2 قَائِلًا: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ، وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (12 وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أَسْلَمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. . . 17 مِنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. . 23 وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيُكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ) إِلَخْ. وَفِي الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ الَّتِي عَلَّمَهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَلَامِيذَهُ هَكَذَا (10 - لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ) وَلَمَّا أَرْسَلَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ لِلدَّعْوَةِ وَالْوَعْظِ، وَصَّاهُمْ بِوَصَايَا مِنْهَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا (وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَوَقَعَ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ

مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (1 وَدَعَا تَلَامِيذَهُ الْاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ 2 وَأَرْسَلَهُمْ لِيُكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى) وَفِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (1 وَبَعْدَ ذَلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا وَأَرْسَلَهُمْ) إِلَخْ. (فَقَالَ لَهُمْ) إِلَخْ. (8 وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ (9) وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ (10) وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا (11) حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ، وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ) - فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ يَحْيَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيِّينَ وَالتَّلَامِيذِ السَّبْعِينَ بَشَّرَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَبَشَّرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَكَذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ وَالسَّبْعِينَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ مُبَشِّرٌ بِهِ، وَمُخْبَرٌ عَنْ فَضْلِهِ وَمُتَرَجٍّ لِمَجِيئِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةَ النَّجَاةِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِلَّا لَمَّا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَوَارِيُّونَ وَالسَّبْعُونَ: إِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قَدِ اقْتَرَبَ، وَلَمَّا عَلَّمَ التَّلَامِيذَ أَنْ يَقُولُوا فِي الصَّلَاةِ وَلْيَأْتِ مَلَكُوتُكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْجَلِيلَةِ، وَلَفْظُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكُوتَ يَكُونُ فِي صُورَةِ السَّلْطَنَةِ لَا فِي صُورَةِ الْمَسْكَنَةِ، وَأَنَّ الْمُحَارَبَةَ وَالْجِدَالَ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ يَكُونَانِ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّ مَبْنَى قَوَانِينِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا سَمَاوِيًّا، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَصْدُقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ شُيُوعُ الْمِلَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الدُّنْيَا بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَتَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَرُدُّهُ التَّمْثِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى مَثَلًا قَالَ: (24 يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ. . .) ثُمَّ قَالَ: (31 يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ. . .) ثُمَّ قَالَ: (33 يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ) فَشَبَّهَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ بِإِنْسَانٍ زَارِعٍ لَا بِنُمُوِّ الزِّرَاعَةِ وَحَصَادِهَا، وَكَذَلِكَ شَبَّهَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ لَا بِصَيْرُورَتِهَا شَجَرَةً عَظِيمَةً وَشَبَّهَهُ بِخَمِيرَةٍ لَا بِاخْتِمَارِ جَمِيعِ الدَّقِيقِ. وَكَذَا يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ بَيَانِ التَّمْثِيلِ الْمَنْقُولِ فِي الْبَيَانِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (43 لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ

تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ) فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ نَفْسُهَا لَا شُيُوعُهَا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الْعَالَمِ، وَإِلَّا لَا مَعْنَى لِنَزْعِ الشُّيُوعِ وَالْإِحَاطَةِ مِنْ قَوْمٍ وَإِعْطَائِهَا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ هِيَ الْمَمْلَكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا دَانْيَالُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ، فَمِصْدَاقُ هَذَا الْمَلَكُوتِ وَتِلْكَ الْمَمْلَكَةِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهُ أَعْلَمُ وَعِلْمُهُ أَتَمُّ. (الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (31 قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ (32) وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ، وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَأْوِي فِي أَغْصَانِهَا) فَمَلَكُوتُ السَّمَاءِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ، الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ كَانُوا حُقَرَاءَ عِنْدَ الْعَالَمِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي غَالِبًا وَغَيْرَ وَاقِفِينَ عَلَى الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ، مَحْرُومِينَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالتَّكَلُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ هَاجَرَ فَبَعَثَ اللهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، أَصْغَرُ الشَّرَائِعِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِكَوْنِهَا لِعُمُومِهَا نَمَتْ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، وَصَارَتْ أَكْبَرَهَا، وَأَحَاطَتْ شَرْقًا وَغَرْبًا، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ لَمَّ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِشَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ تَشَبَّثُوا بِذَيْلِ شَرِيعَتِهِ. (الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (1 فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ 2 فَاتَّفَقَ مَعَ الْعَمَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ 3 ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بِطَّالِينَ 4 فَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ فَمَضَوْا 5 وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذَلِكَ 6 ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَامًا بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هَاهُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ 7 قَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ 8 فَلِمَا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَاعْطِهِمُ الْأُجْرَةَ مُبْتَدِيًا مِنَ الْآخَرِينَ إِلَى الْأَوَّلِينَ 9 فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا 10 فَلَمَّا جَاءَ الْأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا 11 وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ 12 قَائِلِينَ: هَؤُلَاءِ الْآخَرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ 13 فَأَجَابَ

وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ أَمَّا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ 14 فَخْذِ الَّذِي لَكَ، وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنَّ أُعْطِيَ هَذَا الْأَخِيرَ مِثْلَكَ 15 أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ؛ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ 16 هَكَذَا يَكُونُ الْآخَرُونَ أَوَّلِينَ، وَالْأَوَّلُونَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ) اهـ. فَالْآخِرُونَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُمْ يُقَدَّمُونَ فِي الْأَجْرِ وَهُمُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَقَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي (الْبِشَارَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ) فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (33 اسْمَعُوا مَثَلًا آخَرَ كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجًا وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ 34 وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الْإِثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ وَسَافَرَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ 35 فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا 36 ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ 37 فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلًا: يَهَابُونَ ابْنِي 38 وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوُا الْابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ 39 فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ 40 فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟ 41 قَالُوا لَهُ أُولَئِكَ الْأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلَاكًا رَدِيًّا وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الْأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا 42 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ؟ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا 43 لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ 44 وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجْرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ 45 وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. أَقُولُ: إِنَّ " رَبُّ بَيْتٍ " كِنَايَةٌ عَنِ اللهِ، وَالْكَرْمَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَإِحَاطَتَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفْرَ الْمَعْصَرَةِ فِيهِ، وَبَنَّاءَ الْبُرْجِ كِنَايَاتٌ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.

وَإِنَّ الْكَرَّامِينَ الطَّاغِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، كَمَا فَهِمَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْعَبِيدَ الْمُرْسَلِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالِابْنَ كِنَايَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَتَلَهُ الْيَهُودُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِمْ، وَالْحَجْرَ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ كِنَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأُمَّةُ الَّتِي تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ كِنَايَةٌ عَنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ الَّذِي كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ تَرَضَّضَ، وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ. وَمَا ادَّعَاهُ عُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ: أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ عِبَارَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي الزَّبُورِ الْمِائَةِ وَالثَّامِنَ عَشَرَ هَكَذَا 22 الْحَجَرُ الَّذِي رَذَلَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ صَارَ لِلزَّاوِيَةِ 23 مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَتْ هَذِهِ وَهِيَ عَجِيبَةٌ فِي أَعْيُنِنَا) فَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ عِبَارَةً عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ آلِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَأَيُّ عَجَبٍ فِي أَعْيُنِ الْيَهُودِ عُمُومًا لِكَوْنِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأْسَ الزَّاوِيَةِ وَلَاسِيَّمَا فِي عَيْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، خُصُوصًا لِأَنَّ مَزْعُومَ الْمَسِيحِيِّينَ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُعَظِّمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَزَامِيرِهِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا، وَيَعْتَقِدُ الْأُلُوهِيَّةَ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ آلِ إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَوْلَادَ إِسْمَاعِيلَ غَايَةَ التَّحْقِيرِ فَكَانَ كَوْنُ أَحَدٍ مِنْهُمْ رَأْسًا لِلزَّاوِيَةِ عَجِيبًا فِي أَعْيُنِهِمْ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي وَصْفِ هَذَا الْحَجْرِ " كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ تَرَضَّضَ وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ " وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ قَالَ: (وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كَلَامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لَا أُدِينُهُ، لِأَنِّي لَمْ آتِ لِأُدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ) كَمَا هُوَ فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَصِدْقُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَنْبِيهِ الْفُجَّارِ الْأَشْرَارِ فَإِنْ سَقَطُوا عَلَيْهِ تَرَضَّضُوا، وَإِنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِمْ سَحَقَهُمْ. (الثَّالِثُ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ وَتُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهَا النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِي الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِي الرُّسُلُ " وَلَمَّا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى، كَمَا ذَكَرْتُ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْمَسَالِكِ السَّابِقَةِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ أَسْتَدِلَّ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِ أَيْضًا. (وَالرَّابِع) أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ غَيْرُ الِابْنِ

(الْبِشَارَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ) فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ هَكَذَا (26 وَمِنْ يَغْلِبْ وَيَحْفَظْ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ 27 فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ كَمَا أُخِذَتْ أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي 28 وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ 29 مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُ الرُّوحُ بِالْكَنَايِسِ فَهَذَا الْغَالِبُ الَّذِي أُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ وَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (48: 3) وَقَدْ سَمَّاهُ سَطِيحٌ الْكَاهِنُ صَاحِبَ الْهِرَاوَةِ - رُوِيَ أَنَّهُ لَيْلَةَ وِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ إِيوَانُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَسَقَطَ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً - وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ بِحَيْثُ صَارَتْ يَابِسَةً: وَرَأَى الْمُوبَذَانُ فِي نَوْمِهِ أَنَّ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا فَقَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَخَافَ كِسْرَى مِنْ حُدُوثِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَرْسَلَ عَبْدَ الْمَسِيحِ إِلَى سَطِيحٍ الْكَاهِنِ الَّذِي كَانَ فِي الشَّامِ، وَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهُ فَأَجَابَ سَطِيحٌ: إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَتْ بَابِلُ لِلْفُرْسِ مَقَامًا، وَلَا الشَّامُ لِسَطِيحٍ مَنَامًا، يُمَلِّكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ اهـ. ثُمَّ مَاتَ سَطِيحٌ مِنْ سَاعَتِهِ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمَسِيحِ فَأَخْبَرَ أَنُوشِرْوَانَ بِمَا قَالَ سَطِيحٌ، قَالَ كِسْرَى: إِلَى أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا كَانَتْ أُمُورٌ وَأُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَهَلَكَ آخِرُهُمْ يَزْدِجِرْدُ فِي خِلَافَتِهِ، وَالْهِرَاوَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ الْعَصَا: الضَّخْمَةُ، وَكَوْكَبُ الصُّبْحِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (4: 174) وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (64: 8) . قَالَ صَاحِبُ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ: قُلْتُ لِلْقِسِّيسِينَ ويت وَوِلْيَم عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَضِيبِ مِنْ حَدِيدٍ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْطَرَبَا بِسَمَاعِ هَذَا الْأَمْرِ وَقَالَا: إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ بِهَذَا لِكَنِيسَةِ ثِيَاتِيرَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ هُنَاكَ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَاحَ هُنَاكَ، قُلْتُ: هَذِهِ الْكَنِيسَةُ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ كَانَتْ؟ فَرَجَعَا إِلَى كُتُبِ اللُّغَةِ وَقَالَا: كَانَتْ فِي أَرْضِ الرُّومِ قَرِيبَةً فِي اسْتَانْبُولَ، قُلْتْ: رَاحَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خِلَافَةِ الْفَارُوقِ الْأَعْظَمِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَفَتَحُوهَا، وَبَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا مُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ تَسَلَّطَ عَلَيْهَا سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ أَدَامَ اللهُ سَلْطَنَتَهُمْ مِنْ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، وَهُمْ مُتَسَلِّطُونَ إِلَى هَذَا الْحِينِ. فَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى كَلَامُهُ.

قُلْتُ: إِنَّ الْفَاضِلَ عَبَّاسَ عَلِيَّ الْجَاجَمَوِيَّ الْهِنْدِيَّ صَنَّفَ أَوَّلًا كِتَابًا كَبِيرًا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّثْلِيثِ سَمَّاهُ (صَوْلَةُ الضَّيْغَمِ عَلَى أَعْدَاءِ ابْنِ مَرْيَمَ) ثُمَّ نَاظَرَ هُوَ رَحِمَهُ اللهُ ويت ووليم الْقِسِّيسَيْنِ فِي بَلَدٍ كَانْفُورَ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَأَلْزَمَهُمَا، ثُمَّ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَسَمَّى الْمُخْتَصَرَ (خُلَاصَةَ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) وَمُنَاظَرَتُهُ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ أُنَاظِرَ مِيزَانَ الْحَقِّ فِي أَكْبَرَ آبَادْ بِمِقْدَارِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. (الْبِشَارَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ) هَذِهِ الْبِشَارَةُ وَاقِعَةٌ فِي آخِرِ أَبْوَابِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا وَأَنَا أَنْقُلُهَا عَنِ التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1821 وَسَنَةَ 1831 وَسَنَةَ 1844 فِي بَلْدَةِ لَنْدَنَ فَأَقُولُ: فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (15 إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ 16 وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارْقَلِيطَ آخَرَ لِيُثْبِتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ 17 رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي لَنْ يُطِيقَ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَهُوَ ثَابِتٌ فِيكُمْ 26 وَالْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْآبُ بِاسْمِي هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ 30 وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ (وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (26 فَأَمَّا إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَبِ رُوحِ الْحَقِّ الَّذِي مِنَ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي 27 وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (7 لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لِأَنِّي إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ، فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ 8 فَإِذَا جَاءَ ذَاكَ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى حُكْمٍ (9 أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي 10 وَأَمَّا عَلَى الْبَرِّ، فَلِأَنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى الْأَبِ، وَلَسْتُمْ تَرَوْنَنِي بَعْدُ 11 وَأَمَّا عَلَى الْحُكْمِ فَأَنْ أَكُونَ (رَئِيسَ) هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دين 12 وَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ 13 وَإِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مَنْ عِنْدِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ وَيُخْبِرُكُمْ بِمَا سَيَأْتِي 14 وَهُوَ يُمَجِّدُنِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي وَيُخْبِرُكُمْ 15 جَمِيعَ مَا هُوَ لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَمِنْ أَجْلِ هَذَا قُلْتُ إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ وَيُخْبِرُكُمْ) . وَأَنَا أُقَدِّمُ قَبْلَ بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَمْرَيْنِ: (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّك قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ أَنْ يُتَرْجِمُوا غَالِبًا الْأَسْمَاءَ (أَيِ الْأَعْلَامَ) ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ لَا بِالْيُونَانِيِّ، فَإِذًا لَا يَبْقَى شَكٌّ فِي أَنَّ الْإِنْجِيلَ الرَّابِعَ تَرْجَمَ اسْمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِالْيُونَانِيِّ بِحَسْبِ عَادَتِهِمْ ثُمَّ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ عَرَّبُوا اللَّفْظَ بِفَارَقْلِيطَ، وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيَّ رِسَالَةٌ صَغِيرَةٌ بِلِسَانِ "

أُرْدُو " مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ فِي سَنَةِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ طُبِعَتْ فِي " كَلَكَتَّهْ " وَكَانَتْ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ (فَارْقَلِيطَ) وَادَّعَى مُؤَلِّفُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْغَلَطِ مِنْ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، وَكَانَ مُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُعَرَّبٌ مِنَ اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ " فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْيُونَانِيَّ الْأَصْلِ بَارَاكَلِي طُوسَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلَ بِيرَكْلُوطُوَس يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ فَهِمَ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلُ بِيرَكْلُوطُوس وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ فَادَّعَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ بِمُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ بار كلي طوس " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِهِ. (يَقُولُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّنِي أُوَضِّحُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ بِكَلِمَةٍ لِلدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ تَوْفِيقْ صِدْقِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي كِتَابِهِ (دِينُ اللهِ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا اللَّفْظُ (الْفَارَقْلِيطُ) يُونَانِيٌّ وَيُكْتَبُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ هَكَذَا (paraclete) بَارَقْلِيطُ أَيِ (الْمُعَزِّي) وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا مَعْنَى (الْمُحَاجِّ) كَمَا قَالَ بوست فِي قَامُوسِهِ، وَهَاكَ لَفْظًا آخَرَ يُكْتَبُ هَكَذَا (periclite) وَمَعْنَاهُ رَفِيعُ الْمَقَامِ. سَامٍ. جَلِيلٌ. مَجِيدٌ. شَهِيرٌ. وَهِيَ كُلُّهَا مَعَانٍ تُقَرِّبُ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَمَحْمُودٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرِيَّةِ فَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ مُؤَلِّفِ هَذَا الْإِنْجِيلِ لَهُ بِلَفْظِ (paraclete) صَحِيحَةً أَوْ خَطَأً؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ (paraclete) هُوَ الَّذِي تُرْجِمَ بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَقَعَ فِيهَا التَّحْرِيفُ مِنَ الْكُتَّابِ سَهْوًا أَوْ قَصْدًا، كَمَا اعْتَرَفُوا بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ (رَاجِعِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ) فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (periclite) بِيرقليطَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَحَرَّفَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا إِلَى (paraclete) بَارَقْلِيطَ حَتَّى يُبْعِدُوهُ عَنْ مَعْنَى اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ تَشَابُهُ أَحْرُفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ (paraclete) بَارَقْلِيطَ أَوْ (periclite) بِيرِقْلِيطَ، فَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُعَزٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَى وُجُودِ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالِمِ بِإِيضَاحِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَمُعَزٍّ أَيْضًا لِلْمُصَابِينَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَاجُّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ.

(إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا الْمُحَاجُّ الْمُجَادِلُ كَمَا قَالَ بوست) وَهُوَ شَهِيرٌ سَامٍ جَلِيلٌ مَجِيدٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (بِيرِقْلِيطُ) وَالْعِبَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَمُؤَلِّفُ كِتَابِ (فَتْحِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فِي بَشَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي صَفْحَةِ 82 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ اهـ. وَنَعُودُ إِلَى سِيَاقِ صَاحِبِ إِظْهَارِ الْحَقِّ الشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يَسِيرٌ جِدًّا، وَإِنَّ الْحُرُوفَ الْيُونَانِيَّةَ كَانَتْ مُتَشَابِهَةً، فَتَبَدُّلُ بيركلوطوس بباراكلي طوس فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْكَاتِبِ قَرِيبُ الْقِيَاسِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَهْلُ التَّثْلِيثِ الْمُنْكِرِينَ هَذِهِ النُّسْخَةَ عَلَى النُّسَخِ الْأُخَرِ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالْأَمْرَ السَّابِعَ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ السَّادِسِ بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ اعْتَقَدَ يَقِينًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ. (وَالْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْبَعْضَ ادَّعَوْا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ مَصَادِيقُ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، مَثَلًا منتنس الْمَسِيحِيُّ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْمِيلَادِ، وَكَانَ مُرْتَاضًا شَدِيدَ الِارْتِيَاضِ وَأَتْقَى أَهْلِ عَهْدِهِ: ادَّعَى فِي قُرْبِ سَنَةِ 177 مِنَ الْمِيلَادِ فِي آسْيَا الصُّغْرَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: إِنِّي الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي وَعَدَ بِمَجِيئِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَتَبِعَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ، وَذَكَرَ وِلْيَمْ مَيُورْ حَالَهُ وَحَالَ مُتَّبِعِيهِ فِي الْقَسَمِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ تَارِيخِهِ بِلِسَانِ أُرْدُو الْمَطْبُوعِ سَنَةَ 1848 مِنَ الْمِيلَادِ هَكَذَا: إِنَّ الْبَعْضَ قَالُوا إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ الْفَارَقْلِيطُ يَعْنِي الْمُعَزِّي رُوحُ الْقُدُسِ، وَهُوَ كَانَ أَتْقَى (؟) وَمُرْتَاضًا شَدِيدًا (؟) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَبِلَهُ النَّاسُ قَبُولًا زَائِدًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعُلِمَ أَنَّ انْتِظَارَ الْفَارَقْلِيطِ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى الْمَسِيحِيَّةِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مَصَادِيقُهُ، وَكَانَ الْمَسِيحِيُّونَ يَقْبَلُونَ دَعَاوِيَهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ لُبِّ التَّوَارِيخِ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمَسِيحِيِّينَ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِنَبِيٍّ، فَحَصَلَ لِمُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ ذَاكَ الْمُنْتَظَرُ، انْتَهَى مُلَخَّصُ كَلَامِهِ. فَيُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَتَبَ الْجَوَابَ وَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ صَادِقًا وَمُصَدِّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ - أَيْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اهـ. وَهَذَا النَّجَاشِيُّ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَصْرَانِيًّا.

وَكَتَبَ الْمُقَوْقِسُ مِلْكُ الْقِبْطِ فِي جَوَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا: (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، اهـ. وَالْمُقَوْقِسُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ لَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي كِتَابِهِ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَذَانِ الْمَلِكَانِ مَا كَانَا يَخَافَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِ شَوْكَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَجَاءَ الْجَارُودُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتَ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَبَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ، وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ آمَنَ قَوْمُهُ، وَهَذَا الْجَارُودُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ ابْنُ الْبَتُولِ أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودٌ، وَاللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْمَوْجُودُ تَرْجَمَةٌ لَكِنِّي أَتْرُكُ الْبَحْثَ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ بيركلوطوس، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ بِشَارَةُ الْمَسِيحِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظٍ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَى عَادَاتِهِمْ لَكِنِّي أَتْرُكُ هَذَا الِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ إِلْزَامًا، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ باراكلي طوس كَمَا يَدَّعُونَ فَهَذَا لَا يُنَافِي الِاسْتِدْلَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلُ عَلَى مَا بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ أَوِ الشَّافِعِ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَنَا أُبَيِّنُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الرُّوحُ النَّازِلُ عَلَى تَلَامِيذِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الدَّارِ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَذْكُرُ ثَانِيًا شُبَهَاتِ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْهَا فَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: (1) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ أَوَّلًا (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ. فَمَقْصُودُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَعْتَقِدَ السَّامِعُونَ بِأَنَّ مَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ بَعْدُ ضَرُورِيٌّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ كَانَ الْفَارَقْلِيطِ عِبَارَةً عَنِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِقْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَظْنُونًا أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْحَوَارِيُّونَ نُزُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى

لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَفِيضِينَ مِنْهُ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا، بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، وَحَلَّ فِيهِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لَا مَحَالَةَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إِنْكَارُ الْمُتَأَثِّرِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ظُهُورُهُ عِنْدَهُمْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ فِيهِ مَظِنَّةً يَكُونُ الِاسْتِبْعَادُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ. حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عَلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَبِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْ أُمَّتِهِ يُنْكِرُونَ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَكَّدَهُ أَوَّلًا بِهَذِهِ الْفِقْرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيئِهِ. (2) إِنَّ هَذَا الرُّوحَ مُتَّحِدٌ بِالْأَبِ مُطْلَقًا وَبِالِابْنِ نَظَرًا إِلَى هُوَّتِهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ (فَارَقْلِيطُ آخَرُ) بِخِلَافِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ هَذَا الْقَوْلَ فِي حَقِّهِ بِلَا تَكَلُّفٍ. (3) إِنَّ الْوَكَالَةَ وَالشَّفَاعَةَ مِنْ خَوَاصِّ النُّبُوَّةِ لَا مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الرُّوحِ الْمُتَّحِدِ بِاللهِ فَلَا يَصْدُقَانِ عَلَى الرُّوحِ، وَيَصْدُقَانِ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ. (4) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ) وَلَمْ يَثْبُتْ فِي رِسَالَةٍ مِنْ رَسَائِلِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا قَدْ نَسُوا مَا قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهُ. (5) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ (أَنْ يُوجَدَ) حَتَّى إِذَا كَانَ - أَيْ وُجِدَ وَبُعِثَ - تُؤْمِنُونَ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ الرُّوحَ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ مَا كَانَ عَدَمُ الْإِيمَانِ مَظْنُونًا مِنْهُمْ وَقْتَ نُزُولِهِ بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحَكِيمِ الْعَاقِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ فُضُولٍ، فَضْلًا عَنْ شَأْنِ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، فَلَوْ أَرَدْنَا بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّهِ، وَفِي غَايَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ مَرَّةً ثَانِيَةً. (6) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي) . وَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ لِأَجْلِهِ بَيْنَ أَيْدِي أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَلَامِيذَهُ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ قَبْلَ نُزُولِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْمُنْكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِلشَّهَادَةِ فَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ شَهِدَ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَدَّقَهُ وَبَرَّأَهُ عَنِ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَبَرَّأَ أُمَّهُ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، وَجَاءَ ذِكْرُ بَرَاءَتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ.

(7) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَالَ وَأَنْتُمْ تُشْهِدُونَ؛ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 هَكَذَا) وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1860 هَكَذَا (وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ (فَيُوجَدُ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ الثَّلَاثِ لَفْظُ أَيْضًا وَكَذَا يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1828 وَسَنَةَ 1841 وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1814 تَرْجَمَةُ لَفْظِ أَيْضًا، فَلَفْظُ " أَيْضًا " سَقَطَ مِنَ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا سَهْوًا أَوْ قَصْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحَوَارِيِّينَ غَيْرُ شَهَادَةِ الْفَارَقْلِيطِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحَ النَّازِلَ يَوْمَ الدَّارِ لَمْ تُوجَدْ مُغَايَرَةٌ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَشْهَدْ شَهَادَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ بَلْ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ هِيَ شَهَادَتُهُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرُّوحَ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا مُتَّحِدًا بِاللهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا بَرِيًّا مِنَ النُّزُولِ وَالْحُلُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالشَّكْلِ - الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْجِسْمِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ - نَزَلَ مِثْلَ رِيحٍ عَاصِفَةٍ، وَظَهَرَ فِي أَشْكَالِ أَلْسِنَةٍ مُنْقَسِمَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الدَّارِ فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْجِنِّ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجِنِّ يَكُونُ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الرُّوحِ هِيَ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ. (8) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ (فَعَلَّقَ مَجِيئَهُ بِذَهَابِهِ وَهَذَا الرُّوحُ عِنْدَهُمْ نَزَلَ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ فِي حُضُورِهِ لَمَّا أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ فَنُزُولُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِذَهَابِهِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بالْفَارَقْلِيطِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَخْصٌ لَمْ يَسْتَفِضْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَبْلَ زَمَانِ صُعُودِهِ، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَسُولَيْنِ ذَوِي شَرِيعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْآخِرُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرُّسُلِ مُتْبِعًا لِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُجُودُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ مَا بَيْنَ زَمَانِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (9) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (يُوَبِّخُ الْعَالَمَ) فَهَذَا الْقَوْلُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْجَلِيِّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ وَبَخَّ الْعَالَمَ سِيَّمَا الْيَهُودَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْبِيخًا لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ بَحْتٌ، وَسَيَكُونُ ابْنُهُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ رَفِيقًا لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَمَانِ قَتْلِ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ وَمُتَابِعِيهِ، بِخِلَافِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ، فَإِنَّ تَوْبِيخَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أُصُولِ أَحَدٍ، وَمَا كَانَ التَّوْبِيخُ مَنْصِبَ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ نُزُولِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْمِلَّةِ بِالتَّرْغِيبِ

وَالْوَعْظِ. وَمَا قَالَ رانكين فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِدَافِعِ الْبُهْتَانِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِ أُرْدُو فِي رَدِّهِ عَلَى خُلَاصَةِ (صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) : إِنَّ لَفْظَ التَّوْبِيخِ لَا يُوجَدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي تَرْجَمَةٍ مِنْ تَرَاجِمِ الْإِنْجِيلِ، وَهَذَا الْمُسْتَدِلُّ أَوْرَدَ هَذَا اللَّفْظَ لِيَصْدُقَ عَلَى مُحَمَّدٍ صِدْقًا بَيِّنًا؛ لِأَجْلِ أَنْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَخَّ وَهَدَّدَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّغْلِيظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَائِفِينَ مِنَ اللهِ - انْتَهَى كَلَامُهُ - فَمَرْدُودٌ، وَهَذَا الْقِسِّيسُ إِمَّا جَاهِلٌ غَالِطٌ أَوْ مُغَالِطٌ لَيْسَ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا خَوْفٌ مِنَ اللهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1671 فِي رُومِيَّةَ الْعُظْمَى، وَعِبَارَةُ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ فِي بَيْرُوتَ سَنَةَ 1860 هَكَذَا (وَمَتَّى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ) إِلَخْ. وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1825، وَفِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1828 وَسنَةَ 1841 يُوجَدُ لَفْظُ الْإِلْزَامِ. وَلَفْظُ التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ أَيْضًا قَرِيبَانِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَكِنْ لَا شِكَايَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عَادَاتِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَنَّ مُتَرْجِمِي الْفَارِسِيَّةَ وَأُرْدُو تَرَكُوا لَفْظَ فَارَقْلِيطَ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُتَرْجِمِ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1839 فَاقَ أَسْلَافَهُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا حَيْثُ أَرْجَعَ إِلَى الرُّوحِ ضَمَائِرَ الْمُؤَنَّثِ لِيَحْصُلَ الِاشْتِبَاهُ لِلْعَوَامِّ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا اللَّفْظِ (أَيْ مَدْلُولَهُ) مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِمُذَكِّرٍ. (10) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ ظَاهِرًا عَلَى مُنْكِرِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوَبِّخًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ مَا كَانَ ظَاهِرًا عَلَى النَّاسِ مُوَبِّخًا لَهُمْ. (11) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ (وَهَذَا يُنَافِي إِرَادَةَ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَحْكَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ كَانَ أَمْرُ الْحَوَارِيِّينَ بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَبِدَعْوَةِ أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَأَيُّ أَمْرٍ حَصَلَ لَهُمْ أَزْيَدُ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي قَالَهَا إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ بَعْدَ نُزُولِ هَذَا الرُّوحِ أَسْقَطُوا جَمِيعَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَا عَدَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَشْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَحَلَّلُوا جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَجُوزُ فِي شَأْنِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَطَاعُوا حَمْلَ سُقُوطِ حُكْمِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يُنْكِرُونَ كَوْنَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَسِيحًا مَوْعُودًا بِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ مُرَاعَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، فَقَبُولُ سُقُوطِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُمْ، نَعَمْ قَبُولُ زِيَادَةِ الْأَحْكَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِ الْقُوَّةِ إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ كَانَ خَارِجًا عَنِ اسْتِطَاعَتِهِمْ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ نَبِيٌّ تُزَادُ فِي شَرِيعَتِهِ

أَحْكَامٌ، وَيَثْقُلُ حَمْلُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ العِيسَوِيَّةِ. (12) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكَذِّبُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَاجَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ يُقَرِّرَ حَالَ صِدْقِهِ فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا مَجَالَ لِمَظِنَّةِ التَّكْذِيبِ فِي حَقِّ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرُّوحَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ اللهِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ فَمِصْدَاقُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي حَقِّهِ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ اللهِ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) وَقَالَ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (6:50) . (13) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى الرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَادِرٌ مُطْلِقٌ، لَيْسَ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، بَلْ كُلُّ كَمَالٍ مِنْ كِمَالَاتِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مُوهِمًا أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: (جَمِيعُ مَا لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحْصُلُ لِلْفَارَقْلِيطِ مِنَ اللهِ فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنِّي كَمَا اشْتُهِرَ: مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللهُ لَهُ - فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ: إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ. وَأَمَّا الثَّانِي أَعْنِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُهَا عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ فَخَمْسَةٌ: (الشُّبْهَةُ الْأَوْلَى) جَاءَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَهُمَا عِبَارَاتَانِ عَنِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ صَاحِبَ مِيزَانِ الْحَقِّ يَدَّعِي فِي تَأْلِيفَاتِهِ كَوْنَ أَلْفَاظِ رُوحِ اللهِ، وَرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَرُوحِ الصِّدْقِ، وَرُوحِ فَمِ اللهِ، بِمَعْنَى وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ فِي الصَّفْحَةِ 53 مِنَ النُّسْخَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1850: إِنَّ لَفْظَ رُوحِ اللهِ، وَلَفْظَ رُوحِ الْقُدُسِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. فَادَّعَى أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْعَهْدَيْنِ - وَقَالَ فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ، فِي جَوَابِ كَشْفِ الْأَسْتَارِ: مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ مَا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ أَلْفَاظَ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ وَرُوحِ فَمِ اللهِ وَغَيْرِهَا بِمَعْنَى رُوح اللهِ، فَلِذَلِكَ مَا رَأَيْتُ إِثْبَاتَهُ ضَرُورِيًّا انْتَهَى.

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْقَوْلَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ صِحَّةِ ادِّعَائِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ هَاهُنَا، وَنُسَلِّمُ تَرَادُفَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى زَعْمِهِ، لَكِنَّا نُنْكِرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَهْدَيْنِ بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَنَقُولُ قَوْلًا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ: مَنْ لَهُ شُعُورُ مَا يَكْتُبُ الْعَهْدَيْنِ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِ حِزْقِيَالَ قَوْلُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَحْيَاهُمْ بِمُعْجِزَةِ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا: (فَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحِي) فَفِي هَذَا الْقَوْلِ رُوحُ اللهِ بِمَعْنَى لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ - وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ 1760 هَكَذَا (1 أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ 2 بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ 6 نَحْنُ مِنَ اللهِ فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لَا يَسْمَعُ لَنَا، مِنْ هَذَا تَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلَالِ (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ (وَفِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْأُخَرِ سَنَةَ 1821 وَسَنَةَ 1831 وَسَنَةَ 1844 هَكَذَا (بِهَذَا يُعْرَفُ رُوحُ اللهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ 1825 (فَإِنَّكُمْ تُمَيِّزُونَ رُوحِ اللهِ) وَلَفْظُ رُوحِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَفْظُ رُوحٍ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِمَعْنَى الْوَاعِظُ الْحَقُّ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ مُتَرْجَمُ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1845 لَفْظَ كُلِّ رُوحٍ بِكُلِّ وَاعِظٍ، وَلَفْظَ الْأَرْوَاحِ بِالْوَاعِظِينَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، وَلَفْظَ رُوحٍ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْوَاعِظِ مِنْ جَانِبِ اللهِ. وَلَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِالْوَاعِظِ الصَّادِقِ. وَتَرْجَمَ لَفْظَ رُوحِ الضَّلَالِ بِالْوَاعِظِ الْمُضِلِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَوْحِ اللهِ، وَرُوحِ الْحَقِّ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَتَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْوَاعِظِ الْحَقِّ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ رُوحِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا رَيْبٍ. (الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ " كُمْ " الْحَوَارِيُّونَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ الْفَارَقْلِيطُ فِي عَهْدِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِهِمْ. (أَقُولُ) : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَهُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالسِّتِّينَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي خِطَابِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ وَالْمَجْمَعِ هَكَذَا. (وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الْآنِ تُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ) وَهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ مَاتُوا:

وَمَضَتْ عَلَى مَوْتِهِمْ مُدَّةٌ هِيَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا رَأَوْهُ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِينَ هَاهُنَا الْمَوْجُودُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، الْمُرَادُ: الَّذِينَ يُوجَدُونَ وَقْتَ ظُهُورِ الْفَارَقْلِيطِ. (الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَأَوْهُ وَعَرَفُوهُ. أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي هَذَا الْقَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا؛ لِأَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عَيْنُ اللهِ عِنْدَهُمْ، وَالْعَالَمُ يَعْرِفُ اللهَ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْكَامِلَةُ. فَفِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ اشْتِبَاهٌ فِي صِدْقِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةُ، وَلِذَا لَمْ يُعِدْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَفْظَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ لَفْظِ أَنْتُمْ، بَلْ قَالَ: وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الرُّؤْيَةَ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ يَكُونُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ مَحْمُولًا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ الْإِنْجِيلِيِّ الْأَوَّلِ فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ. وَأَنْقُلُ عِبَارَتَهُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1825 (13 فَلِذَلِكَ أَضْرِبُ لَكُمُ الْأَمْثَالَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَيَسْمَعُونَ وَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ 14 وَقَدْ كَمُلَ فِيهِمْ تَنَبُّؤُ أَشْعِيَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَسْتَمِعُونَ سَمْعًا وَلَا تَفْهَمُونَ، وَتَنْظُرُونَ نَظَرًا وَلَا تُبْصِرُونَ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا. وَأَمْثَالُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ مَجَازِيَّةً لَكِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَوَقَعَتْ فِي كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الِابْنَ إِلَّا الْأَبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الْأَبَ إِلَّا الِابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ (وَفِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (الَّذِي أَرْسَلَنِي حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ) وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (19 لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا 55 وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَيِ اللهَ إِلَخْ) . وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَبُ إِنَّ الْعَالِمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ) فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (7 لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا، وَمِنَ الْآنِ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ 8 قَالَ لَهُ فيلبس يَا سَيِّدُ أَرِنَا الْأَبَ وَكَفَانَا 9 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هَذِهِ مَدَّتُهُ، وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فيلبس الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْأَبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الْأَبَ؟) فَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَعْرِفَةُ الْكَامِلَةُ، بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةِ. وَإِلَّا لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ يَقِينًا: لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَعْرِفُونَ

عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَضْلًا عَنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْحَوَارِيِّينَ، وَرُؤْيَةُ اللهِ بِالْبَصَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُمْتَنِعَةٌ عَنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ أَيْضًا. (الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ (أَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَثَابِتٌ فِيكُمْ) وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ كَانَ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ مُقِيمًا عِنْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَثَابِتًا فِيهِمْ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! . أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي التَّرَاجِمِ الْأُخْرَى هَكَذَا فَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1825 (لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ مَعَكُمْ وَسَيَكُونُ فِيكُمْ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1828 وَسَنَةَ 1841 وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ 1814 وَسَنَةَ 1839 كُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِهَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1860 هَكَذَا: (مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ (فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " ثَابِتٌ فِيكُمْ " الثُّبُوتَ الِاسْتِقْبَالِيَّ يَقِينًا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَبَقِيَ قَوْلُهُ " مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ ". فَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَى هُوَ مُقِيمٌ عِنْدَكُمُ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ) وَقَوْلُهُ (قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ. إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ) وَإِذَا أُوِّلَ نَقُولُ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَعْنَاهُ: يَكُونُ مُقِيمًا عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَلَا خَدْشَةَ فِي صِدْقِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْحَالِ بَلْ بِالْمَاضِي فِي الْأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدَيْنِ - أَلَّا تَرَى أَنَّ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِهْلَاكِهِمْ حِينَ وُصُولِهِمْ إِلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِهِ هَكَذَا (هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ يَقُولُ الرَّبُّ الْإِلَهُ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَلْتُ عَنْهُ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1839 هَكَذَا (اينك رسيد وبوقوع بيوست) فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِكَوْنِهِ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَظْهَرْ خُرُوجُهُمْ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوَحَنَّا هَكَذَا (الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنُ حِينَ يَسْمَعُ الْأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ وَالسَّامِعُونَ يُحْيَوْنَ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ وَهِيَ الْآنُ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانمِائَةِ سَنَةٍ وَلِمَ تَجِئْ هَذِهِ السَّاعَةُ، وَهِيَ إِلَى الْآنَ مَجْهُولَةٌ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَتَى تَجِيءُ! . (الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا (4 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ أُورْشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الْأَبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي 5 لِأَنَّ يُوحَنَّا

عُمِّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِكَثِيرٍ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ هُوَ الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَعْدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ. أَقُولُ: الِادِّعَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْعِدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ، بَلْ هُوَ غَلَطٌ لِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَقَدْ عَرَّفْتُهَا، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ شَيْءٌ وَالْوَعْدَ بِإِنْزَالِ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى شَيْءٌ آخَرُ. وَقَدْ وَفَّى اللهُ بِالْوَعْدَيْنِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ الْأَوَّلِ بِمَجِيءِ الْفَارَقْلِيطِ، وَهَاهُنَا بِمَوْعِدِ الْأَبِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ يُوحَنَّا نَقَلَ بِشَارَةَ الْفَارَقْلِيطِ، وَلَمْ يَنْقُلْهَا الْإِنْجِلِيُّونَ الْبَاقُونَ - وَلُوقَا نَقَلَ مَوْعِدَ نُزُولِ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ يَوْمَ الدَّارِ، وَلَمْ يَقُلْهُ يُوحَنَّا. وَلَا بَأْسَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّفِقُونَ فِي نَقْلِ الْأَقْوَالِ الْخَسِيسَةِ، كَرُكُوبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْحِمَارِ وَقْتَ الذَّهَابِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ يَتَخَالَفُونَ فِي نَقْلِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ لُوقَا انْفَرَدَ بِذِكْرِ إِحْيَاءِ ابْنِ الْأَرْمَلَةِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي نَايِينَ، وَبِذِكْرِ إِرْسَالِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَبْعِينَ تِلْمِيذًا، وَبِذِكْرِ إِبْرَاءِ عَشَرَةِ بُرْصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحَالَاتِ أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْحَالَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِذِكْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَظَهَرَ مِنْ يَسُوعَ فِي مُعْجِزَةِ تَحْوِيلِ الْمَاءِ خَمْرًا، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَوَّلُ مُعْجِزَاتِهِ، وَسَبَبُ ظُهُورِ مَجْدِهِ وَإِيمَانِ التَّلَامِيذِ بِهِ، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءَ السَّقِيمِ فِي بَيْتِ صَيْدَا فِي أُورْشَلِيمَ، وَهَذِهِ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمَرِيضُ كَانَ مَرِيضًا مِنْ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَيَذْكُرُ قِصَّةَ امْرَأَةٍ أُخِذَتْ فِي زِنَا، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ، وَهِيَ مُصَرَّحَةٌ بِهِمَا فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَبِذِكْرِ إِحْيَاءِ الْعَازَارِ مِنْ بَيْنِ الْأَمْوَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا حَالَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَهَكَذَا حَالُ مَتَّى وَمُرْقُصَ، فَإِنَّهُمَا انْفَرَدَا بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْحَالَاتِ الَّتِي لَمَّ يَذْكُرْهُمَا غَيْرُهُمَا، وَإِذَا طَالَ الْبَحْثُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْبِشَارَاتِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي زَمَانِنَا اهـ. بِشَارَةُ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا. ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعْنَ بِإِيرَادِ الْبِشَارَاتِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يَعُدُّهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ إِلَّا بِشَارَةَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَقَدْ نَقَلَهَا عَنْ مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَةِ الْقِسِّيسِ سايل الْإِنْكِلِيزِيِّ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهَا: (اعْلَمْ يَا بِرْنَابَا أَنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجْزِي اللهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ غَيْرُ رَاضٍ عَنِ الذَّنْبِ، وَلَمَّا اكْتَسَبَ أُمِّي وَتَلَامِيذِي لِأَجْلِ الدُّنْيَا سَخِطَ اللهُ لِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَرَادَ بِاقْتِضَاءِ عَدْلِهِ أَنْ يَجْزِيَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَذِيَّةٌ هُنَاكَ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ بَرِيًّا لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا قَالُوا فِي حَقِّي إِنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ كَرِهَ اللهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ أَلَّا تَضْحَكَ الشَّيَاطِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنِّي

وَلَا يَسْتَهْزِئُونَ بِي، فَأَرَادَ بِمُقْتَضَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَكُونَ الضَّحِكُ وَالِاسْتِهْزَاءُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَوْتِ يَهُوذَا، وَيَظُنُّ كُلُّ شَخْصٍ أَنِّي صُلِبْتُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْإِهَانَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ تَبْقَيَانِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الدُّنْيَا يُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ وَتَرْتَفِعُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ " تَرْجَمَةُ كَلَامِهِ. أَقُولُ: هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَظِيمَةٌ وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِأَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ رَدَّهُ مَجَالِسُ عُلَمَائِنَا السَّلَفِ أَقُولُ: لَا اعْتِبَارَ لِرَدِّهِمْ وَقَبُولِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْإِنْجِيلُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، وَيُوجَدُ ذِكْرُهُ فِي كُتُبِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَعَلَى هَذَا كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُخْبِرَ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنْ قَالُوا إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَرَّفَ هَذَا الْإِنْجِيلَ بَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا الْتَفَتُوا إِلَى هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا فَكَيْفَ إِلَى إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يُؤَثِّرَ تَحْرِيفُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا تَأْثِيرًا تُغَيَّرُ بِهِ النُّسَخُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا نَقَلُوا عَنْ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَحَرَّفُوهَا فَعَلَى زَعْمِهِمْ أَقُولُ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْكِبَارَ حَرَّفُوا عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيفُهُمْ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، فَكَيْفَ أَثَّرَ تَحْرِيفُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا فِي النُّسَخِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ؟ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاهٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاجِبُ الرَّدِّ اهـ. وَقَدْ خَتَمَ الشَّيْخُ (رَحْمَةُ اللهِ) - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هَذِهِ الْبِشَارَاتِ بِتَنْبِيهٍ ذَكَّرَ فِيهِ الْقَارِئَ بِمَا بَيَّنَهُ مُفَصَّلًا مِنِ اخْتِلَافِ النَّصَارَى فِي تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمْ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ وَرَآهُ مُخَالِفًا لِغَيْرِ التَّرْجَمَاتِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا أَنَّهُ هُوَ الْمُخْطِئُ فِيمَا نَقَلَهُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ. بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةَ اللهِ لَمْ يَرَ إِنْجِيلَ بِرْنَابَا وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ مِنْ مُقَدَّمَةِ سايل الْمُسْتَشْرِقِ الْإِنْجِلِيزِيِّ لِتَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَسَايل هَذَا قَدِ اطَّلَعَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ

اللَّتَيْنِ وُجِدَتَا مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ، وَهِيَ النُّسْخَةُ الْأَسْبَانِيَّةُ وَقَدْ فُقِدَتْ، إِذْ كَانَ الْمُتَعَصِّبُونَ مِنَ النَّصَارَى يُتْلِفُونَ كُلَّ مَا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي تَعُدُّهَا الْكَنِيسَةُ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ، وَأَمَّا النُّسْخَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَكَانَتْ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ (الْفَاتِيكَانْ) فَسَرَقَهَا مِنْهَا رَاهِبٌ اسْمُهُ (مرينو) فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا هِيَ النُّسْخَةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ بَلَاطِ (فِيِينَّا) وَقَدْ تُرْجِمَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَعَيْنَا إِلَى تَرْجَمَتِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ 1325 وَطَبَعْنَاهَا طَبْعًا دَقِيقًا فِي مَطْبَعَةِ الْمَنَارِ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنْهَا هُنَا نَصَّ بَعْضِ بِشَارَاتِهِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ الْبِشَارَةِ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ إِذْ هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ. جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالسَّبْعِينَ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُ سَيَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ قَالَ: (7 فَبَكَى حِينَئِذٍ الرُّسُلُ قَائِلِينَ: يَا مُعْلِّمُ لِمَاذَا تَتْرُكُنَا، لِأَنَّ الْأَحْرَى بِنَا أَنْ نَمُوتَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَنَا 8 أَجَابَ يَسُوعُ: لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَخَافُوا 9 لِأَنِّي لَسْتُ أَنَا الَّذِي خَلَقَكُمْ، بَلِ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ يَحْمِيكُمْ 10 أَمَّا مِنْ خُصُوصِي فَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُ لِأُهَيِّئَ الطَّرِيقَ لِرَسُولِ اللهِ الَّذِي سَيَأْتِي بِخَلَاصِ الْعَالَمِ 11 وَلَكِنِ احْذَرُوا أَنْ تُغَشُّوا؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ يَأْخُذُونَ كَلَامِي وَيُنَجِّسُونَ إِنْجِيلِي. 12 حِينَئِذٍ قَالَ اندراوس: يَا مُعَلِّمُ اذْكُرْ لَنَا عَلَّامَةً لِنَعْرِفَهُ 13 أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي زَمَنِكُمْ بَلْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ بِعِدَّةِ سِنِينَ حِينَمَا يُبْطَلُ إِنْجِيلِي، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا 14 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالَمَ فَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ عَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، يَعْرِفُهُ أَحَدُ مُخْتَارِي اللهِ وَهُوَ سَيُظْهِرُهُ لِلْعَالَمِ 15 وَسَيَأْتِي بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْفُجَّارِ وَيُبِيدُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَالَمِ 16 وَإِنِّي أُسَرَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ سَيُعْلَنُ وَيُمَجَّدُ اللهُ وَيَظْهَرُ صِدْقِي 17 وَسَيَنْتَقِمُ مِنَ الَّذِينَ سَيَقُولُونَ إِنِّي أَكْبَرُ مِنْ إِنْسَانٍ 18 الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْقَمَرَ سَيُعْطِيهِ رُقَادًا فِي صِبَاهُ، وَمَتَى كَبُرَ هُوَ أَخْذَهُ بِكَفَّيْهِ 19 فَلْيَحْذَرِ الْعَالِمُ أَنْ يَنْبِذَهُ؛ لِأَنَّهُ سَيَفْتِكُ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ 20 فَإِنَّ مُوسَى عَبْدُ اللهِ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَمْ يُبْقِ يَشُوعُ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي أَحْرَقُوهَا وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ 21 لِأَنَّ الْقُرْحَةَ الْمُزْمِنَةَ يُسْتَعْمَلُ لَهَا الْكَيُّ) . (22 وَسَيَجِيءُ بِحَقٍّ أَجْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيُوَبِّخُ مَنْ لَا يُحْسِنُ السُّلُوكَ فِي الْعَالَمِ 23 وَسَيُحْيِي طَرَبًا أَبْرَاجَ مَدِينَةِ آبَائِنَا بَعْضِهَا بَعْضًا 24 فَمَتَى شُوهِدَ سُقُوطُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاعْتُرِفَ بِأَنِّي بَشَرٌ كَسَائِرِ الْبَشَرِ. فَالْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ حِينَئِذٍ يَأْتِي

وَجَاءَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ مُحَاوَرَةٍ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَرَئِيسِ كَهَنَةِ الْيَهُودِ: أَنَّ الْكَاهِنَ سَأَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَجَابَ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أُمِّهِ، وَبِأَنَّهُ بَشَرٌ مَيِّتٌ ثُمَّ قَالَ الْإِنْجِيلُ مَا نَصُّهُ: (3 أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ مُوسَى أَنْ إِلَهًا سَيُرْسِلُ لَنَا مسيا الَّذِي سَيَأْتِي لِيُخْبِرَنَا بِمَا يُرِيدُ اللهُ، وَسَيَأْتِي لِلْعَالِمِ بِرَحْمَةِ اللهِ 4 لِذَلِكَ أَرْجُوكَ أَنْ تَقُولَ لَنَا الْحَقَّ هَلْ أَنْتَ مَسْيَا اللهِ الَّذِي نَنْتَظِرُهُ؟ . (5 أَجَابَ يَسُوعُ: حَقًّا إِنَّ اللهَ وَعَدَ هَكَذَا وَلَكِنِّي لَسْتُ هُوَ ; لِأَنَّهُ خُلِقَ قَبْلِيِ وَسَيَأْتِي بَعْدِي. (6 أَجَابَ الْكَاهِنُ: إِنَّنَا نَعْتَقِدُ مِنْ كَلَامِكَ وَآيَاتِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَقُدُّوسُ اللهِ 7 لِذَلِكَ أَرْجُوكَ بِاسْمِ الْيَهُودِيَّةِ كُلِّهَا وَإِسْرَائِيلَ أَنْ تُفِيدَنَا حُبًّا فِي اللهِ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ سَيَأْتِي مَسْيَا؟) (8 أَجَابَ يَسُوعُ: لَعَمْرُ اللهِ الَّذِي تَقِفُ بِحَضْرَتِهِ نَفْسِي إِنِّي لَسْتُ مَسْيَا الَّذِي تَنْتَظِرُهُ كُلُّ قَبَائِلِ الْأَرْضِ كَمَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَائِلًا: بِنَسْلِكَ أُبَارِكُ كُلَّ قَبَائِلِ الْعَرَبِ 9 وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَأْخُذُنِي اللهُ مِنَ الْعَالِمِ سَيُثِيرُ الشَّيْطَانُ مَرَّةً أُخْرَى لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمَلْعُونَةِ بِأَنْ يَحْمِلَ عَادِمَ التَّقْوَى عَلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنِّي اللهُ وَابْنُ اللهِ 10 فَيَتَنَجَّسَ بِسَبَبِ هَذَا كَلَامِي وَتَعْلِيمِي حَتَّى لَا يَكَادَ يَبْقَى ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا 11 حِينَئِذٍ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالِمَ، وَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِهِ 12 الَّذِي سَيَأْتِي مِنَ الْجَنُوبِ بِقُوَّةٍ وَسَيُبِيدُ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ 13 وَسَيَنْتَزِعُ مِنَ الشَّيْطَانِ سُلْطَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ 14 وَسَيَأْتِي بِرَحْمَةِ اللهُ لِخَلَاصِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ 15 وَسَيَكُونُ مَنْ يُؤْمِنُ بِكَلَامِهِ مُبَارَكًا. ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ 97 مَا نَصُّهُ: (1 وَمَعَ أَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ أَحُلَّ سَيْرَ حِذَائِهِ قَدْ نِلْتُ نِعْمَةً وَرَحْمَةً مِنَ اللهِ لِأَرَاهُ) . (2 فَأَجَابَ حِينَئِذٍ الْكَاهِنُ مَعَ الْوَالِي وَالْمَلِكِ قَائِلِينَ لَا تُزْعِجُ نَفْسَكَ يَا يَسُوعُ قُدُّوسَ اللهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَا تَحْدُثُ فِي زَمَنِنَا مَرَّةً أُخْرَى ; لِأَنَّنَا سَنَكْتُبُ إِلَى مَجْلِسِ الشُّيُوخِ الرُّومَانِيِّ الْمُقَدَّسِ بِإِصْدَارِ أَمْرٍ مَلَكِيٍّ أَنْ لَا أَحَدَ يَدْعُوكَ فِيمَا بَعْدُ اللهَ أَوِ ابْنَ اللهِ (4) فَقَالَ حِينَئِذٍ يَسُوعُ: إِنَّ كَلَامَكُمْ لَا يُعَزِّينِي ; لِأَنَّهُ يَأْتِي ظَلَامٌ حَيْثُ تَرْجُونَ النُّورَ 5 وَلَكِنْ تَعْزِيتِي هِيَ فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ الَّذِي سَيُبِيدُ كُلَّ رَأْيٍ كَاذِبٍ فِيَّ وَسَيَمْتَدُّ دِينُهُ وَيَعُمُّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ ; لِأَنَّهُ هَكَذَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ 6 وَأَنَّ مَا يُعَزِّينِي هُوَ وَأَنْ لَا نِهَايَةَ لِدِينِهِ لِأَنَّ اللهَ سَيَحْفَظُهُ صَحِيحًا) . (7 أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَيَأْتِي رُسُلٌ آخَرُونَ بَعْدَ مَجِيءِ رَسُولِ اللهِ؟)

(8 فَأَجَابَ يَسُوعُ: لَا يَأْتِي بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ صَادِقُونَ مُرْسَلُونَ مِنَ اللهِ 9 وَلَكِنْ يَأْتِي عَدَدٌ غَفِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَهُوَ مَا يُحْزِنُنِي 10 ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَيُثِيرُهُمْ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ فَيَتَسَتَّرُونَ بِدَعْوَى إِنْجِيلِي. (11 أَجَابَ هِيدْرُوسُ: كَيْفَ أَنَّ مَجِيءَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ يَكُونُ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ؟ . (12 أَجَابَ يَسُوعُ: مِنَ الْعَدْلِ أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْحَقِّ لِخَلَاصِهِ يُؤْمِنُ بِالْكَذِبِ لِلَعْنَتِهِ 13 لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَالَمَ كَانَ يَمْتَهِنُ الْأَنْبِيَاءَ الصَّادِقِينَ دَائِمًا وَأَحَبَّ الْكَاذِبِينَ كَمَا يُشَاهَدُ فِي أَيَّامِ مِيشَعَ وَأَرْمِيَا ; لِأَنَّ الشَّبِيهَ يُحِبُّ شَبِيهَهُ) . (13 فَقَالَ الْكَاهِنُ حِينَئِذٍ: مَاذَا يُسَمَّى مسيا؟ وَمَا هِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تُعْلِنُ مَجِيئَهُ 14 أَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّ اسْمَ مسيا عَجِيبٌ ; لِأَنَّ اللهَ نَفْسَهُ سَمَّاهُ لَمَّا خَلَقَ نَفْسَهُ وَوَضْعَهَا فِي بَهَاءٍ سَمَاوِيٍّ 15 قَالَ اللهُ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ ; لِأَنِّي لِأَجْلِكَ أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ الْجَنَّةَ وَالْعَالَمَ وَجَمًّا غَفِيرًا مِنَ الْخَلَائِقِ الَّتِي أَهَبُهَا لَكَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُبَارِكُكَ يَكُونُ مُبَارَكًا، وَمَنْ يَلْعَنُكَ يَكُونُ مَلْعُونًا 16 وَمَتَى أَرْسَلْتُكَ إِلَى الْعَالَمِ أَجْعَلُكَ رَسُولِي لِلْخَلَاصِ وَتَكُونُ كَلِمَتُكَ صَادِقَةً، حَتَّى إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَهِنَانِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَكَ لَا يَهِنُ أَبَدًا 17 إِنَّ اسْمَهُ الْمُبَارَكَ مُحَمَّدٌ. (18 حِينَئِذٍ رَفَعَ الْجُمْهُورُ أَصْوَاتَهُمْ قَائِلِينَ: يَا اللهُ أَرْسِلْ لَنَا رَسُولَكَ يَا مُحَمَّدُ تَعَالَ سَرِيعًا لِخَلَاصِ الْعَالَمِ!) اهـ. وَأَمَّا الْبِشَارَةُ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ فَهِيَ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ غَيْرَ فَصْلَيْنِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَتَرْجَمَتُهَا قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْأَخِيرَةِ لِلْإِنْجِيلِ كُلِّهِ. تَنْبِيهٌ لَقَدْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ ارْتِيَابِ الْبَاحِثِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ (مُحَمَّدٍ) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَسُّوا فِيهِ ذَلِكَ، وَقَوَّى شُبْهَتَهُمْ مَا وُجِدَ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَوَاشِي النُّسْخَةَ الطَّلْيَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ. وَقَدْ فَنَّدْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي مُقَدِّمَتِنَا لِطَبْعَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنِ اسْتِحَالَةِ صُدُورِ هَذِهِ الْحَوَاشِي عَنْ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهَا عَلَى فَسَادِ لُغَتِهَا وَعُجْمَتِهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَذْكَارِ الدِّينِ كَكَلِمَةِ سُبْحَانَ اللهِ فَهِيَ تُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْحَوَاشِي بِتَقْدِيمِ الْمُضَافِ

إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ هَكَذَا " اللهُ سُبْحَانَ " وَبَعْدَ أَنْ أَوْرَدْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَمْثِلَةً أُخْرَى كَهَذِهِ قُلْنَا: " وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى: أَضِفْ إِلَيْهَا عَدَمُ اطِّلَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ كَمَا حَقَّقَهُ الدُّكْتُورُ مَرْجِلْيُوثُ الْمُسْتَشْرِقُ الْإِنْكِلِيزِيُّ. مُؤَيِّدًا تَحْقِيقَهُ بِخُلُوِّ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى النَّصَارَى مِنْ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِابْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ وَابْنِ تَيْمِيَةَ الْمَشْرِقِيِّ، فَقَدْ كَانَا أَوْسَعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ اطِّلَاعًا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرَا فِي رَدِّهِمَا عَلَى النَّصَارَى هَذَا الْإِنْجِيلَ. " بَقِيَ أَمْرٌ يَسْتَنْكِرُهُ الْبَاحِثُونَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بَحْثًا عِلْمِيًّا لَا دِينِيًّا أَشَدَّ الِاسْتِنْكَارِ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ بِاسْمِ " النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِلِينَ. لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُتِبَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ; إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الْبِشَارَاتِ أَنْ تَكُونَ بِالْكِنَايَاتِ وَالْإِشَارَاتِ، وَالْعَرِيقُونَ فِي الدِّينِ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ مُسْتَنْكِرًا فِي خَبَرِ الْوَحْيِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بِيرَمْ عَنْ رَحَّالَةٍ إِنْكِلِيزِيٍّ أَنَّهُ رَأَى فِي دَارِ الْكُتُبِ الْبَابَوِيَّةِ فِي الْفَاتِيكَانِ نُسْخَةً مِنَ الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبَةً بِالْقَلَمِ الْحِمْيَرِيِّ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهَا يَقُولُ الْمَسِيحُ (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمَهُ أَحْمَدُ) وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ بِالْحَرْفِ، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ الصَّرِيحَةُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ فِي مَكْتَبَةِ الْفَاتِيكَانِ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً فِي الْقُرُونِ الْأُولَى مَا لَوْ ظَهَرَ لَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ عَنْ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ. " عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَرْجِمٌ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ " مُحَمَّدٍ " تَرْجَمَةً، أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي تَرْجَمَ هُوَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يُفِيدُ مَعْنَاهُ كَلَفْظِ الْفَارَقْلِيطِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَاهُلِ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ فِي التَّرْجَمَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ مِنَ الْمَسْلَكِ السَّادِسِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَزَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ " اهـ. وَإِنَّنِي أَزِيدُ مِثَالًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنِ اخْتِلَافِ تَرْجَمَةِ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ وَالصِّفَاتِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ يُقَرِّبُ لِفَهْمِ الْقَارِئِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ حجى مِنَ الْبِشَارَةِ بِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: بِشَارَةُ النَّبِيِّ حجى بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " 2: 6 هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ بَعْدَ قَلِيلٍ فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ 7 وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الْأُمَمِ، وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الْأُمَمِ فَأَمْلَأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ

الْجُنُودِ 8 لِيَ الْفِضَّةُ وَلِيَ الذَّهَبُ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ 9 مَجْدُ هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الْأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ 10 وَفِي هَذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلَامَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ". أَقُولُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ: إِنَّ اسْمَ أَوْ لَقَبَ " مُشْتَهَى الْأُمَمِ " وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْعِبْرَانِيِّ عِنْدَ الْيَهُودِ " حَمَدُوتْ " وَمَعْنَاهُ: الَّذِي يُحْمَدُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْحَمْدِ كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمَالِكِ. فَحَمْدُوتُ الْأُمَمِ هَذَا الَّذِي تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ، وَهُوَ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَمَحْمُودٍ، فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ حَمَّدَهُ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا حَمِدَهُ كَثِيرًا، وَمَنْ تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ يَكُونُ مَحْمُودًا حَمْدًا كَثِيرًا أَيْ مُحَمَّدًا. وَالثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (حَمِدَ) الثُّلَاثِيِّ، وَمَحْمُودٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَهَلْ بَعْدَ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفَارَقَلِيطِ الْيُونَانِيِّ مُتَرْجَمًا مِنْ لَفْظٍ حَمَدُوتْ الْعِبْرَانِيِّ، وَنُسَخُ الْإِنْجِيلِ الْعِبْرَانِيَّةِ الَّتِي نَقَلَتْ أَلْفَاظَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامِ بِحُرُوفِهَا قَدْ فُقِدَتْ، وَلَا نَدْرِي سَبَبَ فَقْدِهَا؟ بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نَتَّهِمُ مَجَامِعَ الْأَسَاقِفَةِ الَّتِي تَحَكَّمَتْ فِي الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، فَعَدَّتْ بَعْضَهَا قَانُونِيًّا وَبَعْضَهَا غَيْرَ قَانُونِيٍّ، وَصَارُوا يُتْلِفُونَ مَا هُوَ غَيْرُ قَانُونِيٍّ. بَلْ نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِتَنَصُّرِ الْقَيْصَرِ قُسْطَنْطِينَ الْأَوَّلِ وَلَا نَعْتَقِدُ إِخْلَاصَهُ فِيهِ، بَلْ نَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَلًا سِيَاسِيًّا مِنْهُ، وَإِنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْمَجَامِعِ عَلَى تَحْوِيلِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ إِلَى وَثَنِيَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْيُونَانِيِّينَ وَأَسَاتِذَتِهِمْ مِنْ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّذِينَ دَانُوا بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ بَقِيَتْ نُسَخُ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ لَكَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ مِنَ التَّحْقِيقِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الْأَسَاقِفَةِ الَّذِينَ قَبِلُوا مِنْهَا مَا وَافَقَ اعْتِقَادَهُمْ وَرَدُّوا مَا لَمْ يُوَافِقْهُ، كَأَنَّ عَقَائِدَهُمُ التَّقْلِيدِيَّةَ الْمُتَأَثِّرَةَ بِنَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ السِّيَاسِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ خَلَتْ لِلْمَسِيحِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْأَنَاجِيلَ الْمَأْثُورَةَ هِيَ الْفَرْعُ، تُعْرَضُ عَلَى تِلْكَ التَّقَالِيدِ فَيُقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَهَا وَيُرَدُّ مَا خَالَفَهَا؟ . وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى إِنْجِيلَ بِرْنَابَا أَرْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي عُلُومِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَالْفَضَائِلِ فَإِنَ كَانَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ كَالدُّكْتُورِ خَلِيلِ سَعَادَة الَّذِي تَرْجَمَ لَنَا هَذَا الْإِنْجِيلَ يُعَلِّلُ هَذَا بِمُوَافَقَتِهِ لِفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي قُرُونِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ قَدْ طَعَنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي آدَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالُوا: إِنَّ التَّوْرَاةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ نَشَأَ مُوسَى فِي حِجْرِ فِرْعَوْنِهِمْ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرِيعَةِ حَمُورَابِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرَائِعِ الْبَابِلِيِّينَ، وَكَانَتْ كِتَابَةُ التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ الْبَابِلِيِّ، وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْبَابِلِيَّةِ - وَقَالُوا: إِنَّ الْآدَابَ الْمَسِيحِيَّةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ كُتُبِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ الْأَخْلَاقَ.

158

وَنَحْنُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا نَعْتَدُّ بِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ، وَلَكِنَّا نُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مِثْلِ الْمَقَامِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا لَا مَحَلَّ لِبَسْطِهِ هُنَا. . . . ثُمَّ إِنَّ بَقِيَّةَ بِشَارَةِ حجى لَا تَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُحَمَّدِ الْأُمَمِ فَهُوَ الَّذِي زَلْزَلَ رَبُّ الْجُنُودِ بِبِعْثَتِهِ الْعَالِمَ، وَنَصَرَهُ بِالْجُنُودِ وَبِالْحُجَّةِ جَمِيعًا، وَكَانَ مَجْدُ دِينِ اللهِ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِهِ بِمُوسَى وَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ قَوْمِهِ، وَفُرِضَتْ شَرِيعَةُ الزَّكَاةِ وَخُمْسُ الْغَنَائِمِ تُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَكَانَتِ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ لِلَّهِ - وَفِي النُّسْخَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْقَدِيمِ: إِنَّ الْآيَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، " إِنَّ الْمَجْدَ الْقَدِيمَ لِهَذَا الْبَيْتِ أَعْظَمُ مِنَ الْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِلْهَيْكَلِ الْأَوَّلِ " وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَرْجَمَةِ النَّصَارَى الَّتِي نَقَلْنَا عَنْهَا، وَحَسْبُنَا هَذَا مِنَ الْبِشَارَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَنْ يَهْدِي اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَحْمَدُهُ تَعَالَى أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ وَالدُّعَاةِ إِلَى مِلَّتِهِ وَصَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ذُكِرَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِطْرَادًا بِحَسَبِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمِنْ سَائِرِ قِصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهَا فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي كُتُبِهِمْ وَالْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَبَيَانِ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاتِّبَاعِهِ نَاسَبَ أَنْ يُقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانُ عُمُومِ بَعْثَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَدَعْوَةُ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لَهُ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْهَاشِمِيِّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، يُنْبِئُهُمْ بِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ كَافَّةً لَا إِلَى قَوْمِهِ الْعَرَبِ خَاصَّةً كَمَا زَعَمَتِ الْعِيسَوِيَّةُ مِنَ الْيَهُودِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (34: 28) وَقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (6: 19) أَيْ وَأَنْذِرَ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ

يُؤْمِنُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ ; لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفَرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيُكَوَّنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (25: 1) وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (21: 107) وَهُوَ يَشْمَلُ عُقَلَاءَ الْجِنِّ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ نَاطِقَةٌ بِاخْتِصَاصِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِرِسَالَةِ الْعَامَّةِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً وَفِي رِوَايَةٍ " كَافَّةً "، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا غَيْرَ خَاصَّةٍ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ بِهِ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ لِيُعْلَمَ مُسْتَقَرُّ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَفِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يُرْسِلُونَ الْوُفُودَ إِلَى آدَمَ فَنُوحٍ فَإِبْرَاهِيمَ فَمُوسَى فَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِفَضْلِ الْقَضَاءِ، فَيَعْتَرِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَيَقُولُ " لَسْتُ هُنَاكُمْ " وَيَطْلُبُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَيُحِيلُهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، حَتَّى إِذَا أَحَالَهُمْ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَجَابَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَقَالَ: " أَنَا لَهَا " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَا صَاحِبُكُمْ " فَيُشَفَّعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: مَا يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا، وَالرِّوَايَاتُ فِي الشَّفَاعَةِ مُتَدَاخِلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا. ثُمَّ وَصَفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَبِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَقَالَ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يَحْيَى وَيُمِيتُ وَالْمُرَادُ بِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: التَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، لِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ هِيَ الْعَوَالِمُ الَّتِي تَعْلُو هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا، وَصَاحِبُ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِمَا هُوَ رَبُّهُمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفٌ لَتَعَارَضَ مَعَ تَصَرُّفِهِ، وَفَسَدَ النِّظَامُ الْعَامُّ ; فَإِنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَدَمِ التَّفَاوُتِ وَالتَّعَارُضِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَةِ مَصْدَرِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَإِذَا كَانَ رَبُّ الْخَلَائِقِ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالتَّوْحِيدُ بِقِسْمَيْهِ، تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ - أَيْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ - هَمَّا أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِعَقَائِدِهِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي، وَأَمَّا وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُوَ بَعْضُ تَصَرُّفِ الرَّبِّ فِي خَلْقِهِ فَيَتَضَمَّنُ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، فَقَدْ أُدْمِجَتْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ أَرْكَانُ الدِّينِ الثَّلَاثَةُ - وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ

الْقُرْآنِ الْغَرِيبِ - وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلِ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَيْ: فَآمَنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ بِاللهِ الْوَاحِدِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ الَّذِي يُحْيِي كُلَّ مَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ فِي الْعَالَمِ، وَيُمِيتُ كُلَّ مَا يَعْرِضُ لَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ فَتُشَاهِدُونَهُ، وَمَثَلُهُ الْبَعْثُ الْعَامُّ بَعْدَ الْمَوْتِ الْعَامِّ وَخَرَابِ هَذَا الْعَالِمِ، وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقِ الْمُمْتَازِ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي بَعَثَهُ فِي الْأُمِّيِّينَ (الْعَرَبِ) رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُطَهِّرُهُمْ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ وَالْجَهْلِ وَالتَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي بِعَصَبِيَّاتِ الْأَجْنَاسِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ ; لِيَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً يَتَحَقَّقُ بِهَا الْإِخَاءُ الْبَشَرِيُّ الْعَامُّ، وَقَدْ بَشَّرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْكِرَامُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ الْمُتِمُّ الْمُكَمِّلُ لِمَا بُعِثُوا بِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْأَقْوَامِ، وَأُمِّيَّتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ، وَأَيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيمِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ؟ ! . الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ أَيْ: يُؤْمِنُ بِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَكَلِمَاتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَهِيَ مَظْهَرُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ أَمَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ: وَاتَّبِعُوهُ بِالْإِذْعَانِ الْفِعْلِيِّ لِكُلِّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا وَتَرْكًا، رَجَاءَ اهْتِدَائِكُمْ بِالْإِيمَانِ وَبِاتِّبَاعِهِ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ اهْتِدَاءُ صَاحِبِهِمَا وَوُصُولِهِ بِالْفِعْلِ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَدَلِيلُهُ الْفِعْلِيُّ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مَا آمَنَ قَوْمٌ بِنَبِيٍّ إِلَّا وَكَانُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا قَبْلَهُ مِنْ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَأَظْهَرُ التَّوَارِيخِ وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا تَارِيخُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَصِلَ بِهِمُ الْجَهْلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي نَالُوا بِهَا الْمُلْكَ الْعَظِيمَ وَالْعِزَّ وَالسُّؤْدُدَ وَالْغِنَى وَالْحَضَارَةَ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنْ يَزُولَ الْمَعْلُولُ بِزَوَالٍ عِلَّتِهِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَيَعُودُوا إِلَيْهِ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَصِلَ بِهِمُ الْجَهْلُ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَعِدُوا بِهَا ثُمَّ شَقُوا بِتَرْكِهَا هِيَ سَبَبُ هَذَا الشَّقَاءِ الْأَخِيرِ لَا تَرْكَهَا. (فَصْلٌ فِي مَعْنَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَمَوْضُوعِهِ وَلَوَازِمِهِ) قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَاتَّبِعُوهُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: وَاتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فَتِلْكَ فِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ تَشْمَلُ اتِّبَاعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لَهُ بِهِ، وَاتِّبَاعَهُ فِي اجْتِهَادِهِ

وَاسْتِنْبَاطِهِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ تَشْرِيعًا - كَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ فِي الْقُرْآنِ - وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ كَحَدِيثِ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ، وَحَدِيثُ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ إِلَخْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ وَصَحَّحُوهُ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا قُرْبَةَ فِيهَا وَلَا حُقُوقَ تَقْتَضِي التَّشْرِيعَ بِخِلَافِ حَدِيثِ: كُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ وَادَّخِرُوا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْأَضَاحِيَّ مِنَ النُّسُكِ وَالْأَكْلَ مِنْهَا سُنَّةٌ فَأَمَرَ الْمُضَحِّيَ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَادِّخَارُهَا جَائِزٌ لَهُ، لَوْلَا الْأَمْرُ بِهِ لَظُنَّ تَحْرِيمُهُ أَوْ كَرَاهَتُهُ لِعَلَاقَةِ الْأَضَاحِيِّ بِالْعِيدِ فَهِيَ ضِيَافَةُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ، فَالتَّشْرِيعُ إِمَّا عِبَادَةٌ أُمِرْنَا بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَإِمَّا مَفْسَدَةٌ نُهِينَا عَنْهَا اتِّقَاءً لِضَرَرِهَا فِي الدِّينِ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ فِيمَا لَيْسَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَعَاوَنُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَكَأَكْلٍ الْمَذْبُوحِ لِغَيْرِ اللهِ وَتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ بِمَا شَرَعَ تَعْظِيمَ اللهِ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ لَهُ وَالْحَلِفِ بِاسْمِهِ - أَوْ لِضَرَرِهَا فِي الْعَقْلِ أَوِ الْجِسْمِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ - وَإِمَّا حُقُوقٌ مَادِّيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ أُمِرْنَا بِأَدَائِهَا إِلَى أَهْلِهَا كَالْمَوَارِيثِ وَالنَّفَقَاتِ وَمُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ أُمِرْنَا بِالْتِزَامِهَا لِضَبْطِ الْمُعَامَلَاتِ كَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَبِإِدْخَالِ حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ وَحُكْمِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي التَّشْرِيعِ تَتَّسِعُ أَحْكَامُهُ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي:. لَيْسَ مِنَ التَّشْرِيعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَلَا لِخَلْقِهِ لَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَفْعُ مَفْسَدَةٍ كَالْعَادَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ، وَمَا يَرِدُ فِيهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ إِرْشَادًا لَا تَشْرِيعًا إِلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَعِيدٌ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ أَنَّ إِنْكَارَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِبَعْضِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّجَارِبِ لِلتَّشْرِيعِ كَتَلْقِيحِ النَّخْلِ فَامْتَنَعُوا عَنْهُ فَأَشَاصَ (خَرَجَ ثَمَرُهُ شِيصًا أَيْ رَدِيئًا أَوْ يَابِسًا) فَرَاجَعُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ عَنْ ظَنٍّ وَرَأْيٍ لَا عَنِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ لَهُمْ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَحِكْمَتُهُ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِذَاتِهَا تَشْرِيعٌ خَاصٌّ بَلْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ إِلَى مَعَارِفَ النَّاسِ وَتَجَارِبِهِمْ. وَكَانُوا يُرَاجِعُونَهُ أَيْضًا فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ أَهْوَ مِنْ رَأْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاجْتِهَادِهِ الدُّنْيَوِيِّ أَوْ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى؟ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشْرِيعًا كَسُؤَالِهِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِلنُّزُولِ فِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَهَذَا مُنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا مُتَقَدَّمٌ عَنْهُ وَلَا

مُتَأَخَّرٌ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَلَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ لَا وَحْيٌ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَمَكَايِدِ الْحَرْبِ أَشَارَ بِغَيْرِهِ فَوَافَقَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَيِّنُ لِأُولَئِكَ الْحَقَّ فِيمَا اشْتَبَهُوا فِيهِ، وَمَنْ ذَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ اجْتِهَادَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ دِينًا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَهُ لَهَانَ الْأَمْرُ، وَلَكِنَّ اتِّخَاذَهُ دِينًا قَدْ كَثُرَتْ بِهِ التَّكَالِيفُ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي ضَعُفَ فِيهَا الِاتِّبَاعُ، فَثَقُلَتْ عَلَى الطِّبَاعِ فَصَارُوا يَتْرُكُونَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، وَجَرَّأَهُمْ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ فِيهِ، ثُمَّ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ بَعْضِهِمْ لِلدِّينِ كُلِّهِ، وَدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالْجَامِدُونَ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفِقْهِ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي إِلْزَامِ الْأُمَّةِ التَّدَيُّنَ بِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوءِ وَلَا يُبَالُونَ إِذَا أَشْعَرَهُمُ الْمُصْلِحُونَ. مِثَالُ مَا شَدَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَبْغُ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزِّينَةِ الْمُبَاحَةِ إِذْ لَا تَعَبُّدَ فِيهِ وَلَا حُقُوقَ لِلَّهِ وَلَا لِلنَّاسِ، إِلَّا مَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ كَالزِّيِّ مِنْ كَوْنِ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ صَارَ خَاصًّا بِالْكُفَّارِ، وَفَعَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ تَشَبُّهًا بِهِمْ أَوْ صَارَ بِفِعْلِهِ لَهُ مُشَابِهًا لَهُمْ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مَعْنَوِيٌّ وَسِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ كَوْنِ الْمُتَشَبِّهِ بِقَوْمٍ تَقْوَى عَظَمَتُهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ تَضْعُفُ فِيهَا رَابِطَتُهُ بِقَوْمِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَبْغِ الشَّيْبِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ عَادَةً لَا عِبَادَةً وَلَوْ بِالسَّوَادِ، وَفَهِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمَا اسْتِحْبَابَهُ شَرْعًا، وَفَهِمَ آخَرُونَ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ كَرَاهَتِهِ بِالسَّوَادِ بَلْ قَالَ الْمُتَشَدِّدُونَ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، فَصَارَ الْمُقَلِّدُونَ لَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَعُدُّونَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَخَالَفُوا هَدْيَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْإِنْكَارِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ. فَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ وَالِدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ جَاءَ أَوْ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّبْغِ بِالسَّوَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي وَاقِعَةِ عَيْنٍ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ عَادِيٍّ فَلَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، وَلَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُمُومُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُعَارَضَةٌ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِصَبْغِ الشَّيْبِ الْمُوَجَّهِ لِلْأُمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ - وَبِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ " وَظَاهِرُهُ تَغْيِيرُهُ

بِهِمَا مَعًا، وَإِلَّا لَقَالَ " أَوِ الْكَتَمُ "، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ مَعًا، إِنَّهُ أَسْوَدُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ أَيْ لَيْسَ حَالِكًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ السَّوَادِ إِذَا كَانَ قَوِيًّا مُشَبَّعًا، وَيَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ إِذَا كَانَ خَفِيفًا، وَهُوَ أَسْوَدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ سَبَبَ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاجْتِنَابِ السَّوَادِ فِي تَغْيِيرِ شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْهُ لِشَيْخٍ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، وَكَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ كَالثَّغَامَةِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهِ كُلِّهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى ذَوْقِ الْبَشَرِ الْعَامِّ أَدْرَكَ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَخْضِبُ بِالسَّوَادِ إِذْ كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا فَلَمَّا نَفَضَ الْوَجْهُ وَالْأَسْنَانُ تَرَكْنَاهُ اهـ. وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَعْيَانِ لَا عُمُومَ لَهَا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَيْضًا: أَنَّ الَّذِينَ أَجَازُوا الصَّبْغَ بِالسَّوَادِ تَمَسَّكُوا بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِتَغْيِيرِهِ مُخَالَفَةً لِلْأَعَاجِمِ (وَقَالَ) وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ (أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ) أَقُولُ: وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ بَعْدَ جَزْمِهِ هُوَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ السَّوَادِ مَا نَصُّهُ: " وَقَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَابِ وَفِي جِنْسِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ. وَرَوَوْا حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ، وَلِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَهُ، رُويَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَآخَرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْخِضَابُ أَفْضَلُ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ (قَالَ الْقَاضِي) قَالَ الطَّبَرَانِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ، بَلِ الْأَمْرِ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ، وَالنَّهْيِ لِمَنْ لَهُ شَمَطٌ فَقَطْ (قَالَ) : وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ ; وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ. (قَالَ) : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ.

(قَالَ الْقَاضِي) وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ عَلَى حَالَيْنِ فَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ عَادَةُ أَهْلِهِ الصَّبْغُ أَوْ تَرْكُهُ فَخُرُوجُهُ عَنِ الْعَادَةِ شُهْرَةٌ وَمَكْرُوهٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَظَافَةِ الشَّيْبِ فَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تَكُونُ نَقِيَّةً أَحْسَنَ مِنْهَا مَصْبُوغَةً فَالتَّرْكُ أَوْلَى، وَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تُسْتَبْشَعُ فَالصَّبْغُ أَوْلَى (قَالَ النَّوَوِيُّ) : هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي، وَالْأَصَحُّ الْأَوْفَقُ لِلسُّنَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مَذْهَبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْإِصْرَارَ مِنَ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَجَعْلِهِ أَوْفَقَ لِلسُّنَّةِ مِنْ غَرِيبِ تَعَصُّبِهِ لَهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَمَلِ بَعْضِ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِهِ، وَسَائِرُ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَكَذَا أَمْثَالُهَا - لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَالنَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ وَالزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ كَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ، وَبِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ وَالْأَحْوَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُعَبِّرُ فِيهَا الذَّوْقُ فِي الزِّينَةِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَأَيُّ مَدْخَلٍ لِلتَّحْرِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا مُحَرَّمَ فِي الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ إِلَّا مَا كَانَ ضَارًّا؟ . وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا كَسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ، وَمِنْهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخَضِبُونَ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " ضَعِيفٌ مَتْنًا وَسَنَدًا بَلْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مِنْ آيَاتِ الْوَضْعِ فِي مَتْنِهِ الْوَعِيدَ بِالْحِرْمَانِ مِنْ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْعَادَاتِ، وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا الْكَافِرُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ دَعْ مُخَالَفَتَهُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْجَزَرِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الشَّيْخَانِ قُلْنَا: التَّصْحِيحُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِأُصُولِ الشَّرْعِ كَهَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنَّ ابْنَ حِبَّانَ مَنَعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ كَهَذَا الْحَدِيثِ. وَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الَّذِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَتَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ خَضَبَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَلَهُ بَابٌ فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ فَيُرَاجَعُ مَعَ شُرُوحِهِ، وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا تَدُلُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى وُجُوبٍ وَلَا نَدْبٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ، وَعَدَمُ فِعْلِهِ لِعَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ أَوْلَى بِأَلَّا يَدُلَّ عَلَى حُرْمَتِهَا وَلَا كَرَاهَتِهَا دِينًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ نَبَّهَ الْأُمَّةَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّشْرِيعَ كَمَوْقِفِهِ فِي عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ لِئَلَّا يَلْتَزِمُوهَا تَدَيُّنًا فَيَكُونُوا قَدْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ

مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، عَلَى أَنَّ زَمَنَ تَوَخِّي اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، فِي الْعَادَاتِ، حُبًّا فِيهِ وَتَذَكُّرًا لِحَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، بِدُونِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ أَوْ يُوهِمَ النَّاسَ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَمَّلَ ضَرَرًا لَا يُبَاحُ التَّعَرُّضُ لَهُ شَرْعًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ شُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ شَرْعًا - فَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُ هَذَا مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِيمَانِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِتَحَرِّي ذَلِكَ يَزِيدُ تَذَكُّرُهُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحُبُّهُ لَهُ، وَقَدِ انْفَرَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بِتَتَبُّعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ وَتَقَلُّبِهِ فِي سَفَرِهِ وَلَا سِيَّمَا سَفَرُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَتَحَرِّي اتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَعُدَّهُ النَّاسُ تَشْرِيعًا فَيَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3) . وُجُوبُ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ: وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلنَّاسِ كَافَّةً أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِيمَانَ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أُمَّتِهِ - أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ - وَهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يُبَلِّغُوا دَعْوَتَهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَمَاعَاتٍ تَتَعَاوَنُ عَلَيْهِ إِذْ لَا يُغْنِي الْأَفْرَادُ غَنَاءَ الْجَمَاعَاتِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ - الَّذِي هُوَ بَدْءُ الدَّعْوَةِ - أَمْ إِلَى الشَّرَائِعِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3: 104) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ تَجْرِيدٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ - أَيْ لِتَكُنْ صَدِيقًا لِي، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هَدَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّفَ لِلدَّعْوَةِ جَمَاعَاتٌ تُعِدُّ لَهَا عُدَّتَهَا، وَأَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ جَعْلُ " مِنْكُمْ " لِلتَّبْعِيضِ إِلَخْ. [رَاجِعْ ص22 - 438 ط الْهَيْئَةِ] . وَتَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ، فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي عَصْرِ الْبَعْثَةِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْأَصْنَامِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَيَقْضِي لَهُمْ حَاجَتَهُمْ مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ بِوَسَاطَتِهِمْ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْحَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُنْكِرُونَ

الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِبَعْضِ الْبَشَرِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُوهُمْ أَوَّلًا إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ، وَبَابُ الدُّخُولِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعَ دَفْعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَيَلِي ذَلِكَ دَعَوْتُهُمْ إِلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْوَثَنِيَّةُ الْقَدِيمَةُ بِجَمِيعِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَلَاسِيَّمَا النَّصَارَى الَّذِينَ أَقَامُوا عَقِيدَتَهُمْ عَلَى أَسَاسِ التَّثْلِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدْ فُقِدَتْ فِي غَزْوَةِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْضُهُمْ لَهُمْ تَوْرَاةً بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ دِينِيٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عَهْدِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَلَى مَا تَذَكَّرَ الْكَاتِبُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ تَحْرِيفٍ وَأَغْلَاطٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَعْظٍ وَتَعْلِيمٍ وَبِشَارَةٍ قَدِ ادَّعَاهُ كَثِيرُونَ فَظَهَرَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَهُ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا اخْتَارَ الْجُمْهُورُ الَّذِي جَمَعَ شَمْلَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ - الْوَثَنِيُّ الَّذِي تَنَصَّرَ سِيَاسَةً - أَرْبَعَةً مِنْهَا فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ، وَفَشَا فِيهِمْ مُنْذُ عَهْدِ هَذَا الْمَلِكِ الْوَثَنِيِّ الْمُتَنَصِّرِ عِبَادَةُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّالِحِينَ حَتَّى صَارَتِ الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ كَهَيَاكِلِ الْأَوْثَانِ مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - فَكَانَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُجَجُهُ عَلَيْهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ تَخْتَلِفُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْلِيِّينَ، كَمَا تَرَاهُ مَبْسُوطًا فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ الْأَرْبَعِ الْأُولَى: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ - فَفِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَقَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: يُوَجِّهُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ إِلَى الْيَهُودِ، وَذُكِرَتْ فِيهِ النَّصَارَى بِالْعَرَضِ - وَأَوَائِلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي حِجَاجِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِي أَوَاخِرِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُهُ فِي النَّصَارَى. وَجُلُّ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَالنَّصَارَى خَاصَّةً. وَأَمَّا هَذَا الْعَصْرُ فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَتَجَدَّدَتْ لِلْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ شُبُهَاتٌ جَدِيدَةٌ يَتَوَكَّئُونَ فِيهَا عَلَى مَسَائِلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ، وَحَدَثَتْ لِلنَّاسِ آرَاءٌ وَمَذَاهِبُ فِي الْحَيَاةِ فِيهَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، وَالنَّافِعُ

وَالضَّارُّ، بَلْ مِنْهَا مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَقْوِيضِ دَعَائِمِ الْعُمْرَانِ، وَمَثَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ ذُيُوعُ التَّعَالِيمِ الْمَادِّيَّةِ، وَفَوْضَى الْآدَابِ، وَتَدَهْوُرُ الْأَخْلَاقِ، وَتَغَلُّبُ الرَّذَائِلِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْفَسَادُ فِي أَفْظَعِ صُورَةٍ فِي حَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ الْكُبْرَى وَمَا وَلَّدَتْهُ مِنْ تَفَاقُمِ شَرَهِ الْمُسْتَعْمِرِينَ وَشَرِّهِمْ وَفَظَائِعِهِمْ فِي الشَّرْقِ، وَانْتِشَارِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَفَاسِدِهِمْ فِي الْبِلَادِ الرُّوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبَثِّ دَعْوَتِهَا فِي الْعَالَمِ - فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، وَرَدِّ الشُّبَهِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (آيَ 3: 104) حَاجَةَ الدَّاعِي إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ عِلْمًا مِنْهَا السِّيَاسَةُ وَلُغَاتُ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَأَشَرْتُ هُنَالِكَ إِلَى مَقَالَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا. اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْإِسْلَامِ: وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي بَحْثِ اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ لُغَتِهِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَدَانَ بِدِينِهِ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِهِ، وَأَنْ يَتْلُوَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِتْقَانِ لُغَتِهِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، فَالْمُسْلِمُونَ يُبَلِّغُونَ الدَّعْوَةَ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا هَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَّمُوهُ أَحْكَامَهُ وَلُغَتَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ الْفَاتِحُونَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَمَا بَعْدَهَا، إِلَى أَنْ تَغَلَّبَتِ الْأَعَاجِمُ عَلَى الْعَرَبِ، وَسَلَبُوهُمُ الْمُلْكَ فَوَقَفَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَضَعُفَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنْ قَضَى عَلَيْهَا التُّرْكُ وَحَرَّمَتْهَا حُكُومَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لِتَقْطَعَ كُلَّ صِلَةٍ لَهُمْ بِدِينِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ تَفْصِيلًا. وَمِمَّا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَقَالٌ فِي لُغَةِ الْإِسْلَامِ نَشَرْنَاهُ أَوَّلًا فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ الْيَوْمِيَّةِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ بِوُجُوبِ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِسَالَتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِلِسَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كِتَابَ اللهِ مَحْضٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَخْلِطُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؟ فَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ اللهِ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (14: 4) . " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؟ (قِيلَ) : فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَتَعَلَّمُوا لِسَانَهُ، أَوْ مَا يُطِيقُونَهُ مِنْهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِأَلْسِنَتِهِمْ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً دُونَ أَلْسِنَةِ الْعَجَمِ؟ ؟ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَالدّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَلْسِنَةُ مُخْتَلِفَةً بِمَا لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ تَبَعًا لِبَعْضٍ، أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ فِي اللِّسَانِ الْمُتَّبَعِ عَلَى التَّابِعِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْفَضْلِ فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا يَجُوزُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَهْلُ لِسَانِهِ أَتْبَاعًا لِأَهْلِ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ لِسَانٍ تَبَعٌ لِلِسَانِهِ وَكُلُّ أَهْلِ دِينٍ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ دِينِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (26: 192 - 195) وَقَالَ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا حُكْمًا عَرَبِيًّا (13: 37) وَقَالَ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (42: 7) وَقَالَ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (43: 1 - 3) . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَقَامَ حُجَّتَهُ بِأَنَّ كِتَابَهُ عَرَبِيٌّ فِي كُلِّ آيَةٍ ذَكَرْنَاهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَفَى جَلَّ وَعَزَّ عَنْهُ كُلَّ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (16: 103) وَقَالَ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ (41: 44) . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَعَرَّفَنَا قَدْرَ نِعَمِهِ بِمَا خَصَّنَا بِهِ مِنْ مَكَانَةٍ فَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ. . . (9: 128) الْآيَةَ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (62: 2) الْآيَةَ وَكَانَ مِمَّا عَرَّفَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ إِنْعَامِهِ أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (43: 44) فَخَصَّ قَوْمَهُ بِالذِّكْرِ مَعَهُ بِكِتَابِهِ وَقَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (26: 214) وَقَالَ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (42: 7) وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَهِيَ بَلَدُهُ وَبَلَدُ قَوْمِهِ، فَجَعَلَهُمْ فِي كِتَابِهِ خَاصَّةً، وَأَدْخَلَهُمْ مَعَ الْمُنْذَرِينَ عَامَّةً، وَقَضَى أَنْ يُنْذَرُوا بِلِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ لِسَانِ قَوْمِهِ مِنْهُمْ خَاصَّةً. " فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَّغَهُ جُهْدُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأَمَرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا ازْدَادَ مِنَ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِسَانَ مَنْ خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ آخِرَ كُتُبِهِ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، كَمَا

عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ فِيهَا، وَيَأْتِيَ الْبَيْتُ وَمَا أُمِرَ بِإِتْيَانِهِ وَيَتَوَجَّهَ لِمَا وُجِّهَ لَهُ، وَيَكُونَ تَبَعًا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَنُدِبَ إِلَيْهِ لَا مَتْبُوعًا. " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَإِنَّمَا بَدَأْتُ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ إِيضَاحِ جُمَلِ عِلْمِ الْكِتَابِ أَحَدٌ جَهِلَ سَعَةَ لِسَانِ الْعَرَبِ وَكَثْرَةَ وُجُوهِهِ، وَجِمَاعَ مَعَانِيهِ وَتَفَرُّقَهَا. وَمَنْ عَلِمَهَا انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبَهُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى مَنْ جَهِلَ لِسَانَهَا، فَكَانَ تَنْبِيهُ الْعَامَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ خَاصَّةً نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ فَرْضٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، أَوْ إِدْرَاكُ نَافِلَةِ خَيْرٍ لَا يَدَعُهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَتَرَكَ مَوْضِعَ حَظِّهِ، فَكَانَ يَجْمَعُ مَعَ النَّصِيحَةِ لَهُمْ قِيَامًا بِإِيضَاحِ حَقٍّ، وَكَانَ الْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَنَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَطَاعَةُ اللهِ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ " اهـ. ثُمَّ ذَيَّلْنَا هَذَا النَّقْلَ بِمَا نَذْكُرُ هُنَا مُلَخَّصَهُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَةِ الْأُصُولِ الشَّهِيرَةِ الْمَطْبُوعَةِ بِمِصْرَ بِنَصِّهَا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبٌ لَهُ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَلَّا إِنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَتْ رِسَالَتُهُ هَذِهِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ إِذْ كَانَتْ هِيَ أَوَّلُ مَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ دُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يُخَالِفْهُ وَلَمْ يُنَاقِشْهُ أَحَدٌ فِيهَا، وَلَا فِيمَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا، وَأَوْضَحُ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى التَّعَبُّدِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذَا سُنِّيٌّ وَلَا شِيعِيٌّ وَلَا إِبَاضَيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ وَلَا مُعْتَزِلِيٌّ. نَعَمْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَصَّرُوا فِي دِرَاسَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بَعْدَ ضَعْفِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَغَلُّبِ الْأَعَاجِمِ، فَعَطَّلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْعِبْرَةِ وَالِاتِّعَاظِ بِآيَاتِهِ وَفَهْمِ عَقَائِدِهِ وَفِقْهِ أَحْكَامِهِ، وَلَكِنْ رُوِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِجَوَازِ أَدَاءِ بَعْضِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِيهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يَجِبُ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْأَفْرَادِ لِضَعْفٍ فِي نُطْقِهِ وَفَهْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَسَعُ أَيُ شَعْبٍ أَعْجَمِيٍّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ فِي دِينِهِ عَنْ لُغَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ جَمِيعَ مُقَلِّدِيهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ لَا يَزَالُونَ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَأَذْكَارَ الصَّلَاةِ وَالْحَجَّ وَغَيْرَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ خُطْبَةُ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّتْ بِهِ الْحُكُومَةُ الْكَمَالِيَّةُ التُّرْكِيَّةُ فَأَمَرَتِ الْخُطَبَاءَ بِأَنْ يَخْطُبُوا بِالتُّرْكِيَّةِ تَمْهِيدًا لِلصَّلَاةِ بِهَا لِخَلْعِ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ جَمَاعَةَ الْمُصَلِّينَ مِنَ التُّرْكِ لَمَّا سَمِعُوا خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ بِالتُّرْكِيَّةِ نَكِرُوهَا، وَنَفَرُوا مِنْهَا وَاتَّخَذُوا خُطَبَاءَهَا سِخْرِيًّا ; لِأَنَّ لِلْعَرَبِيَّةِ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ يَخْشَعُونَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا كُلَّ عِبَارَاتِهَا ; وَلِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوهَا بِنَغَمٍ خَاصٍّ وَأَدَاءٍ خَاصٍّ لَا تَقْبَلُهُ اللُّغَةُ التُّرْكِيَّةُ كَالْعَرَبِيَّةِ.

وَلَيْسَتْ عِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَيْضًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا حَتَّى الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى تَوَقُّفِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْرِفَةً تُمَكِّنُ صَاحِبَهَا مَنْ فَهْمِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ - أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) فَتُرَاجَعْ فِيهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ إِقَامَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى لُغَةِ كِتَابَةِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ هِدَايَتُهُ الرُّوحِيَّةُ، وَرَابِطَتُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَحُكُومَتُهُ الْعَادِلَةُ الْمَدَنِيَّةُ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ أَحْوَجَ إِلَى الْوَحْدَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمُ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَمَزَّقُوا فِيهِ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَأَصْبَحُوا أَكْلَةً لِمَنْهُومِي الِاسْتِعْمَارِ وَمُسْتَعْبِدِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا الْحَدِيثَ. بَحْثُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ: سَيَقُولُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِ دِينًا رُوحَانِيًّا مَدَنِيًّا سِيَاسِيًّا، وَبَعْضُ أُولِي الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَجِبُ إِلَّا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ عَلَى شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ مَا جَازَ عَلَى شُعُوبِ النَّصَارَى مَثَلًا مِنْ تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ بِلُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَمِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ . وَنَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَنَا مَسْأَلَةُ نَقْلٍ وَاتِّبَاعٍ لَا مَسْأَلَةُ رَأْيٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَئِمَّتَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَثَانِيًا) إِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ نَزِيدَ عَلَى ذِكْرِ اعْتِقَادِنَا هَذَا فِي صَحِيفَةٍ عُمُومِيَّةٍ وَثَالِثًا (إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ تَرْجَمَةً تُؤَدِّي مَعَانِيَهُ تَأْدِيَةً تَامَّةً كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى وَيَبْقَى بِهَا مُعْجِزًا وَآيَةً - مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالْإِيضَاحِ فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) وَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا. (وَرَابِعًا) إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْكِتَابِ لَا تُخِلُّ بِفَهْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَتَشْرِيعِهِ أَفَلَا تُخِلُّ بِمَا هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْمَقَالِ مِنْ وُجُوبِ وَحْدَتِهِمْ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ - وَتَوَقُّفُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيٌّ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لُغَةَ جَمِيعِ أَفْرَادِ شُعُوبِهِمْ فَلْتَكُنْ مِمَّا يُتْقِنُهُ طَوَائِفُ رِجَالِ الدِّينِ وَدُعَاةُ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ؟ بَلَى بَلَى اهـ.

(تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ) كَتْبَنَا فِي فَاتِحَةِ الْمُجَلَّدِ (26) مِنَ الْمَنَارِ مَقَالًا فِي مَسْأَلَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَذْكُرُ هُنَا مِنْهُ مَا يَلِي: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (سُورَةُ يُوسُفَ 12 1، 2) . وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يَحْدُثُ لَهُمْ ذِكْرًا (سُورَةُ طه 20: 113) . وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذَرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الْأَحْقَافِ 46: 12) . وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (سُورَةُ الزُّمَرِ 39: 27، 28) . حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (سُورَةُ فُصِّلَتْ 41: 1 - 3) . حُمَّ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزُّخْرُفِ 43: 1 - 4) . وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (سُورَةُ الشُّورَى 42: 7) . وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ 26: 192 - 199) . قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (سُورَةُ النَّحْلِ 16: 102، 103) . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينِ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمَى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (سُورَةُ فُصِّلَتْ 41: 44) .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (سُورَةِ الرَّعْدِ 13: 37) . أَمَّا بَعْدُ، فَهَذِهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْبَابِ، تَجَاوَزْنَ جَمْعَ الْقِلَّةِ إِلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَعَدَوْنَ إِشَارَاتِ الْإِيجَازِ وَحُدُودَ الْمُسَاوَاةِ إِلَى بَاحَةِ الْإِطْنَابِ، يَنْطِقْنَ بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَلَا التَّحْوِيلَ، بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي جَعَلَهُ آخِرَ كُتُبِهِ، عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ آيَاتِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَزَلَ بِهِ عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَأَنَّهُ ضَرَبَ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، حَالَ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، وَأَنَّهُ أَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُنْذِرَ بِهِ (أُمَّ الْقُرَى) وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى، وَأَنَّهُ عَلَى إِنْزَالِهِ إِيَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، وَالْوَعِيدِ وَالْبُشْرَى، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يَحْدُثُ لَهُمْ ذِكْرًا، أَنْزَلَهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَأَمَرَ مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ حَقًّا مَشَاعًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مُحَابَاةَ لِقَرَابَةٍ وَلَا فَضْلٍ، فَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا اقْرَأِ الْآيَاتِ (مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ 4: 5 10 - 114) بِطُولِهَا، وَرَاجِعْ سَبَبَ نُزُولِهَا فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ دِينِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَأَنَّهُ حُكُومَةٌ دِينِيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ، عَرَبِيَّةُ اللِّسَانِ، عَامَّةً لِجَمِيعِ شُعُوبِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَصَلَوَاتُ اللهِ وَتَحِيَّاتُهُ الْمُبَارَكَةُ الطَّيِّبَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأَمِينِ، الَّذِي جَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَفَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، بِإِكْمَالِ دِينِهِ بِلِسَانِهِ، وَعَلَى لِسَانِهِ وَإِرْسَالِهِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ هِدَايَةَ رِسَالَتِهِ بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، بِقَوْلِهِ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (21: 107) وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (25: 1) وَقَوْلِهِ تَعَالَى جَدُّهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (34: 28) وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (33: 40) وَقَوْلِهِ عَمَّ نَوَالُهُ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: الْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (5: 3) . وَقَدْ بَلَّغَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَعْوَةَ رَبِّهِ كَمَا أُمِرَ، فَبَدَأَ بِأُمِّ الْقُرَى ثُمَّ بِمَا حَوْلَهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَشُعُوبِ الْعَجَمِ، بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي قَضَى اللهُ أَنْ يُوَحِّدَ بِهِ أَلْسِنَةَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً بِالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ ; لِيَكُونُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا

لَا مَثَارَ بَيْنِهِمْ لِلْعَدَاوَاتِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِعَصَبِيَّاتِ الْأَنْسَابِ وَالْأَقْوَامِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَلْسِنَةِ فَكَتَبَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كُتُبَهُ إِلَى قَيْصَرِ الرُّومِ وَكِسْرَى الْفُرْسِ وَمُقَوْقِسِ مِصْرَ بِلُغَةِ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةِ كَكُتُبِهِ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ وَأُمَرَائِهِمْ، وَبَلَّغَ أَصْحَابُهُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أُمَّتَهُ مِنْ تَعْمِيمِ الدَّعْوَةِ، وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّ نُورَهَا سَيَنْتَشِرُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَصَدَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لِهَدْيِهِمْ، وَجَمِيعَ دُوَلِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِهِمْ، بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ نَشْرِ هَذَا الدِّينِ بِلُغَتِهِ، فِي كِلَا قِسْمَيْ شَرِيعَتِهِ عِبَادَتِهِ وَحُكُومَتِهِ. فَكَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي شُعُوبِ الْأَعَاجِمِ مِنْ قَارَّاتِ الْأَرْضِ الثَّلَاثِ (آسِيَةَ وَأَفْرِيقِيَّةَ وَأُورُبَّةَ) بِلُغَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيُقْبِلَ الدَّاخِلُونَ فِيهِ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِبَاعِثِ الْعَقِيدَةِ، وَضَرُورَةِ إِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا سِيَّمَا فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ هُمَا عُنْوَانُ الدُّخُولِ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَكَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ جَمِيعِ تِلْكَ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ، بِالْإِجْمَاعِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ التَّعَبُّدِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَقْصِيرِ دَوْلَةِ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ، بِعَدَمِ جَعْلِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةً رَسْمِيَّةً لِلدَّوَاوِينِ، كَسَلَفِهِمْ مِنَ السَّلْجُوقِيِّينَ وَالْبُوَيْهِيِّينَ، حَتَّى بَعْدَ تَنَحُّلِهِمْ لِلْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرَفْعِ أَلْوِيَتِهِمْ عَلَى مَهْدِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِلَادِ الْحِجَازِيَّةِ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَارُضِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ الْعَصَبِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ وَرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّفَرُّقِ وَالتَّقَاتُلِ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ، فَإِلْغَاءِ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، فَإِسْقَاطِ دَوْلَةِ آلِ عُثْمَانَ، وَتَأْلِيفِ جُمْهُورِيَّةٍ، تُرْكِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، أُورُبِّيَّةِ الْعَادَاتِ وَالتَّقْنِينِ وَالتَّشْرِيعِ، وَإِبْطَالِ مَا كَانَ فِي الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَمَشْيَخَةِ الْإِسْلَامِ وَالْأَوْقَافِ وَالْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حُكُومَتَهُمْ هَذِهِ مَدَنِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ فَصْلًا بَاتًّا كَمَا فَعَلَتِ الشُّعُوبُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَضَعُوا قَانُونَ هَذِهِ الْجُمْهُورِيَّةِ قَبْلَ التَّجَرُّؤِ عَلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ، وَضَعُوا فِي مَوَادِّهِ أَنَّ الدِّينَ الرَّسْمِيَّ لِلدَّوْلَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ مُرَاعَاةً لِلشَّعْبِ التُّرْكِيِّ الْمُسْلِمِ، كَمَا وَضَعُوا فِيهِ مَوَادًا أُخْرَى تُنَافِي الْإِسْلَامَ مِنَ اسْتِقْلَالِ الْمَجْلِسِ الْوَطَنِيِّ الْمُنْتَخَبِ بِالتَّشْرِيعِ بِلَا قَيْدٍ وَلَا شَرْطٍ، وَمِنْ إِبَاحَةِ الرِّدَّةِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ الشَّرْعُ. وَظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، كَالطَّعْنِ الصَّرِيحِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ حَتَّى فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ وَكَإِبَاحَةِ الزِّنَا وَالسُّكْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَبُرُوزِ النِّسَاءِ التُّرْكِيَّاتِ فِي مَعَاهِدِ الْفِسْقِ وَمَحَافِلِ الرَّقْصِ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُنَافِيَاتِ الدِّينِ. . . . وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يَرْوِ غَلِيلَ الْعَصَبِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ التُّورَانِيَّةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِحِقْدِهَا عَلَى الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَآدَابِهَا الدِّينِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ كَانَ مِنْ كَيْدِهَا لَهَا السَّعْيُ لِإِزَالَةِ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنْ نَفْسِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ وَلِسَانِهِ، وَعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ ; لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ سَلَّهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، بِمَعُونَةِ التَّرْبِيَةِ

الْجَدِيدَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْعَامِّ، بَلْ عَمَدُوا إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، الثَّابِتِ أَصْلُهَا، الرَّاسِخِ فِي أَرْضِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ عِرْقُهَا، الْمُمْتَدِّ فِي أَعَالِي السَّمَاءِ فَرْعُهَا، الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، عَمَدُوا إِلَيْهَا لِاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا وَاقْتِلَاعِ جِذْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ مِنَ الْتِحَاءِ عُودِهَا، وَامْتِلَاخِ أُمْلُودِهَا، وَخَضْدِ شَوْكَتِهَا وَعَضْدِ خَصْلَتِهَا، بَعْدَ أَنْ نَعِمُوا بِضْعَةَ قُرُونٍ بِثَمَرَتِهَا، وَإِنَّمَا تِلْكَ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْحَكِيمُ الْمَجِيدُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ، هِيَ الزَّيْتُونَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَإِذَا مَسَّتْهُ نَارُ الْإِيمَانِ بِحَرَارَتِهَا اشْتَعَلَ نُورًا عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (24: 35) . وَإِنَّمَا أَعْنِي بِقَطْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مُحَاوَلَةَ حِرْمَانِهِ مِنْهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ تَرْجَمُوا الْقُرْآنَ بِالتُّرْكِيَّةِ لَا لِيَفْهَمَهُ التُّرْكُ، فَإِنَّ تَفَاسِيرَهُ بِلُغَتِهِمْ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مِنْ مَقَاصِدِ إِبْطَالِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ إِبْطَالُ دِرَاسَتِهَا (أَيِ التَّفَاسِيرِ حَتَّى التُّرْكِيَّةِ) وَحَظْرِ مُدَارَسَةِ كُتُبِ السَّنَةِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَشَوَاهِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ مَحْوَ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنَ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ، وَمِنْ أَنْفُسِ الْأُمَّةِ التُّرْكِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّةً خَاصَّةً لِمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِتَطْهِيرِ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ " مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاقْتِرَاحِ بَعْضِهِمْ كِتَابَةَ لُغَتِهِمْ بِالْحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ، وَإِذَا طَالَ أَمَدُ نُفُوذِ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذَا الشَّعْبِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُمْ سَيُنَفِّذُونَ هَذَا الِاقْتِرَاحَ قَطْعًا كَمَا نَفَّذُوا غَيْرَهُ حَتَّى اسْتِبْدَالَ قُرْآنٍ تُرْكِيٍّ بِلُغَةِ بَعْضِ مَلَاحِدَةِ التُّورَانِيِّينَ، بِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، الْمُتَعَبَّدِ بِأَلْفَاظِهِ الْعَرَبِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعْجِزِ بِبَلَاغَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَكَوْنِهِ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَرَأَيْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ هَذَا الْخَطْبَ الْعَظِيمَ؟ أَرَأَيْتَ هَذَا الْبَلَاءَ الْمُبِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْجَرْأَةَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّدْمَةَ لِدِينِ اللهِ الْقَوِيمِ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ هَذَا الشَّنَآنَ وَالِاحْتِقَارَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَرَفْضَ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مُدَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفٍ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي مِصْرَ أَعْرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ! . لَقَدْ كَانَ مِنْ تَأْثِيرٍ ذَلِكَ مَا هُوَ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ، عَلَى فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَاخْتِلَالِ الْمَنْطِقِ وَفَسَادِ التَّعْلِيمِ، وَالْجَهْلِ الْفَاضِحِ بِضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ وَشُئُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، وَتَعَارُضِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَسْوِيدِ الصَّحَائِفِ الْمُنَشَّرَةِ، بِمِثْلِ مَا شَوَّهُوهَا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ أَبْعَدَ عَنْ أَهْوَاءِ الْخِلَافِ، لِلنُّصُوصِ

الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِيهَا، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ شُذُوذِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْفِرَقِ حَتَّى الْمُبْتَدَعَةِ عَنْهَا، فَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ، وَتَعَدَّدَتِ الْأَحْزَابُ وَالشِّيَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَارْتَدَّ بَعْضُ الْفِرَقِ عَنِ الدِّينِ، بِضُرُوبٍ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلِ، وَسَخَافَاتٍ مِنْ أَبَاطِيلِ التَّحْرِيفِ، كَمَا فَعَلَ زَنَادِقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَقْوُوا وَيُصَرِّحُوا بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ تَقُمْ فِرْقَةٌ تَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَلَا ضَلَّتْ طَائِفَةٌ بِتَرْجَمَةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْآذَانِ ; لِأَجْلِ الِاسْتِغْنَاءِ بِهَا فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، عَنِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَا حَوْلَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ تَصْوِيرِ الْفُقَهَاءِ لِلْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ، أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَعْجَمِيٌّ مَثَلًا، وَأَرَدْنَا تَعْلِيمَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسَانُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يُصَلِّي بِمَعَانِيهَا مِنْ لُغَتِهِ، أَمْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَذْكَارِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ مُؤَقَّتًا رَيْثَمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، أَمْ يُصَلِّيَ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ بِلُغَتِهِ؟ نُقِلَ الْقَوْلُ الْأَخِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ (عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ، غَيْرَ الْمَعْصُومِ) فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَاعُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ مِمَّا يُؤَيِّدُ حَفِظَ اللهِ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَأَرَادَ مَلَاحِدَةُ التُّرْكِ أَنْ يُبْطِلُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (سُورَةُ الصَّفِّ 61: 8، 9) مَنْشَأُ فِكْرَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَسَبَبُهَا: لَقَدْ كَانَ ضَعْفُ الْخِلَافَةِ الْقُرَشِيَّةِ بِجَهْلِ الْخُلَفَاءِ وَتَرَفِهِمْ وَفِسْقِهِمْ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَخَاذُلِهِمْ فَضَعْفِهِمْ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِتَأْسِيسِ عِدَّةِ دُوَلٍ إِسْلَامِيَّةٍ تَتَنَازَعُ السُّلْطَةَ، وَلِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَرْكِ الْأَعَاجِمِ، فَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَتَدْرِيسِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، فَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ بِلُغَاتِهِمْ لِأَجْلِ فَهْمِهِ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَتِهِ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا انْفَرَدَتْ دَوْلَةُ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ دُونَ سَائِرِ دُوَلِ الْأَعَاجِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِجَعْلِ لُغَتِهِمْ رَسْمِيَّةً لَهَا، ثُمَّ بِادِّعَاءِ مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ لِسُلْطَانِهَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَمُّدَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ لِإِضْعَافِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِمُعَادَاتِهَا، وَلِتَفْضِيلِ لُغَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، ثُمَّ لِتَفْضِيلِ رَابِطَةِ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ عَلَى رَابِطَةِ دِينِهِمْ، ثُمَّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هَذَا بِتِلْكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَتْ جَامِعَةُ اللُّغَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ مُعَارِضَةً لِلْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَبَبًا لِمُعَادَاتِهَا. ثُمَّ تَجَدَّدَ لِدُعَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ سَبَبٌ آخَرُ لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّمْهِيدُ بِهِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا التُّرْكُ الَّذِينَ نَالُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهِ مَا نَالُوا مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْكَبِيرِ.

إِنْ مَلَاحِدَةَ التُّرْكِ وَدُعَاةَ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مِنْهُمْ قَدْ بَثُّوا فِي قَوْمِهِمْ فَكُرَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِاللِّسَانِ التُّرْكِيِّ قَبْلَ عَهْدِ الْحُرِّيَّةِ الدُّسْتُورِيَّةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَأَوَّلُ مَنْ سَمِعْنَا مِنْهُ هَذَا الرَّأْيَ مُحَمَّدُ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي الَّذِي صَارَ بَعْدَ الدُّسْتُورِ مَبْعُوثًا، وَأَنْشَأَ فِي الْآسِتَانَةِ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ خِدَاعِ الْعَرَبِ وَإِضْلَالِهِمْ سَمِعْتُ هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ مِنْهُ فِي مِصْرَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ فِي الْآسِتَانَةِ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا وَأَنْكَرْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ. (مِنْهَا) قَوْلُنَا فِي (الْفَتْوَى 27 ص343 ج 5 م13 الَّذِي صَدَرَ فِي سَلْخِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 1327) فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ مُحَمَّدِ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ:. " لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي شَذَّ فِيهَا وَحْدَهَا هَذَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ لَهُ شُذُوذًا فِي مَسَائِلَ أُخْرَى دِينِيَّةٍ، وَتَارِيخِيَّةٍ كَادِّعَائِهِ أَنَّ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا تَمَّتْ وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَكَادِّعَائِهِ أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي دِينِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى آيَةً لِلْعَالِمِينَ، مُعْجِزًا لِلْبَشَرِ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى التُّرْكِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَرْجِمُ يُتَرْجِمُ حَسَبَ فَهْمِهِ فَيَخْتَلِفُ مَعَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ أَهْلِ لُغَةٍ قُرْآنٌ، وَإِنْ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهَا الْإِعْجَازُ كَالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سَبَقَ لِي مُنَاظَرَةٌ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ مُنْذُ سِنِينَ اهـ. وَمِنْهَا - مَا ذَكَرْتُهُ فِي (ج 7 مِنْهُ ص 549) فِي سِيَاقِ سَمَرٍ مَعَ طَلْعَت بِك (بَاشَا) نَاظِرِ الدَّاخِلِيَّةِ بِدَارِهِ فِي الْآسِتَانَةِ ذَكَرَ لِي فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَيُنْشِئُ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً؛ لِأَجْلِ التَّآلُفِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّهُ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهَا زِيَادَةَ الشِّقَاقِ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْعَرَبِ، وَزَعْمِهِ إِمْكَانَ اسْتِغْنَاءِ التُّرْكِ عَنْ لُغَتِهِمْ وَعَنْ قُرْآنِهِمُ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِالتُّرْكِيَّةِ إِلَخْ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَمِنْهَا - قَوْلُنَا فِي مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى (فِي ص384 مِنْهُ) : اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ (أَيِ الْمُفْسِدِينَ) مَنْ يَفُوقُ سِهَامُ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شَرَّفْتَهَا وَفَضَّلْتَهَا بِخَاتَمِ أَنْبِيَائِكِ وَرُسُلِكِ، وَخَيْرِ كُتُبِكَ الْمُنَزَّلَةِ لِهِدَايَةِ خَلْقِكَ وَخَاطَبْتَ سَلَفَهَا الصَّالِحَ بِقَوْلِكَ الْحَقِّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (3: 110) إِلَخْ. " اللهُمَّ إِنَّهُمْ حَسَدُوهَا أَنْ جَعَلْتَ كِتَابَكَ عَرَبِيًّا مُبِينًا، فَهُمْ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ لِيَكُونَ عُرْضَةً لِتَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَّفِقِينَ، اللهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ لِتَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَرْجَمَتَهُ لِكُلِّ شَعْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَفَرَّقُوا فِيهِ، اللهُمَّ إِنَّهُ حَبْلُكَ الْمَتِينُ الَّذِي أَمَرَتْنَا أَنْ نَعْتَصِمَ بِهِ

وَلَا نَتَفَرَّقَ عَنْهُ بِقَوْلِكَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (3: 103) وَهُوَ بَيِّنَاتُكَ الَّتِي قُلْتَ فِيهَا: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ (3: 105) . " اللهُمَّ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رِسَالَةَ خَاتَمِ رُسُلِكَ مَا تَمَّتْ إِلَى الْآنِ. وَأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنْتِ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (5: 3) . وَمِنْهَا - قَوْلُنَا فِي آخِرِ الْفَتْوَى 32 مِنْهُ (ص571) فِي سِيَاقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَلَا يَتِمُّ هَذَا الِاهْتِدَاءُ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا شَيْءَ أَضَرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ; لِيَسْتَغْنِيَ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّرْجَمَةِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. فَالْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ إِذَا وَقَعَتْ (لَا سَمَحَ اللهُ) أَنْ يَكُونَ الْأَعَاجِمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُرْضَةً لِتَرْكِ الدِّينِ. وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى اهـ. وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَةُ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بَعْدَ قَبْضِ مَلَاحِدَةِ جَمْعِيَّةِ الِاتِّحَادِ وَالتَّرَقِّي عَلَى أَعِنَّةِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، تَمْهِيدًا مِنْهُمْ لِمَا نَفَّذَهُ أَنْدَادُهُمُ الْكَمَالِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ نَبْذِ الدَّوْلَةِ التُّرْكِيَّةِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَسَعْيِهَا لِسَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ كَانَ مِمَّا نَشَرَ الِاتِّحَادِيُّونَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُمَهِّدَةِ لِهَذَا السَّبِيلِ (كِتَابُ قَوْمٍ جَدِيدٌ) الَّذِي انْتَقَدْنَاهُ وَنَشَرْنَا تَرْجَمَةَ بَعْضِ مَسَائِلِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ 1335) وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) إِنْشَاءُ شَعْبٍ تُرْكِيٍّ غَيْرِ مُسْلِمٍ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِي آخِرِ مُقَالٍ طَوِيلٍ مِنْهُ (ص160 ج2 م17) عُنْوَانُهُ (مَفَاسِدُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فِي أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالدِّينِ) مَا نَصُّهُ: " يَرَى هَؤُلَاءِ الْعَامِلُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِهِمْ عَقَبَةٌ تَحُولُ دُونَ بُلُوغِ الْمَقْصِدِ بِالسُّرْعَةِ الَّتِي يَبْغُونَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْعَمَلِ إِلَّا حَاجَةَ التُّرْكِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ الدِّينِ. وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ وَلُغَتَهُ مِمَّا يُعِيقُ تَكْوِينَ أُمَّةٍ تُرْكِيَّةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الطِّرَازِ الْإِفْرِنْجِيِّ الْفَرَنْسِيِّ، فَاجْتَهَدُوا فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَانِعِ بِمُزِيلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَدَعْوَةُ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِمَا سَمَّوْهُ الْقُرْآنَ التُّرْكِيَّ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْقُرْآنِ يَسْتَغْنُونَ بِالْأَوْلَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ. (الثَّانِي) نَشْرُ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الَّتِي تَجْعَلُ الْجِنْسِيَّةَ التُّرْكِيَّةَ أَعْلَى وَأَسْمَى فِي النُّفُوسِ مِنْ رَابِطَةِ الدِّينِ تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ بِالْأُولَى. . . . (وَذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ كِتَابَ " قَوْمٍ جَدِيدٍ " وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضِ مَفَاسِدِهِ) ثُمَّ نَشَرْنَا نَمُوذَجًا مِنْ كِتَابِ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) هَذَا فِي (ص539 - 544 مِنْهُ) أَوَّلُهُ قَوْلُهُ فِي (ص14 مِنْهُ) :

يَجِبُ تَعْطِيلُ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّكَايَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْآسِتَانَةِ مَا عَدَّا الْجَوَامِعِ الَّتِي بَنَاهَا السَّلَاطِينُ وَتَخْصِيصُ نَفَقَاتِهَا بِالشِّئُونِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ النَّبَوِيَّةِ (؟) وَيَلِيهِ قَوْلُهُ فِي ص15 بِفَرْضِيَّةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ. وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَاتِ مَنْ سَمَّاهُمْ (قَوْمٌ عَتِيقٌ) مِنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْعَمَلِ بِكُتُبِ فِقْهِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي وَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ بِالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ - ثُمَّ قَالَ فِي صِفَاتٍ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا الْقَوْمُ الْجَدِيدُ فَإِنَّهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الْقَدِيمَةِ، بَلِ اسْتَخْرَجُوا مِنَ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ الْأَرْكَانَ الدِّينِيَّةَ الْآتِيَةَ: (1) الْعَقْلَ. (2) كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ. (3) الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ. (4) الْجِهَادَ مَالًا وَبَدَنًا وَالْحَرْبَ. (5) السَّعْيَ لِإِعْدَادِ لَوَازِمِ الْحَرْبِ. . . إِلَخْ ثُمَّ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ وَسَائِلَ وَمَقَاصِدَ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَقَدْ صَدَقَ كُلُّ مَا قُلْنَاهُ وَارْتَأَيْنَاهُ مِنْ مَقَاصِدِ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ مَا فَعَلَتْهُ الْحُكُومَةُ الْكَمَالِيَّةُ مِنْ إِلْغَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّهَا، وَجَعْلِ جَمِيعِ سِيَاسَتِهَا وَأَحْكَامِهَا حَتَّى الشَّخْصِيَّةِ مَدَنِيَّةً أُورُبِّيَّةً، وَإِلْغَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَوْقَافِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ - دَعْ إِلْغَاءَ مَا عُمِلَ بِاسْمِ الدِّينِ مِنَ الْمُبْتَدِعَاتِ كَتَكَايَا أَصْحَابِ الطُّرُقِ مُقَلَّدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ إِلَخْ. صَدِّقُوا بِالْفِعْلِ كُلَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ بِحَالِ الدَّوْلَةِ التُّرْكِيَّةِ، وَتَأْثِيرِ التَّفَرْنُجِ فِيهَا يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا مَا نَقُولُهُ عَنْ عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ وَغَيْرَةٍ عَلَى الْإِسْلَامِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ إِضْعَافٌ لِلدُّوَلِ حَامِيَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ حِرْصًا عَلَى تَقْوِيَةِ الدَّوْلَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَتَقْوِيَةِ الْإِسْلَامِ بِالدَّوْلَةِ ; لِأَنَّنَا نَعْلَمُ مَالًا يَعْلَمُونَ مِنْ إِفْضَاءِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ إِلَى إِضَاعَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ الْمَفْتُونِينَ لِلْإِسْلَامِ وَلِلدَّوْلَةِ مَعًا - وَكَذَلِكَ كَانَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ التُّرْكِ الرُّوسِيِّينَ اسْتَفْتَانَا فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ بِهَذَا الْغَرَضِ الْفَاسِدِ فَأَفْتَيْنَاهُ فِيهَا لِذَاتِهَا ; إِذْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِنَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إِلَى إِخْرَاجِ شَعْبٍ إِسْلَامِيٍّ مِنَ الْإِسْلَامِ - وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: (فَتْوَى الْمَنَارِ فِي حَظْرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ) نُشِرَتْ فِي ص 268 - 274م 11 ج4 مِنْهُ الْمُؤَرَّخِ 29 رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ 1326 (س1) مِنَ الشَّيْخِ أَحْسَن شَاه أَفَنْدِي أَحْمَد (مِنْ رُوسْيَا) . حَضْرَةَ الْأُسْتَاذُ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ رَشِيد رِضَا: نَرْجُو أَنْ تُعِيرُوا جَانِبَ الِالْتِفَاتِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ: ذَكَرَ الْفَاضِلُ أَحْمَدُ مِدْحَت أَفَنْدِي مِنْ عُلَمَاءِ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ فِي كِتَابِهِ " بَشَائِرِ صِدْقِ نُبُوَّت " مَا تَرْجَمْتُهُ:

إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْمُبَاحَثَاتِ الَّتِي دَارَتْ بِشَأْنِ تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ لَمْ تَرْسِ عَلَى نَتِيجَةٍ، وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ تَرْجَمَتَهُ بِالتَّمَامِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِإِعْجَازِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ. (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْكَلِمَاتِ لَا يُوجَدُ لَهَا مُقَابِلٌ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يُتَرْجِمُ إِلَيْهَا، فَيَضْطَرُّ الْمُتَرْجِمُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ. ثُمَّ إِذَا نُقِلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى يَحْدُثُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّغْيِيرِ أَيْضًا وَهَلُمَّ جَرًّا، فَيُخْشَى مِنْ هَذَا أَنْ يُفْتَحَ طَرِيقٌ لِتَحْرِيفِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ كَلِمَاتِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ يُسْتَخْرِجُ مِنْهَا بَعْضُ إِشَارَاتٍ وَأَحْكَامٍ بِطَرِيقِ الْحِسَابِ، فَإِبْدَالُهَا بِالتَّرْجَمَةِ يَسُدُّ هَذَا الطَّرِيقَ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدِي جَلَبِي كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ إِذَا أُخْرِجَتِ الْحُرُوفُ الْمُكَرَّرَةُ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ النَّاسِ الَّتِي هِيَ آخَرُ سُورَةٍ تَكُونُ الْحُرُوفُ الْبَاقِيَةُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ: وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُدَّةِ سِنِيِّ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - فَإِذَا تُرْجِمَ الْقُرْآنُ لَا يَبْقَى فِي التَّرْجَمَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْفَوَائِدِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ انْتَهَى " مِنْ بَشَائِرِ صِدْقِ نُبُوَّت ". أَمَّا أُدَبَاؤُنَا مَعْشَرَ التُّرْكِ الرُّوسِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَرْجَمَتِهِ وَيَقُولُونَ: لَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ إِلَّا إِيجَابَ بَقَائِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ ; فَلِذَا يَذْهَبُونَ إِلَى وُجُوبِ تَرْجَمَتِهِ، وَهُوَ الْآنُ يُتَرْجِمُ فِي مَدِينَةِ قَزَّانَ، وَتُطْبَعُ تَرْجَمَتَهُ تَدْرِيجًا، وَكَذَلِكَ تَشَبَّثَ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى اللِّسَانِ التُّرْكِيِّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ حَاجِيُّ الْبَاكَوِيُّ أَحَدُ فِدَائِيَّةِ الْقُفْقَازِ، فَنَرْجُو مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ التَّدَبُّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. حَرَّرَهُ الْإِمَامُ الْحَقِيرُ أَحْسَنُ شَاه أَحْمَد الْكَاتِبُ الدِّينِيُّ السَّمَاوِيُّ (جَوَابُ الْمَنَارِ لَهُ) إِنَّ مِنْ تَقْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَشْرِ دِينِهِمْ أَلَّا يُبَيِّنُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ، وَلَوْ بِتَرْجَمَةِ بَعْضِهِ ; لِأَجْلِ دَعْوَةِ مَنْ لَيْسَ مَنْ أَهِلْهُ إِلَيْهِ، وَإِرْشَادِ مَنْ يَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّ مَنْ زَلْزَلَ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا إِلَى أُمَمٍ تَكُونُ رَابِطَةُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهَا جِنْسِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ أَوْ لُغَوِيَّةٌ أَوْ قَانُونِيَّةٌ وَيَهْجُرُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ، الْمُعْجِزِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَهِدَايَتِهِ، الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، اكْتِفَاءً بِأَفْرَادٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ يُتَرْجِمُونَهُ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ بِحَسْبَ مَا يَفْهَمُ الْمُتَرْجِمُ. هَذَا الزِّلْزَالُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ جِهَادِ أُورُبَّا السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ. زُيِّنَ لَنَا أَنْ نَتَفَرَّقَ وَنَنْقَسِمَ إِلَى أَجْنَاسٍ، ظَانًّا كُلُّ جِنْسٍ مِنَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَيَاتَهُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مَوْتٌ لِلْجَمِيعِ.

وَلَا نُطِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا، وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مِنْ مَفَاسِدِ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) - اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِتَرْجَمَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ يُغْنِيهِمْ عَنْهَا تَفْسِيرُهُ بِلُغَتِهِمْ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى نَصِّهِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَحْفُوظِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ - مَعَ مُرَاعَاةِ الِاخْتِصَارِ فَنَقُولُ: (1) إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً تُطَابِقَ الْأَصْلِ مُتَعَذِّرَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ، وَالتَّرْجَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْمُتَرْجِمِ لِلْقُرْآنِ، أَوْ فَهْمِ مَنْ عَسَاهُ يَعْتَمِدُ هُوَ عَلَى فَهْمِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَهْمُ رَجُلٍ لِلْقُرْآنِ يُخْطِئُ فِي فَهْمِهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نُنْكِرُهُ. (2) إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ; إِذِ السُّنَّةُ لَيْسَتْ دِينًا إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ، فَالَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِتَرْجَمَتِهِ يَكُونُ دِينُهُمْ مَا فَهِمَهُ مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ لَهُمْ، لَا نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالِاجْتِهَادُ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنِ النَّصِّ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ نَصًّا مِنَ الشَّارِعِ، وَالْإِجْمَاعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُسْتَنَدٌ وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ مُسْتَنَدًا. فَعَلَى هَذَا لَا يَسْلَمُ لِمَنْ يَجْعَلُونَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ قُرْآنًا شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ. (3) إِنَّ الْقُرْآنَ مَنَعَ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ وَشَنَّعَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ. فَأَخْذُ الدِّينِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ هُوَ تَقْلِيدٌ لِمُتَرْجِمِهِ، فَهُوَ إِذًا خُرُوجٌ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَا اتِّبَاعٌ لَهَا. (4) يَلْزَمُ مِنْ هَذَا حِرْمَانُ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِمَّا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (12: 108) وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْ مَزَايَا الْمُسْلِمِ اسْتِعْمَالَ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ ". (5) كَمَا يَلْزَمُ حِرْمَانُهُمْ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ يَلْزَمُ مَنْعُ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ عِبَارَةِ الْمُتَرْجِمِ ; لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهَا مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ. (6) إِنَّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِهِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَارِيخِ الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ مَأْجُورًا بِالْعَمَلِ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ ; لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ هِدَايَةً لَهُ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَصْحَابِهِ فِيمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ إِذْ عُذِرُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، وَمِثْلُهُ مُعَامَلَتُهُ لَهُمْ فِيمَا فَهِمُوهُ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ; وَلِذَلِكَ شَوَاهِدُ أُخْرَى، وَلَا إِخَالُ مُسْلِمًا يَجْعَلُ لِعِبَارَةِ مُتَرْجِمِ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ.

(7) إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْبُوعٌ لِلْهِدَايَةِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا تَخْلُقُ جِدَّتُهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ وَتَفِيضُ لِلْقَارِئِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ حِكْمَتُهُ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِلْمُتَأَخِّرِ مَنْ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَبْلَهُ، تَصْدِيقًا لِعُمُومِ حَدِيثِ: " فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوَعَى مِنْ سَامِعٍ " وَتَرْجَمَتُهُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ، إِذْ تُفِيدُ الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى الَّذِي صَوَّرَهُ الْمُتَرْجِمُ بِحَسْبَ فَهْمِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ قَدْ يَجْعَلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (15: 22) مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ، أَيْ أَنَّ اتِّصَالَ الرِّيحِ بِالسَّحَابِ، وَحُدُوثَ الْمَطَرِ عَقِبَ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَلْقِيحَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى، وَحُدُوثَ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا هُوَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يُتَرْجِمُ بِهَا لَفْظٌ يَقُومُ مَقَامَ (لِوَاقِحَ) الْعَرَبِيِّ فِي احْتِمَالِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّ الْقَارِئِينَ يَتَقَيَّدُونَ بِهَذَا الْفَهْمِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا مِنَ الْعِبَارَةِ مَا هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الرِّيَاحِ لَوَاقِحَ بِالْفِعْلِ، إِذْ هِيَ تَحْمِلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ الشَّجَرِ إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقْ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَتَيَسَّرَ تَرْجَمَةُ الْآيَةِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْثِلَةً أُخْرَى، وَحَسَبُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُوَضَّحًا وَالتَّرْجَمَةُ تَقِفُ بِنَا عِنْدَ حَدٍّ مِنَ الْفَهْمِ يُعْوِزُنَا مَعَهُ التَّرَقِّي الْمَطْلُوبُ. (8) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ " إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " أَنَّ تَرْجَمَةَ آيَاتِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ فِي تَفْسِيرِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (3: 7) وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ مَدَرَجَةٌ لِلْكُفْرِ. (9) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا - أَيْ وَمِثْلُ الْفَارِسِيَّةِ التُّرْكِيَّةُ وَغَيْرُهَا - فَمَا الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُتَرْجِمُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ إِنْ شَرْحَهَا بِحَسْبَ فَهْمِهِ رُبَّمَا يُوقِعُ قَارِئَ تَرْجَمَتِهِ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ الْقُرْآنُ؟ (10) قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَالَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا " لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفُرْسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا لَهَا " فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَرْجِمُ اللَّفْظَ الْفَارِسِيَّ يَكُونُ هُنَا مُؤَدِّيًا الْمَعْنَى الْحَقِيقِي لِلَّفْظِ الْعَرَبِيِّ. وَرُبَّمَا كَانَ مُرَادُ اللهِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَمِثْلُ الْفُرْسِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَهَذَا الْمَقَامُ مِنْ مَزَلَّاتِ الْأَقْدَامِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. (11) ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ. فَقَدْ يَخْتَارُ الْمُتَرْجِمُ غَيْرَ الْمُرَادِ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْمُشْتَرِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ آنِفًا.

(12) مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ ظَاهِرِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى تَتَّفِقَ مَعَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَأْوِيلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِ أَلْفَاظِ تَرْجَمَتِهِ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ لَاسِيَّمَا فِي الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. (13) إِنَّ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ تَأْثِيرًا خَاصًّا فِي نَفْسِ السَّامِعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّرْجَمَةِ، وَإِذَا فَاتَ يَفُوتُ بِفَوْتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَيَا طَالَمَا كَانَ جَاذِبًا إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا وَهُوَ فِرَنْسِيٌّ نَسِيتُ اسْمَهُ: إِنُّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِحَالِ مُؤَثِّرَةٍ تَجْذِبُ السَّامِعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَحَضَرَ الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي نَمِر مَرَّةً الِاحْتِفَالَ السَّنَوِيَّ لِمَدْرَسَةِ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ فَافْتَتَحَ الِاحْتِفَالَ تِلْمِيذٌ بِقِرَاءَةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِي الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي: إِنَّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْثِيرًا عَمِيقًا فِي النَّفْسِ. ثُمَّ لَمَّا كَتَبَ خَبَرَ الِاحْتِفَالِ فِي جَرِيدَتِهِ (الْمُقَطَّمِ) كَتَبَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي نَفْسِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، فَكَيْفَ نَحْرِمُ مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لَهُمْ. (14) إِذَا تَرْجَمَ التُّرْكِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالصِّينِيُّ. . . إِلَخ. الْقُرْآنَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذِهِ التَّرَاجِمِ مِنَ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا بَيْنَ تَرَاجِمِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ رَأَيْنَا مَا اسْتَخْرَجَهُ لَهُمْ صَاحِبُ إِظْهَارِ الْحَقِّ مِنَ الْخِلَافَاتِ الَّتِي كُنَّا نَقْرَؤُهَا، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ حَفِظَ كِتَابَنَا مِنْ مِثْلِهَا، فَكَيْفَ نَخْتَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِنَا؟ . (15) إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، بَلْ هُوَ الْآيَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً مَحْفُوظَةً مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، بِالنَّصِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. هَذَا مَا تَرَاءَى لَنَا مِنَ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَرْجَمَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِيَكُونَ لَهُمْ قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ بَدَلَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي الْبَعْضِ - وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَكَذَا ; لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ - فَإِنَّ هُنَاكَ وُجُوهًا أُخْرَى يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهَا لِمَنْ تَأَمَّلَ وَفَكَّرَ فِي وَقْتِ صَفَاءِ الذِّهْنِ وَصِحَةِ الْبَدَنِ، بَلْ مِنْهَا مَا تَرَكْنَاهُ مَعَ تَذَكُّرِهِ. وَأَمَّا دَعْوَى الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ تَرْجَمَتِهِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّرْجَمَةِ يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ بَقَائِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ فَهْمَهُ سَهْلٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ فَهَمَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهُ دِينًا لِشَعْبٍ بِرُمَّتِهِ؟ وَإِنَّ لِاهْتِدَاءِ الْمُسْلِمِ الْأَعْجَمِيِّ بِالْقُرْآنِ دَرَجَتَيْنِ، دَرَجَةٌ دُنْيَا بِالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَيَحْفَظُونَ الْفَاتِحَةَ وَبَعْضَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ ; لِأَجْلِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُتَرْجَمُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا، وَتُقْرَأُ أَمَامَهُمْ فِي مَجَالِسِ

الْوَعْظِ بَعْضُ الْآيَاتِ، وَيُذْكَرُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا بِلُغَتِهِمْ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى بِبِلَادِ الصِّينِ، وَدَرَجَةٌ عُلْيَا لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتْقِنُوا لُغَتَهُ وَيَسْتَقِلُّوا بِفَهْمِهِ مُسْتَعِينِينَ بِكَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرَ مُقَلِّدِينَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ. إِنَّ الْأَعَاجِمَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ قَدْ فَهِمُوا أَنَّ لِلْإِسْلَامِ لُغَةً خَاصَّةً بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً بَيْنَ أَهْلِهِ لِيَفْهَمُوا كِتَابَهُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ ; وَلِتَتَحَقَّقَ بَيْنَهُمُ الْوَحْدَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِيهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (21: 92) وَيَكُونُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْتَصِمُوا بِهِ وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَلِتَكْمُلَ فِيهِمْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي حَتَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (49: 10) ; وَلِذَلِكَ انْتَشَرَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ بِسُرْعَةٍ غَرِيبَةٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَدَارِسَ وَلَا كُتُبٍ وَلَا أَسَاتِذَةَ لِلتَّعْلِيمِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأُمَوِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَفِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْعَبَّاسِيِّينَ حَتَّى صَارَتِ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَالْقِبْطِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَمَالِكَ تَمْتَدُّ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ (الْأَتْلَانْتِيكِ) إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، فَهَلْ كَانَ هَذَا إِلَّا خَيْرًا عَظِيمًا تَآخَتْ فِيهِ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَتَعَاوَنَتْ عَلَى مَدَنِيَّةٍ كَانَتْ زِينَةً لِلْأَرْضِ وَضِيَاءً وَنُورًا لِأَهْلِهَا. ثُمَّ هَفَا الْمَأْمُونُ فِي الشَّرْقِ هَفْوَةً سِيَاسِيَّةً حَرَّكَتِ الْعَصَبِيَّةَ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْفَرَسِ فَأَنْشَؤُوا يَتَرَاجَعُونَ إِلَى لُغَتِهِمْ، وَيَعُودُونَ إِلَى جِنْسِيَّتِهِمْ، وَجَاءَ الْأَتْرَاكُ فَفَعَلُوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مَا فَعَلُوا، فَسَقَطَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ وَتَمَزَّقَ شَمْلُ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَكِنْ لَمْ تَصِلِ الْفِتْنَةُ بِالنَّاسِ إِلَى إِيجَادِ قُرْآنٍ أَعْجَمِيٍّ لِلْأَعَاجِمِ، وَإِبْقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ خَاصًّا بِالْعَرَبِ، بَلْ بَقِيَ الدِّينُ وَالْعِلْمُ عَرَبِيَّيْنِ وَرَاءَ إِمَامِهِمَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِي الْإِسْلَامِ الْآنَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي إِعَادَةِ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خَيْرِ قُرُونِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي التَّعْلِيمِ، فَيَجْعَلُوا تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ إِجْبَارِيًّا فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْيُوا الْعِلْمَ بِالْإِسْلَامِ بِطَرِيقَةٍ اسْتِقْلَالِيَّةٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ فِيهَا بِآرَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الْمُخَالِفَةِ لِطَبِيعَةِ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَحْوَالِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمَفْتُونِينَ مِنَّا بِسِيَاسَةِ أُورُبَّا يُعَاوِنُونَهَا عَلَى تَقْطِيعِ بَقِيَّةِ مَا تَرَكَ الزَّمَانُ مِنَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَقْوِيَةِ الْعَصَبِيَّاتِ الْجِنْسِيَّةِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُحَاوِلُ إِغْنَاءَ بَعْضِ شُعُوبِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ! أَلَّا إِنَّهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. فَهَذَا مَا أَقُولُهُ الْآنَ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ تَفْسِيرِهِ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ إِمَامًا لَهُمْ، وَدُونَ تَرْجَمَتِهِ لِدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ هُوَ. انْتَهَتِ الْفَتْوَى. وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً مُتَعَذِّرَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ

كَثِيرَةٌ، فَهُوَ مَحْظُورٌ لَا يُبِيحُهُ الْإِسْلَامُ ; لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا وَلَا كِتَابَ اللهِ، وَلَا أَنْ يُسْنَدَ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فَيُقَالُ قَالَ: اللهُ كَذَا ; لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ وَقُرْآنَهُ عَرَبِيٌّ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَالْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْمِلَّةِ كُلِّهِمْ وَخَلَفِهِمْ لَا الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ; وَلِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْإِعْجَازِ، وَهِيَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لَهُ فِي الْمَعْنَى كَمُخَالَفَتِهَا فِي اللَّفْظِ، فَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى كَذِبٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِكِتَابِهِ. بَلْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُصْحَفِ بِلَفْظٍ آخَرَ يُرَادِفُهُ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَكَلِمَتِي " شَكٍّ، وَرَيْبٍ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (2: 2) وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِهِ مِنْهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا تُتَّبَعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِقَدْرِهَا. (أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ) تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَكِتَابَتُهُ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَلَا قِرَاءَتُهُ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا، إِلَّا فِيمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ مِنْ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَإِلَيْكَ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْغِينَانِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي التَّجْنِيسِ: وَيُمْنَعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّا أُمِرْنَا بِحِفْظِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ ; وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ اهـ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ كِتَابَتَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ زِنْدِيقٌ وَالْمَجْنُونُ يُدَاوَى، وَالزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ اهـ. وَفِي الدِّرَايَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَى النُّبُوَّةِ وَعَلَمًا عَلَى الْهُدَى، وَالْهُدَى بِمَعْنَاهُ، وَالْحُجَّةُ بِنَظْمِهِ. وَكَمَا أَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْمَعْنَى يُسْقِطُ حُكْمَ الْقِرَاءَةِ كَذَلِكَ الْإِخْلَالُ بِالنَّظْمِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ ; لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَى الْحُكْمِ وَلَا قِرَاءَةَ تَجِبُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ مَا أُنْزِلَ لِيَقَعَ الْحِفْظُ بِهَا اهـ. وَرَوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا: جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَعَنِ الصَّاحِبَيْنِ: إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا فَلَا يَجُوزُ، وَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ إِذَا قَرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: رُجُوعُ الْإِمَامِ إِلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ - وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ

فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ تُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا عِنْدُ الْعَجْزِ فَلَا فَسَادَ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ كُلَّ لَفْظٍ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا. أَمَّا إِذَا قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ فَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ اهـ. وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْجَصَّاصِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (73: 20) حَيْثُ أَمَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا مَوْضِعَ لِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ قَرَأَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ الْفَارِسِيَّ لَيْسَ قُرْآنًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (12: 2) وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُعْجِزُ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ ; وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، غَيْرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ ; لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ اهـ - وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَمَعْنَى النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لَا تُؤَدِّيهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَلَا يَعْنِينَا الْآنَ بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ الْإِمَامِ بِالْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَحَّ رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ. فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الثَّلَاثَةِ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا لَيْسَ مَبْنَاهُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَصِيرُ قُرْآنًا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلِ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّهُ الْقُرْآنُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَعْنَى فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ، وَلِأَنَّهُ الْمَيْسُورُ لَهُ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَمَا كَانَ أَدَاءُ الْمَفْرُوضَ مَوْقُوفًا عَلَى النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَيْسُورًا لَهُ أَتَى بِالتَّرْجَمَةِ بَدَلًا عَنْهُ ; لِتَقُومَ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى الْمَفْرُوضِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كَلَامُ اللهِ، الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ - وَفِي الدِّرَايَةِ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَيُقَالُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَرْجَمَتُهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِلْعَاجِزِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ قُرْآنٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعْنَى، فَالْإِتْيَانُ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ مُطْلَقًا ; إِذِ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ اهـ. وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، وَمَسْأَلَةُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا شَيْءٌ آخَرُ، وَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْأَوَّلِ عَلَى فَرْضِ

تَسْلِيمِهِ جَوَازُ الثَّانِي، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ الْقَوْلُ بِجَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَكِتَابَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَقَدْ أَجْمَعَتْ كُتُبُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (73: 20) وَالْقُرْآنُ الْمَعْرُوفُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً. وَفِي شَرْحِ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ الْحَنَفِيِّ: الْقُرْآنُ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأُخْرَى، كَوُجُوبِ الِاعْتِقَادِ، وَحُرْمَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَحُرْمَةِ الْمُدَاوَمَةِ وَالِاعْتِيَادِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا اهـ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ النَّظْمُ رُكْنًا لَازِمًا عِنْدَهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (26: 196) بِنَاءً عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَارِسِيَّةِ ; لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ بَعْدَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي أُخْرَى إِنَّهَا إِنَّمَا تَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّحَ رُجُوعَهُ عَنِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا جَمْعٌ مِنَ الثِّقَاتِ الْمُحَقِّقِينَ ; لِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ لَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِنْ فَلَانَا فِي دَفْتَرِ الْأَمِيرِ اهـ مُلَخَّصًا. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ مَا فِي اسْتِدْلَالِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِأَيِّ لُغَةٍ خَارِجِ الصَّلَاةِ وَدَاخِلِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ ; لِأَنَّهُ عَلَى رِوَايَةِ التَّخْصِيصِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِهَا مُطْلَقًا، وَعَلَى رِوَايَةِ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ لَا تَجُوزُ خَارِجَ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَلَا لِلْقَادِرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الثِّقَاتِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ الْأَخِيرِ الَّذِي صَحَّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا؟ اهـ (ص31 - 36) ثُمَّ قَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ (ص39) : " وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَفِي فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ - وَقَدْ سُئِلَ

هَلْ تَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَقِرَاءَتِهِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ قَضَّة مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ، وَوَجْهَهُ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ فَرَاجِعْهُ. " وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَقْرَبُ الْمَنْعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْعَجَمِيِّ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّحَدِّي بِمَا لَمْ يَرِدْ بَلْ بِمَا يُوهِمُ عَدَمَ الْإِعْجَازِ بَلِ الرَّكَاكَةَ ; لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَجَمِيَّةَ فِيهَا تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ ; وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالنُّظُمِ وَيُشَوِّشُ الْفَهْمَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَنَاطُ الْإِعْجَازِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ تَقْدِيمِ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ يَعْنِي أَوْ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ كَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ قِرَاءَةً اهـ. " بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ فِي تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ التَّنَاسُبِ فِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الصِّفَاتِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَضْلًا عَمَّا فِي تَرْتِيبِ الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْأَسْرَارِ مِمَّا لَا يَحُومُ حَوْلَ بَيَانِهِ لِسَانٌ أَوْ يُدْرِكُهُ جَنَانٌ. " وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِهَا: هَلْ يَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَنَقْلَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ يَحْرِمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِلَّا لَمْ تَحْرُمْ كِتَابَتُهُ اهـ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا تَسَعُهُ أَوْضَاعُ اللُّغَةِ الْمَكْتُوبِ بِهَا، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَإِعْطَاؤُهَا حُكْمَ الْقُرْآنِ حَمَلًا وَمَسًّا عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ احْتِرَامٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِنُقُوشِ الرَّسْمِ الْعَجَمِيِّ بِالرَّسْمِ الْمَخْطُوطِ الْعَرَبِيِّ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ. " وَلَمْ يُلَاحَظْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَوْجُودٌ فِيهِ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَ سُطُورِهِ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنَ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بَلْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا فَقَطْ، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَرُوعِيَ جَانِبُهُ فِي الْحُكْمِ كَمَا رُوعِيَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَالْكِتَابَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَلَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ بِهَيْئَتِهِ، وَلَكِنْ لِوَضْعِ نَقْشِهِ مَكَانَ النَّقْشِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ. " وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّسُومَ الْكِتَابِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ كُلَّهَا مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِ أُعْطِيَتْ حُكْمًا وَاحِدًا حَمْلًا وَمَسًّا، بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مِنْ وَضْعِ اللهِ تَعَالَى وَمَا عَدَاهُ مَنْ صُنْعِ الْبَشَرِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلْ غَيْرَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ مَنْزِلَتَهُ قِرَاءَةً وَتَعَبُّدًا وَنَزَلَ الرَّسْمُ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ مَنْزِلَةَ الْعَرَبِيِّ حَمَلَا وَمَسًّا عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. "

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَفْسُدُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا تَعَلُّمَ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا ائْتَمَّ بِمَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمُخْتَارُ سُقُوطُهَا وَسُقُوطُ الْقِيَامِ لَهَا وَقِيلَ: يَجِبُ قِيَامُهُ بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الذِّكْرِ. " إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَلَا قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِعَاجِزٍ أَوْ قَادِرٍ، لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا خَارِجِهَا، إِلَّا مَا تَقَدَّمَ عَنِ السَّادَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ وَتَصْحِيحَ الثِّقَاتِ رُجُوعَ الْإِمَامِ عَنْهُ. " وَمِنْ ذَلِكَ تَعُلُّمُ مَا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (إِنِ اعْتَادَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا بِهَا يُمْنَعُ، وَإِنْ فَعَلَ فِي آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ لَا فَإِنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ وَتَفْسِيرَ كُلِّ حَرْفٍ وَتَرْجَمَتِهِ جَازَ اهـ. " فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ التَّرْجَمَةَ الْحَرْفِيَّةَ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا ذُكِرَ مَعَهَا تَفْسِيرٌ أَوْ لَمَ يُذْكَرْ ; لِأَنَّهَا تَحْرِيفٌ وَتَغْيِيرٌ لِلنَّظْمِ لَا يَدْفَعُهُ اقْتِرَانُ التَّفْسِيرِ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّرْجَمَةَ التَّفْسِيرِيَّةَ فَهَذِهِ جَائِزَةٌ مُطْلَقًا بِالشَّرْطِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَلَيْسَتْ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ نُصُوصَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ تُخَالِفُهُ. وَلِذَلِكَ أَفْتَى صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ الْأُسْتَاذُ شَيْخُ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ بِمَنْعِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَوُجُوبِ مُصَادَرَةِ الْمُصْحَفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا تَرْجَمَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ. " وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (9: 6) فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى كَمَا ذَكَرَهُ الْآلُوسِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا طَلَبَ الْأَمَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ يُؤْمِنُ حَتَّى يَتَدَبَّرَ الْأَمْرَ وَيَتَّعِظَ بِمَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُ اللهِ وَكَلَامُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسَ بِدَلَالَتِهَا وَأَعْلَمِهِمْ بِبَرَاعَةِ أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَةِ نَظْمِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَآمَنُوا بِهِ وَهُمْ لِإِعْجَازِهِ مُذْعِنُونَ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يُبَيِّنُ لَهُ مَا يُرْشِدُهُ لِلْحَقِّ وَيَهْدِيهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا بِخُصُوصِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَاقْتُصِرَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ السَّمَاعِ ; لِأَنَّهَا مُسَوِّقَةٌ لِبَيَانِ حَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللَّسَنِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا يَتَنَاوَلَهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يَنْصَاعُوا لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ. " وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا سَلَفَ حُكْمَ تَرْجَمَةِ كُتُبِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّ بَعْثَهَا إِلَى الْكُفَّارِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَةُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ نَحْوِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ تَرْجَمَةً تَفْسِيرِيَّةً لَا حَرْفِيَّةً، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا حَرْفِيَّةٌ فَهِيَ لَمْ تَذْكُرْ فِي الْكُتُبِ عَلَى أَنَّهَا نَظْمٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَا قُصِدَ بِهَا تِلَاوَتُهُ بَلْ سِيقَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى حُكْمِهَا ضِمْنَ كُتُبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اهـ. شُبَهَاتُ مِنْ أَبَاحَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَدْ كَانَ مِمَّا نَشْكُو مِنْ فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَتَبُوا مَقَالَاتٍ فِي الْجَرَائِدِ خَالَفُوا فِيهَا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى الْيَوْمِ فَزَعَمُوا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مُبَاحَةٌ، وَجَاءُوا بِشُبَهَاتٍ يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى رَأْيِهِمْ، بَعْضُهَا آرَاءٌ لَهُمْ، وَبَعْضُهَا أَقْوَالٌ مِنَ الْكُتُبِ لَمْ يَفْهَمُوهَا، فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَوْ دَلَّتْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ حُجَّةً ; لِأَنَّهَا كَآرَائِهِمْ، وَمَا كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ بِرَأْيِهِ بِنَاءً رَفَعَ سَمْكَهُ الْقُرْآنُ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ قَوْلًا وَعَمَلًا. (الشُّبْهَةُ الْأَوْلَى) مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِإِمَامِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِي كَانَ خَطَرَ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَلَا عَمَلَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ. أَعْنِي مَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِرَارًا مِنْ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْعَاجِزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَعْنِي بِمَا اسْتُدِلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (26: 196) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ فِي تَفْسِيرِهَا: وَإِنَّ الْقُرْآنَ - يَعْنِي ذِكْرَهُ - مُثْبَتٌ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعَانِيَهُ فِيهَا، وَبِهِ يُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ قِيلَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لِكَوْنِ مَعَانِيهِ فِيهَا اهـ. وَنَقَلَهُ عَنْهُ آخَرُونَ كَصَاحِبِ التَّفْسِيرَاتِ الْأَحْمَدِيَّةِ. وَصَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَعْضُ الْأَزْهَرِيِّينَ فِي الْجَرَائِدِ عِنْدَمَا دَارَ الْجِدَالُ فِي حُكْمِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ وَادَّعَى أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فَهِمَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ. وَنَقُولُ فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: (أَوَّلًا) إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا مِنَ الْآيَةِ، بَلْ فَهِمَ غَيَرَهُ، وَنَقَلَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ وَالتَّضْعِيفِ " قِيلَ " وَإِنَّمَا الَّذِي فَهِمَهُ وَاعْتَمَدَهُ مَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا

عَادَةُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذْهَبٍ مُجْتَهِدٍ لِحِكَايَةِ كُلِّ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَهُ مِنْ قَوِيٍ وَضَعِيفٍ لَمْ يَنْقُلْهُ، وَلَوْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَلَهُ كَثِيرٍ مِنَ النُّقُولِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا يَحْمِلُ تَبِعَتَهَا لِإِشَارَتِهِ إِلَى ضَعْفِهَا. (ثَانِيًا) أَنَّ سَبَبَ إِشَارَتِهِ إِلَى ضَعْفِهِ هُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمَعَانِي بِمَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا مِنْ دُونِهِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَالدِّينِ، أَعْنِي أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهُ هِيَ مَدْلُولُ كَلِمَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، بِأَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ - وَهِيَ مَوْضُوعُ مَسْأَلَةِ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ - مَوْجُودَةً فِي التَّوْرَاةِ بِهَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ وَلَكِنْ بِأَلْفَاظٍ عِبْرَانِيَّةٍ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقُرْآنُ تَرْجَمَةً لِلتَّوْرَاةِ، وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَلَا نُطِيلُ فِي بَيَانِ وُجُوهِ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَبُطْلَانِهِ، وَمَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُرَادًا مِنَ الْأَبَاطِيلِ كَاحْتِجَاجِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِكِتَابٍ جَدِيدٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بَلْ بِتَرْجَمَةِ بَعْضِ التَّوْرَاةِ. (ثَالِثًا) إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا مُرَادٌ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَوْ مُطْلَقًا دُونَ الْفَاتِحَةِ، وَمِثْلِ قِصَّةِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَ قِصَّةَ مُوسَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ مُتَرْجَمَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا عَلَى حَقِيقَتِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ الْقِصَّةَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ. وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْ تَجُوزَ قِرَاءَةُ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا جَوَازُ تَرْجَمَتِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ مَثَلًا، وَلَمْ يَقُلْ بِالْأَصْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ. وَهَاهُنَا مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّجْهِيلِ وَالسُّخْرِيَةِ بِمَنٍّ يَتَهَوَّكُونَ مِثْلَ هَذَا التَّهَوُّكِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَيَنْشُرُونَهُ عَلَى النَّاسِ فِي مَسْأَلَةٍ عَظِيمَةٍ كَهَذِهِ نَتْرُكُهُ عَفْوًا عَنْهُمْ. (رَابِعًا) اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ قَبْلَ ضَمِيرِ الْقُرْآنِ، وَمُضَافٌ قَبْلَ ضَمِيرِ الْقُرْآنِ، وَمُضَافٌ قَبْلَ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ - وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ ذِكْرَهُ أَوْ خَبَرَهُ أَوْ دَلِيلَ صِدْقِهِ - مَثَلًا - لَثَابِتٌ فِي بَعْضِ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. وَلَهُمْ فِي الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ الْقُرْآنُ - وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ قَبْلَهُ - (وَالثَّانِي) : أَنَّهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا قَالَ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (7: 157) . (خَامِسًا) أَنَّ الَّذِي يُوجَدُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَامٌّ يُوجَدُ فِيهَا كُلِّهَا وَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ الْمُطْلَقِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي

وَالرَّذَائِلِ - وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا (42: 13) إِلَخْ: (وَالثَّانِي) خَاصٌّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ سَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَكَذَا غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَوْمِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (26: 197) كَمَا قَالَ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُحْتَجًّا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ (28: 44) الْآيَاتِ. فَهَلْ يَصِحُّ لِذِي عِلْمٍ أَوْ فَهْمٍ أَنْ يَقُولَ فِي الْآيَةِ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّ التَّرْجَمَةَ مَعَ هَذَا تُسَمَّى قُرْآنًا، وَكَلَامَ اللهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِهَا، خِلَافًا لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مُنْذُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ إِلَى الْيَوْمِ؟ ! لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَصِحُّ مَعَهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، كَمَا صَحَّ لِعَالِمٍ أَزْهَرِيٍّ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رَجَّحَ الْقَوْلُ الَّذِي رَأَيْتُ أَنَّهُ حَكَاهُ حِكَايَةً بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، وَلَا فِي قَوَاعِدِ اللُّغَةِ مَا يَمْنَعُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَدْ عَلِمْتُ قَطْعًا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ، وَالْمُتَبَادِرَ مِنَ اللُّغَةِ يَمْنَعُ ذَلِكَ! ! ! . (الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُ هَذَا الْأَزْهَرِيِّ " وَإِنْ رَجَعْنَا إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ - ; لِأَنَّ الْجَوَازَ وَعَدَمَهُ مِنْ مَبَاحِثِهِمْ - رَأَيْنَا الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأُمِّ أَنَّ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الْقُرْآنَ بِهِ صِحَّتْ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَمَا يَنْطِقُ بِهِ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ وُجُودُ جَمَاعَةٍ تُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، وَيَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّونَ بِهِ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، كَذَلِكَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّورِ مَا دَامُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ " اهـ. يَا لَلْعَجَبِ وَيَا لِلْفَوْضَى: الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يُجِيزُ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَيُسَمِّي التَّرْجَمَةَ قُرْآنًا؟ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ إِقَامَةَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ يَقْرَأُ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، وَجَمَاعَةٍ يَقْرَؤُونَ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّورِ؟ وَمَاذَا بَقِيَ؟ إِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يُجِيزُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ لِلْإِمَامِ وَلِلْجَمَاعَةِ وَلِلْأَفْرَادِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي حَكَاهُ هَذَا الْعَالِمُ الْأَزْهَرِيُّ عَنِ الْأُمِّ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ الْبَيَانِ الْمُفَصَّلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي رِسَالَتِهِ فِي الْأُصُولِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَقْرَأَهُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَخ؟ . (وَالْجَوَابُ) عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ صَاحِبَهَا تَقَوَّلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَقُلْ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ

قَدْ نَقَلَ بَعْضَ عِبَارَتِهِ بِتَصَرُّفٍ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ، فَقَصَّرَ فِي النَّقْلِ، وَأَخْطَأَ فِي الْفَهْمِ، وَلَا نَتَّهِمُهُ بِتَعَمُّدِ التَّقَوُّلِ عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا نَصُّ عِبَارَةِ الْأُمِّ: " فَإِنَّ أَمَّ أَعْجَمِيٌّ أَوْ لَحَّانٌ فَأَفْصَحَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ. أَوْ لَحْنَ لَا يُحِيلُ مَعْنَى شَيْءٌ مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ وَأَجْزَأَتْهُمْ، وَإِنْ لَحَنَ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ مَعْنَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ تُجْزِ مِنْ خَلْفِهِ صَلَاتُهُمْ وَأَجْزَأَتْهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنْ غَيْرَهُ، كَمَا يَجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا قِرَاءَةٍ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْقِرَاءَةَ. وَمِثْلَ هَذَا إِنْ لَفِظَ مِنْهَا بِشَيْءٍ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ غَيْرَهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَلَمْ تُجْزِ مَنْ خَلْفَهُ قَرَءُوا مَعَهُ أَوْ لَمْ يَقْرَءُوا، وَإِذَا ائْتَمُّوا بِهِ فَإِنْ أَقَامَا مَعًا أُمَّ الْقُرْآنِ أَوْ نَطَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ لِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا أَجْزَأَتْهُ، وَمَنْ خَلْفَهُ صَلَاتُهُمْ إِذَا كَانَ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ لِمَا نَطَقَ بِهِ مِنْ عُجْمَةٍ وَلَحْنٍ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا غَيْرَ الْقِرَاءَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنِ ائْتَمُّوا بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ " اهـ. ذُكِرَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأُمِّ فِي فَصْلِ عُنْوَانِهِ (إِمَامَةُ الْأَعْجَمِيِّ وَالْأَعْجَمِيُّ كَالْأَعْجَمِ مَنْ فِي لِسَانِهِ لَكْنَةٌ وَفَهَاهَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، وَضِدَّهُ الْفَصِيحُ الْجَيِّدُ النُّطْقِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ، وَحُكْمُ الْأَعْجَمِيِّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ لَهُ مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنَ اللَّحْنِ فِي الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا وَإِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَقَطْ، كَمَا يُغْتَفَرُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا مُطْلَقًا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا. وَقَوْلُهُ الْأَخِيرُ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْهُ النَّاقِلُ فَكَانَ مَحَلَّ الشُّبْهَةِ وَهُوَ " وَإِذَا ائْتَمُّوا بِهِ " إِلَخ. مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْجَمِيَّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ إِذَا أَمَّ مِثْلَهُ فَأَقَامَا مَعًا أُمَّ الْقُرْآنِ، أَيْ أَحْسَنَ كُلٌّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، أَوْ لَحِنَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ نَطَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ لِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَانَتْ صَلَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحَةً ; لِأَنَّ اللَّحْنَ وَالْعُجْمَةَ وَالرَّطَانَةَ الْأَعْجَمِيَّةَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ لَا تُبْطِلُ الْإِمَامَةَ وَلَا الصَّلَاةَ، إِذْ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْفَاتِحَةُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَا فَرْضٌ وَلَا وَاجِبٌ - وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ غَيْرُ فَرْضٍ - وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ النُّطْقِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ سَبَبُهُ الْعَجْزُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْفَصِيحَةِ لَا التَّلَاعُبُ وَلَا قَصَدُ غَيْرَ الْقِرَاءَةِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمَا. وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ تَعَمُّدِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِالْعَجَمِيِّ الْمُتَرْجَمِ بِهِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسْمِيَتِهِ قُرْآنًا. كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَبِوُجُوبِ أَدَاءِ سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا. وَبِوُجُوبِ تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لِذَلِكَ، وَهَذَا نَصُّ عِبَارَتِهِ (كَمَا فِي ص9 مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ الَّتِي مَعَ كِتَابِ الْأُمِ لَهُ) :. " فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ

إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ " إِلَخْ. هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيٌّ، وَكَتُبَ مَذْهَبَهُ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَسَائِرِ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْبَاعُهُ أَشُدُّهُمْ فِيهَا - أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ مَعَ هَذَا أَنْ يَتَجَرَّأَ عَالِمٌ أَزْهَرِيٌّ فَيَعْزُوَا إِلَى رِوَايَةِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَأْتِي عَلَى إِطْلَاقِهِ:. (1) إِنَّ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ. (2) وَإِنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وُعُدَّ مَا يَنْطِقُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا. (3، 4) وَإِنَّهُ يَجُوزُ وُجُودُ جَمَاعَةٍ تُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَغَيْرَهَا مِنَ السُّورِ مَا دَامُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ. أَيْنَ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ التَّرْجَمَةَ وَأَبَاحَهَا لِلْأَعْجَمِيِّ؟ اللهُمَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ. أَيْنَ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ إِقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ إِمَامُهُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ إِلَخْ؟ وَعِبَارَتُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ آنِفًا صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ عَجْزِ الْأَعْجَمِيِّ عَنِ الْإِفْصَاحِ وَلَوْ بِبَعْضِ الْفَاتِحَةِ عُذْرًا لَهُ دُونَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ مَعَهُ، وَعَدَمُ الْإِفْصَاحِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ شَيْءٌ وَالتَّرْجَمَةُ بِلِسَانٍ عَجَمِيٍّ شَيْءٌ آخَرُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ عِبَارَةَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ النُّطْقَ بِالْقُرْآنِ، وَمَا يُعْذَرُ بِهِ هُوَ وَمَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَجْزِ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ نَسْمَعُهُ بِآذَانِنَا مِمَّنْ يَتَعَلَّمُونَ لُغَةً غَيْرَ لُغَتِهِمْ وَلَا يُتْقِنُونَهَا مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ، فَهُمْ يُحَرِّفُونَ وَيَلْحَنُونَ وَيَخْلِطُونَ أَلْفَاظًا مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي يُجِيدُونَهَا بِاللُّغَةِ الَّتِي لَا يُجِيدُونَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَنُعِيدُ الْقَوْلَ وَنُؤَكِّدُهُ بِأَنَّ تَعَمُّدَ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ لَا تَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْ أَحَدِ أَتْبَاعِهِ فِي مَذْهَبِهِ عِنْدَمَا شَرَحُوا كَلَامَهُ، وَفَصَّلُوا أَحْكَامَهُ، وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أَيِّ قَارِئٍ لَهُ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ. (الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى وُجُوبِ فَهْمِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ فِيهَا وَفِي خَارِجِهَا صَرِيحَةٌ، وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهَا مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَتِمُّ أَدَاءُ هَذَا الْوَاجِبِ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَاتِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي تُدِينُ بِالْإِسْلَامِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْفَهْمَ وَالتَّدَبُّرَ وَمَا يُرَادُ بِهِمَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالِاعْتِبَارِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِتَعَلُّمِ الْمُسْلِمِينَ لِلُغَةِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ لَا بِتَحْوِيلِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَى لُغَاتِهِمْ كُلِّهَا، كَمَا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَةِ الْأُصُولِ، وَأَقَرَّهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ لَسَبْقِ

الْإِجْمَاعِ وَجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً صَحِيحَةً تُؤَدِّي مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالتَّأْثِيرِ كَمَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مُتَعَذِّرَةٌ وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِتَغْيِيرِ كَلَامِ اللهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَسَنَدٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ تَابِعِينَ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى دُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى تَابِعًا لِلُغَاتِهِمْ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُؤْثِرَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ لُغَةَ قَوْمِهِ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ الْعَجَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُزَاحِمُونَ الْعَرَبَ بِالْمَنَاكِبِ فِي تَلَقِّي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَعْرَابِ الْبَادِيَةِ، وَفِي جَمِيعِ عُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَآدَابِهَا كَعُلُومِ الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ بُرْهَانِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَمَا أَحْدَثَ التَّنَافُسَ بَيْنَ لُغَةِ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَلُغَةِ الْآبَاءِ مِنَ الْعَجَمِ إِلَّا بَعْضُ زَنَادِقَةِ الْفُرْسِ الْأَوَّلِينَ وَمَلَاحِدَةِ التُّرْكِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا قُدَمَاءُ مُسْلِمِي التُّرْكِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا فَكَانَتْ آفَتُهُمُ الْجَهْلَ، فَالْخَوْفَ مِنْ عَوْدَةِ السُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ إِلَى الْعَرَبِ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعَدَّهُمْ لِقَبُولِ دَسَائِسِ الْإِفْرِنْجِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ الَّتِي قَوَّضَتْ سَلْطَنَتَهُمْ (إِمْبِرَاطُورِيَّتَهُمُ) الْعُظْمَى بِجَهْلِهِمْ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ وَبَعْضُ الْآيَاتِ أَوِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِحِفْظِهِ تَفْسِيرًا يَتَمَكَّنُ بِهِ مَنْ فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَالِاعْتِبَارِ بِهِ فَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرْجَمَتِهِ وَتَسْمِيَتِهَا كَلَامُ اللهِ كَذِبًا عَلَى اللهِ، وَخِلَافًا لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - فَضْلًا عَنْ تَرْجَمَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ. (الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) مَسْأَلَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانِهَا مِنْ قَبْلُ، وَنَزِيدُهَا هُنَا بَيَانًا فَنَقُولُ: لَئِنْ كَانَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَعَاجِمِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهَا أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَمَقَاصِدَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَذَلِكَ كَافٍ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ تَرْجَمَتَهُ كَتَأْثِيرِ أَصْلِهِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فِي إِقْنَاعِ الْعُقُولِ، وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اهْتِدَاءِ الْعَرَبِ، وَقَلْبِ طِبَاعِهِمْ، وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَارْتِفَاعِ رَايَتِهِمْ، وَخُضُوعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ لَهُمْ. وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْمَقَاصِدُ لِلْأَعَاجِمِ بِلُغَاتِهِمْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ كُلُّ أَصْلٍ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ مَعَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، بِبَيَانِ مَعَانِي نُصُوصِهِمَا بِالتَّفْسِيرِ، وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ - لَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِقْنَاعِ، وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِلدَّعْوَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا مُسْلِمُو خَيْرِ الْقُرُونِ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَصْدَقُ الشُّهُودِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ - وَهِيَ سِيرَتُهُمُ الْفُضْلَى فِي فُتُوحِهِمْ وَعَدْلِهِمُ الْمُطْلَقِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَصَلَاحِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَبِذَلِكَ انْتَشَرَ

الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَسَادَ أَهْلُهُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ بِسُرْعَةٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ فِي التَّارِيخِ. فَإِسْلَامُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ بِتَأْثِيرِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجِهَادِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (17: 9) ، نَهْدَيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (42: 52) وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا (2: 26) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (5: 16) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (25: 52) وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَا كَانَ مِنِ اضْطِهَادِ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ لِجَزْمِهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ جَذْبِهِمْ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَطْلُبُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ إِلَّا حِمَايَتَهُ لِيُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سِرًّا، وَنَشَرُوا الدَّعْوَةَ فِي عَاصِمَتِهِمْ يَثْرِبَ، وَصَارَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَحْمُونَهُ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. فَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ قَوَّتِهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا - مَعَ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ لَهَا - فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْوَحِيدِ الَّذِي كَانَ هُوَ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الِاخْتِلَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ - وَلَاسِيَّمَا مِنْهُ - كَافٍ لِإِسْلَامِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ الْهَادُونَ الْمَهْدِيُّونَ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْأَقْطَارِ، وَثَلِّ عُرُوشِ أَعْظَمِ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَعَظْمَةً وَنِظَامًا وَتَشْرِيعًا وَحَضَارَةً، وَتَبْدِيلِ مَمَالِكِهِمْ وَشُعُوبِهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ - مَا فَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعَاجِمِ فَقَدْ كَانَ بِتَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَالْعَجَمِ لِلدَّعْوَةِ، وَكَانَ بُرْهَانُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَسِيرَتِهِمُ الْحُسْنَى أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَلُ إِلَيْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَمْ يَنْتَشِرِ الْإِسْلَامُ فِي شَعْبٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِ، وَقِرَاءَتِهِمْ لِتَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ دَرَجَةُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَرْتَفِعُ فِيهِمْ بِقَدْرِ تَدَبُّرِهِمْ لَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِ لُغَتِهِ، فَكَانَ مِنْ مُتْقِنِي لُغَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَالِي كِبَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ، وَجَهَابِذَةُ عُلُومِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا، وَأَفْرَادُ الْعِبَادِ، وَنَوَابِغُ الْأُدَبَاءِ، وَفُحُولَةُ الشُّعَرَاءِ. وَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمُ الصَّحِيحُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُثْلَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى طَلَبِ لُغَةِ الدِّينِ (الْعَرَبِيَّةِ) مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ حَاكِمٍ، وَلَا نِظَامِ تَعْلِيمٍ إِجْبَارِيٍّ تُؤَسَّسُ لَهُ الْمَدَارِسُ.

وَقَدْ تُرْجِمَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ بِأَشْهَرِ لُغَاتِ الشُّعُوبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَرْبِيَّةٍ وَشَرْقِيَّةٍ، فَكَانَتْ تَرْجَمَتُهُ مَثَارًا لِلشُّبَهَاتِ وَسَبَبًا لِلْمَطَاعِنِ، أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَثَارَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَلْ مِنَ الْخَطَأِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُتَلَافَى بِالتَّرْجَمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي نَدْعُو إِلَيْهَا، وَإِنَّ سَبَبَ الطَّعْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سُوءَ قَصْدٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ أَيْضًا. (قُلْتُ) : إِنِّي عَلَى عِلْمِي بِهَذَا أَقُولُ: إِنَّ التَّرْجَمَةَ أَكْبَرُ عَوْنٍ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ حَاذِقًا لَهَا رَاسِخًا فِيهَا، فَالْأَوَّلُ شَبِيهٌ بِمَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى مَنْ جَهْلِهِ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَتَكَلَّفُ الطَّعْنَ تَكَلُّفًا يُكَابِرُ بِهِ وِجْدَانُهُ، وَيُغَالِبُ ذَوْقَهُ وَبَيَانَهُ، فَيَجِيءُ طَعْنُهُ ضَعِيفًا سَخِيفًا، وَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلَ الْمَسْلَكِ. وَاضِحَ الْمَنْهَجِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الدِّفَاعُ عَنِ التَّرْجَمَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، وَلَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً إِلَّا فِي بَعْضِ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ الْقَصِيرَةِ، دُونَ السُّورِ وَالْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ. بَلْ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ تَتَعَذَّرُ تَرْجَمَتُهَا بِمُفْرَدَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الْأُخْرَى تُؤَدِّي الْمُرَادَ مِنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا مُرَادِفٌ فِي لُغَةٍ أُخْرَى، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَغْنَاهُنَّ بِهَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ دَعْ مَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ فِي فُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَاتِ. تَعَذُّرُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِنَا الْجَزْمُ بِتَعَذُّرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ، كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِهِدَايَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ، وَقَدْ تَحَدَّى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعَرَبَ بِهَذَا الْإِعْجَازِ، وَتَحَدَّى الْمُسْلِمُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَثَبَتَ عَجْزُ الْجَمِيعِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَصَدَقَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (17: 88) وَالتَّرْجَمَةُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِثْلَ الْأَصْلِ، فَالْآيَةُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَوْنًا وَمُسَاعِدًا لِبَعْضٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَرْدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ؟ ! . وَإِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ مِنَ التُّرْكِ لِصَرْفِ قَوْمِهِمْ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ لَيَنْخَدِعُونَ بِشُبَهَاتِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجَمَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِاللُّغَاتِ

الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا لِلْفَرِيقَيْنِ عَدَمَ جَوَازِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا نَقْتَصِرُ عَلَى بَيَانِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَقَطْ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّنَا نَعْنِي بِالتَّرْجَمَةِ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادَ مِنْهَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْآيَاتِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُؤَدِّي مَعَانِيهَا وَتَأْثِيرِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى. وَإِنَّ تَوْفِيَةَ هَذَا الْمَوْضُوعِ حَقَّهُ يَقْتَضِي تَأْلِيفَ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَكِنَّنَا نَكْتَفِي بِقَلِيلٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ تُغْنِي عَنِ الْكَثِيرِ، وَنَبْدَأُ بِالْمُفْرِدَاتِ، وَنُثَنِّي بِالْجُمَلِ ثُمَّ نُعَزِّزُهُمَا بِكَلِمَةٍ فِي الْأَسَالِيبِ. أَمَّا الْمُفْرَدَاتُ: فَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا كِنَايَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهَا إِمَّا لُغَوِيٌّ سَبَقَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، وَإِمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَمِنْهَا الْمُشْتَرَكُ الَّذِي وُضِعَ لِعِدَّةِ مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ تَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْهَا بِالْقَرَائِنِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالْأُصُولِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَقَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْجَمْعِ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَتَبِعْنَاهُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ وَحُرُوفِ مَعَانٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا أَقْسَامٌ لِكُلٍّ مِنْهَا مَوَاقِعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ لَدَى الْعَارِفِينَ بِاللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَّفِقَ لُغَتَانِ مِنْ لُغَاتِ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ مُفْرَدَاتِهَا، وَلَا فِي طُرُقِ دَلَالَتِهَا، وَإِذَا فُرِضَ اتِّفَاقُ لُغَتَيْنِ فِي حَقِيقَةِ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَجَازِهِ وَكِنَايَتِهِ بِحَيْثُ يُتَرْجِمُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مَهْمَا يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْهُ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَنْ يُمْكِنَ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَوْضَاعِ الْجَدِيدَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، كَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْقُرْآنِ لِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَوْ لِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ ; وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَاتِ وَعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ إِلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ لُغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى فِي آدَابِهَا وَمَعَارِفِهَا وَمَعَانِيهَا الْعَقْلِيَّةِ وَالشِّعْرِيَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ: الْأَسْمَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا لَهُ مَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّتُهُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُرَادٌ لِتَحَقُّقِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَالْوَاقِعَةِ وَالْقَارِعَةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْحَاقَّةِ وَالْغَاشِيَةِ إِلَخ. وَقَدْ أَقَمْتُ الْحُجَّةَ عَلَى طَبِيبٍ تُرْكِيٍّ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ يُتَرْجِمُ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ - وَهُوَ لَا يُحْسِنُ التَّعْبِيرَ عَنْ مُرَادِهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَجِبُ - قُلْتُ لَهُ: لَكُمْ أَنْ تُفَسِّرُوهُ بِالتُّرْكِيَّةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ عُلَمَائِكُمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ فَهِيَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى أَهْلِ اللُّغَاتِ الَّتِي هِيَ أَغْنَى مِنْ لُغَتِكُمْ وَأَوْسَعُ وَإِنْ أَتْقَنُوا الْعَرَبِيَّةَ. . ثُمَّ سَأَلْتُهُ: كَيْفَ تُتَرْجِمُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الْمَوْضُوعَةَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّهُ يُتَرْجِمُهَا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ: قُلْتُ: إِذَا تُفَوِّتُ الْمَعَانِي الِاشْتِقَاقِيَّةَ الْمَقْصُودَةَ بِالذَّاتِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ بَيَانُ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَبْدَأً وَغَايَةً وَمَا يَقَعُ فِيهِنَّ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَعْظِ وَالنُّذُرِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالرَّادِعَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا تُرْجِمَتْ بِمَعْنَاهَا الِاشْتِقَاقِيِّ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا صِفَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ

الْقَارِعَةَ اسْمُ فَاعِلٍ يُوصَفُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ امْرَأَةٌ تَقْرَعُ أَحَدًا بِالْمِقْرَعَةِ، وَفِي الْمَجَازِ دَاهِيَةٌ تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِأَهْوَالِهَا، وَالْقَرْعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضَرْبُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - وَأَخَصُّ مِنْهَا (الصَّاخَّةُ) وَهِيَ الضَّرْبَةُ ذَاتُ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ يَصُخُّ الْمَسَامِعَ أَيْ يَقْرَعُهَا حَتَّى يُصِمَّهَا أَوْ يَكَادَ، أَوِ الَّذِي يَضْطَرُّهَا إِلَى الْإِصَاخَةِ وَالْإِصْغَاءِ. وَإِذَا أَنْتَ فَسَّرْتَ الْكَلِمَةَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَصَفْتَهُ بِالْقَارِعَةِ فِي سُورَتِهَا وَبِالصَّاخَّةِ فِي سُورَةِ عَبَسَ وَتَوَلَّى تَكُونُ قَدِ انْفَلْتَ مِنْ مَأْزِقِ التَّرْجَمَةِ إِلَى سِعَةِ التَّفْسِيرِ، وَحِينَئِذٍ قَدْ تَكُونُ عُرْضَةً لِغَلْطٍ فِي التَّفْسِيرِ يُضِيعُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي هَذَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَالْمُتَرْجَمُ بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى بِالْغَلَطِ ; فَإِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَارِعَةِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَقْرَعُ الْقُلُوبَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْدُودٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي شَرْحِ هَذَا الْقَرْعِ: إِذَا وَقَعْتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (56: 1 - 6) فَهَذَا عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (101: 1 - 5) . وَيُوَضِّحُ هَذَا مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْفَلَكِيِّينَ مِنْ أَنَّ خَرَابَ هَذَا الْعَالَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِدُنُوِّ بَعْضِ النُّجُومِ ذَوَاتِ الْأَذْنَابِ مِنَ الْأَرْضِ وَصَدْمِهِ أَوْ قَرْعِهِ لَهَا قَرْعَةً شَدِيدَةً عَلَى نِسْبَةِ قُوَّةِ الْجَذْبِ، تُبَسُّ بِهِ الْجِبَالُ أَيْ تَتَفَتَّتُ حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ نِظَامُ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ وَتَتَصَادَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (82: 2) فَانْطِبَاقُ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُتَفَرِّقَةِ عَلَى هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مَعْرُوفَةً لِلْعَرَبِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ عَلَى الطَّرِيقِ الْقَدِيمِ - قَدْ تُعَدُّ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ، وِفَاقًا لِمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ مِنَ الْأَثَرِ (وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ) وَلَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْحَرْفِيَّةِ، فَيَكُونُ قُصُورُهَا وَعَدَمُ مُوَافَقَتِهَا لِلْأَصْلِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فِلْمًا سَمِعَ مِنِّي ذَلِكَ الطَّبِيبُ التُّرْكِيُّ الْمَغْرُورُ هَذَا الشَّرْحَ بُهِتَ وَلَمْ يُحْرِ جَوَابًا - عَلَى أَنَّنَا رَأَيْنَا فِي الصُّحُفِ أَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا يُتَرْجِمُونَ الْقُرْآنَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَدْ فَسَّرُوا يَوْمَ الدِّينِ فِي الْفَاتِحَةِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالِدِّينُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذِكْرُهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَلَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا لَيْسَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ التَّالِي لِلْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ اللهَ سَيُحَاسِبُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَيَجْزِيهِ بِهَا " إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ ". وَأَذْكُرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَفْعَالِ دَلَالَةَ صِيَغِهَا مِنْ نَحْوِ التَّكَلُّفِ وَالتَّكْثِيرِ وَالْمُشَارَكَةِ وَالْمُطَاوَعَةِ إِلَخ. وَمِنْ مُفْرَدَاتِ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَالْأَدَوَاتِ الْفُرُوقَ فِي الْعَطْفِ وَنُكَتِ وَضْعِ بَعْضِهَا

فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ (6: 11) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ (29: 20) فَعَطَفَ النَّظَرَ فِي الْأَوَّلِ بِـ " ثُمَّ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّرَاخِي، وَفِي الثَّانِي بِـ " الْفَاءِ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ. فَهَلْ يُوجَدُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ مِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمَعَانِي، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مَعَ مُقَارَنَاتٍ أُخْرَى (ص268 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَلَهُ نَظَائِرُ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِنَا. وَأَذْكُرُ مِنْ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " وَالْحَصْرِ بِحَرْفَيِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِكَ: مَا هُوَ إِلَّا كَذَا. وَهُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ، أَوْ لَمَّا نَزَلَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ الْخَبَرَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ يَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِالْأَمْثِلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (6: 145) وَبَيَّنَّا سَبَبَ حَصْرِ هَذَا الْمَعْنَى بِـ " إِنَّمَا " فِي سُورَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلْ فِي هَذَا الْحَصْرِ، فَكَانَ لِمَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَيَجْهَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَّ آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ نَزَلَتَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى صَارَ مَعْرُوفًا، فَهَلْ يُوجَدُ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْأَدَوَاتِ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا؟ وَهَلْ يَفْهَمُ الْمُتَرْجِمُونَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ فَيُرَاعُونَهَا فِي تَرْجَمَتِهِمْ، إِنْ كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ ! . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: الْفَرْقُ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " الشَّرْطِيَّتَيْنِ ذَكَّرَنِي بِهِ قَوْلِي الْآنَ " إِنْ كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ " وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرْطِ " إِنْ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ أَوْ يُنْكِرُهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ مَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ شَرْطَ " إِذَا " بِخِلَافِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالنَّحْوِ بِأَمْثِلَتِهِ. وَأَمَّا الْجُمَلُ فَأَكْتَفِي مِنْهَا بِإِيرَادِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ بِالْحَالِ وَالْفَرْقِ فِيهَا بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (4: 43) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ سُكَارَى جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. وَقَوْلُهُ: (جُنُبًا) حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُقَيِّدَةٌ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْأُولَى تُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ السُّكَّرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَأْتِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكَّرِ فَيَضْطَرُّ السَّكْرَانُ إِلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ إِلَى أَدَائِهَا وَهُوَ سَكْرَانُ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَأَدَاءِ الصَّلَاةِ

قَبْلَ ذَهَابِ الْوَقْتِ. وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي النُّذُورِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ; لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلَا يُجْزَئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَيُرَاجَعَ وَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص94 وَمَا بَعْدَهَا ج 5 ط الْهَيْئَةِ) فَهَلْ يَفْهَمُ مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ مِثْلَ هَذِهِ الدَّقَائِقِ؟ وَهَلْ تُسَاعِدُهُ لُغَتُهُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا إِنْ كَانَ يَفْهَمُهَا؟ أَمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَتَفْسِيرٍ لِبَيَانِهَا فَيَكُونُ مُفَسِّرًا لَا مُتَرْجِمًا؟ ! . هَذَا شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَأَمَّا دِقَّةُ التَّعْبِيرِ، وَبَلَاغَتُهُ فِي الْوَصْفِ الْمُفِيدِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَمِنْ عَجَائِبِ شَوَاهِدِهِ وَصْفُ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (14: 42، 43) . شُخُوصُ الْأَبْصَارِ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِهَا، وَكَوْنُ أَجْفَانِهَا مَفْتُوحَةً سَاكِنَةً لَا تَطْرُفُ " وَمُهْطِعِينَ " مِنْ أَهْطَعَ الْبَعِيرُ إِذَا صُوَّبَ عُنُقَهُ وَمَدَّ بَصَرَهُ، وَقِيلَ: الْإِهْطَاعُ أَنْ تُقْبِلَ بِبَصَرِكِ عَلَى الْمَرْئِيِّ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِسْرَاعِ، وَمُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ مِنْ أَقْنَعَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ إِلَى الْحَوْضِ لِيَشْرَبَ إِذَا رَفَعَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ رَفْعًا وَخَفْضًا فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الِاضْدَادِ، وَقَوْلُهُ: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرَفُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُمْ فِي شُخُوصِ الْأَبْصَارِ وَإِهْطَاعِهَا مَعَ امْتِدَادِ الْأَعْنَاقِ وَتَصْوِيبِهَا إِلَى مَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ شُغْلًا شَاغِلًا لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَتَكُونَ طَوْعَ إِرَادَتِهِمْ يُوَجِّهُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا بَلْ هُمْ فِي هَوْلٍ وَكَرْبٍ لَا مَشِيئَةَ وَلَا سُلْطَانَ لَهُمْ مَعَهُمَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ بَلْ عُيُونُهُمْ مَمْدُودَةٌ مَفْتُوحَةٌ لَا تَطْرُفُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ بِتَصْوِيبٍ وَلَا تَصْعِيدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ هَذَا وَسَبَبَهُ فِي النَّفْسِ فَقَالَ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أَيْ خَلَاءٌ خَاوِيَةٌ مِنَ الْعَقْلِ فَاقِدَةٌ لِلْقُوَّةِ وَالْإِرَادَةِ. لَعَمْرُ الْحَقِّ إِذَا تَصَوَّرَ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا الْوَصْفَ حَقَّ الْفَهْمِ قَوْمًا هَذِهِ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُمْ لَيَأْخُذَنَّ الرُّعْبُ بِمَخْنِقِهِ، وَلِيَسْتَحْوِذَنَّ الذُّعْرُ عَلَى شُعُورِهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ أَوِ الْأَعْرَابِ الْأَقْحَاحِ. وَأَذْكُرُ فِي الْكِنَايَاتِ مِثْلَ الرَّفَثِ وَإِفْضَاءِ الزَّوْجِ إِلَى الزَّوْجِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفَا (7: 189) وَقَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ (4: 43) وَقَوْلَهُ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (2: 223) وَقَوْلَهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (2: 237) فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا لَفْظًا بِمَعْنَى التَّغَشِّيِ الدَّالِّ عَلَى السَّتْرِ، وَلَفْظًا بِمَعْنَى الْحَرْثِ وَهُوَ الزَّرْعُ - لِأَنَّ مَعَانِيَهُمَا كَالْمَسِّ وَالْمُلَامَسَةِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الشُّعُوبِ - فَهَلْ تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي لُغَاتِهِمْ كِنَايَةً عَنِ الْوَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ السِّرِّيَّةِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ؟ .

وَأَمَّا أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ هُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ، وَالْقَامُوسُ الْمُحِيطُ الْأَعْظَمُ، فَإِنَّهُ أَظْهَرَ وُجُوهَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَمْزِجَ فُنُونَ الْكَلَامِ. وَيُنَظِّمَ مَقَاصِدَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَتَبَايُنِ مَوْضُوعَاتِهَا، مَزْجًا مُتَلَائِمًا، وَنَظْمًا مُتَنَاسِبًا مُتَنَاسِقًا، مُوَافِقًا لِلذَّوْقِ السَّلِيمِ، مُطَابِقًا لِنُكَتِ الْبَلَاغَةِ. فَالْعَقَائِدُ الْإِلَهِيَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ، وَالسُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْمَوَاعِظُ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَصْفُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ جَمَادَاتٍ وَأَحْيَاءٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَوَاءٍ وَهَبَاءٍ، تَرَاهُ كُلَّهُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَرَى الْكَثِيرَ مِنْهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، بِعِبَارَةٍ بَدِيعَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، يَنْتَقِلُ فِيهَا الْعَقْلُ مِنْ فَائِدَةٍ إِلَى فَائِدَةٍ وَيَتَقَلَّبُ فِيهَا الْقَلْبُ مِنْ مَوْعِظَةٍ إِلَى مَوْعِظَةٍ، مَعَ مُنْتَهَى الْإِحْكَامِ وَالْمُنَاسَبَةِ، بِحَيْثُ لَا تَمَلُّ تِلَاوَتَهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ وَأَهْلِ الذَّوْقِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَدَّدُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ. وَيُمَتِّعُوا قُلُوبَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ بِسَمَاعِ تَرْتِيلِهِ، بِذَلِكَ النَّظْمِ الَّذِي لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا سَجْعٍ، وَلَا كَلَامٍ مُرْسَلٍ، بَلْ هُوَ نَظْمٌ خَاصٌّ، قَابِلٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ عَلَى تَفَاوُتِ آيَاتِهِ وَفَوَاصِلِهِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَالْآيَةُ قَدْ تَكُونُ كَلِمَةً مُفْرَدَةً أَوْ كَلِمَتَيْنِ وَجُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَكُلُّهَا " مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَأْثِيرٌ غَرِيبٌ فِي تَرْتِيلِهَا وَتَجْوِيدِهَا، بِالْأَصْوَاتِ الْمُلَائِمَةِ لِمَعَانِيهَا. صَلَّيْتُ الْفَجْرَ مَرَّةً فِي أَهْلِ بَيْتِي بِسُورَةِ الْقَمَرِ، وَتَلَوْتُهَا بِصَوْتٍ خَاشِعٍ صَادِعٍ مُنَاسِبٍ لِزَوَاجِرِهَا وَنُذُرِهَا، فَقَالَتْ لِي الْوَالِدَةُ: إِنَّ هَذِهِ النُّذُرَ تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَصَارَتْ تُسَمِّيهَا سُورَةَ النُّذُرِ. وَقَالَتْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مَرَّةً أُخْرَى فِي سُورَةِ (ق) فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ لِلتَّرْجَمَةِ التُّرْكِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ لُغَاتِ الْأَعَاجِمِ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا كَمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا دُونَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ؟ كَلَّا. نَمُوذَجٌ مِنْ تَرْجَمَةٍ تُرْكِيَّةٍ: إِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا ذُكِرَ تَذَكَّرْتُ أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَعَارِفِي تَرْجَمَةً تُرْكِيَّةً لِلْقُرْآنِ فَاسْتَعَرْتُهَا مِنْهُ، فَإِذَا هِيَ تَرْجَمَةُ جَمِيلِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا - وَإِذَا فِيهَا مِنَ النَّقْصِ وَالْحَذْفِ وَالْخَطَأِ فَوْقَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ قَبِيحَةٌ لَا تَصْدُرُ عَنْ رَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى سُوءِ نِيَّةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَوْنُ غَرَضَهُمْ مِنْهَا الْعَبَثُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَنْفِيرُ التُّرْكِ مِنْهُ. وَفَتْحُ أَبْوَابِ الطَّعْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْنَا فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَوَجَدْنَاهُ يَذْكُرُ أَلْفَاظَهَا

الْعَرَبِيَّةَ وَيُفَسِّرُهَا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا كِنَايَاتُ الْوِقَاعِ فَحَذَفَ مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا (7: 189) وَاكْتَفَى بِكَلِمَةٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَمْلِ. وَتَرْجَمَ الْمُلَامَسَةَ بِمَا مَعْنَاهُ وَإِذَا وُجِدْتُمْ بِالْمُنَاسَبَاتِ الْجِنْسِيَّةِ مَعَ النِّسَاءِ فَتَنَظَّفُوا. وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَأَمَّا الْحَرْثُ فَتَرْجَمَهُ بِكَلِمَةِ " تارلا " وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُعَدَّةُ لِزَرْعِ الْحُبُوبِ دُونَ الْمُشَجَّرَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ، فَإِحْلَالُ الرَّفَثِ إِلَى النِّسَاءِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى حَظْرِ الرَّفَثِ بِالْقَوْلِ عَلَى الصَّائِمِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلْكَلِمَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُكَنَّى عَنْهُ. وَالتَّرْجَمَةُ التُّرْكِيَّةُ لَا تُفِيدُ الدَّلَالَتَيْنِ. وَتَرْجَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (4: 43) إِلَخْ. بِمَا مَعْنَاهُ: لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ سُكْرِكُمْ بَلِ انْتَظَرُوا أَنْ تَجِيئُوا إِلَى حَالٍ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا فِيهَا مَا تَقُولُونَ - وَلَا تَعْبُدُوا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ جُنُبًا بَلِ انْتَظِرُوا الْغُسْلَ. وَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا يَرَى الْقَارِئُ وَلَيْسَ فِيهَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الظَّالِمِينَ: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (14: 42، 43) فَقَدْ تَرْجَمَهُ بِمَا مَعْنَاهُ الْحَرْفِيُّ: يُمْهِلُهُمُ اللهُ إِلَى يَوْمٍ يَعْطِفُونَ فِيهِ أَنْظَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ بِصُورَةٍ كَامِلَةٍ، وَسَتَبْقَى قُلُوبُهُمْ فَارِغَةً وَأَنْظَارُهُمْ ثَابِتَةً، وَهُمْ يُسْرِعُونَ بِعَجَلَةٍ رُفِعَتْ رُؤُوسُهُمُ اهـ. فَزَادَ عَلَى الْأَصْلِ تَوْجِيهَ النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَوْلَهُ: " بِصُورَةٍ كَامِلَةٍ " أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ شُخُوصِ الْبَصَرِ، وَهُوَ لَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَا يُصَوِّرُ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْبَلِيغَ الْمُؤْثَرَ لِلْأَبْصَارِ الشَّاخِصَةِ، وَالرُّءُوسِ الْمُقْنِعَةِ، وَالْأَعْنَاقِ الْمُهْطِعَةِ، بَلْ لَمْ يَذْكُرِ الرُّؤُوسَ وَالْأَعْنَاقَ أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الدِّرْكَةِ مِنَ الْعَجْزِ مَعَ اسْتِعَانَتِهِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ تَرْجَمَتُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِذَا حَاوَلُوا أَنْ تَكُونَ تُرْكِيَّةً خَالِصَةً خَالِيَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَطْلُبُ غُلَاةُ غُوَاتِهِمْ؟ ! . هَذَا وَإِنَّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْغَلَطِ وَتَحْرِيفِ الْمَعَانِي وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا لَا يَعْقِلُ لَهُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِ سَبَبًا إِلَّا تَعَمُّدَ الْإِضْلَالِ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ وَحْدَهُ لَا يَهْبِطُ بِهَذَا الْمُتَرْجِمِ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مَعَ ادِّعَائِهِ الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ التَّعْبِيرِ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ بِلَفْظٍ تُرْكِيٍّ، كَوَظِيفَةِ مُتَرْجِمِي الْمَحَاكِمِ الْقَضَائِيَّةِ. فَمِنَ التَّحْرِيفِ الْمُخِلِّ الدَّالِّ عَلَى سُوءِ النِّيَّةِ تَرْجَمَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (سُورَةِ يُونُسَ آيَةِ 87) . اتَّفَقَ مُفَسِّرُوا السَّلَفِ وَالْخَلْفِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى اتِّخَاذِ بُيُوتِهِمْ قِبْلَةً أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوهَا مَسَاجِدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَوْ أَنْ يُوَجِّهُوهَا إِلَى الْقِبْلَةِ - قِيلَ: هِيَ الْكَعْبَةُ. وَقِيلَ

بَيْتُ الْمَقْدِسِ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنِ احْتِمَالِ جَعْلِهَا مُتَقَابِلَةً مُتَقَارِبَةً وَلَكِنَّ الْمُتَرْجِمَ التُّرْكِيَّ تَرْجَمَهَا بِقَوْلِهِ: " قومكزا يجون مصرده خانه لر إنشا ايديكز. ويوتلريني قبلة طرفنه توجيه ايديكز " أَيْ أَنْشِئُوا فِي مِصْرَ بُيُوتًا لِقَوْمِكُمْ وَوَجِّهُوا أَصْنَامَهَا لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ (؟ ؟) فَمَا قَوْلُ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ، تُعَلِّمُ التُّرْكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَجَازَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! ! . وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْغَلَطُ الْوَحِيدُ فِي تَرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَلْ هُوَ الْأَفْحَشُ، وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ تَرْجَمَ تَبَوَّأَ الْبُيُوتِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا. وَمِنَ الْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ أَنَّهُ أَسْقَطَ مِنْ تَرْجَمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ (2: 29) وَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى مِنَ الْآيَةِ 57 مِنْهَا - وَأَسْقَطَ وَصْفَ الْقُرْآنِ بِالْقَيِّمِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَالِاقْتِرَابِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْعَلَقِ. . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ إِحْصَاؤُهُ. نَعَمْ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَئِيسَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فِي الْجُمْهُورِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ قَدْ أَعْلَنَ أَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مَمْلُوءَةٌ بِالْأَغْلَاطِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحُكُومَةَ لَمْ تَجْمَعْ نُسَخَهَا وَتَمْنَعِ اسْتِعْمَالَهَا وَطَبَعَهَا فَهِيَ مُنْتَشِرَةٌ، وَبَلَغَنَا أَنَّهَا أَلَّفَتْ لَجْنَةً لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ. أَيُّ مُسْلِمٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَعَلَى لَجْنَتِهَا فِي عِلْمٍ يَعُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ جِنَايَةً عَلَيْهِ وَهَدْمًا لَهُ؟ . صِفَةُ تَرْجَمَاتِ الْقُرْآنِ التُّرْكِيَّةِ: وَقَدْ نَشَرَتْ جَرِيدَةُ الْأَخْبَارِ الْمِصْرِيَّةِ رِسَالَةً لِمُرَاسِلِهَا مِنَ الْآسِتَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ جَاءَ فِيهَا: بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى تَرْجَمَةِ التَّرْكِ لِلْقُرْآنِ وَتَحْبِيذِهَا مَا نَصُّهُ: " كَانَ أَوَّلَ مُتَرْجِمٍ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ زَكِي أَفَنْدِي مَغَامِز، وَهُوَ مَسِيحِيٌّ سُورِيٌّ، وَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى تَرْجَمَتِهِ صُدْفَةً قَبْلَ طَبْعِهَا، فَأَبْدَيْنَا رَأْيَنَا فِي الْحَالِ، وَكُنَّا السَّبَبَ فِي عَدَمِ طَبْعِهَا ثُمَّ قَامَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ الشَّيْخُ مُحْسِنُ فَانِي (هُوَ حُسَيْنُ كَاظِم بِك) أَحَدُ أَعْلَامِ تُرْكِيَا فِي الْأَدَبِ وَالْفَضْلِ، وَتَصَدَّى لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ زُمَلَائِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُ لَا يُؤَدِّي الْمَعَانِي حَقَّهَا، لَا يُؤَدِّيهَا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَدَّى بِهَا فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا انْتَقَدْنَاهُ مِرَارًا. "

ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُمَا جَمِيلُ سَعِيد بِك حَفِيدُ كَمَال بَاشَا نَاظِرِ الْمَعَارِفِ الْأَسْبَقِ، فَتَرْجَمَ الْقُرْآنَ لَقَدْ كَانَ الْمُنْتَظَرُ أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ الثَّانِيَةُ أَحْسَنَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْأَوَّلِ إِنَّمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الْأَمَلُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا قَدِ انْتَقَدْنَا جَمِيلَ بِك أَمَرَّ انْتِقَادٍ، وَلَمْ نَتْرُكْ لَهُ أَيَّ مَنْفَذٍ لِلتَّخَلُّصِ، وَقَدْ أَرَادَ حَضْرَتُهُ أَنْ يُجِيبَنَا عَلَى انْتِقَادَاتِنَا بِتَخْفِيفِ أَهَمِّيَّةِ أَخْطَائِهِ فَلَمْ يَفْلَحْ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَ جَوَابُهُ أَعْدَلَ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ لِلْعَمَلِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بِهِ، وَالْأَدْهَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّنَا عِنْدَ انْتِقَادِنَا لَهُ ظَنَنًّا أَنَّهُ تَرْجَمَ الْقُرْآنَ مِنْ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ أُورُبَّا، لَا مِنْ أَصْلِهِ الْعَرَبِيِّ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ الدَّلَائِلِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُجِيبَنَا عَلَى ذَلِكَ بِبِنْتِ شَفَةٍ ; وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا فِي مَقَالَتِنَا الثَّانِيَةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ الْحَمَلَةَ لِآخَرَ دَرَجَةٍ، وَقُلْنَا لَهُ: إِنَّهُ فَضَحَ الشَّعْبَ التُّرْكِيَّ بِاقْتِرَافِ هَذِهِ الْجَرِيرَةِ الْمُدْهِشَةِ ; لِأَنَّ الشَّعْبَ التُّرْكِيَّ شَعْبٌ مُسْلِمٌ مُنْذُ عَشَرَاتِ الْقُرُونِ، شَعْبٌ يَخْدِمُ الْمَدَنِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيَتَوَلَّى زَعَامَةَ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُنْذُ قُرُونٍ، شَعْبٌ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مِنْ أَصْلِهِ الْعَرَبِيِّ مُنْذُ قُرُونٍ شَعْبٌ أَنْجَبَ الْمِئَاتَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ، وَتَبَحَّرُوا فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ. فَعَارٌ أَنْ يَقْرَأَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْقَرْنِ مِنْ لُغَةِ مُبَشِّرٍ مُتَعَصِّبٍ. وَقَدْ أَخْرَجْنَا لِذَلِكَ الْمُتَرْجِمِ كَثِيرًا مِنْ أَخْطَائِهِ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا، وَعَدَا هَذَا فَإِنَّ رِيَاسَةَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فِي أَنُقْرَةَ لَمْ تَتَأَخَّرْ مُطْلَقًا فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبِهَا، بَلْ إِنَّهَا عِنْدَ انْتِشَارِ كُلِّ تَرْجَمَةٍ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ حَذَّرَتِ النَّاسَ مِنْهَا، وَنَبَّهَتْهُمْ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفَاتِ. وَبِذَلِكَ قَضَتْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ بِمَا تَسْتَحِقُّهَا انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَجَاءَ فِي جَرِيدَةِ الْأَهْرَامِ فِي 29 مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ 1342 هـ مَا نَصُّهُ: تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ أَقْدَمَ فَرِيقٌ مِنَ التَّرْكِ أَخِيرًا عَلَى تَنْفِيذِ الْفِكْرَةِ الَّتِي طَالَمَا تَمَنَّوْا تَنْفِيذَهَا، وَهِيَ أَنْ يُتَرْجِمُوا الْقُرْآنَ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَيَسْتَغْنُوا بِهِ عَنِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ، فَشَرْعُ مُصْطَفَى أَفَنْدِي الْعَيْنَتَابِيُّ وَزِيرُ الْحَقَّانِيَّةِ السَّابِقُ، وَالشَّيْخُ مُحْسِنُ فَانِي، وَمُصْطَفَى بِك، وَسَيْفُ الدِّينِ بِك فِي نَشْرِ التَّرْجَمَةِ التُّرْكِيَّةِ بِأَقْلَامِهِمْ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَجَلَّةُ (سَبِيلِ الرَّشَادِ) التُّرْكِيَّةُ مَقَالَةً عِلْمِيَّةً فِي انْتِقَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَبَيَانِ مَوَاطِنِ الْخَلَلِ فِيهَا، وَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ نَمُوذَجًا مِنَ الْغَلَطَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي تَرْجَمَةِ (سُورَةِ الْفَاتِحَةِ) فَقَطْ فَبَلَغَتْ سِتَّ غَلَطَاتٍ لَا يَجُوزُ التَّسَامُحُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَمِنْ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ فِي وَضْعِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنْدَمِجِ فِي حَرْفِ (أَلْ) مِنْ (الْحَمْدُ) وَحَشُوِهِمْ لَفْظًا زَائِدًا فِي تَرْجَمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَتَقُولُ الْمَجَلَّةُ التُّرْكِيَّةُ: إِنَّهُمْ قَطَعُوا بِذَلِكَ نَظْمَ الْكَلِمَاتِ الْقُدْسِيَّةِ بَلْ سَحَقُوا مَا فِيهَا مِنَ الدُّرَرِ، وَتَرْجَمُوا وَغَيَّرُوا لَفْظَ يَوْمِ الدِّينِ بِلَفْظِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقَدْ أَبَانَتِ الْمَجَلَّةُ التُّرْكِيَّةُ الْفُرُوقَ الْعَظِيمَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَزَادُوا فِي الْفَاتِحَةِ نِدَاءَ " يَا اللهُ " مَرَّتَيْنِ بِلَا لُزُومٍ. وَبِذَلِكَ حَوَّلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَإِيجَازَهُ إِلَى شَكْلٍ غَيْرِ لَطِيفٍ. وَتَرْجَمُوا كَلِمَةً (اهْدِنَا) بِلَفْظِ " أَرِنَا " قَالَتِ الْمَجَلَّةُ: وَبِذَلِكَ نَحَوْا نَحْوَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا نَدْرِي أَقَصَدُوا ذَلِكَ أَمْ هِيَ رَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ؟ وَحَرَّفُوا نَظْمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلُوا " الصِّرَاطَ " فِي التَّرْجَمَةِ مَفْعُولَ الْإِنْعَامِ، وَهُوَ مَفْعُولُ الْهِدَايَةِ، فَجَاءَتْ تَرْجَمَتُهُمْ هَكَذَا: " الصِّرَاطُ الَّذِي أَنْعَمْتَهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ". قَالَتْ مَجَلَّةُ سَبِيلِ الرَّشَادِ: وَالْحَقُّ أَنَّ جَرْأَةَ أُنَاسٍ هَذَا مَبْلَغُ عِلْمِهِمْ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنْ يُتَرْجِمُوا الْقُرْآنَ لَمِمَّا يَدْعُو إِلَى الْأَسَفِ، وَإِنَّهُ لَإِثْمٌ عَظِيمٌ. قَالَتْ: وَرَجَاؤُنَا إِلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا اللهَ مِمَّا ارْتَكَبُوا مِنَ الْإِثْمِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ وَيَتَحَوَّلُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ السَّقِيمِ الَّذِي حَاوَلُوهُ اهـ. وَتَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا، وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ مِنْ حُكُومَةِ أَنُقْرَةَ، وَأَنَّ تَرْجَمَتَهُمْ سَتَكُونُ الرَّسْمِيَّةَ وَاللهُ أَعْلَمُ. قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ تَرْجَمَةٍ حَاوَلَهَا التُّرْكُ قَاصِرَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا كُلُّ قَارِئٍ، وَيَسْهُلُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِكُلِّ لُغَةٍ، دَعْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْمُمْتَازَةِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَالْأَسَالِيبِ الْخَاصَّةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دُونَ لُغَاتِ الْعَجَمِ وَلَاسِيَّمَا التُّرْكِيَّةُ الْفَقِيرَةُ، وَهَذَا يَفْتَحُ أَبْوَابًا وَاسِعَةً لِلشُّبَهَاتِ وَالْمَطَاعِنِ فِيهِ، وَيَسُدُّ أَبْوَابًا وَاسِعَةً لِضُرُوبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأَمُّلِ الدَّافِعَةِ لَهَا، وَضُرُوبٍ مِنَ الْمَعَارِفِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ لَهُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ التُّرْكَ حَظَرُوا تَعْلِيمَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونَهَا وَالْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ فِي بِلَادِهِمْ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجِدُ قَارِئُ تَرْجَمَتِهِمُ التُّرْكِيَّةِ لِلْقُرْآنِ فِي الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مَرْجِعًا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِذَا هُوَ اسْتَشْكَلَ أَوْ طَعَنَ لَهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَضْرِبُ لِذَلِكَ مِنَ الْمَثَلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (95: 1) الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا بَعْضَ عُلَمَائِهِمْ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ نِصْفِ سَاعَةٍ، فَهَزَأَ بِهِ الْبَاشَا، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَثَلًا فِي الْجَهْلِ، وَهُوَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مُرَادِفَ التِّينِ بِالتُّرْكِيَّةِ وَهُوَ " انجير "، وَذَلِكَ الْعَالِمُ يُعْذَرُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْكَبِيرَ فِي مَقَامِهِ وَفِي مَعَارِفِهِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُقَابِلُهَا فِي التُّرْكِيَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِالسُّؤَالِ مَعْنَى إِقْسَامِ اللهِ تَعَالَى بِبَعْضِ الشَّجَرِ وَالْبِقَاعِ وَالْبِلَادِ وَحِكْمَتِهِ، كَمَا إِذَا سَأَلَ هَذَا الْفَقِيهُ مِنَ الْبَاشَا عَمَّا يُسَمِّيهِ رِجَالُ الْحَرْبِ " خَطَّ الرَّجْعَةِ " مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ كَلِمَةِ خَطٍّوَكَلِمَةِ الرَّجْعَةِ لُغَةً.

وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْبَاشَا لَمْ يَسْأَلْ هَذَا السُّؤَالَ إِلَّا وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُرُودِ الْقَسَمِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامٍ لَهُ كَثُرَ نَقْلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ احْتِقَارُ التَّعَالِيمِ وَالنَّظْمِ الَّتِي وُضِعَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَزَعْمُهُ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِقَوْمٍ مُنْحَطِّينَ فِي الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ، فَلَا يَلِيقُ اتِّبَاعُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي ارْتَقَتْ فِيهِ الصِّنَاعَاتُ وَالْفُنُونُ وَالْمَعَارِفُ الْمَادِّيَّةُ، وَاسْتَبَاحَ الْمُتْرَفُونَ فِيهِ الرَّذَائِلَ بِاسْمِ الْمَدَنِيَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِنْ فِكْرِهِ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ الْجَهْلِيَّةِ، وَيُبَيِّنَ لَهُ مَعْنَى صِيغَةِ الْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ وَحِكْمَةُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالتَّذْكِيرِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمُنَاسِبَةِ كُلِّ قَسَمٍ مِنْهُ أَقْسَمَ بِهِ عَلَيْهِ لِتَوْكِيدِهِ، كَالْإِقْسَامِ بِالنَّجْمِ عَلَى هِدَايَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَشَادِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُهْتَدَى بِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ الِاسْتِطْرَادُ ; إِزَالَةً لِشُبْهَةِ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا وَأَمْثَالِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَنَقُولُ:. إِنَّ الْجَمْعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (95: 1 - 3) بَيَّنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ وَمَوْقِعَيْنِ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي التَّنْزِيلِ، وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ طُورَ سِينِينَ (أَيْ سَيْنَاءَ) مَهْبِطُ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَظْهَرُ نُبُوَّتِهِ - وَأَنَّ الْبَلَدَ الْأَمِينَ (مَكَّةَ) مَهْبِطُ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَظْهَرِ نُبُوَّتِهِ - تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ الْكِنَايَةَ عَنْ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ النُّبُوَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا يُكَنَّى بِالْأَهْرَامِ أَوْ أَبِي الْهَوْلِ عَنْ حَضَارَةِ الْفَرَاعِنَةِ، وَبِشَجَرِ الْأَرْزِ عَنْ جَبَلِ لُبْنَانَ مَثَلًا. وَإِذَا رَجَعْنَا لِلتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ نَرَى فِيهِ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ وَحَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ مَسْجِدُ نُوحٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) الَّذِي بَنَاهُ عَلَى الْجُودِيِّ - أَيْ حَيْثُ اسْتَوَتْ سَفِينَتُهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَطُورُ سِينِينَ مَسْجِدُ الطَّوْرِ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينِ مَكَّةُ. (ثَانِيهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْأَخِيرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى حَيْثُ أُسْرِي بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَخْ. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ تَعَدُّدُ رُوَاتِهِ وَمُوَافَقَةُ التَّارِيخِ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنْ جُزْءِ " عم "، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَصُّهُ:. " وَقَالَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْإِقْسَامَ هُوَ بِالنَّوْعَيْنِ لِذَاتِهِمَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قَالُوا: لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِمَا، وَلَكِنْ تَبْقَى الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ طُورِ سِينِينَ وَالْبَلَدِ الْأَمِينَ وَحِكْمَةِ جَمْعِهِمَا مَعَهُمَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ ; وَلِهَذَا رَجَّحَ أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَنَّهُمَا النَّوْعَانِ مِنَ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لَا لِفَوَائِدِهِمَا كَمَا ذَكَرُوا، بَلْ لِمَا يُذْكُرُ أَنَّ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي

لَهَا الْآثَارُ الْبَاقِيَةُ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَنَا بِأَرْبَعَةِ فُصُولٍ مِنْ كِتَابِ الْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَالتِّينُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَظِلُّ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا يُورِقُ التِّينُ، وَعِنْدَمَا بَدَتْ لَهُ وَلِزَوْجِهِ سَوْآتُهُمَا طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ. وَالزَّيْتُونُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتِهِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَسَدَ الْبَشَرُ، وَأَهْلَكَ اللهُ مَنْ أَهْلَكَ مِنْهُ بِالطُّوفَانِ، وَنَجَّى نُوحًا فِي سَفِينَتِهِ وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ، نَظَرَ نُوحٌ إِلَى مَا حَوْلَهُ فَرَأَى الْمِيَاهَ لَا تَزَالُ تُغَطِّي وَجْهَ الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ بَعْضَ الطُّيُورِ لَعَلَّهُ يَأْتِي إِلَيْهِ بِخَبَرِ انْكِشَافِ الْمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْأَرْضِ فَغَابَ وَلَمْ يَأْتِ بِخَبَرٍ، فَأَرْسَلَ طَيْرًا آخَرَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَحْمِلُ وَرَقَةً مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فَاسْتَبْشَرَ وَسُرَّ وَعَرَفَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ قَدْ سَكَنَ، وَقَدْ أُذِنَ لِلْأَرْضِ أَنْ تُعَمَّرَ. ثُمَّ كَانَ مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ تَجْدِيدُ الْقَبَائِلِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي مُحِيَ عُمْرَانُهَا بِالطُّوفَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ بِزَمَنِ الزَّيْتُونِ. وَالْإِقْسَامُ هُنَا بِالزَّيْتُونِ لِلتَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُذَكَّرُ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَطُورُ سِينِينَ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَظُهُورِ نُورِ التَّوْحِيدِ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ مَا تَدَنَّسَتْ جَوَانِبُ الْأَرْضِ بِالْوَثَنِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مُوسَى يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَاءَ مُخْلِصًا لِرُوحِهَا مِمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى قَوْمِهِ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَحَجْبِ نُورِهِ بِالْبِدَعِ، وَإِخْفَاءِ مَعْنَاهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِحْدَاثِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، فَمَنَّ اللهُ عَلَى الْبَشَرِ بِبِدَايَةِ تَارِيخٍ يَنْسَخُ جَمِيعَ تِلْكَ التَّوَارِيخِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ أَطْوَارِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَلْحَقُ، وَهُوَ عَهْدُ ظُهُورِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِذِكْرِ الْبَلَدِ الْأَمِينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي فَصَّلْنَا بَيَانَهُ يَتَنَاسَبُ الْقَسَمُ وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَرَى " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الشَّرْحِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ التُّرْكِيَّ عَلَى عِلْمٍ لَا يُشَارِكُهُ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مُصِيبٌ فِي تَقْدِيرِ زَمَنِ الْجَوَابِ بِنِصْفِ سَاعَةٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ التُّرْكِيَّةَ لَنْ تَكُونَ إِلَّا قَاصِرَةً عَنِ احْتِمَالٍ مِثْلِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَنَّهَا تَمْهِيدٌ لِلْإِضْلَالِ وَالتَّكْفِيرِ. سُبْحَانَ اللهِ! أَنَشُكُّ فِي كَوْنِ مُرَادِ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ التَّوَسُّلَ بِهَا إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَالتَّشْكِيكَ فِي كَوْنِهِ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِقَامَةَ الشُّبَهَاتِ عَلَى بُطْلَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ فِيهَا بَصِيصًا مِنَ النُّورِ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِ؟ أَنَشُكُّ فِي هَذَا بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ حُكُومَتِهِمْ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ وَإِرْثٍ، تَفْضِيلًا لِلتَّشْرِيعِ الْأُورُبِّيِّ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ، وَإِبْطَالِ التَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَاضْطِهَادِ عُلَمَاءِ الدِّينِ حَتَّى فِي مَلَابِسِهِمْ، فَقَدْ أَكْرَهُوهُمْ عَلَى

لُبْسِ الزِّيِّ الْخَاصِّ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُبَالُوا بِمُرَاعَاةِ وِجْدَانِ أَحَدٍ وَلَا اعْتِقَادِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ آيَةُ الرِّدَّةِ عَنْ دِينِهِ - فَعَلُوا هَذَا وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ يَدِينُ لِلَّهِ بِالْإِسْلَامِ وِجْدَانًا وَتَسْلِيمًا يَحْمِلُهُ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَيَزِعُهُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَلِعُلَمَاءِ الدِّينِ احْتِرَامٌ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ دِينِ الشَّعْبِ بِكَلِمَةٍ مَعَ كَوْنِ مَادَّةِ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ لِلْجُمْهُورِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دِينَ الدَّوْلَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ لَمَّا تُنْسَخُ - كَمَا نُسِخَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عَارَضَ الْحُكُومَةَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا هَذِهِ يُسَاقُ إِلَى مَحْكَمَةٍ خَاصَّةٍ تُسَمَّى مَحْكَمَةَ الِاسْتِقْلَالِ، مُفَوَّضَةٌ بِأَنْ تَحْكُمَ بِالْقَتْلِ لِلدِّفَاعِ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ اللَّادِينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى شَرْعٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا قَانُونٍ مُدَوَّنٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا نِهَائِيًّا لَا اسْتِئْنَافَ لَهُ، وَلَا مُرَاجَعَةَ فِيهِ، وَقَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ لِلْمُعَارَضَةِ فِي وَضْعِ الْقَلَنْسُوَةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ (الْبُرْنِيطَةِ) مَوْضِعَ الْعِمَامَةِ وَاسْتِبْدَالِهَا بِهَا؟ ! . هَذَا مَا يَجْرِي الْيَوْمَ فَمَاذَا يَكُونُ فِي الْغَدِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُسْلِمُ التُّرْكِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي بِلَادِهِ مَنْ كُتُبِ دِينِهِ إِلَّا تَرْجَمَةً لِلْقُرْآنِ بِالصِّفَةِ الَّتِي عَرِفْتَ أَغْلَاطَهَا وَقُصُورَهَا؟ نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ أَنْفُسَهُمْ سَيُفَسِّرُونَهَا لَهُ بِمَا يَزِيدُهُ بُعْدًا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيُعِدُّهُ لِلْكُفْرِ بِهِ وَعَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ أَهْلِهِ، إِنْ طَالَ أَمْرُ اسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِ. لَا تَقُلْ: وَمَا يَمْنَعُ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْهُمْ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِالتُّرْكِيَّةِ تَفْسِيرًا يُصَحِّحُ الْأَغْلَاطَ وَيَدْفَعُ الشُّبَهَاتِ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مَا عَلِمَتْ يَمْنَعُونَ هَذَا أَيْضًا، وَيَنْشُرُونَ تَفَاسِيرَ مَلَاحِدَتِهِمُ الْمُؤَيِّدَةَ لِغَرَضِهِمْ، وَهُمْ يَسْتَمِدُّونَهَا مِنْ خُصُومِ الْإِسْلَامِ كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَشَيَاطِينِ السِّيَاسَةِ الْأُورُبِّيَّةِ، وَمَلَاحِدَةِ الْمَادِّيَّةِ، دَعْ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ أَوِ الْكُفْرُ. أَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (15: 99) بَلَغَنِي مِنْ عَالَمٍ عَرَبِيٍّ أَقَامَ فِي الْآسِتَانَةِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُخَالِطُ عُلَمَاءَهُمْ عَنْ عَالِمٍ تُرْكِيٍّ أَعْرِفُهُ، وَكُنْتُ أُعِدُّهُ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَائِهَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّدَيُّنِ وَمَعْرِفَةِ حَالِ الْعَصْرِ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلُوا فِي الْعِلْمِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِبَادَةُ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَكْفِي هَذَا التَّأْوِيلُ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ الْيَقِينَ أَمْرٌ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَيُمْكِنُ إِضْلَالُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَفِي التَّحَكُّمِ فِيمَا يَطْلُبُ الْيَقِينُ فِيهِ. وَنَقُولُ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ (أَوَّلًا) : إِنَّهَا طَعْنٌ صَرِيحٌ فِي النَّبِيِّ الْأَعْظَمِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًا، وَذَلِكَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ

159

الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ السَّبْعَ الْمَثَانِ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَتَهْوِينِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْبَائِهِ بِكِفَايَتِهِ تَعَالَى أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْهُمْ. بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (15: - 97 - 99) وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَنَقَلُوا شَوَاهِدَ لَهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَفَسَّرُوا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (74: 46، 47) . (ثَانِيًا) إِنَّ أَصْلَ الْيَقِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ فَالْيَقِينُ فِي الْإِسْلَامِ مَبْدَأٌ لَا غَايَةٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ تَلْقَى هَذَا التُّرْكِيُّ الدِّينَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ ; لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَقِينًا لَا يَكُونُ إِيمَانًا، وَلَيْسَ فَوْقَ الْيَقِينِ غَايَةٌ تَكُونُ هِيَ الزِّيَادَةَ، وَفِي هَذَا الْبَحْثِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. (ثَالِثًا) إِنَّ الْيَقِينَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَصْدِيقُ الْإِنْسَانِ فِي الدِّينِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ وَنَحْوِهُ كَالْمَجِيءِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا يَرُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَارِجِ بِذَاتِهِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ كَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ، أَوِ الْمُنْتَزَعِ مِنَ الْمَعْلُومِ الْخَارِجِيِّ، دُونَ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (14: 17) وَقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (63: 10) وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (6: 61) . وَنَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِنْ مَقَاصِدَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ. وَمَا ضَعُفَ اهْتِدَاءُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِخُلُوِّ تَفْسِيرِهِ مِنْ تَطْبِيقِ عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهُمْ عَنْهُ. وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ بَيَّنَ تَعَالَى فِي الِاسْتِطْرَادِ الْخَاصِّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كِتَابَةِ رَحْمَتِهِ لِلَّذِينِ يَتْبَعُونَهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ فِي مُتَّبِعِيهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ بَعْدَ بَعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُتَّبِعِينَ لِمُوسَى حَقَّ الِاتِّبَاعُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى هُدًى وَحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَإِنَّ مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مِنَ الْحَصْرِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ كَمَا

أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَبَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْآيَةِ حَالَ خَوَاصِّ أَتْبَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ حَقَّ الِاتِّبَاعُ، عَاطِفًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُهْتَدِينَ بِاتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ:. وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ أَيْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى (أَيْضًا) جَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ يَهْدُونَ النَّاسَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْدِلُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ، لَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، وَلَا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَالرِّشَى. فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ كَانُوا فِي عَصْرِهِ وَبَعْدَ عَصْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ضَيَاعِ أَصْلِ التَّوْرَاةَ ثُمَّ وُجُودِ النُّسْخَةِ الْمُحَرَّفَةِ بَعْدَ السَّبْيِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ الْعَظِيمَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. وَهَذَا مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ لِلْحَقَائِقِ، وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (3: 75) وَقِيلَ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: إِنَّهُ ذَكَرَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِ فِي مُقَابِلِ مُتَّخِذِي الْعِجْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْضَ قَوْمِهِ لَا كُلَّهُمْ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى بُعْدٍ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ بُعْدِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ قِصَّةِ الْعِجْلِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ قَوْلَهُ: " يَهْدُونَ وَيَعْدِلُونَ " لِلْحَالِ الْمُفِيدِ الِاسْتِمْرَارِ (قُلْنَا) : إِنَّ أَمْثَالَهُ مِمَّا حَكَى فِيهِ حَالَ الْغَابِرِينَ وَحْدَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَثِيرٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ لِتَصْوِيرِ الْمَاضِي فِي صُورَةِ الْحَاضِرِ، وَمَا هُنَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِمَّنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كُلَّمَا بَلَغَتْ أَحَدًا مِنْهُمُ الدَّعْوَةُ قَبْلَهَا وَأَسْلَمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصْفِهِمْ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ. قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْأُمَّةِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ (3: 199) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي هَذَا، بَلِ السِّيَاقِ يُنَافِيهِ ; لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَالْمُتَبَادَرُ فِيهَا أَنَّهَا فِي خَوَاصِّ قَوْمِ مُوسَى فِي عَهْدِ مُوسَى، وَبَعْدَ عَهْدِهِ وَمِنْهُمُ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْقُضَاةُ الْعَادِلُونَ، كَمَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. فَالْآيَاتُ فِي الْخِيَارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (1) الصَّرِيحَةُ فِي الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَآمَنُوا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (2: 121) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ

160

(28: 52 - 54) الْآيَاتِ وَمِثْلُهُنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالرَّعْدِ وَالْإِسْرَاءِ وَالْقَصَصِ وَالْعَنْكَبُوتِ إِلَخْ. (2) الصَّرِيحَةُ فِيِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَقَامُوا مَعَهُ، ثُمَّ فِي عَهْدٍ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَى عَهْدِ الْبِعْثَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ بُلُوغِ دَعْوَتِهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. (3) الْمُحْتَمِلَةُ لِلْقِسْمَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ (3: 113 - 115) إِلَخْ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ [فِي ص58 - 61 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . وَفِي تَفْسِيرِ الْأُمَّةِ هُنَا خُرَافَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ ذَكَرَ بَعْضَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي كَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارُوا فِي نَفَقٍ مِنَ الْأَرْضِ فَخَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ إِلَخْ، وَذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا بِدُونِ سَنَدٍ. وَابْنُ جَرِيجٍ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ وَرِوَايَتِهِ وَعِبَادَتِهِ شَرُّ الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسًا ; لِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ عَنْ ثِقَةٍ، وَأَئِمَّةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا يَعْتَدُّونَ بِشَيْءٍ يَرَوْنَهُ بِغَيْرِ تَحْدِيثٍ، وَنَقَلَ هَذِهِ الْخُرَافَةِ كَثِيرُونَ، وَزَادُوا فِيهَا مَا عَزَوْهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا وَبَحَثُوا فِيهَا مَبَاحِثَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَى. وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ هَذَا سِيَاقٌ آخَرُ مِنْ أَخْبَارِ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كُلِّ مَا يَقْصِدُ بِهِ مِنَ الْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ. قَالَ تَعَالَى:. وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا أَيْ: وَفَرَّقْنَا قَوْمَ مُوسَى الَّذِينَ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ - قَطَّعْنَاهُمْ فَجَعَلْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قِطْعَةً، أَيْ فِرْقَةً تُسَمَّى أَسْبَاطًا، أَيْ أُمَمًا وَجَمَاعَاتٍ يَمْتَازُ كُلُّ مِنْهَا بِنِظَامٍ خَاصٍّ فِي مَعِيشَتِهِ وَبَعْضِ شُئُونِهِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي مُشَارِبِ مَائِهِمْ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى السِّبْطِ - بِكَسْرِ السِّينِ - أَنَّهُ وَلَدُ الْمَوْلُدِ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِوَلَدِ الْبِنْتِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَلَائِلُ أَوْلَادِهِ الْعَشَرَةِ -

أَيْ مَا عَدَا لَاوِي - وَسَلَائِلُ وَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا (إفرايم ومنسى) وَأَمَّا سُلَالَةُ لَاوِي فَنِيطَتْ بِهَا خِدْمَةُ الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَاطِ، وَلَمْ تَجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فَالْأَسْبَاطُ بَيَانٌ لِلْفِرَقِ وَالْقِطَعِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِيُعْلَمَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفِرَقُ فِي الْعَرَبِ بِالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ مَعْنَى الْأَسْبَاطِ الِاصْطِلَاحِيِّ. وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا رَابِطَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نِظَامٌ وَاحِدٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِثْلُ هَذَا مَعَ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (2: 60) فَأَفَادَ مَا هُنَا أَنَّ قَوْمَهُ اسْتَسْقَوْهُ، وَمَا هُنَاكَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى رَبَّهُ لِقَوْمِهِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ حَصَلَ. وَالِاسْتِسْقَاءُ طَلَبُ الْمَاءِ لِلسُّقْيَا، وَتَعْرِيفُ الْحَجَرِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَكِّيَّةِ (الْأَعْرَافِ) وَالْمَدَنِيَّةِ (الْبَقَرَةِ) لِتَعْظِيمِ جُرْمِهِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالصَّخْرِ - أَوْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، وَكَلَاهُمَا عَظِيمٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَهْدِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّوْرَاةِ، إِذْ عَيَّنَتْ مَكَانَهُ مِنْ جَبَلِ حوريت. وَالِانْبِجَاسُ وَالِانْفِجَارُ وَاحِدٌ يُقَالُ: بِجَسَهُ أَيْ فَتْحَهُ فَانْبَجَسَ وَبِجَّسَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) فَتَبَجَّسَ، كَمَا يُقَالُ: فَجَّرَهُ (كَنَصَرَهُ) إِذَا شَقَّهُ فَانْفَجَرَ وَفَجَّرَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) فَتَفَجَّرَ - وَزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أَنَّ الِانْبِجَاسَ خُرُوجُ الْمَاءِ بِقِلَّةِ، وَالِانْفِجَارَ خُرُوجُهُ بِكَثْرَةٍ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهِمَا ; لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلًا قَلِيلًا ثُمَّ كَثُرَ. وَأَدَقُّ مِنْهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ: الِانْبِجَاسُ أَكْثَرَ مَا يُقَالُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ ضَيِّقٍ، وَالِانْفِجَارُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَفِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ وَاسِعٍ، فَاسْتَعْمَلَ حَيْثُ ضَاقَ الْمُخْرِجُ اللَّفْظَانِ - أَيْ وَهُوَ حَجْرُ مُوسَى. وَقَالَ: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (18: 33) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا (54: 12) وَلَمْ يَقِلْ بَجَّسْنَا اهـ. أَقُولُ: وَلَكِنَّ رُوَاةَ اللُّغَةِ فَسَّرُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، وَذَكَرُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبَجْسُ انْشِقَاقٌ فِي قِرْبَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ أَرْضٍ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فَلَيْسَ بِانْبِجَاسٍ وَأَنْشَدَ وَكَيْفَ غَرَبِي دَالِجٍ تَبَجَّسَا وَالسَّحَابُ يَتَبَجَّسُ بِالْمَطَرِ وَالِانْبِجَاسُ عَامٌّ، وَالنُّبُوعُ لِلْعَيْنِ خَاصَّةً، وَبَجَسْتَ الْمَاءَ فَانْبَجَسَ أَيْ فَجَّرْتَهُ فَانْفَجَرَ، وَبِجَّسَ بِنَفْسِهِ يُبَجِّسُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَسَحَابٌ بَجِسٌ، وَتَبَجَّسَ أَيِ انْفَجَرَ اهـ. وَفِي الْأَسَاسِ: انْبَجَسَ الْمَاءُ مِنَ السَّحَابِ وَالْعَيْنِ: انْفَجَرَ وَتَبَجَّسَ تَفَجَّرَ إِلَخْ. . . وَسَحَابٌ بَجِسٌ وَبَجَّسَهَا اللهُ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

لَهُ قَائِدٌ دُهْمُ الرَّبَابِ خَلْفَهُ ... رَوَايَا يُبَجِّسْنَ الْغَمَامَ الْكَنَهْوَرَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى حِينَ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ فَاسْتَسْقَى رَبَّهُ لَهُمْ (كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ) بِأَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَضَرَبَهُ فَنَبَعَتْ مِنْهُ عَقِبَ ضَرْبِهِ إِيَّاهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أَيْ: قَدْ عَرِفَ أُنَاسُ كُلِّ سِبْطٍ الْمَكَانَ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ إِذْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَا يَأْخُذُ الْمَاءَ إِلَّا مِنْهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ، وَاتِّقَاءِ ضَرَرِ الزِّحَامِ. وَفِي أَوَّلِ سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ: أَنَّ عَدَدَ الرِّجَالِ الصَّالِحِينَ لِلْحَرْبِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَزِيدُ عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ فَمَا فَوْقَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُ الْجَمِيعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا لَا يَقِلُّ عَنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ (مِلْيُونَيْنِ) وَلِلْمُؤَرِّخِ النَّقَّادِ الْحَكِيمِ ابْنِ خَلْدُونَ تَشْكِيكٌ مَعْرُوفٌ فِيمَا قَالَهُ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلتَّوْرَاةِ فِي كَثْرَةِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَصَّلَهَا فِي أَوَّلِ مُقَدَّمَةِ تَارِيخِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا أُلُوفًا كَثِيرَةً أَوْ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي سَيْنَاءَ مَوَارِدُ لِلْمَاءِ غَيْرَ تِلْكَ الْعُيُونِ الَّتِي انْفَجَرَتْ مِنْ صَخْرٍ فِي جَبَلِ (حوريت) مُتَّصِلٍ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِسَاحَةُ ذَلِكَ الصَّخْرِ وَاسِعَةً جِدًّا، وَأَنْ يَكُونَ السَّهْلُ أَمَامَهُ أَفْسَحَ لِيَسَعَ الْأُلُوفَ مِنَ الْأَسْبَاطِ يَرِدُونَ وَيُصْدِرُونَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ (حوريت) الَّذِي أَمَرَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى صَخْرٍ فِيهِ فَيَجِدُهُ - أَيِّ الرَّبَّ - عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرَ مِنْهُ الْمَاءُ، هَلْ هُوَ جَبَلُ سَيْنَاءَ نَفْسُهُ؟ أَمْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ - وَيَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الصَّخْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْوَادِي الَّذِي يُسَمَّى (وَادِي اللجَاءِ) وَيُعَيِّنُ بَعْضُ الرُّهْبَانِ مَكَانَهُ، وَلَا يَعْنِينَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِلَّا أَنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عِنْدَنَا مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْحَجَرِ وَحَجْمِهِ وَشَكْلِهِ كَكَوْنِهِ كَرَأْسِ الشَّاةِ أَوْ أَكْبَرَ، وَكَوْنِهِ يُوضَعُ فِي الْجَوَالِقِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى ثَوْرٍ أَوْ حِمَارٍ - كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا بِالْقَبُولِ أَيُّهَا أَغْرَبُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى احْتِرَامِهِ كَثِيرًا مِنْهَا. وَفِي عَرَائِسِ الْمَجَالِسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَقْرَعُ لَهُمْ أَقْرَبَ حَجَرٍ فَتَنْفَجِرُ مِنْهُ عُيُونٌ. . . فَقَالُوا إِنْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مِتْنَا عَطَشًا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِأَنْ يُكَلِّمَ الْحِجَارَةَ فَتُعْطِيَهُ، فَقَالُوا: كَيْفَ بِنَا إِذَا مَضَيْنَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حِجَارَةٌ؟ فَأَمْرُ اللهِ مُوسَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ حَجَرًا فَحَيْثُمَا نَزَلَ أَلْقَاهُ! إِلَخْ. وَهَذَا مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي اخْتَلَقَهَا وَهْبٌ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْلَا جُنُونُ الرُّوَاةِ بِكُلِّ مَا يُقَالُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَا قَبِلُوا مِنْ مَثَلِهِ أَنْ يَشْرَبَ مِئَاتُ الْأُلُوفِ أَوِ الْمَلَايِينِ مِنْ حَجَرٍ صَغِيرٍ يُحْمَلُ، كَمَا قَبِلُوا مِنْ مَزَاعِمِهِ

أَنَّ رَأْسَ الرَّجُلِ مِنْ قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَالْقُبَّةِ الْعَظِيمَةِ! ! وَقَدْ عَدُّوهُ مَعَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ ثِقَةً فِي الرِّوَايَةِ! . وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ الْغَمَامُ: السَّحَابُ أَوِ الْأَبْيَضُ أَوِ الرَّقِيقُ مِنْهُ، أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُمُ الْغَمَامَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ ظِلَّهُ فَيَقِيهِمْ لَفْحَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنْ حَيْثُ لَا يُحْرَمُونَ فَائِدَةَ نُورِهَا وَحَرِّهَا الْمُعْتَدِلِ، وَتُسَمَّى السَّحَابَةُ ظُلَّةً بِالضَّمِّ كَكُلِّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقُ. وَلَوْلَا كَثْرَةُ السَّحَابِ فِي التِّيهِ لَأَحْرَقَتْهُمُ الشَّمْسُ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَجَرٌ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ. وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى الْمَنُّ مَادَّةٌ بَيْضَاءُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ (الْجَوِّ) كَالطَّلِّ حُلْوَةُ الطَّعْمِ تُشْبِهُ الْعَسَلَ، وَإِذَا جَفَّتْ تَكُونُ كَالصَّمْغِ، وَقَدْ كَثُرَ نُزُولُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّ طَعْمَهُ كَطَعْمِ قَطَائِفَ بِالزَّيْتِ، وَمَنْظَرَهُ كَمَنْظَرِ الْمُقَلِ، وَعُبِّرَ عَنْهُ فِيهَا بِخُبْزِ السَّمَاءِ. وَقَدْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْخُبْزِ. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ بِالترنجبين. وَقَالَ: (الدُّكْتُورُ بُوسْتُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَبَهَ بَيْنَ هَذَا الْمَنِّ، وَالْمَنِّ الطِّبِّيِّ الَّذِي هُوَ عَصِيرٌ مُنْعَقِدٌ مِنْ شَجَرَةِ الدَّرْدَارِ - وَلَا هُوَ أَيْضًا الْمَنُّ الَّذِي يَتَكَوَّنُ مِنْ شَجَرَةِ الطَّرْفَاءِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (1) إِنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لَمْ يَرَوْهُ قَبْلَ رِحْلَتِهِمْ. (2) لَا يُوجَدُ الْمَنُّ الْعَرَبِيُّ إِلَّا تَحْتَ الطَّرْفَاءِ وَفِي أَوَّلِ الصَّيْفِ فَقَطْ. (3) يُمْكِنُ حِفْظُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً وَلَا يُدَوِّدُ. (4) لَا يُمْكِنُ طَحْنُهُ أَوْ دَقُّهُ. (5) يَتَكَوَّنُ الْمَنُّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مُدَّةَ الْفَصْلِ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْحِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ إِثْبَاتَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَنَّ كَانَ " عَجِيبَةً " أَيْ مُعْجِزَةً أَوْ كَرَامَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا آتَى اللهُ كَلِيمَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى قَوْمِهِ لِإِصْلَاحِهِمْ. وَقَدْ كَانَ أَفْسَدَهُمُ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ، وَيَكْفِي أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَةُ فِي نُزُولِهَا بِتِلْكَ الْكَثْرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَكْفِي تِلْكَ الْأُلُوفَ، وَتَقُومُ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْخُبْزِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ هُوَ فِي (السَّلْوَى) فَقَدْ وَافَقَ غَيْرَهُ فِي أَنَّهَا هِيَ طَيْرُ السِّمَّانِ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُهَاجِرُ مِنْ أَفْرِيقِيَّةَ (وَلَا سِيَّمَا مِصْرُ) فَتَصِلُ إِلَى سَيْنَاءَ تَعِبَةً فَتَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ تَسِفُّ فَتُؤْخَذُ بِالْيَدِ. وَقِيلَ: طَيْرٌ تُشْبِهُ السِّمَانَ وَلَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهَا. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هُنَا قَوْلٌ مُقَدَّرٌ يَكْثُرُ مِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ - أَوْ أَنْزَلْنَا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِمْ قَائِلِينَ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فَوُضِعَ هَذَا الْوَصْفُ لِلْمَنِّ وَالسَّلْوَى مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ; لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمِنَّةِ بِهِمَا. وَإِسْنَادُ الرِّزْقِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الْعَظَمَةِ تَأْكِيدٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَيُقَدَّرُ مِثْلَ هَذَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ وَلِمَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ هُنَالِكَ إِنَّمَا كَانَ بِمَا وَقَعَ لِأَجْدَادِهِمْ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكَايَةِ فِي آيَةِ

الْأَعْرَافِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا كَانَ مُوَجَّهًا أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ; وَلِذَلِكَ اتَّحَدَ عَجُزُ الْآيَةِ فِي السُّورَتَيْنِ وَهُوَ:. وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ وَمَا ظَلَمُونَا بِكُفْرِهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَلَكِنْ كَانَ دَأْبُهُمْ ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ دُونَ رَبِّهِمُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ تَأْثِيرُ أَحَدٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَكَانُوا يَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِ النِّعَمِ وَالْجُحُودِ وَغَيْرِهِمَا آنًا بَعْدَ آنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَالِ، وَفِي التَّوْرَاةِ بِالتَّفْصِيلِ. فَتَقْدِيمُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى يَظْلِمُونَ الْمُفِيدُ لِقَصْرِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنْ كُفْرَهُمْ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى يَضُرُّهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَرْفُوعًا " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا ". (وَمِنْهُ) " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي " وَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ أَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ فَيَنْفِي عَنْهُمْ ظُلْمَهُ، وَلَمَّا اتَّصَلُوا بِالنَّاسِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمُ الْعَادِلُونَ وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ، وَمِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمَ. وَإِنْ كَانَ ظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ مِمَّا يَجْهَلُ أَنَّهُ ظُلْمٌ لَهَا ; لِأَنَّهُ يَتَجَلَّى لَهُ فِي صُورَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَضَرَّةَ، وَهَكَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ. يَنْوُونَ بِظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ جَهَالَةً مِنْهُمْ. وَلَا يَزَالُ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقْدِمُونَ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ يَقْصِدُونَ بِهَا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَهِيَ تُنْذِرُ بِخَطَرٍ كَبِيرٍ، وَشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ، كَالْفِتْنَةِ الَّتِي أَثَارُوهَا فِي بِلَادِ الرُّوسِيَّةِ بِتَعَالِيمَ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُسْرِفَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْبَلْشَفِيَّةِ، وَمُحَاوَلَةِ انْتِزَاعِ فِلَسْطِينَ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَضْمُونِ التَّمَادِي وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الظُّلْمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِجُمْلَةِ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ إِذْ هِيَ تُفِيدُ أَنَّ هَذَا صَارَ دَأْبًا وَعَادَةً لَهُمْ. وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُون َ

161

تَقَدَّمَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيْنَ مَا هُنَا وَمَا هُنَالِكَ فُرُوقٌ فِي التَّعْبِيرِ نُبَيِّنُهَا هُنَا فَنَقُولُ:. (1، 2) قَالَ تَعَالَى هُنَا: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لِأَنَّ الْقِصَّةَ خِطَابٌ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَالْحِكَايَةُ فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِكَايَةٌ عَنْ غَائِبٍ، وَالْأَصْلِ أَنْ يَذْكُرَ ضَمِيرُهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَهُمْ) وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا (2: 58) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوعِيَ هُنَالِكَ السِّيَاقُ، وَفِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَبْلَهَا: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (2: 50) ، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى. . . . (2: 51) فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا " لَكُمْ " كَمَا قَالَ هُنَا: (لَهُمْ) ; لِأَنَّ الْقَوْلَ كَانَ لِأَجْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أُلُوفِ السِّنِينَ لَا لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: " لَهُمْ " أَيْضًا ; لِأَنَّ السِّيَاقَ لَمْ يَكُنْ حِكَايَةً عَنْ غَائِبٍ مَجْهُولٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ، بَلْ هُوَ تَذْكِيرُ الْخَلَفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِنْ شُئُونِ السَّلَفِ ; لِأَنَّهُمْ وَارِثُو أَخْلَاقَهُمْ وَغَرَائِزَهُمْ وَعَادَاتَهُمْ، فَهُوَ إِذَنْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخَلَفِ الْحَاضِرِ وَالسَّلَفِ الْغَابِرِ، وَزِيَادَةُ " لَهُمْ " تَلْصِقُهُ بِالْغَائِبِ وَحْدَهُ فَتَكُونُ حِكَايَتُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَحِكَايَتِهِ لِعَرَبِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَأَمَّلْ! . (3) قَالَ هَاهُنَا: اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (ادْخُلُوا) وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا أَتَمُّ ; لِأَنَّ السُّكْنَى تَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ وَلَا عَكْسَ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ بِمَا يَلِيهَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمَا وَهُوَ:. (4، 5) قَالَ هَاهُنَا: وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا (2: 58) فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ هُنَالِكَ بِـ " الْفَاءِ " ; لِأَنَّهُ بَدْءَهُ يَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَالثَّمَرَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْقَرْيَةِ - وَالسُّكْنَى أَمْرٌ مُمْتَدٌّ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي أَثْنَائِهِ لَا عَقِبَهُ، بَلْ لَا يُقَالُ عَقِبَ السُّكْنَى إِلَّا فِيمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ السُّكْنَى ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ هُنَا بِـ " الْوَاوِ " الَّتِي تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا بِلَا مُلَاحَظَةِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْقِيبٍ، وَقَدْ وُصِفَ هُنَالِكَ الْأَكْلُ بِالرَّغَدِ وَهُوَ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ، وَالتَّبْشِيرُ بِهِ يُنَاسِبُ حَالَ الدُّخُولِ، إِذِ الْأَمْرُ لَدَى الدَّاخِلِ مَجْهُولٌ. (6) قَالَ هَاهُنَا: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقَدَّمَ هُنَالِكَ مَا أَخَّرَ هُنَا، وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ أَيْ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَرْتِيبٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا لَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَرْجَحُ أَوْ أَهَمُّ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ لِذَاتِهِ. فَكَانَ الِاخْتِلَافُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَقْدِيمِ هَذَا وَتَأْخِيرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ عَكْسِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (حِطَّةٌ) وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ

وَخَطَايَاهُمْ كَقَوْلِكِ اللهُمَّ غُفْرًا وَبَيْنَ دُخُولِ بَابِ الْقَرْيَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِالتَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْكِيسِ الرُّؤُوسِ شُكْرًا لِجَلَالِهِ عَلَى نُوَالِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا. (7) قَالَ هَاهُنَا: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (تُغْفَرْ) بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَرَفْعِ (خَطِيئَاتُكُمْ) وَهُوَ يُنَاسِبُ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (نَغْفِرْ) بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءَ وَنَصْبِ " خَطِيئَاتِكُمْ " بِكَسْرِ تَائِهًا، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَوْنُ " سَنَزِيدُ " لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ. وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَاحِدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (خَطِيئَتَكُمْ) بِالْإِفْرَادِ. وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى خَطِيئَةٍ خَاصَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (خَطَايَاكُمْ) وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي فِعْلِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا هُنَا. وَكِتَابَةُ الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ تَحْتَمِلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ لَفْظِيَّةٌ وَهِيَ التَّوَسُّعُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ قِرَاءَتِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ لِلْخَطِيئَةِ أَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً كَوَاحِدَةٍ أَوْ كَثِيرَةً. (8) قَالَ هَاهُنَا: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَاذَا بَعْدُ الْمَغْفِرَةِ؟ أَيْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمْ جَزَاءً حَسَنًا عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَسَنَزِيدُ بِالْعَطْفِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ يَكُونُ طَرْحُ الْوَاوِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَيْسَ مُشَارِكًا لِلْمَغْفِرَةِ فِيمَا جَعَلَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْخُضُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ بِحَطِّ الْأَوْزَارِ. (9) قَالَ هَاهُنَا: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وَفِيهِ زِيَادَةُ (مِنْهُمْ) عَلَى مَثَلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَبَبِهَا مَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إِلَخْ. مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِ ضَمِيرِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ لِرَبْطِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَرْقِ السَّابِعِ آنِفًا، وَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَمَا قِيلَ، بَلْ هُوَ الْأَصْلُ هَاهُنَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَ حِكَايَةً عَنِ الْغَائِبِينَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سِيَاقِ مُخَاطَبَةِ خَلَفِهِمُ الْحَاضِرِينَ. وَأَمَّا مَعْنَى تَبْدِيلِهِمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ عَصَوْا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَخَالَفُوا الْأَمْرَ مُخَالَفَةً تَامَّةً لَا تَحْتَمِلُ الِاجْتِهَادَ وَلَا التَّأَوُّلَ، فَلَمْ

162

يُرَاعُوا ظَاهِرُ مَدْلُولِ لَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ وَالْمَقْصِدَ مِنْهُ، حَتَّى كَأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ غَيْرُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ فَبَدَّلُوا قَوْلًا بِقَوْلٍ، أَوْ فَبَدَّلُوا مَا قِيلَ لَهُمْ، لَمْ يَدُلْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كُلِّهِ. وَلَا ثِقَةَ لَنَا بِشَيْءٍ مِمَّا رُوِيَ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ مِنْ أَلْفَاظٍ عِبْرَانِيَّةٍ وَلَا عَرَبِيَّةٍ، فَكُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَضْعِيَّةِ، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَالِكَ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمُ وَقَالُوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٌ: " وَفِي رِوَايَةِ " شُعَيْرَةٍ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ السُّورَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبٍ، وَهُمَا صَاحِبَا الْغَرَائِبِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِسَمَاعِ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ، وَهَذَا مَدْرَكُ عَدَمِ اعْتِمَادِ الْأُسْتَاذِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ، وَلَكِنْ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ شَيْءٌ يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي سَنَدِهَا. (10 - 12) قَالَ هَاهُنَا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ وَقَالَ هُنَالِكَ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (2: 59) فَالِاخْتِلَافُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:. (أَوَّلُهَا) بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَهُوَ لَفْظِيٌّ إِذِ الْإِرْسَالُ مِنْ فَوْقِ عَيْنِ الْإِنْزَالِ: (ثَانِيهَا) بَيْنَ الْمُضْمَرِ (عَلَيْهِمْ) وَالْمُظْهِرِ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْمُرَادُ مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ الرِّجْزَ عَذَابٌ كَانَ خَاصًّا بِالَّذِينِ ظَلَمُوا لَا عَامًّا، فَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: " عَلَيْهِمْ " لِتَصْرِيحِهِ بِسَبَبِيَّةِ الظُّلْمِ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ " فَأَرْسَلَنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ " لَكَانَ تَكْرَارُ التَّعْلِيلِ بِالظُّلْمِ مُنَافِيًا لِلْبَلَاغَةِ، وَهَذَا التَّكْرَارُ مُنْتَفٍ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ ; التَّعْلِيلَ فِيهَا بِالْفِسْقِ لَا الظُّلْمِ:. (ثَالِثُهَا) بَيْنَ (يَظْلِمُونَ) وَ (يَفْسُقُونَ) وَفَائِدَتِهِ: بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ نَقْصٌ لِلْحَقِّ أَوْ إِيذَاءٌ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْغَيْرِ، وَبَيْنَ الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الظُّلْمِ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلنَّاسِ. وَحَسُنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ آخِرًا. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ الَّذِي تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 134 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرْنَا فِيهَا قَوْلَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرِّجْزَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى الظَّالِمِينَ فِي قِصَّةِ دُخُولِ الْقَرْيَةِ هُوَ الطَّاعُونُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ عَزَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هَدًى وَمَوْعِظَةً، وَجَعَلَ قِصَصَ الرُّسُلِ فِيهِ عِبْرَةً وَتَذْكِرَةً لَا تَارِيخَ شُعُوبٍ وَمَدَائِنَ، وَلَا تَحْقِيقَ وَقَائِعَ وَمَوَاقِعَ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ نَتَّقِيَ الظُّلْمَ

163

وَالْفِسْقَ. وَنَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُ الْأُمَمَ عَلَى ذُنُوبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَاقَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُحِلْ دُونَ عِقَابِهِ، مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمَزَايَا وَالْفَضَائِلِ، وَكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ. وَمِنْهُ السِّيَاقُ الْآتِي:. وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (2: 65) إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَلَا أَعْلَمُ لِلْقِصَّةِ ذِكْرًا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَهَتُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا نَزَلْ عَلَيْهِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ أَوْ لَمَا آمَنَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ مَا حُكِيَ لَهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْقَسَمِ، وَإِذَا قَالَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ إِنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ أَوِ التَّارِيخِيَّةِ غَيْرِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِهِمْ قُلْنَا أَوَّلًا: إِنَّ آيَاتِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَقِيَ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ - وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (29: 48) إِلَخْ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ يُصَدِّقُهُمْ بَعْدَ مُعَاشَرَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ بِكُلِّ مَا يَحْكُونَ عَنْ كُتُبِهِمْ بَلْ كَذَّبَهُمْ عَنِ اللهِ

تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ يُصَدِّقُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ غَيْرَ مَنْقُولٍ عَنْ كُتُبِهِمْ بِالْأَوْلَى، وَهَاكَ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ بِمَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا، وَلَا نَعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا:. وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالسُّؤَالُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّقْرِيعِ، وَالْإِدْلَالِ بِعِلْمِ مَاضِيهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُ، رَاكِبَةً لِشَاطِئِهِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أَيِ اسْأَلْ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ، وَيَتَجَاوَزُونَ حُكْمَ اللهِ بِالصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ فِيهِ إِذْ تَأْتِيهِمْ أَيْ سَمَكُهُمْ - وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمَّوْنَ السَّمَكَةَ حُوتًا كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، وَأَهْلُ سُورِيَّةَ يَخُصُّونَ السَّمَكَةَ الْكَبِيرَةَ بِاسْمِ الْحُوتِ - وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ مِنِ ابْتِلَائِهِمْ بِهَا، وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى صَيْدِهَا، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ أَيْ تَعْظِيمِهِمْ لِلسَّبْتِ، فَهُوَ مُصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ تُسْبِتُ إِذَا عَظَّمَتِ السَّبْتَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِيهِ وَتَخْصِيصِهِ لِلْعِبَادَةِ (شُرَّعًا) أَيْ ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ ظَاهِرَةً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ - وَهِيَ جَمْعُ شَارِعٍ كَالرُّكَّعِ السُّجَّدِ جَمْعِ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، مِنْ شَرَعَ عَلَيْهِ إِذَا دَنَا وَأَشْرَفَ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ أَيْ: وَلَا تَأْتِيهِمْ يَوْمَ لَا يُعَظِّمُونَ السَّبْتَ فِعْلًا وَتَرْكًا. قِيلَ: إِنَّهَا اعْتَادَتْ أَلَّا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمِنَتْ وَصَارَتْ تَظْهَرُ فِيهِ، وَتَخْفَى فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَسْبِتُونَ فِيهَا لَمَّا اعْتَادَتْ مِنِ اصْطِيَادِهَا فِيهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ظُهُورَهَا وَكَثْرَتَهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَغْرَاهُمْ ذَلِكَ بِالِاحْتِيَالِ عَلَى صَيْدِهَا فَفَعَلُوا. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَلَاءِ بِظُهُورِ السَّمَكِ لَهُمْ نَبْلُوهُمْ أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ أَوْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِحَالِ مَنْ يُرِيدُ إِظْهَارَ كُنْهِ حَالِهِ لِيَتَرَتَّبَ الْجَزَاءُ عَلَى عَمَلِهِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُودَ شَرْعِهِ. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ حَالِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَتْ أُمَّةٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا كُلُّهُمْ، وَأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةُ الْعَادِينَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَفِرْقَةُ الْوَاعِظِينَ الَّذِينَ نَهَوُا الْعَادِينَ عَنِ الْعُدْوَانِ وَوَعَظُوهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِرْقَةُ اللَّائِمِينَ لِلْوَاعِظِينَ الَّتِي قَالَتْ لَهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا قَضَى الله عَلَيْهِمْ بِالْهَلَكَةِ أَوِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَهُوَ إِمَّا مُهْلِكُهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ دُونَ الِاسْتِئْصَالِ، أَوِ الْمَعْنَى مُهْلِكُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ - وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ فِي (أَوْ) هُنَا هِيَ الْمَانِعَةُ لِلْخُلُوِّ مِنْ وُقُوعِ أَحَدِ الْجَزَاءَيْنِ، لَا الْمَانِعَةُ لِجَمْعِهِمَا، فَهِيَ لَا تَنْفِي اجْتِمَاعَهُمَا. وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ مَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ: قَالَ الْوَاعِظُونَ لِلَائِمِينَ: نَعِظُهُمْ وَعْظَ عُذْرٍ

165

نَعْتَذِرُ بِهِ إِلَى رَبِّكُمْ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى الْمُنْكَرِ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالتَّنَاهِي عَنْهُ، وَرَجَاءً فِي انْتِفَاعِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ، وَحَمْلِهَا عَلَى اتِّقَاءِ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ. أَيْ فَنَحْنُ لَمْ نَيْأَسْ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ يَأْسَكُمْ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ فَلَمَّا نَسِيَ الْعَادُونَ الْمُذْنِبُونَ، مَا ذَكَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ بِهِ إِخْوَانُهُمُ الْمُتَّقُونَ، بِأَنْ تَرَكُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فِي كَوْنِهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أَيْ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ أَيْ: أَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ فَاعِلُو السُّوءِ بِظُلْمِهِمْ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَحْدَهُمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أَيْ: شَدِيدٍ، مِنَ الْبَأْسِ وَهُوَ الشِّدَّةُ، أَوِ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ أَوِ الْفَقْرُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ لَا بِظُلْمِهِمْ فِي الِاعْتِدَاءِ فِي السَّبْتِ فَقَطْ. وَذَلِكَ أَنَّ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا تَعْلِيلٌ لِأَخْذِهِمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ بِنَاءِ الْحُكْمِ أَوِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ كُلَّ ظَالِمٍ فِي الدُّنْيَا بِكُلِّ ظُلْمٍ يَقَعُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا فِي الصِّفَةِ أَوِ الْعَدَدِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْكَيْفِ أَوِ الْكَمِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ (35: 45) وَقَوْلِهِ: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ بِالظُّلْمِ وَالذُّنُوبِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيهَا بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا أَفَادَهُ هُنَا فِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا خَاصًّا بِالْأَفْرَادِ أَوَالْجَمَّاعَاتِ الصَّغِيرَةِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ كَأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ كَانُوا بَعْضَ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمَّا الْأُمَمُ الْكَبِيرَةُ فَهِيَ الَّتِي تَصْدُقُ عَلَيْهَا سُنَنُ اللهِ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْفِسْقُ وَالظُّلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْفَاسِقِينَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ كَانُوا أَقَلَّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَقَدْ عَاقَبَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَافَّةً بِتَنْكِيلِ الْبَابِلِيِّينَ ثُمَّ النَّصَارَى بِهِمْ وَسَلْبِهِمْ مُلْكَهُمْ، عِنْدَمَا عَمَّ فِسْقُهُمْ، وَلَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ عَنْهُمْ وُجُودُ بَعْضِ الصَّالِحِينَ فِيهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَخْلَوْنَ مِنْهُمْ:. وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِهَلَاكِ الظَّالِمِينَ الْفَاسِقِينَ، وَنَجَاةِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنْ عَمَلِ السُّوءِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكِرِ، وَسَكَتَتْ عَنِ الْفِرْقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ عَلَى الْوَاعِظِينَ وَعْظَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تَنْجُ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ بَلْ أَنْكَرَتْ عَلَى الَّذِينَ نَهَوْا، وَقِيلَ: بَلْ نَجَتْ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكِرَةً لِلْمُنْكِرِ مُسْتَقْبِحَةً لَهُ. وَلِذَلِكَ لَمْ تَفْعَلُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْهَ عَنْهُ لِيَأْسِهَا مِنْ فَائِدَةِ النَّهْيِ، وَجَزْمِهَا بِأَنَّ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَحَقُّوا عِقَابَ اللهِ بِإِصْرَارِهِمْ فَلَا يُفِيدُهُمُ الْوَعْظُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي هَذِهِ الْفِرْقَةِ حَتَّى أَقْنَعَهُ تِلْمِيذُهُ عِكْرِمَةُ بِنَجَاتِهَا. وَقَدْ رَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا قَالَ:.

166

(فَإِنْ قُلْتَ) : الْأُمَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ؟ مَنْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ هُمْ؟ أَمِنَ فَرِيقِ النَّاجِينَ أَمِ الْمُعَذَّبِينَ؟ (قُلْتُ) : مِنْ فَرِيقِ النَّاجِينَ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ فَرِيقِ النَّاهِينَ، وَمَا قَالُوا مَا قَالُوا إِلَّا سَائِلَيْنِ عَنْ عِلَّةِ الْوَعْظِ وَالْغَرَضِ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يَرَوْا فِيهِ غَرَضًا صَحِيحًا لِعِلْمِهِمْ بِحَالِ الْقَوْمِ، وَإِذَا عَلِمَ النَّاهِي حَالَ الْمَنْهِيِّ، وَأَنَّهُ النَّهْيُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، سَقَطَ عَنْهُ النَّهْيُ، وَرُبَّمَا وَجَبَ التَّرْكُ لِدُخُولِهِ فِي بَابِ الْعَبَثِ. أَلَّا تَرَى أَنَّكَ لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى الْمَكَّاسِينَ الْقَاعِدِينَ عَلَى الْمَآصِرِ، وَالْجَلَّادِينَ الْمُرَتَّبِينَ لِلتَّعْذِيبِ، لِتَعِظَهُمْ وَتَكُفَّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا مِنْكَ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَبَبًا لِلتَّلَهِّي بِكَ. وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْرِضُوا عَنْهُ إِمَّا ; لِأَنَّ يَأْسَهُمْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ كَمَا اسْتَحْكَمَ يَأْسُ الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَخْبَرُوهُمْ كَمَا خَبَرُوهُمْ. أَوْ لِفَرْطِ حَصْرِهِمْ، وَجَدِّهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (18: 6) اهـ. أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ سُقُوطِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ وُجُوبِ تَرْكِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ مِنْ تَأْثِيرٍ مَرْجُوحٍ وَلَاسِيَّمَا إِذَا أَخَذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ أَضْعَفِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكِرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ مَا قَبْلَهَا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ النَّهْيَ، وَسَكَتَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي هَؤُلَاءِ السَّاكِتِينَ، الْمُحْتَمِلَةُ حَالُهُمْ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ، وَالْيَأْسُ قَلَّمَا يَنْشَأُ إِلَّا مِنْ ضَعْفٍ فِي النَّفْسِ أَوِ الْإِيمَانِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ مِكَّاسٍ وَجَلَّادٍ وَمُدْمِنِ خَمْرٍ تَابَ وَأَنَابَ، وَالْمُحَقِّقُونَ لَمْ يَجْعَلُوا احْتِمَالَ الْأَذَى وَلَا يَقِينَهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا لِتَفْضِيلِهِ عَنِ الْفِعْلِ بَلْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجَوَازِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَفْضِيلِ النَّهْيِ بِحَدِيثِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي (بَئِيسٍ) عِدَّةُ قِرَاءَاتٍ أُخْرَى بَيْنَ مُتَوَاتِرَةٍ وَشَاذَّةٍ، تَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَصْلِ صِيغَتِهِ، وَعَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَهْمُوزِ: فَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ " بَئْيَسٍ " بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ - وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَصْلُهُ بِئْسَ بِوَزْنِ حِذْرَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ لِلتَّخْفِيفِ كَكَبِدٍ فِي كِبْدٍ، وَنَافِعٌ " بِيسٍ " عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءُ كَذِئْبٍ وَذِيبٍ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الذَّمِّ وُصِفَ بِهِ فَجُعِلَ اسْمًا، وَمِنَ الشَّوَاذِّ " بَيِّسٍ " كَرَيِّسٍ عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَإِدْغَامِهَا، وَ " بَيْسٍ " كَهَيْنٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْمُشَدِّدَةِ، وَ " بَائِسٍ " بِوَزْنٍ فَاعِلٍ. فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ أَيْ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عُتُوَّ إِبَاءٍ وَاسْتِكْبَارٍ عَنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ الْوَاعِظُونَ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ هَذَا الْقَوْلُ لِلتَّكْوِينِ، أَيْ: تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُنَا بِأَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ أَيْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ فَكَانُوا كَذَلِكَ. قِيلَ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْعَذَابِ الْبَئِيسِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَذَابٌ آخَرُ، وَإِنَّ

168

اللهَ عَاقَبَهُمْ أَوَّلًا بِالْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ فِي الْمَعِيشَةِ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُرَبِّيهِ وَيُهَذِّبُهُ إِلَّا الشِّدَّةُ وَالْبُؤْسُ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَبِّيهِ وَيُهَذِّبُهُ الرَّخَاءُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِكُلٍّ يَبْتَلِي اللهُ عِبَادَهُ وَيَمْنَحُهُمْ كَمَا قَالَ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (21: 35) وَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (7: 168) وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمْ يَزِدْهُمُ الْبُؤْسُ وَالسُّوءُ إِلَّا عُتُوًّا وَإِصْرَارًا عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، وَمَسَخَهُمْ مَسْخَ خُلُقٍ وَبَدَنٍ فَكَانُوا قِرَدَةً بِالْفِعْلِ، أَوْ مَسْخَ خُلُقٍ وَنَفْسٍ، فَكَانُوا كَالْقِرْدَةِ فِي طَيْشِهَا وَشَرِّهَا وَإِفْسَادِهَا لِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِيهَا، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ الْحَقِّ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ خَاتِمَةُ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا سَيَأْتِي مِنْ نَبَأِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا مَثَلٌ عَامٌّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ

فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي قِصَّتِهِمْ، وَمُنَاسِبَةٌ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً أَنَّهَا بَيَانٌ لِجَرَيَانِ سُنَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ، وَانْطِبَاقِهَا عَلَى الْيَهُودِ عَامَّةً، بَعْدَ بَيَانِ عِقَابِهِ تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ تَأَذَّنَ صِيغَةُ " تَفَعَّلَ " مِنَ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُ فَيُدْرِكُ بِالْآذَانِ، وَيَتَضَمَّنُ هُنَا تَأْكِيدَ الْقَسَمِ، وَمَعْنَى الْعَهْدِ الْمَكْتُوبُ الْمُلْتَزَمُ، بِدَلِيلِ مَجِيءِ لَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِهِ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْعَامُّ إِذْ أَعْلَمَ رَبُّكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ قَدْ قَضَى فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وِفَاقًا لِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ سُنَنِهِ، لَيَبْعَثَنَّ وَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَيْ يُرِيدُهُ وَيُوقِعُهُ بِهِمْ، عِقَابًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَوَّمَ الشَّيْءَ، كَمَا يُقَالُ سَامَهُ خَسْفًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُذِلُّهُ، وَهُوَ هُنَا سَلْبُ الْمِلْكِ، وَإِخْضَاعُ الْقَهْرِ. مِصْدَاقُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (17: 4) إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (17: 7) ثُمَّ قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا (17: 8) الْآيَةَ أَيْ وَإِنْ عُدْتُمْ بَعْدَ عِقَابِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ إِلَى الْإِفْسَادِ، عُدْنَا إِلَى التَّعْذِيبِ وَالْإِذْلَالِ، وَقَدْ عَادُوا فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى فَسَلَبُوا مُلْكَهُمُ الَّذِي أَقَامُوهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ مِنَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ، وَقَهَرُوهُمْ وَاسْتَذَلُّوهُمْ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَعَادَاهُ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا هَرَبُوا مِنَ الذُّلِّ وَالنَّكَالِ، وَلَجَئُوا إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَعَاشُوا فِيهَا أَعِزَّاءَ آمِنِينَ، وَلَمْ يَفُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ إِذْ أَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، بَلْ غَدَرُوا بِهِ وَكَادُوا لَهُ، وَنَصَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَسَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَتَلَ بَعْضًا، وَأَجْلَى عُمَرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ عُمَرُ سُورِيَّةَ، بَعْضَهَا بِالصُّلْحِ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْضَهَا عَنْوَةً، فَصَارَ الْيَهُودُ مِنْ سِيَادَةِ الرُّومِ الْجَائِرَةِ الْقَاهِرَةِ فِيهَا إِلَى سُلْطَةِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا أَذِلَّةً بِفَقْدِ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنِ اسْتِعَادَةِ مُلْكِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَفْسُقُ عَنْ أَمْرِهِ وَتُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَتَخَلَّفُ عِقَابُهُ عَنْهَا كَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (17: 16) أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ، وَأَفْسَدُوا وَظَلَمُوا فِي الْأَرْضِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، فَحَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ عَلَى الْفَوْرِ. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، قَبْلَ

أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْيَهُودِ بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ مَرَّتَيْنِ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَقَلَّمَا ذَكَرَ اللهُ عَذَابَ الْفَاسِقِينَ الْمُفْسِدِينَ، إِلَّا وَقَرَنَهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِلتَّائِبِينَ الْمُحْسِنِينَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ صَالِحٌ مُصْلِحٌ مِنْ رَحْمَتِهِ بِذَنْبٍ عَمَلِهِ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَأْمَنُ مُفْسِدٌ مِنْ عِقَابِهِ اغْتِرَارًا بِكَرَمِهِ وَعَفْوِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِذْلَالِ الْيَهُودِ بِإِزَالَةِ وَحْدَتِهِمْ، وَتَمْزِيقِ جَامِعَتِهِمْ فَقَالَ: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا أَيْ وَفَرَّقْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِمْ أُمَمًا بِالتَّقْدِيرِ، أَوْ صَيَّرْنَاهُمْ أُمَمًا مُتَقَطِّعَةً، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أُمَّةً مُتَّحِدَةً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ كَالَّذِينِ نَهَوُا الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَمِنْهَا نَاسٌ دُونَ وَصْفِ الصَّلَاحِ لَمْ يَبْلُغُوهُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَوْ دَرَكَاتٌ، مِنْهُمُ الْغُلَاةُ فِي الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْهُمُ السَّمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الْأَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ شَأْنُ الْأُمَمِ الْفَاسِدَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، تُفْسِدُ بِالتَّدْرِيجِ لَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَرَاهُ فِي أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ. وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ، وَبَلَوْنَا سَرَائِرَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي تَحْسُنُ، وَتَقَرُّ بِهَا الْأَعْيُنُ، وَبِالنِّقَمِ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَرُبَّمَا حَسُنَتْ بِالصَّبْرِ وَالْإِنَابَةِ عَوَاقِبُهَا، رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَيْ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، خَلْفُ سُوءٍ وَبَدَلُ شَرٍّ، قِيلَ: إِنَّ الْخَلْفَ بِسُكُونِ اللَّامِ يَغْلِبُ فِي الْأَشْرَارِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَخْبَارِ خَلَفٌ بِالتَّحْرِيكِ كَسَلَفٍ وَرِثُوا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ عَنْهُمْ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَمَاذَا كَانَ شَأْنُهُمْ؟ الْجَوَابُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى أَيْ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى، أَيْ هَذَا الْحُطَامَ الْحَقِيرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَى، وَالِاتِّجَارِ بِالدِّينِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا أَيْ: سَيَغْفِرُ اللهُ لَنَا، وَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا أَذْنَبْنَا، فَإِنَّنَا شَعْبُهُ الْخَاصُّ، سَلَائِلُ أَنْبِيَائِهِ، وَنَحْنُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ إِلَّا أَمَانِيَّ، وَغُرُورٌ وَأَوْهَامٌ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُنَافِيهِ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، فَأَوَائِلُ النَّصَارَى كَانُوا صَالِحِينَ، وَسَابِقُ الْكَلَامِ وَلَاحِقُهُ فِي الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبِهِمْ، إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ آخَرُ مِثْلُ الَّذِي أَخَذُوهُ أَوْ بِالْبَاطِلِ يَأْخُذُوهُ لَا يَتَعَفَّفُونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللهُ فِي كُتُبِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ

169

يَتْرُكُونَ الذُّنُوبَ نَدَمًا وَخَوْفًا مِنَ اللهِ وَرَجَاءً فِيهِ، وَيَصْلُحُونَ مَا كَانُوا أَفْسَدُوا، كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - خِطَابًا لَهُمْ - مِنْ سُورَةِ طه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) . وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ قَدْ أُخِذَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ فِي كِتَابِهِ بِأَلَّا يَقُولُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيهِ، فَمَا بَالُهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ اللهَ سَيَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ كَمَا فِي آخِرِ سَفَرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الرَّذَائِلَ وَالْمَعَاصِيَ خَيْرٌ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالرَّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى عَقْلٍ لَمْ يَطْمِسْهُ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ، فِي الْحُطَامِ الْعَاجِلِ، فَتُرَجِّحُونَ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّعِيمَ الْعَظِيمَ الدَّائِمَ، عَلَى الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ الزَّائِلِ! وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّمَعَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ، وَلَا يَزَالُ هَذَا التَّفَانِي فِيهِ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ. وَقَدْ سَرَى شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ، وَالْقُرْآنَ الْحَكِيمَ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ، غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الطَّمَعُ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الْقَلِيلِ، وَعَرَضِهَا الدَّنِيءِ، وَالْغُرُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّحَلِّي بِلَقَبِهِ، وَالتَّعَلُّلِ بِأَمَانِيِّ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ وَالشَّفَاعَاتِ، وَهُمْ يَقْرَؤُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ الشَّفَاعَةِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (21: 28) وَلَنْ يَرْضَى الله عَنْ فَاسِقٍ وَلَا مُنَافِقٍ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (9: 96) ، بَلْ مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي أَخَذَهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّنَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَّا أَنَّنَا نَحْمَدُ اللهَ أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ فِينَا غَيْرُ عَامٍّ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِينَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ يَطْعَنُ فِيهَا الْجَمَاهِيرُ الَّذِينَ صَارَ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ غَرِيبًا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا بَلْ صَرَّحَتِ الْآيَاتُ بِالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمَانِيهِمْ وَفِي فِسْقِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (4: 123) إِلَخ. وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (57: 16)

170

قَرَأَ تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَهْلٌ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْيَهُودِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِتَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ، وَتَجْتَنِبَ مَا كَانَ سَبَبًا لِسُوءِ مَآلِهِمْ، مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يَعْقِلُونَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِينَ، وَلَوْ صَحَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ وَحْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا ; لِأَنَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ الْخَلْفِ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُمَسِّكُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَنْ مَسَّكَ تَمَسُّكًا بِمَعْنَى تَمَسُّكَ تَمَسُّكًا، وَمِثْلُهُ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ (49: 1) وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ يُمَسِكُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ - أَيْ: وَالَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونَ بِعُرْوَةِ الْكِتَابِ الْوُثْقَى، وَيَعْتَصِمُونَ بِحَبْلِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَوْقَاتِهَا إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُصْلِحُونَ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فَهُوَ خَبَرٌ قُرِنَ بِالدَّلِيلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (18: 30) . وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَعَلَّ حِكْمَةَ خَتْمِ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِلتَّذْكِيرِ بِبَدْءِ حَالِهِمْ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ ; فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْفَاتِحَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْخَاتِمَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ لِيَأْخُذُنَّ بِالشَّرِيعَةِ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِهِ بِهِمْ، فَلَا غَرْوَ إِذَا آلَ أَمَرُهُمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ وَقَسَاوَةِ الْقُلُوبِ وَالْأُنْسِ بِالذُّنُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَتَانِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَذَكَرْنَا آيَةَ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ الْأُولَى. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ إِذْ نَتَقْنَا فَوْقَ هَؤُلَاءِ الْجَبَلَ، جَبَلَ الطُّورِ: أَيْ رَفَعْنَاهُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَوْ زَلْزَلْنَاهُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَهُمْ مُظَلِّلٌ لَهُمْ - كَمَا يُقَالُ نَتَقَ السِّقَاءُ إِذَا هَزَّهُ وَنَفَضَهُ ; لِيُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدَةَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ اقْتَلَعَهُ وَجَعَلَهُ فَوْقَهُمْ (فَإِنْ قِيلَ) : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ ظُلَّةً بِالْفِعْلِ لَا كَالظُّلَّةِ، فَإِنَّ الظُّلَّةَ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، وَيُصَدِّقُ رَفْعَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَجُودُهُمْ فِي سَفْحِهِ وَاسْتِظْلَالِهِمْ بِهِ (قُلْنَا) : إِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ فَإِنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ لِإِخَافَتِهِمْ لَا لِإِظْلَالِهِمْ، وَأَمَّا ظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَإِنَّمَا جَاءَ مَنْ زَلْزَلَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ ; عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى قَلْعِهِ وَجَعْلِهِ فَوْقَهُمْ، وَكَمْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهِ مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.

171

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَقُلْنَا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: خُذُوا مَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِقُوَّةِ عَزِيمَةِ وَعَزْمٍ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوَامِرَهَا وَنَوَاهِيَهَا، أَوِ اعْمَلُوا بِهِ لِئَلَّا تَنْسَوْهُ - فَإِنَّ ذَلِكَ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى وَيَجْعَلُهَا مَرْجُوَّةً لَكُمْ، فَإِنَّ الْجِدَّ وَقُوَّةَ الْعَزْمِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ يُهَذِّبُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا، وَالتَّهَاوُنَ وَالْإِغْمَاضَ فِيهِ يُدَسِّيهَا وَيُغْوِيهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (91: 9، 10) . وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِدَايَةِ اللهِ لَهُمْ، بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَرَكَّبَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ، فِي إِثْرِ بَيَانِ هِدَايَتِهِ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، أَوْ سِيَاقٍ عَلَى سِيَاقٍ، قَالَ تَعَالَى:. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الظُّهُورُ جَمْعُ ظَهْرٍ وَهُوَ الْعَمُودُ الْفِقْرِيُّ لِهَيْكَلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ، وَمَرْكَزُ النُّخَاعِ الشَّوْكِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ حَيَّاتِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ وُجُودِهِ الْجَسَدِيِّ الْحَيَوَانِيِّ، وَالذَّرِّيَّةُ سُلَالَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بِالْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ; فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ بِمَعْنَاهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْبَعْضِ ذَلِكَ الْكُلَّ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي أَثَرِ ذِكْرِ أَخْذِ مِيثَاقِ الْوَحْيِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنْ مِيثَاقِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ عَامَّةً، إِذِ اسْتَخْرَجَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُرِّيَّتَهُمْ بَطْنًا

172

بَعْدَ بَطْنٍ، فَخَلَقَهُمُ اللهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ غَرِيزَةَ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ مِنْ مَدَارِكِ عُقُولِهِمُ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، وَكُلَّ حَادِثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَأَنَّ فَوْقَ الْعَوَالِمِ الْمُمْكِنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سُنَّةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلَ وَالْمَعْلُولَاتِ، سُلْطَانًا أَعْلَى عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَيْ: أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الْمُتَسَلْسِلَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ فِي غَرِيزَتِهِ، وَاسْتِعْدَادِ عَقْلِهِ قَائِلًا قَوْلَ إِرَادَةٍ وَتَكْوِينٍ، لَا قَوْلَ وَحْيٍ وَتَلْقِينٍ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فَقَالُوا كَذَلِكَ بِلُغَةِ الِاسْتِعْدَادِ وَلِسَانِ الْحَالِ، لَا بِلِسَانِ الْمَقَالِ: بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا وَالْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِعِبَادَتِنَا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (41: 11) وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّعْبِيرِ وَالْبَيَانِ يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِالتَّمْثِيلِ، وَهُوَ أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ كَثِيرَةٌ. بَيَّنَ سُبْحَانَهُ سَبَبَ هَذَا الْإِشْهَادِ وَعِلَّتَهُ فَقَالَ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: فَعَلْنَا هَذَا مَنْعًا لِاعْتِذَارِكُمْ أَوِ احْتِجَاكِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ تَقُولُوا: إِذَا أَنْتُمْ أَشْرَكْتُمْ بِهِ: إِنَّا كُنَّا غَافِلِينَ: عَنْ هَذَا التَّوْحِيدِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ وَحْدَهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِالْجَهْلِ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ جَاهِلِينَ بِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ، فَلَمْ يَسَعْنَا إِلَّا الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ بِاخْتِرَاعِ الشِّرْكِ فَتَجْعَلُ عَذَابَنَا كَعَذَابِهِمْ، مَعَ عُذْرِنَا بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِالْجَهْلِ، بَعْدَ مَا أَقَامَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُجَّةِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ: وَبِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ الْبَلِيغِ نُفَصِّلُ لِبَنِي آدَمَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ ; لِيَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِهَا عَنْ جَهْلِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ. وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ بَعْثَةُ رَسُولٍ لَا يُعْذَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَا بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تُنَفِّرُ مِنْهَا الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَتُدْرِكُ ضَرَرَهَا وَفَسَادَهَا الْعُقُولُ الْمُسْتَقِلَّةُ، وَإِنَّمَا يُعْذَرُونَ بِمُخَالَفَةِ هِدَايَةِ الرُّسُلِ فِيمَا شَأْنُهُ أَلَّا يُعْرَفَ إِلَّا مِنْهُمْ. وَهُوَ أَكْثَرُ الْعِبَادَاتِ التَّفْصِيلِيَّةِ. هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْآيَاتِ لِذَاتِهَا. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْرَفَ إِلَّا مَنْ خَبَرِ الْوَحْيِ، وَقَدْ كَانَتْ مَوْضُوعَ بَحْثٍ وَمُنَاقَشَةٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ فَنُورِدُ أَمْثَلَ مَا قَالُوهُ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ:. "

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مَنَّ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ (30: 30) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " يَقُولُ اللهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ "، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ حَدَّثَهُمْ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مِنْ بُنِيَ سَعْدٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ قَالَ: فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذُّرِّيَّةَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا الْمُقَاتَلَةَ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَاوَلُونَ الذُّرِّيَّةَ "؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: " إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، أَلَّا إِنَّهَا لَيْسَتْ نَسْمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنُ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وَيُنَصِّرَانِهَا قَالَ الْحَسَنُ: وَاللهِ لَقَدْ قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمِ بْنِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ بْنُ سُرَيْعٍ فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَاسْتِحْضَارَهُ الْآيَةَ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمَيُّزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عُمْرَانَ الْجَوْنَيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ ". (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي - ابْنَ حَازِمٍ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " إِنَّ اللهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ

ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَتَلَا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ صَاعِقَةَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَدِ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِكُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَقَفَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَوَكِيعٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَعَلِيُّ بْنُ بِذِيمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْرَجَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، وَهُوَ فِي أَذًى مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ: مَاتَ ابْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ابْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ قَالَ: فَقَالَ يَا جَابِرُ إِذَا أَنْتِ وَضَعْتَ ابْنِي فِي لِحِدَّةِ فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ، وَحِلَّ عَنْهُ عَقْدَهُ، فَإِنَّ ابْنَيْ مُجْلَسٌ وَمَسْئُولٌ، فَفَعَلْتُ الَّذِي بِهِ أَمَرَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ عَمَّ يُسْأَلُ ابْنُكَ؟ مَنْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: يُسْأَلُ عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ، قُلْتُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَمَا هَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أَعْطَى الْمِيثَاقَ يَوْمَئِذٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا مِمَّا تُقَوِّي وَقْفَ هَذَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسِ وَاللهُ أَعْلَمُ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظَبْيَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدِ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قَالَ: " أَخَذَ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "، أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظَبْيَةَ هَذَا هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ قَاضِي قُومَسَ، كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ، أَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ:

أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ غَرَائِبَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَوْلَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَاللهُ أَعْلَمُ: (حَدِيثٌ آخَرٌ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الْآيَةَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ " فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِذَا خَلَقَ اللهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبَيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ قُتَيْبَةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَعْنٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبَدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنٍ وَهْبٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عُمَرَ، وَكَذَا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، زَادَ أَبُو حَاتِمٍ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَعْثَمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عَمْرُو بْنُ جَعْثَمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيَّ، وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلٍ مَالِكٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ: (قُلْتُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا إِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا جَهِلَ حَالَ نُعَيْمٍ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِذَلِكَ يُسْقِطُ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَرْتَضِيهِمْ، وَلِهَذَا يُرْسِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ، وَيَقْطَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ التِّرْمِذِيَّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا

مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتِكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ عَيْنَيْهِ قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخَرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلَتْ عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمَرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ ، قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتَهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا بِذُرِّيَّتِي؟ قَالَ كَيْ تُذْكَرَ نِعْمَتِي. وَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَاهُمْ أَظْهَرَ النَّاسِ نُورًا؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ يَا آدَمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ " ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَمَ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَتَادَةَ النَّضْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْتَدِأُ الْأَعْمَالَ أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرْقٍ عَنْهُ. (حَدِيثٌ آخَرُ) رَوَى جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ أَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ، وَأَهْلَ الشِّمَالِ بِشَمَالِهِ، فَقَالَ يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ. فَقَالُوا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى: ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ لَهُ: يَا رَبِّ لِمَ خَلَطْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. (أَثَرٌ آخَرُ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَاتِ. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ

لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَعَلَهُمْ فِي صُوَرِهِمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الْآيَةَ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ لَكُمْ رُسُلًا لِيُنْذِرُوكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ، وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمُ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ، قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ وَخَصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ (33: 7) الْآيَةَ. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ (30: 30) الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (53: 56) وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (7: 102) الْآيَةَ. رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ رِوَايَةٍ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ سِيَاقَاتٌ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِهَا عَنِ التَّطْوِيلِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ كُلِّهَا وَبِاللهِ الْمُسْتَعَانُ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ فَمَا هُوَ إِلَّا فِي حَدِيثِ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشَعِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْآيَةَ بِذَلِكَ قَالُوا وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ ظَهْرِ ذُرِّيَّاتِهِمْ أَيْ: جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ (6: 165) وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ (27: 62) وَقَالَ: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (6: 133) ثُمَّ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أَيْ أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حَالًا وَقَالَا. وَالشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا (6: 130) الْآيَةَ. وَتَارَةً تَكُونُ حَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (9: 17) أَيْ: حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (100: 7) كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ

بِالْقَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْحَالِ، كَقَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (14: 34) قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ ; لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِخْبَارُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ تَقُولُوا أَيْ: لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ التَّوْحِيدِ غَافِلِينَ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا الْآيَةَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرُّوحِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي خَلْقِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ - فَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةَ وَالْمَوْقُوفَةَ وَالْآثَارَ فِيهَا وَمَا قِيلَ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي أَسَانِيدِهَا ثُمَّ قَالَ:. وَهَاهُنَا أَرْبَعُ مَقَامَاتٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ صُوَرَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، فَمَيَّزَ شَقِيَّهُمْ وَسَعِيدَهُمْ وَمُعَافَاهُمْ مِنْ مُبْتَلَاهُمْ. (وَالثَّانِي) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ حِينَئِذٍ، وَأَشْهَدَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَهُ. (الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (الرَّابِعُ) أَنَّهُ أَقَرَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا بَعْدَ إِخْرَاجِهَا بِمَكَانٍ وَفَرَاغٍ مِنْ خَلْقِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتِ إِرْسَالِ جُمْلَةٍ مِنْهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ إِلَى أَبْدَانِهَا. (فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ) فَالْآثَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِهِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً. (وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي) فَإِنَّمَا أَخَذَهُ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ تَفْسِيرُهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِأَمْثَالِ الذَّرِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا فَهْمًا تَعْقِلُ بِهِ كَمَا قَالَ: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ (27: 18) وَقَدْ سَخَّرَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَأَصْلَابِ أَوْلَادِهِ وَهُمْ فِي صُوَرِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَصْنُوعُونَ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَقَبِلُوا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَكَّبَ فِيهِمْ عُقُولًا عَرَفُوا بِهَا مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا جَعَلَ لِلْجَبَلِ عَقْلًا حِينَ خُوطِبَ، وَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَعِيرِ لَمَّا سَجَدَ، وَالنَّخْلَةِ الَّتِي سَمِعَتْ وَانْقَادَتْ حِينَ دُعِيَتْ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ " وَبَيْنَ الْآيَةِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللهِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَقَدْ أَخَذَهُمْ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ ; لِأَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ ذَرِّيَّةٌ لِذَرِّيَّتِهِ، بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ شُهُودًا عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ. قَالَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي جَاءَتْ

بِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا فَقَالُوا: شَهِدْنَا. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الَّتِي تَعْقِلُ وَتَفْهَمُ، وَلَهَا الثَّوَابُ وَعَلَيْهَا الْعِقَابُ، وَالْأَجْسَادُ أَمْوَاتٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ. قَالَ: وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ اسْتَنْطَقَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ (3: 169) وَالْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ، وَضَلَّتْ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَرْوَاحُ تُرْزَقُ وَتَفْرَحُ، وَهِيَ الَّتِي تَلَذُّ وَتَأْلَمُ، وَتَفْرَحُ وَتَحْزَنُ وَتَعْرِفُ وَتُنْكِرُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحْلَامِ مَوْجُودٌ، إِنَّ الْإِنْسَانَ يُصْبِحُ وَأَثَرَ لَذَّةِ الْفَرَحِ وَأَلَمِ الْحُزْنِ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ مِمَّا تُلَاقِي الرُّوحُ دُونَ الْجَسَدِ. قَالَ: وَحَاصِلُ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَثْبَتَ الْحُجَّةَ عَلَى كُلِّ مَنْفُوسٍ مِمَّنْ يُبَلَّغُ، وَمِمَّنْ لَمْ يُبَلِّغْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى مَنْ بُلِّغَ مِنْهُمُ الْحَجَّةَ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي الْعَالِمِ وَبِالرُّسُلِ الْمُنْفَذَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَبِالْمَوَاعِظِ بِالْمُثُلَاتِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهِمْ أَخْبَارُهَا، غَيْرَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطَالِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُجَّةِ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَآتَاهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانِهِ مَا هُوَ عَامِلٌ فِي الْبَالِغِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَحَجَبَ عَنَّا عِلْمَ مَا قَدَّرَهُ فِي غَيْرِ الْبَالِغِينَ، إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، وَحَكِيمٌ لَا تَفَاوُتَ فِي صُنْعِهِ، وَقَادِرٌ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. (فَصْلٌ) وَنَازَعَ هَؤُلَاءِ غَيْرُهُمْ فِي كَوْنٍ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ: أَخْرَجَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى الدُّنْيَا عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَفِيهِ مِنْ صَنْعَةِ رَبِّهِ مَا يَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ بَارِيهِ، وَنَافِذُ الْحُكْمِ فِيهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ كُلُّ مَا يَرَوْنَ وَيُشَاهِدُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ وَالْمُشْهَدَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِصِحَّتِهِ. كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (9: 17) يُرِيدُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا نَحْنُ كَفَرَةٌ، وَكَمَا تَقُولُ: قَدْ شَهِدَتْ جَوَارِحِي بِقَوْلِكَ، تُرِيدُ: قَدْ عَرَفَتْهُ، فَكَأَنَّ جَوَارِحِي لَوِ اسْتُشْهِدَتْ وَفِي وُسْعِهَا أَنْ تَنْطِقَ لَشَهِدَتْ، وَمِنْ هَذَا إِعْلَامُهُ وَتَبْيِينُهُ أَيْضًا شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (3: 18) يُرِيدُ: أَعْلَمَ وَبَيَّنَ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَزَادَ الْجُرْجَانِيُّ بَيَانًا لِهَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ حَاكِيًا عَنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَنَفَذَ عِلْمُهُ

فِيهِمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ كَالْكَائِنِ إِذْ عَلِمَهُ بِكَوْنِهِ مَانِعٌ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ نَابِعٌ فِي مَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ مَا هُوَ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ - مِمَّا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ - مَوْقِعَ الْوَاقِعِ، لَسَبْقِ عِلْمِهِ بِوُقُوعِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ (7: 50) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ (7: 44) - وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ (7: 48) قَالَ: فَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ: وَإِذْ يَأْخُذُ رَبُّكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: وَيُشْهِدُهُمْ بِمَا رَكَّبَهُ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ، وَيَجِبُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَكُلُّ مَنْ وُلِدَ وَبَلَغَ الْحِنْثَ، وَعَقَلَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَفَهِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، صَارَ كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ فِي التَّوْحِيدِ بِمَا رَكَّبَ فِيهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى حُدُوثِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ نَفْسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ غَيْرُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَخْلُوقٍ يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ مَانِعٌ مَنْ فَهْمٍ إِلَّا إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ يَفْزَعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا بِإِصْبَعِهِ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ خَالِقَهُ تَعَالَى فَوْقَهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ مُؤَدِّيًا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَا وَدَالًّا عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ فَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، إِذْ جَعَلَ فِيهِ السَّبَبَ وَالْأَدِلَّةَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُؤْخَذُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ لَهُ قَدْ أَقَرَّ وَأَذْعَنَ وَأَسْلَمَ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (13: 15) قَالَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (33: 72) الْأَمَانَةُ هِيَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ. فَامْتِنَاعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ، وَحَمْلُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا لِمَكَانِ الْعَقْلِ فِيهِ. قَالَ: وَلِلْعَرَبِ فِيهَا ضُرُوبُ نَظْمٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ: ضَمِنَ الْقَنَانُ لِفَقْعَسٍ بِثَبَاتِهَا ... إِنَّ الْقَنَانَ لِفَقْعَسٍ لَا يَأْتَلِي وَالْقَنَانُ: جَبَلٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِفَقْعَسٍ وَضَمَانُهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ خَوْفٍ لَجَئُوا إِلَيْهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالضَّمَانِ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: كَأَجَارِفِ الْجُولَانِ هَلَّلَ رَبَّهُ ... وَجُورَانُ مِنْهَا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ وَأَجَارِفُ الْجَوَلَانِ جِبَالُهَا، وَجُورَانُ الْأَرْضُ الَّتِي إِلَى جَانِبِهَا. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لِلْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَالْغَفْلَةُ هَاهُنَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:

173

إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ عَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ عَهْدًا وَمِيثَاقًا بِمَعْرِفَةِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ فَالْأَطْفَالُ، وَالْأَسْقَاطُ إِنْ كَانَ هَذَا الْعَهْدُ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ - كَمَا قَالَ الْمُخَالِفُ - فَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بَعْدَمَا أَخَذَ هَذَا الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُبْلَغًا يَكُونُ مِنْهُمْ غَفْلَةٌ عَنْهُ فَيَجْحَدُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، فَمَتَى تَكُونُ هَذِهِ الْغَفْلَةُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؟ وَذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَلَا يَخْلُو هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي يُؤَاخِذُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آبَائِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذِ الطِّفْلُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شِرْكٌ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَلَّا تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ وَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ لِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اقْتَصَّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَاءَ مِثْلَ نَظْمِهِ فَوَضَعَ الْمَاضِي مِنَ اللَّفْظِ مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ (3: 81) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (3: 81) ثُمَّ قَالَ لِلْأُمَمِ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (3: 81) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ بُلُوغَ الْأُمَمِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِقْرَارًا مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَشَبِيهٌ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (5: 7) فَهَذَا مِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (13: 20) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَلَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36: 60، 61) فَهَذَا عَهْدُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (2: 40) وَمِثْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (3: 187) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (33: 7) فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ مِنْهُمْ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا أَخَذَ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي لَعَنَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَقْضَهُ وَعَاقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً (5: 13) فَإِنَّمَا عَاقَبَهُمْ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

(2: 63) وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرُهَا فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خَاطَبَ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ فِيهَا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا الْمِيثَاقَ وَالْإِشْهَادَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مِيثَاقٌ وَإِشْهَادٌ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ، وَتَحِلُّ بِهِ الْعُقُوبَةُ، وَيَسْتَحَقُّ بِمُخَالَفَتِهِ الْإِهْلَاكُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا ذَاكِرِينَ لَهُ عَارِفِينَ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَفَاطِرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ يُذَكِّرُونَهُمْ بِمَا فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَنَظْمُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ آدَمَ وَبَنِي آدَمَ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ ظَهْرَهُ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَهُوَ أَحْسَنُ (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَالَ (ذُرِّيَّتَهُمْ) وَلَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّتَهُ. (الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهَا، (الْخَامِسُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (4 ـ 165) : (السَّادِسُ) تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ بِالْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهِمْ، وَإِشْهَادِهِمْ جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (السَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَالْإِشْهَادِ: (إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَلَّا يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. (الثَّامِنُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ: لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَوْ أَهْلَكَهُمْ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ لَأَهْلَكَهُمْ بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَوْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ غَفْلَتِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ بَطَلَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. (التَّاسِعُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِشْهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (29: 61) أَيْ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ رَبَّهُمْ وَخَالِقَهُمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا

174

رُسُلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (14: 10) فَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرْهُمْ قَطُّ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى إِيجَادِهِمْ وَلَا أَقَامَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً. (الْعَاشِرُ) أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمَدْلُولُ، وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَدِلَّةٌ مُعِينَةٌ عَلَى مَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فَصَّلَهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ آيَاتٌ أُفُقِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ، آيَاتٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَخُلُقِهِمْ، وَآيَاتٌ فِي الْأَقْطَارِ وَالنَّوَاحِي مِمَّا يُحْدِثُهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى الْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَبْيَنِهَا مَا أَشْهَدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمُبْدِعُهُ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِلَا مُحْدِثٍ أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْإِقْرَارُ وَالْمُشَاهَدَةُ فِطْرَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (30: 30، 31) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ فَقَطْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ، كَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْجُرْجَانِيُّ: فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا مَانَعٌ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ لِامْتِنَاعِ رَدِّهِمْ فِي الظَّهْرِ، إِنْ كَانَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى " ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ " ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ، كَمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَى أَخَذَ رَبُّكَ: يَأْخُذُ رَبُّكَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ بِوَفَاتِهِمْ: لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رُدُّوا إِلَى الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْهَا وَرُدَّ فِيهَا، فَإِذَا رُدُّوا فِيهَا فَقَدْ رُدُّوا فِي آدَمَ، وَفِي ظَهْرِهِ إِذْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْهَا، وَفِيهَا رَدُّ بَعْضِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَدَّ تَأْوِيلُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ، إِنَّمَا هُوَ هَاهُنَا مُضَافٌ إِلَيْهِ لِتَعْرِيفِ ذُرِّيَّتِهِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا جَاءَ

فِي الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الِاتِّفَاقِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَأَنَا أَقُولُ " وَنَحْنُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَمِيلُ، وَلَهُ أَقْبَلُ وَبِهِ آنَسُ، وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ لِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَهْدَى عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدْ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَيُسَوَّغُ فِي النَّظْمِ الْجَارِي، وَمَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ بِسُهُولَةٍ، وَإِمْكَانٍ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا اسْتِكْرَاهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَ " إِذْ " يَقْتَضِي جَوَابًا يَجْعَلُ جَوَابَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالُوا بَلَى وَانْقَطَعَ هَذَا الْخَبَرُ بِتَمَامِ قِصَّتِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا آخَرَ بِذِكْرِ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: " شَهِدْنَا " يَعْنِي نَشْهَدُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ بِمَعْنَى يَشْهَدُ الْحُطَيْئَةُ. يَقُولُ تَعَالَى نَشْهَدُ إِنَّكُمْ سَتَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا بِمَعْنَى: وَأَنْ تَقُولُوا، لِأَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى وَاوِ النَّسَقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (76: 24) فَتَأْوِيلُهُ وَنَشْهَدُ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ إِنَّهُمْ: أَشْرَكُوا وَحَمَلُونَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الشِّرْكِ فِي صِبَانَا، فَجَرَيْنَا عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ فَلَا ذَنْبَ لَنَا إِذْ كُنَّا مُقْتَدِينَ بِهِمْ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ لَهُمْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (43: 23) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ حَمْلُهُمْ إِيَّانَا عَلَى الشِّرْكِ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ الْأَوْلَى خَبَرًا عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ خَبَرًا عَمَّا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَقَالَ فِيمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ: إِنَّهُ تَفَاوَتَ فِيمَا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمَا فِيهِمَا، قَوْلًا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالنَّظَائِرِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا مُخَالَفَتَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ أَفَادَ زِيَادَةَ خَبَرِ كَانَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ بَعْضَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلَّهَا، وَلَوْ أَخْبَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِسِوَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا، فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْعَهْدُ مِمَّا لَمْ يُضَمِّنْهُ اللهُ كِتَابَهُ، لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتَ، بَلْ كَانَ زِيَادَةً فِي الْفَائِدَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي ذَاتِهَا، وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ فَذَكَرَ مَرَّةً أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَمَرَّةً أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمَرَّةً مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَمَرَّةً مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَعَانِيهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمْأَةِ، وَالْحَمْأَةُ غَيْرُ التُّرَابِ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا فِي الْأَصْلِ إِلَى جَوْهَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التُّرَابُ، وَمِنَ التُّرَابِ تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. فَقَوْلُهُ

175

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَسْحُهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَهْرَ آدَمَ وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْهُ مَسْحٌ لِظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ - كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى - ; لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ لَمْ يَكُونُوا مَنْ صُلْبِهِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الطَّبَقُ الْأَوَّلُ مِنْ صُلْبِهِ، ثُمَّ الثَّانِي مِنْ صَلْبِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثُ مِنْ صَلْبِ الثَّانِي جَازَ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى ظَهْرِ آدَمَ؛ لِأَنَّهُمْ فَرْعُهُ وَهُوَ أَصْلُهُمْ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظُهُورِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، إِذِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَضَافَ الذَّرِّيَّةَ إِلَى آدَمَ فِي الْخَبَرِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنِ الذُّرِّيَّةِ وَعَنْ آدَمَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (26: 4) وَالْخَبَرُ فِي الظَّاهِرِ عَنِ الْأَعْنَاقِ وَالنَّعْتُ لِلْأَسْمَاءِ الْمَكْنِيَةِ فِيهَا، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهَا كَمَا كَانَ آدَمُ مُضَافًا إِلَيْهِ هُنَاكَ، وَلَيْسَتْ جَمِيعًا بِالْمَقْصُودِينَ فِي الظَّاهِرِ بِالْخَبَرِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (خَاضِعِينَ) لِلْأَعْنَاقِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ جَمْعِهَا خَاضِعَاتٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَشْرِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتُهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ فَالصَّدْرُ مُذَكَّرٌ وَقَوْلُهُ شَرِقَ أُنِّثَ لِإِضَافَةِ الصَّدْرِ إِلَى الْقَنَاةِ اهـ. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ

هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا أَيَّدَهَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَهُوَ مَثَلُ مَنْ آتَاهُ اللهُ آيَاتَهُ فَكَانَ عَالِمًا بِهَا حَافِظًا لِقَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، قَادِرًا عَلَى بَيَانِهَا وَالْجَدَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ الْعَمَلَ مَعَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِعِلْمِهِ تَمَامَ الْمُخَالَفَةِ، فَسُلِبَهَا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ، فَأَشْبَهَ الْحَيَّةَ الَّتِي تَنْسَلِخُ مِنْ جِلْدِهَا وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتْرُكُهُ عَلَى الْأَرْضِ (وَيُسَمَّى هَذَا الْجِلْدُ الْمِسْلَاخَ) أَوْ كَانَ فِي التَّبَايُنِ بَيْنَ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ كَالْمُنْسَلِخِ مِنَ الْعِلْمِ التَّارِكِ لَهُ، كَالثَّوْبِ الْخَلِقِ يُلْقِيهِ صَاحِبُهُ، وَالثُّعْبَانُ يَتَجَرَّدُ مِنْ جِلْدِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ بِهِ صِلَةٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمُكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا رُزِقُوا، وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا فَحَاصِلُ مَعْنَى الْمَثَلِ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَلَى إِيضَاحِهَا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، كَالْعَالَمِ الَّذِي حُرِمَ ثَمَرَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْ عِلْمِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ وَإِخْلَاصٍ. وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُهَا الْعَرَبِيُّ، وَيَتْلُوهُ مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا، وَنَظْرَةٌ فِيهَا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَإِلْقَاءُ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَادُ وَيُكَرَّرُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي (عَلَيْهِمْ) لِلنَّاسِ الْمُخَاطِبِينَ بِالدَّعْوَةِ، وَأَوَّلُهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ ; لِأَنَّ الْمَثَلَ تَابِعٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي السُّورَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَهَذَا الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُبَيِّنَ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْهُ اسْمِهِ وَلَا جِنْسِهِ وَلَا وَطَنِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا دَخْلَ لَهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَاتِ لِبَيَانِهِ، وَانْسِلَاخُهُ مِنْهَا: تَجَرُّدُهُ وَانْسِلَالُهُ مِنْهَا وَتَرْكُهُ إِيَّاهَا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا لِاهْتِدَاءٍ وَلَا اعْتِبَارٍ وَلَا عَمَلٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِانْسِلَاخِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي خُرُوجِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ أَحْيَانًا مِنْ جُلُودِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ أَيْ: فَتَرَتَّبَ عَلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ أَنْ لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَهُ، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ مَا يَحُولُ دُونَ قَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَيِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أَيْ: وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَرْفَعَهُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِرْفَانِ، الَّتِي تُقْرَنُ فِيهَا الْعُلُومُ بِالْأَعْمَالِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (58: 11) - لَفَعَلْنَا، بِأَنْ نَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا، وَنَحْمِلَهُ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِنَا.

176

وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ أَيْ: وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ التَّسَفُّلَ الْمُنَافِيَ لِتِلْكَ الرِّفْعَةِ بِأَنْ أَخْلَدَ وَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ وَزِينَتِهَا، وَجَعَلَ كُلَّ حَظِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَائِذِ الْجَسَدِيَّةِ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ رَأْسًا، وَلَمْ يُوَجِّهْ إِلَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْخَالِدَةِ عَزْمًا، وَاتَّبِعَ هَوَاهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُرَاعِ فِيهِ الِاهْتِدَاءَ بِشَيْءٍ مِمَّا آتَيْنَاهُ مِنْ آيَاتِنَا، وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِهِ، لِيَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ بِحَسَبِهِ، وَأَنْ نَبْتَلِيَهُ وَنَمْتَحِنَهُ بِمَا خَلَقْنَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (18: 7) وَتَوَلَّى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (17: 18 - 21) . وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا أَيْضًا بِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِهَوَاهُ بِتَحَرِّيهِ وَتَشَهِّيهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، دُونَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالْفَائِدَةُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَسَدٌ وَرُوحٌ، يُضِلُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَتَعَسَّفُ بِهِ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ الْمُرْدِيَةِ الْمُهْلِكَةِ. قَالَ تَعَالَى لِخَلِيفَتِهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (38: 26) وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ السَّاعَةِ: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (20: 16) وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (25: 43) وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ الْهَوَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ كَثِيرَةٌ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (23: 71) . وَحَاصِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالِاسْتِدْرَاكِ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ أُوتِيَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى أَنْ تَرْتَقِيَ نَفْسُهُ، وَتَرْتَفِعَ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ دَرَجَتُهُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالذِّكْرَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَلَقَّاهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ: " وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِنَّمَا تَلَقَّى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةَ اتِّفَاقًا بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ بِنِيَّةِ كَسْبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَوَجَدَ مَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَلَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا، وَأَسْرَعَ بِهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْهَا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ; لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا هُدًى وَنُورٌ، وَلَكِنْ تَعَارَضَ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ، وَهُوَ إِخْلَادُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ: قَالُوا فُلَانٌ عَالِمٌ فَاضِلٌ ... فَأَكْرَمُوهُ مِثْلَمَا يَقْتَضِي فَقُلْتُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا ... تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اللهْثُ بِالْفَتْحِ وَاللُّهَاثِ بِالضَّمِّ: التَّنَفُّسُ الشَّدِيدُ مَعَ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ، وَيَكُونُ لِغَيْرِ الْكَلْبِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ أَوِ الْعَطَشِ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَيَلْهَثُ فِي كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَصَابَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ حَمَلْتَ عَلَيْهِ تُهَدِّدُهُ بِالضَّرْبِ أَمْ تَرَكْتَهُ وَادِعًا آمَنَّا، وَهَذَا الرَّجُلُ صِفَتُهُ كَصِفَةِ الْكَلْبِ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ أَخَسُّ أَحْوَالِهِ وَأَقْبَحُهَا، وَالْمُرَادُ وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ مِنْ إِخْلَادِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَبْغِي مِنْ نِعْمَةِ الْعَيْشِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائِمٍ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ أَلَّا يَهْتَمَّ بِهِ مِنْ صَغَائِرَ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الشَّهَوَاتِ، كَدَأْبِ عُبَّادِ الْأَهْوَاءِ وَصِغَارِ الْهِمَمِ تَرَاهُمْ كَاللَّاهِثِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنُونَ بِهِ، وَيَحْمِلُونَ هَمَّهُ حَقِيرًا لَا يُتْعِبُ وَلَا يُعْيِي، وَلَا تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ رَاضِيًا بِمَا أَصَابَهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، بَلْ يَزِيدُ طَمَعًا وَتَعَبًا كُلَّمَا أَصَابَ سِعَةً وَقَضَى أَرَبًا: فَمَا قَضَى مِنْهَا أَحَدٌ لُبَانَتَهُ ... وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الشَّأْوِ فِي الْغَرَابَةِ هُوَ مَثْلَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ الْجَاهِلِينَ، كَذَّبُوا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَسْلُبُهُمْ مَا يَفْخَرُونَ بِهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، وَيَحُولُ دُونَ تَمَتُّعِهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ مِنْ لَذَّاتِهِمْ، فَلِهَذَا الظَّنِّ الْبَاطِلِ لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَفَكُّرٍ وَاسْتِقْلَالٍ، وَتَبَصُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ نَظَرُوا إِلَيْهَا - لَا فِيهَا - مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ اتِّبَاعَهَا يَحُطُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَيُعَدُّ اعْتِرَافًا بِضَلَالِ سَلَفِهِمُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِهِمْ، وَيَحْرِمُهُمُ التَّمَتُّعَ بِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ. فَكَانَ مَثَلُهُمْ مَثْلَ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَعِيبُ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعِيبُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ سُوءُ اخْتِيَارِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوَاهِبِهِ الْفِطْرِيَّةِ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهَا فِيمَا يَرْفَعُهُ دَرَجَاتٍ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ اسْتَعْمَلَ حَوَاسَّهُ فِي الضُّرِّ، وَعَقْلَهَ وَذَكَاءَهُ فِي الشَّرِّ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: فَاقْصُصْ أَيُّهَا الرَّسُولُ قِصَصَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُشَابِهَةِ حَالِهِ لِحَالِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَعْنَاهُ وَصُورَتِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ فَيَحْمِلُهُمْ سُوءُ حَالِهِمْ، وَقُبْحُ مَثَلِهِمْ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَإِذَا هُمْ تَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْرَجِ مِنْهُ، وَنَظَرُوا فِي الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ الْهَوَى وَالْعَدَاوَةِ، وَلَا طَرِيقَ لِهِدَايَتِهِمْ غَيْرُ هَذِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنٍ ضَرَبِ الْأَمْثَالِ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ، وَكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ سُوقِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْمُجَرَّدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ التَّفَكُّرِ، وَكَوْنِهِ مَبْدَأَ الْعِلْمِ وَطَرِيقَ الْحَقِّ ; وَلِذَلِكَ

177

حَثَّ اللهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ إِنَّمَا تُسَاقُ إِلَى الْمُتَفَكِّرِينَ ;لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي عِدَّةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ضَارِبًا مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْغُرُورِ بِهَا يُنَاسِبُ سِيَاقَنَا هَذَا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (10: 24) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ: إِنَّ الْفَارِقَ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالْإِنْسَانِ الْوَحْشِيِّ هُوَ التَّفَكُّرُ انْتَهَى. فَبِقَدْرِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ وَحِكَمِهِ فِي الْبَشَرِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، يَكُونُ ارْتِقَاءُ النَّاسِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ. سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ: سَاءَ مَثَلُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فِي الْأَمْثَالِ، وَقُبِّحَتْ صِفَتُهُمْ فِي الصِّفَاتِ، وَمَا كَانُوا بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَمِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا نَظَرَ الْعَدُوِّ الشَّانِئِ يَظْلِمُونَ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا بِحِرْمَانِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَبِمَا يُعْقِبُ ذَلِكَ مِنْ حِرْمَانِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. هَذَا مَا فَهِمْتُهُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ كَتَبْتُهُ (بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ) وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَهْمِ، وَكُنْتُ قَرَأْتُ تَفْسِيرَهَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي ذِهْنِي إِلَّا تَنَازُعَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا هَلْ يَدُلُّ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى لِضَلَالِ الرَّجُلِ أَمْ لَا؟ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّ مَشِيئَتَهُ تَجْرِي فِي الْعَالَمِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ - وَإِلَّا مَا وَرَدَ فِي الرِّوَيَاتِ الْمَأْثُورَةِ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّ اسْمَهُ (بَلْعَامُ) وَاسْمَ أَبِيهِ (بَاعُورَا) وَهَذَا مِمَّا تَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَصَارَ يَنْقُلُهُ بَعْضُهُمْ لِثِقَتِهِمْ بِالرَّاوِي، لِكَوْنِهِ مِمَّنِ اغْتَرُّوا بِصَلَاحِهِمْ كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَهَاكَ خُلَاصَةَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، مَنْقُولَةٌ عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا الْآيَةَ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ

وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ بْنُ أَبَرَّ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بُلْعُمُ بْنُ بَاعُورَاءَ وَفِي لَفْظٍ بَلْعَامُ بْنُ عَامِرِ: الَّذِي أُوتِيَ الِاسْمَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا الْآيَةَ. قَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ تَعَلَّمَ اسْمَ اللهِ الْأَكْبَرِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ مُوسَى أَتَاهُ بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمِهِ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرَ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا فَادْعُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ عَنَّا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: إِنِّي إِنْ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَضَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَانْسَلَخَ مِمَّا كَانَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قَالَ: إِنْ حُمِّلَ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنَّ تُرِكَ لَمْ يَهْتَدِ لِخَيْرٍ، كَالْكَلْبِ إِنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ طُرِدَ لَهَثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ الْآيَةَ. قَالَ: هُوَ رَجُلٌ أُعْطِيَ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتِ: اجْعَلْ لِي مِنْهَا وَاحِدَةً، قَالَ: فَلَكِ وَاحِدَةٌ، فَمَا الَّذِي تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: ادْعُ اللهُ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا اللهُ فَجَعَلَهَا أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ عَنْهُ، وَأَرَادَتْ شَيْئًا آخَرَ، فَدَعَا اللهُ أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً فَصَارَتْ كَلْبَةً، فَذَهَبَتْ دَعْوَتَانِ فَجَاءَ بَنُوهَا فَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا قَرَارٌ، قَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَذَهَبَتِ الدَّعَوَاتُ الثَّلَاثُ وَسُمِّيَتِ الْبَسُوسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، هُوَ رَجُلٌ يُدْعَى بُلْعُمَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَفِي لَفْظٍ نَزَلَتْ فِي صَاحِبِكُمْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَدِمَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهَا: " هَلْ تَحْفَظِينَ مَنْ شِعْرِ أَخِيكِ شَيْئًا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " يَا فَارِعَةُ إِنْ مَثَلَ أَخِيكِ كَمَثَلِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ".

وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: أَلَّا رَسُولٌ لَنَا مِنَّا يُخْبِرُنَا ... مَا بَعْدَ غَايَتِنَا مِنْ رَأْسِ نَجْرَانَا قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ إِلَى الْبَحْرِينِ وَتَنَبَّأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَقَامَ أُمَيَّةَ بِالْبَحْرَيْنِ ثَمَانِي سِنِينَ، ثُمَّ قَدِمَ فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَرَأَ عَلَيْهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (36: 1، 2) حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، وَثَبَ أُمَيَّةُ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ فَتَبِعَتْهُ قُرَيْشٌ تَقُولُ: مَا تَقَوُّلُ يَا أُمَيَّةُ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قَالُوا: فَهَلْ تَتْبَعُهُ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ إِلَى الشَّامِ وَقَدِمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَتْلَى بَدْرٍ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، وَرَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ فَمَاتَ بِهَا، قَالَ: فَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَقَالَ: أَتُدْرُونَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بُلْعُمُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: لَا. فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ بْنُ بَاعُورَا، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ تَقُولُ: هُوَ ابْنُ الرَّاهِبِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ مَسْجِدٌ الشِّقَاقِ، وَكَانَتْ ثَقِيفُ تَقُولُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ نَبِيٌّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَعْنِي " بُلْعُمَ " أُوتِيَ النُّبُوَّةَ فَرَشَاهُ قَوْمُهُ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَفَعَلَ وَتَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَرَفَعَهُ اللهُ بِعِلْمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَعَثَ نَبِيُّ اللهِ مُوسَى بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ مُوسَى يُقَدِّمُهُ فِي الشَّدَائِدِ، فَأَقْطَعَهُ وَأَرْضَاهُ فَتَرَكَ دِينَ مُوسَى وَتَبِعَ دِينَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا قَالَ: كَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللهُ لِمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ

الْهُدَى فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَتَرَكَهُ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِإِيتَائِهِ الْهُدَى، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَكِنَّ اللهَ يَبْتَلِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ قَالَ: أَبَى أَنْ يَصْحَبَ الْهُدَى، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ مَيِّتِ الْفُؤَادِ كَمَا أُمِيتَ فُؤَادُ الْكَلْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْحُنَفَاءِ مِمَّنْ أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ آيَاتِهِ وَكِتَابِهِ فَانْسَلَخُوا مِنْهَا فَجَعَلَهُمْ مِثْلَ الْكَلْبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَدَفَعْنَا عَنْهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: سَكَنَ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ: إِنْ تَطْرُدْهُ بِدَابَّتِكَ وَرِجْلَيْكَ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَكَنَ، نَزَعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحُسْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ قَالَ: إِنْ تَسْعَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قَالَ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ لَا فُؤَادَ لَهُ، مِثْلُ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى، لَا فُؤَادَ لَهُ، إِنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ كَانَ ضَالًّا قَبْلُ أَوْ بَعْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَحَدَّثَ عَنْ سَيَّارٍ: أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: " بَلْعَامُ " وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ إِنْ مُوسَى أَقْبَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا " بَلْعَامُ " فَرَعُبَ النَّاسُ مِنْهُ رُعْبًا شَدِيدًا فَأَتَوْا بَلْعَامَ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ قَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي فَآمَرَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ:، فَإِنَّ فِيهِمْ عِبَادِي، وَفِيهِمْ نَبِيُّهُمْ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَدْ آمَرْتُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ، قَالَ: فَأَهْدَوْا إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، ثُمَّ رَاجِعُوهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ، فَآمَرَ فَلَمْ يُحَارَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: قَدْ آمَرَتُ فَلَمْ يُحَارَ إِلَيَّ شَيْءٌ، فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ رَبُّكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَنَهَاكَ كَمَا نَهَاكَ الْمَرَّةَ الْأُولَى، فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَإِذَا دَعَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ الدُّعَاءُ عَلَى قَوْمِهِ فَإِذَا أَرْسَلَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى قَوْمِهِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى مُوسَى وَجَيْشِهِ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا تَدْعُو عَلَيْنَا. قَالَ: مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِي إِلَّا هَكَذَا، وَلَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِمْ مَا اسْتُجِيبَ لِي، وَلَكِنْ سَأَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُهُمْ. إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الزِّنَا، وَإِنْ هُمْ وَقَعُوا بِالزِّنَا هَلَكُوا، فَأَخْرِجُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ مُسَافِرُونَ فَعَسَى أَنْ يَزْنُوا فَيَهْلِكُوا.

فَأَخْرَجُوا النِّسَاءَ تَسْتَقْبِلُهُمْ فَوَقَعُوا بِالزِّنَا، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: كَانَ اسْمُهُ " بلعلم " وَكَانَ يُحْسِنُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، فَغَزَاهُمْ مُوسَى فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، فَجَاءَهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا إِذَا غَزَاهُمْ أَحَدٌ أَتَوْهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا، وَكَانَ لَا يَدْعُو حَتَّى يَنَامَ فَيَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي مَنَامِهِ، فَنَامَ، فَقِيلَ لَهُ: ادْعُ اللهَ لَهُمْ وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَيْقَظَ فَأَبَى أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: زَيَّنُوا لَهُمُ النِّسَاءَ فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُنَّ لَمْ يَصْبِرُوا حَتَّى يُصِيبُوا مِنَ الذُّنُوبِ فَتُدَالُوا عَلَيْهِمْ. ذَلِكَ مَا لَخَّصَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَكُلُّهُ مِمَّا انْخَدَعَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ، وَبَعْضُهَا قَوِيُّ السَّنَدِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ جُلَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَزَادَ عَلَيْهَا وَانْتَقَدَ بَعْضَهَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ رُوَاتِهَا كَعْبَ الْأَخْبَارِ وَوَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَى رِوَايَةِ وَهْبٍ وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِغَيْرِهِ أَنَّ قِصَّةَ بَلْعَامَ كَانَتْ فِي قِتَالِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ لِأَمَةِ مُوسَى بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَنَّ بَلْعَامَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى، وَقَالَ بَعْدَ سِيَاقٍ طَوِيلٍ لِلْقِصَّةِ لَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهِ مَا نَصُّهُ: " وَحُكِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَنْ كَعْبٍ، وَفِيهَا أَنَّ مُعَسْكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِأَرْضِ كَنْعَانَ مِنَ الشَّامِ، بَيْنَ أَرِيحَا وَبَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَجَبَلِ الْبَلْقَاءِ وَالتِّيهِ فِيمَا بَيْنُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ عَلَى نَمَطِ مَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ " انْدَلَعَ لِسَانُهُ " وَجَاءَتْهُ لَمْعَةٌ فَأَخَذَتْ بَصَرَهُ فَعَمِيَ. " وَحُكِيَ عَنْ وَهَبَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ بَلْعَامُ أُخِذَ أَسِيرًا فَأُتِيَ بِهِ إِلَى مُوسَى فَقَتَلَهُ (قَالَ) : وَهَكَذَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ، أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى (قَالَ) : فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْسَلَخَ مِنْهَا يَقُولُ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " كَانَ مَثَلُ بلعلم بْنِ بَاعُورَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمُثُلٍ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ " (قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ) قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَتَأَمَّلْ (؟ ؟) (قَالَ) " وَأَقُولُ: فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ ذُكِرَ بَلْعَامُ وَقِصَّتُهُ مُطَوَّلَةٌ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِرِوَايَةِ وَهْبٍ غَيْرَ أَنَّ الَّذِينَ دَوَّنُوا التَّوْرَاةَ الْمَوْجُودَةَ الْيَوْمَ بَرَّءُوا بَلْعَامَ فَقَالُوا: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي حِكَايَةٍ بَلْعَامَ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ قَدْ أَظْهَرَ مَا كَتَمَهُ التَّوْرَاتِيُّونَ، وَأَظْهَرَ مَا خَبَّؤُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ نَزَلَتْ ; عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْآيَاتِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِنْ كُلِّ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ الْحُجَجُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ إِنَّهُ انْسَلَخَ مِنْهَا - إِلَى أَنْ قَالَ - وَالصَّوَابُ

فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا كَانَ لَا دَلَالَةَ عَلَى خُصُوصِهِ مِنْ خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَسَاكِرَ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَافِظَ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ عَيْنُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْهَا إِلَّا مَا فِي اخْتِلَافِ التَّرْجَمَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مِنَ الْفُرُوقِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي فَلَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي فِي رِوَايَاتٍ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ يُرَجِّحُ قَوْلَ وَهْبٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَعُدُّ رِوَايَتَهُ دَلِيلًا عَلَى مُعْجِزَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَلَوْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ هُوَ بَلْعَامُ هَذَا، أَوْ لَوْ صَحَّ هَذَا فِي خَبَرٍ مُسْنَدٍ مُتَّصِلٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَكَانَ صَحِيحًا، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَهْبٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَاوِيًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِمَا عِنْدَهُمْ. وَقِصَّةُ بَلْعَامَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفُصُولِ (22 - 24) مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَفِيهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي " عَرَبَاتِ مُوَآبَ مِنْ عَبَرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا " مَنْ أَرْضِ مَدْيَنَ كَمَا نَقُولُ (أَوْ مَدْيَانَ كَمَا يَقُولُونَ) وَأَنَّ بَالَاقَ بْنَ صِفُّورَ (بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ) مَلِكَ الْمَوَآبِيِّينَ طَلَبَ مِنْ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَ أَنْ يَلْعَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِيَنْصُرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَعَدَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ أَلَّا يَفْعَلَ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَفِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلدُّكْتُورِ " بُوسْت " أَنَّ بَلْعَامَ هَذَا مِنْ قَرْيَةِ فَثَوْر مِنْ بَيْنِ النَّهْرَيْنِ قَالَ: وَكَانَ نَبِيًّا مَشْهُورًا فِي جِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا يَعْبُدُ اللهَ (! !) وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ وَطَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ جُرْثُومَةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ فِي أَيَّامٍ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَقَدْ ذَاعَ صِيتُ هَذَا النَّبِيِّ بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَلَا شَأْنُهُ، وَصَارَتِ النَّاسُ تَقْصِدُهُ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْبِلَادِ لِيَتَنَبَّأَ لَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِمْ، أَوْ لِيُبَارِكَهُمْ وَيُبَارِكَ مُقْتَنَيَاتِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ " ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ مَلِكِ مُوَآبَ مَعَهُ، فَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ بَلْعَامُ عِرَاقِيًّا لَا إِسْرَائِيلِيًّا وَلَا مُوَآبِيًّا. وَذَكَرَ الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ مُلَخَّصَ قِصَّةِ بَلْعَامَ " ثُمَّ قَالَ: وَبَعْضُ مُفَسِّرِي (الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) الْمُدَقِّقِينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ " بَلْعَامَ " الْمُدْرَجَةَ فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ الْإِصْحَاحِ (22 - 24) دَخِيلَةٌ إِلَخْ. فَتَأَمَّلْ! . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا قِيمَةَ لِأَسَانِيدِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّنَدُ قَدِ اغْتَرَّ بِبَعْضِ مُلَفِّقِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ حَتْمًا، وَقَدْ رَأَيْنَا شَيْخَ الْمُفَسِّرِينَ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يَعْتَدْ بِهَا. وَنَرْجُو - وَقَدْ رَاجَعْنَا أَشْهَرَ مَا لَدَيْنَا مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ - أَنْ يَكُونَ مَا بَيَّنَّا بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ أَصَحَّهَا وَأَكْبَرَهَا فَائِدَةً.

178

وَأَكْبَرُ وُجُوهِ الْعَبْرَةِ فِيهَا مَا نَرَاهُ مِنْ حَالِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا اللَّابِسِينَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ، الَّذِينَ هُمْ أَظْهَرُ مَظَاهِرِ الْمَثَلِ فِي الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَتَفَانِيهِمْ فِي إِرْضَاءِ الْحُكَّامِ، وَإِنْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْعَوَامِ وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً خُرَافِييِّنَ، وَهُمْ فِتْنَةٌ لِلنَّابِتَةِ الْعَصْرِيَّةِ تَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْعَوَّامِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ مَوْتَاهَا فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالطَّوَافُ بِهَا وَالنُّذُرُ لَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِمَضْمُونِ الْمَثَلِ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِنَّمَا يَنْتَهِي كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْمَرْءِ الْمُسْتَعِدِّ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْغَايَتَيْنِ، وَالْعُرْضَةُ لِسُلُوكِ كُلٍّ مِنَ النَّجْدَيْنِ، بِتَقْدِيرِ اللهِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِهِ فِي اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ وِهَدَايَاتِهِ الْفِطْرِيَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (76: 3) وَقَدْ أَجْمَلَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَفَصَّلَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ فَقَالَ: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أَيْ: مَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْهُدَى بِاسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ، بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِرْشَادِ الدِّينِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِي الشَّاكِرُ لِنِعَمِهِ تَعَالَى، الْفَائِزُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَيْ وَمَنْ يَخْذُلْهُ بِالْحِرْمَانِ مِنْ هَذَا التَّوْفِيقِ، فَيَتَّبِعَ هَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ فِي فِقْهِ آيَاتِهِ تَعَالَى وَشُكْرِ نِعَمَهِ، فَهُوَ الضَّالُّ الْكَفُورُ الْخَاسِرُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَخْسَرُ بِذَلِكَ مَوَاهِبَ نَفْسَهُ الَّتِي كَانَ بِهَا إِنْسَانًا مُسْتَعِدًّا لِلسَّعَادَةِ فَتَفُوتُهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَوْتًا إِضَافِيًّا فِي الدُّنْيَا وَحَقِيقِيًّا فِي الْآخِرَةِ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَدِيعِ الِاحْتِبَاكُ، وَهُوَ حَذْفُ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَمُقَابِلِهِ - وَهُوَ الْخُسْرَانُ - فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَحَذْفُ الضَّالِّ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْمُهْتَدِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِفْرَادُ الْمُهْتَدِي فِي الْأُولَى

179

مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مَنْ) ، وَجَمْعُ الْخَاسِرِينَ فِي الثَّانِيَةِ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَحِكْمَةُ إِفْرَادِ الْأَوَّلِ، الْإِشَارَةُ بِهِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُثْمِرُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَحِكْمَةُ جَمْعِ الثَّانِي، الْإِشَارَةُ إِلَى تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (6: 153) وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (2: 257) الْآيَةَ. ثُمَّ فَصَّلَ تَعَالَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا. (الذَّرْءُ) فَسَّرُوهُ بِالْخَلْقِ، وَذَرَأْنَا: خَلَقْنَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، وَلِكُلِّ مَادَّةٍ مَعْنًى خَاصٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى مَادَّةِ " خَلَقَ " وَسَنُعِيدُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الذَّرْءُ (إِظْهَارُ اللهِ تَعَالَى مَا أَبْدَأَهُ) يُقَالُ: ذَرَأَ اللهُ الْخَلْقَ أَيْ أَوْجَدَ أَشْخَاصَهُمْ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا وَقَالَ: وَقُرِئَ تَذْرَؤُهُ الرِّيَاحُ، وَفِي اللِّسَانِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الذَّرْءِ بِالْخَلْقِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (42: 11) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْنَى يَذْرَؤُكُمْ بِهِ أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِجَعْلِهِ مِنْكُمْ وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا. . ثُمَّ قَالَ: " أَعُوُذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ " وَكَأَنَّ الذَّرْءَ مُخْتَصٌّ بِخَلْقِ الذُّرِّيَّةِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ " وَإِنِّي لَأَظُنُّكُمْ آلَ الْمُغِيرَةِ ذَرْءَ النَّارِ " يَعْنِي خَلْقَهَا الَّذِينَ خُلِقُوا لَهَا، وَيُرْوَى (ذَرْوُ النَّارِ) ، يَعْنِي الَّذِينَ يُفَرَّقُونَ فِيهَا، مَنْ ذَرَّتِ الرِّيحُ التُّرَابَ إِذَا فَرَّقَتْهُ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْأَسَاسِ: ذَرَأْنَا الْأَرْضَ وَذَرَوْنَاهَا، وَذَرَأَ اللهُ الْخَلْقَ وَبَرَأَ إِلَخْ. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَعَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ خَاصَّةً، عَلِمْتَ أَنَّ الذَّرْءَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى بَثِّ الْأَشْيَاءِ وَبَذْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا وَتَكْثِيرِهَا، وَأَنَّ إِسْنَادَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَعْنَى خَلْقِ ذَلِكَ أَيْ إِيجَادِهِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ، وَيُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَعْنَى إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ بِتَقْدِيرٍ وَنِظَامٍ لَا جِزَافًا ; وَلِهَذَا عُطِفَ الذَّرْءُ وَالْبَرْءُ عَلَى الْخَلْقِ فِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ. وَ " الْجِنُّ " الْأَحْيَاءُ الْعَاقِلَةُ الْمُكَلَّفَةُ الْخَفِيَّةُ غَيْرُ الْمُدْرِكَةِ بِحَوَاسِّ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَهُمْ هُنَا فِي الذِّكْرِ عَلَى الْإِنْسِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ ; لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ وَأَعْرَقُ فِي الصِّفَاتِ الْآتِيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهَا، وَكَوْنُ خَلْقِ أَصْلِ نَوْعِهِمْ وَأَوَّلِهِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، لَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَأَلُّمِهِمْ

مِنَ النَّارِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، فَإِنَّ بَيْنَ حَقِيقَةِ نَوْعِ الْبَشَرِ وَحَقِيقَةِ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ أَبُوهُمْ مِنْهُ بَوْنًا عَظِيمًا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجِنُّ. وَ " الْقُلُوبُ " جَمْعُ قَلْبٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُضْغَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ، إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ الْكَلَامِ جَسَدَ الْإِنْسَانِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَإِدْرَاكِهِ وَعِلْمِهِ وَشُعُورِهِ وَتَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِ، عَلَى الصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ وَاللَّطِيفَةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُكْمِ فِي أَنْوَاعِ الْمُدْرَكَاتِ، وَالشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ، أَعْنِي أَنَّهُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَقْلِ، وَبِمَعْنَى الْوِجْدَانِ الرُّوحِيِّ، الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالضَّمِيرِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ صَحِيحٌ. وَاشْتِقَاقُ الْعَقْلِ مِنْ عَقْلِ الْبَعِيرِ لِمَنْعِهِ مِنَ السَّيْرِ، وَفِي مَعْنَى الْقَلْبِ اللُّبُّ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الشَّيْءِ وَيَكْثُرُ فِي التَّنْزِيلِ، وَمِنْهُ النُّهْيَةُ وَجَمْعُهَا نُهًى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (20: 128) . وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَى الْعَقْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (22: 46) وَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَحُذِفَ مِنْهَا " أَوْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا " اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الْمُبْصَرَةُ بِالْأَعْيُنِ فِي السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَسْمُوعَةِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَى الْوِجْدَانِ النَّفْسِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (39: 45) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْفَالِ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (8: 12) وَقَوْلُهُ فِي النَّازِعَاتِ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (79: 8) فَالِاشْمِئْزَازُ وَالرُّعْبُ وَالْوَجِيفُ شُعُورٌ وِجْدَانِيٌّ، لَا حُكْمٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ مِنْهُ فِقْهَ الْقُلُوبِ هُنَا، فَإِنَّ الْفِقْهَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْإِدْرَاكِ، يَصْحَبُهُ وِجْدَانٌ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا نَذْكُرُهُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، كَوِجْدَانِ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى أَعْمَالٍ مُخَالِفَةٍ لِحُكْمِ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ. وَسَبَبُ اسْتِعْمَالِ الْقَلْبِ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الضَّمِيرُ، مَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَرْءُ مِنَ انْقِبَاضٍ أَوِ انْشِرَاحٍ عِنْدَ الْخَوْفِ وَالِاشْمِئْزَازِ أَوِ السُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ حِينَ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ وَقَدْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ قَبْلَ السُّؤَالِ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ

بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَمُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ الْمُؤَثِّرِ فِي النَّفْسِ لَا مُطْلَقَ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ. فَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ مَرْكَزِهِمَا الدِّمَاغُ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةَ، لَا يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ. وَ " الْفِقْهُ " قَدْ فَسَّرُوهُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمِ لَهُ - وَكَذَا بِالْفِطْنَةِ كَمَا فِي جُلِّ الْمَعَاجِمِ أَوْ كُلِّهَا، وَقَالُوا: فَقِهَ (كَعَلِمَ وَفَهِمَ) وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَالُوا: فَقُهَ (كَكَرُمُ وَضَخُمَ) فَقَاهَةً أَيْ صَارَ الْفِقْهُ وَصْفًا وَسَجِيَّةً لَهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ: فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الشَّقِّ وَالْفَتْحِ. أَيْ هَذَا مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فَهُوَ كَالْفَقْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَتَعَاقَبُ مَعَ الْهَاءِ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِهِمَا، وَذَكَرَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ بِالشَّيْءِ هُوَ مَعْرِفَةُ بَاطِنِهِ، وَالْوُصُولُ إِلَى أَعْمَاقِهِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرَهَا لَا يُسَمَّى فَقِيهًا، وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَعَاجِمِ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ غَلَبَ عَلَى عِلْمِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، أَيْ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَا يُفَسَّرُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْفُرُوعَ فَقِيهًا، كَمَا تَرَى مِنْ عِبَارَةِ الْغَزَالِيِّ الْآتِيَةِ، وَلِغَيْرِهِ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ مَعْرِفَتَهَا بِدَلَائِلِهَا. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي (بَيَانِ مَا يَدُلُّ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُلُومِ) أَنَّ لَفْظَ الْفِقْهِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ لَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، إِذْ خَصَّصُوهُ بِمَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ الْغَرِيبَةِ فِي الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ عِلَلِهَا. . . (قَالَ) ، وَلَقَدْ كَانَ اسْمُ الْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا عَلَى عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَقُوَّةِ الْإِحَاطَةِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَشِدَّةِ التَّطَلُّعِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ (9: 122) وَمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْذَارُ وَالتَّخْوِيفُ هُوَ هَذَا الْفِقْهُ دُونَ تَفْرِيعَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاللِّعَانِ وَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إِنْذَارٌ وَلَا تَخْوِيفٌ، بَلِ التَّجَرُّدُ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيَنْزِعُ الْخَشْيَةَ مِنْهُ، كَمَا نُشَاهِدُ الْآنَ مِنَ الْمُتَجَرِّدِينَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَأَرَادَ بِهِ مَعَانِيَ الْإِيمَانِ دُونَ الْفَتْوَى اهـ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْسِيرُهُ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. وَأَقُولُ: ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ، وَالتَّعَمُّقِ فِي الْعِلْمِ، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَظْهَرَهُ نَفْيُ الْفِقْهِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا كُنْهَ الْمُرَادِ مِمَّا نُفِيَ فِقْهُهُ عَنْهُمْ، فَفَاتَتْهُمُ الْمَنْفَعَةُ مِنَ الْفَهْمِ الدَّقِيقِ، وَالْعِلْمِ الْمُتَمَكِّنِ مِنَ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِنَبِيِّهِمْ:

مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ (11: 91) وَإِنْ تَرَاءَى لِغَيْرِ الْفَقِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يَقُولُ فَهْمًا سَطْحِيًّا سَاذَجًا; لِأَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ مَا فِي أَعْمَاقِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْغَايَاتِ الْبَعِيدَةِ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ لَهُ، وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَقَالِيدِهِمْ وَأَهْوَائِهِمُ الصَّادَّةِ لَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْعِشْرُونَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (20: 27، 28) وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ ; لِأَنَّ فَصَاحَةَ لِسَانِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْوَاعِظِ الْمُنْذِرِ تُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ مَا يَقُولُ وَفِقْهِهِ. إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَاهُ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ خَلَقْنَا وَبَثَثْنَا فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَجْلِ سُكْنَى جَهَنَّمِ وَالْمُقَامِ فِيهَا، أَيْ: كَمَا ذَرَأْنَا لِلْجَنَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِ الْفَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (11: 105) فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (42: 7) وَبِمَاذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُعِدِّينَ لِجَهَنَّمَ دُونَ الْجَنَّةِ، وَمَا صِفَاتُهُمُ الْمُؤَهِّلَةُ لِذَلِكَ؟ . (الْجَوَابُ) : ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا إِلَخْ. أَيْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا تَصْلُحُ وَتَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ الْمُطَهِّرِ لَهَا مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنَ الْمَهَانَةِ وَالصَّغَارِ ; فَإِنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ عَنْ إِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ تَعْلُو نَفْسُهُ، وَتَسْمُو بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمُدَبِّرِ الْكَوْنِ بِتَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا تَذِلُّ نَفْسُهُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءِ فِيهِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ، بَلْ يَطْلُبُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا أَقْدَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ خَلْقَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَسْبَابِهِ وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهَا طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ، مُرَاعِيًا فِي طَلَبِهِ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَسُنَنِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّلَبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَا سِيَّمَا فِي نَظَرِ الْعَالِمِ بِمَا ذُكِرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لِهِدَايَتِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ سَبَبِهِ، وَإِقْدَارِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وَسَائِلِهِ، أَوْ تَسْخِيرِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِ، مِمَّنْ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِهِ مَا لَمْ يُعْطِهِ، كَالْأَطِبَّاءِ لِمُدَاوَاةِ الْأَمْرَاضِ، وَأَقْوِيَاءِ الْأَبْدَانِ لِرَفْعِ الْأَثْقَالِ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَحَلِّ الْإِشْكَالِ. وَلَا يَتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا الْعَارِفِ الْمُوَحِّدِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ مَا يَعْرِفُ الْبَشَرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُطَّرِدَةِ، وَالْوَسَائِلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَالرُّقَى وَالنَّشَرَاتِ، وَالتَّنَاجُسِ وَالطَّلْسَمَاتِ، وَالْعَزَائِمِ وَالتَّبْخِيرَاتِ،

وَلَا كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، دَعِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَالرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِيهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (72: 18) وَيَقُولُ: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (6: 41) وَيَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) وَيَقُولُ: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ (9: 13) وَيَقُولُ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي (2: 150) إِلَخْ. وَيَقُولُ: وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا (5: 23) وَيَقُولُ: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (14: 12) . ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَنَّ تَرْكَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْحِرْصَ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرَاتِ - وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: وَاجْتِنَابَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّيَ بِالْفَضَائِلِ - مَنَاطُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَبِهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتِمُّ الِاسْتِعْدَادُ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ النَّاسِ بِهَا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَسِرًّا وَجَهْرًا، إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى أَعْلَمَهُمْ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَخْلَاقِهَا، وَقَوَانِينِ التَّرْبِيَةِ الصُّورِيَّةِ وَآدَابِهَا، يَجْنُونَ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالِاحْتِيَالِ عَلَى كَثْرَةِ الْمُقْتَنَيَاتِ، وَالتَّعَالِي عَلَى الْأَقْرَانِ وَاللَّذَّاتِ، فَيَجْتَرِحُونَ فَوَاحِشَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَيَقْتَرِفُونَ جَرِيمَتَيِ الرِّشْوَةِ وَالْقِمَارِ، وَيَسْتَحِلُّونَ مُنْكَرَاتِ الْحَسَدِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْهُمْ أَكْثَرُ الْخَوَنَةِ أَعْوَانُ الْأَجَانِبِ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ، وَامْتِلَاكِ أَوْطَانِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (30: 7) . ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَلَا آيَاتِهِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ مِنْ عِلْمِيَّاتٍ وَكَوْنِيَّاتٍ، وَأَظْهَرُ آيَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، مَا أَوْدَعَهُ مِنْهَا فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، فَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَتَكَلَّفُونَ لَهَا غَرَائِبَ التَّأْوِيلَاتِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضُوعِ

الْآيَاتِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (6: 65) وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (6: 98) وَقَالَ فِي عَدَمِ فِقْهِهِمْ لِلْقُرْآنِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (6: 25) وَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ حِرْمَانَهُمْ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، فَهِيَ شَاهِدٌ لِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَمِثْلُهَا فِي سُورَتَيِ الْإِسْرَاءِ (17: 45 و46) وَالْكَهْفِ (18: 57) وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ فِيهِمَا عَلَى نَفْيِ هِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ فَقَطْ ; إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَوْضُوعِ. ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَسْبَابَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ رُوحِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَآلِيَّةٍ، الَّتِي نَصَرَ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَعْلَ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ أَهْلًا لَغَلْبِ الْمِائَةِ فِي طَوْرِ الْقُوَّةِ، وَالْمِائَةَ أَهْلًا لَغَلْبِ الْمِائَتَيْنِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (الْأَنْفَالِ 8: 65، 66) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (59: 13) فَمِنْ آيَاتِ الدِّينِ فِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَفْقَهَ مِنَ الْكَافِرِ بِنُظُمِ الْحَرْبِ وَأَسْبَابِ النَّصْرِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَأَكْمَلَ اتِّصَافًا بِهَا، وَتَمَتُّعًا بِثَمَرِهَا، فَأَيْنَ هَذَا الْإِيمَانُ، مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ؟ . ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَقُوَّةِ الْجَمَاعَاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَزَمَنِ الْمُعْجِزَاتِ، وَلَا يَفْقَهُونَ بِهَا إِدَالَةَ اللهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، بَلْ يَحْكُمُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَبْدُو لِعُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ مِنَ الظَّوَاهِرِ، دُونَ مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْفِقْهِ الْبَاطِنِ، كَمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِنُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ إِلَّا رِجْسًا، أَيْ خُبْثًا وَنِفَاقًا، وَكَوْنُهُمْ يُفْتَنُونَ وَيُمْتَحَنُونَ مِرَارًا، وَلَا يُفِيدُهُمْ ذَلِكَ تَوْبَةً وَلَا ادِّكَارًا، حَتَّى إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَرُّوا مِنْ سَمَاعِهَا فِرَارًا، لَا يَخَافُونَ أَنْ يَرَاهُمُ اللهُ وَلَكِنْ يَخَافُونَ أَنْ يَرَاهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (9: 127) وَمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَتِهِمْ مِنْ قِصَرِ نَظَرِهِمْ وَظُلْمَةِ بَصِيرَتِهِمْ ; إِذْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يُقْنِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي انْفِضَاضِهِمْ مِنْ حَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ

(63: 7) أَيْ لَا يَفْقَهُونَ سِرَّ كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى رَسُولَهَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَفَالَتِهِ لَهُمْ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّ سَبَبَ إِنْفَاقِ الْأَنْصَارِ الْأَبْرَارِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ قَوْلُهُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - إِلَّا احْتِقَارُهُمْ لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَثَبَاتُهُمْ هُمْ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ - لَا يَفْقَهُونَ هَذَا وَلَا ذَاكَ; لِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ وِجْدَانِ الْإِيمَانِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ مِنْ مَتَاعٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْ قُلُوبِ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ عَلَاقَتِهَا بِالدِّينِ وَتَكْمِيلِ النَّفْسِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِيهِ: أَنَّ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَا ذُكِرَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ فَقِهَهُ فَهُوَ الْمَخْلُوقُ لِلْجَنَّةِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْقَهْهُ مَخْلُوقٌ لِجَهَنَّمَ، بَلْ صَارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا إِسْلَامٍ يَفْقَهُونَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَى بَعْضِهَا فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُونَ، كَأَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ ; وَلِذَلِكَ نَرَاهُمْ يُنْصَرُونَ فِيهَا عَلَى هَؤُلَاءِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (47: 4) وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ إِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ هُمُ الَّذِينَ يَفْقَهُونَ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ. وَفَقَاهَةُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ، وَالْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ لَدَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهَا مَرْتَبَةَ الْإِيمَانِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُدُّونَ جَهْلَهُمْ وَخِذْلَانَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِمُ النَّصْرَ، وَالتَّرَقِّيَ فِي مَعَارِجِ الْعُمْرَانِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ وَمَا الْإِيمَانُ، فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَجْهَلُ وَأَضَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ خَلْقِ الْقُلُوبِ لَهُمْ، هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ الْآخَرُ يَصْدُقُ بِأَمْرَيْنِ: بِعَدَمِ وُجُودِ الْقُلُوبِ لَهُمْ بِالْمَرَّةِ، وَبِوُجُودِ قُلُوبٍ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا آلَةَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ، فَلَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ نَصًّا فِي قِيَامِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِهَا عَدَمَ التَّكْلِيفِ. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَمْ يَقُلْ: " لَا تَفْقَهُ " ; لِبَيَانِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤَاخَذُونَ بِعَدَمِ تَوْجِيهِ إِرَادَتِهِمْ لِفِقْهِ الْأُمُورِ، وَاكْتِنَاهِ الْحَقَائِقِ، وَيُقَالُ مِثْلُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَهُوَ:

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ يُفْهَمُ إِجْمَالًا مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ فِقْهَ الْقُلُوبِ تَفْصِيلًا، أَيْ: وَلَهُمْ أَبْصَارٌ وَأَسْمَاعٌ لَا يُوَجِّهُونَهَا إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا يَرَوْنَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَفِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، وَمِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، فَيَهْتَدُوا بِكُلٍّ مِنْهَا إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَفِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَكَذَا الِاسْتِفَادَةِ مِمَّا يُرْوَى وَيُؤْثَرُ مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ ; فَإِنَّ الْآذَانَ قَدْ خُلِقَتْ لِلْإِنْسَانِ; لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يَسْمَعُ، لَا مِنَ الْقُرْآنِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَبْصَارَ خُلِقَتْ لَهُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يُبْصَرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِهِ بِتَوْجِيهِ إِرَادَتِهِ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا خُلِقَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (32: 26، 27) فَهَذَانِ مَثَلَانِ لِلْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَيْسَ الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِيمَا كَتَبُوهُ مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي حِكَايَتِهَا دُونَ الْعَمَلِ بِهَا! ! . وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ جَهَنَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ عَلِمَ اللهُ رُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَثَبَاتَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (2: 7) فَقَدْ بَيَّنَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عَدَمَ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَطُرُقُ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ بِتَشْبِيهٍ أَبْلَغَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (2: 18) وَمِثْلُهُ الْمَثَلُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (2: 171) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (16: 108) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (45: 23) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ (46: 26) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (8: 20 - 23)

أَيْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ الِاسْتِجَابَةِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. كَرَّرَ الرَّبُّ الْحَكِيمُ بَيَانَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، كَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَبَيَانِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ; لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ، لِمَنْ لَمْ يَفْقِدِ اسْتِعْدَادَ الْهِدَايَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ ; وَلِأَجْلِ الْعِظَةِ وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا نَرَى فِي آيَاتِ الْأَنْفَالِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ، نَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ إِهْمَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِاسْتِعْمَالِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ فِي النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ بِالْعُلُومِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا آيَاتُهُ تَعَالَى فِي أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَمَشَاعِرِهِ وَقُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ وَانْفِعَالَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ، وَآيَاتِهِ فِي الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالْبُخَارِ، وَالْغَازَاتِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَوَادُّ وَغَيْرُهَا، وَسُنَنِ النُّورِ وَالْكَهْرُبَاءِ وَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ أَوْ تَلَامِيذِهِمُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فَكَانَ مُقَلِّدًا فِيهِ لَهُمْ لَا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَرِيقَهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهَا آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ لَهَا رَبًّا خَالِقًا مُدَبِّرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مُرِيدًا قَدِيرًا رَحِيمًا، يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُخْشَى وَيُحَبَّ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ، وَرَجَاءُ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَوْ قَصَدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ لَأَصَابُوهُ ; فَإِنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلَكِنَّهُمْ غَفَلُوا عَنْهُ; لِتَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِمَا دُونَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ عِلْمُهُمْ عَلَى سِعَتِهِ نَاقِصًا أَقْبَحَ نَقْصٍ، وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَشُوبًا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ بِاسْتِعْمَالِ مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ. الَّتِي تُدَمِّرُ الْعُمْرَانَ وَتَسْحَقُ الْأُلُوفَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْبَشَرِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ - وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِي اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَنَفْعِهَا الْمَادِّيِّ الْعَاجِلِ، مَا يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَهَا، وَآثَرُوا الْجَهْلَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ كَالْأَنْعَامِ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، فِي كَوْنِهِمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ إِلَّا اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعِيشَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَجْنِي عَلَى أَنْفُسِهَا بِتَجَاوُزِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَحُدُودِ الْحَاجَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَنَزَوَاتِهَا بَلْ تَقِفُ فِيهِ عِنْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا الْحَيَاةَ الشَّخْصِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا عَبِيدُ الشَّهَوَاتِ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ يُسْرِفُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِسْرَافًا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَقِلُّ فِيهِمْ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كُلِّهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَاهِدُ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ جِهَادًا يُفَرِّطُ فِيهِ بِحُقُوقِ الْبَدَنِ فَلَا يُعْطِيهِ الْغِذَاءَ الْكَافِي

وَيُقَصِّرُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَهَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ، فَيَجْنِي عَلَى شَخْصِهِ وَعَلَى نَوْعِهِ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَجْنِي عَلَيْهِمَا عَبِيدُ اللَّذَّاتِ بِالْإِفْرَاطِ، دَعِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَعَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَهِدَايَةُ الْإِسْلَامِ تَحْظُرُ هَذَا وَذَاكَ، وَتُوجِبُ الْأَكْلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزَّوَاجَ بِشَرْطِهِ، وَتُحَرِّمُ الْإِسْرَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ بِالْقُرْآنِ فِي فِقْهِ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِ لَجَمَعُوا بِهَا بَيْنَ ارْتِقَائِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، وَاتَّقَوْا هَذَا الْإِسْرَافَ فِي الشَّهَوَاتِ وَالتَّنَازُعَ عَلَيْهَا الَّذِي أَفْسَدَ مَدَنِيَّةَ الْإِفْرِنْجِ بِمَا يَشْكُو مِنْهُ جَمِيعُ حُكَمَائِهِمْ، وَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ. أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِكُلِّ مَا ذَكَرَهُمُ الْغَافِلُونَ التَّامُّو الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، أَوْ خَيْرِهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا وَأَدْوَمِهِمَا وَهِيَ الثَّانِيَةُ، فَهُمْ طَبَقَاتٌ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي الْغَفْلَةِ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ، الْغَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ فِي أَفْضَلِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، الْغَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تَهْدِي إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ، الْغَافِلُونَ عَنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ. وَحَيَاتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَحَيَاتِهِمُ الْمِلِّيَّةِ، الَّذِينَ يُعَدُّونَ كَالْأَنْعَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ مُجَافَاةِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ حَقَارَتُهُمْ وَمَهَانَتُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالْقَوْمِيَّةُ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ وَتَسْخِيرُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ كَمَا يُسَخَّرُ الْأَنْعَامُ فِي سَبِيلِ مَعِيشَتِهِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْغَافِلِينَ: هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ يُونُسَ، بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرِهِ أَمْرَ الْعَالَمِ وَكَوْنِهِ يُبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ - وَالْإِعَادَةُ فِي الْعَادَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدْءِ - وَالتَّذْكِيرِ بِآيَاتِهِ فِي جَعْلِ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ ; لِيُعْلَمَ مِنْهَا عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، وَآيَاتِهِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (10: 7، 8) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّارَ مَأْوَى الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيْ عَنْ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا وَمُدَبِّرِ النِّظَامِ فِيهَا، وَكَوْنِ إِعَادَةِ خَلْقِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ فِي طَوْرٍ آخَرَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ، وَكَوْنِ التَّنَعُّمِ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَسْمَى أَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْغَافِلُونَ عَمَّا ذُكِرَ - مِنْ أَكْبَرِ الْعُلَمَاءِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكَمِهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ أَبْلَغُ وَأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ فَطِنُوا لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَفَقِهُوهُ كَمَا يَجِبُ لَكَانُوا أَسْعَدَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَ عَنْ شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ، وَلَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اسْتِعْدَادٍ.

كَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (30: 7) فَانْظُرْ إِلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي إِعَادَةِ ضَمِيرِ (هُمْ) وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ الَّذِي اقْتَضَاهُ وَصْفُهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ صَاحِبِهِ عَدَمُ الْغَفْلَةِ. تِلْكَ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ مَنْ خُلِقُوا لِسُكْنَى الْجَحِيمِ، وَمَا يُقَابِلُهَا فَهُوَ صِفَاتُ أَهْلِ دَارِ النَّعِيمِ، فَأَهْلُ النَّارِ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى هُمُ الْأَغْنِيَاءُ الْجَاهِلُونَ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فِقْهِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَارِفِ، وَاسْتِفَادَةِ الْعُلُومِ، وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَفِقْهِ آيَاتِهِ التَّنْزِيلِيَّةِ، وَهُمَا سَبَبُ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَى كَمَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَنْ تَرَى فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْكَثِيرَةِ مَنْ نَبَّهَ قُرَّاءَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْهَادِيَةِ إِلَى سَبِيلِهِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّخَذُوا كِتَابَ اللهِ مَهْجُورًا، فَإِذَا سَأَلْتَ أَشْهَرَهُمْ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ لَكَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلنَّارِ خَلْقًا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مَجْبُورُونَ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَفْهَمُوا بِهَا شَيْئًا مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْهَمَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ مِنَ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا -، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ التَّكْوِينِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا - وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، فَيَتَنَاوَلُ الْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةَ عَلَى طُرُزِ مَا سَلَفَ " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِيهِ فَكَلَامٌ فِي الْإِعْرَابِ وَنُكَتِ التَّعْبِيرِ، وَتَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْجَبْرِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ زُبْدَةُ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَأَهْلُ النَّارِ عِنْدَهُمْ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ كَافِرِينَ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ مُسْلِمِينَ، إِنْ كَانُوا يَجْهَلُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى الْفُجُورِ، اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ لِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ، وَيَذْبَحُونَ لَهُمُ النَّسَائِكَ، وَيَنْذِرُونَ لَهُمُ النُّذُورَ، وَهِيَ عِبَادَاتٌ لِغَيْرِ اللهِ يَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ غَفْلَةٌ وَجَهْلٌ بَلْ هِيَ كَسَائِرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ وَمَعْنَاهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ تَرَكُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمُ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي عِلْمِ الْهُدَى، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ الْمُزَكِّيَةُ لِلنَّفْسِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَهْلَ جَهَنَّمَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَرَأَهُمْ لِجَهَنَّمَ لِذَوَاتِهِمْ ; فَإِنَّ ذَوَاتِ الْجِنْسَيْنِ كُلُّهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ خَلَقَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَى فِي أَسْبَابِ الْهُدَى بَلْ قَالَ: إِنَّهُمْ هُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (67: 10، 11) وَلَكِنَّ الْجَدَلَ فِي الْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي أَوْهَمَهُمْ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ هَدَانَا إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَكْوَانِ، وَهُوَ مَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا مَا يَحُومُ حَوْلَهُ الْإِنْسَانُ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ، مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللهُ فَالْحَمْدُ لَهُ ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ.

180

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حَالَ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِهْمَالَ أَعْقَبَهُمُ الْغَفْلَةَ التَّامَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا فِيهِ صَلَاحُهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ - وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَوَاءِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ، وَأَقْرَبِ الْوَسَائِلِ لِلْمَخْرَجِ مِنْهَا إِلَى ضِدِّهَا فَقَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا الْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ مَعَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَقًّا، كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ، أَوْ مَصْدَرًا، كَالرَّبِّ وَالسَّلَامِ وَالْعَدْلِ. وَالْحُسْنَى جَمْعُ أَحْسَنَ، وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَعَانِي وَأَكْمَلِ الصِّفَاتِ، فَادْعُوهُ أَيْ سَمُّوهُ وَاذْكُرُوهُ وَنَادُوهُ بِهَا، لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ، وَعِنْدَ السُّؤَالِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ، فَمِنَ الذِّكْرِ لِمَحْضِ الثَّنَاءِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2: 255) إِلَخْ. وَآخِرُ سُورَةٍ الْحَشْرِ: هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (59: 22 - 24) وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَنْ يَقُولَ قَبْلَهَا " أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ. وَلِلذِّكْرِ الْمَحْضِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فِي تَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَاحْتِقَارِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّأَلُّمِ لِمَا يَفُوتُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَنْ نَزَلَ بِهِ غَمٌّ أَوْ كَرْبٌ أَوْ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَمِنَ الذِّكْرِ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ "

يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ " وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ: مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَدْعِيَةُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى نِدَاءً أَوْ غَيْر نِدَاءٍ كَثِيرَةٌ، تُرَاجَعُ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ، وَكِتَابِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ لِابْنِ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ. وَأَسْمَاءُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا حُسْنَى بِدَلَالَةِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى مُنْتَهَى كَمَالِ مَعْنَاهُ، وَتَفْضِيلِهَا عَلَى مَا يُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، كَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْحَفِيظِ وَالْعَلِيمِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَمُسْلِمٍ فِي الذِّكْرِ. قَالَ مُسْلِمٌ: وَزَادَ هَمَامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهُ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ (قَالَ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ " مَنْ أَحْصَاهَا " اهـ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ بِلَفْظِ: لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَقَوْلُهُ: " إِلَّا وَاحِدَةً " بِالتَّأْنِيثِ وَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ; لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْكَلِمَةِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَسَرَدَا فِيهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَفِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَاتِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُحَدِّثُونَ فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ، هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ؟ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُدْرَجٌ لَا مَرْفُوعٌ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ; لِتَفَرُّدِ الْوَلِيدِ بِهِ، وَالِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَتَدْلِيسِهِ وَاحْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ، وَهَذَا سَرْدُ الْأَسْمَاءِ فِي أَمْثَلِ الطُّرُقِ عَنِ الْوَلِيدِ مِنْ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ: " هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ، الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ، الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ

الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ الْآخِرُ، الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِي الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّؤُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، النُّورُ الْهَادِي، الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ الصَّبُورُ ". أَوْرَدَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا وَإِنْكَارَ بَعْضِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ لِرَفْعِهَا، كَابْنِ حَزْمٍ وَالدَّاوُدِيُّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - وَالْأَقْوَالَ فِي حَصْرِهَا وَمَأْخَذِهَا ثُمَّ قَالَ:. " وَإِذَا تَقَرَّرَ رُجْحَانُ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ لَيْسَ مَرْفُوعًا، فَقَدِ اعْتَنَى جَمَاعَةٌ بِتَتَبُّعِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، فَرُوِّينَا فِي كِتَابِ الْمِائَتَيْنِ لِأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، وَالْخَلَّالُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَقَالَ: هِيَ فِي الْقُرْآنِ، وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْجِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي حَدِيثَ " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا قَالَ: فَوَعَدَنَا سُفْيَانُ أَنْ يُخْرِجَهَا لَنَا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَبْطَأَ، فَأَتَيْنَا أَبَا زَيْدٍ فَأَخْرَجَهَا لَنَا، فَعَرَضْنَاهَا عَلَى سُفْيَانَ فَنَظَرَ فِيهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَقَالَ: نَعَمْ هِيَ هَذِهِ. " وَهَذَا سِيَاقُ مَا ذَكَرَهُ جَعْفَرٌ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَا: فَفِي الْفَاتِحَةِ خَمْسَةٌ: اللهُ، رَبُّ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، مَالِكٌ، وَفِي الْبَقَرَةِ: مُحِيطٌ، قَدِيرٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، عَلِيٌّ، عَظِيمٌ، تَوَّابٌ، بَصِيرٌ، وَلِيٌّ، وَاسِعٌ، كَافٍ، رَؤُوفٌ، بَدِيعٌ، شَاكِرٌ، وَاحِدٌ، سَمِيعٌ، قَابِضٌ، بَاسِطٌ، حَيٌّ، قَيُّومٌ، غَنِيٌّ، حَمِيدٌ، غَفُورٌ، حَلِيمٌ، وَزَادَ جَعْفَرٌ: إِلَهٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، عَزِيزٌ نَصِيرٌ، قَوِيٌّ شَدِيدٌ، سَرِيعٌ خَبِيرٌ، قَالَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ، وَهَّابٌ، قَائِمٌ. زَادَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بَاعِثٌ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ، وَفِي النِّسَاءِ: رَقِيبٌ حَسِيبٌ شَهِيدٌ مُقِيتٌ وَكِيلٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: عَلِيٌّ كَبِيرٌ. وَزَادَ سُفْيَانُ: عَفُوٌّ، وَفِي الْأَنْعَامِ: فَاطِرٌ قَاهِرٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: مُمِيتٌ غَفُورٌ بُرْهَانٌ. وَزَادَ سُفْيَانُ: لَطِيفٌ خَبِيرٌ قَادِرٌ، وَفِي الْأَعْرَافِ: مُحْيٍ مُمِيتٌ، وَفِي الْأَنْفَالِ: نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، وَفِي هُودٍ: حَفِيظٌ مَجِيدٌ، وَدُودٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، زَادَ سُفْيَانُ: قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَفِي الرَّعْدِ: كَبِيرٌ مُتَعَالٍ، وَفِي إِبْرَاهِيمَ: مَنَّانٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: صَادِقٌ وَارِثٌ، وَفِي الْحِجْرِ: خَلَّاقٌ، وَفِي مَرْيَمَ: صَادِقٌ وَارِثٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: فَرْدٌ، وَفِي طه عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ: غَفَّارٌ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ: كَرِيمٌ، وَفِي النُّورِ: حَقٌّ مُبِينٌ. زَادَ سُفْيَانُ: نُورٌ، وَفِي الْفُرْقَانِ: هَادٍ، وَفِي سَبَأٍ: فَتَّاحٌ، وَفِي الزُّمَرِ: عَالِمٌ، عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ، وَفِي الْمُؤْمِنِ

غَافِرٌ قَابِلٌ ذُو الطَّوْلِ. زَادَ سُفْيَانُ: شَدِيدٌ، وَزَادَ جَعْفَرٌ: رَفِيعٌ، وَفِي الذَّارِيَاتِ: رَزَّاقٌ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، بِالتَّاءِ، وَفِي الطُّورِ: بَرٌّ، وَفِي اقْتَرَبَتْ: مُقْتَدِرٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: مَلِيكٌ، وَفِي الرَّحْمَنِ: ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، زَادَ جَعْفَرٌ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، بَاقٍ مُعِينٌ، وَفِي الْحَدِيدِ: أَوَّلٌ آخِرٌ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ، وَفِي الْحَشْرِ: قُدُّوسٌ سَلَامٌ مُؤْمِنٌ مُهَيْمِنٌ عَزِيزٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ خَالِقٌ بَارِئٌ مُصَوِّرٌ، زَادَ جَعْفَرٌ: مَلِكٌ، وَفِي الْبُرُوجِ: مُبْدِئٌ مُعِيدٌ، وَفِي الْفَجْرِ: وِتْرٌ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ، وَفِي الْإِخْلَاصِ: أَحَدٌ صَمَدٌ. هَذَا آخِرُ مَا رُوِّينَاهُ عَنْ جَعْفَرٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَتَقْرِيرِ سُفْيَانَ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ وَتَكْرَارٌ وَعِدَّةُ أَسْمَاءٍ لَمْ تَرِدْ بِلَفْظِ الِاسْمِ، وَهِيَ: صَادِقٌ، مُنْعِمٌ، مُتَفَضِّلٌ، مَنَّانٌ، مُبْدِئٌ، مُعِيدٌ، بَاعِثٌ، قَابِضٌ، بُرْهَانٌ، مُعِينٌ، مُمِيتٌ، بَاقٍ. " وَوَقَفْتُ فِي كِتَابِ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى لِأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ أَنَّهُ تَتَبَّعَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَأَمَّلْتُهُ فَوَجَدْتُهُ كَرَّرَ أَسْمَاءً، وَذَكَرَ مِمَّا لَمْ أَرَهُ فِيهِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ: الصَّادِقَ وَالْكَاشِفَ وَالْعَلَّامَ، وَذَكَرَ مِنَ الْمُضَافِ: الْفَالِقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى (6: 95) وَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ " الْقَابِلَ " مِنْ قَوْلِهِ: قَابِلِ التَّوْبِ (40: 3) . " وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَهِيَ: الرَّبُّ الْإِلَهُ الْمُحِيطُ، الْقَدِيرُ الْكَافِي، الشَّاكِرُ الشَّدِيدُ، الْقَائِمُ الْحَاكِمُ، الْفَاطِرُ الْغَافِرُ الْقَاهِرُ، الْمَوْلَى النَّصِيرُ، الْغَالِبُ الْخَالِقُ، الرَّفِيعُ، الْمَلِيكُ، الْكَفِيلُ، الْخَلَّاقُ، الْأَكْرَمُ، الْأَعْلَى، الْمُبِينُ - بِالْمُوَحَّدَةِ - الْحَفِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ - الْقَرِيبُ، الْأَحَدُ، الْحَافِظُ. فَهَذِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَكْمُلُ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ لَكِنَّ بَعْضَهَا بِإِضَافَةٍ كَالشَّدِيدِ مِنْ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2: 196) وَالرَّفِيعِ مِنْ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ (40: 15) وَالْقَائِمِ مِنْ قَوْلِهِ: قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (13: 33) وَالْفَاطِرِ مِنْ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ (35: 1) وَالْقَاهِرِ مِنْ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (6: 18) وَالْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ منْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ (8: 40) وَالْعَالِمِ مِنْ عَالِمُ الْغَيْبِ (6: 73) وَالْخَالِقِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (13: 16) وَالْغَافِرِ مِنْ غَافِرِ الذَّنْبِ (40: 3) وَالْغَالِبِ مِنْ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (12: 21) وَالْحَافِظُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا (12: 64) وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12: 12) وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ الْمُحْيِي مِنْ قَوْلِهِ: لَمُحْيِي الْمَوْتَى (41: 39) وَالْمَالِكِ مِنْ قَوْلِهِ: مَالِكَ الْمُلْكِ (3: 26) وَالنُّورِ مِنْ قَوْلِهِ: نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (24: 35) وَالْبَدِيعِ مِنْ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2: 117) وَالْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: جَامِعُ النَّاسِ (3: 9) وَالْحَكَمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا (6: 114)

وَالْوَارِثِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (15: 23) وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي تُقَابِلُ هَذِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا: الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، الْعَدْلُ الْجَلِيلُ، الْبَاعِثُ الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُمِيتُ، الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ، الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ، الْوَالِي ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ الْمُغْنِي، الْمَانِعُ الضَّارُّ، النَّافِعُ الْبَاقِي، الرَّشِيدُ الصَّبُورُ. " فَإِذَا اقْتُصِرَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَا عَدَا هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَأُبْدِلَتْ بِالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَمَوَاضِعُهَا كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ " الْحَفِيُّ " فَإِنَّهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (19: 47) وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ. " وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِ: الْقَدِيرِ وَالْمُقْتَدِرِ وَالْقَادِرِ، وَالْغَفُورِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَافِرِ، وَالْعَلِيِّ وَالْأَعْلَى وَالْمُتَعَالِ، وَالْمَلِكِ وَالْمَلِيكِ وَالْمَالِكِ، وَالْكَرِيمِ وَالْأَكْرَمِ، وَالْقَاهِرِ وَالْقَهَّارِ، وَالْخَالِقِ وَالْخَلَّاقِ، وَالشَّاكِرِ وَالشَّكُورِ، وَالْعَالِمِ وَالْعَلِيمِ: فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ عَدِّهَا ; فَإِنَّ فِيهَا التَّغَايُرَ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَزِيدُ بِخُصُوصِيَّةٍ عَلَى الْآخَرِ لَيْسَتْ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ اسْمَانِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُشْتَقَّيْنِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ مُنِعَ مِنْ عَدِّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَلَّا يُعَدَّ مَا يَشْتَرِكُ الِاسْمَانِ فِيهِ مَثَلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مِثْلَ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ لَكِنَّهَا عُدَّتْ; لِأَنَّهَا وَلَوِ اشْتَرَكَتْ فِي مَعْنَى الْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ فَهِيَ مُغَايِرَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَهِيَ أَنَّ الْخَالِقَ يُفِيدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِيجَادِ وَالْبَارِئَ يُفِيدُ الْمُوجِدَ لِجَوْهَرِ الْمَخْلُوقِ، وَالْمُصَوِّرَ يُفِيدُ خَالِقَ الصُّورَةِ فِي تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْلُوقَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُغَايَرَةَ لَمْ يَمْتَنِعْ عَدُّهَا أَسْمَاءَ مَعَ وُرُودِهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَهَذَا سَرْدُهَا لِتُحْفَظَ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِعَادَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُغْتَفَرُ لِهَذَا الْقَصْدِ " اللهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ، التَّوَّابُ الْوَهَّابُ، الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الْمُحِيطُ الْقَدِيرُ، الْمَوْلَى النَّصِيرُ، الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ، الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ، الْوَكِيلُ الْحَسِيبُ، الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ، الْوَدُودُ الْمَجِيدُ، الْوَارِثُ الشَّهِيدُ، الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، الْحَقُّ الْمُبِينُ، الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، الْغَنِيُّ الْمَالِكُ الشَّدِيدُ، الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، الْقَاهِرُ الْكَافِي، الشَّاكِرُ الْمُسْتَعَانُ، الْفَاطِرُ الْبَدِيعُ الْغَافِرُ، الْأَوَّلُ الْآخِرُ، الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ، الْكَفِيلُ الْغَالِبُ، الْحَكَمُ الْعَادِلُ الرَّفِيعُ، الْحَافِظُ الْمُنْتَقِمُ، الْقَائِمُ الْمُحْيِي، الْجَامِعُ الْمَلِيكُ

الْمُتَعَالِي، النُّورُ الْهَادِي، الْغَفُورُ الشَّكُورُ، الْعَفُوُّ الرَّؤُوفُ، الْأَكْرَمُ الْأَعْلَى، الْبَرُّ الْحَفِيُّ، الرَّبُّ الْإِلَهُ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ". ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ؟ أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَلِكَ؟ ، وَلَكِنِ اخْتُصَّتْ هَذِهِ; لِأَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ "، وَعِنْدَ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي دُعَاءٍ " وَأَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ " وَأَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا دَعَتْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ مَا عَدَاهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ الْأَسْمَاءِ وَأَبْيَنَهَا مَعَانِيَ. وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَوْلُهُ: " مَنْ أَحْصَاهَا " لَا قَوْلُهُ: " لِلَّهِ " وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَعُدُّهَا لِلصَّدَقَةِ، وَلِعَمْرٍو مِائَةُ ثَوْبٍ مَنْ زَارَهُ أَلْبَسُهُ إِيَّاهَا ". وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُبْهَمِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا هَذِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ أَنَّ أَكْثَرَهَا صِفَاتٌ، وَصِفَاتُ اللهِ لَا تَتَنَاهَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (7: 180) فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَيُدْعَى بِهَا، وَلَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ الدُّعَاءُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ: " أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ إِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْحَيِّ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ كَالْعَظِيمِ، وَإِمَّا سَلْبِيَّةٌ كَالْقُدُّوسِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْقَدِيرِ، أَوْ مِنْ سَلْبِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ كَالْمَلِكِ، وَالسُّلُوبُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِلَا نِهَايَةٍ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ

اسْمٌ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَلِيلٌ فِيهَا. وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ أَلْفٍ مِنْهَا، وَأَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ بِالْبَقِيَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءَ بِأَلْفَيْنِ مِنْهَا، وَسَائِرَ النَّاسِ بِأَلْفٍ. وَهَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي نَفْسِ حَدِيثِ الْبَابِ " إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " الرِّوَايَةُ الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا الْأَسْمَاءُ لَمْ يُعَدَّ فِيهَا الْوِتْرُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً أُخَرَ غَيْرَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَتَعَقَّبَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ كَابْنِ حَزْمٍ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ حَزْمٍ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِلَّا وَاحِدًا " قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِائَةُ اسْمٍ؛ فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ " مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا " وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ الْحَصْرَ الْمَذْكُورَ عِنْدَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْوَعْدِ الْحَاصِلِ لِمَنْ أَحْصَاهَا، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ لِمَنْ أَحْصَى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ خَطَأٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ اسْمٌ زَائِدٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ (7: 180) وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةً، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (59: 24) قَالَ: وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَعَلَّهُ مُكَرَّرٌ مَعْنًى وَإِنْ تَغَايَرَ لَفْظًا، كَالْغَافِرِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَفُورِ مَثَلًا فَيَكُونُ الْمَعْدُودُ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدًا فَقَطْ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ ذَلِكَ وَجَمَعْتَ الْأَسْمَاءَ الْوَارِدَةَ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ تَزِدْ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا فَإِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي تَعْيِينِهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلْيُتَّبَعْ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْعَهْدِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَعْهُودِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالدُّعَاءِ بِهَا، وَنَهْيٌ عَنِ الدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ. (قُلْتُ) : وَالْحِوَالَةُ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْرَبُ، وَقَدْ حَصَلَ بِحَمْدِ اللهِ تَتْبُّعُهَا كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَبَقِيَ أَنْ يُعْمَدَ إِلَى مَا تَكَرَّرَ لَفْظًا وَمَعْنًى مِنَ الْقُرْآنِ فَيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُتَتَبَّعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَكْمِلَةُ الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ نَمَطٌ آخَرُ مِنَ التَّتَبُّعِ عَسَى اللهُ أَنْ يُعِينَ عَلَيْهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ آمِينَ اهـ. (فَتْحٌ) وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُمْلَتَانِ، فَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ 99 وَكَانَ الْحَافِظُ أَجْدَرَ الْعُلَمَاءِ بِمَا رَجَاهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ.

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ: ادْعُوهُ بِهَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَاتْرُكُوا وَأَهْمِلُوا بِلَا مُبَالَاةٍ جَمِيعَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِالْمَيْلِ بِأَلْفَاظِهَا أَوْ مَعَانِيهَا عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ الْوَسَطِ، إِلَى بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ وَمُتَفَرِّقِ السُّبُلِ، مِنْ تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ تَشْبِيهٍ أَوْ تَعْطِيلٍ، أَوْ شِرْكٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ مَا يُنَافِي وَصْفَهَا بِالْحُسْنَى وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، ذَرُوا هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ، وَلَا تُبَالُوا بِهِمْ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: وَلِمَاذَا نَذَرُهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَعْمَهُونَ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ عَمَلِهِمْ عَنْ قَرِيبٍ، بَعْضُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ عِقَابُ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَإِنَّنَا نُفَصِّلُ هَذَا التَّفْسِيرَ الْإِجْمَالِيَّ بَعْضَ التَّفْصِيلِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَنَقُولُ:. " ذَرُوا " أَمْرٌ لَمْ يَرِدْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالُ مَاضِيهِ وَلَا مَصْدَرِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، فَهُوَ بِوَزْنِ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُهُ وَدْعًا، وَمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا قَدِ اسْتُعْمِلَ مَاضِيهِ وَمَصْدَرُهُ قَلِيلًا، وَذَاكَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ إِلَّا الْمُضَارِعُ " يَذَرُ " وَالْأَمْرُ " ذَرْ " وَتَعَدَدَّ ذِكْرُهَا فِي التَّنْزِيلِ، وَزَعَمَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: قَذْفُ الشَّيْءِ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَأَوْرَدَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَعَدَ بِبَيَانِ دُخُولِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي تَفْسِيرَهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (2: 234) وَلَمْ يَقُلْ: وَيَتْرُكُونَ وَيَخْلُفُونَ، وَلَعَلَّهُ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: وَيَتْرُكُونَ أَزْوَاجَاهُنَ عُرْضَةً لِلْإِهْمَالِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، فَلْيُوصُوا لَهُنَّ، وَإِلَّا كَانُوا هُمُ الْمُهْمِلِينَ لَهُنَّ، وَالْقَاذِفِينَ بِهِنَّ فِي بَيْدَاءِ الْإِهْمَالِ وَالْحَاجَةِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُخَلَّفِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ (48: 15) وَكُلُّ مَا عَدَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّرْكِ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَالِاهْتِمَامِ. لَا الْقَذْفِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَاقَةِ صَالِحٍ حِكَايَةً عَنْهُ: فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ (7: 73) وَأَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (3: 179) أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (7: 127) رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ (71: 26) وَيَذْرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (76: 27) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (26: 166) وَتَذْرُونَ الْآخِرَةَ (75: 21) ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (6: 91) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (6: 112) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (43: 83) إِلَخْ. وَأَمَّا الْإِلْحَادُ فَمَعْنَاهُ الْعَامُّ الْمَيْلُ وَالِازْوِرَارُ عَنِ الْوَسَطِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِيهِ كَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُ لَحْدُ الْقَبْرِ لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَائِلًا عَنْ وَسَطِهِ.

وَيُسَوَّى بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَيُقَابِلُهُ الضَّرِيحُ أَوِ الشَّقُّ، وَهُوَ وَضْعُهُ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ (وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ فِي الشَّرْعِ) يُقَالُ: لَحَدَ الْقَبْرَ وَأَلْحَدَهُ، وَلَحَدَ لِلْمَيِّتِ وَأَلْحَدَ، أَيْ جَعَلَ لَهُ لَحْدًا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَلْحَدَ السَّهْمُ الْهَدَفَ، أَيْ مَالَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْ وَسَطَهُ، وَلَمَّا كَانَ " خِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطَهَا " كَانَ الِانْحِرَافُ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومًا، وَمِنْهُ أُخِذَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ وَالشَّكِّ فِي اللهِ تَعَالَى بِالْإِلْحَادِ وَسُمِّيَ ذَوُوهُ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُلْحِدُونَ. قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّحْدُ حُفْرَةٌ مَائِلَةٌ عَنِ الْوَسَطِ، وَقَدْ لَحَدَ الْقَبْرَ حَفَرَهُ وَأَلْحَدَهُ، وَقَدْ لَحَدْتُ الْمَيِّتَ وَأَلْحَدْتُهُ: جَعَلْتُهُ فِي اللَّحْدِ، وَيُسَمَّى اللَّحْدُ مُلْحَدًا، وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ أَلْحَدْتُهُ. وَلَحَدَ بِلِسَانِهِ إِلَى كَذَا مَالَ. قَالَ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ (16: 103) مِنْ لَحَدَ، وَقُرِئَ (يَلْحَدُونَ) مِنْ أَلْحَدَ، وَأَلْحَدَ فُلَانٌ: مَالَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْإِلْحَادُ ضَرْبَانِ: إِلْحَادٌ إِلَى الشِّرْكِ بِاللهِ، وَإِلْحَادٌ إِلَى الشِّرْكِ بِالْأَسْبَابِ، فَالْأَوَّلُ يُنَافِي الْإِيمَانَ وَيُبْطِلُهُ، وَالثَّانِي يُوهِنُ عُرَاهُ وَلَا يُبْطِلُهُ، وَمِنْ هَذَا النَّحْوِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (22: 25) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ (7: 180) وَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُوصَفَ بِمَا لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يَتَأَوَّلَ أَوْصَافَهُ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ اهـ. أَقُولُ: قَرَأَ حَمْزَةُ (يَلْحِدُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا (41: 40) مِنْ لَحَدَ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مَنْ أَلْحَدَ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا عَلِمْتَ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الْإِلْحَادُ التَّكْذِيبُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا: اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنَ اللهِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ " يَلْحِدُونَ " بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ اللَّحْدِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: يُشْرِكُونَ وَالثَّانِيَةُ: يُكَذِّبُونَ فِي أَسْمَائِهِ، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى التَّكْذِيبَ بِهَا، وَإِنْكَارَ مَعَانِيهَا، وَتَحْرِيفَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَنَحْوِهِ، وَتَسْمِيَتَهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَانِ قِسْمَانِ: إِشْرَاكٌ فِي التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ يُقْصَرُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَائِصِهِمَا، وَإِشْرَاكٌ فِي الْمَعَانِي وَهِيَ قِسْمَانِ: مَعَانٍ خَاصَّةٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمَعَانٍ غَيْرُ خَاصَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْخَاصُّ بِهِ

تَعَالَى كَمَالُهَا، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا الْحُسْنَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَقْسَامٌ. (1) التَّغْيِيرُ فِيهَا بِوَضْعِهَا لِغَيْرِهِ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي " اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، قِيلَ: وَ " مَنَاةُ " مِنَ اسْمِهِ تَعَالَى الْمَنَّانِ، فَإِنْ صَحَّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لِأَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَأَمَّا لَفْظُ " اللَّاتِ " فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَنَّثُوا بِهِ اسْمَ الْجَلَالَةِ، " وَالْعُزَّى " مُؤَنَّثُ الْأَعَزِّ، كَالْفُضْلَى مُؤَنَّثِ الْأَفْضَلِ، وَالْحُسْنَى مُؤَنَّثِ الْأَحْسَنِ. (2) تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ مِنْهُمَا، وَمِنْهُ " وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ " - لَكِنْ يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى قَرِينَةٍ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ عَقْلِيٍّ، وَكُلِّ وَاجِبٍ شَرْعِيٍّ هُوَ الْأَكْثَرُ - (قَالَ) : " وَالْقَدِيمُ وَالصَّانِعُ، وَقِيلَ هُمَا مَسْمُوعَانِ " وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَاجِبَ وَوَاجِبَ الْوُجُودِ وَالصَّانِعَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَثْبتُ كَوْنُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مُسْتَنَدٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَلِلصَّانِعِ مَأْخَذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (27: 88) عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ مِثْلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمُتْقِنُ أَيْضًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَابَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الِاسْمَ فِي الْأَصْلِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى بِمَعْنَى الِاسْمِ إِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الْعِلْمِيَّةِ كَزَيْدٍ وَحَارِثٍ وَفَضْلٍ، وَمَا أُطْلِقَ لِأَجْلِ مَعْنَاهُ فَقَطْ يُسَمَّى وَصْفًا وَنَعْتًا كَالْحَارِثِ يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَالظَّالِمِ لِمَنْ يَجُورُ فِي فِعْلِهِ أَوْ حُكْمِهِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الْوَصْفُ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ أَوِ الْمَدْحِ، فَإِنْ لُمِحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقَالُوا الْحَارِثَ وَالْفَضْلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُهَيْمِنِ، أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ مَصْدَرٍ كَالسَّلَامِ وَالْعَدْلِ، فَكُلُّهَا يُرَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ فَتُسَمَّى صِفَاتٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَدْلُولِهِ الْوَصْفِيِّ فَتُسَمَّى أَسْمَاءَ. وَيُقْتَصَرُ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى التَّوَقُّفِ، وَلَيْسَ مِنْهُ الْوَاجِبُ وَالصَّانِعُ وَالْمَوْجُودُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ تَعَالَى، فَيُقَالُ: إِنَّ اللهَ مَوْجُودٌ وَوَاجِبٌ، وَهُوَ صَانِعٌ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُتْقِنُ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ، وَلَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ: يَا وَاجِبُ أَوْ يَا صَانِعُ اغْفِرْ لِي مَثَلًا، بِهَذَا الْقَدْرِ يَصِحُّ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ تَعَالَى أَسْمَاءٌ مِنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّارِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ

(56: 64) وَلَا الْمَاكِرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (3: 54) وَلَا الْمُخَادِعِ أَوِ الْخَادِعِ مِنْ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ (4: 142) وَلَكِنْ عَدُّوا مِنْهَا بَعْضَ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّدِيدِ وَالرَّفِيعِ وَالْقَائِمِ وَالْفَاطِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ هَذِهِ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا تِلْكَ فَذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ أَوْ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، وَاسْمُ الصِّفَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْكَمَالِ بِمُجَرَّدِ إِطْلَاقِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، وَنَصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُعَاءً وَوَصْفًا لَهُ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ، وَعَلَى مَنْعِ كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهُ كُلُّ مَا يُسَمَّى إِلْحَادًا فِي أَسْمَائِهِ، وَكُلُّ مَا أَوْهَمَ نَقْصًا أَوْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْكَمَالِ وَلِوَصْفِ الْحُسْنَى، وَقَدْ مَنَعَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ مُطْلَقًا، وَجَوَّزَ الْمُعْتَزِلَةُ مَا صَحَّ مَعْنَاهُ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اتِّصَافِهِ بِهِ، وَلَمْ يُوهِمْ إِطْلَاقُهُ نَقْصًا، وَالْفَلَاسِفَةُ أَوْسَعُ حُرِّيَّةً فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ. . . وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ سِينَا: مُدِيرُ الْكُلِّ أَنْتَ الْقَصْدُ وَالْغَرَضُ ... وَأَنْتَ عَنْ كُلِّ مَا قَدْ فَاتَنَا عِوَضُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ خَرْدَلَةٍ ... سَوِيَ جَلَالِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَرَضُ وَقَدْ عَدُّوا عَلَيْهِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ قَوْلَهُ لِخَالِقِهِ: فَاعْلَمْ ذَكَرَ ذَلِكَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَمَالَ إِلَيْهِ - أَيْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْجَوَازِ - بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إِطْلَاقَ الصِّفَةِ، وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ، وَمَنَعَ إِطْلَاقَ الِاسْمِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ " بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَالْبَارِي أَوْلَى، وَتَعَلَّقَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ لُغَةٍ يُسَمُّونَهُ سُبْحَانَهُ بَاسِمٍ مُخْتَصٍّ بِلُغَتِهِمْ كَقَوْلِهِمْ (خداى) وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَرَدَ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ، وَنَقَلَ الَآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سِيَاقَ السَّفَارِينِيِّ إِلَى احْتِجَاجِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ إِنْكَارِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِطْلَاقِ الْفُرْسِ (خدا) وَزَادَ عَلَيْهِ اسْمُ (تكرى) وَهُوَ تُرْكِيٌّ وَكَافُهُ نُونٌ فِي النُّطْقِ، وَقَالَ إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ، وَأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ. وَأَقُولُ: إِنَّ لَفْظَيْ " خدا وتكرى " هُمَا الِاسْمُ الْعَلَمُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجَمَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) وَلَيْسَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمٍ جَدِيدٍ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَمِثْلُهُ تَرْجَمَةُ مَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ فِي اللُّغَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الرَّاقِيَةَ مِنْهَا كَالْفَارِسِيَّةِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِخِلَافِ تَرْجَمَةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مُرَادِفٌ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالرَّحْمَنِ وَالْقَيُّومِ - كَمَا نَعْتَقِدُ - وَمَنَعَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ) تَرْجَمَةَ

صِفَاتِ اللهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ خَطَرِ مُخَالَفَةِ مُرَادِهِ تَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهَا لَا مُرَادِفَ لَهُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِبَعْضِهَا مُرَادِفٌ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَالْيَدِ، فَهِيَ تُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْجَارِحَةِ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَلَهَا عِدَّةُ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ كَالنِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ مَثَلًا، وَقَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ قَدْ تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (48: 10) بِيَدِهِ الْمُلْكُ (67: 1) بِيَدِكَ الْخَيْرُ (3: 26) لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (38: 75) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ (5: 64) فَلَا يُمْكِنُ وَضْعُ كَلِمَةِ تَرْجَمَةِ يَدٍ بِالْفَارِسِيَّةِ لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا. انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَفْظَةً فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ إِنَّ الْآلُوسِيُّ نَقَلَ مُوَافَقَةَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ دُونَ الْعِلْمِيَّاتِ، وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مِنْهَا (قَالَ) : وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ التَّوَقُّفَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَجَّ لَهُ بِإِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَاسْتِحْبَابِهِ، وَالصِّفَةُ لِتَضَمُّنِهَا النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَهِيَ لَا تَتَوَقَّفُ إِلَّا عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الِاسْمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَّا لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ مَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمَا. (قَالَ الْآلُوسِيُّ) وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَا مَانِعَ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ - وَالْخَطَرٌ قَائِمٌ - وَأَيْنَ التُّرَابُ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ اهـ. وَأَقُولُ: مِثَالُ مَا ذَكَرُوهُ، وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعَقْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْكَمَالُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَيَدُلُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى الْعَقْلِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَادَّتُهُ، وَهِيَ عَقْلُ الْبَعِيرِ، أَيْ رَبْطُ ذِرَاعِهِ وَوَظِيفِهِ وَشَدِّهِمَا بِالْعِقَالِ (وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْحَبَلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ وَغَيْرُهُ) لِمَنْعِهِ مِنَ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْقِلَهُ أَيْ يَمْنَعَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَاعِدَةُ الْغَزَالِيِّ فِي الصِّفَاتِ تَقْتَضِي تَحْكِيمَ رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ فِي وَصْفِ خَالِقِهِ بِمَا يَرَاهُ هُوَ حُسْنًا أَوْ كَمَالًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي رَأْيِ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ غَيْرَ حُسْنٍ وَلَا كَمَالٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَقْلًا لَا نَقْلًا فَالْحَقُّ أَلَّا يُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (3) تَرْكُ تَسْمِيَتِهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصْفِهِ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ، وَمِثْلُهُ إِسْنَادُ مَا أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، أَوْ أَنَّهُ يُوهِمُ نَقْصًا فِي حَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ أَعْلَمُ مِنْهُ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ، وَأَعْلَمُ مِنْ رَسُولِهِ صَلَوَاتُهُ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا لَا يَلِيقُ، وَبِمَا يُوهِمُ نَقْصَ التَّشْبِيهِ أَوْ غَيْرَ التَّشْبِيهِ، كَامْتِنَاعِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ ذِكْرَ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي زَعَمُوا وُجُوبَ تَأْوِيلِهَا فِي

عَقَائِدِهِمْ وَدُرُوسِهِمْ، وَعَدَمَ ذِكْرِهَا فِي مَجَالِسِهِمْ إِلَّا مَقْرُونَةً بِالتَّأْوِيلِ وَادِّعَاءِ أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى فِي التَّأْوِيلِ غُلُوَّ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ أَشَدَّ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَوُا السَّلَاطِينَ بِسَجْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ كَصِفَةِ عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ، وَمِنْهَا اسْمُ الْعَلِيِّ وَالْمُتَعَالِ، وَمِنْهَا آيَاتُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَحَادِيثُ النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، وَانْتَهَى بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ التَّوْبَةَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِلْعَامَّةِ، وَأَنْ يَتَعَهَّدَ بِذَلِكَ كِتَابَةً، وَهَذَا مِنْ أَعَاجِيبِ تَعَصُّبِ الْمَذَاهِبِ، وَالْغُرُورِ فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ: أَيِ الْآرَاءِ النَّظَرِيَّةِ فِي النُّصُوصِ، وَإِنَّ ادِّعَاءَ أَنَّ بَعْضَ كَلَامِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِمَّا يَجِبُ كِتْمَانُهُ وَاسْتِبْدَالُ نَظَرِيَّاتِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْثَالِهِمْ بِهِ لَمَطْعَنٌ كَبِيرٌ فِي الدِّينِ، وَفِي سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَادِ هُوَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْآتِي مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهَا. (4) تَحْرِيفُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ تَقْتَضِي التَّشْبِيهَ أَوِ التَّعْطِيلَ، فَالْمُشَبِّهَةُ ذَهَبَتْ إِلَى جَعْلِ الرَّبِّ الْقُدُّوسِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ كَرَجُلٍ مِنْ خَلْقِهِ، زَاعِمَةً أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى ذَلِكَ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالضَّحِكِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْجَهْمِيَّةُ ذَهَبَتْ إِلَى تَأْوِيلِ جَمِيعِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى جَعَلَتْهُ كَالْعَدَمِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: فِيهِمْ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (2: 143) هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فِي تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَتَسْمِيَتِهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ، وَإِسْنَادِ مَا أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَثْبَتُوا لَهُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَمَالِ التَّنْزِيهِ، فَقَالُوا: إِنَّ لَهُ رَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَغَضَبًا لَا يُشْبِهُ غَضَبَ الْمَخْلُوقِ، وَاسْتِوَاءً عَلَى عَرْشِهِ لَيْسَ كَاسْتِوَاءِ الْمُلُوكِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى عُرُوشِهِمْ، وَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَنَا بِمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَهُ مِنْ عَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ ذَلِكَ لَنَا إِلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي نَسْتَعْمِلُهَا فِي شُئُونِ أَنْفُسِنَا، وَعَلَّمَنَا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَعَصَمَنَا بِهَذَا التَّنْزِيهِ. أَنْ يُضِلَّنَا الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ فَنَقَعُ فِي التَّشْبِيهِ. (5) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ بِاللَّفْظِ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) وَالرَّحْمَنِ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْإِضَافَاتِ كَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ رَبِّ الْكَعْبَةِ، أَوْ رَبِّ الْبَيْتِ - إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْكَعْبَةُ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (106: 3) وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ لَفْظُ رَبٍّ إِلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ فِي كَلَامٍ بِعَيْنِهِ فَلَا بَأْسَ، كَأَنْ تَقُول وَأَنْتَ فِي بَيْتِ أَحَدِ النَّاسِ، وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ الْإِمَامَةُ حَقُّ رَبِّ

الْبَيْتِ، أَوْ لِيَؤُمَّنَا رَبُّ الْبَيْتِ. أَوْ تَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِي كُرْسِيِّ صَاحِبِ الْبَيْتِ أَوْ عَلَى الْحَشْيَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ: هَذِهِ تَكْرُمَةُ رَبِّ الْبَيْتِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ تَعَالَى. وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْقَوْلُ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ اللَّفْظَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِنَ الْفَتْحِ بَحْثَ انْعِقَادِ الْيَمِين بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ مُطْلَقًا ثُمَّ قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) مَا يَخْتَصُّ بِاللهِ تَعَالَى، كَاسْمِ الْجَلَالَةِ وَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ فَهَذَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ إِذَا أُطْلِقَ، وَلَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَهُ (ثَانِيهَا) مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَيَّدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقْيِيدِ كَالْجَبَّارِ وَالْحَقِّ وَالرَّبِّ وَنَحْوِهَا، فَالْحَلِفُ بِهِ يَمِينٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. (ثَالِثُهَا) مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. كَالْحَيِّ وَالْمُؤْمِنِ فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى اللهَ تَعَالَى فَوَجْهَانِ، صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَكَذَا فِي الْمُحَرَّرِ. وَخَالَفَ فِي الشَّرْحَيْنِ فَصَحَّحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَقَالَ الْمُجِدُّ ابْنُ تَيْمِيَةِ فِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهَا يَمِينٌ اهـ. (6) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْخَاصَّةِ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ (الْوَسِيلَةِ) عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَرَفْعِ الْكُرُبَاتِ، وَكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَاتِ، كَطَلَبِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَلَفْظُ الْوَسِيلَةِ هُنَا بِمَعْنَى (الْإِلَهِ) إِذْ مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا، أَوِ (الرَّبِّ) الْمُدَبِّرِ لِلْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ - فَهَذَا إِلْحَادٌ فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى لَا فِي أَلْفَاظِهَا. (7) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ فِي كَمَالِ أَسْمَائِهِ التَّامِّ الَّذِي وُصِفَتْ لِأَجْلِهِ بِالْحُسْنَى، كَمَنْ يَزْعُمُ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى رَحْمَةً كَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ كَالْمُجِيبِ مَثَلًا، قَالَ تَعَالَى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (2: 186) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (11: 61) وَأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمَوْتَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ وَأَسْرَعُ فِي إِجَابَتِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَيَجْمَعُونَ بِذَلِكَ بَيْنَ الشِّرْكَيْنِ: شِرْكِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، مَعَ اعْتِقَادِ إِجَابَتِهِ لِلدُّعَاءِ - وَاللهُ يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ (27: 62) أَيْ: لَا يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِلَّا اللهُ. فَهُوَ الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْكُفْرُ بِهِ بِتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ امْرَأَةً مِصْرِيَّةً تَدْعُو وَتَسْتَغِيثُ فِي

181

أَمْرٍ أَهَمَّهَا: يَا مَتْبُولِيُّ يَا مَتْبُولِيُّ. . فَقُلْتُ لَهَا بَعْدَ أَنْ هَدَأَ رَوْعُهَا: لِمَاذَا تَدْعِينَ الْمَتْبُولِيَّ وَلَا تَدْعِينَ اللهَ تَعَالَى؟ قَالَتْ: الْمَتْبُولِيُّ مَا " يستناش " - أَيْ لَا يُهْمِلُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ فِي إِجَابَةِ مَنْ دَعَاهُ وَاسْتَغَاثَ بِهِ - وَذَكَرَتْ حِكَايَةً مُتَنَاقَلَةً بَيْنَ أَمْثَالِهَا وَهِيَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ سَرَقَ سَمَكَةَ فَسِيخٍ وَأَكَلَهَا، فَحَلَّفَهُ صَاحِبُهَا يَمِينًا بِالْمَتْبُولِيِّ، فَحَلَفَ بِهِ فَقَيَّأَهُ الْفِسِيخَةَ، وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ يَتَجَرَّأُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَلِفِ بِاللهِ تَعَالَى كَذِبًا، وَلَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْحَلِفِ بِمُعْتَقِدِيهِمْ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ إِيَّاهُمْ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مِنْ إِلْحَادِ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَيَزْعُمُونَ مَعَهُ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ عُلَمَاءُ الْجُمُودُ الْمُضِلِّينَ، وَيَنْبِزُونَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِلَقَبِ وَهَّابِيِّينَ وَيَمْقُتُونَ هَذَا اللَّقَبَ وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى الْمُوَحِّدِينَ. وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قِصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي بَعْضِ آيَاتٍ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَمَا لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَإِهْمَالِ مَوَاهِبِهَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ مِنْ سُوءِ الْمَآلِ، وَأَرْشَدَنَا فِي آخِرِهَا إِلَى مَا يُصْلِحُ فَسَادَ الْفِطْرَةِ مِنْ دُعَائِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَإِلَى مَا لِلْإِلْحَادِ فِيهَا مِنْ سُوءِ الْجَزَاءِ فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْبِضْعِ الْآيَاتِ بِبِضْعِ آيَاتٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَدَأَهَا بِوَصْفِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَثَنَّى بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَثَلَّثَ بِتَفْنِيدِ

مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَالْإِرْشَادُ إِلَى التَّفَكُّرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى فِقْهِ الْأُمُورِ، وَمَا فِي حَقَائِقِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ، وَإِلَى النَّظَرِ الْهَادِي إِلَى مَأْخَذِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، لِمَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِقُرْبِ الْأَجَلِ، وَالِاحْتِيَاطِ لِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَتَمَهَا بِبَيَانِ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي هِدَايَةِ مَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِضَلَالِهِ، وَتَرْكِهِ يَعْمَهُ فِي طُغْيَانِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكِلْتَاهُمَا تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَخْ بَدَأَهُ بِبَيَانِ حَالِ مَنْ أَضَلَّهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَ قُلُوبِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ فِي فِقْهِ آيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّهُ مَا سَمَّاهُمْ أُمَّةً ; لِأَنَّهُمْ لَا تَجْمَعُهُمْ فِي الضَّلَالِ جَامِعَةٌ، وَلِأَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرٌ وَسُبُلَهُ مُتَفَرِّقَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا حَالَ مَنْ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ، أَيْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ، يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ دُونَ غَيْرِهِ يَعْدِلُونَ، فَسُبُلُهُمْ وَاحِدَةٌ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، هَؤُلَاءِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) فَلْيُرَاجَعْ فَهُوَ قَرِيبٌ، فَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ لِقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمَّةِ مُوسَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا إِلَخْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فِي مُقَابَلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أَيْ: خَلَقْنَا فَهُنَالِكَ يَقُولُ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا، وَهُنَا يَقُولُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أَيْ: لِلْجَنَّةِ أُمَّةٌ صِفَتُهُمْ كَذَا وَكَذَا. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذِهِ أُمَّتِي، بِالْحَقِّ يَحْكُمُونَ وَيَقْضُونَ، وَيَأْخُذُونَ وَيُعْطُونَ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِيهَا قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَهَا: " هَذِهِ لَكَمَ وَقَدْ أَعْطَى الْقَوْمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَتَفْتَرِقَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، يَقُولُ اللهُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ مَرْفُوعٌ إِلَى

182

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ; لِيُفَسِّرَ بِهِ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ، وَقَدْ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسْتَقِيمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَعْنَى التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ فِي مَآلِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ لِدَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ الِاسْتِدْرَاجُ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّرْجِ مَصْدَرِ دَرَجَ، أَوْ مِنَ الدَّرَجَةِ وَهِيَ الْمِرْقَاةُ، يُقَالُ: دَرَجَ الْكِتَابَ وَالثَّوْبَ وَأَدْرَجَهُ إِذَا طَوَاهُ، وَيُعَبَّرُ بِالدَّرْجِ - وَهُوَ الْمَصْدَرُ - عَنِ الْمُدْرَجِ أَيِ الْمَطْوِيِّ، وَيُقَالُ: دَرَجَ فُلَانٌ بِمَعْنَى مَاتَ، وَهَذِهِ آثَارُ قَوْمٍ دَرَجُوا أَيِ انْقَرَضُوا، جَعَلَهُ الرَّاغِبُ مَجَازًا بِالِاسْتِعَارَةِ، وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ ذَكَرَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ وَقَالَ وَاسْتَدْرَجَهُ: رَقَّاهُ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، وَقِيلَ: اسْتَدْعَى هَلَكَتَهُ مِنْ دَرَجَ إِذَا مَاتَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي " سَنَسْتَدْرِجُهُمْ " مِنَ الْآيَةِ: قِيلَ مَعْنَاهُ سَنَطْوِيهِمْ طَيَّ الْكِتَابِ، عِبَارَةً عَنْ إِغْفَالِهِمْ نَحْوَ: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا (18: 28) وَقِيلَ مَعْنَاهُ: سَنَأْخُذُهُمْ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَذَلِكَ إِدْنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيْءِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْمَرَاقِي وَالْمَنَازِلِ فِي ارْتِقَائِهَا وَنُزُولِهَا اهـ. أَقُولُ: وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرُونَ شَيْئًا مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ ; لِجَهْلِهِمْ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ يَدْمَغُ الْبَاطِلَ، وَمَا يَنْفَعُ النَّاسَ يَصْرَعُ مَا يَضُرُّهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (21: 18) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (13: 17) وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ إِنْذَارُهُمْ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَأْخُذُهُمْ بِالْعِقَابِ وَيَنْصُرُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَيَيْ الِاسْتِدْرَاجِ جَائِزٌ هُنَا لِظُهُورِهِ فِيمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْجَاحِدُونَ وَالْمُبَالِغُونَ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانُوا مُغْتَرِّينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَوَّلًا، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ فَمَا زَالُوا يَتَدَرَّجُونَ فِي عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَقِتَالِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا، ثُمَّ زَادَهُمْ غُرُورًا ظُهُورُهُمْ فِي آخِرِ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ وَقَالَ قَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ " يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ " - إِلَى أَنْ كَانَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ، فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِدْرَاجٌ بِمَعْنَى التَّنَقُّلِ فِي مَدَارِجِ الْغُرُورِ، وَبِمَعْنَى أَخْذِ اللهِ إِيَّاهُمْ، وَإِظْهَارِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ.

183

وَقَدْ فَسَّرَ السُّدِّيُّ الِاسْتِدْرَاجَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَجَعَلَهُ خَاصًّا بِأَخْذِهِمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ الِاسْتِدْرَاجَ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، كَاغْتِرَارِ الْعُصَاةِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُنْسِيهِمُ التَّوْبَةَ، وَتُلْهِيهِمْ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَاقْتِصَارِهِمْ عَلَيْهِ غَفْلَةً عَنْ سَبَبِ النُّزُولِ، وَمَنْ أُنْزِلَ فِيهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (68: 44) وَقَفَّى عَلَيْهَا بِمِثْلِ مَا هُنَا - وَالسُّورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ - وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الْإِمْلَاءُ: الْإِمْدَادُ فِي الزَّمَنِ وَالْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلْوَةِ وَالْمُلَاوَةِ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَالْمَلَوَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ تَكَرُّرُهُمَا وَامْتِدَادُهُمَا، يُقَالُ: أَمْلَى لَهُ إِذَا أَمْهَلَهُ طَوِيلًا، وَأَمْلَى لِلْبَعِيرِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الزِّمَامَ، وَوَسَّعَ لَهُ فِي الْقَيْدِ; لِيَتَّسِعَ لَهُ الْمَرْعَى. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (19: 46) أَيْ زَمَنًا طَوِيلًا وَالْمَلَا بِالْقَصْرِ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ الْمُمْتَدَّةُ، وَأَمَّا الْإِمْلَاءُ لِلْكَاتِبِ بِمَعْنَى تَلْقِينِهِ مَا يَكْتُبُ فَأَصْلُهُ أَمْلَلَ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ. وَالْكَيْدُ كَالْمَكْرِ هُوَ التَّدْبِيرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، بِحَيْثُ يَنْخَدِعُ الْمَكِيدُ لَهُ بِمَظْهَرِهِ فَلَا يَفْطِنُ لَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَا يَسُوءُهُ مِنْ مَخْبَرِهِ وَغَايَتِهِ، وَأَكْثَرُهُ احْتِيَالٌ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، كَكَيْدِ يُوسُفَ لِأَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ مِنْ إِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ بِرِضَاهُمْ وَمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمْ ; وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ وَأُضِيفَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ أَوْ إِسْنَادَهُمَا إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى الْعِقَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ أَدَقُّ. وَالْمَتِينُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَدْرَجِينَ فِي الْعُمْرِ، وَأَمُدُّ لَهُمْ فِي أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَرْبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ لِلْبَشَرِ كَيْدًا لَهُمْ وَمَكْرًا بِهِمْ لَا حُبًّا فِيهِمْ وَنَصْرًا لَهُمْ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (23: 54 - 56) وَإِنْ تَسْأَلْ عَنْ كَيْدِي فَهُوَ قَوِيٌّ مَتِينٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ فَمَعْنَى هَذَا الْإِمْلَاءِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ قَدْ مَضَتْ بِأَلَّا يَكُونَ عِقَابُهُمْ بِمُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْخَلْقِ، فَالْمَخْذُولُ إِذَا بَغَى وَظَلَمَ وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ عَقِبَ ظُلْمِهِ يَزْدَادُ بَغْيًا وَظُلْمًا، وَلَا يَحْسِبُ لِلْعَوَاقِبِ حِسَابًا، فَيَسْتَرْسِلُ فِي ظُلْمِهِ إِلَى أَنْ تَحِيقَ بِهِ عَاقِبَةُ ذَلِكَ، بِأَخْذِ الْحُكَّامِ لَهُ أَوْ بِتَوَرُّطِهِ فِي مَهْلَكَةٍ أُخْرَى، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. وَقَدْ نَقَلْنَا فِي أَوَائِلِ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ عَذَابَ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا

184

مُطَّرِدٌ، وَأَمَّا عَذَابُ الْأَفْرَادِ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَيُرْجَأُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَحَقَّقْنَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ عِقَابَ الْأُمَمِ وَبَعْضَ عِقَابِ الْأَفْرَادِ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، فَالْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ الْبَاغِيَةُ الظَّالِمَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَزُولَ سُلْطَانُهَا وَتَدُولَ دَوْلَتُهَا، وَالسِّكِّيرُ وَالزَّنَّاءُ لَا يَسْلَمَانِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَّبَهَا السُّكْرُ وَالزِّنَا، وَالْمُقَامِرُ قَلَّمَا يَمُوتُ إِلَّا فَقِيرًا مُعْدَمًا إِلَخْ. وَقَدْ سَرَدْنَا الشَّوَاهِدَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى عَلَى عِقَابِ الْأُمَمِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدَّقَتْهَا شَوَاهِدُ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَسَتُصَدِّقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا كَانَتِ الْحَرْبُ الْأَخِيرَةُ الْعُظْمَى إِلَّا بَعْضَ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى لِلَّذِينِ صُلُوا نَارَهَا بِبَغْيِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَسَيَرَوْنَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ غَيِّهِمْ. بَعْدَ هَذَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْ أَكْبَرِ شُبْهَةٍ لَهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الْجِنَّةُ بِالْكَسْرِ النَّوْعُ الْخَاصُّ مِنَ الْجُنُونِ، فَهُوَ اسْمُ هَيْئَةٍ، وَاسْمٌ لِلْجِنِّ أَيْضًا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَسِّ جِنَّةٍ - وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِ رُسُلِهِ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِالْجُنُونِ فَقَالُوا بَعْدَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (23: 25) وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ عَنْهُمْ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (54: 9) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللهُ - فِي مُوسَى صَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (26: 27) وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (51: 39) ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ فِي رُسُلِهِمْ فَقَالَ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (51: 52، 53) . وَفِي مَعْنَى آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عِدَّةُ آيَاتٍ (مِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (23: 68 - 70) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَافْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (34: 7، 8) ثُمَّ قَالَ فِيهَا: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكُّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (34: 46) وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

(15: 6، 7) وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (37: 36) وَفِي سُورَةِ الطُّورِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (52: 29) وَمِثْلُهُ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (68: 1، 2) وَفِي آخِرِهَا: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (68: 51، 52) وَفِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ بَعْدَ وَصْفِ مَلَكِ الْوَحْيِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (81: 22) . رَوَى أَبْنَاءُ حُمَيْدٍ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا: " أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا فَخِذًا فَخِذًا: يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللهِ وَوَقَائِعَ اللهِ إِلَى الصَّبَاحِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ بَاتَ يُهَوِّنُ (أَيْ يَصِيحُ) حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ. قَدْ عَلِمْنَا بِمَا سَبَقَ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَرْمُونَ رُسُلَهُمْ بِالْجُنُونِ ; لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِرِسَالَتِهِ وَوَحْيِهِ عَلَى كَوْنِهِمْ بَشَرًا كَغَيْرِهِمْ لَا يَمْتَازُونَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِمَا يَفُوقُ أُفُقَ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ نَشْأَتِهِمْ وَمَعِيشَتِهِمْ ; وَلِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا مَا لَا يُعْهَدُ لَهُ عِنْدَهُمْ نَظِيرٌ، وَلَيْسَ مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالتَّفْكِيرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبِلَى خَلْقًا جَدِيدًا ; وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ النَّاسَ مُخْطِئُونَ وَهُوَ الْمُصِيبُ، وَضَالُّونَ وَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَخَاسِرُونَ وَهُوَ الْمُفْلِحُ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْهُمْ - ; وَلِأَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَأَنْكَرُوا أَنَّهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالنُّذُورِ لَهَا تُقَرِّبُ الْمُتَوَسِّلِينَ بِهَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، وَتَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَثْبَتُوا أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، مَنْ رَضِيَ لَهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ فَلَا اسْتِقْلَالَ لِهَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ - وَشَرَّعُوا أَنَّهُ لَا يُدْعَى مَعَ اللهِ أَحَدٌ مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ، وَلَا صَالِحٍ عَظِيمٍ، فَضْلًا عَنْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمُ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الْمُشْرِفَةِ بِرُفَاتِهِمْ مَعَ أَنَّ الْمُذْنِبَ الْعَاصِيَ لَا يَلِيقُ بِهِ فِي رَأْيِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا وَسِيلَةٍ لِتَدَنُّسِهِ بِالذُّنُوبِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُقِرُّبُهُ إِلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ الطَّاهِرِينَ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُلُوكَ الْعِظَامَ فِي الدُّنْيَا لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِ وُزَرَائِهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الشِّرْكِيَّةَ لَا تَزَالُ مُتَسَلْسِلَةً فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ خَالَفُوا نُصُوصَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَسُنَّةَ الرُّسُلِ، إِلَى أَعْمَالِ الْوَثَنِيِّينَ، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي تَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، بِالْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ الْمُسْتَبِدِّينَ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثَالِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي حَالِهِ مِنْ أَوَّلِ

نَشْأَتِهِ، وَفِي حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، وَدَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأَهُمْ وَحِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ - فَإِنَّ حَذْفَ مَعْمُولِ التَّفَكُّرِ يُؤْذِنُ بِعُمُومِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا ; فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَفَكُّرٍ وَتَأَمُّلٍ إِنَّهُمْ إِنْ تَفَكَّرُوا أَوْشَكَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ، وَمَا الْحَقُّ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَهِيَ نَافِيَةٌ لِمَا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَقَوْلِهِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَمِثْلِهَا آيَةُ سَبَأٍ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ; وَلِذَلِكَ خُتِمَتَا بِنَفْيِ كُلِّ صِفَةٍ عَنْهُ فِي مَوْضُوعِ رِسَالَتِهِ إِلَّا كَوْنَهُ مُنْذِرًا مُبَلِّغًا عَنْ رَبِّهِ، فَقَالَ هُنَا: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، أَيْ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، لَيْسَ إِلَّا مُنْذِرًا نَاصِحًا، وَمُبَلِّغًا عَنِ اللهِ مُبَيِّنًا، يُنْذِرُكُمْ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا لَمْ تَسْتَجِيبُوا لَهُ، وَقَدْ دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ كَلِمَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَفْرَادِكُمْ وَمُجْتَمَعِكُمْ، وَالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ. وَقَالَ هُنَالِكَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (34: 46) . وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفِي آيَةِ التَّكْوِيرِ بِالصَّاحِبِ لَهُمْ ; لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَفَكَّرُوا حَقَّ التَّفَكُّرِ فِي سِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْقُولَةِ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّذُوذَ وَمُجَافَاةَ الْمَعْقُولِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ، وَلَا مِمَّا عُهِدَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ كَمَا قَالَ بَعْضُ زُعَمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الزُّعَمَاءِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا شُبْهَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرُّسُلِ بِكَوْنِهِمْ بَشَرًا مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا كَذَلِكَ شُبْهَاتُهُمْ عَلَى الْبَعْثِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَلَوْ تَفَكَّرَ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي نَشْأَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَمَا جَرَّبُوا مِنْ أَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ مِنْ صَبْوَتِهِ إِلَى أَنِ اكْتَهَلَ، ثُمَّ تَفَكَّرُوا فِيمَا قَامَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْ كَوْنِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ تَقْتَضِي تَنَزُّهَهُ عَنِ الْعَبَثِ (وَمِنْهُ) أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْإِنْسَانُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَاقِلُ الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَاضٍ وَحَاضِرٍ وَآتٍ، وَيَنْتَهِي وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ ثُمَّ لَوْ تَفَكَّرُوا فِي سُوءِ حَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ (كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ) وَالْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَمَا

185

دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِهَا كُلِّهَا، لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ الدِّينِيَّ وَالْأَدَبِيَّ وَالِاجْتِمَاعِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ لَا يُثْمِرُ إِلَّا السِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهُ جُنُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ، بَلْ إِذَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ الْعَالِي وَالْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ مِنْ رَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَلَاغَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ مِنْ كَسْبِ مُحَمَّدٍ الَّذِي بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَنْظِمْ قَصِيدَةً، وَلَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ الْبَالِغَةَ عَلَى كُلِّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ، لَا يَتَأَتَّى أَنْ تَأْتِيَ فَجْأَةً مِنْ ذِي عُزْلَةٍ لَمْ يُنَاظِرْ وَلَمْ يُفَاخِرْ وَلَمْ يُجَادِلْ أَحَدًا فِيمَا مَضَى مَنْ عُمْرِهِ كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - فَإِذَا تَفَكَّرُوا فِي هَذَا كُلِّهِ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَلْقَاهُ فِي رَوْعِهِ، وَنَزَلَ مِنْ لَدُنْهُ عَلَى رُوحِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ اسْتِبْعَادَهُمْ لِذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، فَاللهُ تَعَالَى الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ; لِهَذَا حَثَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ بَعْدَهَا كَوْنَهُ نَذِيرًا مُبِينًا، وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَاهُمْ بَعْدَ هَذَا إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ (فَعَلُوتَ) وَالْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي إِمْكَانِهِ، وَلَا فِي حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَصْدَرِهِ وَمِمَّ وُجِدَ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمٍ مَحْضٍ ; لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ فَرْضِيٌّ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ وُجُودٌ، وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ قَدْ أَوْجَدَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَهَذَا بَدِيهِيٌّ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ وُجُودِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَهُوَ اللهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا النِّظَامَ الْعَامَّ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، وَتَدْبِيرَهُ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ عَلِيمٍ وَاحِدٍ، وَحِكْمَةِ حَكِيمٍ وَاحِدٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (52: 35، 36) . وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ الْمَشْهُورَ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى جَعَلُوا تَحْكِيمَهُ فِي تَنَازُعِهِمْ عَلَى رَفْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ هُوَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ - وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي مَجْمُوعِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَ بِجُمْلَتِهِ، وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ دَقَّ وَصَغُرَ، وَخَفِيَ وَاسْتَتَرَ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، تَدُلُّ عَلَى

ذَلِكَ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبِتَرْجِيحِ كُلِّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ، وَبِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ، فَكَيْفَ بِالْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْبَدِيعِ الَّذِي قَامَ هُوَ بِهِ؟ أَكَذَّبُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ، وَلَا فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلَا فِيمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الشَّأْنُ مِنَ اقْتِرَابِ أَجَلِهِمْ، وَقُدُومِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِسُوءِ عَمَلِهِمْ، فَأَجَلُ الْأَفْرَادِ مَهْمَا يَطُلْ فَهُوَ قَصِيرٌ، وَمَهْمَا يَبْعُدُ أَمَلُهُمْ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِّ الْوَاقِعِ قَرِيبٌ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي الْمَلَكُوتِ أَوْ فِي شَيْءٍ مَا مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، لَاهْتَدَوْا بِدَلَائِلِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي تَوَقُّعِ قُرْبِ أَجَلِهِمْ لَاحْتَاطُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّوِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوا إِنْذَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ ; لِأَنَّ خَيْرِيَّتَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَهَا، وَأَمَّا خَيْرِيَّتُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ أَعْظَمُ إِذَا صَدُقَ مَا يُقَرِّرُهُ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، وَإِنْ صَحَّ إِنْكَارُهُمْ لَهُ - وَمَا هُوَ بِصَحِيحٍ - فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُبْعَثُ الْأَمْوَاتُ، قُلْتُ: إِلَيْكُمَا إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا فَالْمَجْنُونُ إِذًا مَنْ يَتْرُكُ مَا فِيهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا بِاعْتِرَافِهِ، وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَلَوْ عَلَى احْتِمَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَخَلُّفِهِ، لَا مَنْ يَدْعُو إِلَى السَّعَادَتَيْنِ، أَوْ إِلَى شَيْئَيْنِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَافِعٌ قَطْعًا وَالْآخِرَ إِمَّا نَافِعٌ وَإِمَّا غَيْرُ ضَارٍّ. هَذَا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ صَاحِبُهُمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ مُؤَيَّدًا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَيَعْلَمُونَ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِنَصِّهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ، الْآيَةِ رَقْمِ " 50 " الَّتِي أُقِيمَتْ فِيهَا الدَّلَائِلُ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَتَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ تَقْرِيرِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ (45) بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، قَوْلُهُ: تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَالْحَدِيثُ فِي الْجَمِيعِ كَلَامُ اللهِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (7: 184) وَفِي آيَةِ الْمُرْسَلَاتِ الْقَرِينَةُ فِي تَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَفِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَآيَاتِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بَعْدَهَا يُؤْمِنُونَ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَذِيرٌ مُبِينٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَنْذَرَ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيِ الْقُرْآنِ. كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (6: 19)

186

وَهُوَ أَكْمَلُ كُتُبِ اللهِ بَيَانًا، وَأَقْوَاهَا بُرْهَانًا، وَأَقْهَرُهَا سُلْطَانًا، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِهِ بِغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ ظَمَأَهُ الْمَاءُ النُّقَاخُ الْمُبَرَّدُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْوِيهِ؟ وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فِي نُورِ النَّهَارِ فَفِي أَيِّ نُورٍ يُبْصِرُ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُقَرِّرٌ لِجُمْلَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْمُرَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لَا لِلْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لَهُ أَكْمَلَ الرُّسُلِ، وَأَقْوَاهُمْ بُرْهَانًا فِي حَالِهِ وَعَقْلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَكَوْنِهِ أُمِّيًّا - فَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِهَذَا الْكِتَابِ، عَلَى ظُهُورِ آيَاتِهِ وَقُوَّةِ بَيِّنَاتِهِ، وَبِهَذَا الرَّسُولِ الْمُتَحَدَّى بِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ، أَيْ قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا رَاسِخًا فِي الضَّلَالِ، وَإِذَا كَانَ ضَلَالُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ وَلَا تَبْدِيلِهَا. وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَتْرُكُ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، كَالشَّيْءِ اللَّقَا الَّذِي لَا يُبَالَى بِهِ، حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ أَيْ يَتَرَدَّدُونَ تَرَدُّدَ الْحَيْرَةِ وَالْغُمَّةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهُوَ الطُّغْيَانُ، أَيْ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْعَمَهِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْحَيْرَةِ وَالِارْتِكَاسِ فِي الْغُمَّةِ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ أَوَّلًا لَفْظُ مَنْ " يُضْلِلِ " وَفِي جَمْعِهِ آخِرًا مَعْنَاهَا وَهُوَ الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ إِسْنَادَ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ إِجْبَارًا، وَأَعْجَزَهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ ضَلَالُهُمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَارَسُوا الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ، وَأَسْرَفُوا فِيهِمَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْعَمَهِ فِي الطُّغْيَانِ، فَفَقَدُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَا يُضَادُّهَا مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " يَذَرْهُمْ " بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، فَقِيلَ: هُوَ لِلتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: لِلْإِعْرَابِ بِالْعَطْفِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِـ " النُّونِ " عَلَى الِالْتِفَاتِ. (تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ) مِنْ تَحْقِيقِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَاتِ كَلِمَتَا التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ عُبِّرَ هُنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوْضُوعِ اسْتِبَانَةِ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ غُوَاتِهِمْ، وَبِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْمَلَكُوتِ وَجُزْئِيَّاتِهِ فِي مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ، وَيَتَجَلَّى تَفْسِيرُ الْآيَتَيْنِ:

الْفِكْرُ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعَانِي وَتَدَبُّرِهَا، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ فَكَّرَ يُفَكِّرُ فِكْرًا (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) وَفَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَتَفَكَّرَ، وَمِثْلُهُ الْفِكْرَةُ وَالْفِكْرَى. وَفَسَّرُوهُ أَيْضًا بِإِعْمَالِ الْخَاطِرِ وَإِجَالَتِهِ فِي الْأُمُورِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِكْرَةُ مَطْرَقَةٌ لِلْعِلْمِ إِلَى الْمَعْلُومِ - وَالتَّفَكُّرُ جَوَلَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ بِحَسَبِ نَظَرِ الْعَقْلِ. . . وَلَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ " تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ " إِذْ كَانَ مُنَزَّهًا أَنْ يُوصَفَ بِصُورَةٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ أَنَّ الْفِكْرَ مَقْلُوبٌ عَنِ الْفَرْكِ لَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ فَرْكُ الْأُمُورِ وَبَحْثُهَا طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهَا اهـ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ: الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَجْهُولٍ تَصَوُّرِيٍّ أَوْ تَصْدِيقِيٍّ، وَهُوَ يُنَافِي الْحُكْمَ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِيهَا بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لِلتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ أَوْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي مَبَادِئُهَا حِسِّيَّاتٌ، فَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُمَيَّزُ الْأَقْوَالُ، وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تُنْتَقَدُ الْأَفْعَالُ، وَيُفَكِّرُ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُفَكِّرُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَيُفَكِّرُ أَيْضًا فِي الْمُبْصَرَاتِ كَالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ التَّنْزِيلُ فِي آيَاتِ اللهِ وَدَلَائِل وَجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَأَمَّا النَّظَرُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ تَقْلِيبُ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَرُؤْيَتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ وَالْفَحْصُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْفَحْصِ وَهُوَ الرَّوِيَّةُ، يُقَالُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، أَيْ لَمْ تَتَأَمَّلْ وَلَمْ تَتَرَوَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (10: 101) أَيْ تَأَمَّلُوا. وَاسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْبَصَرِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي الْبَصِيرَةِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ. اهـ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنَاطِقَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَخَصُّ مِنَ الْآخَرِ؟ وَلَهُمْ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُهُ اصْطِلَاحِيٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ. وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ مَبْدَأٌ مِنْ مَبَادِئِ الْفِكْرِ وَالتَّفْكِيرِ، كَمَا أَنَّ مُبْتَدَأَهُ هُوَ النَّظَرُ الْحِسِّيُّ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (88: 17) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا (50: 6) ؟ إِلَخْ. وَمِنْهُ النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْأُمَمِ بِرُؤْيَةِ آثَارِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ مَعْرُوفَةٌ فَلَا نُطِيلُ فِي سَرْدِهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْمَبْدَأِ الْحِسِّيِّ، وَهُوَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَبْدَأِ الْفِكْرِيِّ وَهُوَ اقْتِرَابُ الْأَجَلِ، وَهُمَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا يَدُلَّانِ

187

عَلَى بِنَاءِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى قَاعِدَتَيِ: النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالتَّفَكُّرِ، اللَّذَيْنِ يَمْتَازُ بِهِمَا الْأَفْرَادُ وَالْأُمَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهَا إِرْشَادٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا أَجْلُ جَمِيعِ النَّاسِ، فِي أَثَرِ الْإِرْشَادِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي اقْتِرَابِ أَجَلِ مَنْ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَعَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُمْ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا كَلَامٌ فِي السَّاعَةِ الْعَامَّةِ، وَبَعْدَ الْكَلَامِ فِي السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ. قَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا السَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ جُزْءٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَتُسَمَّى سَاعَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً (7: 34) وَفِي اصْطِلَاح الْفَلَكِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ 24 جُزْءًا مُتَسَاوِيَةً مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى سِتِّينَ دَقِيقَةً، وَالدَّقِيقَةُ إِلَى سِتِّينَ ثَانِيَةً، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ عُرْفًا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْحَضَرِيَّةِ يُضْبَطُ بِآلَةٍ تُسَمَّى السَّاعَةُ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ " يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً " يَعْنِي نَهَارَهَا. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْجَمِيعُ سَاعَاتٌ وَسَاعٌ، وَجَاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَبَعْدَ سَوَاعٍ. أَيْ بَعْدَ هَدْءٍ مِنْهُ - أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ. وَالسَّاعَةُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ (30: 55) يَعْنِي بِالسَّاعَةِ الْوَقْتَ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ أَنْ يُعَرِّفَ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ. فَإِنْ سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ سَاعَةً فَعَلَى هَذَا، وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اسْمٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي يُصْعَقُ فِيهِ الْعِبَادُ، وَالْوَقْتُ الَّذِي يُبْعَثُونَ فِيهِ وَتَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ سَاعَةً ; لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِنْدَ الصَّيْحَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (36: 29) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّهَا تُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَيَنِ، وَهُمَا

مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنَ السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ وَالسَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَالَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: يُقَالُ جَلَسْتُ عِنْدَكَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَيْ وَقْتًا قَلِيلًا مِنْهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِاسْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى السَّاعَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ - يُرِيدُ أَنَّهَا سَاعَةُ خَفِيفَةٌ يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَلِقِلَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ سَمَّاهَا سَاعَةً اهـ أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْقُرْآنِ مُنَكَّرَةً بِمَعْنَى السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَمُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ بِمَعْنَى السَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ سَاعَةُ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ، وَمَوْتِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (30: 55) وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالسَّاعَةِ. وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ - وَالتَّعْبِيرُ بِالسَّاعَةِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَيَضْطَرِبُ نِظَامُهُ وَيَخْرَبُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالسَّاعَةُ هِيَ الْمَبْدَأُ، وَالْقِيَامَةُ هِيَ الْغَايَةُ، فَفِي الْأُولَى الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. وَبَعْضُ التَّعْبِيرَاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ حُلُولُهُ مَحَلَّ الْآخَرِ فِي الْغَالِبِ، وَفِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَبْدَأَ وَالْغَايَةَ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَاتِ عَلَى الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى لِكُلِّ فَرْدٍ وَهِيَ سَاعَةُ مَوْتِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْقِيَامَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ هَلَاكُ الْجِيلِ أَوِ الْقَرْنِ، وَفَسَّرُوا بِهِ حَدِيثَ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّاعَةِ هُنَا سَاعَةُ زَوَالِ الدَّوْلَةِ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شُئُونِهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ " إِنَّ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهِرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ " وَمِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِإِضَافَةِ السَّاعَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الدَّاوُودِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي - ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ - لَارْتَابُوا، فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ ; لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (16: 1) وَقَوْلِهِ:

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (16: 77) حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى مُضِيِّ قَرْنٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ " فَجَوَّزَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ - وَذُكِرَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الدَّاوُودِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ السَّاعَةِ فِيهِ بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (6: 31) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6: 40) ؟ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ. وَحَيْثُ يُذْكَرُ قِيَامُ السَّاعَةِ كَآيَاتِ سُورَةِ الرُّومِ الثَّلَاثِ (12 و14 و55) وَآيَةِ سُورَةِ غَافِرٍ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (40: 46) فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ غَايَتُهَا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ - وَحَيْثُ يُذْكَرُ التَّكْذِيبُ بِهَا أَوِ الْمُمَارَاةُ فِيهَا، فَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ وَأَوْعَدَ مِنْ أَمْرِ مُبْئِسِهَا وَغَايَتِهَا. وَحَيْثُ يُذْكَرُ اقْتِرَابُ السَّاعَةِ أَوْ مَجِيئُهَا وَإِثْبَاتُهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُرِنَ بِبَغْتَةٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مَبْدَأُ الْقِيَامَةِ وَخَرَابُ الْعَالَمِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السُّؤَالُ عَنْهَا فَإِنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ عَنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْمُنْتَظَرِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهُ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّانَ مُرْسَاهَا مَعْنَاهُ يَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَنِ السَّاعَةِ قَائِلِينَ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ أَيْ مَتَى إِرْسَاؤُهَا وَحُصُولُهَا وَاسْتِقْرَارُهَا - أَوْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ زَمَنِ مَجِيئِهَا وَثُبُوتِهَا بِالْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ. . . فَأَيَّانَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَمُرْسَاهَا، مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ إِرْسَاؤُهَا، يُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو: ثَبَتَ، وَأَرْسَاهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ إِرْسَاءُ السَّفِينَةِ وَإِيقَافُهَا بِالْمِرْسَاةِ الَّتِي تُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَتَمْنَعُهَا مِنَ الْجَرَيَانِ، قَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (11: 41) وَقَالَ: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (79: 32) . وَفِي السُّؤَالِ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا بِحَرْفِ الْإِرْسَاءِ الدَّالِّ عَلَى اسْتِقْرَارِ مَا شَأْنُهُ الْحَرَكَةُ وَالْجَرَيَانُ أَوِ الْمَيَدَانُ وَالِاضْطِرَابُ - نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ. وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ أَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَانْقِضَاءِ عُمْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تَدُورُ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، فَعَبَّرَ بِإِرْسَائِهَا عَنْ مُنْتَهَى أَمْرِهَا وَوُقُوفِ سَيْرِهَا، وَالسَّاعَةُ زَمَنٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ، لَا جِسْمٌ سَائِرٌ أَوْ مُسَيَّرٌ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ فَهُوَ حَرَكَةُ اضْطِرَابٍ وَزِلْزَالٍ، لَا رُسُوٌّ وَلَا إِرْسَاءٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا حَاصِلٌ، وَمُتَوَقَّعٌ لَا وَاقِعٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (52: 7، 8) مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ حَتْمًا ; وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِهِ بَيَانَ مَا يَقَعُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ

(152: 9 - 11) فَلَمْ يَبْقَ لِإِرْسَائِهَا مَعْنًى إِلَّا إِرْسَاءَ حَرَكَةِ هَذَا الْعَالَمِ فِيهَا، وَإِنَّهُ لَتَعْبِيرٌ بَلِيغٌ، لَمْ يُعْهَدْ لَهُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ نَظِيرٌ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ لِهَذَا. وَذِكْرُ السَّاعَةِ أَوَّلًا، وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا ثَانِيًا عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ. قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِلِينَ هُنَا الْيَهُودُ، سَأَلُوهُ عَنْهَا امْتِحَانًا. قَالُوا: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّنُ لَهَا زَمَنًا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ. وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَصِيغَةُ " يَسْأَلُونَكَ " الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ الْبَعِيدُ، وَفِي آيَةِ الْأَحْزَابِ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (33: 63) وَهَذِهِ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ تَرْجِيحِ كَوْنِ السَّائِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا، وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (10: 48) وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (42: 18) وَقَوْلُهُ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنْتَهَاهَا. أَيْ مَتَى مَحَطُّهَا، وَأَيَّانَ آخِرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ اهـ. قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي قُلْ أَيُّهَا النَّذِيرُ: إِنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ عِنْدَ رَبِّي وَحْدَهُ، لَيْسَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ مِنْهُ - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ " إِنَّمَا " مِنَ الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاتِحَ الْغَيْبِ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ (31: 34) أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَاهُ - وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا (41: 47) الْآيَةَ. أَيْ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَأَشْبَهُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِئْثَارِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَةِ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ آيَتَانِ: آيَةُ الْأَحْزَابِ (33: 63) وَذَكَرْنَاهَا آنِفًا - وَآيَةُ أَوَاخِرِ النَّازِعَاتِ وَمَا بَعْدَهَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (79: 42 - 46) أَيْ إِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ مِنْ دُونِكِ، وَدُونِ سَائِرِ خَلْقِهِ مُنْتَهَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّذِي يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهَا، وَيَسْتَعِدُّونَ لَهَا لَا تَعْدُو وَظِيفَتُهُ الْإِنْذَارَ وَالتَّعْلِيمَ وَالْإِرْشَادَ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ كَآيَةِ الْأَعْرَافِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، فَالسُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ إِرْسَاؤُهَا وَمُنْتَهَى أَمْرِهَا، وَالْجَوَابُ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ رَسُولِهِ، فَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى رَبِّكِ مُنْتَهَاهَا هُوَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَ بِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ، لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ رَبَّاهُ لِيَكُونَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا

لَا لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ بِأَعْيَانِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُنَاطُ بِالْإِعْلَامِ بِالسَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَالنَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَلَا تَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِبْهَامِ وَقْتِهَا ; لِيَخْشَى أَهْلُ كُلِّ زَمَنٍ إِتْيَانَهَا فِيهِ، وَالْإِعْلَامُ بِوَقْتِ إِتْيَانِهَا وَتَحْدِيدِ تَارِيخِهَا يُنَافِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَلْ فِيهِ مَفَاسِدٌ أُخْرَى، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي بَعْدَ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا، مَثَلًا - وَأَلْفَا سَنَةٍ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ وَآلَافُ السِّنِينَ تُعَدُّ أَجَلًا قَرِيبًا - لَرَأَى الْمُكَذِّبِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَيُلِحُّونَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَالْمُرْتَابِينَ يَزْدَادُونَ ارْتِيَابًا، حَتَّى إِذَا مَا قَرُبَ الْأَجَلُ وَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِي رُعْبٍ عَظِيمٍ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ، وَيُوقِعُ الشَّلَلَ فِي أَعْضَائِهِمْ، وَالتَّشَنُّجَ فِي أَعْصَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعُونَ عَمَلًا وَلَا يَسِيغُونَ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ وَمَا يَمْلِكُهُ، مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْكَافِرُونَ آمِنِينَ، يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي أُورُبَّةَ أَنْ أَخْبَرَ بَعْضُ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ كَانَ يُقَلِّدُهُمُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ فِي سَنَةِ كَذَا، فَهُلِعَتِ الْقُلُوبُ، وَاخْتَلَّتِ الْأَعْمَالُ، وَأُهْمِلَ أَمْرُ الْعِيَالِ، وَوَقَفَ الْمُصَدِّقُونَ مَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْأَدْيَارِ، وَلَمْ تَهْدَأِ الْأَنْفُسُ، وَيَثُبْ إِلَيْهَا رُشْدُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ كَذِبِ النَّبَأِ بِمَجِيءِ أَجَلِهِ دُونَ وُقُوعِهِ، فَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ إِذًا فِي إِبْهَامِ أَمْرِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِ، وَكَذَا السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِأَفْرَادِ النَّاسِ، أَوْ بِالْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي إِيضَاحِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حَصْرِ أَمْرِهَا فِي عِلْمِهِ:. لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ هَذَا جَوَابٌ عَنْ طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ إِرْسَاؤُهَا فِيهِ، يُقَالُ: جَلَا لِي الْأَمْرُ وَانْجَلَى، وَجَلَّاهُ فَلَانٌ تَجْلِيَةً بِمَعْنَى: كَشَفَهُ وَأَظْهَرَهُ أَتَمَّ الْإِظْهَارِ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَقْتِهَا تُسَمَّى لَامُ التَّوْقِيتِ كَقَوْلِهِمْ: وَكُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ لِغُرَّةِ الْمُحَرَّمِ أَوْ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ أَوْ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُكْشَفُ حِجَابُ الْخَفَاءِ عَنْهَا، وَلَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَّا هُوَ، فَلَا وَسَاطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي إِظْهَارِهَا، وَلَا الْإِعْلَامِ بِمِيقَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْإِنْذَارِ بِهَا. وَقَفَّى عَلَى هَذَا الْإِيئَاسِ مِنْ عِلْمِ أَمْرِهَا، وَالْإِنْبَاءِ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَسِرِّ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: ثَقُلَ وَقْعُهَا وَعَظُمَ أَمْرُهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى نَبَّأَهُمْ بِأَهْوَالِهَا، وَلَمْ يُشْعِرْهُمْ بِمِيقَاتِهَا، فَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَفْجَؤُهُمْ وُقُوعُهُ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَالَ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَفِيَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ تَفْسِيرٌ لِثِقَلِهَا بِفَقْدِ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ ثَقِيلٌ عَلَى النَّفْسِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَظِيمًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ ثِقَلَهَا يَكُونُ يَوْمَ مَجِيئِهَا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ

(81: 1) وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (82: 1، 2) وَإِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا 56: 4 - 6 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ قِيَامِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ثِقَلِهَا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِكُلِّ رِوَايَةٍ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعٍ وَلَا انْتِظَارٍ، وَلَا إِشْعَارٍ وَلَا إِنْذَارٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي التَّنْزِيلِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ " وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يُسْقَى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا " وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَبْغُتُ النَّاسَ وَهُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي أُمُورِ مَعَايِشِهِمُ الْمُعْتَادَةِ. وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (22: 1، 2) . فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَنْ يَحْمِلَهُمُ الْخَوْفُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهِمْ فَيَلْتَزِمُوا فِيهَا الْحَقَّ، وَيَتَحَرَّوُا الْخَيْرَ، وَيَتَّقُوا الشَّرَّ وَالْمَعَاصِيَ، وَلَا يَجْعَلُوا حَظَّهُمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ الْجِدَالَ، وَالْقِيلَ وَالْقَالَ. وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ شَغَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ بِبَحْثٍ افْتَجَرَهُ بَعْضُ الْغُلَاةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْقَ طُولَ عُمْرِهِ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بَلْ أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بَلْ زَعَمَ أَنَّهُ أَطْلَعَهُ عَلَى كُلِّ مَا فِي عِلْمِهِ، فَصَارَ عِلْمُهُ كَعِلْمِ رَبِّهِ، أَيْ صَارَ نِدًّا وَشَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَمِنْ أَصُولِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالرَّسُولُ عَبْدُ اللهِ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لِأَدَاءِ وَظِيفَةِ التَّبْلِيغِ، وَسَتَزْدَادُ عِلْمًا بِبُطْلَانِ هَذَا الْغُلُوِّ خَاصَّةً فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَلَكِنَّ الْغُلَاةَ يَرَوْنَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمِهِ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ دُونَ صِفَاتِ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ وَخَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَكَذَّبُوا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَشَبَّهُوا بِهِ بَعْضَ عَبِيدِهِ إِرْضَاءً لِغُلُوِّهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْغُلُوِّ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ

تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَقْتِ السَّاعَةِ، بَعْدَ كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي إِخْفَائِهَا وَاسْتِئْثَارِهِ بِعِلْمِهِ، لَمَا أَكَّدَ كُلَّ هَذَا التَّأْكِيدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا إِلَخْ. يَسْأَلُونَكَ هَذَا السُّؤَالَ كَأَنَّكَ حَفِيُّ مُبَالِغٌ فِي سُؤَالِ رَبِّكَ عَنْهَا - أَوْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ - فَعَنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِـ " يَسْأَلُونَكَ "، وَجُمْلَةُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مُعْتَرِضَةٌ. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: أَحْفَى فِي السُّؤَالِ: أَلْحَفَ. . . وَهُوَ حَفِيٌّ عَنِ الْأَمْرِ: بَلِيغٌ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا وَقَالَ الْأَعْشَى: فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفِيٍّ عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا واسْتَحْفَيْتُهُ عَنْ كَذَا: اسْتَخْبَرْتُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ. وَتَحَفَّى بِي فُلَانٌ، وَحَفِيَ بِي حَفَاوَةً، إِذَا تَلَطَّفَ بِكَ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِكَ اهـ. أَقُولُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (19: 47) . وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا يَقُولُ: كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سَأَلَ النَّاسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ، اسْتَأْثَرَ بِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا رَسُولًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فَأَشِرْ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ، هَذَا قَوْلٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قَالَ: اسْتَحْفَيْتُ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتُ وَقْتَهَا. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا يَقُولُ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، لَسْتَ تَعْلَمُهَا، قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، وَقَدْ أَخْفَى الله عِلْمَهَا عَنْ خَلْقِهِ. وَقَرَأَ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (31: 34) الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ هَذَا تَكْرَارٌ لِلْجَوَابِ فِي إِثْرِ تَكْرَارِ السُّؤَالِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ وَالْإِيئَاسِ مِنَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ مَجِيئِهَا، وَتَخْطِئَةِ مَنْ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا اسْمُ الْجَلَالَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ لِذَاتِهِ، كَمَا أَشْعَرَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ شُئُونِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى خَلْقِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اخْتِصَاصَ عِلْمِهَا بِهِ تَعَالَى وَلَا حِكْمَةَ ذَلِكَ، وَلَا أَدَبَ السُّؤَالِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْقَلِيلُونَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ أَخْبَارِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَبِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالَّذِينِ حَضَرُوا تَمَثُّلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَةِ رَجُلٍ وَسُؤَالَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِيمَانِ

وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ ثُمَّ عَنِ السَّاعَةِ. وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ الْأَخِيرِ: " وَمَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " يَعْنِي أَنَّنَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَّا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ. (فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا وَمَا قِيلَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا) إِنَّ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ حَقٌّ مُقْتَبَسٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَآيَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَرِيبًا، وَمِثْلُهَا آيَةُ الشُّورَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (42: 17) وَفِي مَعْنَاهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (17: 51) وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ قُرْبِهِ بِـ " لَعَلَّ " و" عَسَى " مَا يُنَاسِبُ عَدَمَ إِطْلَاعِ اللهِ لِرَسُولِهِ عَلَى وَقْتِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قُرْبَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي مِقْدَارُهُ مِنْ مَبْدَئِهِ إِلَى غَايَتِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مُنَاسِبٌ لَهُ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مَنْ عُمْرِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ مِنْهُ - فَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، وَالْمُرَادُ قُرْبُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ - مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ يَبُثُّهَا زَنَادِقَةُ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ فِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَوَوْهُ مَرْفُوعًا، وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَا مَنْ لَا يَنْظُرُونَ فِي نَقْدِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَسَانِيدِهَا، حَتَّى اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلِلْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي هَذَا رِسَالَةٌ فِي ذَلِكَ قَدْ هَدَمَهَا عَلَيْهِ الزَّمَانُ، كَمَا هَدَمَ أَمْثَالَهَا مِنَ التَّخَرُّصَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا بُثَّ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ. قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: " وَإِنَّمَا أَخْفَى سُبْحَانَهُ أَمْرَ السَّاعَةِ لِاقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا أَنَّ إِخْفَاءَ الْأَجَلِ الْخَاصِّ لِلْإِنْسَانِ كَذَلِكَ. وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ التَّكْوِينِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَبْعُدْ، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ قِيَامِهَا. نَعَمْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْبَهَا عَلَى الْإِجْمَالِ، وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ " وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَيْضًا: إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيمَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَاءَ فِي غَيْرِ مَا أُثِرَ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثَ فِي أَوَاخِرِ الْأَلِفِ السَّادِسَةِ، وَمُعْظَمُ الْمِلَّةِ فِي الْأَلْفِ السَّابِعَةِ. " وَأَخْرَجَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ

مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ وَآثَارٍ ذَكَرَهَا فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ (بِالْكَشْفِ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ) وَسَمَّى بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ هَذِهِ الْأَلْفَ الثَّانِيَةِ بِالْمُخَضْرَمَةِ; لِأَنَّ نِصْفَهَا دُنْيَا، وَنِصْفَهَا الْآخَرَ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا يَنْهَدِمُ جَمِيعُ مَا بَنَاهُ فِيهَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَأَنِّي بِكَ تَرَاهُ مُنْهَدِمًا " اهـ. أَقُولُ: نَقَلْتُ هَذَا; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرْجِعُونَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْرِفَ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَتِ الْمِائَةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُؤَلَّفُهُ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا وَهِيَ الْمِائَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ مَضَى زُهَاءَ نِصْفِ الْمِائَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، إِذْ نَكْتُبُ هَذَا الْبَحْثَ فِي سَنَةِ 1345 وَلَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ، فَانْهَدَمَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَا بَنَاهُ السُّيُوطِيُّ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنَ الْأَوْهَامِ الَّتِي جَمَعَهَا كَحَاطِبِ لَيْلٍ، وَنَحْنُ نُورِدُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ " مِنْ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، ثُمَّ نُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ. بَدَأَ الْحَافِظُ شَرْحَهُ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ بِأَقْوَالِ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى التَّشْبِيهِ بِالْإِصْبَعَيْنِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ قُرْبُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى؟ أَمِ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الطُّولِ؟ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ؟ وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ آخَرُ فَهِيَ تَلِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (31: 34) وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ عِلْمَ قُرْبِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ وَقْتِ مَجِيئِهَا مُعَيَّنًا، وَقِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقِيَامَةِ شَيْءٌ، هِيَ الَّتِي تَلِينِي كَمَا تَلِي السَّبَّابَةُ الْوُسْطَى؟ . وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ السَّاعَةِ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ قَدْ وَرَدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (6: 59) لَا فِي السَّاعَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِآيَةِ آخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ (31: 34) إِلَخْ. فَعِبَارَتُهُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ وَأَثَابَهُ: " وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حَاوَلَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ كَنِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى، وَأَنَّ جُمْلَتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَخْبَارٍ لَا تَصِحُّ، وَذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي تَأْخِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ نِصْفَ يَوْمٍ، وَفَسَّرَهُ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ نِصْفُ سُبُعٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الطُّولِ. (قَالَ) :

وَقَدْ ظَهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ لِوُقُوعِ خِلَافِهِ، وَمُجَاوَزَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَمْ يَقَعْ خِلَافُهُ ". قُلْتُ: قَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُنْذُ عَهِدَ عِيَاضٌ إِلَى هَذَا الْحِينِ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قِيلَ: الْوُسْطَى تَزِيدُ عَلَى السَّبَّابَةِ نِصْفَ سُبُعِهَا، وَكَذَا الْبَاقِي مِنَ الدُّنْيَا مِنَ الْبَعْثَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَتَحَصَّلُ لَنَا نِصْفُ سُبُعِ أَمَدٍ مَجْهُولٍ؟ فَالصَّوَابُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: السَّابِقُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَقَدْ مَضَى سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَيَحْيَى هُوَ أَبُو طَالِبٍ الْقَاضِي الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرَ الْحَدِيثِ، وَشَيْخُهُ هُوَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ، وَفِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ، أَرَادَ أَنَّ الَّذِي مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ زَيَّفَهُمَا وَرَجَّحَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا مَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِلَّا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ حَكِيمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَا بَقِيَ لِأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَمِقْدَارِ مَا إِذَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشَّمْسُ عَلَى قُعَيْقِعَانٍ مُرْتَفِعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: مَا أَعْمَارُكمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا النَّهَارِ مِمَّا مَضَى مِنْهُ " وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَنَسٍ " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ " فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ قَالَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا كَبَقِيَّةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا وَفِيهِ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ " بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ " عَلَى مَا إِذَا صَلَّيْتَ فِي وَسَطٍ مِنْ وَقْتِهَا. قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَالصَّوَابُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. وَلَهُ مَحْمَلَانِ أَحَدُهمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ، وَلَا يُرَادُ حَقِيقَةُ

الْمِقْدَارِ فِيهِ، يَجْتَمِعُ مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا، وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُقَدَّمُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لِصِحَّتِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْرُ خُمْسِ النَّهَارِ تَقْرِيبًا، ثُمَّ أَيَّدَ الطَّبَرِيُّ كَلَامَهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُ: " وَاللهِ لَا تَعْجِزُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ " وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَقْفَهُ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِلَفْظِ " إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ، قِيلَ لِسَعْدٍ: كَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ " وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا انْقِطَاعًا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَنِصْفُ الْيَوْمِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ (22: 47) فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ تَوَافَقَتِ الْأَخْبَارُ، فَيَكُونُ الْمَاضِي إِلَى وَقْتِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ وَخَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَقَدْ أَوْرَدَ السُّهَيْلِيُّ كَلَامَ الطَّبَرِيِّ وَأَيَّدَهُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ، وَأَكَّدَ بِحَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ رَفْعَهُ " وَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ بُعِثْتُ فِي آخِرِهَا ". قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ زِمْلٍ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ عَبْدَ اللهِ وَبَعْضُهُمُ الضَّحَّاكَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَلْفَاظُهُ مَصْنُوعَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ نِصْفِ يَوْمٍ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ " إِنْ أَحْسَنَتْ أُمَّتِي فَبَقَاؤُهَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ - وَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ - وَإِنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يَوْمٍ " قَالَ: وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ مَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الْمَاضِي، بَلْ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ مَعَ التَّقْرِيبِ لِمَجِيئِهَا ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ زِمْلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسعُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ. قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَغَارِبَةِ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَيَنْقُصُ الْعَدَدُ عِنْدَهُمْ مِائَتَيْنِ وَعَشْرَةَ، فَإِنَّ السِّينَ عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَالصَّادَّ بِسِتِّينَ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَالسِّينُ عِنْدَهُمْ سِتُّونَ وَالصَّادُ تِسْعُونَ فَيَكُونُ الْمِقْدَارُ عِنْدَهُمْ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ مَضَتْ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الزَّجْرُ عَنْ عَدِّ أَبِي جَادٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ السُّهَيْلِيِّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ مَا نَصُّهُ: وَمِنَ الْبَاطِلِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي فِيهَا

عِشْرُونَ قَوْلًا وَأَزْيَدُ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعِلْمٍ، وَلَا يَصِلُ فِيهَا إِلَى فَهْمٍ، إِلَّا أَنِّي أَقُولُ - فَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ - أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ (ص وَحم فُصِّلَتْ) وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْلِيمِ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مَعَ تَشَوُّقِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ لَا إِنْكَارَ فِيهِ. " قُلْت: وَأَمَّا عَدُّ الْحُرُوفِ بِخُصُوصِهِ فَإِنَّمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ أَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ، واسَتَقْصَرُوا الْمُدَّةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ " الم " وَ " الر " فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ (المص وَطسم) وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: أَلْبَسْتَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا فَلْيُحْمَلْ عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ، وَلَا يُحْذَفُ الْمُكَرَّرُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا وَلَهُ سِرٌّ يَخُصُّهُ، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَى حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ أَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَلَوْ تَكَرَّرَتِ الْحُرُوفُ فِيهَا فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً، وَعَدَدُ حُرُوفِ الْجَمِيعِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا، وَهِيَ: الم سِتَّةٌ، حم سِتَّةٌ، الر خَمْسَةٌ، طسم اثْنَتَانِ، المص الر كهيعص طه طس يس ص ق ن. فَإِذَا حُذِفَ مَا كُرِّرَ مِنَ السُّورَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ: الم، وَخَمْسٌ مِنْ حم، وَأَرْبَعٌ مِنْ الر، وَوَاحِدَةٌ مِنْ طسم، بَقِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، عَدَدُ حُرُوفِهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، فَإِذَا حُسِبَ عَدَدُهَا بِالْجُمَّلِ الْمَغْرِبِيِّ بَلَغَتْ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَمَّا بِالْجُمَّلِ الْمَشْرِقِيِّ فَتَبْلُغُ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لِيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ إِلَّا لِأُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ السُّهَيْلِيُّ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ التَّخَالُفِ فِيهِ. " وَفِي الْجُمْلَةِ فَأَقْوَى مَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَعْمَرٌ فِي الْجَامِعِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (70: 4) قَالَ: " الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا يَوْمٌ، مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى "، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ حَدِيثَ " لَنْ تَعْجِزَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ " عَلَى حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَزَيَّفَهُ الطِّيبِيُّ فَأَصَابَ. وَأَمَّا زِيَادَةُ جَعْفَرٍ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ; لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْأَئِمَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ سَنَدُهُ بِذَلِكَ، فَالْعَجَبُ مِنَ السُّهَيْلِيِّ كَيْفَ سَكَتَ عَنْهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ اهـ. سِيَاقُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ كُلُّهُ.

يَقُولُ مُحَمَّدُ رَشِيدُ: أَمَّا زِيَادَةُ جَعْفَرٍ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْيَوْمِ وَنِصْفِ الْيَوْمِ فِي عُمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، جَمَعَ السُّيُوطِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ الْمَجْهُولِ الَّذِي حَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِوَضْعِهِ، وَمَزَجَهَا بِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ يُؤَيِّدُ مُرَادَهُ، فَكَأَنَّ رِسَالَتَهُ كُلَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْخَبَرَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ أَيِ الْمَكْذُوبَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ تَعَالَى مَا يَفْعَلُ الْغُرُورُ بِظَوَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى فِي أَنْفُسِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ كَالسُّيُوطِيِّ الَّذِي عُدَّ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ زَمِيلُهُ السَّخَاوِيُّ، وَكِلَاهُمَا مِنْ تَلَامِيذِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ هُنَا أَنَّ بَطَلَيِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَيَنْبُوعَيِ الْخُرَافَاتِ كَعْبَ الْأَحْبَارِ وَوَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ قَدْ بَثَّا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خُرَافَةَ تَحْدِيدِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ أَصْلُهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِهِمَا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ حَتَّى فِيمَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ، وَلَكِنَّهُ فِيهَا سَبْعَةُ آلَافٍ فَجَعَلَاهُ سِتَّةَ آلَافٍ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ كُلَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَوِ الْمَوْقُوفَةِ مِنْهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ مَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ، بَلْ يَذْكُرُونَهُ بِالْمُنَاسَبَاتِ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ غَالِبًا، وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَكْثَرُهُ عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقَلُّهُ بِلَفْظِ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَمِنْ هُنَا نُجْزِمُ بِأَنَّ مَوْقُوفَاتِ الصَّحَابَةِ الَّتِي لَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ لَا يَكُونُ لَهَا قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُونَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ قُرْبِ السَّاعَةِ بَعْدَ السُّيُوطِيِّ كَثِيرُونَ، وَلِبَعْضِهِمْ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ كَبَهْجَةِ النَّاظِرِينَ وَالْإِشَاعَةِ وَمِنْهُمُ الْعَلَّامَةُ السَّفَارِينِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَالسَّيِّدُ ابْنُ الْأَمِيرِ الْيَمَنِيُّ وَالسَّيِّدُ أَبُو الطَّيِّبِ صِدِّيقُ حَسَنِ خَانَ فِي كُتُبِهِ وَمِنْهَا كِتَابُ (الْإِذَاعَةِ لِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) وَكَانَ مُعَاصِرًا لِلسَّيِّدِ مَحْمُودِ الْآلُوسِيِّ صَاحِبِ تَفْسِيرِ (رُوحِ الْمَعَانِي) وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْأَمِيرِ وَعَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ الْأَمِيرِ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ وَمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ خُلَاصَةَ كَلَامِ السُّيُوطِيِّ وَرَدَّهُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَقَّ الْوَاقِعَ يُخَالِفُهُ - وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْآلُوسِيُّ بَعْدَهُ إِشَارَةً - وَهَاكَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ السَّيِّدُ أَبُو الطَّيِّبِ صِدِّيقُ حَسَنِ خَانَ الْمُعَاصِرُ لِلْآلُوسِيِّ فِي هَذَا عَقِبَ مَا نَقَلَهُ مِنْ تَعْقِيبِ الْحَافِظِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: (قُلْتُ) : لَمَّا تَقَارَبَ انْخِرَامُ الْقَرْنِ التَّاسِعِ ذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَمَعَهُ وَرَقَةٌ حَاصِلُ مَا فِيهَا الِاعْتِمَادُ عَلَى حَدِيثِ

أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ أَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ وَالدَّجَّالِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَسَائِرُ الْآيَاتِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بَاطِلٌ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا (الْكَشْفُ فِي مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ مُدَّةُ بَقَائِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ اعْتَمَدَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ فِي آخِرِ الْأَلْفِ السَّادِسِ، وَسَاقَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَدِلَّةِ ابْنِ جَرِيرٍ، بَلْ قَالَ وَصَحَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْأَصْلَ وَعَقَدَهُ بَابًا. انْتَهَى. قَالَ السَّيِّدُ الْأَمِيرُ (قُلْتُ) وَمَا كَانَ لِلسُّيُوطِيِّ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ تَعَقُّبَاتِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، بَلْ كَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا وَإِقْرَارُهَا أَوْ رَدُّهَا، فَإِنَّ تَرْكَهُ لَهَا يُوهِمُ النَّاظِرَ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ عَلَى تَصْحِيحِ ابْنِ جَرِيرٍ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْتُ. " ثُمَّ اسْتَنَدَ السُّيُوطِيُّ فِي جَزْمِهِ بِبَقَاءِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى آثَارٍ ذَكَرَهَا، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ " يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً " وَإِلَى أَنَّهُ يَلْبَثُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ ثُمَّ يُسْتَخْلَفُ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ يَبْقَى ثَلَاثَ سِنِينَ، وَإِلَى أَنَّهُ يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ إِرْسَالِ اللهِ رِيحًا تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِائَةَ سَنَةٍ لَا يَعْرِفُونَ دِينًا مِنَ الْأَدْيَانِ، وَإِلَى أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَإِلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ عِيسَى عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، فَهَذِهِ مِائَةُ سَنَةٍ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَنَحْنُ الْآنُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ وَيُضَافُ إِلَيْهِ مِائَتَانِ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فَيَكُونُ الْجَمِيعُ 1460 وَعَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ يَكُونُ مُنْتَهَى بَقَاءِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْأَلْفِ 1463 سَنَةً وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ أَعَاذَنَا اللهُ مَنْ فِتْنَتِهِ قَبْلَ انْخِرَامِ هَذِهِ الْمِائَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ الْمِائَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ انْتَهَى، وَقَدْ تُوَفِّيَ ابْنُ الْأَمِيرِ سَنَةَ 1182. قَالَ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ: " أَقُولُ: وَقَدْ مَضَى إِلَى الْآنِ عَلَى الْأَلْفِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ، وَلَمْ يَنْزِلْ عِيسَى وَلَمْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِسَابَ لَيْسَ صَحِيحْ. " ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ الْعَلَّامَةُ (قُلْتُ) : وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ فِي أُمَّتِي أَرْبَعِينَ انْتَهَى، هَكَذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْعَدَدُ بِشَيْءٍ لَا بِالْأَيَّامِ، وَلَا بِالشُّهُورِ، وَلَا بِالسِّنِينَ، فَلَوْ كَانَتْ سِنِينَ لَكَانَ ظُهُورُهُ مِنْ رَأْسِ سِتِّينَ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ

عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَاكِمِ تَعْيِينُ الْأَرْبَعِينَ بِلَيْلَةٍ، فَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَقَالَ " يَوْمٌ مِنْهَا كَالسَّنَةِ، وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ، وَيَوْمٌ كَالْجُمُعَةِ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ " وَعَلَى هَذَا يَكُونُ خُرُوجُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِيَتِمَّ نُزُولُ عِيسَى فِي رَأْسِهَا وَيَبْقَى عِيسَى مِنَ الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلِيفَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيَبْقَى النَّاسُ مِائَةً وَعِشْرِينَ بَعْدَ طُلُوعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمِائَةَ الَّتِي يَبْقَى النَّاسُ فِيهَا لَا يَعْرِفُونَ دِينًا هِيَ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ السُّيُوطِيِّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ، وَفِيهِ مَا عَرَفْتَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بِآثَارٍ عَنِ السَّلَفِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَلَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ. (ثُمَّ قَالَ) : وَإِذَا أَحَطْتَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا سُقْنَاهُ عَلِمْتَ بِأَنَّ الْقَوْلَ يَتَعَيَّنُ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا بِأَنَّهُ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ فَلَعَلَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ، وَقَدْ عُلِمَ تَغْيِيرُهُمْ لِمَا لَدَيْهِمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، هُمُ الْقَائِلُونَ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (2: 80) وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِكُلِّ أَلْفِ عَامٍ يَوْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودًا كَانُوا يَقُولُونَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (20: 80) . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (2: 81) انْتَهَى وَأَكْذَبَهُمُ اللهُ فِيمَا قَالُوهُ. وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي سُقْنَاهَا وَسَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ نَبَوِيٌّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا كَذَا، عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ الْقَاضِيَةَ بِأَنَّ مُدَّتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ مُعَارِضَةٌ لِمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (70: 4) قَالَا: هِيَ الدُّنْيَا أَوَّلُهَا إِلَى آخِرِهَا يَوْمٌ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. فَهَذِهِ الْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ بَعْثَتَهُ مِنْ آيِ قِيَامِ السَّاعَةِ. انْتَهَى كَلَامُ السَّيِّدِ الْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرِ رَحِمَهُ اللهُ. (قَالَ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ) : وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي بَهْجَةِ النَّاظِرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ السُّيُوطِيِّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ. انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْإِشَاعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ السُّيُوطِيِّ: الَّذِي فُهِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّ عِيسَى يَمْكُثُ. بَعْدَ الدَّجَّالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ الدَّجَّالِ، وَأَنَّ بَعْدَ عِيسَى يَتَوَلَّى أُمَرَاءٌ مِنْهُمُ الْقَحْطَانِيُّ يَتَوَلَّى إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلْيُفْرَضْ لِبَقِيَّتِهِمْ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ سَنَةً أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَمَرَّ أَنَّ الدَّجَّالَ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سِنِينَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ سَنَتَيْنِ; لِأَنَّ أَيَّامَهُ طِوَالٌ، وَأَنَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا يَمْكُثُ النَّاسُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الشِّرَارَ بَعْدَ الْخِيَارِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَتَّعُونَ بَعْدَ طُلُوعِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُسْرِعُ فِيهِمُ الْمَوْتُ فَهَذِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَدْ مَضَى بَعْدَ الْأَلْفِ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَإِلَى تَمَامِ هَذِهِ الْمِائَةِ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَقَدْ مَرَّ عَنِ السُّيُوطِيِّ أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ بَلْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً (47: 18) وَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ سَنَةً 1407 فَإِنَّ عَدَدَ حُرُوفِ " بَغْتَةً " 1407 وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ، فَيُحْتَمَلُ خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمِائَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَأَخَّرَ لِلْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَفُوتُهَا قَطْعًا، وَإِذَا تَأَخَّرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمِائَةِ مِنْ يُجَدِّدُ لِلْأُمَّةِ أَمْرَ دِينِهَا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظْنُونَاتٌ وَرَدَ بِهَا آحَادُ الْأَخْبَارِ، بَعْضُهَا صِحَاحٌ، وَبَعْضُهَا حِسَانٌ وَبَعْضُهَا ضِعَافٌ مَعَ شَوَاهِدَ وَبَعْضُهَا بِغَيْرِ شَوَاهِدَ، وَغَايَةُ مَا ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي بَلَغَتِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ وُجُودُ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الَّتِي أَوَّلُهَا خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّهُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَأَنَّهُ يُقَاتِلُ الرُّومَ فِي الْمَلْحَمَةِ وَيَفْتَحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي زَمَنِهِ وَيَنْزِلُ عِيسَى وَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ كُلِّهِ أُمُورٌ مَظْنُونَةٌ أَوْ مَشْكُوكَةٌ وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. (أَقُولُ) : قَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ، وَلَا حَسَنٌ وَأَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ إِمَّا ضَعِيفَةٌ وَإِمَّا مَوْضُوعَةٌ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ مَرْفُوعٍ وَمَوْقُوفٍ وَمِنَ الْآثَارِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي بَثَّهَا فِي الْأُمَّةِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالُهُمَا، وَلَوْ فَطِنَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لِدَسَائِسِهِمَا وَخَطَأِ مَنْ عَدَّلَهُمَا مِنْ رِجَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِخَفَاءِ تَلْبِيسِهِمَا عَلَيْهِمْ لَكَانَ تَحْقِيقُهُ لِهَذَا الْبَحْثِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ حَكِيمُ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَتِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي ابْتِدَاءِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ وَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ: " فَكَانَ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ آثَارًا مَنْقُولَةً عَنِ الصَّحَابَةِ وَخُصُوصًا مُسْلِمَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالِهِمَا

وَرُبَّمَا اقْتَبَسُوا بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ ظَوَاهِرَ مَأْثُورَةٍ وَتَأْوِيلَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبَاحِثَ السُّهَيْلِيِّ فِي كَلَامِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُغْنِي عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ أَيْضًا كَلَامَ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَظُهُورَ كَذِبِ الْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 456) لَمْ يَعْبَأْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طُولِ بَاعِهِ وَسِعَةِ حِفْظِهِ لِلْآثَارِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَاضِيَ عِيَاضًا وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْعَرَبِيِّ، وَابْنَ خَلْدُونَ فِي رَفْضِهِ لِمَا قِيلَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا، وَعَجِبْتُ كَيْفَ غَفَلَ الْحَافِظُ عَنْ إِيرَادِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سِعَةِ اطِّلَاعِهِ. قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا كَانَ يَقُولُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بَدْءِ الْخَلِيقَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا نَحْنُ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - فَلَا نَقْطَعُ عَلَى عِلْمٍ عَدَدًا مَعْرُوفًا عِنْدَنَا، وَمَنِ ادَّعَى فِي ذَلِكَ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَقَدْ قَالَ مَا لَمْ يَأْتِ قَطُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَفَظَةٌ تَصِحُّ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُهُ، بَلْ نَقْطَعُ عَلَى أَنَّ لِلدُّنْيَا أَمَدًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (18: 51) وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ وَهَذِهِ نِسْبَةٌ مَنْ تَدَبَّرَهَا وَعَرَفَ مِقْدَارَ عَدَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنِسْبَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مَعْمُورِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ - عَلَى أَنَّ لِلدُّنْيَا أَمَدًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ أُصْبُعَيْهِ الْمُقَدَّسَتَيْنِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَكُونُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى لَا أَحَدَ سِوَاهُ - فَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا عَنَى شِدَّةَ الْقُرْبِ لَا فَضْلَ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ، إِذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَأُخِذَتْ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ، وَنُسِبَ مِنْ طُولِ الْأُصْبُعِ - فَكَانَ يُعْلَمُ بِذَلِكَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَكَانَ تَكُونُ نِسْبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّانَا إِلَى مَنْ قَبْلَنَا بِأَنَّنَا كَالشَّعْرَةِ فِي الثَّوْرِ كَذِبًا، وَمَعَاذَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ، فَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَرَادَ شِدَّةَ الْقُرْبِ. وَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ بُعِثَ أَرْبَعُمِائَةِ عَامٍ وَنَيِّفٍ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا بَقِيَ لِلدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ لَا نِسْبَةَ لَهُ عِنْدَمَا سَلَفَ لِقِلَّتِهِ وَتَفَاهَتِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى فَهُوَ الَّذِي قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّنَا فِيمَنْ مَضَى كَالشَّعْرَةِ فِي الثَّوْرِ أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ اهـ كَلَامُ ابْنُ حَزْمٍ. وَأَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، فَالَّذِينَ حَاوَلُوا تَحْدِيدَ عُمْرِ الدُّنْيَا وَمَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ إِرْضَاءَ شَهْوَةِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُهِمُّ جَمِيعَ النَّاسِ، لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ تَكْذِيبَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ السَّاعَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهَا تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ - أَيْ عَلَى غَيْرِ انْتِظَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا أَدْنَى عِلْمٍ. وَهَذَا الْبَلَاءُ كُلُّهُ مِنْ

دَسَائِسِ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَتَلْبِيسِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ وَضْعِ بَعْضِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، كَكَوْنِ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَمَلُ إِرْجَاعُهَا إِلَى مَصْدَرٍ وَاحِدٍ يُعْنَى بِنَشْرِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَمَسْأَلَةِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ مَذْهَبٍ سِيَاسِيٍّ كُسِيَ ثَوْبَ الدِّينِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ رِوَايَاتِهِ لَا تَخْلُو أَسَانِيدُهَا مِنْ شِيعِيٍّ، وَأَنَّ الزَّنَادِقَةَ كَانُوا يَبُثُّونَ الدَّعْوَة إِلَى ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِسَلْبِ سُلْطَانِ الْعَرَبِ، وَإِعَادَةِ مُلْكِ الْفُرْسِ؟ وَكَكَوْنِ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْي وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا فِيمَا لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي مَوْضُوعِنَا هَذَا كَمَا رَأَيْتَ آنِفًا. هَذَا وَإِنَّ لِمُتَقَدِّمِي أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْهُنُودِ وَالصِّينِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا فِي عُمْرِ الدُّنْيَا وَتَارِيخِ الْبَشَرِ الْمَاضِي تُذْكَرُ فِيهِ الْأَرْقَامُ بِأُلُوفِ السِّنِينَ وَأُلُوفِ الْأُلُوفِ، وَقَدْ بُنِيَ بَعْضُهُ عَلَى رِوَايَاتٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ قُدَمَائِهِمْ، وَبَعْضُهُ عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ فَلَكِيَّةٍ وَأَوْهَامٍ تَنْجِيمِيَّةٍ لَا تُفِيدُ عِلْمًا صَحِيحًا. وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَلَهُمْ مَنْهَجٌ فِي عُمْرِ الْأَرْضِ الْمَاضِي، وَمَنْهَجٌ آخَرُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: مَنْهَجَانِ عِلْمِيَّانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا عُرِفَ بِالْحَفْرِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ، وَمِنْ عِظَامِ مَوْتَاهُمْ وَرُفَاتِهِمْ، وَهُمْ يَجْزِمُونَ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا الْمَاضِيَ يُعَدُّ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ، وَقَدْ وُجِدَتْ آثَارٌ لِلْبَشَرِ فِيهَا مُنْذُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَنْقُضُ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مِنَ الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَلَا حَرْفًا وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (4: 82) وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الرَّسُولِ الْقَطْعِيَّةُ أَوِ الصَّحِيحَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقَطْعِيَّةِ، الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِلدَّسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَلَا لِلْمَكَايِدِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَإِنَّنَا نُتَمِّمُ هَذَا الْبَحْثَ بِفَصْلٍ وَجِيزٍ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا; لِأَنَّنَا أَلْمَمْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ بِذِكْرِ أَهَمِّهَا، وَفِيهَا الشُّبْهَاتُ مَا فِي مَسْأَلَةِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ أَمَارَاتُهَا فَنَقُولُ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتُهَا: إِنَّ لِلسَّاعَةِ أَشْرَاطًا ثَبَتَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (47: 18) الْأَشْرَاطُ جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ، كَأَسْبَابٍ جَمْعُ سَبَبٍ، وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالْأَمَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى قُرْبِهَا وَأَعْظَمُهَا بَعْثَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِآخِرِ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ; لِأَنَّ بَعْثَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3) وَبِكَمَالِهِ تَكْمُلُ الْحَيَاةُ

الْبَشَرِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ، وَيَتْلُوهَا كَمَالُ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا الزَّوَالُ ; لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُحَالٌ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيُّ السَّاعَةِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْمَادِّيَّةَ تَتَنَازَعُ مَعَ الْهِدَايَةِ الرُّوحِيَّةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْغَلَبُ زَمَنًا ثُمَّ تَنْتَصِرُ الْهِدَايَةُ الرُّوحِيَّةُ زَمَنًا قَصِيرًا، ثُمَّ يَغْلِبُ الضَّلَالُ وَالشَّرُّ وَالْفُجُورُ وَالْكُفْرُ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اخْتِلَافًا وَتَعَارُضًا، وَمَا يُنَافِي حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي إِخْفَائِهَا، وَعَدَمِ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَى وَقْتِهَا، وَبَعْضُهَا ظَاهِرٌ فِي قُرْبِ قِيَامِ سَاعَةِ دَوْلَةِ الْعَرَبِ أَوْ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي إِقْبَالِ الدُّنْيَا وَسِعَتِهَا مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ فِي صِفَةِ رَجُلٍ غَرِيبٍ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ; لِيُعَلِّمَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَيْفَ يَسْأَلُونَ عَنْ دِينِهِمْ - ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ قَالَ " فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " وَرَوَى هَذَا السُّؤَالَ وَحْدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ رُؤُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْغَنَمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا " قِيلَ: مَعْنَى وِلَادَةِ الْأَمَةِ رَبَّتَهَا كَثْرَةُ السَّرَارِي وَأَوْلَادِ السَّبَايَا - وَكَانَ لِهَذَا طَوْرٌ عَظِيمٌ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ - وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ أَوْلَادِ السَّرَارِيِّ لَا مِنْ أَوْلَادِ بَنَاتِ الْبُيُوتَاتِ الْعَرِيقَةِ فِي حُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَعُلُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَالْمُرَادُ بِصَيْرُورَةِ رِعَاءِ (بِالْهَمْزَةِ) أَيْ رُعَاةِ الْغَنَمِ وَأَهْلِ الْبَدَاوَةِ مِنْ أَصْحَابِ الثَّرْوَةِ وَالْبَذَخِ وَالْقُصُورِ الْعَالِيَةِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رُؤَسَاءٌ لِلنَّاسِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةُ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ أَيْضًا فِي أُمَّتِنَا وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَصَارَ بَعْضُ تَسَوُّدِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ وَأَمْثَالِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَعْدُودًا فِي مَنَاقِبِهِ بَعْدَ فَسَادِ تَرْبِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ أُسَرِ الْأَشْرَافِ وَالنُّبَلَاءِ وَاسْتِعْلَائِهِمْ عَلَى النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَمَارَاتِ زَوَالِ الدَّوْلَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُوَ يَظْهَرُ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ لَا الْعَامَّةِ. وَأَجْمَعُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ

أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ مَا ذُكِرَ فِيهِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى مُفَصَّلَةٍ وَهَذَا نَصُّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ

الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا (6: 158) وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهُ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يُسْقَى فِيهِ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا " وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ.

وَفِي الْأَحَادِيثِ أَشْرَاطٌ وَأَمَارَاتٌ أُخْرَى بَعْضُهَا صَارَ عَادِيًّا، وَبَعْضُهَا غَرِيبًا، وَيَقُولُ عُلَمَاؤُنَا إِنَّ مِنْهُ مَا وَقَعَ، وَبَاقِيهِ يُتَوَقَّعُ، وَفِيهَا تَعَارُضٌ وَتَنَاقُضٌ وَمُشْكِلَاتٌ حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَإِنَّنِي أَتَكَلَّمُ عَنْهُ كَلَامًا إِجْمَالِيًّا عَامًّا، وَأَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي أَهَمِّهَا بَسْطًا خَاصًّا، وَلَا سِيَّمَا أَحَادِيثُ الدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ، فَأَلْقِ لَهُ السَّمْعَ وَوَجِّهْ إِلَيْهِ النَّظَرَ، فَهُوَ يُجْلِي الْعِبْرَةَ لِمَنِ اعْتَبَرَ. (نَظْرَةٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَقَاسِيمِهَا وَمُشْكِلَاتِهَا) اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِ، أَنَّ فِي رِوَايَاتِ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالتَّعَارُضِ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْرِفَهُ وَلَوْ إِجْمَالًا، حَتَّى لَا تَكُونَ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْتَمِدُهُ أَصْحَابُ النَّقْلِ حَقٌّ، وَلَا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ حَقٌّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (39: 17، 18) الْآيَةَ. وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (12: 108) وَإِنَّنِي أُبَيِّنُ فِيهِ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُ الْقَانِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَفْتَحُ بَابَ التَّحْقِيقِ لِطَالِبِ التَّفْصِيلِ، فَأَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا مَا رُوِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُنْذُ قُرُونٍ خَلَتْ إِلَى زَمَنِ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَدُّوهُ عَدًّا - وَمَا وَقَعَ بَعْضُهُ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ كَالْفِتَنِ وَالْفُسُوقِ وَكَثْرَةِ الزِّنَا وَكَثْرَةِ الدَّجَّالِينَ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَتَشَبُّهِهِنَ بِالرِّجَالِ وَالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا سَيَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى - وَمِنَ الْأُولَى قِتَالُ الْيَهُودِ وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مَا عُهِدَ وَيُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ وَسِعَةِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا، وَقِيَامِ الدُّوَلِ وَسُقُوطِهَا، وَالْفِسْقِ مِنْ زِنًا وَلِوَاطٍ وَسُكْرٍ، إِلَخْ. وَالْأَوْبِئَةِ وَالزَّلَازِلِ وَهَذَا لَا يَشْعُرُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ بِأَنَّ لَهُ عَلَاقَةً مَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَإِلَى مَا هُوَ غَرِيبٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ كَظُهُورِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمَّا الزَّلَازِلُ وَالْخُسُوفُ وَظُهُورُ النُّجُومِ ذَوَاتُ الْأَذْنَابِ أَوِ الْأَذْيَالِ، فَقَدْ صَارَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَبِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ إِلَى مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى قِيَامِ سَاعَةِ الْجِيلِ أَوِ الدَّوْلَةِ، كَذِهَابِ الْأَمَانَةِ وَتَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَمَا هُوَ آيَةٌ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ الْكُبْرَى. وَيَرِدُ مِنَ الْإِشْكَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الصُّغْرَى الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، الَّتِي تَقَعُ عَادَةً بِالتَّدْرِيجِ لَا يُذَكِّرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَائِدَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ - وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ يَضَعُ الْعَالِمَ بِهِ فِي مَأْمَنٍ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا كُلِّهَا، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ الْمُنْتَظِرُونَ لَهَا يَعْلَمُونَ

أَنَّ لَهَا أَشْرَاطًا تَقَعُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ مَجِيئِهَا بَغْتَةً فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ قَبْلَهَا ظُهُورَ الدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُفِيدُ النَّاسَ مَوْعِظَةً وَلَا خَشْيَةً، وَلَا اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، فَمَا فَائِدَةُ الْعِلْمِ بِهِ إِذًا؟ وَهَلْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا مَحْصُورَةٌ فِي وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَلَا سِيَّمَا آخِرُ آيَةٍ مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَتَّفِقُ هَذَا وَمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ كُلِّ رَسُولٍ كَانَ يُخَوِّفُ قَوْمَهُ وَيُنْذِرُهُمُ السَّاعَةَ وَالدَّجَّالَ قَبْلَهَا؟ وَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَاقِعُ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ؟ وَهَلْ كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ بِالْإِخْبَارِ بِهَا تَأْمِينَ النَّاسِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ مُدَّةَ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ الْأَشْرَاطُ؟ أَمْ كَانَ يَتَوَقَّعُ ظُهُورَهَا بَعْدَهُ فِي قَرْنِهِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ تَجْوِيزِهِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَتَصْدِيقِهِ مَا حَكَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مِنْ خَبَرِ الْجَسَّاسَةِ، وَكَوْنِ الدَّجَّالِ مَحْبُوسًا فِي جَزِيرَةٍ؟ . الْإِشْكَالُ وَالِاشْتِبَاهُ فِي رِوَايَاتِ الدَّجَّالِ: قَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوَازِيِّ مِنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَدِّرُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَقْدِيرًا ; إِذْ لَمْ يُوحِ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَخْبَارَهَا تَفْصِيلًا، وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي احْتِمَالِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ أَحَادِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ. . . وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَلَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ وَكَانَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمَلَةٌ ; فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ " اهـ. وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الْإِشْكَالِ وَالِاشْتِبَاهِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ. إِنَّ أَحَادِيثَ الدَّجَّالِ مُشْكِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ مُنَافَاتِهَا لِحِكْمَةِ إِنْذَارِ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَإِتْيَانِهَا بَغْتَةً. ثَانِيهَا: مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْخَوَارِجِ الَّتِي تُضَاهِي أَكْبَرَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَوْ تَفُوقُهَا، وَتُعَدُّ شُبْهَةً عَلَيْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَعَدَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ ذَلِكَ مِنْ بِدْعَتِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللهَ مَا آتَاهُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ لِغَضَبِهِ، فَكَيْفَ يُؤْتِي الدَّجَّالَ أَكْبَرَ الْخَوَارِقِ لِفِتْنَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ فِتْنَةِ

الدَّجَّالِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ. وَهَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَرْسَلَهُ ; وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ اهـ. وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. ثَالِثُهَا: وَهُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ مَا قَبْلُهُ، أَنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْوِيلَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُضْطَرِبَةُ الْمُتَعَارِضَةُ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَا لِمُعَارَضَتِهَا. رَابِعُهَا: اشْتِمَالُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مُخَالَفَةِ بَعْضِ الْقَطْعِيَّاتِ الْأُخْرَى مِنَ الدِّينِ كَتَخَلُّفِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَوْ كَوْنِهَا عَبَثًا وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ. خَامِسُهَا: أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ تَعَارُضًا كَثِيرًا يُوجِبُ تَسَاقُطَهَا كَمَا تَرَى فِيمَا يَلِي. فَمِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضِ أَنَّ بَعْضَهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى مِنَ الْمُحْتَمَلِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ شَرَّهُ، وَبَعْضُهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الرُّومِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ (وَمِنْهُ) أَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّهُ وَصَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ بِصِفَاتٍ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَرِّحُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ (أَيِ الدَّجَّالِ) جَبَلٌ أَوْ جِبَالٌ مَنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ أَوْ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَعَسَلٍ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بِسَنَدِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: " مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهْرَ مَاءٍ. قَالَ: " بَلْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ " وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جِبَالَ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهْرًا مِنْ مَاءٍ " وَقَدْ أَوَّلُوا هَذَا لِتَصْحِيحٍ ذَاكَ، وَيُتَأَمَّلُ قَوْلُ جَابِرٍ: " يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّكَ قُلْتَ هَذَا. وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا مَا وَرَدَ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فَفِي بَعْضِ الرِّوَيَاتِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ عَلَى الْإِبْهَامِ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَفِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْرٍ أَوْ قَصْرٍ فِي جَزِيرَةِ بَحْرِ الشَّامِ - أَيِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ فِي الشَّمَالِ - أَوْ بَحْرِ الْيَمِينِ وَهُوَ فِي الْجَنُوبِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدْ حَاوَلَ شُرَّاحُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَجَاءُوا بِأَجْوِبَةٍ مُتَكَلَّفَةٍ رَدَّهَا الْمُحِقُّونَ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، وَفِيهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ

غَيْرُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا الرِّوَايَاتُ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلِفِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ، وَإِقْرَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمُتَابَعَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ قَدْ نَقَضَهُ التَّصْرِيحُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرٍ بِخِلَافِهِ حِينَ قَالَ لَهُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ رَدَّ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ فِي مَوْلِدِ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَاتِهِ وَفِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ عَلَى حَلِفِهِ، وَعَدَّ قِصَّةَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مُرَجِّحَةً لِكَوْنِهِ غَيْرَ ابْنِ صَيَّادٍ، وَكَوْنِ عُمَرَ كَانَ يَحْلِفُ حَلِفَهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ - لِهَذَا أُخُصُّ هَذَا الْحَدِيثَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ فَأَقُولُ إِنَّ فِيهِ عِدَّةَ مَبَاحِثٍ. (1) كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مَنْ عَرَبِ فِلَسْطِينَ (سُورِيَّةَ) وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ كَانَ رَاهِبَ زَمَانِهِ، وَقَدْ جَاءَ هُوَ وَأَخُوهُ نُعَيْمٌ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَسْلَمَا، وَحَدَّثَ هُوَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِكَايَةِ الْجَسَّاسَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِنَ الْعُبَّادِ وَمِنَ الْقَصَّاصِينَ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَحَدٍ شُبْهَةٌ فِيهِ بَلْ عَدُّوا مِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ. (2) رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِطُولِهِ وَمُشْكِلَاتِهِ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَقَالَتْ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَحَدَّثَهُمْ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ تَمِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ " وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا الشَّعْبِيُّ وَحْدَهُ، وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ قَدْ رَوَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَرَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُحَدِّثِينَ أَثْنَوْا عَلَى مَرَاسِيلِهِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي مَنْ رَوَاهُ غَيْرُهَا وَغَيْرُهُ. (3) مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ إِذًا أَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ لِغَرَابَةِ مَوْضُوعِهِ وَلِاهْتِمَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ وَجَمْعِهِ النَّاسَ لَهُ وَتَحْدِيثِهِ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاسْتِشْهَادِهِ بِقَوْلِ تَمِيمٍ عَلَى مَا كَانَ حَدَّثَهُمْ بِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَلِسَمَاعِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ غَيْرِ الْمَعْقُولِ أَلَّا يُرْوَى إِلَّا آحَادِيًّا، وَيُؤَيِّدُهُ امْتِنَاعُ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحِهِ لِشِدَّةِ تَحَرِّيهِ، وَقَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ عَنْ هَذَا الْإِعْلَالِ بِقَوْلِهِ: وَلِشِدَّةِ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. أَيْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ - سَلَكَ الْبُخَارِيُّ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَرْدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَجَابِرٌ أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ وَأَخْرَجَهُ

أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَابْنُ مَاجَهْ عَقِبَ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَقِيتُ الْمُحْرِزَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي كَمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ لَفْظَهُ. أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ لَا يَنْفِي كَوْنَ الْحَدِيثِ مِنَ الْآحَادِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّوَاتُرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَسْبَابِ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، وَلَا يَنْفِي أَيْضًا كَوْنَهُ غَرِيبًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْدًا فَقَدِ انْحَصَرَتِ الْأَسَانِيدُ لِرِوَايَتِهِ فِي الشَّعْبِيِّ وَفِي فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الصَّحِيحِ - مُخْتَصَرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ إِسْنَادُ الْحِكَايَةِ إِلَى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بَلْ لَا يَزِيدُ لَفْظُ الْمَرْفُوعِ فِيهِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ " بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخُبْزَ فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ " قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَقُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَ امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَ جِلْدِهَا وَرَأْسِهَا قَالَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَسَأَلَ عَنْ نَخْلِ بِيسَانَ وَعَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالَ: هُوَ الْمَسِيحُ. فَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ، قَالَ شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَائِدٍ وَفِي نُسْخَةٍ - ابْنُ صَيَّادٍ - فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ قَالَ وَإِنْ مَاتَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ. قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَالَ وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ انْتَهَى سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ بِحُرُوفِهِ. أَقُولُ: وَهُوَ لَا يُقَوِّي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُشْكِلَاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ وَغَرَائِبِهَا، بَلْ قَوَّاهُ الْحَافِظُ بِهَا فَجَعَلَهُ حَسَنًا لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ (بِالتَّصْغِيرِ) الزُّهْرِيَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ فَقَدْ قَالَ هُوَ نَفْسُهُ (أَيِ الْحَافِظُ) فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِيمَا زَادَهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، وَقَالَ إِنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ الْإِثْبَاتِ بِمَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ، فَلَمَّا فَحُشَ ذَلِكَ مِنْهُ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ مُسْلِمٌ لَكَانَ أَوْلَى اهـ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ فَاطِمَةَ مُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا غَرَضَ لَنَا فِي ذِكْرِهِ ; إِذْ لَا نُرِيدُ اسْتِقْصَاءَ كُلِّ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالْخِلَافِ. (4، 5) مِنَ الْإِشْكَالِ الْمَعْنَوِيِّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ تَمِيمًا وَأَصْحَابَهُ الثَّلَاثِينَ كَانُوا مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُمْ رَكِبُوا سَفِينَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ ثُغُورِهِمْ فِي الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ، وَقَدْ ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ أَنْ سَرَدَ لِلنَّاسِ الْحِكَايَةَ " فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْهُ - أَيِ الدَّجَّالِ - وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ

الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ - لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ. مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ؟ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذِهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. ". فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ رِوَايَةً فَهَذَا التَّرَدُّدُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَانِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فِي أَيِّ الْبَحْرَيْنِ هِيَ؟ ثُمَّ إِضْرَابِهِ عَنْهُمَا وَجَزْمِهِ بِأَنَّهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ إِلَخْ. إِشْكَالٌ آخَرُ فِي مَتْنِهِ يُنْظَرُ إِلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى فِي مَكَانِ الدَّجَّالِ بِعَيْنٍ وَيُنْظَرُ إِلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ بِالْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَيُنْظَرُ بِالْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا إِلَى سَبَبِ هَذَا التَّرَدُّدِ وَمُنَافَاتِهِ; لِأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَسَأَتَكَلَّمُ فِي سَبَبِهِ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ أَيْنَ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ الَّتِي رَفَأَ إِلَيْهَا تَمِيمٌ وَأَصْحَابُهُ فِي سَفِينَتِهِمْ؟ إِنَّهَا فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْمَرْفُوعِ - إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ - أَيِ الْجِهَةِ الْمُقَابَلَةِ لِسَوَاحِلَ سُورِيَّةَ مِنَ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ، أَوِ الْجِهَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِشَوَاطِئِ الْيَمَنِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَحْرَيْنِ قَدْ مَسَحَهُ الْبَحَّارَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مَسْحًا، وَجَابُوا سَطْحَهُمَا طُولًا وَعَرْضًا، وَقَاسُوا مِيَاهَهُمَا عُمْقًا، وَعَرَفُوا جَزَائِرَهُمَا فَرْدًا فَرْدًا، فَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا جَزِيرَةٌ فِيهَا دَيْرٌ أَوْ قَصْرٌ حُبِسَ فِيهِ الدَّجَّالُ وَلَهُ جَسَّاسَةٌ فِيهَا تُقَابِلُ النَّاسَ، وَتَنْقُلُ إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ، لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ كُلُّ النَّاسِ وَمَا قَالَهُ شَارِحُ الْمَشَارِقِ مِنْ تَنَقُّلِ الدَّجَّالِ فِي الْبَحْرَيْنِ أَوْ مِنَ الْجَانِبِ الشَّامِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الْيَمَنِيِّ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْبَحْرَ وَاحِدٌ - وَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ مِنَ انْتِقَالِهِ إِلَى أَصْفَهَانَ ; لِيَخْرُجَ مِنْهَا مَعَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِهَا - كِلَاهُمَا مِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا مِنَ النَّقْلِ، وَلَا مِنَ الْمَقْبُولِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنْبِطُونَهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرْجِعُوهَا إِلَى قَاعِدَتِهِمْ، تَعَارَضَتْ فَتَسَاقَطَتْ، حَتَّى إِنَّ الْحَافِظَ رَضِيَ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ أَنْ يُقِرَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ ابْنَ صَيَّادٍ شَيْطَانٌ تَبَدَّى فِي صُورَةِ الدَّجَّالِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ إِلَى أَصْفَهَانَ إِلَخْ. وَهُوَ يَحْفَظُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي وِلَادَتِهِ بِالْمَدِينَةِ وَنُشُوئِهِ فِيهَا ثُمَّ إِسْلَامِهِ وَحَجِّهِ ثُمَّ مَوْتِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُ يَحْفَظُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِهَذَا. (6) فِي الْأَلْفَاظِ الْمَرْفُوعَةِ مِنْ حِكَايَةِ الْجَسَّاسَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقِرَّ تَمِيمًا عَلَى كُلِّ مَا حَكَاهُ، بَلْ عَلَى بَعْضِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْهُ (أَيْ عَنِ الدَّجَّالِ) وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ " أَيْ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُمَا. وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: " إِلَّا أَنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ " إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَتَرْجِيحُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ رِوَايَاتِ جِهَةِ الْمَشْرِقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَحْرِ الشَّامِ، وَلَا بَحْرِ الْيَمَنِ ; لِأَنَّ الشَّامَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْيَمَنَ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْهَا، فَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا

بِمَشْرِقٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا تَيَقَّنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ نَفَى الْأَوَّلَيْنِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَّقَ تَمِيمًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: " أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ " بِالتَّأْكِيدِ بِـ " إِنَّ " وَالْبَدْءِ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ " أَلَا " ثُمَّ كُوشِفَ فِي مَوْقِفِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ، بَلْ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ. (7) هَاهُنَا يَجِيءُ إِشْكَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ نَفْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ قَوْلِ تَمِيمٍ يُبْطِلُ الثِّقَةَ بِهِ كُلِّهِ، وَيَحْصُرُ عَجَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ إِخْبَارُهُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ظُهُورِ الدَّجَّالِ وَكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَلَا الْمَدِينَةَ. وَإِنْ بَقِيَ الْإِعْجَابُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ يَتَفَصُّونَ مِنْ هَذَا بِأَنَّ الدَّجَّالَ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِ تَمِيمٍ، وَحَدِيثُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي رَآهُ فِيهَا فَذَهَبَ إِلَى أَصْبَهَانَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ تَمِيمٌ صَرِيحًا فِيمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ وِثَاقَهُ الشَّدِيدَ إِنَّمَا يُحَلُّ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ صَارَ قَرِيبًا بَعْدَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَالَ: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرَجُ فَأَسِيرُ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، إِلَّا مَكَّةَ وَطِيبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ إِلَخْ. فَعَطَفَ الْخُرُوجَ عَلَى الْإِذْنِ بِـ " الْفَاءِ " وَالسَّيْرَ عَلَى الْخُرُوجِ بِـ " الْفَاءِ " نَصٌّ فِي أَنَّهُمَا عَلَى التَّعْقِيبِ لَا فَاصِلَ بَيْنَ هَذِهِ وَتِلْكَ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَصْنُوعَةً. (8) نَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ إِلَى مَبْحَثٍ قَوِيِّ الصِّلَةِ بِهِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ نَعُدَّ مَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا أَثْبَتَهُ تَمِيمٌ مِنْ وُجُودِ الدَّجَّالِ فِي أَحَدِ الْبَحْرَيْنِ وِفَاقًا لِلْعَلَّامَةِ الطِّيبِيِّ الشَّهِيرِ - فَهَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا حَدَّثَهُ بِهِ تَمِيمٌ تَصْدِيقًا لَهُ؟ وَهَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومًا مِنْ تَصْدِيقِ كُلِّ كَاذِبٍ فِي خَبَرٍ فَيُعَدُّ تَصْدِيقُهُ لِحِكَايَةِ تَمِيمٍ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِيهَا؟ وَيُعَدُّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ إِشْكَالٍ وَارِدًا عَلَى حَدِيثٍ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِقْرَارُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ عَلَى حَلِفِهِ بِأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا تَقَدَّمَ. إِنَّ مَا قَالُوهُ فِي الْعِصْمَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا ; فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ هُوَ الْعِصْمَةُ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنْ تَعَمُّدِ عِصْيَانِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. قَالَ الْسَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ: قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: وَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُؤَدُّونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسُوا مَعْصُومِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ: إِنَّهُمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يُعْصَمُوا فِي الْأَفْعَالِ بَلْ فِي نَفْسِ الْأَدَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ فِي الْأَقْوَالِ فِيمَا يُؤَدُّونَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِنْ تَعَمُّدِ الذَّنْبِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ بَعْضِ الْخَوَارِجِ وَالْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ تَجْوِيزُ ذَلِكَ إِلَخْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَتَصْدِيقُ الْكَاذِبِ لَا يُعَدُّ ذَنْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَدِّقُ

بَعْضَ مَا يَفْتَرِي بِهِ الْمُنَافِقُونَ حَتَّى يُخْبِرَهُ اللهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِخْبَارُهُ بِهِ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَغَيْرِهَا، وَصَدَّقَ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقِصَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَبِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ إِلَيْهَا الْحَدِيثَ أَفْشَتْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (66: 3) وَتَرَدَّدَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَضَاقَ صَدْرُهُ زَمَنًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْبَرَاءَةِ الْمُكَذِّبَةُ لَهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقِصَّةِ تَمِيمٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي يَقُولُهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا أَنَّ مَا يَقُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيهِ وَظَنِّهِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا هُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، وَهُوَ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ: " إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي مَسْأَلَةِ تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَائِلِ شَرْحِ الْإِلْمَامِ إِذَا أُخْبِرَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلًا عَلَى مُطَابَقَةِ مَا فِي الْوَاقِعِ، كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ فِي حَلِفِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا فَهِمَهُ جَابِرٌ حَتَّى صَارَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدُ إِلَى حَلِفِ عُمَرَ، أَوْ لَا يَدُلُّ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ ; لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا هُوَ الْعِصْمَةُ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَى بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْقِيقِ الْبُطْلَانِ وَلَا يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ تَحْقِيقِ الصِّحَّةِ إِلَخْ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مُلَخَّصًا. (9) إِنَّ فِي رِوَايَاتِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ اخْتِلَافَاتٌ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ فِي أَطْوَلِهَا عَنْ تَمِيمٍ: " إِنَّهُ رَكِبَ سَفِينَةً بَحْرِيَّةً مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ثُمَّ أُرْفِؤُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرَبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ " وَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ قَوْمِهِ كَانُوا فِي الْبَحْرِ فِي سَفِينَةٍ لَهُمْ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَخَرَجُوا إِلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّ بَنِي عَمِّ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَةٌ فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعْرَهُ " وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالِاخْتِلَافَاتُ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ كَمَا تَرَى، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْإِشْكَالِ مِنْ عِدَّةِ

وُجُوهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْنُوعٌ، وَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَيْسَ لَهُ كُلُّهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي انْتَقَدَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ أُصُولِ الْحَدِيثِ وَتَعَارُضِ الْمُتُونِ أَوْ مُخَالَفَتِهَا لِلْوَاقِعِ. وَعَدَّ مِنْ عِلَلِ بَعْضِهَا احْتِمَالَ كَوْنِهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَشُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالُوا جَمِيعًا: " الدَّجَّالُ لَيْسَ هُوَ بِإِنْسَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ مُوثَّقٌ بِسَبْعِينَ حَلْقَةً فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْيَمَنِ لَا يُعْلَمُ مَنْ أَوْثَقَهُ سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِذَا آنَ ظُهُورُهُ فَكَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ عَامٍ حَلْقَةً، فَإِذَا بَرَزَ أَتَتْهُ أَتَانٌ، عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَضَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْبَرًا مِنْ نُحَاسٍ، وَيَقْعُدُ عَلَيْهِ وَيَتْبَعُهُ قَبَائِلُ الْجِنِّ يُخْرِجُونَ لَهُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ ". قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا: (قُلْتُ) وَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ كَوْنُ ابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِمْ ثِقَاتٍ تَلَقُّوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الدَّجَّالَ تَلِدُهُ أُمُّهُ بِقُوصٍ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. (قَالَ) وَبَيْنَ مَوْلِدِهِ وَمَخْرَجِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً. (قَالَ) وَلَمْ يَنْزِلْ خَبَرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ اهـ، وَأَخْلَقُ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَكَوْنُهُ يُولَدُ قَبْلَ مَخْرَجِهِ بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ مُخَالِفٌ لِكَوْنِهِ ابْنَ صَيَّادٍ، وَلِكَوْنِهِ مُوثَقًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْحَافِظِ. وَهُوَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنَ الْفَتْحِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ضَرْبِ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ الْمُتَعَارِضَةِ الْمُتَنَافِرَةِ بِبَعْضٍ، وَبِأَنَّهُ يَعُدُّ احْتِمَالَ الْأَخْذِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عِلَّةً صَحِيحَةً لِرَدِّ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ، وَلَوْ فِيمَا لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَلَا لِلرَّأْي فِيهِ، خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الزُّرْقَانِيُّ بِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ أَنْصَارِ الْخُرَافَاتِ فَعَدُّوهُ مِمَّا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ يَدَ بَطَلِ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْأَكْبَرِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَدْ لَعِبَتْ لَعِبَهَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّجَّالِ (فِي كُلِّ وَادٍ أَثَرٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ) وَقَوْلُ كَعْبٍ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وِلَادَةِ الدَّجَّالِ بِقُوصٍ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ. وَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْهُ مِنْهَا مَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْفِتَنِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي كِتَابَةِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ قَالَ (أَيْ كَعْبٌ) : يَتَوَجَّهُ الدَّجَّالُ فَيَنْزِلُ عِنْدَ بَابِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيِّ، ثُمَّ يُلْتَمَسُ فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَى عِنْدَ الْمِيَاهِ الَّتِي عِنْدَ نَهْرِ الْكُسْوَةِ ثُمَّ يُطْلَبُ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ تَوَجَّهَ، ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْمَشْرِقِ فَيُعْطَى الْخِلَافَةَ، ثُمَّ يُظْهِرُ السِّحْرَ، ثُمَّ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَتَتَفَرَّقُ النَّاسُ عَنْهُ، فَيَأْتِي النَّهْرَ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيلَ فَيَسِيلُ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعُ

ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَيْبَسَ فَيَيْبَسُ، وَيَأْمُرُ جَبَلَ طُورٍ وَجَبَلَ زِيتَا أَنْ يَنْتَطِحَا فَيَنْتَطِحَا، وَيَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تُثِيرَ سَحَابًا مِنَ الْبَحْرِ فَتُمْطِرُ الْأَرْضَ، وَيَخُوضُ الْبَحْرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ خَوْضَاتٍ فَلَا يَبْلُغُ حَقْوَيْهِ، وَإِحْدَى يَدَيْهِ أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَى فَيَمُدُّ الطَّوِيلَةَ فِي الْبَحْرِ فَتَبْلُغُ قَعْرَهُ فَيُخْرِجُ مِنَ الْحِيتَانِ مَا يُرِيدُ اهـ. بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ كَانَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ; لِيُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَسُنَّتَهُمْ، وَخُدِعَ بِهِ النَّاسُ لِإِظْهَارِ التَّقْوَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَجُمْلَةُ أَخْبَارِ الدَّجَّالِ قَالُوا: إِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، يَعْنُونَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ شَيْءٌ مِنْ رِوَايَاتِهَا. وَيَدُلُّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُشِفَ لَهُ وَتَمَثَّلَ لَهُ ظُهُورُ دَجَّالٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ خَوَارِقَ كَثِيرَةً وَغَرَائِبَ يَفْتَتِنُ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَهُ وَيُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كُشِفَ لَهُ ذَلِكَ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ وَلَا بِوَحْيٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى - كَمَا كُشِفَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ - فَذَكَرَهُ فَتَنَاقَلَهُ الرُّوَاةُ بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَتَعَمَّدَ الَّذِينَ كَانُوا يُثْبِتُونَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الدَّسَّ فِي رِوَايَاتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُومَ طُلَّابُ الْمُلْكِ مِنَ الْيَهُودِ الصُّهْيُونِيِّينَ بِتَدْبِيرِ فِتْنَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَعِينُونَ عَلَيْهَا بِخَوَارِقِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ كَالْكَهْرَبَاءِ وَالْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. (التَّعَارُضُ وَالْإِشْكَالَاتُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ) وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ فَهُوَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ ; وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ أَعْسَرُ، وَالْمُنْكِرُونَ لَهَا أَكْثَرُ، وَالشُّبْهَةُ فِيهَا أَظْهَرُ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَدَّ الشَّيْخَانِ بِشَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَقَدْ كَانَتْ أَكْبَرَ مَثَارَاتِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ فِي الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; إِذْ تَصَدَّى كَثِيرٌ مِنْ مُحِبِّي الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَمِنْ أَدْعِيَاءِ الْوِلَايَةِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، لِدَعْوَى الْمَهْدَوِيَّةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَتَأْيِيدِ دَعْوَاهُمْ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، وَبِالْبِدَعِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجَ أُلُوفُ الْأُلُوفِ عَنْ هِدَايَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَقِّ تَصْدِيقِ الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِخُرُوجِ مَهْدِيٍّ يُجَدِّدُ الْإِسْلَامَ وَيَنْشُرُ الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ الْأَنَامِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِظُهُورِهِ بِتَأْلِيفِ عُصْبَةٍ قَوِيَّةٍ تَنْهَضُ بِزَعَامَتِهِ، وَتُسَاعِدُهُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْكَانِ إِمَامَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، بَلْ تَرَكُوا مَا يَجِبُ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَحِفْظِ سُلْطَانِ الْمِلَّةِ بِجَمْعِ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ، وَبِإِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فَاتَّكَلُوا وَتَوَاكَلُوا، وَتَنَازَعُوا وَتَخَاذَلُوا، وَلَمْ يَعِظْهُمْ مَا نُزِعَ مَنْ مُلْكِهِمْ، وَمَا سُلِبَ مِنْ مَجْدِهِمْ، اتِّكَالًا عَلَى قُرْبِ الْمَهْدِيِّ، كَأَنَّهُ هُوَ الْمُعِيدُ الْمُبْدِئُ، فَهُوَ الَّذِي سَيَرُدُّ إِلَيْهِمْ

مُلْكَهُمْ، وَيُجَدِّدُ لَهُمْ مَجْدَهُمْ، وَيُعِيدُ لَهُمْ عَدْلَ شَرْعِهِمْ، وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْكَرَامَاتِ، وَمَا يُؤَيَّدُ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا بِالْبَوَارِيدِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّاتِ الصَّارِخَاتِ وَلَا بِالْمَدَافِعِ الصَّاخَّاتِ، وَلَا بِالدَّبَّابَاتِ الْمُدَمِّرَاتِ، وَلَا بِأَسَاطِيلِ الْبِحَارِ السَّابِحَاتِ وَالْغَوَّاصَاتِ وَلَا أَسَاطِيلِ الْمَنَاطِيدِ وَالطَّيَّارَاتِ، وَلَا بِالْغَازَاتِ الْخَانِقَاتِ. وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ سِجَالًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَنْفِرُونَ مِنْهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، فَهَلْ يَكُونُ الْمَهْدِيُّ أَهْدَى مِنْهُ أَعْمَالًا وَأَحْسَنُ حَالًا وَمَآلًا؟ كَلَّا. وَقَدْ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ، ابْنُ خَلْدُونَ الشَّهِيرُ، فَصَاحَ فِيهِمْ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ وَالْعُمْرَانِ، مُطَّرِدَةً فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ الْقُرْآنِ، وَصُحُفِ الْأَكْوَانِ، وَمِنْهَا أَنَّ الدُّوَلَ لَا تَقُومُ إِلَّا بِعَصَبِيَّةٍ، وَأَنَّ الْأَعَاجِمَ قَدْ سَلَبُوا الْعَصَبِيَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعِتْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، فَإِنْ صَحَّتْ أَخْبَارُ هَذَا الْمَهْدِيِّ فَلَنْ يَظْهَرَ إِلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ عَصَبِيَّةٍ هَاشِمِيَّةٍ عَلَوِيَّةٍ، وَلَوْ سَمِعُوا وَعَقَلُوا، لَسَعَوْا وَعَمِلُوا، وَلَكَانَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ بِالِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى رَحْمَةً لَهُمْ، تِجَاهَ مَا كَانَ فِي أَخْبَارِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالنِّقَمِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَغْنَاهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا يَرْجُونَ مِنْ زَعَامَتِهِ إِنْ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ كُلَّهُ. كَانَتِ الْيَهُودُ اغْتَرَّتْ مِثْلنَا بِظَوَاهِرِ مَا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ بِظُهُورِ مَسِيحٍ فِيهِمْ يُعِيدُ لَهُمْ مَا فَقَدُوا مِنْ مُلْكِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، فَاتَّكَلُوا عَلَى مَا فَهِمَ أَحْبَارُهُمْ مِنْهَا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ، وَمَضَتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ وَهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا تَفَرُّقًا وَضَعْفًا، فَلَمَّا عَرَفَتْ أَجْيَالُهُمُ الْأَخِيرَةُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْعُمْرَانِ طَفِقُوا يَسْتَعِدُّونَ لِاسْتِعَادَةِ ذَلِكَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، بِالسَّعْيِ إِلَى إِنْشَاءِ وَطَنٍ يَهُودِيٍّ خَاصٍّ بِهِمْ يُقِيمُونَ فِيهِ قَوَاعِدَ الْعُمْرَانِ، بِإِرْشَادِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ، الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا بِمَا يُحْيُونَ مِنْ لُغَتِهِمُ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ أَنْشَؤُوا لِذَلِكَ مَصْرَفًا مَالِيًّا خَاصًّا، وَمَا زَالُوا يَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْإِعَانَاتِ بِالْأُلُوفِ وَأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، حَتَّى إِنَّهُمُ اسْتَمَالُوا لِمُسَاعَدَتِهِمْ فِي هَذَا الْعَهْدِ، أَقْوَى دُوَلِ الْأَرْضِ. هَذَا - وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَزَالُونَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَيَزْعُمُ دَهْمَاؤُهُمْ أَنَّهُ سَيَنْقُضُ لَهُمْ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى أَوْ يُبَدِّلُهَا تَبْدِيلًا، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (35: 43) فَإِذَا كَانَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ آيَاتٌ، وَكَانَ زَمَنُهَا زَمَنَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَهَلْ يَضُرُّهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَإِقَامَةٍ لِشَرْعِهِمْ وَعِزَّةٍ وَسُلْطَانٍ فِي أَرْضِهِمْ؟ . عَلَى أَنَّهُمْ أَنْشَؤُوا فِي الْعُصُورِ الْأُولَى عَصَبِيَّاتٍ لِأَجْلِ الْمَهْدِيِّ، وَلَكِنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ بَلْ أَنْشَؤُوا الْمَهْدِيَّ الْمُتَنَظَرَ (عَجَّ) نَفْسَهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَصَبِيَّاتِ الْمَجُوسِيَّةِ، الَّتِي كَانَتْ تَسْعَى

لِإِزَالَةِ مُلْكِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِفْسَادِ دِينِهِمُ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ الْمَهْدِيِّ وَنَسَبِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَكَانَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ جَوْلَةٌ وَاسِعَةٌ فِي تَلْفِيقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ. الِاخْتِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ: (مِنْهَا) أَنَّ أَشْهَرَ الرِّوَايَاتِ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَالشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ وَهُمَا الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْمَعْصُومِينَ، وَيُلَقِّبُونَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْقَائِمِ وَالْمُنْتَظَرِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ دَخَلَ السِّرْدَابَ فِي دَارِ أَبِيهِ فِي مَدِينَةِ (سُرَّ مَنْ رَأَى) الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ " سَامِرَّا " سَنَةَ 265 وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعُ سِنِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي السِّرْدَابِ حَيًّا، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَسْئِلَةً شَرْعِيَّةً فِي رِقَاعٍ كَانُوا يُلْقُونَهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ فَتَاوَاهُ مُدَوَّنَةً فِيهَا، وَمَسَائِلُ هَذِهِ الرِّقَاعِ عِنْدَهُمْ أَصَحُّ الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَهُمْ كُلَّمَا ذَكَرُوهُ يُقْرِنُونَ اسْمَهُ بِحَرْفَيِ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ هَكَذَا (عَجَّ) وَهُمَا مُقْتَطَفَتَانِ مِنْ جُمْلَةِ: عَجَّلَ اللهُ خَلَاصَهُ. وَزَعَمَتِ الْكَيْسَانِيَّةُ أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ مُقِيمٌ بِجَبَلِ رَضْوَى بَيْنَ أَسَدَيْنِ يَحْفَظَانِهِ، وَعِنْدَهُ عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ يُفِيضَانِ مَاءً وَعَسَلًا وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَوْلُهُمْ فِيهِ كَقَوْلِ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْمَهْدِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ، ورَضْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ جَبَلُ جُهَيْنَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ يَنْبُعَ، وَسَبْعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَيُقَالُ: إِنَّ السُّنُوسِيَّةَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْخَهُمُ الْمَهْدِيَّ السُّنُوسِيَّ هُوَ الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ اخْتَفَى، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ مَوْتِهِ يَقُولُونَ الْحَيُّ يَمُوتُ. وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ قَدْ مَاتَ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْمَهْدِيِّ ; لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَسَيُخْرِجُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا أَنْطَاكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ إِنَّمَا سُمِّي الْمَهْدِيَّ: لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ فَيُسْتَخْرِجُهَا مِنْ جِبَالِ الشَّامِ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا الْيَهُودُ فَتُسْلِمُ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، رَوَاهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَضْلِيلَاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَالْمَشْهُورُ فِي نَسَبِهِ: أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَدِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ، وَهُنَالِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ. (مِنْهَا) مَا رَوَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا عَمِّ؟ إِنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ الْأَصْفِيَاءَ، وَمِنْ عَتْرَتِكِ الْخُلَفَاءَ، وَمِنْكَ الْمَهْدِيُّ فِي آخِرِ

الزَّمَانِ، بِهِ يَنْشُرُ اللهُ الْهُدَى وَيُطْفِئُ نِيرَانَ الضَّلَالَةِ، إِنَّ اللهَ فَتَحَ بِنَا هَذَا الْأَمْرَ وَبِذُرِّيَّتِكَ يُخْتَمُ " وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا " اللهُمَّ انْصُرِ الْعَبَّاسَ وَوَلَدَ الْعَبَّاسِ (ثَلَاثًا) يَا عَمُّ أَمْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ وَلَدِكَ مُوَفَّقًا مَرْضِيًا " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَعَلِيٍّ، وَفِي حَدِيثِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَهْدِيِّ ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِحَدِيثِ الرَّايَاتِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ خَلْدُونَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ إِلَخْ. وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ مِنْ شِيعَةِ الْكُوفَةِ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ شُعْبَةُ فِيهِ: كَانَ رَفَّاعًا، أَيْ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحَادِيثَ الَّتِي لَا تُعْرَفُ مَرْفُوعَةً، وَصَرَّحُوا بِضَعْفِ حَدِيثِهِ هَذَا. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي نِسْبَةِ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْعَبَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ رِوَايَاتٌ فِي التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمُنْتَظَرَ هُوَ الْعَبَّاسِيُّ، وَذَكَرَ قَبْلَهُ السَّفَّاحَ وَالْمَنْصُورَ. وَأَهْلُ الرِّوَايَةِ يَتَكَلَّفُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَمَا يُعَارِضُهَا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِنَ الْعَبَّاسِ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فِيهِ وِلَادَةٌ بَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَبَعْضُهَا جِهَةِ الْأُمِّ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْقَوْلِ الْمُخْتَصَرِ، وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ أَلْفَاظَ الْأَحَادِيثِ لَا تَتَّفِقُ مَعَ هَذَا الْجَمْعِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي أُمِّ الْمَهْدِيِّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى كَثْرَتِهَا. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا يَسْعَوْنَ لِجَعْلِ الْخِلَافَةِ فِي آلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَضَعُونَ الْأَحَادِيثَ تَمْهِيدًا لِذَلِكَ فَفَطِنَ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَبَّاسِيُّونَ فَاسْتَمَالُوا بَعْضَهُمْ، وَرَأَى أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ وَعَصَبِيَّتُهُ أَنَّ آلَ عَلِيٍّ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الزُّهْدُ، وَأَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ كَبَنِي أُمَيَّةَ فِي الطَّمَعِ فِي الْمُلْكِ فَعَمِلَ لَهُمْ تَوَسُّلًا بِهِمْ إِلَى تَحْوِيلِ عَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْفُرْسِ، تَمْهِيدًا لِإِعَادَةِ الْمُلْكِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَحِينَئِذٍ وُضِعَتْ أَحَادِيثُ الْمَهْدِيِّ مُشِيرَةً إِلَى الْعَبَّاسِيِّينَ مُصَرِّحَةً بِشَارَتِهِمْ (السَّوَادِ) وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ الْمَرْفُوعُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ هَذَا ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمُ ابْنُ خَلِيفَةَ، ثُمَّ لَا تَصِيرُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا لَمْ يَقْتُلْهُ قَوْمٌ - ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ - فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللهِ الْمَهْدِيُّ قَالَ السِّنْدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى

شَرِيطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ. فَهُوَ مِثَالٌ لِأَصَحِّ مَا رَوَوْهُ فِي الْمَهْدِيِّ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّازِقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ الشَّهِيرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالتَّشَيُّعِ، وَعَمِّي فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَخَلَطَ، وَكَانَ مِنْ مَشَايِخِهِ عَمُّهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَنَاهِيكَ بِهِ - وَفِي سَنَدِهِ إِلَى ثَوْبَانَ أَبُو قِلَابَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَهُمَا مُدَلِّسَانِ، وَقَدْ عَنْعَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُولَا إِنَّهُمَا سَمِعَاهُ فَإِذَا أَضَفْتَ إِلَى هَذَا طَعْنَ الطَّاعِنِينَ فِي عَبْدِ الرَّازِقِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَدِيٍّ الْقَائِلُ: إِنَّهُ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ رَمْيِ بَعْضِهِمْ إِيَّاهُ بِالْكَذِبِ عَلَى مَكَانَتِهِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ. - وَإِذَا تَذَكَّرْتَ مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْفِتَنِ وَالسَّاعَةِ عَامَّةٌ، وَأَحَادِيثَ الْمَهْدِيِّ خَاصَّةٌ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مَهَبَّ رِيَاحِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَمَيْدَانَ فُرْسَانِ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ، - تَبَيَّنَ لَكَ أَيْنَ تَضَعُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْهَا. وَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَتِ الْأَحَادِيثُ قَدْ دُوِّنَتْ، لَمْ يَسَعِ الْقَائِلِينَ بِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الرَّايَاتِ السُّودَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهَا غَيْرُ رَايَاتِ بَنِي الْعَبَّاسِ، عَلَى أَنَّ خُصُومَهُمْ كَانُوا قَدْ رَوَوْا فِي مُعَارَضَتِهَا رِوَايَاتٍ نَاطِقَةً بِأَنَّ رَايَاتِ الْمَهْدِيِّ تَكُونُ صُفْرًا، وَرِوَايَاتٍ فِي أَنَّ ظُهُورَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ لَا مِنَ الْمَشْرِقِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّامِتِ: قُلْتُ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَمَا مِنْ عَلَامَةٍ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْأَمْرِ؟ - يَعْنِي ظُهُورَ الْمَهْدِيِّ - قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: هَلَاكُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَخُرُوجُ السُّفْيَانِيِّ وَالْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ. قُلْتُ: جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، أَخَافُ أَنْ يَطُولَ هَذَا الْأَمْرُ. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كَنِظَامِ سِلْكٍ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَرَوَوْا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ قَالَ: تَكُونُ فِي الشَّامِ رَجْفَةٌ يَهْلَكُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ يَجْعَلُهَا اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَذَابًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَانْظُرُوا إِلَى أَصْحَابِ الْبَرَاذِينِ الشُّهُبِ وَالرَّايَاتِ الصُّفْرِ تُقْبِلُ مِنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَحِلَّ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُوعِ الْأَكْبَرِ، وَالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَانْظُرُوا خَسْفَ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا (حَرَسْتَا) فَإِذَا كَانَ خَرَجَ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَانْظُرُوا خُرُوجَ الْمَهْدِيِّ. انْتَهَى الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ لَقَبُ مُعَاوِيَةَ ; لِأَنَّ أُمَّهُ أَخْرَجَتْ قَلْبَ حَمْزَةَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ. رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ يَوْمَ قُتِلَ فِي أُحُدٍ فَمَضَغَتْهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ وُضِعَتْ فِيمَا يَظْهَرُ بَعْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; لِلتَّبْشِيرِ بِانْتِقَامِ الْمَهْدِيِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ ; ثُمَّ حَمَلُوهَا عَلَى السُّفْيَانِيِّ الَّذِي كَثُرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي خُرُوجِهِ قَبْلَ الْمَهْدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنَّهُ أَحَدُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَهُ بَلْ شَرُّهُمْ، وَالْآخَرُونَ هُمُ الْمُلَقَّبُونَ بِالْأَبْقَعِ وَالْأَصْهَبِ وَالْأَعْرَجِ وَالْكِنْدِيِّ وَالْجُرْهُمِيِّ وَالْقَحْطَانِيِّ، وَلِفَارِسِ مَيْدَانِ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ تَفْصِيلَاتٌ لِخُرُوجِ هَؤُلَاءِ، هِيَ كَالتَّفْسِيرِ لِلْأَثَرِ الْعُلْوِيِّ الْمَوْضُوعِ، تُرَاجَعُ فِي فَوَائِدِ الْفِكْرِ لِلشَّيْخِ مَرْعِي، وَعَقَائِدِ الْسَّفَارِينِيِّ وَغَيْرِهَا.

فَهَذَا نَمُوذَجٌ مِنْ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ وَتَهَافُتِهَا فِي الْمَهْدِيِّ، وَلَوْ ذَكَرْنَا مَا فِي كُتُبِ الشِّيعَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ فِي ذَلِكَ لَجِئْنَا بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَتَمْحِيصُ الْقَوْلِ فِيهَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِسِفْرٍ مُسْتَقِلٍّ. خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَحَادِيثِ الْفِتَنِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَمَارَاتِهَا وَسَبَبِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ فِيمَا يُخْتَصَرُ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ: (1) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِبَعْضِ الْغُيُوبِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ قِسْمَانِ: صَرِيحٌ كَأَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ وَالسَّاعَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمُسْتَنْبَطٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمَنْصُوصَةِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) وَقَوْلِهِ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (17: 16) فَكَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي آيَةِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً أَنَّهُمْ قَرَؤُوها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَقَعُ مِنْهُمْ حَيْثُ وَقَعَتْ فِي فِتْنَةِ قَتْلِ عُثْمَانَ وَفِي يَوْمِ الْجَمَلِ، وَالرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّبَيْرِ أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ كِتَابِ الْفِتَنِ مِنَ الْبُخَارِيِّ. (2) إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِبَعْضِ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْوَحْيِ، كَسُؤَالِهِ لِرَبِّهِ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا، فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَبَدَّلُ، أَيْ وَأَنَّ هَذَا مِنْهَا، رَاجِعْ تَفْسِيرَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (6: 65) إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى قَبْلَ إِعْلَامِهِ لَهُ. (3) أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ أُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، كَمَا تَمَثَّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ، وَكَمَا تَمَثَّلَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ حَفْرِ الْخَنْدَقِ مَا يَفْتَحُ اللهُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ، وَكَمَا تَمَثَّلَتْ لَهُ الْفِتَنُ وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوُقُوعِ الْقَطْرِ " وَظَهَرَ هَذَا فِي فِتْنَةِ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْفِتَنِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَكَشْفُهُ هَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ: نُبُوءَاتٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ كَالشَّمْسِ. (4) أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُخْبِرُ أَصْحَابَهُ بِكُلِّ مَا يُطْلِعُهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بِمَا كَانَ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِخْبَارِهِمْ بِهِ مَوْعِظَةً وَتَحْذِيرًا، وَكَانَ يَخُصُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِبَعْضِهَا كَمَا رُوِيَ فِي مَنَاقِبِ حُذَيْفَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمَا كَانَ كُلُّ مَنْ سَمْعِ مِنْهُ شَيْئًا مِنْهَا يَفْهَمُ مُرَادَهُ كُلَّهُ، وَإِذَا كَانُوا لَمْ يَفْهَمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي سُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ التَّفْصِيلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا

عَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَإِذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ بَعْضَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (2: 187) فَلَأَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ تَأْوِيلُ مَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً - ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ - أَوْلَى. وَخَفَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَوْلَى، إِلَّا مَنْ يَقَعُ تَأْوِيلُهُ فِي عَهْدِهِمْ كَوَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ الْمُتَهَتِّكَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ إِلَخْ. (5) لَا شَكَّ فِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ قَدْ رُوِيَ بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ رُوَاةِ الصِّحَاحِ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ حَتَّى الْمُخْتَصَرِ مِنْهَا، وَمَا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنَ الْمُدْرَجَاتِ، وَهِيَ مَا يُدْرَجُ فِي اللَّفْظِ الْمَرْفُوعِ مِنْ كَلَامِ الرُّوَاةِ. فَعَلَى هَذَا كَانَ يَرْوِي كُلُّ أَحَدٍ مَا فَهِمَهُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي فَهْمِهِ الْخَطَأُ; لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ غَيْبِيَّةٌ، وَرُبَّمَا فَسَّرَ بَعْضَ مَا فَهِمَهُ بِأَلْفَاظٍ يَزِيدُهَا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُطْلِعْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي بَعْضِهَا وَيُقَدِّرُ وَيَأْخُذُ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ ابْنُ صَيَّادٍ الْيَهُودِيُّ الْمُعَاصِرُ لَهُ هُوَ الدَّجَّالُ الْمَنْتَظَرُ، وَكَذَا تَجْوِيزِهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي زَمَنِهِ وَهُوَ حَيٌّ، فَهَلْ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ يَقَعَ الْخَلْطُ وَالتَّعَارُضُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى بِقَدْرِ فَهْمِ الرُّوَاةِ. (6) أَنَّ الْعَابِثِينَ بِالْإِسْلَامِ وَمُحَاوِلِي إِفْسَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِزَالَةِ مُلْكِهِمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ وَأَهْلِ الْعَصَبِيَّاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ قَدْ وَضَعُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً افْتَرَوْهَا، وَزَادُوا فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ دَسَائِسَ دَسُّوهَا، وَرَاجَ كَثِيرٌ مِنْهَا بِإِظْهَارِ رُوَاتِهَا لِلصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَلَمْ يُعْرَفْ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ إِلَّا بِاعْتِرَافِ مَنْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ وَاضِعِيهَا، وَلَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَثِقُ إِلَّا بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِمَّا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ. (7) إِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَرْوُونَ عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَا كَلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ، وَمَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَدَاءِ بَيْنَ مَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ بِمِثْلِ: سَمِعْتُ وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي، وَمِثْلِ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ، أَوْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا فَعَلَ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ بَعْدُ عِنْدَ وَضْعِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَعَنِ التَّابِعِينَ حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ فَلَا يُخِلُّ جَهْلُ اسْمِ رَاوٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ السَّنَدِ، وَهِيَ قَاعِدَةُ أَغْلَبِيَّةٌ لَا مُطَّرِدَةٌ فَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَافِقُونَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (9: 101) مَرَدُوا عَلَيْهِ: أَحْكَمُوهُ وَصَقَلُوهُ أَوْ صَقَلُوا فِيهِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَظْهَرُ فِي سِيمَاهُمْ

188

وَفَحْوَى كَلَامِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ اللهُ فِيهِمْ مِنْهُمْ: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (47: 30) . وَلَكِنَّ الْبَلِيَّةَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعْظَمُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مَأْخُوذٌ عَنْهُ وَعَنْ تَلَامِيذِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُدَلِّسُونَ كَقَتَادَةَ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ جُرَيْجٍ. فَكُلُّ حَدِيثٍ مُشْكِلِ الْمَتْنِ أَوْ مُضْطَرِبِ الرِّوَايَةِ، أَوْ مُخَالِفٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، أَوْ لِأُصُولِ الدِّينِ أَوْ نُصُوصِهِ الْقَطْعِيَّةِ، أَوْ لِلْحِسِّيَّاتِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْيَقِينِيَّةِ، فَهُوَ مَظَنَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ، وَسَبَقَ لَنَا بَيَانُ أَكْثَرِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فِي تَفْسِيرِ (6: 158) مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ص 185 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ، فَمَنْ صَدَّقَ رِوَايَةً مِمَّا ذُكِرَ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهَا إِشْكَالًا فَالْأَصْلُ فِيهَا الصِّدْقُ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ أَوِ الْمُشَكِّكِينَ إِشْكَالًا فِي مُتُونِهَا، فَلْيَحْمِلْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مِنْ دَسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَوْ خَطَأِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا ثَابِتًا بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، فَلَا يَصِحُ أَنْ يُجْعَلَ شُبْهَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ، وَلَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ، وَلَعَلَّ اللهَ تَعَالَى يُبَارِكُ لَنَا فِي الْعُمْرِ، وَيُوَفِّقُنَا لِصَرْفِ مُعْظَمِهِ فِي خِدْمَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَنَضَعُ لِأَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَآيَاتِ السَّاعَةِ مُصَنَّفًا خَاصًّا بِهَا، وَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ عَقَائِدِهِ بِبَيَانِهَا لِحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَهَدْمِهَا لِقَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمَبَانِي الْوَثَنِيَّةِ مِنْ أَسَاسِهَا، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا أَنْ يُجِيبَ السَّائِلِينَ لَهُ عَنِ السَّاعَةِ بِأَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَمْرَهَا بِيَدِهِ وَحْدَهُ - وَأَمَرَهُ فِي هَذِهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ الْأُمُورِ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ كُلَّهُ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَنْفِيَ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا

يَسْأَلُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ قَدْ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَمَنْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ يُحِبُّ أَوْ يَشَاءُ، أَوْ مَنْعِ النَّفْعِ وَإِحْدَاثِ الضُّرِّ بِمَنْ يَكْرَهُ أَوْ بِمَنْ يَشَاءُ. فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، لَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ بِوَحْيهِ، وَأَنَّهُ فِيمَا عَدَا تَبْلِيغِ الْوَحْيِ عَنِ اللهِ تَعَالَى بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (18: 110) قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي - أَيْ وَلَا لِغَيْرِي بِالْأَوْلَى - جَلْبَ نَفْعٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، فَوُقُوعُ كَلِمَتَيِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ نَكِرَتَيْنِ مَنْفِيَّتَيْنِ يُفِيدُ الْعُمُومَ حَسَبِ الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَنَفْيُ عُمُومِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لَهُ. وَلَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُشْكِلٌ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ تَمَكُّنِ كُلِّ إِنْسَانٍ سَلِيمِ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَفْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَدَفْعِ بَعْضِ الضَّرَرِ عَنْهَا ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا مُسْتَقِلًّا بِقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِتَمْلِيكِ الرَّبِّ الْخَالِقِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا أَمْلِكُ مِنْهُمَا (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) مِنْ نَفْعٍ أَقْدَرَنِي عَلَى جَلْبِهِ، وَضُرٍّ أَقْدَرَنِي عَلَى مَنْعِهِ، وَسَخَّرَ لِي أَسْبَابَهُمَا، أَوْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ عَلَى هَذَا هُوَ بَيَانُ عَجْزِ الْمَخْلُوقِ الذَّاتِيِّ، وَكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ أُوتِيَهُ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، لَا يَسْتَقِلُّ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنْهُ اسْتِقْلَالًا مُطْلَقًا، وَلَا هُوَ يَمْلِكُهُ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، بَلْ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهِ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ بِمُقْتَضَى مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا لِنَفْسِهِ بِمَنْطُوقِ الْجُمْلَةِ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِمَفْهُومِهَا الْأَوْلَى، مِمَّا يَعْجَزُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى بَشَرِيَّتِهِ، وَمَا أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ مُؤَكِّدٌ لِعُمُومِهِ، أَيْ لَكِنَّ مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (87: 6، 7) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا (6: 80) وَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ كَلِيمِهِ

مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [027 011] إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ (27: 10، 11) الْآيَةَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ فُتِنُوا مُنْذُ قَوْمِ نُوحٍ بِمَنِ اصْطَفَاهُمُ اللهُ وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ عِبَادُهُ مِنْ نَفْعٍ يَسُوقُهُ إِلَيْهِمْ، وَمَا يَخْشَوْنَهُ مِنْ شَرٍّ يَمَسُّهُمْ، فَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ كَمَا يَدْعُونَهُ لِذَلِكَ إِمَّا اسْتِقْلَالًا، وَإِمَّا إِشْرَاكًا ; إِذْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا اللهُ تَعَالَى لِسَائِرِ النَّاسِ، فَصَارُوا يَسْتَقِلُّونَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ مَنْحًا وَمَنْعًا، وَإِيجَابًا وَسَلْبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْغَيْبِيَّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ الْمَمْنُوحَةِ لِلْبَشَرِ خَاصٌّ بِرَبِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَظُنُّونَ مَعَ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَوُزَرَاءِ الْمُلُوكِ وَحُجَّابِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ، وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُتْبَتِهِمْ، فَالْمَلِكُ الْمُسْتَبِدُّ بِسُلْطَانِهِ يُعْطِي هَذَا، وَيَعْفُو عَنْ ذَنْبِ هَذَا بِوَسَاطَةِ هَؤُلَاءِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَنْتَقِمُ بِوَسَاطَةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِزَعْمِهِمْ، فَهُمْ شُفَعَاءُ لِلنَّاسِ عِنْدَهُ تَعَالَى يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْوَثَنِيِّ، وَتَمْثِيلِ تَصَرُّفِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الْغَنِيِّ عَنْ عِبَادِهِ بِتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى وُزَرَائِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهِمْ - قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ (16: 74) وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ رُسُلَ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ صَفْوَةُ خَلْقِهِ لَا يُشَارِكُونَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَلَا فِي مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّهَا كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا تَغَيُّرٌ، وَأَنَّ الرِّسَالَةَ الَّتِي اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا إِقْدَارُهُمْ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَا مَنْحُهُمْ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ مَدَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى تَوَجُّهِ الْعِبَادِ إِلَى الْمَعْبُودِ فِيمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعٍ وَيَخَافُونَ مِنْ ضُرٍّ، فَاسْتُعْمِلَ اللَّفْظَانِ فِي التَّنْزِيلِ فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّبَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، غَيْرَ خَاضِعٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (5: 76) وَقَوْلِهِ فِي عِجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (20: 89) وَقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا (48: 11) وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا

(13: 16) وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (25: 3) الْآيَةَ. فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ خَاصًّا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، وَكَانَ طَلَبُ النَّفْعِ أَوْ كَشْفُ الضُّرِّ عِبَادَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ فَضْلُهُ تَعَالَى عَظِيمًا عَلَيْهِمْ - أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَرِّحَ بِالْبَلَاغِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْأَمْرُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ وَتَوْكِيدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (10: 49) الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (72: 21) وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغُ وَأَشْمَلُ مِمَّا فِي مَعْنَاهَا بِمَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَاحْتِبَاكٍ بِحَذْفِ مَا يُقَابِلُ الضُّرَّ وَالرُّشْدَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا ضِدَّاهُمَا بِدَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا رُشْدًا وَلَا غِوَايَةً، وَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى مَا هُنَا تُؤَيِّدُ اخْتِيَارَنَا. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِانْتِفَاءٍ أَظْهَرِ مَنَافِعِهِ الْقَرِيبَةِ فَقَالَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَالسُّوءُ مَا يَرْغَبُونَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَيُرَادُ بِهِمَا هُنَا الْجِنْسُ الَّذِي يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَحْصِيلُهُ، وَالسُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِعْدَادُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ مَا يَأْتِي بِهِ الْغَدُ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَيْبَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ - وَأَقْرَبَهُ مَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِي فِي الدُّنْيَا - لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ كَالْمَالِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ عُسْرَةٍ وَغَلَاءٍ مَثَلًا وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، وَلَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، كَشِدَّةِ الْحَاجَةِ مَثَلًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْعِبَادَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسَتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا - يَعْنِي لَوْ أَنَّهُ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَحْصُلُ مِنَ انْفِرَادِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ بِسَوْقِهِ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ مِنْ مَشَقَّةِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ دُونَهُ ; إِذْ لَا يُبَاحُ الْفَسْخُ وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، لَمَا سَاقَ الْهَدْيَ لِيُوَافِقَ الْجُمْهُورَ فِي تَمَتُّعِهِمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْإِدَارَةِ وَسِيَاسَةِ الْحَرْبِ مَا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى وَالتَّصَدِّي لِلْأَغْنِيَاءِ، وَمِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمِنَ الْإِذْنِ بِتَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ سَنَةَ الْعُسْرَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَمَا مَسَّنِيَ الْجُنُونُ كَمَا زَعَمَ الْجَاهِلُونَ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيَ رَفْعِهِ إِلَى رُتْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي افْتُتِنَ بِمِثْلِهِ الْغُلَاةُ، وَنَفْيَ وَضْعِهِ فِي أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّذِي زَعَمَتْهُ الْغُوَاةُ الْعُتَاةُ. وَبَيَانَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَمَا رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْ قَدْرِهِ، بِجَعْلِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِوَحْيِهِ، وَوَسَاطَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، لَكِنْ فِي التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَلَا فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ الْعِبَادِ ; فَإِنَّ هَذَا شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي أَعْلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ. وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ فِي آيَةٍ وَتَأْخِيرِهِ فِي أُخْرَى: تَقْدِيمُ النَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الضُّرِّ عَلَيْهِ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَالْفَرْقُ الْمُحَسِّنُ لِذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْأَعْرَافِ جَاءَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ وَأَكْبَرُ فَوَائِدِ الْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ - الِاسْتِعْدَادُ لَهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاتِّقَاءُ أَسْبَابِ الْعِقَابِ فِيهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْبَدْءَ بِنَفْيِ مِلْكِ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ، وَتَأْخِيرُ مِلْكِ الضُّرِّ الْمُرَادُ بِهِ مِلْكُ دَفْعِهِ وَاتِّقَاءِ وُقُوعِهِ، وَأَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى فِيمَا دُونَ السَّاعَةِ زَمَنًا وَعَظُمَ شَأْنُهُ لَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَاتَّقَى أَسْبَابَ مَا يَمَسُّهُ مِنَ السُّوءِ فِيهِ كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ يُونُسَ، فَقَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَمَارِي الْكُفَّارِ فِيمَا أَوْعَدَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاسْتِعْجَالِهِمْ إِيَّاهُ تَهَكُّمًا وَمُبَالَغَةً فِي الْجُحُودِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِهِمْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لَهُمْ ضُرًّا كَتَعْجِيلِ الْعَذَابِ الَّذِي يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلَا نَفْعًا كَالنَّصْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُمْ أَنَّ أَمْرَ عَذَابِهِمْ تَعْجِيلًا أَوْ تَأْخِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ، وَإِيجَادِ جَنَّةٍ تَتَفَجَّرُ الْأَنْهَارُ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ إِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا - وَهُوَ مِنَ الْعَذَابِ - إِلَخْ. وَمِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (17: 93) وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (17: 54) أَيْ مُوَكَّلًا بِأَمْرِ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ مُنَفِّذًا لَهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (13: 40) . وَهَاكَ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ عَنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ قَالَ: " أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْمُسْتَقْبَلَ

وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (72: 26) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَعَمِلْتُ عَمَلًا صَالِحًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مِثْلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ; لِأَنَّ عَمَلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ دِيمَةً، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، فَجَمِيعُ عَمَلِهِ كَانَ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، اللهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. " وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ: مِنَ الْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إِلَّا رَبِحْتُ فِيهِ وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَعْدَدْتُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ مِنَ الْمُخْصِبَةِ، وَلِوَقْتِ الْغَلَاءِ مِنَ الرُّخْصِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَأَتَّقِيهِ. " اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَعَمُّ وَأَصَحُّ. هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (6: 50) أَنَّ الْغَيْبَ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَإِضَافِيٌّ يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِي قُدْرَةَ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِ اللهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ عِلْمَ الْغَيْبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بِوَحْيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِوَظِيفَةِ الرِّسَالَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ - وَأَنَّ مَا يُطْلِعُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ، بَلْ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرَ مُكْتَسَبَةٍ. وَأَوْرَدْنَا هُنَالِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ إِلَى قَوْلِهِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ (72: 26 - 28) الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى تَفْنِيدِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَشَايِخِ طُرُقِ الصُّوفِيَّةِ أَوْ يُدَّعَى لَهُمْ، مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ اللهِ أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ثُمَّ أَطَلْنَا الْبَحْثَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ فِي تَفْسِيرِ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (6: 59) الْآيَةَ، وَتَكَلَّمْنَا فِيهِ عَنِ الْكَشْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ أَوِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى غَيْبًا; لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا فِطْرِيَّةً. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّذِي مَرَّ بِكَ قَرِيبًا بَحْثٌ فِيمَا أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ بِمَا دُونَ الْوَحْيِ

مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، كَتَمَثُّلِ الْأَشْيَاءِ لَهُ تَمَثُّلًا مُتَفَاوِتًا فِي الْوُضُوحِ. وَهُوَ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا عَلِمْتُ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَعْلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَفْيِ امْتِيَازِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَشَرِ بِمِلْكِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنْ غَيْرِ طُرُقِ الْأَسْبَابِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ - وَنَفْيِ امْتِيَازِهِ عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، عَلَّلَهَا بِبَيَانِ حَصْرِ امْتِيَازِهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالتَّبْلِيغُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّخْوِيفِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَقَسْمٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَهُوَ الْبِشَارَةُ أَوِ التَّبْشِيرُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوَجَّهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَيُوَجَّهُ أَيْضًا إِلَى مَنْ يُؤْمِنَ، وَإِلَى مَنْ يُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ وَإِجْرَامِهِ مُطْلَقًا، وَإِذَا ذُكِرَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ يُخَصُّ الْكَافِرُونَ بِالْإِنْذَارِ وَالْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ بِالتَّبْشِيرِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ الْإِنْذَارُ الْمُطْلَقُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ تَبْشِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَإِنْذَارُ مُتَّخِذِي الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَافِرِينَ. وَمِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرَ سُورَةِ مَرْيَمَ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (19: 97) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى فِي الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَرَى فِي أَوَائِلِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْإِسْرَاءِ، وَلَكِنْ بِدُونُ ذِكْرِ لَفْظِ الْإِنْذَارِ. وَالتَّبْشِيرُ لَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ بِلَقَبِهِمْ إِلَّا بِأُسْلُوبِ التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3: 21) عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَقَدْ يُوَجَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ (35: 18) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (36: 11) . بِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصْفَيْنِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِإِنْذَارِهِ فَيُزِيدُهُمْ خَشْيَةً لِلَّهِ وَاتِّقَاءً لِمَا يُسْخِطُهُ، وَبِتَبْشِيرِهِ فَيَزْدَادُونَ شُكْرًا لَهُ بِعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهمْ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّانِي الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى حَذْفِ مُقَابِلِهِ فِيمَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّبْلِيغِ، وَهُنَالِكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْبِشَارَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً لِاتِّصَالِهَا بِهِمْ، وَالْإِنْذَارُ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ عُرِفَ وَجْهُهُ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ حَصْرِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ بِلَفْظَيْهِمَا مَعًا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَبِلَفْظِ التَّبْلِيغِ الْجَامِعِ لَهُمَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ كَمَا هُنَا وَبَعْضُهَا بِإِنَّمَا، وَالْحَصْرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْوَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ وَالتَّوْكِيدِ كُلِّهِ يَأْبَى غُلَاةُ الْإِطْرَاءِ لِلرُّسُلِ وَلِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ مِنَ الصَّالِحِينَ حَقِيقَةً أَوْ تَوَّهُّمًا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَفْعَالِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (34: 28) وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْإِسْرَاءِ وَالْفَرْقَانِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (16: 35) وَفِي سُورَةِ يس حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (36: 17) وَفِي سُورَتَيِ النُّورِ وَالْعَنْكَبُوتِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا إِضَافِيٌّ ; فَإِنَّ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ بَيَانَ الْوَحْيِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ (4: 105) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (16: 44) وَالْبَيَانُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ كَالْأَقْوَالِ، بَلِ الْأَفْعَالُ أَقْوَى دَلَالَةً وَأَعْصَى عَلَى تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ. وَكَمَا قَدْ أَمَرَ تَعَالَى بِتَحْكِيمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُضُوعِ لِحُكْمِهِ، أَمَرَ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (33: 21) . قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْحَصْرَ الْحَقِيقِيَّ ; لِأَنَّ التَّبْلِيغَ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ بِهِ وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْوَحْيِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَبِيدُ اللهِ تَعَالَى مُكَرَّمُونَ، لَا يُشَارِكُونَهُ فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَلَا فِي تَدْبِيرِهِ، وَهُمْ بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ لَا يَمْتَازُونَ عَلَى الْبَشَرِ فِي خَلْقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُونَ بِاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِوَحْيهِ، وَاصْطِفَائِهِمْ لِتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِمَا زَكَّاهُمْ وَعَصَمَهُمْ فَأَهَّلَهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا أُسْوَةً حَسَنَةً وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِلنَّاسِ فِي الْعَمَلِ بِمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

189

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ إِلَى دِينِ التَّوْحِيدِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزِلَ اللهُ، وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، وَتَلَاهُ التَّذْكِيرُ بِنَشْأَةِ الْإِنْسَانِ الْأُولَى فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ اخْتُتِمَتْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى. وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ، وَاتِّبَاعِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، صَوَّرَهَا بَشَرًا سَوِيًّا وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا سُكُونًا زَوْجِيًّا، أَيْ: جَعَلَ لَهَا زَوْجًا مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَا زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (49: 13) كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ وَكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (51: 49) وَإِنَّنَا نُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ خَلِيَّةٍ مِنَ الْخَلَايَا الَّتِي يُنَمَّى بِهَا الْجِسْمُ الْحَيُّ تَنْطَوِي عَلَى نُوَيَّتَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، يَقْتَرِنَانِ فَيُوَلَّدُ بَيْنَهُمَا خَلِيَّةٌ أُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَنَعْلَمُ أَيْضًا كَيْفَ يَتَكَوَّنُ فِي الْأَرْحَامِ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (53: 45، 46) وَلَكِنَّنَا لَا نَدْرِي كَيْفَ ازْدَوَجَتِ النَّفْسُ الْأُولَى بَعْدَ وَحْدَتِهَا فَكَانَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (18: 51) وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ أَهْلِ

الْكِتَابِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، أَيْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِ، فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشُّرَّاحُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهَا مِنْهُ أَنَّهَا ذَاتُ اعْوِجَاجٍ وَشُذُوذٍ تُخَالِفُ بِهِ الرَّجُلَ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ " فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ (21: 37) وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ مِنْ ضِلْعِهِ الْقَصِيرِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ الْيُسْرَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ لَحْمٌ، وَمَعْنَى خُلِقَتْ أَيْ أُخْرِجَتْ كَمَا تَخْرُجُ النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ جَعْلَ الْحَافِظِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ بَابِ الْإِشَارَةِ، وَحِكَايَتَهُ لَهَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَفْسِيرِهَا الْغَرِيبِ بِتَشْبِيهِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ - عَلَى سِعَةِ حِفْظِهِ - عَلَى قَوْلٍ لِمَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَقْوَالِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْخَلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ بِمِثْلِ مَا حَكَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نَشْأَةِ جِنْسِهِمْ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ فِي بَيَانِ آيَاتِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) فَهَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ لَا خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ. عَبَّرَ التَّنْزِيلُ عَنْ مَيْلِ الزَّوْجِ الْجِنْسِيِّ إِلَى جِنْسِهِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ بِالسُّكُونِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا بَلَغَ سِنَّ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا خَاصًّا، لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِزَوْجٍ مِنْ جِنْسِهِ وَاتَّحَدَا، ذَلِكَ الِاقْتِرَانُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُمَا الْجِنْسِيَّةُ الْمُنْتِجَةُ إِلَّا بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا إِلَخْ. الْغِشَاءُ غِطَاءُ الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتُرُهُ مِنْ فَوْقِهِ، وَالْغَاشِيَةُ الظُّلَّةُ تُظِلُّهُ مِنْ سَحَابَةٍ وَغَيْرِهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (92: 1) أَيْ يَحْجُبُ الْأَشْيَاءَ وَيَسْتُرُهَا بِظَلَامِهِ، وَتَغَشَّاهَا أَتَاهَا كَغَشِيَهَا وَيَزِيدُ مَا تُعْطِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ مِنْ جُهْدٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ نَزِيهَةٌ عَنْ أَدَاءِ وَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَأَدَبَ الشَّرِيعَةِ فِيهَا السِّتْرُ، وَلَفْظُ النَّفْسِ مُؤَنَّثٌ فَأُنِّثَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَلَفْظُ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِهَذَا ذُكِرَ هُنَا فَاعِلُ التَّغَشِّي وَأُنِّثَ مَفْعُولُهُ. أَيْ فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الزَّوْجَ الَّتِي هِيَ الْأُنْثَى حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا أَيْ عَلِقَتْ مِنْهُ وَهُوَ الْحَبَلُ، وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَلَى الْمَحْمُولِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ، وَأَنَّ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ وَنَحْوِهِ يُسَمَّى حِمْلًا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَالْحَمْلُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ خَفِيفًا

لَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَشْعُرُ بِهِ. وَقَدْ تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ حَيْضَتِهَا فَمَرَّتْ بِهِ أَيْ فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْدَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ فِي أَعْمَالِهَا وَقَضَاءِ حَاجَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا اسْتِثْقَالٍ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِ حَمْلِهَا وَقَرُبَ وَضْعُهَا دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: تَوَجَّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى رَبِّهُمَا يَدْعُوَانِهِ فِيمَا انْحَصَرَ هَمُّهُمَا فِيهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَمْلِ عَلَى سَلَامَةٍ بِأَنْ يُعْطِيَهُمَا وَلَدًا صَالِحًا، أَيْ سَوِيًّا تَامَّ الْخَلْقِ يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ النَّافِعَةِ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَبِّهِ، فِيمَا لَا يَمْلِكُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَسْبَابَهُ، دَعَوَاهُ مُخْلِصَيْنِ مُقْسِمَيْنِ لَهُ عَلَى مَا وَطَّنَا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمَا مِنَ الشُّكْرِ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَائِلَيْنِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا لَنَكُونُنَّ مِنَ الْقَائِمِينَ لَكَ بِحَقِّ الشُّكْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمُعَرَّفُ. فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ: فَلَمَّا أَعْطَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا لَا نَقْصَ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فَسَادَ فِي تَرْكِيبِهِ، جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِي إِعْطَائِهِ أَوْ فِيمَا أَعْطَاهُ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا، أَوْ ظُهُورِ مَا هُوَ رَاسِخٌ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَسَنُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (جَعَلَا لَهُ شِرْكًا) أَيْ شَرِكَةً أَوْ ذَوِي شِرْكٍ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَعَالَى شَأْنُهُ عَنْ شِرْكِهِمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ مُعْطِي النَّسْلِ بِمَا خَلَقَهُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْضَاءٍ، وَقَدَّرَ لَهُمَا فِي الْعُلُوقِ وَالْوَضْعِ مِنْ أَسْبَابٍ، لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ هُنَا بَعْدَ تَثْنِيَتِهِ الْأَفْعَالَ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالزَّوْجَيْنِ الْجِنْسُ لَا فَرْدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي (آتَيْتَنَا) وَ (لَنَكُونَنَّ) لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ يَتَنَاسَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. وَالْآيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ لِحَالِ الْبَشَرِ فِيمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْجِنْسُ يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَبِبَعْضِ أَفْرَادِهِ. فَمِثَالُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ فِي إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالنَّسْلِ، مَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الْأَسْبَابِ فِي سَلَامَةِ الْحَامِلِ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْلِ أَوْ فِي حَالَةِ الْوَضْعِ، وَفِي سَلَامَةِ الطِّفْلِ عِنْدَ الْوَضْعِ وَعَقِبِهِ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ التَّشْوِيهِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، كَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ فَعَلْنَا كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ مِنْ طَبِيبٍ أَوْ مُرْشِدٍ أَوْ قَابِلَةٍ لَهَلَكَ الْوَلَدُ أَوْ لَأُجْهِضَتْ أُمُّهُ إِجْهَاضًا أَوْ جَاءَتْ بِسَقْطٍ لَمْ يَسْتَهِلَّ، أَوْ لَمَاتَ عَقِبَ إِسْقَاطِهِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحَيَاةِ، وَيَنْسَوْنَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَضْلَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَذْكُرُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا - ذَلِكَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَمَسُّهُمْ، أَوْ نِقْمَةٍ يَدْفَعُهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهَذَا الشِّرْكُ لَيْسَ خُرُوجًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ نَقْصٌ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشِّرْكِ هُنَا تَرْجِيحَ حُبِّ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى، وَشُغْلِهِمْ لِلْوَالِدَيْنِ عَنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَإِيثَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْتِزَامِ مَا شَرَعَهُ مِنْ

190

أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ لَا نَقْضٌ لَهُ، وَغَفْلَةٌ عَنْهُ لَا جَحْدٌ بِهِ. وَمِثَالُ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ: إِسْنَادُ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ، أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَوْ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ أَوْ بِمِثْلِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ، يَقُولُونَ: لَوْلَا سَيِّدِي فَلَانٌ وَلَوْلَا مَوْلَانَا عِلَّانٌ لَمَا كَانَ كَذَا مِمَّا نُحِبُّ، أَوْ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا نَكْرَهُ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ فِيمَا كَانَ مِنْ نَفْعٍ وَمَنْعِ ضَرَرٍ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ، هُوَ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا، أَقْرَبُهَا مَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: وَارْتَفَعَ مَجْدُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، تَنَزُّهًا عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءِ أَوْ عَنْ شُرَكَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي خَلْقِهِ، أَوْ تَأْثِيرٌ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. كُنْتُ قَرَأْتُ مُنْذُ سِنِينَ جُلَّ مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَأْثُورٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا أَوْرَدُوهُ فِيهَا مِنَ الْإِشْكَالِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الْجَوَابِ عَنْهُ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ، وَلَمَّا أَرَدْتُ كِتَابَةَ تَفْسِيرِهَا الْآنَ لَمْ أَجِدْ مِمَّا فِي ذِهْنِي مِنْهُ شَيْئًا مُرْضِيًا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبِي، فَتَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفَكَّرْتُ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَفِي بَيَانِ كِتَابِهِ لِحَقَائِقِ أَحْوَالِهِمْ، فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَا فِي فِرَاشِي، ثُمَّ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، ثُمَّ بَحَثْتُ فِيمَا عِنْدِي مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ; لِأَكْتُبَ خُلَاصَةَ مَا قِيلَ فِيهَا، وَأَنْظُرَ فِيمَا عَسَاهُ يُؤَيِّدُهُ، وَأُجِيبُ عَمَّا رُبَّمَا يُفَنِّدُهُ، فَإِذَا أَنَا بِصَاحِبِ الِانْتِصَافِ يَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَلِمَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ضَمِيرَيِ الْجَمْعِ مَا نَصُّهُ: وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى مُعَيَّنٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَاللهُ أَعْلَمُ: خَلَقَكُمْ جِنْسًا وَاحِدًا وَجَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ مِنْكُمْ أَيْضًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا تَغَشَّى الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الْجِنْسَ الْآخَرَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (19: 66) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (80: 17) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (103: 2) اهـ. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ عَلَى كَثْرَةِ مُخْرِجِيهِ

غَرِيبٌ وَضَعِيفٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُفَصَّلَةً وَمُطَوَّلَةً وَفِيهَا زِيَادَاتٌ خُرَافِيَّةٌ، تَشْهَدُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مِنَ الدَّسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآثَارُ يَعُدُّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ; لِأَنَّهَا لَا تُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ وَجَرْينَا عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنْهَا مَظِنَّةٌ لِلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَهِيَ لَا يُوثَقُ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا يُنْكِرُهُ الدِّينُ أَوِ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ قَطَعْنَا بِبُطْلَانِهَا وَكَوْنِهَا دَسِيسَةً إِسْرَائِيلِيَّةً، وَمِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّ فِيهِ طَعْنًا صَرِيحًا فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَرَمْيًا لَهُمَا بِالشِّرْكِ، وَلِذَلِكَ رَفَضَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَكَلَّفَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا تُنْكِرُهُ اللُّغَةُ. وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ، وَصَاحِبِ رُوحِ الْمَعَانِي الْأَخْذَ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ دُونَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، الَّتِي فِيهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَمْيِ آدَمَ بِالشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَظَنَّا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَوَصَفَاهُ تَبَعًا لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ بِالْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ، وَمَا هُوَ بِحَسَنٍ وَلَا صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ كَتِلْكَ الْآثَارِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ فِيهَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ جَدُّهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَنَّهَا قُرَشِيَّةٌ أَوْ عَرَبِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا مِنْ خُزَاعَةَ لَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِشِرْكِهِمَا تَسْمِيَةُ أَبْنَائِهِمَا الْأَرْبَعَةِ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ الدَّارِ - يَعْنِي دَارَ النَّدْوَةِ - وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ بُطْلَانُهُ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الَّتِي انْخَدَعَ بِهَا وَلَا يَزَالُ يَنْخَدِعُ بِهَا الْكَثِيرُونَ، وَعُمْدَتُنَا فِي تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِ عِلَلِهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَدْ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا آثَارًا وَأَحَادِيثَ سَأُورِدُهَا وَأُبَيِّنُ مَا فِيهَا، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ وَبِهِ الثِّقَةُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ " وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ مَرْفُوعًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ شَاذِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ

بِهِ مَرْفُوعًا. (قُلْتُ) وَشَاذُّ هُوَ هِلَالٌ وَشَاذٌّ لَقَبُهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ الْمِصْرِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ بْنُ مَعِينٍ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا فَاللهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سَمُرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمَّى آدَمُ ابْنَهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو وَعَنِ الْحَسَنِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ، وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدُ. يَعْنِي جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا. وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلُ كَعْبٍ أَوْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، أَلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ وَاللهُ أَعْلَمُ. " فَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَادًا فَيُعَبِّدُهُمْ لِلَّهِ وَيُسَمِّيهِمْ عَبْدَ اللهِ وَعُبَيْدَ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ سَمَّيْتُمَاهُ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ: فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ فِي آدَمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَرَّتْ بِهِ شَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا؟ ، أَمْ هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يَكُونُ؟ ، أَبَهِيمَةٌ أَمْ لَا؟ وَزَيَّنَّ لَهُمَا الْبَاطِلَ إِنَّهُ غَوِيٌّ مُبِينٌ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُ فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ

فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا الْآيَةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا (آدَمُ) حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ لَتُطِيعَانِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ أَيِّلٍ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ - يُخَوِّفُهُمَا - فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ - يُخَوِّفُهُمَا - فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَا فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَذَكَرَ لَهُمَا فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. " وَقَدْ تَلْقَّى هَذَا الْأَثَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، وَمِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَأَنَّهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَصْلَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا. " وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهَ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ: " فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَهَذَا الْأَثَرُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثُمَّ قَالَ: فَذِكْرُهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْرِ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (67: 5) الْآيَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَصَابِيحَ وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاءُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا،

191

وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ الْمَصَابِيحِ إِلَى جِنْسِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. سِيَاقُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ أَصَابَ كُنْهَ الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ طَعْنًا فِي عَقِيدَةِ أَبَوَيْنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَا تُبْطِلُهُ عَقَائِدُ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ الْجَزْمُ بِبُطْلَانِهَا وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَأَفَنَ آرَائِهِمْ بِهَذَا الشِّرْكِ فَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّجْهِيلِ، أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَلِكُلِّ شَيْءٍ، مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ مَهْمَا يَكُنْ حَقِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (22: 73) وَلَيْسَ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَلَا يَلِيقُ بِسَلِيمِ الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَخْلُوقَ الْعَاجِزَ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ! وَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا حِكَايَةٌ لِشِرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ كَافَّةً، وَمِنْهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِهِمْ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، فَقَوْلُهُ: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا يُرَادُ بِهِ أَصْنَامُهُمْ ; لِأَنَّ " مَا " لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي " يَخْلُقُ " مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ فِي " يُخْلَقُونَ " مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، وَجَعْلُهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضَارِع " يُخْلَقُونَ " لِتَصْوِيرِ حُدُوثِ خَلْقِهِمْ، وَكَوْنِ مِثْلِهِ مِمَّا يَتَجَدَّدُونَ فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا أَسْوَأُ فَضَائِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ. وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ: وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ غَيْرَ خَالِقِينَ لِشَيْءٍ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِعَابِدِيهِمْ نَصْرًا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا بِإِهَانَةٍ لَهَا، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ طِيبِهَا أَوْ حُلِيِّهَا، كَمَا قَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (22: 73) أَيْ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكُمْ فِي تَكْرِيمِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَدْفَعُونَ عَنْهُمْ وَتَنْصُرُونَهُمْ بِالنِّضَالِ دُونَهُمْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ (لَا يَتْبَعُوكُمْ) بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتْبَعُوكُمْ، فَلَا هُمْ يَنْفَعُونَكُمْ، وَلَا هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى إِفَادَتِكُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ أَيْ: مُسْتَوٍ عِنْدَكُمْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَبَقَاؤُكُمْ عَلَى صَمْتِكُمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَمَتُّمْ، أَوْ تَصْمُتُونَ ; لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِهِمْ كَانَ قَدْ وَهَنَ بِحَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَكَوَارِثِ الْخُطُوبِ بَلْ يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِتَقَالِيدِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ وَالرَّجَاءِ بِشَفَاعَتِهِمْ

فِي أَوْقَاتِ الرَّخَاءِ، الَّتِي لَا يَشْعُرُ فِيهَا الْإِنْسَانُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (29: 65) وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ عِنْدَ قُرْبِ وَضْعِ الْحَامِلِ، وَالشِّرْكُ بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْوَصْفِ (صَامِتُونَ) لِإِفَادَةِ كَوْنِ إِحْدَاثِ الدُّعَاءِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الثَّابِتَةِ قَبْلَهُ وَاسْتِمْرَارِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ بِنَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى دُعَائِهِمْ، وَعَدَمِ خُطُورِهِمْ بِالْبَالِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَالشُّعُورِ بِحَاجَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ، وَلَوْ قَالَ: " أَمْ صَمَتُّمْ " أَوْ " أَمْ أَنْتُمْ تَصْمُتُونَ " لَمَّا كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَإِيجَابٍ وَسَلْبٍ ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِتَكَلُّفِ الصَّمْتِ، وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْ دُعَائِهِمْ وَلَوْ لِلتَّجْرِبَةِ مَعَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ وُجُودِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ، وَمِنْ كَوْنِ دُعَائِهَا مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الدُّعَاءِ، وَلَوْ مَعَ انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَسَائِلُ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا كَانَ يَقُولُ أُولُو الْوَثَنِيَّةِ الْكَاسِيَةِ الْحَالِيَّةِ، أَوْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَا أَعْطَاهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِاسْتِقْلَالِهَا، كَمَا يَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْوَثَنِيَّةِ الْعَارِيَةِ الْعَاطِلَةِ - لَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دُعَائِهَا ضَارًّا بِهِمْ، أَوْ مُضَيِّعًا بَعْضَ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ أَشْرَكَ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ أَنَّ هَذَا التَّوْبِيخَ لَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَدْعُونَ جَمَادًا أَوْ شَجَرًا لَا يَعْقِلُ، وَهُمْ يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ وَصُلَحَاءَ، لِأَمْوَاتِهِمْ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهَا ; لِأَنَّ لِأَرْوَاحِهِمُ اتِّصَالًا بِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ مِنْ جَهْلِهِمْ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لَمْ تُنْصَبْ إِلَّا لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ الَّتِي انْتَقَلَتْ إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً لِرَجُلٍ يَلُتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقَ وَيُطْعِمُهُ لِلنَّاسِ، فَالْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ وَالْقُبُورُ الَّتِي تُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهَا وُضِعَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ عُرِفُوا بِالصَّلَاحِ، وَكَانُوا هُمُ الْمَقْصُودِينَ بِالدُّعَاءِ، لِمَا تَخَيَّلُوا فِيهِمْ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَةِ اللهِ، أَوِ التَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ فِي مُلْكِ اللهِ، وَهُوَ أَفْحَشُ الشِّرْكِ بِاللهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ إِشْرَاكِ الصَّنَمِ وَالْوَثَنِ، وَإِشْرَاكِ الْوَلِيِّ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ، فَاقْرَأِ الْآيَاتِ فِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لِلَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (21: 26 - 29)

194

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ مُقَرِّرَةٌ وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِهَا ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ وَنَفْيَ الشِّرْكِ فِيهَا هُوَ أُسُّ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، وَيَثْبُتُ فِي الْجِنَانِ، وَيَكْمُلُ بِالْوِجْدَانِ، إِلَّا بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لِمَضْمُونِ كَلِمَةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَرُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ أَحَدٍ لِلَّهِ إِلَّا بِدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ دُعَاءِ أَحَدٍ مَعَهُ. كَمَا قَالَ: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (72: 18) وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ، مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ " تَدْعُونَ " يَتَعَبَّدُونَ، فَضَلَّ بَعْضُ الْعَوَامِّ مِنَ الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ عَابِدًا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ يُصَلِّي لَهُ الصَّلَاةَ الْمَعْرُوفَةَ وَيَصُومُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ مَعَهُ، أَوْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ لَدَيْهِ، إِذَا كَانَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الدُّعَاءَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ فِيهِ خَاصًّا بِتَسْمِيَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاحْتِمَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ جَاهِلًا بِمَعْنَى الشِّرْكِ، مِمَّنْ يَدْعُونَ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ; لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ أَوْ جَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَنَاوُلِ كَسْبِهِمْ وَسَعْيِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُمْ

آلِهَةً، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ الَّذِي نُعِيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لَا مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ بِدُونِهِ صَحِيحَةً. وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا هُوَ النِّدَاءُ لِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، الْمُوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ الدَّاعِي أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا يُمْكِنُهُ بِهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ بِذَاتِهِ، أَوْ بِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ عَلَى ذَلِكَ، بِحَيْثُ يُجِيبُ دُعَاءَ الدَّاعِي لِأَجْلِهِ. يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ هُمْ عِبَادُ اللهِ أَمْثَالُكُمْ فِي كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاضِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَمْثَالَكُمُ امْتُنِعَ عَقْلًا أَنْ تَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لَا تَسْتَطِيعُونَ نَيْلَهُ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا بِمُسَاعَدَةِ أَمْثَالِكُمْ لَكُمْ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَاوُنِ فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ لَهُ، وَإِنَّمَا يُدْعَى لِمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمُسَخِّرُ لِلْأَسْبَابِ، الَّذِي تَخْضَعُ لِإِرَادَتِهِ الْأَسْبَابُ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَلَا لِإِرَادَةِ أَحَدٍ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا لَا يَشَاؤُهُ مِنْهَا. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصُّلَحَاءِ، دُونَ مَا اتُّخِذَ لَهُمْ تَذْكِيرًا بِهِمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ هَذِهِ الْمُذَكِّرَاتِ يُقْصَدُ لِذَاتِهِ، جَهْلًا بِمَا كَانَتِ اتُّخِذَتْ لِأَجْلِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُمَاثَلَةِ بِطَرِيقَةِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ مَا وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ قُصَارَى أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ أَمْثَالِكُمْ، فَكَيْفَ تَرْفَعُونَهَا عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ، إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ ! . فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِقُوَاكُمُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ بِذَوَاتِهِمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِيَحْمِلُوا الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى إِعْطَائِكُمْ مَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (10: 18) وَقَوْلِكُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (39: 3) ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُمْ لَا أَمْثَالًا لَهُمْ، فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ هَذَا تَقْرِيعٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْوِجْدَانِ، فِي إِثْرِ احْتِجَاجٍ وُجِّهَ قَبْلَهُ إِلَى الْجِنَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لِفَقْدِهِمْ لِجَوَارِحِ الْكَسْبِ، الَّتِي يُنَاطُ بِهَا فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، قَدْ هَبَطُوا عَنْ دَرَجَةِ مُمَاثَلَتِكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَسْعَوْنَ بِهَا إِلَى دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا فِيمَا تَرْجُونَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَخَافُونَ مِنْ شَرٍّ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا حَالَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أَقْوَالَكُمْ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا مَطَالِبَكُمْ، فَأَنْتُمْ تَفْضُلُونَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقُوَى الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي الْخَلْقِ، فَلِمَاذَا تَرْفَعُونَهُمْ عَنْ مُمَاثَلَتِكُمْ، وَهُمْ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ دُونَكُمْ، وَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِ

195

الْهُدَى وَالرَّشَادِ مِنَ الرَّسُولِ، وَتُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (33، 34) أَفَتَأْبَوْنَ قَبُولَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنْ مِثْلِكُمْ، وَقَدْ فَضَّلَهُ اللهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى عَلَيْكُمْ، وَهُوَ لَا يَسْتَذِلُّكُمْ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ رَبُّكُمْ أَوْ إِلَهُكُمْ، ثُمَّ تَرْفَعُونَ مَا دُونَهُ وَدُونَكُمْ إِلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، مَعَ انْحِطَاطِهِ وَتَسَفُّلِهِ عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ؟ ! . قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمَرْزُوئِينَ بِعُقُولِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، نَادُوا شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُفَعَاءً، ثُمَّ تَعَاوَنُوا عَلَى كَيْدِي جَمِيعًا، وَأَجْمِعُوا مَكْرَكُمُ الْخَفِيَّ لِإِيقَاعِ الضُّرِّ بِي سَرِيعًا، فَلَا تُنْظِرُونَ، أَيْ لَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، بَعْدَ إِحْكَامِ الْمَكْرِ الْكُبَّارِ. وَحِكْمَةُ مُطَالَبَتِهِمْ بِهَذَا أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالتَّقَالِيدَ الْمَوْرُوثَةَ تَتَغَلْغَلُ فِي أَعْمَالِ الْوِجْدَانِ، حَتَّى يَتَضَاءَلَ دُونَهَا كُلُّ بُرْهَانٍ، وَيَظَلُّ صَاحِبُهَا مَعَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَتُقَرِّبُ مِنَ اللهِ وَتَشْفَعُ، فَطَالَبَهُمْ بِأَمْرٍ عَمَلِيٍّ يَسْتَلُّ هَذَا الْوَهْمَ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ، وَيَمْتَلِخُ الشُّعُورَ بِهِ مِنْ خَبَايَا صُدُورِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُنَادُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ نِدَاءَ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِنْجَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ بِهَا، وَإِثْبَاتِهِ الْعَجْزَ لَهَا، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِيمَا يَنْسِبُونَ إِلَيْهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْبَاطِنِ، وَالتَّدْبِيرِ الْكَامِنِ، الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ، يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ الْخَفِيِّ. فَإِنْ كَانَ لَهَا شَيْءٌ مَا مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا وَقْتُ ظُهُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِإِبْطَالِ عِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا، وَنَصْرِ عَابِدِيهَا وَمُعَظِّمِي شَأْنِهَا، فَمَتَى يَظْهَرُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ؟ وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا يَرْجُونَهُ أَوْ يَخَافُونَهُ مِنْهَا فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟ . إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ هَذَا تَعْلِيلٌ لِجَزْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذُكِرَ مِنْ عَجْزِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ، وَتَحْقِيرِ أَمْرِهَا وَأَمْرِ عَابِدِيهَا، عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِ بِمَكَّةَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. يَقُولُ: إِنَّ نَاصِرِيِّ وَمُتَوَلِّي أَمْرِي هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ النَّاطِقَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فِي الْمُهِمَّاتِ وَالْمُلِمَّاتِ وَحْدَهُ، وَبِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ دُعَاءَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ هُزُؤٌ بَاطِلٌ، وَسُخْفٌ لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ إِلَّا جَاهِلٌ سَافِلٌ، وَهُوَ يَتَوَلَّى نَصْرَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا الْأَفْرَادُ وَشُئُونُ الْجَمَاعَاتِ، فَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْخُرَافِيِّينَ الْفَاسِدِي الْعَقَائِدِ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَعْمَالِ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ (13: 17) . وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ: وَأَمَّا الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ لِنَصْرِكُمْ وَلِغَيْرِ النَّصْرِ مِنْ مَنَافِعِكُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، فَهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ

198

أَنْ يَنْصُرُونَكُمْ، وَلَا أَنْ يَنْصُرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَنْ يُحَقِّرُ أَمْرَهُمْ، أَوْ يَسْلُبُهُمْ شَيْئًا مِمَّا وُضِعَ مِنَ الطِّيبِ أَوِ الْحُلِيِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَسَّرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْهُ لَهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَا شَابَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ " أَنَّهُمَا كَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حَطَبًا لِلْأَرَامِلِ لِيَعْتَبِرَ قَوْمُهُمَا بِذَلِكَ، وَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ - صَنَمٌ يَعْبُدُهُ فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعُذْرَةِ، فَيَجِيءُ فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصِرْ. حَتَّى أَخَذَاهُ مَرَّةً فَقَرَنَاهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ بِحَبْلٍ فِي بِئْرٍ. فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ عَلِمَ بُطْلَانَ عِبَادَتِهِ وَأَسْلَمَ، فِيهِ يَقُولُ: تَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ وَبَعْدَ أَنْ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى النَّصْرِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِنَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِرْشَادِ إِلَيْهِ فَقَالَ:. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إِلَى مَا تَنْتَصِرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ أَوْ جَلِيَّةٍ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ؟ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا لَمَا اسْتَجَابُوا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْفِعْلِ، كَفَقْدِهِمْ لِلسَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ: وَهُمْ فَاقِدُونَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ كَفَقْدِهِمْ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِمَا وُضِعَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْيُنِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَالْحَدَقِ الزُّجَاجِيَّةِ أَوِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَجَعْلُهَا مُوَجَّهَةً إِلَى الدَّاخِلِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا; لِأَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ بِالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً مِنْ عَابِدِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُبْصِرُونَ حَالَهُ وَحَالَ خَصْمِهِ، فَأَنَّى يُرْجَى مِنْهُمْ نَصْرُهُ وَشَدُّ أَزْرِهِ؟ . وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولِ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَصْنَامِ قَدْ تَمَّ فِيمَا قَبْلَهَا وَعَادَ الْكَلَامُ فِي عَابِدِيهَا، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، إِلَى هُدَى اللهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ وَلَا يَسْمَعُوا دَعْوَتَكُمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا أُوتِيتَ مِنْ سَمْتِ الْجَلَالِ وَالْوَقَارِ، الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ بَيْنَ أُولِي الْجِدِّ وَالْعَزْمِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ. وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَعْرِفُ مِنْ شَمَائِلِهِ وَسِيمَاهُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ حُرٌّ صَادِقٌ، غَيْرُ مُخَادِعٍ وَلَا مُمَاذِقٍ، فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ وَجْهُ كَاذِبٍ، وَمَا زَالَ مِنَ الْمَعْهُودِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ

بَعْضًا بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالتَّلَاقِي، بِمَا يَتَوَسَّمُونَ مِنْ مَلَامِحِ الْوَجْهِ وَمَعَارِفِهِ، ثُمَّ مِنْ مَوْضُوعِ الْحَدِيثِ وَتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ، ثُمَّ يَكْمُلُ ذَلِكَ بِالْمُعَاشَرَةِ. كَمَا يَعْرِفُونَ حَالَ الْأَشْرَارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِذَلِكَ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (47: 30) بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ عَرَفَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ فُضْلَى عَقَائِلِ قُرَيْشٍ فَضَائِلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ، فَاسْتَمَالَتْهُ وَخَطَبَتْهُ لِنَفْسِهَا عَلَى غِنَاهَا وَفَقْرِهِ، بَعْدَ أَنْ رَفَضَتْ أُنَاسًا مِنْ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ خَطَبُوهَا بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ جَزَمَ بِرِسَالَتِهِ عِنْدَمَا حَدَّثَهَا بِأَوَّلِ مَا رَآهُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَوَّلَ رَجُلٍ دَعَاهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ فَرَاسَتِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ وَلَمْ يَتَمَكَّثْ وَلَمْ يَتَرَيَّثْ أَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ قَرِيرَ الْعَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا وَحَقِيقَةِ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا. وَأَمْثِلَةُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَكَانَ أَظْهَرُهَا فِي قَرْنِنَا هَذَا تَعَلُّقُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدُهُ بِالسَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَفْغَانِيِّ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ رَآهُ فِيهَا. وَلِزَامُهُ إِلَى أَنْ فَارَقَ هَذِهِ الدِّيَارَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ غَيْرُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُكْبِرِينَ لَهُ وَالْمُعْجَبِينَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَزْهَرِ يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ، فَأَيْنَ هُمْ وَأَيْنَ آثَارُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَوِ الدِّينِ؟ فَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَرِ الْوَاقِعَةِ تَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، لَا بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْبِيرِ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ فِيهَا كَذَا بِكَذَا. ثُمَّ اقْرَأْ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (10: 42، 43) . خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِأُصُولِ الْفَضَائِلِ الْأَدَبِيَّةِ وَأَسَاسِ التَّشْرِيعِ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي فِي الْمَرْتَبَةِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، الَّذِي تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ، بِأَبْلَغِ التَّوْكِيدِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ يَأْمُرُ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هِيَ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْعَفْوُ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى خَالِصِ الشَّيْءِ وَجَيِّدِهِ، وَعَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ فِيهِ أَوْ مِنْهُ، وَعَلَى السَّهْلِ الَّذِي لَا كُلْفَةَ فِيهِ، وَعَلَى مَا يَأْتِي بِدُونِ طَلَبٍ أَوْ بِدُونِ إِخْفَاءٍ وَمُبَالَغَةٍ فِي الطَّلَبِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ وَهِيَ وُجُودِيَّةٌ، وَمِنْ مَعَانِيهِ السَّلْبِيَّةِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كَعَفَتِ الرِّيَاحُ الدِّيَارَ وَالْآثَارَ. أَوْ إِزَالَةُ أَثَرِهِ كَالْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَنْعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَمَعَانِي الْعَفْوِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْعَدَمِيَّةِ أَوِ الْمُوجَبَةِ

199

وَالسَّالِبَةِ كُلُّهَا إِحْسَانٌ، وَرِفْقٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْعَفْوِ هُنَا أَقْوَالٌ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، فَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ خُذِ الْعَفْوَ خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ - أَيْ مَا فَضَلَ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ وَزَعَمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الزَّكَاةِ - وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ: أَنْفِقِ الْفَضْلَ، وَمِثْلُهَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَفِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَعْنَاهَا: خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِهِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْعَفْوَ هُنَا الصَّفْحُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ عَشْرَ سِنِينَ فَنُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ; لِأَنَّ الْعَفْوَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْذِ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ هُوَ بِالْإِعْطَاءِ أَشْبَهُ، وَلَا بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلَبْ. وَأَحْسَنَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا شَاءَ فِي تَصْوِيرِهِ مَعْنَى الْعَفْوِ بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ، فَقَالَ: وَالْعَفْوُ ضِدُّ الْجُهْدِ، أَيْ خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا أَتَى مِنْهُمْ وَتَسَهَّلَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَلَا تُدَاقَّهُمْ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُمُ الْجُهْدَ وَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفِرُوا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا قَالَ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ وَقِيلَ: خُذِ الْفَضْلَ وَمَا تَسَهَّلَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الزَّكَاةِ. فَلَمَّا نَزَّلَتْ أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. اهـ. نَقُولُ: وَبَقِيَتِ الْآيَةُ مُحْكَمَةً فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَفْوَ يَشْمَلُ هَذَا وَذَاكَ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مِنْ أُصُولِ آدَابِ هَذَا الدِّينِ وَقَوَاعِدِ شَرْعِهِ الْيُسْرَ وَتَجَنُّبَ الْحَرَجِ وَمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ أَهْلُ الْفِقْهِ الْمَقْلُوبِ، فَجَعَلُوا الْعُسْرَ وَالْحَرَجَ مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الشَّرْعِ فِعْلًا لَا تَسْمِيَةً، وَقَدْ صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا " وَتَرَى هَؤُلَاءِ لَا يُخَيَّرُ أَحَدُهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَعَسْرَهُمَا، وَلَا سِيَّمَا الْعُسْرُ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، وَأَمَّا فَتَاوَى الْأَفْرَادِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ فِيهَا قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ: نَحْنُ مَعَ الدَّرَاهِمِ قِلَّةً وَكَثْرَةً! يَعْنِي: فِي الْفَتْوَى بِأَحَدِهِمَا. الْأَصْل الثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْعُرْفِ وَهُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنَ الْخَيْرِ وَفَسَّرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي اللِّسَانِ: الْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، وَالْعُرْفُ ضِدُّ النُّكْرِ قَالَ: وَالْعُرْفُ وَالْعَارِفَةُ وَالْمَعْرُوفُ وَاحِدٌ ضِدُّ النُّكْرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْرِفُهُ النَّفْسُ مِنَ الْخَيْرِ وَتَبْسَأُ بِهِ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ (قَالَ) وَقَدْ تَكَرَّرَ

ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ وَنُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحْسِنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِيَةِ، أَيْ أَمْرٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ إِذْ رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ، وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ اهـ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَعْرُوفَ عَلَى ضِدِّ الْمُنْكَرِ وَعَلَى ضِدِّ الْمَجْهُولِ، وَالْمُنْكَرُ هُوَ الْمُسْتَقْبَحُ عِنْدَ النَّاسِ الَّذِي يَنْفِرُونَ مِنْهُ لِقُبْحِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، وَيَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ. وَالْأَمْرُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ، يُثْبِتُ لَنَا أَنَّ الْعُرْفَ أَوِ الْمَعْرُوفَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ لِلْآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ عَادَاتِ الْأُمَّةِ الْحَسَنَةِ، وَمَا تَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي مَصَالِحِهَا، حَتَّى إِنَّ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَيَّدَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْرُوفِ فِي عَقْدِ مُبَايَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (60: 12) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَقْدَ الْمُبَايَعَةِ أَعْظَمُ الْعُقُودِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَتَقْيِيدُ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ وَشَرْعِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي السُّنَّةِ أَنَّ مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرِّجَالِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى أَصْلِ مُبَايَعَتِهِ لِلنِّسَاءِ الْمَنْصُوصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الصَّحِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَصْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِشَارَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (7: 157) وَوَرَدَ فِي ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كَالْأَعْرَافِ، ثُمَّ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي عَشَرَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْضُهَا فِي صِفَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَحُكُومَاتِهَا، وَأَكْثَرُهَا فِي الْأَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. فَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ بِهِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22: 41) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3: 104) وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (3: 110)

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (9: 71) الْآيَةَ. ثُمَّ قَوْلُهُ فِي صِفَاتِهِمْ، مِنْهَا: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (9: 112) فَهَذِهِ الْآيَاتُ أُصُولٌ لَا مَنْدُوحَةَ لِلْأُمَّةِ عَنِ الْتِزَامِهَا فِي آدَابِهَا وَتَشْرِيعِهَا. وَمِنِ النَّوْعِ الثَّانِي وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228) وَهَذِهِ الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ يَفْضُلُ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ فِي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ تَنَلِ النِّسَاءُ مِثْلَهُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي أَحْكَامِ الطَّلَاقِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (229) وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (231) - وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ - وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ، فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (232) وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا فِيهِنَّ إِذَا كُنَّ مُرْضِعَاتٍ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (233) إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِنَّ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجَانِ الْفِصَالَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (2: 233) وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي مُعْتَدَّاتِ الْوَفَاةِ: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (234) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَلَّقَاتِ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَقَوْلُهُ بَعْدَ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُخْرَى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) وَكَقَوْلِهِ فِي مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (4: 19) وَهُنَالِكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَفِي أَكْلِ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قُيِّدَتْ بِالْمَعْرُوفِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُهِمَّةِ، وَأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِيهَا هُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّعُوبِ وَالْبُيُوتِ وَالْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ، فَتَحْدِيدُهُ وَتَعْيِينُهُ بِاجْتِهَادِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ عُرْفِ النَّاسِ " مُخَالِفٌ لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ حَكِيمَةٌ فِي الْمَعْرُوفِ، مِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ عَنْ بَعْضِ الْبُيُوتِ أَنَّهُنَّ لَا يُزَوِّجْنَ

بَنَاتَهُنَّ لِمَنْ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ وَيُضَارُّهُنَّ، كَانَ هَذَا كَالشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِي الْآيَاتِ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الشَّرْعِ، كَقَوْلِ صَاحِبِ لُبَابِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأْمُرْ بِكُلِّ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ وَعَرَفْتَهُ بِالْوَحْيِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ، وَلَا مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنْهَا كَآيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَدَنِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِيهَا عَامًّا يَشْمَلُ الْمَعْرُوفَ فِي الشَّرْعِ وَفِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهَا الْأُولَى فِي الْمَوْضُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا أَحْكَامٌ يُفَسَّرُ بِهَا الْعُرْفُ وَيُحَالُ عَلَيْهَا فِيهِ - فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ لُبَابِ التَّأْوِيلِ هُوَ مِنْ قِشْرِهِ لَا مِنْ لُبَابِهِ، وَأَوَّلُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعُرْفِ الْمَعْرُوفَ بِالْوَحْيِ، يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ مَعْرُوفًا، وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ صَارَ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. نَعَمْ إِنَّ مَا يَتَقَرَّرُ بِنَصِّ الشَّرْعِ يَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمَجْهُولِ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ. وَيَبْقَى تَحْكِيمُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ مُعْتَبِرًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَلِلْأُمَّةِ فِيهِ عُرْفٌ غَيْرُ مُعَارَضٍ بِنَصٍّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْأُمَّةِ عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ إِذَا كَانَ أَمْرُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِيهَا فَوْضَى وَغَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأُصُولٍ وَأَحْكَامٍ وَفَضَائِلَ ثَابِتَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَنَافِعُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَأَحْوَالِ الْمَعِيشَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يَحْكُمُ فِيهِ الْعُرْفُ وَهُوَ مَا يُقَابِلُهُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ بِهِمَا مَعًا، وَلَا يَضُرُّ مَعَ هَذَا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، فَلْيَكُنِ الْمَعْرُوفُ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ: مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَقْلِ فِعْلُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَيَكْفِي الْمُسْلِمِينَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِرَ الْمُؤْمِنُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ نَصًّا حَتْمًا لَا اجْتِهَادَ فِيهِ، وَلْيَكُنْ لِلْجَمَاعَةِ بَعْدَهُ رَأْيٌ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، وَيَسْتَحْسِنُونَ وَيَسْتَهْجِنُونَ، يَكُونُ عُمْدَتُهُمْ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ. الْأَصْلُ الثَّالِثُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، بِتَرْكِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَعَدَمِ مُمَارَاتِهِمْ، وَلَا عِلَاجَ أَوْقَى لِأَذَاهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَشَرُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَزِقَةُ صُحُفِ الْأَخْبَارِ الْمُنْتَشِرَةِ، فَإِنَّ سُفَهَاءَهَا هُمْ شَرٌّ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ قَلَّ سَفَهُ الشُّعَرَاءِ فِي عَصْرِنَا هَذَا فَلَا أَعْرِفُ لِشَاعِرٍ مَشْهُورٍ مِنَ الْقَذْعِ وَالْبَذَاءِ فِي الْهَجْوِ شَيْئًا مِمَّا نَعْهَدُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالسَّاقِطَةِ، وَكَمْ مِنْ صَحِيفَةٍ قَائِمَةٍ نَاهِضَةٍ بِالثَّرْوَةِ، شَرٌّ مِنْ سَاقِطَةٍ بِالْقِلَّةِ.

وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ السُّفَهَاءِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ إِذَا فَقَدُوهُ، وَلَا يَأْخُذُونَ فِيمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ إِذَا وَجَدُوهُ، وَلَا يَرْعَوْنَ عَهْدًا، وَلَا يَحْفَظُونَ وُدًّا، وَلَا يَشْكُرُونَ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَّا مَا اتَّصَلَ مَدَدُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ عَادَ الشُّكْرُ كُفْرًا، وَاسْتَحَالَ الْمَدْحُ ذَمًّا. أَكْثَرُ مَا كَتَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، وَأَقَلُّهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ جَدِّنَا الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْأَخْلَاقَ ثَلَاثَةٌ بِحَسَبِ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ، عَقْلِيَّةٌ، وَشَهْوِيَّةٌ، وَغَضَبِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ الْحِكْمَةُ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالشَّهْوِيَّةُ الْعِفَّةُ وَمِنْهَا أَخْذُ الْعَفْوِ، وَالْغَضَبِيَّةُ الشَّجَاعَةُ وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مُرْسَلًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ لَمَّا نَزَلَتْ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنْهَا فَقَالَ: " لَا أَعْلَمُ حَتَّى أَسْأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ " اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَعْلَى وَأَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَهْمُهُ أَبْعَدُ وَأَوْسَعُ مِنْ فَهْمِ مَنْ عَلَّلَهُ أَوْ فَسَّرَهُ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِهَا فِي الْجُمْلَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى فَسَبَكَهُ فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا ... أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَلِنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ ... فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا حَسَنَةٌ إِلَّا أَوْعَتْهَا، وَلَا فَضِيلَةٌ إِلَّا شَرَحَتْهَا، وَلَا أُكْرُومَةٌ إِلَّا افْتَتَحَتْهَا، وَأَخَذَتِ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةِ: فَقَوْلُهُ: خُذِ الْعَفْوَ تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ، وَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَأَنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ، وَاتَّفَقَتِ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ تَنَاوَلَ جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ بِهِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا. اهـ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ هُوَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، الَّذِي لَا مَطْمَعَ فِي مِثْلِهِ لِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ وَاللهُ أَعْلَمُ.

200

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ أَفْضَلَ مَا يُعَامِلُ الْبَشَرُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْوَصَايَا الثَّلَاثِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ شَرْحُ التَّعَامُلِ بِهَا تَفْصِيلًا إِلَّا بِسِفْرٍ كَبِيرٍ، وَلَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِهَذِهِ الْوَصَايَا لَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَلَمْ يَجِدِ الْفَسَادُ إِلَيْهِمْ سَبِيلًا، ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ بِاتِّقَاءِ إِفْسَادِ الشَّيْطَانِ، أَيْ جِنْسِهِ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا شَيَاطِينُ الْجِنِّ الْمُسْتَتِرَةُ، فَالتَّنَاسُبُ الْقَرِيبُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُنَّ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مُعَامَلَةِ الْبَشَرٍ وَمُعَامَلَةِ الْجِنِّ، وَمِنْ فُرُوعِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْجَاهِلِينَ، أَيِ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ أَمَرَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ، وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ الَّتِي أَمَرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنْهُمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، اتِّقَاءُ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الشِّرِّيرُ الْمُفْسِدُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمَنْ فَسَّرَ آيَاتِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (7: 189) إِلَخْ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ شِرْكَ الْأَبَوَيْنِ فِيمَا أَتَاهُمَا اللهُ مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ كَانَ بِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ لَنَا أَنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ لِأَبَوَيْنَا كَانَتْ سَبَبَ مَا وَقَعَ لَهُمَا مِنَ الشِّرْكِ فِيمَا آتَاهُمَا مِنَ الْوَلَدِ - وَالْأَوْلَى إِرْجَاعُ التَّنَاسُبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مَا بُيِّنَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ مِنْ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمَا - وَمَا بُيِّنَ فِي خَوَاتِيمِهَا مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى إِتَّقَاءِ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي بَدْءِ سِيَاقِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ قَالَ الرَّاغِبُ: النَّزْغُ دُخُولٌ فِي أَمْرٍ لِإِفْسَادِهِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (12: 100) وَفِي الْأَسَاسِ: نَزَغَهُ مِثْلُ نَسَفَهُ إِذَا طَعَنَهُ وَنَخَسَهُ. وَمِنَ " الْمَجَازِ " نَزَغَهُ الشَّيْطَانُ: كَأَنَّهُ يَنْخُسُهُ لِيَحُثَّهُ عَلَى الْمَعَاصِي. وَنَزَغَ بَيْنَ النَّاسِ: أَفْسَدَ بَيْنَهُمْ بِالْحَثِّ عَلَى الشَّرِّ اهـ. فَالنَّزْغُ كَالنَّسْغِ وَالنَّخْسِ وَالنَّخْزِ وَالنَّغْزِ وَالنَّكْزِ وَالْوَكْزِ وَالْهَمْزِ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَأَصْلُهُ إِصَابَةُ الْجَسَدِ بِرَأْسِ شَيْءٍ مُحَدَّدٍ كَالْإِبْرَةِ وَالْمِهْمَازِ وَالرُّمْحِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْمُحَدَّدَ كَالْإِصْبَعِ، وَالْمُرَادُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ إِثَارَتُهُ دَاعِيَةَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي غَضَبٍ أَوْ شَهْوَةٍ حَيَوَانِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، بِحَيْثُ تُقْحِمُ صَاحِبَهَا إِلَى الْعَمَلِ بِتَأْثِيرِهَا، كَمَا تُنْخَسُ الدَّابَّةُ بِالْمِهْمَازِ لِتُسْرِعَ.

وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قَالَ " يَنْزَغَنَّكَ نَزْغٌ " وَالْمُرَادُ نَازِغٌ ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أَبْلَغُ، وَالشَّيْطَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي الْجِنِّ مِرَارًا، أَوْسَعُهَا مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (6: 68) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ (6: 71) الْآيَةَ. وَكِلْتَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّذِي يُنَاسِبُ مِنْهَا مَا هُنَا، وَهُوَ إِغْوَاءُ النَّاسِ بِالْوَسْوَسَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي (7: 16) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ (7: 27) إِلَخْ. وَمُلَخَّصُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَحْيِ اللهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ أَنَّ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ خَلْقًا خَفِيًّا اسْمُهُ الشَّيْطَانُ لَا تُدْرِكُهُ حَوَاسُّنَا، لَهُ أَثَرٌ فِي أَنْفُسِنَا، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِهَا، وَيُقَوِّي دَاعِيَةَ الشَّرِّ فِيهَا بِمَا سَمَّاهُ الْوَحْيُ وَسْوَاسًا وَنَزْغًا وَمَسًّا، وَنَحْنُ نَجِدُ أَثَرَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِنَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ مَصْدَرَهُ، وَقَدْ شَبَّهْنَا تَأْثِيرَ هَذِهِ الشَّيَاطِينِ الْخَفِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ بِتَأْثِيرِ النَّسَمِ الْخَفِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَكْتِرْيَا أَوْ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ فِي الْأَجْسَادِ، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالنَّاسُ يَجْهَلُونَ هَذِهِ النَّسَمَ الْخَفِيَّةَ، وَيَجْهَلُونَ فِعْلَهَا لِعَجْزِ الْأَبْصَارِ عَنْ إِدْرَاكِهَا بِنَفْسِهَا، وَعَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِهَا لِدِقَّتِهَا وَتَنَاهِيهَا فِي اللُّطْفِ وَالصِّغَرِ، إِلَى أَنِ اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمَرَايَا أَوِ النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ الَّتِي تَرَى الْجِسْمَ أَضْعَافَ أَضْعَافِ جِرْمِهِ، فَبِهَا رُؤِيَتْ وَعُلِمَ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِهَا فِي الْمَوَادِّ السَّائِلَةِ وَالرَّخْوَةِ، وَكُلِّ ذَاتِ رُطُوبَةٍ مِنَ التَّحَوُّلِ وَالتَّغْيِيرِ، كَالِاخْتِمَارِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَحِكْمَةُ إِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ الْمُعَادِي لَنَا، الضَّارِّ بِأَرْوَاحِنَا كَضَرَرِ نَسَمِ الْأَمْرَاضِ بِأَجْسَادِنَا، أَنْ نُرَاقِبَ أَفْكَارَنَا وَخَوَاطِرَنَا وَلَا نَعْقِلَ عَنْهَا، كَمَا نُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ فِي أَجْسَادِنَا مِنْ تَغَيُّرٍ فِي الْمِزَاجِ، وَخُرُوجِ الصِّحَّةِ مِنَ الِاعْتِدَالِ، فَنُبَادِرُ إِلَى عِلَاجِهِ - فَمَتَى فَطِنَّا بِمَيْلٍ مِنْ أَنْفُسِنَا إِلَى الشَّرِّ أَوِ الْبَاطِلِ عَالَجْنَاهُ بِمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنَ الْعِلَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: فَالْجَأْ إِلَى اللهِ وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ; لِيُعِيذَكَ مِنْ شَرِّ هَذَا النَّزْغِ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى مَا يُزْعِجُكَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، الْجَأْ إِلَى اللهِ بِقَلْبِكَ، وَعَبِّرْ عَنْ ذَلِكَ بِلِسَانِكَ، فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُ، عَلِيمٌ بِمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْكَ تَأْثِيرَ نَزْغِهِ بِتَزْيِينِ الشَّرِّ. وَمِنَ الْمُجَرَّبِ أَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، يَصْرِفُ عَنِ الْقَلْبِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ،

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (16: 98، 99) إِلَخْ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ آيَاتِ التَّشْرِيعِ وَالتَّأْدِيبِ مُوَجَّهٌ إِلَى كُلِّ مَا مُكَلَّفٍ يَبْلُغُهُ وَأَوَّلُهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ هُنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (6: 68) الْآيَةَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُوهَا فِي تَرْجِيحِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ فِيهَا. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ آيَةَ الْأَعْرَافِ هَذِهِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي فِيهِ الْوُجُوهُ الْأُخْرَى فِي مِثْلِهَا، وَلَكِنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ أَقْوَى مِنْ إِنْسَائِهِ وَمِنْ مَسِّهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي الْآنَ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ هُنَالِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَهُوَ سِيَاقٌ طَوِيلٌ يُرَاجَعُ هُنَالِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ آيَةٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَكِنْ بِتَعْرِيفِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ (41: 36) وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرَّةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (7: 200) وَقَالَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (41: 36) لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: لِأَيِّ مَعْنًى جَاءَ فِي الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " عَلَى لَفْظِ النَّكِرَةِ، وَفِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ مُعَرَّفَتَيْنِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مُؤَكَّدَتَيْنِ بِـ " هُوَ "؟ (وَالْجَوَابُ) أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ فِي فَاصِلَةٍ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْفَوَاصِلِ أَفْعَالُ جَمَاعَةٍ أَوْ أَسْمَاءٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (7: 19) وَبَعْدَهُ يُخْلَقُونَ، وَيُنْصَرُونَ، وَيُبْصِرُونَ، وَالْجَاهِلِينَ، فَأُخْرِجَتْ هَذِهِ الْفَاصِلَةُ بِأَقْرَبِ أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَدِّيَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ أَعْنِي النَّكِرَةَ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ اسْتِعَاذَتَكَ وَيَعْلَمُ اسْتَجَارَتَكَ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ قَبْلَهَا فَوَاصِلُ يُسْلَكُ بِهَا طَرِيقُ الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (41: 34، 35) فَقَوْلُهُ: وَلِيٌّ حَمِيمٌ لَيْسَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْأَفْعَالُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ لَيْسَ فِي الْحَظِّ مَعْنَى فِعْلٍ، فَأَخْرَجَ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " بَعْدَ الْفَوَاصِلِ الَّتِي هِيَ عَلَى سُنَنِ الْأَسْمَاءِ عَلَى لَفْظٍ يَبْعُدُ عَنِ اللَّفْظِ الَّذِي يُؤَدِّي مَعْنَى الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ

201

مَسْمُوعٌ وَلَا مَعْلُومٌ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْفِعْلِ كَمَا كَانَ فِي الْأُولَى أَنَّهُ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَيَعْلَمُ الْإِخْلَاصَ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ اهـ. فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ جِدًّا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى وَجْهَ سَلَامَةِ مَنْ يَسْتَعِيذُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، لِإِزَالَةِ جَهْلِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ مَنْ لَمْ يَفْقَهْهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ الطَّوْفُ وَالطَّوَافُ وَالطَّيْفُ بِالشَّيْءِ الِاسْتِدَارَةُ بِهِ أَوْ حَوْلَهُ، فَهُوَ وَاوِيٌّ يَأْتِي يُقَالُ: طَافَ يَطُوفُ وَيَطِيفُ بِالشَّيْءِ، كَـ " قَالَ وَبَاعَ " وَطَافَ الْخَيَالُ بِطَيْفٍ طَيْفًا: جَاءَ فِي النَّوْمِ، وَطَيْفُ الْخَيَالِ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ مِنْ مِثَالِ الشَّخْصِ، وَأَصْلُهُ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ كَمَيِّتٍ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عُمَرَ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ هُنَا " إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ " وَالْبَاقُونَ " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ " وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَرَسْمُهُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ (طَفٌ) كَرَسْمِ (مَلِكِ) فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَتُؤَدَّى قِرَاءَةُ وَزْنِ فَاعِلٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ بِمَدِّ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ، وَالْمَسُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَاللَّمْسِ وَمِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ أَنَّ الْمَسَّ يُقَالُ فِي كُلِّ مَا يَنَالُ الْإِنْسَانَ مِنْ شَرٍّ وَأَذًى بِخِلَافِ اللَّمْسِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّنْزِيلِ مَسُّ الضُّرِّ وَالضَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ وَالسُّوءِ وَالشَّرِّ وَالْعَذَابِ وَالْكِبَرِ وَالْقَرْحِ وَاللُّغُوبِ وَالشَّيْطَانِ وَطَائِفِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مَسُّ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (70: 19 - 22) فَقَدْ ذُكِرَ الْخَيْرُ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَنْعِ الْخَيْرِ لَا فِعْلِهِ، وَاسْتُعْمِلَ الْمَسُّ وَالْمَسِيسُ بِمَعْنَى الْوِقَاعِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ كَاسْتِعْمَالِهِ فِي الْجُنُونِ مَجَازًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَهْمُ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِذَا مَسَّهُمْ أَيْ أَلَمَّ أَوِ اتَّصَلَ بِهِمْ طَيْفٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْمِلَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يَنْزَغَ بَيْنَهُمْ لِإِيقَاعِ الْبَغْضَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ (تَذَكَّرُوا) أَنَّ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِمُ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ فِي الْحِفْظِ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَذَكَّرُوا عِقَابَ اللهِ لِمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَعَصَى الرَّحْمَنَ، وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ لِمَنْ عَصَى الشَّيْطَانَ وَأَطَاعَ الرَّحْمَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَذَكَّرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ - وَمَآلُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ يَعُمُّهَا - كَمَا تُقَيِّدُهُ قَاعِدَةُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ - فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ أَيْ: فَإِذَا هُمْ أُولُو بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ يَرْبَأُ بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تُطِيعَ الشَّيْطَانَ، فَهُوَ إِنَّمَا تَأْخُذُ وَسْوَسَتُهُ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يُحَاسِبُونَهَا عَلَى خَوَاطِرِهَا، الْغَافِلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ لَا يُرَاقِبُونَهُ فِي أَهْوَائِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَلَا شَيْءَ أَقْوَى عَلَى طَرْدِ الشَّيْطَانِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ يُقَوِّي فِي النَّفْسِ حُبَّ الْحَقِّ وَدَوَاعِيَ الْخَيْرِ، وَيُضْعِفُ فِيهَا الْمَيْلَ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ مُدْخَلٌ إِلَيْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا يُزَيِّنُ لَهَا بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا لِأَيِّ نَوْعٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ وَجَدَ

بِالْغَفْلَةِ مُدْخَلًا إِلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي، لَا يَلْبَثُ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ; لِأَنَّهُ غَرِيبٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَتَى شَعَرَ ذَكَرَ فَأَبْصَرَ فَخَنَسَ الشَّيْطَانُ وَابْتَعَدَ عَنْهُ، وَإِنْ أَصَابَ مِنْهُ غِرَّةً قَبْلَ تَذَكُّرِهِ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ فِي عَدَمِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْ إِغْوَائِهِ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَسِّهِ، كَمَثَلِ الْمَرْءِ الصَّحِيحِ الْمِزَاجِ الْقَوِيِّ الْجِسْمِ النَّظِيفِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، لَا تَجِدُ الْأَمْرَاضُ الْمُفْسِدَةُ لِلصِّحَّةِ; اسْتِعْدَادًا لِإِفْسَادِ مِزَاجِهِ وَإِصَابَتِهِ بِالْأَمْرَاضِ، فَهِيَ تَظَلُّ بَعِيدَةً عَنْهُ، فَإِنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِدُخُولِهِ فِي مَعِدَتِهِ أَوْ دَمِهِ فَتَكَتْ بِهَا نَسَمُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ فَحَالَتْ دُونَ فَتْكِهَا بِهِ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الطِّبِّ الْمَنَاعَةَ - وَكَذَلِكَ يَكُونُ قَوِيَّ الرُّوحِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى غَيْرَ مُسْتَعِدٍّ لِتَأْثِيرِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ يَطُوفُ بِهَا يُرَاقِبُ غَفْلَتَهَا وَعُرُوضَ بَعْضِ الْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ لَهَا مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ دَاعِيَةِ حَسَدٍ أَوِ انْتِقَامٍ، فَمَتَى عَرَضَتِ افْتَرَصَهَا، فَلَابَسَ النَّفْسَ وَقَوَّاهَا فِيهَا، كَمَا تُلَابِسُ الْحَشَرَاتُ الْقَذِرَةُ أَوْ جِنَّةُ الْأَمْرَاضِ الْخَفِيَّةِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الْقَذَرِ لِلنَّظِيفِ وَالضَّعْفِ لِلْقَوِيِّ، فَإِذَا أَهْمَلَهَا بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا فَعَلَتْ فِعْلَهَا، وَإِذَا تَدَارَكَهَا نَجَا مِنْ ضَرَرِهَا، وَيَحْسُنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِالْحَصَانَةِ، فَيُقَالُ: مَنَاعَةٌ جَسَدِيَّةٌ وَحَصَانَةٌ نَفْسِيَّةٌ أَوْ رُوحِيَّةٌ. ذَكَرْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْعُرُ بِقَدْرِ عِلْمِهِ بِتَنَازُعِ دَوَاعِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ لِدَاعِيَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَلَكًا يُقَوِّيهَا، وَلِدَاعِيَةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ شَيْطَانًا يُقَوِّيهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً: فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَرَأَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (2: 268) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ السَّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ بَعْضَ كَلَامِ الْإِمَامِ الْغَزَّالِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ كِتَابٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ اسْمُهُ: (إِغَاثَةُ اللهْفَانِ فِي مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ) فَمَنْ قَرَأَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكُتُبِ، كَانَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَذَرٍ. وَمَا زَالَ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ يُرَاقِبُونَ خَوَاطِرَهُمْ، وَيُجَاهِدُونَ الْوَسْوَاسَ الَّذِي يُلِمُّ بِهَا، وَلَهُمْ حِكَايَاتٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبَةٌ. حَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ، أَنَّهُ دَخَلَ فِي أَيَّامِ سُلُوكِهِ وَهُوَ فِي مَيْعَةِ شَبَابِهِ بُسْتَانًا فِي طَرَابُلُسَ يَعْمَلُ فِيهِ نِسَاءٌ مِنْ نَصَارَى لُبْنَانَ، فَإِذَا بِشَابَّةٍ جَمِيلَةٍ مِنْهُنَّ فِي مَكَانٍ خُلُوٍّ، فَنَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى هَمَّ بِمُبَاشَرَتِهَا فَتَذَكَّرَ

قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (17: 32) فَتَرَدَّدَ وَانْكَمَشَ ثُمَّ سَاوَرَتْهُ ثَوْرَةُ الْغُلْمَةِ تُهَوِّنُ لَهُ الْأَمْرَ، وَلَجَّ بِهِ الْوَسْوَاسُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَقَوِيَ سُلْطَانُ الْآيَةِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى صَارَ قَلْبُهُ يَتْلُو بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ بِأُذُنَيْهِ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (17: 32) قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ بِيَدِي فَوْقَ صَدْرِي هَكَذَا - يَعْنِي يَمْسَحُهُ كَمَنْ يُنَحِّي عَنْهُ شَيْئًا - أُحَاوِلُ أُسْكِتُ قَلْبِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ إِسْكَاتَهُ، فَتَوَلَّيْتُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَحَفِظَنِي اللهُ بِذِكْرِ الْآيَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَأَقُولُ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَبْلُغْ مِنِّي غِرَّةً يَدْعُونِي فِيهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ قَطُّ، فَمَا ذَكَرْتُهُ فِي مَقْصُورَتِي فِي سِيَاقِ حَادِثَةِ امْتِحَانٍ امْتَحَنَنِي اللهُ تَعَالَى بِهَا، قَدِ اسْتَمَرَّ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى مِنْ سِنِّ الشَّبَابِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، وَأَسْأَلُهُ بِفَضْلِهِ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. وَذَلِكَ قَوْلِي فِي فَتَاةٍ بَارِعَةِ الْجَمَالِ طَلَبَتْ مِنِّي أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَى صَدْرِهَا أَرْقِيهِ: وَرُبَّ مَلْدَاءَ خَمِيصَةُ الْحَشَا ... بَهْنَانَةٌ تَرْنُو بِأَلْحَاظِ اللَّأَى رَقْرَاقَةٌ شَفَّ زُجَاجُ وَجْهِهَا ... عَنْ ذَوْبِ يَاقُوتٍ وَرَاءَهُ جَرَى خَاشِعَةُ اللِّحَاظِ وَالطَّرْفِ أَتَتْ ... تَلْتَمِسُ الدُّعَاءَ مِنِّي وَالرُّقَى أَوَّاهُ يَا مَوْلَايَ صَدْرِي ضَاقَ عَنْ ... قَلْبِي وَمَا يَفِيضُ عَنْهُ مِنْ جَوَى فَضَعْ عَلَيْهِ يَدَكَ الَّتِي بِمَا ... بَارَكَ فِيهَا اللهُ تُبْرِئُ الضَّنَى أَنْتَ فَتًى خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... مَا زَالَ يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى لَمْ يَقْتَرِفْ فَاحِشَةً قَطُّ وَلَمْ ... يَعْزِمْ وَلَا هَمَّ بِهَا وَلَا نَوَى بِغُرَّةٍ مِنْهَا وَحُسْنِ نِيَّةٍ ... فِي مَعْزِلِ تَشَهِّيهِ أَقْصَى مَا اشْتَهَى مِمَّا يُمَنِّيهِ بِهِ شَيْطَانُهُ ... مِنْ حَيْثُ لَا يَطْمَعُ مِنْهُ فِي خَنَا لَكِنَّهُ اسْتَعْصَمَ رَاوِيًا لَهَا ... مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَمَا نَهَى وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي (12: 53) مِمَّا دُونَ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَهُوَ اللَّمَمُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (12: 53) وَلَا أَعُدُّ مِنَ اللَّمَمِ حُضُورَ الْمَرَاقِصِ النِّسَائِيَّةِ وَمَلَاهِيهَا، فَأَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّ نَفْسِي لَمْ تُطَالِبْنِي بِحُضُورِهَا يَوْمًا مَا، وَلَمْ يَجِدْ شَيْطَانُ الْجِنِّ مِنْ نَفْسِي مَيْلًا إِلَيْهَا فَيُزَيِّنُهَا لِي بِوَسْوَسَتِهِ، وَلَكِنْ دَعَانِي إِلَيْهَا بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ; لِأَجْلِ اخْتِبَارِهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا عَلَى مَعْرِفَةٍ، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ لِلدَّاعِي: حَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، عَلَى أَنَّنِي رَأَيْتُ نَمُوذَجًا مِنْ أَهْوَنِهَا عَرَضًا لَا قَصْدًا إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَلَاهِي تَمْثِيلِ الْقِصَصِ التَّارِيخِيَّةِ أَوِ الْوَصْفِيَّةِ فِي لَيْلَةٍ خَيْرِيَّةٍ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ بِاسْتِحْدَاثِ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّنِي مَقَتُّهَا عَلَى غَرَابَةِ الصَّنْعَةِ وَالزِّينَةِ فِيهَا، وَخَرَجْتُ مِنَ الْمَكَانِ وَآلَيْتُ أَلَّا أَعُودَ إِلَيْهِ،

فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ بُؤَرَ فَسَادٍ، وَكَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَدَبِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَمْرِينِ الْعَوَامِّ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْفَصِيحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَى النَّاسُ فِيهَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الزِّيِّ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَى فِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ، فَأَصْبَحَتْ كَالْخَمْرِ، إِثْمُهَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهَا. قَدْ يَقُولُ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ: إِنَّكَ قَدْ فَضَّلْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ بِزَعْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَهُمَّ وَهُوَ قَدْ هَمَّ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَلَفَتِ الْحَالُ وَالدَّاعِيَةُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَهُمَّ بِالْفَاحِشَةِ، وَإِنَّمَا هَمَّتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَهَمَّ هُوَ بِالِانْتِقَامِ، وَهُوَ بَطْشُهَا بِهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الضَّرْبِ، وَدِفَاعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ، وَشَوَاهِدُهُ تَقَعُ دَائِمًا، وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ هَمَّ بِالشَّخْصِ فِي مَقَامِ الْخِلَافِ وَالْمُغَاضَبَةِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ الْهَمُّ بِالضَّرْبِ أَوْ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الْمَرْأَةَ هَمَّتْ بِالرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْهَمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ دُونَ الشَّخْصِ، وَهِيَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مُوَاتِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا، وَمَا اسْتَبَقَا الْبَابَ إِلَّا وَهُوَ فَارٌّ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبِهَا، وَهِيَ مُوَاثِبَةٌ لَهُ تُرِيدُ الْبَطْشَ بِهِ لِإِهَانَتِهِ إِيَّاهَا بِمُخَالَفَتِهَا وَهُوَ غُلَامُهَا، بَعْدَ أَنْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا بِبَذْلِهَا لَهُ. وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ (12: 24) إِلَّا عِصْمَتُهُ مِنَ الْبَطْشِ بِهَا دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ السُّوءُ، وَعِصْمَتُهُ مِمَّا دَعَتْهُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفَحْشَاءُ، وَلَوْلَا الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ فِي الْقِصَّةِ لَمَا خَطَرَ بِبَالِ الْمُفَسِّرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَمْ لَفَتَتْهُمْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ عَمَّا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَتَأَوَّلُوا وَتَكَلَّفُوا; لِتَصْحِيحِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا؟ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَقَرِيبٌ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآرَائِهِ الَّتِي تَرَبَّى عَلَيْهَا، وَمُنَاسِبٌ لِحَالِهِ وَشُعُورِهِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ فِي حَالِ نُعَاسٍ أَوْ فُتُورٍ زَيَّنَ لَهُ النَّوْمَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى وَقْتِ الْيَقَظَةِ وَالنَّشَاطِ; لِأَجْلِ إِقَامَتِهَا كَمَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى! ! فَإِذَا خَالَفَهُ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ زَيَّنَ لَهُ بِوَسْوَسَتِهِ الْعَجَلَةَ وَالِاخْتِصَارَ، وَقِرَاءَةَ السُّوَرِ الْقِصَارِ، أَوْ قِرَاءَةَ السُّورَةِ مِنْ مُتَوَسِّطِ الْمُفَصَّلِ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا وَجَدَ مِنْهُ جِدًّا وَنَشَاطًا فِيهَا فَقَدْ يُزَيِّنُ لَهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّطْوِيلِ; لِيُسْرِعَ إِلَيْهِ الْمَلَلُ، وَ " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَإِذَا كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ الدِّينِيَّةُ مُنَفِّرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، أَغْرَاهُ بِمُقَدِّمَاتِهَا وَوَسَائِلِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَرُبَّمَا أَفْتَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (4: 31) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنْ يَحْتَقِرَ الْإِنْسَانُ الصَّغَائِرَ وَيَتَعَمَّدَهَا وَيُوَاظِبَ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحِلِّ لَهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنَ التَّدَرُّجِ مِنْهَا إِلَى الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّمَمُ، وَهُوَ مِمَّا يُلِمُّ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ، وَلَا يَتَعَمَّقُ فِيهِ وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَتُوبُ مِنْهُ، (وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى

فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ - ج 4) فَإِذَا تَابَ تَنْتَقِلُ نَفْسُهُ بِهِ مِنْ دَرَكَةِ (النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ) إِلَى دَرَجَةِ (النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) وَلَا يَزَالُ يُجَاهِدُهَا فِي مِثْلِهِ إِلَى أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى دَرَجَةِ (النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ) فَإِذَا هُوَ أَطَاعَ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فَإِنَّهَا تَهْبِطُ بِهِ إِلَى دَرَكَةِ الْفُحْشِ وَالْفُجُورِ، وَرُبَّمَا تَهْوِي بِهِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَنْ يُدْمِنُ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى بَعْضِ الْحِسَانِ فَيَنْتَقِلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمُغَازَلَةِ، وَمِنَ الْمُغَازَلَةِ إِلَى الْمُهَازَلَةِ، وَمِنَ الْمُهَازَلَةِ إِلَى الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاعَلَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ: فَلَمَّا رَأَتْنِي رَأْرَأَتْ ثُمَّ أَقْبَلَتْ ... تُهَازِلُنِي وَالْهَزْلُ دَاعِيَةُ الْعُهْرِ وَقَالَ شَاعِرٌ مُصِرٌّ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ كُلِّ حَالَةٍ إِلَى مَا بَعْدَهَا: نَظْرَةٌ فَابْتِسَامَةٌ فَسَلَامٌ فَكَلَامٌ فَمَوْعِدٌ فَلِقَاءٌ وَقَدِ اسْتَفْتَانِي شَابٌّ مِصْرِيٌّ افْتُتِنَ بِفَتَاةٍ شَغَفَتْهُ حُبًّا، فَكَانَ يَخْلُو بِهَا - لِمَا فِي مِصْرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَثِيرِينَ - فَيَتَدَاعَبَانِ حَتَّى يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْفَضِيحَةَ الْكُبْرَى، ثُمَّ يَتَفَارَقَانِ فَيَنْدَمُ وَيَتُوبُ، وَيَعْزِمُ أَلَّا يَعُودَ، حَتَّى إِذَا مَا زَارَتْهُ نَقَضَ الْعَزْمَ، ثُمَّ يُفَارِقُهَا فَيُبْرِمُهُ وَيُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ تَغْلِبُهُ عَلَى أَمْرِهِ فَيَنْكُثُ مَا أَبْرَمَ، وَيَحْنَثُ بِمَا أَقْسَمَ، حَتَّى قَالَ أَخِيرًا: لَئِنْ عُدْتُ لَأَكُونَنَّ بَرِيئًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ عَادَ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، لَا يَمْلِكُ تِجَاهَ سِحْرِ فَاتِنَتِهِ شَيْئًا مِنْ قُوَّةِ إِرَادَتِهِ، فَعَظُمَ هَذَا الْحِنْثُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، وَجَاءَنِي مُسْتَفْتِيًا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَوَعَظْتُهُ وَأَرْشَدْتُهُ بِمَا أَلْهَمَنِي اللهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ انْتَهَتْ فِتْنَتُهُ، وَقَدْ حَدَثَ هَذَا مُنْذُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً هَبَطَتْ بِهَا الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ إِلَى الدَّرَكَاتِ السُّفْلَى مِنَ الْإِبَاحَةِ. الرَّاجِحُ أَنَّ هَذَا الشَّابَّ مِنْ أَحَدِ الْبُيُوتِ الَّتِي لَا تَزَالُ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ، وَأَخْلَاقِ الْعِفَّةِ وَالْحَيَاءِ الْمَوْرُوثَةِ، وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ الَّتِي كَانَ بِهَا الشَّعْبُ ذَا وُجُودٍ مُمْتَازٍ مُسْتَقِلٍّ فِي نَفْسِهِ، فَطَفِقَ دُعَاةُ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَإِبَاحَةِ الشَّهَوَاتِ يَهْدِمُونَهَا بِاسْمِ التَّجْدِيدِ الْمَدَنِيِّ، وَالتَّقْلِيدِ الْأُورُبِّيِّ، وَمِنْهُ وُجُوبُ السُّفُورِ الَّذِي يَعْنُونَ بِهِ إِبَاحَةَ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَمُعَاشَرَةِ الْفِتْيَانِ لِلْفَتَيَاتِ بِحُجَّةِ التَّمْهِيدِ لِلزَّوَاجِ عَنْ تَعَارُفٍ وَحُبٍّ وَاخْتِبَارٍ. . . وَقَدْ تَفَاقَمَتِ اسْتِبَاحَةُ التَّهَتُّكِ وَالْفُجُورِ فِي هَذِهِ السِّنِينَ إِلَى حَدٍّ يُنْذِرُ بِهَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالنِّسَاءُ يَرْقُصْنَ مَعَ الرِّجَالِ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ، وَيَسْبَحْنَ مَعَهُنَّ فِي شَوَاطِئِ الْبِحَارِ، وَقَلَّمَا تُعَاشِرُ الْفَتَاةُ الْعَذْرَاءُ شَابًّا، وَلَوْ بِقَصْدِ الزَّوَاجِ عَنْ تَعَرُّفٍ وَحُبٍّ وَاخْتِبَارٍ، إِلَّا وَيَنْتَهِي هَذَا الِاخْتِبَارُ بِفَضِيحَةِ الِافْتِرَاقِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ الزَّوَاجُ مَضْمُونًا، وَإِذَا وَقَعَ لَا يَكُونُ الْوِفَاقُ غَالِبًا، وَلَا حُبُّ شَهْوَةِ الصِّبَا دَائِمًا، بَلْ يَصِيرُ الِاخْتِبَارُ لِكُلِّ مِنْهُمَا عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ، وَالتَّنَقُّلُ مِنْ حَبِيبٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَفْتَنِ اللَّذَّاتِ، وَإِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ.

202

وَقَدِ اسْتَفْتَانِي رَجُلٌ فِي امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ تَخْتَلِفُ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَلَا وَطَنِيٍّ، تَزُورُهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْأُسْبُوعِ، فَتَمْكُثُ مَعَهُ إِلَى قُرْبِ الْمَغْرِبِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِيذَانُ بَعْلِهَا بِذَلِكَ؟ ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ افْتِتَانِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْخَبِيثَةِ بِهَذَا الرَّجُلِ الْخَبِيثِ أَنَّهَا عَرَفَتْهُ عَامِلًا فِي صَيْدَلِيَّةٍ قَصَدَتْهَا مَرَّةً لِشِرَاءِ دَوَاءٍ مِنْهَا، فَتَصَبَّاهَا حَتَّى صَارَتْ تَخْتَلِفُ إِلَى الصَّيْدَلِيَّةِ لِأَدْنَى حَاجَةٍ ثُمَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَخْ. فَسَدَتِ الْعَقَائِدُ وَالْأَخْلَاقُ وَتُرِكَتِ الْعِبَادَاتُ، وَأُبِيحَتِ الْأَعْرَاضُ وَاسْتُبِيحَتِ الْمُحَرَّمَاتُ وَعُبِدَ الشَّيْطَانُ فِي مَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ، وَتُوجَدُ جَمْعِيَّاتٌ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنَ النِّسَاءِ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ كُلَّ هَذِهِ الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ بِاسْمِ التَّجْدِيدِ وَالتَّمَدُّنِ، وَلَهُمْ جَرَائِدُ تَنْشُرُ دِعَايَةَ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، إِلَّا مِنْ بَعْضِ قُيُودِ قَانُونِ الْعُقُوبَاتِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ مُنْذِرٌ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ مُحَذِّرٌ، قَالُوا: وَمَا الشَّيْطَانُ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الشَّيْطَانِ؟ فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ أَطِبَّاءَ الْأَرْوَاحِ وَأَسَاتِذَةَ أَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِ، قَدْ حَذَّرُونَا بِأَمْرِ اللهِ خَالِقِ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُحَذِّرُنَا أَطِبَّاءُ الْأَجْسَادِ مِنْ " مَيُكْرُوبَاتِ " الْأَمْرَاضِ، فَهَلْ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ نَرُدَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاءِ بِحُجَّةِ أَنَّنَا لَمْ نَرَ تِلْكَ الْمَيُكْرُوبَاتِ الْمَرَضِيَّةَ، وَأَلَّا نَقْبَلَ كَلَامَهُمْ، وَلَا نَسْتَعْمِلَ أَدْوِيَتَهُمْ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ مَا رَأَوْا، وَاخْتِبَارِ مَا اخْتَبَرُوا؟ أَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ وَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ بَلَى وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ صَحَّتْ عَقَائِدُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَصَلُحَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَحُفِظَتْ صِحَّتُهُمْ وَأَعْرَاضُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَتَجْرِبَةُ مُعَالَجَتِهِمْ لِأَمْرَاضِ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ، أَثْبَتُ مِنْ تَجْرِبَةِ مُعَالَجَةِ الْأَطِبَّاءِ لِأَمْرَاضِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَيْضًا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الشَّيَاطِينِ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَمِنْهُمْ: سِكِّيرُونَ مُقَامِرُونَ، زُنَاةٌ لُوطِيُّونَ، كَذَّابُونَ مُنَافِقُونَ، مُرْتَشُونَ سَرَّاقُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (6: 112، 113) . وَفِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الْغَيُّ: الْفَسَادُ. وَالْمَدُّ وَالْإِمْدَادُ الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ يُمِدُّونَهُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْإِمْدَادِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنَ الْمَدِّ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ يُمَادُّونَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُشَارَكَةِ، وَالْمَدُّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ (13: 3) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (25: 45) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ (31: 27) وَفِي مَدِّ النَّاسِ فِيمَا يُذَمُّ وَيَضُرُّ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا (19: 75)

203

وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (19: 79) وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (2: 15) وَأَمَّا الْإِمْدَادُ فَفِيمَا يُحْمَدُ وَيَنْفَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (26: 133) وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (17: 6) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ (17: 20) وَمِنْهُ إِمْدَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَحُمِلَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ هُنَا عَلَى التَّهَكُّمِ. وَالْإِقْصَارُ: التَّقْصِيرُ، وَأَقْصَرَ عَنِ الْأَمْرِ تَرَكَهُ وَكَفَّ عَنْهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى مَعَ سَابِقِهِ: أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. لِحَمْلِهِمْ عَلَى مُحَاكَاةِ الْجَاهِلِينَ وَالْخَوْضِ مَعَهُمْ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ، تَذَكَّرُوا فَأَبْصَرُوا فَحَذِرُوا وَسَلِمُوا، وَإِنْ زَلُّوا تَابُوا وَأَنَابُوا، وَأَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْجَاهِلُونَ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ يَتَمَكَّنُ الشَّيَاطِينُ مِنْ أَهْوَائِهِمْ، فَيَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ; لِأَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى إِذَا شَعَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بِالنُّزُوعِ إِلَى الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَسْتَعِيذُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ فَيُبْصِرُوا وَيَتَّقُوا - إِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ شَيْطَانًا مِنَ الْجِنِّ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ وَيُغْرِيهِ بِالشَّرِّ - ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ وَلَا يَكُفُّونَ عَنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ ; فَلِذَلِكَ يُصِرُّونَ عَلَى الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ لِفَقْدِ الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ وَالْوَاعِظِ الْقَلْبِيِّ، وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّيْطَانِ بِالْجَمْعِ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ لَا الشَّخْصُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (2: 257) وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْجَاهِلِينَ، أَيْ وَإِخْوَانُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ، فَيَكُونُونَ أَعْوَانًا لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا الِاجْتِبَاءُ: افْتِعَالٌ وَاخْتِصَاصٌ مِنَ الْجِبَايَةِ. يُقَالُ. جَبَى الْعَامِلُ الْمَالَ يَجْبِيهِ وَجَبَاهُ يَجْبُوهُ، إِذَا جَمَعَهُ لِلسُّلْطَانِ الْقَيِّمِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْأُمَّةِ. وَاجْتَبَاهُ إِذَا جَمَعَهُ وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ أَوِ احْتَازَهُ لَهَا، وَفِي الْكَشَّافِ: اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ أَيْ جَمَعَهُ كَقَوْلِكَ اجْتَمَعَهُ - أَوْ جُبِيَ إِلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ أَيْ أَخَذَهُ، كَقَوْلِكَ جَلَيْتُ إِلَيْهِ الْعَرُوسَ فَاجْتَلَاهَا اهـ. وَالْآيَةُ هُنَا آيَةُ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمُعْجِزَةُ الْمُقْتَرَحَةُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَالْمَعْنَى: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ، بِأَنْ تَرَاخَى نُزُولُ الْوَحْيِ زَمَنًا مَا، قَالُوا:

لَوْلَا افْتَعَلْتَ نَظْمَهَا وَتَأْلِيفَهَا وَاخْتَرَعْتَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ؟ أَوْ إِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْكَ قَالُوا: هَلَّا جَبَاهَا اللهُ لَكَ بِأَنْ مَكَّنَكَ مِنْهَا فَاجْتَبَيْتَهَا وَأَبْرَزْتَهَا لَنَا؟ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فَمَا أَنَا بِمُبْتَدِعٍ، وَلَا مُجْتَبٍ لِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِعِلْمِي وَبَلَاغَتِي، بَلْ أَنَا عَاجِزٌ عَنْ مِثْلِهِ كَعَجْزِكُمْ وَعَجْزِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَفِي مَعْنَاهُ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (10: 15) - أَوْ مَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى إِيجَادِ الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَا بِمُفْتَاتٍ عَلَى اللهِ فِي طَلَبِهَا، وَإِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيَّ فَضْلًا مِنْ رَبِّي عَلَيَّ أَنْ جَعَلَنِي الْمُبَلِّغَ عَنْهُ - وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيَّ بَصَائِرُ وَحُجَجُ نَاهِضَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعُودُ مَنْ تَأَمَّلَهَا وَعَقِلَهَا بَصِيرَ الْعَقْلِ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ ; إِذْ هِيَ أَدَلُّ عَلَيْهِ مِمَّا تَطْلُبُونَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةً. وَقَدْ سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (6: 104) فَيُرَاجَعُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: وَهُوَ هُدًى كَامِلٌ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَرَحْمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ: كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَيْضًا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (6: 155 - 157) الْآيَةَ، قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ; لِأَنَّ الْبَصِيرَةَ قَدْ يَتَأَمَّلُهَا الْعَاقِلُ فَيُؤْمِنُ. وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ

204

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُوصِّلَةِ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ بِالْقُرْآنِ، وَالْحَصَانَةِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ الِاسْتِمَاعُ لَهُ إِذَا قُرِئَ، وَالْإِنْصَاتُ مُدَّةَ الْقِرَاءَةِ، وَالِاسْتِمَاعُ أَبْلَغُ مِنَ السَّمْعِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَصْدٍ وَنِيَّةٍ وَتَوْجِيهِ الْحَاسَّةِ إِلَى الْكَلَامِ لِإِدْرَاكِهِ، وَالسَّمْعُ مَا يَحْصُلُ وَلَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَالْإِنْصَاتُ: السُّكُوتُ لِأَجْلِ الِاسْتِمَاعِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَاغِلًا عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا يُقْرَأُ. فَمَنِ اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَفْهَمَ وَيَتَدَبَّرَ، وَهُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُرْحَمَ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِلْقُرْآنِ إِذَا قُرِئَ، قِيلَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَخَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِقِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِهِ، وَبِقِرَاءَةِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ شُرِعَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَحُرِّمَ بِنُزُولِهَا الْكَلَامُ فِيهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ إِيجَابَهُمَا عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَحَدًا يَقْرَأُ، فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَتْرُكَ لَهُ الْمُشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ عِلْمَهُ، وَالْمُشْتَغِلُ بِالْحُكْمِ حُكْمَهُ، وَالْمُبْتَاعَانِ مُسَاوَمَتَهُمَا وَتَعَاقُدَهُمَا وَكُلُّ ذِي شُغْلٍ شَغْلَهُ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَعْضُهَا تَبْلِيغًا لِلتَّنْزِيلِ وَبَعْضُهَا وَعْظًا وَإِرْشَادًا، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْمَعُهُ يَقْرَأُ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَشْغَلُهُ أَوْ يَشْغَلُ غَيْرَهُ عَنْهُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمُصَلِّي مَعَ إِمَامِهِ وَخَطِيبِهِ ; إِذْ هُوَ مَوْضُوعُ الصَّلَاةِ وَالْوَاجِبُ فِيهَا ; وَلِهَذَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الْفَاتِحَةَ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ بِدُونِهَا جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ. وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ سُكُوتُ الْإِمَامِ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ آيَةً آيَةً لَا يُعَدُّ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ لِلْقُرْآنِ، وَلَا غَيْرَ مُنْصِتٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْمَأْمُومِ كَغَيْرِهِ فِي مُتَمِّمَاتِ تَفْسِيرِهَا مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ فُرُوعِ طَلَبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ أَنَّ الْقَارِئَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُ قِرَاءَتِهِ لِلِاسْتِمَاعِ لِقَارِئٍ آخَرَ، بَلْ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ مَا يَرَاهُ خَيْرًا لَهَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَقَدْ يَخْشَعُ بَعْضُ النَّاسِ بِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، وَيَخْشَعُ آخَرُ بِالِاسْتِمَاعِ مَنْ غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الْقُرَّاءُ فِي مَكَانٍ اسْتَمَعَ كُلُّ حَاضِرٍ لِمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ أَوْ لِمَنْ يَرَى قِرَاءَتَهُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِهِ. وَمَا يَفْعَلُهُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ بِمِصْرَ كَالْمَآتِمِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَرْكِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَتَكُونُ عَلَى أَشَدِّهَا لِمَنْ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ التَّالِي، وَأَمَّا تَعَمُّدُ الْإِعْرَاضِ عَنِ السَّمَاعِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ مُؤْمِنٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ عَلَى صَوْتِ الْقَارِئِ عَمْدًا، فَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَدَّبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (49: 2) فَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ عَلَى صَوْتِ التَّالِي لِكَلَامِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى بِأَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَالْأَدَبُ مَعَهُ فَوْقَ الْأَدَبِ مَعَ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ كَذَا. وَلَا يَجُوزُ لِقَارِئٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ وَيُنْصِتُونَ، فَشَذَّ بَعْضُهُمْ بِمُنَاجَاةِ صَاحِبِهِ بِالْجَنْبِ مِنْ غَيْرِ تَهْوِيشٍ عَلَى الْقَارِئِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، كَانَ الْخَطْبُ فِي هَذَا هَيِّنًا لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَلَا يُنَافِي الِاسْتِمَاعَ. وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى اسْتِمَاعِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ كَمَا يَحْرِصَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَأَنْ يَتَأَدَّبَ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ، وَمِلَاكُ هَذَا الْأَدَبِ لِلْقَارِئِ، أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا مِنْ حَالِ الْمَكَانِ، مَا يُعَدُّ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي عُرْفِ النَّاسِ مُنَافِيًا لِلْأَدَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ آدَابًا وَأَحْكَامًا قَدْ يَخْتَلِفُ بَعْضُهَا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِقَادِ وَالْعُرْفِ، وَصَرَّحُوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَاضْطِجَاعٍ وَمَشْيٍ وَرُكُوبٍ فَلَا تُكْرَهُ فِي الطَّرِيقِ نَصًّا، وَلَا مَعَ حَدَثٍ أَصْغَرَ وَنَجَاسَةِ بَدَنٍ وَثَوْبٍ، وَلَكِنْ يُمْسَكُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْحَدَثِ، وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لَهَا اسْتِحْبَابًا، وَلَا سِيَّمَا لِلْقَارِئِ فِي الْمُصْحَفِ، وَتُكْرَهُ مَعَ الْجِنَازَةِ جَهْرًا; لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ بِأَنْ يُجْلَسَ فِيهَا لِلْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا مَنْ مَرَّ بِمَكَانٍ مِنْهَا وَهُوَ يَقْرَأُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ الْجُلُوسُ فِي بَعْضِ الْمَلَاهِي غَيْرِ الْمُبَاحَةِ لَا يُكْرَهُ لَهُ التِّلَاوَةُ سِرًّا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتْلُوَ فِي بَيْتِهِ إِذَا كَانَتْ زَوْجُهُ غَيْرَ مَسْتُورَةِ عَوْرَةِ الصَّلَاةِ. وَتُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّغَنِّي بِالنَّغَمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ وَالْخُشُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ صِنَاعِيٍّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ، حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ - زَادَ غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ - يَجْهَرُ بِهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَأَذِنَ هُنَا بِمَعْنَى اسْتَمَعَ أَوْ سَمِعَ. وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا لِلرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ وَالْقَيْنَةُ الْأَمَةُ الْمُغَنِّيَةُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَالْخُشُوعِ، وَإِلَّا فَالتَّبَاكِي وَالتَّخَشُّعِ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللهِ قَبْلَهَا، وَيَدْعُوَ اللهَ فِي أَثْنَائِهَا بِحَسَبِ مَعَانِي الْآيَاتِ، كَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَكَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَجْمَعُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَاسْتَحَبُّوا الِاقْتِدَاءَ بِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قُوَّةَ الدِّينِ وَكَمَالَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعِهِ، مَعَ التَّدَبُّرِ بِنِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَالْإِيمَانُ الْإِذْعَانِيُّ الصَّحِيحُ يَزْدَادُ وَيَقْوَى وَيَنْمَى وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ بِقَدْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَيَنْقُصُ وَيَضْعُفُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ مَنْ تَرَكَ تَدَبُّرَهُ، وَمَا آمَنَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ إِلَّا بِسَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، وَلَا فَتَحُوا الْأَقْطَارَ، وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ، وَاتَّسَعَ عُمْرَانُهُمْ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ، إِلَّا بِتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَانَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ زُعَمَاءِ مَكَّةَ يُجَاهِدُونَ النَّبِيَّ وَيَصُدُّونَهُ عَنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ إِلَّا بِمَنْعِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (41: 26) وَمَا ضَعُفَ الْإِسْلَامُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى زَالَ أَكْثَرُ مُلْكِهِ إِلَّا بِهَجْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَجَعْلِهِ كَالرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِشِفَاءِ أَمْرَاضِ الْأَبْدَانِ، وَجُلُّ فَائِدَةِ الصَّلَاةِ - وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ - بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّخَشُّعِ، فَإِذَا زَالَ مِنْهَا هَذَا صَارَتْ عَادَةً قَلِيلَةَ الْفَائِدَةِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمِنَ التَّطْوِيلِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إِيرَادُ شَيْءٍ مِنْهَا هُنَا. وَإِنَّنِي أَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِأَوَّلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الطَّوِيلِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ رِوَايَةِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ سَمَاعِ الْقُرْآنِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: " لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ، فَطَافَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟ ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدُّغُنَّةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلِيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ

205

وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدُّغُنَّةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرُكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدُّغُنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ. بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي سِيَاقِ حَصَانَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، أَمَرَنَا تَعَالَى بِالذِّكْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِلْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا وَلِغَيْرِهِ، فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ ذِكْرِهِ تَعَالَى حِصْنٌ لِلنَّفْسِ وَتَزْكِيَةٌ لَهَا فَقَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ أُمِرَ بِأَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَسْمَعُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الدُّعَاءُ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَامٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ. وَالتَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةَ، وَهِيَ الذِّلَّةُ وَالضَّعْفُ وَالْخُضُوعُ بِكَثْرَةٍ وَشِدَّةِ عِنَايَةٍ. وَالْخِيفَةُ حَالَةُ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ - أَيْ وَاذْكُرْ رَبَّكَ الَّذِي خَلَقَكَ وَرَبَّاكَ بِنِعَمِهِ فِي نَفْسِكَ بِأَنْ تَسْتَحْضِرَ مَعْنَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَآلَائِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْكَ وَحَاجَتَكَ إِلَيْهِ مُتَضَرِّعًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ، رَاجِيًا نِعَمَهُ - وَاذْكُرْهُ بِلِسَانِكَ مَعَ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِكَ ذِكْرًا دُونَ الْجَهْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَفَوْقَ التَّخَافُتِ وَالسِّرِّ، بَلْ ذِكْرًا قَصْدًا وَسَطًا - كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (17: 110) وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَةُ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ مُلَاحَظَةُ مَعَانِي الْقَوْلِ، وَكَأَيٍّ مِنْ ذِي وِرْدٍ يَذْكُرُ اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا يَعُدُّ بِالسِّبْحَةِ مِنْهُ الْمِئِينَ أَوِ الْأُلُوفَ ثُمَّ لَا يُفِيدُهُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَلَا مُرَاقَبَةً لَهُ، بَلْ هُوَ عَادَةٌ تُقَارِنُهَا عَادَاتٌ أُخْرَى مُنْكَرَةٌ شَرْعًا. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ذِكْرٌ لِسَانِيٌّ مَحْضٌ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْقَلْبِ. ذِكْرُ النَّفْسِ وَحْدَهُ يَنْفَعُ دَائِمًا، وَذِكْرُ اللِّسَانِ وَحْدَهُ قَلَّمَا يَنْفَعُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ذَنْبًا. وَالْأَكْمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ.

وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ بَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْغُدُوُّ مَصْدَرُ غَدَا يَغْدُو - كَعَلَا يَعْلُو عُلُوًّا - أَيْ ذَهَبَ غُدْوَةً وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تُوسِّعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الذَّهَابِ مُطْلَقًا - وَيُقَابِلُهُ الرَّوَاحُ وَهُوَ الرُّجُوعُ - وَمِنْهُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (34: 12) وَالْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (33: 41، 42) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدَّهْرِ أَوِ الْإِنْسَانِ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (76: 25) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (3: 41) وَخُصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النَّهَارِ، وَمَنِ افْتَتَحَ نَهَارَهُ بِذِكْرِ اللهِ، وَاخْتَتَمَهُ بِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُرَاقِبَهُ تَعَالَى وَلَا يَنْسَاهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَأَهَمُّ الذِّكْرِ فِيهِمَا صَلَاتَا الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ اللَّتَانِ تَحْضُرُهُمَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا وَجَدَا عَلَيْهِ الْعَبْدَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا يُتَسَامَحُ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ فِيمَا بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ; لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَمَلِ لِلْمَعَاشِ، فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى مَرِضَ قَلْبُهُ، وَضَعُفَ إِيمَانُهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بِذِكْرِكُمْ ... وَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ ثُمَّ عَزَّزَ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ بِمَا يُعَدُّ خَيْرَ أُسْوَةٍ لِلْإِنْسَانِ، وَهُوَ التَّشَبُّهُ وَالْمُشَارَكَةُ لِمَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ أَيْ: إِنَّ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ كَحَمْلَةِ عَرْشِهِ وَالْحَافِّينَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا سِوَاهُ، وَهُمْ أَعْلَى مَقَامًا مِنَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَتَدْبِيرِ نِظَامِهَا كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ الْعَالِينَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَمَا يَسْتَكْبِرُ عَنْهَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، الَّذِينَ عَدَّ بَعْضُهُمُ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى حِطَّةً وَضِعَةً لَا تُحْتَمَلُ وَيُسَبِّحُونَهُ أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنِ اتِّخَاذِ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ وَالْمُسَاعِدِ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ شُفَعَاءَ أَنْدَادًا لِلَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَيَعْبُدُونَهُمْ مَعَ اللهِ وَلَهُ يَسْجُدُونَ أَيْ: وَلَهُ وَحْدَهُ يُصَلُّونَ وَيَسْجُدُونَ، فَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِخَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ، وَأَقْرَبِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ. وَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَنَا السُّجُودَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ سَمَاعِهَا إِرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ وَاقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ الْعَالِمِينَ، وَمِثْلُهَا آيَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذِهِ هِيَ الْأُولَى فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ. وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَيْرِ الذَّاكِرِينَ لَهُ، الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ الْمُسَبِّحِينَ بِحَمْدِهِ، السَّاجِدِينَ لَهُ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهِيَ تَدْخُلُ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ (أَوَّلُهَا) تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا وَعِبَادَةً وَتَشْرِيعًا، وَصِفَاتُهُ وَشُئُونُ رُبُوبِيَّتِهِ. (ثَانِيهَا) الْوَحْيُ وَالْكُتُبُ وَالرِّسَالَةُ وَالرُّسُلُ. (ثَالِثُهَا) الْآخِرَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. (رَابِعُهَا) أُصُولُ التَّشْرِيعِ وَبَعْضُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ. (خَامِسُهَا) آيَاتُ اللهِ وَسُنَنُهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ. (سَادِسُهَا) سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ وَشُئُونِ الْأُمَمِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عُرْفِ عَصْرِنَا بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ. الْبَابُ الْأَوَّلُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا وَعِبَادَةً وَتَشْرِيعًا وَصِفَاتُهُ وَشُئُونُ رُبُوبِيَّتِهِ (وَفِيهِ 12 أَصْلًا) (1) دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَكَوْنُ الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ شِرْكًا وَكُفْرًا بِاللهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 29: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: بِأَلَّا تَشُوبُهُ أَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ دِينِكُمْ، كَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ، فَذَلِكَ شِرْكٌ يُنَافِي خُلُوصَهُ لَهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، سُمِّيَ شِرْكًا أَوْ سُمِّيَ تَوَسُّلًا وَتَبَرُّكًا (رَاجِعْ 333 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ مِنَ الْآيَةِ 37: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (367 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ) مِنْهُ، وَأَمَرنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ 55 بِأَنْ نَدْعُوَهُ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً - وَنَهَانَا عَنِ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، وَفِي آيَةِ 56 بِأَنْ نَدْعُوَهُ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَفِي الْأَوَّلِ صِفَةُ دُعَاءِ الْإِخْلَاصِ اللِّسَانِيَّةُ، وَفِي الثَّانِيَةِ صِفَتُهُ الْقَلْبِيَّةُ (رَاجِعْ 405 و410 وَمَا بَعْدَهُمَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . وَمِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَا حَكَاهُ عَنْ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ،. . . . . . عَلَى أَنَّهُ أَصْلُ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ. قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكَمَ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (59)

وَمِثْلُهُ عَنْ رَسُولِهِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ 65 مَعَ حِكَايَةِ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (70) وَمِثْلُهُ مَا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ 73 وَمَا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ 85. وَمِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَنَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ اتِّخَاذًا مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ 138 - 140 مِنْ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَالْقَوْمِ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، وَرَدَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي ص 91 - 102 ج 9 ط الْهَيْئَةِ. وَفِيهِ بَيَانُ خَطَأِ الرَّازِيِّ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْإِلَهِ لِجَرْيِهِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ. (2) إِنْكَارُ الشِّرْكِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَكَوْنُهُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ فِي الْآيَاتِ 172 و173 فِي أَخْذِ الرَّبِّ الْمِيثَاقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَنِي آدَمَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي هَذَا الْجُزْءِ. (3) بَيَانُ أَنَّ شَارِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَلَا الْعِبَادَاتِ، وَلَا التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَ التَّشْرِيعَ لَكُمْ بِمَا ذُكِرَ كَالَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (9: 31) يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَلَا أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَكُمْ فِيمَا عَدَا مَا سَخَّرَهُ اللهُ لَكُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا عَيْنُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَاتِّبَاعُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ هُنَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْآيَةِ 158 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُ بِهِ وَحْيًا وَبَيَانًا لِلْوَحْيِ عَيْنَ طَاعَتِهِ كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ بَلْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (يُرَاجَعُ ص272 - 275 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . (4) حَظْرُ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِتَشْرِيعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَةِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَفَاسِدَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشِّرْكِيَّةِ ص354 - 357 ج 8 ط الْهَيْئَةِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ خَطَأُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَالَّذِينَ حَكَّمُوا الْعَقْلَ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ. (5) كَوْنُ جَمِيعِ مَا يَشْرَعُهُ اللهُ تَعَالَى حَسَنًا فِي نَفْسِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقَبِيحِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 28 وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 33 قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ إِلَخْ فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ، وَالْإِثْمُ مَا يَضُرُّ، وَالْبَغْيُ تَجَاوَزُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ

وَالشَّرَكُ بِاللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، أَيْ بُرْهَانٍ جَهْلٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ جَهْلٌ وَتَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ قَبِيحٌ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَبَعْضُهُ قَبِيحٌ فِي الْحِسِّ أَيْضًا، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّ خَفِيَ حُسْنُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضِ ضُعَفَاءِ النَّاظِرِينَ، وَكُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ جَهِلَ قُبْحَهُ بَعْضُ الْغَاوِينَ، وَلَكِنَّ الْعَقْلَ عَلَى إِدْرَاكِهِ لِذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ كُلِّ حَسَنٍ وَكُلِّ قَبِيحٍ بِالْإِحَاطَةِ وَالتَّحْدِيدِ، بَلْ تَصُدُّهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْقَبَائِحِ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ وَضَعْفُ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ. (6) اسْتِوَاءُ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَعُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ 54 وَفِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقُ الْحَقِّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَهُوَ فِي 401 ج 8 ط الْهَيْئَةِ. (7و 8) تَكْلِيمُ الرَّبِّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَسْأَلَةُ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي (143) إِلَخْ وَتَفْسِيرُهَا ص107 - 168 ج 9 ط الْهَيْئَةِ. وَفِيهِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَا لَا نَجِدُ لَهُ نَظِيرًا فِي كِتَابٍ، لَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا فِي مُتَعَلَّقَاتِهِمَا، كَتَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَالْحُجُبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَسَائِلِ الْأَرْوَاحِ وَالْكَشْفِ وَالرُّؤْيَا وَالْعَمَلِ النَّوْمِيِّ وَالتَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ، وَأَنْوَاعِ مُدْرَكَاتِ النَّفْسِ، وَمَادَّةِ الْكَوْنِ الْأُولَى وَالنُّورِ وَالْكَهْرَبَاءِ، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، وَالْخِلَافِ فِي إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ كُنْهِ الْخَالِقِ وَأَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْهَا مَسَائِلُ الْكَلَامِ وَمَرَاتِبُهُ، وَمِنْ ذِكْرِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى. وَتَحْقِيقِ رُجْحَانِ مَذْهَبِ السَّلَفِ عَلَى جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَفَلْسَفَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَشُئُونِهِ. (9) هِدَايَةُ اللهِ وَإِضْلَالُهُ فِي آيَةِ 178 مِنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَخْ. وَآيَةُ 186 مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ (186) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقُ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ لَا يَقْتَضِي الْإِجْبَارَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، فَلَيْسَ حُجَّةً لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ، وَلَا لِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (146) وَكَذَلِكَ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ فِي آيَتَيْ 100 و101 كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ. (10) الْكَلَامُ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَتِهِ، وَمِنْهُ قُرْبُ رَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي آيَةِ 56 وَكَوْنُهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ فِي الْآيَةِ 151 وَرَحْمَتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لِلتَّائِبِينَ فِي الْآيَةِ 153 وَكَوْنُهُ خَيْرَ الْغَافِرِينَ 155 وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَمَنْ يَكْتُبُهَا أَيْ يُوجِبُهَا لَهُمْ 156. (11) أَسْمَاءُ اللهِ الْحُسْنَى وَدُعَاؤُهُ بِهَا وَالْإِلْحَادُ فِيهَا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 180 وَفِي تَفْسِيرِهَا

تَحْقِيقُ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا إِلَخْ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) . (12) الْأَمْرُ بِذِكْرِ اللهِ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً سِرًّا وَجَهْرًا وَكَوْنُهُ غِذَاءَ الْإِيمَانِ، وَبِعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ خَتَمَ اللهُ بِهِمَا السُّورَةَ 205 و206. الْبَابُ الثَّانِي الْوَحْيُ وَالْكُتُبُ وَالرِّسَالَةُ وَفِيهِ 3 فُصُولٌ فِيهَا 24 أَصْلًا أَوْ مَسْأَلَةً (مَا جَاءَ فِيهَا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ) (1) إِنْزَالُ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِنْذَارِ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ، وَفِيهَا نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ فِي صَدْرِهِ حَرَجٌ مِنْهُ. (2) أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِ الْمَنَزَّلِ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَهُوَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَلَا يُرْجَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ 185: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. (3) وَصْفُهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ فَصَّلَهُ عَلَى عِلْمٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 52. (4) بَيَانُهُ تَعَالَى لِمَا سَيَكُونُ عِنْدَ إِتْيَانِ الْقُرْآنِ، أَيْ ظُهُورِ صِدْقِهِ بِوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ نَسُوهُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا يُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ، وَيَشْهَدُونَ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِالْحَقِّ، وَيَتَمَنَّوْنَ الشُّفَعَاءَ أَوِ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَهُوَ فِي الْآيَةِ 53. (5) وِلَايَةُ اللهِ لِرَسُولِهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ 196 (6) الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْإِنْصَاتِ لَهُ رَجَاءَ الرَّحْمَةِ بِسَمَاعِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ. (مَا جَاءَ فِيهَا خَاصًّا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (7) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أَيْ: الْكِتَابِ، هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِيقِ الصَّدْرِ بِعَظَمَةِ الْقُرْآنِ، وَجَلَالِ الْأَمْرِ الَّذِي أُنْزِلُ لِأَجْلِهِ، وَشِدَّةِ وَقْعِ سُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، أَوْ عَنْ ضِيقِهِ بِمَشَقَّةِ الْإِنْذَارِ بِهِ، وَالتَّصَدِّي لِهِدَايَةِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ وَالضَّلَالُ، أَوْ بِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ شِدَّةِ مُعَارَضَةِ الْكُفَّارِ وَعُدْوَانِهِمْ - وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ حُكْمٌ مِنْهُ تَعَالَى بِمَضْمُونِهِ (رَاجِعْ ص 269 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ)

(8) أَمْرُهُ تَعَالَى لَهُ بِأَنْ يَعْتَزَّ بِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَلَا خَوْفَ عَلَى أَتْبَاعِهِ مِنِ اضْطِهَادِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ 196 وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى. (9) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 18: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الْآيَةَ. وَهِيَ تَفْنِيدٌ لِرَمْيِ بَعْضِ مُشْرِكِي مَكَّةَ إِيَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنُونِ، يَعْنِي أَنَّ التَّفَكُّرَ الصَّحِيحَ فِي حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى يَنْفِي أَنْ يَكُونَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْنَى مَسٍّ مِنَ الْجُنُونِ كَمَا زَعَمُوا، فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَفَكَّرُوا (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) (10) بَيَانُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، وَمَتَى تَقُومُ، بَلْ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ 187. (11) بَيَانُ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ - أَيْ وَلَا لِغَيْرِهِ بِالْأَوْلَى - نَفْعًا وَلَا ضَرًّا - إِلَّا مَا مَكَّنَهُ اللهُ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مُؤَيِّدًا بِالدَّلِيلِ الْحِسِّيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. (12) بَيَانُ عُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالشَّهَادَةُ لَهُ فِي كُتُبِهِمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ حَذْفُ مَفْعُولِ لِتُنْذِرَ بِهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ الْعَامُّ بَعْدَهُ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ. وَالنَّصُّ فِي إِرْسَالِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ رَحْمَتَهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (157) إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا نُصُوصَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِيهَا (ص 199 - 255 ج 9 ط. الْهَيْئَةِ) . وَأَمَّا النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي عُمُومِ الرِّسَالَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (158) الْآيَةَ، وَكَذَا كُلُّ خِطَابٍ خُوطِبَ بِهِ بَنُو آدَمَ فِي الْآيَاتِ 26 و27 و31 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ آيَاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أُمَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَأُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي الِاشْتِرَاكِ الْعَامِّ مَا تَرَى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ. مَا وَرَدَ فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالرُّسُلِ (13) بِعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي (35) إِلَخْ. وَيَدُلُّ عَلَى إِرْسَالِهِمْ إِلَى الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا (4) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْكَثِيرَةِ أُمَمُ الرُّسُلُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.

(14) سُؤَالُهُ الرُّسُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ وَسُؤَالُ الْأُمَمِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ السَّادِسَةِ. (15) جَزَاءُ بَنِي آدَمَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَطَاعَتِهِمْ، وَعَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ 35 و36. (16) وَظِيفَةُ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ: بِشَارَةً وَإِنْذَارًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْآيَاتِ: 2 و62 و93 و188. (17) أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الرُّسُلُ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَنَفْيِ عِبَادَةِ إِلَهٍ غَيْرِهِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْآيَاتِ 59 و65 و70 و73 و85. (18) مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَشْمَلُ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَالْحُجَجَ الْعَقْلِيَّةَ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ 13 و85 و103 و105 و107 و108. (19) الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رُسُلَهُ هِيَ حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْإِيمَانِ اقْتِضَاءً عَقْلِيًّا، وَلَا مُلْجِئَةٍ إِلَيْهِ طَبْعًا، وَلَوْ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لَهُ قَطْعًا أَوْ مُلْجِئَةً إِلَيْهِ طَبْعًا لَمَا تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَلَكَانَ خِلَافَ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَالْمُلْجَأُ لَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءً. وَنَحْنُ نَرَى فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ السَّحَرَةَ قَدْ آمَنُوا يَقِينًا عَلَى عِلْمٍ، وَأَنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ قَوْمِهِ ظَلُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الْآيَةُ الْكُبْرَى قَالُوا إِنَّهَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (27: 14) أَيْ: عَانَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنَادًا بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ بِهَا فِي الظَّاهِرِ مَعَ اسْتِيقَانِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْجُحُودِ هُوَ الظُّلْمُ وَالْعُلُوُّ وَالْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا وَصْفُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَيْ كِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَائِرَ الشَّعْبِ كَانَ مُسْتَذَلًّا. وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِلرُّؤَسَاءِ لِجَهْلِهِ، وَقَدْ صَدَّقَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُوسَى سَاحِرٌ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا مُتَوَاطِئِينَ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِهِ; لِأَجْلِ إِخْرَاجِ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ مِنْ مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِكِبْرِيَاءِ الْمُلْكِ بَدَلًا مِنْهُمْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى، وَلَوْ فَهِمَ جُمْهُورُ الشَّعْبِ مِنَ الْآيَاتِ مَا فَهِمُوا لَآمَنَ كَمَا آمَنُوا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ مِنْ عُتُوِّ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا أَكْرَمَ مَنْزِلَةً فِي الدَّوْلَةِ مِنْ سَائِرِ الشَّعْبِ، وَلَكِنَّ كَرَامَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ بَالِغَةً دَرَجَةَ الْعَظَمَةِ وَالْعُلُوِّ الْمَانِعَةِ لِصَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِهَا لِأَجْلِ الْحَقِّ، وَقَدِ امْتَازَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَ اللهُ آيَةَ نُبُوَّتِهِ الْكُبْرَى عِلْمِيَّةً لَا صُعُوبَةَ فِي فَهْمِ دَلَالَتِهَا عَلَى عَامِّيٍّ وَلَا خَاصِّيٍّ، عَلَى أَنَّهُ أَيَّدَهُ فِي زَمَنِهِ بِعِدَّةِ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ.

(20) نَصِيحَةُ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَأَمْرُهُمْ بِالْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ وَنَهْيُهُمْ عَنْ ضِدِّهِمَا كَمَا فِي الْآيَاتِ 62 و63 و68 و74 و79 و80 و85 و86 و93. (21) شُبْهَةُ الْأُمَمِ عَلَى الرُّسُلِ الَّتِي أَثَارَتْ تَعَجُّبَهُمْ وَاسْتِنْكَارَهُمْ هِيَ كَوْنُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ رَجُلًا مِثْلَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ 63 و69. (22) اتِّهَامُ الْكُفَّارِ رُسُلَ اللهِ بِالسِّحْرِ كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ بِاتِّهَامِ مُوسَى فِي الْآيَةِ 109 وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ الْمِصْرِيِّينَ مَعَ مُوسَى. وَهِيَ شُبْهَةُ جَمِيعِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ عَلَى آيَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَهُ، وَمِنْ خَطَأِ الْمُتَكَلِّمِينَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْأَشْخَاصِ، وَقَدْ عَقَدْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فَصْلًا فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ لَا يَجِدُ الْقَارِئُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ تَفَاسِيرِنَا وَكُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ وَهُوَ فِي ص41 - 52 ج 9 ط الْهَيْئَةِ. (23) عِقَابُ الْأُمَمِ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَهُوَ فِي الْآيَاتِ 64 و72 و78 و84 و91 و92 و133 و136 و137. (24) قِصَصُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ. وَهِيَ مِنْ آيَةِ 59 إِلَى 93، وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَسَحَرَتِهِ مِنْ آيَةِ 103 إِلَى 137، وَقِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَحْدَهُمْ مِنْ 138 - 171 وَفِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ مَا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي أَبْوَابٍ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَبَقِيَ مَا سَبَّبَ إِنْزَالَهَا وَإِنْزَالَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُصَرَّحِ بِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَكَوْنِهَا مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) وَكَوْنِهَا تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُلَاقِي مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمْ، وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ فِي النُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (11: 120) - وَكَوْنِهَا مَوْعِظَةً وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوْعِظَةً وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَكَوْنِهَا عِبْرَةً عَامَّةً لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ (12: 111) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ. فَقَدْ طَالَ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ جِدًّا.

الْبَابُ الثَّالِثُ عَالَمُ الْآخِرَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. (وَفِيهِ 12 أَصْلًا) . (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 25: وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ وَفِي 29: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ ; لِأَنَّهُ كَالْبَدْءِ أَوْ أَهْوَنُ عَلَى الْمُبْدِئِ بَدَاهَةً، فَكَيْفَ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بَدْءًا وَإِعَادَةً عَلَى سَوَاءٍ - وَفِي الْآيَةِ 57 تَشْبِيهُ إِخْرَاجِ الْمَوْتَى بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا. وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَتَضَمَّنُ الْبُرْهَانَ الْوَاضِحَ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ فَنَاءِ أَجْسَادِهِمْ، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجِهَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ (فَتُرَاجَعُ فِي 418 - 427 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّانِي) وَزْنُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى ثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) سُؤَالُ الرُّسُلِ فِي الْآخِرَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ وَأَثَرِهِ، وَسُؤَالُ الْأُمَمِ عَنْ إِجَابَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ. (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) كَوْنُ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ، وَجَزَاءُ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَدُخُولُ الْأُمَمِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي النَّارِ، وَلَعْنُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَشَكْوَى بَعْضِهِمْ مِنْ إِضْلَالِ بَعْضٍ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ، وَتَحَاوُرُهُمْ فِي ذَلِكَ، رَاجِعِ الْآيَاتِ 36 - 41 و147 و179. (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْآيَةِ 35، وَجَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وِإِيرَاثُهُمُ الْجَنَّةَ وَحَالُهُمْ وَمَقَالُهُمْ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 42 و43، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مِنَ الْآيَةِ 32: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (الْأَصْلُ السَّادِسُ) إِقَامَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ (44) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِهَا بَيَانٌ لِمَا فِي صِنَاعَاتِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ إِزَالَةِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ تَحَاوُرِ النَّاسِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَاتِ بَيْنَهُمْ رَاجِعْ 377 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) الْحِجَابُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ الْأَعْرَافُ وَأَهْلُهُ وَتَسْلِيمُهُمْ

عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخِطَابُهُمْ لِأُنَاسٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي النَّارِ بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَغُرُورِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ إِلَخْ. وَهُوَ فِي الْآيَاتِ 46 - 49. (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) نِدَاءُ أَصْحَابِ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَجَوَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ (50) (الْأَصْلُ التَّاسِعُ) اعْتِرَافُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَتَمَنِّيهِمُ الشُّفَعَاءَ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ، أَوِ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَحُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا سَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ (53) (الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) الدُّعَاءُ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ مَعَ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ (156) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ تَشْرِيعًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَغَايَةُ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي السُّنَّةِ 4 مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ. (الْأَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ) صِفَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (179) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِنَا لَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرٍ، وَلَا فِي كِتَابٍ آخَرَ - فَرَاجِعْهُ بِمَوْضِعِهِ فِي هَذَا الْجُزْءِ. (الْأَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ) مَسْأَلَةُ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِهَا تَأْتِي بَغْتَةً وَهِيَ فِي الْآيَةِ 187 وَفِي تَفْسِيرِهَا مَبَاحِثُ مَسَائِلَ مُبْتَكَرَةٍ فِي أَشْرَاطِهَا. الْبَابُ الرَّابِعُ أُصُولُ التَّشْرِيعِ وَفِيهِ 9 أُصُولٍ (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) بَيَانُ أَنَّ شَارِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَهُنَاكَ قَدْ ذُكِرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَقُّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُذْكَرُ هُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِشَرْعِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ: مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وُجُوبًا دِينِيًّا عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ يُثَابُ فَاعِلُهُ، وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا التَّشْرِيعُ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَدْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لِلرَّسُولِ، وَلِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ الْوَاسِعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59)

وَاشْتَرَطَ فِي هَذَا الْإِذْنِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ، وَإِلَى الرَّسُولِ فِي عَهْدِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ مَعَ بَيَانِ عِلَّتِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص146 - 180 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّانِي) تَحْرِيمُ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ، وَالْأَخْذِ فِيهِ بِآرَاءِ الْبَشَرِ، وَهُوَ نَصُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُوَ: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (7: 3) وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ. وَمِنَ النُّصُوصِ فِي بُطْلَانِهِ الْإِنْكَارُ عَلَى احْتِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي الْآيَةِ 28: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا الْآيَةَ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 332 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ 173. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) تَعْظِيمُ شَأْنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ ; لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ 33: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا السُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ، فَتَقْيِيدُ تَحْرِيمِ الشِّرْكِ بِانْتِفَائِهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ 169: أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَسَيُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الرَّابِعِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ مِنْ آيَةِ 176: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ 184: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وَفِي الْآيَةِ 185: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِلَخْ. - وَالْآيَةُ الْجَامِعَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ، وَلِكُلِّ مَا كَانَ مَصْدَرُهُ الرُّؤْيَةَ وَالسَّمَاعَ، وَهُمَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ مَصَادِرِ الْعِلْمِ. (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْعِلْمِ الشَّامِلِ لِلْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَا بَيَّنَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَّةٍ، وَالْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْمَعْلُومَاتُ، فَفَارَقَ مَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ 28: أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ 32: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهِيَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَبِالزِّينَةِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حَرَّمَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمَصَالِحِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، رَاجِعْ ص 338 وَمَا بَعْدَهَا ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ 33 الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَامَّةِ: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ 131: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَهُوَ فِي زَعْمِ آلِ فِرْعَوْنَ وَخُرَافَاتِهِمْ أَنَّ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ

وَالْخَيْرَاتِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ، وَأَنَّ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ بِشُؤْمِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَتَطَيُّرِهِمْ بِهِمْ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَالْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِي الْعَالَمِ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ تَوْبِيخِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَآلِهَةِ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ آخِرِ الْآيَةِ 138 إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، فَهَذِهِ جَامِعَةٌ لِبَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ، وَذَمِّ الْجَهْلِ بِهِمَا مَعًا، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّلَ تَجْهِيلَهُمْ أَوَّلًا بِعِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَثَانِيًا بِعِلَّةٍ دِينِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي (ص91 - 101 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 169: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَهُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ، وَلَكِنَّهُ أُيِّدَ بِالْعَقْلِيِّ فِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. فَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا قَبْلَهُ الْمُؤَيَّدَةُ بِأَضْعَافِهَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، تُثْبِتُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ لِشَأْنِ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ; لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِاللهِ وَشَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَتَعْظِيمَ شَأْنِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى نَقْصِ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهَا. (الْأَصْلَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ) أَمْرُ النَّاسِ بِأَخْذِ زِينَتِهِمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الرِّزْقِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِعُمُومِ فَضْلِ اللهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا تَكُونُ خَالِصَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ 31 و32 وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَقُومُ عَلَيْهِمَا بِنَاءُ الْحَضَارَةِ بِعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَصِنَاعَاتِهَا، وَإِظْهَارِهَا لِمَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَهُمَا الْمُبْطِلَانِ لِأَسَاسِ الدِّيَانَةِ الْبِرَهْمِيَّةِ مِنْ جَعْلِ مَقْصِدِ الدِّينِ تَعْذِيبَ النَّفْسِ، وَحِرْمَانَهَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّصَارَى، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ تَقْلِيدِهِمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ خَالِيَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ تَصْرِيحَاتِ الْإِنْجِيلِ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَوْنِ الصَّائِمِينَ وَالْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ يَشْبَعُونَ هُنَالِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الْبَشَرِ يَقْوَى الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مَنْ كُلِّ أُمَّةٍ، بَدَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِتَرْكِ أَكَلِ اللُّحُومِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِالِاخْتِصَاءِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (5: 87) الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.

وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْضَ مُسْلِمِي الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَصَارَ الْجَاهِلُونَ بِكُنْهِ الْإِسْلَامِ يَعُدُّونَ الْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَ فِي الدِّينِ، وَأَهْلَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ خُرَافِيِّينَ. وَيُرَاجَعُ مَا فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَتَيْنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ مُفَسِّرِينَا الْمُتَقَدِّمِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى (ص338 - 350 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ السَّابِعُ) هِدَايَةُ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ خِيَارَ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آيَةِ 159، وَخِيَارَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ 181، فَهَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِهِ. وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا، وَفِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، وَالْعَدْلُ مَا تُحِرِّيَ بِهِ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوِ الْأَطْرَافِ الْمُتَنَازِعَةِ فِيهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّضْحِيَةُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ (29) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْعَامُّ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ النَّاسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ إِذْ صَارَ لِلْأُمَّةِ حُكْمٌ وَدَوْلَةٌ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (4: 58) وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي وُجُوبِ عُمُومِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ تَفْسِيرِهَا. فَمَنْ تَحَرَّى الْعَدْلَ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ وَعَرَفَ مَكَانَهُ فَحَكَمَ بِهِ، كَانَ حَاكِمًا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى نَصٍّ خَاصٍّ فِي الشَّرِيعَةِ بِهِ، فَإِنْ وَجَدَ النَّصَّ كَانَتِ الثِّقَةُ بِالْعَدْلِ أَتَمَّ بَلْ لَا حَاجَةَ مَعَ النَّصِّ إِلَى الِاجْتِهَادِ، كَمَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ الْخَاصِّ أَوْ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ بَاطِلٌ. (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) حَصْرُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) يُرَاجَعُ بَيَانُ وَجْهِ الْحَصْرِ فِي تَفْسِيرِهَا (ص351 - 357 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ التَّاسِعُ) بَيَانُ أُصُولِ الْفَضَائِلِ الْأَدَبِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الْجَامِعَةِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ مُعْجِزَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

الْبَابُ الْخَامِسِ فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ (وَفِيهِ 14 أَصْلًا) (1) خَلْقُ اللهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ بِأَمْرِهِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ لَهُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ 54 وَهِيَ تَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي عِلْمَيِ الْفَلَكِ وَالْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ دُونَ عِلْمِ التَّنْجِيمِ الْخُرَافِيِّ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ الْغَرْبِ مِنَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَوْ ذُكِرَ أَبْسَطُهُ وَأَبْعَدُهُ عَنِ الْغَرَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَصْرِ لَقَالَ فِيهِ أَذْكَى الْعُقَلَاءِ إِنَّهُ مِنْ هَذَيَانِ الْمَجَانِينِ، أَوْ تَخَيُّلِ الْحَشَّاشِينَ، وَلَا يُوجَدُ عِلْمٌ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَدِقَّةِ حِكْمَتِهِ مِنْ عِلْمِ الْفَلَكِ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا الْعَرَبُ فِي عَهْدِ حَضَارَتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ أَعْلَمَ الْبَشَرِ بِهِ، فَصَارُوا أَجْهَلَهُمْ بِهِ. (2) خَلْقُ اللهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَ وَإِحْيَاؤُهُ الْأَرْضَ بِهِ، وَإِخْرَاجُهُ الثَّمَرَاتِ وَالْخِصْبَ وَضِدَّهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 57 و58 وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قُلْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ مَا يُعْطِي مُتَأَمِّلَهُ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ إِذَا قَصَدَهُ، وَيُغْدِقُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ الَّتِي مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَيُعِدُّهُ لِشُكْرِهَا فَتَجْتَمِعُ لَهُ بِذَلِكَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ عُلُومُ بَعْضِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ فَاسْتَحْوَذُوا عَلَى أَكْثَرِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ فِي بِلَادِهِمْ، وَبِلَادِ الْجَاهِلِينَ بِهَا، الَّذِينَ أَضَاعَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهَا. (3) خَلْقُ اللهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَإِعْدَادُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلتَّنَاسُلِ كَمَا فِي الْآيَةِ 189 وَفِي قِصَّةِ جَنَّةِ آدَمَ وَمَعْصِيَتِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنَ الْآيَاتِ 19 - 25 بَعْضُ صِفَاتِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَحَالِهَا فِي سُكْنَى الْأَرْضِ. (4) تَفْضِيلُ اللهِ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّهَا أَوْسَعُ تَفْصِيلًا لِمَا تَقْتَضِيهِ قِصَّةُ آدَمَ الْمُطَوَّلَةُ فِيهَا، وَالتَّصْرِيحُ فِيهَا بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَفِي بَابِ التَّأْوِيلِ هُنَالِكَ سَبْحٌ طَوِيلٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ. فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. (5) خَلْقُ بَنِي آدَمَ مُسْتَعِدِّينَ لِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، وَإِشْهَادُ الرَّبِّ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَشَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ، وَمَا مُنِحُوهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَحُجَّتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 172 و173 فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. وَكَذَا خَلْقُهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلشِّرْكِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَالْآيَةِ 190.

(6) ضَرْبُ الْمَثَلِ لِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَعَلَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِمْ، وَكَوْنُهُمْ يُعَرَّفُونَ بِثِمَارِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا (58) ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِأَثَرِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَثَرِ بِمَصْدَرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ خَبِيثًا وَطَيِّبًا، وَجَيِّدًا وَرَدِيئًا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَخْ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. (7) الْكَلَامُ فِي إِبْلِيسَ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَوَسْوَسَتِهِ لَهُ وَلِزَوْجِهِ بِالْإِغْرَاءِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَعَاقِبَةِ ذَلِكَ. وَهُوَ فِي الْآيَاتِ 20 - 25 وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (8) عَدَاوَةُ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينِ مِنْ نَسْلِهِ لِبَنِي آدَمَ، وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الشَّرَّ وَالْبَاطِلَ، وَإِغْرَاؤُهُمْ بِالْفَسَادِ وَالْمَعَاصِي وَحِكْمَةُ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ 16 و17 و20 - 22 و27 وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْهُ فِي الْآيَةِ 27 مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ يَرَاهُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ. (9) نَزْغُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، وَمُقَاوَمَتُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَكَوْنُ الْمُتَّقِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْهُ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لَا تَطُولُ غَفْلَتُهُمْ فَيَغُرُّهُمْ وَسْوَاسُهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 200 - 202. (10) بَيَانُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءُ لِلْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ 27 وَبَيَانُ أَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ مِنْ بَنِي آدَمَ يُمَكِّنُونَ الشَّيَاطِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ تَقْوَاهُمْ، فَهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ وَلَا يُقْصِرُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ 202. قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا عَلَى مَبَاحِثِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ قَدْ أَحَلْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَعْرَافِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ عَقْدَ فَصْلٍ اسْتِطْرَادِيٍّ فِي حِكْمَةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى الْخَلْقَ، وَاسْتِعْدَادِ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ. فَيُرَاجَعُ (فِي ص302 - 306 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . (11) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَسْهِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ 10، وَمِنَ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ لَهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ طَلَبُ سَعَةِ الْعِلْمِ بِاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَوَسَائِلِ الْمَعَايِشِ. (12) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِاللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ 26 وَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ الْأَصْلَيْنِ 5 و6 مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ. (13) صِفَاتُ شِرَارِ الْبَشَرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَهَنَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنِ اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ 179 وَذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ 11 مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ) وَفِي تَعْظِيمِ شَأْنِ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ (وَهُوَ الْأَصْلُ 3 مِنَ الْبَابِ 4) . (14) آيَاتُهُ تَعَالَى وَنِعَمُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتُرَاجَعُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ.

الْبَابُ السَّادِسُ فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ (وَفِيهِ 7 أُصُولٍ) (1) إِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِظُلْمِهَا لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا، كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 4 و5 وَمِصْدَاقُهُ فِي خَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ فِي الْآيَةِ 19 وَاعْتِرَافُ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي دُعَاءِ تَوْبَتِهِمَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا (23) وَبِأَنَّ شَأْنَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ تُغْفَرَ بِالتَّوْبَةِ فَيُعْفَى عَنْ عِقَابِهَا، وَهُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِمَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَأَمَّا خَسَارَةُ الْأُمَمِ فَهِيَ إِضَاعَةُ اسْتِقْلَالِهَا، وَسُلْطَانُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَأَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا ظُلْمُ الْأَفْرَادِ وَعِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُرَاجَعُ فِي الْأَصْلِ 4 مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ. (2) بَيَانُ أَنَّ لِلْأُمَمِ آجَالًا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي اقْتَضَتْهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 34، وَكَوْنُهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهَذِهِ السُّنَنِ تُؤْخَذُ بَغْتَةً، وَعَلَى غَفْلَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَاتِ 94 - 100 وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ، وَكَانَ عِقَابُهَا وَضْعِيًّا لَا اجْتِمَاعِيًّا - وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعِقَابُ بِمَا تَوَعَّدَ تَعَالَى بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَمُعَانَدَتِهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عِقَابِ الْحُكَّامِ لِرَعَايَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرَائِعِ أُمَّتِهِمْ وَقَوَانِينِهَا وَنُظُمِهَا. (وَثَانِيهِمَا) الْعِقَابُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْجَرَائِمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرِيضُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ طَبِيبِهِ فِي مُعَالَجَتِهِ لَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى كَذَا مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْتِزَامِ كَذَا مِنَ الدَّوَاءِ. (رَاجِعْ ص257 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) . (3) ابْتِلَاءُ اللهِ الْأُمَمَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ تَارَةً، وَبِضِدِّهَا مِنَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ تَارَةً أُخْرَى. فَإِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ فَيَكُونَ تَرْبِيَةً لَهَا، وَإِمَّا أَنْ تَغْبَى وَتَغْفُلَ فَيَكُونَ مَهْلَكَةً لَهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ 94 وَمَا بَعْدَهَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. (4) بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا دَعَا اللهُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى فِي الْعَمَلِ بِشَرْعِهِ فِعْلًا وَتَرَكًا، سَبَبٌ اجْتِمَاعِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِسَعَةِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَيْرَاتِهَا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى (مِنْهَا) الْآيَةُ 52 مِنْ سُورَةِ هُودٍ (11) ، وَالْآيَاتُ 123 - 127 مِنْ سِيَاقِ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ سُورَةِ طه، وَمِثْلُهُ فِي الْآيَاتِ 10 - 12 مِنْ سُورَةِ نُوحٍ، وَالْآيَتَيْنِ 16 و17 مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ بَعْدَهَا وَغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.

وَمِنْهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّقْوَى وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي مَقَالَةٍ، عُنْوَانُهَا (عَاقِبَةُ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ) نُشِرَتْ فِي (ج 7 م 21 مِنَ الْمَنَارِ) . (5) اسْتِدْرَاجُهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُجْرِمِينَ وَإِمْلَاؤُهُ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 182: 183 وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا سَبَقَهُ مِنْ سُنَّةِ أَخْذِ اللهِ لِلْأُمَمِ بِذُنُوبِهَا، وَمِنْ سُنَّةِ ابْتِلَائِهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَرَبَّى يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ، وَذُنُوبُ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا - رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. فَفِيهِ بَيَانُ هَذِهِ السُّنَّةِ مُوَضَّحًا. (6) سُنَّةُ اللهِ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ وَاسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ فِيهَا، وَالِاسْتِيلَاءِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ. فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ أَنَّ وَطْأَةَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ اشْتَدَّتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَرَّحَ بِوُجُوبِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ; لِأَجْلِ أَنْ تَنْقَرِضَ الْأُمَّةُ بَعْدَ اسْتِذْلَالِ مَنْ يَبْقَى مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الرِّجَالُ، وَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ذُلًّا وَخُنُوعًا - وَهُمْ مِئَاتُ الْأُلُوفِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الشُّعُوبِ الْجَاهِلَةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ مُوسَى أَنْ يَمْتَلِخَ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) أَيْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ رَهْنَ تَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ بِقُدْرَتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ فَتَدُومُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ، وَلَهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى سُنَّةٌ فِي سَلْبِهَا مِنْ قَوْمٍ، وَجَعْلِهَا إِرْثًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَمَدَارُ هَذِهِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْأُمَمِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا أَوْ تَسْتَعْمِرُهَا لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَسْبَابَ الضَّعْفِ وَالْخِذْلَانِ وَالْهَلَاكِ، كَالْيَأْسِ مِنْ رُوحِ اللهِ وَالتَّخَاذُلِ وَالتَّنَازُعِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَيَتَلَبَّسُونَ بِضِدِّهَا، وَبِسَائِرِ مَا تَقْوَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ مَهْمَا عَظُمَتْ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا أَعْظَمُ مَا تَتَفَاضَلُ بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمِلِّيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحُرُوبِ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (21: 105) وَإِنَّمَا الصَّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَسَائِرِ شَرَائِعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْعُمْرَانِ، وَهِيَ بِمَعْنَى مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ " بَقَاءَ الْأَصْلَحِ أَوِ الْأَمْثَلِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ " وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (13: 17) . وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ تَرَى بَعْضَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِسِيَادَةِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا يَائِسَةً مِنِ اسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، بَلْ مِنْ حَيَاتِهَا الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ بِمَا تَرَى مِنْ خِفَّةِ مَوَازِينِهَا

وَرُجْحَانِ مَوَازِينِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا فِي الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ وَالْآلِيَّةِ، وَاسْتِذْلَالِ هَؤُلَاءِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا لَهَا، جَهْلًا مِنْهَا بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَغَفْلَتَهَا عَنْ كَوْنِ رُجْحَانِ قُوَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَهْرِهِ لَهُمْ كَانَا فَوْقَ رُجْحَانِ قُوَى سَائِدِيهَا عَلَيْهَا وَقَهْرِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ بِسُقُوطِ بَعْضِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مَا لَا يَقِلُّ عَنِ الْعِبْرَةِ بِأَحْدَاثِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِتِلْكَ الْآيَةِ (129) أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا لَهُ قَوْمُهُ إِيذَاءَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِهْلَاكِ رَبِّهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا; لِيَخْتَبِرَهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، وَيَكُونُ ثَبَاتُ مُلْكِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِمُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْأَرْضُ وَأَهْلُهَا أَوْ تَفْسُدُ. وَهُوَ مَا فَصَّلَهُ تَعَالَى لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا فِي إِفْسَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ (17: 4) إِلَى تَتِمَّةِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ 137 مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ الْحُسْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا صَبَرُوا، أَيْ لَا بِمُجَرَّدِ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُسْتَضْعَفَةَ مَهْمَا يَكُنْ عَدُوُّهَا الظَّالِمُ لَهَا قَوِيًّا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِرَجَاءِ مُوسَى هُنَا، وَلِوَعْدِ اللهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (28: 5، 6) الْآيَةَ. تَرَى شُعُوبَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ، وَمَا ضَاعَ مُلْكُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا بِجَهْلِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي الْعَمَلِ، وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْجَهْلِ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَدَعْوَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هِدَايَتِهِ بِمَا كَتَبَهُ لَهُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَمَا كَتَبَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الْكَبِيرَةُ الْقَدْرِ وَالْفَوَائِدِ (الْأَعْرَافُ) خَالِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، وَمِنْ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعَقَائِدِ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. فَهَلْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّوَرَ كُلَّهَا لِلتَّعَبُّدِ بِتَجْوِيدِ أَلْفَاظِهَا بِدُونِ فَهْمٍ، أَوْ لِاتِّخَاذِهَا رُقًى وَتَمَائِمَ، وَكَسْبًا لِقُرَّاءِ الْمَآتِمِ؟ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْجَهْلَ بَلَغَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فَرِيقٌ خَصْمٌ لِهَذَا الْفَرِيقِ الْمُقَلِّدِ الْمُحَافِظِ عَلَى كُتُبِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى دُونَ هَدْيِ السَّلَفِ، خَصْمٌ يَقُولُ: إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّبَبُ فِي جَهْلِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، وَلَا حَيَاةَ لَنَا إِلَّا بِاقْتِبَاسِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَادَتْنَا بِهَذِهِ الْعُلُومِ، وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَهَؤُلَاءِ

أَجْهَلُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أُولَئِكَ، فَكِتَابُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَصَّرُوا فِي طَوْرِ حَيَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ عَنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِالتَّدْوِينِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ حَقُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَكُونُوا أَوْسَعَ النَّاسِ بِهِ عِلْمًا; لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ مُؤَيِّدٌ لِلْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهِ. (7) إِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَرِثُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا الْأُصَلَاءِ هِيَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِهَا، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ غُلِبُوا عَلَيْهَا; بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَعَمَى قُلُوبِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُ الْوَارِثِينَ لَهَا مِنْ بَعْدِهِمْ إِذَا صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) وَكُنَّا نَرَى الَّذِينَ وَرِثُوا مَمَالِكَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّعِظِينَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَهُمْ عَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ بِالظُّلْمِ وَإِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ يَتَحَرَّوْنَ أَنْ يَكُونَ ظُلْمُهُمْ دُونَ ظُلْمِ حُكَّامِ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّذِينَ أَضَاعُوهَا، وَعُقُولُهُمْ تَبْحَثُ دَائِمًا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَلْبِهَا مِنْهُمْ; لِأَجْلِ اتِّقَائِهَا، وَآذَانُهُمْ مُرْهَفَةٌ مُصِيخَةٌ لِاسْتِمَاعِ كُلِّ خَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِهَا وَأَمْرِ أَهْلِهَا وَشُئُونِ الطَّامِعِينَ فِيهَا حَذَرًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْلُبُوهُمْ إِيَّاهَا. وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِاتِّقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا تَرَاهُ فِي 28 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ. هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ أُصُولِ وَأُمَّهَاتِ هِدَايَةِ السُّورَةِ الْجَلِيلَةِ بِمُرَاجَعَتِهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، مُرُورًا عَلَى الْآيَاتِ بِالنَّظَرِ، وَلَوْ أَعَدْنَا قِرَاءَتَهَا مَعَ قِرَاءَةِ تَفْسِيرِهَا بِالتَّدَبُّرِ لَظَهَرَ لَنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا التَّلْخِيصَ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا هِيَ وَسَائِرَ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَيُوَفِّقَ أُمَّتَنَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا تَابَ أَبُوهُمْ وَأُمُّهُمْ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

سُورَةُ الْأَنْفَالِ (وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ فِي الْعَدَدِ، وَوُضِعَتْ مَوْضِعَ السَّابِعَةِ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَهِيَ دُونَ الْمِئِينَ الَّتِي تَلِي الطِّوَالَ، لِمَا سَيَأْتِي. وَعَدَدُ آيَاتِهَا 75 آيَةً) سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ، وَفِي لَفْظٍ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةَ 64 يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا وُضِعَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقُرِئَتْ مَعَ آيَاتِهَا الَّتِي نَزَلَتْ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِمُنَاسَبَتِهَا لِلْمَقَامِ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (30) الْآيَةَ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ، بَلْ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ، وَبَاتَا فِي الْغَارِ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَفْسَهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ اسْتِثْنَاءَ خَمْسِ آيَاتٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَى الْآيَةِ 35 لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَهُوَ أَنَّ مَوْضُوعَهَا حَالُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي نُزُولَهَا فِي مَكَّةَ، بَلْ ذَكَّرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَكُلُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا فَهُوَ مَدَنِيٌّ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِسُورَةِ الْأَعْرَافِ: أَنَّهَا فِي بَيَانِ حَالِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، هَذَا هُوَ الْعُمْدَةُ. وَهُنَاكَ تَنَاسُبٌ خَاصٌّ بَيْنَ عِدَّةِ آيَاتٍ مِنَ السُّورَتَيْنِ يُقَوِّي هَذَا التَّنَاسُبَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءُ مِنْهُ سَبَبًا لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي مُكَرَّرٌ فِي أَكْثَرِ السُّوَرِ الْكَبِيرَةِ، وَأَنْقُلُ هُنَا عَنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَقَلَهُ عَنِ السَّيُوطِيَّ فِي وَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَا وَمَا تَعَقَّبَهُ بِهِ وَهُوَ: " وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَضْعَهَا هُنَا تَوْقِيفِيٌّ، وَكَذَا وَضْعُ بَرَاءَةَ بَعْدَهَا، وَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَذَكَرَ الْجَلَالُ السَّيُوطِيُّ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، بَلْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ إِيلَاءُ الْأَعْرَافِ بِيُونُسَ وَهُودٍ; لِاشْتِرَاكِ كُلٍّ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهَا مَكِّيَّةُ النُّزُولِ خُصُوصًا أَنَّ الْحَدِيثَ

وَرَدَ فِي فَضْلِ السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَعَدُّوا السَّابِعَةَ يُونُسَ وَكَانَتْ تُسَمَّى بِذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، فَفِي فَصْلِهَا مِنَ الْأَعْرَافِ بِسُورَتَيْنِ فَصْلٌ لِلنَّظِيرِ مِنْ سَائِرِ نَظَائِرِهِ، هَذَا مَعَ قِصَرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْرَافِ وَبَرَاءَةَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ قَدِيمًا حَبْرُ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْخَبَرَ بِطُولِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا ثُمَّ قَالَ: وَأَقُولُ: يَنِمُّ مَقْصِدُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِأُمُورٍ فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ جَعَلَ الْأَنْفَالَ قَبْلَ بَرَاءَةَ مَعَ قِصَرِهَا؛ لِكَوْنِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبَسْمَلَةِ، فَقَدَّمَهَا لِتَكُونَ كَقِطْعَةٍ مِنْهَا وَمُفْتَتَحَهَا، وَتَكُونُ بَرَاءَةُ - لِخُلُوِّهَا مِنَ الْبَسْمَلَةِ - كَتَتِمَّتِهَا وَبَقِيَّتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ. (الثَّانِي) وَضْعُ بَرَاءَةَ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ الطُّولِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ السِّتِّ السَّابِقَةِ سُورَةٌ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْمُنَاسَبَةِ. (الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ خَلَّلَ بِالسُّورَتَيْنِ أَثْنَاءَ السَّبْعِ الطِّوَالِ الْمَعْلُومِ تَرْتِيبُهَا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ صَادِرٌ لَا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَإِلَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ كِلْتَيْهِمَا، فَوُضِعَا هُنَا كَالْوَضْعِ الْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُضِعَا بَعْدَ السَّبْعِ الطِّوَالِ فَإِنَّهُ كَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهُمَا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يُتَوَهَّمُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، لِلْعِلْمِ بِتَرْتِيبِ السَّبْعِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا، وَلَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا غَوَّاصٌ. (الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُمَا وَقَدَّمَ يُونُسَ، وَأَتَى بَعْدَ " بَرَاءَةٌ " بِهُودٍ كَمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ; لِمُرَاعَاةِ مُنَاسَبَةِ السَّبْعِ، وَإِيلَاءِ بَعْضِهَا بَعْضًا لَفَاتَ مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ آكُدُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْأَوْلَى بِسُورَةِ يُونُسَ أَنْ يُؤْتَى بِالسُّوَرِ الْخَمْسِ الَّتِي بَعْدَهَا لِمَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ مِنَ الْقِصَصِ، وَالِافْتِتَاحِ بِـ " الر "، وَبِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَمِنْ كَوْنِهَا مَكِّيَّاتٍ، وَمِنْ تَنَاسُبٍ مَا عَدَا الْحِجْرَ فِي الْمِقْدَارِ، وَمِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيٍّ، وَالرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مُنَاسَبَاتٍ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ يُونُسَ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ آكَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْوَاحِدِ فِي تَقْدِيمِ يُونُسَ بَعْدَ الْأَعْرَافِ. وَلِبَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ قُدِّمَتْ سُورَةُ الْحِجْرِ عَلَى النَّحْلِ مَعَ كَوْنِهَا أَقْصَرَ مِنْهَا، وَلَوْ أُخِّرَتْ بَرَاءَةُ عَنْ هَذِهِ السُّوَرِ السِّتِّ لَبَعُدَتِ الْمُنَاسَبَةُ جِدًّا لِطُولِهَا بَعْدَ عِدَّةِ سُوَرٍ أَقْصَرَ مِنْهَا بِخِلَافِ وَضْعِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَ الْحِجْرِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَبَرَاءَةَ فِي الطُّولِ. " وَيَشْهَدُ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاتِحِ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَضْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحِجْرِ عَلَى النَّحْلِ لِمُنَاسَبَةِ (الر) قَبْلَهَا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْصَرَ مِنْهَا لِمُنَاسَبَتِهَا الْبَقَرَةَ فِي الِافْتِتَاحِ بِـ " الم " وَتَوَالِي الطَّوَاسِينِ وَالْحَوَامِيمِ، وَتَوَالِي الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَلُقْمَانَ وَالسَّجْدَةِ

لِافْتِتَاحِ كُلٍّ: " الم " وَلِهَذَا قُدِّمَتِ السَّجْدَةُ عَلَى الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ أَطْوَلُ مِنْهَا. هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ. " ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدَّمَ فِي مُصْحَفِهِ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالْأَعْرَافَ وَالْأَنْعَامَ وَالْمَائِدَةَ وَيُونُسَ، رَاعَى السَّبْعَ الطِّوَالَ فَقَدَّمَ الْأَطْوَلَ مِنْهَا فَالْأَطْوَلَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمِئِينَ، فَقَدَّمَ بَرَاءَةَ ثُمَّ النَّحْلَ ثُمَّ هُودًا ثُمَّ يُوسُفَ ثُمَّ الْكَهْفَ وَهَكَذَا الْأَطْوَلُ فَالْأَطْوَلُ، وَجَعَلَ الْأَنْفَالَ بَعْدَ النُّورِ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلًّا مَدَنِيَّةٌ وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامٍ، وَأَنَّ فِي النُّورِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (24: 55) الْآيَةَ، وَفِي الْأَنْفَالِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ (8: 26) إِلَخْ. وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، فَالْأُولَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِمَا حَصَلَ، وَذَكَّرَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُ السَّيُوطِيِّ. (الْآلُوسِيُّ) " وَأَقُولُ: قَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْحَقِيرِ، بِمَا لَمْ يَمُنَّ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَوْلَى الْجَلِيلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ أَوْقَفَنِي سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيفِ فِي هَذَا الْوَضْعِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَسُؤَالُ الْحَبْرِ وَجَوَابُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَا نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي أَوَّلِ الْأُمُورِ الَّتِي فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُلَائِمٍ بِظَاهِرِهِ ظَاهِرَ سُؤَالِ الْحَبْرِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، حَيْثُ أَفَادَ أَنَّ إِسْقَاطَ الْبَسْمَلَةِ مِنْ بَرَاءَةَ اجْتِهَادِيٌّ أَيْضًا، وَيُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ خِلَافُهُ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ يُونُسَ سَابِعَةُ السَّبْعِ الطِّوَالِ لَيْسَ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهَا الْكَهْفُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ - كَمَا قَالَ فِي إِتْقَانِهِ - إِلَى أَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ أَوَّلُهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةُ وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى هَذَا. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّابِعَةَ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَيْرُوزَأَبَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَمْرِ الثَّانِي يَعْنِي عَنْهُ مَا عَلَّلَ بِهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ يُدْعَيَانِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرِينَتَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ جَعَلْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاتِحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ مُفْتَتَحَاتٌ بِـ " قُلْ " مَعَ الْفَصْلِ بِعِدَّةِ سُوَرٍ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْفَصْلِ بِسُورَتَيْنِ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَخْلُو مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَظَرٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

وَأَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ عُثْمَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هُوَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا مَنْ كَانَ يَكْتُبُ يَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا. فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ " اه. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ جَمِيعِ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَوَافَقَهُ السَّيُوطِيُّ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُرَتِّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ السُّوَرِ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِالْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، فَأَيْنَ كَانَ يَضَعُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ؟ التَّحْقِيقُ أَنَّ وَضْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا تَوْقِيفِيٌّ وَإِنْ فَاتَ عُثْمَانَ أَوْ نَسِيَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ نَاقَشُوهُ فِيهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ جَمْعِهِ وَنَشْرِهِ فِي الْأَقْطَارِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ أَوْ غَيْرُهُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَكَانَ كَاتِبَهُ، وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي أَمْرِ الْمَصَاحِفِ، وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ.

الأنفال

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا الْمَشْيَخَةُ (أَيِ الْمَشَايِخُ) فَثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، وَأَمَّا الشُّبَّانُ فَسَارَعُوا إِلَى الْقَتْلِ وَالْغَنَائِمِ، فَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ لِلشُّبَّانِ: " إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا وَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ شَيْءٌ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَتَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ إِيَّاهُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وُكِّلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخُمُسِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ تَنَازَعَ فِيهَا حَائِزُوهَا مِنَ الشُّبَّانِ وَسَائِرِ الْمُقَاتِلَةِ، وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. قَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْأَنْفَالُ جَمْعُ نَفْلٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مِنَ النَّفْلِ - بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ - أَيِ الزِّيَادَةُ عَنِ الْوَاجِبِ وَمِنْهُ الصَّلَاةُ النَّفْلُ - قَالَ الرَّاغِبُ: النَّفْلُ: هُوَ الْغَنِيمَةُ بِعَيْنِهَا، لَكِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ لِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ بِكَوْنِهِ مَظْفُورًا بِهِ، يُقَالُ: غَنِيمَةٌ، وَإِذَا اعْتُبِرَ بِكَوْنِهِ مِنْحَةً مِنَ اللهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ يُقَالُ لَهُ:

نَفْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَقَالَ: الْغَنِيمَةُ كُلُّ مَا حَصَلَ مُسْتَغْنَمًا بِتَعَبٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ تَعَبٍ، وَبِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَقَبْلَ الظَّفَرِ كَانَ أَوْ بَعْدَهُ، وَالنَّفْلُ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ الْفَيْءُ، وَقِيلَ: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَتَاعِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ الْغَنَائِمُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَنِ الْأَنْفَالِ لِمَنْ هِيَ؟ أَلِلشُّبَّانِ أَمْ لِلْمَشْيَخَةِ؟ أَمْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْ لِلْأَنْصَارِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: الْأَنْفَالُ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِهِ، وَلِلرَّسُولِ يُقَسِّمُهَا بِحَسَبِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَسَّمَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الَّذِي سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (41) إِلَخْ، فَيَكُونُ التَّفْصِيلُ نَاسِخًا لِلْإِجْمَالِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، فَالصَّوَابُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمُسِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ مَا شَاءَ قَبْلَ التَّخْمِيسِ فَاتَّقُوا اللهَ فِي الْمُشَاجَرَةِ وَالْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ، وَسَيَأْتِي فِي الصُّورَةِ مَضَارُّ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْحَرْبِ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ: أَصْلِحُوا نَفْسَ مَا بَيْنِكُمْ، وَهِيَ الْحَالُ وَالصِّلَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ تَرْبِطُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَهِيَ رَابِطَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِصْلَاحُهَا يَكُونُ بِالْوِفَاقِ وَالتَّعَاوُنِ وَالْمُوَاسَاةِ وَتَرْكِ الْأَثَرَةِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْإِيثَارِ أَيْضًا، وَالْبَيْنُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الِاتِّصَالِ وَالِافْتِرَاقِ، وَكُلِّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَمَا قَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ (6: 94) وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الرَّابِطَةِ بِذَاتِ الْبَيْنِ، وَأُمِرْنَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْأُمَّةِ وَعِزَّتُهَا وَمَنَعَتُهَا وَتُحْفَظُ بِهِ وَحْدَتُهَا وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي الْغَنَائِمِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَقَضَاءٍ وَحُكْمٍ، فَاللهُ تَعَالَى يُطَاعُ لِذَاتِهِ; لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكُ أَمْرِهِمْ، وَالرَّسُولُ يُطَاعُ فِي أَمْرِ الدِّينِ; لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَمُبَيِّنٌ لِوَحْيِهِ فِيهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ، وَهَذِهِ الطَّاعَةُ لَهُ تَعَبُّدِيَّةٌ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِيهَا، وَتَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَوْزُ بِثَوَابِهَا، وَيُطَاعُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا سِيَّمَا الْحَرْبَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْإِمَامُ الْقَائِدُ الْعَامُّ، فَمُخَالَفَتُهُ إِخْلَالٌ بِالنِّظَامِ الْعَامِّ، وَإِفْضَاءٌ إِلَى الْفَوْضَى الَّتِي لَا تَقُومُ مَعَهَا لِلْأُمَّةِ قَائِمَةٌ، فَهَذِهِ الطَّاعَةُ وَاجِبَةٌ شَرْعًا كَالْأُولَى إِلَّا أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، وَإِدَارَتِهِ بِمُشَاوَرَةِ الْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي كَيْفَ رَاجَعَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْمُفَصَّلَةِ أَحْكَامُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي ظَهَرَ صَوَابُهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ الْأَخِيرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمَا شَاوَرَهُمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَقَاءِ فِيهَا، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْمُشَاوَرَةُ، وَعَزَمَ عَلَى تَنْفِيذِ رَأْيِ الْجُمْهُورِ رَاجَعُوهُ فَلَمْ يَقْبَلْ

مُرَاجَعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَعَ حِكْمَتِهِ فِي تَفْسِيرِ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (3: 159) وَتَرَى فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَيْفَ كَانَتْ مُخَالَفَةُ الرُّمَاةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبًا فِي ظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) فِي 184 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ. وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَقِّ الطَّاعَةِ فِي تَنْفِيذِ الْمَشْرُوعِ، وَإِدَارَةِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَقِيَادَةِ الْجُنْدِ مَا كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، مُقَيَّدًا بِعَدَمِ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِمُشَاوَرَةِ أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: فَامْتَثِلُوا الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَهُ، وَالْمُؤْمِنُ بِاللهِ غَيْرُ الْمُرْتَابِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ يَكُونُ لَهُ سَائِقٌ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَيَتُوبَ إِلَيْهِ مِمَّا عَرَضَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ (4: 17) إِلَخْ، ثُمَّ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَيُثْبِتُهُ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيَّنَ فِي شَرْطِيَّةِ الْآيَةِ قَبْلَهَا شَأْنَهُمْ مِنَ التَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي الْأُمَّةِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَ ذِكْرُهَا مَعْرِفَةً تَكُونُ عَيْنَ الْأُولَى، أَوْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ مُطْلَقًا ; لِيُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ هِيَ بَعْضُ شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ صِفَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعَالَمِ بِهِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ، وَهِيَ " إِنَّمَا " كَمَا حَقَّقَهُ إِمَامُ الْفَنِّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ: (الصِّفَةُ الْأُولَى) قَوْلُهُ: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَجَلُ اسْتِشْعَارُ الْخَوْفِ، يَعْنِي مَا يَجْعَلُ الْقَلْبَ يَشْعُرُ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُ عَنْهُ بِالْفَزَعِ وَالْخَوْفِ (وَبَابُهُ فَرِحَ وَتَعِبَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَصْحَبُهُ شُعُورُ الْأَلَمِ وَالْفَزَعِ، وَقَدْ يُفَارِقُهُ لِضَعْفِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِ بُعْدِ أَجَلِهِ، فَالْوَجَلُ وَالْفَزَعُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ مِنْ حِوَارِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ضَيْفِهِ الْمُنْكَرِينَ. قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ (15: 52، 53) إِلَخْ، وَفِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (23: 60) فَالْوَجَلُ هُنَا مُقْتَرِنٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (22: 34، 35) وَهِيَ بِمَعْنَى آيَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَيْسَ لِلْوَجَلِ ذِكْرٌ فِي

غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَتَّفِقُ مَعْنَى الْوَجَلِ فِيهَا بِأَنَّهُ الْفَزَعُ وَشُعُورُ الْخَوْفِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْخَوْفُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْمَهَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ، يَا شَهْرُ بْنَ حَوْشَبٍ، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَادْعُ اللهَ فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: قَالَ فُلَانٌ: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى يُسْتَجَابُ لِي: قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَوَجِلَ قَلْبِي، وَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَذَلِكَ حِينَ يُسْتَجَابُ لِي، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " مَا الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا كَضَرَمَةِ السَّعَفَةِ، فَإِذَا وَجِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْعُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَالسَّعَفَةُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ السَّعَفِ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ إِذَا احْتَرَقَ يُسْمَعُ لَهُ نَشِيشٌ، شَبَّهَتْ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ شُعُورَ الرَّجُلِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَيَخْفِقُ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ ذِكْرُ الْقَلْبِ لِعَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَلَالِهِ، أَوْ لِوَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، وَمُحَاسَبَتِهِ لِخَلْقِهِ وَإِدَانَتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ سَوَاءٌ صَحِبَهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ أَمْ لَا، وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ تَرْتِيلُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ فِي الْخَلْوَةِ " اللهُ أَكْبَرُ " مُسْتَحْضِرًا لِمَعْنَى كِبْرِيَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَنْتَفِضُ وَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ، فَمَنْ خَصَّ الذِّكْرَ هُنَا بِالْوَعِيدِ غَفَلَ عَنْ كُلِّ هَذَا، وَظَنَّ أَنَّ الْوَجَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَذَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْخَشْيَةِ وَالْوَجَلِ مِنْ مَهَابَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعِزَّةِ سُلْطَانِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (35: 28) وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ يَخْشَعُ قَلْبُهُ وَيُفِيضُ دَمْعُهُ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (59: 21، 22) إِلَخْ، وَلَا يَجِدُ مِثْلَ هَذَا الْوَجَلِ عِنْدَ وَصْفِ جَهَنَّمَ، وَذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِثْلَ هَذَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ فَهْمِهِ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِدُونِ شُعُورٍ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيُقَابِلُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (13: 28) فَيَظُنُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا فَيُحَاوِلُ التَّفَصِّي مِنْهُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى ذِكْرِ الْوَعْدِ، وَالْآخَرِ عَلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَنَافِيَ، فَفِي كُلٍّ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ وَذِكْرِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ اطْمِئْنَانٌ لِلْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَا عِنْدَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَسْطُهُ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا ذِكْرَ يُضْرِمُ سَعَفَةَ الْوَجَلِ فِي الْقَلْبِ كَتِلَاوَةِ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (39: 23) .

2

(الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا أَيْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، أَيْ يَقِينًا فِي الْإِذْعَانِ، وَقُوَّةً فِي الِاطْمِئْنَانِ، وَسَعَةً فِي الْعِرْفَانِ، وَنَشَاطًا فِي الْأَعْمَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْقَرَائِنُ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَفِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحَيْهِمَا شَوَاهِدُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَحَادِيثُ أَقَلِّ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي فِي الْآخِرَةِ وَحَدِيثُ الْإِيمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عَلَى زِيَادَةِ الْعَمَلِ اللَّازِمِ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي فَسَّرُوهُ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ نَفْسَهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ أَيْضًا، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِإِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى لَمَّا دَعَاهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِيهَا قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (2: 260) فَمَقَامُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْإِيمَانِ يَزِيدُ عَلَى مَا دُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ قُوَّةً وَكَمَالًا، وَيَرْوِي عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَكَانَ يَقِينًا، وَالْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ فِي الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الْإِجْمَالِيِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الَّتِي تُنَافِيهِ أَوْ تُنَافِي كَمَالَهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ " اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَمْ مِنْ مُدَّعٍ لِتَوْحِيدِ اللهِ وَنَاطِقٍ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. وَمَثَلٌ آخَرُ: مَنْ آمَنَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمًا مُحِيطًا بِالْمَعْلُومَاتِ، وَحِكْمَةً قَامَ بِهَا نِظَامُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَرَحْمَةً وَسِعَتْ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَانَ عِلْمُهُ بِهِنَّ إِجْمَالِيًّا لَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكَ شَوَاهِدَهُ فِي الْخَلْقِ لَعَجَزَ عَنْهَا - لَا يُوزَنُ إِيمَانُهُ بِإِيمَانِ ذِي الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ تَفْصِيلُ النَّشْأَتَيْنِ، وَالْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ مَعَارِفُ الْبَشَرِ بِهَذِهِ السُّنَنِ وَالْأَسْرَارِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَرَفُوا مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ عَشْرُ مِعْشَارِهِ لِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْوَاحِدِيِّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى كَانَ إِيمَانُهُ أَزْيَدَ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنَّ نَفْسَ

التَّصْدِيقِ يَقْبَلُ الْقُوَّةَ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ لِلْفَرْقِ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ يَقِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَيَقِينِ آحَادِ الْأُمَّةِ، وَضَرَبَ الْغَزَّالِيُّ مَثَلًا لِتَفَاوُتِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ بِمَنْ يَرَى شَبَحَ إِنْسَانٍ فِي السُّدْفَةِ، ثُمَّ يَرَاهُ بَعْدَ وُضُوحِ الْإِسْفَارِ عَلَى بُعْدٍ فَلَا يُمَيِّزُ صِفَاتِهِ ثُمَّ يَرَاهُ فِي نُورِ الشَّمْسِ بِجَانِبِهِ، فَهَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدًا؟ . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ هَذَا الْآيَةِ وَآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي وَصْفِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمُ الْقُرْحُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (3: 173) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (33: 22) وَعَطْفُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ هُنَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِهِ إِيمَانَ الْقَلْبِ لَا الْعَمَلَ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (48: 4) فَهُوَ فِي إِيمَانِ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَأَمَّا آيَتَا أَوَاخِرِ التَّوْبَةِ (9: 124، 125) وَآيَةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ (74: 31) فَمِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِيهَا زِيَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيِّ اسْتَدَلَّ بِآيَتَيِ التَّوْبَةِ وَأَمْثَالِهِمَا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ، بَلْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، فَمِنَ الْعَجَبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ تُنْقَلَ هَفْوَةٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرَ فِيهَا زِيَادَةَ الْإِيمَانِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ لِشُبْهَةٍ نَظَرِيَّةٍ، وَيُجْعَلُ مَذْهَبًا يُقَلَّدُ صَاحِبُهُ فِيهِ تَقْلِيدًا، وَتُئَوَّلُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لِأَجْلِهِ تَأْوِيلًا. (الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَحْدَهُ، لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَى سِوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ، وَالتَّوَكُّلُ أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِ وَأُمُورِ الْعَالَمِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكِلَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَالْعَقْلِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ كَسْبًا اخْتِيَارِيًّا كَلَّفَهُ اللهُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ يُجَازَى عَلَى عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ - وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ نَفْسِهِ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَارْتِبَاطِهَا بِالْمُسَبَّبَاتِ، مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَسْبَابَ - مَا يَعْقِلُ مِنْهَا كَالْإِنْسَانِ وَمَا لَا يَعْقِلُ - لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا يَنَالُهُ بِاسْتِعْمَالِهَا فَهُوَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهَا وَجَعَلَهَا أَسْبَابًا وَعَلَّمَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ يُطْلَبُ بِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَوَكَّلُ فِيهِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَإِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ، وَإِيَّاهُ يَدْعُو فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ، وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ وَتَنَكُّبُ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَوَكُّلًا

3

فَهُوَ جَهْلٌ بِاللهِ وَجَهْلٌ بِدِينِهِ وَجَهْلٌ بِسُنَنِهِ الَّتِي أَخْبَرْنَا بِأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمَثَلُهُ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ أَمَرَهُ مَلِكُهُ أَوْ مَالِكُهُ بِأَنْ يُعَوِّلَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَسَائِرِ حَاجَةٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ أَوِ الْمَالِكُ قَدْ أَعَدَّ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَائِدَةً لِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، فَتَنَطَّعَ هُوَ وَامْتَنَعَ عَنِ الِاخْتِلَافِ إِلَى الْمَائِدَةِ مَعَ أَمْثَالِهِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا عِصْيَانٌ لِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَانْتَظَرَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ طَعَامًا خَاصًّا - أَيْ إِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُبْطِلَ سُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ لِأَجْلِهِ - فَمَا أَعْظَمَ جَهْلَهُ وَغُرُورَهُ بِهِ؟ . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ مَعَ بَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَكَوْنِهِ يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ فِي تَفْسِيرِ: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (3: 160) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَيُرَاجَعُ فِي [ص169 - 175 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] وَسَيَأْتِي التَّذْكِيرُ بِبَعْضِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَوَكُّلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْفَالِ) . (الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (2: 45) مِنْهَا، وَفِي تَفْسِيرَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَائِهَا مُقَوَّمَةً كَامِلَةً فِي صُورَتِهَا وَأَرْكَانِهَا الظَّاهِرَةِ، مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، وَفِي مَعْنَاهَا وَرُوحِهَا الْبَاطِنَةِ مِنْ خُشُوعٍ وَحُضُورٍ فِي مُنَاجَاةِ الرَّحْمَنِ، وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْإِقَامَةَ هِيَ الَّتِي يَسْتَفِيدُ صَاحِبُهَا مَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى ثَمَرَةً لِلصَّلَاةِ مِنَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ. (الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: وَيُنْفِقُونَ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ زَكَاةٍ مَفْرُوضَةٍ; لِإِقَامَةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ لِلْأَقْرَبِينَ وَالْمُعْوِزِينَ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، مَعَ التَّنْبِيهِ إِلَى كَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ جَعْلِ الزَّكَاةِ أَوِ النَّفَقَةِ مُقَارِنَةً لِلصَّلَاةِ; لِأَنَّهُمَا الْعِبَادَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ الْإِصْلَاحِ الرُّوحِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْمِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِنْفَاقِ أَعَمُّ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالزَّكَاةِ كَمَا عَلِمْتَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا هُمْ دُونَ سِوَاهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ حَقَّ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ، أَوْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا أَوْ حَقَّقْتُهُ حَقًّا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ حَقَّ الْإِيمَانِ هُوَ مَا أَعْقَبَ التَّصْدِيقَ الْإِذْعَانِيَّ فِيهِ أَثَرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ جَمَعَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا كُلَّ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَتْبَعُهَا سَائِرُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فَلَا شَاعِرَ حَقًّا أَوْ فَارِسَ حَقًّا لِمَنْ نَبَغَ فِي الشِّعْرِ وَلِمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ صِفَاتُ الْفُرُوسِيَّةِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ يُؤْثَرُ لِلْعِبْرَةِ

4

عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ: انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: يَا حَارِثَةُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ - ثَلَاثًا " وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: " أَمُومِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا ". ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَمَلَةِ فَقَالَ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ الرِّفْعَةِ وَمَرَاقِي الْكَرَامَةِ، وَكَوْنُهَا عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى وَذَكَرَهُ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَنْبِيهٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْرِيمٌ لِأَهْلِهَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ وَرَفَعَهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَةً أَوْ دَرَجَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْأَخِيرُ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ عِنْدَ الرَّبِّ، وَبِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى أَصْحَابِ الدَّرَجَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ رِفْعَةٍ وَاخْتِصَاصٍ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْقَهَ مَعْنَى الدَّرَجَاتِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تَسَاوِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحُقُوقِ: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228) وَهِيَ دَرَجَةُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (4: 95 و96) وَهُنَا جَمَعَ بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَاتِ فَقِيلَ: الدَّرَجَةُ تَفْضِيلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: مَنْزِلَتُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَفْضِيلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى سِقَايَةِ الْحَاجِّ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (9: 20) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ التَّفَاوُتِ وَالْبُعْدِ بَيْنَ مُتَّبِعِي رِضْوَانِهِ وَمُتَّبِعِي سُخْطِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (3: 163) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ الْحُكْمِ أَوِ الْجَزَاءِ، لَا الْمَكَانَةِ ; لِأَنَّهَا مُحَاوَلَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (2: 253) الْآيَةَ، قَالُوا: هَذِهِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ عَقِبَ ذِكْرِ مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ:

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ (6: 83) وَقَالَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ إِخْوَتِهِ عَقِبَ ذِكْرِ أَخْذِهِ لِأَخِيهِ الشَّقِيقِ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (12: 76) . وَقَالَ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَهِيَ آخَرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ (6: 165) وَقَالَ فِي دَرَجَاتِ الدَّارِ الْآخِرَةِ بَعْدَ بَيَانِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّزْقِ بَيْنَ الْكُفَّارِ مُرِيدِي الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَالْمُؤْمِنِينَ مُرِيدِي الْآخِرَةِ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (17: 21) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْبَشَرَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ بِنِظَامِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَفِي الْمَكَانَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ عُلْيَا الدَّرَجَاتِ وَأَفْضَلُهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ مَعْنَاهُ: وَلَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ وُصُولَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْكَمَالِ إِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ، وَلِذُنُوبِهِمُ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي يُحَاسِبُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ بُلُوغِ الْكَمَالِ كَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ حِينًا، وَتَرْكِ الْأَفْضَلِ إِلَى مَا دُونَهُ حِينًا آخَرَ، وَفَوْتِ بَعْضِ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْمُمْكِنَةِ أَحْيَانًا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ) ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالْكَرِيمُ يَصِفُ بِهِ الْعَرَبُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ فِي بَابِهِ لَا قُبْحَ فِيهِ، وَلَا شَكْوَى مِنْهُ. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

5

تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ سُورَتِهَا أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقِصَصِ وَالْوَقَائِعِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ مِنْ سَرْدِهَا مُرَتَّبَةً كَمَا وَقَعَتْ، وَأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ لَا يَقُصُّ قِصَّةً، وَلَا يَسْرُدُ أَخْبَارَ وَاقِعَةٍ; لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ تَارِيخًا مَحْفُوظًا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ; لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَبَيَانِ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. بُدِئَتْ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ بِأَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَذَكَرَ فِي آخِرِهَا سَبَبَ ذَلِكَ خِلَافًا لِلتَّرْتِيبِ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبَّبِهِ كَتَقْدِيمِ الْعِلَّةِ عَلَى مَعْلُولِهَا، وَالْمُقَدِّمَاتِ عَلَى نَتِيجَتِهَا. وَلَكِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ الْبَدِيعَ أَبْلَغُ فِي بَابِهِ كَمَا بُسِطَ هُنَالِكَ. وَهَاهُنَا بُدِئَتْ قِصَّةُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ مَظْهَرٍ لِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِدَالَةِ لَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْمُشْرِكِينَ، بِذِكْرِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ - وَيَالَهَا مِنْ بَرَاعَةِ مَطْلَعٍ - مَقْرُونًا بِبَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ كَمَا وَعَدَ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ حُكْمَ اللهِ وَقِسْمَةَ رَسُولِهِ فِي الْغَنَائِمِ - وَيَالَهَا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ لِلْفَوْزِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا - ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَرَاهَةُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِخُرُوجِهِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْإِذْعَانِ لِطَاعَتِهِ، وَالرِّضَاءِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَمَا يَحْكُمُ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَعَلَّ بَيَانَ هَذَا الشَّرْطِ، وَمَا وَلِيَهُ مِنْ بَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّ الْإِيمَانِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَحْكَامِهَا وَحِكَمِهَا وَفَوَائِدِهَا الرُّوحِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ أَيْ: إِنَّ الْأَنْفَالَ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِالْحَقِّ، وَلِرَسُولِهِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْحَقَّ فِيهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، فَهِيَ كَإِخْرَاجِ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لِلِقَاءِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الظَّاهِرِ، وَكَوْنِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ هِيَ الْمُقَاتِلَةُ فِي الْوَاقِعِ، وَالْحَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لِذَلِكَ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ، أَوْ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. هَذَا مَا أَرَاهُ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْضَ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَرَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا أَكْثَرُهَا مُتَكَلَّفٌ، وَبَعْضُهَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ، وَقَدْ بَسَطَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ. وَلَا يَظْهَرُ الْمَعْنَى تَمَامَ الظُّهُورِ فِي الْآيَاتِ إِلَّا بِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي

بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بِدْرٍ " قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسَ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ مَنْ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِغَيْرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانُ، فَخَرَجَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5: 24) وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ - يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ - لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بَرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَامِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ غَيْرِ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: أَجَلْ. فَقَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ

6

وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ ". يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهِيَ بِهِمْ أَلْيَقُ، وَلَكِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ هَفَوَاتِ بَعْضِهِمُ الَّتِي مَحَّصَهُمُ اللهُ بَعْدَهَا يُعَيِّنُ كَوْنَهَا فِيهِمْ وِفَاقًا لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ فِيهِ، وَفِي رَدِّ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمُشَايَعَةِ ابْنِ كَثِيرٍ لَهُ، وَذُكِرَ أَنَّ مُجَاهِدًا فَسَّرَ الْحَقَّ هُنَا بِالْقِتَالِ وَكَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَعَلَّلَ الْجِدَالَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْكَارًا لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ حِينَ ذُكِرُوا لَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي حَالِ ضَعْفٍ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ وَعَدَهُمُ اللهُ أَوَّلًا إِحْدَى طَائِفَتَيْ قُرَيْشٍ تَكُونُ عَلَى الْإِبْهَامِ، فَتَعَلَّقَتْ آمَالُهُمْ بِطَائِفَةِ الْعِيرِ الْقَادِمَةِ مِنَ الشَّامِ ; لِأَنَّهَا كَسْبٌ عَظِيمٌ لَا مَشَقَّةَ فِي إِحْرَازِهِ; لِضَعْفِ حَامِيَتِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهَا فَاتَتْهُمْ، وَأَنَّ طَائِفَةَ النَّفِيرِ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ بِكُلِّ مَا كَانَ عِنْدَ قُرَيْشٍ مِنْ قُوَّةٍ وَقَرُبَتْ مِنْهُمْ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ قِتَالُهَا، إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِذْ لَمْ يَبْقَ غَيْرَهَا، صَعُبَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِقَاؤُهَا عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهَا، وَضَعْفِهِمْ وَقُوَّتِهَا، وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ كَاسْتِعْدَادِهَا، وَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِذَارَاتٍ جَدَلِيَّةً بِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا لِلْعِيرِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ قِتَالًا فَيَسْتَعِدُّوا لَهُ، كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِثْبَاتَ أَنَّ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْعِيرُ، بِدَلِيلِ عَدَمِ أَمْرِهِمْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ تَبَيَّنَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْجِدَالِ فِيهِ وَجْهٌ مَا - لَا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّ طَائِفَةَ الْعِيرِ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا نَجَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ الْبَحْرِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادَةَ لَمَا نَجَتْ، وَلَا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّنَا لَمْ نُعِدَّ لِلْقِتَالِ عُدَّتَهُ فَلَا يُمْكِنُنَا طَلَبُ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ مَهْمَا تَكُنْ حَالُهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الظَّفَرِ لِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَبْقَ لِجِدَالِهِمْ وَجْهٌ إِلَّا الْجُبْنُ وَالْخَوْفُ مِنَ الْقِتَالِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ: كَأَنَّهُمْ مِنْ فَرْطِ جَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا لَا مَهْرَبَ مِنْهُ; لِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالْخَيْلِ وَالزَّادِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ الظَّفَرَ بِهِمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ، وَمَا تِلْكَ إِلَّا أَسْبَابٌ عَادِيَّةٌ كَثِيرَةُ التَّخَلُّفِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (2: 249) وَهَكَذَا أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ الظَّفَرُ التَّامُّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ تَوَلَّى اللهُ تَعَالَى إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ فِيمَا جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَهُ بِالْبَاطِلِ، وَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاذْكُرُوا إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ - الْعِيرَ أَوِ النَّفِيرَ - أَنَّهَا لَكُمْ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ

7

آكَدُ فِي الْوَعْدِ مِنْ مِثْلِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ ; لِأَنَّ هَذَا إِثْبَاتٌ بَعْدَ إِثْبَاتٍ، إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَإِثْبَاتٌ لَهُ فِي بَدَلِهِ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ: وَتُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهِيَ الْعِيرُ تَكُونُ لَكُمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ فَارِسًا. وَالشَّوْكَةُ الْحِدَّةُ وَالْقُوَّةُ، وَأَصْلُهَا وَاحِدَةُ الشَّوْكِ شَبَّهُوا بِهَا أَسِنَّةَ الرِّمَاحِ، ثُمَّ أَطْلَقُوهَا تَجُوَّزًا عَلَى كُلِّ حَدِيدٍ مِنَ السِّلَاحِ، فَقَالُوا: شَائِكُ السِّلَاحِ وَشَاكِي السِّلَاحِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِهَذَا التَّعْبِيرِ; لِلتَّعْرِيضِ بِكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَطَمَعِهِمْ فِي الْمَالِ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ أَيْ: وَيُرِيدُ اللهُ بِوَعْدِهِ غَيْرَ مَا أَرَدْتُمْ، يُرِيدُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ الَّذِي أَرَادَهُ بِكَلِمَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ، أَيْ وَعْدَهُ لَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُبْهَمَةً وَبَيَانُهَا لَهُ مُعَيَّنَةً مَعَ ضَمَانِ النَّصْرِ لَهُ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَعْوَانِهِمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ شَأْفَتَهُمْ، وَمَحْقِ قُوَّتِهِمْ، فَإِنَّ دَابِرَ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَأْتِي فِي دُبُرِهِمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ إِلَّا بِهَلَاكِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْجَيْشِ، وَهَكَذَا كَانَ الظَّفَرُ بِبَدْرٍ فَاتِحَةَ الظَّفَرِ فِيمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ قَطَعَ اللهُ دَابِرَ الْمُشْرِكِينَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ نَيْلِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ وَحُنَيْنٍ فَإِنَّمَا كَانَ تَرْبِيَةً عَلَى ذُنُوبٍ لَهُمُ اقْتَرَفُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (3: 141) وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (9: 25، 26) إِلَخْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: يَعْنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْفَائِدَةَ الْعَاجِلَةَ وَسَفَاسِفَ الْأُمُورِ، وَأَلَّا تَلْقَوْا مَا يَرْزُؤُكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُرِيدُ لَكُمْ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى عِمَارَةِ الدِّينِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَعُلُوِّ الْكَلِمَةِ، وَالْفَوْزِ فِي الدَّارَيْنِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُرَادَيْنِ: وَلِذَلِكَ اخْتَارَ لَكُمُ الطَّائِفَةَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ، وَكَسَرَ قُوَّتَهُمْ بِضَعْفِكُمْ، وَغَلَبَ كَثْرَتَهُمْ بِقِلَّتِكُمْ، وَأَعَزَّكُمْ، وَأَذَلَّهُمْ، وَحَصَلَ لَكُمْ مَا لَا تُعَارِضُ أَدْنَاهُ الْعِيرُ وَمَا فِيهَا. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَيْ: وَعَدَ بِمَا وَعَدَ وَأَرَادَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ذَاتَ الشَّوْكَةِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ، أَيْ يُقِرَّهُ وَيُثْبِتَهُ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ - وَهُوَ الْإِسْلَامُ - وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَيْ يُزِيلَهُ وَيَمْحَقَهُ - وَهُوَ الشِّرْكُ - وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أُولُو الِاعْتِدَاءِ وَالطُّغْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَإِحْقَاقُ الْحَقِّ وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ لَا يَكُونُ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْعِيرِ، بَلْ بِقَتْلِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَالطَّاغُوتِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ ; لِيَسْتَأْصِلُوكُمْ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْحَقَّ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا تَكْرَارَ فِيهِ، فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْقِتَالُ لِطَائِفَةِ النَّفِيرِ مَعَ ضَمَانِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَحْقِ الْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ، وَالْأَوَّلُ وَسِيلَةٌ لَهُ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ.

9

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ وَالْتَقَوْا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَأُسِرَ سَبْعُونَ " إِلَخْ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ " فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكَاثَرَهُمْ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَقَلَّهُمْ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ: اللهُمَّ لَا تُودِعْ مِنِّي، اللهُمَّ لَا تَخْذُلْنِي، اللهُمَّ لَا تَتِرَنِي، اللهُمَّ أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي " وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ أَتَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي ". وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مَا ظَهَرَ مِنْ خَوْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وَعْدِ اللهِ لَهُ بِالنَّصْرِ عَامًّا وَخَاصًّا وَمِنْ طُمَأْنِينَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ لَيْلَةَ الْغَارِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ خَائِفًا وَجِلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (9: 40) . قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوْثَقَ بِرَبِّهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، بَلِ الْحَامِلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدُوهُ، فَبَالَغَ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ; لِتَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَسِيلَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَلِهَذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. " وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَكْمَلُ حَالَاتِ الصَّلَاةِ، وَجَازَ عِنْدَهُ أَلَّا يَقَعَ النَّصْرُ يَوْمَئِذٍ; لِأَنَّ وَعْدَهُ بِالنَّصْرِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجْمَلًا. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ، وَزَلَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَلَلًا شَدِيدًا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ الْخَطَّابِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ. اهـ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَهُوَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَحْسَنَ مِنْهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ. وَأَقُولُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَقَاصِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَئِذٍ تَقْوِيَةُ قُلُوبِ

أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْيَوْمَ فِي أَنَّهَا أَحَدُ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِاسْتِجَابَةِ اللهِ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، فَعِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَبِّهِ وَبِوَقْتِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعَهُ سَبَبَهُ وَلَا كَوْنَهُ لَا يُنَافِي كَمَالَ تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَكَوْنَهُ فِيهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَجَاتٍ لَا يَعْلُوهَا شَيْءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (3: 160) وَهِيَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَنُعِيدُ الْبَحْثَ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ بِحَسَبِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ قَدْ عَمِلَ مَعَ صَاحِبِهِ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُمَا مِنَ الْأَسْبَابِ لَهَا، وَهُوَ إِعْدَادُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَتَيْنِ وَالدَّلِيلِ وَالِاسْتِخْفَاءُ فِي الْغَارِ، لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا إِلَّا التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَعُونَتِهِ وَتَخْذِيلِ أَعْدَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ السَّكِينَةِ، وَأَيَّدَهُ بِهِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْتَقِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَكَانَ خَائِفًا حَزِينًا مُحْتَاجًا إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ. وَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الشَّرْعِيَّ بِالِاسْتِسْلَامِ لِعِنَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَحْدَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي كُلِّ حَالٍ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ وَمِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (3: 159) مِنْ ذَلِكَ السِّيَاقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ أَنَّ أَسْبَابَ النَّصْرِ وَالْغَلَبِ فِي الْحَرْبِ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالْغِذَاءِ وَالْعَتَادِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا، وَلَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ وَجِدَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ. وَلِهَذَا خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصِيبَ أَصْحَابَهُ تَهْلُكَةٌ عَلَى قَتْلِهِمْ، لِتَقْصِيرِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَوْقَ التَّقْصِيرِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ، فَكَانَ يَدْعُو بِأَلَّا يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَقْصِيرِ بَعْضِهِمْ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ عِقَابًا لَهُمْ، كَمَا عَاقَبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ذَلِكَ الْعِقَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) . وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَآهُ مُنْزَعِجًا خَائِفًا فَكَانَ هَمُّهُ تَسْلِيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَذْكِيرَهُ بِوَعْدِ رَبِّهِ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفِي الْغَارِ كَانَ خَائِفًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رَآهُ مُطْمَئِنًّا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَسْلِيَتِهِ، بَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُسَلِّي لَهُ لِمَا رَأَى مِنْ خَوْفِهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ أَلَمٌ أَوْ أَذًى. فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ: مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَسْبَابِ اتِّقَاءِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْهِجْرَةِ، وَمَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لَهُ فِيهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى بِوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. أَجَلْ، كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ شُئُونَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ كَسَائِرِ أَطْوَارِ الْعَالَمِ، لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا سُنَنٌ مُطَّرِدَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، كَمَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، ثُمَّ ذُكِرَ بِشَأْنِ الْقِتَالِ خَاصَّةً فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَدَنِيَّةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا (3: 137) ثُمَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَتِهَا الَّتِي تُسَمَّى غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ أَيْضًا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي الْقِتَالِ كَسَائِرِ سُنَنِهِ فِي أَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَلَا تَحْوِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَزَلَتَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمًا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدْ وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَشَفَ لَهُ عَنْ مَصَارِعِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَإِذَا كَانَ قَدْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ الْعَامُّ بِالنَّصْرِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ - وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ - غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَأْتِي مِثْلُ هَذَا الْجَوَازِ فِي وَعْدِهِمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِيهَا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ نَجَتْ - طَائِفَةُ الْعِيرِ، وَانْحَصَرَ الْوَعْدُ فِي طَائِفَةِ النَّفِيرِ، وَبَعْدَ أَنْ كَشَفَ تَعَالَى لَهُ عَنْ مَصَارِعِ الْقَوْمِ؟ . قُلْنَا: أَمَّا كَشْفُ مَصَارِعِ الْقَوْمِ لَهُ فَالظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ عَقِبَ دُعَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ، وَلِذَلِكَ تَمَثَّلَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) وَزَالَ خَوْفُهُ وَصَارَ يُعَيِّنُ أَمْكِنَةَ تِلْكَ الْمَصَارِعِ. وَأَمَّا الْوَعْدُ فَسَيَأْتِي فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَأَمْثَلُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَأَقْوَاهُ، مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وُعُودِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْأُخْرَى مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَعْدَ الْمُطْلَقَ بِالنَّصْرِ لِلرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مُقَيَّدٌ بِمَا اشْتُرِطَ لَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ " الْمُؤْمِنِ " الْمَكِّيَّةِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ الْمَكِّيَّةِ أَيْضًا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى

فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ الْمَدَنِيَّةِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (22: 40) وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ أَوْ (مُحَمَّدٍ) : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (47: 7) وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ الْمَغْرُورِينَ وَالْخُرَافِيِّينَ الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى الصُّلَحَاءِ الْمَيِّتِينَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، حَتَّى كَأَنَّ قُبُورَهُمْ مَعَامِلُ لِلْكَرَامَاتِ، يَتَهَافَتُ عَلَيْهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، يَدْعُونَ أَصْحَابَهَا خَاشِعِينَ، مَا لَا يَدْعُو بِهِ الْمُوَحِّدُونَ إِلَّا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ كَانَ يَعْلَمُ بِإِعْلَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ لِلنَّصْرِ فِي الْقِتَالِ أَسْبَابًا حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا سُنَنًا مُطَّرِدَةً، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ مِنْهَا الْمُطْلَقُ وَمِنْهَا الْمُقَيَّدُ، وَأَنَّ الْمُقَيَّدَ يُفَسِّرُ الْمُطْلَقَ وَلَا يُعَارِضُهُ، وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ يَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً وَتَوْفِيقًا يَمْنَحُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فَيَنْصُرُ بِهِ الضُّعَفَاءَ عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَالْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ بِمَا لَا يَنْقُضُ بِهِ سُنَنَهُ، وَأَنَّ لَهُ فَوْقَ ذَلِكَ آيَاتٍ يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ، فَلَمَّا عَرَفَ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَقِلَّتِهِمْ مَا عَرَفَ، اسْتَغَاثَ اللهَ تَعَالَى وَدَعَاهُ; لِيُؤَيِّدَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَحُفَّهُمْ بِالْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، أَجْدَرُ بِالنَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِدُعَائِهِ يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ كَمَا اسْتَغَاثَهُ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الْآيَةَ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ زَمَنَ الْوَعْدِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ وَاحِدَةٌ عَلَى اتِّسَاعٍ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَجَبْنَا عَنْهُ آنِفًا مِنْ أَصْلِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَعْدِ، وَقَدْ وَجَّهُوا ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا بَيَانُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَوْ بِمَحْذُوفٍ عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَقْدِيرُهُ " اذْكُرْ " أَوِ " اذْكُرُوا " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. وَالِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الْهَلَكَةِ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ هُوَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ، وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِهَا أَيْ قَائِلًا " إِنِّي مُمِدُّكُمْ " أَيْ نَاصِرُكُمْ وَمُغِيثُكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُرْدِفِينَ بِكَسْرِ الدَّالِّ مِنْ أَرْدَفَهُ إِذَا أَرْكَبَهُ وَرَاءَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَرْكَبُ وَرَاءَ غَيْرِهِ يَرْكَبُ عَلَى رِدْفِ الدَّابَّةِ غَالِبًا، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا احْتِمَالَاتٌ لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمُرَادُ. أَيْ يُرْدِفُونَكُمْ

10

أَوْ يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتْبَعُهُ، أَوْ يُرْدِفُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ غَيْرُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ (7: 202) مِنَ الْأَعْرَافِ مَعْنَى الْمَدَدِ وَالْإِمْدَادِ فِي اللُّغَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ أَمْرٌ رُوحَانِيٌّ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ فَيَزِيدُ فِي قُوَّتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ فَقَالَ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى أَيْ: وَمَا جَعَلَ عَزَّ شَأْنُهُ هَذَا الْإِمْدَادَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ بِأَنَّهُ يَنْصُرُكُمْ كَمَا وَعَدَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ أَيْ: تَسْكُنَ بَعْدَ ذَلِكَ الزِّلْزَالِ وَالْخَوْفِ الَّذِي عَرَضَ لَكُمْ فِي جُمْلَتِكُمْ مِنْ مُجَادَلَتِكُمْ لِلرَّسُولِ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ مَا كَانَ. فَتَلْقَوْنَ أَعْدَاءَكُمْ ثَابِتِينَ مُوقِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَسَيَأْتِي فِي مُقَابَلَةِ هَذَا إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْفَاعِلُ لِلنَّصْرِ كَغَيْرِهِ مَهْمَا تَكُنْ أَسْبَابُهُ الْمَادِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ، إِذْ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا، وَنَاهِيكَ بِمَا لَا كَسْبَ لِلْبَشَرِ فِيهِ كَتَسْخِيرِ الْمَلَائِكَةِ تُخَالِطُ الْمُؤْمِنِينَ فَتَسْتَفِيدُ أَرْوَاحُهُمْ مِنْهَا الثَّبَاتَ وَالِاطْمِئْنَانَ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ لَا يَضَعُ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ " مُرْدِفِينَ " بِالْمَدَدِ، وَبِقَوْلِهِ: " مَلَكٌ وَرَاءَ مَلَكٍ " وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ أَلْفًا مُرْدِفِينَ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ مُنْزَلِينَ، فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَهُمْ مَدَدُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثُغُورِهِمْ، وَعَنْ قَتَادَةَ مُتَتَابِعِينَ أَمَدَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَلْفٍ ثُمَّ بِثَلَاثَةٍ ثُمَّ أَكْمَلَهُمْ خَمْسَةَ آلَافٍ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ قَالَ: يَعْنِي نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (قَالَ) : وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَا نَشُكُّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا مَعَنَا، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَاللهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: " مُرْدِفِينَ " قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَهُمُ اللهُ يُسْتَبْشَرُ بِهِمْ. هَذَا جُمْلَةُ مَا جَمَعَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَظَاهِرُ نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمْدَادَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فَائِدَتُهُ مَعْنَوِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي أَنَّهُمْ قَاتَلُوا، وَسَيَأْتِي بَحْثُهَا. وَمَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ مِنَ الْعَدَدِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْغَيْبِ. وَقَدْ خَلَطَتْ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُرْدِفِينَ الَّذِينَ أَيَّدَ اللهُ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُنْزَلِينَ وَالْمُسَوِّمِينَ الَّذِينَ ذُكِرَ خَبَرُهُمْ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ فِيهَا، وَاعْتَمَدْنَا فِي جُلِّهِ عَلَى تَحْقِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَذَكَرْنَا فِيهِ مَا جَاءَ هُنَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَدَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ قُوَّةً مَعْنَوِيَّةً لَهُمْ، وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَقَدْ حَدَّثَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِمْدَادِ وَوَعَدَهُمْ بِهِ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنِ انْتَفَى الشَّرْطُ فَانْتَفَى الْمَشْرُوطُ. وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي [ص90 - 97 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . فَإِنَّهُ مُفِيدٌ فِي تَحْقِيقِ مَا هُنَا، وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ فِيهِ.

11

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى مِنْ مِنَنِهِ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ إِلْقَاؤُهُ تَعَالَى النُّعَاسَ عَلَيْهِمْ حَتَّى غَشِيَهُمْ - أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ كَالْغَاشِيَةِ تَسْتُرُ الشَّيْءَ وَتُغَطِّيهِ - تَأْمِينًا لَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي كَانَ يُسَاوِرُهُمْ مِنَ الْفَرْقِ الْعَظِيمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: " مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ " وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ لَا يَشْعُرُ بِالْخَوْفِ، كَمَا أَنَّ الْخَائِفَ لَا يَنَامُ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْعَسُ، وَالنُّعَاسُ فُتُورٌ فِي الْحَوَاسِّ وَأَعْصَابِ الرَّأْسِ يَعْقُبُهُ النَّوْمُ، فَهُوَ يُضْعِفُ الْإِدْرَاكَ وَلَا يُزِيلُهُ كُلَّهُ فَمَتَى زَالَ كَانَ نَوْمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ النَّوْمِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَأَوَّلُ النَّوْمِ النُّعَاسُ وَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى النَّوْمِ، ثُمَّ الْوَسَنُ وَهُوَ ثِقَلُ النُّعَاسِ، ثُمَّ التَّرْنِيقُ وَهُوَ مُخَالَطَةُ النُّعَاسِ لِلْعَيْنِ، ثُمَّ الْكَرَى وَالْغُمْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، ثُمَّ الْعَفْقُ وَهُوَ النَّوْمُ، وَأَنْتَ تَسْمَعُ كَلَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ الْهُجُودُ وَالْهُجُوعُ اهـ. وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْوَسَنَ وَالتَّرْنِيقَ دَرَجَتَانِ مِنْ دَرَجَاتِ النُّعَاسِ، وَأَنَّ الْكَرَى مَرْتَبَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ أَيْضًا أَنَّ النُّعَاسَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِنَعَسَ مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ فَتَحَ فَهُوَ مِنَ الْبَابَيْنِ، وَضَعُوا اسْمَهُ بِوَزْنِ فُعَالٍ بِالضَّمِّ، كَأَنَّهُمْ عَدُّوُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ كَالسُّعَالِ وَالْفُوَاقُ وَالْكُبَادُ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّهُمْ نَامُوا يَوْمَئِذٍ، وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّهُمْ نَامُوا فِي اللَّيْلِ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ نُعَاسَهُمْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَتَحْقِيقَ الْحَقِّ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ (3: 154) وَهُوَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقُلْتُ هُنَالِكَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ إِلَخْ، فَيَحْسُنُ مُرَاجَعَتُهُ فَفِيهِ الْكَلَامُ عَلَى النُّعَاسِ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا وَهُوَ فِي [ص152، 153 ج 4 تَفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ] . وَقَرَأَ الْأَكْثَرُونَ (يُغَشِّيكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَهُوَ إِمَّا لِلتَّدْرِيجِ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّغْطِيَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِغْشَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يَغْشَاكُمْ) مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَرَفَعَ النُّعَاسَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ الْقِرَاءَتَيْنِ قَبْلَهُ، بَلْ هُوَ كَالْمُطَاوِعِ لَهُمَا، وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ النُّعَاسَ يَغْشَاكُمْ فَغَشِيَكُمْ، وَأَمَّا صِيَغُ الْفِعْلِ وَدَلَالَةُ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ دُونَ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَيُحْمَلُ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ مَنْ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ، فَهُوَ لَا يَكُونُ عَادَةً إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَيَكُونُ أَشَدَّ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَحْثَ صِيغَةِ (غ. ش. ي) فِي اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ وَهَذِهِ مِنَّةٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي انْتِصَارِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْمَاءِ فَظَمِئَ الْمُسْلِمُونَ وَصَلَّوْا مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ رِمَالٌ فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحُزْنَ، وَقَالَ: أَتَزْعُمُونَ أَنَّ فِيكُمْ نَبِيًّا، وَأَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَتُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي مَاءً فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا وَثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ (أَيْ عَلَى الدَّهَاسِ أَوِ الرَّمْلِ اللَّيْنِ لِتَلَبُّدِهِ بِالْمَطَرِ) وَذَهَبَتْ وَسْوَسَتُهُ. هَذَا أَثْبَتُ وَأَوْضَحُ وَأَبْسَطُ مَا وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ عَنْ هَذَا الْمَطَرِ فِي بَدْرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّعَاسِ خِلَافًا لِظَاهِرِ التَّرْتِيبِ فِي الْآيَةِ، وَالْوَاوُ لَا تُوجِبُهُ. وَلَوْلَا هَذَا الْمَطَرُ لَمَا أَمْكَنَ الْمُسْلِمِينَ الْقِتَالُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسٌ وَاحِدٌ هُوَ الْمِقْدَادُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ دَهَاسًا تَسِيخُ فِيهَا الْأَقْدَامُ أَوْ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَطَرًا وَاحِدًا فَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَابِلًا شَدِيدًا مَنَعَهُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَلًّا طَهَّرَهُمْ بِهِ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ رِجْسَ الشَّيْطَانِ، وَوَطَّأَ بِهِ الْأَرْضَ وَصَلَّبَ الرَّمْلَ، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ، وَمَهَّدَ بِهِ الْمَنْزِلَ، وَرَبَطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَسَبَقَ رَسُولُ اللهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَاءِ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ وَصَنَعُوا الْحِيَاضَ، ثُمَّ غَوَّرُوا مَا عَدَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْحِيَاضِ، وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهَا عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ عَلَى الْمَعْرَكَةِ، وَمَشَى فِي مَوْضِعِ الْمُعَارَكَةِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ " هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " فَمَا تَعَدَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْضِعَ إِشَارَتِهِ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَسْأَلَةَ الْمَطَرِ بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا أَنْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: " بَلْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَتَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ - بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَلِيبٍ، وَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ أَيْ غَيْرُ الْمَبْنِيَّةِ بِالْحِجَارَةِ - ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ " وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ. ذَكَرَ تَعَالَى لِذَلِكَ الْمَطَرِ أَرْبَعَ مَنَافِعَ: (الْأُولَى) تَطْهِيرُهُمْ بِهِ، أَيْ تَطْهِيرًا حِسِّيًّا بِالنَّظَافَةِ الَّتِي تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتُنَشِّطُ الْأَعْضَاءَ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَشَرْعِيًّا بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْ

12

الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. (الثَّانِيَةُ) إِذْهَابُ رِجْزِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ. وَالرِّجْزُ وَالرِّجْسُ وَالرِّكْسُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى. وَالْمُرَادُ هُنَا وَسْوَسَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْثُورِ. (الثَّالِثَةُ) الرَّبْطُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَثْبِيتِهَا وَتَوْطِينِهَا عَلَى الصَّبْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا (28: 10) وَتَأْثِيرُ الْمَطَرِ فِي الْقُلُوبِ تُفَسِّرُهُ الْمَنْفَعَةُ. (الرَّابِعَةُ) وَهُوَ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ فِي أَرْضٍ تَسُوخُ فِيهَا قَدَمُهُ كُلَّمَا تَحَرَّكَ وَهُوَ قَدْ يُقَاتِلُ فَارِسًا لَا رَاجِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا وَجِلًا مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الظَّرْفُ هُنَا غَيْرُ بَدَلٍ مِنْ " إِذْ " فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ وَلَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِـ " يُثَبِّتُ " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُثَبِّتُ الْأَقْدَامَ بِالْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْكِفَاحِ، الَّذِي يُوحِي رَبُّكَ فِيهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ آمِرًا لَهُمْ أَنْ يُثَبِّتُوا بِهِ الْأَنْفُسَ بِمُلَابَسَتِهِمْ لَهَا وَاتِّصَالِهِمْ بِهَا، وَإِلْهَامِهَا تَذَكُّرَ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَعَكُمْ مَعِيَّةُ الْإِعَانَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (8: 46) . سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الرُّعْبُ بِوَزْنِ قُفْلٍ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ رَعَبَهُ (وَتُضَمُّ عَيْنُهُ) وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْخَوْفُ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَلْبَ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَلْءِ يُقَالُ: رَعَبْتُ الْحَوْضَ أَوِ الْإِنَاءَ أَيْ مَلَأْتُهُ، وَرَعَبَ السَّيْلُ الْوَادِي. وَقِيلَ: أَصْلُ مَعْنَاهُ الْقَطْعُ إِذْ يُقَالُ رَعَبْتُ السَّنَامَ وَرَعَبْتُهُ تَرْعِيبًا إِذَا قَطَعْتُهُ طُولًا، وَفَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ: الرُّعْبُ الِانْقِطَاعُ مِنِ امْتِلَاءِ الْخَوْفِ اهـ. وَيُقَالُ: رَعَبْتُهُ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَأَرْعَبْتُهُ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ تَعْبِيرُ التَّنْزِيلِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، وَبِقَذْفِ الرُّعْبِ فِي الْقَلْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ يُصَبُّ فِي الْقُلُوبِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ - أَيْ: فَاضْرِبُوا الْهَامَ وَافْلِقُوا الرُّءُوسَ أَوِ اضْرِبُوا عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَطِّعُوا الْأَيْدِيَ ذَاتَ الْبَنَانِ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ التَّصَرُّفِ فِي الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي حَالِ هُجُومِ الْفَارِسِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الرَّاجِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ هَذَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ قَطَعَ ذَاكَ رَأْسَهُ. وَالْبَنَانُ جَمْعُ بَنَانَةٍ وَهُوَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ بَعْضِ الْمَغَازِيِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَمُرُّ بَيْنَ الْقَتْلَى بِبَدْرٍ - أَيْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَعْرَكَةِ - وَيَقُولُ: " نَفْلِقُ هَامًا " فَيُتِمُّ الْبَيْتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ نَفْلِقُ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ ... عَلَيْنَا، وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَلَمِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي اضْطَرَّتْهُمْ إِلَى قَتْلِ صَنَادِيدِ قَوْمِهِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِي " أَعَقَّ وَأَظْلَمَ " هُنَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ مُرَاعَاةً لِلظَّاهِرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَقُّوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، حَتَّى

أَخْرَجُوهُمْ مِنْ وَطَنِهِمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا ثُمَّ تَبِعُوهُمْ إِلَى دَارِ هِجْرَتِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوْصَى بِنَفَرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ آلِهِ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَرْهًا أَلَّا يُقْتَلُوا، كَانَ مِنْهُمْ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ. مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنَّ وَحْيَ اللهِ لِلْمَلَائِكَةِ قَدْ تَمَّ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ عَنْ إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى إِلَخْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ إِلَخْ. بَدْءُ كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ تَتِمَّةً لِلْبُشْرَى، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ تَبَعًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِمَّا أُوحِيَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَأَوَّلَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُلْقُوا هَذَا الْمَعْنَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِلْهَامِ، كَمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُهُمْ، وَيُلْقِي فِي قُلُوبِهِمْ ضِدَّهُ بِالْوَسْوَاسِ. وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَالسُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ - ; لِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا بَعْدَهُ لَا يُنَافِي حُصُولَ مَعَانِيهَا قَبْلَهُ وَفِي أَثْنَائِهِ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ بِالْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ وَمَا وَلِيَهُ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بِإِنْزَالِ السُّورَةِ بِرُمَّتِهَا تَذْكِيرًا بِمِنَنِهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ تَكُنْ لِلْبِشَارَةِ تِلْكَ الْفَائِدَةُ، وَالْخِطَابُ فِي السِّيَاقِ كُلِّهِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا وَحْيَهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ بِمَا ذَكَرَ عَرَضًا. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْأَلُوسِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي قِتَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِتَالِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَعْبَأِ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا حَقِيقَةً أَنْ تُذْكَرَ، وَلَوْ لِتَرْجِيحِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا. وَمَا أَدْرِي أَيْنَ يَضَعُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُقُولَهُمْ عِنْدَمَا يَغْتَرُّونَ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَبَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ، وَلَا يُثْبِتُهَا مَا لَهُ قِيمَةٌ مِنَ النَّقْلِ. فَإِذَا كَانَ تَأْيِيدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّأْيِيدَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تُضَاعِفُ الْقُوَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، وَتَسْهِيلُهُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْحِسِّيَّةَ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ سَبْعِينَ وَأَسْرِ سَبْعِينَ حَتَّى كَانَ أَلْفٌ - وَقِيلَ آلَافٌ - مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُمْ فَيَفْلِقُونَ مِنْهُمُ الْهَامَ، وَيَقْطَعُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ كُلَّ بَنَانٍ، فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِأَهْلِ بَدْرٍ فُضِّلُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ غَزَوْا بَعْدَهُمْ، وَأَذَلُّوا الْمُشْرِكِينَ وَقَتَلُوا مِنْهُمُ الْأُلُوفَ؟ ! وَبِمَاذَا اسْتَحَقُّوا قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ؟ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ وَصْفٌ لِلْمَعْرَكَةِ عُلِمَ مِنْهُ الْقَاتِلُونَ وَالْآسِرُونَ لِأَشَدِّ الْمُشْرِكِينَ بَأْسًا - فَهَلْ تُعَارَضُ هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ بِرِوَايَاتٍ لَمْ يَرَهَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ حَرِيَّةً بِأَنْ تُنْقَلَ. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهَا إِلَّا قَوْلَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " كَانَ

13

النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قُتِلُوا بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ، وَعَلَى الْبَنَانِ، مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدْ أُحْرِقَ بِهِ " وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الرَّبِيعُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي رُؤِيَ مِنَ الْقَتْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ وَكَمْ عَدَدُ مَنْ قَتَلَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ السَّبْعِينَ، وَعَدَدُ مَنْ قَتَلَ أَهْلُ بَدْرٍ غَيْرَ مَنْ سُمُّوا وَقَالُوا قَتَلَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ كَفَانَا اللهُ شَرَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي شَوَّهَتِ التَّفْسِيرَ وَقَلَبَتِ الْحَقَائِقَ، حَتَّى إِنَّهَا خَالَفَتْ نَصَّ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تَقُولُ بَلْ جَعَلَهَا مُقَاتَلَةً، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُمْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ أَلْفٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَسْبَابِ النُّصْرَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ! . أَلَا إِنَّ فِي هَذَا مِنْ شَأْنِ تَعْظِيمِ الْمُشْرِكِينَ، وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ، وَتَكْبِيرِ شَجَاعَتِهِمْ، وَتَصْغِيرِ شَأْنِ أَفْضَلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ، وَأَشْجَعِهِمْ مَا لَا يَصْدُرُ عَنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَقَدْ سُلِبَ عَقْلُهُ لِتَصْحِيحِ رِوَايَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا يَصِحُّ لَهَا سَنَدٌ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهَا إِلَّا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ وَغَيْرُهُ بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ بَدْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، فَرِوَايَاتُهُ عَنْهَا حَتَّى فِي الصَّحِيحِ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَهُ كُلَّهُ مِنْ تَأْيِيدِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَخِذْلَانِهِ لِلْمُشْرِكِينَ ; بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ عَادُوهُمَا، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ غَيْرِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ فَاللهُ هُوَ الْحَقُّ وَالدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَرَسُولُهُ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ الْحَقَّ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخُرَافَاتِ وَمِنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أَيْ: فَإِنَّ عِقَابَ اللهِ شَدِيدٌ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ الْمُشَاقُّونَ لَهُ بِإِيثَارِ الشِّرْكِ، وَعِبَادَةِ الطَّاغُوتِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوَّلًا بِمُحَاوَلَةِ رَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ثُمَّ اتِّبَاعِهِمْ إِلَى مَهْجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكَسِرِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، أَيْ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَسْرَى وَالْمَهْزُومِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمَعْنَى الْأَمْرُ ذَلِكُمْ - أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُبَيَّنَ آنِفًا وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يُشَاقُّهُ وَرَسُولَهُ - فَذُوقُوا هَذَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، وَهُوَ الِانْكِسَارُ وَالِانْهِزَامُ مَعَ الْخِزْيِ وَالذُّلِّ أَمَامَ فِئَةٍ قَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَالْأَمْرُ الْمُقَرَّرُ مَعَ هَذَا الْعِقَابِ الدُّنْيَوِيِّ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَصَرَّ مِنْكُمْ عَلَى كُفْرِهِ عُذِّبَ هُنَالِكَ فِيهَا، وَهُوَ شَرُّ الْعَذَابَيْنِ وَأَدْوَمُهُمَا، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْكُفَّارِ آيَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.

15

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ نَبْدَأُ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْآيَاتِ فَنَقُولُ: (الزَّحْفُ) مَصْدَرُ زَحَفَ إِذَا مَشَى عَلَى بَطْنِهِ كَالْحَيَّةِ، أَوْ دَبَّ عَلَى مَقْعَدِهِ كَالصَّبِيِّ، أَوْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ وَالْمَشْيُ بِثِقَلٍ فِي الْحَرَكَةِ وَاتِّصَالٍ وَتَقَارُبٍ فِي الْخَطْوِ كَزَحْفِ الدَّبَى (صِغَارُ الْجَرَادِ قَبْلَ طَيَرَانِهَا) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَزَحَفَ الْبَعِيرُ وَأَزْحَفَ: أَعْيَا حَتَّى جَرَّ فِرْسِنَهُ، وَزَحَفَ الشَّيْءَ جَرَّهُ جَرًّا ضَعِيفًا، وَزَحَفَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْعَدُوِّ: مَشَوْا إِلَيْهِمْ فِي ثِقَلٍ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَقُوهُمْ زَحْفًا، وَتَزَاحَفَ الْقَوْمُ وَزَاحَفْنَاهُمْ، وَأَزْحَفَ لَنَا بَنُو فُلَانٍ صَارُوا لِقِتَالِنَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالزَّحْفُ الْجَيْشُ، وَيُجْمَعُ عَلَى زُحُوفٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَ (الْأَدْبَارُ) جَمْعُ دُبُرٍ (بِضَمَّتَيْنِ) وَهُوَ الْخَلْفُ، وَمُقَابِلُهُ الْقُبُلُ بِوَزْنِهِ وَهُوَ الْقُدَّامُ ; وَلِذَلِكَ يُكَنَّى بِهِمَا عَنِ السَّوْأَتَيْنِ، وَتَوْلِيَةُ الدُّبُرِ وَالْأَدْبَارِ عِبَارَةٌ عَنِ الْهَزِيمَةِ ; لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يَجْعَلُ خَصْمَهُ مُتَوَلِّيًا وَمُتَوَجِّهًا إِلَى دُبُرِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ إِذَا أَدْرَكَهُ وَ (الْمُتَحَرِّفُ) لِلْقِتَالِ أَوْ غَيْرِهِ هُوَ الْمُنْحَرِفُ عَنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، وَأَصْلُهُ فِي الْحَرْفِ وَهُوَ الطَّرَفُ، وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ تُعْطِيهِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ أَوْ مُعَانَاةِ الْفِعْلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَوْ بِالتَّدْرِيجِ، وَفِي مَعْنَاهُ (الْمُتَحَيِّزُ)

وَهُوَ الْمُنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزٍ إِلَى آخَرَ. وَالْحَيِّزُ الْمَكَانُ، وَمَادَّتُهُ الْوَاوُ، فَالْحَوْزُ الْمَكَانُ يُبْنَى حَوْلَهُ حَائِطٌ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: انْحَازَ عَنِ الْقَوْمِ: اعْتَزَلَهُمْ، وَانْحَازَ إِلَيْهِمْ وَتَحَيَّزَ انْضَمَّ. وَذَكَرَ جُمْلَةَ الْآيَةِ وَ (الْفِئَةُ) الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ وَ (الْمَأْوَى) الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَيَنْضَمُّ وَ (مُوهِنُ) الشَّيْءِ مُضْعِفُهُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْهَنَهُ أَيْ أَضْعَفَهُ، وَمِثْلُهُ وَهَنَهُ وَهْنًا وَوَهَّنَهُ تَوْهِينًا. وَ (الْكَيْدُ) التَّدْبِيرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ فَتَسُوءُ غَايَتُهُ الْمَكِيدِيَّةُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 183 مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَ " الِاسْتِفْتَاحُ " طَلَبُ الْفَتْحِ وَالْفَصْلِ فِي الْأَمْرِ، كَالنَّصْرِ فِي الْحَرْبِ. وَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أَيْ: إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ زَاحِفِينَ لِقِتَالِكُمْ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الَّذِينَ زَحَفُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَثَقِفُوهُمْ فِي بَدْرٍ فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ أَيْ: فَلَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ وَأَقْفِيَتَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ عَدَدًا وَعِدَدًا، وَإِذَا كَانَ التَّزَاحُفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كَانَ الزَّحْفُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَحْرِيمُ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ أَوْلَى، وَلَفْظُ " لَقِيتُمُوهُمْ زَحْفًا " يَصْلُحُ لِلْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ، وَكَوْنِ النَّهْيِ عَنِ التَّوَلِّي وَالْفِرَارِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمَزْحُوفِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لَهُ، وَيَلِيهِ مَا إِذَا كَانَ التَّزَاحُفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَمَّا الزَّاحِفُ الْمُهَاجِمُ فَلَيْسَ مَظِنَّةً لِلتَّوَلِّي وَالِانْهِزَامِ فَيُبْدَأُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْهُ أَقْبَحُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ تَوْلِيَةِ الدُّبُرِ فِي وَعِيدِ كُلِّ فَرْدٍ، كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي نَهْيِ الْجَمَاعَةِ لِتَأْكِيدِ حُرْمَةِ جَرِيرَةِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَكَوْنِ الْفَرْدِ فِيهَا كَالْجَمَاعَةِ، وَآثَرَ هَذَا اللَّفْظَ مُفْرَدًا وَجَمْعًا عَلَى لَفْظِ الظُّهُورِ وَالظَّهْرِ أَوِ الْقَفَا وَالْأَقْفِيَةِ زِيَادَةً فِي تَشْنِيعِهَا ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ يُكْنَى بِهِ عَنِ السَّوْأَةِ، أَيْ وَكُلُّ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَ إِذْ تَلْقُونَهُمْ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَيْ: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِمَكَانٍ مِنْ أَمْكِنَةِ الْقِتَالِ رَآهُ أَحْوَجَ إِلَى الْقِتَالِ فِيهِ - أَوْ مُتَحَرِّفًا لِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهِ رَآهُ أَبْلَغَ فِي النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ، كَأَنْ يُوهِمَ خَصْمَهُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ مِنْهُ لِيُغْرِيَهُ بِاتِّبَاعِهِ فَيَنْفَرِدَ عَنْ أَشْيَاعِهِ فَيَكِرَّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ أَيْ: مُتَنَقِّلًا إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَيِّزٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ لِيَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوٍّ تَكَاثَرَ جَمْعُهُ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِمَّنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِمْ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ أَيْ: فَقَدْ رَجَعَ مُتَلَبِّسًا بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَمَأْوَاهُ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ دَارُ الْعِقَابِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جَهَنَّمُ. كَأَنَّ الْمُنْهَزِمَ أَرَادَ أَنْ يَأْوِيَ إِلَى مَكَانٍ يَأْمَنُ فِيهِ مِنَ الْهَلَاكِ فَعُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ عَاقِبَتِهِ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا دَارَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ الدَّائِمِ أَيْ جُوزِيَ بِضِدِّ غَرَضِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ الْفِرَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ التَّعْبِيرُ عَنْ جَهَنَّمَ وَالنَّارِ بِالْمَأْوَى، وَهُوَ إِمَّا مِنْ قَبِيلِ مَا هُنَا، وَإِمَّا لِلتَّهَكُّمِ الْمَحْضِ، فَإِنَّكَ إِذَا رَاجَعْتَ اسْتِعْمَالَ هَذَا الْحَرْفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّنْزِيلِ تَجِدُهُ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي مَقَامِ النَّجَاةِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ شِدَّةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (18: 10) وَقَوْلِهِ: أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (11: 80)

وَقَوْلِهِ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (11: 43) وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (8: 72) إِلَخْ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أَصَحُّهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - أَيِ الْمُهْلِكَاتِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْكَفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا (8: 66) الْآيَةَ وَسَتَأْتِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ نَسْخًا كَالْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا، وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ السُّخْطَ عِنْدِي مِنَ اللهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي بَصْرَةَ وَعِكْرِمَةَ وَنَافِعٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصٌّ بِيَوْمِ بَدْرٍ - قِيلَ: إِنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُرَادُ بِهِ يَوْمُ بَدْرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ " يَوْمِ بَدْرٍ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِتَنْوِينِ يَوْمَئِذٍ مَا فُهِمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، أَيْ يَوْمَ لِقَائِهِمْ زَحْفًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْيَوْمُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّجِهُ بِنَاءُ التَّخْصِيصِ عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ اشْتِبَاكِ الْقِتَالِ - خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ - مَعَ مَا لِغَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْخَصَائِصِ كَكَوْنِهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، لَوِ انْهَزَمَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ لَكَانَتِ الْفِتْنَةُ كَبِيرَةً، وَتَأْيِيدُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَهُمْ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِنَصْرِهِمْ، وَإِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ - فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَجْمُوعِ الْخَصَائِصِ، وَقَرِينَةِ الْحَالِ فِي النَّهْيِ، اتَّجَهَ كَوْنُ التَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِي الْآيَةِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ فِي الْقِتَالِ مَرَّتَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ: يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (3: 155) وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ

17

(9: 25، 26) إِلَخْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ التَّوَلِّي حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَوَلٍّ لِغَيْرِ السَّبَبَيْنِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ يَبُوءُ صَاحِبُهُ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَقَيَّدُ بِآيَةِ رُخْصَةِ الضَّعْفِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، - فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا نُفُوسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا. فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنْ، الْفَرَّارُونَ؟ . فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَتُكُمْ وَفِئَةُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَبِيتُ فِيهَا لِنَذْهَبَ، وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ ذَهَبْنَا، فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ إِلَخْ ". تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِتَوَسُّعٍ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْوَعِيدِ مَعْنًى، وَلَا لِللُّغَةِ حُكْمٌ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ أَقُولُ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ الْكَثِيرُونَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبِرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَتَغَيَّرَ فَوَقَعَتِ الْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَسَمَاعُهُ صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا وَزْنَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مَتْنًا وَلَا سَنَدًا، وَفِي مَعْنَاهُ أَثَرٌ عَنْ عُمَرَ هُوَ دُونَهُ فَلَا يُوضَعُ فِي مِيزَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ فَهُوَ وَصْلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّوَلِّي بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَدَارَتِهِمْ بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ كَسَائِرِ السُّورَةِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَوَجْهُ الْوَصْلِ بِالْفَاءِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَا تُوَلُّوا الْكُفَّارَ ظُهُورَكُمْ فِي الْقِتَالِ أَبَدًا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ ثُمَّ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدِ انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعُدَدِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ

بِتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى لَكُمْ، وَرَبْطِهِ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَتَثْبِيتِ أَقْدَامِكُمْ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ذَلِكَ الْقَتْلَ الذَّرِيعَ بِمَحْضِ قُوَّتِكُمْ وَاسْتِعْدَادِكُمُ الْمَادِّيِّ، وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ بِأَيْدِيكُمْ بِمَا كَانَ مِنْ تَثْبِيتِ قُلُوبِكُمْ بِمُخَالَطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمُلَابَسَتِهَا لِأَرْوَاحِكُمْ، وَبِإِلْقَائِهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (9: 14) الْآيَةَ، وَالْمُؤْمِنُ أَجْدَرُ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِلنَّصْرِ مِنَ الْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ أَقَلُّ حِرْصًا عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَأَعْظَمُ رَجَاءً بِاللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ (4: 104) وَقَالَ حِكَايَةً لِرَدِّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الرَّجَاءِ، عَلَى الْخَائِفِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 249) . ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقَاتِلِينَ بِأَيْدِيهِمْ، وَالْمُجَنْدِلِينَ لِصَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِسُيُوفِهِمْ إِلَى خِطَابِ قَائِدِهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤَيَّدُ مِنْهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَمَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ قَائِلًا: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " فَأَعْقَبَتْ رَمْيَتُهُ هَزِيمَتَهُمْ، رُوِيَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ بِالْمَعْنَى. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ فِي اسْتِغَاثَتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: " يَا رَبِّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا. قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ - فَفَعَلَ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ " وَرَوَى السُّدِّيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْ عَلِيٍّ أَنْ يُعْطِيَهُ حَصَبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَنَاوَلَهُ حَصَبًا عَلَيْهِ تُرَابٌ فَرَمَاهُمْ بِهِ إِلَخْ. وَعَنْ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ فِي رَمْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَدْرٍ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رِوَايَةٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَمَجْمُوعُهَا مَعَ الْقَرِينَةِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذِهِ الرَّمْيَةِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَحَمَلَ الْآيَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ شَاذٌّ، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى رَمْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا، فَالْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَالْمَعْنَى وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ إِلَخْ. وَمَا رَمَيْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَمَيْتَ فِيهِ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ، بِإِلْقَائِهَا فِي الْهَوَاءِ فَأَصَابَتْ وُجُوهَهُمْ، فَإِنَّ مَا أُوتِيتَهُ كَأَمْثَالِكَ مِنَ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطَاعَةٍ عَلَى الرَّمْيِ لَا يَبْلُغُ هَذَا التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوحَةِ لَهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وُجُوهَهُمْ كُلَّهُمْ بِمَا أَوْصَلَ التُّرَابَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُ فِي الْهَوَاءِ إِلَيْهَا مَعَ قِلَّتِهِ، أَوْ بَعْدَ تَكْثِيرِهِ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، وَحُذِفَ مَفْعُولِ الرَّمْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، كَمَا قَدَّرْنَا فِيهِمَا وِفَاقًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي - وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ

الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَيْنَ رَمْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَيْسَ بِسَبَبٍ لِشِكَايَةِ أَعْيُنِهِمْ وَشَوْهَةِ وُجُوهِهِمْ لِقَتْلِهِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ رَامِيهِ، وَكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِينَ كُلِّهِمْ لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْقَتْلِ مُثْبَتًا وَمَنْفِيًّا - وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ - فَنَفَى الْقَتْلَ الْمَحْسُوسَ مُطْلَقًا، وَأَثْبَتَ الْمَعْقُولَ مُطْلَقًا; لِعَدَمِ تَعَارُضِهِمَا، فَالْمُرَادُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهَرٌ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَلَوْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْقَتْلَ مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذْ قَتَلْتُمُوهُمْ - لَكَانَ تَنَاقُضًا ظَاهِرًا يَخْفَى وَجْهُهُ جَعَلَ الْمُثْبَتَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَنْفِيِّ. وَقَتْلُهُمْ لَهُمْ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ مِنْ حَيْثُ كَانَ سَبَبًا نَاقِصًا، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ نَقْصِهِ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِالسَّبَبِيَّةِ، ثُمَّ بَيَانِ مَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ إِعَانَةُ اللهِ وَنَصْرُهُ. وَأَمَّا رَمْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا عَادِيًّا لِإِصَابَتِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ، لَا مُشَاهَدًا كَضَرْبِ أَصْحَابِهِ لِأَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ لَا يُوهِمُ التَّنَاقُضَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّبَبِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ الرَّمْيِ بِأَنْ يُقَالَ: " وَمَا رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ " إِذْ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا اسْتِقْلَالًا بِكَسْبِهِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ كَسْبِهِمُ الِاسْتِقْلَالِيِّ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ لَوْلَا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ لَمَا وَصَلَ كَسْبُهُمُ الْمَحْضُ إِلَى هَذَا الْقَتْلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَانَ مِنْ خَوْفِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ وَمُجَادَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (8: 6) فَلَوْ ظَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ لَكَانَ مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ أَنْ يَمْحَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَحْقًا. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ وَفِعْلِهِ فِي الرَّمْيِ. فَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى لَهُمْ أَسْبَابَ الْقَتْلِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جَمِيعِ كَسْبِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَسْتَقِلُّ فِي حُصُولِ غَايَاتِهَا إِلَّا بِفِعْلِ اللهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ وَلِلْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا كَسْبُهُمْ عَادَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا (56: 63 - 65) إِلَخْ. فَالْإِنْسَانُ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيُلْقِي فِيهَا الْبَذْرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِنْزَالَ الْمَطَرِ، وَلَا إِنْبَاتَ الْحَبِّ وَتَغْذِيَتَهُ بِالتُّرَابِ الْمُخْتَلِفِ الْعَنَاصِرِ، وَلَا دَفْعَ الْجَوَائِحِ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَقِلُّ إِيجَادُ الزَّرْعِ وَبُلُوغُ ثَمَرَتِهِ وَصَلَاحِهَا بِكَسْبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِدُونِ كَسْبٍ عَادِيٍّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْثِيرِهِ، فَالرَّمْيُ مِنْهُ كَانَ صُورِيًّا لِتَظْهَرَ الْآيَةُ عَلَى يَدِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ أَخِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِلْقَائِهِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20: 20) فَخَافَ مِنْهَا أَوَّلًا كَمَا وَرَدَ فِي سُورَتَيْ طه وَالنَّمْلِ. هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ الْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ الْحَادِثَةِ مِنْ كَلَامِيَّةٍ

وَتَصَوُّفِيَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْجَبْرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى سَلْبِ الِاخْتِيَارِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ كَالرِّيشَةِ فِي الْهَوَاءِ، وَالِاتِّحَادِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَوْنِ الْعَبْدِ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ، وَالْأَشْعَرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَخَلْقِ الرَّبِّ بِإِسْنَادِ الرَّمْيِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ يُغْنِي عَنْ إِسْنَادِ الْقَتْلِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَوْلَى، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ وَقَبْلَهَا، غَنِيٌّ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (30: 32) وَكَلَامُ اللهِ فَوْقَ مَا يَظُنُّونَ. وَأَمَّا مَوْقِعُ " الْفَاءِ " فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ عَلَيْهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ رَبْطِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِهَا بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، وَوَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّهْيِ عَنِ الْهَزِيمَةِ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُزُولِ مَا قَبْلَهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مُسْتَفَادٍ مِمَّا قَبْلَهُ، أَيْ أَنَّهُ فَعَلَ مَا ذَكَرَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ. وَالْبَلَاءُ: الِاخْتِبَارُ بِالْحَسَنِ أَوْ بِالسَّيِّئِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (7: 168) وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَهُوَ تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَلَاءِ الْحَسَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغَاثَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُولِ رَبَّهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ، عَلِيمٌ بِصِدْقِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ مِنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَخِذْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا أَنَّهُ سَمِيعٌ لِكُلِّ نِدَاءٍ وَكَلَامٍ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ، وَالْعَوَاقِبِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهُ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ أَهْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَجَزَائِهِمَا عَلَيْهِمَا قَالَ: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ أَيْ: الْأَمْرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَفَائِدَتُهُمْ مِمَّا تَقَدَّمَ هُوَ ذَلِكُمُ الَّذِي سَمِعْتُمْ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، أَيْ مُضْعِفُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمُحَاوَلَتِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى وَتَشْتَدَّ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (مُوهِّنٌ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ (كَيْدَ) وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَهَنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالْإِضَافَةِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ. وَقَدْ صَرَّحَ التَّنْزِيلُ بِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تَعْلِيلٍ آخَرَ فِي عَاقِبَةِ الْحَرْبِ، قَالَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ

19

(3: 140، 141) . إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ، ذَكَرَ خِذْلَانَهُمْ وَإِضْعَافَ كَيْدِهِمْ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى اسْتِنْصَارِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعُرْوَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ " أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، وَأَتَى بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ " رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللهَ وَقَالُوا: اللهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَقَالَ اللهُ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ يَقُولُ: قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ: اللهُمَّ رَبَّ دِينِنَا الْقَدِيمِ وَدِينِ مُحَمَّدٍ الْحَدِيثِ، فَأَيُّ الدِّينَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْ أَهْلَهُ الْيَوْمَ " فَالْفَتْحُ هُوَ نَصْرُ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ مَغْرُورًا بِشِرْكِهِ وَاثِقًا بِدِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ أَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ كِبْرٍ وَعُلُوٍّ وَحَسَدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: إِنْ تَنْتَهُوا عَنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِتَالِهِ فَالِانْتِهَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ; لِأَنَّكُمْ لَا تَكُونُوا إِلَّا مَغْلُوبِينَ مَخْذُولِينَ كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (3: 12) وَالْخَيْرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالْقِتَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِانْتِهَاءُ عَنِ الشِّرْكِ فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَكَمَالِهَا وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى مُقَاتَلَتِهِ نَعُدْ لِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْفَتْحِ لَهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَجِيءَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَذِلُّ فِيهِ شِرْكُكُمْ، وَتُدُولُ الدَّوْلَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ: وَلَنْ تَدْفَعَ عَنْكُمْ جَمَاعَتُكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللهِ وَبَطْشِهِ وَلَوْ كَثُرَتْ عَدَدًا فَالْكَثْرَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنَّصْرِ، إِلَّا إِذَا تَسَاوَتْ مَعَ الْقِلَّةِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فَلَا تَضُرُّهُمْ قِلَّتُهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَأَنَّ) وَحَفْصٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ: وَلِأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْأَمْرُ مَا ذَكَرَهُ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَسَابِقَهِ وَلَاحِقِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا رَبَّكُمْ وَتَسْتَغِيثُوهُ عِنْدَ شُعُورِكُمْ بِالضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّكَاسُلِ فِي الْقِتَالِ

20

وَالرَّغْبَةِ عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ، وَمُجَادَلَتِهِ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَإِنْ تَعُودُوا إِلَيْهِ نَعُدْ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ أَوْ تَهْيِيجِ الْعَدُوِّ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ، فَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ نَصَرْنَاكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ. هَذَا أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا رَأَيْنَاهُ فِي تَصْوِيرِ الْمَعْنَى، فَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَلَوْلَا السِّيَاقُ لَكَانَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَرْجَحَ; لِأَنَّهُ أَظْهَرُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ كَانَتِ السُّورَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، إِلَّا أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بَعْدَ بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ - وَهُوَ السُّؤَالُ عَنِ الْغَنَائِمِ - بِالْمَقْصِدِ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَوَصْفُ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مُقَدِّمَاتِ الْغَزْوَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ فِيهَا بِالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ انْتَقَلَ هُنَا أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ إِلَى نِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَيْهِمْ فِي مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ - وَيَنْتَهِي هَذَا بِالْآيَةِ 29 ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شُئُونِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْدِهِمْ لَهُ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَفِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ - وَمِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ حِكَمٍ وَسُنَنٍ وَأَحْكَامٍ وَتَشْرِيعٍ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهُوَ آيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (41) إِلَخْ. قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ذُكِرَتْ هَذِهِ الطَّاعَةُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأُعِيدَتْ هُنَا لِيُعْطَفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أَيْ: وَلَا تَتَوَلَّوْا وَتُعْرِضُوا عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللهِ الْمُصَرِّحَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ هُنَا سَمَاعُ الْفَهْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِذْعَانِ، الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَأْبُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (2: 285) وَالْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (39: 17، 18)

21

ثُمَّ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيَّنَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَهْمُ فَرِيقَانِ: (الْأَوَّلُ) الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 46) وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، وَوَرَدَ فِيهِمْ آيَاتٌ سَيُذْكَرُ بَعْضُهَا هُنَا. (الثَّانِي) الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِهِمْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا (47: 16) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا: وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا (7: 179) مَعَ آيَاتٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ يَتْبَعُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْعَمَلُ. ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (24: 45) الْآيَةَ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَغْلِبُ فِي الْحَشَرَاتِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ هُنَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِقَارِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فِي حُكْمِ اللهِ الْحَقِّ هُمُ الْأَشْرَارُ مِنَ الْبَشَرِ " الصُّمِّ " الَّذِينَ لَا يُلْقُونَ السَّمْعَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَكَانُوا بِفَقْدِ مَنْفَعَةِ السَّمْعِ كَالَّذِينَ فَقَدُوا حَاسَّتَهُ " الْبُكْمِ " الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُمْ فَقَدُوا قُوَّةَ النُّطْقِ. " الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " أَيْ فَقَدُوا فَضِيلَةَ الْعَقْلِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِذْ لَوْ عَقَلُوا لَطَلَبُوا، وَلَوْ طَلَبُوا لَسَمِعُوا وَمَيَّزُوا، وَلَوْ سَمِعُوا لَنَطَقُوا وَبَيَّنُوا، وَتَذَكَّرُوا وَذَكَرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (50: 37) فَهُمْ لِفَقْدِهِمْ مَنْفَعَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ كَالْفَاقِدِينَ لِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى، بِأَنْ خُلِقُوا خِدَاجًا أَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ آفَاتٌ ذَهَبَتْ بِمَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَشَاعِرَ وَالْقُوَى خُلِقَتْ لَهُمْ فَأَفْسَدُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ ثُمَّ التَّكْلِيفِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ الْآيَةِ فَهْمًا تَفْصِيلِيًّا فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (7: 179) وَلَمْ يَصِفْهُمْ هُنَا بِالْعَمَى كَمَا

23

وَصَفَهُمْ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِسَمَاعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِبَقِيَّةٍ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ، لَمْ تُطْفِئْهَا مَفَاسِدُ التَّرْبِيَةِ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، لَأَسْمَعَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَخُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ (لَتَوَلَّوْا) عَنِ الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِمَا فَهِمُوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ - كَرَاهَةً وَعِنَادًا لِلدَّاعِي إِلَيْهِ وَلِأَهْلِهِ، لَا تَوَلِّيًا عَارِضًا مُؤَقَّتًا، وَفَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ التَّوَلِّي الْعَارِضِ لِصَارِفٍ مُؤَقَّتٍ، وَتَوَلِّي الْإِعْرَاضِ وَالْكَرَاهَةِ الَّذِي فَقَدَ صَاحِبُهُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَقِّ، وَقَبُولَ الْخَيْرِ فَقْدًا تَامًّا، وَمَنِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ فَقَدْ جَهِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الْفَارِقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسْمِعْهُمْ، أَيْ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ لِلسَّمَاعِ النَّافِعِ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ هُوَ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ نُورِ الْحَقِّ الْمُحَبِّبِ لِلنَّفْسِ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ فَقَدُوا ذَلِكَ بِإِفْسَادِهِمْ لِفِطْرَتِهِمْ، وَإِطْفَائِهِمْ لِنُورِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي يُذَكِّيهِ سَمَاعُ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَصَارُوا مِمَّنْ وَصَفَهُمْ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (83: 14) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (2: 81) وَوَصَفَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (2: 18) وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِسَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (2: 171) يَعْنِي أَنَّهُمْ كَسَارِحَةِ النَّعَمِ تَسْمَعُ الصُّرَاخَ النَّاعِقَ فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، فَإِذَا سَكَتَ عَادَتْ إِلَى رَعْيِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: نَحْنُ وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ كَمَا ... قَدْ قِيلَ فِي السَّارِبِ أَخْلَى فَارْتَعَى إِذَا أَحَسَّ نَبْأَةً رِيعَ وَإِنْ ... تَطَامَنَتْ عَنْهُ تَمَادَى وَلَهَا وَفِي الْآيَتَيْنِ 42 و43 مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (10) إِيئَاسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِسْمَاعِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ، وَهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْعُمْيِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (10: 44) فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ تَحْثُو التُّرَابَ فِي فِي مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِي كُفْرِهِ وَإِيمَانِهِ، كَمَا أَنَّهَا تُسَجِّلُ الْجَهْلَ بِاللُّغَةِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ فِيهَا إِشْكَالًا فِي النَّظْمِ بِجَوَازِ تَقْدِيرِ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَنَقُولُ: إِنَّ تَقْدِيرَهُ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ; لِأَنَّهُ نَقِيضُ مَا أَفَادَتْهُ "

لَوْ " مِنْ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ فَهُوَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا، وَعَفَا اللهُ عَمَّنْ صَوَّرُوا هَذَا الْإِشْكَالَ الْوَهْمِيَّ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ الْفَلْسَفِيِّ وَأَطَالُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الشَّاغِلَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. أَلَمْ يَكُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَذْلَقَةِ اللَّفْظِيَّةِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْقُرْآنِ، تَوْجِيهُ قَلْبِ سَامِعِهِ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ، وَدَرَجَةِ حَظِّهِ مِنْهُ؟ فَإِنَّ لِلسَّمَاعِ دَرَجَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَا يُطَالِبُهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ: أَسْفَلُهَا أَنْ يَتَعَمَّدَ مَنْ يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَلَّا يَسْمَعَهُ مُبَارَزَةً لَهُ بِالْعَدَاوَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، خَوْفًا مِنْ سُلْطَانِهِ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ يَغْلِبَهُمْ عَلَيْهَا كَالَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (41: 26) وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يَفْهَمَ وَيَعْلَمَ كَالْمُنَافِقِينَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي آيَةِ الْقِتَالِ (47: 16) وَذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ لِأَجْلِ الْتِمَاسِ شُبْهَةٍ لِلطَّعْنِ وَالِاعْتِرَاضِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَمَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُرْتَزِقَةُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ إِذَا اسْتَمَعُوا لِلْقُرْآنِ أَوْ نَظَرُوا فِيهِ - وَيَلِيهَا أَنْ يَسْمَعَ لِيفْهَمْ، وَيَعْلَمَ ثُمَّ يَحْكُمَ لِلْكَلَامِ أَوْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ كُلُّهَا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْمُنْصِفُ مِنْهُمُ الْفَرِيقُ الْأَخِيرُ، وَكَمْ آمَنَ مِنْهُمْ مَنْ تَأَمَّلَ وَفَهِمَ. نَظَرَ طَبِيبٌ إِفْرِنْسِيٌّ مُعَاصِرٌ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ فَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهُ - كَالطَّهَارَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ - مُوَافِقٌ لِأَحْدَثِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا رَأْيُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَرَغَّبَهُ ذَلِكَ فِي تَأَمُّلِهِ كُلِّهِ فَأَسْلَمَ. وَنَظَرَ (مِسْتَر بَرَاوِن) وَهُوَ رُبَّانُ بَارِجٍ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ فِي تَرْجَمَةِ مِسْتَر سَايِلْ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ لَهُ فَاسْتَقْصَى فِيهِ الْكَلَامَ عَنِ الْبِحَارِ وَالرِّيَاحِ فَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ رُبَّانِي الْمَلَّاحِينَ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ الْبَحْرَ قَطُّ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَا تَلَقَّى عَنْ أَحَدٍ دَرْسًا، (قَالَ) : فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُ حَقَائِقُ لَمْ يَعْلَمْهَا مِنِ اخْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِتَلَقِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَبِرِينَ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَأَكْثَرَهُمُ الْيَوْمَ يَسْمَعُونَ الْقَارِئَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَلَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى سَمَاعِهِ، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لَهُ وَيُنْصِتُونَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّلَذُّذِ بِتَجْوِيدِهِ، وَتَوْقِيعِ التِّلَاوَةِ عَلَى قَوَاعِدِ النَّغَمَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ بِسَمَاعِهِ التَّبَرُّكَ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ الْحُفَّاظَ لِتِلَاوَتِهِ عِنْدَهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَكَابِرِ الْوُجَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ التِّلَاوَةُ فِي حُجْرَةِ الْبَوَّابِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَدَمِ، وَإِذَا سَمِعْتَ بَعْضَ السَّامِعِينَ لِلتِّلَاوَةِ يَقُولُ: اللهُ اللهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ أَوْ صَوْتٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ إِعْجَابًا بِنَغْمَةِ التَّالِي، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَنْطِقُونِ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ.

دُعِيتُ مَرَّةً إِلَى حَفْلَةِ عُرْسٍ فَإِذَا أَنَا بِقَارِئٍ يَتْلُو بِالنَّغَمِ وَالتَّطْرِيبِ، وَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ يَهْتَزُّ وَيَنْطِقُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَادَةِ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَسْتَعِيدُونَ بَعْضَ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ كَمَا يَسْتَعِيدُونَ الْمَغْنَى عَلَى سَوَاءٍ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَتْلُو تِلْكَ الْوَصَايَا الصَّادِعَةَ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَتَوْبِيخِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (17: 41) إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (17: 45، 47) . فَلَمَّا سَمِعْتُ مُكَاءَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ وَأَصْوَاتَهُمُ الْمُنْكَرَةَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْحِكَمِ الرَّوَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ الصَّوَادِعِ، لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ صِحْتُ فِيهِمْ صَيْحَةً مُزْعِجَةً، وَوَقَفْتُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي كُنْتُ جَالِسًا عَلَيْهِ وَوَبَّخْتُهُمْ تَوْبِيخًا شَدِيدًا، مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (59: 21) فَسَكَنُوا وَسَكَتُوا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ يَهْتَزُّ مُتَخَشِّعًا، وَيُهَمْهِمُ مُعْتَبِرًا مُتَدَبِّرًا. وَلِيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ لِفَهْمِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ دَرَجَاتٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ وَإِبْهَامٍ بِحَسَبِ مَا تُفَسَّرُ بِهِ الْمُفْرَدَاتُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، أَوْ مَعَ الْمُرَكَّبَاتِ بِحَسَبِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ، كَكَوْنِ لَفْظَيِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ هُنَا مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ مَثَلًا، وَهَذَا الْفَهْمُ قَاصِرٌ لَا يَتَّسِعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَهْمُهُ تَفْصِيلِيًّا يَنْتَقِلُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، وَيَعْدُو الْمَفْهُومَاتِ الذِّهْنِيَّةَ إِلَى الْمَاصَدَقَاتِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَتَصَوَّرُ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ لِغَيْرِهِ وَفِي غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، لَا فِي أَمْثَالِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَنْهَى عَنْهُ وَتَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَصَاحِبُهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، وَإِنَّمَا الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لِلسَّمَاعِ أَنْ تَسْمَعَ فَتَفْقَهَ، وَتَعْقِلَ وَتَتَدَبَّرَ فَتَعْتَبِرَ وَتَعْمَلَ، حَتَّى لَا تَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (67: 10)

24

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُقَالُ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَكَثُرَ الْمُتَعَدِّي فِي التَّنْزِيلِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ أَصْلَ الِاسْتِجَابَةِ التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْإِجَابَةِ فَحَلَّ مَحَلَّهَا، أَقُولُ: وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ قَلْبُ هَذَا وَعَكْسُهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ (3: 195) فَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ مَعْنَاهُ إِذَا عَلِمْتُمْ مَا فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، وَشَأْنُ سَمَاعِ التَّفَقُّهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ دَعَاكُمُ الرَّسُولُ بِالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِمَا يُحْيِيكُمْ، فَأَجِيبُوا الدَّعْوَةَ بِعِنَايَةٍ وَهِمَّةٍ، وَعَزِيمَةٍ وَقُوَّةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (2: 63) وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا حَيَاةُ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَحْكَامِ شَرْعِهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْتَعِدُّ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ - وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجِهَادَ يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ هُوَ الْحَيَاةَ الْمَطْلُوبَةَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ لِتَحَقُّقِهَا وَسِيَاجٌ لَهَا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَثَمَرَتُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا فِي الِاسْتِجَابَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، وَإِلَّا فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَنْبُوعُهَا الْأَعْظَمُ، الْهَادِي إِلَى سَبِيلِهَا الْأَقْوَمِ، مَعَ بَيَانِهِ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِأَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اقْتِرَانُ طَاعَتِهِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا شَخْصًا وَهُوَ يُصَلِّي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ

الصَّلَاةَ اسْتِجَابَةً لَهُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِإِجَابَتِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا كَانَ صَلَّى وَيُتِمَّ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أُجِبْهُ - أَوْ قَالَ: فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ؟ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ " وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بَابِ فَضَائِلِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ فِقْهِ الْحَدِيثِ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاتَبَ الصَّحَابِيَّ عَلَى تَأْخِيرِ إِجَابَتِهِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ حُكْمَ لَفْظِ الْعُمُومِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ الْعَامُّ مُنَزَّلًا عَلَى الْخَاصِّ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا إِجَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ (وَفِيهِ) أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ - هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ إِجَابَتُهُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، أَمَّا كَوْنُهُ يَخْرُجُ لِإِجَابَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يَخْرُجُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُجِيبُ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَدْعُو الْمَرْءَ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا سَعِيدًا هَذَا لِيُعَلِّمَهُ فَضْلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَفِي مَتْنِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلٌ. وَأَحَقُّ مِنْ هَذَا بِالْبَيَانِ أَنَّ طَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةٌ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دَعَا إِلَيْهِ دَعْوَةً عَامَّةً مِنْ أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، كَبَيَانِهِ لِصِفَةِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِهَا وَالْمَنَاسِكِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ، مَعَ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَمَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَكَذَا أَقْوَالُهُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي أُمِرَ بِتَبْلِيغِهَا فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً - وَأَمَّا غَيْرُ الْقَطْعِيِّ رِوَايَةً وَدَلَالَةً مِنْ سُنَنِهِ فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِبَحْثِهِ أَوْ بَحْثِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَيَنْبَغِي لَهُ الِاهْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِحَسَبِهَا - الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ - ; لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الِاجْتِهَادِيَّةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ فِي الدَّلِيلِ وَفِي دَلَالَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْعَلَ اجْتِهَادَهُ تَشْرِيعًا عَامًّا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ أَوْ مُخَالَفَةَ مَنْ قَلَّدَهُ هُوَ فِيهِ، إِلَّا الْأَئِمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ إِذَا حَكَمُوا بِهَا لِإِقَامَةِ الشَّرْعِ وَصِيَانَةِ

النِّظَامِ الْعَامِّ - وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ جَرَى السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا، وَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا مُعَيَّنًا فِي دِينِهِ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ يَسْتَفْتِي فِيهِ مَنْ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ لِعِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْخُذُ بِفَتْوَاهُ إِذَا اطْمَأَنَّ لَهَا. وَقَدِ امْتَنَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ إِجَابَةِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ الرَّشِيدِ إِلَى مَا عَرَضَاهُ عَلَيْهِ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ الْعَمَلَ بِكُتُبِهِ، حَتَّى الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ سُنَنٌ وَاطَأَهُ جُلُّ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهَا. أَمَّا مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَتْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي عَهْدِهِ، وَلَا يُجِبُ الْعَمَلُ بَعْدَهُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، فَهُمْ زَنَادِقَةٌ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ يُرِيدُونَ هَدْمَ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ، بَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الرَّسُولِ كَمَا أَطْلَقَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّنَا نَهْتَدِي بِخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَأَئِمَّةِ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ الْعَامِلِينَ، وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، يُهْتَدَى بِهِمْ فِي آدَابِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمُ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا نُسَمِّي شَيْئًا مِنْهَا دِينًا نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَمَّا السُّنَنُ وَالْإِرْشَادَاتُ النَّبَوِيَّةُ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَاللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ فَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا عُلَمَاءِ الْخَلَفِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَتَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا دِينًا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ; لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ تَعَالَى، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَقَالَاتِ الْمَنَارِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نَعْلَمَهُمَا عِلْمًا يَقِينًا إِذْعَانِيًّا لِمَا لَهُمَا مِنَ الشَّأْنِ فِي مَقَامِ الْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (الْأَوَّلُ) أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْوِجْدَانِ وَالْإِدْرَاكِ، ذِي السُّلْطَانِ عَلَى إِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا أَخْوَفُ مَا يَخَافُهُ الْمُتَّقِي عَلَى نَفْسِهِ، إِذَا غَفَلَ عَنْهَا، وَفَرَّطَ فِي جَنْبِ رَبِّهِ، كَمَا أَنَّهُ أَرْجَى مَا يَرْجُوهُ الْمُسْرِفُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَوْحِ اللهِ فِيهَا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْجَبُ جُمَلِ الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهَا أَبْلَغُهَا فِي التَّعْبِيرِ، وَأَجْمَعُهَا لِحَقَائِقِ عِلْمِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعِلْمِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَعِلْمِ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي تُعْرَفُ دَقَائِقُهَا بِمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَبَيْنَا زَيْدٌ يَسِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى، وَيَتَّقِي بُنَيَّاتِ طُرُقِ الضَّلَالَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَهَاوِي الرَّدَى، إِذَا بِقَلْبِهِ قَدْ تَقَلَّبَ بِعُصُوفِ هَوًى جَدِيدٍ، يَمِيلُ بِهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، مِنْ شُبْهَةٍ تُزَعْزِعُ الِاعْتِقَادَ، أَوْ شَهْوَةٍ يَغْلِبُ بِهَا الْغَيُّ عَلَى الرَّشَادِ. فَيُطِيعُ هَوَاهُ، وَيَتَّخِذُهُ إِلَهَهُ مَنْ دُونِ اللهِ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (25: 43) عَلَى أَنَّهُ فِيهِ مُخْتَارٌ، فَلَا جَبْرَ وَلَا اضْطِرَارَ.

وَيُقَابِلُ هَذَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ مَا حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ كَانَ مُنْهَمِكًا فِي شَهَوَاتِهِ وَلَهْوِهِ، تَارِكًا لِهُدَاهُ وَطَاعَةِ رَبِّهِ، فَنَزَلَ يَوْمًا فِي زَوْرَقٍ مَعَ خِلَّانٍ لَهُ فِي نَهْرِ دِجْلَةَ لِلتَّنَزُّهِ وَمَعَهُمُ النَّبِيذُ وَالْمَعَازِفُ، فَبَيْنَا هُمْ يَعْزِفُونَ وَيَشْرَبُونَ، إِذِ الْتَقَوْا بِزَوْرَقٍ آخَرَ فِيهِ تَالٍ لِلْقُرْآنِ يُرَتِّلُ سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (81: 1) فَوَقَعَتْ تِلَاوَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ مَوْقِعَ التَّأْثِيرِ وَالْعِظَةِ، فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (81: 10) امْتَلَأَ قَلْبُهُ خَشْيَةً مِنَ اللهِ، وَتَدَبُّرًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ. فَأَخَذَ الْعُودَ مِنَ الْعَازِفِ فَكَسَرَهُ، وَأَلْقَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَثَنَّى بِنَبْذِ قَنَانِي النَّبِيذِ وَكُئُوسِهِ فِيهَا، وَصَارَ يُرَدِّدُ الْآيَةَ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ تَائِبًا مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ طَاعَةٍ. فَتَذْكِيرُ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْقَلْبِيَّةُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَمْرُهُ إِيَّانَا بِأَنْ نَعْلَمَهَا عِلْمَ إِيقَانٍ وَإِذْعَانٍ، يُفِيدُنَا فَائِدَتَيْنِ لَا يَكْمُلُ بِدُونِهِمَا الْإِيمَانُ، وَهُمَا أَلَّا يَأْمَنَ الطَّائِعُ الْمُشَمِّرُ مِنْ مَكْرِ اللهِ فَيَغْتَرَّ بِطَاعَتِهِ وَيُعْجَبَ بِنَفْسِهِ، وَأَلَّا يَيْأَسَ الْعَاصِي وَالْمُقَصِّرُ فِي الطَّاعَةِ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَيَسْتَرْسِلَ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ، حَتَّى تُحِيطَ بِهِ خَطَايَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَأْمَنْ عِقَابَ اللهِ، وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، يَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى خَوَاطِرِهِ، وَيُعَاقِبَ نَفْسَهُ عَلَى هَفَوَاتِهِ ; لِتَظَلَّ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ الْمُسْتَقِيمِ، مُتَجَنِّبَةً الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ، وَيَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ دَائِمًا بَيْنَ خَوْفٍ يَحْجِزُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرَجَاءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُسَاعِدُنَا عَلَى ذَلِكَ (الْأَمْرُ الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ نَذْكُرَ حَشْرَنَا إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُحَاسَبَتَهُ إِيَّانَا عَلَى أَعْمَالِنَا الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَمُجَازَاتَهُ إِيَّانَا عَلَيْهَا إِمَّا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَإِمَّا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا مِنْهُ مُقْتَضَى الْفَضْلِ، وَذَلِكَ أَثَرُ الْعَدْلِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا فَهِمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَقَامِ حِرْمَانِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ سَمَاعِ الْفِقْهِ وَالْهُدَى، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَنْ يَعْصِيَ الْهَوَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (45: 23) فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَيْسَ مَجْبُورًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَحْرِمْهُ الْهُدَى بِإِعْجَازِهِ عَنْهُ، وَهُوَ يُؤْثِرُهُ وَيُفَضِّلُهُ، أَوْ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ اتِّخَاذَهُ هَوَاهُ إِلَهَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (38: 26) الْآيَةَ. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى سَبَبٌ لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ الضَّلَالَ اسْتِقْلَالًا - كَمَا يَدَّعِي بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ إِثْبَاتُ كَوْنِ ضَلَالِهِ عَلَى عِلْمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى، مُؤْثِرٌ لَهُ عَلَى الْهُدَى، وَاللهُ تَعَالَى يُسْنِدُ الْأُمُورَ إِلَى

أَسْبَابِهَا تَارَةً، وَإِلَيْهِ تَعَالَى تَارَةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَوَاضِعُ سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَمِنَ الْأَسْبَابِ مَا جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَى عِلْمٍ، وَمَا جَعَلَهُ بِأَسْبَابٍ لَا يُعْلَمُ لِلْخَلْقِ اخْتِيَارٌ فِيهَا وَلَا عِلْمٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ يُسْنَدُ إِلَى سَبَبِهِ تَارَةً، وَإِلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ تَارَةً، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَيُخْتَارُ هَذَا أَوْ ذَاكَ فِي الْبَيَانِ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَرْثِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 63، 64) فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ الْفَلَّاحَ لَا فِعْلَ لَهُ، وَلَا اخْتِيَارَ فِي زَرْعِهِ، وَأَنَّ اللهَ يَخْلُقُهُ لَهُ بِدُونِ إِرَادَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ، أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي أَرْضِهِ سَوَاءٌ، وَتَلْقِيحَهُ لِنَخْلِهِ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ؟ ! . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُدْمِنُهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، تَضْعُفُ إِرَادَتُهُ فِي هَوَاهُ حَتَّى تَذُوبَ وَتَفْنَى فِيهِ، فَلَا تَعُودُ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوَاعِظُ الْقَوْلِيَّةُ، وَلَا الْعِبَرُ الْمُبَصِّرَةُ وَلَا الْمَعْقُولَةُ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبَكَمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ ضَلَّ بِهَا الْجَبْرِيَّةُ غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهَا عَاقِبَةً طَبِيعِيَّةً لِإِدْمَانِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، كَالْخِمَارِ الَّذِي يَعْتَرِي مُدْمِنَ الْخَمْرِ، فَيَشْعُرُ بِفُتُورٍ وَأَلَمٍ عَصَبِيٍّ لَا يَسْكُنُ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى الشُّرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَّمَتْنَا عَدَمَ الْيَأْسِ. وَمِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ فِي تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشَاعِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (6: 110) فَيُرَاجَعُ مَعْنَاهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَقْلِيبُ اللهِ الْقُلُوبَ صَرْفُهَا مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ. وَذَكَرَ آيَةَ الْأَنْعَامِ هَذِهِ. وَمِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَأْثُورِ فِي السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " وَيَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْهُدَى " وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ " أَكْبَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحِ الْأَحَادِيثِ أَغْلَاطٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْقَلْبِ، وَفِي تَقْلِيبِ اللهِ تَعَالَى لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ اللَّفْظِيُّ مِنْ قَبْلُ، وَمَعْنَى تَقْلِيبِهِ آنِفًا، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ خَالِقُ الْقُلُوبِ وَمُقَلِّبُهَا حَقٌّ، وَكَذَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا، وَلَيْسَ بِحَقٍّ مَا عَبَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَمْنَعُ الْكَافِرَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ مُبَاشَرَةً، وَيَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَنُطْقًا خَلْقًا أُنُفًا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا يُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ الْأَسْبَابَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَالْقَائِلُونَ

25

بِمَا ذُكِرَ يُثْبِتُونَ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْجَبْرِيَّةِ، فَهُمْ يُؤَيِّدُونَ الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَلَا يَشْعُرُونَ، وَيَمُدُّهُمْ إِخْوَانُهُمُ الصُّوفِيَّةُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. بَعْدَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْخَاصَّةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَمَا يُخْشَى أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مِمَّا يَحْرِمُهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ الْخُصُوصِيَّةِ، بِانْتِهَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْهَا إِلَى مَا يَكَادُ يَخْرُجُ عَنِ الِاخْتِيَارِ، بِإِضْعَافِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِعْبَادِهَا لِلْأَهْوَاءِ، - أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ تَبِعَةُ عُقُوبَتِهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْمُصْطَلِي بِنَارِهِ فِعْلًا، وَبَيْنَ الْمُؤَاخَذِ بِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي دَرْئِهِ، وَإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أَيْ: وَاتَّقُوا وُقُوعَ الْفِتَنِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمِلِّيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي التَّنَازُعِ عَلَى مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ مِنَ الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ أَوِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالِانْقِسَامِ إِلَى الْأَحْزَابِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَذَاهِبِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ كَالْحُكْمِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى ذُنُوبِ الْأُمَمِ أَثَرٌ لَازِمٌ لَهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَلِهَذَا عَبَّرَ هُنَا بِالْفِتْنَةِ، دُونَ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْفِتْنَةُ الْبَلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قُلْنَا لِلزُّبَيْرِ: " يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَلَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِينَا حَيْثُ وَقَعَتْ، وَرَوَى عَنْهُ جُمْهُورُ مُخَرِّجِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: لَقَدْ قَرَأْنَاهَا زَمَانًا وَمَا نَرَى أَنَّا مِنْ أَهْلِهَا فَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ خُوِّفْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ظَنَنَّا أَنَّنَا خُصِصْنَا بِهَا. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ - وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَ أَقْوَامٌ حِينَ نَزَلَتْ أَنْ يَسْتَخِصَّ بِهَا قَوْمٌ. وَهُوَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عَلِمَ وَاللهِ ذَوُو الْأَلْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ سَيَكُونُ فِتَنٌ. وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، فَأَصَابَتْهُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا فَكَانَ مِنَ الْمَقْتُولِينَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَآخَرُونَ عَنْهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَمَلِ. وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: تُصِيبُ الظَّالِمَ وَالصَّالِحَ عَامَّةً. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَتْرُكَهُ لَا يَعْقِلُ. وَرَوَى جُمْهُورُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ فَيَعُمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلِهَذَا الْأَثَرِ شَاهَدٌ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَخُو عَدِيٍّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَجَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالتَّخْصِيصِ، فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا فِتْنَةُ عُثْمَانَ فَكَانَتْ أَوَّلَ هَذِهِ الْفِتَنِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْآرَاءُ فَاخْتَلَفَتِ الْأَعْمَالُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَخَلَا الْجَوُّ لِلْمُفْسِدِينَ مِنَ السَّبَئِيِّينَ وَأَعْوَانِهِمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَعْقَبَ فِتْنَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، ثُمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ قَتْلُهُمُ الْحُسَيْنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَخْ. وَلَوْ تَدَارَكُوهَا كَمَا تَدَارَكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةٌ تَبِعَتْهَا فِتَنٌ كَثِيرَةٌ لَا يَزَالُ الْمُسْلِمُونَ مُصَابِينَ بِهَا وَمُعَذَّبِينَ بِعَذَابِهَا، وَأَكْبَرُهَا فِتَنُ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ وَفِتَنُ افْتِرَاقِ الْمَذَاهِبِ. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ خَالَفَ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلِمَنْ خَالَفَ هِدَايَةَ دِينِهِ الْمُزَكِّيَةَ لِلْأَنْفُسِ، وَقَطْعِيَّاتِ شَرْعِهِ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأَفْرَادِ أَوْ لِلْأُمَمِ، وَعِقَابُ الْأُمَمِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ أَهْلُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانُوا خَيْرَهَا بَلْ خَيْرَ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي دَرْءِ الْفِتْنَةِ الْأُولَى عَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَيْهَا عِقَابًا شَدِيدًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ الْعِقَابُ فِي كُلِّ جِيلٍ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ امْتَزَجَتِ الْفِتَنُ الْمَذْهَبِيَّةُ بِالْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلِهَذَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَشَدَّ مَصَائِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَدْوَمَهَا، فَزَالَتِ الْخِلَافَةُ الَّتِي تَنَازَعُوا عَلَيْهَا، وَتَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقَاتَلُوا لِأَجْلِهَا، وَلَمْ تَزَلْ هِيَ، بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً وَشَبَابًا، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مَجَلَّةِ الْمَنَارِ. وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُهَاجِرِينَ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ بِمَكَّةَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً فِي عَهْدِ نُزُولِ السُّورَةِ، يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَزِيرَتِهِمْ بَيْنَ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ مِنْ إِرَادَةِ هَذَا وَذَاكَ مَعًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أَيْ: تَخَافُونَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى وَقْتِ الْهِجْرَةِ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ مُشْرِكُو قَوْمِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَرَبِ، أَيْ أَنْ يَنْتَزِعُوكُمْ بِسُرْعَةٍ فَيَفْتِكُوا بِكُمْ - كَمَا كَانَ يَتَخَطَّفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خَارِجَ الْحَرَمِ، وَتَتَخَطَّفُهُمُ الْأُمَمُ مِنْ أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْحَرَمِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ

26

(29: 67) فَآوَاكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْأَنْصَارِ وَأَيَّدَكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِنَصْرِهِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَسَيُؤَيِّدُكُمْ عَلَى الرُّومِ وَفَارِسَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا وَعَدَكُمْ فِي كِتَابِهِ بِالْإِجْمَالِ وَبَيَّنَهُ لَكُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّصْرِيحِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ الثَّلَاثُ وَغَيْرُهَا مِنْ نِعَمِهِ، فَيَزِيدُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (14: 7) . وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَأْثُورِ بِاخْتِصَارٍ قَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ الْآيَةَ: " كَانَ هَذَا الْحَيُّ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا وَأَشْقَاهُ عَيْشًا وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، مَعْكُوفِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ، لَا وَاللهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ مَا يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، لَا وَاللهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَكُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا لِلَّهِ نِعَمَهُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ وَأَهْلُ الشُّكْرِ فِي مَزِيدٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ". وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ فَآوَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنِ النَّاسُ؟ قَالَ: " أَهْلُ فَارِسَ " وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَآوَاكُمْ قَالَ: إِلَى الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ اهـ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا حُجَجٌ تَارِيخِيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ إِصْلَاحًا أَوْرَثَ وَيُورِثُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالسِّيَادَةَ وَالسُّلْطَانَ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ أَعْدَاءَهُ - الْجَاحِدِينَ لِهَذَا عَلَى عِلْمٍ - قَدْ شَوَّهُوا تَارِيخَهُ، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهُ بِالْبَاطِلِ. وَأَنَّ أَهْلَهُ قَدْ هَجَرُوا كِتَابَهُ، وَتَرَكُوا هِدَايَتَهُ، وَجَهِلُوا تَارِيخَهُ، ثُمَّ صَارُوا يُقَلِّدُونَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ، حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ جَهْلِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَزَوَالِ مُلْكِهِمُ الَّذِي كَانَ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لِخَلَفِهِمُ الطَّالِحِ عَلَى تَرْكِهِ، بَعْدَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ لِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ عَلَى الْفِتْنَةِ بِالتَّنَازُعِ عَلَى مُلْكِهِ. فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! .

27

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ هَذَا الْجُزْءِ. وَوَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذَا النِّدَاءِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَتَيْنِ هُنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ - وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ - فَأَعْلَمَ اللهُ رَسُولَهُ بِمَكَانِهِ، فَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ الْآيَةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ فِيهَا تَعْرِيضًا بِفِعْلَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِأَنَّ عَمَلَهُ خِيَانَةٌ تُنَافِيهِ. وَالْخِيَانَةُ لِلنَّاسِ وَحْدَهُمْ مِنْ أَرْكَانِ النِّفَاقِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - وَسَيَأْتِي - فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ . وَفِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِبَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِجْلَاءِ إِخْوَانِهِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، أَرَادُوا بَعْدَ طُولِ الْحِصَارِ أَنْ يَنْزِلُوا مِنْ حِصْنِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ غَدْرِهِمْ وَنَقْضِهِمْ لِعَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بِأَلَّا يَفْعَلُوا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ يَعْنِي أَنَّ سَعْدًا يَحْكُمُ بِذَبْحِهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: " مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَلِمْتُ أَنَّنِي خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ " وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا لُبَابَةَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ وَضَعَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِنْدَهُمْ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الذَّبْحِ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ - وَذَكَرَهَا ثُمَّ قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ أَبِي لُبَابَةَ: " أَيَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَيَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ " وَالْمُرَادُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَّ فِي إِيمَانِهِ حَتَّى إِنَّهُ سَأَلَ امْرَأَتَهُ: هَلْ يَقُومُ فِي بَيْتِهِ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ؟ فَأَجَابَتْهُ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ الَّتِي يُجَابُ بِهَا مَنْ أَظْهَرَ شَكَّهُ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِمُنَافِقِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ يُخْلِصُونَ الْخِدْمَةَ، وَيُسْدُونَ النَّصِيحَةَ إِلَى أَعْدَاءِ مِلَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فِيمَا يُمْكِّنُ لَهُمُ السُّلْطَانَ فِي بِلَادِهِمْ، وَالسِّيَادَةَ عَلَى أُمَّتِهِمْ.

وَلْيَنْظُرِ الْمُعْتَبِرُ كَيْفَ عَاقَبَ أَبُو لُبَابَةَ نَفْسَهُ تَوْبَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى " شَدَّ نَفْسَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ - فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحُلُّ نَفْسِي، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحُلُّنِي، فَجَاءَهُ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ " وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي أَبِي لُبَابَةَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ فَعْلَتَهُ - وَهَذَا التَّعْبِيرُ يَكْثُرُ مِثْلُهُ عَنْهُمْ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَسْبَابَ النُّزُولِ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ فَأُلْحِقَتْ بِهَا بِأَمْرِ اللهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ النُّزُولِ فَالْآيَةُ عَامَّةٌ تَشْتَمِلُ كُلَّ خِيَانَةٍ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِيَانَةَ اللهِ بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْأَمَانَةَ بِكُلِّ مَا ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَ بِأَلَّا يُنْقِصَهَا. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَالْخِيَانَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْإِخْلَافِ وَالْخَيْبَةِ بِنَقْضِ مَا كَانَ يُرْجَى وَيُؤْمَلُ مِنَ الْخَائِنِ، أَوْ نَقْصِ شَيْءٍ مِنْهُ يُنَافِي حُصُولَهُ وَتَحَقُّقَهُ. وَمِنْهُ: خَانَهُ سَيْفُهُ، إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرِيبَةِ. وَخَانَتْهُ رِجْلَاهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ، وَخَانَ الرِّشَاءُ الدَّلْوَ إِذَا انْقَطَعَ. وَمِنْ مَعْنَى النَّقْصِ أَوْ الِانْتِقَاصِ فِي الْمَادَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ (2: 187) أَيْ تَنْقُصُونَهَا بَعْضَ مَا أُحِلَّ لَهَا مِنَ اللَّذَّاتِ، وَمِثْلُهُ التَّخَوُّنُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ: وَتَخَوَّنَ فُلَانٌ حَقِّي إِذَا تَنَقَّصَهُ كَأَنَّهُ خَانَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكُلُّ مَا غَيَّرَكَ عَنْ حَالِكَ فَقَدْ تَخَوَّنَكَ. قَالَ لَبِيدٌ. تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي اهـ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْكَشَّافِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْوَفَاءِ التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَخَوَّنَهُ إِذَا تَنَقَّصَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ; لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ اهـ. وَمَا قُلْنَا أَوَّلًا أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَشْمَلُ لِمَا وَرَدَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخِيَانَةُ وَالنِّفَاقُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَالُ اعْتِبَارًا بِالدِّينِ، ثُمَّ يَتَدَاخَلَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ حَدًّا تَامًّا. وَالْمَعْنَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ فَرَائِضِهِ أَوْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ فِي كِتَابِهِ (وَالرَّسُولَ) بِالرَّغْبَةِ عَنْ بَيَانِهِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَهْوَائِكُمْ، أَوْ آرَاءِ مَشَايِخِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ إِلَى أَوَامِرِ أُمَرَائِكُمْ، وَتَرْكِ سُنَّتِهِ إِلَى سُنَّةِ أَوْلِيَائِكُمْ، بِنَاءً عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ أَيْ

وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ أُمُورِكُمْ مِنَ الشُّئُونِ السِّيَاسِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا الْحَرْبِيَّةَ، وَفِيمَا بَيْنَكُمْ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَسَّنُوهُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ بِزِيَادَةِ " إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكَ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ، أَوِ اقْتِطَاعَ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ " أَيْضًا " إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. فَإِفْشَاءُ السِّرِّ خِيَانَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَيَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سِرًّا الْقَرِينَةُ الْقَوْلِيَّةُ كَقَوْلِ مُحَدِّثِكَ: هَلْ يَسْمَعُنَا أَحَدٌ؟ أَوْ لِلْفِعْلِيَّةِ كَالِالْتِفَاتِ لِرُؤْيَةِ مَنْ عَسَاهُ يَجِيءُ. وَآكَدُ أَمَانَاتِ السِّرِّ وَأَحَقُّهَا بِالْحِفْظِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. الْخِيَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ زَادَ مُسْلِمٌ " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ الْأَمَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَصْرَ، بَلْ كُلُّ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ حَقٍّ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَجِبُ عَلَيْكَ أَدَاؤُهُ إِلَى أَهْلِهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ (2: 283) وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (4: 58) . وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ هَذِهِ مَبَاحِثَ نَفِيسَةً فِي الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، مِنْهَا (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ (وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ. وَأَوْرَدْنَا فِي هَذِهِ مَا قَالَهُ حَكِيمُ الشَّرْقِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْأَمَانَةِ مِنَ الصِّفَاتِ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمَدَنِيَّةِ وَبِهَا حِفْظُ الْعُمْرَانِ، وَإِصْلَاحُ حَالِ الْأُمَّةِ، وَلَا بَقَاءَ لِدَوْلَةٍ بِدُونِهَا; لِأَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ الثِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَنَاهِيكَ بِمَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (33: 72) . وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مَفَاسِدَ الْخِيَانَةِ، وَتَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا، وَسُوءَ عَاقِبَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فَصَّلْتُمُوهُ خِيَانَةٌ لِظُهُورِهِ، وَأَمَّا مَا خَفِيَ عَنْكُمْ حُكْمُهُ فَالْجَهْلُ لَهُ عُذْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مِمَّا يُعْلَمُ

28

بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ، أَوِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ، كَفَعْلَةِ أَبِي لُبَابَةَ الَّتِي كَانَتْ هَفْوَةً سَبَبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ ; وَلِذَلِكَ فَطِنَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَوْقِفَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَزَلَّةً فِي الْخِيَانَةِ أَعْلَمَنَا بِهِ عَقِبَ النَّهْيِ عَنْهَا فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الْفِتْنَةُ: هِيَ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ بِمَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ أَوْ قَبُولُهُ أَوْ إِنْكَارُهُ، فَتَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَشْيَاءِ، يَمْتَحِنُ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُحَاسِبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِتْنَتِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفِتْنَةِ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ. وَفِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ عَظِيمَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي فَهْمٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ فِي وُجُوهِهَا وَطُرُقِهَا، فَأَمْوَالُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا مَدَارُ مَعِيشَتِهِ، وَتَحْصِيلُ رَغَائِبِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَدَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَكَارِهِ عَنْهُ، فَهُوَ يَتَكَلَّفُ فِي كَسْبِهَا الْمَشَاقَّ، وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَيُكَلِّفُهُ الشَّرْعُ فِيهَا الْتِزَامَ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابَ الْحَرَامِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْعَنَاءَ فِي حِفْظِهَا، وَتَتَنَازَعُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُتَنَاوِحَةُ فِي إِنْفَاقِهَا، فَالشَّرْعُ يَفْرِضُ عَلَيْهِ فِيهَا حُقُوقًا مُقَدَّرَةً وَغَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَمُعَيَّنَةً وَغَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، وَمَحْصُورَةً وَغَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالزَّكَاةِ وَنَفَقَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَفَّارَاتِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الْمُعَيَّنَةِ، مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَنُسُكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَنْدُبُ لَهُ نَفَقَاتٍ أُخْرَى لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَالضَّابِطُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَذْلِ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ: السَّمَاحَةُ وَالسَّخَاءُ، وَهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْفَضَائِلِ، وَلِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِمْسَاكِ: الْبُخْلُ، وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَرَجَاتٌ وَدَرَكَاتٌ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْأُدَبَاءُ: ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ وَأَفْلَاذُ الْأَكْبَادِ، وَحُبُّهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ يُلْقِيهِ الْفَاطِرُ الْحَكِيمُ فِي قُلُوبِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ، يَحْمِلُهَا عَلَى بَذْلِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ بَذْلُهُ فِي سَبِيلِهِمْ مِنْ مَالٍ وَصِحَّةٍ وَرَاحَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى سَيِّدِ الْحُكَمَاءِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْقَلْبِ وَإِنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ فَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ ضَعِيفًا كَمَا قَالُوا فَمَتْنُهُ صَحِيحٌ، فَحُبُّ الْوَلَدِ قَدْ يَحْمِلُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى اقْتِرَافِ الْآثَامِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْثِيلِ الثَّرْوَةِ لَهُمْ: يَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْجُبْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَعَلَى الْبُخْلِ بِالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ، دَعْ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَالضِّيَافَةَ، كَمَا يَحْمِلُهُمَا الْحُزْنُ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ عَلَى السُّخْطِ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي كَنَوْحِ الْأُمَّهَاتِ وَتَمْزِيقِ ثِيَابِهِنَّ وَلَطْمِ وُجُوهِهِنَّ، فَفِتْنَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ تَكَالِيفَ مَالِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ. فَالرَّجُلُ يَكْسِبُ الْحَرَامَ، وَيَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ; لِأَجْلِ أَوْلَادِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَبَائِرِ شَهَوَاتِهِ، فَإِذَا قَلَّتَ

شَهَوَاتُهُ فِي الْكِبَرِ فَصَارَ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ، يَقْوَى فِي نَفْسِهِ الْحِرْصُ عَلَى شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِ، وَمَا يَكْفِي الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي الْآحَادَ، وَفِتْنَةُ الْأَمْوَالِ قَدْ تَكُونُ جُزْءًا مِنْ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ، فَتَقْدِيمُهَا وَتَأْخِيرُ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ مِنْ بَابِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ اتِّقَاءُ خَطَرَ الْفِتْنَةِ الْأُولَى بِكَسْبِ الْمَالِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَاتِّقَاءُ الْحَرَامِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ، وَاتِّقَاءُ خَطَرِ الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَبِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مِنْ حُسْنِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَجْنِيبِهِمْ أَسْبَابَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا (66: 6) . وَقَدْ عَطَفَ عَلَى هَذَا التَّحْذِيرِ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُعِينُهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اتِّقَاءِ الْفِتْنَتَيْنِ، وَهُوَ إِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ لِمَنْ رَاعَى أَحْكَامَ دِينِهِ وَشَرَعِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَوَقَفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَفْضِيلَهُ عَلَى كُلِّ مَا عَسَاهُ يَفُوتُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِمَا، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ هَفْوَةِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ حَذَّرَ أَعْدَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فَتْحِ حِصْنِهِمْ، وَالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ حُسْنَ قُدْوَةٍ بِأَبِي لُبَابَةَ فِي تَوْبَتِهِ النَّصُوحِ، إِذْ أَلَمَّ بِهِ ضَعْفٌ فَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَفْوَتِهِ أَوْ مَا دُونَهَا مِنْ خِيَانَةٍ، وَأَيْنَ مِثْلُ أَبِي لُبَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِي انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ دِينِهِمْ، وَيَخُونُونَ أُمَّتَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِ يَرْجُونَهُ أَوْ يَنَالُونَهُ مَنْ عَدُوِّهِمْ - وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَغَنَائِمِ وَطَنِهِمْ - أَوْ خَوْفًا عَلَى مَالِهِمْ وَوَلَدِهِمْ مِنْ سُلْطَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أَسْقَطَتِ الْخِيَانَةُ دَوْلَةً كَانَتْ أَعْظَمَ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَبَأْسًا بِارْتِكَابِ رِجَالِهَا الرِّشْوَةَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِنَ الْأَجَانِبِ حَتَّى مُسِخَتْ فَصَارَتْ دُوَيْلَةً صَغِيرَةً فَقِيرَةً، وَلَكِنَّ الْخَلَفَ الْمَغْرُورَ لِذَلِكَ السَّلَفِ الْمُخَرِّبِ يَدَّعُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَسْقَطَهَا تَعَالِيمُ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمَةُ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ قَدِيمَةً، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا وَاجِبًا وَاحِدًا أَوْ أَدَبًا وَاحِدًا مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ، لَكَانَ كَافِيًا لِوِقَايَتِهَا مِنَ الزَّوَالِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

29

هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ وَصَايَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهِيَ أَعَمُّهَا، وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَلِمَةُ " الْفُرْقَانِ " فِيهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَكَلِمَةِ التَّقْوَى فِي مَجِيئِهَا هُنَا مُطْلَقَةً، فَالتَّقْوَى هِيَ الشَّجَرَةُ، وَالْفُرْقَانُ هُوَ الثَّمَرَةُ، وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْفَرْقِ، وَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ وَالْحُكْمُ الْحَقُّ فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِالنُّورِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْوَسِيلَةُ لِلْخُرُوجِ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بَيْنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَالْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَالنِّسَبِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ، مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِيهِ حَقَّهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُمْتَازًا مِنْ غَيْرِهِ. وَإِيرَادُ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ فَيَشْغَلُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ " الْفُرْقَانِ " إِلَّا أَنْ نَتْرُكَ عَوَالِمِ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا وَنَأْتِيَ بِمِثَالٍ مِنَ اللُّغَةِ; لِأَنَّ لَفْظَ الْفُرْقَانِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْلَمُ مِنَ اللُّغَةِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا، وَهُوَ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ يُعَبِّرُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فِيهَا مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ، وَفِي عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْوَضْعِ وَالِاشْتِقَاقِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ - كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ مِنَ الْأَخِيرِ مَثَلًا - وَأَنْتَ تَرَى أَنَّكَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ لِمَعْنَى الْفُرْقَانِ قَدِ اتَّضَحَ لَكَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمِ الرَّجِيحِ مَا كَانَ خَفِيًّا، وَفَصَّلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُجْمَلًا، وَلِذَلِكَ نَعُدُّهُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ لَا اسْتِطْرَادًا أَجْنَبِيًّا، وَلَا سَيْلًا أَتِيًّا، كَأَكْثَرِ الَّذِي يَأْتِيهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّحْوِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَمَا يَكُونُ الْفُرْقَانُ فِي مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَمَوَادِّهَا مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ، وَفِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتِ الْعُلُومُ مِنْهَا، يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَفِي الْحُرُوبِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْفُرْقَانُ عَلَى أَشْهَرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وَغَلَبَ عَلَى الْقُرْآنِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (25: 1) ; لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى يُفَرِّقُ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ بَيَانِ وَجْهِهِ، وَمُتَعَلِّقِ فَصْلِهِ وَتَفْرِقَتِهِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا مَعْنَاهُ: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ فِي كُلِّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى بِمُقْتَضَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَبِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، يَجْعَلْ لَكُمْ بِمُقْتَضَى هَذِهِ التَّقْوَى مَلَكَةً مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَفْصِلُونَ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَتُزِيلُونَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالشُّبْهَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْفُرْقَانِ هُنَا بِنُورِ الْبَصِيرَةِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،

وَهُوَ عَيْنُ مَا فَصَّلْنَاهُ مِنَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْحُكْمِيِّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، بِمَا يُعِزُّ الْمُؤْمِنَ وَيُذِلُّ الْكَافِرَ، وَبِالنَّجَاةِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مِنَ الْفُرْقَانِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِيِّ. ذَكَرَ كُلَّ مَا رَآهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ وَقْتِهِ أَوْ حَالِ مَنْ لَقَّنَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْدِيدَ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّقْوَى بِأَنْوَاعِهَا، وَهَذَا النُّورُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (2: 269) فَهُوَ كَعَهْدِ اللهِ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِهِمْ لِاحْتِقَارِهَا فِي جَنْبِ إِطْرَائِهِمْ لِمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا بَعْضَ الْجَاهِلِينَ فِي ادِّعَائِهِمْ إِقْفَالَ بَابِهِ، وَكَثَافَةَ حِجَابِهِ، بَلْ أَصْحَابُهُ هُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْوَاضِعُونَ لِلْعُلُومِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَانَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُ. أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاتِّقَائِهِ، وَبِاتِّقَاءِ النَّارِ، وَبِاتِّقَاءِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَبِاتِّقَاءِ الْفِتَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَصَايَا هَذَا السِّيَاقِ - وَبِاتِّقَاءِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْحَرْبِ، وَبِاتِّقَاءِ ظُلْمِ النِّسَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَالَ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (65: 2، 3) وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (65: 5) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَجْرِهَا وَعَاقِبَتِهَا كَثِيرٌ، فَمَعْنَى التَّقْوَى الْعَامَّةِ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي جِنْسِهِ الْإِنْسَانِيِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ: اتِّقَاءَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ، كَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى كَذَلِكَ. وَكَمَالُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَكَمَالُ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعًا وَمُنْفَرِدًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّقْوَى الْعَامَّةُ الْكَامِلَةُ هُنَا حُصُولَ مَلَكَةِ الْفُرْقَانِ الَّتِي يُفَرِّقُ صَاحِبُهَا بِنُورِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَحُكْمٍ وَعَمَلٍ، فَيَفْصِلُ فِيهَا بَيْنَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَمَا يَجِبُ رَفْضُهُ، وَبَيْنَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَتَنْكِيرُ الْفُرْقَانِ لِلتَّنْوِيعِ التَّابِعِ لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى كَالْفِتَنِ فِي السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ، فَكُلُّ مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتِهِ فُرْقَانًا فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْعَرَبِ أَعْدَلَ حُكَّامِ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى فِي عَهْدِ الْفَتْحِ. قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا

أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّقُوا فِتَنَ السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ لِقِلَّةِ اخْتِبَارِهِمْ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِتَفَرُّقِهِمْ فَضَعْفِهِمْ فَزَوَالِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعَاجِمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى الْوَاجِبَةِ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ فُرْقَانِهَا، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ مَجْدَهُمْ مَعَ جَهْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ الْمُبِينِ، وَعَدَمِ الِاعْتِصَامِ بِالتَّقْوَى الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، الْمُؤَهِّلَةِ لَهَا لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، بَلْ مَعَ انْغِمَاسِهِمْ فِي السُّكْرِ وَالْفَوَاحِشِ ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَقَّوْا فِي دُنْيَاهُمْ بِفُسَّاقِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ، وَإِنَّمَا تَرَقَّوْا بِحُكَمَائِهِمْ وَأَبْرَارِهِمُ، الَّذِينَ وَقَفُوا حَيَاتَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هَذَا عَطْفٌ عَلَى يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ: وَيَمْحُو بِسَبَبِ هَذَا الْفُرْقَانِ وَتَأْثِيرِهِ مَا كَانَ مِنْ تَدْنِيسِ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَتَزُولُ مِنْهَا دَاعِيَةُ الْعَوْدِ إِلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِصْرَارِ الْمُهْلِكِ، وَيَغْفِرُهَا لَكُمْ بِسَتْرِهَا، وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَعْظَمِ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ جَزَاءً لِلتَّقْوَى وَأَثَرًا لَهَا. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَمَا بَعْدَهُمَا تَذْكِيرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ قَوْمِهِ مَعَهُ فِي مَكَّةَ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ حَسُنَ هَذَا التَّذْكِيرُ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِنَصْرِهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، الْفَاتِنِينَ الْمَفْتُونِينَ، الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي نَفْسِكَ، مَا نَقُصُّهُ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي عَهْدِكَ وَمِنْ بَعْدِكَ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَكَ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِكَ، وَوَعْدِ رَبِّكَ بِنَصْرِكَ. اذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ الْغَرِيبَ الَّذِي يَمْكُرُ بِكَ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِكَ فِي وَطَنِكَ. بِمَا يُدَبِّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالسِّرِّ مِنْ وَسَائِلِ الْإِيقَاعِ بِكَ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّدُّ بِالْوَثَاقِ وَالْإِرْهَاقُ بِالْقَيْدِ، وَالْحَبْسُ الْمَانِعُ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَكْرُ فِيهِ طَرِيقَتُهُ وَصِفَتُهُ الْمُمْكِنَةُ الَّتِي لَا يَكُونُ ضَرَرُهَا فِيهِمْ عَظِيمًا، وَهُوَ مَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْإِخْرَاجُ فَهُوَ النَّفْيُ مِنَ الْوَطَنِ،

30

وَقَدْ رَوَى كِبَارُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ " أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَأْتَمِرُ بِهِ قَوْمُكَ؟ قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجِنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي. قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ رَبِّي. قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ: أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي " فَنَزَلَتْ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّشَاوُرَ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بِدَارِ النَّدْوَةِ كَانَ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَكَانَ الْخُرُوجُ لِلْهِجْرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا فِيهَا أَمْرَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَحَدَّثُوا بِهِ قَبْلَ إِجْمَاعِهِ، وَإِرَادَةِ الشُّرُوعِ فِيهِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ فَبَلَغَهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالَتِهِمُ الْعَامَّةِ الدَّائِمَةِ فِي مُعَامَلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِشَرِّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ " وَيَمْكُرُونَ بِكَ " أَيْ: وَهَكَذَا دَأْبُهُمْ مَعَكَ، وَمَعَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَمْكُرُونَ بِكُمْ وَيَمْكُرُ اللهُ لَكُمْ بِهِمْ كَمَا فَعَلَ مِنْ قَبْلُ إِذْ أَحْبَطَ مَكْرَهُمْ، وَأَخْرَجَ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى حَيْثُ مَهَّدَ لَهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَوَطَنِ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ; لِأَنَّ مَكْرَهُ نَصْرٌ لِلْحَقِّ، وَإِعْزَازٌ لِأَهْلِهِ، وَخَذْلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِذْلَالٌ لِأَهْلِهِ، وَإِقَامَةٌ لِلسُّنَنِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (3: 54) وَفِي تَفْسِيرِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ (7: 99) الْآيَةَ وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ هُوَ التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ; لِإِيصَالِ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَمْكُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَوِقَايَةُ الْمَمْكُورِ لَهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ كَذَلِكَ. وَالْغَالِبُ فِي عَادَاتِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُذَمُّ مِنَ الْكَذِبِ وَالْحِيَلِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَالُوا فِي مِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ - آيَةِ الْأَنْفَالِ وَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ - إِنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ بِتَسْمِيَةِ تَخْيِيبِ سَعْيِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَكْرَ مِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَالْحَسَنُ وَالسَّيِّئُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (35: 43) وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَرْفُوعِ " وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَتَفْسِيرُ آيَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْجُزْءِ التَّاسِعِ. وَأَمَّا قِصَّةُ مَكْرِهِمُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِجْرَةُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَخِذْلَانُ الشِّرْكِ، فَفِيهَا رِوَايَاتٌ أَوْفَاهَا رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ، وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارَبَةٍ، نَنْقُلُ مَا أَوْرَدَ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْهَا عَنْهُ قَالَ: " وَإِنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا; لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ وَاعْتَرَضَهُمْ

إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعْتُ بِمَا اجْتَمَعْتُمْ لَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ يَعْدِمَكُمْ مِنِّي رَأْيٌ وَنُصْحٌ، قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُؤَاتِيَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: احْبِسُوهُ فِي وَثَاقٍ ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ الْمَنُونَ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، زُهَيْرٌ وَنَابِغَةُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ، فَقَالَ عَدُوُّ اللهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللهِ لَيَخْرُجَنَّ رَائِدٌ مِنْ مَحْبِسِهِ لِأَصْحَابِهِ فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ فَانْظُرَا فِي غَيْرِ هَذَا الرَّأْيِ، فَقَالَ قَائِلٌ: فَأَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَاسْتَرِيحُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَمْ يُضِرْكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ، وَإِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ اسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَمْ يُضِرْكُمْ مَا صَنَعَ، وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حَلَاوَةَ قَوْلِهِ، وَطَلَاقَةَ لِسَانِهِ، وَأَخْذَهُ لِلْقُلُوبِ بِمَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ لَتَجْتَمِعَنَّ إِلَيْهِ ثُمَّ لَيَسِيرُنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ، وَيَقْتُلَ أَشْرَافَكُمْ، قَالُوا: صَدَقَ وَاللهِ فَانْظُرُوا رَأْيًا غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ لَا أَرَى غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا وَسَطًا شَابًّا نَهْدًا ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِهِ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْدِرُونَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ وَاسْتَرَحْنَا، وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللهِ هُوَ الرَّأْيُ، الْقَوْلُ مَا قَالَ الْفَتَى لَا أَرَى غَيْرَهُ. وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَذِنَ اللهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ فَأَنْزَلَ اللهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ (22: 39) الْآيَةَ: فَكَانَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي الْحَرْبِ، وَأُنْزِلَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، يُذَكِّرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اهـ. وَسَائِرُ خَبَرِ الْهِجْرَةِ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُكَابَرَةً مِنْ مُكَابَرَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمَاكِرِينَ، قَالَهَا بَعْضُهُمْ فَأَعْجَبَتْ أَمْثَالَهُ مِنْهُمْ فَرَدَّدُوهَا فَعُزِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهِيَ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الثَّقَلَانِ، فِيمَا أُودِعَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَقَصَصٍ وَبَيَانٍ، وَمَالَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِ كُلِّ إِنْسَانٍ، بِقَدْرِ مَا أُوتِيَ مِنْ بَلَاغَةٍ وَعَقْلٍ وَقَلْبٍ وَوِجْدَانٍ قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا نَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَلَّلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةَ بِمَا هُوَ أَكْذَبُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: قِصَصُهُمْ وَأَحَادِيثُهُمُ الَّتِي سُطِّرَتْ فِي الْكُتُبِ

عَلَى عِلَّاتِهَا، وَمَا هُوَ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي أَسَاطِيرَ: هِيَ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ كَأُرْجُوحَةٍ وَأَرَاجِيحَ وَأُثْفِيَّةِ وَأَثَافِيَّ وَأُحْدُوثَةٍ وَأَحَادِيثَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَسَاطِيرُ الْأَحَادِيثُ لَا نِظَامَ لَهَا جَمْعُ أَسْطَارٍ وَأَسْطِيرٍ وَأُسْطُورٍ وَبِالْهَاءِ فِي الْكُلِّ. وَأَصْلُ السَّطْرِ الصَّفُّ مِنَ الشَّيْءِ كَالْكِتَابِ وَالشَّجَرِ اهـ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ النَّضْرُ هَذَا يَخْتَلِفُ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ فَيَسْمَعُ أَخْبَارَهُمْ عَنْ رُسْتُمَ وَاسْفِنْدِيَارَ وَكِبَارِ الْعَجَمِ، وَيَمُرُّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَسْمَعُ مِنْهُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ أَخْبَارَ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمُ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِقِصَصِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ فَقَالَ: إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، فَمَا هِيَ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، وَلَعَلَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَقَلَّدَهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا أَسَاطِيرُ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ كِبَارِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَمِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) بَلْ كَانُوا يُوهِمُونَ عَامَّةَ الْعَرَبِ أَنَّهُ اكْتَتَبَهَا وَجَمَعَهَا كَمَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25: 5) أَيْ لِيَحْفَظَهَا، وَلَمْ يَكُنْ كُبَرَاءُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، وَلَا أَهْلُ مَكَّةَ يَعْتَقِدُونَ هَذَا أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، بَلْ تَشَاوَرُوا فِي شَيْءٍ يَقُولُونَهُ; لِيَصُدُّوا بِهِ الْعَرَبَ عَنِ الْقُرْآنِ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ إِثْبَاتًا، وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ أَشَدِّهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَحِرْصًا عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا (31: 6) إِذِ اشْتَرَى قَيْنَةً جَمِيلَةً كَانَتْ تُغَنِّي النَّاسَ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَغَيْرِ الْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِصَرْفِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مُنْتَهَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ النَّضْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فِي أُسْلُوبِهِ أَوْ بَلَاغَتِهِ وَتَأْثِيرِهِ، وَهُوَ مِنْ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ، إِذْ لَوْ قَدَرَ لَفَعَلَ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، بَلْ هُوَ طَعْنٌ فِي أَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ; لِتَشْكِيكِ الْعَرَبِ فِيهِ وَصَرْفِهَا عَنْهُ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا " افْتَرَاهُ " وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ نَفْيٌ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ خَاصًّا بِبَعْضِهِمْ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ وَالْأَخْنَسِ وَغَيْرِهِمَا حِينَ دَعَوْهُ لِتَكْذِيبِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ وَقَدْ شَمَلَ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (10: 38) أَيْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ كَمَا صَرَّحَ بِالْوَصْفِ فِي سُورَةِ هُودٍ فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

32

(11: 13) إِلَخْ. وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي التَّحَدِّي عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ (رَاجِعْ 159 - 164 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ تَفْسِيرَ ط الْهَيْئَةِ) . وَلَقَدْ كَانَ زُعَمَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ هَذَا وَأَبِي جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَتَوَاصَوْنَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، كَمَا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ أَفْرَادًا إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَمِنْ تَأْثِيرِهِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، وَكَانَ يَلْتَقِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ أَحْيَانًا فَيَتَلَاوَمُونَ، وَيُؤَكِّدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، وَمِمَّا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ اسْتِمَاعِهِمْ أَنْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِيهِ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ فِي وَصْفِهِ وَمِنْهَا " أَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ " فَخَافُوا أَنْ تَسْمَعَهَا الْعَرَبُ، فَمَا زَالُوا يُلِحُّونَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ كَلِمَةٍ مُنَفِّرَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ حَتَّى إِذَا مَا أَقْنَعُوهُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ أَطَالَ التَّفْكِيرَ وَالتَّقْدِيرَ وَالنَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ وَالْعُبُوسَ وَالتَّقْطِيبَ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى الْكَلِمَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ جَمِيعِ مُكَذِّبِي الْأَنْبِيَاءِ فِي تَسْمِيَةِ آيَاتِهِمْ سِحْرًا فَقَالَ: سِحْرٌ يُؤْثَرُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَحْثِ الْإِعْجَازِ مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي التَّحَدِّي. وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى مَكْرَ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ الْجُحُودُ وَالْعِنَادُ فَقَالَ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا أَبُو جَهْلٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ فِي الْفَتْحِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلَ نُسِبَ إِلَى جَمَاعَةٍ، فَلَعَلَّهُ بَدَأَ بِهِ وَرَضِيَ

الْبَاقُونَ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (70: 1) وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا قَالَاهُ، وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ أَوْلَى، وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ سَفَهَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَهَلَتُهَا. اهـ. وَقَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ: وَرُوِيَ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَعَنَهُ اللهُ لَمَّا قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْلَكَ، إِنَّهُ كَلَامُ اللهِ " فَقَالَ هُوَ وَأَبُو جَهْلٍ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا إِلَخْ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْجَمْعِ إِسْنَادُ مَا فَعَلَهُ رَئِيسُ الْقَوْمِ إِلَيْهِمْ اهـ. وَالْمَعْنَى: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الْحَقَّ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِكَ; لِيَدِينَ بِهِ عِبَادُكُ كَمَا يَدَّعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْعَلْ بِنَا كَذَا وَكَذَا - أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي يُلَقِّبُونَهُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، بَلْ يُفَضِّلُونَ الْهَلَاكَ بِحِجَارَةٍ يُرْجَمُونَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ آخَرَ يَأْخُذُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَمِنْ هَذَا الدُّعَاءِ عُلِمَ أَنَّ كُفْرَهُمْ عِنَادٌ وَكِبْرِيَاءٌ، وَعُتُوٌّ وَعُلُوٌّ فِي الْأَرْضِ، لَا لِأَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَاطِلٌ أَوْ قَبِيحٌ أَوْ ضَارٌّ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ سَبَأٍ " مَا أَجْهَلَ قَوْمَكَ حِينَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ امْرَأَةً؟ فَقَالَ: أَجْهَلُ مِنْ قَوْمِي قَوْمُكَ حِينَ قَالُوا: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا لَهُ " اهـ. وَمَا يَحْكِيهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ قَدْ يَكُونُ بِالْمَعْنَى دُونَ نَصِّ اللَّفْظِ، كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ نَظْمُهُ مَعَ أَدَائِهِ لِلْمَعْنَى بِدُونِ إِخْلَالٍ مِمَّا يَعْجِزُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ عَنْ مِثْلِهِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ هَذَا فِي الْكَلَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِمِثْلِ الْإِعْجَازِ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أَيْ: وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَلَا حِكْمَتِهِ، أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيهِمْ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَنِعْمَةً لَا عَذَابًا وَنِقْمَةً، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ أَيْضًا أَنْ يُعَذِّبَ أَمْثَالَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَهُمْ فِيهِمْ، بَلْ كَانَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعَذَابِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي عَذَّبَ بِمِثْلِهِ الْأُمَمَ فَاسْتَأْصَلَهُمْ أَوْ مُطْلَقًا وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ: فِي حَالٍ هُمْ يَتَلَبَّسُونَ فِيهَا بِاسْتِغْفَارِهِ تَعَالَى بِالِاسْتِمْرَارِ، رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ - الْآيَةَ - فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ الْآيَةَ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوْا نَدِمُوا فَقَالُوا: غُفْرَانَكَ اللهُمَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

33

أَيْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللهِ أَنْ يُؤْمِنَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَبُو مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَكَانَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ يَسْتَغْفِرُونَ فَلَمَّا خَرَجُوا أَنْزَلَ اللهُ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ. فَأَذِنَ اللهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى " وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي رَفْعِهِ قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى أُمَّتِي أَمَانَيْنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: " فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ " وَهُوَ يُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَذَابَ حَلَّ بِهِمْ لَمَّا تَرَكُوا النَّدَمَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَبَالَغُوا فِي مُعَانَدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللهَ عَذَّبَهُمْ بِالْقَحْطِ لَمَّا دَعَا بِهِ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِتَفْسِيرِ الْعَذَابِ الْمُمْتَنِعِ مَعَ وُجُودِ الرَّسُولِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَا عَذَّبَ اللهُ بِهِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعَ وُجُودِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْآيَاتُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْ: وَمَاذَا وَثَبَتَ لَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ تَعْذِيبَهُمْ بِمَا دُونَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعَيْنِ مِنْهُ بَعْدُ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَوْ لِلنُّسُكِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ صَدُّهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. وَالْمَنْعُ كَانَ وَاقِعًا مُنْذُ الْهِجْرَةِ، مَا كَانَ يَقْدِرُ مُسْلِمٌ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ عَذَّبُوهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ يُجِيرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا عَذَابُ بِدْرٍ إِذْ قُتِلَ صَنَادِيدُهُمْ وَرُءُوسُ الْكُفْرِ فِيهِمْ، وَمِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُسِرَ سُرَاتُهُمْ، لَا فَتْحَ مَكَّةَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ - بَلْ لَمْ تَكُنِ الْهِجْرَةُ نَفْسُهَا إِلَّا بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، فَقَدْ كَانُوا يُؤْذُونَ مَنْ طَافَ أَوْ صَلَّى فِيهِ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ مَنْ يَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ، وَقَدْ وَضَعُوا عَلَى ظَهْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْثَ الْجَزُورِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَلَمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِ عَنْهُ إِلَّا بِنْتُهُ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وَمَنَعُوا أَبَا بَكْرٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ فَبَنَى لِنَفْسِهِ مَسْجِدًا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَصَدُّوهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَيْضًا; لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ الْمُؤَثِّرَةِ فَخَافُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِجَارَةُ ابْنِ الدُّغُنَّةِ لَهُ ثُمَّ اضْطِرَارُهُ إِلَى رَدِّ جِوَارِهِ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ فِي الْبُخَارِيِّ.

34

وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ أَيْ مُسْتَحِقِّينَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِشِرْكِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ فِيهِ، كَطَوَافِهِمْ فِيهِ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ رِجَالًا وَنِسَاءً، وَلَمَّا أَجَابَ اللهُ دُعَاءَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَجْعَلَ لِلنَّاسِ أَئِمَّةً مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا جَعَلَهُ إِمَامًا لَهُمْ، أَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ شَنَاعَةً وَفَسَادًا مِنَ الشِّرْكِ؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31: 13) وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَنَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ، وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ لِلشِّرْكِ وَسَائِرِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّادِقُونَ، وَقَدْ وُجِدُوا. وَهَذَا غَايَةُ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى وِلَايَةَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَيْتِ اللهِ تَعَالَى نَفَى كُلَّ وِلَايَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا وِلَايَةَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ عَدُوٌّ لَهُمْ وَخِيَارُهُمْ لَا مَنْ لَا فَضْلَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ حَقَّ الْوِلَايَةِ بِأَنْسَابِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَلِمَ لَا يُعَذِّبُ اللهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْتِفَاءِ سَبَبَيْ مَنْعِ الْعَذَابِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْصَارَ دِينِهِ الَّذِينَ لَا يُعَذِّبُهُمْ؟ وَكَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ: مَنْ أَوْلِيَاؤُهُ تَعَالَى إِذًا؟ فَأُجِيبَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ: مَا أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، أَيِ الَّذِينَ صَارَتِ التَّقْوَى الْعَامَّةُ صِفَةً رَاسِخَةً فِيهِمْ، وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهَا مِنَ التَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَالثَّانِي أَخَصُّ وَيُؤَيِّدُهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (10: 62، 63) وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَوُجُودِ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُوَحِّدِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ هَذَا الْحَقَّ بِنَسَبِهِمُ الْإِبْرَاهِيمِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الظُّلْمُ، وَبِقُوَّتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى ضَعْفٍ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَيْسُوا إِلَّا الْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِهِ بِمُقْتَضَى عَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْحَقِيقُونَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى بَيْتِهِ، عَلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ بِفَضْلِهِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَاتُهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْجَهْلَ إِلَى أَكْثَرِهِمْ إِذْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَجْهَلُ سُوءَ حَالِهِمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَضَلَالِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، فَإِنِ امْتَنَعَ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ كِبْرًا وَعِنَادًا، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَتَرَبَّصُ الْفُرْصَةَ لِإِظْهَارِهِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لَهُ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَلِلتَّفَاوُتِ

35

فِي الِاسْتِعْدَادِ كَانَ يَظْهَرُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ. وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْقَلِيلَ لَا حُكْمَ لَهُ إِنْ وُجِدَ فَكَيْفَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ بِوُجُودِهِ؟ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ أَوِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْهُمْ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، هُوَ مِنْ دَقَائِقِ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيرِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ، وَسَبَقَ تَنْبِيهُنَا لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا. هَذَا وَإِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ صَارُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَجْهَلَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ بِمَعْنَى وِلَايَةِ اللهِ وَأَوْلِيَائِهِ - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ الْعَامَّةُ، وَوِلَايَةُ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ الشَّخْصِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَجَهْلُهُمْ بِهَذِهِ أَعَمُّ وَأَعْمَقُ، فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَشْمَلُ الْمَجَانِينَ وَالْمَجَاذِيبَ الَّذِينَ تَرْتَعُ الْحَشَرَاتُ فِي أَجْسَادِهِمُ النَّجِسَةِ، وَثِيَابِهِمُ الْقَذِرَةِ، وَيَسِيلُ اللُّعَابُ مِنْ أَشْدَاقِهِمُ الشَّرِهَةِ، وَتَشْمَلُ أَصْحَابَ الدَّجَلِ وَالْخُرَافَاتِ، وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لِلْكَرَامَاتِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ بِدُعَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهَا مَا يَتَخَيَّلُونَ مِنْ رُؤَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْطَابِ فِي الْمَنَامِ، وَمَا يَزْعُمُونَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُمْ مَا تَنْبِذُهُ شَرِيعَةُ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَتَّى صَارَ مَا هُمْ عَلَيْهِ دِينَ شِرْكٍ مُنَافِيًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَعَلَيْكَ بِمُطَالَعَةِ كِتَابِ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِمِثْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ؟ . ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي أَفْضَلِ مَا بُنِيَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، إِذْ كَانَ سُوءُ حَالِهِمْ فِي الطَّوَافِ عُرَاةً مَعْرُوفًا لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، أَوْ فِي الْعِبَادَةِ الْجَامِعَةِ لِلطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَيْتَ إِذَا أُطْلِقَ مُعَرَّفًا انْصَرَفَ عِنْدَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، عَلَى الْقَاعِدَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي انْصِرَافِ مِثْلِهِ إِلَى الْأَكْمَلِ فِي جِنْسِهِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَهِيَ أَعْظَمُ النُّجُومِ هِدَايَةً. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً تُصَفِّرُ وَتُصَفِّقُ. وَقَالَ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ، وَقَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأُخْرَى وَيُصَفِّرُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً مُشَبِّكِينَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ يُصَفِّرُونَ فِيهَا وَيُصَفِّقُونَ، وَرَوَى الطَّسْتِيُّ فِيمَا رَوَى مِنْ أَسْئِلَةِ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ لَهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً قَالَ: الْمُكَاءُ: صَوْتُ الْقُنْبُرَةِ، وَالتَّصْدِيَةُ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ وَهُوَ التَّصْفِيقُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْحَجَرِ (الْأَسْوَدِ) وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ - يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّمَالِ; لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الِاسْتِقْبَالِ - فَيَجِيءُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ يَقُومُ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَيَصِيحُ أَحَدُهُمَا كَمَا يَصِيحُ

الْمُكَاءُ، وَالْآخَرُ يُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ تَصْدِيَةَ الْعَصَافِيرِ; لِيُفْسِدَا عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. قَالَ (نَافِعٌ) : وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ : قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا دُعِينَا ... وَهِمَّتُكَ التَّصَدِّي وَالْمُكَاءُ وَفِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُكَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَتْ قُرَيْشُ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ يَسْتَهْزِئُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَكَا الطَّيْرُ يَمْكُو مُكَاءً: صَفَّرَ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمُكَاءَ فِي الْآيَةِ جَارِ مَجْرَى مُكَاءِ الطَّيْرِ فِي قِلَّةِ الْغِنَاءِ. قَالَ: وَالْمُكَّاءُ (بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ) طَائِرٌ، وَمَكَتْ اسْتُهُ صَوَّتَتْ اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الْقَبِيحَةَ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُمْ عَمْدًا أَيْضًا، فَذُكِرَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ; لِيَدُلَّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُذْكَرِ اللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لَهَا وَحْدَهَا نَزَاهَةً، وَقَالَ فِي التَّصْدِيَةِ: كُلُّ صَوْتٍ يَجْرِي مَجْرَى الصَّدَى فِي أَنْ لَا غِنَاءَ فِيهِ اهـ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ صَلَاتَهُمْ وَطَوَافَهُمْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ سَوَاءٌ عَارَضُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَوَافِهِ وَخُشُوعِ صَلَاتِهِ وَحُسْنِ تِلَاوَتِهِ أَمْ لَا. قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَسَّرَ الضَّحَّاكُ الْعَذَابَ هُنَا بِمَا كَانَ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ وَأَسْرِهِمْ لِآخَرِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْ وَانْهِزَامِ الْبَاقِينَ مَكْسُورِينَ مَدْحُورِينَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوهُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ نَزَلَ هَذَا فِي اسْتِعْدَادِ قُرَيْشٍ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا سَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِغَيْرِهَا بَعْدَهَا. وَيَشْمَلُ اللَّفْظُ بِعُمُومِهِ مَا سَيَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ زَمَنٍ. ذَكَرَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ، وَمِنْ إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَغَيْرِهَا

36

فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَمَّا نَجَا بِالْعِيرِ بِطَرِيقِ الْبَحْرِ إِلَى مَكَّةَ مَشَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَنْفِرُونَ النَّاسَ لِلْقِتَالِ، فَجَاءُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ تِجَارَةٌ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ رِجَالَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرًا - فَفَعَلُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَاتِلُ بِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ. وَفِيهِمْ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسَطُهُ ... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ عِصَابَةٌ ... ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا فَأَرْبَعُ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، أَنْفَقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا، هَذَا عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ بُخْلِ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا قَالَتْ زَوْجَتُهُ يَوْمَ الْمُبَايَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَيُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ صَدًّا وَفِتْنَةً وَقِتَالًا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَمًا وَأَسَفًا، لِذَهَابِهَا سُدًى، وَخُسْرَانِهَا عَبَثًا، إِذْ لَا يُعْطِيهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ يُغْلَبُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيَنْكَسِرُونَ الْكَرَّةَ بَعْدَ الْكَرَّةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أَيْ: يُسَاقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. هَذَا إِذَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُمْ شَقَاءُ الدَّارَيْنِ وَعَذَابُهُمَا. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنَ الْكُفَّارِ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ; لِأَنَّ لَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُمْلَتِهِمْ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَفْرَادِهِمُ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، هَكَذَا كَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَامَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهَكَذَا سَيَكُونُ، إِذَا عَادُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُونَ. وَالْكُفَّارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُنْفِقُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِتْنَةِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْعَوَامِّ، بِجِهَادٍ سِلْمِيٍّ، أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَى نَشْرِهَا بِتَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَمُعَالَجَةِ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فِي مُسْتَشْفَيَاتِهِمْ. وَالْمُسْلِمُونَ مُوَاتُونَ، يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبَالُونَ مَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (5: 58) . لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَالْفَوْزَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخِذْلَانَ وَالْحَسْرَةَ لِمَنْ يُعَادِيهِمْ وَيُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي اسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا دَامَا عَلَى حَالِهِمَا، فَإِذَا غَيَّرَا مَا بِأَنْفُسِهِمَا

37

غَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمَا. جَعَلَ هَذَا جَزَاءَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ جَهَنَّمَ مَأْوًى لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُمَيِّزَ الْكُفْرَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنَ الْجَوْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَلَنْ يَجْتَمِعَ فِي حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ الضِّدَّانِ، وَلَا يَسْتَوِي فِي جَزَائِهِ النَّقِيضَانِ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (5: 100) الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الْمَعْنَوِيَّانِ فِي حُكْمِ الْعُقَلَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، كَالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ الْحِسِّيَّيْنِ فِي حُكْمِ سَلِيمِي الْحَوَاسِّ وَلَا سِيَّمَا الشَّمَّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (3: 179) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُمَيِّزَ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَيْزِ وَالتَّمْيِيزِ مَا كَانَ بِالْفِعْلِ وَالْجَزَاءِ كَمَا قُلْنَا لَا بِالْعِلْمِ فَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ الْإِلَهِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ يُوَافِقُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقَاءِ أَمْثَلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَأَصْلَحِهِمَا. وَسُنَنُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْخَبِيثُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُغْتَرُّونَ بِالْأَلْقَابِ الدِّينِيَّةِ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ. فَالْخَبِيثُ فِي الدُّنْيَا خَبِيثٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا أَيْ وَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ مُنْضَمًّا مُتَرَاكِبًا عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اجْتِمَاعِ الْمُتَشَاكِلَاتِ، وَانْضِمَامِ الْمُتَنَاسِبَاتِ، وَائْتِلَافِ الْمُتَعَارِفَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَنَاكِرَاتِ، يُقَالُ: رَكَمَهُ إِذَا جَمَعَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ يَجْعَلُ أَصْحَابَهُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْتَامُوا الْخُسْرَانَ وَحْدَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ. جَاءَ مِصْرَ الْقَاهِرَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ صَاحِبُ صَحِيفَةٍ سُورِيَّةٍ دَوْرِيَّةٍ مِنْ دُعَاةِ الْإِلْحَادِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا قَلَائِلَ اسْتَحْكَمَتْ فِيهَا لَهُ مَوَدَّةُ أَشْهَرِ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، وَدُعَاةِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهَا، فَعَادَ يُنَوِّهُ بِهِمْ، وَيَنْشُرُ دِعَايَتَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمْ دُعَاةُ التَّرَقِّي وَالْعُمْرَانِ، بِالدَّعَايَةِ إِلَى تَجْدِيدِ ثَقَافَةٍ لِمِصْرَ تَخْلُفُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ ثَقَافَةِ الْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ هَدَّامُونَ لِلْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَجَمِيعِ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَّةِ وَمُشَخِّصَاتِهَا، وَلَيْسُوا بِأَهْلٍ لِبِنَاءِ شَيْءٍ لَهَا، إِلَّا إِذَا سُمِّيَتِ الزَّنْدَقَةُ، وَإِبَاحَةُ الْأَعْرَاضِ، وَتَمْهِيدُ السَّبِيلِ لِاسْتِعْبَادِ الْأَجَانِبِ لِأُمَّتِهِمْ بِنَاءُ مَجْدٍ لَهَا. وَقَدْ ذَكَّرَنِي ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ قَرْيَةٍ صَالِحَةٍ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ مَعَارِفِهِ كَانَ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ فَطَفِقَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسَاجِدِ وَمَدَارِسِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَعَنِ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ: أَعَنْ هَذَا تَسْأَلُ مِثْلِي؟ سَلْنِي عَنْ أَهْلِ الْحَانَاتِ وَالْمَوَاخِيرِ، فَإِنَّنِي بِهَا وَبِهِمْ عَلِيمٌ خَبِيرٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (6: 129) .

38

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَقِتَالِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حُكْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ عَنْهُ، وَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْأَنْفُسَ صَارَتْ تَتَشَوَّفُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ، وَتَتَسَاءَلُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ، فَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ: إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عُدْوَانِكَ وَعِنَادِكَ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَالْقِتَالِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَيَغْفِرُ لَهُمُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْ إِجْرَامِهِمْ فَلَا يُطَالِبُونَ قَاتِلًا مِنْهُمْ بِدَمٍ، وَلَا سَالِبًا أَوْ غَانِمًا بِسَلَبٍ أَوْ غُنْمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ " بِالْخِطَابِ، رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: " فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ " وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الْعَدَاءِ وَالصَّدِّ وَالْقِتَالِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: تَجْرِي عَلَيْهِمْ سُنَّتُهُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَادُوا وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَقُولُ: وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (58: 20، 21) وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) فَإِضَافَةُ السُّنَّةِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمْ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَيْ: وَقَاتِلْهُمْ حِينَئِذٍ أَيُّهَا الرَّسُولُ

39

أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَزُولَ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ بِالتَّعْذِيبِ، وَضُرُوبِ الْإِيذَاءِ لِأَجْلِ تَرْكِهِ، كَمَا فَعَلُوا فِيكُمْ عِنْدَمَا كَانَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ وَالسُّلْطَانُ فِي مَكَّةَ، حَتَّى أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا لِأَجْلِ دِينِكُمْ ثُمَّ صَارُوا يَأْتُونَ لِقِتَالِكُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ، وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَفْتِنَ أَحَدًا عَنْ دِينِهِ; لِيُكْرِهَهُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى دِينِ الْمُكْرِهِ لَهُ فَيَتَقَلَّدُهُ تُقْيَةً وَنِفَاقًا - وَنَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى بِتَعْبِيرِ هَذَا الْعَصْرِ: وَيَكُونُ الدِّينُ حُرًّا، أَيْ يَكُونُ النَّاسُ أَحْرَارًا فِي الدِّينِ لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ إِكْرَاهًا، وَلَا يُؤْذَى وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ تَعْذِيبًا، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (2: 256) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا مُنْذُ الصِّغَرِ فَأَرَادُوا إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُكْرِهُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ دُونِهِمْ، وَمَا رَضِيَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي مُعَاهَدَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّلْحِ الْمَانِعِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، الْمُبِيحِ لِاخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِسْمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، إِذْ كَانَ هَذَا إِبَاحَةً لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِرُؤْيَةِ الْمُشْرِكِينَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَهَا، وَسَمَّى اللهُ هَذَا الصُّلْحَ فَتْحًا مُبِينًا. وَأَمَّا وُرُودُ الْحَدِيثِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ مَنْعِ الْعَبَثِ بِالْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْفِتْنَةِ بِالشِّرْكِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. أَقُولُ: عَلَيْهِ جُمْهُورُ مُؤَلِّفِي التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الْخَلَفِ، قَالُوا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ وَتَزُولَ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ، وَسَيَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا إِذَا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُشْرِكٌ أَصْلًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ هَذَا الْأَلُوسِيُّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (49: 9) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَلَّا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا (4: 93) إِلَى آخِرِهَا. قَالَ: فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا. فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ، إِمَّا يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا يُوثِقُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ " إِلَخْ فَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُفَسِّرُ الْفِتْنَةَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ بِمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُمَا وَيَقُولُ:

إِنَّهَا قَدْ زَالَتْ بِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ، فَلَا يَقْدِرُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الشِّرْكِ لَمَا قَالَ هَذَا، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ زَالَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَنْ يَزُولَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (11: 118) الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَزَادَ عَلَيْهَا رِوَايَاتٍ عَنْهُ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا مِنْهَا " أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ قَالَا: أَوَلَمْ يَقُلِ اللهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللهِ " وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ " وَذَهَبَ الشِّرْكُ " وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا أَوْرَدَ الْآيَةَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَقَالَا: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُسْلِمٌ عَنْ دِينِهِ. فَإِنِ انْتَهَوْا أَيْ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَعَنْ قِتَالِكُمْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ (تَعْمَلُونَ) بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بِالْخِطَابِ. وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (2: 193) وَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ تَبْلِيغِكُمْ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ أَيْ: فَأَيْقِنُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ نَاصِرُكُمْ، وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ، فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ وَلَا تَخَافُوا، فَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هُوَ، فَلَا يُضَيِّعُ مَنْ تَوَلَّاهُ، وَلَا يُغْلَبُ مَنْ نَصَرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى كَانَ لِأَسْبَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ خَانَهُمُ النَّصْرُ حَتَّى فَقَدُوا أَكْثَرَ مَمَالِكِهِمْ، وَإِنَّنَا لَنَرَى الْأُمَمَ يَنْتَصِرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالِاسْتِعْدَادِ الْمَادِّيِّ مِنْ سِلَاحٍ وَعَتَادٍ بِالنِّظَامِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي جَهِلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِغُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقِرَاءَةِ الْأَحَادِيثِ وَالدَّعَوَاتِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَهُ سَاسَةُ التُّرْكِ، وَأَسَّسُوا لِأَنْفُسِهِمْ حُكُومَةً مَدَنِيَّةً إِلْحَادِيَّةً تُنَاهِضُ الْإِسْلَامَ، وَيُوشِكُ أَنْ يَتْبَعَهُمْ سَاسَةُ الْمِصْرِيِّينَ وَالْأَفْغَانِ. قُلْنَا: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ - وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَفْرُوضٌ - حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِإِعْدَادِ الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ، وَيُضِيفُ إِلَيْهَا الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةَ، وَمِنْهَا بَلْ أَعْظَمُهَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَدُعَاؤُهُ، وَالِاتِّكَالُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْمَادِّيِّينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الِاتِّكَالَ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، حَتَّى فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَمَّا غُلِبَ

الْمُسْلِمُونَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْبَحْثَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (60) وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَمَا أَضْعَفَ التُّرْكَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا تَرْكُهُمْ لِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا وَغَيْرِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الَّتِي انْتَصَرَ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَاسْتِبْدَادُ حُكَّامِهِمْ فِيهِمْ، وَإِنْفَاقُ أَمْوَالِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْإِفْرِنْجُ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ فِي الِاسْتِعْدَادِ فِي الْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ فَرَجَحَتْ بِهِمْ كِفَّةُ الْمِيزَانِ، وَسَيَتَّبِعُونَهَا فِي الْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ بَعْدَ أَنْ تُبَرِّحَ بِهِمُ التَّعَالِيمُ الْمَادِّيَّةُ وَالْبَلْشَفِيَّةُ، وَيَتَفَاقَمُ فَسَادُهَا فِي أُمَمِهِمْ، حَتَّى تُخَرَّبَ بُيُوتُهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، مِنْ حَيْثُ فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ الْجُغْرَافِيُّونَ النَّوْعَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ تَعَالِيمِهِ، وَقَامَ الْجَاهِلُونَ مِنْهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ، بِمَا أَفْسَدُوا وَابْتَدَعُوا فِيهِ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي مَكَّنَتْ سَلَفَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشُّعُوبِ فَهِيَ أَكْبَرُ حُجَّةٍ لِلْإِسْلَامِ أَيْضًا، إِذْ لَيْسَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ إِلَّا مَا كَانَ أَصَابَ تِلْكَ الشُّعُوبَ مِنَ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، مِنْ فُشُوِّ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَسُلْطَانِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ، الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِإِزَالَتِهَا، وَاسْتِبْدَالِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ بِهَا، وَلِهَذَا وَحْدَهُ نَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا، إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ فِي أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا دُونَ تِلْكَ الشُّعُوبِ كُلِّهَا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ الْمَادِّيِّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ إِلَّا إِصْلَاحُ الْإِسْلَامِ الْمَعْنَوِيِّ. وَلَمَّا أَضَاعَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَالْفَضَائِلَ، وَاتَّبَعُوا سُنَنَ تِلْكَ الْأُمَمِ مِنَ الْبِدَعِ وَالرَّذَائِلِ - وَهُوَ مَا حَذَّرَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْهُ - ثُمَّ قَصَّرُوا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْمَادِّيِّ لِلنَّصْرِ فِي الْحَرْبِ فَفَقَدُوا النَّوْعَيْنِ مِنْهُ، عَادَ الْغَلَبُ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى هِدَايَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفَ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ غُمَّةٍ، لِتَسْتَحِقَّ نَصْرَهُ بِاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِتَقْوَاهُ الْمُثْمِرَةِ لِلْفُرْقَانِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ، فَيَعُودُ لَهَا مَا فَقَدَتْ مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ اللهُمَّ آمِينَ. تَمَّ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ التَّاسِعِ كِتَابَةً وَتَحْرِيرًا بِفَضْلِ اللهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ (فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَعْبَانَ سَنَةَ 1346، وَنَسْأَلُهُ الْإِعَانَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِإِتْمَامِ مَا بَعْدَهُ) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ أَوَّلًا وَآخِرًا.

41

الْجُزْءُ الْعَاشِرُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَقَدَّمَ وَجْهُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عَوْدٌ إِلَى وَصْفِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَدْ بُدِئَ هَذَا السِّيَاقُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ وَهُوَ تَخْمِيسُ الْغَنَائِمِ، كَمَا بُدِئَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ الْأَنْفَالِ (الْغَنَائِمِ) الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا

وَتَسَاءَلُوا عَنْهَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْآيَةِ هُنَا وَمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً ظَاهِرٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَوَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ أَخْذَ الْغَنَائِمِ مِنْهُمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ مَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَوْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهَا، كَالْفَيْءِ وَالنَّفْلِ وَالسَّلَبِ وَالصَّفِيِّ قَبْلَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ لِطُولِهِ: حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِمَدْلُولِ الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ: الْغُنْمُ بِالضَّمِّ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُصِيبُهُ الْإِنْسَانُ وَيَنَالُهُ وَيَظْفَرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَهُوَ قَيْدٌ يُشِيرُ إِلَيْهِ ذَوْقُ اللُّغَةِ أَوْ يَشْتَمُّ مِنْهُ مَا يُقَارِبُهُ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ دَقِيقٍ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كُلُّ كَسْبٍ أَوْ رِبْحٍ أَوْ ظَفَرٍ بِمَطْلُوبٍ غَنِيمَةً، كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ سَمَّوْا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ غَنِيمَةً، وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغُنْمَ: مَا يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ، وَيَظْفَرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ مَادِّيٍّ يَبْذُلُهُ فِي سَبِيلِهِ (كَالْمَالِ فِي التِّجَارَةِ مَثَلًا) ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْغُرْمَ ضِدُّ الْغُنْمِ، وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ مَنْ خُسْرٍ وَضَرَرٍ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ، وَلَا خِيَانَةٍ يَكُونُ عِقَابًا عَلَيْهِمَا. فَإِنْ جَاءَتِ الْغَنِيمَةُ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا سَعْيٍ مُطْلَقًا سُمِّيَتِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ. وَفِي كُلِّيَّاتِ أَبِي الْبَقَاءِ: الْغُنْمُ بِالضَّمِّ: الْغَنِيمَةُ، وَغَنِمْتُ الشَّيْءَ: أَصَبْتُهُ غَنِيمَةً وَمَغْنَمًا، وَالْجَمْعُ غَنَائِمُ وَمَغَانِمُ " وَالْغُنْمُ بِالْغُرْمِ " أَيْ مُقَابَلٌ بِهِ. وَغَرَمْتُ الدِّيَةَ وَالدَّيْنَ: أَدَّيْتُهُ. وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ يُقَالُ: غَرَّمْتُهُ، وَبِالْأَلْفِ (أَغْرَمْتُهُ) : جَعَلْتُهُ لِي غَارِمًا. وَالْغَنِيمَةُ أَعَمُّ مِنَ النَّفْلِ، وَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ بَعْدَ مَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتَصِيرُ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ. وَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخَمَّسُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ عَنْوَةً بِقِتَالٍ، وَالْفَيْءَ مَا كَانَ عَنْ صُلْحٍ بِغَيْرِ قِتَالٍ. وَقِيلَ: النَّفْلُ إِذَا اعْتُبِرَ كَوْنُهُ مَظْفُورًا بِهِ يُقَالُ لَهُ غَنِيمَةٌ، وَإِذَا اعْتُبِرَ كَوْنُهُ مِنْحَةً مِنَ اللهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ يُقَالُ لَهُ: نَفْلٌ وَقِيلَ: الْغَنِيمَةُ مَا حَصَلَ مُسْتَغْنَمًا بِتَعَبٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ تَعَبٍ، وَبِاسْتِحْقَاقٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَقَبْلَ الظَّفَرِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالنَّفْلُ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ قَبْلَ (قِسْمَةِ) الْغَنِيمَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْغَنِيمَةُ وَالْجِزْيَةُ وَمَالُ الصُّلْحِ وَالْخَرَاجُ كُلُّهُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: كُلُّ مَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ فَيْءٌ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي الشَّرْعِ: مَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ عَنْوَةً، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تُخَمَّسُ فَخُمُسُهَا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَالْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ بِغَيْرِ قَهْرِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ (59: 6) الْآيَةَ وَهُوَ لِمَصَالِحِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ كَالْغَنِيمَةِ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ (النَّفْلُ) بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنَائِمِ لِمَصْلَحَةٍ اسْتَحَقَّهُ بِهَا قِيلَ: يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ (وَالسَّلَبُ) وَهُوَ مَا يُسْلَبُ مِنَ الْمَقْتُولِ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ وَثِيَابٍ، وَخَصَّهُ الشَّافِعِيُّ بِأَدَاةِ الْحَرْبِ يُعْطَى لِلْقَاتِلِ قِيلَ: مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَ (الصَّفِيُّ) وَكَانَ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَصْطَفِيَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ يَكُونُ سَهْمًا لَهُ خَاصًّا بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبْيِ أَوِ الْخَيْلِ أَوِ الْأَسْلِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ النَّفَائِسِ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِمَامٌ. (تَفْسِيرُ الْآيَةِ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هَذَا عَطْفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَ " أَنَّ مَا " رُسِمَتْ فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ مَوْصُولَةً هَكَذَا: أَنَّمَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ كَانَ بِهَا، وَلَكِنَّ أَهْلَ السَّيْرِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا شُرِعَتْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَمْ تُبَيَّنْ بِالصَّرَاحَةِ إِلَّا فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، قَالَ: ذَكَرَ لِي بَعْضُ آلِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُسَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللهُ الْخُمُسَ، فَعَزَلَ لَهُ الْخُمُسَ، وَقَسَّمَ سَائِرَ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ (قَالَ) : فَوَقَعَ رِضَا اللهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي بَدْرٍ وَغَنَائِمِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آيَةَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ تَفْرِقَةِ الْغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السِّيَرِ نَقَلُوا أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَسَمَهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَأَعْطَاهَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ أَوْ غَابَ لَعُذْرٍ تَكَرُّمًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ كَانَتْ أَوَّلًا بِنَصِّ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (قَالَ) : وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ حَدِيثُ عَلِيٍّ حَيْثُ قَالَ: وَأَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ: فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِيهَا خُمُسٌ اهـ. وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ إِلَخْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ عَقِبَ نَقْلِ عِبَارَةِ السُّبْكِيِّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ

قِسْمَةُ غَنَائِمِ بَدْرٍ وَقَعَتْ عَلَى السَّوَاءِ بَعْدَ أَنْ أُخْرِجَ الْخُمُسُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَفَادَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ إِلَى آخِرِهَا بَيَانَ مَصْرِفِ الْخُمُسِ لَا مَشْرُوعِيَّةَ أَصْلِ الْخُمُسِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَنَا دُونَ مَنْ قَبْلَنَا: وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا (8: 69) فَأَحَلَّ اللهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ غَنِيمَةِ السَّرِيَّةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَخَّرَ غَنِيمَةَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ بَدْرٍ اهـ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْخُمُسُ فِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غُنِمَتْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ غَنِيمَةُ الْغَزْوَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جُمْلَةِ السُّورَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالصَّوَابُ مَا حَقَّقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ: وَأَمَّا مَعْنَى الْغَنِيمَةِ فِي الشَّرْعِ فَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ مَالُ الْكُفَّارِ إِذَا ظَفِرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. قَالَ: وَلَا يَقْتَضِي فِي اللُّغَةِ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَلَكِنْ عَرَّفَ الشَّرْعُ قَيْدَ هَذَا اللَّفْظِ بِهَذَا النَّوْعِ. وَقَدِ ادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ (8: 1) حِينَ تَشَاجَرَ أَهْلُ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهَا - يَعْنِي آيَةَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَالُوا: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ مَكَّةَ وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ عَنْوَةً وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْسِمْهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا فَيْئًا. " وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ، وَمِمَّنْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالدَّاوُدِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ. بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ نَاسِخٌ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ لِكِتَابِ اللهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتْحِهَا. (قَالَ) :

وَأَمَّا قِصَّةُ حُنَيْنٍ فَقَدْ عَوَّضَ الْأَنْصَارَ - لَمَّا قَالُوا: يُعْطِي الْغَنَائِمَ قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ - نَفْسَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ بَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْتَقَ أَهْلَهَا فَقَالَ: " أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " وَأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُفْتَحُ عَنْوَةً لَا يَجِبُ قَسْمُهَا كَالْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، بَلْ يَعْمَلُ الْإِمَامُ فِيهَا بِمَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، دَعْ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ بِبَيْتِهِ وَشَعَائِرِ دِينِهِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُمَلَّكُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارَضٌ يَتَفَصَّى مِنْهُ بِالنَّسْخِ، فَالْأُولَى نَاطِقَةٌ بِأَنَّ الْأَنْفَالَ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِهِ، وَلِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ وَالْعَمَلِ وَالِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِيَةُ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ أَخْذِ خُمُسِ الْغَنَائِمِ، وَتَقْسِيمِهِ عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِيهَا. فَهِيَ إِذًا مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْأُولَى، وَمُفَسِّرَةٌ لَهَا لَا نَاسِخَةٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ الْوَاجِبُ فِيهِ أَنَّ خُمُسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ الْعَامَّةِ: كَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعِمَارَةِ الْكَعْبَةِ وَكِسْوَتِهَا، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ تَعَالَى، وَلِلرَّسُولِ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَنِسَائِهِ، وَكَانَ يُمَوِّنُهُنَّ إِلَى سَنَةٍ، وَلِذِي الْقُرْبَى أَيْ أَقْرَبِ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ إِلَيْهِ نَسَبًا وَوَلَاءً وَنُصْرَةً، وَهُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ كَمَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ وَلَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ رِزْقُهُمْ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَمْلٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ خَصَّ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أَخِيهِ الْمُطَّلِبِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَنِي أَخِيهِ الشَّقِيقِ بَلِ التَّوْءَمِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَخِيهِ لِأَبِيهِ نَوْفَلٍ، وَكُلُّهُمْ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَلِي ذَوِي الْقُرْبَى الْمُحْتَاجُونَ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - وَهُوَ مَنْ بَنِي نَوْفَلٍ - قَالَ مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ - إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الْخُمُسِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللهُ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا؟ " فَقَالَ: إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهْمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ اهـ. وَمِنْ هَذَا الِاتِّحَادِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْوَلَاءِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا كَتَبَتِ الصَّحِيفَةَ، وَأَخْرَجَتْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ مَكَّةَ، وَحَصَرَتْهُمْ فِي الشِّعْبِ لِحِمَايَتِهِمْ

لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دَخَلَ مَعَهُمْ فِيهِ بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ تَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَا بَنُو نَوْفَلٍ. وَمَعْلُومٌ مَا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ لِبَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَدْ ظَلَّ أَبُو سُفْيَانَ يُقَاتِلُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيُؤَلِّبُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى أَنْ أَظْفَرَ اللهُ رَسُولَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعَرَبُ بِفَتْحِ مَكَّةَ - وَمَعْلُومٌ مَا كَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِنْ خُرُوجِ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَلِيٍّ وَقِتَالِهِ إِلَخْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى: وَالْمُلَخَّصُ أَنَّ الْآيَةَ نَصَّتْ عَلَى اسْتِحْقَاقِ قُرْبَى النَّبِيِّ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ شَقِيقٌ، وَفِي نَوْفَلٍ إِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ قَرَابَةُ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي سَبَبِ إِخْرَاجِهِمْ فَقِيلَ: الْعِلَّةُ (أَيْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ) الْقَرَابَةُ مَعَ النُّصْرَةِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ لِفُقْدَانِ جُزْءِ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطِهَا، وَقِيلَ: الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَرَابَةِ، وَوُجِدَ بِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ مَانِعٌ، لِكَوْنِهِمُ انْحَازُوا عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَحَارَبُوهُمْ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقُرْبَى عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ اهـ. وَحِكْمَةُ تَقْسِيمِ الْخُمُسِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ أَنَّ الدَّوْلَةَ الَّتِي تُدِيرُ سِيَاسَةَ الْأُمَّةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَالٍ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَقْسَامٌ: أَوَّلُهَا مَا كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ كَشَعَائِرِ الدِّينِ، وَحِمَايَةِ الْحَوْزَةِ وَهُوَ مَا جُعِلَ لِلَّهِ فِي الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: مَا كَانَ لِنَفَقَةِ إِمَامِهِمْ وَرَئِيسِ حُكُومَتِهَا، وَهُوَ سَهْمُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: مَا كَانَ لِأَقْوَى عَصَبَتِهِ وَأَخْلَصِهِمْ لَهُ، وَأَظْهَرِهِمْ تَمْثِيلًا لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَهُوَ سَهْمُ أُولِي الْقُرْبَى. وَرَابِعُهَا: مَا يَكُونُ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأُمَّةِ وَهُمُ الْبَاقُونَ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا يَزَالُ مُرَاعًى، وَمَعْمُولًا بِهِ فِي أَكْثَرِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ مَعَ اخْتِلَافِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي يُرْصَدُ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ فَهُوَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعٌ، يَدْخُلُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ فِي مِيزَانِيَّةِ الْوِزَارَةِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهَا أَمْرُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي خُصِّصَ لَهَا الْمَالُ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْجَهْرِيَّةِ، وَإِلَّا وُكِّلَ إِلَى الْمُخَصَّصَاتِ السِّرِّيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَرْبِيَّةِ كَالتَّجَسُّسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَكَذَلِكَ رَاتِبُ مُمَثِّلِ الدَّوْلَةِ مِنْ مَلِكٍ أَوْ رَئِيسِ جُمْهُورِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَلَهُ عِنْدُهُمْ مَصَارِفُ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِشَخْصِهِ وَعِيَالِهِ، وَمِنْهَا مَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْإِعَانَاتِ لِلْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِعَظَمَةِ الدَّوْلَةِ وَمَكَانَتِهَا كَالْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي ضِيَافَةِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الَّذِينَ يَزُورُونَ عَاصِمَتَهُ، وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي قَصْرِهِ لِكُبَرَاءِ الْأَجَانِبِ، وَكُبَرَاءِ الْأُمَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ فِي الْعَالَمِ بِمَالٍ يُخْتَصُّ بِهِ؛ لِأَنَّ وَظَائِفَهُ

وَأَعْمَالَهُ لِلْأُمَّةِ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ، وَمَقَامَهُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَهُوَ عَنِ الْكَسْبِ وَالِاسْتِغْلَالِ أَبْعَدُ، وَأَوْقَاتُهُ عَنْهُمَا أَضْيَقُ. وَأُمَّا أُولُو الْقُرْبَى مِنْ أُسْرَةِ الْمَلِكِ فَلَا تَزَالُ تَخُصُّهُمْ بَعْضُ الدُّوَلِ بِرَوَاتِبَ لَائِقَةٍ بِهِمْ مِنْ مَالِ الدَّوْلَةِ، وَيُقَدِّمُونَ أَفْرَادَهُمْ فِي التَّشْرِيفَاتِ الرَّسْمِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الْكُبَرَاءِ كَمَا كَانَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَمَا هُوَ مَعْهُودٌ عِنْدَنَا فِي مِصْرَ حَتَّى بَعْدَ تَحْوِيلِ شَكْلِ الدَّوْلَةِ إِلَى الدُّسْتُورِيَّةِ الْبَرْلَمَانِيَّةِ فِيهِمَا. وَقَدْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مِثْلِ هَذَا طَبِيعَةً فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ أَيَّامَ كَانَ قِوَامُ الدَّوْلَةِ وَقُوَّتُهَا بِعَصَبِيَّةِ الْمَلِكِ وَعَلَى رَأْسِهَا أُسْرَتُهُ، وَالدَّوْلَةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ تُحَافِظُ دَائِمًا عَلَى ثَرْوَةِ رُءُوسِ الْبُيُوتَاتِ الَّتِي تُمَثِّلُ عَظَمَةَ الْأُمَّةِ وَعَلَى كَرَامَتِهِمْ وَهُمُ اللُّورْدَاتُ، لِيَظَلَّ فِيهَا سَرَوَاتٌ كَثِيرُونَ لَا يَشْغَلُهُمُ الْكَسْبُ عَنِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى شَرَفِهَا وَعَظَمَتِهَا، وَلَا يَزَالُ نِظَامُ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَقْرَبَ النُّظُمِ إِلَى التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ وَسِيَاسَتِهِ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْمَنَاطُ التَّشْرِيعِيُّ لِسَهْمِ أُولِي الْقُرْبَى هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ لَهُ بَعْضَ الْعِلَاقَةِ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ الَّتِي هِيَ الْمَنَاطُ الْأَصْلِيُّ الْمَنْصُوصُ فِي الْآيَةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ لَهُ مَنَاطًا آخَرَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الصَّدَقَةَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ تَكْرِيمًا لَهُمْ، وَهَذَا التَّكْرِيمُ لَهُمْ ذُو شَأْنٍ عَظِيمٍ فِي تَكْرِيمِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ نِظَامٌ يَكْفُلُ بَقَاءَ فَائِدَتِهِ بِجَعْلِهِمْ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ فِي الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَذِكْرَى أُسْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْمِلَّةِ، بَلْ أَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمُ السِّيَاسَةُ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَقُومَ عَلَى قَاعِدَةِ الشُّورَى، وَأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فِيهَا مُنْتَخَبًا مِنْ أَيِّ بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ التَّنَافُسُ فِي الْمُلْكِ الْمُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْقُرْبَى، وَأَنْ يَغْلِبَهُمُ النَّاسُ عَلَى حُقُوقِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ وَمَنَاصِبِ الدَّوْلَةِ، فَجُعِلَ لَهُمْ هَذَا الْحَقُّ فِي الْخُمُسِ تَشْرِيعًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ إِبْطَالُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْتَبِرُوا هَذِهِ الْمَعَانِيَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُفَكِّرُونَ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمِلِّيَّةِ، بَلْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ رُوحُ الْمُسَاوَاةِ، وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ حَتَّى أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ سَهْمَ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ بَعْدِهِ مَعَ بَقَاءِ تَحْرِيمِ مَالِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَارِسِيُّ الْأَصْلِ، كَمَا كَانَ أَكْثَرُ الْغُلَاةِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ أَنْصَارَ الشِّيعَةِ مِنَ الْفُرْسِ، وَمَا أَفْسَدَ عَلَى آلِ الْبَيْتِ أَمْرَ دُنْيَاهُمْ ثُمَّ أَمْرَ دِينِهِمْ بَعْدَ ذَهَابِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ، وَذَلِكَ أَنَّ زُعَمَاءَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ لَهُمْ، وَلَا لِدِينِهِمْ، بَلْ كَانُوا زَنَادِقَةً مِنَ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ يُرِيدُونَ

بِالْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ تَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْعَرَبِ، وَضَرْبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ لِإِسْقَاطِ مُلْكِهِمْ، وَلَا يَزَالُ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ يَلْعَنُونَ سَيِّدَنَا عُمَرَ الْخَلِيفَةَ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَزِيدُ آلَ الْبَيْتِ عَلَى الْخُمُسِ، وَيُفَضِّلُهُمْ حَتَّى عَلَى أَوْلَادِهِ، بَلْ لَمَّا كَانَ الدِّينُ هُوَ الْجَامِعُ لِكَلِمَةِ الْعَرَبِ حَاوَلُوا إِفْسَادَهُ أَيْضًا بِغُلُوِّهِمْ وَتَعَالِيمِهِمِ الْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَصَّلْنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ تَفْصِيلًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ، وَكَذَا فِي التَّفْسِيرِ - فَفَقَدَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ بِعَدَمِ وَضْعِ نِظَامٍ لِلْإِمَامَةِ، وَبِعَدَمِ كَفَالَةِ الدَّوْلَةِ لِآلِ بَيْتِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وُجُودَ طَائِفَةٍ مُنَظَّمَةٍ تَتَرَبَّى عَلَى آدَابِ الْإِسْلَامِ الْعُلْيَا وَعُلُومِهِ وَتَكَلُّفِ الدِّفَاعَ عَنْهُ، مَعَ اتِّقَاءِ فِتْنَتِهَا بِنَفْسِهَا، وَافْتِتَانِ النَّاسِ بِهَا بِالنِّظَامِ الْكَافِلِ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَهُلَ عَلَى الْأَعَاجِمِ سَلْبُ مُلْكِهَا، وَالْعَبَثُ بِدِينِهَا وَدُنْيَاهَا - وَحُرِمَتْ فَائِدَةَ سِيَادَةِ السَّرَوَاتِ وَالنُّبَلَاءِ، وَلَمْ تَسْلَمْ مِنْ فِتْنَتِهِمْ، فَقَدِ اتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْمُبْتَدِعُونَ آلَ الْبَيْتِ أَوْثَانًا، كَمَا اتَّخَذَ الْجَاهِلُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَعُلُوجُ الْأَعَاجِمِ خُلَفَاءَ وَمُلُوكًا، فَجَمَعُوا بَيْنَ شَرَّيْ مَفَاسِدِ الْغُلُوِّ فِي عَظَمَةِ النُّبَلَاءِ (الْأُرُسْتُقْرَاطِيَّةِ) شَرَّهَا الدِّينِيِّ وَشَرَّهَا الدُّنْيَوِيِّ، وَدَاسُوا الْمُسَاوَاةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُعْتَدِلَةَ (الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ) . وَأَمَّا الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَدُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ لَا تَجْعَلُ لَهُمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِ الدَّوْلَةِ بِهَذِهِ الْعَنَاوِينِ وَالْأَلْقَابِ، وَلَكِنَّ الدُّوَلَ الْمُنَظَّمَةَ الَّتِي تُعْنَى بِأُمُورِ الشَّعْبِ تُخَصِّصُ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ أَعْمَالًا يُرْزَقُونَ مِنْهَا مَالًا يَكْفِيهِمْ. وَبَعْضُ الْحُكُومَاتِ تُعْطِي هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ إِعَانَاتٍ مِنَ الْأَوْقَافِ الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي تَتَوَلَّى أَمْرَ اسْتِغْلَالِهَا، وَإِنْفَاقَ رِيعِهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ. هَذَا هُوَ الْمُدْرَكُ الظَّاهِرُ لِقِسْمَةِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَتَوْجِيهٌ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ نُظُمِ بَعْضِ حُكُومَاتِ الْعَصْرِ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ لِمَصَارِفِ الْخُمُسِ وَغَيْرِ الْخُمُسِ مِنْ أَمْوَالِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَلَّامَةُ الْهِنْدِيُّ الْأَكْبَرُ، الْمُلَقَّبُ بِمُجَدِّدِ الْأَلْفِ الثَّانِي عَشَرَ، الشَّيْخُ وَلِيُّ اللهِ الدَّهْلَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَاعْلَمْ) أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَأْخُوذَةَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَا حُصِّلَ مِنْهُمْ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَاحْتِمَالِ أَعْبَاءِ الْقِتَالِ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَمَا حُصِّلَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِهِمْ، وَمَا بَذَلُوا صُلْحًا أَوْ هَرَبُوا عَنْهُ فَزَعًا. فَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَيُصْرَفُ الْخُمُسُ إِلَى مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَيُوضَعُ سَهْمُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ وَالْغَنِيِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَعِنْدِي أَنَّهُ يُخَيَّرُ الْإِمَامَ فِي تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ، وَكَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَزِيدُ فِي فَرْضِ آلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيُعِينُ

الْمَدِينَ مِنْهُمْ وَالنَّاكِحَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَسَهْمُ الْيَتَامَى لِصَغِيرٍ فَقِيرٍ لَا أَبَ لَهُ، وَسَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَهُمْ، يُفَوَّضُ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ يَجْتَهِدُ فِي الْفَرْضِ، وَتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَفْعَلُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَيُقَسِّمُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ فِي الْغَانِمِينَ. يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ (أَوَّلًا) فِي حَالِ الْجَيْشِ، فَمَنْ كَانَ نَفْلُهُ أَوْفَقَ بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ نَفَلَ لَهُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: (أُولَاهَا) أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَبَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى قَرْيَةٍ مَثَلًا فَيَجْعَلُ لَهَا الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ رَفَعَ خُمُسَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ رُبُعَ مَا غَبَرَ أَوْ ثُلُثَهُ وَجَعَلَ الْبَاقِيَ فِي الْمَغَانِمِ. (وَثَانِيَتُهَا) أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ جُعْلًا لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا فِيهِ غَنَاءٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ طَلَعَ هَذَا الْحِصْنَ فَلَهُ كَذَا، مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ كَذَا، مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَإِنْ شَرَطَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَعْطَى مِنْهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ. (وَثَالِثَتُهَا) أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ لِعَنَائِهِ وَبَأْسِهِ كَمَا أَعْطَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، حَيْثُ ظَهَرَ مِنْهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ السَّلَبَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ بِجَعْلِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْقَتْلِ أَوْ تَنْفِيلِهِ بَعْدَهُ، وَيَرْفَعُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَخَ دُونَ السَّهْمِ لِلنِّسَاءِ يُدَاوِينَ الْمَرْضَى، وَيَطْبُخْنَ الطَّعَامَ، وَيُصْلِحْنَ شَأْنَ الْغُزَاةِ، وَلِلْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْإِمَامُ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ نَفْعٌ لِلْغُزَاةِ، وَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ كَانَ مَالَ مُسْلِمٍ ظَفِرَ بِهِ الْعَدُوُّ رُدَّ عَلَيْهِ بِلَا شَيْءٍ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي عَلَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَزِيدَ لِرُكْبَانِ الْإِبِلِ أَوْ لِلرُّمَاةِ شَيْئًا أَوْ يُفَضِّلُ الْعِرَابَ عَلَى الْبَرَاذِينِ بِشَيْءٍ دُونَ السَّهْمِ فَلَهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الرَّأْيِ، وَيَكُونُ أَمْرًا لَا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ، وَبِهِ يُجْمَعُ (بَيْنَ) اخْتِلَافِ سِيَرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ فِي الْبَابِ، وَمَنْ بَعَثَهُ الْأَمِيرُ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ كَالْبَرِيدِ وَالطَّلِيعَةِ وَالْجَاسُوسِ يُسْهَمُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ كَمَا كَانَ لِعُثْمَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. " وَأَمَّا الْفَيْءُ فَمَصْرِفُهُ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلَى قَوْلِهِ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ

(59: 7 - 10) وَلَمَّا قَرَأَهَا عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَصْرِفُهُ إِلَى الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ. " وَاخْتَلَفَتِ السُّنَنُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى الْأَعْزَبَ حَظًّا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَقْسِمُ لِلْحُرِّ وَلِلْعَبْدِ يَتَوَخَّى كِفَايَةَ الْحَاجَةِ، وَوَضَعَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الدِّيوَانَ عَلَى السَّوَابِقِ وَالْحَاجَاتِ، فَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَعِيَالُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَتَوَخَّى كُلٌّ الْمَصْلَحَةَ بِحَسَبِ مَا رَأَى فِي وَقْتِهِ. " وَالْأَرَاضِي الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامِ فِيهَا الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا فِي الْغَانِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ أَوْقَفَهَا عَلَى الْغُزَاةِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِخَيْبَرَ قَسَمَ نِصْفَهَا، وَوَقَفَ نِصْفَهَا، وَوَقَفَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَرْضَ السَّوَادِ، وَإِنْ شَاءَ أَسْكَنَهَا الْكُفَّارَ ذِمَّةً لَنَا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ، وَفَرَضَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى الْمُوسِرِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمَلِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ قَدْرَهُ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ يَفْعَلُ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ سِيَرُهُمْ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدِي فِي مَقَادِيرِ الْخَرَاجِ، وَجَمِيعِ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ سِيَرُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَخُلَفَائِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللهُ لَنَا الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ لِمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَيْثُ قَالَ: لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ فَضَلَّ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَالْأَصْلُ فِي الْمَصَارِفِ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمَقَاصِدِ أُمُورٌ (مِنْهَا) إِبْقَاءُ نَاسٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ لِزَمَانَةٍ أَوْ لِاحْتِيَاجِ مَالِهِمْ أَوْ بُعْدِهِ مِنْهُمْ. (وَمِنْهَا) حِفْظُ الْمَدِينَةِ عَنْ شَرِّ الْكُفَّارِ بِسَدِّ الثُّغُورِ وَنَفَقَاتِ الْمُقَاتِلَةِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ. (وَمِنْهَا) تَدْبِيرُ الْمَدِينَةِ وَسِيَاسَتُهَا مِنَ الْحِرَاسَةِ وَالْقَضَاءِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْحِسْبَةِ. (وَمِنْهَا) حِفْظُ الْمِلَّةِ بِنَصْبِ الْخُطَبَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْمُدَرِّسِينَ.

(وَمِنْهَا) مَنَافِعُ مُشْتَرَكَةٌ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْبِلَادَ عَلَى قِسْمَيْنِ، قِسْمٌ تَجَرَّدَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْحِجَازِ، أَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقِسْمٌ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْكُفَّارُ فَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِعَنْوَةٍ أَوْ صُلْحٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ جَمْعِ الرِّجَالِ، وَإِعْدَادِ آلَاتِ الْقِتَالِ، وَنَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحَرَسِ وَالْعُمَّالِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَامِلَةً وَافِرَةً. وَأَرَادَ الشَّرْعُ أَنْ يُوَزِّعَ بَيْتُ الْمَالِ الْمُجْتَمَعَ فِي كُلِّ بِلَادٍ عَلَى مَا يُلَائِمُهَا، فَجَعَلَ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ كِفَايَةُ الْمُحْتَاجِينَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمَصْرِفَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ مَا يَكُونُ فِيهِ إِعْدَادُ الْمُقَاتِلَةِ، وَحِفْظُ الْمِلَّةِ، وَتَدْبِيرُ الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ أَقَلَّ مِنْ سَهْمِهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَسَهْمَ الْغُزَاةِ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِهِمْ مِنْهَا. " ثُمَّ الْغَنِيمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِمُعَانَاةٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، فَلَا تَطِيبُ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِأَنْ يُعْطَوْا مِنْهَا، وَالنَّوَامِيسُ الْكُلِّيَّةُ الْمَضْرُوبَةُ عَلَى كَافَّةِ النَّاسِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حَالِ عَامَّةِ النَّاسِ، وَمِنْ ضَمِّ الرَّغْبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ إِلَى الرَّغْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَجِدُونَهُ بِالْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ. وَالْفَيْءُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالرُّعْبِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ عَلَى نَاسٍ مَخْصُوصِينَ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ فِيهِ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ. وَالْأَصْلُ فِي الْخُمُسِ أَنَّهُ كَانَ الْمِرْبَاعُ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُهُ رَئِيسُ الْقَوْمِ وَعَصَبَتُهُ، فَتَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي عُلُومِهِمْ، وَمَا كَادُوا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِنْهُ وَفِيهِ قَالَ الْقَائِلُ: وَإِنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ مِنْ كُلِّ غَارَةٍ ... تَكُونُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ التَّهَائِمِ فَشَرَعَ اللهُ تَعَالَى الْخُمُسَ لِحَوَائِجِ الْمَدِينَةِ وَالْمِلَّةِ نَحْوًا مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ، كَمَا أَنْزَلَ الْآيَاتِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ نَحْوًا مِمَّا كَانَ شَائِعًا ذَائِعًا فِيهِمْ. وَكَانَ الْمِرْبَاعُ لِرَئِيسِ الْقَوْمِ وَعَصَبَتِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِأَمْرِ الْعَامَّةِ مُحْتَاجُونَ إِلَى نَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَجَعَلَ اللهُ الْخُمُسَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْغُولٌ بِأَمْرِ النَّاسِ لَا يَتَفَرَّغُ أَنْ يَكْتَسِبَ لِأَهْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ حَصَلَتْ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالرُّعْبِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ فَكَانَ كَحَاضِرِ الْوَقْعَةِ، وَلِذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ حَمِيَّةً لِلْإِسْلَامِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ فِيهِمُ الْحَمِيَّةُ الدِّينِيَّةُ إِلَى الْحَمِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا فَخْرَ لَهُمْ إِلَّا بِعُلُوِّ دِينِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتِلْكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمِلَّةِ. وَإِذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالْقُرَّاءُ يَكُونُ تَوْقِيرُهُمْ تَنْوِيهًا بِالْمِلَّةِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيرُ ذَوِي الْقُرْبَى كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَلِلْمُحْتَاجِينَ وَضَبَطَهُمْ بِالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ

وَالْيَتَامَى - وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ، وَعَلَى هَذَا فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا وَالتَّوْكِيدِ أَلَّا يَتَّخِذَ الْخُمُسَ وَالْفَيْءَ أَغْنِيَاؤُهُمْ دُولَةً فَيُهْمِلُوا جَانِبَ الْمُحْتَاجِينَ، وَلِسَدِّ بَابِ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَرَابَتِهِ، وَإِنَّمَا شُرِعَتِ الْأَنْفَالُ وَالْأَرْضَاخُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا لَا يَقْدَمُ عَلَى مَهْلَكَةٍ إِلَّا لِشَيْءٍ يَطْمَعُ فِيهِ، وَذَلِكَ دَيْدَنٌ وَخُلُقٌ لِلنَّاسِ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ غَنَاءَ الْفَارِسِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ وَمُؤْنَتَهُ أَكْثَرُ، وَإِنْ رَأَيْتَ حَالَ الْجُيُوشِ لَمْ تَشُكَّ أَنَّ الْفَارِسَ لَا يَطِيبُ قَلْبُهُ، وَلَا تَكْفِي مُؤْنَتُهُ إِذَا جُعَلِتْ جَائِزَتُهُ دُونَ ثَلَاثَةِ أَضْعَافِ سَهْمِ الرَّاجِلِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ طَوَائِفُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ. " قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللهُ لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهَا ". (أَقُولُ) : عَرَفَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ الزَّمَانَ دُوَلٌ وَسِجَالٌ، فَرُبَّمَا ضَعُفَ الْإِسْلَامُ، وَانْتَثَرَ شَمْلُهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ فِي بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَمُحْتَدِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى هَتْكِ حُرُمَاتِ اللهِ وَقَطْعِهَا، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حَوَالَيْ دَارِ الْعِلْمِ وَمَحِلِّ بَيْتِ اللهِ. (وَأَيْضًا) الْمُخَالَطَةُ مَعَ الْكُفَّارِ تُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ، وَتُغَيِّرُ نُفُوسَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْمُخَالَطَةِ فِي الْأَقْطَارِ أَمَرَ بِتَنْقِيَةِ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُمْ. (وَأَيْضًا) انْكَشَفَ (لَهُ) ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: " إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ " الْحَدِيثَ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَاللهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. مِنْ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ. هَذَا - وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِذِكْرِ مُلَخَّصِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَكِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ نَقْلًا عَنْ فَتْحِ الْبَيَانِ لِعَدَمِ تَعَصُّبِهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ: " وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ: (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) : قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةٍ: فَيُجْعَلُ السُّدُسُ لِلْكَعْبَةِ

وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ. (وَالثَّانِي) لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. (وَالثَّالِثُ) لِذَوِي الْقُرْبَى. (وَالرَّابِعُ) لِلْيَتَامَى. (وَالْخَامِسُ) لِلْمَسَاكِينِ. (وَالسَّادِسُ) لِابْنِ السَّبِيلِ. (الْقَوْلُ الثَّانِي) قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: تُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٍ، وَيُقَسَّمُ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ يَضْرِبُ يَدَهُ فِي السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَهُ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلرَّسُولِ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي الْآيَةِ. (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) رُوِيَ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ لَنَا. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَقَالَ: يَتَامَانَا وَمَسَاكِينُنَا وَأَبْنَاءُ سَبِيلِنَا. (الْقَوْلُ الرَّابِعُ) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِنَّ سَهْمَ اللهِ وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. (الْقَوْلُ الْخَامِسُ) : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَوْتِهِ كَمَا ارْتَفَعَ حُكْمُ سَهْمِهِ. قَالَ: يَبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْجُنْدِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ. (الْقَوْلُ السَّادِسُ) قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي مِنْهُ الْغُزَاةَ بِاجْتِهَادِهِ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَبِهِ عَمِلُوا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمْهُ أَخْمَاسًا وَلَا أَثْلَاثًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا فِي الْآيَةِ مَنْ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمِّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (2: 215) وَجَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ أَنَّ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَجْعَلُ سَهْمَ اللهِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ وَطِيبِهَا، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْكَعْبَةُ، وَيَجْعَلُ سَهْمَ الرَّسُولِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَنَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَسَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِقَرَابَتِهِ يَضَعُهُ رَسُولُ اللهِ فِيهِمْ مَعَ سَهْمِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَلِلْيَتَامَى وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ يَضَعُهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَنْ شَاءَ وَحَيْثُ شَاءَ، لَيْسَ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْهُمِ (؟) وَلِرَسُولِ اللهِ سَهْمٌ مَعَ سِهَامِ النَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: الَّذِي لِلَّهِ

لِنَبِيِّهِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ لِأَزْوَاجِهِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ يُجَاءُ بِالْغَنِيمَةِ فَتُوضَعُ فَيَقْسِمُهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيَعْزِلُ سَهْمًا مِنْهَا، وَيَقْسِمُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ بَيْنَ النَّاسِ - يَعْنِي لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ - ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدِهِ فِي جَمِيعِ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ لِلَّهِ لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى بَقِيَّةِ السَّهْمِ فَيَقْسِمُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ كَلَامٍ، أَيْ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ فَيُقَسِّمُهُ كَيْفَ شَاءَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ سَهْمًا مِنْهُ لِلَّهِ مُفْرَدًا؛ لِأَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ قَالُوا: سَهْمُ اللهِ وَسَهْمُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، وَذِكْرُ اللهِ لِلتَّعْظِيمِ، فَجَعَلَ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، وَجَعَلَ سَهْمًا لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ لَا يُعْطِيهِ غَيْرَهُمْ. وَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأَسْهُمِ الْبَاقِيَةَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِرَاكِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَعَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا. وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبُعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّعِيفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ اهـ. وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ أَمْرَ هَذَا التَّخْمِيسِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا الْكَامِلِ فِي عُبُودِيَّتِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْمُثَبِّتِينَ لَكُمْ فِي الْقِتَالِ، وَالنَّصْرِ الْمُبِينِ عَلَى الْأَعْدَاءِ يَوْمَ الْفُرْقَانِ الَّذِي فَرَّقْنَا بِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ جَمْعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ - أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا ذُكِرَ إِيمَانَ إِيقَانٍ وَإِذْعَانٍ. وَقَدْ شَاهَدْتُمْ ذَلِكَ بِالْعِيَانِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرُكُمْ، كَمَا أَنَّهُ مَالِكُ أَمْرِكُمْ فِي سَائِرِ شُئُونِكُمْ، وَلِلرَّسُولِ الَّذِي هَدَاكُمْ بِهِ، وَفَضَّلَكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ إِلَخْ. فَيَجِبُ أَنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِ اللهِ فِي الْغَنَائِمِ كَغَيْرِهَا، وَبِقِسْمَةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الْإِذْعَانَ النَّفْسِيَّ وَالْعَمَلَ، قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفَرْقَانِ الَّتِي الْتَقَى الْجَمْعَانِ فِي صَبِيحَتِهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَكَانَ مِمَّا شَهِدْتُمْ مِنْ تَصْرِيفِ قُدْرَتِهِ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مَعَ

42

تَأْيِيدِ رَسُولِهِ، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ لَهُ، أَنْ نَصَرَكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَجُوعِكُمْ وَضَعْفِكُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْعَافِ عَدَدِكُمْ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى الْعُدْوَةُ مُثَلَّثَةُ الْعَيْنِ لُغَةً جَانِبُ الْوَادِي، وَهِيَ مِنَ الْعَدْوِ [كَالْغَزْوِ] الَّذِي مَعْنَاهُ التَّجَاوُزُ، وَقَدْ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِهَا، وَمِنْ غَيْرِ السَّبْعِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا بِفَتْحِهَا، وَالدُّنْيَا مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَالْقُصْوَى مُؤَنَّثُ الْأَقْصَى وَهُوَ الْأَبْعَدُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ، وَمَا أَنْزَلَنَا عَلَى عَبْدِنَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ مُرَابِطِينَ بِأَقْرَبِ الْجَانِبَيْنِ مِنَ الْوَادِي إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِيهِ الْمَاءُ، وَنَزَلَ الْمَطَرُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ بَيَانِ فَوَائِدِهِ، وَالْأَعْدَاءُ فِي الْجَانِبِ الْأَبْعَدِ عَنْهَا، وَلَا مَاءَ فِيهِ، وَأَرْضُهُ رَخْوَةٌ تَسُوخُ فِيهَا الْأَقْدَامُ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الْمُرَادُ بِالرَّكْبِ الْعِيرُ الَّتِي خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ لِلِقَائِهَا، إِذْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَادِمًا بِهَا مِنَ الشَّامِ أَوْ أَصْحَابُهَا، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ رَاكِبٍ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الرَّكْبَ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِكُمْ، وَهُوَ سَاحِلُ الْبَحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِالْتِقَاءِ الْجَمْعَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخَذَ الْعِيرَ فِي نَاحِيَةِ الْبَحْرِ لَتَبِعُوهَا وَمَا الْتَقَوْا هُنَاكَ بِالْكُفَّارِ، وَلَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ أَيْ: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَهُمُ التَّلَاقِيَ لِلْقِتَالِ هُنَالِكَ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، لِكَرَاهَتِكُمْ لِلْحَرْبِ عَلَى قَتْلِكُمْ، وَعَدَمِ إِعْدَادِكُمْ شَيْئًا مِنَ الْعُدَّةِ لَهَا، وَانْحِصَارِ هِمَمِكُمْ فِي أَخْذِ الْعِيرِ، وَلِأَنَّ غَرَضَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَانَ إِنْقَاذَ الْعِيرِ دُونَ الْقِتَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا يَأْمَنُوا نَصْرَ اللهِ لَهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَ أَكْثَرِهِمْ بِهِ كَانَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا لَا اعْتِقَادًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ بَيَانُ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُقْتَضِي لِاخْتِلَافِ الْمِيعَادِ لَوْ حَصَلَ، وَلِإِرَادَةِ اللهِ هَذَا التَّلَاقِيَ وَتَقْدِيرِ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا أَيْ: وَلَكِنْ تَلَاقَيْتُمْ هُنَالِكَ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، وَلَا رَغْبَةٍ فِي الْقِتَالِ، لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ ثَابِتًا فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنَّهُ وَاقِعٌ مَفْعُولٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْقِتَالُ الْمُفْضِي إِلَى خِزْيِهِمْ وَنَصْرِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ، لِيَتَرَتَّبَ عَلَى قَضَاءِ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْكُفَّارِ عَنْ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ عَلَى حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ، بِإِنْجَازِ وَعْدِهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمِنْ مَعَهُ، بِحَيْثُ تَنْفِي الشُّبْهَةَ، وَتَقْطَعُ لِسَانَ الِاعْتِذَارِ عِنْدَ اللهِ عِنْدَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بَيِّنَةٍ قَطْعِيَّةٍ حِسِّيَّةٍ، كَذَلِكَ فَيَزْدَادُوا يَقِينًا بِالْإِيمَانِ، وَنَشَاطًا فِي الْأَعْمَالِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ حَيِيَ (كَتَعِبَ)

بِفَكِّ الْإِدْغَامِ وَالْبَاقُونَ بِإِدْغَامِ الْيَاءِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْحَيَاةِ هُنَا يَشْمَلُ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ مِنْهُمَا. وَقَدْ عُرِفَ مَعْنَاهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (8: 24) . وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَلَا مِنْ عَقَائِدِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَهُوَ يَسْمَعُ مَا يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ عَقِيدَتِهِ، وَالْأَعْذَارِ الَّتِي يَعْتَذِرُ بِهَا عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي أَعْمَالِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يُخْفِيهِ وَيُكِنُّهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، فَيُجَازِي كُلًّا بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَمَا يَسْمَعُ مِنْهُ - وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذَا الْفُرْقَانَ الَّذِي رَتَّبَهُ اللهُ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ قَامَتْ بِهِ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ كَمَا بَشَّرَهُمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ حُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِخِذْلَانِهِمْ، وَانْكِسَارِهِمْ كَمَا أَنْذَرَهُمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْمُكَابَرَةِ فِيهَا وَلَا لِلتَّأْوِيلِ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا قَوْلُهُ: إِذْ يُرِيكَهُمُ هُنَا كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا كِلَاهُمَا بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْفُرْقَانِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَى رَسُولَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ رُؤْيَا مَنَامِيَّةً مَثَّلَ لَهُ فِيهَا عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا، فَأَخْبَرَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَقَوِيَتْ آمَالُهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَلَّا تَرَى فِي دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ أَيْ: أَحْجَمْتُمْ وَنَكَلْتُمْ عَنْ لِقَائِهِمْ بِشُعُورِ الْجُبْنِ وَالضَّعْفِ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أَيْ: وَلَوَقَعَ بَيْنَكُمُ النِّزَاعُ، وَتَفَرُّقُ الْآرَاءِ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، فَمِنْكُمُ الْقَوِيُّ الْإِيمَانِ وَالْعَزِيمَةِ يَقُولُ: نُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَنُقَاتِلُ، وَمِنْكُمُ الضَّعِيفُ الَّذِي يُثَبِّطُ عَنِ الْقِتَالِ بِمِثْلِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جَادَلُوا بِهَا الرَّسُولَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ (8: 6) الْآيَةَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، وَأَنَّهَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَحْيِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدَّرَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ بِأَلْفٍ، وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ عَدَدَهُمْ 313، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ مَعَ هَذَا أَنَّهُ رَآهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا لَا أَنَّهُمْ قَلِيلٌ فِي الْوَاقِعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا الرُّؤْيَا بِأَنَّ بَلَاءَهُمْ يَكُونُ قَلِيلًا، وَأَنَّ كَيْدَهُمْ يَكُونُ ضَعِيفًا، فَتَجَرَّءُوا وَقَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ أَيْ: سَلَّمَكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَعَوَاقِبِ ذَلِكَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا فِي الْقُلُوبِ الَّتِي فِي الصُّدُورِ مِنْ شُعُورِ الْجُبْنِ وَالْجَزَعِ الَّذِي تَضِيقُ بِهِ فَتَنْكُلُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِتَالِ، وَمِنْ شُعُورِ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ الَّذِي يَبْعَثُ فِيهَا طُمَأْنِينَةَ الشَّجَاعَةِ، وَالصَّبْرَ فَيَحْمِلُهَا عَلَى الْإِقْدَامِ، فَيُسَخِّرُ لِكُلٍّ مِنْهَا الْأَسْبَابَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا

44

قَوْلُهُ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي مَعْنَاهُ فَجُمِعَ مَعَهُ وَاتَّصَلَ بِهِ - بِخِلَافِ " إِذْ " - فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْصُولَةٌ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ. وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَالرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَهُمْ. فَالْمَعْنَى: وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيكُمُ اللهُ الْكُفَّارَ - عِنْدَ التَّلَاقِي مَعَهُمْ - قَلِيلًا بِمَا أَوْدَعَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِهِ لَكُمْ، وَبِتَثْبِيتِكُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، وَمِنِ احْتِقَارِهِمْ وَالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِقِلَّتِكُمْ بِالْفِعْلِ، وَلِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ. حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّمَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَكْلَةُ جَزُورٍ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: نَتَغَدَّاهُمْ وَنَتَعَشَّاهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَزُورًا. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِيَقْدَمَ كُلٌّ مِنْكُمْ عَلَى قِتَالِ الْآخَرِ: هَذَا وَاثِقًا بِنَفْسِهِ، مُدِلًّا بِبَأْسِهِ. وَهَذَا مُتَّكِلًا عَلَى رَبِّهِ، وَاثِقًا بِوَعْدِهِ، حَتَّى إِذَا مَا الْتَقَيْتُمْ ثَبَّتَكُمْ وَثَبَّطَهُمْ، فَيَقْضِي بِإِظْهَارِكُمْ عَلَيْهِمْ أَمْرًا كَانَ فِي عِلْمِهِ مَفْعُولًا، فَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَقَدَّرَهَا تَقْدِيرًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَفْعُولِ غَيْرَ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ وَإِنْ سَهُلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ بِاعْتِبَارِ مَبْدَأِ الْأَمْرِ وَغَايَتِهِ، وَحُسْنِ تَأْثِيرِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْفَرِيقَيْنِ عَظِيمًا، فَإِنَّ تَكْرَارَ مَا تَقْتَضِي الْحَالُ تَكْرَارَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبَلَاغَةِ، وَمَقْصِدٌ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِهَا، خِلَافًا لِمَا زَعَمَ مُتَنَطِّعُو الْمُحَسِّنَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَلَا يُنَفَّذُ شَيْءٌ فِي الْعَالِمِ إِلَّا مَا قَضَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ أَسْبَابَهُ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ قَائِمَانِ بِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، فَهُوَ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَذْهَانِ مَا أَرَادَهُ بِتَأْثِيرِ مَنَامِ الرَّسُولِ، وَبِتَقْلِيلِ كُلٍّ مِنَ الْجَمْعَيْنِ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَتِّبَهُمَا عَلَى هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ نَاطَ كُلَّ شَيْءٍ بِسَبَبٍ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ آيَاتِهِ لِرُسُلِهِ وَتَوْفِيقِهَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ يَكُونَانِ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ لَهُمْ، وَمُوَافَقَةِ اجْتِهَادِهِمْ وَكَسْبِهِمْ لِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ غَيْبِيَّةٍ كَتَأْيِيدِ الْمَلَائِكَةِ وَتَثْبِيبِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

45

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا هُوَ النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ السَّادِسُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ فِي إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْمُقَاتِلِينَ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْغَالِبُ لِلنَّصْرِ وَالظَّفَرِ. وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ، وَغَلَبَتْ فِي جَمَاعَةِ الْمُقَاتِلِينَ وَالْحُمَاةِ النَّاصِرِينَ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ (4: 88) فَإِنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِوُجُوبِ قِتَالِهِمْ، لِظُهُورِ نِفَاقِهِمْ وَبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِضِدِّهِ، فَهِيَ فِي مَوْضُوعِ الْقِتَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ (18: 43) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَاللِّقَاءُ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي لِقَاءِ الْقِتَالِ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ. وَتَبِعَهُ كَثِيرُونَ وَكَوْنُ اللِّقَاءِ هُنَا لِفِئَةٍ يُعَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى الْغَالِبَ، وَيُبْطِلُ احْتِمَالَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً مِنْ أَعْدَائِكُمُ الْكُفَّارِ، وَكَذَا الْبُغَاةِ فِي الْقِتَالِ فَاثْبُتُوا لَهُمْ، وَلَا تَفِرُّوا مِنْ أَمَامِهِمْ - وَلَمْ يَصِفِ الْفِئَةَ لِلْعِلْمِ بِوَصْفِهَا مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا الْكُفَّارَ أَوِ الْبُغَاةَ - فَإِنَّ الثَّبَاتَ قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ طَالَمَا كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ الْأَخِيرُ لِلنَّصْرِ وَالْغَلَبِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْجُيُوشِ: يَتَصَارَعُ الرَّجُلَانِ الْجَلْدَانِ فَيَعْيَا كُلٌّ مِنْهُمَا، وَتَضْعُفُ مِنَّتُهُ، وَيَتَوَقَّعُ فِي كُلِّ لَحْظَةِ أَنْ يَقَعَ صَرِيعًا فَيَخْطُرُ لَهُ أَنَّ خَصْمَهُ رُبَّمَا وَقَعَ قَبْلَهُ فَيَثْبُتُ، حَتَّى يَكُونَ بِثَبَاتِ الدَّقِيقَةِ الْأَخِيرَةِ هُوَ الصُّرْعَةُ الظَّافِرُ، وَكَذَلِكَ كَانَ جِلَادُ فَرِيقَيْ دُوَلِ أُورُبَّةَ فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ. فَقَدْ كَلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ نُقُودِهِ، وَنَقَصَ عَتَادُ حَرْبِهِ، وَوَهَنَتْ قُوَى جُنُودِهِ، وَمَادَّةُ غِذَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " إِلَى السَّاعَةِ الْأَخِيرَةِ " حَتَّى كَانَ فَرِيقُ الْحِلْفِ الْبِرِيطَانِيِّ الْفِرَنْسِيِّ وَمِنْ مَعَهُ يَسْتَغِيثُ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ، وَيَسْأَلُونَهَا تَعْجِيلَ الْغَوْثِ بِالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، لَا بِالشُّهُورِ وَالْأَسَابِيعِ، ثُمَّ كَانَ لَهُ الْغَلَبُ بِأَسْبَابٍ أَهَمُّهَا وَآخِرُهَا الثَّبَاتُ، وَعَدَمُ الْيَأْسِ مِمَّا ذَاقُوا مِنْ بَأْسٍ. فَالْحِلْفُ الْأَلْمَانِيُّ فِي الْحَرْبِ وَمُخْتَرَعَاتُهُمْ فِيهَا مِنَ الْمَدَافِعِ الضَّخْمَةِ وَالطَّيَّارَاتِ تُمْطِرُهُمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، وَالْغَوَّاصَاتُ تَنْسِفُ بَوَاخِرَهُمْ وَبَوَارِجَهُمْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهَا إِلَخْ. وَكَذَلِكَ يُفِيدُ الثَّبَاتُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْبَشَرِ فَهُوَ وَسِيلَةُ النَّجَاحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا أَيْ: وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَتَضَاعِيفِهِ، اذْكُرُوهُ فِي قُلُوبِكُمْ بِذِكْرِ قُدْرَتِهِ، وَوَعْدِهِ بِنَصْرِ رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَنَصْرِ كُلِّ مَنْ يَتَّبِعُ سُنَنَهُمْ بِنَصْرِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَبِذِكْرِ نَهْيِهِ لَكُمْ عَنِ الْيَأْسِ مَهْمَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَبِأَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، فَمَنْ ذَكَرَ هَذَا، وَتَأَمَّلَ فِيهِ لَا تَهُولُهُ قُوَّةُ عَدُوِّهِ وَاسْتِعْدَادُهُ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْوَى مِنْهُ - وَاذْكُرُوهُ أَيْضًا بِأَلْسِنَتِكُمْ مُوَافَقَةً لِقُلُوبِكُمْ بِمِثْلِ التَّكْبِيرِ الَّذِي

تَسْتَصْغِرُونَ بِمُلَاحَظَةِ مَعْنَاهُ كُلَّ مَا عَدَاهُ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ هَذَا الرَّجَاءُ مَنُوطٌ بِالْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، أَيْ: إِنَّ الثَّبَاتَ وَذِكْرَ اللهِ تَعَالَى هُمَا السَّبَبَانِ الْمَعْنَوِيَّانِ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ فِي الْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثَالَهُ مِنَ الْوَقَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَأَمْثِلَتُهُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ، وَمِنْ أَظْهَرِهَا مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِيَاقِهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ بِجُمْلَتِهَا فِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِ اللهِ فِيهِ وَهُوَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَمْتَرُونَ فِي كَوْنِ الْإِيمَانِ - وَلَا سِيَّمَا الصَّحِيحُ وَهُوَ إِيمَانُ التَّوْحِيدِ الْخَالِي مِنَ الْخُرَافَاتِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي الشَّدَائِدِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ - مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ صَارَ مَعْرُوفًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَفَلْسَفَةِ التَّارِيخِ، وَعِلْمِ النَّفْسِ وَعِنْدَ قُوَّادِ الْجُيُوشِ، وَزُعَمَاءِ السِّيَاسَةِ، وَمِمَّا ذَكَرُوا مِنْ أَسْبَابِ فَلْجِ الْبُوَيْرِ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ فِي حَرْبِ التِّرِنْسِفَالِ أَنَّ التَّدَيُّنَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الْجُنُودِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ. وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِصَارِ الْجَيْشِ الْبُلْغَارِيِّ عَلَى الْجَيْشِ التُّرْكِيِّ فِي حَرْبِ الْبَلْقَانِ الْمَشْهُورَةِ، مَا كَانَ مِنْ إِبْطَالِ الْقُوَّادِ وَالضُّبَّاطِ مِنَ التَّرْكِ لِلْآذَانِ وَالصَّلَاةِ مِنَ الْجَيْشِ، وَالدَّعَايَةِ الَّتِي بَثُّوهَا فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الْحَرْبِ لِلْوَطَنِ، وَبِاسْمِ الْوَطَنِ، وَلِشَرَفِ الْوَطَنِ - فَلَمَّا عَلِمُوا بِهَذَا أَعَادُوا الْمُؤَذِّنِينَ وَالْأَئِمَّةَ بِعَمَائِمِهِمْ إِلَى كُلِّ تَابُورٍ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ فِيهِمْ. وَقَدْ رَوَتِ الْجَرَائِدُ أَنَّ الْعَسَاكِرَ لَمَّا سَمِعَتِ الْأَذَانِ صَارَتْ تَبْكِي بُكَاءً بِنَشِيجٍ عَالٍ كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ بِعَوْدِ الْكَرَّةِ لَهُمْ عَلَى الْبُلْغَارِ ظَاهِرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَنَارِ كُلَّ وَاحِدٍ فِي وَقْتِهِ، وَسَوْفَ يَرَى التُّرْكُ سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِ حُكُومَتِهِمْ، وَمُحَاوَلَتِهَا إِفْسَادَ دِينِ شَعْبِهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي (ص846 و847) مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الْأَوَّلِ حَدِيثًا لِلْبِرِنْسِ بِسْمَارِكَ وَزِيرِ أَلْمَانْيَةَ وَمُؤَسِّسِ وَحْدَتِهَا، الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ زَعَامَةُ السِّيَاسَةِ وَالتَّفَوُّقِ فِي أُورُبَّةَ عَلَى جَمِيعِ سَاسَةِ الْأُمَمِ فِي عَصْرِهِ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ الشَّعْبِ ذَلِكَ الشُّعُورُ الَّذِي يَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمَلٌ فِي الْمُكَافَأَةِ، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: " ذَلِكَ لِمَا اسْتَكَنَّ فِي الضَّمَائِرِ مِنْ بَقَايَا الْإِيمَانِ، ذَلِكَ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ وَاحِدًا مُهَيْمِنًا يَرَاهُ وَهُوَ يُجَالِدُ وَيُجَاهِدُ وَيَمُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِدُهُ يَرَاهُ ". فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: أَتَظُنُّ سَعَادَتُكُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ يُلَاحِظُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ؟ فَأَجَابَهُ الْبِرِنْسُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُلَاحَظَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ شُعُورٌ وَوِجْدَانٌ، هُوَ بَوَادِرُ

46

تَسْبِقُ الْفِكْرَ، هُوَ مَيْلٌ فِي النَّفْسِ وَهَوًى فِيهَا كَأَنَّهُ غَرِيزَةٌ لَهَا - وَلَوْ أَنَّهُمْ لَاحَظُوا لَفَقَدُوا ذَلِكَ الْمَيْلَ وَأَضَلُّوا ذَلِكَ الْوِجْدَانَ. " هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَعِيشُ قَوْمٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِتَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ كَيْفَ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِيمَانٌ بِدِينٍ جَاءَ بِهِ وَحْيٌ سَمَاوِيٌّ، وَاعْتِقَادٌ بِإِلَهٍ يُحِبُّ الْخَيْرَ، وَحَاكِمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْفَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ . ثُمَّ سَاقَ الْوَزِيرُ كَلَامَهُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ وَهُوَ الْكَلَامُ عَنْ نَفْسِهِ، فَشَرَحَ لِلْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُ لَوْلَا إِيمَانُهُ بِاللهِ وَبِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ لَمَا كَانَ يَخْدُمُ سُلْطَانَهُ وَحُكُومَتَهُ، وَلَمَا أَجْهَدَ نَفْسَهُ بِتَأْسِيسِ الْوَحْدَةِ الْأَلْمَانِيَّةِ، وَتَشْيِيدِ عَظَمَتِهَا، وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ الْعِيشَةَ الْخَلَوِيَّةَ فِي مَزَارِعِهِ عَلَى خِدْمَةِ الْقَيْصَرِ (الْإِمْبِرَاطُورِ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ جُمْهُورِيٌّ بِالطَّبْعِ إِلَخْ. وَالشَّاهِدُ فِي كَلَامِهِ تَأْثِيرُ الْإِيمَانِ فِي الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا زِدْنَا هَذَا مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَلَاحِدَتِنَا دُعَاةِ التَّجْدِيدِ بِتَرْكِ الدِّينِ اتِّبَاعًا بِزَعْمِهِمُ الْكَاذِبِ لِأَهْلِ أُورُبَّةَ. هَذَا وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ، وَوَصَفَ الصَّادِقِينَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِقِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ غِذَاءُ الْإِيمَانِ فَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِكَثْرَتِهِ، فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ، وَزَيَّنَ لَهُ الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ كَلِمَةٌ بَلِيغَةٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ هُنَا وَفِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ قَالَ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَلَّا يَفْتُرَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ قَلْبًا، وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ هَمًّا، وَأَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ مُجْتَمِعَةً لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَزِّعَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي خُطَبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ، وَفِي مَشَاهِدِهِ مَعَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ، وَلَطَائِفِ الْمَعَانِي، وَبَلِيغَاتِ الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ شَاغِلٌ وَإِنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ اهـ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَطِيعُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْأَوَامِرِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى أَسْبَابِ الْفَلَاحِ فِي الْقِتَالِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَطِيعُوا رَسُولَهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ شُئُونِ الْقِتَالِ وَغَيْرِهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِكَلَامِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَالْمُنَفِّذُ لَهُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ الْقِيَادَةِ الْعَامَّةِ فِي الْقِتَالِ، فَطَاعَةُ الْقَائِدِ الْعَامِّ هِيَ جِمَاعُ النِّظَامِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الظَّفَرِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقَائِدُ الْعَامُّ رَسُولَ اللهِ الْمُؤَيَّدَ مِنْ لَدُنْهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْمُشَارِكَ لَكُمْ فِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ، كَمَا ثَبَتَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ثُمَّ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرُّمَاةَ عِنْدَمَا خَالَفُوا أَمْرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ

كَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مَا نَالُوا مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمُ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ. وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي اسْتِغْرَابِهِمْ لِذَلِكَ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) . وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ هَذَا النَّهْيُ مُسَاقٌ لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَبِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ، وَمُتِمٌّ لِلْغَرَضِ مِنْهُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ مَدْعَاةُ الْفَشَلِ، وَهُوَ الْخَيْبَةُ وَالنُّكُولُ عَنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الضَّعْفُ وَالْجُبْنُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِهِمَا، وَأَصْلُ التَّنَازُعِ كَالْمُنَازَعَةِ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّزْعِ، وَهُوَ الْجَذْبُ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ أَوْ لُطْفٍ كَنَزْعِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَنَزْعِ السُّلْطَانِ الْعَامِلَ مِنْ عَمَلِهِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ مَا عِنْدَ الْآخَرِ مِنْ رَأْيٍ وَيُلْقِي بِهِ - أَوْ مِنْ نَزَعَ إِلَى الشَّيْءِ نُزُوعًا إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَمْرِ يَمِيلُ إِلَى غَيْرِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَهَذَا أَظْهَرُ هُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَمَعْنَاهُ تَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ، وَتَرْتَخِي أَعْصَابُ شِدَّتِكُمْ فَيَظْهَرُ عَدُوُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ بِمَعْنَى الْهَوَاءِ، وَتُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهَا تُهَيِّجُ الْبِحَارَ، وَتَقْتَلِعُ أَكْبَرَ الْأَشْجَارِ، وَتَهْدِمُ الدُّورَ وَالْقِلَاعَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: تُسْتَعَارُ لِلدَّوْلَةِ، لِشَبَهِهَا بِهَا فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا. وَيَقُولُونَ: هَبَّتْ " رِيَاحُ فُلَانٍ " إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ، وَجَرَى أَمْرُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ. كَمَا يَقُولُونَ رَكَدَتْ رِيحُهُ أَوْ رِيَاحُهُ إِذَا ضَعُفَ أَمْرُهُ وَوَلَّتْ دَوْلَتُهُ. وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أَيْ: وَاصْبِرُوا عَلَى مَا تَكْرَهُونَ مِنْ شِدَّةٍ، وَمَا تُلَاقُونَ مِنْ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَاسْتِعْدَادِهِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، وَرَبْطِ الْجَأْشِ وَالتَّثْبِيتِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، فَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 153) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا هُنَالِكَ (ص 30 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) بَلْ يُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا (ص27 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَكَذَا تَفْسِيرُ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (2: 45) قَبْلَهَا (ص 248 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 ط الْهَيْئَةِ) وَهُنَالِكَ تَفْسِيرُ كَلِمَةِ الصَّبْرِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَلَا سِيَّمَا الْقِتَالِ.

47

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ جَلَائِلِ الصِّفَاتِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الظَّفَرِ فِي الْقِتَالِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ - نَهَاهُمْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ خُصُومُهُمْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ خَرَجُوا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ مِنَ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ أَحْوَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ الْبَطَرُ كَالْأَشَرِ، وَهُمَا مَصْدَرُ بَطِرَ وَأَشِرَ (كَفَرِحَ) ضَرْبٌ مِنْ إِظْهَارِ الْفَخْرِ، وَالِاسْتِعْلَاءِ بِنِعْمَةِ الْقُوَّةِ أَوِ الْغِنَى أَوِ الرِّيَاسَةِ، يُعْرَفُ فِي الْحَرَكَاتِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَالْكَلَامِ الشَّاذِّ - وَيُفَسِّرُ اللُّغَوِيُّونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ - وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبَطَرُ: دَهَشٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ سُوءِ احْتِمَالِ النِّعْمَةِ، وَقِلَّةِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا - ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ الْبَطَرُ الطَّرَبُ، وَهُوَ خِفَّةُ أَكْثَرِ مَا يَعْتَرِي مِنَ الْفَرَحِ، وَقَدْ يُقَالُ ذَلِكَ فِي التَّرَحِ. اهـ. وَالرِّئَاءُ مَصْدَرُ رَاءَى زَيْدٌ عَمْرًا وَرَاءَى النَّاسُ مُرَآةً وَرِئَاءً - وَتُقْلَبُ الْهَمْزَةُ يَاءً فَيُقَالُ: رِيَاءٌ كَأَمْثَالِهِ - وَهُوَ بِنَاءُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَرْءُ مَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مِنْهُ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِ، وَيَعْجَبُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَبُّسًا ظَاهِرًا غَيْرَ بَاطِنِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِظْهَارُ الْحُسْنِ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ أَيْ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ وَالْإِعْجَابِ. وَالْمَعْنَى: امْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَلَا تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي اسْتَنْفَرَهُمْ

مِنْهَا أَبُو سُفْيَانَ - بَطِرِينَ بِمَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ وَنِعَمٍ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا، أَوْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللهِ - مُرَائِينَ لِلنَّاسِ بِهَا، لِيُعْجَبُوا بِهِمْ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالْغِنَى وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْمَنَعَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ الْإِسْلَامُ - بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ تَبْلِيغِ دَعَوْتِهِ، وَتَعْذِيبِ مَنْ أَجَابَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُمْ وَيَحْمِيهِمْ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ حِلْفٍ أَوْ جِوَارٍ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عِلْمًا وَسُلْطَانًا، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى صِفَاتِ النَّفْسِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ مَعَالِمَ التَّنْزِيلِ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَقْبَلُوا إِلَى بَدْرٍ، وَلَهُمْ بَغْيٌ وَفَخْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " اللهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللهُمَّ فَنَصْرَكُ الَّذِي وَعَدْتَنِي " قَالُوا: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ فَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ فَارْجِعُوا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا - وَكَانَ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ - فَنُقِيمُ ثَلَاثًا فَنَنْحَرُ الْجَزُورَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَنَسْقِي الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا. فَوَافَوْهَا فَسُقُوا كُئُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقِيَانِ. فَنَهَى الله عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ بِمَا أَلْقَاهُ فِي هَوَاجِسِهِمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، لَا أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ الضُّعَفَاءَ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَأَنْتُمْ أَعَزُّ نَفَرًا وَأَكْثَرُ نَفِيرًا، وَأَعْظَمُ بَأْسًا، وَإِنِّي مَعَ هَذَا - أَوْ وَالْحَالُ أَنِّي - جَارٌ لَكُمْ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ فِيمَا يَظُنُّونَ أَنَّهَا قُرُبَاتٌ مُجِيرٌ لَهُمْ حَتَّى قَالُوا: اللهُمَّ انْصُرْ أَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَفْضَلَ الدِّينَيْنِ اهـ. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ أَيْ فَلَمَّا قَرَّبَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُقَاتِلَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَصَارَ بِحَيْثُ يَرَاهُ وَيَعْرِفُ حَالَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَيَصْطَلِيَ نَارَ الْقِتَالِ مَعَهُ، نَكَصَ أَيْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَتَوَلَّى إِلَى الْوَرَاءِ وَهُوَ جِهَةُ الْعَقِبَيْنِ (أَيْ مُؤَخِّرَيِ الرِّجْلَيْنِ) وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرَائِي التَّلَاقِي، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَفَّ عَنْ تَزْيِينِهِ لَهُمْ وَتَغْرِيرِهِ إِيَّاهُمْ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ وَسْوَسَتِهِ بِمَا ذُكِرَ بِحَالِ الْمُقْبِلِ عَلَى الشَّيْءِ، وَتَرْكِهَا بِحَالِ مَنْ يَنْكُصُ عَنْهُ، وَيُوَلِّيهِ دُبُرَهُ. ثُمَّ زَادَ عَلَى هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْهُمْ، وَتَرْكِهِ هُمْ وَشَأْنُهُمْ، وَهُوَ: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ أَيْ: تَبَرَّأَ

48

مِنْهُمْ وَخَافَ عَلَيْهِمْ، وَأَيِسَ مِنْ حَالِهِمْ لَمَّا رَأَى إِمْدَادَ اللهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَلَائِكَةِ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَغْرِيرِهِ بِهِمْ قَبْلَ تَقَابُلِ الصُّفُوفِ، وَتَرَائِي الزُّحُوفِ وَبِتَخَلِّيهِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَخَرَّجَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ فِي الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَقَالَ مَا قَالَ فِي نَفْسِهِ لَا لَهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ لَهُ حَتَّى فِي خِطَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ (59: 16) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا الْتَقَوْا، وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ - الْآيَةَ. وَمِثْلَهُ قَالَ الْحَسَنُ. أَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ كَانُوا مُنْبَثِّينَ فِي الْمُشْرِكِينَ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَا يُغْرِيهِمْ وَيَغُرُّهُمْ، كَمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ مُنْبَثِّينِ فِي الْمُؤْمِنِينَ يُلْهِمُونَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الطَّيِّبَةِ مَا يُثَبِّتُونَ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ (8: 12) إِلَخْ. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، وَأَوْشَكَ أَنْ يَتَلَاحَمَا فَرَّ الشَّيْطَانُ بِجُنُودِهِ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ. لِئَلَّا تَصِلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُلَابِسَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَقَضَى أَقْوَاهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَضْعَفِهِمَا، فَخَوْفُ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ إِحْرَاقِ الْمَلَائِكَةِ لِجُنُودِهِ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُقْذَفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعَوَالِمَ الرُّوحِيَّةَ الْخَفِيَّةَ كَعَوَالِمِ الْعَنَاصِرِ الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ، وَمِنْهَا مَا يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ فَيَتَأَلَّفُ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ كَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّحِدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ (24: 26) وَكَذَلِكَ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (6: 112) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجٍ، وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا قَصَّتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالَ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ،

فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَنَخَرَ فِي وَجْهِهِ فَخَرَّ صَعِقًا فَقِيلَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا سُرَاقَةُ، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ تَخْذُلُنَا وَتَبْرَأُ مِنَّا؟ فَقَالَ: " إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ " إِلَخْ. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ مَا أَوَّلُهُ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ " فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ " وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ رَأَى رَمْيَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ بِقَبْضَةِ التُّرَابِ فَهَزِيمَتُهُمْ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جَارٌ لَنَا؟ فَقَالَ: " إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ " إِلَخْ. (أَقُولُ) : أَمَّا الْكَلْبِيُّ فَرِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ وَأَضْعَفُهَا كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُونَ. قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ أَجْوَدُ الرِّوَايَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الثِّقَاتِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ فَرِوَايَتُهُ لِأَخْبَارِهَا مُنْقَطِعَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْوَاقِدِيُّ غَيْرُ ثِقَةٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ عَدَاوَةٌ وَحَرْبٌ سَابِقَةً فَخَافُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي أَثْنَاءِ قِتَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ فَرُئِيَ سُرَاقَةُ أَكْبَرُ زُعَمَائِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَضْمَنُ لَهُمْ مَا كَادَ يَثْنِيهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ يُثَبِّتُهُمْ وَيَقُولُ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، ثُمَّ رُئِيَ عِنْدَ تَرَائِي الْفِئَتَيْنِ هَارِبًا مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ، فَوَاللهِ مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ، فَقَالُوا: مَا أَتَيْتَنَا فِي يَوْمِ كَذَا؟ " فَحَلَفَ لَهُمْ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّيْطَانُ، فَهَذَا وَاللهُ أَعْلَمُ سَبَبُ تَخْرِيجِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ رِوَايَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الَّذِي رُئِيَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ مُتَمَثِّلًا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَمَا رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَقَدَّمَهُ أَهْلُ التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَهُمْ إِلَخْ. وَتَقَدَّمَ. قَدْ كَانَ وَقْتُ تَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ تَعَجُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِي الدِّينِ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الْفَاقِدِ لِكُلِّ اسْتِعْدَادٍ حِسِّيٍّ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ، عَلَى قِتَالِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَفُوقُهُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ فِي الْعَدَدِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْقُصُهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ فَالظَّرْفُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِـ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ " الْمُنَافِقُونَ " هُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ

49

الْكُفْرَ، وَ " وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " هُمْ ضِعَافُ الْإِيمَانِ تَثُورُ بِهِمُ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ تَارَةً فَتُزَلْزِلُ اعْتِقَادَهُمْ، وَتَسْكُنُ تَارَةً فَيَكُونُونَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَلْ يُمَيِّزُ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنَ الضُّعَفَاءِ إِلَّا الِامْتِحَانُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ؟ لَمْ يَرَ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ هُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ عِلَّةً يُعَلِّلُونَ بِهَا هَذَا الْإِقْدَامَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَّا الْغُرُورَ بِالدِّينِ، وَلَعَمْرُ الْإِنْصَافِ إِنَّ هَذَا لَأَقْرَبُ تَعْلِيلٍ مَعْقُولٍ لِأَمْثَالِهِمُ الْمَحْرُومِينَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِمَّا وَرَدَ فِي " أَهْلِ بَدْرٍ " مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّ ضُعَفَاءَهُمْ قَدْ مَحَّصَهُمُ اللهُ بِمَا كَانَ مِنْ جِدَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمُصَارَحَتِهِمْ لَهُ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَبِاقْتِنَاعِهِمْ بِجَوَابِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - ثُمَّ أَتَمَّ تَمْحِيصَهُمْ بِخَوْضِهِمُ الْمَعْرَكَةَ، فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِأَنَّهُ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ، وَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ: " غَرَّهُمْ دِينُهُمْ " وَهُوَ تَبَرُّؤٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ فَإِنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُسْلِمِينَ " يَكُونُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْغُزَاةِ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً مَرْدُودًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَةِ يَوْمِ بَدْرٍ يُمَيَّزُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِنَفْسِهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهَا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِئَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ: وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَيَّارٍ سَوَاءً. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ: يَكِلُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ مُؤْمِنًا إِيمَانَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ بِأَنَّهُ هُوَ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ وَنَاصِرُهُ وَمُعِينُهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: فَهُوَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى عِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ: يَكْفِيهِمْ مَا أَهَمَّهُمْ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَعَظُمَ اسْتِعْدَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ يَضَعُ كُلَّ أَمْرٍ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ النِّظَامُ وَالتَّقْدِيرُ فِي سُنَنِهِ، وَمِنْهُ نَصْرُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَدْخُلُ عِنَايَتُهُ بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ (كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَآيَاتُ اللهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا) وَإِنْ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ.

وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيِّ ... يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي عِبَادِ الْمِلَّةِ أَفْرَادٌ فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَاشْتُهِرَ مِنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَالْعِنَايَةَ بِهِمْ، مَا يَعْسُرُ عَلَى الذَّكِيِّ تَأْوِيلُهُ كُلُّهُ بِالتَّخْرِيجِ عَلَى الْمُصَادَفَاتِ الْمُعْتَادَةِ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الَّذِي كَانَ مَلِكًا فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ، وَانْقَطَعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَفِي كُلِّ أُمُورِهِ. وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي عَصْرِنَا عَالِمًا أَفْغَانِيًّا مِنْهُمُ اسْمَهُ عَبْدُ الْبَاقِي خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى الْهِنْدِ لِلتَّوَسُّعِ فِي الْفَلْسَفَةِ وَسَائِرِ الْمَعْقُولَاتِ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِيهَا حَتَّى رَأَى فِي مَنَامِهِ مَرَّةً رَجُلَا ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مُؤْثِرَةٍ سَأَلَهُ: أَتَدْرِي مَاذَا تَعْمَلُ يَا عَبْدَ الْبَاقِي؟ إِنَّكَ كَمَنْ يَأْخُذُ خَشَبَةً يُحَرِّكُ بِهَا الْكَنِيفَ عَامَّةَ نَهَارِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَمَلَتْهُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْفَائِدَةِ مِنْهَا. وَمَا لَبِثَ أَنْ تَرَكَهَا، وَعَزَمَ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَتَرَكَ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَكَانَ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَاشِيًا، وَيَعُودُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فِي الْغَالِبِ فَيُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْقَلَمُونِ أَيَّامًا، وَفِي طَرَابُلُسَ وَحِمْصَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحِجَازِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ دَرَاهِمَ، وَلَا زَادًا، وَقَدْ يَحْمِلُ كِتَابًا بِيَدِهِ يَقْرَأُهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهَبَهُ، وَتَلَقَّى عَنْهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ دُرُوسًا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الدَّرَاوِيشِ الْكُسَالَى وَالسَّيَّاحِينَ الدَّجَّالِينَ. قَالَ صَدِيقُنَا الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّقَّادَةُ السَّيِّدُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الزَّهْرَاوِيُّ: لَوْلَا أَنَّنَا رَأَيْنَا هَذَا الرَّجُلَ بِأَعْيُنِنَا وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الطِّوَالِ بِأَنْفُسِنَا، لَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارِ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْخَوَاصِّ وَالْبَلْخِيِّ مُبَالَغَاتٌ وَإِغْرَاقَاتٌ مِنْ مُتَرْجِمِيهِمْ. وَقَدْ حَدَّثَنَا الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ الْأَدِيبُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ التَّوَكُّلِ، وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ صَارَ مُقَدَّمًا لَهُ، فَامْتَحَنَّاهُ بِسَفَرٍ خَرَجَ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَسَخَّرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ مَا كَانَ بِهِ سَفَرُهُ لَائِقًا بِكَرَامَتِهِ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسَافِرِينَ بِالْبَاخِرَةِ فَتَبَرَّعَ لَهُ بِأُجْرَةِ السَّفَرِ فِيهَا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّسْخِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا لِرِجَالِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِي أَقْوَامِهِمْ وَأَقْطَارِهِمْ، وَنَاهِيكَ مَا كَانَ يَمْتَازُ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ جَمَالِ الصُّورَةِ، وَمَهَابَةِ الطَّلْعَةِ، وَحُسْنِ الزِّيِّ وَالْوَقَارِ يُزَيِّنُهُ اللُّطْفُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلَكِنْ هَلْ يَقْدَمُ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي كَرَامَتِهِ وَإِبَائِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ وَهُوَ لَا يَحْمِلُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا لَوْلَا شِدَّةُ الثِّقَةِ بِاللهِ، وَاطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَقْدَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ أُنَاسٌ

50

مِنَ الشُّطَّارِ اتَّخَذُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى اسْتِجْدَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِمَظَاهِرِهِمُ الْخَادِعَةِ وَتَلْبِيسَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، صِنَاعَةً يُرَوِّجُونَهَا بِالْغُلُوِّ فِي إِطْرَائِهِمْ. وَمَثَلُ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ لَهُمْ مَا وَقَعَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَيَّامَ كَانَ مَنْفِيًّا فِي بَيْرُوتَ: قَالَ لِي: جَاءَنِي فُلَانٌ مِنْ أَصْدِقَائِي الْمِصْرِيِّينَ الْمَنْفِيِّينَ يَوْمًا وَقَالَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَالِدُهُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعِنَايَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فِي تَجْهِيزِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَكُنْتُ قَبَضْتُ رَاتِبِي الشَّهْرِيَّ مِنَ الْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَمْ أُعْطِ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّجَّارِ الَّذِينَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ مُؤْنَةَ الدَّارِ فَنَقَدْتُهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ لِعِلْمِي بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ كُلِّهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي وَأَمْرَ أُسْرَتِي إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَمُرَّ ذَلِكَ النَّهَارُ إِلَّا وَقَدْ جَاءَنِي حَوَالَةٌ بَرْقِيَّةٌ بِمَبْلَغٍ أَكْبَرَ مِنْ رَاتِبِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ دَيْنًا لِي قَدِيمًا عَلَى رَجُلٍ أَعْيَانِي أَمْرُ تَقَاضِيهِ مِنْهُ، وَأَنَا فِيهَا مُمَتَّعٌ بِمَا تَعْلَمُ مِنَ النُّفُوذِ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَفَرِي مِرَارًا أَتَقَاضَاهُ مِنْهُ مُسْتَشْفِعًا بِعُذْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَئِسْتُ مِنْهُ، فَهَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِتَحْوِيلٍ بَرْقِيٍّ إِلَّا تَسْخِيرًا مِنْهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ؟ (أَقُولُ) : إِنَّنِي أَرَانِي غَيْرَ خَارِجٍ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ عَنْ مَنْهَجِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ بِهِ التَّفَقُّهُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَا أَرَى النَّاسَ يَزْدَادُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الدِّينِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَتَقِلُّ فِيهِمُ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ. وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ الْأَخِيرَةِ: وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَمَعْنَاهُ: وَلَوْ رَأَيْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مِنْ سَمِعَهِ أَوْ يَتْلُوهُ - إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَتْلَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ (وَمَعْلُومٌ أَنْ " لَوْ " الِامْتِنَاعِيَّةَ تَرُدُّ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا) مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أَيْ: ظُهُورَهُمْ وَأَقْفِيَتَهُمْ بِجُمْلَتِهَا - وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ وَفَاتَهُمْ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ عِنْدَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ - لَوْ رَأَيْتَ ذَلِكَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يَرُدُّ الْكَافِرَ عَنْ كُفْرِهِ، وَالظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، إِذَا هُوَ عَلِمَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ عَذَابُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ أَنَّ ضَرْبَ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ كَانَ بِبَدْرٍ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَضْرِبُونَ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَالْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ أَدْبَارَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُثَبِّتَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشَّوْكِ. فَقَالَ: " ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ " وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ كَالرِّيحِ أَيْ لَا يُقْبَضُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ. وَيُؤَيَّدُ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ بِأَنَّ هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ بَقِيَّةُ قَوْلِهِمْ لَهُمْ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي ذُقْتُمْ وَتَذُوقُونَ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَدَّمْتُمُوهُ إِلَى الْآخِرَةِ مَنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَرْجُلِ أَوِ الْحَوَاسِّ أَوْ تَدْبِيرِ الْعَقْلِ - كُلُّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إِلَى عَمَلِ الْأَيْدِي تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ تُزَاوَلُ بِهَا. وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ: وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَذَابُ ظُلْمًا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ، وَلَكِنْ سَبَبُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ثَابِتٌ قَطْعًا، كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ لِعَبِيدِهِ مُنْتَفٍ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمْ قَطْعًا، فَلُومُوهَا فَلَا لَوْمَ لَكُمْ إِلَّا عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي يَرْوِيهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ رَبِّهِ " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا " إِلَخْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَتَنَزُّهِهِ عَنْ سَائِرِ النَّقَائِصِ، وَمَا يُنَافِي كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، لَا لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ مِنْهُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى - كَمَا قَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ - وَهُوَ خَطَأٌ فِي تَعْرِيفِ الظُّلْمِ، وَخَطَأٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

هَذَا التَّعْبِيرُ بِعَيْنِهِ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِلَى لِلْعَبِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 181 و182) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُ فِي (ص 217 و218 ج 4 طَ الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ بَيَانُ نُكْتَةِ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُرَاجَعُ فِي بَيَانِ هَذَا أَيْضًا تَفْسِيرُ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (4: 40) فِي (ص85 - 91 ج 5 طَ الْهَيْئَةِ) . وَنُكْتَةُ هَذَا التَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْإِلَهِيَّةَ تُقَامُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِحَالِ أُنَاسٍ أَوْ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَرَدَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، كَمَا آذَوُا النَّبِيِّينَ قَبْلَهُ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ بُخْلِهِمْ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (3: 181) وَيَتَّضِحُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: دَأْبِ هَؤُلَاءِ وَشَأْنِهِمِ الثَّابِتِ لَهُمْ - وَالدَّأْبُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ، وَسَائِرِ الْمُلُوكِ الْعُتَاةِ، وَأَقْوَامِ الرُّسُلِ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الْعُدَدِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَكَمَا كَانَ دَأْبُهُمْ وَاحِدًا كَانَتْ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمْ وَاحِدَةً، فَنَصْرُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عِقَابَهُ، وَلَكِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا. قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (3: 11) وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا التَّكْرَارِ بَيَانُ أَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فَاطَّرَدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَبَأْسِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَقْدِ ذَلِكَ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ أَخْذِهِ تَعَالَى لِقُرَيْشٍ بِكُفْرِهَا لِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهَا، الَّتِي أَتَمَّهَا بِبَعْثِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ مِنْهُمْ، كَأَخْذِهِ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، مُؤَيِّدٌ بِأَمْرٍ آخَرَ يَتِمُّ بِهِ عَدْلُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعْمَةً مَا أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُحِيطٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ.

(فَصْلٌ فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ) هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مَنْ أَعْظَمِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، يُعْلَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَا يَزَالُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ يُخْدَعُونَ بِهَا، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَوْطِ سَعَادَةِ الْأُمَمِ وَقُوَّتِهَا وَغَلَبِهَا وَسُلْطَانِهَا بِسَعَةِ الثَّرْوَةِ، وَكَثْرَةِ حَصَى الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ: وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ وَكَانَ مِنْ غُرُورِهِمْ بِهَا أَنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ أُوتِيهَا لَا تُسْلَبُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ كَمَا فَضَّلَهُ اللهُ عَلَى غَيْرِهِ بِابْتِدَائِهَا، كَذَلِكَ يُفَضِّلُهُ بِدَوَامِهَا وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (34: 35) وَقَدْ بَيَّنَّا غُرُورَ الْبَشَرِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. ثُمَّ ظَهَرَ أَقْوَامٌ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي بَعْضَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ عَلَى بَعْضٍ بِنَسَبِهَا، وَفَضَّلَ بَعْضَ أَجْدَادِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِنُبُوَّةٍ أَوْ مَا دُونَهَا، فَيُؤْتِيهِمُ الْمُلْكُ وَالسِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ لِأَجْلِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى مِلَلِهِمْ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مِنْ آبَائِهِمْ، كَمَا كَانَ شَأْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي غُرُورِهِمْ وَتَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِنَسَبِهِمْ، وَكَمَا فَعَلَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ النَّصَارَى ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، بِالْغُرُورِ فِي الدِّينِ، وَدَعْوَةِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّينَ، وَبِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا لَهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْمُخَالِفِينَ. فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ قَوْمٍ خَطَأَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا سَبَقَ فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (13: 11) وَأَثْبَتَ لَهُمْ أَنَّ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ مَنُوطَةٌ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا بِأَخْلَاقٍ وَصِفَاتٍ وَعَقَائِدَ وَعَوَائِدَ وَأَعْمَالٍ تَقْتَضِيهَا، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الشُّئُونُ لَاصِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ مُتَمَكِّنَةً مِنْهَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ ثَابِتَةً بِثَبَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ الْكَرِيمُ لِيَنْتَزِعَهَا مِنْهُمُ انْتِزَاعًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ وَلَا ذَنْبٍ، فَإِذَا هُمْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، غَيَّرَ اللهُ عِنْدَئِذٍ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَبَ نِعْمَتَهُ مِنْهُمْ، فَصَارَ الْغَنِيُّ فَقِيرًا، وَالْعَزِيزُ ذَلِيلًا، وَالْقَوِيُّ ضَعِيفًا. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَفْرَادِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيهِمْ، لِقِصَرِ أَعْمَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ دُونَ تَأْثِيرِ التَّغْيِيرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ. إِنَّ لِلْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْخُرَافِيَّةِ آثَارًا فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا أَوْ ضَعْفِهِ، وَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِوُقُوعِ التَّنَازُعِ بَيْنَ أُمَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِيهَا. وَإِنَّ لِلْأَخْلَاقِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِكَثْرَةِ بَعْضِهَا مَا يُسَمَّى خُلُقًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الشَّعْبِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا وَسُلْطَانِهَا وَفِي ثَرْوَتِهَا وَعِزَّتِهَا أَيْضًا، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ كُلِّ أُمَّةٍ وَدَوْلَةٍ ذَاتِ تَارِيخٍ مَعْرُوفٍ، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ (الدُّكْتُورِ غُوسْتَاف لُوبُون) الِاجْتِمَاعِيِّ الْكَبِيرِ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ يَجِدْ فِيهَا شَوَاهِدَ كَثِيرَةً عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَظْهَرُهَا مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ فَرَنْسَةَ.

وَإِنْكِلْتِرَةَ - وَبَيْنَ الشُّعُوبِ اللَّاتِينِيَّةِ وَالشُّعُوبِ " الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّةِ " عَامَّةً - فِي الْأَخْلَاقِ، وَمَا لِذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ فِي حَيَاةِ الْفَرِيقَيْنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاسْتِعْمَارِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ. وَمِنْ كَلَامِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَخْلَاقِ فِي تَرَقِّي الْأُمَمِ وَتَدَلِّيهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاشْتِرَاكِيَّةِ) وَمَوْضُوعُهُ (نَفْسِيَّةُ الشُّعُوبِ) : وَأَذْكُرُ هُنَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ كَثِيرًا فِي كُتُبِي الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا تَنْحَطُّ وَتَزُولُ إِذَا تَنَاقَصَ ذَكَاءُ أَبْنَائِهَا، بَلْ إِذَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهَا. هَذِهِ سُنَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ جَرَتْ أَحْكَامُهَا عَلَى الْيُونَانَ وَالرُّومَانِ، وَأَخَذَتْ تَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا، لَا يَزَالُ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَيُجَادِلُونَ فِي صِحَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَذَ يَنْتَشِرُ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ مُفَصَّلًا فِي كِتَابٍ وَضَعَهَ حَدِيثًا الْكَاتِبُ الْإِنْكِلِيزِيُّ (الْمِسْتَرْ بِنْيَامِينُ كِيد) وَلَا أَرَى لِتَأْيِيدِ قَضِيَّتِي أَفْضَلَ مِنِ اقْتِبَاسِ بَعْضِ عِبَارَاتٍ عَنْهُ بَيَّنَ فِيهَا - مُنْصِفًا غَيْرَ مُحَابٍ - الْفَرْقَ بَيْنَ الْخُلُقِ (الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيِّ) وَالْخُلُقِ الْفَرَنْسَوِيِّ وَنَتَائِجَ هَذَا الْفَرْقَ اهـ. (ص104 و105) مِنَ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مُرَادِهِ، وَبَيَانِ تَفَوُّقِ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى الْفَرَنْسِيسِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ التَّارِيخِيَّةَ الشَّهِيرَةَ كَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَالْعَرَبِ قَدْ دَبَّ إِلَى الْإِفْرِنْجِ، وَكَانَ بَدْءُ فَتْكِهِ بِاللَّاتِينِ وَلَا سِيَّمَا الْفَرَنْسِيسُ مِنْهُمْ، فَقَلَّ نَسْلُهُمْ، وَصَارُوا يَرْجِعُونَ الْقَهْقَرِيَّ أَمَامَ الْإِنْكِلِيزِ وَإِخْوَانِهِمِ الْأَمِيرِكَانِيِّينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، دَعِ الْأَلْمَانَ الَّذِينَ فَاقُوا الْفَرِيقَيْنِ. وَقَدْ دَبَّ هَذَا الْفَسَادُ الْأَخْلَاقِيُّ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَعْظَمُ فَلَاسِفَتِهِمْ (هِرْبِرْت سِبِنْسَر) الشَّهِيرُ لِأُسْتَاذِنَا الشَّيْخِ (مُحَمَّد عَبْدُهُ) وَسَبَقَ نَقْلُهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي أَفْسَدَتْ أَخْلَاقَ اللَّاتِينَ فِي أُورُبَّةَ قَدْ دَبَّتْ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ، وَأَخَذَتْ تَفْتِكُ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا سَتُفْسِدُ أُورُبَّةَ كُلَّهَا. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بَعْدَ اتِّسَاعِ نِطَاقِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ، وَكَثْرَةِ الْمُصَنَّفَاتِ فِيهِ، وَكَثْرَةِ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ فِي مَوْضُوعِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ، حَتَّى قَالَ غُوسْتَاف لُوبُون: أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا الْقَوْلَ بَلْ يُجَادِلُونَ فِي صِحَّتِهِ، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى كَوْنِهَا صَارَتْ مَعْرُوفَةً لِلْجَمَاهِيرِ لَا تَزَالُ مَوْضِعَ مِرَاءٍ وَجِدَالٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْعَالِي الَّتِي لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْبَصِيرَةِ النَّافِذَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ الْمُمَحِّصَةِ. وَلَوْ فَقِهَهَا الْجُمْهُورُ لَكَانَ لَهَا الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَعْمَالِهِ. وَإِنَّنَا لَنَرَى الْأُلُوفَ فِي بِلَادِنَا يَتَمَثَّلُونَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ شَوْقِي بِكْ أَشْهَرِ شُعَرَاءِ الْعَصْرِ: وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ ... فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا

يَتَمَثَلُونَ بِهِ مُعْجَبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَدْلُولَ أَلْفَاظِهِ، وَشَرَفَ مَوْضُوعِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ حِكْمَتَهُ التَّفْصِيلِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ فَسَادِ كُلِّ خُلُقٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْفَضَائِلِ فِي أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ فِي ضَعْفِ الْأُمَّةِ وَانْحِلَالِهَا - ذَلِكَ الْفِقْهُ الَّذِي حَقَّقْنَا مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (7: 179) فَرَاجِعْهُ مَعَ بَيَانِ مَرَاتِبِ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ 20 - 23 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. إِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا لَا يُجَادِلُ أَحَدٌ فِي حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي اسْتِقَامَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْعَامَّةِ فِي الْأُمَّةِ بِهِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ، وَإِنِ امْتَرَى كَثِيرُونَ أَوْ مَارَوْا فِي كَوْنِهَا دَعَائِمَ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ فِي الْمَعِيشَةِ أَوِ التَّرَقِّي فِي مَنَاصِبِ الْحُكُومَةِ، وَلَكِنْ قَلَّمَا يَجْهَلُ أَحَدٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُمْتَرِينَ فِي فَسَادِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الشَّرِكَةِ أَوِ الْحُكُومَةِ الَّتِي يَرْتَقِي الْعَامِلُ فِيهَا بِالْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ، وَإِذَا بَلَغَ قَوْمٌ هَذِهِ الْغَايَةَ مِنَ الْفَسَادِ أَلِفُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَعُدْ قُلُوبُهُمْ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِإِصْلَاحِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَلَافَوْنَ مِنْ شَرِّهِ مَا اسْتَطَاعُوا بِبَعْضِ النُّظُمِ وَالْقَوَانِينِ الصُّورِيَّةِ. وَإِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ مَا صَارَ الْفَاسِدُونَ الْمُفْسِدُونَ يُجَادِلُونَ فِي حُسْنِهِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا حَالُ الْأَفْرَادِ، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ كَالْحَيَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِفَّةِ. يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَاءَ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ. وَهَذَا خَطَأٌ لَا مَحَلَّ هُنَا لِبَيَانِهِ، وَهُوَ قَدِيمٌ، وَإِنَّمَا الْجَدِيدُ الَّذِي لَمْ يَطْرُقْ مَسَامِعَنَا قَبْلَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْمِرَاءُ فِي فَضِيلَةِ الْعِفَّةِ، فَإِنَّ دُعَاةَ الْفَسَادِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ تَجْدِيدَ الْأُمَّةِ قَدِ اقْتَرَفُوا هَذِهِ الْجَرِيمَةَ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ مِنْ أَرْكَانِهِ عِنْدَهُمْ تَهَتُّكُ النِّسَاءِ، وَامْتِزَاجُهُنَّ بِالرِّجَالِ فِي الْمَلَاعِبِ وَالْمَرَاقِصِ وَالْمَسَارِحِ وَالْمَسَابِحِ مَوَاضِعِ السِّبَاحَةِ فِي الْبَحْرِ (فَقَدْ كَتَبَ أَحَدُهُمْ فِي بَعْضِ الصُّحُفِ النَّاشِرَةِ لِدَعَايَتِهِمْ أَنَّ الْعِفَّةَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا بِاخْتِلَافِ مَعَارِفِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْحَضَارَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرْتَقِينَ الْآنَ لَا يَعُدُّونَ رَقْصَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ مُنَافِيًا لِلْعِفَّةِ، وَلَا مُخِلًّا بِهَا. وَوَثَبَ كَاتِبٌ آخَرُ مِنْهُمْ وَثْبَةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ إِرْخَاءَ الْعِنَانِ لِلشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَا يَضُرُّ فِي الْجَسَدِ، وَلَا فِي النَّفْسِ، وَلَا يُخِلُّ بِالْآدَابِ، وَلَا يُضْعِفُ الْأُمَّةَ عَدَمُ الْتِزَامِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ فِيهِ - قَالَ الْمُفْسِدُ قَاتَلَهُ اللهُ: وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا بِالتَّجْرِبَةِ فِي الْأُمَّةِ الْأَمِيرِكَانِيَّةِ فَظَهَرَ بِهِ خَطَأُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ، وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ قَائِلُهُ إِلَى الْمُسْرِفِينَ مِنَ الْفُسَّاقِ، وَلَا يَزَالُ الْأَطِبَّاءُ وَالْحُكَمَاءُ مُجْمِعِينَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ لِبِنَاءِ الْبِنْيَةِ بِمَا يُوَلِّدُهُ مِنَ الضَّعْفِ وَالْأَمْرَاضِ، كَمَا أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ.

53

مَازَالَ الْبَشَرُ يُمَارُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ الْمَقْبُولُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ لِعُلَمَاءِ أَهْلِهِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يُمَارُونَ فِي مَضَارِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَيَدَّعُونَ نَفْعَهَا، وَالْأَطِبَّاءُ الْمُحَقِّقُونَ يُثْبِتُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، يُثْبِتُونَ أَنَّ إِثْمَهَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهَا، وَأَنَّ النَّفْعَ الْقَلِيلَ الْخَاصَّ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ الْمَرَضِيَّةِ قَدْ يُعَارِضُهَا فِيهَا نَفْسَهَا مِنَ الضَّرَرِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَيُجْعَلُ تَرْكُ التَّدَاوِي بِهَا أَوْلَى إِذَا وُجِدَ أَيُّ شَيْءٍ آخَرَ يَقُومُ مَقَامَهَا. إِنَّنِي ذَكَرْتُ فِي فَاتِحَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَسْلَكَ جَرِيدَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانِهِ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَكْوَانِ قَدْ فَتَحَ لِي فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ بَابًا لَمْ يَأْخُذْ بِحَلْقَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنَّنِي أَخْتِمُ هَذَا الْفَصْلَ الِاسْتِطْرَادِيَّ بِمَقَالَةٍ مِنْ مَقَالَاتِ تِلْكَ الْجَرِيدَةِ افْتَتَحَهُ أُسْتَاذُنَا مُحَرِّرُهَا رَحِمَهُ اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، لِيَكُونَ مِصْبَاحًا لِلْمُفَسِّرِينَ وَالْمُرْشِدِينَ وَالْوُعَّاظِ يَهْتَدُونَ بِضَوْئِهِ - وَلِيُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَهْمِ هَذَا الْإِمَامِ وَأُسْتَاذِهِ الْحَكِيمِ لِلْقُرْآنِ، وَبَيْنَ أَفْهَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَانَتْ حُظُوظُهُمْ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كِتَابَةَ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةَ أَسْطُرٍ أَكْثَرُهَا فِي غَيْرِ سَبِيلِ هِدَايَتِهَا. وَهَذَا نَصُّ الْمَقَالَةِ: الْمَقَالَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ سُنَنُ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَتَطْبِيقُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (13: 11) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (8: 53) . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، تَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَا يَرْتَابُ فِيهَا إِلَّا الضَّالُّونَ، هَلْ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَهُوَ أَصْدَقُ مَنْ وَعَدَ، وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ؟ هَلْ كَذَبَ اللهُ رُسُلَهُ؟ هَلْ وَدَّعَ أَنْبِيَاءَهُ وَقَلَاهُمْ؟ هَلْ غَشَّ خَلْقَهُ، وَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ الضَّلَالِ؟ نَعُوذُ بِاللهِ! ! هَلْ أَنْزَلَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ لَغْوًا وَعَبَثًا؟ هَلِ افْتَرَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ كَذِبًا؟ هَلِ اخْتَلَقُوا عَلَيْهِ إِفْكًا؟ هَلْ خَاطَبَ اللهُ عَبِيدَهُ بِرُمُوزٍ لَا يَفْهَمُونَهَا، وَإِشَارَاتٍ لَا يُدْرِكُونَهَا؟ هَلْ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِمَا لَا يَعْقِلُونَ؟ نَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَلَيْسَ قَدْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ؟ وَفَصَّلَ فِيهِ كُلَّ أَمْرٍ، وَأَوْدَعَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؟ تَقَدَّسَتْ صِفَاتُهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا هُوَ الصَّادِقُ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مَا اتَّخَذَ رَسُولًا كَذَّابًا، وَلَا أَتَى شَيْئًا عَبَثًا، وَمَا هَدَانَا إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَلَا تَبْدِيلَ لِآيَاتِهِ، تَزُولُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَا يَزُولُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ كِتَابِهِ الَّذِي: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (41: 42) .

يَقُولُ اللهُ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (21: 105) وَيَقُولُ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (63: 8) وَقَالَ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) وَقَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (48: 28) هَذَا مَا وَعَدَ اللهُ فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا، وَلَا يَنَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّأْوِيلِ، إِلَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَرَامَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. هَذَا عَهْدُهُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ، وَعَدَهَا بِالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَعُلُوِّ الْكَلِمَةِ، وَمَهَّدَ لَهَا سَبِيلَ مَا وَعَدَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا جَعَلَ اللهُ لِمَجْدِهَا أَمَدًا، وَلَا لِعِزَّتِهَا حَدًّا. هَذِهِ أُمَّةٌ أَنْشَأَهَا اللهُ عَنْ قِلَّةٍ، وَرَفَعَ شَأْنَهَا إِلَى ذِرْوَةِ الْعُلَى، حَتَّى ثَبَّتَ أَقْدَامَهَا عَلَى قُنَنِ الشَّامِخَاتِ، وَدُكَّتْ لِعَظَمَتِهَا عَوَالِي الرَّاسِيَاتِ، وَانْشَقَّتْ لِهَيْبَتِهَا مَرَائِرُ الضَّارِيَاتِ، وَذَابَتْ لِلرُّعْبِ مِنْهَا أَعْشَارُ الْقُلُوبِ، هَالَ ظُهُورُهَا الْهَائِلُ كُلَّ نَفْسٍ، وَتَحَيَّرَ فِي سَبَبِهِ كُلُّ عَقْلٍ، وَاهْتَدَى إِلَى السَّبَبِ أَهْلُ الْحَقِّ فَقَالُوا: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ اللهِ فَكَانَ اللهُ مَعَهُمْ، جَمَاعَةٌ قَامُوا بِنَصْرِ اللهِ، وَاسْتَرْشَدُوا بِسُنَّتِهِ فَأَمَدَّهُمْ بِنَصْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. هَذِهِ أُمَّةٌ كَانَتْ فِي نَشْأَتِهَا فَاقِدَةَ الذَّخَائِرِ، مَعُوِزَةً مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَعُدَدِ الْقِتَالِ، فَاخْتَرَقَتْ صُفُوفَ الْأُمَمِ، وَاخْتَطَّتْ دِيَارَهَا، لَا دَفَعَتْهَا أَبْرَاجُ الْمَجُوسِ وَخَنَادِقُهُمْ، وَلَا صَدَّتْهَا قِلَاعُ الرُّومَانِ وَمَعَاقِلُهُمْ، وَلَا عَاقَهَا صُعُوبَةُ الْمَسَالِكِ، وَلَا أَثَّرَ فِي هِمَّتِهَا اخْتِلَافُ الْأَهْوِيَةِ، وَلَا فَعَلَ فِي نُفُوسِهَا غَزَارَةُ الثَّرْوَةِ عِنْدَ مَنْ سِوَاهَا، وَلَا رَاعَهَا جَلَالَةُ مُلُوكِهِمْ، وَقِدَمُ بُيُوتِهِمْ، وَلَا تَنَوُّعُ صَنَائِعِهِمْ، وَلَا سِعَةُ دَائِرَةِ فُنُونِهِمْ، وَلَا عَاقَ سَيْرَهَا أَحْكَامُ الْقَوَانِينِ، وَلَا تَنْظِيمُ الشَّرَائِعِ، وَلَا تَقَلُّبُ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ فِي فُنُونِ السِّيَاسَةِ. كَانَتْ تَطْرُقُ دِيَارَ الْقَوْمِ فَيُحَقِّرُونَ أَمْرَهَا، وَيَسْتَهِينُونَ بِهَا، وَمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْقَلِيلَةَ تُزَعْزِعُ أَرْكَانَ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ، وَتَمْحُو أَسْمَاءَهَا مِنْ لَوْحِ الْمَجْدِ. وَمَا كَانَ يَخْتَلِجُ بِصَدْرٍ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الصَّغِيرَةَ تَقْهَرُ تِلْكَ الْأُمَمَ الْكَبِيرَةَ، وَتُمَكِّنُ فِي نُفُوسِهَا عَقَائِدَ دِينِهَا، وَتُخْضِعُهَا لِأَوَامِرِهَا وَعَادَاتِهَا وَشَرَائِعِهَا، لَكِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ، وَنَالَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ عَلَى ضَعْفِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهَا. نَعِمَ قَوْمٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ مَجْدًا فِي الدُّنْيَا، وَسَعَادَةً فِي الْآخِرَةِ. هَذِهِ الْأُمَّةُ يَبْلُغُ عَدَدُهَا الْيَوْمَ زُهَاءَ مِائَتَيْ مِلْيُونٍ مِنَ النُّفُوسِ وَأَرَاضِيهَا آخِذَةٌ مِنَ الْمُحِيطِ الْإِتْلَانْتِيكِيِّ إِلَى أَحْشَاءِ بِلَادِ الصِّينِ - تُرْبَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَنَابِتُ خِصْبَةٌ، وَدِيَارٌ رَحْبَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى بِلَادَهَا مَنْهُوبَةً، وَأَمْوَالَهَا مَسْلُوبَةً، تَتَغَلَّبُ الْأَجَانِبُ عَلَى شُعُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ شَعْبًا شَعْبًا، وَيَتَقَاسَمُونَ أَرَاضِيَهَا قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا كَلِمَةٌ تُسْمَعُ، وَلَا أَمْرٌ يُطَاعُ،

حَتَّى إِنَّ الْبَاقِينَ مِنْ مُلُوكِهَا يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي مُلِمَّةٍ، وَيُمْسُونَ فِي كُرْبَةٍ مُدْلَهِمَّةٍ، ضَاقَتْ أَوْقَاتُهُمْ عَنْ سِعَةِ الْكَوَارِثِ الَّتِي تُلِمُّ بِهِمْ، وَصَارَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الرَّجَاءِ لَهُمْ. هَذِهِ هِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي كَانَ الدُّوَلُ الْعِظَامِ يُؤَدِّينَ لَهَا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُنَّ صَاغِرَاتٌ، اسْتِبْقَاءً لِحَيَاتِهِنَّ، وَمُلُوكُهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَرَوْنَ بَقَاءَهُمْ فِي التَّزَلُّفِ إِلَى تِلْكَ الدُّوَلِ الْأَجْنَبِيَّةِ، يَا لَلْمُصِيبَةِ وَيَا لَلرَّزِيَّةِ! ! . أَلَيْسَ هَذَا بِخَطْبٍ جَلَلٍ، أَلَيْسَ هَذَا بِبَلَاءٍ نَزَلَ، مَا سَبَبُ هَذَا الْهُبُوطِ، وَمَا عِلَّةُ هَذَا الِانْحِطَاطِ؟ هَلْ نُسِيءَ الظَّنُّ بِالْعُهُودِ الْإِلَهِيَّةِ؟ مَعَاذَ اللهِ! هَلْ نَسْتَيْئِسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَنَظُنُّ أَنْ قَدْ كَذَبَ عَلَيْنَا؟ نَعُوذُ بِاللهِ! هَلْ نَرْتَابُ فِي وَعْدِهِ بِنَصْرِنَا بَعْدَمَا أَكَّدَهُ لَنَا؟ حَاشَاهُ سُبْحَانَهُ! لَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَنْ يَكُونَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ لِأَنْفُسِنَا، وَلَا لَوْمَ لَنَا إِلَّا عَلَيْهَا، إِنَّ اللهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ قَدْ وَضَعَ لِسَيْرِ الْأُمَمِ سُنَنًا مُتَّبَعَةً ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (33: 62) . أَرْشَدَنَا سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ إِلَى أَنَّ الْأُمَمَ مَا سَقَطَتْ مِنْ عَرْشِ عِزِّهَا، وَلَا بَادَتْ وَمُحِيَ اسْمُهَا مِنْ لَوْحِ الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ نُكُوبِهَا عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا اللهُ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ عِزَّةٍ وَسُلْطَانٍ وَرَفَاهَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ وَأَمْنٍ وَرَاحَةٍ، حَتَّى يُغَيِّرَ أُولَئِكَ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ نُورِ الْعَقْلِ، وَصِحَّةِ الْفِكْرِ، وَإِشْرَاقِ الْبَصِيرَةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِأَفْعَالِ اللهِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ جَارُوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ فَهَلَكُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الدَّمَارُ، ثُمَّ لِعُدُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الْعَدْلِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْحِكْمَةِ، حَادُوا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الرَّأْيِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ، وَالسَّلَامَةِ فِي الصَّدْرِ، وَالْعِفَّةِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالْحَمِيَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى حِمَايَتِهِ، خَذَلُوا الْعَدْلَ، وَلَمْ يُجْمِعُوا هِمَمَهُمْ عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَاتَّبَعُوا الْأَهْوَاءَ الْبَاطِلَةَ، وَانْكَبُّوا عَلَى الشَّهَوَاتِ الْفَانِيَةِ، وَأَتَوْا عَظَائِمَ الْمُنْكَرَاتِ، خَارَتْ عَزَائِمُهُمْ، فَشَحُّوا بِبَذْلٍ مُهَجِهِمْ فِي حِفْظِ السُّنَنِ الْعَادِلَةِ وَاخْتَارُوا الْحَيَاةَ فِي الْبَاطِلِ عَلَى الْمَوْتِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ. هَكَذَا جَعَلَ اللهُ بَقَاءَ الْأُمَمِ وَنَمَاءَهَا فِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ هَلَاكَهَا وَدَمَارَهَا فِي التَّخَلِّي عَنْهَا. سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَجْيَالِ، كَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَتَقْدِيرِ الْأَرْزَاقِ، وَتَحْدِيدِ الْآجَالِ. عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى قُلُوبِنَا، وَنَمْتَحِنَ مَدَارِكَنَا، وَتَسَيُّرَ أَخْلَاقِنَا، وَنُلَاحِظَ مَسَالِكَ سَيْرِنَا، لِنَعْلَمَ هَلْ نَحْنُ عَلَى سِيرَةِ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، هَلْ نَحْنُ نَقْتَفِي أَثَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؟ هَلْ غَيَّرَ اللهُ مَا بِنَا قَبْلَ أَنْ نُغَيِّرَ مَا بِأَنْفُسِنَا، وَخَالَفَ فِينَا حُكْمَهُ، وَبَدَّلَ فِي أَمْرِنَا سُنَّتَهُ؟ حَاشَاهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَلْ صَدَقَنَا اللهُ وَعْدَهُ، حَتَّى إِذَا فَشِلْنَا وَتَنَازَعْنَا فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْنَاهُ مِنْ

بَعْدِ مَا أَرَى أَسْلَافَنَا مَا يُحِبُّونَ، وَأَعْجَبَتْنَا كَثْرَتُنَا فَلَمْ تُغْنِ عَنَّا شَيْئًا، فَبَدَّلَ عِزَّنَا بِالذُّلِّ، وَسُمُوَّنَا بِالِانْحِطَاطِ، وَغِنَانَا بِالْفَقْرِ، وَسِيَادَتَنَا بِالْعُبُودِيَّةِ. نَبَذْنَا أَوَامِرَ اللهِ ظِهْرِيًّا، وَتَخَاذَلْنَا عَنْ نَصْرِهِ، فَجَازَانَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى النَّجَاةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ. كَيْفَ لَا نَلُومُ أَنْفُسَنَا، وَنَحْنُ نَرَى الْأَجَانِبَ عَنَّا يَغْتَصِبُونَ دِيَارَنَا، وَيَسْتَذِلُّونَ أَهْلَهَا، وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَ الْأَبْرِيَاءِ مِنْ إِخْوَانِنَا، وَلَا نَرَى فِي أَحَدٍ مِنَّا حِرَاكًا؟ هَذَا الْعَدَدُ الْوَافِرُ، وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ لَا يَبْذُلُونَ فِي الدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوَدُّ لَوْ يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ غِذَاؤُهُ الذِّلَّةَ، وَكِسَاؤُهُ الْمَسْكَنَةَ، وَمَسْكَنُهُ الْهَوَانَ، تَفَرَّقَتْ كَلِمَتُنَا شَرْقًا وَغَرْبًا، وَكَادَ يَتَقَطَّعُ مَا بَيْنَنَا، لَا يَحِنُّ أَخٌ لِأَخِيهِ، وَلَا يُهَمُّ جَارٌ بِشَأْنِ جَارِهِ، وَلَا يَرْقُبُ أَحَدُنَا فِي الْآخَرِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا نَحْتَرِمُ شَعَائِرَ دِينِنَا، وَلَا نُدَافِعُ عَنْ حَوْزَتِهِ، وَلَا نُعَزِّزُهُ بِمَا نَبْذُلُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَرْوَاحِنَا حَسْبَمَا أَمَرَنَا. أَيَحْسَبُ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ يَرْضَى مِنْهُمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَلَا يَمَسُّ سَوَادَ الْقُلُوبِ؟ هَلْ يَرْضَى مِنْهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ عَلَى حَرْفٍ؟ فَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ اطْمَأَنُّوا بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ انْقَلَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ؟ هَلْ ظَنُّوا أَلَّا يَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِهِمْ، وَلَا يُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ لَا يَذْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ؟ هَلْ نَسُوا أَنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلْقِيَامِ بِنَصْرِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لَا يَبْخَلُونَ فِي سَبِيلِهِ بِمَالٍ، وَلَا يَشُحُّونَ بِنَفْسٍ؟ فَهَلْ لِمُؤْمِنٍ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَزْعُمَ نَفْسَهُ مُؤْمِنًا، وَهُوَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ، لَا بِمَالِهِ وَلَا بِرُوحِهِ؟ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ إِذَا قَالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - لَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا إِيمَانًا وَثَبَاتًا، وَيَقُولُونَ فِي إِقْدَامِهِمْ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (3: 173) . كَيْفَ يَخْشَى الْمَوْتَ الْمُؤْمِنُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَيُّ يُرْزَقُ عِنْدَ رَبِّهِ؟ مُمَتَّعٌ بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ، كَيْفَ يَخَافُ مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اللهِ، وَاللهُ يَقُولُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) . فَلْيَنْظُرْ كُلٌّ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَّبِعُ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ، وَلْيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ قَلْبَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، وَلْيُطَابِقْ بَيْنَ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا جَعَلَهُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ، فَلَوْ فَعَلَ كُلٌّ مِنَّا ذَلِكَ لَرَأَيْنَا عَدْلَ اللهِ فِينَا وَاهْتَدَيْنَا. يَا سُبْحَانَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُنَا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَالْعَمَلُ فِي صِيَانَتِهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ أَهَمُّ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الدِّينِ عِنْدَ حُصُولِ الِاعْتِدَاءِ، يُثْبِتُ ذَلِكَ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَمَا لَنَا نَرَى الْأَجَانِبَ يَصُولُونَ عَلَى الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ صَوْلَةً بَعْدَ صَوْلَةٍ

54

وَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا دَوْلَةً بَعْدَ دَوْلَةٍ، وَالْمُتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الْإِيمَانِ آهِلُونَ لِكُلِّ أَرْضٍ مُتَمَكِّنُونَ بِكُلِّ قُطْرٍ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ عَلَى الدِّينِ نُعْرَةٌ، وَلَا تَسْتَفِزُّهُمْ لِلدِّفَاعِ عَنْهُ حَمِيَّةٌ؟ . أَلَا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا الْقُرْآنَ، وَتَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَتَتَّخِذُوهُ إِمَامًا لَكُمْ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْحُكْمِ فِي الْعَمَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُكُمُ الصَّالِحُ، أَلَا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ هَذَا كِتَابُكُمْ فَاقْرَءُوا مِنْهُ: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (47: 20) أَلَا تَعْلَمُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ نَزَلَتْ فِي وَصْفِ مَنْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ. هَلْ يَسُرُّ مُؤْمِنًا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ هَذَا الْوَصْفُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؟ أَوْ غَرَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلْإِيمَانِ مَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا حَسَّنَتْهُ لَدَيْهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (47: 24) . أَقُولُ وَلَا أَخْشَى نَكِيرًا: لَا يَمَسُّ الْإِيمَانُ قَلْبَ شَخْصٍ إِلَّا وَيَكُونُ أَوَّلُ أَعْمَالِهِ تَقْدِيمَ مَالِهِ وَرُوحِهِ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ، لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ عُذْرًا وَلَا عِلَّةً، وَكُلُّ اعْتِذَارٍ فِي الْقُعُودِ عَنْ نُصْرَةِ اللهِ فَهُوَ آيَةُ النِّفَاقِ، وَعَلَامَةُ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ. مَعَ هَذَا كُلِّهِ نَقُولُ: إِنَّ الْخَيْرَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبَأُ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا الِانْحِرَافُ الَّذِي نَرَاهُ الْيَوْمَ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَارِضًا يَزُولُ، وَلَوْ قَامَ الْعُلَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ وَأَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَحْيَوْا رُوحَ الْقُرْآنِ، وَذَكَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَعَانِيهِ الشَّرِيفَةِ وَاسْتَلْفَتُوهُمْ إِلَى عَهْدِ اللهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ لَرَأَيْتَ الْحَقَّ يَسْمُو، وَالْبَاطِلَ يَسْفِلُ، وَلَرَأَيْتَ نُورًا يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، وَأَعْمَالًا تَحَارُ فِيهَا الْأَفْكَارُ. وَإِنَّ الْحَرَكَةَ الَّتِي نُحِسُّهَا مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَغْلَبِ الْأَقْطَارِ هَذِهِ الْأَيَّامَ تُبَشِّرُنَا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ النُّفُوسَ لِصَيْحَةِ حَقٍّ يَجْمَعُ بِهَا كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُوَحِّدُ بِهَا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ، وَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ قَرِيبًا، فَإِنْ فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ لِلْقِيَامِ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، صَحَتْ لَهُمُ الْأَوْبَةُ، وَنَصَحَتْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ، وَعَفَا اللهُ عَنْهُمْ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يُسَارِعُوا إِلَى هَذَا الْخَيْرِ، وَهُوَ الْخَيْرُ كُلُّهُ: جَمْعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْفَضْلُ كُلُّ الْفَضْلِ لِمَنْ يَبْدَأُ مِنْهُمْ بِالْعَمَلِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (18: 17) اهـ. أَقُولُ: رَحِمَ اللهُ مُحَمَّدَ عَبْدُه كَاتِبَ هَذَا الْخِطَابِ، وَرَحِمَ اللهُ السَّيِّدَ الْأَفْغَانِيَّ الَّذِي فَتَحَ لَهُ وَلَنَا هَذَا الْبَابَ، فَهَكَذَا فَلْيَكُنِ التَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ

فِي نَظِيرِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ وَاقِعٍ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي مَوْضُوعِ دَأْبِ الْقَوْمِ، وَفِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا فِيمَا اخْتَلَفَ بِهِ التَّعْبِيرُ مِنَ الْآيَتَيْنِ، فَالْآيَةُ السَّابِقَةُ فِي بَيَانِ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَهُوَ جَحْدُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الرُّسُلِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ إِلَخْ. وَفِي تَعْذِيبِ اللهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ. فَتَكْرَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِحَقِّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِي الْجَزَاءِ الدَّائِمِ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْمَوْتِ وَيَنْتَهِي بِدُخُولِ النَّارِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لَهُمْ بِنِعَمِهِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهَا اسْمَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِمْ بَدَلَ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَاكَ - فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَمُعَانَدَتُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ وَكُفْرُ النِّعَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَعْثِهِمْ وَالسَّابِقَةِ عَلَيْهَا، وَفِي الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (29: 40) . وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا يَحْفَظُهُ التَّارِيخُ مِنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ مِنْ دَأْبِهَا وَعَادَتِهَا فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالظُّلْمِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ عِقَابِ اللهِ إِيَّاهَا، هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى الْمُطَّرِدَةِ فِي الْأُمَمِ، وَلَا يَظْلِمُ تَعَالَى أَحَدًا بِسَلْبِ نِعْمَةٍ، وَلَا إِيقَاعِ نِقْمَةٍ، وَإِنَّمَا عِقَابُهُ لَهُمْ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ، لِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - هَذَا هُوَ الْمُطَّرِدُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَأَمَّا عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِعَذَابٍ سَمَاوِيٍّ فَهُوَ خَاصٌّ مِمَّنْ طَلَبُوا الْآيَاتِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ إِذَا كَفَرُوا بِهَا فَفَعَلُوا. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُون َ

55

الْآيَاتُ الثَّلَاثُ الْأُولَى بَيَانٌ لِحَالِ فَرِيقٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ عَادُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَاتَلُوهُ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ فِي قِتَالِهِمْ لَهُ فِي بَدْرٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ: الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهَا أَوِ الْحِجَازِ مِنْهَا، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سِتَّةِ رَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمُ ابْنُ تَابُوتٍ اهـ. أَوْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ أَوْ بَنُو قُرَيْظَهَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكَانَ زَعِيمَهُمِ الطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ كَأَبِي جَهْلٍ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ - وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ فِي حُكْمِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْخَوَنَةِ، وَالْخَامِسَةُ فِي تَهْدِيدِهِمْ، وَتَأْمِينِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ عَاقِبَةِ كَيْدِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِنَّ شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عِنْدَ اللهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ الْعَدْلِ عَلَى الْخَلْقِ، هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ الْإِصْرَارَ عَلَيْهِ وَالرُّسُوخَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُمْ جُمْلَتُهُمْ أَوْ إِيمَانُ جُمْهُورِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ رُؤَسَاءَ حَاسِدِينَ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَانِدِينَ لَهُ جَاحِدِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُؤَيِّدَةِ لِرِسَالَتِهِ عَلَى عِلْمٍ، عَلَى التَّقْلِيدِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، حَتَّى حَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ، وَنَكْثِ الْأَيْمَانِ بِحَيْثُ لَا حِيلَةَ فِي الْحَيَاةِ مَعَهُمْ أَوْ فِي جِوَارِهِمْ حَيَاةَ سَلْمٍ وَأَمَانٍ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ. عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالدَّوَابِّ وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَهَائِمِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ فِيمَا يُرْكَبُ مِنْهَا لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ شِرَارِ الْبَشَرِ فَقَطْ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْ عَجْمَاوَاتِ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَا نَفْعَ لِغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِجِنْسِهِمْ قَدْ صَارُوا أَعْدَاءً لِسَائِرِ الْبَشَرِ. كَمَا قَالَ فِي وَصْفِ أَمْثَالِهِمْ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (25: 44) وَكَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ 22 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَقَدِ اقْتَبَسَ أُسْتَاذُنَا الْإِمَامُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَقَالَ فِي مَقَالَةٍ مِنْ مَقَالَاتِ الْعُرْوَةَ الْوُثْقَى: وَكَثِيرٌ مِمَّنْ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ يَحْيَا حَيَاتَهُ هَذِهِ بِرُوحِ حَيَوَانٍ آخَرَ، وَهُوَ يُعَانِي تَحْصِيلَ شَهَوَاتِهَا أَوْ قَالَ كَلِمَةً أُخْرَى قَرِيبَةً مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُعَانِيهِ الْإِنْسَانُ فِي إِبْرَازِ مَزَايَا الْإِنْسَانِ. وَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْكُفْرِ دُونَ الْوَصْفِ (الْكَافِرُونَ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَعَرَضَ لَهُمُ الْكُفْرُ، وَهَذَا ظَاهَرٌ فِي جُمْلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا كَفَرُوا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَهُمْ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ مُتَكَافِلُونَ مُتَشَابِهُونَ، آخِرُهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَوَّلِهِمْ، وَهُمْ أَظْهَرُ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ النَّبِيَّ الْكَامِلَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ

56

مُفْصَلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمُجْمَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُبْعَثُ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ مِنْ نُصُوصِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ إِلَى الْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى بَيْنَ بَنِي إِخْوَتِهِمْ أَيْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَكَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ مِنْهُمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِحَّةِ خَبَرِ التَّوْرَاةِ ظُهُورُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِزَعْمِهِمْ مُحْتَكَرَةٌ مُحْتَجَنَةٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَا اعْتَادُوا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ. وَقَالَ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " كَفَرُوا " لَا تَقْتَضِي الثَّبَاتَ عَلَى الْكُفْرِ دَائِمًا، فَعَطَفَ عَلَيْهَا الْإِخْبَارَ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ دَائِمٌ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ فِي جُمْلَتِهِمْ، حَتَّى يَيْئَسَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِمَّا كَانُوا يَرْجِعُونَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي وُقُوعَ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ، وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى السَّلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى الْعَهْدِ بَعْدَ إِيئَاسِهِمْ مِنَ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَـ " الَّذِينَ " هَذِهِ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَقَدَ مَعَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ عَقِبَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا عَهْدًا أَقَرَّهُمْ فِيهِ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَنَقَضَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَهْدَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَخَذْتَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: " مِنْ " صِلَةٌ وَالْمُرَادُ عَاهَدْتَهُمْ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَيْ عَاهَدْتَ بَعْضَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ طَوَائِفُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يَظْهَرُ التَّبْعِيضُ فِيهِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: زُعَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَقْدَ الْعَهْدِ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ: (يَنْقُضُونَ) بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ نَقَضُوهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَفْوَةً رَجَعُوا عَنْهَا، وَنَدِمُوا عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي عَنْ بَعْضِهِمْ، بَلْ أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى عُهُودِ طَوَائِفِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَصْدُقُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَحْدَهُمْ وَكَانُوا أَشَدَّهُمْ كُفْرًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ عَهْدُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَزَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ ثُمَّ قَالُوا نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا، فَعَاهَدَهُمُ الثَّانِيَةَ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَمَالَئُوا الْكُفَّارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَرَكِبَ زَعِيمُهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ اللهَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَتَّقُونَ مَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قِتَالِهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ. وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ لِمُعَامَلَةِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ السَّلَامِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْيَهُودِ بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ

57

قَالَ الرَّاغِبُ: الثَّقْفُ الْحِذْقُ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ الْمُثَاقَفَةُ وَرُمْحٌ مُثَقَّفٌ وَمَا يُثَقَّفُ بِهِ الثَّقَّافُ. . . (قَالَ) : ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ ثَقَافَةٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكِهِمْ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، وَالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيُحَارِبُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ يَكُونُ بِالْحَرْبِ، أَوْ بِمَا يَقْتَضِيهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تُدْرِكْ هَؤُلَاءِ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِهِمْ، وَتُصَادِفْهُمْ فِي الْحَرْبِ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْ: فَنَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا يَكُونُونَ بِهِ سَبَبًا لِشُرُودِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَتَفَرُّقِهِمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ النَّادَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِمَنْ خَلْفَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ: كُفَّارُ مَكَّةَ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْقَبَائِلِ الْمُوَالِيَةِ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا مَعَ الْيَهُودِ النَّاكِثِينَ لِعَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى قِتَالِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْإِثْخَانِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ تَكَرَّرَتْ مُسَالَمَتُهُ لَهُمْ، وَتَجْدِيدُهُ لِعَهْدِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِ، لِئَلَّا يَنْخَدِعَ مَرَّةً أُخْرَى بِكَذِبِهِمْ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَحُبِّ السَّلْمِ، وَعُدَّةُ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تُتْرَكُ إِذَا زَالَتِ الضَّرُورَةُ الدَّافِعَةُ إِلَيْهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي سَتَأْتِي فِي آيَةِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (61) وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْهَمُوهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِي السَّلْمِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُخَادِعِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِثْخَانِ فِيهِمْ لِتَرْبِيَتِهِمْ، وَاعْتِبَارِ أَمْثَالِهِمْ بِحَالِهِمْ دُونَ حُبِّ الْحَرْبِ أَوِ الطَّمَعِ فِي غَنَائِمِهَا، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ: لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ، فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَا يَعُودُ الْمُعَاهِدُ مِنْهُمْ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْأَيْمَانَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِي السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ " وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً عِنْدَ اللهِ، وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ لِذَاتِهَا، وَلَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هِيَ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ، وَدَحْضُ الْبَاطِلِ، وَاكْتِفَاءُ شَرِّ عَمَلِهِ، بِنَاءً عَلَى سُنَّةِ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (13: 17) وَتُسَمَّى فِي عُرْفِ عَصْرِنَا سُنَّةَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ. وَهَذَا الْإِرْشَادُ الْحَرْبِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَسْوَةِ مَعَ الْبَادِئِينَ بِالْحَرْبِ، وَالنَّاقِضِينَ فِيهَا لِعُهُودِ السَّلْمِ، وَالتَّنْكِيلِ بِالْبَادِئِينَ بِالشَّرِّ، لِتَشْرِيدِ مَنْ وَرَاءَهُمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ قُوَّادِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَعَ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ، وَشِفَاءَ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَحْقَادِ، وَالسَّعْيَ لِإِذْلَالِ الْعِبَادِ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْغَنَائِمِ مِنْ مَالٍ وَعَقَارٍ، دُونَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالِاعْتِبَارِ.

58

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ مَنْ لَا ثِقَةَ بِعُهُودِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُخْشَى مِنْهُمْ نَقْضَهَا عِنْدَمَا تَسْنَحُ لَهُمْ غِرَّةٌ فَقَالَ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ أَيْ: وَإِنْ تَتَوَقَّعْ مَنْ قَوْمٍ خِيَانَةً بِنَقْضِ عَهْدِكَ مَعَهُمْ بِأَنْ يَظْهَرَ لَكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْقَرَائِنِ مَا يُنْذِرُ بِهِ، فَاقْطَعْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الْخِيَانَةِ لَكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، بِأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، أَيْ تُعْلِمَهُمْ بِفَسْخِهِ، وَعَدَمِ تَقَيُّدِكَ بِهِ، وَلَا اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيهِ - شَبَّهَ مَا لَا ثِقَةَ بِوَفَائِهِمْ بِهِ مِنْ عُهُودِهِمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلْقَى بِاحْتِقَارٍ، وَيُرْمَى كَالنَّوَى الَّتِي يَلْفِظُهَا الْآكِلُ، وَيَرْمِيهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ - انْبِذْهُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، أَيْ عَلَى طَرِيقٍ سَوِيٍّ وَاضِحٍ لَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا اسْتِخْفَاءَ وَلَا خِيَانَةَ، وَلَا ظُلْمَ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَقُولُ أَعْلِمْهُمْ قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ سَوَاءً، فَلَا يَتَوَهَّمُوا أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ. اهـ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ بِالْفِعْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَبْذِ الْمُسْلِمِينَ عَهِدَهُمْ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُنَاجِزُونَ الْحَرْبَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِمُظَاهَرَةِ بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذِمَّتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّبْذِ لِعَهْدِ مَنْ ذُكِرَ، بَلِ الْعِلَّةُ لَهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ لِأَهْلِهِ الْخِيَانَةَ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ تَقَعُ مِنْ أَكْمَلِ الْبَشَرِ الَّذِي كَانَ يُلَقِّبُهُ أَهْلُ وَطَنِهِ مُنْذُ تَمْيِيزِهِ بِالْأَمِينِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللهُ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَلَا يُغَيِّرُ ذَلِكَ، فَالْخِيَانَةُ مَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللهِ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا وَمَظَاهِرِهَا، فَلَا وَسِيلَةَ إِذًا لِاتِّقَاءِ ضَرَرِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهَا مِنْهُمْ مَعَ عَدَمِ إِبَاحَةِ مُعَامَلَتِهِمْ بِمِثْلِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَهْدِ مِنْ جِهَتِنَا، وَعَدَمِ جَوَازِ حُسْبَانِهِ كَمَا يَقُولُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ مُلُوكِ أُورُبَّةَ: " قُصَاصَةُ وَرَقٍ " - إِلَّا نَبْذُ عَهْدِهِمْ جَهْرًا، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْوَسِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ خِيَانَةِ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ، الَّذِينَ يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا كَانُوا ضُعَفَاءَ لَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْخِيَانَةِ إِلَّا إِذَا كَانُوا آمِنِينَ مِنْ مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَمُنَاجِزَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْقِتَالَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِيهِنَّ سَوَاءٌ - مَنْ عَاهَدْتَهُ فَوَفِّ بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ فَصِلْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى أَمَانَةٍ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَرُوِيَ فِيهَا عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ حَتَّى يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عَقْدَهُ وَلَا يَحِلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمْرُهَا وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى

59

سَوَاءٍ قَالَ: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالْجُيُوشِ. فَهَذَا صَحَابِيٌّ وَعَظَ قَائِدًا صَحَابِيًّا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ فِي وَقْتِ عَهْدِ السَّلْمِ فَاتَّعَظَ وَرَجَعَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْحَرْبِ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِسْلَامُ دُونَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ، وَقَوَانِينِ الْمَدَنِيَّةِ اللَّاحِقَةِ. وَمَعَ هَذِهِ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا كُلِّهَا يَطْعَنُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُكَابِرِي الْحَقِّ فِي هَذَا الدِّينِ، وَفِي أَخْلَاقِ مَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الشَّرِيفَةَ وَقَالَ لَهُ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (68: 4) . ثُمَّ أَنْذَرَ اللهُ تَعَالَى أُولَئِكَ الْخَائِنِينَ بِالْفِعْلِ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فَقَالَ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ (يَحْسَبَنَّ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَظْهَرُ، وَمَعْنَاهَا: وَلَا تَحْسَبَنَّ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ سَبَقُوا بِخِيَانَتِهِمْ لَكَ، وَنَقْضِهِمْ لِعَهْدِكَ بِالسِّرِّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِأَنْ أَفْلَتُوا مِنْ عِقَابِنَا مُتَحَصِّنِينَ بِعَهْدِهِمُ الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنْ قِتَالِهِمْ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (29: 4) - وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَمَعْنَاهَا: وَلَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ أَوْ أَحَدٌ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ سَبَقُوا بِمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، وَمُظَاهَرَتِهِمْ لِأَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْحَرْبِ - أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُونَا، وَنَجَوْا مِنْ عَاقِبَةِ خِيَانَتِهِمْ وَشَرِّهِمْ، وَقَدْ عَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ " إِنَّ " عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا بِتَقْدِيرِ " لِأَنَّهُمْ " وَحَذْفُ لَامِ التَّعْلِيلِ مُطَّرِدٌ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِمَكْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ لِرَسُولِهِ بِمُسَاعَدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ سَيَجْزِيهِمْ وَيُسَلِّطُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، فَيُذِيقُونَهُمْ عَاقِبَةَ كَيْدِهِمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (9: 2) فَهُوَ قَدْ أَعْلَمَ رَسُولَهُ بِخِيَانَتِهِمْ، وَأَذِنَ لَهُمْ بِنَبْذِ عَهْدِهِمْ، لِيُحِلَّ لَهُ مُنَاجَزَتَهُمُ الْقِتَالَ جَزَاءً عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ لِأَعْدَائِهِ عَلَيْهِ وَإِغْرَائِهِمْ بِقِتَالِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْإِسْلَامُ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعُهُودِ مَعَ الْمُحَالِفِينَ مِنْ أَعْدَائِهِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي الدِّينِ: وَمَا حَرَّمَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لَهُمْ فِيهَا، وَمَا شَرَعَهُ مِنَ الْعَدْلِ وَالصَّرَاحَةِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ - لَيْسَ عَنْ ضَعْفٍ وَلَا عَنْ عَجْزٍ، بَلْ عَنْ قُوَّةٍ وَتَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ، وَقَدْ نَصَرَ اللهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ الْخَائِنِينَ النَّاقِضِينَ لِعُهُودِهِمْ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ وَإِجْلَاءَهُمْ لِبَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْهُمْ مَنْ جِوَارِ عَاصِمَةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ مِنْ مَهْدِهِ وَمَعْقِلِهِ (الْحِجَازِ) كَانَ عَدْلًا وَحَقًّا. (فُصُولٌ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَهُودِ الْمَدِينَةِ فِي السَّلْمِ وَالْحَرْبِ) نَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا شَرَحَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ إِتْمَامًا لِمَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ، وَإِثْبَاتًا لَهُ بِالْوَقَائِعِ وَالْبَيِّنَاتِ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

(فَصْلٌ) وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَدِينَةَ صَارَ الْكُفَّارُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ صَالَحَهُمْ وَوَادَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ آمِنُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقِسْمٌ حَارَبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَقِسْمٌ تَارِكُوهُ فَلَمْ يُصَالِحُوهُ، وَلَمْ يُحَارِبُوهُ بَلِ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَعْدَائِهِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ، وَانْتِصَارَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَ عَدُوِّهِ عَلَيْهِ وَانْتِصَارَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مَعَ عَدُوِّهِ فِي الْبَاطِنِ، لِيَأْمَنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ: فَعَامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَصَالَحَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابَ أَمْنٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ: بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِيَ النَّضِيرِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَارَبَتْهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَشَرَّقُوا بِوَقْعَةِ بَدْرٍ وَأَظْهَرُوا الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ، فَسَارَتْ إِلَيْهِمْ جُنُودُ اللهِ يَقْدُمُهُمْ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا أَشْجَعَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَلَّبِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَحَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً إِلَى هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ حَارَبَ مِنَ الْيَهُودِ، وَتَحَصَّنُوا فِي حُصُونِهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الَّذِي إِذَا أَرَادَ خِذْلَانَ قَوْمٍ وَهَزِيمَتَهُمْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَكُتِّفُوا، وَكَلَّمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيهِمْ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَوَهَبَهُمْ لَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَا يُجَاوِرُوهُ بِهَا، فَخَرَجُوا إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ فَقَلَّ أَنْ لَبِثُوا فِيهَا حَتَّى هَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانُوا صَاغَةً وَتُجَّارًا، وَكَانُوا نَحْوَ السِّتِّمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَتْ دَارُهُمْ فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ، وَقَبَضَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثَلَاثَ قِسِيٍّ وَدِرْعَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ وَثَلَاثَةَ رِمَاحٍ وَخَمَّسَ غَنَائِمَهُمْ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى جَمْعَ الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو النَّضِيرِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَهُ عُرْوَةُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَلَّمَهُمْ أَنْ يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِييِّنَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، فَقَالُوا: نَفْعَلُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. اجْلِسْ هَاهُنَا حَتَّى نَقْضِيَ حَاجَتَكَ، وَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَسَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ الشَّقَاءَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ فَتَآمَرُوا بِقَتْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالُوا: أَيُّكُمْ يَأْخُذُ هَذِهِ الرَّحَى وَيَصْعَدُ فَيُلْقِيهَا عَلَى رَأْسِهِ يَشْدَخُهُ بِهَا؟ فَقَالَ أَشْقَاهُمْ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشٍ: أَنَا، فَقَالَ لَهُمْ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ: لَا تَفْعَلُوا، فَوَاللهِ لَيُخْبَرَنَّ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ، وَإِنَّهُ لَنَقْضُ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَجَاءَ الْوَحْيُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا هَمُّوا بِهِ فَنَهَضَ مُسْرِعًا، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَحِقَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا:

نَهَضْتَ وَلَمْ نَشْعُرْ بِكَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا هَمَّتْ يَهُودُ بِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنِ اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا، فَمَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِهَا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَلَّا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ فَإِنَّ مَعِيَ أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ، وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ، وَطَمِعَ رَئِيسُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِيمَا قَالَهُ لَهُ، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابُهُ وَنَهَضُوا إِلَيْهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَحْمِلُ اللِّوَاءَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَقَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ يَرْمُونَ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ، وَخَانَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ، وَلِهَذَا شَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قِصَّتَهُمْ، وَجَعَلَ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ (59: 16) فَإِنَّ سُورَةَ الْحَشْرِ هِيَ سُورَةُ بَنِيَ النَّضِيرِ، وَفِيهَا مَبْدَأُ قِصَّتِهِمْ وَنِهَايَتُهَا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَطَعَ نَخْلَهُمْ وَحَرَقَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: نَحْنُ نَخْرُجُ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهَا بِنُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَأَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ، وَقَبَضَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْأَمْوَالَ وَالْحَلْقَةَ وَهِيَ السِّلَاحُ، وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِنَوَائِبِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخَمِّسْهَا؛ لِأَنَّ اللهَ أَفَاءَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَخَمَّسَ قُرَيْظَةَ. قَالَ مَالِكٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: خَمَّسَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُخَمِّسْ بَنِي النَّضِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِفُوا بِخَيْلِهِمْ وَلَا رِكَابِهِمْ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ كَمَا أَوْجَفُوا عَلَى قُرَيْظَةَ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى خَيْبَرَ وَفِيهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ كَبِيرُهُمْ، وَقَبَضَ السِّلَاحَ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَوَجَدَ مِنَ السِّلَاحِ خَمْسِينَ دِرْعًا وَخَمْسِينَ بَيْضَةً، وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ فِي رَبِيعِ أَوَّلٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا قُرَيْظَةُ فَكَانَتْ أَشَدَّ الْيَهُودِ عَدَاوَةً لِرَسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَغْلَظَهُمْ كُفْرًا، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَكَانَ سَبَبُ غَزْوِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ صُلْحٌ جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي دِيَارِهِمْ، فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِعِزِّ الدَّهْرِ، جِئْتُكُمْ بِقُرَيْشٍ عَلَى سَادَاتِهَا وَغَطَفَانَ عَلَى قَادَاتِهَا وَأَنْتُمْ أَهْلُ الشَّوْكَةِ وَالسِّلَاحِ، فَهَلُمَّ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ

رَئِيسُهُمْ: بَلْ جِئْتَنِي وَاللهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ، جِئْتَنِي بِسَحَابٍ قَدْ أَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوَ يَرْعَدُ وَيَبْرُقُ. فَلَمْ يَزَلْ يُخَادِعُهُ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، حَتَّى أَجَابَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي حِصْنِهِ يُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ، فَفَعَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَظْهَرُوا سَبَّهُ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ يَسْتَعْلِمُ الْأَمْرَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَكَبَّرَ وَقَالَ: (أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ) فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، فَانْهَضْ بِمَنْ مَعَكَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. فَسَارَ جِبْرَائِيلُ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَثَرِهِ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. (فَصْلٌ) وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرَّايَةَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَنَازَلَ حُصُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَحَصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَئِيسُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ثَلَاثَ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَيَدْخُلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ فِي دِينِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا ذَرَارِيهِمْ، وَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ مُصْلَتِينَ يُنَاجِزُونَهُ حَتَّى يَظْفَرُوا بِهِ أَوْ يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ وَيَكْبِسُوهُمْ يَوْمَ السَّبْتِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِيهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبُوهُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ نَسْتَشِيرُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا فِي وَجْهِهِ يَبْكُونَ، وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ: كَيْفَ تَرَى لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ يَقُولُ: إِنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ عَلِمَ مِنْ فَوْرِهِ أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ فَرَبَطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحِلَّهُ إِلَّا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِيَدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ قَالَ: " دَعَوْهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ وَحَلَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِيَدِهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَامَتْ إِلَيْهِ الْأَوْسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ فَعَلْتَ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَهُمْ حُلَفَاءُ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ، وَهَؤُلَاءِ مَوَالِينَا فَأَحْسِنْ فِيهِمْ. فَقَالَ: " أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَذَاكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ " قَالُوا: قَدْ رَضِينَا، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ لِجُرْحٍ كَانَ بِهِ، فَرَكِبَ حِمَارًا وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ

لَهُ وَهُمْ كَنَفَيْهِ: يَا سَعْدُ أَجْمِلْ إِلَى مَوَالِيكَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ حَكَّمَكَ فِيهِمْ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَعَى إِلَيْهِمُ الْقَوْمَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِلصَّحَابَةِ: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " فَلَمَّا أَنْزَلُوهُ. قَالُوا: يَا سَعْدُ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكِ. قَالَ: وَحُكْمِي نَافِذٌ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا؟ وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ وَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِجْلَالًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، قَالَ: " نَعَمْ وَعَلَيَّ " قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ الرِّجَالُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَتُقَسَّمَ الْأَمْوَالُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ " وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ نَفَرٌ قَبْلَ النُّزُولِ. وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ فَانْطَلَقَ فَلَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ ذَهَبَ، وَكَانَ قَدْ أَبَى الدُّخُولَ مَعَهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، فَلَمَّا حُكِمَ فِيهِمْ بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَنْبُتْ أُلْحِقَ بِالذُّرِّيَّةِ، فَحَفَرَ لَهُمْ خَنَادِقَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ وَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ، وَلَمْ يَقْتُلْ مِنَ النِّسَاءِ أَحَدًا سِوَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ طَرَحَتْ عَلَى رَأْسِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ رَحًى فَقَتَلَتْهُ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ فُصُولِ الْهَدْيِ بِحُرُوفِهِ مَعَ حَذْفِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي قُرَيْظَةَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنْ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَقَسَّمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. إِلَّا أَنْ بَعْضَهُمْ لَحِقُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَآمَنَهُمْ وَأَسْلَمُوا. وَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ (وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ) وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ، وَكُلَّ يَهُودِيٍّ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ اهـ. وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (59: 3 و4) . ثُمَّ إِنَّ كُلَّ هَذَا لَمْ يَعِظْ يَهُودَ خَيْبَرَ، وَلَمْ يَزْجُرْهُمْ عَنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْكَيْدِ لَهُ، بَلْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمُ السَّعْيُ لِتَأْلِيفِ الْأَحْزَابِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ لِقِتَالِهِ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانُوا سَبَبَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ الَّتِي زُلْزِلَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا زِلْزَالًا شَدِيدًا كَمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسَنَحَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فُرْصَةُ الِاسْتِرَاحَةِ مِنْ شَرِّهِمْ بَعْدَ صُلْحِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَغَزَاهُمْ

رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَظْفَرَهُ اللهُ بِهِمْ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ لِحُصُونِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ. وَبِذَلِكَ زَالَتْ قُوَّةُ الْيَهُودِ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا. هَذَا وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْيَهُودِ مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ بِإِجْلَاءِ مَنْ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَدْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنْ نَصَحَ لِلْبَاقِينَ مِنْهُمْ قَبْلَ إِجْلَائِهِمْ بِبَيْعِ أَمْوَالِهِمْ وَإِحْرَازِ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْيَهُودِ " فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَادَاهُمْ: " يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا " فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: " ذَلِكَ أُرِيدُ " ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ " اهـ. قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " ذَلِكَ أُرِيدُ " مَعْنَاهُ أُرِيدُ اعْتِرَافَكُمْ بِأَنَّنِي بَلَّغْتُ دَعْوَةَ رَبِّي لَا أَنْ أُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ إِيذَائِي إِيَّاكُمْ بِالْجَلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَعَدَمِ إِجَابَتِهَا، وَقَوْلُهُ: " إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ " مَعْنَاهُ أَنَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَحُكْمًا وَلِرَسُولِهِ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ وَتَصَرُّفًا فِي الْأَرْضِ بِأَمْرِهِ. وَبَعْدَ هَذِهِ الْعِبَرِ أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَبِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، بَلْ لِهَذَا سِرٌّ ظَهَرَ لِلْعِيَانِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ أَوْضَحُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ بِلَفْظِ " إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ " إِلَخْ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ (أَوَّلِهَا) : " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا " وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ قَالَ: لَا يَبْرُكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ

60

دِينَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَامِرِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الَّتِي أَخْرَجَ عُمَرُ مِنْهَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمُخَالِيفِهَا، فَأَمَّا الْيَمَنُ فَلَيْسَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ اهـ. أَيْ لَيْسَ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْمُرَادَةِ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ الْمُنَفِّذُ لِلْوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ لَمْ يُخْرِجِ الْيَهُودَ مِنْهُ، فَبِهَذَا خَصُّوا لَفْظَ الْجَزِيرَةِ بِالْحِجَازِ، وَمِنْهُ أَرْضُ خَيْبَرَ فَإِنَّ عُمَرَ أَجْلَاهُمْ مِنْهَا. وَيَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَحِلُّ مَحِلَّ تَحْقِيقِهِ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ عَقَدَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَهُمُ الْعُهُودَ الَّتِي أَمَّنَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، فَقَدْ خَانُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَسَاعَدُوا عَلَيْهِ أَعْدَاءَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، ثُمَّ تَبِعُوهُمْ إِلَى مَهْجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ حَرْبًا لَهُ، الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ أَمْرًا وَاقِعًا لَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُحْدِثِينَ لَهُ وَلَا الْبَادِئِينَ بِالْعُدْوَانِ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي الْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِعْدَادُ تَهْيِئَةُ الشَّيْءِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالرِّبَاطُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الدَّابَّةُ كَالْمِرْبَطِ (بِالْكَسْرِ) وَرِبَاطُ الْخَيْلِ حَبْسُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا - وَرَابَطَ الْجَيْشُ: أَقَامَ فِي الثَّغْرِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ، ثُمَّ سَمَّى الْإِقَامَةَ فِي الثَّغْرِ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا اهـ. مِنَ الْأَسَاسِ. أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَجْعَلُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ (الَّتِي عَلِمُوا أَنْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا لِدَفْعِ الْعُدْوَانِ وَالشَّرِّ، وَلِحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَرِعَايَتِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ) بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) إِعْدَادُ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ لَهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ. (وَثَانِيهِمَا) مُرَابَطَةُ فُرْسَانِهِمْ فِي ثُغُورِ بِلَادِهِمْ وَحُدُودِهَا، وَهِيَ مَدَاخِلُ الْأَعْدَاءِ وَمَوَاضِعُ مُهَاجَمَتِهِمْ لِلْبِلَادِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمَّةِ جُنْدٌ دَائِمٌ مُسْتَعِدٌّ لِلدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا فَاجَأَهَا الْعَدُوُّ عَلَى غِرَّةٍ، قَاوَمَهُ الْفُرْسَانُ، لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِتَالِ، وَإِيصَالِ أَخْبَارِهِ مِنْ ثُغُورِ الْبِلَادِ إِلَى عَاصِمَتِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَمْرَ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهَا. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ تُعَوِّلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهِ الْفُنُونُ الْعَسْكَرِيَّةُ وَعَتَادُ الْحَرْبِ إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ، بَلْ لَمْ تَكُنْ تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَتَخَيَّلُهَا الْأَفْكَارُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ إِعْدَادَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ يَخْتَلِفُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ بِهِ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسْبِهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ " قَالَهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ الْحَجُّ عَرَفَةُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ فِي بَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَمْيَ الْعَدُوِّ عَنْ بُعْدٍ بِمَا يَقْتُلُهُ أَسْلَمُ مِنْ مُصَاوَلَتِهِ عَلَى الْقُرْبِ بِسَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ حَرْبَةٍ، وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ فِي الْحَدِيثِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُرْمَى بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ سَهْمٍ أَوْ قَذِيفَةِ مَنْجَنِيقٍ أَوْ طَيَّارَةٍ أَوْ بُنْدُقِيَّةٍ أَوْ مِدْفَعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ هَذَا مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ يَقْتَضِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَيَّدَهُ بِالسِّهَامِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُقَيِّدْهُ، وَمَا يُدْرِينَا لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُطْلَقًا، لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ لِأُمَّتِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِحَسْبِ مَا يُرْمَى بِهِ فِيهِ - وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي الْحَثِّ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ؛ لِأَنَّهُ كَرَمْيِ الرَّصَاصِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُسْتَطَاعِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ كَسَائِرِ خِطَابَاتٍ التَّشْرِيعِ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا وَارِدًا فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ. وَمِنْ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ صُنْعُ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالدَّبَّابَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ وَإِنْشَاءُ السُّفُنِ الْحَرْبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا الْغَوَّاصَاتُ الَّتِي تَغُوصُ فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا

صُنْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ قُوَى الْحَرْبِ بِدَلِيلِ: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ " وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَعْمَلُوا الْمَنْجَنِيقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا. وَكُلُّ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْمَعِيشَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَصِنَاعَاتِ آلَاتِ الْقِتَالِ. وَقَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ هَذِهِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الرَّمْيِ مَا نَصَّهُ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّمْيَ بِالنِّبَالِ الْيَوْمَ لَا يُصِيبُ هَدَفَ الْقَصْدِ مِنَ الْعَدْوِ، وَلِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الرَّمْيَ بِالْبُنْدُقِ وَالْمَدَافِعِ وَلَا يَكَادُ يَنْفَعُ مَعَهُمَا نَبْلٌ، وَإِذَا لَمْ يُقَابَلُوا بِالْمِثْلِ عَمَّ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَاشْتَدَّ الْوَبَالُ وَالنَّكَالُ، وَمَلَكَ الْبَسِيطَةَ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَالَّذِي أُرَاهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى تَعَيُّنِ تِلْكَ الْمُقَابَلَةِ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُمَاةِ الدِّينِ، وَلَعَلَّ فَضْلَ ذَلِكَ الرَّمْيِ يَثْبُتُ لِهَذَا الرَّمْيِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِي الذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَرَى مَا فِيهِ مِنَ النَّارِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ إِلَّا سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَلَا يَبْعُدُ دُخُولُ مِثْلِ هَذَا الرَّمْيِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. وَأَقُولُ: قَدْ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ قَبْلَهُ بِعُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ، قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْهَا الرَّمْيُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ، وَكُلَّ مَا هُوَ آلَةٌ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الرَّمْيِ وَأَنَّهُ كَحَدِيثِ الْحَجُّ عَرَفَةُ وَأَنَا لَا أَدْرِي سَبَبًا لِالْتِجَاءِ الْآلُوسِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَاكْتِفَائِهِ بِدُخُولِ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي عُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ بِعَدَمِ الِاسْتِبْعَادِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُعَمَّمِينَ فِي عَصْرِهِ حَرَّمُوا اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْآلَاتِ النَّارِيَّةِ بِشُبْهَةٍ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ الَّذِي مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَا أَرَى مَا فِيهِ مِنَ النَّارِ إِلَخْ. نَعَمْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ قَدْ مَنَعَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ وَالْجَبَّارُونَ مِنَ الْمُلُوكِ بِأَعْدَائِهِمْ، كَأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمُلْعُونِينَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، وَلَكِنْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ أَنْ يُعَدَّ حَرْبُ الْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ لِلْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَنَا بِهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ دِينَنَا دِينُ الرَّحْمَةِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَمِلَ قَتْلَهُمْ إِيَّانَا بِهَذِهِ الْمَدَافِعِ، وَأَلَّا نُقَاتِلَهُمْ بِهَا رَحْمَةً بِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا فِي التَّعَامُلِ فِيمَا بَيْنَنَا أَنْ نَجْزِيَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا عَمَلًا بِالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعَفْوَ فَضِيلَةً لَا فَرِيضَةً فَقَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (42: 40 و14) إِلَى أَخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (16: 126) أَفَلَا يَكُونُ مِنَ الْعَدْلِ بَلْ فَوْقَ الْعَدْلِ فِي الْأَعْدَاءِ أَنْ نُعَامِلَهُمْ بِمِثْلِ الْعَدْلِ الَّذِي نُعَامِلُ بِهِ إِخْوَانَنَا أَوْ بِمَا وَرَدَ بِمَعْنَى الْآيَةِ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، قَاتِلُوهُمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَكُمْ

بِهِ؟ وَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْعَدْلِ فِي حَالِ الْحَرْبِ، نَعَمْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنْ تَحْرِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ الْحَرْبِيَّةِ كَإِحْرَاقِ سُفُنِ الْحَرْبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءً بِالْمِثْلِ، وَالْجَزَاءُ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ فَمَعْنَاهُ: أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ عَتَادِ الْقِتَالِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجُنْدُ، وَمِنَ الْفُرْسَانِ الْمُرَابِطِينَ فِي ثُغُورِكُمْ وَأَطْرَافِ بِلَادِكُمْ حَالَةَ كَوْنِكُمْ تُرْهِبُونَ بِهَذَا الْإِعْدَادِ - أَوِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالرِّبَاطِ - عَدُوَّ اللهِ الْكَافِرِينَ بِهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَعَدُوَّكُمُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ وَيُنَاجِزُونَكُمُ الْحَرْبَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. وَالْإِرْهَابُ: الْإِيقَاعُ فِي الرَّهْبَةِ، وَمِثْلُهَا الرَّهَبُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْمُقْتَرِنُ بِالِاضْطِرَابِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَكَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ وَالَاهُمْ هُمُ الْجَامِعِينَ لِهَاتَيْنِ الْعَدَاوَتَيْنِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ (60: 1) وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ وَالَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ. وَقِيلَ: لَا، وَإِيمَانُ هَؤُلَاءِ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ وَالَوْهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ أَوْ بَعْضُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أَيْ: وَتَرْهَبُونَ بِهِ أُنَاسًا مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الْمَعْرُوفِينَ أَوْ مِنْ وَرَائِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ الْآنَ عَدَاوَتَهُمْ، أَوْ لَا تَعْرِفُونَ ذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانَهُمْ بَلِ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَعَزَاهُ الْبَغَوِيُّ إِلَى مُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ أَيْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَاوَتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَظْهَرَتِ الْأَيَّامُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَاوَتَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ وَمِنْ بَعْدِهِ كَالرُّومِ، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ ذَكَرَ الْفُرْسَ فِي تَفْسِيرِهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّومَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَشْمَلُ مَنْ عَادَى جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، كَالْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَقَاتَلُوهُمْ أَوْ أَعَانُوا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَرِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: " هُمُ الْجِنُّ وَلَا يَخْبِلُ الشَّيْطَانُ إِنْسَانًا فِي دَارِهِ فَرَسٌ عَتِيقٌ " قَالَ الْآلُوسِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِيَارِهِ لَهُ بِظَنِّهِ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُنْكَرَةِ عَنِ الْمَجْهُولِينَ يَصْرِفُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ شَوْكَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، إِلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الْخُرَافِيِّ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَيْلِ الْعِتَاقِ يُرْهِبُ

الْجِنَّ وَيَحْفَظُ النَّاسَ مِنْ خَبَلِهِمْ، كَأَنَّهَا تَعَاوِيذُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْجُنُونِ، لَا عُدَّةٌ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْآيَةِ، وَمِنْ سَائِرِ السِّيَاقِ الَّذِي هُوَ فِي قِتَالِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَلَا مَتْنُهُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ سَقَطَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ اخْتِيَارُهُ لَهُ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى بُطْلَانِ سَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَاهَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَزَعْمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عَدَاوَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَارِسَ وَالْمُنَافِقِينَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَأَمَّا نَقْضُ قُرَيْظَةَ لِلْعَهْدِ فَقَدِ اعْتَذَرُوا عَنْهُ فَقَبِلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عُذْرَهُمْ وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْفُرْسُ فَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَتُهُمْ تَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يُرْهَبُونَ بِإِعْدَادِ قُوَى الْحَرْبِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ، إِذْ لَمْ يَفْضَحِ الْوَحْيُ كُفْرَ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَقِيَ بَاقِيهِمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ وَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَرِيبٍ: وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (9: 101) اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْوَقْفِ عَنْ تَعْيِينِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وَلَكِنْ عَدَمُ عِلْمِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يُنَافِي هَذَا الْعِلْمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعِبَارَةَ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنَ الْمُبْتَدِعِينَ فِي دِينِهِ الْكَارِهِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَعْدَ نَقْلِ عِبَارَةِ السُّهَيْلِيِّ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي التَّعْلِيلِ: ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِإِعْدَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَالَ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَأَهِّبِينَ لِلْجِهَادِ وَمُسْتَعِدِّينَ لَهُ مُسْتَكْمِلِينَ لِجَمِيعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ خَافُوهُمْ، وَذَلِكَ الْخَوْفُ يُفِيدُ أُمُورًا كَثِيرَةً: (أَوَّلُهَا) أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ. (وَثَانِيهَا) أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ فَرُبَّمَا الْتَزَمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ جِزْيَةً. (وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ (وَرَابِعُهَا) أَنَّهُمْ لَا يُعِينُونَ سَائِرَ الْكُفَّارِ. (وَخَامِسُهَا) أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الزِّينَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ: وَالْمُرَادُ أَنَّ تَكْثِيرَ آلَاتِ الْجِهَادِ وَأَدَوَاتِهَا كَمَا يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ نَعْلَمُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً، كَذَلِكَ يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ - وَبَيَّنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمُ انْقَطَعَ طَمَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ

عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَيَصِيرُوا مُخْلِصِينَ فِي الْإِيمَانِ. (الثَّانِي) أَنَّ الْمُنَافِقَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَرَبَّصَ ظُهُورَ الْآفَاتِ، وَيَحْتَالَ فِي إِلْقَاءِ الْإِفْسَادِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَاهَدَ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ خَافَهُمْ، وَتَرَكَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَذْمُومَةَ اهـ. وَكُلُّ مَا قَالَهُ حَسَنٌ وَصَوَابٌ إِلَّا قَوْلُهُ بِتَرْكِ الْمُنَافِقِ لِلْكُفْرِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ إِلَخْ. فَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُرْجَى أَنْ يَصِيرَ مُخْلِصًا بِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ لَهُ بَعْدَ خَفَائِهَا عَنْهُ بِتَوَقُّعِهِ هَلَاكَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالُوا: الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبَسَائِطِ، أَيْ لَا تَعْرِفُونَ ذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانَهُمْ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ إِسْنَادِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. أَوْ وَصْفُهُ بِهَا خَاصٌّ بِلَفْظِهَا، أَوْ بِمَا يُشْعِرُ بِمَا خَصُّوا بِهَا مَعْنَاهَا مِنْ كَوْنِهِ إِدْرَاكَ الشَّيْءِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ لِأَثَرِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ لَا تَعْلَمُونَهُمْ مُعَادِينَ لَكُمْ، وَيُعَلِّلُهُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ بِأَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَأَتْقَنُوهُ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَا يَفْضَحُهُمْ فِيهِ. أَقُولُ: وَهَذَا التَّقْيِيدُ لِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ بِقَصْدِ إِرْهَابِ الْأَعْدَاءِ الْمُجَاهِرِينَ وَالْأَعْدَاءِ الْمُسْتَخْفِينَ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ - وَمَنْ سَيَظْهَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ - دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ جَعْلِهِ سَبَبًا لِمَنْعِ الْحَرْبِ عَلَى جَعْلِهِ سَبَبًا لِإِيقَاذِ نَارِهَا، فَهُوَ يَقُولُ: اسْتَعَدُّوا لَهَا لِيَرْهَبَكُمُ الْأَعْدَاءُ عَسَى أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى قِتَالِكُمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ دُوَلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالسَّلَامِ الْمُسَلَّحِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّعْفَ يُغْرِي الْأَقْوِيَاءَ بِالتَّعَدِّي عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَلَكِنَّ الدُّوَلَ الِاسْتِعْمَارِيَّةَ تَدَّعِي هَذَا بِأَلْسِنَتِهَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَاهَا أَنَّهَا تَقْصِدُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ حِفْظَ السَّلْمِ الْعَامِّ، وَكَانَ يُظَنُّ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السَّلْمَ الْخَاصَّ بِدُوَلِ أُورُبَّةَ، وَأَنَّ الْحَرْبَ امْتُنِعَتْ مِنْهَا، فَأَبْطَلَتْ ذَلِكَ الظَّنَّ الْحَرْبُ الْعَامَّةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ حُرُوبِ التَّارِيخِ أَهْوَالًا وَتَقْتِيلًا وَتَخْرِيبًا، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدُ النَّاسِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ تَعَبُّدًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى آيَةُ السَّلْمِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْآيَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَضَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَقَالَ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: وَمَهْمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ نَقْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهَ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فِي إِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ يُعْطِكُمُ اللهُ جَزَاءَهُ وَافِيًا تَامًّا وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ جَزَائِهِ شَيْئًا، أَوْ لَا يَلْحَقُكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظُلْمٌ وَلَا اضْطِهَادٌ مِنْ أَعْدَائِكُمْ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ الْمُسْتَعِدَّ لِمُقَاوَمَةِ الْمُعْتَدِينَ بِالْقُوَّةِ قَلَّمَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ فَقَلَّمَا يَظْفَرُ بِهِ الْمُعْتَدِي وَيَنَالُ مِنْهُ مَا يُعَدُّ بِهِ ظَالِمًا لَهُ، فَأَنْتُمْ مَا ظُلِمْتُمْ بِإِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ إِلَّا لِضَعْفِكُمْ، وَسَيَأْتِي التَّذْكِيرُ بِذَلِكَ الظُّلْمِ فِي بَيَانِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إِعْدَادَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى

الْجِهَادِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهِ إِلَّا بِإِنْفَاقِ الْمَالِ الْكَثِيرِ، فَلِهَذَا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُنْفِقُونَهُ فِيهَا يُوَفَّى إِلَيْهِمْ، أَيْ: يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ جَزَاءً وَافِيًا إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلَيْهِمَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، كَمَا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنَافِقِينَ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (9: 52) الْآيَةَ. وَسَتَأْتِي قَرِيبًا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَالْحُسْنَيَانِ فِيهَا هُمَا: النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالشَّهَادَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ بَذْلُ مَا يَكْفِي لِلْإِعْدَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلُوا طَوْعًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ الْعَادِلِ إِلْزَامُ الْأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ لِوِقَايَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، كَمَا قَالَ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2: 195) فَسَبِيلُ اللهِ هُنَا وَهُنَالِكَ هُوَ الْجِهَادُ الْوَاقِي لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ بَغْيِ أَهْلِ الْبَاطِلِ - وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًا يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ تَعْلِيلًا لَهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22: 39 - 41) . فَهَذَا هُوَ الْجِهَادُ الْإِسْلَامِيُّ، وَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَأُصُولُهُ وَعِلَلُهَا، وَهِيَ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا تُفَنِّدُ تَقَوُّلَاتِ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَامَ بِالسَّيْفِ، وَغَلَبَ بِالْقَهْرِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ أَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَبِمَا تَوَاتَرَ مِنْ تَارِيخِهِ أَنَّهُ دِينٌ قَامَ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِقْنَاعِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَذَا الدَّاعِيَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَدْنَوْنَ: زَوْجُهُ الَّتِي كَانَتْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَالِهِ، وَرَبِيبُهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى، وَعَتِيقُهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَأَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ خَارِجَ بَيْتِهِ فَعَقِلَهَا وَفَقِهَ سِرَّهَا، وَأَدْرَكَ حَقِّيَّتَهَا وَفَضْلَهَا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَقَبِلَهَا بِلَا تَلَبُّثٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَمَا زَالَ جُمْهُورُ قَوْمِ الدَّاعِي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُؤْذُونَهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ وَيَفْتِنُونَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ بِأَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ دِيَارِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ بَعْدَ ظُهُورِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ صَارَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَتْبَعُونَهُمْ إِلَى مُهَاجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ. وَلَمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِالدِّفَاعِ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ، وَأَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَأَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الدِّفَاعُ

61

لَغَلَبَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ، وَهَدَمُوا بُيُوتَ اللهِ تَعَالَى لِإِبْقَاءِ هَيَاكِلِ الْأَصْنَامِ وَبُيُوتِ الْأَوْثَانِ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عِنْدَ انْتِصَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ الْمَعَاشِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَيَزُولُ بُؤْسُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ بِمُشَارَكَتِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِحُكْمِ اللهِ الْمُغْنِي لَهُمْ، لَا بِمُجَرَّدِ أريحَتِهِمْ وَتَفَضُّلِهِمْ، وَتَعَيَّنَ عَلَى السَّيَّاحَةِ بِكِفَايَةِ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَيُكَلَّفُونَ حِفْظَ الْفَضِيلَةِ وَمَنْعَ الرَّذَائِلِ بِإِقَامَةِ فَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الْجِهَادِ تُخَالِفُهَا الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فَتُبِيحُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشَ، وَتُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ. هَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَرْعِيَّةِ هَذَا الْجِهَادِ الَّذِي يَعِيبُهُ الْمُتَعَصِّبُونَ الْمُرَاءُونَ مِنَ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ لِأَهْلِ الْحَقِّ إِرْهَابَ أَعْدَائِهِمْ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَعَلَّهُمْ يَكُفُّونَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ قَادِرِينَ عَلَى حِفْظِهَا بِالدِّفَاعِ عَنْهُمَا، وَإِضْعَافِ شَوْكَةِ الْبَاغِينَ الْمُبْطِلِينَ أَوِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ السَّلْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ كَمَا أَفَادَ مَفْهُومُ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَكَّدَهُ بِمَنْطُوقِ الْآيَةِ اللَّاحِقَةِ، فَقَالَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ " لِلسَّلْمِ " بِفَتْحِ السِّينِ، وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَهِيَ كَالسَّلَامِ: الصُّلْحِ، وَضِدُّ الْحَرْبِ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ السَّلْمِ وَالسَّلَامِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (2: 208) وَلَفْظُ السَّلْمِ مُؤَنَّثٌ كَمُقَابِلِهِ (الْحَرْبِ) وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُذَكِّرُهُمَا. وَجَنَحَ لِلشَّيْءِ وَإِلَيْهِ مَالَ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْجَنَاحَيْنِ أَيِ الْجَانِبَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ كَجَنَاحَيِ الطَّيْرِ وَالْإِنْسَانِ وَالسَّفِينَةِ وَالْعَسْكَرِ. وَقَالُوا: جَنَحَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ أَيْ مَالَتْ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ الَّذِي تَغِيبُ فِي أُفُقِهِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِجَانِبِ الشَّرْقِ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ: جَنَحَتْ لِلشَّرْقِ، لِأَنَّنَا لَا نَرَاهَا قَبْلَ شُرُوقِهَا مَائِلَةً إِلَى جَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي انْقَلَبَتْ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُقَالُ: جَنَحَ اللَّيْلُ، بِمَعْنَى مَالَ لِلذَّهَابِ وَلِلْمَجِيءِ. وَالْمَعْنَى: وَإِنْ مَالُوا عَنْ جَانِبِ الْحَرْبِ إِلَى جَانِبِ السَّلْمِ خِلَافًا لِلْمَعْهُودِ مِنْهُمْ فِي حَالِ قُوَّتِهِمْ، فَاجْنَحْ لَهَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِأَنَّكَ أَوْلَى بِالسَّلْمِ مِنْهُمْ. وَعَبَّرَ عَنْ جُنُوحِهِمْ بِـ " إِنْ " الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَشْكُوكِ فِي وُقُوعِهِ، أَوْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِاخْتِيَارِهِ لِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ جُنُوحُهُمْ إِلَيْهِ كَيْدًا وَخِدَاعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اقْبَلْ مِنْهُمُ السَّلْمَ، وَفَوِّضْ أَمْرَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَا تَخَفْ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ وَتَوَسُّلَهُمْ بِالصُّلْحِ

62

إِلَى الْغَدْرِ كَمَا فَعَلُوا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُونَ، الْعَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَخْفَى عَلَيْكَ مِنَ ائْتِمَارِهِمْ وَتَشَاوُرِهِمْ، وَلَا مِنْ كَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ. قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ، وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَيَرُدُّ التَّخْصِيصَ قَبُولُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةَ، وَتَرْكَ الْحَرْبِ إِلَى مُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ، مَعَ مَا اشْتَرَطُوا فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي كَرِهَهَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَكَادَتْ تَكُونُ فِتْنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ وَلَكِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِنَسْخِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ آيَةَ (بَرَاءَةٌ) فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ كَثِيفًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ فِي الْجَوَابِ أَيْضًا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ جَنَحُوا إِلَى السَّلْمِ، وَأَبَاهُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَلْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، ثُمَّ ظَلُّوا يُقَاتِلُونَهُ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عَاصِمَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا فَعَلُوا فِي الطَّائِفِ إِلَى أَنْ ذَهَبَتْ رِيحُهُمْ، وَخُضِدَتْ شَوْكَةُ زُعَمَائِهِمْ، وَصَارَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَتَمَّ مَا أَرَادَ اللهُ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَهْدُ الْإِسْلَامِ حِصْنًا وَمِئْزَرًا لِلْإِسْلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي حَالِ قَبُولِ السَّلْمِ إِنْ جَنَحُوا إِلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ مِنْهُمُ اخْتِيَارًا فَقَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بِجُنُوحِهِمْ لِلسَّلْمِ، وَيَفْتَرِضُوهُ لِأَجْلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ، أَوِ انْتِظَارِ غِرَّةٍ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ أَيْ: كَافِيكَ أَمْرَهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ " حَسْبَ " تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: أَحْسَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى أَحْسَبَهُ، أَيْ أَجْزَلَ لَهُ وَكَفَاهُ، حَتَّى قَالَ: حَسْبِي، أَيْ لَا حَاجَةَ لِي فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْمُدَقِّقُونَ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّهَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحْسَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا، أَيْ مُحْسِبُكَ وَكَافِيكَ قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنَ الْمَكَارِمِ حَسْبَكُمْ ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْكِفَايَةَ بِالتَّأْيِيدِ الرَّبَّانِيِّ، وَأَنَّ مِنْهُ تَسْخِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً مُتَّحِدَةً مُتَآلِفَةً مُتَعَاوِنَةً عَلَى نَصْرِهِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ

63

بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَمَا هُوَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَالْمَلَائِكَةِ الَّتِي ثَبَّتَتِ الْقُلُوبَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْأَنْصَارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ: بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي الَّذِي رَسَخَ بِالْحَرْبِ الطَّوِيلَةِ وَالضَّغَائِنِ الْمَوْرُوثَةِ، وَجَمَعَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالنَّفِيسِ فِي مُنَاصَرَتِكَ. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي: كَانَ هَذَا بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (3: 103) إِلَخْ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ إِرَادَةَ مَجْمُوعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَدْ كَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ تَحَاسُدٌ وَلَا تَعَادٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، كَمَا أَلَّفَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا بَعْدَ طُولِ الْعَدَاءِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَدْ كَادَ يَقَعُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عِنْدَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي حُنَيْنٍ فَكَفَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَحِكْمَةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ كَانَ عَدَدُ الْمُهَاجِرِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ثَمَانِينَ رَجُلًا أَوْ زِيَادَةً كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَكَانَ الْبَاقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ تَتِمَّةُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ. وَالْعُمْدَةُ فِي إِرَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ التَّأْيِيدَ بِالْفِعْلِ وَالنَّصْرِ حَصَلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي كُلِّ شَيْءٍ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي زَمَنِ الْقِلَّةِ وَالشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ، وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ هَذَا النَّصْرُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي قِسْمَةِ فَيْئِهِمْ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (59: 8) ثُمَّ قَالَ فِي الْأَنْصَارِ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (59: 9) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ يُنَالُ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّآلُفِ وَالِاتِّحَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ مُقَدِّرِ الْأَسْبَابِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْلَا نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأُخُوَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى عَاطِفَةٍ وَمَوَدَّةٍ مِنْ أُخُوَّةِ الْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ، لَمَا أَمْكَنَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ فِي سَبِيلِ هَذَا التَّأْلِيفِ، أَمَّا الْأَنْصَارُ فَلِأَنَّ الْأَضْغَانَ الْمَوْرُوثَةَ، وَأَوْتَارَ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ، وَحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاسِخَةِ، لَا تَزُولُ بِالْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعَارِضَةِ، وَإِنَّمَا تَزُولُ بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلِأَنَّ التَّأْلِيفَ بَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، وَسَادَتِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَأَشْرَافِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ، عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ كِبْرِيَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَجَمْعَ

كَلِمَتِهِمْ عَلَى احْتِمَالِ عَدَاوَةِ بُيُوتِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مِمَّا يُمْكِنُ نَيْلُهُ بِالْمَالِ وَآمَالِ الدُّنْيَا - وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْءٌ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ صَارَ بِيَدِهِ فِي الْمَدِينَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنْهُمَا بِنَصْرِ اللهِ لَهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ جَمِيعًا - وَأَمَّا مَجْمُوعُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَدْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا لَوْلَا فَضْلُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ مَدْعَاةَ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَازُعِ، لِمَا سَبَقَ لَهُمَا مِنْ عَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا كَانَ لَدَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مَزِيَّةِ قُرْبِ الرَّسُولِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَمَا لَدَى الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ وَإِنْقَاذِ الرَّسُولِ وَالْمُهَاجِرِينَ جَمِيعًا مِنْ ظُلْمِ قَوْمِهِمْ، وَمِنَ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِيوَائِهِمْ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِي هَذَا وَذَاكَ مِنْ دَوَاعِي التَّغَايُرِ وَالتَّحَاسُدِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِلرَّسُولِ: لَسْتَ أَنْتَ الْمُؤَلِّفُ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى هَذَا الْإِيمَانِ بِالْفِعْلِ، الَّذِي دَعَوْتَهَمْ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (28: 56) وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَهِدَايَةُ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانُ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (42: 52) بِالدِّعَايَةِ، وَتَدْعُو اللهَ أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (1: 6) أَيْ بِالْفِعْلِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْعِنَايَةِ. وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صَحَابَةِ رَسُولِهِ تُفَنِّدُ مَطَاعِنَ الرَّافِضَةِ الضَّالَّةِ الْخَاسِرَةِ فِيهِمْ. لَا يُوجَدُ سَبَبٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ الْبَشَرِ كَالتَّآلُفِ وَالتَّحَابِّ، وَلَا يُوجَدُ سَبَبٌ لِلتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ كَأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: قَرَابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، وَمِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، وَلَمْ يُرَ مِثْلَ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ، وَقَرَأَ الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنَّ الرَّحِمَ لَتُقَطَعُ، وَإِنَّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرُ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ الْقُلُوبِ لَمْ يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ. ثُمَّ قَرَأَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ. وَقَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي التَّحَابِّ فِي اللهِ مَا يُنْبِئُ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَاتَّفَقَ حُكَمَاءُ الْبَشَرِ غَابِرُهُمْ وَحَاضِرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ لِسَعَادَةِ الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ وَارْتِقَائِهِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا فُقِدَتْ لَا يَحُلُّ مَحِلَّهَا شَيْءٌ فِي مَنْعِ الشَّرِّ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ، إِلَّا فَضِيلَةُ الْعَدْلِ. وَلَمَّا كَانَتْ وَهْمِيَّةً غَيْرَ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَكَانَ الْعَدْلُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمَحَبَّةَ فَضِيلَةً وَالْعَدْلَ فَرِيضَةً، وَأَوْجَبَهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَحُكُومَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ كَافِرٍ، وَلَا بَرٌّ دُونَ فَاجِرٍ، وَلَا قَرِيبٌ مِنَ الْحَاكِمِ دُونَ بَعِيدٍ، وَلَا غَنِيٌّ دُونَ فَقِيرٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفسِيرِ الْآيَاتِ الْمُقَرِّرَةِ لَهُ

وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِكِفَايَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ شَرَّ خِدَاعِ الْأَعْدَاءِ، وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، لَا لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْعُمْدَةَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْكِفَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ أَيِ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ خِدَاعُ الْخَادِعِينَ، وَلَا كَيْدُ الْمَاكِرِينَ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ كَنَصْرِهِ الْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَفِي أَحْكَامِهِ كَتَفْضِيلِهِ الْجُنُوحَ لِلسَّلْمِ إِذَا جَنَحَ إِلَيْهَا الْعَدُوُّ عَلَى الْحَرْبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيلًا لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُعَلِّلَ بِقَوْلِهِ: " إِنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا كَانَ إِلَّا بِعَزَّةَ اللهِ وَحِكْمَتِهِ فِي إِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي الْآيَةِ 61 أَنْ يَجْنَحَ لِلسَّلْمِ إِذَا جَنَحَ لَهَا الْأَعْدَاءُ، وَكَانَ جُنُوحُ الْأَعْدَاءِ لَهَا مَظِنَّةَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِهَا، وَعَدَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ 62 بِأَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَهُمْ إِذَا هُمْ أَرَادُوا التَّوَسُّلَ بِالصُّلْحِ إِلَى الْحَرْبِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْإِيذَاءِ وَالشَّرِّ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كِفَايَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ تَأْيِيدُهُ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ سَخَّرَهُمْ لَهُ وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ بِاتِّبَاعِهِ . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِكِفَايَتِهِ لَهُ وَلِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَلَّفَ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَرْبِ كَحَالِ السَّلْمِ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَجَعَلَ هَذَا الْوَعْدَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِهِ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ بَدْءِ الْعَدُوِّ بِالْحَرْبِ، أَوْ خِيَانَتِهِمْ فِي الصُّلْحِ، أَوْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ:

64

يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ كَافٍ لَكَ كُلَّ مَا يُهِمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَافٍ لِمَنْ أَيَّدَكَ بِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَالْحَسْبُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ كِفَايَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَالٍ خَاصَّةٍ، وَفِي هَذِهِ كِفَايَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ قِتَالٍ أَوْ صُلْحٍ يَفِي بِهِ الْعَدُوُّ أَوْ يَخُونُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُونِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى: وَحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَإِنَّهُ يَنْصُرُكَ بِهِمْ. وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَمَالِ التَّوْحِيدِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ كِفَايَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَلَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ أَوْ غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (3: 173) فَالْحَسْبَلَةُ مُقْتَضَى التَّوَكُّلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (39: 38) أَيْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، بِدَلَالَةِ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا الْحَصْرِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (9: 59) أَيْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عَلَّمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُسْنِدُوا الْإِعْطَاءَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْطِي الَّذِي فَرَضَ الصَّدَقَاتِ وَأَوْجَبَهَا، وَإِلَى رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَسِّمُهَا - وَأَنْ يُسْنِدُوا كِفَايَةَ الْإِحْسَابِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَتَكُونُ رَغْبَتُهُمْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، إِذْ لَا يَكْفِي الْعِبَادَ إِلَّا رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (39: 36) وَلَا سِيَّمَا الْكِفَايَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِحَسْبِكَ، أَيِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الْمُكْفَى: حَسْبِي حَسْبِي، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ دَأْبَ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِجِّيرَاهُمْ " حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " فَأَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ أَوْلَى بِهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا وَتَوَكُّلًا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَنَاهِيكَ بِخَاتَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ نَاهِيكَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَذِهِ الْكِفَايَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ رَاوِيًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: حَسْبُكَ اللهُ وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ مَعَكَ. (قَالَ) : وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخَرَسَانِيِّ مِثْلُهُ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ اهـ. أَقُولُ: وَهَذَا الْمَعْنَى قَرَّرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَبْطَلَ مُقَابِلَهُ. فَاحْتِمَالُ عَطْفِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَإِنْ عَدَّهُ النُّحَاةُ أَظْهَرَ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ الَّتِي يَتَعَصَّبُ لَهَا جُمْهُورُهُمْ، وَمَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمٍ وَلَا فَنٍّ لَهُمْ مَذْهَبٌ يُخَالِفُهُ آخَرُونَ إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِمْ وَلِأَئِمَّةِ فَنِّهِمْ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ هَاهُنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، أَيِ الْوَاوُ بِمَعْنَى " مَعَ " كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَاشْتَجَرَ الْقَنَا ... فَحَسْبُكُ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُكُ وَأَخَاكَ، بَلِ الْمُعْتَادُ أَنْ يُقَالَ: حَسْبُكَ وَحَسْبُ أَخِيكِ - وَلِهَذَا فَضَّلَ الْفَرَّاءُ الْوَجْهَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: يَكْفِيكَ اللهُ وَيَكْفِيكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِيثَارًا مِنْهُ لِلرَّاجِحِ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ الْبَصْرِيِّينَ، عَلَى الرَّاجِحِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ النَّحْوِيُّ فَإِنَّهُ تَعَقَّبَ إِعْرَابَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ زَيْدًا فِي قَوْلِهِمْ: " حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ " مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَكَفَى زَيْدًا دِرْهَمٌ، وَلَا غَرْوَ فَأَبُو حَيَّانَ هَذَا كَانَ مُعْجَبًا بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَشَدِيدَ الْإِطْرَاءِ لَهُ، وَقَدْ مَدَحَهُ فِي حَضْرَتِهِ بِأَبْيَاتٍ شَبَّهَهُ فِيهَا بِالصَّحَابَةِ جُمْلَةً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَبِأَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ خَاصَّةً، وَشَهِدَ لَهُ بِتَجْدِيدِ الدِّينِ حَتَّى قَالَ فِيهَا: يَا مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عِلْمِ الْكِتَابِ أَصِخْ ... هَذَا الْإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرْ ثُمَّ إِنَّهُ ذَاكَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ لَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: مَا كَانَ سِيبَوَيْهِ نَبِيَّ النَّحْوِ وَلَا مَعْصُومًا، بَلْ أَخْطَأَ فِي الْكِتَابِ (أَيْ كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي النَّحْوِ) فِي ثَمَانِينَ مَوْضِعًا مَا تَفْهَمُهَا أَنْتَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يُفَسِّرُ سِيبَوَيْهِ. فَقَاطَعَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ بِكُلِّ سُوءٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الدُّرَرِ الْكَامِنَةِ. وَلَوْلَا تَعَصُّبُ هَؤُلَاءِ لِأَئِمَّةٍ فَنِّهِمْ لَمَا جَعَلُوا فَهْمَ سِيبَوَيْهِ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ التَّوْحِيدِ مِنْ مَعْنَى عِبَارَةِ الْقُرْآنِ. وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا الْعُلَمَاءُ بِعَصَبِيَّتِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ لِزُعَمَائِهِمْ لَمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَذَا وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا جَمَاعَتُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مِنْهُمْ، لَا فِي الْأَنْصَارِ وَحْدَهُمْ كَمَا قِيلَ هُنَا وَهُنَاكَ، فَإِنَّ جُلَّ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ فِي شَأْنِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ الْكُبْرَى كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَمَا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ أَرْبَعِينَ نَسَمَةً، مِنْهُمْ سِتُّ نِسْوَةٍ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَرَوَاهُ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِثْلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالسُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَاهَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ إِلَّا فِي وَقْتِ نُزُولِ سُورَتِهَا، وَلَا الْمَعْنَى الْآخَرُ الْمَرْجُوحُ الَّذِي أَرَادَهُ وَاضِعُ الرِّوَايَةِ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَرْبَعِينَ لَمْ تَتَحَقَّقْ بِهِمْ كِفَايَةُ الْإِحْسَابِ بِالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُمْ وَاضْطِهَادُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلِ اضْطَرَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الْخَاصَّةِ. وَلَمَّا ضَمِنَ اللهُ تَعَالَى إِحْسَابَهُ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ:

65

يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ قَالَ الرَّاغِبُ: التَّحْرِيضُ: الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ بِكَثْرَةِ التَّنْزِيلِ وَتَسْهِيلِ الْخَطْبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ إِزَالَةُ الْحَرَضِ فِي نَحْوِ مَرَّضْتُهُ وَقَذَّيْتُهُ، أَيْ أَزَلْتُ عَنْهُ الْمَرَضَ وَالْقَذَى اهـ. وَالْحَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ الْمُشْفِي، أَيِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ كَمَا فِي الْأَسَاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَحُثَّ الْإِنْسَانَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مُقَارِبٌ لِلْهَلَاكِ - أَيْ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ لِدَفْعِ عُدْوَانِ الْكُفَّارِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهَا، عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَأَنْصَارِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَسُنَّةُ التَّنَازُعِ فِي الْحَيَاةِ وَالسِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا اخْتِيَارُ التَّحْرِيضِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ الْعَامِّ كَالتَّحْضِيضِ وَالْحَثِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: حُثَّهُمْ عَلَى مَا يَقِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا حَرَضًا أَوْ يَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ بِعُدْوَانِ الْكَافِرِينَ عَلَيْهِمْ، وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ إِذَا رَأَوْهُمْ ضُعَفَاءَ مُسْتَسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا شَرْطٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءَ بِدَلِيلِ التَّخْفِيفِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ التَّشْرِيعِ لَا الْإِخْبَارِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَيْهِ بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ فَفِيهِ مَا سَيَأْتِي مِنْ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ فِي دَرَجَتِي الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْخَبَرِيِّ: إِنْ يُوجَدْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا بِتَأْثِيرِ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَفِقْهِهِمْ مِائَتَيْنِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُجَرَّدِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَلْ هُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ (55 و56) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ؟ أَمْ بَعْدَ هَذَا سِيَاقًا آخَرَ فَيَعُمُّ نَصُّهُ كُلَّ الْكُفَّارِ الْمُتَّصِفِينَ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ هَذَا الْغَلَبِ فِي مَنْطُوقِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ وَفِي مَفْهُومِ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّابِرِينَ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي، وَالْمَعْنَى الْإِنْشَائِيُّ لَهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ وَالْقُوَّةِ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ أَرْجَحَ مِنَ الْكُفَّارِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ الْعَشْرِيَّةِ سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا بِحَيْثُ يُؤْمَرُونَ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ مِنْهُمْ إِذَا بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْعَشَرَاتِ مَعَ الْمِئَاتِ، وَبَيْنَ الْمِائَةِ مَعَ الْأَلْفِ وَهُوَ نِهَايَةُ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَنُكْتَةُ إِيرَادِ هَذَا الْحُكْمِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، الْإِشَارَةُ إِلَى جَعْلِهِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الْفُقَهَاءَ يَكُونُونَ كَذَلِكَ فِعْلًا، وَكَذَلِكَ كَانُوا، كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ الْعَشْرِيَّةَ بَيْنَ الصَّابِرِينَ مِنْكُمْ وَبَيْنَهُمْ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ مَا تَفْقَهُونَ مِنْ حِكْمَةِ الْحَرْبِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً لَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ فِي الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي

إِقَامَةِ سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، وَإِصْلَاحِ حَالِ عِبَادِهِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ، وَمِنْ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ وَوُعُودِهِ تَعَالَى فِيهَا بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ مَادِّيَّةٍ، وَمُرَابَطَةٍ دَائِمَةٍ، وَمِنْ قُوَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعَدَمِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ إِلَّا تَحَيُّزًا إِلَى فِئَةٍ أَوْ تَحَرُّفَا لِقِتَالٍ، وَذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِمْدَادِ نَصْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَمِنْ كَوْنِ غَايَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الشَّهَادَةِ وَالسَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ أَكْثَرُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَهُوَ كَافٍ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِخِلَافِ حَالِ الْكَافِرِينَ، وَلَا سِيَّمَا مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَطَامِعُ الْمَادِّيَّةُ وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ، فَأَغْرَاضُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، يَصْرِفُهُمْ عَنِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا الْيَأْسُ مِنْ حُصُولِهَا، وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَيَاةِ لِعَدَمِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَلِغُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحُصُولِهَا لَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَشَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْعَوْا لَهَا سَعْيَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ (2: 96) الْآيَةَ. وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْفِقْهِ وَالْفَقَاهَةِ فِي مَوَاضِعَ، أَوْسَعُهَا بَيَانًا وَتَفْصِيلًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (7: 179) إِلَخْ. فَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنْهَا الْقِتَالُ، وَذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا النَّوْعِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ قَاتَلُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنَصَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (59: 13) فَرَاجِعْهُ يَزِدْكَ عِلْمًا بِمَا هُنَا وَهُوَ فِي [ص350 - 357 ج 9 ط الْهَيْئَةِ] فَالْفِقْهُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالْحَقَائِقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرْبِ مِنْ مَادِّيَّةٍ وَرُوحِيَّةٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ النَّجَاحِ، وَسَبَبٌ لِلنَّصْرِ جَامِعٌ لِسَائِرِ الْأَسْبَابِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَعْلَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَفْقَهَ بِكُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ يَتَعَلَّقُ بِحَيَاةِ الْبَشَرِ وَارْتِقَاءِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ حِرْمَانَ الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ الْمِائَةِ مِنْهُمْ دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ. وَهَكَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُرُونِهِمُ الْأُولَى وَالْوُسْطَى بِهِدَايَةِ دِينِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِ عُلَمَائِهِمْ وَحُكَّامِهِمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا مَا فَسَدُوا بِتَرْكِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَعِدُوا بِهَا فِي دُنْيَاهُمْ فَكَانُوا أَصْحَابَ مُلْكٍ وَاسِعٍ وَسِيَادَةٍ عَظِيمَةٍ دَانَتْ لَهُمْ بِهَا الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ - زَالَ ذَلِكَ الْمَجْدُ وَالسُّؤْدُدُ، وَنُزِعَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ ذَلِكَ الْمُلْكِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى

66

شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِمَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ، إِذْ صَارُوا أَبْعَدَ عَنِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ الَّذِي فَضَلُوا بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، ثُمَّ انْتَهَى الْمَسْخُ وَالْخَسْفُ بِأَكْثَرِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَهُمْ إِلَى اعْتِقَادِ مُنَافَاةِ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ، وَالْقُوَّةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي هِيَ قِوَامُهَا، فَصَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ أَفْرَادًا، ثُمَّ صَرَّحَ جَمَاعَاتٌ مِنْ زُعَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ بِالْكُفْرِ بِهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ جِهَارًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ صَارَ عُلَمَاؤُهُمْ يُعَادُونَ أَكْثَرَ تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَأَوْجَبَ مِنْهَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْعُمْرَانُ. وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْعَزِيمَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ مَا دُونَهَا مِنْ مَرْتَبَةِ الضَّعْفِ وَهِيَ مَا يُسَمَّى الرُّخْصَةَ، فَقَالَ: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضُعْفًا بِضَمِّ الضَّادِ، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ الضَّمَّ لِمَا كَانَ فِي الْبَدَنِ، وَالْفَتْحَ لِمَا كَانَ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ أَوِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعَفَاءَ) جَمْعُ ضَعِيفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي بَدْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (8: 6) فَالضَّعْفُ عَلَى هَذَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْمَادِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَقَلَّ حَالَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْقِتَالِ أَنَّ تَرْجَحَ الْمِائَةُ مِنْهُمْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالِ الضَّعْفِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَهُوَ وَقْتُ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْقُوتِ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِقَصْدِ لِقَاءِ الْعِيرِ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الْكَامِلِي الْعُدَّةِ وَالْأُهْبَةِ. وَلَمَّا كَمَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْقُوَّةُ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ، كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَشْرَةَ أَضْعَافِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ تَمَّ لَهُمْ فَتْحُ مَمَالِكِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا بِذَلِكَ؟ وَكَانَ الْقُدْوَةَ الْأُولَى فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ! كَانَ الْجَيْشُ الَّذِي بَعَثَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مُؤْتَةَ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ لِلْقِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلُوا رَسُولَهُ (الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيَّ) إِلَى أَمِيرِ بُصَرَى ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي عَدَدِ الْجَيْشِ الَّذِي قَاتَلَهُمْ مِنَ الرُّومِ وَمُنْتَصِرَةِ الْعَرَبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةَ أَلْفٍ مِنْ عَرَبِ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَمَنْ شَكَّ أَوْ شَكَّكَ فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَمَاذَا يَقُولُ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ

الشَّهِيرَةِ؟ رَوَى الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ الْجُمُوعَ الَّتِي جَمَعَهَا هِرَقْلُ لِلْمَعْرَكَةِ الْفَاصِلَةِ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ مِنَ الرُّومِ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ كَانَتْ زُهَاءَ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَدَدُ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَرَوَوْا أَنَّ قَتْلَى الرُّومِ بَلَغَتْ سَبْعِينَ أَلْفًا - فَمَنْ شَكَّ أَوْ مَارَى فِي الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِكِ الْفَاصِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَهَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَارِيَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فِي جُمْلَةِ الْمَعَارِكِ الَّتِي فَتَحَ بِهَا الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ تِلْكَ الْمَمَالِكَ الْوَاسِعَةَ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ كَانُوا فِي مَجْمُوعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ أَعْدَائِهِمْ؟ أَنَّى وَهُوَ عَيْنُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي يُفِيدُ عِلْمَ الْيَقِينِ؟ ! وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْغَلَبِ: بِإِذْنِ اللهِ فَقَدْ فَسَّرُوهُ هُنَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، وَأَصْلُ الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ إِبَاحَةُ الشَّيْءِ وَالرُّخْصَةُ فِي فِعْلِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا فَيَكُونُ حَاصِلُ الْإِذْنِ إِزَالَةَ الْمَنْعِ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْفِعْلِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالْإِذْنُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِمَّا أَمْرُ تَكْلِيفٍ أَوْ إِبَاحَةٍ وَتَرْخِيصٍ وَهُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ. فَالْأَوَّلُ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (22: 39) وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ (4: 64) وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (2: 255) وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (11: 105) وَقَوْلِهِ: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ (33: 46) - وَإِمَّا أَمْرُ تَكْوِينٍ أَيْ بَيَانٍ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَوْ فِعْلِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ أَوْ إِقْدَارِهِ لِمَنْ شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ فَيَكُونُ مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِرَادَةِ وَمِنْ مُتَعَلَّقِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي (5: 110) وَقَوْلِهِ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ (7: 58) أَيْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (2: 249) أَيْ بِأَقْدَارِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَفِي مَعْنَاهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَقَدْ خَتَمَ كُلًّا مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 249) وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ لَا نُدْرِكُ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّ مَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ الْمَنْصُورُ وَلَنْ يَغْلِبَهُ أَحَدٌ، فَنُفَسِّرُهَا بِمَعِيَّةِ الْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ 46 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِيَاقِ الْحَرْبِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَحَلْتُ فِيهِ عَلَى تَفْسِيرِ مِثْلِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 153) وَقَدْ قُلْتُ هُنَاكَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ مَعَكُمْ، لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ. وَمِنَ الْمُفِيدِ أَنْ يُرَاجِعَ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ تِلْكَ الْآيَةِ [فِي ص30 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 طَ الْهَيْئَةِ] فَإِنَّهُ يُفِيدُ فِي إِتْمَامِ مَعْنَى مَا هُنَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْعَزِيمَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الرُّخْصَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا، وَلَكِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُنَافِي الْعَزِيمَةَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّلَتْ

هُنَا بِوُجُودِ الضَّعْفِ، وَنَسْخُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْأَمْرِ بِهِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمُ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي شَرْحِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ: كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: نَقَصَ مِنَ النَّصْرِ اهـ. وَأَقُولُ: مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الصَّبْرَ فِي مُقَاتَلَةِ الضِّعْفَيْنِ دُونَ الصَّبْرِ فِي مُقَاتَلَةِ الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ الْعَدَدِيَّةِ. وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّصْرَ عَلَى الضِّعْفَيْنِ أَقَلُّ أَوْ أَنْقَصُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ، وَكِلَاهُمَا لَازِمٌ ضَرُورِيٌّ لِلْآخَرِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ الَّذِي زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ الْأُولَى عَزِيمَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِحَالِ الْقُوَّةِ، وَالثَّانِيَةِ رُخْصَةً مُقَيَّدَةً بِحَالِ الضَّعْفِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالنَّسْخِ، قَالَ الْحَافِظُ: فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَهُ مُسْنَدَةٌ بَلْ مُعْضَلَةٌ وَصَنِيعُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَتَبِعَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى اهـ. وَأَقُولُ: حَسْبُنَا أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَقِفْ لَهَا عَلَى سَنَدٍ مُتَّصِلٍ، عَلَى أَنَّ النَّسْخَ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَجْعَلُونَ حُكْمَ الثَّانِيَةِ الْوُجُوبَ، وَحُكْمَ الْأُولَى النَّدْبَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي جَعَلَ بَعْضُهُمْ لِرِوَايَتِهِ حُكْمَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ الْحَافِظَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا قَالَهُ الْحَافِظُ تَوْقِيفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاءِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ التَّوْقِيفَ مِنَ الشَّارِعِ مُسْتَبْعَدٌ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ الَّذِي كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ صَغِيرَ السِّنِّ، فَلَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ، وَكَوْنُهُ سَمِعَهُ بَعْدَ سِنِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، فَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ قِتَالَ الْمِثْلَيْنِ فَرْضٌ لَا يُنَافِي أَنَّ قِتَالَ الْعَشْرَةِ نَدْبٌ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَنْهُ بِالنَّسْخِ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي أَحْكَامِ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَجَاءَ " التَّخْفِيفُ " مَا نَصُّهُ: فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَزَادَ فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَا قَوْمٌ مِنْ مِثْلَيْهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ إِذَا قَاوَمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتَحْرِيمِ الْفِرَارِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا سَوَاءٌ طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَهُمَا، وَسَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ مَعَ الْعَسْكَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَسْكَرٌ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِوُجُودِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ

وَلَفْظِهِ وَمِنْ نُسْخَةٍ عَلَيْهَا خَطُّ الرَّبِيعِ نُقِلَتْ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لِلْآيَةِ آيَاتٍ فِي كِتَابِهِ: إِنَّهُ وَضَعَ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الْعَشَرَةِ، وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الِاثْنَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ طَلَبَاهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ جَازَ لَهُ التَّوَلِّي عَنْهُمَا جَزْمًا؟ وَإِنْ طَلَبَهُمَا فَهَلْ يَحْرُمُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَضَافِرَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْبَاهُ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِالْمُرَادِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَطْلَقَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَاوَمَ الْوَاحِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّفِّ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ. أَمَّا الْمُفْرَدُ وَحْدَهُ بِغَيْرِ الْعَسْكَرِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ إِنَّمَا عُهِدَ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الشَّخْصِ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْضَ أَصْحَابِهِ سَرِيَةً وَحْدَهُ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي غَالِبِهَا التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ تَوَلِّي الْوَاحِدِ عَنِ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ (2: 207) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ (4: 84) اهـ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَنَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءُوا " يَكُنْ " الْمُسْنَدَ إِلَى الْمِائَةِ فِي الْآيَتَيْنِ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي " يَكُنْ " الَّتِي فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا " يَكُنْ " الْمُسْنَدُ إِلَى عِشْرُونَ صَابِرُونَ فَقَرَأَهَا الْجَمِيعُ بِالتَّذْكِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ جَمْعُ مُذَكَّرٍ مَوْصُوفٌ بِمِثْلِهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِيهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي الْقِتَالِ، مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ صَابِرِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ فَوْقَ صَبْرِهِمْ، وَيَكُونُ الْكَافِرُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا يَفْقَهُهُ الْمُؤْمِنُونَ. فَكَانَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ قَيَّدَ الْعِشْرِينَ بِوَصْفِ صَابِرِينَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِذَلِكَ الْمِائَةَ، وَقَيَّدَ الْغَلَبَ فِي قِتَالِ الْمِائَةِ لِلْأَلْفِ بِأَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي غَلَبِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَةِ مِنْهُمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَيْدَيْنِ مُرَادٌ، فَأَثْبَتَ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ الْمِائَةَ فِي آيَةِ التَّخْفِيفِ بِالصَّابِرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ عَدَدٍ مَعَ عَدَمِ وَصْفِ الْمِائَةِ فِي الْأُولَى، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالْعِشْرِينِ دُونَ الْكَثِيرِ كَالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَلْفِ اسْتِغْنَاءً بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: بِإِذْنِ اللهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْغَلَبِ أَنْ يَكُونَ لِلصَّابِرِينَ عَلَى غَيْرِ الصَّابِرِينَ، وَكَذَا عَلَى مَنْ هُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ صَبْرًا، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ يَقْتَضِي النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِكَمَالِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الصَّبْرُ وَالْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْفِقْهِ

67

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى سِيَاقَ الْقِتَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْرَى؛ لِأَنَّ أُمُورَهَا يُفْصَلُ فِيهَا بَعْدَ الْقِتَالِ فِي الْغَالِبِ، كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَمَا يَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَفَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ وَلَا سِيَّمَا مَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَأَهْلِهَا، وَالْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ كَالْقَتْلَى وَالْجَرْحَى جَمْعٌ قَتِيلٍ وَجَرِيحٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ هَذَا الْجَمْعَ خَاصٌّ بِمَنْ أُصِيبَ فِي بَدَنِهِ أَوْ عَقْلِهِ كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى، وَأَحْمَقَ وَحَمْقَى، وَالْأَسِيرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَسْرِ وَهُوَ الشَّدُّ بِالْإِسَارِ بِالْكَسْرِ أَيِ السَّيْرِ وَهُوَ الْقَدُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَكَانَ مَنْ يُؤْخَذُ مِنَ الْعَسْكَرِ فِي الْحَرْبِ يُشَدُّ لِئَلَّا يَهْرَبَ، ثُمَّ صَارَ لَفْظُ الْأَسِيرِ يُطْلَقُ عَلَى أَخِيذِ الْحَرْبِ وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ، وَيُجْمَعْ لُغَةً عَلَى أُسَارَى وَقُرِئَ بِهِ فِي الشَّوَاذِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ جَمْعُ أَسْرَى أَيْ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَعَلَى أُسَرَاءِ كَضَعِيفٍ وَضُعَفَاءَ وَعَلِيمٍ وَعُلَمَاءَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " تَكُونَ " بِالْفَوْقِيَّةِ بِنَاءً عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمْعِ أَسْرَى (وَالثِّخَانَةُ مِنَ الثِّخَنِ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ، وَالثِّخَانَةَ وَهِيَ الْغِلَظُ وَالْكَثَافَةُ، وَثَوْبٌ ثَخِينٌ ضِدُّ رَقِيقٍ، وَالْعَامَّةُ تَجْعَلُ الثَّاءَ الْمُثَلَّثَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ مُثَنَّاةً. وَمَعْنَى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي الْحَرْبِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى يَتَرَدَّدُ أَمْرُهُ فِيهِمْ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ حَتَّى يُعَظَّمَ شَأْنُهُ فِيهَا وَيُغَلَّظَ وَيُكَثَّفَ بِأَنْ تَتِمَّ لَهُ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبُ، فَلَا يَكُونُ اتِّخَاذُهُ الْأَسْرَى سَبَبًا لِضَعْفِهِ أَوْ قُوَّةِ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: حَتَّى يَظْهَرَ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَوْلِ الْبُخَارِيِّ: حَتَّى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ. وَفَسَّرَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالسَّبَبِ لَا بِمَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا اشْتَدَّتْ قُوَّةُ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَثْخَنَهُ الْجِرَاحُ، وَالثِّخَانَةُ:

الْغِلْظَةُ. فَكُلُّ شَيْءٍ غَلِيظٍ فَهُوَ ثَخِينٌ. فَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ: حَتَّى يَقْوَى وَيَشْتَدَّ وَيَغْلِبَ وَيُبَالِغَ وَيَقْهَرَ. ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ حَتَّى يُبَالِغَ فِي قَتْلِ أَعْدَائِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ إِنَّمَا تَقْوَى وَتَشْتَدُّ بِالْقَتْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلِ تُوجِبُ الرُّعْبَ وَشِدَّةَ الْمَهَابَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْجُرْأَةِ وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللهُ بِذَلِكَ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْمُجَرَّبَاتِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي قَتْلِ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، أَيِ التَّمَكُّنِ وَالْقُوَّةِ وَعَظَمَةِ السُّلْطَانِ فِيهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا الْإِثْخَانُ بِدُونِ ذَلِكَ أَيْضًا، يَحْصُلُ بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةِ، وَمُرَابِطَةِ الْفُرْسَانِ، وَالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِلْقِتَالِ الَّذِي يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (8: 60) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. وَقَدْ يَجْتَمِعُ السَّبَبَانِ، فَيَكْمُلُ بِهِمَا إِثْخَانُ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ. كَمَا أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْقَتْلِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِجَمْعِ كَلِمَةِ الْأَعْدَاءِ وَاسْتِبْسَالِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّتِي تُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ أَيْضًا فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (47: 4) الْآيَةَ، فَهُوَ فِي إِثْخَانِ الْقَتْلَى الَّذِي يُطْلَبُ فِي مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قَتْلِ الْأَعْدَاءِ دُونَ أَخْذِهِمْ أَسْرَى لِئَلَّا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى ضَعْفِنَا وَرُجْحَانِهِمْ عَلَيْنَا، إِذَا كَانَ هَذَا الْقَتْلُ قَبْلَ أَنْ نُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ بِالْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تُرْهِبُ أَعْدَاءَنَا، حَتَّى إِذَا أَثْخَنَّاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ جُرِحًا وَقَتْلًا، وَتَمَّ لَنَا الرُّجْحَانُ عَلَيْهِمْ فِعْلًا، رَجَّحْنَا الْأَسْرَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِشَدِّ الْوَثَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنَ الرَّحْمَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَجَعَلَ الْحَرْبَ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، لَا ضَرَاوَةً بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَا تَلَذُّذًا بِالْقَهْرِ وَالِانْتِقَامِ، وَلِذَلِكَ خَيَّرَنَا اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَإِعْتَاقِهِمْ بِفَكِّ وَثَاقِهِمْ وَإِطْلَاقِ حُرِّيَّتِهِمْ، وَإِمَّا بِفِدَاءِ أَسْرَانَا عِنْدَ قَوْمِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ إِنْ كَانَ لَنَا أَسْرَى عِنْدَهُمْ بِمَالٍ نَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِقَتْلِهِمْ، فَقَدْ وَضَعَ الشِّدَّةَ فِي مَوْضِعِهَا وَالرَّحْمَةَ فِي مَوْضِعِهَا. وَإِذَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ دَوْلَةٍ عَهْدٌ يَتَضَمَّنُ اتِّفَاقًا عَلَى الْأَسْرَى وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ وَبَطَلَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا التَّخْيِيرِ الَّذِي يَخْتَارُ الْإِمَامُ مِنْهُ فِي غَيْرِ حَالِ الْعَهْدِ الْخَاصِّ مَعَهُمْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ: أَثْقَالَهَا، وَقِيلَ: آثَامَهَا. فَهُوَ غَايَةٌ

لِمَا قَبْلَهُ. قَالُوا: أَيْ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ، أَيْ بِأَلَّا يُعْتَدَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْقِتَالُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: حَتَّى تَزُولَ الْحَرْبُ مِنَ الْأَرْضِ وَيَعُمَّ السَّلْمُ، وَهِيَ الْغَايَةُ الْعُلْيَا الَّتِي يَتَمَنَّاهَا فُضَلَاءُ الْبَشَرِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الرَّاقِيَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْحَرْبَ سُنَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي ابْتِلَاءِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، لِيَظْهَرَ اسْتِعْدَادُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَانْتَصَرَ لَكُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ لَا جِهَادَ لَكُمْ فِيهِ وَلَا عَمَلَ، وَلَكِنْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَجْعَلَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلنَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ لِيَبْلُوَ وَيَخْتَبِرَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ - وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سُورَتِهَا إِذَا أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَسْرَى إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَكُونُ خَيْرًا وَرَحْمَةً وَمَصْلَحَةً لِلْبَشَرِ إِذَا كَانَ الظُّهُورُ وَالْغَلَبُ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، أَمَّا فِي الْمَعْرَكَةِ الْوَاحِدَةِ فَبِإِثْخَانِهِمْ لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعْتَدِينَ، وَأَمَّا فِي الْحَالَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَعُمُّ كُلَّ مَعْرَكَةٍ وَكُلَّ قِتَالٍ فَبِإِثْخَانِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ الْعَامَّةِ وَالسُّلْطَانِ الَّذِي يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُقِرُّهَا وَلَا تُنْكِرُهَا عُلُومُ الْحَرْبِ وَفُنُونُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى عَمَلٍ وَقَعَ مِنَ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ مَعًا بِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى بِالْمَالِ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَنْبَغِي لَهُمْ مُخَالَفَتُهَا وَلَوْ بِإِقْرَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَبِلَ مَنْ أَسْرَى بَدْرٍ الْفِدَاءَ بِرَأْيِ أَكْثَرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ اسْتِشَارَتِهِمْ، فَتَوَجَّهَ الْعِتَابُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ النَّبِيِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ الدَّالُّ بِالْإِيمَاءِ عَلَى شُمُولِ الْإِنْكَارِ وَالْعِتَابِ لَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَسَنَذْكُرُ حِكْمَةَ ذَلِكَ وَحِكْمَةَ هَذَا الِاجْتِهَادِ مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ بَيَانِ مَا وَرَدَ فِي الْوَاقِعَةِ. وَالْمَعْنَى: تُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا الْفَانِيَ الزَّائِلَ وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَأْخُذُونَهُ مِنَ الْأَسْرَى فِدَاءً لَهُمْ - وَالْعَرَضُ فِي الْأَصْلِ مَا يَعْرِضُ وَلَا يَدُومُ وَلَا يَثْبُتُ، وَاسْتَعَارَهُ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ لِمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفَسِهِ كَالصِّفَاتِ وَهُوَ يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ - وَهُوَ عِنْدُهُمْ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْأَجْسَامِ. وَاللهُ يُرِيدُ لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ الْبَاقِي بِمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ مَا عَمِلْتُمْ بِهَا، وَمِنْهُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْقِتَالِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ بِقَصْدِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَالسِّيَادَةِ فِيهَا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي رُخْصَةِ تَرْكِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ (2: 185) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِرَادَةَ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَظْهَرُ هَاهُنَا وَلَا هُنَاكَ، وَلِذَلِكَ لَجَأَ مَنْ لَمْ يَفْطِنْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْإِرَادَةِ إِلَى قَوْلِ

الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: أَيْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَكُمْ، بِإِعْزَازِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ، وَإِزَالَةِ قُوَّةِ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَيُحِبُّ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّةً غَالِبِينَ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (63: 8) كَمَا يُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا حُكَمَاءَ رَبَّانِيِّينَ، يَضَعُونَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا بِتَقْدِيمِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَالسِّيَادَةِ فِيهَا عَلَى الْمَنَافِعِ الْعَرَضِيَّةِ بِمِثْلِ فِدَاءِ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ فِي عُنْفُوَانِ قُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَعُدُّهَا دُوَلُ الْمَدَنِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ مِنْ أُسُسِ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يَحْتَلُّونَهَا أَدْنَى بَادِرَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقَاوَمَةِ بِالْقُوَّةِ يُنَكِّلُونَ بِأَهْلِهَا أَشَدَّ تَنْكِيلٍ فَيُخَرِّبُونَ الْبُيُوتَ وَيُقَتِّلُونَ الْأَبْرِيَاءَ مَعَ الْمُقَاوِمِينَ، بَلْ لَا يَتَعَفَّفُونَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ بِمَا يُمْطِرُونَ الْبِلَادَ مِنْ نِيرَانِ الْمَدَافِعِ وَقَذَائِفِ الطَّيَّارَاتِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُبِيحُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقَسْوَةِ، فَإِنَّهُ دِينُ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ. لِأَصْحَابِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ نَذْكُرُ أَهَمَّهَا وَأَكْثَرَهَا فَائِدَةً: رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيءَ بِالْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: يَا رَسُولَ اللهِ قَوْمُكُ وَأَهْلُكُ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: يَا رَسُولَ اللهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ وَقَاتَلُوكَ قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: انْظُرُوا وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَهُوَ يَسْمَعُ مَا يَقُولُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. فَدَخَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. فَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِرَأْيِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ. مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14: 36) وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5: 118) وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ إِذْ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (71: 26) وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (10: 88) - أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ " فَقَالَ عَبْدُ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالتَّفْصِيلُ لِأَحْمَدَ قَالَ: لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى - يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ - قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: " مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ " فَقَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنَّنِي أَرَى أَنَّ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ (أَيْ أَخِيهِ) فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ - نَسِيبًا لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَمَكِّنْ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ قَرَابَتِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ " - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ - وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ كَثِيرُونَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اسْتَشَارَهُمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُهُمْ مَقَامًا. وَيُوَضِّحُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَرَادَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ بَدْرٍ الْفِدَاءَ فَفَادَوْهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: " خَيِّرْ أَصْحَابَكَ فِي الْأَسْرَى إِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ وَإِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عَامًا مُقْبِلًا - وَفِي التِّرْمِذِيِّ قَابِلٍ - مِثْلُهُمْ " قَالُوا: الْفِدَاءُ وَيُقْتَلُ مِنَّا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هَشَامٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَحْوَهُ مُرْسَلًا. (أَقُولُ) : ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، رَوَى عَنْهُ الْجَمَاعَةُ وَوَثَّقَهُ أَسَاطِينُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُهُمْ. أَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا الْفِدَاءَ يَكُونُ عِقَابُهُمْ أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ مِثْلَ عَدَدِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى وَهُوَ سَبْعُونَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ (مِنْهَا) مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الثَّانِي مِنْ أَحَادِيثِ (بَابِ غَزْوَةِ أُحُدٍ) .

68

فَأُصِيبَ مِنَّا سَبْعُونَ قَتِيلًا. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ خِلَافَ الرُّوَاةِ فِي عَدَدِ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى [ص271 ج 8] وَمِنْهُ أَنَّ الْفَتْحَ الْيَعْمُرِيَّ سَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ فَبَلَغُوا: 96 - مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَحَدَ عَشَرَ وَسَائِرُهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِائَةً. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا (3: 165) أَنَّهَا نَزَلَتْ تَسْلِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أُصِيبَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ قَتِيلًا وَسَبْعِينَ أَسِيرًا فِي عَدَدِ مَنْ قُتِلَ. قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: إِنْ ثَبَتَتْ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ لِلْأَنْصَارِ خَاصَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَنَسٍ: أُصِيبَ مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ بِمَعْنَاهُ. انْتَهَى هَذَا الْحَدِيثُ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ لِتَصْحِيحِ رِوَايَةِ كَوْنِ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا (3: 165) الْآيَةَ. خِلَافَ الْمُتَبَادِرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ جَعْلُ الْخُطَّابِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ نَفْسُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي أَبْوَابِ غَزْوَةِ بَدْرٍ (239 ج 7) وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ أَهْلُ أُحُدٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِـ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يَوْمُ بَدْرٍ وَعَلَى أَنَّ عِدَّةَ مَنِ اسْتَشْهَدَ بِأُحُدٍ سَبْعُونَ نَفْسًا إِلَخْ. أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِأَنَّهُ " مُخَالِفٌ لِمَضْمُونِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالُوا: لَوْ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَمَا آخَذَهُمْ عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، لِيَظْهَرَ بِالْعَمَلِ مَنْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَسَاءَ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْجَزَاءِ. قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (29: 1 - 3) وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (3: 142) وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (18: 7) وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّ الَّذِي يَعْنِينَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ وَتَحْقِيقِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَوْضُوعِ، وَمِنْهُ كَوْنُ الَّذِينَ رَجَّحُوا مُفَادَاةَ الْأَسْرَى كَثِيرُونَ - وَبَحْثُ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَشُمُولُ الْعِتَابِ فِي الْآيَتَيْنِ لَهُ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَجْعَلَ إِنْكَارَ الْقُرْآنِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ هُوَ أَرْجَحُ الرَّأْيَيْنِ، وَأَفْضَلُ الْخُطَّتَيْنِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ بِمَا يَأْتِي مِنْ بَرَاعَتِهِ، وَسِعَةِ مَجَالِ أَدِلَّتِهِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا مَعَ تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِ بِفَضْلِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ، أَوْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ فِي هَذَا الذَّنْبِ، أَوْ أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ عَذَابًا عَامًا، وَالرَّسُولُ فِيكُمْ، وَأَنْتُمْ تَسْتَغْفِرُونَهُ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، أَيْ بِسَبَبِهِ، كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ إِلَخْ. أَيْ بِسَبَبِهَا إِذْ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ. وَوَرَدَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَالْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ رِوَايَاتٌ وَآرَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أُبْهِمَ، لِتَذْهَبَ الْأَفْهَامُ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مِنْهَا. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَادِهِمْ، وَقَالَ عُمَرُ: اقْتُلْهُمْ، قَالَ قَائِلٌ: أَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَدْمَ الْإِسْلَامِ، وَيَأْمُرُهُ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو عُمَرَ أَوْ أَخُوهُ مَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فَفَادَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنْ كَادَ لَيَمَسُّنَا فِي خِلَافِ ابْنِ الْخَطَّابِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَلَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا أَفْلَتَ إِلَّا عُمَرُ ". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ نُصِرَ إِلَّا أَحَبَّ الْغَنَائِمَ إِلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، جَعَلَ لَا يَلْقَى أَسِيرًا إِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا وَلِلْغَنَائِمِ، نَحْنُ قَوْمٌ نُجَاهِدُ فِي دِينِ اللهِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ، قَالَ اللهُ: " لَا تَعُودُوا تَسْتَحِلُّونَ قَبْلَ أَنْ أُحِلَّ لَكُمْ " وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: لَمَّا نَزَلَتْ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنِ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ فِي الْأُسَارَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (47: 4) فَجَعَلَ اللهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا فَادَوْهُمْ أَقُولُ: وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَةَ وَهِيَ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِإِعْتَاقِهِمْ وَإِطْلَاقِ أَسْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ يَعْنِي فِي

الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَغَانِمَ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْأُسَارَى عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا قَالَ: وَكَانَ اللهُ قَدْ كَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ: الْمَغَانِمُ وَالْأُسَارَى حَلَالُّ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُمَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ لِأُمَّةٍ قَبْلَهُمْ، وَأَخَذُوا الْمَغَانِمَ وَأَسَرُوا الْأُسَارَى قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالْمَعْصِيَةِ، اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَهْلُ بَدْرٍ خَاصَّةً، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَا يُثْبِتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِأَهْلِ بَدْرٍ كَقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعُمَرَ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ بِقَتْلِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: " أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ. فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ - أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ: " وَمَا يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ " إِلَخْ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِمَغْفِرَةِ اللهِ لَهُمْ، وَلَيْسَ أَمْرًا إِبَاحِيًّا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ، بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ مِنْهُ بِأَمْرِ التَّكْلِيفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ خَاصَّةٌ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ شَرِبَ الْخَمْرِ فَحَدَّهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ قَالَ: فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ وَيَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ: لَوْلَا قَضَاءٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَكُمْ أَهْلَ بَدْرٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِأَنَّهُ مُحِلٌّ لَكُمُ الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّ اللهَ قَضَى فِيمَا قَضَى أَنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ - وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا شَهِدَ الْمَشْهَدَ الَّذِي شَهِدْتُمُوهُ بِبَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاصِرًا دِينَ اللهِ - لَنَالَكُمْ مِنَ اللهِ بِأَخْذِكُمُ الْغَنِيمَةَ وَالْفِدَاءَ عَذَابٌ عَظِيمٌ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَاتِهِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَصَوَّبَ إِرَادَتَهَا كُلَّهَا. وَهَذَا خَلْطٌ بَيْنَ الْغَنَائِمِ وَفِدَاءِ الْأَسْرَى، وَإِشْرَاكٌ بَيْنَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَتَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَاخْتَارَ ابْنُ كَثِيرٍ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ. وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْفِدَاءِ غَيْرُ مَسْأَلَةِ الْغَنَائِمِ. فَإِنَّ الْغَنَائِمَ أُحِلَّتْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الَّذِي سَبَقَ فِي كِتَابِ اللهِ، أَيْ فِي حُكْمِهِ أَوْ فِي عِلْمِهِ، هُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا أَخْطَأَ لَا يُعَاقَبُ بَلْ يُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَإِذَا كَانَ نَبِيًّا لَا يُقِرُّهُ اللهُ عَلَى خَطَأٍ بَلْ يُبَيِّنُهُ لَهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ لَوْلَا الِاجْتِهَادُ وَحُسْنُ النِّيَّةِ. وَقَدْ فَنَّدَ الرَّازِيُّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ، بَعْضُهَا بِحَقٍّ وَبَعْضُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاخْتَارَ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ أَنَّ الْمَعْنَى:

لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ بِالْعَفْوِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. (قَالَ) : وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (6: 54) وَمِنْ قَوْلِهِ " سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي ". (قَالَ) : وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ فِي أَنَّ مَنِ احْتَرَزَ عَنِ الْكَبَائِرِ صَارَتْ كَبَائِرُهُ مَغْفُورَةً، وَإِلَّا لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّ طَاعَاتِ أَهْلِ بَدْرٍ كَانَتْ عَظِيمَةً، وَهُوَ قَبُولُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَانْقِيَادُهُمْ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ سِلَاحٍ وَأُهْبَةٍ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ كَانَ أَزْيَدَ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ، فَلَا جَرَمَ صَارَ هَذَا الذَّنْبُ مَغْفُورًا، وَلَوْ قَدَّرْنَا صُدُورَ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا صَارَ مَغْفُورًا، فَبِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّفَاوُتِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَدْرٍ هَذَا الِاخْتِصَاصُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعْلِيلٌ حَسَنٌ لِمَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ بَدْرٍ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي تَغْلِيبِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِثْلَهُ فِي هَذَا فَمَا اعْتَمَدَهُ أَضْعَفُ مِمَّا رَدَّهُ وَأَبْطَلَهُ. وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى احْتِمَالِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (8: 33) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ نَزَلَ فِي الْمُشْرِكِينَ - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ هُمْ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى، وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَمْتَنِعَ نُزُولُ الْعَذَابِ بِالْمُشْرِكِينَ وَفِيهِمْ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ، وَلَا يَمْتَنِعَ نُزُولُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِهِ النَّاصِرِينَ لَهُ وَهُوَ فِيهِمْ، وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَهُ تَعَالَى حَقَّ الِاسْتِغْفَارِ، لِتَوْحِيدِهِمْ إِيَّاهُ وَعَدَمِ إِشْرَاكِهِمْ أَحَدًا، وَلَا شَيْئًا فِي عِبَادَتِهِ؟ ! وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهِ وَتَأَلُّقِ نُورِهِ، وَلَكِنَّهُ خَاصٌّ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَمِنَ الْبَعِيدِ جِدًّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ أَوْ يَشْمَلُ كُلَّ عَذَابٍ عَامٍّ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ رِوَايَاتُ اسْتِثْنَاءِ عُمَرَ وَسَعْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَيَصِحُّ تَسْمِيَةُ هَذَا كِتَابٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَضَاءً سَبَقَ وَكُتِبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (6: 54) . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي سَبَقَ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَتُوبُونَ مِمَّا ذَكَرَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُصْلِحُونَ عَمَلَهُمْ بِمَا يَذْهَبُ بِتَأْثِيرِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَذَلِكَ كَانَ.

69

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ مَا قَضَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدَّرَهُ مِنْ أَعْمَارِ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى وَإِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وِفَاقًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، هُوَ جَوَازُ إِرَادَةِ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي رِوَايَاتِهِ، وَأَنَّ هَذَا سَبَبُ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْفِدَاءِ، وَعَدَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ الَّتِي أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (8: 41) إِلَخْ، فَقَالَ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا أَيْ: وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ مِنْهُ كِتَابٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُكُمْ، أَوْ يَقْتَضِي أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ بِهَذَا الذَّنْبِ الَّذِي خَالَفْتُمْ بِهِ سُنَّتَهُ وَهَدْيَ أَنْبِيَائِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ حَالَةَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِإِحْلَالِهِ لَكُمُ الْآنَ طَيِّبًا فِي نَفْسِهِ، لَا خُبْثَ فِيهِ مِمَّا حُرِّمَ لِذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ - وَاجْعَلُوا بَاقِيَهَ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَاتَّقُوا اللهَ فِي الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُحِلَّهُ اللهُ لَكُمْ، وَقَالَ جَرِيرٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَخَافُوا اللهَ أَنْ تَعُودُوا، أَنْ تَفْعَلُوا فِي دِينِكُمْ شَيْئًا مِنْ هَذَا، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ لَكُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ عِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا اهـ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هُنَا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَغْفِرَتِهِ تَعَالَى لِذَنْبِهِمْ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَإِيثَارِ جُمْهُورِهِمْ لِعَرَضِ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِيثَارُ الْآخِرَةِ مِنْ طَلَبِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا، لِإِعْزَازِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ، بِإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَكَبْتِ حِزْبِهِ - وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ بِإِبَاحَةِ مَا أَخَذُوا وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْأَقْرَبُ تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْمُتَّقِي رَحِيمٌ بِهِمْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى يُفَادِيهِمْ أَوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْغَلَبُ وَالسُّلْطَانُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ اللهِ الْكَافِرِينَ، لِئَلَّا يُفْضِي أَخْذُهُ الْأَسْرَى إِلَى ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ - وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُفَادَاةِ أَسْرَى بَدْرٍ بِالْمَالِ كَانَ ذَنْبًا سَبَبُهُ إِرَادَةُ جُمْهُورِهِمْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَنْبِ أَخْذِهِمْ لَهُمْ قَبْلَ الْإِثْخَانِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ بِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَسَأَلُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهُ، كَمَا سَأَلُوهُ عَنِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَبْلِهِ - وَأَنَّهُ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ مُقْتَضَاهُ عَدَمُ عِقَابِهِمْ عَلَى ذَنْبِ أَخْذِ الْفِدَاءِ قَبْلَ إِذْنِهِ تَعَالَى، وَعَلَى خِلَافِ سُنَّتِهِ، وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي أَخْذِهِمْ ذَلِكَ - وَأَنَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَهُمْ مَا أَخَذُوا وَغَفَرَ لَهُمْ ذَنْبَهُمْ بِأَخْذِهِ قَبْلَ إِحْلَالِهِ لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(فَإِنْ قِيلَ) : تَبَيَّنَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ لَمْ يَكُنْ مُضْعِفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مُزِيدًا مِنْ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ خَيْرًا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ بَيَّنَهَا الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ بِضْعَةِ وُجُوهٍ - وَسَيَأْتِي سَرْدُهَا - (قُلْنَا) : مَا يُدْرِينَا مَاذَا كَانَ يَكُونُ لَوْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا دَلَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ قَتْلِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى أَوْ مِنْ عَدَمِ أَخْذِ الْأَسْرَى يَوْمَئِذٍ؟ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَسُنَّةُ أَنْبِيَاءِ الرَّحْمَةِ، أَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرْهِبًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَصَادًّا لَهُمْ عَنِ الزَّحْفِ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْذِ الثَّأْرِ مِنْهُمْ فِي أُحُدٍ، ثُمَّ اعْتِدَاؤُهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ؟ (فَإِنْ قِيلَ) : وَمَا حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى فِي تَرْجِيحِ رَسُولِهِ لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الْمَرْجُوحِ بِحَسَبِ الْقَاعِدَةِ أَوِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَرْحَجُهُمْ مِيزَانًا وَأَقْوَاهُمْ بُرْهَانًا، ثُمَّ إِنْكَارُهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟ (قُلْتُ) : إِنَّ لِلَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَحِكَمًا أَذْكُرُ مَا ظَهَرَ لِي مِنْهَا: (الْحِكْمَةُ الْأُولَى) عَمِلَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الْأَعْظَمِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أُمَمِ الْبَشَرِ فِي دُوَلِهَا الْقَوِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كَمَا عَمِلَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَأْيِهِمِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي مَنْزِلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَتَقَدَّمَ [فِي ص 508 وَمَا بَعْدَهَا ج9 ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ فَضَائِلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (3: 159) [ص 163 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . (الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ) بَيَانُ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَدْ يُخْطِئُونَ وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَهُمْ فِيهِ هَوًى وَمَنْفَعَةٌ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى مِنَ الْعَمَلِ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَمْثَلُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، لَا أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهَا. (الْحِكْمَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ النَّبِيَّ نَفْسَهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبَيِّنُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى لَا فِي الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَمِنْهُ مَا سَبَقَ مِنِ اجْتِهَادِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْفَقِيرِ الضَّعِيفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ وَهُوَ يَدْعُو كُبَرَاءَ أَغْنِيَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِئَلَّا يَعْرِضُوا عَنْ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ، فَعَاتَبَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا (80: 1 - 11) . (الْحِكْمَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَاتِبُ رَسُولَهُ عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيهِ، وَيَعُدُّهُ ذَنْبًا لَهُ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنْهُ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُ عَلَى كَوْنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ مَعْفُوًّا عَنْهُ فِي شَرِيعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ مَقَامِهِ وَسِعَةِ عِرْفَانِهِ يَعُدُّ عَلَيْهِ مِنْ " مُخَالَفَةِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ

مَا لَا يَعُدُّ عَلَى مَنْ دُونِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى قَاعِدَةِ: " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ " وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ لَمَّا أَذِنَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (9: 43) فَهَذِهِ أَمْثِلَةُ ذُنُوبِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَسْلِيمًا، وَالْمَغْفُورَةُ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (48: 2) وَالذَّنْبُ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ ضَارَّةٌ أَوْ مُخَالَفَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ تَكُونُ وَرَاءَهُ كَذَنَبِ الدَّابَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً. (الْحِكْمَةُ الْخَامِسَةُ) بَيَانُ مُؤَاخَذَةِ اللهِ تَعَالَى النَّاسَ عَلَى الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَإِرَادَةِ السُّوءِ بَعْدَ تَنْفِيذِهَا بِالْعَمَلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا كَانَتْ إِرَادَةُ هَذَا ذَنْبًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِاسْتِشْرَافٍ أَشَدَّ مِنِ اسْتِشْرَافِهِمْ أَوَّلًا لِإِيثَارِ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْجِهَادِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ حُكْمِهِ كَمَا سَأَلُوا مِنْ قَبْلُ عَنِ الْأَنْفَالِ، وَلَمْ يُبَالُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ بَعْدَ عَامٍ مِثْلَ عَدَدِ مَنْ قَتَلُوهُمْ بِبَدْرٍ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا حُبُّهُمْ لِلشَّهَادَةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا قَرِينَةِ حَالٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحِبُّوا أَوْ يَخْتَارُوا قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا قَلِيلٍ، وَيَكْفِي مِنْ حُبِّ الشَّهَادَةِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ، وَعَدَمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ. (الْحِكْمَةُ السَّادِسَةُ) الْإِيذَانُ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مُخَالَفَةَ الْمُصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَدْ بُيِّنَتْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَعْلَمَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلِمَهَا وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ عَلَيْهَا الْعَمَلَ بِالْمُشَاوَرَةِ، وَالْأَخْذَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَرْضًا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ أَلْهَمَهُ إِيَّاهُ إِلْهَامًا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَمُنَّ عَلَيْهِ عَنْهَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ خَاصَّةً، كَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِذْنِ لِلْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَصْلَحَةِ أَيْضًا. (الْحِكْمَةُ السَّابِعَةُ) بَيَانُ مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ أَنَّهُ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ فِيمَا أَخَذُوا بِسُوءِ الْإِرَادَةِ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقَدَّمَ وَجْهُهُ، وَفِي هَذِهِ الْمِنَّةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ الشَّدِيدِ خَيْرُ تَرْبِيَةٍ لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكَامِلِينَ تَرْبَأُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الِاسْتِشْرَافِ، لَا أَنَّهَا تُجَرِّئُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ. (الْحِكْمَةُ الثَّامِنَةُ) عِلْمُهُ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَسْرَى مِمَّنْ كَتَبَ لَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ وَتَوْفِيقَ أَكْثَرِهِمْ لِلْإِيمَانِ. (الْحِكْمَةُ التَّاسِعَةُ) أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ أَنَّ مَا نَفَّذَهُ الْإِمَامُ مِنَ الْأَعْمَالِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ بَعْدَ الشُّورَى لَا يُنْقَضُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ

لَمَّا شَرَعَ فِي تَنْفِيذِ رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ ثُمَّ رَاجَعُوهُ فِيهِ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهِ الْأَمْرَ فِي الرُّجُوعِ فَلَمْ يَرْجِعْ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ كَلِمَتَهُ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَعْمَلُ بِهَا دُوَلُ السِّيَاسَةِ الْكُبْرَى إِلَى هَذِهِ الْعُصُرِ لِحُسْنِهَا، لَا لِاتَّبَاعِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَتُرَاجَعُ فِي [ص78 - 82 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَتَارَةً مَعْزُوًّا إِلَيْهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ عَزْوٍ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُهُ بِنَصِّهِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا نَرَاهُ نَاقِضًا لَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ لِأُسْتَاذِنَا ابْنِ الْقَيِّمِ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّحْقِيقِ (لَا الْعِصْمَةِ) فِي أَكْثَرِ مَا وَجَّهَ إِلَى تَحْقِيقِهِ فِكْرُهُ الْوَقَّادُ، ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَدَ فِي كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) فَصْلًا لِهَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الِاسْتِشَارَةِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ وَرَأْيَ الشَّيْخَيْنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ - وَالْعُنْوَانُ لَنَا - (التَّرْجِيحُ بَيْنَ رَأْيِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ) " وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَيِّ الرَّأْيَيْنِ كَانَ أَصْوَبَ، فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ عُمَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ لِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ الَّذِي سَبَقَ مِنَ اللهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلِمُوَافَقَتِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي غَلَبَتِ الْغَضَبَ، وَلِتَشْبِيهِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ فِي ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَتَشْبِيهِهِ لِعُمَرَ بِنُوحٍ وَمُوسَى، وَلِحُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي حَصَلَ بِإِسْلَامِ أَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، وَلِخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِحُصُولِ الْقُوَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِدَاءِ، وَلِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا، وَلِمُوَافَقَةِ اللهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ، وَلِكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللهِ آخِرًا، وَغَلَبَةُ جَانِبِ الرَّحْمَةِ عَلَى جَانِبِ الْعُقُوبَةِ. (قَالُوا) : وَأَمَّا بُكَاءُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَإِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، فَالْفِتْنَةُ كَانَتْ تَعُمُّ وَلَا تُصِيبُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ خَاصَّةً، كَمَا هُزِمَ الْعَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَبِإِعْجَابِ كَثْرَتِهِمْ لِمَنْ أَعْجَبَتْهُ مِنْهُمْ، فَهُزِمَ الْجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَاللهُ أَعْلَمُ " اهـ. أَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى حُسْنِهِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُغَالَطَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَبُعْدًا عَنْ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ يَجِبُ بَيَانُهُ لِتَحْرِيرِ الْمَوْضُوعِ، وَإِظْهَارِ عُلُوِّ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ، وَكَوْنِهَا فَوْقَ اجْتِهَادِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا صَرَفَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ عَنْ فِقْهِهَا وَبَيَانِ عُلُوِّهَا وَفَوْقِيَّتِهَا إِلَّا تَوْجِيهُ ذَكَائِهِ وَمَعَارِفِهِ إِلَى تَفْضِيلِ اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى اجْتِهَادِ عُمَرَ

لِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ أَوِ الْأَفْضَلِ، فَكَيْفَ وَقَدِ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوَافَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَا عَدَا عُمَرَ وَكَذَا عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهَذَا الْجُمْهُورُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ مِنَ الْفِدَاءِ عَرَضَ الدُّنْيَا لِفَقْرِهِمْ، وَحَاشَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَدِيقَهُ الْأَكْبَرَ مِنْ إِرَادَةِ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِمَا إِرَادَتُهُمَا لِمُوَاسَاةِ الْجُمْهُورِ، وَتَعْوِيضِ شَيْءٍ مِمَّا فَاتَهُمْ مِنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ بَلَائِهِمْ فِي الْقِتَالِ عَلَى جُوعِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الذَّنْبُ مِنَ الْفِتَنِ الَّتِي يَعُمُّ بِهَا الْعَذَابُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مَعَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ دَلَالَةً وَاضِحَةً تُؤَيِّدُهَا الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعِهَا وَكَذَا آيَةُ سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّ رَأْيَ عُمَرَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي وَقْتِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا رَأْيُ الصِّدِّيقِ، فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ الْعَمَلَ بِهِ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ بِالْغَلَبِ وَالسُّلْطَانِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى أَنْ نَفَّذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ قَصْدٌ دُونَ قَصْدِهِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ رَأْيَهُ، وَهُوَ إِرَادَتُهُمْ لِلْمَالِ لِحَاجَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَيْهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَوِيَ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ رَأْيَ عُمَرَ، وَعِنْدِي أَنَّ أَسْبَابَ هَوَاهُ لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ: (1) حِرْصُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى إِرْضَاءِ الْجُمْهُورِ لِعُذْرِهِمُ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي إِرَادَتِهِمْ لِعَرَضِ الدُّنْيَا (2) تَغْلِيبُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلرَّحْمَةِ عَلَى الْعُقُوبَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّحْمَةِ إِضَاعَةٌ لَحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، وَلَا مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى (3) رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فِي هَذَا الْقَدَرِ أَنْ بَيَّنَ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي التَّغَالُبِ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَنْبِيَائِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي حَالَتَيِ الضَّعْفِ وَالْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَسَائِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ. (بَيَانُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنَ الْأَغْلَاطِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُغَالَطَاتِ الْجَدَلِيَّةَ) (1) ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَجِّحَ الْأَوَّلَ لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ: اسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ يُرِيدُ بِهِ تَرْجِيحَهُ، وَالْعَمَلَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْقُرْآنُ، فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الْأَصْوَبُ أَوْ أَنَّهُ صَوَابٌ؟ وَأَمَّا عَدَمُ نَقْضِهِ بِأَمْرِ اللهِ بِقَتْلِ الْأَسْرَى بَعْدَ مُفَادَاتِهِمْ فَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَجَعْلِهِ قَاعِدَةً فِي التَّشْرِيعِ.

وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اسْتِقْرَارَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ آخِرًا فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا قَدْ كَانَ سَبَبُهُ تَغَيُّرَ الْحَالِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ بَعْدَ إِثْخَانِ الْأَعْدَاءِ فِي الْقِتَالِ، فَمَنَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِإِطْلَاقِهِمْ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ، إِذَا كَانَ قَدْ أَثْخَنَ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ أَسْرَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمْ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُصَرِّحُ بِهِ، بِأَنَّ مَا هُنَا نُسِخَ بِآيَةِ سُورَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ نَسْخًا مِنْ بَحْثٍ تَقَدَّمَ. (2) الْمُرَجِّحُ الثَّانِي: مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ إِلَخْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ خَطَأً عِنْدَ مَنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ خَطَأٌ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحْلَالِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِحْلَالِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. (3) الْمُرَجِّحُ الثَّالِثُ: مُوَافَقَتُهُ الرَّحْمَةَ الَّتِي سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا، فَإِنَّ سَبْقَ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِغَضَبِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ تُرَجَّحَ الرَّحْمَةُ عَلَى الْغَضَبِ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا مِنْهُ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَّا لِمَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ سَبْقِ لِلرَّحْمَةِ عَلَى الْغَضَبِ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ مَسْأَلَةَ رَحْمَةٍ بِلَا غَضَبٍ، فَالَّذِي أَفَادَتْهُ الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ أَنَّ رَحْمَةَ الْكُفَّارِ بِأَسْرِ مُقَاتِلِيهِمْ ثُمَّ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ أَوْ مُفَادَاتَهُمْ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِمْ، وَلَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَا مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الصَّادِقِينَ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ أَتْبَاعَ رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (48: 29) وَقَالَ لِرَسُولِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (9: 73) وَمِنَ الْمَعْقُولِ الْمُجَرَّبِ أَنَّ وَضْعَ الرَّحْمَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَغَيْرِ وَقْتِهَا الْمُنَاسِبِ لَهَا ضَارٌّ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَى ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى وَمِنَ الْمَثُلَاتِ وَالْعِبَرِ فِي هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَبَاحُوا فِي حَالِ عِزَّتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ لِأَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى حُرِّيَّةً وَاسِعَةً فِي دِينِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، عَادَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدُوَلِهِمْ بِأَشَدِّ الْمَضَارِّ وَالْمَصَائِبِ فِي طَوْرِ ضَعْفِهِمْ، كَامْتِيَازَاتِ الْكَنَائِسِ، وَرُؤَسَاءِ الْأَدْيَانِ، الَّتِي جَعَلَتْ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ذَاتَ حُكُومَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي دَاخِلِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُسَمُّونَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالِامْتِيَازَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ امْتِيَازَاتٍ عَلَيْهِمْ مُذِلَّةً لَهُمْ مُفَضِّلَةً لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الصُّعْلُوكَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَجَانِبِ صَارَ أَعَزَّ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ. (4) الْمُرَجِّحُ الرَّابِعُ: تَشْبِيهُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بِنَبِيَّيْنِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ - وَهَذَا التَّشْبِيهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ وَجْهَيِ الشَّبَهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا

إِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ وَعِيسَى فِي أَقْوَامِهِمَا فِي مَحِلِّهِ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ وَمُوسَى فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ لِنُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (71: 26) وَلِمُوسَى دُعَاءَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ (10: 88) وَرَأَيْنَا الْمُفَسِّرِينَ يَعُدُّونَ مِنَ الْمُشْكِلِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14: 36) وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَقَالُوا: إِنَّهُ كَاسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (9: 114) وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّهُ فِي الْعُصَاةِ لَا الْكُفَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ اسْتِشْكَالُهُمْ لِقَوْلِ عِيسَى فِي الَّذِينَ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مَنْ دُونِ اللهِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5: 118) وَقَدْ أَطَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ الْكَلَامِ، وَلَا سِيَّمَا وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي مَقَامِ احْتِمَالِ الْمَغْفِرَةِ دُونَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِنَا أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفْوِيضٌ لِلْأَمْرِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا طَلَبٌ وَدُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِبَسْطِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَأَمَّا اسْتِنْبَاطُ التَّرْجِيحِ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَنْ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلَ الرُّسُلِ بَعْدَ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيَلِيهِمَا مُوسَى فَعِيسَى فَنُوحٌ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ مِمَّنْ فِي الطَّرْفِ الثَّانِي، فَإِنَّ مُوسَى فِي الثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ عِيسَى فِي الْأَوَّلِ، فَفِي كُلٍّ مَنَ النَّبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ شُبِّهَ بِهِمَا كُلٌّ مِنَ الصَّاحِبَيْنِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَحَدِ الْآخَرَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ الْمُفَاضَلَةِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَفْضِيلِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. (5و6) الْمُرَجِّحَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ: مَا حَصَلَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِإِسْلَامِ أَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، وَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَانِ إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ فِي الَّذِي وَقَعَ كَانَ حِكْمَةً مِنْ حِكَمِ اللهِ فِي قَوْعِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَتَانِ فِيهِ هُوَ مُفَادَاةُ الْأَسْرَى وَتَرْجِيحُهَا عَلَى قَتْلِهِمْ بَلْ نَصُّهُمَا صَرِيحٌ فِي ضِدِّهِ. (7) الْمُرَجِّحُ السَّابِعُ، حُصُولُ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِدَاءِ وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَا يُدْرِينَا أَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ يَكُونُ مُضْعِفًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَصَادًّا لَهُمْ عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ وَفِي الْخَنْدَقِ مَثَلًا، كَمَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنْ وُجُوبِ جَعْلِ الْمُفَادَاةِ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ لَا قَبْلَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يُقَالُ فِي هَذَا الْمُرَحِّجِ مَا قُلْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ.

70

(8) الْمُرَجِّحُ الثَّامِنُ: مُوَافَقَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُرَجِّحِ الْأَوَّلِ وَيُقَالُ فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِيهِ. (9) الْمُرَجِّحُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: وَلِمُوَافَقَةِ اللهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ اهـ. وَيَا لَيْتَ شَيْخَنَا وَقُدْوَتَنَا فِي أَدَبِهِ وَدِينِهِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَقُلْ هَذَا فَإِنَّهُ عَلَى بُطْلَانِهِ غَيْرُ لَائِقٍ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْدَهُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ: وَلِكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللهِ آخِرًا، وَأَمَّا كَوْنُهُ بَاطِلًا فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ صَرِيحَتَانِ فِي أَنَّ رَأْيَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هُوَ الصَّوَابُ، وَوَرَدَتِ الْآثَارُ بِأَنَّهُ مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَأَقَرَّهُ، وَأَنَّ جَعْلَهُ مَرْجُوحًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ مَرْجُوحًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَمِنَ اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِالْبَالِ، بَلْ غَفَلُوا عَنْهُ، هَذَا وَجَلَّ مَنْ لَا يَغْفُلُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا - وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَسْرَى وَمُفَادَاتَهُمْ مُقَيَّدٌ بِالْإِثْخَانِ كَمَا تَقَرَّرَ بِالْبَيَانِ التَّامِّ، وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ قَبْلَ الْإِثْخَانِ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، بِمَا تَضَمَّنَ عِتَابَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْحِكَمِ التِّسْعِ أَقْوَى، مِنْ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ التِّسْعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتِمَّتَانِ لِلْكَلَامِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بِبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِتَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ بَقَائِهِمْ عَلَى

الْكُفْرِ وَخِيَانَتَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَالظَّفَرِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى أَيْ: قُلْ لِلَّذِينَ فِي تَصَرُّفِ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى - وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مَنِ الْأُسَارَى - الَّذِينَ أَخَذْتُمْ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا إِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ فِي قُلُوبِكُمْ إِيمَانًا كَامِنًا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالِاسْتِعْدَادِ الَّذِي سَيَظْهَرُ فِي إِبَّانِهِ - أَوْ كَمَا يَدَّعِي بَعْضُكُمْ بِلِسَانِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ أَيْ: يُعْطِكُمْ إِذْ تُسْلِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا أَخَذَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْكُمْ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَا تُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا مِنْ نِعَمِ الدِّينِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ بِهَا، رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ فَنَزَلَ إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا أَيْ: إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا يُخْلِفْ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُصِيبَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَيْ: مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَكَانَ عَبَّاسٌ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا وَأَنَّ لِي مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ شَيْءٍ، فَلَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ غَفَرَ لِيَ اللهُ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ كُفْرِهِ وَمِنْ ذَنْبِهِ بِالْأَوْلَى رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ:الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي تَشْمَلُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ " وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ فَقَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَدَعْوَةٌ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ عَدِّهِمْ مُسْلِمِينَ بِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ بِمَا يُظْهِرُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ دَعْوَى إِبْطَالِ الْإِيمَانِ، أَوِ الرَّغْبَةِ عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ - وَهَذَا مِمَّا اعْتِيدَ مِنَ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ - فَلَا تَخَفْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَعَوْدَتِهِمْ إِلَى الْقِتَالِ، فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ لَهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِنِعَمِهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ خِيَانَتَهُمُ اللهَ تَعَالَى هِيَ مَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ لِمِيثَاقِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا أَقَامَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ أَخْذِهِ تَعَالَى الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 172) فَتُرَاجَعُ (فِي ص325 - 339ج 9ط الْهَيْئَةِ) فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ الْإِمْكَانُ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّمْكِينُ مِنْهُ وَاحِدٌ، أَيْ فَمَكَّنَكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ مِنْهُمْ، بِنَصْرِهِ إِيَّاكَ عَلَيْهِمْ بِبَدْرٍ عَلَى التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ قُوَّتِكَ وَقُوَّتِهِمْ

71

وَعَدَدِ أَصْحَابِكِ وَعَدَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ يُمَكِّنُكَ مِمَّنْ يَخُونُكَ مِنْ بَعْدُ، كَمَا مَكَّنَكَ مِمَّنْ خَانَهُ مِنْ قَبْلُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، حَكِيمٌ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَرْغِيبِ الْأَسْرَى فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ خِيَانَتِهِمْ إِذَا ثَبَتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَعَادُوا إِلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِمْرَارِ النَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ قِتَالٍ يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، مَا دَامُوا قَوَّامِينَ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ مَا يَحْسُنُ نَشْرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيضَاحِ الْمَعْنَى، وَمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَسْأَلَةِ فِدَاءِ الْأَسْرَى. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تَرْكِ فِدَاءِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَكَانَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ فَدَاءَهُ؟ فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " وَاللهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا " وَقَدْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمُ: " ابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ " جَدَّتَهَ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهِيَ أَنْصَارِيَّةٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، لَا أُمَّ الْعَبَّاسِ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ ابْنَ أُخْتِهِمْ، وَلَمْ يَصِفُوهُ بِكَوْنِهِ عَمَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِئَلَّا يَكُونَ فِي هَذَا الْوَصْفِ، رَائِحَةُ مِنَّةٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَأْذَنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ فِي مُحَابَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمُّهُ بَلْ سَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَسْرَى، بَلْ وَرَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِفِدَاءِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ لِغِنَاهُ وَفَقْرِهِمَا، وَقِيلَ الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَقِيلَ: وَحَلِيفُهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَقُولُ، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ وَلَكِنَّ ظَاهِرَ أَمْرِكَ أَنَّكَ كُنْتَ عَلَيْنَا؟ ". قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ إِيرَادِ مَا ذُكِرَ: وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةُ أَنَّ فِدَاءَهُمْ كَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ فِدَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَجَعَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ، وَعَلَى عَقِيلٍ ثَمَانِينَ، فَقَالَ لَهُ

الْعَبَّاسُ: أَلِلْقَرَابَةِ صَنَعَتْ هَذَا؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ إِلَخْ. . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَدِدْتُ لَوْ كُنْتُ أُخِذَ مِنِّي أَضْعَافَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ اهـ. أَيْ: قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَا أَعْطَاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ بَعْضِ الْغَنَائِمِ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْعَبَّاسَ حَضَرَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ مَعَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ مُكْرَهًا، فَأُسِرَ فَافْتَدَى نَفْسَهُ وَافْتَدَى ابْنَ أَخِيهِ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ وَكَتَمَ قَوْمَهُ ذَلِكَ، وَصَارَ يَكْتُبُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِقَلِيلٍ وَشَهِدَ الْفَتْحَ وَشَهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ اهـ. وَفِي تَتِمَّةِ خَبَرِ عَائِشَةَ أَنَّ الْعَبَّاسَ اعْتَذَرَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْفِدَاءِ لَهُ وَلِابْنِ أَخِيهِ وَلِحَلِيفِهِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ، قَالَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " فَأَيْنَ الَّذِي دَفَنْتَ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ لَبَنِيِّ " فَقَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُهَا. إِلَخْ. وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قِلَادَةً لَهَا فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ: " إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا " هَكَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَعَزَاهُ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ إِلَى الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا قَلِيلًا، وَفِيهِ أَنَّهُ كَلَّمَ النَّاسَ فَأَطْلَقُوهُ وَرَدَّ عَلَيْهَا الْقِلَادَةَ وَأَخَذَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ (زَوْجِهَا) أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ اهـ. وَقَدْ أَسْلَمَ الْعَاصُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرِوَايَةُ الْوَاقِدِيُّ ضَعِيفَةٌ، وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ يُنْظَرُ فِيهِ. ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ الْجَامِعَةَ لِأَهَمِّ قَوَاعِدِ السِّيَاسَةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالْأَسْرَى وَالْغَنَائِمِ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ فِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَمَا يَلْزَمُهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ: كَوِلَايَةِ الْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي مُقَابَلَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مَعَ الْكُفَّارِ مَا دَامَ الْعَهْدُ مَعْقُودًا غَيْرَ مَنْبُوذٍ وَغَزْلُهُ عِنْدَ الْكُفَّارِ مُبْرَمًا غَيْرَ مَنْكُوثٍ، فَقَالَ:

72

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: (الْأَوَّلُ) الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ أَصْحَابُ الْهِجْرَةِ الْأُولَى قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَرُبَّمَا تَمْتَدُّ أَوْ يَمْتَدُّ حُكْمُهَا إِلَى صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، (الثَّانِي) الْأَنْصَارُ (الثَّالِثُ) الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا (الرَّابِعُ) الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حُكْمَ كُلٍّ مِنْهَا وَمَكَانَتَهَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ هَذَا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَوَصْفِهِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَمِنَ الْوَحْيِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ

الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَنَاهِيكَ بِسَبْقِ هَؤُلَاءِ إِلَى هَذَا الْإِيمَانِ وَمُعَادَاةِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ لِأَجْلِهِ - وَوَصَفَهُمْ بِالْمُهَاجَرَةِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ، إِرْضَاءً لِلَّهِ تَعَالَى وَنَصْرًا لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَوَصَفَهُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَالْجِهَادُ بَذْلُ الْجُهْدِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَمُصَارَعَةُ الْمَشَاقِّ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْوَالِ فَهُوَ قِسْمَانِ: إِيجَابِيٌّ: وَهُوَ إِنْفَاقُهَا فِي التَّعَاوُنِ وَالْهِجْرَةِ، ثُمَّ فِي الدِّفَاعِ عَنْ دِينِ اللهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَحِمَايَتِهِ، وَسَلْبِيٌّ: وَهُوَ سَخَاءُ النَّفْسِ بِتَرْكِ مَا تَرَكُوهُ فِي وَطَنِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهُ - وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ قِسْمَانِ أَيْضًا: قِتَالُ الْأَعْدَاءِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، وَمَا كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ الْقِتَالِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ وَمُغَالَبَةِ الشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ عَلَى الِاضْطِهَادِ، وَالْهِجْرَةِ مِنَ الْبِلَادِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَغَبٍ وَتَعَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وَهَذَا هُوَ الصِّنْفُ الثَّانِي فِي الْفَضْلِ كَالذِّكْرِ، وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ آوَوُا الرَّسُولَ وَمَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالْإِيمَانِ وَنَصَرُوهُمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ الْهِجْرَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَبْدَأَ الْقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَالْإِيوَاءُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّأْمِينِ مِنَ الْمَخَافَةِ، إِذِ الْمَأْوَى هُوَ الْمَلْجَأُ وَالْمَأْمَنُ، وَمِنْهُ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (18: 10) ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ (18: 16) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (93: 6) ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (70: 13) ، آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ (12: 69) وَقَدْ أُطْلِقَ الْمَأْوَى فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَعَلَى نَارِ الْجَحِيمِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ، وَنُكْتَتُهُ بَيَانُ أَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّارُ مَأْوَاهُ لَا يَكُونُ لَهُ مَلْجَأٌ يَنْضَوِي إِلَيْهِ، وَلَا مَأْمَنٌ يَعْتَصِمُ بِهِ، وَقَدْ كَانَتْ (يَثْرِبُ) مَأْوَى وَمَلْجَأً لِلْمُهَاجِرِينَ شَارَكَهُمْ أَهْلُهَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَآثَرُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا أَنْصَارَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُقَاتِلُونَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيُعَادُونَ مَنْ عَادَاهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ حُكْمَهُمْ وَحُكْمَ الْمُهَاجِرِينَ وَاحِدًا فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أَيْ: يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخَرِينَ أَفْرَادًا أَوْ جَمَاعَاتٍ مَا يَتَوَلَّوْنَهُ مِنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ تَعَاوُنٍ وَتَنَاصُرٍ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ وَمَرَافِقَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ مُشْتَرَكَةٌ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ إِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ، وَكِفَايَةُ الْمُحْتَاجِ مِنْهُمْ: كَمَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمُ الْعَامَّةَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ وَهُوَ كَالْمَوْلَى مُشْتَقٍّ مِنَ الْوَلَايَةِ - بِفَتْحِ الْوَاوِ - وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، وَكَسْرِهَا وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ فِيهَا، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَالدَّلَالَةِ وَالدِّلَالَةِ أَوْ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْوَلَايَةِ بِالْفَتْحِ خَاصٌّ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَكَذَا النَّسَبِ وَالدِّينِ، وَبِالْكَسْرِ خَاصٌّ بِالْإِمَارَةِ وَتَوَلِّي

75

الْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ كَالتِّجَارَةِ وَالنِّجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْمَعَانِي الْأُولَى أَكْثَرُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا خَاصَّةٌ بِوِلَايَةِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُقِيمَ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ، لَمْ يَكُنْ يَرِثُ الْمُسْلِمَ الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا إِلَّا إِذَا هَاجَرَ إِلَيْهَا، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ، وَزَالَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ، وَغَلَبَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي بَدْوِ الْعَرَبِ وَحَضَرِهَا، فَنُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْإِسْلَامِ وَهَذَا التَّخْصِيصُ بَاطِلٌ. وَالْمُتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَوْلِيَاءِ عَامًا يَشْمَلُ كُلَّ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ، وَالْمَقَامُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمًا مَدَنِيًّا مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فَقَطْ، فَهِيَ فِي الْحَرْبِ وَعَلَاقَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَعَلَاقَتِهِمْ بِالْكُفَّارِ، وَكُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مَسْأَلَةِ التَّوَارُثِ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِسْلَامِ أَمْ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ صَفْوَةِ مَا وَرَدَ وَمَا قِيلَ فِي الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ لِيُعْلَمَ بِالتَّفْصِيلِ بُطْلَانُ مَا قِيلَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْإِرْثِ بِهَا. جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَدْ حَالَفَ رَسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي، قَالَهُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُؤَاخَاتَةُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَأَسْنَدَهُ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ وَكَذَلِكَ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَأَسْنَدَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُؤَاخَاتَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي طَلْحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَتِ الْمُؤَاخَاةُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَمَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ، كَانُوا تِسْعِينَ نَفْسًا بَعْضُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ: وَكَانُوا مِائَةً: فَلَمَّا نَزَلَ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ (8: 75) بَطَلَتِ الْمَوَارِيثُ بَيْنَهُمْ بِتِلْكَ الْمُؤَاخَاةِ اهـ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ وَأُولُو الْأَرْحَامِ آيَةُ (6) مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّهَا آيَةُ (75) مِنَ الْأَنْفَالِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُشْكِلٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا آيَةُ الْأَنْفَالِ أَظْهَرُ إِشْكَالًا، بَلْ لَا يَبْقَى مَعَهَا لِذَلِكَ التَّوَارُثِ فَائِدَةٌ وَلَا لِنَسْخِهِ حِكْمَةٌ لِقُرْبِ الزَّمَنِ بَيْنَ هَذَا الْإِرْثِ وَبَيْنَ نَسْخِهِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ الْإِرْثِ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُؤَاخَاةَ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ

لَمْ تَكُنِ الْحَالُ قَدْ تَغَيَّرَتْ عِنْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ عَقِبَ وَقْعَتِهَا وَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ النَّسْخِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَا بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِإِبَاحَةِ الْهِجْرَةِ بِهَا. وَقَالَ الْحَافِظُ: قَالَ السُّهَيْلِيُّ: آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الْغُرْبَةِ، وَيَتَأَنَّسُوا مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَيَشُدَّ بَعْضُهُمْ أَزْرَ بَعْضٍ، فَلَمَّا عَزَّ الْإِسْلَامُ، وَاجْتَمَعَ الشَّمْلُ وَذَهَبَتِ الْوَحْشَةُ أُبْطِلَتِ الْمَوَارِيثُ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ إِخْوَةً، وَأَنْزَلَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (49: 10) يَعْنِي فِي التَّوَادُدِ وَشُمُولِ الدَّعْوَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَائِهَا فَقِيلَ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ، وَقِيلَ: قَبْلَ بِنَائِهِ، وَقِيلَ بِسَنَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ بَدْرٍ اهـ. أَقُولُ: فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ التَّوَارُثُ بِالْمُؤَاخَاةِ حَصَلَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَنُسِخَ بَعْدَهَا فِي سَنَتِهَا؟ وَهَلْ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا السُّهَيْلِيُّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؟ كَلَّا إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ عَزَّ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَكِنَّ الشَّمْلَ لَمْ يَجْتَمِعْ، وَالْوَحْشَةَ لَمْ تَذْهَبْ، وَالسَّعَةَ فِي الرِّزْقِ لَمْ تَحْصُلْ، وَكَانَ لَا يَزَالُ أَكْثَرُ أُولِي الْقُرْبَى مُشْرِكِينَ. (ثُمَّ قَالَ) : وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُؤَاخَاةَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَصْحَابِهِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ: " تَآخَوْا أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ " فَكَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ أَخَوَيْنِ، وَحَمْزَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَخَوَيْنِ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخَوَيْنِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ هِشَامٍ بِأَنَّ جَعْفَرًا كَانَ يَوْمَئِذٍ بِالْحَبَشَةِ إِلَخْ. (أَقْوَالٌ) : وَقَدْ تَكَلَّفُوا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا وَلَكِنْ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَةِ تَعَقُّبَاتٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، وَابْنُ إِسْحَاقَ غَيْرُ ثِقَةٍ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَنْ وَثَّقَهُ لَمْ يُنْكِرْ أَنَّهُ كَانَ مُدَلِّسًا، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ سَنَدًا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، إِذْ لَوْ ذَكَرَ سَنَدًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَحْدَهُمْ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَحَمْزَةَ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذَا مُنَافٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ بِمَكَّةَ. (ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ) مُحَاوِلًا حَلَّ إِشْكَالِ بَعْضِ التَّعَقُّبَاتِ: وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمُؤَاخَاةِ أَوَائِلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَمَرَّ يُجَدِّدُهَا بِحَسَبِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يَحْضُرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْإِخَاءُ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْبَابِ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَآخَى بَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَسَمَّى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَمَاعَةً آخَرِينَ. "

وَأَنْكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْمُطَهَّرِ الرَّافِضِيِّ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَخُصُوصًا مُؤَاخَاةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَلِيٍّ قَالَ: لِأَنَّ الْمُؤَاخَاةَ شُرِعَتْ لِإِرْفَاقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلِيَتَآلَفَ قُلُوبُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا مَعْنَى لِمُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا لِمُؤَاخَاةِ مُهَاجِرِيٍّ لِمُهَاجِرِيٍّ ". " وَهَذَا رَدٌّ لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَغَفْلَةٌ عَنْ حِكْمَةِ الْمُؤَاخَاةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْقُوَى، فَآخَى بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى، لِيَرْتَفِقَ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَيَسْتَعِينَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُؤَاخَاتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَعَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَقُومُ بِهِ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا مِنْ قَبْلِ الْبَعْثَةِ وَاسْتَمَرَّ. وَكَذَا مُؤَاخَاةُ حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ؛ لِأَنَّ زَيْدًا مَوْلَاهُمْ فَقَدْ ثَبَّتَ أُخُوَّتَهُمَا وَهُمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ " إِلَخْ. وَمَا ذَكَرَهُ لَا يُؤَيِّدُ تَعْلِيلَهُ، فَإِنَّهُ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. وَاحْتَجَّ الْحَافِظُ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ بِالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيَّةٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَعِنْدَ الضِّيَاءِ فِي الْمُخْتَارَةِ الَّتِي يُصَرِّحُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّ أَحَادِيثَهَا أَقْوَى مِنْ أَحَادِيثِ الْمُسْتَدْرَكِ، ثُمَّ قَالَ: " وَقِصَّةُ الْمُؤَاخَاةِ الْأُولَى أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: آخَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَبَيْنَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ - وَذَكَرَ جَمَاعَةً - قَالَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ فَمَنْ أَخِي؟ قَالَ: " أَنَا أَخُوكَ " (قَالَ الْحَافِظُ) : وَإِذَا انْضَمَّ هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ تَقَوَّى بِهِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّمَا احْتَاجَ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى التَّقْوِيَةِ بِمَا رُوِيَ مِنَ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ جُمَيْعَ بْنَ عُمَيْرٍ التَّيْمِيَّ مَجْرُوحٌ، أَهْوَنُ مَا طَعَنُوهُ بِهِ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: فِي أَحَادِيثِهِ نَظَرٌ، وَوَافَقَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَأَشَدُّهَا قَوْلُ ابْنِ نُمَيْرٍ: كَانَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ، وَقَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: كَانَ رَافِضِيًّا يَضَعُ الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى رِوَايَةٍ تُؤَيِّدُهُ فِي مَوْضُوعِهِ وَلَوْ إِجْمَالًا، وَمِنْهُ إِسْنَادُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ شَيْخُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ رِوَايَاتِ مُؤَاخَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ضَعِيفَةٌ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ، فَهُوَ إِذًا يُنْكِرُ مَا قِيلَ مِنْ تِلْكَ الْمُؤَاخَاةِ الْعَامَّةِ، وَتَحْقِيقُ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِطْرَادًا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي إِيضَاحِ هَذَا الْبَحْثِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْإِرْثِ فِي تَفْسِيرِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (8: 75) . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَهَذَا هُوَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُقِيمُونَ فِي أَرْضِ الشِّرْكِ تَحْتَ سُلْطَانِ الْمُشْرِكِينَ وَحُكْمِهِمْ

وَهِيَ دَارُ الْحَرْبِ وَالشِّرْكِ بِخِلَافِ مَنْ يَأْسِرُهُ الْكُفَّارُ مَنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ، وَيَجِبُ عَلَى الِمُسْلِمِينَ السَّعْيُ فِي فِكَاكِهِمْ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ يَجِبُ مِثْلُ هَذِهِ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْضًا، وَكَانَ حُكْمُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ أَنَّهُمْ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى نَصْرِ أُولَئِكَ لَهُمْ، وَلَا إِلَى تَنْفِيذِ هَؤُلَاءِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، وَالْوِلَايَةُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ عَلَى سَبِيلِ التَّبَادُلِ. وَلَكِنَّ اللهَ خَصَّ مِنْ عُمُومِ الْوِلَايَةِ الْمَنْفِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ شَيْئًا وَاحِدًا فَقَالَ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فَأَثْبَتَ لَهُمْ مِنْ وِلَايَةِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَقَّ نَصْرِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا قَاتَلُوهُمْ أَوِ اضْطَهَدُوهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يَنْصُرُونَ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لِعَجْزِهِمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ حَالَةً وَاحِدَةً فَقَالَ: إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ يَعْنِي إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُمْ إِذَا اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ عَلَى الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ دُونَ الْمُعَاهِدِينَ، فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِعَهْدِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ الْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (8: 58) . وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَرْكَانِ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ الْخَارِجِيَّةِ الْعَادِلَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْعَهْدَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ لَا يَنْتَقِضُ بِتَعَدِّيهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُسَمَّى رَئِيسُهَا خَلِيفَةَ الْإِسْلَامِ، وَالْإِمَامَ الْأَعْظَمِ وَالْإِمَامَ الْحَقِّ (وَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَحُدُودَهُ وَيَحْمِي دَعْوَتَهُ) وَإِنْ أَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ غَيْرُ الْخَاضِعِينَ لِلْإِمَامِ الْحَقِّ حُكُومَةً أَوْ حُكُومَاتٍ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِتَعَدِّيهِمْ عَلَى حُكُومَةِ الْإِمَامِ أَوْ أَحَدِ الْبِلَادِ الدَّاخِلَةِ فِي حُدُودِ حُكْمِهِ، وَلَكِنْ إِذَا تَضَمَّنَ الْعَهْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ دُوَلِ الْكُفَّارِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِهِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِقِتَالِهِمُ الْمُخَالِفِ لِنَصِّ الْعَهْدِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ نَصْرُ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَكَذَا لِأَجْلِ دُنْيَاهُمْ إِنْ تَضَمَّنَ الْعَهْدُ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ نَصْرُهُمْ عَلَى مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَ حُكُومَةِ الْإِمَامِ وَحُكُومَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حَامِي الْإِيمَانِ وَنَاشِرُ دَعْوَتِهِ. وَقَدْ أَخَذَ أَعْظَمُ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ هَذَا الْحُكْمَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَلْقَابِ مَلِكِ الْإِنْكِلِيزِ الرَّسْمِيَّةِ " حَامِي الْإِيمَانِ " وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَرَكُوهُ ثُمَّ طَفِقُوا يَتْرُكُونَ أَصْلَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ فِيهِ لِئَلَّا تَقَعُوا فِي عِقَابِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ، وَأَنْ تُرَاقِبُوهُ وَتَتَذَكَّرُوا اطِّلَاعَهُ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَتَتَوَخَّوْا فِيهَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْمَصْلَحَةَ وَتَتَّقُوا الْهَوَى الصَّادَّ عَنْ ذَلِكَ. وَبِمِثْلِ هَذَا الْإِنْذَارِ الْإِلَهِيِّ تَمْتَازُ الْأَحْكَامُ السِّيَاسِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ الْقَانُونِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا يَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ أَصْدَقَ فِي إِقَامَةِ شَرِيعَتِهِمْ،

وَأَجْدَرَ بِالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمْ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْخِيَانَةِ فِيهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَفِي هَذَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِخُصُومِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فَكَيْفَ بِأَهْلِ ذِمَّتِهِمْ؟ وَإِنَّنَا نَرَى أَعْظَمَ دُوَلِ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ تَنْقُضُ عُهُودَهَا جَهْرًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا سِيَّمَا عُهُودَهَا لِلضُّعَفَاءِ، وَتَتَّخِذُهَا دَخَلًا وَخِدَاعًا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَتَنْقُضُهَا بِالتَّأْوِيلِ لَهَا إِذَا رَأَتْ أَنَّ هَذَا فِي مَنْفَعَتِهَا. وَقَدْ قَالَ أَعْظَمُ رِجَالِ سِيَاسَتِهِمُ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْك مُعَبِّرًا عَنْ حَالِهِمْ: الْمُعَاهَدَاتُ حُجَّةُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ. (وَقَالَ) فِي الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ: إِنَّهَا أَبْرَعُ الدُّوَلِ فِي التَّفَصِّي فِي الْمُعَاهَدَاتِ بِالتَّأْوِيلِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أَيْ: فِي النُّصْرَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ تُجَاهَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا مِلَلًا كَثِيرَةً يُعَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، بَلِ السُّورَةُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِجَازِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْصُرُونَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ مِنْ عَقْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعُهُودَ مَعَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ لَهَا، ثُمَّ ظَهَرَتْ بَوَادِرُ عَدَاوَةِ نَصَارَى الرُّومِ لَهُ فِي الشَّامِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهِيَ الْمُتِمَّةُ لِمَا هُنَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: إِنِ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ الْإِرْثِ كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا، وَجَعَلُوهُ الْأَصْلَ فِي عَدَمِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَبِإِرْثِ مِلَلِ الْكُفْرِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى نَفْيِ الْمُؤَازَرَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيجَابِ الْمُبَاعَدَةِ وَالْمُصَارَمَةِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ، وَتَرَاهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَفْهُومُ الْآيَةِ أَوْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ بِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ عَامَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَمَا وَرَدَ فِيهَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ " وَجَاءَتْ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهَا، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَآخِرُ مَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَثَالِثٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَنَدُ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ إِلَى عَمْرٍو صَحِيحٌ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لِهَذَا اللَّفْظِ عِلَّةٌ وَلَكِنْ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهُشَيْمٌ مُدَلِّسٍ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ: إِذَا قَالَ: أَخْبَرَنَا فَهُوَ ثِقَةٌ وَإِلَّا فَلَا. وَهَاهُنَا قَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ عَنْهُ صَحِيفَةً فُقِدَتْ مِنْهُ فَكَانَ يُحَدِّثُ

بِمَا فِيهَا مِنْ حِفْظِهِ، وَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ فَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ أُسَامَةَ فَذَكَرَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَمَا رَوَاهُ بِهِ الْحَاكِمُ عَنْ أُسَامَةَ، وَخَالَفَ فِيهِ نَصَّ الصَّحِيحَيْنِ وَسَائِرِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ لَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ، إِشَارَةً إِلَى مَا فِيهِ مِنْ عِلَّةِ مُخَالَفَةِ الثِّقَاتِ، أَوْ مُخَالَفَةِ الثِّقَةِ لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ النَّافِيَةِ لِلصِّحَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَرَأَ آيَةَ الْأَنْفَالِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (73) كَمَا رَوَى الْحَاكِمُ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَالْأَكْثَرُونَ يَحْتَجُّونَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَشَوَاهِدِهَا: وَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ قَالَ: لَا يَرِثُ أَهْلُ مِلَّةٍ كَافِرَةٍ أَهْلَ مِلَّةٍ أُخْرَى كَافِرَةٍ، وَحَمَلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْدَى الْمِلَّتَيْنِ الْإِسْلَامُ، وَبِالْأُخْرَى الْكُفْرُ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلرِّوَايَةِ الَّتِي بِلَفْظِ الْبَابِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى ظَاهِرِ عُمُومِهَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ عَنِ الْيَهُودِيِّ مَثَلًا أَنْ يَرِثَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَكْثَرِ، وَمُقَابِلُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعَنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَتَوَارَثُ حَرْبِيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، فَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ شُرِطَ أَنْ يَكُونَا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا فَرْقَ، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ كَالْحَنَفِيَّةِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَطَائِفَةٍ: الْكُفْرُ ثَلَاثٌ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ وَغَيْرُهُمْ، فَلَا تَرِثُ مِلَّةٌ مِنْ هَذِهِ مِنْ مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَّتَيْنِ. وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ مِلَّةٌ فَلَمْ يُوَرِّثُوا مَجُوسِيًّا مِنْ وَثَنِيٍّ وَلَا يَهُودِيًّا مِنْ نَصَرَانِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَبَالَغَ فَقَالَ: وَلَا يَرِثُ أَهْلُ نِحْلَةٍ مِنْ دِينٍ أَحَدَ أَهْلِ نِحْلَةٍ أُخْرَى مِنْهُ كَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى اهـ. وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا عَلَيْهِ تِلْكَ الْمِلَلِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ هُوَ مِمَّنْ قَبْلَهُ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: " يَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ فَيْئًا إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِرِدَّتِهِ أَنْ يَحْرِمَ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ لَهُمْ. وَكَذَا قَالَ فِي الزِّنْدِيقِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا كَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ لِبَيْتِ الْمَالِ " إِلَخْ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا عَكْسَ، وَمِنْهُ أَنَّ أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ مَاتَ أَبُوهُمَا يَهُودِيًّا فَحَازَ ابْنُهُ الْيَهُودِيُّ مَالَهُ فَنَازَعَهُ الْمُسْلِمَ فَوَرَّثَ مُعَاذٌ الْمُسْلِمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَ هَذَا عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: نَرِثُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا يَرِثُونَا، كَمَا يَحِلُّ لَنَا النِّكَاحُ مِنْهُمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنَّا، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ اهـ. وَعَلَيْهِ الْإِمَامِيَّةُ وَبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ أَيْ: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا ذَكَرَ وَهُوَ مَا شَرَعَ لَكُمْ مِنْ وِلَايَةِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَنَاصُرِكُمْ وَتُعَاوُنِكُمْ تُجَاهَ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ.

وَمِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مَعَ الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ - يَقَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ الْكَبِيرِ فِي الْأَرْضِ مَا فِيهِ أَعْظَمُ الْخَطَرِ عَلَيْكُمْ، بِتَخَاذُلِكُمْ وَفَشَلِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى ظَفَرِ الْكُفَّارِ بِكُمْ وَاضْطِهَادِكُمْ فِي دِينِكُمْ لِصَدِّكُمْ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَفْتِنُونَ ضُعَفَاءَكُمْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ هُنَا ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِلَّا تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَلَ اللهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضَهَمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ فَالْفِتْنَةُ فِي الْأَرْضِ: قُوَّةُ الْكُفْرِ، وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ: ضَعْفُ الْإِسْلَامِ اهـ. وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الْأَرْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اضْطِهَادِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمَ قُوَّةِ الْكُفْرِ وَسُلْطَانِ أَهْلِهِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ حُرِّيَّةَ الدِّينِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، بِمَا يُلْقِيهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِيهِ وَفِي الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبِمَا يُغْرُونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْعَوَامِّ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمَالِ وَأَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، كَذَلِكَ الْفَسَادُ الْكَبِيرُ مِنْ لَوَازِمَ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى أَهْلِهِ تَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ وَعَدَمِ تَوَلِّي غَيْرِهِمْ مِنْ دُونِهِمْ، وَيُوجِبُ عَلَى حُكُومَتِهِ الْقَوِيَّةِ الْعَدْلَ الْمُطْلَقَ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا - وَالَّذِي يُحَرِّمُ الْخِيَانَةَ وَنَقْضَ الْعُهُودِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا مُفَصَّلًا وَذَكَّرْنَا بِهِ آنِفًا. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى تَارِيخِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَقَطَتْ وَبَادَتْ وَالَّتِي ضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّةٍ، يَرَى أَنَّ السَّبَبَ الْأَعْظَمَ لِفَسَادِ أَمْرِهَا تَرْكُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ أَوِ اسْتِبْدَالُ غَيْرِهَا بِهَا، وَمِنَ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّوَارُثِ لَا تَقْتَضِي هَذِهِ الْفِتْنَةَ الْعَظِيمَةَ، وَلَا هَذَا الْفَسَادَ الْكَبِيرَ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ: أَيْ: إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ، وَتُوَالُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ الْتِبَاسُ الْأَمْرِ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ، يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ فَسَادٌ مُنْتَشِرٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَاطَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَقْوِيَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْكَافِرِينَ سَبَبٌ قَوِيٌّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِ حَقِّيَّتِهِ وَفَضَائِلِهِ كَمَا وَقَعَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى فَتْحًا مُبِينًا. وَكَذَلِكَ كَانَ انْتِشَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَهْلِهَا كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي جَزَائِرِ الْهِنْدِ الشَّرْقِيَّةِ (جَاوَهْ وَمَا جَاوَرَهَا) وَفِي أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ضَعِيفٌ بَلْ مَرْدُودٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَالِ ضَعْفِ

الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَاخْتِلَاطِهِمْ بِمَنْ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِالْجَدَلِ، وَإِيرَادِ الشُّبُهَاتِ فِي صُورَةِ الْحُجَجِ مَعَ تَعَصُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، كَحَالِ هَذَا الزَّمَانِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْبِيهُ لَمَا نَقَلْتُ هَذَا الْقَوْلَ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الْخِلَافِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي وِلَايَةِ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَوُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَتَحْرِيمِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَشْهُورَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى الْوَلِيِّ أَنَّهُ النَّصِيرُ وَالْمُعِينُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ وَالنَّسِيبُ، فَأَمَّا الْوَارِثُ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِيهِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ تَأْوِيلُ مِنْ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الدِّينِ " إِلَخْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هَذَا تَفْضِيلٌ لِلصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَشَهَادَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ وَأَكْمَلَهُ، دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَقَامَ بِدَارِ الشِّرْكِ مَعَ حَاجَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى هِجْرَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَعَادَ وَصْفَهُمُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُمْ بِهِ كَانُوا أَهْلًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَتَنْكِيرُ " مَغْفِرَةٌ " لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا، بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِهَا قَبْلَهَا، وَمِنْ وَصْفِ الرِّزْقِ بَعْدَهَا بِكَوْنِهِ كَرِيمًا: أَيْ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَامَّةٌ مَاحِيَةٌ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ كَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، أَيْ رِزْقٌ حَسَنٌ شَرِيفٌ بَالِغٌ دَرَجَةَ الْكَمَالِ فِي نَفْسِهِ وَفِي عَاقِبَتِهِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذَا الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ تُرْغِمُ أُنُوفَ الرَّوَافِضِ، وَتَلْقَمُ كُلَّ نَابِحٍ بِالطَّعْنِ فِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْحَجَرَ، وَلَا سِيَّمَا زَعْمُهُمْ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا بَعْدَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ دُونَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْخَبَرِ عَمَّا لَهُمْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا. . . الْآيَةَ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ لَمْ يَكُنْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَّا الْحَثُّ عَلَى مُضِيِّ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا أَمَرَ وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ، كَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَاسِخَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِشَيْءٍ وَلَا مَنْسُوخَ اهـ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ هَذَا هُوَ الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهُمْ مَنْ تَأَخَّرَ إِيمَانُهُمْ وَهِجْرَتُهُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى أَوْ عَنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي آمَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: عَنْ صُلْحِ

الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَالسُّورَةُ كُلُّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَحُكْمُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّهُمْ يَلْتَحِقُونَ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ أَحْكَامِ وِلَايَتِهِمْ وَجَزَائِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ فِي الْوِلَايَةِ، يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُوَارَثَةِ مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَلِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى مَا أَعْلَمُ. وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَهُمْ تَبَعًا لَهُمْ وَعَدَّهُمْ مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ السَّابِقَيْنِ عَلَى اللَّاحِقِينَ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى (57: 10) وَقَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9: 100) وَقَدْ بَيَّنَ فِي سِيَاقِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (5: 8 - 10) وَفَضِيلَةُ السَّبْقِ مَعْلُومَةٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56: 10 - 12) وَالرَّوَافِضُ يَكْفُرُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَطْعَنُونَ بِهِ عَلَى جُمْهُوِرِ الصَّحَابَةَ وَعَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَاصَّةً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَوَّلَ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ مَعًا الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِمْ هُوَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَسَخِطَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ ضِمْنًا. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ أُولُو الْأَرْحَامِ: هُمْ أَصْحَابُ الْقَرَابَةِ جَمْعُ رَحِمٍ (كَكَتِفٍ وَقُفْلٍ) وَأَصْلُهُ رَحِمُ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِهَا، وَيُسَمَّى بِهِ الْأَقَارِبُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ مِنْ رَحِمٍ وَاحِدٍ، وَفِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْفَرَائِضِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ وَهُمْ عَشْرَةُ أَصْنَافٍ: الْخَالُ وَالْخَالَةُ، وَالْجَدُّ لِلْأُمِّ، وَوَلَدُ الْبِنْتِ، وَوَلَدُ الْأُخْتِ، وَبِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ الْعَمِّ، وَالْعَمَّةُ، وَالْعَمُّ

لِلْأُمِّ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَمَنْ أَدْلَى بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي إِرْثِهِمْ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ بِمَا ذُكِرَ، وَاسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُهُمْ، وَكَذَا عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (4: 7) وَبِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي إِرْثِ الْخَالِ فِيهَا مَقَالٌ، وَبِحَدِيثِ " ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ " وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ: مَسْرُوقٌ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَتَرَى فِي كُتُبِ الْفَرَائِضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَارِثٍ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا نَزَلَتْ فِي نَسْخِ هَذَا الْإِرْثِ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ التَّفْسِيرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (4: 33) أَنَّهُ فَسَّرَ الْمُوَالِيَ بِالْوَرَثَةِ. ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (4: 33) : كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ (4: 33) نُسِخَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ فَيُوصَى لَهُ اهـ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ لَفْظِهِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا غُمُوضٌ وَإِشْكَالٌ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ. وَالْمُرَادُ لَنَا مِنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْمُعَاقَدَةَ بِالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبِأَنَّ النَّاسِخَ لَهَا هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْحَافِظُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَحَمَلَهَا غَيْرُهُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِمَّا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِرْثِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا وَأَنَّ النَّاسِخَ لَهُ آيَةُ الْأَحْزَابِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (33: 6) وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ وَسُورَتُهَا قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَفِيهَا الْكَلَامُ عَلَى غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ وَقِيلَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ وَسُورَتُهَا نَزَلَتْ قَبْلَ آيَاتِ الْإِرْثِ وَقَبْلَ سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ. وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَقَرِينَةِ السِّيَاقِ أَنَّهَا: فِي وِلَايَةِ الرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ، بَعْدَ بَيَانِ وِلَايَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، فَهُوَ عَزَّ شَأْنُهُ يَقُولُ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ وَأَحَقُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْأَجَانِبِ بِالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ - وَكَذَا التَّوَارُثِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ فِي كُلِّ عَهْدٍ - هُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْجَبَ بِهِ عَلَيْهِمْ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَالْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى فِي هَذِهِ

الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ قَبْلَهَا وَأَكَّدَهُ فِيمَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي مَعْنَاهَا، وَكَقَوْلِهِ بَعْدَ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ (3: 24) فَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهُ فِي دِينِ الْفِطْرَةِ، كَمَا جَعَلَهُ مِنْ مُقْتَضَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، فَالْقَرِيبُ ذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِوَلَاءِ قَرِيبِهِ وَبِرِّهِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْرِهِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ التَّوَارُثِ الْعَارِضِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْمُتَعَاقِدِينَ عَلَى أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، وَإِذَا وُجِدَ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ يَسْتَحِقَّانِ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ فَالْقَرِيبُ مُقَدَّمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ (3: 36) وَقَالَ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا أَيْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ الْمَكِّيَّةِ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (13: 20، 21) الْآيَةَ. وَعَهْدُ اللهِ هُنَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا عَهِدَهُ إِلَى الْبَشَرِ مِنَ التَّكَالِيفِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِلَفْظِ الْعَهْدِ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (36: 60) الْآيَتَيْنِ أَوْ بِلَفْظٍ آخَرَ - وَمِنْهُ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ (7: 27) وَأَمْثَالِهِ مِنَ النِّدَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَمِنَ الْوَصَايَا فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (الْأَنْعَامِ) كَمَا يَشْمَلُ مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْعَهْدِ أَوْ بِدُونِهِ، وَمَا يُعَاهِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ، وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ عَلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ. وَيَدْخُلُ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ مَا أَوْجَبُهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُقُوقِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ صِفَةِ هَؤُلَاءِ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ هُنَا. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَهَمُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مَنْ يَصِلُونَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (2: 27) وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْعَهْدَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ خَلْقِيٌّ، وَدِينِيٌّ شَرْعِيٌّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ هُوَ تَفْضِيلٌ لِوِلَايَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ وِلَايَةِ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِهَا، وَلَكِنْ فِي ضَمَانِ دَائِرَتِهِمَا، فَالْقَرِيبُ أَوْلَى بِقَرِيبِهِ ذِي رَحِمِهِ الْمُؤْمِنَ الْمُهَاجَرِيِّ وَالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الْمُؤْمِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا قَرِيبُهُ الْكَافِرُ فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْكُفْرُ مَعَ الْقِتَالِ يَقْطَعَانِ لَهُ حُقُوقَ الرَّحِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ (60: 1) الْآيَاتِ،

وَإِنْ كَانَ مُعَاهِدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَلَهُ مِنْ حَقِّ الْبِرِّ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (31: 15) ثُمَّ قَالَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (60: 8) فَالْبِرُّ وَالْعَدْلُ مَشْرُوعَانِ عَامَّانِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَمَحِلُّ تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ. ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَهُوَ تَذْيِيلٌ اسْتِئْنَافِيٌّ لِأَحْكَامِ هَذَا السِّيَاقِ الْأَخِيرِ بَلْ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ السُّورَةِ وَحِكَمِهَا، مُبَيِّنٌ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا وَجْهَ لِنَسْخِهَا وَلَا نَقْضِهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعُهُودِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ، وَسُنَنِ التَّكْوِينِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأُصُولِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَنْفُسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، عَنْ عِلْمٍ وَاسِعٍ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ (7: 52) الْآيَةَ. فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا وَفِقْهًا بِأَحْكَامِ كِتَابِهِ وَحِكَمِهِ، وَأَنْ يَزِيدَنَا هِدَايَةً بِعُلُومِهِ وَآدَابِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَأَرْسَلَهُ بِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْعَمَلِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ، وَنُجْمِلُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةِ أَبْوَابٍ قَدْ يَدْخُلُ بَعْضُ أُصُولِهَا وَمَسَائِلِهَا فِي بَعْضٍ فَيُذَكَرُ فِي كُلِّ بَابٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ) مُقَدِّمَةٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ الْقَارِئُ أَنْ جُلَّ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ. وَيَلِي ذَلِكَ فِيهَا أُصُولُ التَّشْرِيعِ الْإِجْمَالِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَالْآدَابُ وَالْفَضَائِلُ الثَّابِتَةُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي خُلَاصَةِ كُلٍّ مِنْ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَيَتَخَلَّلُ هَذَا وَذَاكَ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ وَدَحْضُ شُبُهَاتِهِمْ، وَإِبْطَالُ ضَلَالَتِهِمْ، وَتَشْوِيهُ خُرَافَاتِهِمْ. وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَتَكْثُرُ فِيهَا قَوَاعِدُ الشَّرْعِ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةُ، بَدَلًا

مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، كَمَا تَكْثُرُ فِي بَعْضِهَا مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَانُ مَا ضَلُّوا فِيهِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ وَرُسُلِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَفِي بَعْضِهَا بَيَانُ ضَلَالَةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَفَاسِدِهِمْ كَمَا يَرَى الْقَارِئُ لِلسُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطُّوَالِ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُقَابِلُ مَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَغَوَايَةِ أَهْلِهِ. فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ الْيَهُودِ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَكْثُرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَلِيهَا فِي فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ سُورَةُ التَّوْبَةِ الْآتِيَةُ. وَتَكْثُرُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ أَحْكَامُ الْقِتَالِ، كَمَا تَكْثُرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةِ الْأَنْفَالِ) . الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِهِ فِي خَلْقِهِ وَحُقُوقِهِ وَحُكْمِهِ فِي عِبَادِهِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ (1) الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ: الْعَلِيُّ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَالْمَوْلَى وَالنَّصِيرُ، وَالْبَصِيرُ، وَالْقَدِيرُ، وَالْعَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَغَيْرِهَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا أَوْ مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَوْضُوعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَيُفَسَّرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمُفَسِّرُوا الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا يَتَأَوَّلُونَ بَعْضَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَبَيَّنَّا فِيهِ وَفِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي إِمْرَارِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَمَا وَرَدَتْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ لَهَا يُخْرِجُهَا عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنَ السِّيَاقِ مَعَ الْجَزْمِ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى فِيهَا عَنْ شِبْهِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا لِلْخَلَفِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا مُحَاوَلَةُ التَّقَصِّي مِنَ التَّشْبِيهِ، وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَ إِثْبَاتِ النُّصُوصِ وَالتَّنْزِيهِ. وَقَدْ تُذْكَرُ بَعْضُ التَّأْوِيلَاتِ لِلضَّرُورَةِ. (2) الْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْعِنْدِيَّةُ: مِمَّا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتُ إِضَافَةِ الْمَعِيَّةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَيْ كَوْنُهُ مَعَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ - وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ تَأْوِيلُهُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ مُتَكَلِّمُوا الْخَلَفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَا كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ تَحْقِيقَ قَاعِدَةِ السَّلَفِ فِيهَا وَتَرَاهَا فِي آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ - أَوَّلِهَا - إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (8: 12) أَيْ: إِنِّي أُعِينُكُمْ عَلَى تَنْفِيذِ

مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ تَثْبِيتِهِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَا يَفِرُّوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ عَلَى كَوْنِهِمْ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَمَدَدًا - إِعَانَةَ حَاضِرٍ مَعَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْ إِعَانَتِكُمْ، وَالْوَعْدُ بِالْإِعَانَةِ وَحْدُهُ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى كُلَّهُ، فَفِي الْمَعِيَّةِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْإِعَانَةِ نَعْقِلُ مِنْهُ مَا ذَكَرَ وَلَا نَعْقِلُ كُنْهَهُ وَصِفَتَهُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي النَّصْرَ فِي الْحَرْبِ بَلْ هُنَالِكَ قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ قَدْ يَنْصُرُ بِهَا الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) - وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ وَذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنَازُعِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ جَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى عَشْرَةِ أَضْعَافِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَعَلَى مِثْلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالرُّخْصَةِ بِشُرُوطِهِ: وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَعِيَّةِ النَّصْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا تُسَمَّى بِهِ فِي مَقَامَاتٍ أُخْرَى مِنَ الصَّبْرِ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ يُطْلَبُ كُلٌّ مِنْهَا فِي مَحِلِّهِ. وَيُنَاسِبُ الْمَعِيَّةَ مَا وَرَدَ فِي الْعِنْدِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (4) وَهِيَ: إِمَّا عِنْدِيَّةُ مَكَانٍ. كَهَذِهِ الْآيَةِ وَالْمُرَادُ بِالْمَكَانِ هُنَا الْجَنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ: إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (66: 11) وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ تَدْبِيرٍ وَتَصَرُّفٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (10) وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ حُكْمٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْإِفْكِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (24: 13) أَيْ فِي حُكْمِ شَرْعِهِ. (3) وِلَايَتُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: وَهِيَ بِمَعْنَى مَعِيَّتِهِ لَهُمْ. قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) فَتُسَمَّى هَنَا وِلَايَةَ النُّصْرَةَ وَهِيَ أَعَمُّ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي تَفْسِيرِ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (1: 257) فَتُرَاجَعُ فِي (ص34 ج 3 ط الْهَيْئَةِ) . الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْبَشَرِ وَفِي تَشْرِيعِهِ لَهُمْ (1) تَصَرُّفُهُ فِي عِبَادِهِ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَفْعَالُهُ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلنَّاسِ فِيهَا، وَتَصَرُّفُهُ فِيهِمْ بِالْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ وَإِرَادَتِهِ فِي تَسْخِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ (5) ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ

(7، 8) إِلَى آخِرِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (10) ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (12) ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى - إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (17 - 19) ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (23) ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (24) ، فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) ، إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا (29) ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ، لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (37) - الْآيَةَ - إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا (43) - الْآيَةَ - وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ (44) - الْآيَةَ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (53) ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ (62، 63) إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا لِلْعَبْدِ مِمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَمَا لِلرَّبِّ مِمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ شُبْهَةٍ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى عَقِيدَةِ الْجَبْرِ وَوَجْهَ إِبْطَالِهَا بِمَا لَا يَجِدُ الْقَارِئُ لَهُ نَظِيرًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْهَا وَمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْثَالِهَا. (2) التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ: هُوَ حَقُّهُ وَمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهُوَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَهَا فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (41) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ قَبْلَ إِذَنِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى (67) إِلَخْ. مَعَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللهُ يُعْطِي وَفِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ لِلْبُخَارِيِّ وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَقِسْمَتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْغَنَائِمِ مُفَوَّضَةٌ إِلَى اجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَعَ فَرْضِ الْعَدْلِ عَلَيْهِ. فَالتَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا هُوَ حَقُّ الْخَمْسِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَهُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِ فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ يَقْسِمُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ بِمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَأَسَاسِ الْعَدْلِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ (فِي تَعْلِيلِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ تَعَالَى بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ) وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَعْلِيلُ وَعْدِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ (7، 8) . وَتَعْلِيلُهُ وَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِهِ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (10) . وَتَعْلِيلُهُ تَغْشِيَتَهُمُ النُّعَاسَ، وَإِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (11) إِلَخْ. وَتَعْلِيلُهُ تَمْكِينَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ وَإِيصَالَهُ تَعَالَى مَا رَمَى بِهِ الرَّسُولُ الْكَافِرِينَ إِلَى أَعْيُنِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِلَى قَوْلِهِ: مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (17 و18) . وَتَعْلِيلُهُ مَا كَتَبَهُ مِنَ النَّصْرِ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْخِذْلَانِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (37) الْآيَةَ. وَتَعْلِيلُهُ لِمَا قَدَّرَهُ وَأَنْفَذَهُ مِنْ لِقَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (42) ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِإِرَاءَتِهِ تَعَالَى رَسُولَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (43) . ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِإِرَاءَتِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْتِقَائِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَلِيلٌ، وَتَقْلِيلُهُ إِيَّاهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (44) . ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِمُؤَاخَذَةِ قُرَيْشٍ عَلَى كُفْرِهَا لِنِعَمِهِ بِبَيَانِ سُنَّتِهِ الْعَامَّةِ فِي أَمْثَالِهِمْ وَهِيَ قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (53) وَكَذَا تَعْلِيلُهُ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النُّصْرَةِ فِي مُقَابَلَةِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) . الْبَابُ الثَّانِي (فِي الْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ وَالْكَرَامَةِ الْخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهِ فَصْلَانِ) تَنْبِيهٌ: لَمَّا كَانَ مَوْضُوعُ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ الْمَكِّيَّتَيْنِ - كَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطَّوِيلَةِ - تَبْلِيغَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، كَثُرَتْ فِيهِمَا الْآيَاتُ فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْيِ وَدَفْعِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَفِي رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ خَاصَّةً وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ وَمَا هُوَ دِينٌ وَتَشْرِيعٌ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. [رَاجِعْ ص255 - 269 ج 9 ط الْهَيْئَةِ] .

وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَثُرَ فِيهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ إِيجَابِ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمِنْ عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمًا لَهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ (فِي عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ مِنْ كِفَايَتِهِ وَتَشْرِيفِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِعْمَالِهِ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ) وَفِيهِ تِسْعَةُ أُصُولٍ (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) كِفَايَتُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مَكْرَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِهِ فِي مَكَّةَ وَائْتِمَارَهُمْ لِحَبْسِهِ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ، أَوْ نَفْيِهِ مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِتَقْطِيعِ فِتْيَانٍ مِنْ جَمِيعِ بُطُونِ قُرَيْشٍ لَهُ لِإِضَاعَةِ دَمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هِجْرَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) . (الْأَصْلُ الثَّانِي) إِحْسَابُ اللهِ تَعَالَى لَهُ - أَيْ كِفَايَتُهُ التَّامَّةُ حَتَّى يَقُولَ " حَسْبِي " - فِي مَوْقِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مُقَيَّدٌ بِحَالٍ " مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ كِفَايَتُهُ خِدَاعَ مَنْ يُرِيدُونَ خِدَاعَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِظْهَارِهِمُ الْجُنُوحَ لِلسَّلْمِ وَتَأْيِيدُهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ 62. (وَالثَّانِي) مُطْلَقٌ وَهُوَ كِفَايَتُهُ إِيَّاهُ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِمْ - وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 64. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) عِنَايَتُهُ تَعَالَى بِهِ وَتَوْفِيقُهُ إِيَّاهُ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَحَظْرِ الْعِصْيَانِ وَالْخِيَانَةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) اسْتِعْمَالُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِرَمْيِهِ لِوُجُوهِ الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ وَالرَّمْلِ أَصَابَ اللهُ تَعَالَى بِهَا وُجُوهَهُمْ كُلَّهُمْ وَفِيهَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (17) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي [ص516 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَكَانَ هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفَائِدَتُهَا تَقْوِيَةُ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا، وَمَنْ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ نَقْلُهَا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَأَمَّا التَّحَدِّي لِإِقَامَةِ حُجَّةِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتْ خَاصَّةً بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [ص159 - 191 ج 1 ط الْهَيْئَةِ] وَفِي غَيْرِهَا. (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) امْتِنَاعُ تَعْذِيبِ اللهِ الْمُشْرِكِينَ مَا دَامَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِمْ كَمَا فِي الْآيَةِ 33 وَتَفْسِيرُهَا [ص545 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] .

(الْأَصْلُ السَّادِسُ) اسْتِغَاثَتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَبَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِمْدَادُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ وَتَغْشِيَتُهُ إِيَّاهُمُ النُّعَاسَ وَإِنْزَالُهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ. وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ 9 - 12 وَتَفْسِيرُهَا فِي (ص501 وَمَا بَعْدَهُ ج 9 ط الْهَيْئَةِ) إِلَخْ. وَفِيهِ بَحْثُ كَمَالِ تَوَكُّلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَإِعْطَائِهِ كُلَّ مَقَامٍ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ حَقَّهُ، وَاخْتِلَافِ حَالِ الْخُرُوجُ فِي الْهِجْرَةِ وَحَالِ الْحَرْبِ بِبَدْرٍ. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ مِنْهُ - إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مَنْ سُنَّتِهِمُ فِي الْحَرْبِ - أَخْذُ الْأَسْرَى وَمُفَادَاتُهُمْ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ بِتَمْكِينِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهَا وَهُوَ الْآيَةُ 67. (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) عِتَابُهُ تَعَالَى لَهُ فِي ضِمْنِ الْمُؤْمِنِينَ لِعَمَلِهِ بِرَأْيِهِمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ فِي الْآيَتَيْنِ 68 و69 فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ فِي هَذَا الْجُزْءِ. (الْأَصْلُ التَّاسِعُ) تَكْرِيمُهُ وَتَشْرِيفُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا قَرَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ طَاعَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ وَمُشَاقَّتِهِ بِمُشَاقَّتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ خِيَانَتِهِمَا مَعًا، وَمِثْلُهُ جَعْلُ الْأَنْفَالِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي، وَيَا لَهُ مِنْ شَرَفٍ عَظِيمٍ، وَتَكْرِيمٍ لَا يَعْلُوهُ تَكْرِيمٌ. (الْفَصْلُ الثَّانِي) (فِي حُقُوقِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْأُمَّةِ وَفِيهِ 6 أُصُولٍ تَتِمَّةِ 15 أَصْلًا) (الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) إِيجَابُ طَاعَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْأَمْرِ بِهَا تَكْرَارًا، وَجَعْلِهَا مُقَارِنَةً لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ 1 و20 و46، وَفِي مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْآيَةِ 24 مُقَارِنَةً لِلِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. (الْأَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ) حَظْرُ مُشَاقَّتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَعْلِهَا كَمُشَاقَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِمَا مَعًا فِي الْآيَةِ 13، وَأَصْلُ الْمُشَاقَّةِ الْخِلَافُ وَالِانْفِصَالُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنْفَصِلِينَ فِي شِقٍّ وَجَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ، فَكُلُّ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيُفَضِّلُ عَلَيْهِمَا غَيْرَهُمَا مِمَّا يُسَمَّى دِينًا أَوْ تَشْرِيعًا أَوْ ثَقَافَةً وَتَهْذِيبًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ. (الْأَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ) حَظْرُ خِيَانَتِهِمْ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُقَارِنًا لِخِيَانَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 27. (الْأَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ) كَرَاهَةُ مُجَادَلَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحَاوِلُهُ وَيَرْغَبُ

فِيهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ أَنْ تَكُونَ الْمُجَادَلَةُ بَعْدَ تَبْيِنِ الْحَقِّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ (6) وَهِيَ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَوَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى لِسَانِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - طَائِفَةِ الْعِيرِ وَطَائِفَةِ النَّفِيرِ أَيِ الْحَرْبِ - عَلَى الْإِبْهَامِ، ثُمَّ زَوَالُ الْإِبْهَامِ بِتَعَيُّنِ لِقَاءِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ فِي الْمَصَالِحِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا فَهُوَ مَحْمُودٌ مَعَ الْأَدَبِ اللَّائِقِ، إِذْ هِيَ مُقْتَضَى الْمُشَاوَرَةِ الَّتِي عَمِلَ بِهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِهَا كَمَا تَرَى فِي (ص257 وص508 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) ثُمَّ فَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ (رَاجِعْ ص 163 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ آيَةٌ أَيْ حُجَّةٌ عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْمُؤْمِنِينَ وَصَبْرِهِ عَلَى ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ حَتَّى يَكْمُلَ. (الْأَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ) كَوْنُ الْأَنْفَالِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فِي الْآيَةِ، وَفِيهَا شَرَفُ الْمُقَارَنَةِ أَيْضًا. (الْأَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ) جَعْلُ خُمُسِ الْغَنَائِمِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ كَمَا فِي آيَةِ 41 وَفِيهَا مَا تَقَدَّمَ الْبَابُ الثَّالِثُ (فِي عَالَمِ الْغَيْبِ كَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ) أُصُولُ هَذَا الْبَابِ وَمَسَائِلُهُ قَلِيلَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّمْهِيدِ وَهِيَ: (1) مَا وَرَدَ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ بَعْدَ بَيَانِ صِفَاتِهِمْ فِي أَوَّلِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَهُوَ مُبْطِلٌ لِقَاعِدَةِ الْوَثَنِيَّةِ فِي الْتِمَاسِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَدَرَجَاتِ الْآخِرَةِ بِالتَّوَسُّلِ بِأَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ. (2) مَا وَرَدَ فِي جَزَاءِ الْكَافِرِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ إِنْذَارِ الْمُشَّاقِينَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ شَدِيدَ عِقَابِهِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) أَيْ عَذَابَ الدَّارِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ. (3) مَا وَرَدَ فِي جَزَاءِ الْفَاسِقِينَ الْمُرْتَكِبِينَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمُتَوَلِّي عَنِ الزَّحْفِ: وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) وَهُوَ نَاقِضٌ لِبِنَاءِ الْوَثَنِيَّةِ فِي كَوْنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ أَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ كَافِيًا لِلنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ جَزَاءً عَلَى الْفِسْقِ، فَإِنَّ هَذَا الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْمُتَأَخِّرُونَ اسْمَ التَّوَسُّلِ لَوْ كَانَ نَافِعًا لَمَا عُوقِبَ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ سَهْلٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. (4) مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِمْدَادِهِمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَهُمْ بِوُجُودِهِمْ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ 9، 10، 12 وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ الْعَقْلِ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ مَعَ تَفْوِيضِ صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَسَائِرِ أُمُورِ الْغَيْبِ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (ص510 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) .

(5) مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الشَّيْطَانِ فِي الْآيَةِ 11 وَهُوَ إِذْهَابُ رِجْزِهِ وَوَسْوَسَتِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِهِ (ص 508 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ 48 مِنْ تَزْيِينِهِ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقِتَالِهِ وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْجِوَارِ فَبَرَاءَتِهِ مِنْهُمْ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ الْمَعْقُولَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. الْبَابُ الرَّابِعُ (فِي الْإِيمَانِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَفِيهِ فَصْلَانِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ وَفِيهِ 18 أَصْلًا (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ يَقْتَضِي الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ تَقْوَى اللهِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ. فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِوَحْيِهِ إِلَى رَسُولِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَبْعَثُ فِيهِ الْمَوْتَى وَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً لِمَا ذَكَرَ، وَهِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرِ وَالْهُدَى لَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَفِي النِّظَامِ الْعَامِّ لِلْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ، وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ وَبَيَّنَهُ رَسُولُهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ. سَوَاءٌ أَكَانَ حُكْمُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالِاجْتِهَادِ أَوِ النَّصِّ. وَهَذَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَمِنْهُ أَنَّ طَاعَةَ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّادِ عَسْكَرِهِ وَأُمَرَائِهِ وَاجِبٌ بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4: 59) . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَجِدُ مِنَ الْوَازِعِ وَالْبَاعِثِ فِي نَفْسِهِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ، وَلَا يَرْجُو وَيَخَافُ مَا يَرْجُوهُ الْمُؤْمِنُ وَيَخَافُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّمَا يَرْجُو مِنَ النَّاسِ أَنْ يَمْدَحُوهُ أَوْ يُعِينُوهُ، وَيَخَافُهُمْ أَنْ يَذُمُّوهُ أَوْ يَعِيبُوهُ، وَيَخْشَى الْحُكَّامَ أَنْ يَحْتَقِرُوهُ أَوْ يُعَاقِبُوهُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَكُونُ لِإِيمَانِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ الثَّلَاثِ هُمُ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُونَ بِالصِّفَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهَا. أَوْ قَصَرَهُمُ الْإِيمَانُ فِي خِيَامِهَا، إِذْ قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: يَتَوَكَّلُونَ وَكُلٌّ مِنْهَا أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَذْكُرُهَا بِتَرْتِيبِهَا. (الْأَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ أَنْ يَوْجَلَ قَلْبُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالْوَجَلُ اسْتِشْعَارُ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالِ، أَوِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ يَبْعَثُ كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الذِّكْرِ نَوْعًا مِنْهَا، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهِ شُعُورُ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ

وَالْإِجْلَالِ لِرَبِّهِمُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُدَبِّرِ الْمُسَخِّرِ الْقَابِضِ الْبَاسِطِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، وَيَلِيهِ الْوَجَلُ مِنْ جَهْلِ الْعَاقِبَةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْحِجَابِ أَوِ الْعَذَابِ. وَهَذَا الشُّعُورُ بِأَنْوَاعِهِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْوِجْدَانِيِّ وَثَمَرَتُهُ. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَانًا إِذَا تَلَا أَوْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنْ يَرْبُوَ شُعُورُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونَ وِجْدَانًا لَا يَحُومُ حَوْلَهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مُغَالَطَةٌ وَلَا جَدَلٌ - وَبِأَنْ يُعْطَى فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ، بِمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْآيَاتِ آنًا بَعْدَ آنٍ، مِنْ مَدْلُولَاتِ نُصُوصِهَا وَفَحْوَى عِبَارَاتِهَا، وَدَقَائِقِ إِشَارَاتِهَا - وَبِمَا يُؤْتَى مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِتَدَبُّرِهِ، فَيَكُونَ مُزْجِيًا لَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ، فَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالْكَيْفِ وَبِالْكَمِّ جَمِيعًا، وَمَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَهَذِهِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، وَهُمَا الْبَاعِثَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ. (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، أَيْ يَكِلَ أُمُورَهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، بَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَبَعْضُهَا بِصِيَغٍ أُخْرَى اقْتَضَتْهَا الْحَالُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّوْحِيدِ. فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ الْكَامِلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى مَخْلُوقٍ مَرْبُوبٍ لِخَالِقِهِ مِثْلِهِ، بَلْ مَشْهَدُهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا أَسْبَابٌ سَخَّرَ اللهُ بَعْضَهَا لِبَعْضٍ فِي نِظَامِ التَّقْدِيرِ الْعَامِّ، الَّذِي أَقَامَ بِهِ أُمُورَ الْعَالَمِ الْمُخْتَارُ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمُخْتَارِ، فَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَالسُّجُودِ لَهُ فِي الِانْفِعَالِ بِتَقْدِيرِهِ فِي نِظَامِ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ فِيمَا وَرَاءَ تَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ إِيجَابًا وَسَلْبًا فَشَأْنُ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلِ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ أَنْ يَطْلُبَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَبَبِهِ، خُضُوعًا لِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ يَطْلُبُهَا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يَطْلُبَهَا أَمْرًا تَكْوِينِيًّا قَدَرِيًّا، وَتَشْرِيعِيًّا تَكْلِيفِيًّا، فَإِذَا جَهِلَ الْأَسْبَابَ أَوْ عَجَزَ عَنْهَا، وَكَّلَ أَمْرَهُ فِيهَا إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، دَاعِيًا إِيَّاهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا جَهِلَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا الْإِلْهَامُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ - وَأَنْ يُسَخِّرَ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ جَمَادٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فَائِدَتَهُ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَقَدْ بَيَّنَّا مَوْقِعَهُ فِي تَفْسِيرِهَا (ص493 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي آيَةِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (61) وَبَيَّنَّا مَوْقِعَهَا فِي تَفْسِيرِهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مُتَمِّمٌ لَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ (62) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) فَالْإِحْسَابُ جَزَاءُ التَّقْوَى، كَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. التَّوَكُّلُ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْإِيمَانِ الِاسْتِفَادِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَمِنَ الْعَمَلِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، فَكَمْ

مِنْ عَمَلٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَكِّلُ، وَيُحْجِمُ عَنْهُ غَيْرُهُ لِعَظَمَتِهِ، أَوْ مَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ يَتْرُكُهُ الْمُتَوَكِّلُ وَلَا تَطِيبُ نَفْسُ غَيْرِهِ بِتَرْكِهِ، لِمَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَتِهِ، أَوْ يَتَوَقَّعُهُ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ. وَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ تَرْكُ الْأَسْبَابِ الصَّحِيحَةِ فِي الْمَعِيشَةِ وَالْكَسْبِ وَالتَّدَاوِي وَالْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، بَلْ هُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا، وَلَكِنْ يُنَافِيهِ الْأَخْذُ بِالْأُمُورِ الْوَهْمِيَّةِ كَالرُّقْيَةِ وَالطِّيَرَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ (مِنْ أَوْسَعِهَا مَا فِي ص168 - 175 ج 4 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ، أَيْ أَدَاؤُهَا عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ فِي أَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَسُنَنِهَا وَالْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهَا. وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ، وَأَكْمَلُ الْعِبَادَاتِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ آيَاتِ الْقِبْلَةِ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (2: 143) كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَقَدْ وَجَّهْنَاهُ بِأَنَّهُ أَثَرُ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ فِي الْقَلْبِ، الْمُصْلِحِ لِلنَّفْسِ (ص9 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا أَسْرَارَهَا وَحِكْمَتَهَا وَفَوَائِدَهَا وَمَفَاسِدَ تَرْكِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَالْجُزْءِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَهُ بِإِسْهَابٍ تَامٍّ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْجُزْءِ التَّاسِعِ. (الْأَصْلُ السَّادِسُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا رَزَقَ اللهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَغَيْرَهَا مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ. وَلَعَلَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ حَيْثُ وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالتَّفْصِيلِ، وَمِنْ غَيْرِهَا بِالِاخْتِصَارِ، فَهُوَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَهَمُّ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ مَنْزِلِيَّةٍ (عَائِلِيَّةٍ) وَمَدَنِيَّةٍ وَعَسْكَرِيَّةٍ، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ، وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ وَعْدَ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْأَصْلِ الْآتِي. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) أَنَّ جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْكَامِلِينَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ فِي (ص494 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ اسْتِغَاثَةُ الرَّبِّ وَحْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي الشَّدَائِدِ، كَمَا فَعَلَ جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي بَدْرٍ وَذَكَّرَهُمْ بِهِ بَعْدَهَا، وَبِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ بِهَا، فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ (9) الْآيَةَ. وَتَجِدُّ فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِي كَمَالِ تَوَكُّلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَوْنِ تَوَكُّلِ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ دُونَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ خَوْفِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِبَدْرٍ وَسَكِينَتِهِ فِي الْغَارِ، وَإِعْطَائِهِ كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.

(الْأَصْلُ التَّاسِعُ) عِنَايَةُ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهَا فِي الْآيَاتِ 9 - 12 (أَصْلُ 6 فَصْلُ 1 بَابُ 2) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي الْكَلَامِ عَلَى عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. (الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْلُو الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا بِمِثْلِ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، كَمَا يَبْلُوهُمْ أَحْيَانًا بَلَاءً شَدِيدًا بِالْبُؤْسِ وَالْهَزِيمَةِ تَرْبِيَةً لَهُمْ، وَبَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا (17) وَبِكِلَا الْبَلَاءَيْنِ يَتِمُّ تَمْحِيصُ الْمُؤْمِنِينَ " رَاجِعْ ص518 وَمَا بَعْدَهَا ج 9. ط الْهَيْئَةِ ". (الْأَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ) إِرْشَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْجَاهِلُونَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي سَمَاعِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَاتِّقَاءِ مَا يَصْرِفُ عَنْهُ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 20 و21 وَتَدَبَّرْ مَا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ فِي (ص520 - 525 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ) إِرْشَادُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، الَّتِي يَرْتَقُونَ بِهَا عَنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَهُوَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى فَتَدَبَّرْ فِيهِ الْآيَةَ 24 وَتَفْسِيرَهَا فِي (ص525 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ) إِرْشَادُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى سُنَّتِهِ فِي جَعْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ، أَيِ امْتِحَانًا شَدِيدَ الْوَقْعِ فِي النَّفْسِ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِ أَوْلَادِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ (28) وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي تَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِ نَفْسَهُ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَكَسْبِ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ، وَاتِّقَاءِ الطَّمَعِ وَالدَّنَاءَةِ فِي سَبِيلِ جَمْعِ الْمَالِ وَالِادِّخَارِ لِلْأَوْلَادِ. وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُشْرِكِينَ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (64: 14 و15) وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى اللَّابِسِينَ مِنْهُمْ لِبَاسَ الدِّينِ يَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالدَّنَايَا فِي هَاتَيْنِ الْفِتْنَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْرِمُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ إِرْثِهِ بِالْهِبَةِ لِلْآخَرِينَ مِنْهُمْ، أَوْ وَقْفِ الْعَقَارِ وَحَبْسِهِ عَلَيْهِمْ. (الْأَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ) تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَاضِيهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِمْ، وَاسْتِضْعَافِ الشُّعُوبِ لَهُمْ، وَخَوْفِهِمْ مِنْ تَخَطُّفِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، لِيَعْلَمُوا مَا أَفَادَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ قَبْلَ إِثْخَانِهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَمَكُّنِ سُلْطَانِهِ فِيهَا، وَمَعْرِفَةُ تَارِيخِ الْأُمَّةِ فِي مَاضِيهَا أَكْبَرُ عَوْنٍ لَهَا عَلَى إِصْلَاحِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِاسْتِقْبَالِهَا، فَرَاجِعِ الْآيَةَ 26 وَتَفْسِيرَهَا فِي (ص531 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ) جَعَلَ الْأَلْفَ مِنْهُمْ يَغْلِبُ أَلْفَيْنِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي حَالِ الضَّعْفِ

عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ - وَجَعَلَ الْأَلْفَ مِنْهُمْ يَغْلِبُ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي حَالِ الْقُوَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَزِيمَةِ، كَمَا نَصَّ فِي الْآيَتَيْنِ 65 و66 وَيُذْكَرُ مُفَصَّلًا فِي بَابِ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ. (الْأَصْلُ السَّادِسَ عَشَرَ) إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَكْتَسِبُونَ بِهِ مَلَكَةَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ صَاحِبُهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ. وَتَجِدُ هَذَا فِي الْآيَةِ 29 وَتَفْسِيرُهَا فِي ص (538 - 540 ج 9 ط. الْهَيْئَةِ وَبِذِكْرِ هَذَا الْأَصْلِ فِي السُّنَّةِ السَّادِسَةِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. (الْأَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ) امْتِنَانُ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ الْأَعْظَمِ بِتَأْيِيدِهِ وَبِنْصِرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَبِتَأْلِيفِهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَيَا لَهَا مِنْ مِنَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ مِنَنِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمَنْقَبَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مَنَاقِبِهِمْ، " رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 63 فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ ". (الْأَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ) مِنَّةُ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلُهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِهِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ بَدْرٍ بِمُشَارَكَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَإِحْسَابِهِ لَهُ وَلَهُمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) وَتَجِدُّ تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. وَهَذَا أَشْرَفُ مَا شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. إِيقَاظٌ وَاعْتِبَارٌ مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأُصُولَ يَعْلَمُ كُنْهَ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ جِنْسِيَّةً سِيَاسِيَّةً، وَلَا دَعْوَةً لِسَانِيَّةً، بَلْ هُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْكَمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، الْمُطَهِّرَةِ لِأَهْلِهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالدَّنَاءَاتِ، فَلْيَزِنِ الْقَارِئُ إِيمَانَهُ بِمِيزَانِ الْقُرْآنِ، وَلْيَكُنْ لَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. الْفَصْلُ الثَّانِي (فِي حَالَةِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَوْ حَالًا وَنَفْسًا وَقُرْبِ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمِنْهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ بَدْرٍ، بَيَّنَ حَالَ غَيْرِ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (5 و6) . وَقَالَ فِي تَعَجُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْ إِقْدَامِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ عَلَى مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) . وَقَالَ فِي تَعْزِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مَنْ أَسْرَى بَدْرٍ قَبْلَ إِذْنِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِهِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إِلَى قَوْلِهِ: عَذَابٌ عَظِيمٌ (67 و68) .

فَمَنْ أَقَامَ قِسْطَاسَ الْمُوَازَنَةِ الْمُسْتَقِيمَ بَيْنَ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَأَقْوَى مُؤْمِنِي هَذَا الْعَصْرِ إِيمَانًا يَعْلَمُ مِقْدَارَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَأَمَّا كَمَلَةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالنَّصِيفُ مِكْيَالٌ أَوْ نِصْفُ الْمُدِّ. الْبَابُ الْخَامِسُ (فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ فِي آيَاتِ) (1، 2، 3) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (12) أَيْ: عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالِ، وَمَا عَلَّلَهُ بِهِ بَعْدَهُ مِنْ مُشَاقَّتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَتَوَعُّدِهِمْ بِعَذَابِ النَّارِ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ فِي حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ يُنْصَرُ بِالرُّعْبِ، ثَبَتَ هَذَا نَصًّا، وَثَبَتَ فِعْلًا، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ حَظٌّ مِنْ إِرْثِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَدْرِ مَا كَانَ مِنْ إِرْثِهِمْ لِهِدَايَتِهِ. (4) قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) إِلَخْ. فَفِيهِ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ. (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (17) الْآيَةَ. فَفِيهَا بَيَانٌ لِخِذْلَانِهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَتَمْكِينِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلِهِمْ فِي بَدْرٍ بِتَأْيِيدِهِ، وَنَصْرِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَقَبْلَهُ فِي عِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. (6) قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) وَكَذَلِكَ كَانَ (7) قَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ (19) الْآيَةَ، بِنَاءً عَلَى مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا (2: 89) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُ فِي (ص 319 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 ط الْهَيْئَةِ) . (8) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَقَائِصِهِمْ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) فَوَصَفَهُمْ بِتَعْطِيلِ مَشَاعِرِهِمْ وَمَدَارِكِهِمُ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ كَمَا قَالَ فِي وَصْفِ أَهْلِ جَهَنَّمَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (7: 179) وَبِمِثْلِ هَذَا يُدْرِكُ الْعَاقِلُ أَنَّ مَا يَذُمُّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنَ الْكُفَّارِ لَيْسَ هِجَاءً شِعْرِيًّا، وَلَا تَنْقِيصًا تَعَصُّبِيًّا، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِمَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَعْطِيلِهِمْ لِمَدَارِكِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِفْسَادِهِمْ بِذَلِكَ لِفِطْرَتِهِمُ

السَّلِيمَةِ - وَمِنْهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وَيَظْهَرُ لَهُ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ بَيْنَ هِجَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَبَيْنَ هَذَا الذَّمِّ لِلْكُفَّارِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَدَبِيِّ، وَأَكْبَرُ الْعِبْرَةِ فِيهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا صَارُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَنْفَعُهُمْ لَقَبُ الْإِسْلَامِ، وَلَا الِانْتِمَاءُ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ هِدَايَةٌ، وَوَظِيفَةُ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الدِّعَايَةُ. (9) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (30) الْآيَةَ. وَهِيَ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَكْبَرُ الْعِبْرَةِ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَادُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اعْتِزَازًا بِالْقُوَّةِ، لَا بِالْمَصْلَحَةِ وَلَا بِالْحُجَّةِ. (10) قَوْلُهُ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا (31) الْآيَةَ. وَلَوْ قَدَرُوا عَلَى مِثْلِهِ لَشَاءُوا، وَلَوْ شَاءُوا مَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ لَفَعَلُوا، وَلَوْ فَعَلُوا لَعُرِفَ عَنْهُمْ، وَلَرَجَعَ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْكُفْرِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْحُجَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَدْنَى مَصْلَحَةٍ، بَلْ كَانُوا عُرْضَةً لِلْأَذَى وَالْفِتْنَةِ. (11) قَوْلُهُ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ جُحُودَ كِبْرِيَاءٍ وَعِنَادٍ، لَا تَكْذِيبَ عِلْمٍ وَاعْتِقَادٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ فِعْلِيٌّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ. (12) قَوْلُهُ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ تَعَالَى الْمُؤَسَّسِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشَّرْكَ وَالرَّذَائِلَ، وَهَذَا الْحَقُّ تَكْوِينِيٌّ وَتَشْرِيعِيٌّ كَمَا ثَبَتَ بِالْفِعْلِ. (13) قَوْلُهُ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (35) وَهُوَ بَيَانٌ لِقُبْحِ عِبَادَتِهِمْ وَبُطْلَانِهَا؛ لِأَنَّهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهَا جَزَاءَهَا الْعَاجِلَ بِقَوْلِهِ عَطْفًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) . (14) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (36) وَهَذَا إِنْذَارٌ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِالْغَيْبِ عَنْ عَاقِبَةِ بَذْلِهِمْ لِلْمَالِ فِي مُقَاوَمَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. (15، 16) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ - وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ آيَةً مُسْتَقِلَّةً: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (36 و37) وَفِيهِ تَتِمَّةٌ لِلْإِنْذَارِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ النَّارِ.

(17) قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) : وَهَذِهِ دَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، لِيَكُونَ وُقُوعُ مَا أُنْذِرُوا عَنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَقَدْ وَقَعَ مَا أَنْذَرَهُمْ فَكَانَ تَصْدِيقًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَاطِّرَادًا لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي مُعَانِدِي الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (18) قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مُحَذِّرًا مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (47) وَهُوَ بَيَانٌ لِصِفَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَحَالِهِمْ وَمَقْصِدِهِمْ مِنْ خُرُوجِهِمْ إِلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْبَطَرُ وَإِظْهَارُ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَمُرَاءَاةُ النَّاسِ، وَهِيَ مَقَاصِدٌ سَافِلَةٌ إِفْسَادِيَّةٌ حَذَّرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، فَهُمْ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَهِيَ: التَّوْحِيدُ، وَالْحَقُّ، وَالْعَدْلُ، وَتَقْرِيرُ الْفَضِيلَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَحِلِّهِ بِشَوَاهِدِ الْقُرْآنِ. (19) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ (48) الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ بِاسْتِعْدَادِهِمُ الظَّاهِرِ، وَكَثْرَتِهِمُ الْعَدَدِيَّةِ، وَأَنَّهُ غُرُورٌ لَا يَسْتَنِدُ إِلَّا إِلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، الَّتِي يُرَوِّجُهَا عِنْدَهُمُ الْجَهْلُ بِقُوَّةِ الْحَقِّ الْمَعْنَوِيَّةِ لَدَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ زَالَتْ عِنْدَمَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ، بَلْ عِنْدَمَا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ (48) إِلَخْ. (20) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (49) وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِمُشَارَكَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ فِي الْجَهْلِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ، فَلَمْ يَجِدُوا تَعْلِيلًا لِإِقْدَامِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَلِيلِينَ الْعَادِمَيْنِ لِلْقُوَى الْمَادِّيَّةِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَزِّينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَاهُمْ إِلَّا الْغُرُورَ بِدِينِهِمْ، وَمَا كَانُوا مَغْرُورِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ وَاثِقِينَ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) . (21) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (50) الْآيَاتِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي أَوَّلِ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ عَالَمِ الْغَيْبِ، بَعْدَ بَيَانِ مَا يَكُونُ مِنْ عَذَابِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِآلِ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ مِنْ عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ صَدَقَ خَبَرُ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ فِي سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا، وَسَيَصْدُقُ خَبَرُهُ عَنْهُمْ فِي الْأُخْرَى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (53 ـ 25) .

(22) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَقَضُوا عَهْدَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (55 - 59) وَفِيهِ بَيَانٌ لِفَسَادِ إِيمَانِهِمْ، الْمُقْتَضِي لِنَقْضِ أَيْمَانِهِمُ الْمُعَقِّبِ لِقِتَالِهِمْ. وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (23) تَهْوَيْنُ شَأْنِ الْكُفَّارِ فِي الْقِتَالِ، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، بِجَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَكْمِلِي صِفَاتِ الْإِيمَانِ، يَغْلِبُونَ ضِعْفَيْهِمْ إِلَى عَشْرَةِ أَضْعَافِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ 64 - 66 وَبَيَانُهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ فِي تَفْسِيرِهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (24) وِلَايَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْآيَةِ 73 وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقِتَالِهِمْ فَبَيَانُهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ. الْبَابُ السَّادِسُ فِي السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَأُمَمِهِمْ وَهِيَ تَدْخُلُ فِي عِلْمِ النَّفْسِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ (السُّنَّةُ الْأُولَى) مَا ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ مِنْ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَفِيهِمَا، وَفِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَفِيهِمَا، وَجَزَاءُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَجْرِي بِمُقْتَضَى هَذَا التَّفَاوُتِ. وَمِنْ شَوَاهِدِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا وَصَفَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ فِي الْآيَاتِ 2 - 4 وَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِدَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا " رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص495 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ ". وَمِنْهَا مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَهُوَ وَصْفُهُ فِي الْآيَتَيْنِ " 5 و6 " اللَّتَيْنِ بَعْدَهُنَّ مِنْ حَالِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ (فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص497 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (السُّنَّةُ الثَّانِيَةُ) مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ كَوْنِ الظُّلْمِ فِي الْأُمَمِ يَقْتَضِي عِقَابَهَا فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالِاخْتِلَالِ، الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الزَّوَالِ، أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ. وَكَوْنُ هَذَا الْعِقَابِ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، لَا عَلَى مُقْتَرِفِي الظُّلْمِ وَحْدَهُمْ مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) وَذَلِكَ أَنَّ الْفِتَنَ فِي الْأُمَمِ وَالظُّلْمَ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِيهَا، وَلَا يَقُومُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَجَمَاعَاتِهَا مَنْ يُقَاوِمُهُ يَعُمُّ فَسَادُهُ، بِخِلَافِ ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ غَيْرِ الْعَامَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ، فَالْأُمَّةُ فِي تَكَافُلِهَا كَأَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، فَكَمَا أَنَّ الْجَسَدَ يَتَدَاعَى وَيَتَأَلَّمُ كُلُّهُ لِمَا يُصِيبُ بَعْضَهُ كَذَلِكَ الْأُمَمُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِتْنَةِ هُنَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنَ التَّنَازُعِ

فِي مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ أَوِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ (ص530 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَفَرُّقِهَا وَضَعْفِهَا كَفُشُوِّ الْفِسْقِ وَالْإِسْرَافِ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ الْمُفْسِدِ لِلْأَخْلَاقِ، وَهُوَ لَا يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ إِلَّا بِتَرْكِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِي تَأْثَمُ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ ثَابِتٌ فِي وَقَائِعِ التَّارِيخِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ - إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) وَهُوَ قَدْ وَرَدَ شَاهِدًا لِسُنَّةٍ أُخْرَى سَيَأْتِي بَيَانُهَا. (السُّنَّتَانِ: الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ) كَوْنُ الِافْتِتَانِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَدْعَاةً لِضُرُوبٍ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْغَرَائِزِ الَّتِي يَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِيهَا الْإِسْرَافُ وَالْإِفْرَاطُ إِذَا لَمْ تُهَذَّبْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَلَمْ تُشَذَّبْ بِحُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (8: 28) وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص536 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (السُّنَّةُ الْخَامِسَةُ) مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَأَخْبَارِ التَّارِيخِ مِنْ عِقَابِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ عَانَدُوا الرُّسُلَ وَهُوَ قِسْمَانِ: عِقَابُ الَّذِينَ عَاجَزُوهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا عَلَى تَوَعُّدِهِمْ بِالْهَلَاكِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أَوْعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، وَعِقَابُ الَّذِينَ عَادَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ فَأَخْزَاهُمُ اللهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ كَانَ هَذَا مُطَّرِدًا وَسَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى سُنَّةً فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (8: 38) . وَلْيُعْلَمْ أَنَّ النَّوْعَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَيْنِ الْعِقَابَيْنِ هُوَ غَيْرُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِي تِلْكَ سَبَبٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِلْعِقَابِ، وَفِي هَذِهِ لَيْسَ سَبَبًا طَبِيعِيًّا بَلْ وَضْعِيًّا تَشْرِيعِيًّا بِمُقْتَضَى وَعِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ الذَّنْبُ وَاحِدًا - وَهُوَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَمُعَانَدَتُهُمْ - وَالْعِقَابُ عَلَيْهِ مُخْتَلِفًا فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا (29: 40) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْحُكُومِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُولَى: تَحْدُثُ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَسُنَنِ حِفْظِ الصِّحَّةِ فَهِيَ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْعُقُوبَاتُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ عَلَى جَرَائِمِ الْأَفْرَادِ - كَالْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّعْزِيرِ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ أَوِ التَّغْرِيمِ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ قَتَلَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ ضَرَبَ أَوْ غَصَبَ - فَهِيَ وَضْعِيَّةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَقَعُ بِفِعْلِ مُنَفِّذِ الشَّرْطِ وَالْقَانُونِ، وَلَوْ كَانَتْ أَسْبَابًا تَكْوِينِيَّةً طَبِيعِيَّةً لِلْعِقَابِ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِيَ، وَيُنَفِّذُهُ السُّلْطَانُ لَوَقَعَ بِدُونِ حُكْمٍ، وَلَا تَنْفِيذِ مُنَفِّذٍ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعِقَابٍ طَبِيعِيٍّ آخَرَ غَيْرِ عِقَابِ الشَّرْعِ وَالْقَانُونِ،

بِمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَّةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرَتْ وَفَشَتْ فَصَارَتْ ذَنْبًا لِلْأُمَّةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِقَابِ الْأُمَّةِ بِفُشُوِّ الْفِسْقِ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ وَهَذِهِ السُّنَنَ مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَيْضًا. (فَيُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ بِدَلَالَةِ فَهَارِسِ الْأَجْزَاءِ كَلَفْظِ جَزَاءٍ وَعَذَابٍ وَعِقَابٍ وَأُمَمٍ) . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ عِقَابِ مُعَانِدِي الرُّسُلِ، فَهُوَ يُشْبِهُ عَذَابَ الْأُمَمِ عَلَى ظُلْمِهَا وَفُسُوقِهَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ وَمُقَاتِلِيهِمْ كَانُوا دَائِمًا ظَالِمِينَ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ مَا جَاءُوهُمْ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مَعَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ، إِلَّا وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَنَصْرُ اللهِ تَعَالَى لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَغَيْرِهَا كَانَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِيهِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ وَرُجْحَانِ الْأَمْثَلِ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ فِي الْمُؤْمِنِينَ ضَامِنٌ لِالْتِزَامِهِمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَمُرَاعَاةَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ، حَتَّى إِذَا مَا خَالَفُوا وَشَذُّوا بِنُكُوبِ السَّبِيلِ مَرَّةً تَابُوا وَآنَابُوا، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَتَيْ أُحُدٍ وَحُنَيْنٍ، وَوَقَعَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ وَجُودَهُ فِيهِمْ كَانَ يَكُونُ سَبَبًا لِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ، وَبِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، وَبِمَا كَانَ مِنْ رَمْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ أَصَابَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَضْعَفَتْ قَلْبَهُ، بَلْ أَطَارَتْ لُبَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي خُرُوجِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى بَدْرٍ، وَفِي وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَهُمْ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَفِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ انْتَفَعُوا بِهِ مِنْ دُونِ الْكُفَّارِ - فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِجُمْلَتِهَا كَانَتْ تَوْفِيقَ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ فِي مَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَتْ عِنَايَةً مِنْهُ تَعَالَى بِهِمْ، أَكْثَرُهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُونَهَا بِكَسْبِهِمْ. وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي بَعْضِ الْخَوَارِجِ الْكَوْنِيَّةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَإِطْعَامِ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ أُعِدَّ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ فَبَارَكَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، وَكَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا أَمَدَّهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ مَادَّةِ الْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْهَوَاءِ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي تَكْوِينِ الْمَاءِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ (24: 43) وَمِثْلُهُ آيَةُ (30: 48) .

(السُّنَّةُ السَّادِسَةُ) كَوْنُ التَّقْوَى وَالْحَذَرِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَشَخْصِيَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، تُكْسِبُ صَاحِبَهَا مَلَكَةً يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَيَجْرِي فِي أَعْمَالِهِ عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي تَرْجِيحِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُنَّ، إِلَّا فِيمَا عَسَاهُ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ جَهَالَةٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ نِسْيَانٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِذَا ذُكِّرَ أَوْ تَذَكَّرَ. قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا (8: 29) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَحْقِيقَ مَا تَكُونُ فِيهِ التَّقْوَى مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَأَنْوَاعِ الْفُرْقَانِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَتُهَا فِي (ص537 - 540 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (السُّنَّةُ السَّابِعَةُ) التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا نَصَّ فِي الْآيَةِ 37، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرْنَا أَرْقَامَهَا وَأَرْقَامَ سُوَرِهَا فِي تَفْسِيرِهَا وَقُلْنَا فِيهِ: إِنَّ هَذَا التَّمْيِزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يُوَافِقُ مَا يُسَمَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَرُجْحَانِ أَمْثَلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَغَلَبِ أَفْضَلِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَوْ بَقَاؤِهِ. (السُّنَّةُ الثَّامِنَةُ) كَوْنُ تَغْيِرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَتَنَقُّلِهَا فِي الْأَطْوَارِ مِنْ نِعَمٍ وَنِقَمٍ، أَثَرًا طَبِيعِيًّا فِطْرِيًّا لِتَغْيِيرِهَا مَا بِأَنْفُسِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ الَّتِي تَطْبَعُهَا فِي الْأَنْفُسِ الْعَادَاتُ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ، وَالنَّصُّ الْقَطْعِيُّ فِيهَا قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (53) . وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي بَيَانِهَا تَفْصِيلًا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . (السُّنَّةُ التَّاسِعَةُ) كَوْنُ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتِقْرَارِ السُّلْطَانِ فِيهَا بِالْقُوَّةِ الْكَافِيَةِ يَقْتَضِي اجْتِنَابَ مَا يُعَارِضُهُ، وَيَحُولُ دُونَ حُصُولِهِ وَتَحَقُّقِهِ، كَاتِّخَاذِ الْأَسْرَى مِنَ الْأَعْدَاءِ وَمُفَادَاتِهِمْ بِالْمَالِ فِي حَالِ الضَّعْفِ. كَمَا يَأْتِي فِي الْقَاعِدَةِ 22 مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ. (السُّنَّةُ الْعَاشِرَةُ) كَوْنُ وِلَايَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ دُونِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَثَارَاتِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَّةِ، وَالِاخْتِلَالِ وَالِانْحِلَالِ فِي الدَّوْلَةِ، كَوِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّصْرَةِ وَالْقِتَالِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِي يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُرُوبِ، وَلَا سِيَّمَا الَّتِي مَثَارُهَا الْخِلَافُ الدِّينِيُّ، وَشَوَاهِدُ هَذِهِ السُّنَّةِ فِي التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ وَغَيْرِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ الَّتِي أَزَالَتِ الدُّوَلَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْكَثِيرَةَ، وَآخِرُهَا الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ الْجَاهِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَتَدَاعَى عَلَيْهَا الْأُمَمُ الْأُورُبِّيَّةُ النَّصْرَانِيَّةُ فَيَتَّفِقُونَ عَلَى قِتَالِهَا إِلَّا عِنْدَ تَعَارُضِ مَصَالِحِهِنَّ فِيهَا. فَرَاجِعْ أَحْكَامَ الْوِلَايَةِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ آيَةِ 72 - 75 وَالنَّصُّ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَتَجِدُ تَفْسِيرَهَا خَاصَّةً فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. (السُّنَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) مَا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ وَالْوِجْدَانِ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ ذَا قُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ

مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَالْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ إِسْنَادِ أَفْعَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ السُّنَةِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِسْنَادِ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ فِيهِمْ فَهُوَ بَيَانٌ لِسُّنَّتِهِ فِي خَلْقِهِمْ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَرَيْنَا فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَثِيرَةٌ، رَاجِعْ مِنْهُ فِيهَا تَفْسِيرَ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (17) (الْآيَةَ. فِي ص515 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . وَتَفْسِيرَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (24) فِي ص527 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . الْبَابُ السَّابِعُ (فِي الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَفِيهِ 28 قَاعِدَةً) (تَنْبِيهٌ) وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عِدَّةُ قَوَاعِدَ فِي سِيَاقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُنَاسِبَةِ لِنَظْمِ الْكَلَامِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ وَالتَّأْثِيرُ فِي التِّلَاوَةِ لِغَرَضِ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ، نَذْكُرُهَا فِي تَرْتِيبٍ آخَرَ تَقَدَّمَ فِيهِ الْأَهَمُّ فِي الْمَوْضُوعِ فَالْأَهَمُّ بِحَسَبِ الشُّئُونِ الْحَرْبِيَّةِ فَنَقُولُ: (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) وُجُوبُ إِعْدَادِ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ قُوَّةٍ لِقِتَالِ أَعْدَائِهَا فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَدَدُ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَعِدَّ كُلُّ مُكَلَّفٍ لِلْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا عَيْنِيًّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، يَسْتَدْعِي مَا يُسَمَّى بِالنَّفِيرِ الْعَامِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي أُمَمِ الْحَضَارَةِ إِلَّا بِمُقْتَضَى نِظَامٍ عَامٍّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ السِّلَاحُ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَثُرَتْ أَجْنَاسُهُ وَأَنْوَاعُهُ وَأَصْنَافُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَمِنْهُ الْبَرِّيُّ وَالْبَحْرِيُّ وَالْهَوَائِيُّ وَلِكُلٍّ مِنْهَا مَرَاكِبُ وَسَفَائِنُ لِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، وَلِنَقْلِ الْعَسْكَرِ وَالْأَدَوَاتِ وَالزَّادِ وَالسِّلَاحِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّادُ وَنِظَامُ سَوْقِ الْجَيْشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْكَثِيرَةِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) وُجُوبُ رِبَاطِ الْخَيْلِ، فَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةِ مُرَابَطَةَ الْفُرْسَانِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ، وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ مَرَاكِبُ النَّقْلِ الْبُخَارِيَّةُ وَالْكَهْرَبَائِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا، وَالنَّصُّ الْعَامُّ الصَّرِيحُ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (60) . (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ إِعْدَادِ هَذِهِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ إِرْهَابَ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتَهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا، لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحِ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعَلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ بِقَوْلِهِ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) .

(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لِإِعْدَادِ مَا ذُكِرَ إِذْ لَا يَتِمُّ بِدُونِ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِنْفَاقُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَوْكُولًا إِلَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يُسْرِهِمْ وَعُسْرِهِمْ، كَمَا تَرَى فِي أَخْبَارِ غَزْوَةِ تَبُوكَ الْمُجْمَلَةِ فِي السُّورَةِ الْآتِيَةِ (التَّوْبَةِ) وَالْمُفَصَّلَةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِظَامٍ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَدْخُلُ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ كَمَا تَفْعَلُ جَمِيعُ الدُّوَلِ ذَاتِ النِّظَامِ الثَّابِتِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَنَّ لَهُ سَهْمًا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْفَالِ مُفَصِّلَةً لِكَثِيرٍ مِنْ إِجْمَالِهَا، وَمِنْهُ هَذَا التَّرْغِيبُ الصَّرِيحُ فِي الْإِنْفَاقِ لِإِعْدَادِ الْقُوَى الْعَسْكَرِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْهِيبِ، وَإِنْذَارٌ عَلَى التَّقْصِيرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ آيَاتٍ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2: 195) . (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) تَفْضِيلُ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، إِيثَارًا لَهَا عَلَى الْحَرْبِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا، بَلْ هِيَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا تَسْتَطِيعُهُ الْأُمَّةُ مِنْ قُوَّةٍ وَمُرَابَطَةٍ لِإِرْهَابِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهَا: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (61) . وَلَمَّا كَانَ جُنُوحُ الْعَدُوِّ لِلسَّلْمِ قَدْ يَكُونُ خَدِيعَةً لَنَا لِنَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ، رَيْثَمَا يَسْتَعِدُّونَ هُمْ لَهُ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْخِدَاعِ، وَكَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ لَا نَقْبَلَ الصُّلْحَ مِنْهُمْ، مَا لَمْ نَسْتَفِدْ كُلَّ مَا يُمَكِّنُنَا مِنْهُ تَفَوُّقُنَا عَلَيْهِمْ - لَمْ يَعُدَّ الشَّارِعُ احْتِمَالَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَرْجِيحِ السَّلْمِ، بَلْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ السَّلَامِ، لَكِنْ عَنْ قُدْرَةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَتَانِ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ) الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْحَرْبِ وَالسَّلْمِ، وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، لِتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ، حَتَّى إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَنَا أَنْ نَنْصُرَ إِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الْخَاضِعِينَ لِحُكْمِنَا عَلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (72) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِيمَا سَبَقَ لِهَذَا الْجُزْءِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (27) وَتَفْسِيرُهُ فِي (ص533 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ)

وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنْ أَمْثِلَةِ نَقْضِ عُهُودِ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأَمَانَاتِ فَذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَلِي (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) نَبْذُ الْعَهْدِ بِشَرْطِهِ إِذَا خِيفَ مِنَ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا أَنْ يَخُونَ فِي عَهْدِهِ، وَظَهَرَتْ آيَةُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ عَلَى طَرِيقٍ عَادِلٍ سَوِيٍّ صَرِيحٍ لَا خِدَاعَ فِيهِ وَلَا خِيَانَةَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) ، وَهَذَا مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا التَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ وَقَوَانِينِهَا. رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ وَبَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أَخْذِ مُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِهَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهَدْيِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) وُجُوبُ مُعَامَلَةِ نَاقِضِي الْعَهْدِ بِالشِّدَّةِ الَّتِي يَكُونُونَ بِهَا عِبْرَةً وَنَكَالًا لِغَيْرِهِمْ، تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ خِيَانَتِهِمْ بِنَقْضِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ ثُمَّ رَاجِعْ مَا كَانَ مِنْ مُعَاهَدَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْيَهُودِ، وَنَقْضِهِمْ لَهَا وَعَاقِبَةِ ذَلِكَ فِيهِمْ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. وَمِنْهُ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْحَزْمِ وَالْعَدْلِ، وَالشِّدَّةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيْنَ مَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ اتِّبَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُمْ لِهَذِهِ الْفَضَائِلِ فِي الْحَرْبِ يُمَكِّنُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِيَانَتِهِمْ، وَالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ لَهَا. قُلْنَا: إِنَّ أَعْدَاءَهُمْ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى كَانُوا أَبْعَدَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُقَيَّدِينَ فِي الْحَرْبِ بِنِظَامٍ مِثْلِ قَوَانِينِهَا الْحَاضِرَةِ، الَّتِي تُرَاعَى وَيُحْتَجُّ بِهَا، فَإِنَّ الْقَوِيَّ يَتْرُكُهَا تَأَوُّلًا، وَكَانَ تَفَوُّقُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَظِيمًا، وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا غَلَبُوهُمْ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ وَأَمْثَالِهَا. (الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) جَعْلُ الْغَايَةِ مِنَ الْقِتَالِ الدِّينِيِّ حُرِّيَّةُ الدِّينِ وَمَنْعُ فُتُونِ أَحَدٍ وَاضْطِهَادِهِ، لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِ عَنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَمَنْ عَسَاهُ شَذَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي حَرَّمَ الْفِتْنَةَ وَحَرَّمَ الْإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وَشَرَعَ فِيهِ الِاخْتِيَارَ [رَاجِعْ ص463 و464 وَتَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي ص552 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَتَجِدُ فِي هَذَا الْبَحْثِ حُكْمَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْفِتْنَةِ كَحَرْبِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ. (الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) كَوْنُ الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، الَّتِي يَحْصُلُ

بِهَا مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ الْعَصْرِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِضْعَةُ أَسْبَابٍ أُخْرَى إِيجَابِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ، نَذْكُرُهَا مَنْظُومَةً فِي سِلْكِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالنَّصُّ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَجْهَ الْمَعْقُولَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ، وَأَوْرَدْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ وَقَائِعِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَقْوَالَ عُلَمَاءِ هَذَا الْفَنِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى السَّبَبَيْنِ السَّابِقَيْنِ: وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ (46) إِلَخْ. وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ طَاعَةِ الرَّسُولِ طَاعَةُ الْإِمَامِ الَّذِي يُحَارِبُ الْمُسْلِمُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَطَاعَةُ قُوَّادِهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا بِلَفْظِ (الْأَمِيرِ) وَفِيهَا زِيَادَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ. الْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ: التُّرْسُ وَالْوِقَايَةُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الشَّائِعِ مِنَ النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، فَيُعَاقِبُونَ مَنْ يُخَالِفُ أَوَامِرَ الْقُوَّادِ مِنَ الْجُنْدِ أَفْرَادِهِ وَضُبَّاطِهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ مَنْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ، وَقَتْلٍ فَظِيعٍ، وَلَوْلَا هَذَا لَمَا ثَبَتَ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ سُلْطَانٌ وَلَا حُكْمٌ، لِكَثْرَةِ تَنَازُعِ الْأَحْزَابِ السِّيَاسِيَّةِ وَاخْتِلَافِ زُعَمَائِهَا حَتَّى فِي وَقْتِ السِّلْمِ، وَكَثْرَةِ دَسَائِسِ الْأَعْدَاءِ وَبَذْلِهِمُ الرِّشْوَةَ، وَلَا سِيَّمَا زَمَنَ الْحَرْبِ. [رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ] . (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) وُجُوبُ الصَّبْرِ، وَكَوْنُهُ أَعْظَمَ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَبِذِكْرِهِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَأَيُّ بَيَانٍ لِفَائِدَةِ الصَّبْرِ أَبْلَغُ مِنْ إِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِهِ؟ ! [رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ] . (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَقَامِ تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى إِيثَارِ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ، وَثُبُوتِ الصُّلْحِ مِنَ الْأَعْدَاءِ مَعَ احْتِمَالِ إِرَادَتِهِمْ بِهِ الْخِدَاعَ (آيَةُ 61 و62) فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ، وَقَالَ قَبْلَهَا فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (49) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ فِيهَا

وَفِي " الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ". وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَفَائِدَتَهُ فِي الْأَصْلِ الرَّابِعِ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ لِهَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَإِنْ شِئْتَ زِيَادَةَ الْبَيَانِ فِي هَذَا فَرَاجِعْ [ص168 - 175 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . (الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ) اتِّقَاءُ التَّنَازُعِ، وَاخْتِلَاقِ التَّفَرُّقِ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَشَلِ، وَذَهَابِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (46) وَهَذَا مَا تَجْرِي عَلَيْهِ الدُّوَلُ الْقَوِيَّةُ ذَاتُ النِّظَامِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الشُّورَى فِي تَنَازُعِ الْأَحْزَابِ، فَإِنَّهَا تُبْطِلُ هَذَا التَّنَازُعَ، وَتُوقِفُ عَمَلَ مَجَالِسِ الشُّورَى النِّيَابِيَّةِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ، وَتَكْتَفِي بِالشُّورَى الْعَسْكَرِيَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، عَمِلَ بِهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ بِالْأَوْلَى [رَاجِعْ تَفْسِيرَ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (3: 159) فِي ص163 - 168 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . (الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ) اتِّقَاءُ الْبَطَرِ وَمُرَاءَاةِ النَّاسِ فِي الْحَرْبِ كَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي الْآيَةِ 47. (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ) تَحْرِيمُ التَّوَلِّي مِنَ الزَّحْفِ، وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهَا [فِي ص512 - 516 ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَهُوَ آكَدُ مِنْ إِيجَابِ الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ. (الْقَاعِدَتَانِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ) تَشْرِيعُ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ الْقُوَّةِ لِعَشْرَةِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْعَزِيمَةِ، وَقِتَالِهِمْ لِمِثْلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِسْلَامُ مِنْ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلَ صَبْرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَفْقَهُونَ مِنْ عِلْمِ الْحَرْبِ وَأَسْبَابِ النَّصْرِ فِيهَا مَا لَا يَفْقَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ 65، 66 وَبَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهِمَا السَّابِقِ بِهَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) مَنْعُ اتِّخَاذِ الْأَسْرَى وَمُفَادَاتِهِمْ بِالْمَالِ فِي حَالِ الضَّعْفِ، وَتَقْيِيدُ جَوَازِ ذَلِكَ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالسِّيَادَةِ. فَيُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 67 و68 بِمَوْضِعَيْهِمَا السَّابِقَيْنِ فِي هَذَا الْجُزْءِ، وَتَجِدُ فِيهِ أَحْكَامَ الْأَسْرِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) تَرْغِيبُ الْأَسْرَى فِي الْإِيمَانِ وَإِنْذَارُهُمْ خِيَانَةَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إِطْلَاقِهِمْ بِمَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ. [رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ 70، 71] فِي هَذَا الْجُزْءِ " الْعَاشِرِ " وَرِجَالُ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ عُهُودًا أُخْرَى. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ) إِبَاحَةُ أَكْلِ غَنَائِمِ الْحَرْبِ، وَمِنْهُ فِدَاءُ الْأَسْرَى فِي الْآيَةِ 69. (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ) قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَمُسْتَحِقُّوهَا فِي الْآيَةِ 41 وَتَفْسِيرُهَا (فِيمَا سَبَقَ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .

(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ) وِلَايَةُ النُّصْرَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - وَهُوَ فِي الْآيَةِ 72 وَتَفْسِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ السَّابِقِ فِي هَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ) عَدَمُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ النُّصْرَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ خَارِجِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى مَنْ يُقَاتِلُهُمْ، لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَيَجِبُ نَصْرُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِيثَاقُ صُلْحٍ وَسَلَامٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ نَصْرُهُمْ عَلَيْهِ نَقْضًا لِمِيثَاقِهِ. وَبَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ تَتِمَّةِ الْآيَةِ 72 بِمَوْضِعِهِ السَّابِقِ فِي هَذَا الْجُزْءِ. (الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ) وِلَايَةُ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا فِي الْآيَةِ 73 وَفِي تَفْسِيرِهَا أَحْكَامُ تَوَارُثِهِمْ مَعَنَا، وَبَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ فِيمَا سَبَقَ بِهَذَا الْجُزْءِ. (انْتَهَى تَلْخِيصُ أُصُولِ السُّورَةِ وَسُنَنِهَا وَقَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

سُورَةُ التَّوْبَةِ أَوْ " بَرَاءَةٌ " (هِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ، وَآيَاتُهَا 129 عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ و130 عِنْدَ الْجُمْهُورِ) هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قِيلَ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى (113) الْآيَةَ. لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ نُزُولِهَا فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِغْفَارِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ، وَبِمَا يَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جَوَازِ نُزُولِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةٌ مُنْفَرِدَةٌ، وَمَرَّةٌ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْفُرْسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ (128، 129) فِي آخِرِهَا فَزَعَمَ أَنَّهُمَا مَكِّيَّتَانِ، وَيَرُدُّهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُ الْكَثِيرِينَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ تَامَّةٌ. وَمَا يُعَارِضُ هَذَا مِمَّا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ بَعْضِ الْآيَاتِ، يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَانَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُكْمِ كَذَا. أَعْنِي أَنَّ الرُّوَاةَ كَانُوا يَذْكُرُونَهَا كَثِيرًا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِهَا وَحْدَهَا، وَلَا عَلَى كَوْنِ النُّزُولِ كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ مَا اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي احْتِمَالِ نُزُولِ آيَةِ اسْتِنْكَارِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِهَا حَدَثَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَمْ يَكْتُبِ الصَّحَابَةُ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ مَعَهَا كَمَا نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ السُّورِ. هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمُخْتَارُ فِي تَعْلِيلِهِ، وَقِيلَ: رِعَايَةٌ لِمَنْ كَانَ يَقُولُ إِنَّهَا مَعَ الْأَنْفَالِ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لِنُزُولِهَا بِالسَّيْفِ وَنَبْذِ الْعُهُودِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي جَعْلِهِ سَبَبًا وَعِلَّةً نَظَرٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ حِكْمَةٌ لَا عِلَّةٌ. وَمِمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، أَيْ: لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْفِعْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ بِالْقَوْلِ مِعْيَارُ الْعُمُومِ. وَقَدْ وَرَدَ لَهَا أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ هِيَ صِفَاتٌ لِأَهَمِّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَمِنْهَا: سُورَةُ الْفَاضِحَةِ لِمَا فَضَحَتْهُ مِنْ سَرَائِرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْبَائِهِمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَسُوءِ النِّيَّاتِ. وَهَذَا الِاسْمُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَمِنْهَا الْمُنَفِّرَةُ، وَالْمُعَبِّرَةُ، وَالْمُبَعْثِرَةُ، وَالْمُثِيرَةُ، وَالْبَحُوثُ كَـ (صَبُورٍ) لِتَنْفِيرِهَا وَتَعْبِيرِهَا عَمَّا فِي الْقُلُوبِ وَبَحْثِ ذَلِكَ وَإِثَارَتِهِ وَبَعْثَرَتِهِ، وَكَذَا الْمُدَمْدِمَةُ، وَالْمُخْزِيَةُ، وَالْمُنَكِّلَةُ، وَالْمُشَرِّدَةُ، وَمَعَانِي هَذِهِ الْأَلْقَابِ ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى فَضِيحَتِهَا لِلْمُنَافِقِينَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الدَّمْدَمَةِ عَلَيْهِمْ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ

وَمِنْهَا الْمُقَشْقِشَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ تُقَشْقِشُ مِنَ النِّفَاقِ، أَيْ تُبْرِئُ مِنْهُ. وَأَشْهُرُهَا الثَّابِتُ التَّوْبَةُ وَبَرَاءَةٌ، وَسَائِرُ الْأَسْمَاءِ أَلْقَابٌ لِبَيَانِ مَعَانِيهَا. وَقَدْ نَزَلَ مُعْظَمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِي حَالِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فِي زَمَنِ الْعُسْرَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا فِي الْقَيْظِ، وَفِي أَثْنَائِهَا ظَهَرَ مِنْ آيَاتِ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانَ خَفِيًّا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَوَّلَهَا نَزَلَ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَوْسِمِ كَمَا يُذْكَرُ مُفَصَّلًا فِي مَحِلِّهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ (4: 176) وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ. وَهُوَ رَأْيٌ لَهُ لَا رِوَايَةً مَرْفُوعَةً، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلْ فِي الْكَلَالَةِ، فَهِيَ بَعْدَ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَفِي السُّورَةِ عَلَى بَعْضِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا. وَأَرْجَحُ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ (2: 281) أَوْ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ دُونِهَا، وَالْأَرْجَحُ أَنْ يُقَالَ مَعَهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [ص88 ج 3 ط الْهَيْئَةِ] وَأَمَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ تَامَّةً فَالْأَرْجَحُ أَنَّهَا سُورَةُ النَّصْرِ، وَقَدْ عَاشَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَهَا أَيَّامًا قَلِيلَةً. وَأَمَّا التَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، فَإِنَّهُ أَظْهَرُ مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ سَائِرِ السُّوَرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، فَهِيَ كَالْمُتَمِّمَةِ لِسُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي مُعْظَمِ مَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ - وَجُلُّهُ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَأَسْبَابِ النَّصْرِ فِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْمُعَاهَدَاتِ وَالْمَوَاثِيقِ مِنْ حِفْظِهَا وَنَبْذِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَأَحْكَامِ الْوِلَايَةِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، كَذَا أَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُذَبْذَبِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، فَمَا بَدَأَ بِهِ فِي الْأُولَى أَتَمَّ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْلَا أَنَّ أَمْرَ الْقُرْآنِ فِي سُوَرِهِ وَمَقَادِيرِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى النَّصِّ لَكَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُؤَيِّدًا مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي لِمَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ نَاحِيَةِ تَرْتِيبِ السُّوَرِ بِحَسَبِ طُولِهَا وَقِصَرِهَا، وَتَوَالِي السَّبْعِ الطُّوَالِ مِنْهَا، وَيَلِيهَا الْمِئُونَ وَالْأَنْفَالُ دُونَهَا. مِثَالُ ذَلِكَ (1) أَنَّ الْعُهُودَ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَافْتُتِحَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا نَبْذُهَا الَّذِي قُيِّدَ فِي الْأُولَى بِخَوْفِ خِيَانَةِ الْأَعْدَاءِ. (2) تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (3) ذُكِرَ فِي الْأُولَى صَدُّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِهِ: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (8: 34) أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ (9: 17) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

التوبة

(4) ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْأُولَى صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، وَذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي آخِرِهَا حُكْمُ الْوِلَايَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا. (5) ذُكِرَ فِي الْأُولَى التَّرْغِيبُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا التَّرْغِيبِ بِأَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْسَعَ فِي الثَّانِيَةِ، وَذُكِرَتْ فِي الْأُولَى مَصَارِفُ الْغَنَائِمِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ. (6) وَرَدَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي الْأُولَى فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفُصِّلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْسَعَ تَفْصِيلٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْدَرَ بِأَنْ تُسَمَّى سُورَةَ " الْمُنَافِقُونَ " مِنْ سُورَةِ " 63 " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ لَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ السُّوَرِ بِالرَّأْيِ. التَّفْسِيرُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

مِنَ الْمَشْهُورِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولَهُ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَ آيَتَهُ الْكُبْرَى هَذَا الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ذَكَرْنَا كُلِّيَّاتِهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [2: 23 ص159 - 191 ج 1 ط الْهَيْئَةِ] وَأَقَامَ بِنَاءَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَسَاسِ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَالْمُلْزِمَةِ، وَمَنَعَ الْإِكْرَاهَ فِيهِ، وَالْحَمْلَ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [2: 256 ص30 - 34 ج 3 ط الْهَيْئَةِ] ، فَقَاوَمَهُ الْمُشْرِكُونَ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاضْطِهَادِ لِصَدِّهِمْ عَنْهُ، وَصَدُّوهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ بِالْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ التَّعْذِيبِ، إِلَّا بِتَأْمِينِ حِلْفٍ أَوْ قَرِيبٍ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، ثُمَّ اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى ائْتَمَرُوا بِحَبْسِهِ الدَّائِمِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ قَتْلِهِ عَلَنًا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَرَجَّحُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَتْلَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (8: 30) [ص40 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] فَهَاجَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَارَ يَتْبَعُهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ وَجَدُوا مِنْ مُهَاجَرِهِمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَنْصَارًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتِ الْحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حَالَ حَرْبٍ بِالطَّبْعِ، وَمُقْتَضَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَعَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى السَّلْمِ وَالتَّعَاوُنِ فَخَانُوا وَغَدَرُوا، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ لَهُ مَا كَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظَاهِرُونَهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. وَقَدْ عَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى السَّلْمِ وَالْأَمَانِ عَشْرَ سِنِينَ بِشُرُوطٍ تَسَاهَلَ مَعَهُمْ فِيهَا مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ عَنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، وَلَكِنْ حُبًّا لِلسَّلْمِ وَنَشْرِ دِينِهِ بِالْإِقْنَاعِ وَالْحُجَّةِ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ عَدَا هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ فَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ، وَفَتْحِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَكَّةَ، الَّذِي خَضَدَ شَوْكَةَ الشِّرْكِ وَأَذَلَّ أَهْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُ حَيْثُ قَدَرُوا، وَثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ لَهُمْ فِي حَالَيْ قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ وَلَا يُؤْمَنُ نَقْضُهُمْ وَانْتِقَاضُهُمْ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ (7) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ آيَةِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يَرْعَوْنَهَا وَيَفُونَ بِهَا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ بِحُكْمِ الْمُعَاهَدَاتِ الْمَرْعِيَّةِ فَيَأْمَنُ كُلٌّ مِنْهُمْ شَرَّ الْآخَرِ وَعُدْوَانَهُ، مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يُدَانُ بِهِ

فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ بِإِيجَابِهِ، كَيْفَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، مَنْ كَانُوا أَجْدَرَ بِالْوَفَاءِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ! . هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ نَبْذِ عُهُودِهِمِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِتْمَامِ مُدَّةِ عَهْدِهِمُ الْمُؤَقَّتَةِ لِمَنِ اسْتَقَامَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ ذَلِكَ فَهِيَ مَحْوُ بَقِيَّةِ الشِّرْكِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِالْقُوَّةِ، وَجَعْلُهَا خَالِصَةً لِلْمُسْلِمِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْأُصُولِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ (2: 190) وَقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (8: 61) بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ قَالَ الْجُمْهُورُ بِنَسْخِ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَبْذِ عُهُودِ الشِّرْكِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْبَرَاءَةُ مَصْدَرُ بَرِئَ (كَتَعِبَ) مِنَ الدَّيْنِ إِذَا أُسْقِطَ عَنْهُ، وَمِنَ الذَّنْبِ وَنَحْوِهِ إِذَا تَرَكَهُ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ، أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ وَاصِلَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبُرْءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّبَرِّي: التَّفَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ مُجَاوَرَتُهُ، أَيْ أَوْ مُلَابَسَتُهُ. أُسْنِدَ التَّبَرِّي إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِتَبْلِيغِهِ وَتَنْفِيذِهِ، وَأَسْنَدَ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي عَقَدَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَقَدَهُ بِصِفَةِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ وَالْقَائِدَ الْعَامَّ لَهُمْ، وَهُوَ عَقْدٌ يُنَفَّذُ بِمُرَاعَاتِهِمْ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمُوجَبِهِ، كَمَا يُسْنِدُ تَعَالَى إِلَى الْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، حَتَّى مَا كَانَ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (65: 1) إِلَخْ. فَجُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَ الْمُعَاهَدَاتِ، وَلِقُوَّادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُمَرَاءِ السَّرَايَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْهَا، وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ إِحَاطَةُ النُّصُوصِ بِفُرُوعِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْقُوَّادَ إِذَا نَزَلُوا حِصْنًا فَطَلَبَ أَهْلُهُ مِنْهُمُ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَلَّا يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمَا وَذِمَّتِهِمَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. وَالْمُعَاهَدَةُ عَقْدُ الْعَهْدِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى شُرُوطٍ يَلْتَزِمُونَهَا، وَكَانَ اللَّذَانِ يَتَوَلَّيَانِهَا مِنْهُمَا يَضَعُ أَحَدُهُمْ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، وَكَانُوا يُؤَكِّدُونَهَا وَيُوَثِّقُونَهَا بِالْأَيْمَانِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَيْمَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (9: 12) . قَالَ نَاصِرُ السُّنَّةِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ الْأَرَاجِيفَ، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

4

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (8: 58) يَعْنِي أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا عَمِلَ فِي نَبْذِ عُهُودِهِمْ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا جَدِيدًا لِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمِلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (9: 4) وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ " وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. اهـ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ الِانْتِقَالُ وَالتَّجْوَالُ الْوَاسِعُ فِيهَا، وَرَجُلٌ سَائِحٌ وَسَيَّاحٌ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَاحَ الْمَاءُ سَيْحًا، وَسَيَّحَ النَّاسُ نَهْرًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ حُرِّيَّةُ السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ مَعَ الْأَمَانِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْرِضُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فِيهَا بِقِتَالٍ، فَلَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُقَاوَمَةِ وَالصِّدَامِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى أَعْدَى أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ، وَلَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، وَدَانَهُمْ بِمَا كَانُوا يُدِينُونَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ؟ . وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرِ تَبْتَدِئُ مَنْ عَاشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي بُلِّغُوا فِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةَ كَمَا يَأْتِي، وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعِ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ شَهْرَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَوْنِ تَبْلِيغِهِمُ الْبَرَاءَةَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي مِنًى، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَاسَبُوا بِالْمُدَّةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ قَطْعِيٍّ بِأَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِسِيَاحَتِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ مَهْرَبًا مِنْ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَعُدْوَانِكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، بَلْ هُوَ يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ الَّذِي وَعَدَهُمْ، كَمَا نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَكُمْ مَعَهُمْ بَدْءًا أَوِ انْتِهَاءً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أَيْ: وَاعْلَمُوا كَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُخْزِي لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ فِي مُعَادَاتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ لِرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا بِذُلِّ الْخَيْبَةِ وَالْفَضِيحَةِ، ثُمَّ يُخْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَتِلْكَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِيهِمْ كَمَا قَالَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (39: 25 و26) وَقَالَ فِي عَادٍ قَوْمِ هُودٍ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا مَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلتَّصْرِيحِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي آخِرِ قَوْلِهِ: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، مُصَرِّحَةٌ بِالتَّبْلِيغِ الصَّرِيحِ الْجَهْرِيِّ الْعَامِّ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَسَائِرِ خُرَافَاتِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالَاتِهِ، وَمُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِهِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ مَعَ تَرْجِيحِ أَنَّهُ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَأَرْكَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ الْحَاجُّ فِيهِ لِإِتْمَامِ وَاجِبَاتٍ الْمَنَاسِكِ وَسُنَنِهَا فِي مِنًى. وَالْأَذَانُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَطْرُقُ الْآذَانَ بِالْإِعْلَامِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ التَّأْذِينِ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (12: 70) وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَأَذَّنَ بِهَا أَعْلَمَ، وَآذَنَهُ بِالشَّيْءِ إِيذَانًا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَأَذَّنَ بِالشَّيْءِ (كَعَلَّمَ) عَلَّمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ (كَتَعِبَ) اسْتَمَعَ. وَأَعَادَ التَّصْرِيحَ فِي هَذَا الْأَذَانِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللهِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَمِنْ رَسُولِهِ بِصِفَةِ التَّبْلِيغِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الرِّسَالَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا فِي الْبَرَاءَةِ، وَصَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِعُنْوَانِ الشِّرْكِ وَوَصْفِهِ، وَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ مَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَ أَنْ يُخَاطِبُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: قُولُوا لَهُمْ: فَإِنْ تُبْتُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ شِرْكِكُمْ، وَمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَبِلْتُمْ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّبَبُ لِسَعَادَتِهِمَا وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: غَيْرُ فَائِتِيهِ بِأَنْ تُفْلِتُوا مِنْ حُكْمِ سُنَنِهِ وَوَعْدِهِ لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَنَّهُ نَبَأٌ عَنِ الْغَيْبِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْبِشَارَةَ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنَ الْأَنْبَاءِ، إِمَّا بِالتَّهَلُّلِ، وَإِشْرَاقِ الْوَجْهِ وَهُوَ السُّرُورُ الَّذِي تَنْبَسِطُ فِيهِ أَسَارِيرُ الْجَبْهَةِ وَتَتَمَدَّدُ، وَإِمَّا بِالْعُبُوسِ وَالْبُسُورِ، وَتَقْطِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْكَدَرِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ. وَغَلَبَ فِي الْأَوَّلِ حَتَّى ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُكَدِّرُ إِنَّمَا يُقَالُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ

ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَبَرَّأَ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَوْعِدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، مَنْ حَافَظُوا عَلَى عَهْدِهِمْ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا، لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ. وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَلَّا يَنْقُضَ الْمُعَاهِدُ عَهْدَهُ، وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يُمَالِئْ عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بِذِمَّتِهِ، وَعَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ اهـ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَنُو ضَمْرَةَ وَحَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ، حَيَّانِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، كَانُوا حُلَفَاءَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ مَنْ بَنِي تَبِيعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لَبَنِي مُدْلِجٍ وَخُزَاعَةَ عَهْدٌ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ: هُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ هَذَا إِلَى مُدَّتِهِمْ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عَامٌّ، وَتَعْيِينُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِأَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ الْعَهْدُ مَعْقُودًا، وَعَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَيْنَا مُحَافَظَةُ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا عَلَيْهِ بِحَذَافِيرِهِ، مِنْ نَصِّ الْقَوْلِ وَفَحْوَاهُ وَلَحْنِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِرُوحِهِ، فَإِنْ نَقَضَ شَيْئًا مَا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَأَخَلَّ بِغَرَضٍ مَا مِنْ أَغْرَاضِهِ عُدَّ نَاقِضًا لَهُ، إِذْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى إِخْلَالٍ بِالْعَهْدِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةُ أَبْلَغُ - وَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي يَنْتَقِضُ بِالْإِخْلَالِ بِهَا عَدَمُ مُظَاهَرَةِ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَخُصُومِنَا عَلَيْنَا، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُعَاهَدَاتِ تَرْكُ قِتَالِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَعَاهِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَحُرِّيَّةُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا، فَمُظَاهَرَةُ أَحَدِهِمَا لِعَدُوِّ الْآخَرِ، أَيْ مُعَاوَنَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى قِتَالِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ إِذَا عَاوَنَهُ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ

(33: 26) وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ إِذَا سَاعَدَهُ عَلَيْهِ. وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ تُعَاوِنُوا وَكُلُّهُ مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ بَعِيرٌ ظَهِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الظُّهُورِ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: لِنَقْضِ الْعُهُودِ وَإِخْفَارِ الذِّمَمِ، وَلِسَائِرِ الْمَفَاسِدِ الْمُخِلَّةِ بِالنِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ وَالْأَذَانِ بِهَا - أَيِ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الْعَلَنِيِّ لَهَا - أَحَادِيثُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ نَقْتَصِرُ عَلَى أَمْثَلِهَا وَأَثْبَتِهَا، وَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُزِيلُ تَعَارُضَهَا. فَجُمْلَةُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْحَجَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ نَبْذَ عُهُودِهِمُ الْمُطْلَقَةِ، وَإِعْطَاءَهُمْ مُهْلَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْعُهُودَ الْمُؤَقَّتَةَ أَجَلُهَا نِهَايَةُ وَقْتِهَا. وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمَسْأَلَةِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَهِيَ 40 أَوْ 33 آيَةً، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ 30 و40 فَتَعْبِيرٌ بِالْأَعْشَارِ، مَعَ إِلْغَاءِ كَسْرِهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعُهُودَ وَنَبْذَهَا إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ عَاقِدِهَا أَوْ أَحَدِ عَصَبَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ إِمَارَةِ الْحَجِّ لِأَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانَ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ بِمُسَاعَدَتِهِ. أَمَّا الشَّيْخَانِ فَقَدْ أَخْرَجَا فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كُتُبِ الطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ وَالْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، فَنَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي تَفْسِيرِ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الْآيَةَ. عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِـ (بَرَاءَةٌ) وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ مَا نَصُّهُ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَمَلَ قِصَّةَ تَوَجُّهِ عَلِيٍّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَمَلَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَقَوْلُهُ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ إِلَخْ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، فَكَيْفَ يُؤَذِّنُ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ أَذَّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (28) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، وَبِمَا أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذَّنَ بِهِ أَيْضًا. (قُلْتُ) وَفِي قَوْلِهِ: يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبِضْعٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً مُنْتَهَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ (بَرَاءَةٌ) ، ثُمَّ صَدَرْنَا حَتَّى رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ فَطَفِقْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ كِلَاهُمَا عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعْنَا رَغْوَةَ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ: أَمِيرٌ أَوْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: بَلْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِـ (بَرَاءَةٌ) أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ فَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ بِمَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ (بَرَاءَةٌ) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَوْمَ النَّفْرِ كَذَلِكَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا كُلَّهَا فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ إِلَخْ. وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ فِي الْأَذَانِ بِذَلِكَ. " وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ

بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - الْحَدِيثَ - وَفِيهِ فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ. فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي بِهَا، فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا ". " وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ بِـ (بَرَاءَةٌ) مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: " لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ (بَرَاءَةٌ) بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ " فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، فَقَالَ: " لَا " إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ عَنِّي - أَوْ - وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ " قَالَ الْعِمَادَ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ (قُلْتُ) : وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (9: 28) اهـ. هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي نُزُولِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَخِيرًا - وَقَدْ ذَكَرَ إِسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ - هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ انْتِقَادَ مَتْنِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عَلِيًّا بِهَا، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَضَافِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الَّتِي أُطْلِقَ فِي بَعْضِهَا أَوَّلُ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَفِي بَعْضِهَا عَدَدُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْهَا - أَيْ بِالتَّقْرِيبِ، وَفِي بَعْضِهَا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) ، وَهِيَ لَا تَنَافِي بَيْنَهَا، فَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عَقِبَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَقَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ رَمَضَانَ وَشَوَّالَ وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى هَذَا كَانَ صَحِيحًا وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا ضَعْفُ إِسْنَادِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فَمِنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِيِّ الْكُوفِيِّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ كَثِيرَ الْوَهْمِ فِي الْأَخْبَارِ يَنْفَرِدُ عَنْ عَلِيٍّ بِأَشْيَاءَ لَا تُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ حَتَّى صَارَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَ عَنْهُ سِمَاكٌ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: سَاقِطٌ مُطَّرِحٌ، وَلِأَئِمَّةِ الْجَرْحِ فِي تَضْعِيفِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الْمُنْكَرَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ سِمَاكٌ هُوَ هَذَا، عَلَى أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ هَذَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ جَرْحٍ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ،

وَمِمَّا قِيلَ عَنْهُ أَنَّهُ خَرِفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ كَيْفَ سَكَتَ عَنْ ضَعْفِ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ تَذَكُّرِ عِبَارَةِ ابْنِ كَثِيرٍ فِيهِ. وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعَثَهَ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَّا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرِ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُشْرِكٌ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ صَالِحٍ مِنَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ: وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ - هُوَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (3) وَمِنْ مُنَادَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ النَّحْرِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَادَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُنَادِي بِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ شَيْئَانِ: مَنْعُ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعُ طَوَافِ الْعُرْيَانِ. وَأَنَّ عَلِيًّا أَيْضًا كَانَ يُنَادِي بِهِمَا، وَكَانَ يَزِيدُ: مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخِيرَةُ كَالتَّوْطِئَةِ، لِئَلَّا يَحُجَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ. وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتُصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَلَّا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مَكَّةَ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، فَكُنَّا نُنَادِي أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قِيلَ (الْأَكْبَرِ) إِلَخْ. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

وَأَصْلُهُ فِي هَذَا الصَّحِيحِ رَفْعُهُ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ". وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْعُمْرَةُ، وَصَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّازِقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْقِرَانُ، وَالْأَصْغَرُ: الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَتَكَمَّلُ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَيَّامُ الْحَجِّ تُسَمَّى يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْفَتْحِ، وَأَيَّدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ عَلِيًّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا كَانَ صَبِيحَةُ النَّحْرِ وَقَفَ الْجَمِيعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقِيلَ لَهُ الْأَكْبَرُ: لِاجْتِمَاعِ الْكُلِّ فِيهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ حَجِّ جَمِيعِ الْمِلَلِ فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفُتِ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَاتَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ. وَقَوْلُهُ: فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ. هُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ مِنْ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْصَحَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى تَبْلِيغِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِـ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ قَائِلِهِ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ (بَرَاءَةٌ) كُلِّهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهَا أَوَائِلَهَا فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا حَتَّى خَتَمَهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ النَّقْلَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ إِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ. نَعَمْ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ عَامًا شَهْرًا، وَعَامًا شَهْرَيْنِ، يَعْنِي: يَحُجُّونَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِي الثَّالِثِ فِي شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قَالَ: فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِلَّا فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَ حَجُّ

أَبِي بَكْرٍ وَافَقَ ذَلِكَ الْعَامَ أَشْهُرَ الْحَجِّ فَسَمَّاهُ اللهُ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ فِي تَلْخِيصِ الرِّوَايَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا بِحُرُوفِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ أُخْرَى فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ نَقَلَهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ آنِفًا، وَقَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى شَاذَّةً مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَجُّ أَهْلِ الْوَبَرِ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَالْعَوَامُّ يُسَمُّونَ كُلَّ عَامٍ يَكُونُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَالَ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا "؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا عَنْهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ. شُبْهَةٌ لِلشِّيعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ يُكَبِّرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَعَادَتِهِمْ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهَا مَا لَا تَصِحُّ بِهِ رِوَايَةٌ، وَلَا تُؤَيِّدُهُ دِرَايَةٌ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ تَبْلِيغِ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُ، وَلَا يَخُصُّونَ هَذَا النَّفْيَ بِتَبْلِيغِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَجْعَلُونَهُ عَامًّا لِأَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِوُجُوبِ تَبْلِيغِ الدِّينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً كَالْجِهَادِ فِي حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَكَوْنِهِ فَرِيضَةً لَا فَضِيلَةً فَقَطْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَسْمَعِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّاسِ: " أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ " فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " إِلَخْ. وَحَدِيثُ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ فِي الْعَالَمِ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ إِمَارَةِ الْحَجِّ وَوَلَّاهَا عَلِيًّا، وَهَذَا بُهْتَانٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. وَالْحَقُّ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ خَاصٍّ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تَابِعًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي إِمَارَتِهِ الْعَامَّةِ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ

الْعَامِّ، حَتَّى كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَيِّنُ لَهُ الْوَقْتَ الَّذِي يُبَلِّغُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَقُولُ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى هَذَا التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَلِقَدْ كَانَ تَأْمِيرُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُلُوصِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى مَكَّةَ، وَمَشَاعِرِ الْحَجِّ كُلِّهَا، كَتَقْدِيمِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكِلَاهُمَا تَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ زُعَمَاءِ الصَّحَابَةِ فِي إِقَامَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يَقُومُ بِهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَّهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ تَرْشِيحًا لَهُ لِتَوَلِّيَ الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهُ، فَالْوَاقِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَكُونُ إِمَامًا فِي وَقْتِهِ. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ نُكْتَةً فِي نَصْبِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا لِلنَّاسِ فِي حَجِّهِمْ، وَنَصْبِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ مُبَلِّغًا نَقْضَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ الْمَحْفَلِ، وَهِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مَظْهَرًا لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ أَحَالَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مَوْرِدُ رَحْمَةِ، وَلَمَّا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ الَّذِي هُوَ أَسَدُ اللهِ مَظْهَرَ جَلَالِهِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَقْضَ عَهْدِ الْكَافِرِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْقَهْرِ، فَكَانَا كَعَيْنَيْنِ فَوَّارَتَيْنِ يَفُورُ مِنْ إِحْدَاهُمَا صِفَةُ الْجَمَالِ، وَمِنَ الْأُخْرَى صِفَةُ الْجَلَالِ، فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ أُنْمُوذَجًا لِلْحَشْرِ وَمَوْرِدًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. انْتَهَى وَلَا يَخْفَى حُسْنُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ. وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِتَبْلِيغِ عَلِيٍّ نَبْذَ الْعُهُودِ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ عِلَّةً، فَهُوَ لَا يَأْبَى أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً. وَرَأَيْتُ فِي مُصَنَّفٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ ضَرْبًا آخَرَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْبِيرِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهَا مِنْ مَنَاقِبِهِ كَرَّمُ اللهُ وَجْهَهُ، مِنْ حَيْثُ يُصَغِّرُ مَنَاقِبَ الشَّيْخَيْنِ إِنْ لَمْ يَجِدْ شُبْهَةً أَوْ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِهَا، حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ تَنْوِيهَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصُحْبَةِ الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ لِلرَّسُولِ الْأَعْظَمِ فِي هِجْرَتِهِ، وَإِثْبَاتَ مَعِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا مَعًا فِي الْغَارِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ مَزِيَّةً لِلصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ نَشِطُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِدَعَايَةِ الرَّفْضِ وَالْبِدَعِ وَالصَّدِّ عَنِ السُّنَّةِ وَالطَّعْنِ فِي أَئِمَّتِهَا لَمَا جَعَلْنَا شُبْهَةَ التَّبْلِيغِ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ وَهَنُهَا. ذَلِكَ بِأَنَّهُ اقْتَصَرَ مِنْ رِوَايَاتِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ - يَعْنِي مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - بَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ

أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ فَأَخَذَهَا مِنْهُ. فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " ثُمَّ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْزِلَةُ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَصْحَابِهِ وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ شَخْصَ النَّبِيِّ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَنَّ كَوْنَ عَلِيٍّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنَفْسِهِ نَفْسَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ثَابِتٌ لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِذِكْرِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الْعَارِفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْتِيبِ الْأَشْكَالِ، وَقَدْ عَمَدَ بَعْضُ النَّوَاصِبِ إِلَى الْحَطِّ مِنْ هَذِهِ الْكَرَامَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا أَرَادَ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ وَمِنْهُ هُوَ الْقُرْبُ فِي النَّسَبِ دُونَ الْفَضِيلَةِ، مُدَّعِيًا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْبِذَ عَهْدًا نَبَذَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَ بِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ - إِلَى آخِرِ مَا غَالَطَ بِهِ، وَبَنَى عَلَى زَعْمِهِ هَذَا أَنَّ الْعَبَّاسَ أَقْرَبُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ عَلِيٍّ نَسَبًا فَلِمَاذَا لَمْ يُرْسِلْهُ بِهَذَا التَّبْلِيغِ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِمَعْنَى مَا زَعَمَهُ، لَا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَقْرَبِ بَلْ قَالُوا: إِنَّ التَّبْلِيغَ فِي مِثْلِهِ لِعَاقِدِ الْعَهْدِ أَوْ لِأَحَدِ عَصَبَتِهِ الْأَقْرَبِينَ. وَأَقُولُ فِي قَلْبِ شُبْهَتِهِ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الْمُتَعَصِّبَ اخْتَارَ رِوَايَةَ السُّدِّيِّ مِنْ رِوَايَاتٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَغُلُوِّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا. (ثَانِيًا) أَنَّ السُّدِّيَّ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (ثَالِثًا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ قَوْلَ السُّدِّيِّ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ. (رَابِعًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الَّذِي يَدَّعِي التَّحْقِيقَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ السُّدِّيِّ كُلَّهُ بَلْ أَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَرْوِيَّ عَنْ غَيْرِ السُّدِّيِّ أَيْضًا " أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْ كُنْتَ مَعِيَ فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ "؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَاجِّ وَعَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، فَقَامَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ. وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ؟ فَأَسْلَمُوا انْتَهَى نَصُّ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ (ص27 ج 10 مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ)

فَإِذَا كَانَ هَذَا الشِّيعِيُّ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَمِنْهُ كَوْنُ الْآيَةِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (40) . وَلَا يَظْهَرُ لِأَمْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ مَنْ نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِهَا إِلَّا بَيَانَ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَكَانِهِ الْخَاصِّ مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحِكْمَةِ جَعْلِهِ نَائِبًا عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْعَامِّ، وَجَعْلِ عَلِيٍّ نَفْسَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ تَحْتَ إِمَارَتِهِ، حَتَّى فِي تَبْلِيغِهِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ الْخَاصَّةَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَسْقَطَ الرَّافِضِيُّ بَقِيَّةَ الرِّوَايَةِ عَلَى كَوْنِهِ يُنْكِرُ عَلَى الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ مَزِيَّةَ اخْتِيَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُ بِأَمْرِ اللهِ عَلَى مُرَافَقَتِهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أَهَمِّ حَادِثَةٍ مِنْ تَارِيخِ حَيَاتِهِ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُنْذُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّحْبَةُ أَمْرًا عَادِيًّا أَوْ صَغِيرَةً لَمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَقْرُونَةً بِتَسْمِيَةِ الصِّدِّيقِ صَاحِبًا لِسَيِّدِ الْبَشَرِ، وَإِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمَا مَعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِهَذِهِ وَبَيْنَ تَعْبِيرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْأَصْحَابِ تَوَاضُعًا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلصِّدِّيقِ: " وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ " يَدُلُّ عَلَى مَا سَيَكُونُ لَهُ مَعَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالِامْتِيَازِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ شَأْنُهُ فِيهِ كَشَأْنِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَرِدُ الْحَوْضَ لَمَا كَانَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَزِيَّةٌ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُنَزَّهُ عَنِ الْعَبَثِ. (خَامِسًا) أَنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " فِي رِوَايَةٍ قَدْ فَسَّرَتْهَا الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " وَهَذَا النَّصُّ الصَّرِيحُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ كَلِمَةِ " مِنِّي " بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ كَنَفْسِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ أَصْحَابِهِ. (سَادِسًا) أَنَّ مَا عَزَاهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاصِبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا أَنَّ سَبَبَ نَوْطِهِ بِهِ الْقَرَابَةُ دُونَ الْفَضِيلَةِ، وَأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لَا فَخْرَ فِيهِ، وَلَا فَضْلَ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اعْتَادَ الرَّوَافِضُ افْتِرَاءَهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ عِنْدَ نَبْزِهِمْ بِلَقَبِ النَّوَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي النَّوَاصِبِ مَنْ يُنْكِرُ مَزِيَّةَ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَفِي الرَّوَافِضِ مَنْ يُنْكِرُ مَا هُوَ أَظْهَرُ

5

مِنْهَا مِنْ مَزِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي نِيَابَتِهِ عَنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِمَارَةِ الْحَجِّ، وَإِقَامَةِ رُكْنِهِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَجِّ ذَلِكَ الْعَامَ تَمْهِيدًا لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ، إِذْ كَانَ يَكْرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ، وَيَرَاهُمْ فِي بَيْتِ اللهِ عُرَاةً نِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمْ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي بَيْتِهِ، وَمَا يَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْإِمَارَةَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ يَعْتَرِفُونَ بِمَزِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَعَنْ سَائِرِ آلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ، وَعَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ لِأَهْلِهِ وَمَحَبَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَقَاتَلَ اللهُ الرَّوَافِضَ وَالنَّوَاصِفَ الَّذِينَ يَطِرُونَ بَعْضًا، وَيُنْكِرُونَ فَضْلَ الْآخَرِ، وَيَعُدُّونَ مَحَبَّتَهُ مُنَافِيَةً لِمَحَبَّتِهِ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَذَانِ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُوَقَّتِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمُوَقَّتِ، وَهُوَ مُفَصِّلٌ لِكُلِّ حَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْأَذَانِ الْعَامِّ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَوَفَاءٍ وَغَدْرٍ، يَنْتَهِي بِالْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ. وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعَارٌ مِنِ انْسِلَاخِ الْحَيَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُهَا مِنْ جِلْدِهَا، وَيُسَمَّى بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ الْمِسْلَاخُ، يَقُولُونَ: سَلَخَ فَلَانٌ الشَّهْرَ وَانْسَلَخَ مِنْهُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ (36: 37) . وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَكْتُ مِثْلَهُ ... كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي وَالْحُرُمُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الْحَرَامِ (كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ) وَهِيَ الْأَشْهَرُ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا قِتَالَهُمْ فِي الْأَذَانِ وَالتَّبْلِيغِ. الَّذِي بَيَّنَتِ الْآيَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَيْ: آمِنِينَ لَا يَعْرِضُ لَكُمْ أَحَدٌ بِقِتَالٍ فِيهَا. فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ ،

وَلَوْلَا هَذَا السِّيَاقُ لَوَجَبَ تَفْسِيرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالْأَرْبَعَةِ الَّتِي كَانُوا يُحَرِّمُونَ فِيهَا الْقِتَالَ مِنْ قَبْلُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْهَا بِالنَّسِيءِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 36 و37، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا أَوِ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ لِحُرِّيَّةِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى الْمُحَرَّمِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا وَهُنَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ اعْتَمَدَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ. قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أَيْ: فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، فَاقْتُلُوهُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَجَدْتُمُوهُمْ فِيهِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَادَتْ حَالَةُ حَرْبٍ كَمَا كَانَتْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَأْمِينُهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْحَةً مِنْكُمْ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا عَدَا أَرْضَ الْحَرَمِ فَهُوَ غَالِطٌ. وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أَيْ: وَافْعَلُوا بِهِمْ كُلَّ مَا تَرَوْنَهُ مُوَافِقًا لِلْمَصْلِحَةِ مِنْ تَدَابِيرِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْحَرْبِ الْمَعْهُودَةِ، وَأَهَمُّهَا وَأَشْهَرُهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: وَأَوَّلُهَا: أَخْذُهُمْ أُسَارَى، فَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَسْرِ بِالْأَخْذِ وَيُسَمُّونَ الْأَسِيرَ (أَخِيذًا) وَالْأَخْذُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ، فَإِنَّ مَعْنَى الثَّانِي الشَّدَّ بِالْأُسَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَالْأَسِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْأَخِيذُ الَّذِي يُشَدُّ. وَقَدْ أُبِيحُ هُنَا الْأَسْرُ الَّذِي حُظِرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (8: 67) لِحُصُولِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَلَبِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَمَنْ يُسَمِّي مِثْلَ هَذَا نَسْخًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الْأَذَانِ. وَالثَّانِي: الْحَصْرُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَدُوِّ حَيْثُ يَعْتَصِمُونَ مِنْ مَعْقِلٍ وَحِصْنٍ، بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ وَيُمْنَعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِانْفِلَاتِ إِذَا كَانَ فِي مُهَاجَمَتِهِمْ فِيهِ خَسَارَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاحْصُرُوهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِكُمْ بِشَرْطٍ تَرْضَوْنَهُ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَالثَّالِثُ: قُعُودُ الْمَرَاصِدِ أَيِ الرَّصْدِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ بِالْقُعُودِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُمْكِنُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةُ تَجْوَالِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ مِنْهُ فَالْمَرْصَدُ اسْمُ مَكَانٍ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَالْفِجَاجِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا لِئَلَّا يَعُودُوا إِلَيْهَا لِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، أَوْ لِلشِّرْكِ فِي الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ فِيهِ عُرَاةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا أَهَمُّ أَفْرَادِهِ. وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَهِيَ الْعَاصِمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ عَجَزُوا عَنْهَا فِي عَهْدِ قُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ آيَةَ السَّيْفِ هِيَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَثَّرُوا الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةَ أَنَّ آيَةَ كَذَا وَآيَةَ كَذَا مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْجَاهِلِينَ وَالْمُسَالَمَةِ وَحَسُنِ الْمُعَامَلَةِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ فِي شَيْءٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَقْسَامِ النَّسْخِ مِنَ الْإِتْقَانِ مَا نَصُّهُ: (الثَّالِثُ) مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ، كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَسَّأِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَوْ نُنْسِهَا) فَالْمُنَسَّأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنَسَّأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، بَلْ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ مُشْعِرًا بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (2: 109) مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍّ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعَزَاهُ الْآلُوسِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى جَوَازِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاقْتُلُوا الْكُفَّارَ مُطْلَقًا. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِحَدِيثِ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِّي أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَقِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِلتُّرْكِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ يَبْطُلُ أَمْنُ الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: دَعَوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خَصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُمْ

الْجِزْيَةَ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْحَدِيثِ لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ. وَأَقُولُ: قَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ عَنْ كَوْنِ الْآيَةِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ نُبِذَتْ عُهُودُهُمْ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَوْعِدُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَالْحَبَشَةُ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (5: 82) الْآيَاتِ. وَمِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتُّرْكُ كَانُوا وَثَنِيِّينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ جَاءَ تَحْذِيرًا مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ، لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ خَطَرًا عَلَى الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ سَيَقَعُ مِنْهُمْ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ، وَنَكَثُوا عُهُودَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (13) وَعَلَى كَوْنِ قِتَالِهِمْ كَافَّةً جَزَاءً بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) فَكَيْفَ يَدْخُلُ وَثَنِيُّو التُّرْكِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عُمُومِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَلَا نَأْتِي هُنَا قَاعِدَةَ كَوْنِ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ مَا كَانَ سَبَبًا لِوُرُودِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يُوضَعْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ كَالْمَجُوسِ مَثَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (ا: 221) الْآيَةَ. [ص276 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ تَفْسِيرُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (5: 5) الْآيَةَ [147 - 162 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] وَيَلِيهِ مَبَاحِثُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحَ الْأَحَادِيثِ يَنْظُرُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ لَمَا وَقَعُوا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الْوَاضِحَةِ، وَلَكُنَّا فِي غِنًى عَنِ الْإِطَالَةِ فِي التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا. فَإِنْ تَابُوا أَيْ: فَإِنْ تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ - وَعُنْوَانُهُ الْعَامُّ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَانَ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِإِحْدَاهُمَا - وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ مَعَكُمْ كَمَا تُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ الْإِيمَانِ، وَأَكْبَرُ أَرْكَانِهِ الْمَطْلُوبَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَتَسَاوَى فِي طَلَبِهَا وَجَمَاعَتِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْمَأْمُورُ وَالْأَمِيرُ - وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَأَفْضَلُ مُزَكٍّ لِأَنْفُسِهِمْ يُؤَهِّلُهُمْ لِلِقَائِهِ، وَأَفْعَلُ مُهَذِّبٍ لِأَخْلَاقِهِمْ بَعْدَهَا لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ

(29: 45) وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَلِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الْمَالِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُهُ الْعَامُّ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فَاتْرُكُوا لَهُمْ طَرِيقَ حُرِّيَّتِهِمْ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ إِذَا كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَعَنْ حَصْرِهِمْ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَعَنْ رَصْدِ مَسَالِكِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ يَكُونُونَ مُرَاقَبِينَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَيَرْحَمُهُمْ فِيمَنْ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَالْآيَةُ تُفِيدُ دَلَالَةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُوجِبُ لِمَنْ يُؤَدِّيهِمَا حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَفِظَ دَمِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ جِنَايَةٍ تَقْتَضِي حَدًّا مَعْلُومًا، أَوْ جَرِيمَةٍ تُوجِبُ تَعْزِيرًا أَوْ تَغْرِيمًا. وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا اشْتَرَطَتْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِصْمَةِ دِمَائِهِمْ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ: تَرْكَ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ. فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْإِسْلَامُ الَّذِي يَعْصِمُ دَمَ الْمُشْرِكِ الْمُقَاتِلِ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ، وَمِرَاءُ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ مَرْدُودٌ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَكْفُرُ تَارِكُ الصَّلَاةِ دُونَ مَانِعِ الزَّكَاةِ لِإِمْكَانِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَوُجُوبِ قِتَالِ مَانِعِيهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ. وَقَدْ عَزَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْنَاهَا كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَكِنِ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَذْبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، وَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ تَرْكُ ذَبَائِحِ الشِّرْكِ، يَعْنِي إِنْ ذَبَحُوا وَجَبَ أَنْ يَذْبَحُوا بِاسْمِ اللهِ دُونَ اسْمِ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُهِلُّونَ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِتَوَاتُرِهِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَفِي بَعْضِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ

مِنَ الْمَعَاصِي لَا يَخْرُجُ تَارِكُ إِحْدَاهُمَا وَلَا كِلْتَيْهِمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّ فِيهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْكُفْرِ وَالدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ صِيغَةٌ وَعُنْوَانٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا مَوَاقِفُ الْقِتَالِ، وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ يُكْتَفَى مِنَ الْمُشْرِكِ بِكَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ "؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَتْلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ " صَبَأْنَا " وَقَالَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولُونَ: صَبَأَ فُلَانٌ، إِذَا أَسْلَمَ، وَالْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ يُعْلَمُ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ عِلْمًا قَطْعِيًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ النُّطْقِ بِعُنْوَانِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْهَا بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ كَسَلٍ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَهُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَالنُّطْقُ بِهَا وَحْدَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُ أَحَدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَهَا، وَوُجِدَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلَى الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَقٍّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ " لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (34: 28) وَمَا فِي مَعْنَاهُ. فَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِذْعَانُ الْعَمَلِيُّ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا. وَلَا يَكُونُ الْإِذْعَانُ بِالْعَمَلِ إِسْلَامًا صَحِيحًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ إِذْعَانًا نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا يَبْعَثُهُ الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (63. 1) وَمَتَى كَانَ الْإِيمَانُ يَقِينِيًّا، كَانَ الْإِذْعَانُ نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَتَبِعَهُ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ فِي جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ وَعَامَّةِ الْأَوْقَاتِ. وَلَا يُنَافِيهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِصَارِفٍ عَارِضٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ لِعَارِضٍ غَالِبٍ. بِحَيْثُ إِذَا زَالَ السَّبَبُ نَدِمَ الْمُخَالِفِ. وَلَامَ نَفْسَهُ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ

(4: 17) إِلَخْ. فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً أَوْ أَكْثَرَ لِبَعْضِ الشَّوَاغِلِ، وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ مُذْنِبٌ وَيَرْجُو مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى وَيَنْوِي الْقَضَاءَ، لَا يَكُونُ تَرْكُهُ هَذَا مُنَافِيًا لِإِذْعَانِهِ النَّفْسِيِّ لِأَصْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجَاءُ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ يُعَدُّ مِنَ الْغُرُورِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَوَامِرِهِ، وَعَدَمُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ نَوَاهِيهِ - فَإِنَّهُ يُنَافِي الْإِذْعَانَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْقَلُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِسْلَامٍ، وَلَا إِسْلَامٌ صَحِيحٌ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَبَى أَنْ يَلْتَزِمَ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ مُحَرَّمَاتِهِ الْقَطْعِيَّةَ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصَرِّحْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ مُخَادِعٌ قَطْعًا، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقِيَامَ بِبَعْضِهَا نِفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ السِّيَاسِيِّنَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِدُخُولِ الْحِجَازِ أَوِ اخْتِبَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنِ اشْتِرَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْحُجَّةِ هِيَ تَحَقُّقُ الدُّخُولِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَحْدَهَا وَهِيَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا تَكْفِي لِتَأْمِينِهِمْ، وَإِبَاحَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ لِمَنْ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ وَسَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوِ الشَّهَادَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا كَافِيًا فِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ لِلْكَفِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَامَلَةِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِمَا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ فَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الْأُولَى لِمَنْ كَانَ صَادِقًا فِي النُّطْقِ بِهَا تَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّهَادَتَانِ مُؤَيِّدًا لَهُمَا كَانَتَا خِدَاعًا وَغِشًّا، وَلَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ كَثِيرَةً، وَكَانَ الْكَثِيرُ بِاشْتِرَاطِ الرُّكْنَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ، وَهُمَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ الدِّينِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالزَّكَاةُ وَهِيَ الرَّابِطَةُ الْمَالِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَمَنْ أَقَامَهُمَا كَانَ أَجْدَرَ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُصَلِّيَ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِذْعَانِ لِصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَطْعًا، فَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ مَا شَرَطَهُ فِي إِسْلَامِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الزِّنَا لَهُ، وَإِنَّ بَيْنَ اسْتِبَاحَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِحُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَبَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالْإِيمَانِ فَرْقًا وَاضِحًا وَبَوْنًا بَيِّنًا، وَلَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إِلَى

أَنَّ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، حَتَّى الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَهُمَا يُعَدُّ كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ النُّشُوءِ فِيهِ، حَتَّى مَعَ الِاعْتِرَافِ بِحَقِّيَّتِهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ تَارِكَهُمَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، وَأَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ لَا يُكَفَّرُ تَارِكُهُمَا إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّ هَذَا التَّرْكَ أَوْ جَحَدَ وُجُوبَهُمَا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، أَيْ: لِأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْضِ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالْفِعْلِيِّ، وَهُوَ كُنْهُ الْإِسْلَامِ، وَالْجُحُودَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الِاسْتِكْبَارِ عَنْهُ وَهُوَ كُنْهُ الْإِيمَانِ. وَالْآيَةُ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ لِكَسَلٍ، أَوْ شَاغِلٍ لَا يُعَدُّ عُذْرًا شَرْعِيًّا، يَكُونُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا لَمْ يَتُبْ عَقِبَ أَوَّلِ فَرِيضَةٍ تَرَكَهَا أَوِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ تُجْمَعَ مَعَهَا بِأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ وَيُصَلِّيهَا، وَلَا يَدُلَّانِ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ حَدًّا كَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِمَا، وَلَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ بِحُجِّيَّتِهِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُ مَا يُشْتَرَطُ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، لَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُنَافِيهِ وَيُعَدُّ ارْتِدَادًا عَنْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي قِتَالِ كُلِّ الْكُفَّارِ، لَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ. قُلْتُ: أَوَّلًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَايَةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْغَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً، وَلَا مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ لِاخْتِلَافِ مَوْرِدِهِمَا، وَهَذَا يُعَارِضُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، فَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا مُحْكَمًا، وَكَانَ مِنْ فِقْهِ الْبُخَارِيِّ فِي أَبْوَابِ صَحِيحِهِ إِيرَادُهُ تَابِعًا لِلْآيَةِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ. ثَانِيًا: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ مَنْ يُقَاتِلُنَا مِنَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا. ثَالِثًا: إِنَّ قِتَالَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ قَتْلِ مَنْ عَسَاهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَقِّقِينَ، فَالْقِتَالُ فِعْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، وَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ تَنْفِيذُ حُكْمٍ عَلَى مُجْرِمٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ. رَابِعًا: مَنْ أَرَادَ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ دَالًّا عَلَى غَيْرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَنْ حُكْمِ رِدَّةٍ أَوْ حَدٍّ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ، يُرَدُّ عَلَيْهِ إِعْلَالُهُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُضَاعَفَةِ مَا اسْتَغْرَبَ مَعَهُ بَعْضُ

نُقَّادِ الْحَدِيثِ تَصْحِيحَ الشَّيْخَيْنِ لَهُ مِنِ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِيرَادِهِ فِي مَسْنَدِهِ عَلَى سَعَتِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ صَرَّحَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاسْتِبْعَادِ صِحَّتِهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَوَاتُرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُعَارِضُهُ نُصُوصٌ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا نُكَفِّرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ لَا خِلَافَ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا فِي دَلَالَتِهِ. هَذَا - وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ أُخْرَى هِيَ أَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ تَكَلُّفِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا رَأَيْنَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا. أَصْرَحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ " الشِّرْكِ " وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ يَعْنِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَكِنَّ الْعِتْرَةَ وَجَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ فَيُسْتَتَابُ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى الْجَاحِدِ أَوِ الْمُسْتَحِلِّ لِلتَّرْكِ وَعَارَضُوهَا بِبَعْضِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، وَحَدِيثِ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِمَا يُفَسِّرُ أَوْ يُخَصِّصُ مَعْنَى الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ بِالْخَارِجِ الْمُقَاتِلِ، وَهُوَ: " وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ " وَقَدْ يُقَالُ:

إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ وَمُفَارَقَةٌ لِلْجَمَاعَةِ فَتَارِكُهَا لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي سِيَاقِ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَنْصَارِهِمْ حَتَّى مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ كَالشَّوْكَانِيِّ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَصْدُقُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ كَالْجِنْسِ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَمَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِفَرِيضَةِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا، وَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الدُّرُوسِ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِطَلَبِ الْعِلْمِ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَلَّى مَا بَعْدَهَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ مَا تَرَكَ، وَيَعُودُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدَاءِ مَا أَدَّى. (قُلْتُ) إِذَا كَانَ تَرْكُ الْأُولَى كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ فَاعِلِهِ التَّلَبُّسَ بِالثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا جَدَّدَ إِسْلَامَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ أَحْكَامٌ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، مِنْهَا حُبُوطُ جَمِيعِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ. وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ اسْتِتَابَتُهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ تَنَاظَرَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ، أَتَقُولُ إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَالَ: بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُلُ مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَتْرُكْهُ. قَالَ: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ: صَلَاةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْإِسْلَامِ بِهَا، فَانْقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَقْتَضِيهِ فِقْهُ الدِّينِ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لَا نِقْمَةً، وَمِنْحَةً لَا مِحْنَةً، أَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِعُذْرٍ أَوْ كَسَلٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا بِأَنْ يَجْعَلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمُعَاشِرِينَ أَحْيَانًا، وَيَتْرُكُهَا أَحْيَانًا، بِحَيْثُ إِذَا صَلَّى لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِبَاعِثِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ وَنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا تَرَكَهَا يَتْرُكُهَا غَيْرَ مَالٍّ وَلَا مُتَأَثِّمٍ كَمَا يَتْرُكُ عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، هَذَا شَأْنُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اللَّقَبُ الْمَوْرُوثُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ، وَلَا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 142) فَهَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا صَادِقًا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي هَذَا؟ وَيُوجَدُ مِنْ مُسْلِمِي التَّقَالِيدِ الْجَاهِلِينَ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَمَا شَرَعَهُ اللهُ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامًا وَشُهُورًا، وَرُبَّمَا تَمُرُّ السَّنَةُ وَالسُّنُونَ لَا يُصَلِّي فِيهَا إِلَّا بَعْضَ

الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَقَلِيلًا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ إِيمَانًا تَقْلِيدِيًّا نَاقِصًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ، فَهُوَ فِي تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثِمٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَى مَغْفِرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَوْ عَلَى مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مِنْ حَجٍّ وَغَيْرِهِ أَوْ عَلَى شَفَاعَاتِ الشَّافِعِينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ، وَهِيَ تُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ الْمَطْبُوعَةِ، الَّتِي يَخْتَارُهَا عَلَى غَيْرِهَا خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، وَالْوُعَّاظُ الْخُرَافِيُّونَ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى الْعَوَامِّ، لِيُهَوِّنُوا عَلَيْهِمُ ارْتِكَابَ الْآثَامِ، وَنَاهِيكَ بِحَدِيثِ عَتْقَى الْمَلَايِينِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَاذَا تَقُولُ فِي حَدِيثِ السِّجِلَّاتِ الَّذِي عُنِيَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِإِثْبَاتِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْمُجَرِّئَاتِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ. فَهَؤُلَاءِ الْعَوَامُّ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ مَعْذُورُونَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ، وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا يُعَارِضُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْهِيبِ وَالنُّذُرِ، هُمْ مَعْذُورُونَ بِالْجَهْلِ حَتَّى بِمَا كَانَ يُعَدُّ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَعُدْ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ تَعْلِيمُهُمْ مَا يَذْهَبُ بِغُرُورِهِمْ كَتَقْيِيدِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ (4: 7 - 9) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (4: 17 و18) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَوْسَعِهَا وَأَهَمِّهَا تَفْسِيرُ آيَتَيِ التَّوْبَةِ هَاتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [فِي ص360 - 370 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ، وَمِنْهَا تَفْسِيرُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا (4: 14) [ص353 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ، أَيْضًا كُنَّا بَيَّنَّا جَهْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ تَنَالُهُ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَجْهُولٌ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (21: 28) . وَالْعُلَمَاءُ يَخُصُّونَ مَا وَرَدَ فِي مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتِهَا بِالصَّغَائِرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (4: 31) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ (53: 32) أَيْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ

6

وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ نُصُوصٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُهَا مُطْلَقًا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ حَقٌّ، فَإِذَا عُورِضَتْ نُصُوصُ الْعِقَابِ الْمُطْلَقَةُ بِنُصُوصِ الْمَغْفِرَةِ الْمُطْلَقَةِ، جَاءَتِ النُّصُوصُ الْمُقَيِّدَةُ لَهَا بِالتَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ حُكْمًا جَامِعًا بَيْنَ الْمُطْلَقَاتَ، وَبَقِيَ الْخَطَرُ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ الْمُصْلِحِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُغَلِّبَ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى غُرُورُهُ بِجَهْلِهِ رَجَاءً - وَمَا الرَّجَاءُ الصَّحِيحُ إِلَّا لِمَنْ سَعَى إِلَى الْمَغْفِرَةِ سَعْيَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ وَرَجَاءِ اللهِ قَبُولَهَا. تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ عُذْرٍ لِلْجَاهِلِ بِمَا وَرَدَ فِي الْمَغْفِرَةِ وَكَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، وَأَعْظَمُ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ تَارِكِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْآثَارِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا إِلَّا تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَا اعْتَمَدْنَاهُ فِي تَأْوِيلِهَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَتْرُكُهَا فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّيهَا إِلَّا قَلِيلًا لِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يَتْرُكُ صَلَاةً أَوْ صَلَوَاتٍ قَلِيلَةً مُتَفَرِّقَةً لِأَمْرٍ عَارِضٍ ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ عَلَى الْوُعَّاظِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِهَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ خَطَرَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ اكْتَفَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ بِذِكْرِ بَعْضِهَا، وَلِيُرَاجِعْ جُمْلَتَهَا مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ فَهِيَ مُخِيفَةٌ جِدًّا. وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهَا: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَهِيَ تَسْتَثْنِي مِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، لِيَعْلَمَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بَلَاغًا تَامًّا مُقْنِعًا، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ - وَهُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ الدَّالَّةُ بِذَاتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا وَعَادَوُا الدَّاعِيَ وَقَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَفْنِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ طُبِعُوا عَلَى نُعَرَةِ الْعَصَبِيَّةِ لَهُمْ وَالنِّضَالِ دُونَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَةُ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، لَمَا احْتَمَوْا عَلَيْهَا كُلَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَاءِ، وَقَابَلُوهَا بِكُلِّ ذَلِكَ الْعَدَاءِ، وَيَلِيهَا فِي ذَلِكَ تَحْقِيرُ آلِهَتِهِمْ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعَقِيدَةِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (68: 9) وَإِذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ - وَإِنَّمَا

كَانَ وُجُوبُ الْقِتَالِ لِحِمَايَتِهَا، وَالْحُرِيَّةِ فِي تَبْلِيغِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ، وَمَنْعِ أَهْلِهَا وَصِيَانَتِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِأَجْلِهَا وَجَبَ التَّبْلِيغُ قَبْلَهُ، وَكَفُّ الْقِتَالِ عَمَّنْ يُظْهِرُ الرَّغْبَةَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، لِلْعِلْمِ بِمَضْمُونِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا نَهَى وَأَمَرَ، وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَأْمِينِهِ فِي مَجِيئِهِ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ الْعَوْدَةِ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ حَيْثُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِيمَا يَخْتَارُ لَهَا، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بُلِّغُوا نَبْذَ عُهُودِهِمْ أَوِ انْتِهَاءَ مُدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: (1) مُصِرٌ عَلَى الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. (2) مُسْتَرْشِدٌ طَالِبٌ لِلْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. (3) تَائِبٌ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ. الِاسْتِجَارَةُ: طَلَبُ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْحِمَايَةُ وَالْأَمَانُ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ حِمَايَةُ الْجَارِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ، حَتَّى صَارُوا يُسَمَّوْنَ النَّصِيرَ جَارًا، وَمِنْهُ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ (8: 48) وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِنِ اسْتَأْمَنَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِكَيْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَيَعْلَمَ مِنْهُ حَقِيقَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، أَوْ لِيَلْقَاكَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، فَيَجِبُ أَنْ تُجِيرَهُ وَتُؤَمِّنَهُ لِكَيْ يَسْمَعَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرْصَةٌ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمَاعِ، فَإِذَا اهْتَدَى بِهِ، وَآمَنَ عَنْ عِلْمٍ وَاقْتِنَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْجَوَابُ أَنْ تُبَلِّغَهُ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِي عَقِيدَتِهِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ سُلْطَانُ قَهْرٍ، وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى أَمْرٍ. وَتَعُودُ حَالَةُ الْحَرْبِ إِلَى مَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَسَمَاعُ (كَلَامِ اللهِ) يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَنَرَاهُ نَحْنُ كَافِيًا لِلْعِلْمِ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقَدْرَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانَ الشِّرْكِ، وَحَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَصِدْقَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْعَرَبِيُّ مِنْهُمْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ، وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ، وَيَفْهَمُ حُجَجَهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا أَلْقَى إِلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ لَمْ تَصُدَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْتِزَامُ الْعَدَاوَةِ لِلدَّاعِي لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ شَأْنُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ وَالدَّارُ مَا عَلِمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ آيَاتُ التَّوْحِيدِ مِنْهُ، وَقِيلَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ خَاصَّةً أَوْ مَا بَلَّغُوهُ مِنْهَا فِي الْمَوْسِمِ إِذْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُشْرِكٍ سَمِعَهُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (9: 36) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحْكَمٌ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى إِلَّا لِرَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَدَمَ وُجُوبِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لِطَالِبِهَا، بَلْ مَنْعَ

طَالِبَهَا مِنْ سَمَاعِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِعَلِيٍّ: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ أَوْ لِحَاجَةٍ قُتِلَ؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ الْآيَةَ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمُشْرِكِ لِلْأَمَانِ وَالْجِوَارِ يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْحَاجَةَ فِي الرِّوَايَةِ لَا تَعْدُو غَرَضَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ لِقَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يَكُونُ إِلَّا لِذَلِكَ، أَيْ فَلَا يُجَابُ طَلَبُهُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ الْحَاجَةَ دُنْيَوِيَّةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَقَدْ كَانُوا يَطْلُبُونَ لِقَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ الْكَلَامِ فِي الصُّلْحِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَنَّهُ غَايَةٌ أَوْ تَعْلِيلٌ لِلْإِجَارَةِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَحْدَهَا، وَأَنَّ الِاسْتِجَارَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا. وَقَوْلُ أَبِي السُّعُودِ: إِنَّ تَعَلُّقَ الْإِجَارَةِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الِاسْتِجَارَةِ أَيْضًا بِذَلِكَ أَوْ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَكِنْ مُحْتَمَلٌ إِذَا جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ (حَتَّى) بِفِعْلَيِ الِاسْتِجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ مَعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ النُّحَاةُ فِي بَابِ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الثَّانِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ الْأَوَّلُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى جَعْلِ (حَتَّى) لِلتَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُؤَمِّنَ مُشْرِكًا إِلَّا لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ، وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ بِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّادِ جُيُوشِهِمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ أَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْمُسْتَجِيرَ يُجَارُ وَيُؤَمَّنُ مَهْمَا يَكُنْ غَرَضُهُ مِنَ الِاسْتِجَارَةِ، وَيَمْتَدُّ جِوَارُهُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فُرْصَةً لِتَبْلِيغِهِ دَعْوَتَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَلَا يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِبْلَاغِهِ مَأْمَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ، وَلَا يَظْهَرُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْإِجَارَةِ وَالْأَمَانِ لِلْوُجُوبِ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَكُونُ جَائِزًا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَايَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُؤَمِّنُ الرُّسُلَ الَّتِي تَرِدُ مِنْ قِبَلِ الْأَعْدَاءِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُجِيرُ مَنْ أَجَارَهُ أَيُّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ مَزَايَا الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ " تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حُكْمَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْيِيدِ إِجَارَةِ مُسْتَجِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَالْأَمْرَ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَهُوَ كَمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَمَانَ مِنَ الْفِقْهِ. قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ

الْأَسْبَابِ، وَطَلَبَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ. لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي التَّرْغِيبِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ عَدَمُ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَأَلَّا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ وَجْهَانِ. انْتَهَى مِنْ كِتَابِ الْفُرُوعِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنَ الشَّارِعِ تُنَاطُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَتُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ. قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِجَارَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ، وَمَا الْإِيمَانُ، فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلٍ وَعَصَبِيَّةٍ، وَكَانُوا مُغْتَرِّينَ بِقُوَّتِهِمْ، مُصِرِّينَ عَلَى جَفْوَتِهِمْ، فَإِذَا كَانَ شُعُورُهُمْ بِضَعْفِهِمْ لَصِدْقِ وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمْكَانُ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِسْمَاعِهِمْ كَلَامَهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ لِمَنْ سَمِعَهُ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِتَعْلِيمِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَرَءُوفًا رَحِيمًا. وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَصْلِ الدِّينِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْطِقِيًّا. وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كَالْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَا بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْآيَاتُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (53: 28) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (10: 36) وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (45: 24) . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا لَوَجَبَ أَلَّا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلُكَ. فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَا وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ، وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ، لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ

7

بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ، وَمَتَى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَأَمْهَلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ أَحْرَارًا آمِنِينَ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالْأَذَانِ الْعَامِ إِلَى النَّاسِ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ مِنَ الْمَوْسِمِ الْعَامِّ بِبَرَاءَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَدَعَوْتِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْإِعْرَاضِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْمُعَاهِدِينَ الَّذِينَ نُبِذَتْ إِلَيْهِمْ عُهُودُهُمْ مَنْ وَفَّوْا بِعَهْدِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّبْذِ وَالتَّوْقِيتِ فِيهِ، وَعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي وُقِّتَتْ بِهَا الْعُهُودُ، وَهُوَ مُنَاجَزَةُ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَصْرٍ وَقَطْعِ طُرُقِ الْمُوَاصَلَاتِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيرُ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُ بِإِجَارَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْعُهُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَعُدَّ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ أُصُولِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْبِرِّ وَأَهْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 177) بَعْدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَكَمَا قَالَ فِي الْوَصَايَا الْأَسَاسِيَّةِ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (17: 34) إِلَى آيَاتٍ أُخْرَى ذَكَّرْنَا قَارِئَ تَفْسِيرِنَا بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْعَهْدِ - وَالْمُنَاسِبُ مِنْهَا لِمَا هُنَا مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ كَالْآيَةِ 56 و58 وَفِي مَعْنَاهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حَسْبُكُ مِنْهَا حَدِيثُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ

مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا. وَلَمَّا كَانَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كُلُّ هَذَا الشَّأْنِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ نَبْذُ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخِلٌّ بِهِ، أَوْ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ قَلِيلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِهِ بِالْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا النَّبْذَ نَاسِخٌ لِوُجُوبِهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِحَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ آخَرُونَ مِثْلَ هَذَا فِي آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ هَذَا النَّبْذُ مِمَّا يَفْتَحُ بَابَ الدَّسِّ أَوِ الطَّعْنِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالتَّأْوِيلِ لِلْمُرْجِفِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ يَعْظُمُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْفَى عَلَيْهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةِ - لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا ذُكِرَ كَمَا ذَكَرَ - بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا كَوْنَ هَذَا النَّبْذِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي وَلَا يُجَافِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَامَلَةٌ لِلْأَعْدَاءِ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِدُونِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُشْرَبِ لِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَسَخَ خُلُقُ الْوَفَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ عُرْضَةً لِقَبُولِ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ النَّبْذِ، وَالْمَعْنَى: بِأَيَّةِ صِفَةٍ وَأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ يَثْبُتُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مِنَ الْعُهُودِ عِنْدَ اللهِ يُقِرُّهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَفِي لَهُمْ بِهِ وَتَفُونَ بِهِ اتِّبَاعًا لَهُ - وَحَالُهُمِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ تَأْبَى ثُبُوتَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ - إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اسْتَثْنَى تَعَالَى هَؤُلَاءِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ انْتِفَاءِ ثُبُوتِ الْعَهْدِ لِغَيْرِهِمْ بِأَيَّةِ صِفَةٍ تَثْبُتُ بِهَا الْعُهُودُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا، وَزَادَ هُنَا: عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْ: بِجِوَارِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ هُنَاكَ وَهُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ كَانُوا وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامِّ، بِأَلَا تَمْنَعُوهُمْ وَلَا يَمْنَعُوكُمْ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ - عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ قَبَائِلُ بَنِي بَكْرٍ، الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إِلَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنُو الدِّيلِ مَنْ بَكْرٍ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ عَهْدَهُ مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى مُدَّتِهِ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ بَعْضُ بَنِي بَكْرٍ مِنْ كِنَانَةَ مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي نَقْضِ مَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْعَهْدِ مَعَ قُرَيْشٍ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ كَانُوا عَاهَدُوهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَادَى بِهَا عَلِيٌّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَا مِنْ خُزَاعَةَ كَافِرٌ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَيُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِعَهْدِهِ مَا اسْتَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَاكِنِي مَكَّةَ كَانَ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَحُورِبَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ اهـ. وَهُوَ رَدٌّ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أَيْ: فَمَهْمَا يَسْتَقِمْ لَكُمْ هَؤُلَاءِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، أَوْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ لَكُمْ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ قِبَلِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ قَطْعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعُهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَاهِدِينَ الْمَذْكُورِينَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ ذِكْرُ اسْتِثْنَائِهِمْ لِتَأْكِيدِهِ بِشَرْطِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِبَيَانِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ مَرْعِيَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا، وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ اسْتِبَاحَةِ نَبْذِ عُهُودِ الَّذِينَ لَا يَسْتَقِيمُونَ لِلْمُعَاهِدِ لَهُمْ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْغَدْرِ حَتَّى إِذَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَقَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ لَهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَّبْتُمْ وَفَاءَهُمْ عَهْدٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَ اللهِ مَرْعِيٌّ بِالْوَفَاءِ عِنْدَ رَسُولِهِ، وَالْحَالُ الْمَعْهُودُ مِنْهُمُ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؟ فَالِاسْتِفْهَامُ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ إِنْكَارِ الْعَهْدِ وَنَفْيِهِ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْفَصْلِ الْمَذْكُورِ. يُقَالُ ظَهَرَ عَلَيْهِ: غَلَبَهُ وَظَفِرَ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَاهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِ أَعْلَاهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فَوْقَهُ وَمِنْهُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (9: 33) وَكَذَا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَرَقَبَ الشَّيْءَ رَعَاهُ وَحَاذَرَهُ

وَانْتَظَرَهُ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَرَقَبَهُ وَرَاقَبَهُ: حَاذَرَهُ؛ لِأَنَّ الْخَائِفَ يَرْقُبُ الْعِقَابَ وَيَتَوَقَّعُهُ وَمِنْهُ، فُلَانٌ لَا يُرَاقِبُ اللهَ فِي أُمُورِهِ: لَا يَنْظُرُ إِلَى عِقَابِهِ فَيَرْكَبُ رَأْسَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَبَاتَ يَرْقُبُ النُّجُومَ وَيُرَاقِبُهَا كَقَوْلِكَ: يَرْعَاهَا وَيُرَاعِيهَا اهـ. وَالْإِلُّ: الْقَرَابَةُ. وَالذِّمَّةُ وَالذِّمَامُ الْعَهْدُ الَّذِي يُلْزِمُ مَنْ ضَيَّعَهُ الذَّمَّ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَكَانَ خَفْرُ الذِّمَامِ وَنَقْضُ الْعَهْدِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَارِ، هَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْإِلَّ اسْمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرْقُبُونَ اللهَ فِي نَقْضِ عَهْدِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ إِلٍّ وَإِيلٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَشَقِيقَتَيْهَا السُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ اسْمُ إِلَهٍ مِنْ آلِهَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ كَمَا بَيَّنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي فَصْلِ الْمَسَائِلِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ فِي أَرْبَابِهِمْ وَشِرْكِهِمْ [ص47 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ الْإِلِّ بِالْحِلْفِ وَالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَحَصْرِهِمْ وَالْقُعُودِ لَهُمْ عَلَى كُلَّ مَرْصَدٍ - أَنَّهُمْ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْقُبُوا فِيهِمْ إِلًّا، وَالْإِلُّ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: الْعَهْدُ وَالْعَقْدُ، وَالْحِلْفُ، وَالْقَرَابَةُ وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى اللهِ فَإِذَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ تَشْمَلُ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَالصَّوَابُ أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ كَمَا عَمَّ بِهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَانِيهَا الثَّلَاثَةَ فَقَالَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ اللهَ، وَلَا قَرَابَةً وَلَا عَهْدًا وَلَا مِيثَاقًا. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خُلِّفُوا ... قَطَّعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ بِمَعْنَى قَطَعُوا الْقَرَابَةَ، وَقَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ كَإِلِّ السَّيْفِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ وَأَمَّا مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَهْدِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: وَجَدْنَاهُمْ كَاذِبًا إِلُّهُمْ ... وَذُو الْإِلِّ وَالْعَهْدِ لَا يَكْذِبُ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْإِلَّ وَالْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْيَمِينَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الذِّمَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّذَمُّمِ مِمَّنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَالْجَمْعُ: ذِمَمٌ. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ: عَنَى بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَهْلَ الْعَهْدِ الْعَامِّ اهـ.

8

وَأَقُولُ: أَلْفَاظُ الْإِلِّ وَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَالْيَمِينِ يَخْتَلِفُ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ. وَقَدْ تَتَوَارَدُ مَعَ هَذَا عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَالْعَهْدُ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ أَوْ فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِهِ بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، فَإِنْ أَكَّدَاهُ وَوَثَّقَاهُ بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْعِنَايَةِ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ سُمِّيَ مِيثَاقًا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَثَاقِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَالْقَيْدُ، وَإِنْ أَكَّدَاهُ بِالْيَمِينِ خَاصَّةً سُمِّي يَمِينًا، وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَالْيَمِينُ فِي الْأَصْلِ الْيَدُ الْمُقَابِلَةُ لِلشِّمَالِ، وَالْحَلِفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ الْإِلَّ بِمَعْنَى الْعَهْدِ أَرَادَ بِهِ الْمُطْلَقَ مِنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْحِلْفِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمُحَالَفَةُ أَصْلُهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَلِفِ أَيِّ الْيَمِينِ. وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ مَنِ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَالْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْعَهْدِ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَيَشْمَلُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرِيدُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنْ يُقَيِّدُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَهُمْ بِعَهْدِ سَلْمٍ مُطْلَقٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ، فَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُمْ بِالنَّصِّ شَمِلَهُمْ بِالْحُكْمِ. يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أَيْ: يُخَادِعُونَكُمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ بِمَا يَنْبِذُونَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّهُ يُرْضِيكُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَهْدًا أَوْ وَعَدًا أَوْ يَمِينًا مُؤَكِّدًا لَهُمَا وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ الْمَمْلُوءَةُ بِالْحِقْدِ وَالضِّغْنِ أَنْ تُصَدِّقَ أَفْوَاهَهُمْ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (48: 11) فَهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ نَكَثُوا الْعُهُودَ، وَحَنِثُوا بِالْأَيْمَانِ، وَفَتَكُوا بِكُمْ جُهْدَ طَاقَتِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ مِنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ فَالْفِسْقُ عَلَى مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَالِانْفِصَالُ، يَقُولُونَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَيُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَكْثَرَهُمْ بِالْفُسُوقِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاكِثُونَ النَّاقِضُونَ لِعُهُودِهِمْ، وَأَقَلُّهُمُ الْمُوفُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِقَامَةِ لَهُمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ. اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ

9

هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَنْ عَسَاهُ يَسْتَغْرِبُ غَلَبَةَ الْفِسْقِ وَالْخُرُوجِ مِنْ دَائِرَةِ الْفَضَائِلِ الْفِطْرِيَّةِ وَالتَّقْلِيدِيَّةِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ حَتَّى مُرَاعَاةِ الْقَرَابَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الْمَمْدُوحَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ، وَجَوَابُهُ: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَيْ: إِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى بَعْثِهِ لِلنَّاسِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَعَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، وَكَثِيرُهُ عِنْدَ كُبَرَائِهِمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِ الْحَضَارَةِ، وَمَا عِنْدَ أَغْنَى هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَهُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْعُهُودُ وَالْأَيْمَانُ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا مِنْ كِتَابِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَرَادَ حَمْلَ قُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا اسْتَمَالَهُمْ بِهِ فَأَجَابُوهُ إِلَيْهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ أَمَدُّوهُمْ بِالْمَالِ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا بَعْدَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِلَخْ. وَصَدَّ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا فَيُقَالُ: صَدَّ فُلَانٌ عَنِ الشَّيْءِ صُدُودًا بِمَعْنَى أَعْرَضَ عَنْهُ وَانْصَرَفَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَيْهِ، وَمُتَعَدِّيًا فَيُقَالُ: صَدَّهُ عَنْهُ إِذَا صَرَفَهُ وَلَفَتَهُ عَنْهُ وَزَهَّدَهُ فِيهِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ بِالْقُوَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنِيِّينَ هُنَا، أَيْ فَصَدُّوا بِسَبَبِ هَذَا الشِّرَاءِ الْخَسِيسَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ وَصَرَفُوهُمْ عَنْهُ أَيْضًا، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّهُمْ سَاءَ عَمَلُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنِ اشْتِرَاءِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ وَالضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحَقِّ. لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذَا الْكُفْرِ وَالصُّدُودِ، وَالصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَرْعَوْنَ فِي مُؤْمِنٍ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ رَبًّا يُحَرِّمُ الْغَدْرَ، وَلَا قَرَابَةً تَقْتَضِي الْوُدَّ، وَلَا ذِمَّةً تُوجِبُ الْوَفَاءَ اتِّقَاءً لِلذَّمِّ؛ لِأَنَّ ذَنْبَ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ عَهْدًا، وَلَا يَسْتَحِلُّ غَدْرًا، وَلَا يَقْطَعُ رَحِمًا، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالظُّهُورِ وَالْغَلَبِ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَذَاكَ خَاصٌّ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ وَالدِّمَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ لِحُدُودِ الْعُهُودِ مِنْ دُونِكُمْ، وَالْبَادِئُونَ لَكُمْ بِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلُوا فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِيمَا يَأْتِي، وَالْعِلَّةُ فِي اعْتِدَائِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ هُوَ رُسُوخُهُمْ فِي الشِّرْكِ

11

وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ لَا لَكُمْ وَحْدَكُمْ، فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِذًا إِلَّا الرُّجُوعُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَالِاعْتِصَامُ مَعَكُمْ بِعُرْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ. فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ هَذَا بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ فَصَّلَهُمَا تَعَالَى، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، قَالَ: فَإِنْ تَابُوا عَنْ شِرْكِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَنْ يُرِيدُ الْإِيمَانَ أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، وَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ وَخَفْرِ الذِّمَمِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ: فَهُمْ حِينَئِذٍ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ لَهُمْ مَا لَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْكُمْ، وَبِهَذِهِ الْأُخُوَّةِ يُهْدَمُ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَدَاوَةٍ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ أُخُوَّةَ الدِّينِ تَثْبُتُ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا تَثْبُتُ بِغَيْرِهِمَا مِنْ دُونِهِمَا، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ مُدَّةَ الْحَوْلِ، وَالْكَلَامُ فِي جُمْلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهَلْ يَتَعَارَفُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْمَعَاهِدِ، وَبِأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْمُوَاسَاةِ بَيْنَهُمْ، وَلِإِقَامَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ؟ وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ أَوَّلُ مَزِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِلْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، بَعْضُهُمْ حَرْبٌ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ عَهْدٍ أَوْ جِوَارٍ قَلَّمَا يَفِي بِهِ الْقَوِيُّ لِلضَّعِيفِ دَائِمًا وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: وَنُبَيِّنُ الْآيَاتِ الْمُفَصِّلَةَ لِلدَّلَائِلِ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُفَرِّقَةَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا دُونَ الْجَاهِلِينَ مِنْ مُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْمُقَلِّدِينَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.

وَقَرَأَ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ: وَقَالَ رَحِمَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ بَعْدَهُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهُهُ. يَعْنِي بِهَذَا قَوْلَهُ: وَاللهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمَا. وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا كَالشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَرَدَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تَالِيَةً تِلْوَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِيهَا الْأَمْرَ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (5) وَوَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْوَ إِثْبَاتِ رُسُوخِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءً ثُمَّ عَلَى نَقْضِ عُهُودِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِ شَرْطِهَا فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَهَذِهِ أَجْلَبُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَشَدُّ اسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَا عَلَى كُفْرِ كُلٍّ مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَمَانِعِ الزَّكَاةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى اشْتَرَطَ فِيهَا لِتَحَقُّقِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالدُّخُولِ فِي جَمَاعَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَانْتِفَاءُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا جُعِلَتْ شَرْطًا لَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا بِادِّعَاءِ أَنَّ الْعِبَارَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ بِحُصُولِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ دُونَ انْتِفَائِهِ بِانْتِفَائِهَا فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَأَرْجَعَ ذَلِكَ إِلَى مَا زَعَمَهُ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِكَلِمَةِ " إِنْ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُعَلِّقِ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حُصُولًا لَا انْتِفَاءً، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي انْعِدَامَهُ بِانْعِدَامِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّقُ لَازِمًا أَعَمَّ فَيَتَحَقَّقُ بِدُونِ مَا جُعِلَ مَلْزُومًا لَهُ. وَهَذَا مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، فَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ إِلَّا مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَمَا أَوْرَدُوا عَلَى اطِّرَادِهِ مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ ضَعْفُ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ مَا لَهُ سَبَبٌ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِ اللُّغَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (24: 33) بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَهُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ إِكْرَاهِهِنَّ إِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ - وَهُوَ غَفْلَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِكْرَاهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَلَا يُعْقَلُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَهُوَ بَذْلُ الْعِرْضِ، وَبَيْعُ الْبُضْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (4: 31) اسْتَشْكَلَ الْأَشَاعِرَةُ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَكُونُ حُجَّةً لِخُصُومِهِمُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى عَدَمِ مَغْفِرَةِ الْكَبَائِرِ، وَمَا زَالَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْمَذَاهِبِ يَجْنُونَ عَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى نُصُوصِ

التَّنْزِيلِ لِإِبْطَالِ حُجَجِ خُصُومِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْمُعَلِّقَ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ هُنَا أَخَصُّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَمْرَانِ: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ. وَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنِ اشْتِرَاطِ شُرُوطٍ لِلِانْتِقَالِ مَنْ أَمْرٍ إِلَى ضِدِّهِ الْمُسَاوِي لِنَقِيضِهِ، أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِحُصُولِ شُرُوطِهِ، وَإِقَامَةِ أَعْظَمِ أَرْكَانِهِ، وَلَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا؟ أَلَا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي حَالِ النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ نَفْسِهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا حِجَابَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مِمَّنْ صَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا وَأَرَادَ مَعْرِفَتَهَا بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ. وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْطِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ التَّفَصِّي الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ هُوَ إِمَامُ الْجَدَلِيِّينَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَنَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى بَعْضِ جُلَّةِ الْأَفَاضِلِ، وَفَصَّلَهُ بِأَوْسَعَ مِمَّا قَالَهُ الرَّازِيُّ، فَأَرَدْنَا أَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ يَغْتَرُّونَ عَادَةً بِكُلِّ مَبَاحِثِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ، وَالَّذِي دَعَا الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ إِلَى التَّفَصِّي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِانْتِفَاءِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ اسْتِشْكَالُهُ إِيَّاهُ بِالْفَقِيرِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُ، وَبِالْغَنِيِّ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِمُرُورِ الْحَوْلِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ فِي حَالِ عَدَمِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُكْتَفَى مِنْهُ بِأَنْ يُقِرَّ بِحُكْمِهَا وَيَلْتَزِمَهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُشْتَرَطُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْإِذْعَانُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَالِ، وَلِفَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالتَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا أَفْرَادُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُطَالَبُونَ بِكُلٍّ مِنْ فَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَرَضِيَّتِهِمَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِثْلُهُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَكْفِي فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ بِالْإِجْمَالِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ أَيْضًا وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) وَهُوَ لُغَوِيٌّ مَحْضٌ، أَنَّ لَفْظَ أَخٍ أَصْلُهُ أَخَوٌ وَمُثَنَّاهُ أَخَوَانِ، وَفِي لُغَةٍ: أَخَانِ. وَيُجْمَعُ عَلَى إِخْوَةٍ وَإِخْوَانٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ الْقَرِيبِ، أَيِّ الْأُخُوَّةِ مِنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَالنَّسَبِ الْبَعِيدِ كَالْجِنْسِ وَالْقَبِيلَةِ، وَفِي أُخُوَّةِ الرَّضَاعِ، وَأُخُوَّةِ الدِّينِ، وَأُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ، وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِخْوَانِ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ وَمِثْلِهَا فِي الْمَوَالِي فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَجَاءَ فِي أُخُوَّةِ الْكُفْرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (59: 11) إِلَخْ.

12

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ جَمْعِ إِخْوَةٍ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ فَفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (49: 10) وَسَائِرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ. (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ مِمَّا يَحْسُدُنَا عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهِيَ لَا تَزَالُ أَقْوَى فِينَا مِنْهَا فِيهِمْ تَرَافُدًا وَتَعَاوُنًا، وَعَاصِمَةً لَنَا مِنْ فَوْضَى الشُّيُوعِيَّةِ، وَأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا مُنِيَتْ بِهِ شُعُوبُنَا مِنَ الضَّعْفِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ اشْتِرَاكِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوْسَطُ أَحْوَالِهَا مُسَاوَاةُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَأَعْلَاهَا إِيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَنْصَارِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (59: 9) وَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ بِمَا دُونَ الْمُسَاوَاةِ فَقَدْ كَانَتْ عَامَّةً فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ صَارَتْ تَضْعُفُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ هَذَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. نَكْثُ الْغَزْلِ أَوِ الْحَبْلِ ضِدُّ إِبْرَامِهِ، وَهُوَ نَقْضُ فَتْلِهِ، وَحَلُّ الْخُيُوطِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا، وَإِرْجَاعُهَا إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (16: 92) وَالْأَيْمَانُ الْعُهُودُ، يَضَعُ كُلٌّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِلْعَهْدِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، أَوْ مَا يُوَثَّقُ مِنْهَا بِالْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَنَكْثُ الْأَيْمَانِ هُنَا يُقَابِلُ فِيمَا قَبْلَهُ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَالطَّعْنُ فِي دِينِنَا فِي الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ يُقَابِلُ فِيمَا فَرَضَ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ نَكَثَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا أَبْرَمَتْهُ أَيْمَانُهُمْ أَوْ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بَعْدَ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَكُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ: عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي عَابَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ الْمُقَابِلَةَ لِهَذِهِ، وَمِنْهُ الطَّعْنُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ شُعَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَهْدَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِمَاءَهُمْ، فَهَذَا الْعَطْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ، وَنَقْضِ السَّلْمِ وَالْوَلَاءِ، كَالْقِتَالِ وَمُظَاهَرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْيِيدَ حِلِّ قِتَالِهِمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا (9: 4) فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ أَيْ قَادَةُ أَهْلِهِ وَحَمَلَةُ لِوَائِهِ، فَوَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ الْمُبَيِّنَ لِشَرِّ صِفَاتِهِمْ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الكفرِ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَصَنَادِيدُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُودُونَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ مِمَّنْ كَانَ قُتِلَ فِي بَدْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ مِنَ الْغَفْلَةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ

تَبُوكَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَفِي أَثْنَائِهِ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ) ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ تَبْلِيغِهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْخَوَارِجِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ بِجَعْلِ الضَّمَائِرِ فِيهَا رَاجِعَةً إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِلَخْ. وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ: فَقَاتِلُوهُمْ. فَوَضَعَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ إِذَا نَكَثُوا فِي حَالِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا وَطَرْحًا لِعَادَاتِ الْكِرَامِ الْأَوْفِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَصَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَنَكَثُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَعَدُوا يَطْعَنُونَ فِي دِينِ اللهِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَذَوُو الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ، لَا يَشُقُّ كَافِرٌ غُبَارَهُمْ. وَقَالُوا: إِذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا جَازَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْقُودٌ مَعَهُ عَلَى أَلَّا يَطْعَنَ، فَإِذَا طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وَخَرَجَ مِنَ الذِّمَّةِ اهـ. وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمُ الدَّجَّالُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَصْحَابِ الْعُهُودِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِهِمْ. فَكُلُّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ عَدَاوَتِهِمْ بِنَكْثِ عُهُودِهِمْ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ فَيَجِبُ عَدُّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُمْ أَهْلًا لِعَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ أَعْدَى وَأَظْلَمُ مِمَّنْ يَنْكُثُونَ الْأَيْمَانَ، وَذَلِكَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْجَامِعَيْنِ بَيْنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى شُعُوبِنَا وَبِلَادِنَا، وَبَثِّ الدُّعَاةِ فِيهَا لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا، لِصَدِّنَا عَنْهُ، وَاسْتِبْدَالِ دِينِهِمْ بِهِ أَوْ جَعْلِنَا مُعَطَّلِينَ لَا دِينَ لَنَا. وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ أَيْ: إِنَّ عُهُودَهُمْ كَلَا عُهُودَ؛ لِأَنَّهَا مُخَادَعَةٌ لِسَانِيَّةٌ لَمْ يَقْصِدُوا الْوَفَاءَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (48: 11) فَهُمْ يَنْقُضُونَهَا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا ذَلِكَ بِالظُّهُورِ أَوِ الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " إِيمَانَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرُ آمَنَهُ إِيمَانًا بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْأَمَانِ. وَقَرَأَ هُوَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ (أَئِمَّةَ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَلْبُهَا يَاءً فَلَيْسَ قِرَاءَةً وَلَا لُغَةً، بَلْ هُوَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ. كَمَا قَالُوا: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: قَاتِلُوهُمْ رَاجِينَ بِقِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ نَكْثِ أَيْمَانَهُمْ، وَنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَالضَّرَاوَةِ بِقِتَالِكُمْ كُلَّمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ أَوْ إِرَادَةَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مِنْ سَلْبٍ وَكَسْبٍ وَانْتِقَامٍ مَحْضٍ بِالْأَوْلَى، وَتَقَدَّمَ

13

نَظِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (8: 57) وَهَذَا مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْإِسْلَامُ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ وَقَوَانِينهَا مِنْ جَعْلِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ مَنْعِ الْبَاطِل، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ. وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ لَا تَنْعَقِدُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الْوَفَاءُ لِمَنْ وَفَّى بِهَا مِنْهُمْ وَاسْتَقَامَ عَلَى وَفَائِهِ وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نَفَاهَا عَنِ النَّاكِثِينَ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى النَّكْثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَيْمَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَا كَانَ لَهُمْ نَكْثٌ وَقَدْ أَثْبَتَتْهُمَا لَهُمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ. أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَعَلَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّ فِي نَفْسِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كُرْهًا لِقِتَالِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ لِأَمْنِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَرَجَائِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا مَصْلَحَةٍ لِلْإِسْلَامِ، وَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ مَنْ يُزَيِّنُ ذَلِكَ لَهُمْ. وَاللهُ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَطْهِيرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِهِ، وَتَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّفَاقِ وَدَنَاءَاتِهِ، لِهَذَا أَعَادَ الْكَرَّةَ إِلَى إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ النَّاكِثِينَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى قِتَالِهِمْ بِأَوْجَهِ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْوَاهَا، وَأَوْضَحِ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَأَسْمَاهَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي يُحِيلُ النَّفْيَ إِثْبَاتًا كَمَا يُحَوِّلُ الْإِثْبَاتَ إِلَى النَّفْيِ، وَقَدْ دَخَلَ هُنَا عَلَى نَفْيِ الْقِتَالِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَأَقَامَ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ ثَلَاثَ حُجَجٍ (إِحْدَاهَا) نَكْثُهُمْ لِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوهَا، لِتَأْكِيدِ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ - أَوْ لِعَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدَتْهُ أَيْمَانُهُمْ - عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ بِهَا النَّاسُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا فِي دِينِهِمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَكَثُوا بِمُظَاهَرَةِ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَاءٍ يُسَمَّى الْهَجِيرَ، فَكَانَ نَكْثُهُمْ هَذَا مِنْ أَفْظَعِ مَا عُهِدَ مِنَ الْغَدْرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الشِّعْرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ كَانَ جَاءَهُ لِيُنْبِئَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدًا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْرًا أَيَّدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَسْمُو صَعِدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْهَجِيرِ هُجَّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَرْعَى أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ " وَتَجَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْبَغَوَيِّ وَغَيْرِهِ. (ثَانِيَتُهَا) هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ وَطَنِهِ، أَوْ حَبْسِهِ حَيْثُ لَا يَرَى أَحَدًا، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حَتَّى لَا يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِأَيْدِي عُصْبَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شُبَّانِ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، لِيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. ائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ فِي دَارِ نَدْوَتِهِمْ فَكَانَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هَاهُنَا عَلَى ذِكْرِ هَمِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِ دُونَ هَمِّهِمْ بِحَبْسِهِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ الَّذِي كَانَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (8: 30) بَلْ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ وَإِخْرَاجَ مِنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (60: 1) .

(ثَالِثَتُهَا) كَوْنُهُمْ كَانُوا هُمُ الْبَادِئِينَ بِقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ، إِذْ قَالُوا بَعْدَ الْعِلْمِ بِنَجَاةِ الْعِيرِ الَّتِي كَانُوا خَرَجُوا لِإِنْقَاذِهَا: لَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَنُقِيمَ فِي بَدْرٍ أَيَّامًا نَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَى رُءُوسِنَا الْقِيَانُ. وَكَذَا فِي أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ بِغَدْرِهِمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي جَوَامِعِ كَلِمِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَاعِدِ الْعَدْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ وَأَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحُجَجِ: أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ أَيْ أَتَتْرُكُونَ قِتَالَهُمْ خَشْيَةً لَهُمْ، وَجُبْنًا مِنْكُمْ؟ إِنْ كَانَتِ الْخَشْيَةُ هِيَ الْمَانِعَةُ لَكُمْ مِنْ قِتَالِهِمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُ، وَلَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ خَشِيَ غَيْرَهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، فَلَا يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ عَلَى خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى عِصْيَانِهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، بَلْ يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ تَعَالَى عَلَى خَشْيَةِ غَيْرِهِ، بَلْ لَا يَخْشَى غَيْرَهُ حَقَّ الْخَشْيَةِ. قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِامْتِنَاعَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَالِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُمْ بِغَيْرِ جُبْنٍ وَلَا إِحْجَامٍ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي عُنْفُوَانِ قُوَّتِهِمْ دَوْلَةً وَكَثْرَةً وَثَرْوَةً. وَإِنَّمَا هَذَا احْتِجَاجٌ آخَرُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَخْلُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَالسَّمَّاعِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ مَا عَظَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَمْرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَيَكْرَهُونَ الْقِتَالَ لِذَاتِهِ إِذَا لَمْ تُوجِبْهُ الضَّرُورَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (2: 216) الْآيَةَ. أَوْ لِرَجَاءِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ - فَهَذَا الَّذِي اقْتَضَى كُلَّ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى كَوْنِ نَبْذِ عُهُودِ جُمْهُورِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ مَنْ وَفَّى مِنْهُمْ بِعَهْدِهِ حَقًّا وَعَدَلًا، لَا يَتَضَمَّنُ خِيَانَةً وَلَا غَدْرًا، وَأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ - وَهَذِهِ حَالُهُمْ - خَطَرٌ لَا تُؤْمَنُ عَاقِبَتُهُ فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ سَوْقِ تِلْكَ الْحُجَجَ الثَّلَاثِ الَّتِي تَكْفِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِإِيجَابِ قِتَالِهِمْ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ مَنْ سَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَشْيَةَ لَهُمْ وَالْخَوْفَ مِنْ قُوَّتِهِمْ، وَخَشْيَةُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ خَشْيَتِهِمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فِي إِيمَانِكُمْ فَاخْشَوْهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ نَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ، إِذْ كُنْتُمْ

14

ضُعَفَاءَ وَكَانُوا أَقْوِيَاءَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِقَامَةِ هَذِهِ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ، وَدَحْضِ شُبْهَةِ الْمَانِعِ مِنْهُ، صَرَّحَ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ بِهِ مَعَ الْوَعْدِ الْقَطْعِيِّ، بِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَأَتَمَّهُ، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي حَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ لَيْسَ كَالْوَعْدِ الْعَامِّ الْمُجْمَلِ فِي نَصْرِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ تَكُونُ لَهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَبْلَهَا سِجَالًا لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ تَعَالَى مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا. فَقَوْلُهُ: قَاتِلُوهُمْ مَعْنَاهُ: بَاشِرُوا قِتَالَهُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ بِتَمْكِينِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، يُعْقِبُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ يَأْسًا، لَا يَدَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ بَأْسًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ التَّعْذِيبَ إِلَى اسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَسْبَابِهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَمَا يُفْضِيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، وَكُلُّ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ فَإِنَّهُمْ يُصَابُونَ بِالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُقْتَلُ بَعْضُهُمْ وَيُجْرَحُ بَعْضٌ، وَلَا يُسَمُّونَ مُعَذَّبِينَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ وَالْمَغْلُوبَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ فِي أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الْقِتَالِ أَلَمًا نَفْسِيًّا لَعَلَّ أَظْهَرَ أَسْبَابِهِ الْيَأْسُ وَسَلْبُ الْبَأْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُخْزِهِمْ بِذُلِّ الْأَسْرِ وَالْقَهْرِ وَالْفَقْرِ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ النَّصْرِ وَأَتَمَّهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ قُوَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعُودُونَ بِهِ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُمْ بَعْدَ نَصْرِكُمْ عَلَيْهِمْ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَكَانَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ مَوْجِدَةِ الْقَهْرِ وَالذُّلِّ مَا لَا شِفَاءَ لَهُ إِلَّا بِهَذَا النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ غَدَرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَخُزَاعَةَ، وَالَّذِينَ كَانُوا فِي دَارِ الشِّرْكِ عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الَّذِي كَانَ وَقَرَ فِيهَا إِلَى هَذَا الْعَهْدِ مِنْ غَدْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ ظُلْمِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُجِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِالنَّصْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ هُوَ غَيْرُ ذَهَابِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ عَلَى مَنْ غَدَرَهُمْ وَظَلَمَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ كَرَاهَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِهِمْ حِرْصُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْإِقْنَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، أَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ وَالْخِزْيَ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ بِهِمْ لَا يَعُمُّهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَأَحَاطَ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ سَيَتُوبُ مِنْ شِرْكِهِ، وَيَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَقْبَلُهُ مِنْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ فِي حَالِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَيَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فَمَشِيئَتُهُ فِي التَّائِبِينَ وَالْمُصِرِّينَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فِي السُّنَنِ الَّتِي وَضَعَهَا لِسَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَفِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا لِهِدَايَةِ

النَّاسِ. وَمِنْ سُنَنِهِ تَفَاوَتُ الْبِشْرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَابِلِيَّةُ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَدَرَجَاتِ تَأْثِيرِ الشِّرْكِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ مِنْ قُوَّةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِصْرَارُ إِلَى الْمَمَاتِ، وَضَعْفٍ قَابِلٍ لِلزَّوَالِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِمَا يَطْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ إِكْرَاهًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا تَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ، وَلَا مِنَ الْخُلُقِ الْأَنِفِ الَّذِي تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِآيَاتِ التَّنْزِيلِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَلَوْ كَانَ بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ كَانَ بِالْخُلُقِ الْمُسْتَأْنَفِ لَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَابَاةِ فِي التَّفْصِيلِ الْإِلَهِيِّ الْمَحْضِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ. وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يُحَابِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ رَسُولِهِ وَأَبْغَضَهُمْ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ أَخِيهِ فِي الرَّضَاعِ وَعَمِّهِ وَأَبِي سُفْيَانَ الْمُحَرِّضِ الْأَكْبَرِ لِلْعَرَبِ عَلَى قِتَالِهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَخْلُقُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ يَحْرِمُ مِنْهُ أَبَا طَالِبٍ عَمَّهُ وَنَاصِرَهُ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجْبِرَةُ وَمِنْهُمْ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ، وَيَجْرَحُ آخَرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ بِزَعْمِهِمْ عَلَى أَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ لَيْسَتْ إِلَّا آلَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ مُنَاطُ التَّكْلِيفِ اسْمٌ لَا مُسَمَّى لَهُ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (8: 17) فَإِنَّ فِي هَذَا إِثْبَاتًا لِإِسْنَادِ الرَّمْي إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جِهَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِأَخْذِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ فِي جِهَتِهِمْ، مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُ ثُمَّ إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ وَهُوَ وُصُولُ التُّرَابِ إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّ لِهَذَا التَّعْذِيبِ مَعْنًى وَرَاءَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ الَّذِي هُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَلُهُمْ هُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فَوْقَ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْذِيبِ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ كَمَا تَعْلَمُ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِي نُظَّارِهِمْ وَمَا نُقَفِّي بِهِ عَلَيْهِ تَأْيِيدًا لِلْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ إِمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ الْآيَةِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُجْبِرَةِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيْدِي الْكَافِرِينَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ، وَيَلْعَنُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُجْبِرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ مَا ذَكَرَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَأَلْطَافِهِ كَمَا يُضِيفُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ اهـ.

حَكَى عَنْهُ هَذَا الْجَوَابَ الرَّازِيُّ مُدْرِهُ الْأَشَاعِرَةِ فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَهُ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِمَا خُلَاصَتُهُ أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ كُلَّ مَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ اعْتِقَادًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْطِقُونَ بِهِ أَدَبًا مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَالرَّازِيُّ جَبْرِيٌّ قُحٌّ، وَلَا يَلْتَزِمُ كُلُّ الْأَشَاعِرَةِ مَا يَلْتَزِمُهُ، وَيُسْنِدُهُ إِلَيْهِمْ، فَهَذَا الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ فَحُولِهِمْ يُفَسِّرُ تَعْذِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ تَفْنِيدُ الْمَذْهَبَيْنِ، وَبَيَانُ أَنَّ خَلْقَهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُنَافِي خَلْقَهُ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ لِلْعِبَادِ فِيمَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هُنَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْمُجْبِرَةِ فِي جُمْلَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ أَقْوَى مِنْهَا فِي كُلِّ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الْجَبْرِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 63 و64) وَفَهْمُ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَخْتَلِفُ التَّعْبِيرُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي ضَلَّتِ الْفِرَقُ بِنَظَرِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى إِحْدَاهَا دُونَ الْأُخْرَى مُطْلَقًا، أَوْ جَعْلِهَا مَا وَافَقَ مَذْهَبَهَا أَصْلًا يَرُدُّ غَيْرَهُ إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا، وَمَثَلُ الْجَبْرِيَّةِ مَعَ الْقَدَرِيَّةِ هُنَا كَمَثَلِ الْمُرْجِئَةِ مَعَ الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (15: 91) وَضَرَبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. وَالَّذِي حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِرَارًا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ، وَبِالْمِئَاتِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ لِلنَّاسِ أَفْعَالًا يَأْتُونَهَا بِإِرَادَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ تُسْنَدُ إِلَيْهِمْ، وَيُشْتَقُّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَهُمْ، وَيَسْتَحِقُّونَ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ، كَمَا أَعْطَاهُمُ الْأَعْضَاءَ وَالْحَوَاسَّ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَهُوَ يُسْنِدُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَيَصِفُهُمْ بِهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي هَذَا الْإِسْنَادَ أَوِ الْوَصْفَ، وَيُسْنِدُ بَعْضَهَا إِلَى ذَاتِهِ وَإِلَى مَشِيئَتِهِ، وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَصْفُهُ مِنْهَا فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 64) قَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ (48: 29) وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَوَصْفُ الزَّارِعِ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى، وَلَا فِي صِفَاتِهِ مُسْتَقِلًّا. كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِأَمْثَالِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَأَخَصِّ أَفْعَالِ الضَّعْفِ وَالنَّقْصِ كَالنَّوْمِ وَالتَّعَبِ وَالْأَلَمِ، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى بَعْضُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي لَا نَقُصُّ فِيهَا بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (56: 58 و59) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فَاسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِخَلْقِهِ لِلْمَنِيِّ الَّذِي يُولَدُونَ مِنْهُ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ إِخْرَاجِهِ بِالْجِمَاعِ وَإِلَى ذَاتِهِ خَلْقَ

مَادَّتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالنَّبَاتِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ حَرْثَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ زَرْعَهُ، أَيْ إِنْبَاتَهُ وَجَعْلَهُ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، فَيَتَوَلَّدُ ذَلِكَ الْمَنِيُّ مِنْهُ بِدُونِ فِعْلٍ لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ بِالْمَاءِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ شُرْبَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْزَالَهُ، ثُمَّ بِالنَّارِ الَّتِي يُعَالِجُونَ بِهَا طَعَامَهُمُ الْمُؤَلَّفَ غَالِبًا مِنَ النَّبَاتِ وَالْمَاءِ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِيرَاءَهَا وَإِيقَادَهَا بِحَكِّ الزَّنْدَيْنِ مِنْ شَجَرَتِهَا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْشَاءَ الشَّجَرَةِ. فَعُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 64) ؟ الْإِنْبَاتُ لِمَا يُزْرَعُ حَتَّى يَصِيرَ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، وَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، لِتُقَرِّبَ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْفِي عَنْهُمْ فِعْلَ زَرْعِ الْحُبُوبِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَحْرُثُونَهَا، وَيُثْبِتُهَا لِذَاتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ أَيْدِيَهُمْ بِفِعْلِ الزَّرْعِ بِدُونِ إِرَادَةٍ لَهُمْ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَمَا يُحَرِّكُ الدَّمَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَيُحَرِّكُ أَعْضَاءَ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنَ الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ فِي هَضْمِ طَعَامِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مُنْبِتَةً مَا يَبْذُرُونَهُ فِيهَا، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْحَبَّ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ، وَسَخَّرَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَزْرَعُوا، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُزِيلُ مَوَانِعَ الْإِنْبَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الزَّرْعَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ بَعْدَ زَرْعِهِ وَنَبَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (56: 65 - 67) وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ مِمَّا يُجْعَلُ حُطَامًا فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَالَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَاصِلُ مِنْهُ الَّذِي يُؤْكَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ " تَزْرَعُونَهُ " بِقَوْلِهِ: تُنْبِتُونَهُ. وَبِهِ أَخَذَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُهُ لَهُ بِمَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَأَنْتُمْ تُصَيِّرُونَهُ زَرْعًا أَمْ نَحْنُ نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ؟ اهـ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَرُوَاتِهِ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ، وَكَذَلِكَ فُحُولُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَعُقُولِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الزَّرْعَ أُطْلِقَ عَلَى غَايَتِهِ وَهُوَ إِخْرَاجُ نَبْتِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، لَا عَلَى بَدْئِهِ الَّذِي هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِيهَا. وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ غَايَةُ الْقِتَالِ، وَفَائِدَتُهُ وَهُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، لَا مَبْدَؤُهُ وَهُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (8: 17) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ج9) عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ إِيجَادُ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ بِالْأَلَمِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ مِنْ آيَةِ الْأَنْفَالِ عَنِ الْجَبْرِ وَأَهْلِهِ، وَلِلْعَذَابِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ - خَطَرَ لَنَا الْآنَ - وَهُوَ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمَ مِنَ الْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ يَكُونُ لِبَعْضِهَا تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا تَتَهَذَّبُ بِهِ أَفْرَادُهَا، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُهَا ،

16

وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى رَحْمَةً لَا عَذَابًا، وَيَكُونُ لِبَعْضٍ آخَرَ نِقْمَةً وَقِصَاصًا عَادِلًا يُمْحَى بِهِ بَاطِلُ الْجَمَاعَةِ، وَيُمْحَقُ بِهِ طُغَاتُهَا الْفَاسِدُونَ وَالْمُفْسِدُونَ، وَهُوَ الْجَدِيرُ بِاسْمِ الْعَذَابِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ هُنَا بِجَعْلِهِ عَاقِبَةَ الْقِتَالِ لِمَنْ يُقْتَلُ فَقَطْ، دُونَ مَنْ يَتُوبُ وَيُؤْمِنُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ كَانَ الْأَكْثَرَ. وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ وَصْفِ أَكْثَرِهِمْ بِالْفِسْقِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَالَ أَكْثَرِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ تَرْبِيَةِ مَجْمُوعِهِمْ بِالْقِتَالِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَعْذِيبَ اللهِ إِيَّاهُمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (8: 33) وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ الْمَنْفِيِّ هُنَالِكَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَحَلَّ لِلِاسْتِشْكَالِ؛ لِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَعَدَ تَعَالَى هُنَا بِتَعْذِيبِهِمْ كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ بَيْنَ مُشْرِكِيهَا حِينَ قَالُوا: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8: 32) يَعْنُونَ عَذَابًا كَعَذَابِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبُوا جُحُودًا وَعِنَادًا، وَخَوَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي نَفَى اللهُ وُقُوعَهُ كَمَا قَالَ الْمُسْتَشْكِلُ هُنَا حَيْثُ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِشْكَالِ، فَإِنَّ التَّعْذِيبَ هُنَالِكَ نِقْمَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَا كَانَ لِيَقَعَ عَلَى قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ انْتِقَامٌ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا هُوَ رَحْمَةٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمَجْذُومِ مِنَ الْجَسَدِ لِأَجْلِ سَلَامَةِ جُمْلَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي حِكْمَةِ مَا لَقُوا مِنَ الشَّدَائِدِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (3: 141) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ قَدْ صَارُوا سَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْجِهَادُ الَّذِي ذَاقُوا شِدَّتَهُ وَآلَامَهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مَا صَارُوا أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ فِي الْحَثِّ عَلَى جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، لِتَطْهِيرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَطُغْيَانِهِ وَخُرَافَاتِهِ، وَإِصْرَارِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ عَلَى عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُوَاصَلَةِ مَا بَدَءُوا بِهِ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَقِتَالِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إِلَى حَدِّ الْفَصْلِ التَّامِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ

الْحُجَجُ النَّاصِعَةُ عَلَى كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ فِي هَذَا الْقِتَالِ، الَّتِي لَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ لَحَكَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِالتَّفْصِيلِ الْمُسْهِبِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ، وَإِنَّنِي لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ سِيَاقٌ فِيهِ مِنَ الْإِسْهَابِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ مِثْلَ مَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَلَمْ أَرَ فِيمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاسِيرِ مِنْ سَبْقٍ إِلَى مَا وَفَّقَنِي تَعَالَى لَهُ مِنْ بَيَانِ نُكْتَتِهِ، وَالْإِفْصَاحِ بِحِكْمَتِهِ، وَالتَّكْرَارُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ إِقْنَاعِ الْعَقْلِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْوِجْدَانِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ فِي بَيَانِ حَالِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَشَأْنِهِمْ فِي الْجِهَادِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَمَحُصُّهُمْ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَالْهَوَادَةِ فِي حُقُوقِ الْإِسْلَامِ. وَيَقُولُ الْجُمْهُورُ: إِنَّ (أَمْ) فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا تَحْوِيلُ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ بَيَانِ مَا يُوجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ الْكَافِرِينَ مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ لِمَحْضِ عَدَاوَةِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ نِكْثِهِمْ لِلْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ بَعْدَ إِبْرَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ - وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا لَهُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْجِهَادِ الْحَقِّ لِلْمُشْرِكِينَ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ (2: 214) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ (أَمْ) فِيهَا لِمَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ، مُرَاعًى فِيهَا مُعَادَلَتُهُ لِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِضْرَابِ شَيْءٌ. ثُمَّ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (3: 142) وَرَأَيْنَا أَبَا جَعْفَرِ بْنَ جَرِيرٍ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِفْهَامٍ آخَرَ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْمَعْلُومِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهُ بِالطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْوَلِيجَةُ مَا يَلِجُ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْمِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ كَالدَّخِيلَةِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ - وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى وَلَائِجَ - وَيَشْمَلُ السَّرِيرَةَ الْفَاسِدَةَ وَالنِّيَّةَ الْخَبِيثَةَ، وَبِطَانَةَ السُّوءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَّخَذُ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ بَقِيَّةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: هَلْ جَاهَدْتُمِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَمِنْتُمْ عَوْدَتَهُمْ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَمِنْتُمْ نَكْثَ مَنْ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ لِأَيْمَانِهِمْ كَمَا نَكَثُوا مِنْ قَبْلُ؟ وَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الطَّعْنَ فِي دِينِكُمْ وَصَدَّ النَّاسِ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ؟ وَهَلْ نَسِيتُمْ مَا اعْتَذَرَ بِهِ

الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُلَفَّقَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خُبْثِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَكُمْ إِلَيْهَا، وَتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاكُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فَضَحَتْهُمْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَشَأْنُكُمْ بِغَيْرِ امْتِحَانٍ وَلَا افْتِتَانٍ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيكُمْ إِلَى الْآنِ مَا يَمْتَازُ بِهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أَيْ: وَلَمْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ دَخِيلَةً، وَبِطَانَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ تَعَالَى بِالشِّرْكِ بِهِ، وَيُحَادُّونَ رَسُولَهُ بِالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَيُقَاتِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ، يُطْلِعُونَ أُولَئِكَ الْوَلَائِجَ عَلَى أَسْرَارِ الْمِلَّةِ، وَيَقِفُونَهُمْ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِيكُمْ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (3: 118) عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ الصَّادِقِينَ، وَتَمَيُّزِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ بِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ بُرْهَانٌ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ أَوْ وُجُودِهِ، وَلَا يُوجِدُ هَؤُلَاءِ مُمْتَازِينَ ظَاهِرِينَ إِلَّا بِمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالشَّدَائِدِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (29: 1 - 3) . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدْ تَوَدَّدَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ بِهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ لِعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، لِيُكَافِئُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا كَانَ لَهُ لَدَيْهِمْ فِي مَكَّةَ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَ مِثْلِ حَاطِبٍ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَا فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ كَرَاهَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ سَبَبِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ دَسَائِسُ يُلْقِيهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَصْدِقَاءٍ لَهُمْ أَوْ أُولِي قُرْبَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، ذَكَّرَ بِهِ الْغَافِلَ، وَأَنْذَرَ بِهِ الْمُنَافِقَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ وَلَيَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنْهُمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ بـ " لَمَّا " الدَّالُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْمَنْفِيِّ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِخَفَايَا مَا تَعْمَلُونَ الْآنَ وَبَعْدَ الْآنِ مُحِيطٌ بِدَقَائِقِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْأَنْفُسِ هُوَ الَّذِي يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَيُطَهِّرُ السَّرَائِرَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ

17

مَعْدِنِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْرِزُ السَّرَائِرَ الْخَبِيثَةَ، وَيُظْهِرُ سُوءَ مَعْدِنِهَا، وَ " الْوَاوُ " فِي الْجُمْلَةِ حَالِيَّةٌ أَيْ أَحَسِبْتُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّ تُتْرَكُوا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ هَذَا التَّمْحِيصُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي جِهَادِهِمْ وَالْكَاذِبِينَ مِنْ فَاسِدِي السَّرِيرَةِ، وَمُتَّخِذِي الْوَلِيجَةِ، وَهُوَ إِلَى الْآنَ لَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللهُ هُوَ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى آيَاتِ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ الْوُقُوفَ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مُسْلِمِي عَصْرِنَا، وَمُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ لِلْحُرُوبِ - عَلَى مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْعُدْوَانِ وَالشُّرُورِ - فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ فِي تَرْقِيَةِ الْأُمَمِ، وَرَفْعِ شَأْنِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا، وَنَاهِيكَ بِالْحَرْبِ إِذَا الْتُزِمَ فِيهَا مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَمُرَاعَاةِ قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ. كَاحْتِرَامِ الْعُهُودِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ، وَتَقْدِيرِ الضَّرُورَةِ فِيهَا بِقَدْرِهَا، وَوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ قَبْلَهَا، وَكَذَا آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَالِاجْتِمَاعِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْصِفِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ حَكِيمٌ كَبِيرٌ مِنْهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ. مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ لِلتَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (وَمَا بَعَدَهُمَا إِلَى الْآيَةِ 22) وَمَا قَبْلَهُمَا وَجْهٌ

وَجِيهٌ وَاضِحٌ وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَأَمْثَالُهُمَا مِمَّنْ يَعْنُونَ بِالْغَوْصِ عَلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ، وَهَاكَ بَيَانُهُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (3: 69) وَقَالَ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (2: 125) وَقَصَّ عَلَيْنَا تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَبَرَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمَا كَانَا يَدْعُوَانِ بِهِ عِنْدَ رَفْعِ قَوَاعِدِهِ مِنْ جَعْلِهِمَا مُسْلِمَيْنِ لَهُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَهُ، وَبَعْثِ رَسُولٍ مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُمَا كُلَّهُ فَكَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً مُوَحِّدَةً لَهُ تَعَالَى تُقِيمُ دِينَهُ فِي بَيْتِهِ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا أَمَرَ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَطَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ، وَتَرَكَ جَمَاهِيرُهُمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةَ، حَتَّى بَعَثَ فِيهِمْ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، تَكْمِلَةً لِدَعْوَةِ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَاوَمَ الْمُشْرِكُونَ دَعَوْتَهُ، وَصَدُّوهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِجِوَارِهِ، ثُمَّ مَا زَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ هِجْرَتِهِمْ إِلَى أَنْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَدَالَ لِلتَّوْحِيدِ مِنَ الشِّرْكِ، وَلِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ. فِلَمَّا زَالَتْ وِلَايَةُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَطَهَّرَهُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، بَقِيَ أَنْ يُطَهِّرَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَهَا فِيهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْوَجْهَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِينَ أَحَقَّ بِهِمْ، فَلَمَّا آذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنْ يَتْلُوَ أَوَائِلَ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) عَلَى مَسَامِعِ وُفُودِهِمْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْبَلَاغِ الْعَامِّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الشِّرْكِيَّةَ سَتُمْنَعُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ بِالتَّبَعِ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمُ الْعَارِضَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ وَأَعْوَانُهُ يُنَادُونَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَإِنَّمَا أَمْهَلَهُمْ إِلَى مَوْسِمِ السَّنَةِ التَّالِيَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ لِسَبَبَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَصْحَابُ عَهْدٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ أَلَّا يُمْنَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَهَمِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَأَمْهَلَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ عُهُودِهِمْ بِنَبْذِ مَا جَازَ نَبْذُهُ، وَإِتْمَامِ مَا وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِعْلَامُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا فِي مَوْسِمِ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى: (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ مَنْعُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ فِي مَوْسِمَيِ الْعَامَيْنِ الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ بِدُونِ قِتَالٍ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمُقْتَضَى التَّقَالِيدِ يَأْتُونَ لِلْحَجِّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُسْلِمِ، وَلَا الْمُعَاهِدِ وَغَيْرِ الْمُعَاهِدِ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ، وَشُرُوعِهِمْ فِي الطَّوَافِ فِيهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فِيهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَرَمِ - وَالْقِتَالُ مُحَرَّمٌ فِيهِ؟ وَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ

نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ؟ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْعَ عِبَادَةِ الشِّرْكِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِبْطَالَ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَدَّعُونَهُ وَيَفْخَرُونَ بِهِ مَنْ حَقِّ عِمَارَتِهِ الْحِسِّيَّةِ وَإِيئَاسِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا، كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ نَبْذِ عُهُودِهِمْ، وَمِنَ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الْإِسْلَامِ إِعْلَامُهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَكْفِي لِعِلْمِ الْجَمَاهِيرِ مِنْهُمْ بِهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَفَسَّرَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، فَحَسُنَ أَنْ يُوضَعَ هُوَ وَمَا يَتْلُوهُ بَعْدَ آيَاتِ ذَلِكَ النَّبْذِ وَالْأَذَانِ، وَمَا تَلَاهُ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقِتَالِ بَعْدَ عَوْدِ حَالَتِهِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعُهُودِ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ وَسَيَأْتِي النَّهْيُ عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ (28) قَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ النَّفْيُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَظَائِرِهِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمَسَاجِدُ: جَمْعُ مَسْجِدٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَكَانُ السُّجُودِ، وَقَدْ صَارَ اسْمًا لِلْبُيُوتِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (72: 18) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ (مَسْجِدَ اللهِ) بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَهُمْ أَكْبَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَآخَرُونَ (مَسَاجِدَ اللهِ) بِالْجَمْعِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِفْرَادِ إِرَادَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفْرَدُ الْعَلَمُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَكُلُّهَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَسَاجِدِ جِنْسُهَا الَّذِي يَصْدُقُ بِأَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ يَخْدِمُ الْمُلُوكَ وَإِنْ لَمْ يَخْدِمْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَفُلَانٌ يَرْكَبُ الْبَرَاذِينَ أَوِ الْحَمِيرَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، وَمِنْهُ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (16: 8) عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَيْضًا وَعَلَّلُوهُ بِقَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا قَالَ: (مَسَاجِدَ) ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَكِيكٌ، وَيَقْتَضِي أَنَّ النَّفْيَ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَنْعِ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا. وَتَفْسِيرُهُ الْمُفْرَدَ بِالْجَمْعِ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ بِالْإِضَافَةِ أَصَحُّ لَفْظًا وَمَعْنًى لَوْلَا أَنَّهُمَا تَكْرَارٌ لَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ: فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مَقْصُودٌ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ مَعَ الْجَمْعِ التَّنْوِيهُ بِمَكَانَتِهِ، وَكَوْنِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَسَبَبَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ لُزُومُهُ، وَالْإِقَامَةُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ لِخِدْمَتِهِ بِالتَّرْمِيمِ وَالتَّنْظِيفِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِبَادَةُ اللهِ فِيهِ، وَزِيَارَتُهُ لِلْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: عَمَرَ الرَّجُلُ مَالَهُ وَبَيْتَهُ يَعْمُرُهُ (بِالضَّمِّ) عِمَارَةً وَعُمُورًا وَعُمْرَانًا لَزِمَهُ. . . . يُقَالُ لِسَاكِنِ الدَّارِ: عَامِرٌ وَالْجَمْعُ عُمَّارٌ (وَهُنَا ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَالْمَعْمُورُ الْمَخْدُومُ) ثُمَّ ذَكَرَ:

18

عَمَرَ الرَّجُلُ اللهَ بِمَعْنَى عَبَدَهَ، قَالَ: وَالْعِمَارَةُ (بِالْكَسْرِ) مَا يَعْمُرُ بِهِ الْمَكَانُ، وَالْعُمَارَةُ (بِالضَّمِّ) أُجْرَةُ الْعِمَارَةِ. (قَالَ) وَالْعُمْرَةُ (بِالضَّمِّ) طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَعْرُوفَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَهُوَ الزِّيَارَةُ وَالْقَصْدُ. . . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ زِيَارَةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِالشُّرُوطِ الْمَخْصُوصَةِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا أَعْلَمُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ، وَلَكِنْ عَمَرَ اللهَ إِذَا عَبَدَهُ، وَعَمَرَ فُلَانٌ رَكْعَتَيْنِ إِذَا صَلَّاهُمَا، وَهُوَ يَعْمُرُ رَبَّهُ يُصَلِّي وَيَصُومُ اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعِمَارَةُ نَقِيضُ الْخَرَابِ يُقَالُ: عَمَرَ أَرْضَهُ يَعْمُرُهَا. قَوْلُهُ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ (9: 18) إِمَّا مِنَ الْعِمَارَةِ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الْبِنَاءِ أَوْ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَارَةُ أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَمَرْتُ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَمْتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَمَرْتُ الْمَكَانَ وَعَمَرْتُ بِالْمَكَانِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ فَلْيُتَحَرَّ. فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ تُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى النُّسُكِ الْمَخْصُوصِ الْمُسَمَّى بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى لُزُومِهِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ لِخِدْمَتِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَلَى بُنْيَانِهِ وَتَرْمِيمِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُرَادٌ هُنَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ عَيَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ عَلِيٌّ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا، وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّنَا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَخْ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ وَيَفْخَرُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِأَجْلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَلْ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَا مِنْ شَأْنِهِمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ شِرْكُهُمْ، أَوِ الَّذِي يَشْرَعُهُ أَوْ يَرْضَاهُ اللهُ مِنْهُمْ أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ الْأَعْظَمَ وَبَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ لَهُ، وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَزُورُوهُ حُجَّاجًا

أَوْ مُعْتَمِرِينَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ سَائِرِ مَسَاجِدِهِ كَذَلِكَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَإِنَّ عِمَارَةَ مَسَاجِدِ اللهِ الْحِسِّيَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِعِمَارَتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ بِعِبَادَتِهِ فِيهَا وَحْدَهُ، وَلَا تَصِّحُ وَلَا تَقَعُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدِ لَهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْكُفْرِ بِهِ، وَأَيُّ كُفْرٍ بِاللهِ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ مِنَ الشِّرْكِ بِهِ وَمُسَاوَاتِهِ بِبَعْضِ خَلْقِهِ فِي الْعِبَادَةِ؟ وَهُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالِاسْتِشْفَاعِ بِهَا، وَالسُّجُودِ لِمَا وَضَعُوهُ فِي الْبَيْتِ مِنْهَا عَقِبَ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِهِمْ فِيهِ، وَأَيُّ اعْتِرَافٍ بِهِ أَصْرَحُ مِنْ نَصِّ تَلْبِيَتِهَا لَهُ تَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَكَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْضًا، وَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، كَفَرَ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ جُحُودًا وَعِنَادًا وَتَبِعَهُمْ دَهْمَاؤُهُمْ خُضُوعًا لَهُمْ وَتَقْلِيدًا، وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جُحُودِهِمْ آيَةُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِنَادِهِمْ آيَةُ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8: 32) . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَاهِدِينَ إِلَخْ. قَيْدٌ لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِعِلَّتِهِ، وَالْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ نَفْسُ الْكُفْرِ لَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَنُكْتَةُ تَقْيِيدِهِ بِهَا بَيَانُ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ مُعْتَرَفٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا الْكُفَّارَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعِمَارَةِ الْحِسِّيَّةِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا، كَأَنْ يَكُونَ نَاظِرُ الْمَسْجِدِ وَأَوْقَافِهِ كَافِرًا، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ لَا وِلَايَةَ فِيهِ، كَنَحْتِ الْحِجَارَةِ، وَالْبِنَاءِ وَالنِّجَارَةِ، فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشَّأْنِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا لَهَا، وَالدَّلَالَةُ فِيهِ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَالْأَفْرَادِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ لَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. (قُلْتُ) : إِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فَسَّرْنَا بِهِ نَفْيَ الشَّأْنِ، وَلَا مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا مِثْلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِمَا ضَرَرٌ آخَرُ دِينِيٌّ وَلَا سِيَاسِيٌّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ عَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِتَرْمِيمِ مَا كَانَ تَدَاعَى أَوْ ضَعُفَ مِنْ بِنَائِهِ أَوْ بَذَلُوا لَهُمْ مَالًا لِذَلِكَ لِمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ الْيَهُودُ الْعَمَلَ

لِمَا عُلِمَ مِنْ طَمَعِهِمْ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَالتَّوَسُّلِ لَهُ بِمَا يَجْعَلُونَهُ ذَرِيعَةً لِادِّعَاءِ حَقٍّ مَا لَهُمْ فِيهِ، عَلَى كُفْرِهِمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكِتَابَيْهِمَا، وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ بِاللهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَفْخَرُونَ بِهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَقِرَى الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، أَيْ: بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ وَهُوَ - بِالتَّحْرِيكِ - أَنْ تَأْكُلَ الْبَهِيمَةُ حَتَّى تَنْتَفِخَ وَيَفْسَدَ جَوْفُهَا. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (39: 65) وَوَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (6: 88) وَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (18: 105) . وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ أَيْ: وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْعَذَابِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ دُونَ غَيْرِهَا إِقَامَةَ خُلُودٍ وَبَقَاءٍ، لِكُفْرِهِمُ الْمُحْبِطِ لِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا أَثَرَ لَهَا فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحَاطَةِ خَطِيئَاتِهِمْ بِهَا وَتَدْسِيَتِهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَدْنَى اسْتِعْدَادٍ لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ - وَمَا ثَمَّةَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (42: 7) . إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْمُشْرِكِينَ لِعِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللهِ أَثْبَتَهَا لِلْمُسْلِمِينَ الْكَامِلِينَ، وَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّأْنِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْإِيجَابِ، وَهُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْعِبَادَ، وَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، وَبَيْنَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَتَدَبُّرِ تِلَاوَتِهَا وَأَذْكَارِهَا الَّتِي تُكْسِبُ مُقِيمَهَا مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى وَحُبَّهُ، وَالْخُشُوعَ لَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ - وَإِعْطَاءِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَقْدٍ وَزَرْعٍ وَتِجَارَةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ خَشْيَةِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ رَجَاءً فِي نَفْعِهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَشْيَةِ الدِّينِيُّ مِنْهَا دُونَ الْغَرِيزِيِّ كَخَشْيَةِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي خَشْيَةَ اللهِ، وَلَا يَقْتَضِي خَشْيَةَ الطَّاغُوتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ رَضِيَ النَّاسُ أَمْ سَخِطُوا.

فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَيْ: فَأُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخَمْسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي يَلْزَمُهَا سَائِرُ أَرْكَانِهَا هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ بِحَقٍّ، أَوْ يُرْجَى لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِهِمْ، أَنْ يَكُونُوا مِنْ جَمَاعَةِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْجَامِعِينَ لِأَضْدَادِهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالطَّاغُوتِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ، الَّذِينَ دَنَّسُوا مَسْجِدَهُ الْحَرَامَ بِالْأَصْنَامِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً كَعَبَثِ الْأَطْفَالِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (8: 34 - 36) فَشُرُورُ هَؤُلَاءِ وَضَلَالُهُمْ وَطُغْيَانُهُمُ الَّتِي هِيَ لَوَازِمُ الشِّرْكِ تُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ حَسَنٍ عَمِلُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ. كَلِمَةُ " عَسَى " تُفِيدُ الرَّجَاءَ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى " لَعَلَّ " أَيْ لِلرَّجَاءِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَعَلَّ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ لِلْمُخَاطَبِ بِهَا، فَالرَّجَاءُ هُنَا مَا يَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ بِالْفِعْلِ أَوِ الشَّأْنِ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا كَوْنُ الرَّجَاءِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى وَلَا يَرْجُو، وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ ظَنٌّ بِحُصُولِ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ وَاتُّخِذَتْ وَسَائِلُهُ مِنْ مُبْتَغِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِحُصُولِهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ، وَأَلَّا تُعَارِضَهَا الْمَوَانِعُ الَّتِي تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْمُقْتَضَى، كَالزَّارِعِ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْحَبَّ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَعَاهَدُ زَرْعَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَزْقٍ وَسَقْيٍ وَسَمَادٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَظْنُونِ الرَّاجِحِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الْجَوَائِحِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ مَثَلًا. وَكَذَلِكَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُسْتَطَاعِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ بِذَلِكَ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَرَفْعَهَا إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ لِمَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَشَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ عَدَمِ الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا، وَالْخَيْرُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي يَبْعَثُهُ عَلَى التَّشْمِيرِ، وَأَنْ يُرَجِّحَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءَ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلَا سِيَّمَا مَرَضُ الْمَوْتِ، وَمَنْ أَرَادَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَسْعَ لَهَا سَعْيَهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لَهَا فَهُوَ مِنَ الْحَمْقَى أَصْحَابِ الْأَمَانِيِّ لَا مِنْ أَصْحَابِ الرَّجَاءِ، فَهُوَ

كَمَنْ أَحَبَّ أَنْ تُنْبِتَ لَهُ أَرْضُهُ غَلَّةً حَسَنَةً كَثِيرَةً وَلَمْ يَزْرَعْهَا. . . إِلَخْ. فَسُنَّةُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ " عَسَى " هُنَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَالُوا: إِنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لِلْإِيجَابِ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَقُّعِ وَالظَّنِّ وَعَنِ الْإِطْمَاعِ فِي الشَّيْءِ، وَإِخْلَافِهِ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ، وَرَوَوْا هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ (5: 52) وَقَوْلُهُ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (60: 7) فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ وَعْدٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَسَى: إِبْهَامُهُ وَعَدَمُ إِعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ رَأَى أَنَّ هَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى مَا فَسَّرَ بِهِ " عَسَى " هُنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَدَمُ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ وُقُوعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَادَوْهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَهُوَ مَرْجُوٌّ وَمُتَوَقَّعٌ فِي نَفْسِهِ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيَحْسِبُوا لَهُ حِسَابًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى " لَعَلَّ " فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: الْإِعْدَادُ لِمُتَعَلَّقِهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ رَاجِعْ (ص155 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 ط الْهَيْئَةِ) . وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ وَصْفَ عَمَارِ الْمَسَاجِدِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْرَعُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ بِهِ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ، فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ، وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يُشْغَلُ بِالنَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَيَانُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الَّذِي يَقُومُ أَهْلُهُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِالْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِّ فِيهَا، وَهَذِهِ أُسُسُهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهَا مَدَارُ النَّجَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (2: 62) وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ أَرْكَانِهِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُجَرَّدِينَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ قَبُولَهَا كُلَّهَا، أَوْ مَا عَدَا الْبَاطِنَ مِنْهَا، وَهُوَ الْخَشْيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ

وَالزَّكَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ - وَخَشْيَةُ اللهِ وَحْدَهُ أَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ، وَلَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بِدُونِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُهَا، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ فَرَائِضِهَا، وَمِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ لَهَا، وَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ لَا يَبْنِي الْمَسَاجِدَ حَقٌّ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ: إِنَّ الَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا وَذَاكَ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي، وَإِنَّمَا يَبْنِيهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَوْ لِيَجْعَلَ فِيهِ أَوْ فِي قُبَّةٍ بِجَانِبِهِ قَبْرًا لَهُ يُذْكَرُ بِهِ اسْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُسَاعِدُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَلَا يُؤَدِّي جَمِيعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُرَاءٍ يَبْتَغِي بِإِنْفَاقِهِ السُّمْعَةَ وَالصِّيتَ الْحَسَنَ لَا مَثُوبَةَ اللهِ وَمَرْضَاتَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا بَنَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَامَهُ النَّاسُ قَالَ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ كَابْتِدَائِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ بِدُونِ وَصْفٍ لِلْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ بِلَفْظِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا أَوْسَعَ مِنْهُ وَبِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - وَأَنْ تُطَيَّبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَيْ تَكْنِسُهُ فَمَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَاتَتْ فَقَالَ: " أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟ " أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي بِمَوْتِهَا لِأُصَلِّيَ عَلَيْهَا دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا " فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضِ السُّنَنِ أَيْضًا أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَأَى نُخَامَةً فِي الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا، وَرُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْقَذَرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهُ وَاجِبٌ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الْقَذَرِ بِالطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ. وَمِنْهَا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَلَاةُ الْجَمِيعِ - وَفِي رِوَايَةٍ - الْجَمَاعَةُ تَزِيدُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصِلَاتِهِ فِي سُوقِهِ

خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُؤْذِ بِحَدَثٍ أَيْ بِحَدَثٍ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَمِنْهُ رَائِحَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوُهُمَا كَالدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ الرَّائِحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرِيَّةُ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالْحَنَابِلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا ذُكِرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا جَمَاعَةَ فِيهَا كَأَوَّلِ النَّهَارِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذْ تَزُولُ الرَّائِحَةُ فِي الْغَالِبِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَقَبْلَ الْفَجْرِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ إِزَالَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَطِّرَةِ كَأَقْرَاصِ النَّعْنَعِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ الْعِطْرِيَّةِ الَّتِي تُمْتَصُّ لِتَطْيِيبِ الْفَمِ. وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهمْ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهَا خَضْرَوَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ: " قَرِّبُوهَا " (وَأَشَارَ) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: " كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صُنِعَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ هُوَ ضَائِفُهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ فِيهِ ثُومٌ (لَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ) وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ " وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ " الثُّومِ " وَالنَّاسُ جِيَاعٌ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ

أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَتَلَا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعِمَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَافِظَ الذَّهَبِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَمُنْكَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (9: 28) . أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ تَكْمِلَةٌ لِمَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَقِّ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِنَوْعَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَفْخَرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِمَارَتِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ فِيهِ، وَإِنْ قَامَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ. وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. (فَدَخَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَاسْتَفْتَاهُ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ

19

مَكَّةَ فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: أَيْ عَمِّ أَلَا تُهَاجِرُ؟ أَلَا تَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَعْمُرُ الْمَسْجِدَ وَأَحْجُبُ الْبَيْتَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ (أَيِ الْأَسِيرَ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ. وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ مَعِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ كُلَّهَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَقَائِعٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا. وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ؛ لِصِحَّةِ سَنَدِهِ وَمُوَافَقَةِ مَتْنِهِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا فِي الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَحُجَّاجِهِ - مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْبَدَنِيَّةِ الْهَيِّنَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ - وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْهِجْرَةِ وَهِيَ أَشَقُّ الْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا. وَفِي أَثَرِ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ ذَكَرَ حِجَابَةَ الْبَيْتِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ السِّقَايَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَالسِّقَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا الْإِنَاءُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَمِنْهُ: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ (12: 70) سُمِّيَتْ سِقَايَةً؛ لِأَنَّهَا يُسْقَى بِهَا، وَصُوَاعًا لِأَنَّهَا يُكَالُ بِهَا كَالصَّاعِ وَهُوَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ (كَغَيْرِهِ) وَالسِّقَايَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَّخَذُ فِيهِ الشَّرَابُ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا. (ثُمَّ قَالَ) وَفِي الْحَدِيثِ كُلُّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِيَّ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ هِيَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْقِيهِ الْحُجَّاجَ مِنَ الزَّبِيبِ الْمَنْبُوذِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ يَلِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ اهـ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ خُطْبَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ: سِقَايَةُ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى شَرَفًا، يَسْتَقِي فِيهَا الْمَاءَ؛ لِيَشْرَبَهُ النَّاسُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ زَمْزَمَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، حَكَى الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ السِّقَايَةَ حِيَاضٌ مِنْ أَدَمٍ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ تُوضَعُ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنَ الْآبَارِ عَلَى الْإِبِلِ وَيُسْقَاهُ

الْحَاجُّ، فَجَعَلَ قُصَيٌّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمْرَ السِّقَايَةِ لِابْنِهِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَعَ عَبْدِ مَنَافٍ يَقُومُ بِهَا فَكَانَ يَسْقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ كَرَادِمَ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ بَنَى هَذَا الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَلَا يَزَالُ مَاثِلًا إِلَى الْآنِ، وَهُوَ حَجَرَةٌ كَبِيرَةٌ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ وَصَفَ مُؤَرِّخُو مَكَّةَ مِسَاحَتَهَا وَبُعْدَهَا عَنْ زَمْزَمَ وَعَنِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ. وَيُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا صَارَتِ اسْمَ حِرْفَةٍ، وَكَذَا الْحِجَابَةُ، وَهِيَ سِدَانَةُ الْبَيْتِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مَآثِرِ قُرَيْشٍ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْعَبَّاسِ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَقَوْلَ النَّاسِ فِيهِ كَقَوْلِهِ لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ الْمَنْبُوذِ فِيهِ، وَلَا ذَلِكَ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِدَارَةَ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ وَنَبْذُهُ بِالْمَاءِ وَوَضْعُ أَوَانِيهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ أَيُّ لُغَوِيٍّ أَوْ مُفَسِّرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمٌ لِمَكَانِ السَّقْيِ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَصْدَرُ سَقَى أَوْ أَسْقَى إِلَخْ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ مُقْتَضَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا: أَيَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ وَمُقْتَضَى حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَتَشْبِيهُ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ كَإِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الْمَعْهُودَةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ (2: 177) إِلَخْ. وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ تَحْوِيلُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِيَتَّحِدَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ هُنَا: أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ لِلْبَيْتِ، أَوْ فَاعِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُتَوَلِّيَهُ، كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَوْ يَقُولُونَ: أَجَعَلْتُمْ هَذِهِ السِّقَايَةَ وَالْعِمَارَةَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى النَّهْيِ. أَيْ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ. وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ كَالْفِعْلِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَيْسَ كَالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالدَّرَجَاتِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لَا يُسَاوِي الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ فِي صِفَتِهِ، وَلَا فِي عَمَلِهِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَا فِي مَثُوبَتِهِ وَجَزَائِهِ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفَضِّلَهُ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يَزْعُمُ كُبَرَاءُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ

وَيَسْتَكْبِرُونَ عَلَى النَّاسِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (23: 67) . عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (بِهِ) لِلْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا:؛ لِأَنَّ اشْتِهَارَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ قُوَّامُهُ وَسَدَنَتُهُ وَعُمَّارُهُ أَغْنَى عَنْ سَبْقِ ذِكْرِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدِينُ لَهُمْ بِذَلِكَ، لِامْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَبِسِقَايَةِ حُجَّاجِهِ، وَكَذَا ضِيَافَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً كَالسِّقَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُجَّاجَ كَانُوا وَمَا زَالُوا أَحْوَجَ إِلَى الْمَاءِ فِي الْحَرَمِ مِنَ الزَّادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَاجٍّ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الزَّادِ مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَفَرِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَعَوْدَتِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبِيُّ الْقَنُوعُ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا نِصْفَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ شُرُوطِ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ الزَّادُ لِإِمْكَانِهِ مَعَ كَفَالَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْحَرَمِ لِتَوْفِيرِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُكُومَةُ السُّنَّةِ السُّعُودِيَّةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ تَزْدَادُ عِنَايَتُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَنَظَافَتِهِ لِمِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا سَقْيُهُمُ الْمَاءَ الْمُحَلَّى فَقَدْ بَطَلَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَذَّرًا لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ رِيعُ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُضْبَطُ وَيُرْسَلُ إِلَى حُكُومَةِ الْحِجَازِ لَأَمْكَنَهَا إِعَادَتُهُ، وَوَضْعُ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِهِ فِي مَكَّةَ أَوْ مِنًى. هَذَا - وَإِنَّ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي بُنِيَ لِأَجْلِهَا هِيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَدَنَّسُوهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، ثُمَّ بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ (48: 25) ثُمَّ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جِوَارِهِ، لِإِيمَانِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا أَشْرَكُوهُ مَعَهُ كَمَا قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (60: 1) وَقَالَ فِيهِمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ (22: 40) فَأَيُّ مَزِيَّةٍ تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ لِخِدْمَةِ حِجَارَتِهِ، وَاحْتِكَارِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حُجَّاجِهِ؟ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ فِي مَوْضُوعِهِ؟ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا إِلَى الْحُكْمِ الْعَدْلِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مُهْدِيًا إِلَى مَا هُوَ ضِدُّ صِفَةِ الظُّلْمِ، وَمُنَافٍ لَهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أَشَدُّ إِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْهُدَى بِغُرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ. وَمِنْ أَقْبَحِ هَذَا الظُّلْمِ تَفْضِيلُ خِدْمَةِ حِجَارَةِ الْبَيْتِ، وَحِفْظِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ الْمُطَهِّرِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَأَوْهَامِهِ - وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَزَعُهَا أَنْ تَبْغِيَ وَتَظْلِمَ، وَيُحَبِّبَ إِلَيْهَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيُرَغِّبَهَا فِي الْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ لَا لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ - وَعَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَرْقِيَةِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.

20

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ يَشْمَلُ الْقِتَالَ وَالنَّفَقَةَ فِيهِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، لِإِبْلَاغِهَا مَقَامَ الْكَمَالِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِبْطَالِ تَبَجُّحِهِمْ وَفَخْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَفْيُ اهْتِدَاءِ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي مَوْضُوعِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا - وَإِنِ اقْتَضَيَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ تَفْضِيلَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى فَرِيقِ السَّدَنَةِ وَالسَّقَّائِينَ - لَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا كُنْهُ هَذَا الْفَضْلِ، وَلَا دَرَجَةُ أَهْلِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَشْرِفُ لَهُ التَّالِي وَالسَّامِعُ، بَيَّنَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَيُّ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ "؟ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ حُكْمِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ: أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَعْلَى مَقَامًا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ مِنْ أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الَّذِي رَأَى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ، الَّذِينَ لَمْ يَنَالُوا فَضْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ بِنَوْعَيْهِ الْمَالِيِّ وَالنَّفْسِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي التَّفْضِيلِ عَدَمُ ذِكْرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لَهُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ دَرَجَةُ الْإِيمَانِ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَعْظَمُ - وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ ذَلِكَ. (قُلْنَا) لَا مِرَاءَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَكُونُ لِصَاحِبِهَا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِذَا فُعِلَا كَمَا يَرْضَى اللهُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى يُحْبِطُهُمَا وَيُحْبِطُ غَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ أَيْ: وَأُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَثُوبَةِ اللهِ الْفُضْلَى، وَكَرَامَتِهِ الْعُلْيَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ سَقَى الْحَاجَّ، وَعَمَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَثَوَابُ الْمُؤْمِنِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، دُونَ ثَوَابِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا ثَوَابَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُحْبِطُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ فِيهَا حُسْنُ النِّيَّةِ، وَقَلَّمَا يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَهَا هُنَا تَسْتَشْرِفُ النَّفْسُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْفَوْزِ الْمُجْمَلِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَيْ: رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانٍ أَيْ: نَوْعٍ مِنَ الرِّضَى التَّامِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ، وَلَا يَعْقُبُهُ سَخَطٌ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ لَفْظِ رِضْوَانٍ فِي الْمَبْنَى عَلَى لَفْظِ

21

رِضًى مَعَ تَنْكِيرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْآتِي وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَيْ: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ عَظِيمٌ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً. أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (11: 108) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ. فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا - فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (3: 15) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،

23

قَالُوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. وَمِنْ تَنَطُّعِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي فَلْسَفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللهِ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَلَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَهُوَ لِقَاؤُهُ وَرِضْوَانُهُ وَرُؤْيَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَهْلِيَّةٌ مِنْ نَزَعَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، مُخَالِفَةٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهَدْيِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُسْلِمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْبِدَعَ الطَّارِئَةَ عَلَى الدِّينِ يُقْصَدُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الدِّينِ تُقَوِّي أُصُولَهُ، وَمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ يَنْتَهِي ذَلِكَ بِهَدْمِ أُصُولِهِ وَمَا شُرِعَ لَهُ. وَإِقَامَةِ الْبِدْعَةِ مَقَامَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ " لِوَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ " مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فَصَوَّرُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَجْلِ الذِّكْرَى وَالِاتِّبَاعِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا صُوَرَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَتْ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ مُنْكَرَةٌ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِهِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ بِدْعَةٍ: يَئُولُ أَمْرُ أَهْلِهَا إِلَى مُحَارَبَةِ السُّنَّةِ، وَعَدَاوَةِ مَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا، وَيُنْكِرُ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَعَنَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَهَا، كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ دُعَاةِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَصِمِينَ بِهَا أَوْ تَضْلِيلِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ وَبِعَوْدِ حَالَةِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتْ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يُوَفَّى بِهَا، وَلَا أَيْمَانَ يَبَرُّونَهَا، بَلْ يَعْقِدُونَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ، وَيَنْقُضُونَهَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَتْكِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُفَصَّلًا - عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُتِحَ بِهِ بَابٌ لِدَسَائِسِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَرُّمِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ - وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مِنَ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَكْرَارِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ، النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الضَّعْفِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ نَعْرَةَ الْقَرَابَةِ، وَرَحْمَةَ الرَّحِمِ، وَبَقِيَّةَ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ ; إِذْ كَانَ لَا يَزَالُ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أُولُو قُرْبَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَيَرْجُونَهُ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ، بَلْ كَانَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ مِنْهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَقَفَّى عَلَيْهِ بِفَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَحُبُوطِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهِ كَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالْعِمَارَةِ الصُّورِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - بَعْدَ هَذَا - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ أَهْلَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْهُ رُضْوَانٌ وَجَنَّاتٌ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَبٍ أَوْ أَخٍ وَلِيًّا لَهُ يَنْصُرُهُ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يُظَاهِرُ لِأَجْلِهِ الْكُفَّارَ، بِأَنْ يَتَّخِذَهُ بِطَانَةً وَوَلِيجَةً يُخْبِرُهُ بِأَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عُلِمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ آيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (16) إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَآثَرُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْحُبِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُبُّ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ، كَمَا عُلِمَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا سِيَّمَا جُمُوعُهُمْ فِي حُنَيْنٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِهَا أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدِ اسْتَخَفَّتْهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ فَكَتَبَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ سِرًّا يُعْلِمُهُمْ فِيهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ ; لِيَتَّخِذَ لَهُ بِذَلِكَ يَدًا عِنْدَهُمْ يُكَافِئُونَهُ عَلَيْهَا بِحِمَايَةِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِمْ وَعَنْ مُوَادَّتِهِمْ، فَتَرَاجَعَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَقْيِيدٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَالَاةِ فَهُوَ هُنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَقِيلَ: فِيمَا تَقَدَّمَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَبَّاسِ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا دُعِيَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ عِنْدَ مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ شَكَوْا

مِمَّا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحَدَّثُوا بِاسْتِنْكَارِهِ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُزُولِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُ. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (60: 8 و9) فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5: 51) فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ: " بَرَاءَةٍ " بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ " الْمِائِدَةِ ": وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا; لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ " جِهَادٍ " هُنَا. وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ

دُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ كَابْنِهِ وَزَوْجِهِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْحُبِّ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ مَرَاتِبَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْحُبِّ، وَنُقَفِّي عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَوْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ مِنْهَا، وَلَا يَعْلُو حُبَّهُمَا عِنْدَهُ حُبُّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا: (1) حُبُّ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ لَهُ مَنَاشِئُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ وَشُعُورِهَا وَعَوَاطِفِهَا وَعَوَارِفِهَا وَمَعَارِفِهَا وَطِبَاعِهَا، وَمِنْ عُرْفِ الْأَقْوَامِ وَآدَابِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَشَرَائِعِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَالْوَلَدُ بِضْعَةٌ مِنْ أَبِيهِ يَرِثُ بَعْضَ صِفَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَشَمَائِلِهِ مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَشْعُرُ بِهِ، وَيُنَمَّى فِي نَفْسِهِ بِنَمَاءِ تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ، إِحْسَانُ وَالِدَيْهِ إِلَيْهِ، وَاقْتِرَانُ صُورَتِهِمَا فِي خَيَالِهِ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ لَهُ، وَيَتْلُو هَذَا شُعُورُهُ بِمَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالْعَطْفِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ الْخَالِصِ لَهُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ وَلَا تُهَمَةٌ، وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ - وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (2: 200) يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ. تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (17: 23) إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31: 14) ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (31: 15) . فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي

نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَنَصْرُ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ لِأَجْلِهِ شِرْكٌ، بَلِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَاءَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَنْصُرُ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ حُبِّ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ مَا فِي سَبِيلِهِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي. كَذَلِكَ نَهَاهُمْ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ عَنْ مُوَادَّةِ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ الْمُحَادَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَرْتِيبُ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْحَبِيَّةُ، وَالْمُحَادَّةُ شِدَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَاشْتِرَاكُ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ الْمُحَادِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْمَوَدَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى صِفَتَيْهِمَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مُوَالَاتِهِمْ بَلْ أَخَصُّ مِنْهَا. (2) حُبُّ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ لَهُ جَمِيعُ تِلْكَ الْمَنَاشِئِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْعَوَاطِفِ النَّفْسِيَّةِ، وَبَعْضِ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ أَحَرُّ وَأَقْوَى وَأَنْمَى وَأَبْقَى مِنْ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَعْنَى كَوْنِ وَلَدِهِ بِضْعَةً مِنْهُ، وَكَوْنِ وُجُودِهِ مُسْتَمَدًّا مِنْ وُجُودِهِ، وَيَشْعُرُ مَا لَا يَشْعُرُ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُسْخَةً ثَانِيَةً مِنْهُ يُرْجَى لَهَا مِنَ الْبَقَاءِ مَا لَا يُرْجَى لِلنُّسْخَةِ الْأُولَى، فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِهَا فِي حَاضِرِ أَمْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَيُكَابِدُ الْأَهْوَالَ وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِفُ الْحَرَامَ فِي سَبِيلِ السَّعْيِ وَالِادِّخَارِ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (6: 151) الْآيَةَ، أَنَّ عَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يُنَمِّيهَا فِي النَّفْسِ مِنْ قِيَامِ الْوَالِدِ بِشُئُونِ الْوَلَدِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاطِفِ فِي الْحَالِ، وَالذِّكْرَيَاتِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَكَوْنِهِ مَنَاطَ الْآمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (18: 46) قَالُوا: الْمَعْنَى أنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْمَالِ فِيهَا ثَوَابًا، وَخَيْرٌ مِنَ الْبَنِينَ فِيهَا أَمَلًا، فَهُوَ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْآبَاءِ لِلْبَنِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (3: 14) إِلَخْ. (3) حُبُّ الْأُخُوَّةِ يَلِي فِي الرُّتْبَةِ حَبَّ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَالْأَخَوَانِ صِنْوَانِ فِي وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَالْأَخُ الصَّغِيرُ كَالْوَلَدِ، وَالْكَبِيرُ كَالْوَالِدِ، وَيَخْتَلِفَانِ عَنْهُمَا بِشُعُورِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْبَتِ وَطَبَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ يُمَارِي فِيهِ بَعْضُ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ فِطْرَتَهُمْ نَزَعَاتُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ الْعَادِيَّةِ لَا مَنْشَأَ لَهُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ، وَلَا مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ، بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الْأُخُوَّةِ أَعْرَقُ فِي الْغَرِيزَةِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ

مِنْ قَتْلِ أَحَدِ وَلَدَيْ آدَمَ لِأَخِيهِ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، وَعَهْدِ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَأْثِيرِ التَّنَازُعِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ فِعْلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ وَهُمْ مِنْ أَسْلَمِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَخَيْرِهِمْ وِرَاثَةً. وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (5: 28 و29) وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5: 30) فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ " بِالتَّطْوِيعِ " مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى شَرْحًا وَاسِعًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ [ص285 ج6 ط الْهَيْئَةِ] . وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ; لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟ ! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ

لِلْجَهْلِ بِالدِّينِ، وَالْحِرْمَانِ مِنْ هِدَايَتِهِ، بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ إِهْمَالِ تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ - أُذَكِّرُهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ لِلْعَالَمِ الْمَادِّيِّ إِنْكَارَهُ أَوِ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ مِنْ مَنْشَأِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ فِي النَّفْسِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمُ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ طِبَاعِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْعَطْفَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَوْرُوثَةِ وَعَوَاطِفِهَا الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَفِي شُئُونِ الْحَيَاةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَفِي الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا لَيْسَ لِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، بَلْهَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْأَخُ صِنْوُ أَخِيهِ، مَنْبَتُهُمَا وَاحِدٌ، وَدَمُهُمَا وَاحِدٌ، وَوِرَاثَتُهُمَا النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ تَتَسَلْسَلُ مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْعُرُ بِالِاعْتِزَازِ بِعِزَّةِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ يُفْسِدَ فِطْرَتَهُ الْحَسَدُ، وَيَحْفَظَ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا مَا لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتَأْثِيرٌ كَبيرٌ فِي آصِرَةِ الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ، وَمَا زَالَ أَهْلُ الْوَسَطِ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَكَرُمَتْ أَخْلَاقُهُمْ، يُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ كَحُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُوَقِّرُونَ كَبِيرَهُمْ تَوْقِيرَهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَيَرْحَمُونَ صَغِيرَهُمْ رَحْمَتَهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ، وَيَكْفُلُونَ مَنْ يَتْرُكُهُ وَالِدُهُ صَغِيرًا فَيَتَرَبَّى مَعَ أَوْلَادِهِمْ كَأَحَدِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ، وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ هَذِهِ الْإِطَالَةَ النِّسْبِيَّةَ إِلَّا لِيَكُونَ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ دَرْءِ مَفَاسِدِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلْأَرْحَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ. (4) حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ شُعُورِ النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ فِي أَنْوَاعِهَا ضُرَيْبٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ مِنْ ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُهَيِّجُهَا دَاعِيَةُ النَّسْلِ، وَغَرِيزَةُ بَقَاءِ النَّوْعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ بِهِ بَشَرَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمًا لِوُجُودِ الْآخَرِ يُنْتِجَانِ بِاتِّحَادِهِمَا بَشَرًا مِثْلَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (3: 14) إِلَى آخِرِهِ وَفِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ) مِنَ الْمَنَارِ (الْمُجَلَّدُ الثَّامِنُ) وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ هُنَالِكَ عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ أَقْوَى الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَخَّرَهُ هُنَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُبِّ الْمُعَارِضِ لِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا يَخْشَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّمَا تَكُونُ زَوْجُ الرَّجُلِ مُعَارِضَةً لَهُ فِي دِينِهِ وَوِلَايَةِ مَنْ يَدِينُ اللهُ بِوِلَايَتِهِ، كَمَا يُعَارِضُهُ أَبُوهُ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ امْرَأَتِهِ. وَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ فِي عَلَاقَةِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِالْمَرْءِ، وَدَرَجَاتِ لُصُوقِهَا بِهِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ

(80: 34 - 36) وَهَذِهِ الْفُرُوقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ هِيَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَنِدُّ عَنْ سَلَائِقِ الْبَشَرِ، وَمَعَارِفِهِمْ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ. (5) حُبُّ الْعَشِيرَةِ حُبُّ عَصَبِيَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَاعْتِزَازٍ، وَوِلَايَةٍ وَنَصْرٍ فِي الْقِتَالِ، وَيَكُونُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي أَهْلِ الْبَدَاوَةِ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ، وَقَدْ أَضْعَفَ الْإِسْلَامُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُبِّ وَالْوِلَايَةِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِتَحْرِيمِ الدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَالْقِتَالِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، كَمَا أَضْعَفَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَضَرِيَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي تُوكَلُ فِيهَا حِمَايَةُ الْأَفْرَادِ إِلَى دَوْلَةِ الرَّجُلِ دُونَ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلِهِ، وَتُجْمَعُ الْعَشِيرَةُ عَلَى عَشِيرَاتٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ. (6) حُبُّ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَرَفَةِ - أَيِ الْمُكْتَسَبَةِ - طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ ; لِأَنَّ عَنَاءَ الْإِنْسَانِ فِي اقْتِرَافِهَا يَجْعَلُ لَهَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ لِمَا جَاءَهُ عَفْوًا، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 14) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا. (7) حُبُّ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا، يُرَادُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ عَرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تُجَّارًا كَمَا وَرَدَ، وَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يَخْشَى كَسَادَهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مُسْتَهْلِكِيهَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ أَسْوَاقُهَا تُنْصَبُ فِي أَيَّامِ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ بِمُقْتَضَى الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَاهِيكَ بِحُبِّ أَبِي سُفْيَانَ وَوَلَدِهِ لِلْمَالِ، وَوَلُوعِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْلِيبِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَجْلِ تِجَارَتِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الشَّامِتِينَ بِهَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَتَأَلَّفَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، كَمَا اسْتَمَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (8) حُبُّ الْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ مَسْكَنًا يَأْوِيهِ، أَوْ يَمْلِكُ قَصْرًا لَا يُرْضِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدُّورِ الْحَسَنَةِ الَّتِي كَانُوا يَرْضَوْنَهَا لِلْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَيَكُونُونَ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ مَحْرُومِينَ مِنْهَا - وَمَا كَانَ لِبَعْضٍ آخَرَ فِي مَكَّةَ يُعِدُّونَهَا

لِلِاسْتِغْلَالِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ إِذْ يَظْهَرُ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَحْوَالِ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ، وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ مُعَطَّلًا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ مَا بَلَغُوهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ مَعَايِشِ النَّاسِ، قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْعَلَ الْقِتَالَ مَكْرُوهًا فَوْقَ الْكُرْهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ الْوَحْشِيَّةُ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُفَارَقَةِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ بِهَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِحْجَامِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (2: 216) الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْإِسْلَامُ أَعْظَمَ مُزِيلٍ لِلْفَسَادِ، وَمُصْلِحٍ لِأَمْرِ الْعِبَادِ، فَرَاجِعْهُ إِنْ كَانَ غَابَ عَنْكَ فَهُوَ يُفِيدُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا. وَزِدْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ إِيثَارُهُ مِنْ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ حُبٍّ، وَتَقْدِيمِ كُلِّ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ عَلَى كُلِّ مَنْفَعَةٍ فِي الْأَرْضِ. أَمَّا حُبُّ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُبُّ عَبْدِهِ لَهُ - فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ كُلِّ حُبٍّ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَّصِفُ وَحْدَهُ بِكُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحَبَّ مِنْ جَمَالٍ وَكَمَالٍ، وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ وَمَا يُحَبُّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ صُنْعِهِ وَفَيْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَظْهَرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عَطْفٍ وَأَمَلٍ، شُعْبَةً مِنْ حُبِّ وَاهِبِهِ، وَمُودِعِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ وَالِدَيْهِ لَهُ. وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَمُرَبِّيهِ عِنْدَمَا يَعْقِلُ جُزْءًا مِنْ حُبِّ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهُ لَهُ، وَسَاقَهُ بِغَرِيزَةِ الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ الشَّرِيعَةِ لِتَرْبِيَتِهِ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، الْمُرَبِّي الْحَقُّ لِكُلِّ حَيٍّ، بِسُنَنِهِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَلَفُ وَالْعِوَضُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِيَتِيمِهِ، وَمَنْ كُلِّ وَلَدٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْأَخِ لِأَخِيهِ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ حُبُّ الزَّوْجِ لِلزَّوْجِ لَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ الْمَحَبَّةَ الزَّوْجِيَّةَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَمْ يَخُصَّهَا بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) وَحُبُّ الْعَشِيرَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ بِوَشِيجَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ حَلَّ مَحَلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَقْوَى وَأَعْظَمُ، وَهُوَ تَنَاصُرُ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْكَبِيرَةِ بِمُقْتَضَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصِيرُهُمْ بِوَجْهٍ أَخَصَّ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (3: 126) بِالْوَجْهِ الْأَعَمِّ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا عُرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُرْجَى رَوَاجُهَا، وَيُخْشَى كَسَادُهَا - كُلُّهَا مِنْ جُودِهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْخِيرِهِ - وَحُبُّهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُونَ حُبِّهِ بَلْ هُوَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحُبِّ وَإِنْ فُتِنَ بِهِ أَكْثَرُ الْمَادِّيِّينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ حُرِمُوا تَهْذِيبَ الدِّينِ، فَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَالْمَسَاكِنُ دُونَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَفْقِدُهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ عَنْ كُلِّ مَا فَقَدُوا أَوْ خَافُوا أَنْ يَفْقِدُوا بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَبَ وَهْمُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. وَإِيهَامُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبَبُ الْكَسَادِ وَالْخُسْرَانِ، وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَمْكِينِهِمْ فِيهَا، وَجَعْلِهِمْ أَغْنَى أَهْلِهَا مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (24: 55) إِلَخْ وَلَوْ عَادُوا إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، لَعَادَتْ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخِلَافَةُ. وَإِنَّ فَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ حُبِّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْخِيرِ قُوَاهَا وَمَنَافِعِهَا لِلنَّاسِ، وَحُبِّهِ لِمَا وَعَدَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَوْعٌ آخَرُ هُوَ حُبُّ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْعُلْيَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَسَبَبَهُ فِي تَفْسِيرِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (2: 165) وَبَيَّنَّا خَطَأَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِ أَنْدَادِهِمْ مَعَهُ فِيهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ يُقَرِّبُونَ مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لِلَّهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ تَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ - وَمِنْ آثَارِهَا التَّدْبِيرُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ خَالِقُهَا وَمُسَخِّرُهَا وَبِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إِنْ شَاءَ وَانْفِرَادُهُ بِالْأُولُوهِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ وَحْدَهُ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُ مُجْتَمِعٌ ثَابِتٌ كَامِلٌ لَا شَائِبَةَ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا كَوْنَ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَنْدَادِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ نَهْيًا مُقَسَّمًا عَلَى مَعْبُودَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ دَرَجَاتٌ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَعَارِفِهِ بِآيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا قَالَ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (27: 88) وَقَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (32: 7) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (3: 31) كَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَعْنَى حُبِّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَقَدْ جَهِلَ عُلَمَاءُ الْأَلْفَاظِ وَالتَّقَالِيدِ كُنْهَ هَذَا

24

الْحَبِّ فَتَأَوَّلُوهُ كَمَا تَأَوَّلُوا غَيْرَهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِهِ الْكَمَالِيَّةِ، تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُعَارِضُ تَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ النَّاسِ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمُ التَّعْطِيلَ بِشُبْهَةِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى سَلْبِيٌّ مَحْضٌ ثُمَّ أَعَدْنَا بَيَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (5: 54) . وَأَمَّا حُبُّ رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ فَهُوَ دُونُ حُبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَوْقَ حُبِّ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يُحِبُّ مِنَ الْخَلْقِ كَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْمُرْشِدِينَ الْمُرَبِّينَ، وَالْفَنَّانِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالزُّعَمَاءِ السِّيَاسِيِّينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ الْمُثْلَى، فِي أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسَائِرِ هَدْيِهِ، قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِجَعْلِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّ مُتَّبَعِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ عِنْدَهُ حُبَّهُ تَعَالَى لِمُتَّبِعِهِ، وَمَغْفِرَتَهُ لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ آيَةِ (3: 31) آلِ عِمْرَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْحُبَّ وَحُبَّ اللهِ تَعَالَى بَيَانًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِمَا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ مُنْكِرًا; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ آيَاتِهِمَا وَنُكْتَةَ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ إِفَادَةُ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَارِكَهُ لِأَجْلِ حُبِّ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِي الْآيَةِ، وَالْجِهَادُ أَنْوَاعٌ تَرْجِعُ إِلَى جِنْسَيْنِ: الْجِهَادُ بِالْمَالِ، وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ. وَالْقِتَالُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الثَّانِي، وَمِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخْرَى عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ. فَمُهَنْدِسُ الْحَرْبِ الْحَقِّ الْعَادِلَةِ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَاضِعُ الرُّسُومِ لِمَوَاطِنِهَا وَطُرُقِهَا كَذَلِكَ، إِلَخْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ تَامِّ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُ صَحِيحِهِ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ (5: 54) الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا. فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَ. . . أَبْهَمَ لِتَذْهَبَ أَنْفُسُهُمْ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (52) وَمَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ حُبَّ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى

حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ، وَأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - فَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ (وَكَذَا السُّورَةُ جُلُّهَا أَوْ كُلُّهَا) بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَتَبُوكَ، وَأَنَّهَا مِمَّا بُلِّغَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَوْسِمِ سَنَةِ تِسْعٍ بَعْدَ سُقُوطِ فَرِيضَةِ الْهِجْرَةِ بِنَصِّ حَدِيثِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِلَفْظِ " بَعْدَ الْفَتْحِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ دُونَ الْهِجْرَةِ. وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: خُرُوجُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ عَمَّا كَانَ فِيهِ أَوْ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ أَوِ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرِيعَةِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ فَقَدْ فَسَقَ، قَالَهُ السَّرَقُسْطِيُّ، وَقِيلَ لِلْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسِ فَوَاسِقُ; اسْتِعَارَةً وَامْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، حَتَّى قِيلَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْخُرُوجُ مِنْ حُدُودِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ أَوْ فِيمَا دُونَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَخْصِيصُهُ بِالْأَخِيرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ إِلَى فَسَادِ الطِّبَاعِ، وَمِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (2: 99) بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَمَرِّدًا لَا يَقْبَلُ هِدَايَةَ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ كَالْمُنَافِقِينَ أَوْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَعْرِفُونَ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، فَيُؤْثِرُونَ حُبَّ الْقَرَابَةِ وَالْمَنْفَعَةَ الْعَارِضَةَ كَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُقَابِلِهِ وَعَكْسِهِ فَيُقَالُ: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ مِنْ مُحِيطِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَنُورِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى أَوِ التَّقْلِيدِ أَوْ يُحْرَمُوا مِنْ فِقْهِ هِدَايَةِ الدِّينِ فَلَا يَعْقِلُونَهَا وَأَهَمُّهَا الْعِلْمُ بِمَا فِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَحُبِّ رَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَلَاءُ وَالِاتِّحَادُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِزَالَةِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَفَاسِدِهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ ثَبَاتِ الْمُلْكِ.

وَصْلٌ فِي كَمَالِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ اكْتِسَابِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي دِينِ الْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ حُبَّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ، وَلَا حُبَّ الْمَالِ وَالْكَسْبِ وَالاتِّجَارِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ إِيثَارَ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُبِّ مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ إِذَا وَجَبَ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّسَامُحِ فِي الدِّينِ دُونَ تَكْلِيفِ بُغْضِ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ وَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ مَعَهُ بِرَّ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالْعَدْلَ وَالْقِسْطَ فِي مُعَامَلَتِهِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (60: 8، 9) وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا إِلَخْ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (3: 119) وَأَبَاحَ لَهُمْ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْقُلُوبَ مِنْ حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) . وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْحُبِّ الْمَشْرُوحِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا - وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْآنَ يَا عُمَرُ ". وَقَدْ حَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ حُبَّ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِجْلَالِ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرِسَالَتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ وِجْدَانًا مِنْ قَبِيلِ حُبِّ الطَّبْعِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى النَّفْسُ، فَهُوَ كَمَالٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُشَّاقِ لِلْحِسَانِ يَصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْحِسَانِ غَيْرُ أَهْلٍ لِعُشْرِ هَذَا الْحُبِّ، لَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ، فَأَيْنَ مِنْهُ حُبُّ مَنْ هُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَحُسْنٍ وَإِحْسَانٍ، يَتَجَلَّى فِي كُلِّ مَا عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامِ الْأَكْوَانِ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلَ؟ ! .

وَالطَّرِيقُ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحُبِّ كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْتِزَامِ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الذِّكْرُ ذِكْرُ الْقَلْبِ، مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ، وَتَأَمُّلِ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي الْخَلْقِ، بِأَنْ تَذْكُرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ حَسَنٍ وَجَمَالٍ وَكَمَالٍ فِي الْكَوْنِ أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ تَذْكُرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ نَاطِقٍ مَفْهُومٍ، وَصَامِتٍ مَعْلُومٍ، كَخَرِيرِ الْمِيَاهِ، وَهَزِيزِ الرِّيَاحِ، وَحَفِيفِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْرِيدِ الْأَطْيَارِ. وَكَذَا نَغَمَاتُ الْأَوْتَارِ. وَتَتَذَكَّرَ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ، وَمِنْ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَسْبِيحِ نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي زَبُورِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (38: 18، 19) . وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي خَاتِمَةِ الزَّبُورِ وَهُوَ الْمَزْمُورُ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ: " سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ، سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ، سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ، سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ، سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ، سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ، سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ، سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ، كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ هَلِّلُوا " اهـ. وَفِي الْمَزَامِيرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ التَّسَابِيحِ فِي الْمَعَازِفِ، وَكَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِنَا، وَشَعَائِرِ شَرِيعَتِنَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنْ نُحْدِثَ شَيْئًا فِي دِينِهِ بِآرَائِنَا وَأَهْوَائِنَا، وَهُوَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَبَلَّغَنَا رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَقَالَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَدَعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِدْخَالَ الْمَعَازِفِ وَالرَّقْصِ فِي ذِكْرِ اللهِ بِمَا يَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَجْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّعَائِرِ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ، إِثْبَاتُ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (17: 44) . فَالَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَسَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، أَنَّهُ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا آخَرَ غَيْبِيًّا لَا نَفْقَهُهُ بِكَسْبِنَا; لِأَنَّنَا لَا نُدْرِكُ حَيَاتَهَا، وَقَدْ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ ثَمَرَةً رُوحِيَّةً لِمَنْ زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ إِلَى نُورِ قُدْسِهِ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا

(33: 41 - 43) . وَمَنْ أَقَامَ فَرَائِضَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ كَمَا نَهَى، وَدَاوَمَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ كَمَا نَدَبَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا أَحَبَّ، فَإِنَّهُ يَصِلُ بِفَضْلِ اللهِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " الْحَدِيثَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ كَمَتْنِهِ غَرَابَةٌ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ صِفَةً أَوْ عُضْوًا لِغَيْرِهِ - وَلَا ذَاتَ الْمَخْلُوقِ أَيْضًا - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ هُوَ الشَّاغِلَ الْأَعْظَمَ لِسَمْعِ مَنْ أَحَبَّهُ إِذَا سَمِعَ، وَبَصَرِهِ إِذَا أَبْصَرَ إِلَخْ. وَلِهَذَا مَرَاتِبُ: (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ سَمْعَهُ إِلَّا لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ يَذْكُرُهُ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ كُلِّ إِدْرَاكٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَيَزْدَادُ بِهِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا، وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُ كَلَامِنَا فِي السَّمَاعِ آنِفًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَكُونُ مَوْضُوعَ عِنَايَةِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَسْمَعُهُ عَلَى حَدٍّ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (8: 23) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسْمَعُ، وَرُؤْيَةِ مَا يُبْصِرُ مِنَ الْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقْصِدُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْكَسْبِيَّتَيْنِ. (رَابِعُهُمَا) مَا يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي اللهِ، وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ الْعَبْدُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَالشُّعُورِ بِإِرَادَتِهِ وَحِسِّهِ، وَيَبْقَى لَهُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ بَعْضِ صِفَاتِ رَبِّهِ، وَمَوْضِعٌ تَجَلِّي مَا شَاءَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (12: 21) وَهَذَا الْفَنَاءُ وَالشُّعُورُ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ، بِقَطْعِ الْمَرَاحِلِ، وَالتَّنَقُّلِ فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي مِنْ قَبْلِهِ، إِلَّا اللَّمْحَةَ بَعْدَ اللَّمْحَةِ، وَالْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ وَحْدَةُ الشُّهُودِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَرَاءَ هَذِهِ تُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ وُجُودِ الْخَلْقِ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْعَبْدِ هِيَ ذَاتَ الرَّبِّ أَوْ لَا عَبْدَ وَلَا رَبَّ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرُ وَأَطْوَارٌ، كَظُهُورِ الْمَاءِ فِي صُوَرِ الثَّلْجِ الْجَامِدِ وَالسَّائِلِ وَالْبُخَارِ، وَقَدْ يَحْتَجِبُ بِالِانْحِلَالِ إِلَى عُنْصُرِيَّةِ (الْأُكْسُجِينِ وَالْأَدْرُجِينِ) عَنِ الْأَبْصَارِ، فَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَادِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ، اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ صُوفِيَّةِ الْبُوذِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَهِيَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَخُرُوجٌ مِنْ مِلَلِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، وَقَدْ فُتِنَ بِهَا بَعْضُ صُوفِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِيَّاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ، مَا أَضَلَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَبِهَا كَمَا ضَلَّ آخَرُونَ بِالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْإِعْجَابِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ كَشَفَ شُبُهَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَنَّدَهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَبَيَّنَ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ حَقَائِقَ التَّصَوُّفِ

الْمُوَافِقَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ) الَّذِي شَرَحَ بِهِ كِتَابَ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) تَأْلِيفَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ قَدَّسَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ أَجْمَعِينَ. وَإِنَّنَا نُتِمُّ فَائِدَةَ هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ; لِزَيْغِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، مَعَ اعْتِرَافِ جَمِيعِ أَئِمَّةِ شُيُوخِهِمْ بِأَنَّهُمَا أَصْلُ طَرِيقَتِهِمْ، وَالْبَحْرُ الَّذِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ دُرَرِ حَقَائِقِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَحُبِّهِ يَحْصُلُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَذْوَاقِ الرُّوحِيَّةِ مَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَوَاطِرِهِ وَذَوْقِهِ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْعُرُ بِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا الْكَشْفُ، كَمَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفَلْسَفَةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا حَقَائِقُ أَثْبَتَهَا الْعَقْلُ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَفْتُونَيْنِ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَإِنْ خَالَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ كَلَامَهُمْ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ كَشْفًا، أَوْ تَلَقِيًّا مِنْ مَلَكِ الْإِلْهَامِ، أَوْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْيَقَظَةِ أَوِ الْمَنَامِ. وَقَدْ أَبْطَلَتِ الْعُلُومُ الْعَصْرِيَّةُ أُصُولَ فَلْسَفَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ الشَّرْعِيِّينَ فِي حُبِّ اللهِ مَنَازِلُ عَالِيَةٌ وَمَقَامَاتٌ رَاسِخَةٌ. وَمَعَارِفُ وَاسِعَةٌ فِي حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ بِحُبِّ اللهِ مَعَ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ حَقَّهُ فِيمَا يُبْغِضُ اللهُ: وَمَا يُحِبُّ اللهُ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ: أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الْهَوَى ... وَحُبًّا لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَا فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الْهَوَى ... فَشَيْءٌ شُغِلْتُ بِهِ عَنْ سِوَاكَا وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ ... فَكَشْفُكَ لِيَ الْحُجْبَ حَتَّى أَرَاكَا وَالَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ هَذَا الشِّعْرِ أَنَّ الْحُبَّ الْأَوَّلَ هُوَ حُبُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ حَيْرَةٌ شَاغِلَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهَا. وَالثَّانِي حُبُّ الْمَعْرِفَةِ وَغَايَتُهَا رَفْعُ الْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِكَرَامَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى وَهَذِهِ الْحُجُبَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الرُّؤْيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ كَتَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَيَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَعُدُّهُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ حُبُّهُ حُبَّ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْرِفَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ مِنْ هَذَا الْحُبِّ فَعَلَيْكَ بِمَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

هَذَا - وَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الرَّقِيقَةِ فِي صِفَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لِلْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ، وَالْمَدَدِ الْأَكْمَلِ فِي الشَّرِيعَةِ الشَّامِلَةِ لِلطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ، خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّشْرِيعِ السَّمَاوِيِّ، وَمُشْرِقِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ، الرَّحْمَةِ الْمُرْسَلَةِ لِلْعَالِمِينَ، مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مَا يَجْعَلُ حُبَّهُ هُوَ الْمِعْرَاجَ الْأَعْلَى إِلَى حُبِّ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَاتِّبَاعَهُ هُوَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ إِلَى نَيْلِ مَقَامِ الْحُبِّ مِنَ اللهِ، بِنَصِّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (3: 31) مَعَ التَّفْرِقَةِ التَّامَّةِ بَيْنَ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَا يَطْلُبُ إِلَّا مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لِلَّهِ بَلْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا اللهَ، كَمَا نُورِدُ فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا الدُّعَاءَ. وَإِذَا صَحَّ لِلْإِنْسَانِ حُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ وَكَمُلَ فِيهِمَا، صَارَتْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ الْحَيَوَانِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْمُنَادَى تَابِعَةً وَمُمِدَّةً لَهُمَا، حَتَّى تَغْرَقَ أَوْ تَفْنَى فِيهِمَا، فَهُوَ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ الْفِطْرِيِّ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَوَسُّلًا بِهِ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَتَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيضِ الْخَنْسَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ لِأَوْلَادِهَا عَلَى الْجِهَادِ بِشِعْرِهَا حَتَّى قُتِلُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُزْنِهَا عَلَى أَخَوَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. وَمَا فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ السِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْحُبِّ الْمَادِّيِّ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِشَهَوَاتِهِمْ، وَإِيثَارِهِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ أَعْدَائِهِمْ، وَلَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِتَرْبِيَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى تَوْطِينِهَا عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يُتَحْ لَهُ الْمَوْتُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَعَلَيْهِ بِطَلَبِ الْمَوْتِ الْإِرَادِيِّ فِي جِهَادِ النَّفْسِ، فَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتٍ، وَالْمَوْتُ آيَةُ الْحُبِّ الصَّادِقِ. فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ بِهِ ... شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ وَلَهُ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا يَجْعَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مُشَاهَدَةً مَاثِلَةً، وَالدَّلَائِلَ الشَّرْعِيَّةَ وَقَائِعَ حِسِّيَّةً، فِي آثَارِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَإِيثَارِ الْأَنْصَارِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَبَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْمُنَافِقِينَ، فِيمَا كَانَ مِنْ خِذْلَانٍ وَهَزِيمَةٍ، وَمِنْ نَصْرٍ وَغَنِيمَةٍ.

25

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ الْكَثِيرَةِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ عَدَدُهُمْ وَعَتَادُهُمْ قَلِيلًا لَا يُرْجَى مَعَهُ النَّصْرُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَةِ، وَابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْهَزِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى عَجَبِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهَا، وَنَصْرِهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ لَدُنْهُ - ; لِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ عِنَايَتَهُ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ، أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَدْنَى إِلَى النَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، كَالْكَثْرَةِ الْعَدَدِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَعَلَ هَذَا التَّذْكِيرَ تَالِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ آبَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِلْوَعِيدِ عَلَى إِيثَارِ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْعَشِيرَةِ " وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ " وَالْمَالُ وَالسَّكَنُ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، تَفْنِيدًا لِوَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ - مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ - لَهُمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ عَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْ قِتَالِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ، وَلِكَسَادِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُ الْمُهِمَّ مِنْهُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَقُولَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَهْيٍ وَوَعِيدٍ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ لِلْمُؤْمِنِ فِي تَرْكِ وِلَايَةِ أُولِي الْقُرْبَى مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ أُولِي الْقُرْبَى وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ مِمَّا يُحِبُّ لِلْقُوَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَلِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِ

الدُّنْيَا، فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ لَمْ يَكُنْ بِقُوَّةِ عَصَبِيَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا بِقُوَّةِ الْمَالِ، وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الزَّادِ وَالْعَتَادِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْوَمُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ. وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهِيَ مَشَاهِدُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِعُهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَقَرُّ الْإِنْسَانِ وَمَحَلُّ إِقَامَتِهِ كَالْوَطَنِ. وَوَصَفَهَا بِالْكَثِيرَةِ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَكْثَرَ سَرَايَاهُ الَّتِي أَرْسَلَ فِيهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْغَزْوَةِ - وَمِثْلُهَا الْغَزَاةُ وَالْمَغْزَى - إِلَّا عَلَى مَا تَوَلَّاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ مِنْ قَصْدِ الْكُفَّارِ إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنْ بِلَادِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. وَسَأَلَهُ: كَمْ غَزَا مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ: كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ الْغَزَوَاتُ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدَ الْغَزَوَاتِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا، فَفَاتَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذِكْرُ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا الْأَبْوَاءُ وَبُوَاطٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ فِي ثَمَانٍ: بَدْرٍ ثُمَّ أُحُدٍ ثُمَّ الْأَحْزَابِ ثُمَّ الْمُصْطَلِقِ ثُمَّ خَيْبَرَ ثُمَّ مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، (قَالَ) وَأَهْمَلَ غَزْوَةَ قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّهُ ضَمَّهَا إِلَى الْأَحْزَابِ; لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي أَثَرِهَا، وَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ لِوُقُوعِهَا مُنْفَرِدَةً بَعْدَ هَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ. وَكَذَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ عَدُّ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً لِتَقَارُبِهِمَا، فَيَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَوْلُ جَابِرٍ. وَقَدْ تَوَسَّعَ ابْنُ سَعْدٍ فَبَلَغَ عَدَدُ الْمَغَازِي الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِدَيَّ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا عَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ وَادِيَ الْقُرَى مِنْ خَيْبَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ، وَكَأَنَّ السِّتَّةَ الزَّائِدَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. إِلَخْ. وَوَضَّحَ الْحَافِظُ هَذَا الْبَسْطَ مِنْ جَانِبٍ، وَتَدْخُلُ بَعْضُ الْمَغَازِي الْمُتَقَارِبَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَانَ خَيْرَ جَمْعٍ بَيْنَ الْأَقْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ

ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ (كَذَا) وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ سِتًّا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ الْمَسْعُودِيِّ سِتِّينَ، وَبَلَغَهَا شَيْخُنَا زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِينَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَمَّ الْمَغَازِي إِلَيْهَا. اهـ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُغَازِيَ وَالسَّرَايَا كُلَّهَا ثَمَانُونَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا كُلُّهَا قِتَالٌ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِيهَا، كَمَا أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ إِمَّا نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا كَامِلًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَاسِيَّمَا بَدْرٌ وَالْخَنْدَقُ وَغَزَوَاتُ الْيَهُودِ وَالْفَتْحُ، وَإِمَّا نَصْرًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْبِيَةِ عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا كَمَا وَقَعَ فِي أُحُدٍ إِذْ نَصَرَهُمُ اللهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَظْهَرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ الْقَائِدِ الْأَعْظَمِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ أَوَامِرِ الْحَرْبِ، وَهُوَ حِمَايَةُ الرِّمَايَةِ لِظُهُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِهَا - وَكَمَا كَانَ فِي حُنَيْنٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ، وَالنَّصْرِ الْعَزِيزِ التَّامِّ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا، وَهُوَ وَادٍ إِلَى جَانِبِ ذِي الْمَجَازِ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، هَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّ لَيَالٍ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي لِلْآلُوسِيِّ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الطَّائِفِ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ أَوْطَاسًا وَغَزْوَةَ هَوَازِنَ. وَأَوْطَاسٌ كَمَا فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَادٍ فِي أَرْضِ هَوَازِنَ كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِبَنِي هَوَازِنَ، وَمِثْلُهُ فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا لِغَزْوَةِ أَوْطَاسٍ بَعْدَ سُوقِ الرِّوَايَاتِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَرْبِ حُنَيْنٍ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَادِيَ أَوْطَاسٍ غَيْرُ وَادِي حُنَيْنٍ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَطَائِفَةٌ إِلَى بَجِيلَةَ، وَطَائِفَةٌ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَسْكَرًا مُقَدَّمَهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَنْ مَضَى إِلَى أَوْطَاسٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ إِلَى الطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللهِ الْبَكْرِيُّ: أَوْطَاسٌ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُنَاكَ عَسْكَرُوا هُمْ وَثَقِيفٌ ثُمَّ الْتَقَوْا بِحُنَيْنٍ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الِاسْمَيْنِ: وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمَّى غَزْوَةً; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَرْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا جُمُوعَ الْعَرَبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى لِقِتَالِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكَانُوا هُمُ الْمُوقِدِينَ لِنَارِ الْحَرْبِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بَدَلٌ مِنْ " يَوْمِ حُنَيْنٍ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا سَبَقَهُ أَنَّهُ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ فِيهَا بِالنَّصْرِ بِمَحْضِ اسْتِعْدَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ; لِقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعَتَادِكُمْ، وَنَصَرَكُمْ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَعْجَبَتْكُمْ فِيهِ كَثْرَتُكُمْ إِذْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ الْكَافِرُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَطْ، فَقَالَ قَاتِلُكُمْ مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِ الْكَثِيرِينَ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْكَثْرَةُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ رُوَاةِ السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَنَرُدُّهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. اهـ. أَيْ وَقَعَتْ بِأَسْبَابِهَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَتَرْبِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى الْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الْكَثِيرَةِ لِلنُّصْرَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قِيمَةَ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالصَّبْرِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 249) وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ بِأَسْبَابِهَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ. فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ وَغَرَّتْكُمْ كَافِيَةً لِانْتِصَارِكُمْ بَلْ لَمْ تَدْفَعْ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَارِ الْغَلَبِ وَالْهَزِيمَةِ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أَيْ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا وَسِعَتِهَا فَلَمْ تَجِدُوا لَكُمْ فِيهَا مَذْهَبًا وَلَا مُلْتَحَدًا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ وَلَّيْتُمْ ظُهُورَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ مُدْبِرِينَ لَا تَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السِّكِّينَةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ النَّفْسِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ ضِدُّ الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَفْرَغَ مِنْ سَمَاءِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَكِينَتَهُ اللَّدُنِّيَّةَ عَلَى رَسُولِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ لَهُ مَا عَرَضَ مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ كَالطَّوْدِ الرَّاسِي نَفَسًا، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَبَأْسًا

26

وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ وَأَحَاطُوا بِبَغْلَتِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ اللُّهَامِ كَمَا يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ، ثُمَّ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فَأَذْهَبَ رَوْعَهُمْ، وَأَزَالَ حَيْرَتَهُمْ وَاضْطِرَابَهُمْ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ زَالَ أَوْ زُلْزِلَ مِنْ ثَبَاتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ مَا سَمِعُوا نِدَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنِدَاءَ الْعَبَّاسِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ بِأَمْرِهِ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ " وَعَلَيْكُمْ " ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَتَأْتِي شَوَاهِدُهُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أَيْ: وَأَنْزَلَ مَعَ هَذِهِ السِّكِّينَةِ جُنُودًا رُوحَانِيَّةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَرَوْهَا بِأَبْصَارِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُمْ أَثَرَهَا فِي قُلُوبِكُمْ، بِمَا عَادَ إِلَيْهَا مِنْ ثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ، مَا دَامُوا يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ وَيُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا وَعَدَكُمْ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَوِ الْبَلَاغِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (14) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي قِتَالِ مَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا التَّعْذِيبِ الَّذِي يَكُونُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحِطْ بِهِمْ خَطِيئَاتُ جَهَالَةِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخْتِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ، أَوِ الْجُمُودِ عَلَى مَا أَلِفُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَاللهُ غَفُورٌ لِمَنْ يَتُوبُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي رَحِيمٌ بِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ " يَتُوبُ " إِعْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي حُنَيْنٍ مِنْ إِيمَانِ أَكْثَرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ غُلِبُوا وَعُذِّبُوا بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، سَيَقَعُ مِثْلُهُ لِكُلِّ الَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَمَا مِنْ حَرْبٍ مِنْ حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا وَكَانَ عَاقِبَتُهَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا صَارَ الْإِسْلَامُ جِنْسِيَّةً، وَحُرُوبُ أَهْلِهِ أَهْوَاءً دُنْيَوِيَّةً فَقَدُوا ذَلِكَ. (فَصْلٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، الْمُفَسِّرَةِ لِإِجْمَالِيِّ هَذِهِ الْآيَاتِ) الْخُرُوجُ إِلَى حُنَيْنٍ وَالْقِتَالِ وَالْهَزِيمَةِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ أَهْلُ الْمَغَازِي: خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ لَسِتٍّ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْخُرُوجِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، وَسَارَ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَكَانَ وُصُولُهُ

إِلَيْهَا فِي عَاشِرِهِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ جَمَعَ الْقَبَائِلَ مِنْ هَوَازِنَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَفِيُّونَ، وَقَصَدُوا مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ: حَدَّثَنَا الْحِزَامِيُّ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ - حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قِصَّةِ الْفَتْحِ - فَذَكَرَ لَهُ وَقْتَهَا - فَأَقَامَ عَامَئِذٍ بِمَكَّةَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَتَاهُ أَنَّ هَوَازِنَ وَثَقِيفًا قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا يُرِيدُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَئِيسُهُمْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظَعْنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ اهـ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بَكْرٍ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَيِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَقُولُ: وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْآلَافِ فَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عِبَارَةٌ مُبْهَمَةٌ بَلْ غَلَطٌ فِي هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ الْتَفَتْ عَنْ يَسَارِهِ (فَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ) إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: مِنَ الطُّلَقَاءِ غَلَطٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَمِنَ الطُّلَقَاءِ. وَهِيَ مُبْهَمَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهِيَ " وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ " إِلْخَ. وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَهَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءُ كَانُوا أَلْفَيْنِ. وَكَانَ حَالُ بَعْضِ الْأَلْفَيْنِ وَخِفَّةُ بَعْضِ الشُّبَّانِ هُمَا السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِلْهَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُنَافِقًا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ وَوَطَنِهِ وَمَهْدِ دِينِهِ وَمَعْهَدِ عِزِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَبَعْضُهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَأَلَّفُهُمْ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ وَفَضْلُهُ بِالْعَمَلِ وَمُعَاشَرَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيَزُولُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أُلْفَةِ الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ - بَلِ الْكُفْرَ - عِنْدَ مَا وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْوِي قَتْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ. كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ فِي الْقِصَّةِ. وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي لِلْهَزِيمَةِ فَهُوَ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ

وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا عَنِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَتْهُمْ هَوَازِنُ وَبَنُو نَصْرٍ بِالسِّهَامِ، وَكَانُوا رُمَاةً لَا يَكَادُ يُخْطِئُ لَهُمْ سَهْمٌ. رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مَنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ - وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا - وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا وَلَّى. وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخَفَاءً مِنَ النَّاسِ وَحَسْرَةً؟ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " اللهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ " قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهَنَا الْعَدُوُّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي فَمَا دَرِيتُ مَا أَصْنَعُ، وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِأَحَدِهِمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ

اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا " فَلَمَّا غَشَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ. عَدَدُ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ: قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْحَارِثَ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا نَصُّهُ: وَعِنْدَ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ (قَالَ) وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ لَمُوَلُّونَ وَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِائَةُ رَجُلٍ. وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ مَنْ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. وَهَذَا لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُرْسَلِ الْحَاكِمِ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا عَشَرَةً فَقَطْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: نَصْرنَا رَسُولَ اللهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا وَعَاشَرَنَا وَافِيَ الْحَمَامِ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسَّهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجَّعُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الثَّبْتُ، وَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ عَجَلَ فِي الرُّجُوعِ فَعُدَّ فِيمَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ

وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعُتْبَةُ وَمُعَتَّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا اسْتَدْبَرَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ لَهُ: " قَاتِلِ الْكُفَّارَ " فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا اهـ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَجْنَابِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْنَا شِدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمَّ قَالَ: " إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ " وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ. ظُهُورُ شَمَاتَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْهَزِيمَةِ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ. وَصَرَّحَ جِبِلَّةُ بْنُ الْجُنَيْدِ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ صَوَابُهُ كَلَدَةُ - أَلَا قَدْ بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اسْكُتْ فَوَاللهِ لَأَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَعَسَى إِنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غُرَّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ، فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْتُ مُرْصِدًا لِمَا خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إِلَّا قُوَّةً، فَلِمَا اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصَلْتُ السَّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتَّى كِدْتُ أُشْعِرُهُ إِيَّاهُ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ يَكَادُ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَادَانِي " يَا شَيْبُ ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ

صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: " اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ " قَالَ: فَوَاللهِ لَهْوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: " ادْنُ فَقَاتِلْ " فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي - اللهُ أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةِ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَوْقَعْتُ بِهِ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُ أَلْزَمُهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَتَّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ فَكَرُّوا كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَرُبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا وَخَرَجَ فِي إِثْرِهِمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي حُبًّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ، فَقَالَ: " يَا شَيْبُ الَّذِي أَرَاكَ اللهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ " ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ قَطُّ. (قَالَ) فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لِي فَقَالَ: " غَفَرَ اللهُ لَكَ " اهـ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مَنْ هَذَا عَنِ النَّضْرِ أَوِ النَّضِيرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ وَهُوَ كَافِرٌ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْجِعْرَانَةِ بِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ نَضِيرٍ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَهُ. تَرَاجَعُ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَرَ اللهُ لَهُمْ: رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَفَّاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قَبْلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَكُفُّهَا إِرَادَةً أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ " فَقَالَ عَبَّاسٌ (وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ " قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ زِيَادَةٌ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ كَلِمَةِ الْعَبَّاسِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرَارَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فَجْأَةً لانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَرَشْقِهِمْ بِالسِّهَامِ، وَلِاخْتِلَاطِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَمِمَّنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ إِلَخْ. وَفِي السِّيَرِ أَنَّ خَبَرَ الْهَزِيمَةِ بَلَغَ مَكَّةَ فَشَمِتَ مُنَافِقُوهَا. وَفْدُ هَوَازِنَ وَإِسْلَامُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ وَسَبْيُهُمْ: رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَامَ حِينَ جَاءَ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ " وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ " فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ " فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. هَذَا الَّذِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ اهـ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ هُوَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَتَطَيُّبُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ إِعْطَاؤُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِلَا مُقَابِلٍ، وَالْعُرَفَاءُ: جَمْعُ عَرِيفٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ

وَيَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ ; لِيُخْبِرَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَحَسُنَ. وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ لِأَجْلِ عِتْقِ السَّبْيِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: سَاقَ الزُّهْرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَدْ سَاقَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَبِهَا السَّبْيُ - يَعْنِي سَبْيَ هَوَازِنَ - وَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فِيهِمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَهُنَّ مَخَازِي الْأَقْوَامِ فَقَالَ: " سَأَطْلُبُ لَكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَلسَّبْيُ أَمِ الْمَالُ؟ " قَالُوا: خَيَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ فَالْحَسَبُ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ. فَقَالَ: " أَمَّا الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَوْفَ أُكَلِّمُ لَكُمُ الْمُسْلِمِينَ فَكَلِّمُوهُمْ وَأَظْهِرُوا إِسْلَامَكُمْ " فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْهَاجِرَةَ قَامُوا فَتَكَلَّمَ خُطَبَاؤُهُمْ فَأَبْلَغُوا وَرَغِبُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدَّ سَبْيَهُمْ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ فَرَغُوا فَشَفَعَ لَهُمْ وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَالَ: " لَقَدْ رَدَدْتُ الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِمْ " فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَدَدُ الْوَفْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: وَأَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ قَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّوَاتِيَ فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَكْفُولٍ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ الْمَشْهُورَةَ أَوَّلُهَا: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ وَيَقُولُ فِيهَا: امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ نَحْوَ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ اهـ. وَيَعْنِي الشَّاعِرُ الْخَطِيبُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ قَرَابَةِ السَّبَايَا لِلْمُصْطَفَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَرَابَةَ الرَّضَاعِ، فَقَدْ كَانَ بَنُو سَعْدٍ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ فِي السَّبَايَا أُخْتُهُ (الشَّيْمَاءُ) وَقَدْ أَكْرَمَهَا وَحَبَاهَا، وَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ (حَلِيمَةُ) مُرْضِعَتُهُ أَيْضًا، وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الْوَفْدِ عَمُّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو مَرْوَانَ، وَيُقَالُ: ثَرَوَانُ وَبُرْقَانُ، كَمَا كَانَ هَذَا الْخَطِيبُ مِنْهُمْ أَيْضًا.

وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ رِجَالَ الْوَفْدِ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَنَّ مِمَّا قَالَهُ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فِي السَّبَايَا: وَأَنَّ أَبْعَدَهُنَّ قَرِيبٌ مِنْكَ، حِضْنُكَ فِي حُجُورِهِنَّ، وَأَرْضَعْنَكَ بِثَدْيِهِنَّ، وَتَوَرَّكْنَكَ عَلَى أَوْرَاكِهِنَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. قِسْمَةُ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ (وَإِيثَارُ قُرَيْشٍ وَلَاسِيَّمَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَحِرْمَانِ الْأَنْصَارِ) كَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ قَضَى عُرْفُ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ اسْتِرْقَاقَهُمْ، وَأَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْتِرْضَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْغَانِمِينَ، فَجَمَعَ بَيْنَ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ، وَاتِّقَاءِ تَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَتِ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيَّةٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَثْرَةِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ الَّذِي جَمَعَ الْقَبَائِلَ لِلْقِتَالِ، سَاقَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَثْبُتُوا وَلَا يَفِرُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْخِيرًا مِنَ اللهِ تَعَالَى; لِيَكُونُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَسَّمَهَا وَأَفَاضَ فِي الْعَطَاءِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ طُلَقَاءِ يَوْمِ الْفَتْحِ وَجَدَ الْأَنْصَارُ وَتَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَخَطَبَ فِيهِمْ فَأَرْضَاهُمْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَغَازِي فَنَذْكُرُ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! " أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبِهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ". وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِين أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ فَطَفِقَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ

دِمَائِهِمْ. (قَالَ أَنَسٌ) : فَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " سَتَجِدُونَ أَثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ " قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ نَصْبِرْ ; لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ - كَذَا فِيهِمَا - بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ " إِلَخْ. وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ وَهُوَ أَخْصَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا: أَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهَ اللهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيـ ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسُ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخَفَّضَ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ

قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِائَةً اهـ. وَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ الَّذِينَ أَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ فَبَلَغُوا أَرْبَعِينَ وَنَيِّفًا. وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُتَقَدِّمِ: " لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا " وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ الرَّاوِي أَدَبًا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ فُسِّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظِهِ فَقَالَ: " أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصَدَقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاكَ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ " أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ؟ " فَقَالُوا: بَلِ الْمَنُّ عَلَيْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ. وَأَقُولُ: هَذَا مِنْ عَجَائِبِ تَوَاضُعِهِ وَلُطْفِهِ وَدَقَائِقِ حِكْمَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، ذَكَرَ مَا لَعَلَّهُ يَخْتَلِجُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ مَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ بِهِدَايَتِهِ، وَمَا كَانُوا قَبْلَهَا إِلَّا قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُتَعَادِيَةَ الْمُتَبَاغِضَةِ، لَا هَمَّ لِإِحْدَاهُمَا إِلَّا الْفَتْكُ بِالْأُخْرَى فَصَارُوا أَعَزَّ الْعَرَبِ وَمَفْخَرَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَنَزَلَ فِيهِمْ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (3: 103) الْآيَةَ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى يَتَعَبَّدُ الْمَلَايِينُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِتِلَاوَتِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ بَكَى الْقَوْمُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحَاهُمْ بِالدُّمُوعِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ. وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ مَا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ نَفَعَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. (فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْغَزْوَةُ) مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْحِكَمِيَّةِ كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَ رَسُولَهُ وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ أَنَّهُ إِذَا فَتَحَ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، وَدَانَتْ لَهُ الْعَرَبُ بِأَسْرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْفَتْحُ الْمُبِينُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ أَمْسِكْ قُلُوبَ هَوَازِنَ وَمَنْ تَبِعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَجْمَعُوا وَيَتَأَلَّبُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُسْلِمِينَ ; لِيَظْهَرَ أَمْرُ اللهِ وَتَمَامُ إِعْزَازِهِ لِرَسُولِهِ وَنَصْرِهِ لِدِينِهِ ; وَلِتَكُونَ غَنَائِمُهُمْ شُكْرَانًا لِأَهْلِ الْفَتْحِ ; وَلِيُظْهِرَ اللهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ وَقَهْرَهُ لِهَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا فَلَا يُقَاوِمُهُمْ بَعْدُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَلُوحُ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، وَتَبْدُوا لِلْمُتَوَسِّمِينَ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ أَذَاقَ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، لِيُطَامِنَ رُؤُوسًا رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ، وَلَمْ تَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ كَمَا دَخَلَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاضِعًا رَأْسَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى فَرَسِهِ، حَتَّى إِنَّ ذَقْنَهُ يَكَادُ أَنْ يَمَسَّ سَرْجَهُ، تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ، وَخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِكَانَةً

لِعِزَّتِهِ، أَنْ أَحَلَّ لَهُ حَرَمَهُ وَبَلَدَهُ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، وَلِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ - أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يَنْصُرْهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ يَخْذُلْهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى نَصْرَ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، لَا كَثْرَتُكُمُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ فَإِنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا فَوَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ، مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرْوَهَا (26) وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ خَلَعَ النَّصْرَ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (28: 5، 6) . وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا مَنَعَ الْجَيْشَ غَنَائِمَ مَكَّةَ فَلَمْ يَغْنَمُوا مِنْهَا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا مَتَاعًا وَلَا سَبْيًا وَلَا أَرْضًا كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، وَكَانُوا قَدْ فَتَحُوهَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ وَفِيهِمْ حَاجَةٌ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجَيْشُ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ، فَحَرَّكَ سُبْحَانَهُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ لِغَزْوِهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ إِخْرَاجَ أَمْوَالِهِمْ وَنِعَمِهِمْ وَشِيَاهِهِمْ وَسَبْيِهِمْ مَعَهُمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً وَكَرَامَةً لِحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ، وَتَمَّمَ تَقْدِيرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ أَطْعَمَهُمْ فِي الظَّفَرِ، وَأَلَاحَ لَهُمْ مَبَادِئَ النَّصْرِ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (8: 42) فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَبَرَدَتِ الْغَنَائِمُ لِأَهْلِهَا، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي دِمَائِكُمْ، وَلَا فِي نِسَائِكُمْ وَذَرَارِيكُمْ، فَأَوْحَى اللهُ سُبْحَانَهُ إِلَى قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ، فَجَاءُوا مُسْلِمِينَ، فَقِيلَ: إِنَّ مِنْ شُكْرِ إِسْلَامِكُمْ وَإِتْيَانِكُمْ أَنْ نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَسَبْيَكُمْ، إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (8: 70) . وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ غَزْوَ الْعَرَبِ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَخَتَمَ غَزْوَهُمْ بِغَزْوَةِ حُنَيْنٍ ; وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ بِالذِّكْرِ فَيُقَالُ: بَدْرٌ وَحُنَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعُ سِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ قَالَتْ بِأَنْفُسِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ. وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَمَى فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ فِيهِمَا، وَبِهَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ طَفِئَتْ جَمْرَةُ الْعَرَبِ لِغَزْوِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُسْلِمِينَ، فَالْأُولَى خَوَّفَتْهُمْ وَكَسَرَتْ مِنْ حَدِّهِمْ، وَالثَّانِيَةُ اسْتَفْرَغَتْ قُوَاهُمْ، وَاسْتَنْفَدَتْ سِهَامَهُمْ، وَأَذَلَّتْ جَمْعَهُمْ، حَتَّى لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَبَرَ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ، وَفَرَّحَهُمْ بِمَا نَالُوهُ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَغْنَمِ وَكَانَتْ كَالدَّوَاءِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ كَسْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَيَّنَ جَبَرَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ تَمَامَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا صَرَفَ

عَنْهُمْ مِنْ شَرِّ هَوَازِنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ، وَإِنَّمَا نُصِرُوا عَلَيْهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أُفْرِدُوا عَنْهُمْ لَأَكَلَهُمْ عَدُوُّهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى اهـ. ثُمَّ عَقَدَ فُصُولًا أُخْرَى لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْفِقْهِ. افْتِرَاءُ الرَّوَافِضِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ (وَالطَّعْنُ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ) مُلَخَّصُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَنْ جَيْشَ الْمُسْمِلِينَ كَانَ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ أَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُ الْمُصِرُّ عَلَى شِرْكِهِ، الَّذِي يَتَرَبَّصُ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ لِيَثْأَرَ مِنْهُمْ، وَالَّذِي يُرِيدُ قَتْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ وَالشُّبَّانُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْغَنِيمَةِ لَا لِإِعْزَازِ الْحَقِّ بِالْجِهَادِ. وَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ رَشْقُ النِّبَالِ كَرِجْلِ الْجَرَادِ فَرَّ هَؤُلَاءِ وَأَدْبَرُوا فَذُعِرَ الْجَيْشُ، وَفَرَّ غَيْرُهُمُ اضْطِرَابًا، كَمَا هِيَ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَا جُبْنًا، وَكَانَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ذَلِكَ تَرْبِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَعَادَتِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُفَارِقُونَهُ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ عَدَّهُمْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَدَّ مَنْ رَآهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ سَائِرَ الْجَيْشِ قَدِ انْهَزَمَ جُبْنًا، وَتَرَكَ الرَّسُولَ وَهُوَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ عَمْدًا، بَلْ وَلَّى الْجُمْهُورُ مُدْبِرِينَ بِالتَّبَعِ لِلطُّلَقَاءِ وَالْأَحْدَاثِ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْ رَشْقِ السِّهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأُلُوفِ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا عَرَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمَّا عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا الْأَنْصَارُ بِمَكَانِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ نِدَاءِ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَسْرَعُوا فِي الْعَطْفِ وَالرُّجُوعِ. هَذَا مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ. وَأَمَّا الرَّوَافِضُ فَإِنَّهُمْ يَطْعَنُونَ كَعَادَتِهِمْ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرُّوا كُلُّهُمْ جُبْنًا وَعِصْيَانًا لِلَّهِ، وَإِسْلَامًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَاسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، إِلَّا نَفَرَا قَلِيلًا لَا يَتَجَاوَزُونَ الْعَشَرَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ثَبَتُوا بِالتَّبَعِ لِثَبَاتِ عَلِيٍّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ وَحْدَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَقُتِلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَزَالَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْأَرْضِ. ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 3، 4 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كِتَابًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ

كَبَّرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ تِلَاوَةِ (عَلِيٍّ) أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَصَغَّرَ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَفَنَّدْنَا شُبَهَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ كَبَّرَ صَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ ثَبَاتَ عَلِيٍّ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ أَضْعَافَ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ، وَحَقَّرَ سَائِرَ الصَّحَابَةِ أَقْبَحَ التَّحْقِيرِ، وَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ فَرَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ الْفَارِّينَ، وَهَمَّ بِزَعْمِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا عَلِيًّا وَثَلَاثَةَ رِجَالٍ وَقِيلَ تِسْعَةٌ " ثَبَتُوا بِثَبَاتِهِ. أَمَّا زَعْمُهُ أَنَّ عُمَرَ قَدْ فَرَّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا أَصْحَابُ السِّيَرِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بِهِ رِوَايَةَ قَتَادَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ذَكَرَ فِيهَا هَزِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ انْهَزَمَ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ. فَوَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا فِي كَلَامِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ ; لِئَلَّا يَضِلَّ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى كِتَابِهِ فِي فَهْمِهَا. قَالَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ إِلَخْ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ رَوَى بِإِسْنَادِهِ، أَنَّهُ رَوَاهُ مُسْنَدًا مَوْصُولًا، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيهِ مُعَلَّقَةٌ بَدَأَهَا الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ إِلَخْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ (يَعْنِي يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ) وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ اهـ. وَيُرِيدُ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ ذِكْرَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا الرَّافِضِيُّ; لِأَنَّ غَرَضَهُ مَحْصُورٌ فِي قَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ " لِيُفَسِّرَهُ بِأَنَّهُ فِي النَّاسِ الْفَارِّينَ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ مُحْتَمَلَةٌ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ ثَبَتُوا، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْقَسْطَلَانِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ فِي النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَزِمُوا، وَمَتَى كَانَ عُمَرُ جَبَانًا يَفِرُّ مِنَ الْقِتَالِ؟ ! وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُو اللهَ بِأَنْ يُعِزَّ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَشُدُّ بِهِ الدِّينَ " فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا عُبِدَ اللهُ جَهْرَةً حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ. وَقَدْ طَعَنَ الرَّافِضِيُّ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَلَاسِيَّمَا أَصْحَابُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَقْسَمَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ ; إِذْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السِّكِّينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (48: 18) ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا

(48: 29) وَهَذَا الْكِتَابُ وَسَائِرُ كُتُبِ الرَّوَافِضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ غَيْظًا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ هَذَا الرَّافِضِيَّ زَعَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فَرُّوا فِي أَثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: " وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِرِكَابِهِ. قِيلَ: وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ وَقِيلَ: ثَبَتَ مَعَهُ تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ الْمُفِيدُ فِي الْإِرْشَادِ " اهـ. وَهُوَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إِرْشَادِ مُفِيدِهِ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكِبَارِ مُصَنِّفِيهِمْ فِي تَأْيِيدِ نِحْلَتِهِمْ، فَذَكَرَ مَا اعْتَمَدَهُ بِصِيغَةِ التَّعْرِيضِ بَعْدَ جَزْمِهِ هُوَ بِثَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصٌّ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيُقَالُ لَهُ: وَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي؟ أَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا قَدِ اضْطَرَبُوا عِنْدَ اضْطِرَابِ الْجُمْهُورِ فِي تِلْكَ الْهَزِيمَةِ؟ أَوَلَيِسَ نُزُولُ السَّكِينَةِ لَازِمًا أَوْ مَلْزُومًا لِعَوْدَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِلَى الْقِتَالِ؟ وَهَلْ عَادُوا إِلَّا بَعْدَ أَنْ زَالَ ذَلِكَ الِاضْطِرَابُ وَاخْتِلَاطُ الْأَمْرِ الَّذِي عَرَضَ لَهُمْ بِفِرَارِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؟ وَهَلْ زَالَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّكِينَةِ لَمَّا سَمِعُوا نِدَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنِدَاءَ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَعَلِمُوا مَكَانَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ وَهَلْ يَكُونُ أَصْحَابُ هَذِهِ الْكَرَّةِ النَّاهِضَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْفَرَّةِ الْعَارِضَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَوَاقِفِ السَّابِقَةِ وَالْفُتُوحَاتِ اللَّاحِقَةِ مِنَ الْجُبَنَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَيَكُونُ فِرَارُهُمْ خِذْلَانًا لِلرَّسُولِ وَتَعَمُّدَا لِإِسْلَامِهِ لِلْكُفَّارِ كَمَا افْتَرَى هَذَا الرَّافِضِيُّ الْكُفْرَ؟ . وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ بِثُمَّ الدَّالِّ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْ تَوَلِّي الْأَدْبَارِ أَنَّ الِاضْطِرَابَ الْمُنَافِيَ لِلسِّكِّينَةِ بِانْهِزَامِ الطُّلَقَاءِ كَانَ عَامًّا ; إِذْ تَبِعَهُ انْهِزَامُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ سَبَبُهُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْمَآلُ فَالْجَيْشُ اضْطَرَبَ لِهَزِيمَةِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْهُ، وَالرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اضْطَرَبَ بَالُهُ حُزْنًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ابْتِلَائِهِمْ بِذَلِكَ أَنْزَلَ سَكِينَةً عَلَى رَسُولِهِ، فَأَمَرَ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ بِنِدَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَنَادَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ أَنْزَلَ اللهُ السِّكِّينَةَ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ وَالْعِلْمِ بِمَكَانِهِ. إِنَّ الرَّافِضِيَّ عَمَدَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مُجْمَلَ الْقِصَّةِ بِمَا وَافَقَ هَوَاهُ مِنْ نَقْلٍ، وَمَا مَزَجَهُ بِهِ مِنْ تَأْوِيلٍ بَاطِلٍ - إِلَى تَحْرِيفِ الْآيَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَزَعَمَ: أَنَّهُمَا تَوْبِيخٌ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ ـ

رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ مَا عَدَا الَّذِينَ ثَبَتُوا وَهُمْ فِي زَعْمِهِ ثَلَاثَةٌ، بَلْ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَخَصَّ أَصْحَابَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالذِّكْرِ، بَلْ بِالذَّمِّ الْمُقْتَضِي لِلْكُفْرِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا صَاحِبَ الدِّينِ " لِجُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَطَغَامِ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ " مَا نَصُّهُ: فَأَيْنَ مَا بَايَعْتُمْ بِهِ اللهَ سُبْحَانَهُ، وَمَا أَعْطَيْتُمُوهُ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ عَلَى أَلَّا تَفِرُّوا عَنْهُ، وَمَنْ فَرَّ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ؟ فَمَا وَفَيْتُمْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ (كَذَا) إِذْ يَقُولُ: إِنِ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا (9: 111) أَنْقَضْتُمُ الْعَهْدَ؟ أَمِ اسْتَقَلْتُمُ الْبَيْعَ " ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (9: 25) غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (8: 16) انْتَهَى. بِحُرُوفِهِ وَتَحْرِيفِهِ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ تَفْسِيرًا لِآيَةِ يَوْمِ حُنَيْنٍ الَّتِي لَمْ تَكُنْ إِلَّا تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالتَّوَلِّي فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا التَّحْرِيفِ أَنْ يَهْدِمَ كُلَّ مَا لِلصَّحَابَةِ الْكِرَامِ مِنَ الثَّنَاءِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَيَجْعَلَهُمْ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ، وَيُحَوِّلُ رِضْوَانَ اللهِ عَنْهُمْ إِلَى غَضَبِهِ، وَوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِالْجَنَّةِ إِلَى وَعِيدِهِمْ بِالنَّارِ. أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّافِضِيَّ كَيْفَ لَمْ يُتِمَّ آيَةَ الشِّرَاءِ; لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَمُبْطِلَةٌ لِتَأْوِيلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) فَلَوْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ أَوْ يَسْتَقِيلُونَ هَذَا الْبَيْعَ لَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ بِهِ، وَلَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَمِ اسْتَقَلْتُمُ الْبَيْعَ، إِلَى قَوْلِ الْأَنْصَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَنْعِهِ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ - إِذْ قَالُوا: لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ وَرَسُولُهُ لَهُمْ بِالْوَفَاءِ. وَشَهِدَ عَلَيْهِمُ الرَّافِضِيُّ بِالْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَاسْتِقَالَةِ الْبَيْعِ! ! . وَقَدْ أَعَادَ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ذِكْرَ مَا زَعَمَهُ مِنْ فِرَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي أَعَزَّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَأَنْزَلَ بِمُوَافَقَتِهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ أَعْظَمَ نَاشِرٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ثُمَّ فَسَّرَ السِّكِّينَةَ " بِتَثْبِيتِ الْقَلْبِ وَتَسْكِينِهِ وَإِيدَاعِهِ الْجُرْأَةَ وَالْبَسَالَةَ " وَقَالَ: " وَإِنَّمَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ مَرَّ ذِكْرُهُمْ " وَقَدْ جَهِلَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ طَعْنٌ فِيهِمْ; لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ مِنَ السَّكِينَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ، لِعَطْفِ نُزُولِهَا عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ ب " ثُمَّ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّرَاخِي، وَالصَّوَابُ اللَّائِقُ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبِأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ مَا ذَكَرْنَا.

ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الطَّعْنِ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ - وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ عَلَى أَنَّهُ حَصَرَهُ بَعْدُ فِي (عَلِيٍّ) وَحْدَهُ - قَالَ: " فَإِذَا تَدَبَّرْتَ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا قَرَّعَهُمْ فِيهِ وَعَاتَبَهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ وَكَيْفَ بَاهَى اللهُ سُبْحَانَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْعَسْكَرَ الْمِجَرَّ، وَالْجَحْفَلَ الْحَاشِدَ بِأَعْلَامِ الصَّحَابَةِ، وَأَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَنَادِيدِهِمْ، وَمَنْ إِلَيْهِمُ الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ - ظَهَرَتْ لَكَ عَظْمَتُهُ وَمَكَانَتُهُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَبْلَغُهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ " إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ وَأَسْهَبَ مِنَ الْمَعَانِي الشَّرِيعَةِ فِي تَحْقِيرِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى خَصَّ بِالذِّكْرِ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْجَنَّةِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ سَيْفَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَفَاتِحَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَرَافِعَ لِوَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَالْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ وَأَبَا أَيُّوبَ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ صَنَادِيدِ الْإِسْلَامِ الْأَعْلَامِ، فَزَعَمَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا أَنَّ تِلْكَ الصَّدْمَةَ " أَطَارَتْ أَفْئِدَتَهُمْ وَشَرَدَتْ بِهِمْ فِي كُلِّ وَادٍ " لِيَقُولَ فِي عَلِيٍّ " وَكَيْفَ قَامَ فِي وَجْهِهَا، وَانْتَصَبَ لِصَدِّهَا، وَأَقْدَمَ عَلَى رَدِّهَا بِصَدْرٍ أَوْسَعَ مِنَ الْفَضَاءِ، وَقَلْبٍ أَمْضَى مِنَ الْقَضَاءِ " وَزَعَمَ بَلْ أَقْسَمَ أَنَّهُ " لَقَدْ فَازَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ بِأَجْرِهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى فَضْلِهَا وَطَارَ بِفَخْرِهَا " كَأَنَّهُ يَشْعُرُ شُعُورًا خَفِيًّا لَا يُدْرِكُهُ عَقْلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ إِثْبَاتُ غُلُوِّهِ فِيهِ إِلَّا بِافْتِرَاءِ مَنَاقِبَ لَهُ مَقْرُونَةً بِتَحْقِيرِ سَائِرِ إِخْوَانِهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ فِي الْأَمْرَيْنِ، كَزَعْمِهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّعَهُمْ، وَبَاهَى بِهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُزْدَرٍ لِتِلْكَ الْعُصْبَةِ الْهَاشِمِيَّةِ وَهُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَيْضًا - أَيْ كَمَا ازْدَرَى سَائِرَ الصَّحَابَةِ - وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُمْ مِنَ الِازْدِرَاءِ لِنَسَبِهِمْ لَا لِشَجَاعَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، وَذَلِكَ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، فَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ: " فَوَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا ثَبَتَ أُولَئِكَ إِلَّا بِثَبَاتِهِ، وَلَا رَكَنُوا إِلَّا لِدِفَاعِهِ وَمُحَامَاتِهِ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِكِفَايَتِهِ لِحِمَايَتِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَلَمَّ بِالتَّارِيخِ وَقَرَأَ الْيَسِيرَ عَلِمَ أَنَّ أُولَئِكَ الْهَاشِمِيِّينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقِفٌ مَشْهُورٌ، وَلَا مَقَامٌ مَذْكُورٌ، وَلَا دَوَّنَ لَهُمُ التَّارِيخُ قَتْلَ أَحَدٍ " - إِلَى أَنْ قَالَ - غُلُوًّا فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمَدْحِ، وَإِسْرَافًا فِي الْإِزْرَاءِ وَالْقَدْحِ، وَتَهْوِيلًا لِلْأَمْرِ. " بِرَبِّكَ دَعِ التَّكَلُّفَ وَخَبِّرْنِي مُنْصِفًا لَوْ فَرَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ أُولَئِكَ التِّسْعَةِ مَعَ مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ بَأْسِهِ وَشَجَاعَتِهِ أَكَانَ يَثْبُتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ؟ كَلَّا وَاللهِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى وَالْقَارِعَةُ الْعُظْمَى بِقَتْلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدَّوْلَةُ، وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُ الْأُمَمِ بَعْدَ نَجَاتِهَا، وَانْقِرَاضُهَا بَعْدَ حَيَاتِهَا فَثَبَاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُحَامَاتُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى أَنْ ثَابَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الْفِئَةُ الَّتِي لَمْ تَتَجَاوَزْ مِائَةَ (؟) مُقَاتِلٍ هُوَ السَّبَبُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَقَاءِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَنَجَاةِ الْخَلْقِ مِنَ الْهَلَكَةِ ".

ثُمَّ فَرَّعَ مِنْ هَذِهِ التَّخَيُّلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالتَّهْوِيلَاتِ الْخَطَابِيَّةِ، وَالْمُفْتَرَيَاتِ الرَّافِضِيَّةِ، تَخْطِئَةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي تَوْلِيَةِ أَمْرِهَا (يَعْنِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى) غَيْرَ صَاحِبِ هَذِهِ الْمِنَّةِ عَلَيْهَا وَعَلَى الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ وَعَلَى. . . . مَنِ اسْتَغْفَرَ اللهَ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَاكَى الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى تَخْطِئَةِ الْأُمَّةِ بِتَخْطِئَةِ الشَّيْخَيْنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ رُوَاةِ صِحَاحِ السُّنَّةِ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِيَا فِي الْقِصَّةِ مَا افْتَرَاهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَلَى اللهِ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَعَلَى خِيرَةِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَدْ بَدَأَ طَعْنُهُ فِي الشَّيْخَيْنِ بِقَصْدِ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَصَرْفِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: " وَاعْجَبْ لِلشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحِيهِمَا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ وَالنَّصْرِ الْبَاهِرِ شَيْئًا، وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَسَنَرُدُّ طَعْنَهُ عَلَى الشَّيْخَيْنِ فِي نَحْرِهِ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي التَّفْسِيرِ الدِّفَاعُ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ. إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هُوَ الَّذِي نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُنَيْنٍ لَا بِمَنْطُوقٍ وَلَا مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ (25) وَقَالَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) وَلَمْ يَقُلْ: (وَعَلَى عَلِيٍّ) وَحْدَهُ، وَلَا عَلَى الثَّلَاثَةِ أَوِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ زَعَمَ الشِّيعَةُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَيْرُهُمْ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا عُرِفُوا بِأَسْمَائِهِمْ وَهُوَ لَا يَنْفِي ثَبَاتَ غَيْرِهِمْ أَيْضًا; لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَقَالَ: وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا (26) وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَرُوَاةُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ كَتَمُوهَا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَحْدَهُ (قُلْنَا) : إِنَّهُمْ لَمْ يَرْوُوا مِنْ مَنَاقِبِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِقَدْرِ مَا رَوَوْا مِنْ مَنَاقِبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَعَنْهُمْ، وَمِمَّا رَوَوْا ثَبَاتُهُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْخَيْنِ عَبَّاسًا وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمَا بِشُرُوطِهِمَا الْمَعْرُوفَةِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ قَدْ نَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ رِوَايَةً مُعَلَّقَةً زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ كَانَ مِنَ الْمُدْبِرِينَ، وَلَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا مَا فِي مَنَاقِبِ مُعَاوِيَةَ وَرَوَى الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ. وَإِذَا كَانَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَدْ تَرَكَا الرِّوَايَةَ عَمَّنْ لَا يَثِقَانِ بِعَدَالَتِهِ مِنَ الرَّوَافِضِ فَهَلْ يُلَازِمَانِ وَنَحْنُ نَرَى مِثْلَ هَذَا الْمُؤَلِّفِ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى غُلُوًّا فِي عَلِيٍّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَأَغْنَاهُ بِمَنَاقِبِهِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ ذَلِكَ) وَإِزْرَاءً وَقَدْحًا فِي خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَطَعْنًا فِيهِمْ بِالْبَاطِلِ؟ .

لَيْسَ فِي الْتِزَامِ الشَّيْخَيْنِ لِلصِّدْقِ مَثَارٌ لِلْعَجَبِ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّافِضِيِّ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْيِ مِنَ اللهِ حَيْثُ أَسْنَدَ إِلَى كِتَابِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، بَلْ مَا فِيهِ خِلَافُهُ أَيْضًا مِنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَحَيْثُ أَقْسَمَ بِهِ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ أَحَدٌ فِي حُنَيْنٍ إِلَّا عَلِيٌّ وَثَلَاثةٌ أَوْ تسعةٌ ثَبَتُوا بِثَبَاتِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لَا بِشَجَاعَتِهِمْ وَلَا بِإِيمَانِهِمْ وَلَا بِحِرْصِهِمْ عَلَى حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. ثُمَّ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْيِ مِنْهُ تَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ وَسَيِّدِ خَلْقِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِعَلِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْلَاهُ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدَّوْلَةُ، وَهَلَكَتِ الْأُمَمُ وَانْقَرَضَتْ؟ فَجَعَلَ لَهُ الْمِنَّةَ وَحْدَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى دِينِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِمَا افْتَرَاهُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَحْدَهُ مَعَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ ثَبَاتُهُ وَحْدَهُ لَمَا اقْتَضَى كُلَّ هَذِهِ الْمِنَنِ فَإِنَّ النَّصْرَ لَمْ يَكُنْ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوَّلًا، بَلْ بِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ تَأْيِيدِهِ، وَبِعَوْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى الْقِتَالِ، وَإِنْزَالِ مَلَائِكَتِهِ لِتَثْبِيتِهِمْ فِي مَوَاقِفِ النِّزَالِ. أَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (5: 67) فَكَيْفَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ. أَوَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ قَصَدُوا قَتْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِرَارًا فَعَصَمَهُ اللهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ مَعَهُ؟ . أَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَمِنْ إِيعَادِ أَعْدَائِهِ بِالْخِذْلَانِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ جَزْمُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَنَّ مَا جَمَعَتْهُ هَوَازِنُ لِقِتَالِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا عَلِيٌّ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَزَالَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ وَهَلَكَتِ الْأُمَمُ؟ وَهَلْ كَانَتْ هَوَازِنُ قَادِرَةً عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ سَائِرُ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَقْوَى مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَنَصْرُ اللهِ فَوْقَ ذَلِكَ؟ . أَلَم يَكْتَفِ بِجَعْلِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَارِ وَالِافْتِرَاءِ ذَرِيعَةً لِلطَّعْنِ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى الثَّلَاثَةِ أَوِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ اعْتَرَفَ بِفَضْلِهِمْ لِنَسَبِهِمْ، وَإِنْزَالِ السِّكِّينَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَجَّلِ رُوَاةِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَمُمَحِّصِيهَا مِنَ الْكَذِبِ، حَتَّى جَعَلَ الْمِنَّةَ لِعَلِيٍّ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي حَيَاتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِ اللهِ وَنَصْرِهِ لَهُ وَبَقَاءِ دِينِهِ وَأُمَّتِهِ؟ ؟ . أَبِمِثْلِ هَذَا تَكُونُ دَعَايَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الرَّفْضِ وَتَحْقِيرِ الصَّحَابَةِ وَرِجَالِ السُّنَّةِ؟ . وَالَّذِي يَعْلَمُهُ بِالْبَدَاهَةِ كُلُّ صَحِيحِ الْعَقْلِ مُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ مُطَّلِعٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ لَمْ يَكُونُوا جُبَنَاءَ، بَلْ كَانُوا أَشْجَعَ خَلْقِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَصْرِهِ وَبِهِمْ

28

فِي جُمْلَتِهِمْ لَا بِعَلِيٍّ وَحْدَهُ، كَرَّمَ اللهُ وُجُوهَهُمْ وَوَجْهَهُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (8: 62 و63) الْآيَةَ، وَأَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي بَدْرٍ وَهُمْ أَذِلَّةٌ جَائِعُونَ، حُفَاةٌ رَاجِلُونَ، قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَنَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَفُرْسَانِهَا الَّذِينَ هُمْ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِمْ، مَا كَانُوا لِيَجْبُنُوا عَنْ قِتَالِ هَوَازِنَ وَهُمْ عَلَى النِّسْبَةِ الْعَكْسِيَّةِ مِنْ مُشْرِكِي بَدْرٍ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهِ تَمْحِيصًا لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا بِهِ وَبِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِالْكَثْرَةِ وَحْدَهَا. وَلَوْ أَقْسَمَ مُقْسِمٌ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ هَذَا الشِّيعِيُّ الَّذِي مَلَكَ عَلَيْهِ الْغُلُوُّ أَمْرَهُ، وَسَلَبَ التَّعَصُّبُ عَقْلَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا بَعَثَ مُحَمَّدًا خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ، وَمُكَمِّلًا لِلدِّينِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، إِلَّا وَهُوَ قَدْ كَفَلَ نَصْرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، وَعِصْمَتَهُ مِنِ اغْتِيَالِ الْمُغْتَالِينَ، بِفَضْلِهِ وَحْدَهُ، لَا بِفَضْلِ عَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْلَقْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِ رَسُولِهِ فِي حُنَيْنٍ لَمَا قُتِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا زَالَ دِينُ اللهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ، وَلَوَفَى اللهُ تَعَالَى بِوَعْدِهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كُلِّهِمْ، لَوْ أَقْسَمَ السُّنِّيُّ الْمُحِبُّ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْقَسَمَ الْمُوَافِقَ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِلتَّارِيخِ الصَّحِيحِ وَلِلْمَعْقُولِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، لَكَانَ قَسَمُهُ أَبَرَّ وَأَصْدَقَ وَأَرْضَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ مِنْ قَسَمِ ذَلِكَ الشِّيعِيِّ عَلَى جَهْلِهِ وَتَعَصُّبِهِ الْمُخَالِفِ لِكُلِّ مَا ذُكِرَ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (13: 33) . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ أَنْ يُبَلِّغَ النَّاسَ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. ثُمَّ أَمَّرَ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنْ يَتْبَعَ أَبَا بَكْرٍ فَيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ أَوَائِلَ سُورَةِ بَرَاءَةٍ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَأَنْ يُنَادِيَ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي أُمِرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِالنِّدَاءِ بِهَا، وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ كَمَا سَيَأْتِي.

وَلَفْظُ (نَجَسٌ) فِيهَا بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ نَجِسَ الشَّيْءُ (مِنْ بَابِ تَعِبَ) فَهُوَ نَجِسٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ - إِذَا كَانَ قَذِرًا غَيْرَ نَظِيفٍ، وَالِاسْمُ النَّجَاسَةُ. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِجَعْلِ الْمَوْصُوفِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الصِّفَةِ. وَإِذَا وُصِفَ الْإِنْسَانُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شِرِّيرٌ خَبِيثُ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ فِي الْحِسِّ. وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الدَّاءُ أَوْ صَاحِبُهُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عُضَالٌ لَا يَبْرَأُ، وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا اللَّفْظُ وَلَا كَلِمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَذِرِ وَالْخَبِيثِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى كَالرِّجْسِ الَّذِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [ص48 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] . وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: النَّجَسُ وَالنَّجِسُ (بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَالنَّجَسُ بِالتَّحْرِيكِ: الْقَذِرُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَذَرْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدَاءٌ نَجِسٌ وَنَاجِسٌ وَنَجِيسٌ عُقَامٌ لَا يُبْرَأُ مِنْهُ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ صَاحِبُ الدَّاءِ، وَالنَّجَسُ اتِّخَاذُ عَوْذَةٍ لِلصَّبِيِّ، وَقَدْ نَجُسَ لَهُ وَنَجَّسَهُ عَوَّذَهُ (قَالَ) الْجَوْهَرِيُّ: وَالتَّنْجِيسُ شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ كَالْعَوْذَةِ تُدْفَعُ بِهَا الْعَيْنُ (وَقَالَ) اللَّيْثُ: الْمَنْجَسُ الَّذِي يُعَلَّقُ عَلَيْهِ عِظَامٌ أَوْ خِرَقٌ وَيُقَالُ لِلْمُعَوِّذِ: مُنَجِّسٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَلِّقُونَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ عُيُونُ الْجِنِّ الْأَقْذَارَ مِنْ خِرَقِ الْمَحِيضِ، وَيَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا تَقْرَبُهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا بِحُرُوفِهِ. وَفِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّنَجُّسِ رَفْعُ النَّجَسِ، يَعْنِي ضَرَرَ الْجِنِّ، كَالتَّحْرِيمِ وَالْمَأْثَمِ وَالتَّحَنُّثِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ فَاعِلُهُ مِنَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْحِنْثِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّجَاسَةُ الْقَذَارَةُ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ، وَضَرْبٌ يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ. وَالثَّانِي: وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَيُقَالُ: نَجَّسَهُ إِذَا جَعَلَهُ نَجِسًا، وَنَجَّسَهُ أَيْضًا أَزَالَ نَجَسَهُ، وَمِنْهُ تَنْجِيسُ الْعَرَبِ، وَهُوَ شَيْءٌ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ عَوْذَةٍ عَلَى الصَّبِيِّ لِيَدْفَعُوا عَنْهُ نَجَاسَةَ الشَّيْطَانِ. وَالنَّاجِسُ وَالنَّجِيسُ دَاءٌ خَبِيثٌ لَا دَوَاءَ لَهُ اهـ. أَقُولُ: لَا تَزَالُ سَلَائِلُ الْعَرَبِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ نَجَسٌ بِمَعْنَى خَبِيثٍ ضَارٍّ مُؤْذٍ. كَمَا أَنَّ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ لَا يَزَالُونَ يُعَلِّقُونَ التَّنَاجِيسَ وَالتَّعَاوِيذَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِوِقَايَتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْعَيْنِ الْخَبِيثَةِ مِنَ الْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْعِبْرَانِيُّونَ يُسَمُّونَ الدَّاءَ الْعُضَالَ نَجَسًا وَصَاحِبَهُ نَجَسًا وَشِفَاءَهُ طَهَارَةً. وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّجَسِ عَلَى الْقَذَرِ وَالْخُبْثِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الَّذِي أَفْهَمُهُ، وَمِنْهُ الْمَعَاصِي وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَنَقَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ قَدْ زَنَى بِهَا: هُوَ أَنْجَسَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي الدَّاءِ، وَذَكَرَ مِنْهَا شَاهِدًا فِي الْبَيْتِ قَوْلَ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤْيَةَ:

وَالشَّيْبُ دَاءٌ نَجِيسٌ لَا دَوَاءَ لَهُ ... لِلْمَرْءِ كَانَ صَحِيحًا صَائِبَ الْقَحْمِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ هُوَ دَاءُ عَيَاءٍ لِلرَّجُلِ الصَّحِيحِ الْجَلِدِ الَّذِي إِذَا تَقَحَّمَ فِي الشَّدَائِدِ أَصَابَ فِيهَا وَلَمْ يُخْطِئْ. (قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَنَجَّسَتْهُ الذُّنُوبُ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَتَقُولُ: لَا تَرَى أَنْجَسَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَا أَنْجَسَ مِنَ الْفَاجِرِ اهـ. هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى النَّجَسِ وَالنَّجَاسَةِ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ. فَالنَّجَسُ مَا يَجِبُ التَّطْهِيرُ لِمَا يُصِيبُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ قَذِرًا فِي الْحِسِّ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، أَمْ لَا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهَا وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تُصِيبُهُ أَبْدَانُهُمْ مَعَ الْبَلَلِ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَعَنِ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ. وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِهِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا رَاجِحًا فِيهِ، وَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تُؤَيِّدُهُ بَلْ تَنْفِيهِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَهْلَ الْكُتُبِ مُشْرِكِينَ كَالْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ إِبَاحَةَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَهِيَ بَعْدَ سُورَةِ التَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِبَاحَتُهُمَا تَسْتَلْزِمُ طَهَارَتَهُمَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْقَطْعِيِّ لِكُلِّ مُطَّلِعٍ عَلَى السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُعَاشِرُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخَالِطُونَهُمْ وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، إِذَا امْتَنَعَ اضْطِهَادُ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَنْ لَا عَصَبِيَّةَ لَهُ، وَلَا جِوَارَ يَمْنَعُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ رُسُلُهُمْ وَوُفُودُهُمْ تَرِدُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَالْيَهُودِ، وَلَمْ يُعَامِلْ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ شَيْءٍ مِمَّا أَصَابَتْهُ أَبْدَانُهُمْ، بَلْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى طَهَارَةِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْيَهُودِ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِلْوَفْدِ مِنَ الْكَفَّارِ وَلَمْ يَأْمُرْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِغَسْلِ الْأَوَانِي الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْنَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ الْكَافِرِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَاءَ بِلَفْظِ. " الْمُسْلِمُ " مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَكْلِ فِيهَا إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ عِلَّتَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَكَذَا حَدِيثُ إِنْقَاءِ أَوَانِي الْمَجُوسِ غَسْلًا وَالطَّبْخِ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَجَاسَةِ أَعْيَانِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُزَالُ بِالْغَسْلِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَ النَّجَسِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَا بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ بَعْضَ النَّاسِ بِالنَّجَسِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْخُبْثَ الْمَعْنَوِيَّ كَالشَّرِّ وَالْأَذَى، وَإِلَّا لَمَا وَصَفُوا بِهِ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ الْأَسَاسِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَلَا يُطْلِقُونَ النَّجَسَ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُطْلَبُ غَسْلُهُ، حَتَّى إِذَا زَالَ سُمِّيَ طَاهِرًا إِلَّا فِيمَا يُدْرَكُ قَذَرُهُ وَخُبْثُهُ بِالْحِسِّ كَالرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ. هَذَا هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ. وَمَا أُفِكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ إِلَّا بِتَحْكِيمِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْفُصْحَى الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَخْذُ الرَّازِيِّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بِالْقَوْلِ الشَّاذِّ الْمُخَالِفِ لِلْحِسِّ، وَاسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ فِي نَجَاسَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بَيَانِ الشَّافِعِيِّ الْعَرَبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لِبُطْلَانِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَكَانَ شَافِعِيًّا ثُمَّ صَارَ مُفْتِيًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ، إِلَّا لِتَفْنِيدِ رَأْيِهِمَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الشُّعُوبِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَشَدَّ عِنَايَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّظَافَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُقَلِّدُونَ أَحْكَامًا تَعَبُّدِيَّةً، يُكَابِرُونَ فِيهَا الْحِسَّ وَاللُّغَةَ وَالْقِيَاسَ وَحِكْمَةَ الشَّارِعِ. وَيُوقِعُونَ مُقَلِّدِيهِمْ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ فِي السَّفَرِ، وَفِي عَدَاوَةِ الْبَشَرِ. إِذَا فَهِمْتَ هَذَا فَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا أَيْ: لَيْسَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْجَاسًا فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ، يُشْرِكُونَ بِاللهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَيَعْبُدُونَ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَيَدِينُونَ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَنَزَّهُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَلَا الْآثَامِ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِمَارَ وَالزِّنَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَسْتَبِيحُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ. وَقَدْ تَمَكَّنَتْ صِفَاتُ النَّجَسِ مِنْهُمْ حِسًّا وَمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَيْنُهُ وَحَقِيقَتُهُ، فَلَا تُمَكِّنُوهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرَمِ فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ نَفْسِهِ، وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً فِيهِ، يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ، وَإِذَا صَلَّوْا لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً - وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَجَاسَتِهِمْ تَلَبُّسُهُمْ بِهَا دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَبُّدِهِمْ بِالطَّهَارَةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَظْهَرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهِمْ فَهُوَ لَا مَعْنَى لَهُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَذَارَتَهَا الذَّاتِيَّةَ وَنَتْنَهَا، وَذَوَاتُ الْمُشْرِكِينَ كَذَوَاتِ سَائِرِ الْبَشَرِ بِشَهَادَةِ الْحِسِّ، وَمَنْ كَابَرَ شَهَادَةَ الْحِسِّ كَابَرَ دَلَالَةَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَاللُّغَوِيِّ بِالْأَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَجَاسَةً تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي إِيجَابِ غَسْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَلِ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدِ اتَّبَعَ الْقَائِلُونَ بِهِ سُنَنَ بَعْضِ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ، وَبَعْضِ مُتَعَصِّبِي النَّصَارَى الَّذِينَ يَعُدُّونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ نَجَسًا، وَمَا هَذَا بِمَذْهَبٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ سَخَافَاتِ التَّعَصُّبِ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُودِيَّةَ تُغْنِي صَاحِبَهَا عَنِ الْغَسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ لَنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَمُرُّ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَالْأَحْوَالُ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيُعَلِّلُ بَعْضُ قُسُوسِهِمْ الْمُتَعَصِّبِينَ عِنَايَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِأَنَّ أَبْدَانَهُمْ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّودُ دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِمْ، وَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْدُ فُضَلَاءُ الْمِصْرِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ فِي فَرَنْسَةَ فَرَأَى أَنَّ غُلَامًا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ فِيهِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى وَالِدَتِهِ فَيُوَشْوِشُهَا، فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ سَأَلَ وَالِدَتَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَا يَقُولُهُ لَهَا؟ فَتَمَنَّعَتْ فَأَلَحَّ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهَا يَا أُمِّي إِنَّنِي لَا أَرَى فِي الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ فِيهِ هَذَا الْمُسْلِمُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ دُودًا كَمَا قَالَ لَنَا مُعَلِّمُنَا الْقِسِّيسُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ لَخَّصَ أَقْوَالَهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْخَازِنُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ وَبِغَيْرِ عَزْوٍ فَقَالَ: وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ أَنْ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ، فَلَوْ جَاءَ رَسُولٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهِدِ دُخُولَ الْحَرَمِ. (الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الْحِجَازُ وَحْدَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ وَنَجْدٍ وَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، قِيلَ: نِصْفُهَا تِهَامِيٌّ وَنِصْفُهَا حِجَازِيٌّ، وَقِيلَ: كُلُّهَا حِجَازِيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:

حَدُّ الْحِجَازِ مَا بَيْنَ جَبَلَيْ طَيِّئٍ وَطَرِيقِ الْعِرَاقِ، سُمِّيَ حِجَازًا; لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَالسَّرَاةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ وَالشَّامِ. قَالَ الْحَرْبِيُّ: وَتَبُوكُ مِنَ الْحِجَازِ. فَيَجُوزُ لِلْكُفَّارِ دُخُولُ أَرْضِ الْحِجَازِ بِالْإِذْنِ، وَلَكِنْ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. (رَوَى مُسْلِمٌ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا " زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ مُسْلِمٍ وَأَوْصَى فَقَالَ: " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَجَّلَ لِمَنْ يَقْدَمُ تَاجِرًا ثَلَاثًا. عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ دَيْنَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا. (وَرَوَى مُسْلِمٌ) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ " قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى تُخُومِ الْعِرَاقِ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدُّ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى (عَدَنِ أَبْيَنَ) إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جِدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ وَذِمَّةٍ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ اهـ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، مَعَ بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ الْكَلَامِ عَلَى مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْيَهُودِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَإِجْلَائِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِجْلَاءِ عُمَرَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ وَنَصَارَى نَجْرَانَ عَمَلًا بِوَصِيَّتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ[ص51 ج 10 ط الْهَيْئَةِ] . وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلًا وَعَيْلَةً (كَكَالَ يَكِيلُ) إِذَا افْتَقَرَ فَهُوَ عَائِلٌ، وَأَعَالَ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَهُوَ يَعُولُ عِيَالًا كَثِيرِينَ أَيْ يُمَوِّنُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ أَمْرَ مَعَاشِهِمْ. وَنَكَّرَ الْعَيْلَةَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِهَا الَّتِي يَخْشَاهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَهِيَ مَا يَحْدُثُ مِنْ قِلَّةِ جَلْبِ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهَا وَالْمَتَاعِ بِالتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِبُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ تُجَّارِهَا، وَمِمَّنْ حَوْلَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَزَارِعِ فِي شِعَابِهَا وَوِدْيَانِهَا وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا مِنَ الْبِلَادِ ذَاتِ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ كَالطَّائِفِ، وَكَذَا مَا كَانُوا

يَسُوقُونَهُ مِنَ الْهَدْيِ لِلْحَرَمِ، وَيَتَمَتَّعُ بِهِ فُقَرَاؤُهُ، فَأَزَالَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الْعَيْلَةِ بِقِلَّةِ مَوَادِّ الْمَعِيشَةِ إِذَا مُنِعَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهَا بِوَعْدِهِمْ بِأَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ فَقَدْ صَارُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَمَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَرَمِ أَغْنَى مِمَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَهُمُ الْغِنَى مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فَصَارُوا يَجْلِبُونَ لَهُمُ الْمِيرَةَ، بَلْ أَسْلَمَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُمْنَعُ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ يَتَّجِرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَمِنْ أَيْنَ لَنَا الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً إِلَخْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ حِينَ ذَهَبَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُونَ، وَقَدْ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ، وَانْقَطَعَتْ عَنْكُمُ الْعِيرُ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً إِلَخْ. فَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ اهـ. وَيَعْنِي هُنَا الْغَنَائِمَ، وَفِي مَعْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَغْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِزْيَةِ الْجَارِيَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا وَخَافُوا مَا خَافُوا مِنْ عَوَاقِبِهَا نَزَلَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ التَّالِيَةُ لَهَا، بَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كُلُّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً (كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَا يُلْقِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَالشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مَقْرُونًا بِهَذَا الْوَعْدِ، فَلَمْ يَدَعْ لِذَلِكَ مَجَالًا. وَأَمَّا الْغِنَى مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ مُعَيَّنًا وَمُبْهَمًا، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْغِنَى، فَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْعِبَادَ، فَكَثُرَتِ الْغَنَائِمُ وَالْخَرَاجُ، وَمَهَّدَ لَهُمْ سُبُلَ الْمِلْكِ وَالْمُلْكِ، وَبَسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، مِنْ إِمَارَةٍ وَتِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ، وَكَانَ نَصِيبُ مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ عَظِيمًا بِكَثْرَةِ الْحَاجِّ وَأَمْنِ طُرُقِ التِّجَارَةِ. وَقَيَّدَ هَذَا الْغِنَى بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ إِنَّمَا يَكُونُ أَكْثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ وَاسِعٌ بِسِعَةِ فَضْلِهِ تَعَالَى، وَغَيْبٌ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ أَكْثَرُهُ بِبَالٍ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ بِهِ فَكَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَيَّدَهُ بِمَشِيئَتِهِ الَّتِي لَا يَشُكُّ مُؤْمِنٌ فِي حُصُولِ كُلِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ - لِتَقْوِيَةِ إِيمَانِهِمْ، وَنَوْطِ آمَالِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مُجَرَّدِ كَسْبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالْكَسْبِ، لِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسُبَهُمْ تَوْفِيقَهُ وَتَأْيِيدَهُ لَهُمْ، فَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُمْ وَأَغْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى كَمَا وَعَدَهُمْ، وَسَيَزِيدُهُمْ نَصْرًا وَغِنًى إِذَا هُمْ وَفُّوا بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ

بِمِثْلِ قَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (47: 7) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِمَوَاضِعِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا كَانَ قَيْدُ الْمَشِيئَةِ بِالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُصَدَّرَةِ بِ (إِنَّ) وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ شَرْطِهَا ; لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مِمَّا مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِأَسْبَابٍ كَسَبِيَّةٍ لَابُدَّ مِنْ قِيَامِهِمْ بِهَا، وَتَوْفِيقٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا تَتِمُّ بِدُونِهِ مُسَبِّبَاتُهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِحُصُولِهِ، وَحِكْمَةُ إِبْهَامِهِ أَنْ يُوَجِّهُوا هِمَّتَهُمْ إِلَى الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ جَعَلَ فَاصِلَةَ الْآيَةِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِكُمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنْ نَهْيٍ وَأَمْرٍ، كَنَهْيِهِ عَنْ قُرْبِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ (تِسْعَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ) وَنَهْيِهِ قَبْلَهُ عَنِ اتِّخَاذِ آبَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَأَمَرَكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عُهُودِهِمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعِلْمِهِ بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا يُشَرِّعُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَكُمْ، تَامَّانِ كَامِلَانِ مُتَلَازِمَانِ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ، وَعَلِمْتُمْ مَا شَرَّعَهُ لَكُمْ، وَمَا قَيَّدَ بِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، رَأَيْتُمْ مَشِيئَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ كُلِّهِ. قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ كَانَ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْهِيدٌ لِلْكَلَامِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالشَّامِ، وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْعُسْرَةِ وَالْقَيْظِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ فَضِيحَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ عَنْ إِسْرَارِهِمْ لِلْكُفْرِ، وَمِنْ تَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يُقَاتِلِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهَا الرُّومَ الَّذِينَ خَرَجَ لِقِتَالِهِمْ بِسَبَبِهِ الَّذِي سَيُذْكَرُ بَعْدُ، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ وُقُوعِ ذَلِكَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْزِيلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَتْ تَقَعُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.

29

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ أَمَرَهُ (تَعَالَى) بِجِهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (8: 39) وَأُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أُعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلَ نَجْرَانَ، قَبْلَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ أَمَرَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: " يُقَاتَلُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرَهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ، وَكَانَ بَعْدَهُ جِهَادٌ آخَرُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي شَأْنِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ الْآيَةَ (أَقُولُ) وَهَذَا أَصَحُّ وَأَدَقُّ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ رَأْيِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي قِتَالِ الْوَثَنِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ وَالْجَزِيرَةِ، فَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي عَرَبِ الْجَزِيرَةِ خَاصَّةً بِهِمْ وَبِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا قَبْلَهَا فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَيْسَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي التَّشْرِيعِ الْحَرْبِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي غَايَتِهِ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ آيَاتُ سُورَةِ الْحَجِّ: أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (22: 39) إِلَخْ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) الْآيَاتِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ الْقِتَالَ الْوَاجِبَ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَنَشْرِهَا، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: إِنَّ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا، وَكَذَلِكَ حُرُوبُ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الْمُلْكِ، وَكَانَ فِي الْإِسْلَامِ مِثَالُ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ [رَاجِعْ ص 168 - 170 ج 2 ط الْهَيْئَةِ] وَسَنُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَوَصَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ أَرْبَعَ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبِ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ فِي دَارِهِ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ يُفْضِي إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ

أَوْ مُسَاعَدَةِ مَنْ يُهَاجِمُهُمْ فِيهَا كَمَا فَعَلَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ وَجَعَلَهُمْ حُلَفَاءَ لَهُ، وَسَمَحَ لَهُمْ بِالْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِشَرْعِهِمْ فَوْقَ السَّمَاحِ لَهُمْ بِأُمُورِ الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [ص41 - 52 ج 10 ط الْهَيْئَةِ] وَكَمَا فَعَلَ نَصَارَى الرُّومِ فِي حُدُودِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ تَرْكُهَا هِيَ أُصُولُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ (2: 62) وَقَدْ أَمَرَ هُنَا بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَهَا عِنْدَمَا يَقُومُ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِشَرْطِهَا فَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَوَضَعَ تَرْكَهُمْ لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَرَكَ الْخُضُوعَ لِدِينِ الْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِنَّكَ تَرَى فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ قُيُودًا فِي شَرْعِيَّةِ قِتَالِهِمْ بَلْ هِيَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهَا، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ - عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ رَسُولُهُمْ، وَيَدِينُ دِينَ الْحَقِّ بِاعْتِقَادِهِمْ - فَإِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَقَالُوا: إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى إِقَامَتِهِمْ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، أَوْ قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ لِكِتَابِهِمْ، وَالِابْتِدَاعِ فِي دِينِهِمْ حَتَّى الشِّرْكِ، أَوِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي نَسَخَ كِتَابُهُ الْكُتُبَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالشَّرَائِعَ الْمُخَالِفَةَ لِشَرْعِهِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَصَرَّحَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةَ قُيُودٌ تُشْتَرَطُ فِي قِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَاقِدُونَ لَهَا، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مُتَّصِفُونَ بِهَا حَرُمَ عَلَيْنَا بَدْؤُهُمْ بِالْقِتَالِ. فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى، فَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدُوهُ بِهَدْمِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُشَرِّعُونَ لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فَيَتْبَعُونَهُمْ، وَذَلِكَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ، فَقَدْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشْرَكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، كَالَّذِينِ قَالُوا: عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا وَذَاكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ السُّورَةِ. وَقَدْ تَوَسَّعَ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَسَالِيبِهِ الْكَلَامِيَّةِ فَقَالَ: " التَّحْقِيقُ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْمُشَبِّهُ يَزْعُمُ أَنْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْجِسْمُ وَمَا يَحِلُّ فِيهِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا حَالًّا فِيهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُشَبِّهُ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ. " فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَهُودُ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَمِنْهُمْ مُوَحِّدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، فَهَبْ أَنَّ

الْمُشَبِّهَةَ مِنْهُمْ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَمَا قَوْلكُمْ فِي مُوَحِّدَةِ الْيَهُودِ؟ قُلْنَا: أُولَئِكَ لَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ إِيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ " انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمَّاهُ تَحْقِيقًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَلَا مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَظَرِيَّاتٌ كَلَامِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اصْطِلَاحَاتِ جَمَاعَةِ الْأَشَاعِرَةِ حَتَّى فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّيْءُ الْجَسِيمُ الضَّخْمُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ كُلُّ شَخْصٍ مُدْرِكٍ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجِسْمُ الْجَسَدُ، وَفِي التَّهْذِيبِ مَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: الْجِسْمُ مُجْتَمَعُ الْبَدَنِ وَأَعْضَاؤُهُ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا عَظُمَ مِنَ الْخَلْقِ الْجِسِيمِ انْتَهَى مِنَ الْمِصْبَاحِ. وَالْيَهُودُ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِلَهَ جِسْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَتَعْرِيفُهُ لِلْجِسْمِ بِمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحِ لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا، وَالْإِلَهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ، وَالْيَهُودُ لَا تُنْكِرُ وُجُودَ الْمَعْبُودِ، وَاللهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْيَهُودُ يُثْبِتُونَ هَذَا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَكِنَّ لَهُمْ أَفْهَامًا، فِي نُصُوصِ التَّوْرَاةِ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مَا ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهُ، وَالَّذِينَ يُسَمِّيهِمُ الْمُجَسِّمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا مُجِسَّمَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِمْ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مُجَسِّمَةً; لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَمْثَالِهِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِثْبَاتِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي التَّأْوِيلِ الَّذِي يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي بَعْضِ تَأْوِيلَاتِهِمْ لَهَا بِدَعْوَى أَنَّ عَدَمَ تَأْوِيلِهَا يَسْلَتْزِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَهِيَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ صَاحِبُهُ بِنَفْيِ اللُّزُومِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ كَالسَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَنْبِزُهُمْ أَمْثَالُهُ بِلَفْظِ الْمُجَسِّمَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى، وَتَأْوِيلَاتُ أَمْثَالِهِ لِلْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ قَدْ تَسْلَتْزِمُ التَّعْطِيلَ أَوْ تَخْطِئَةَ التَّنْزِيلِ أَوْ قُصُورَهُ عَنْ بَيَانِ عَقَائِدِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ بِدُونِ كَلَامِهِمُ الْمُبْتَدَعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَرَّمَ قِرَاءَتَهَا عَلَى الْعَوَامِّ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِتَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ مَدْلُولِ لُغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مُطْلَقًا فَهُمُ الْكَافِرُونَ. وَهُوَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَحْثِهِ فِي الْيَهُودِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي فَهْمِ صِفَاتِ الْإِلَهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، مُبْتَدِئًا بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ " أَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى. (قَالَ) وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى " وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَوَّلًا فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ ثُمَّ فِي اخْتِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَتَحَكَّمَ فِي التَّكْفِيرِ لِبَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ دُونَ بَعْضٍ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ الْبَاطِلَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا كَلَامَهُ لِتَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي مَثَلِهِ، وَفِيمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَعَارِضِ، وَهُوَ زَعْمُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ مِنَ الْيَهُودِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقِتَالِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُونَ تَحْتَهَا فِي إِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى هَذَا

بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى بَعْضِهِمْ " وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ "! . وَيُرَدُّ عَلَيْهِ (أَوَّلًا) أَنَّهُ لَا قَائِلَ أَيْضًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمِ الْقِتَالِ وَحُكْمِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؟ وَ (ثَانِيًا) أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَا قَالَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْيَهُودِ إِلَى مُجَسِّمَةٍ وَغَيْرِ مُجَسِّمَةٍ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ. وَ (ثَالِثًا) أَنَّهُ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَبُولُهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ، وَجَعَلَ عَدَمَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ! ! وَ (رَابِعًا) أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ كَالدُّعَاءِ مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ يُنَافِي إِيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةَ صَرَفَتْهُ عَنْ ذَلِكَ. وَمَا يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّصَارَى كَأَتْبَاعِ آرْيُوسَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْعَقْلِيِّينَ الْمُعَاصِرِينَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي سَائِرِ مَا اشْتُرِطَ فِي قِتَالِهِمْ. وَأَمَّا مُخَالَفَةُ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَوْحِيدِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرِيَّاتٍ كَلَامِيَّةٍ، فَأَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الرَّسْمِيَّةِ مِنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَهُ جَهْرًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَيَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ أُمَّهُ مَرْيَمَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَلَا يَعُدُّونَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُوَحِّدُونَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً، وَأُولِي دَوْلَةٍ، بَلْ هُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي جَمِيعِ أُمَمِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي جَمِيعِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا نَقَلَ عَنْهُ رُوَاةُ الْأَنَاجِيلِ فِي قَوْلِهِ: " مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَأَوَّلُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْرَاةِ فِي الْإِيمَانِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى مِنْ وَصَايَاهَا الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ التَّوْحِيدُ، وَالنَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَنَقَلُوا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: " وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا تَفْسِيرِ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَالْفَرِيقَانِ يُخَالِفَانِ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْمُوَحِّدُونَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَنَّ حَيَاةَ الْآخِرَةِ رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَكُونُ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهَا إِنْسَانًا لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ، بَلْ يَبْقَى مُؤَلَّفًا مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَيَتَمَتَّعُ الْكَامِلُونَ النَّاجُونَ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ أَقْوَى.

وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَيَانٌ صَرِيحٌ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا فِيهَا وَفِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ إِشَارَاتٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِنَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَاصِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَسَخَ بَعْضَهُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَهُ كُلَّهُ بِالْعَمَلِ، كَاتِّبَاعِهِمْ عَادَاتِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ وَالنَّفْيِ وَمُفَادَاةِ الْأَسْرَى، الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ لَهُمْ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (2: 85) وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي النَّصَارَى أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِمَّا لَمْ يَنْسَخْهُ الْإِنْجِيلُ، وَاتَّبَعُوا مُقَدَّسَهُمْ بُولُسَ فِي إِبَاحَةِ جَمِيعِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِيهَا، إِلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ إِذَا قِيلَ لِلْمَسِيحِيِّ: إِنَّهُ مَذْبُوحٌ لِوَثَنٍ فَيُرَاعِي ضَمِيرَ الْقَائِلِ أَمَامَهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ لَا يُنَجِّسُ الْفَمَ، وَإِنَّمَا يُنَجِّسُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَهَذَا بَعْضُ مَا يُقَالُ فِي النَّصَارَى فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَمَّا نَصَارَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ أُورُبَّةَ، فَإِنَّهُمْ أَبْعَدُ خَلْقِ اللهِ عَنْ كُلِّ مَا فِي أَنَاجِيلِهِمْ مِنَ الزُّهْدِ وَالسِّلْمِ وَالتَّقَشُّفِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا. وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالطُّغْيَانِ فِي الْعُدْوَانِ، وَالْإِلْحَادِ فِي الدَّيَّانِ، طَفِقُوا يَبْحَثُونَ فِي حَقِيقَةِ الْأَدْيَانِ، فَتَظْهَرُ لَهُمْ أَنْوَارُ الْإِسْلَامِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ. اخْتَارَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَضَعَّفَ الثَّانِيَ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: الْمُرَادُ بِهِ أَيْ: مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا وَغَيْرَ مَتْلُوٍّ، فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَقِيلَ: رَسُولُهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فَإِنَّهُمْ بَدَّلُوا شَرِيعَتَهُ، وَأَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ لَا يَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَنَا وَلَا شَرِيعَتَهُمْ، وَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ لِقِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيفُ بَعْدَ النَّسْخِ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ اهـ. وَاخْتَارَ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن الثَّانِيَ فَقَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ: وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأَذَابُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَأَحَلُّوهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي لَا يُصَدِّقُونَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا مَا حَرَّمَ رَسُولُهُ فِي السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ،

بَلْ حَرَّفُوهُمَا وَأَتَوْا بِأَحْكَامٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ اهـ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبْلَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِدِينِهِ الْحَقِّ الْكَامِلِ الْأَخِيرِ، الْمُكَمِّلِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّاسِخِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْبَشَرِ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. يُقَالُ: دَانَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرَهُ وَدَانَ بِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الدِّينَ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ دِينٌ تَقْلِيدِيٌّ وَضَعَهُ لَهُمْ أَحْبَارُهُمْ وَأَسَاقِفَتُهُمْ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَأَهْوَائِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ، لَا دِينُ اللهِ الْحَقُّ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، وَكَانَ يَحْكُمُ بِهَا هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُخَالِفُهُمُ الْفَاسِقُونَ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ، إِلَى أَنْ عَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ الْبَابِلِيِّينَ عَلَيْهِمْ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَأَحْرَقُوا الْهَيْكَلَ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ، وَسَبَقُوا بَقِيَّةَ السَّيْفِ مِنْهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ إِلَى أَرْضِ مُسْتَعْبِدِيهِمْ، فَدَانُوا لِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِمْ، وَلَمَّا أَعْتَقُوهُمْ مِنَ الرِّقِّ وَأَعَادُوهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَانُوا قَدْ فَقَدُوا نَصَّ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَفِظُوا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، كَتَبُوا مَا حَفِظُوا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ، مَمْزُوجًا بِمَا دَانُوا مِنْ شَرِيعَةِ مَلِكِ بَابِلَ كَمَا أَمَرَ كَاهِنُهُمْ عِزْرَا (عُزَيْرًا) ثُمَّ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَلَمْ يُقِيمُوهَا كَمَا أُمِرُوا. وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا بَلَّغَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَصَايَا وَالْأَحْكَامِ الْقَلِيلَةِ النَّاسِخَةِ لِبَعْضِ تَشْدِيدَاتِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، بَلْ كَتَبَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ تَوَارِيخَ لَهُ، وَأَوْدَعَهَا كُلُّ كَاتِبٍ مِنْهُمْ مَا عَرَفَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَجَاءَتِ الْمَجَامِعُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، فَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعَةَ أَنَاجِيلَ مِنْ زُهَاءِ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا رَفَضَتْهَا وَسَمَّتْهَا [أَبُو كَرَيفٍ] أَيْ غَيْرُ قَانُونِيَّةٍ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا إِنْجِيلُ الْقِدِّيسِ بَرْنَابَا مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ وَرُسُلِهِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الْعَالِيَةِ مَا يَفُوقُ مَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْقَانُونِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخَذُوا بِتَعَالِيمِ بُولُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ يَهُودِيٌّ تَنَصَّرَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَقَبِلَ تَنَصُّرَهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ (الرُّسُلَ) بِشَفَاعَةِ بَرْنَابَا ; لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يَنْقِلُونَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَالنَّامُوسُ: هُوَ شَرِيعَةُ مُوسَى، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (3: 50، 51) وَإِنَّمَا قَالَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيِ: الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ فُقِدَ بِإِحْرَاقِ

31

الْبَابِلِيِّينَ لِنُسْخَةِ مُوسَى الَّتِي كَتَبَهَا بِيَدِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَتَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ مُفَصَّلًا. وَلَمْ يَكْتَفِ النَّصَارَى بِهَذَا بَلْ وَضَعَ لَهُمْ أَحْبَارُ رُومِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَسَاقِفَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ شَرَائِعَ كَثِيرَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُخَالِفُ فِيهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَ الْآخَرِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَخَذَهُ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى مِنَ الْمِيثَاقِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (5: 13 و14) وَفِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَمِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، مَا يُعَدُّ مِنْ حُجَجِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ نَسِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ كُلِّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ عِبَادَاتُهُمْ وَمَا يُسَمَّى الطُّقُوسَ وَالنَّامُوسَ الْأَدَبِيَّ هُوَ مِنْ وَضْعِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (31) وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ حَفِظُوهُ وَأَقَامُوهُ كَمَا أُنْزِلَ أَوْ دَانُوا بِمَا حَفِظُوا مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لَهَدَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُصْلِحِ الْأَعْظَمِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى مُكَمِّلًا لِدِينِهِ، وَلَا تَزَالُ بِشَارَاتُ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ مَحْفُوظَةً فِيمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَزَبُورَ دَاوُدَ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنْ لُقِّبَ " أَهْلُ الْكِتَابِ " وَ " الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا خُصَّ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُخَالِطِينَ وَمُجَاوِرِينَ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرُوفِينَ عِنْدَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (6: 156) وَفِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى: أَرْسَلَ رُسُلًا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أُولُو الْحَضَارَةِ مِنْهُمْ كَالصِّينِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَالْفُرْسِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ قَدْ كَتَبُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ مَا أُوحِيَ إِلَى رُسُلِهِمْ فَضَاعَ بِطُولِ الْأَمَدِ أَوْ خُلِطَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَعُدْ أَصْلُهُ مَعْرُوفًا، وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ كَانَ مِنْ أُمِّ كُتُبِهِمْ

مَا عَلِمْنَا مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهَا وَانْقِطَاعِ سَنَدِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَهَا مِنَ الْكُتُبِ أَضْيَعَ - وَالْعَهْدُ بَعِيدٌ أَيُّ بِعِيدٍ. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ لِاتِّصَالِ بِلَادِهِمْ بِبِلَادِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا نَظَمَهُمْ فِي سِلْكِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ لَقَبَ " الْمُشْرِكِينَ " خَاصًّا بِوَثَنِيِّ الْعَرَبِ، وَلَقَبَ " أَهْلِ الْكِتَابِ " خَاصًّا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، وَالتَّارِيخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا أَهْلَ كِتَابٍ، أَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدْ ذُكِرُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 62) وَآيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 69) وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ ذُكِرُوا مَعَ أُولَئِكَ كُلِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (22: 17) فَقَدْ جَعَلَ الْمَجُوسَ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمُعَامَلَتِهِمْ كَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي انْتِهَاءِ قِتَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِنْ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ مَا يُصَحِّحُ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ عَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَالصَّابِئُونَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا. حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَاتِلُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ، أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ. كَمَا فَعَلَ الرُّومُ، فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ لَهُمْ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً " عَنْ يَدٍ " أَيْ قُدْرَةٍ وَسَعَةٍ، فَلَا يُظْلَمُونَ وَيُرْهَقُونَ. وَالثَّانِي لَكُمْ، وَهُوَ الصَّغَارُ الْمُرَادُ بِهِ خَضْدُ شَوْكَتِهِمْ، وَالْخُضُوعُ لِسِيَادَتِكُمْ وَحُكْمِكُمْ ; وَبِهَذَا يَكُونُ تَيْسِيرُ السَّبِيلِ لِاهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ عَدْلِكُمْ وَهِدَايَتِكُمْ وَفَضَائِلِكُمُ الَّتِي يَرَوْنَكُمْ أَقْرَبَ بِهَا إِلَى هِدَايَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. فَإِنْ أَسْلَمُوا عَمَّ الْهُدَى وَالْعَدْلُ وَالِاتِّحَادُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا كَانَ الِاتِّحَادُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ، وَلَمْ يَكُونُوا حَائِلًا دُونَهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْقِتَالُ لِمَا دُوْنَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا وَجُوبُهُ عَيْنِيًّا أَوْلَى بِأَنْ يَنْتَهِيَ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَمَتَى أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ وَجَبَ تَأْمِينُهُمْ وَحِمَايَتُهُمْ، وَالدِّفَاعُ عَنْهُمْ وَحُرِّيَّتُهُمْ فِي دِينِهِمْ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تُعْقَدُ بِهَا الْجِزْيَةُ، وَمُعَامَلَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَيَحْرُمُ ظُلْمُهُمْ وَإِرْهَاقُهُمْ بِتَكْلِيفِهِمْ مَا لَا يُطِيقُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَيُسَمَّوْنَ أَهْلَ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُقُوقِ تَكُونُ لَهُمْ بِمُقْتَضَى ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَمَّا الَّذِينَ يُعْقَدُ الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ يَعْتَرِفُ بِهِ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْهُمْ بِاسْتِقْلَالِ الْآخَرِ

فَيُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالْمُعَاهَدِينَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَبْسُطَ الْقَوْلَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْجِزْيَةِ لِتَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِهَا فَنَقُولُ: (فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا) الْجِزْيَةُ ضَرْبٌ مِنَ الْخُرُوجِ يُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ لَا عَلَى الْأَرْضِ، جَمْعُهَا جِزًى كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَالْيَدُ السَّعَةُ وَالْمِلْكُ أَوِ الْقُدْرَةُ وَالتَّمَكُّنُ، وَالصَّغَارُ (بِالْفَتْحِ) وَالصِّغَرُ (كَعِنَبٍ) وَهُوَ ضِدُّ الْكِبَرِ، وَيَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْخُضُوعُ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ الَّذِي تَصْغُرُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ لَدَيْهِمْ بِفَقْدِهِمُ الْمِلْكَ، وَعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحُكْمِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الصَّاغِرُ الرَّاضِي بِالْمَنْزِلَةِ الدَّنِيَّةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْأُمِّ: وَسَمِعْتُ عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ اهـ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا يَأْبَاهَا عَدْلُ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَفْظَ الْجِزْيَةِ عَرَبِيٌّ مَحْضٌ مِنْ مَادَّةِ الْجَزَاءِ. وَهَلْ هِيَ جَزَاءُ حَقْنِ الدَّمِ، أَوْ جَزَاءُ الْحِمَايَةِ لَهُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِهِمُ التَّجَنُّدَ لِلْقِتَالِ مَعَنَا، أَوْ جَزَاءُ إِعْطَاءِ الذِّمِّيِّ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسَاوَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ فِي حُرِّيَّةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ وَالدِّينِ؟ وُجُوهٌ أَضْعَفُهَا أَوَّلُهَا وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ثَانِيهَا. قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْجِزْيَةُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَجِزْيَةُ الذِّمِّيِّ مِنْهُ. الْجَوْهَرِيُّ وَالْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَمْعُ الْجِزَى مِثْلَ لِحْيَةٍ وَلِحًى، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْجِزْيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ الَّذِي يَعْقِدُ الْكِتَابِيُّ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ قَتْلِهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ أَرَادَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ الْحَوْلِ لَمْ يُطَالَبْ مِنَ الْجِزْيَةِ بِحِصَّةِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَكَانَ فِي يَدِهِ أَرْضٌ صُولِحَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ تُوضَعُ عَنْ رَقَبَتِهِ الْجِزْيَةُ، وَعَنْ أَرْضِهِ الْخَرَاجُ إِلَخْ. وَقَدْ حَقَّقَ شَمْسُ الْعُلَمَاءِ الشَّيْخُ شِبْلِي النُّعْمَانِيُّ الْهِنْدِيُّ (رَحِمَهُ اللهُ) فِي رِسَالَةٍ لَهُ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنَارِ، أَنَّ لَفْظَ الْجِزْيَةِ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ فَارِسِيٌّ (كَزَيْتٍ) وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْخَرَاجُ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَرْبِ، وَأَوْرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ مِنَ الشِّعْرِ الْفَارِسِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ احْتِمَالَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وُجِدَ فِي اللُّغَتَيْنِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَتَا فِيهِ، وَتَوَافُقُ اللُّغَاتِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تُوجَدُ مَعَانِيهَا عِنْدَ الْأُمَمِ النَّاطِقَةِ بِهَا شَائِعٌ مَعْرُوفٌ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْكَلِمَةَ أَصِيلَةٌ فِي الْفَارِسِيَّةِ دَخِيلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَأَمْثَالِهَا مِمَّا أَخَذَهُ الْعَرَبُ مِنْ مُجَاوِرِيهِمْ

مِنَ الْفُرْسِ وَهَضَمَتْهَا لُغَتُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الدَّعْوَى دِلَالَةً صَحِيحَةً كَثُبُوتِ أَخْذِ الْعَرَبِ عَنِ الْعَجَمِ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ كَالْكُوزِ وَالْإِبْرِيقِ وَالطَّسْتِ، وَكَزَعْمِهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ وَضْعُ أَلْفَاظٍ لِلْمَعَانِي الْخَاصَّةِ بِالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ كَالْوَزِيرِ وَالصَّاحِبِ وَالْعَامِلِ وَالتَّوْقِيعِ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبُؤْسِ وَعَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْبَادِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْأَوَّلُ: حَقٌّ غَيْرُ دَالٍّ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ فَعَدَمُ دِلَالَتِهِ عَلَى ذِكْرٍ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُجَاوِرُ أُمَّةً وَتُخَالِطُهَا تَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ لُغَتِهَا فَتَعْتَادُهُ فَيَدْخُلُ فِي لُغَتِهَا وَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مُرَادِفٌ لَهُ، وَهَكَذَا مَا وَقَعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَمَعْرِفَةُ السَّابِقِ لِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَبِهَةِ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ فِيهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّاتٌ قَدِيمَةٌ فِي جَزِيرَتِهِمْ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ الْمِلْكِيَّةِ، كُفُوا مُؤْنَةَ وَضْعِ لَفْظٍ بِإِزَائِهَا " مُحْتَمِلٍ غَيْرِ حَقِيقٍ. وَأَقْوَى مِنْهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفِيدٌ سَوَاءً كَانَ اللَّفْظُ أَصِيلًا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مُعَبِّرًا دَخِيلًا، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ بِدِلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَنَنْقُلُهُ بِنَصِّهِ وَهُوَ: (وَمِنْهَا) أَنَّ الْحِيرَةَ - وَكَانَتْ مَنَازِلَ آلِ نُعْمَانَ - كَانَتْ تَدِينُ لِلْعَجَمِ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْإِتَاوَةَ وَالْخَرَاجَ، وَلَمَّا كَانَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ هُوَ الَّذِي سَنَّ الْجِزْيَةَ أَوَّلًا كَمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا سَيَأْتِي، يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْعَرَبَ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا الْجِزْيَةَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَتَعَاوَرُوا اللُّغَةَ الْعَجَمِيَّةَ بِعَيْنِهَا، وَمِنْ مُسَاعَدَةِ الْجِدِّ أَنَّ اللَّفْظَ كَانَتْ زِنَتُهُ زِنَةَ الْعَرَبِيِّ فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي تَعْرِيبِهِ إِلَى كَبِيرِ مُؤْنَةٍ بَعْدَ مَا أُبْدِلَ كَافُهَا جِيمًا صَارَتْ كَأَنَّهَا عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّجَارِ. وَمَعَ هَذِهِ كُلِّهَا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ لَا يُهِمُّنَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ غَرَضٍ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ وَإِسْهَابِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ. (الثَّانِي) أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْجِزْيَةَ فِيمَا عَلِمْنَا كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ أُصُولَهَا وَجَعَلَهَا طَبَقَاتٍ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَدِّثُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَذْكُرُ مَا فَعَلَهُ كِسْرَى فِي أَمْرِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ: وَأَلْزَمُوا النَّاسَ مَا خَلَا أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ وَالْعُظَمَاءَ وَالْمُقَاتِلَةَ وَالْمَرَازِبَةَ وَالْكُتَّابَ وَمَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، وَصَيَّرُوهَا عَلَى طَبَقَاتٍ: اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةً، وَسِتَّةً، وَأَرْبَعَةً، بِقَدْرِ إِكْثَارِ الرَّجُلِ أَوْ إِقْلَالِهِ، وَلَمْ يُلْزِمُوا الْجِزْيَةَ مَنْ كَانَ أَتَى لَهُ مِنَ السِّنِّ دُونَ الْعِشْرِينَ وَفَوْقَ الْخَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ. " وَهِيَ الْوَضَائِعُ الَّتِي اقْتَدَى بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ افْتَتَحَ بِلَادَ الْفُرْسِ " وَقَالَ الْمُؤَرِّخُ الشَّهِيرُ أَبُو حَنِيفَةَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ الدَّيْنَوَرِيُّ - وَهُوَ أَقْدَمُ زَمَانًا مِنَ الطَّبَرِيِّ - فِي كِتَابِهِ الْأَخْبَارُ الطِّوَالُ فِي ذِكْرِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ: " وَوَظَّفَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَالْمَرَازِبَةِ وَالْأَسَاوِرَةِ وَالْكُتَّابِ وَمَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا لَمْ تَأْتِ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً أَوْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ ".

وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْثُورَةٌ مِنْ آلِ كِسْرَى، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَوَّلِ وَاضِعٍ لَهَا، وَأَنَّ كِسْرَى رَفَعَ الْجِزْيَةَ عَنِ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اقْتَدَى بِهَذِهِ الْوَضَائِعِ. أَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي تَوَخَّاهُ كِسْرَى فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَبَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ نَاقِلًا عَنْ كَلَامِ كِسْرَى فَقَالَ: " وَلَمَّا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ وَجَدْتُ الْمُقَاتِلَةَ أُجَرَاءَ لِأَهْلِ الْعِمَارَةِ، وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ أُجَرَاءَ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجُورَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَسُكَّانِ الْبُلْدَانِ ; لِمُدَافَعَتِهِمْ عَنْهُمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ، فَحَقَّ عَلَى أَهْلِ الْعِمَارَةِ أَنْ يُوَفُّوهُمْ أُجُورَهُمْ، فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَالْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمْ، وَرَأَيْتُ أَنَّ الْمُقَاتِلَةَ لَا يَتِمُّ لَهُمُ الْمُقَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَتَثْمِيرُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَّا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَالْعِمَارَةِ، فَأَخَذْتُ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِمْ، وَتَرَكْتُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِمْ مَا يَقُومُ بِمُؤْنَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ، وَلَمْ أُجْحِفْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ". وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمِلَّةِ الْمُدَافَعَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَمَنْ كَانَ يَقُومُ بِهَذِهِ الْعِبْءِ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ - وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَشْغَلُهُ أَمْرُ الْعِمَارَةِ وَتَدْبِيرُ الْحَرْثِ عَنِ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ سَنَةٍ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْجِزْيَةِ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْعِمَارَةِ وَتُعْطَى لِلْمُقَاتِلَةِ وَالْجُنْدِ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِحِمَايَةِ الْبِلَادِ وَاسْتِتْبَابِ وَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ لِكَافَّةِ الْعِبَادِ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا شَأْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالسَّلْطَنَةِ بَلِ الْغَايَةُ الَّتِي تَوَخَّاهَا الشَّرْعُ لَيْسَتْ إِلَّا تَكْمِيلَ النَّفْسِ وَتَطْهِيرَ الْأَخْلَاقِ، وَالْحَثَّ عَلَى الْخَيْرِ، وَالرَّدْعَ عَنِ الْإِثْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى نَوْعٍ مِنَ السِّيَاسَةِ الْمَلَكِيَّةِ لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ لِتُنْقَلَ عَنْهَا كُلِّيًّا، فَاخْتَارَتْ جُمْلَةً مِنَ الْوَضَائِعِ تَكُونُ مَعَ سَذَاجَتِهَا كَافِلَةً لِانْتِظَامِ أَمْرِ النَّاسِ وَإِصْلَاحِ ارْتِفَاقَاتِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ وَالْقِتَالُ، الْمَقْصُودُ بِهِمَا الذَّبُّ عَنْ حِمَى الْإِسْلَامِ وَالدَّفْعُ عَنْ بَيْضَةِ الْمُلْكِ، وَإِزَاحَةُ الشَّرِّ وَبَسْطُ الْأَمْنِ، وَاسْتِتْبَابُ الرَّاحَةِ، فَجُعِلَ الْجِهَادُ فَرْضًا مَحْتُومًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، إِمَّا كِفَايَةً وَهَذِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا، وَإِمَّا عَيْنًا إِذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبَلَدَ وَعَمَّ النَّفِيرُ، قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ عَامًّا فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. فَالْمُسْلِمُ لَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى الْخُطَّتَيْنِ. إِمَّا مُرْتَزِقٌ، وَهُوَ مَنْ دَخَلَ فِي الْعَسْكَرِ وَنَصَبَ

لِلْقِتَالِ نَفْسَهُ، أَوْ مُتَطَوِّعٌ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ مِنَ الْجِهَادِ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ وَوَقَعَ النَّفِيرُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِزَالُ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُسَلَّمِ الثَّابِتِ أَنَّ الْمُرْتَزِقَ وَالْمُتَطَوِّعَ سِيَّانِ فِي الْحُقُوقِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْعَسْكَرِ، كَانَ مِنَ الْحَقِّ الْوَاضِحِ أَنْ يُعْفَى الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ ضَرِيبَةِ الْجِزْيَةِ، أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَمَا كَانَ يَحِقُّ لِلْإِسْلَامِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهِمُ الْقِتَالَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلِ الْأَمْرُ بِيَدِهِمْ، رَضُوا بِالْقِتَالِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَفْوًا عَنِ الْجِزْيَةِ، وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُخَاطِرُوا بِالنَّفْسِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُسَامِحُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ وَهِيَ الْجِزْيَةُ، وَلَعَلَّكَ تُطَالِبُنِي بِإِثْبَاتِ بَعْضِ الْقَضَايَا الْمُنْطَوِيَةِ فِي هَذَا الْبَيَانِ، أَيْ إِثْبَاتِ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَا كَانَ تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّينَ إِلَّا لِلْقِيَامِ بِحِمَايَتِهِمْ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ، وَأَنَّ الذِّمِّيِّينَ لَوْ دَخَلُوا فِي الْجُنْدِ أَوْ تَكَفَّلُوا أَمْرَ الدِّفَاعِ لَعُفُوا عَنِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ صَدَقَ ظَنِّي فَاصْغَ إِلَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي تُعْطِيكَ الثَّلْجَ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَحْسِمُ مَادَّةَ الْقِيلِ وَالْقَالِ. (فَمِنْهَا) مَا كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِصَلُوبَا بْنِ نَسْطُوْنَا حِينَمَا دَخَلَ الْفُرَاتَ وَأَوْغَلَ فِيهَا وَهَذَا نَصُّهُ: " هَذَا كِتَابٌ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَصَلُوْبَا بْنِ نَسْطُوْنَا وَقَوْمِهِ، إِنِّي عَاهَدْتُكُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْمَنْعَةِ فَلَكَ الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ وَمَا مَنَعْنَاكُمْ (أَيْ حَمَيْنَاكُمْ) فَلَنَا الْجِزْيَةُ وَإِلَّا فَلَا؟ كُتِبَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي صَفَرٍ ". (وَمِنْهَا) مَا كَتَبَ نُوَّابُ الْعِرَاقِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَهَاكَ نَصَّهُ: " بَرَاءَةٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِزْيَةِ الَّتِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهَا خَالِدٌ وَالْمُسْلِمُونَ، لَكُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ بَدَّلَ صُلْحَ خَالِدٍ مَا أَقْرَرْتُمْ بِالْجِزْيَةِ وَكُنْتُمْ. أَمَانُكُمْ أَمَانٌ، وَصُلْحُكُمْ صُلْحٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الْوَفَاءِ ". (وَمِنْهَا) مَا كَتَبَ أَهْلُ ذِمَّةِ الْعِرَاقِ لِأُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا نَصُّهُ: " إِنَّا قَدْ أَدَّيْنَا الْجِزْيَةَ الَّتِي عَاهَدْنَا عَلَيْهَا خَالِدًا عَلَى أَنْ يَمْنَعُونَا وَأَمِيرُهُمِ الْبَغْيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ". (وَمِنْهَا) الْمُقَاوَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ يَزْدِجِرْدَ مَلِكِ فَارِسَ حِينَمَا وَفَدُوا عَلَى يَزْدِجِرْدَ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ هَذَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ نُعْمَانَ الَّذِي كَانَ رَئِيسَ الْوَفْدِ: " وَإِنِ اتَّقَيْتُمُونَا بِالْجَزَاءِ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ ". (وَمِنْهَا) الْمُقَاوَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ وَبَيْنَ رُسْتُمَ قَائِدِ الْفُرْسِ، وَحُذَيْفَةُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَافِدًا عَلَى رُسْتُمَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ كَلَامِهِ: " أَوِ الْجَزَاءُ وَنَمْنَعُكُمْ إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَى ذَلِكَ " فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمَوْثُوقِ بِهَا، كَيْفَ قَارَنُوا بِهَا بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْمَنْعَةِ وَكَيْفَ صَرَّحَ خَالِدٌ فِي

كِتَابِهِ بِأَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْكُمُ الْجِزْيَةَ إِلَّا إِذَا مَنَعْنَاكُمْ وَدَفَعْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَخْذُهَا. وَهَذِهِ الْمُقَاوَلَاتُ وَالْكُتُبُ مِمَّا ارْتَضَاهَا عُمَرُ وَجُلُّ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ: أَخَذَ " أَيْ سَوَادَ الْعِرَاقِ " عَنْوَةً وَكَذَلِكَ كُلَّ أَرْضٍ إِلَّا الْحُصُونَ، فَجَلَا أَهْلَهَا فَدُعُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالذِّمَّةِ فَأَجَابُوا وَتَرَاجَعُوا فَصَارُوا ذِمَّةً وَعَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ وَلَهُمُ الْمَنْعَةُ، وَذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ كَذَلِكَ مَنَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِدَوْمَةٍ. وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ شَرْطَ الْمَنْعَةِ فِي الْجِزْيَةِ إِنَّمَا كَانَ يُقْصَدُ بِهِ مُجَرَّدُ تَطَيُّبِ نُفُوسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِسْكَانِ غَيْظِهِمْ وَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْعَمَلُ قَطُّ، فَإِنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي سَيْرِ الصَّحَابَةِ، وَاطَّلَعَ عَلَى مَجَارِي أَحْوَالِهِمْ، عَرَفَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا عَهْدًا، وَلَا ذَكَرُوا شَرْطًا إِلَّا وَقَدْ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَأَفْرَغُوا الْجُهْدَ فِي الْوَفَاءِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَدُورُ رَحَى الْكَلَامِ عَلَيْهَا - فَقَدْ رَوَى الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَهْلُ الذِّمَّةِ وَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَحُسْنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، صَارُوا أَشِدَّاءَ عَلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَعُيُونًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَبَعَثَ أَهْلُ كُلِّ مَدِينَةٍ رُسُلَهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعُوا جَمْعًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَأَتَى رُؤَسَاءُ أَهْلِ كُلِّ مَدِينَةٍ الْأَمِيرَ الَّذِي خَلَّفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ وَالِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِمَّنْ خَلَّفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَتَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى كُلِّ وَالٍ مِمَّنْ خَلَّفَهُ فِي الْمُدُنِ الَّتِي صَالَحَ أَهْلَهَا يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا جَبَى مِنْهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنَ الْجُمُوعِ، وَأَنَّكُمْ قَدِ اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكُمْ وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الشَّرْطِ، وَمَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ نَصَرَنَا اللهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ الَّتِي جَبَوْهَا مِنْهُمْ قَالُوا: " رَدَّكُمُ اللهُ عَلَيْنَا وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانُوا هُمْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا شَيْئًا وَأَخَذُوا كُلَّ شَيْءٍ بَقِيَ حَتَّى لَا يَدَعُوا شَيْئًا ". وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَلَاذُرِيُّ فِي كِتَابِهِ فُتُوحِ الْبُلْدَانِ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُوعَ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، رَدُّوا عَلَى أَهْلِ حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ قَالُوا: " قَدْ شُغِلْنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ عَنْكُمْ فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ " فَقَالَ أَهْلُ حِمْصَ: " لَوِلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغُشْمِ، وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْلَ عَنِ الْمَدِينَةِ مَعَ عَامِلِكُمْ. وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا: وَالتَّوْرَاةِ لَا يَدْخُلُ عَامِلُ هِرَقْلَ مَدِينَةَ حِمْصَ

إِلَّا أَنْ نُغْلَبَ وَنُجْهَدَ، فَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَحَرَسُوهَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَهْلُ الْمُدُنِ الَّتِي صُولِحَتْ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَقَالُوا: إِنْ ظَهَرَ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِرْنَا عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا عَلَى أَمْرِنَا مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ ". وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَزْدِيُّ فِي كِتَابِهِ فُتُوحِ الشَّامِ يَذْكُرُ إِقْبَالَ الرُّومِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَسِيرَ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ حِمْصَ: " فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَشْخَصَ دَعَا حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: ارْدُدْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كُنَّا صَالَحْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مَا كُنَّا أَخَذْنَا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا إِذْ لَا نَمْنَعُهُمْ - أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَقُلْ لَهُمْ: نَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مِنَ الصُّلْحِ، وَلَا نَرْجِعُ عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَرْجِعُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ; لِأَنَّا كَرِهْنَا أَنْ نَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ وَلَا نَمْنَعَ بِلَادَكُمْ " فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْتَحِلُوا إِلَى دِمَشْقَ، وَدَعَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمُ الْمَالَ، فَأَخَذَ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقُولُونَ: " رَدَّكُمُ اللهُ إِلَيْنَا وَلَعَنَ اللهُ الَّذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَنَا مِنَ الرُّومِ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَوْ كَانُوا هُمْ مَا رَدُّوا إِلَيْنَا بَلْ غَصَبُونَا وَأَخَذُوا مَعَ هَذَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا " وَقَالَ أَيْضًا يَذْكُرُ دُخُولَ أَبِي عُبَيْدَةَ دِمَشْقَ: " فَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِدِمَشْقَ يَوْمَيْنِ، وَأَمَرَ سُوَيْدَ بْنَ كُلْثُومٍ الْقُرَشِيَّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ مَا كَانَ اجْتَبَى مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَمِنُوا وَصَالَحُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَنَحْنُ مُعِيدُونَ لَكُمْ أَمَانًا ". أَمَّا مَا ادَّعَيْنَا مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا عَلَيْنَا الْمَنْعَةَ أَوْ شَارَكُونَا فِي الذَّبِّ عَنْ حَرِيمِ الْمِلْكِ لَا يُطَالَبُونَ بِالْجِزْيَةِ أَصْلًا، فَعُمْدَتُنَا فِي ذَلِكَ أَيْضًا صَنِيعُ الصَّحَابَةِ، وَطَرِيقُ عَمَلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالتَّنَبُّهِ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَأَحَقُّهُمْ بِإِدْرَاكِ سِرِّ الشَّرِيعَةِ. وَالرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ جَمَّةً نَكْتَفِي هُنَا بِقَدْرٍ يَسِيرٍ يُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ. (فَمِنْهَا) كِتَابُ الْعَهْدِ الَّذِي كَتَبَهُ سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ أَحَدُ قُوَّادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِرَزَبَانَ وَأَهْلِ دِهِسْتَانَ وَهَاكَ نَصَّهُ بِعَيْنِهِ " هَذَا كِتَابٌ مِنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ لِرَزْبَانِ صُولِ بْنِ رَزَبَانَ وَأَهْلِ دَهِسْتَانَ وَسَائِرِ أَهْلِ جُرْجَانَ، إِنَّ لَكُمُ الذِّمَّةَ وَعَلَيْنَا الْمَنْعَةَ عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ وَمَنِ اسْتَعَنَّا بِهِ مِنْكُمْ فَلَهُ جَزَاؤُهُ فِي مَعُونَتِهِ عِوَضًا عَنْ جَزَائِهِ، وَلَهُمُ الْأَمَانُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمِلَلِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، شَهِدَ سَوَادُ بْنُ قُطْبَةَ وَهِنْدُ بْنُ عُمَرَ وَسِمَاكُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَعُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ. وَكَتَبَ فِي سَنَةِ 108 هـ (طَبَرِيٌّ ص2658) . (وَمِنْهَا) الَّذِي كَتَبَهُ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ أَحَدُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهَذَا نَصُّهُ: هَذَا مَا أَعْطَى عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ أَذْرَبِيجَانَ سَهْلِهَا

وَجَبَلِهَا وَحَوَاشِيهَا وَشِفَارِهَا وَأَهْلَ مِلَلِهَا كُلِّهِمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمِلَلِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، وَمَنْ حُشِرَ مِنْهُمْ فِي سَنَةٍ وُضِعَ عَنْهُ جَزَاءُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَمَنْ أَقَامَ فَلَهُ مِثْلُ مَا لِمَنْ أَقَامَ مِنْ ذَلِكَ " اهـ (طَبَرِيٌّ صَحِيفَةَ 2262) . (وَمِنْهَا) الْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ سُرَاقَةَ عَامِلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَبَيْنَ شَهْرِ بِرَازَ كَتَبَ بِهِ سُرَاقَةُ إِلَى عُمَرَ فَأَجَازَهُ وَحَسَّنَهُ وَهَاكَ نَصَّهُ: " هَذَا مَا أَعْطَى سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرٍو عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَهْرَ بِرَازٍ وَسُكَّانَ أَرْمِينِيَّةَ وَالْأَرْمَنَ مِنَ الْأَمَانِ، أَعْطَاهُمْ أَمَانًا لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَلَّا يُضَارُّوا وَلَا يُنْقَضُوا، وَعَلَى أَرْمِينِيَّةَ وَالْأَبْوَابِ الطَّرَّاءِ مِنْهُمْ وَالتَّنَّاءِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا لِكُلِّ غَارَةٍ، وَيَنْفُذُوا لِكُلِّ أَمْرٍ نَابَ أَوْ لَمْ يَنُبْ رَآهُ الْوَالِي صَلَاحًا عَلَى أَنْ يُوضَعَ الْجَزَاءُ عَمَّنْ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْهُمْ وَقَعَدَ فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى أَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ مِنَ الْجَزَاءِ، فَإِنْ حُشِرُوا وُضِعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ. شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. وَكَتَبَ مَرْضِيُّ بْنُ مُقَرِّنٍ وَشَهِدَ " اهـ. (طَبَرِيٌّ 2665 و2666) . (وَمِنْهَا) مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجُرَاجِمَةِ، وَقَدْ أَتَى الْعَلَّامَةُ الْبَلَاذُرِّيُّ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ فَقَالَ: حَدَّثَنِي مَشَايِخُ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ أَنَّ الْجُرَاجِمَةَ مِنْ مَدِينَةٍ عَلَى جَبَلِ لُكَّامٍ، عِنْدَ مَعْدِنِ الزَّاجِ، فِيمَا بَيْنَ بِيَامِنَ وَبُوقَا، يُقَالُ لَهَا: الْجُرْجُوْمَةُ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ فِي اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَى الشَّامِ، وَأَنْطَاكِيَةَ إِلَى بِطْرِيقِ أَنْطَاكِيَةَ وَوَالِيهَا، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْطَاكِيَةَ وَفَتَحَهَا لَزِمُوا مَدِينَتَهُمْ وَهَمُّوا بِاللَّحَاقِ بِالرُّومِ، إِذْ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَتَنَبَّهِ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ نَقَضُوا وَغَدَرُوا فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ مَنْ فَتَحَهَا ثَانِيَةً، وَوَلَّاهَا بَعْدَ فَتْحِهَا حَبِيبَ بْنَ مُسْلِمٍ الْفِهْرِيَّ، فَغَزَا الْجُرْجُوْمَةَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ بَدَرُوا بِطَلَبِ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا أَعْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ وَعُيُونًا وَمَسَالِحَ فِي جَبَلِ اللُّكَّامِ، وَأَلَّا يُؤْخَذُوا بِالْجِزْيَةِ " ثُمَّ إِنَّ الجُرَاجِمَةَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَفُّوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ غَيْرَ مَرَّةٍ لَمْ يُؤْخَذُوا بِالْجِزْيَةِ قَطُّ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْعُمَّالِ فِي عَهْدِ الْوَاثِقِ بِاللهِ الْعَبَّاسِيِّ أَلْزَمَهُمْ جِزْيَةَ رُؤُوْسِهِمْ فَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى الْوَاثِقِ فَأَمَرَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ اهـ. وَقَدِ اخْتَصَرَ النُّعْمَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ خَبَرَ الْجُرَاجِمَةِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ الْجُرَاجِمَةَ إِلَخْ، وَفِي سَائِرِ خَبَرِهِمْ فِي الْبَلَاذُرِّيِّ مِنْ غَدْرِهِمْ وَنَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، وَمُظَاهَرَتِهِمْ لِلْعَدُوِّ وَحُسْنِ مُعَامَلَةِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، مَا يَفْتَخِرُ بِهِ التَّارِيخُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَرَبِيُّ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَالشَّاهِدُ هُنَا وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ بَعْدَ تَكْرَارِ غَدْرِهِمْ.

فَصْلٌ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَمِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ نَصُّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا آنِفًا أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ بِدِلَالَةِ الْقُرْآنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَنَقَلَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذَا، أَيْ: وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا، وَكَانَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ يَدُلُّ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَلَى بِعْثَةِ رُسُلٍ كَثِيرِينَ فِي الْأُمَمِ مِنْهُمْ مَنْ كَانُوا أَصْحَابَ كُتُبٍ. وَلَا فَرْقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ شُبْهَةِ كِتَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُجْمَلًا، وَسَيُعَادُ مُفَصَّلًا. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْوَثَنِيِّينَ حُكْمُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَالْأَصْنَافُ أَرْبَعَةٌ: (الْأَوَّلُ) مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِالْإِجْمَاعِ. (الثَّانِي) الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. . وَقِيلَ: إِلَّا الْعَرَبَ مِنْهُمْ. (الثَّالِثُ) الْمَجُوسُ وَالصَّابِئُونَ، وَقَدْ قَبِلَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَسَنَذْكُرُ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ. (الرَّابِعُ) مَا عَدَا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ أَمْرَهُمُ اجْتِهَادِيٌّ يَحْكُمُ فِيهِمْ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ كَكُلِّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يُدْخِلُونَهُمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا سِيَّمَا الْآيَةُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ. وَالْحَقُّ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ فِيهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي تَعْلِيلِ قِتَالِهِمْ وَأَدِلَّتِهِ، وَكَذَا الْأَحَادِيثُ النَّاطِقَةُ بِوُجُوبِ جَعْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبُهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللهُ، وَلَكِنَّهُمَا جَعَلَا غَرَضَ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْعَرَبِ كُلُّهُ مُسْلِمًا سَوَاءً كَانَ فِي جَزِيرَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عِنْدَهُمَا، وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا يَأْتِي. وَإِنَّمَا أَصَابَا فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْعَجَمِ مَهْمَا تَكُنْ مِلَلُهُمْ وَأَدْيَانُهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ جَرَى عَمَلُ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي كُلِّ فُتُوحَاتِهِمْ لِبِلَادِ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ كَالْهِنْدِ وَغَيْرِهَا، فَلَمْ يُحَاوِلُوا اسْتِئْصَالَ أَهْلَ مِلَّةٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُشْرِكِينَ بِالْفِعْلِ فَمِثْلُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَمَا شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ طَرَأَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلِوَثَنِيِّ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَغَيْرِهِمْ كُتُبٌ قَدِيمَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَإِنَّنَا نُفَصِّلُ أَحْكَامَ الْجِزْيَةِ بِإِيرَادِ جُمْلَةِ مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ مِنَ الْأَحَادِيثِ

الْمَرْفُوعَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَذَاهِبِ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرَارٌ. فَهَذَا آخِرُ إِسْهَابٍ فِي تَفْسِيرِنَا لِأَحْكَامِ الْقِتَالِ. الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي الْجِزْيَةِ: عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذِ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَامِلِ كِسْرَى. " أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: " أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ " قَالَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟ قَالَ: " كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " قَالُوا: إِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (38: 1 - 7) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: " إِنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ أَوْ قِيمَتَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ " يَعْنِي أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي حَدِيثٍ لِمُعَاذٍ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَبِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرَ دُومَةَ فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ فَحَقَنَ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْعَجَمِ ; لِأَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ عَرَبِيٌّ مِنْ غَسَّانَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفِ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرَ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَةِ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كِيَدٌ ذَاتُ غَدْرٍ، عَلَى أَلَّا يُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قِسٌّ، وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ اهـ. مُلَخَّصُ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ فِي الْجِزْيَةِ: نُورِدُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ مَا لَخَّصَهُ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي لِاخْتِصَارِهِ وَحُسْنِ جَمْعِهِ وَبَيَانِهِ قَالَ: (مَسْأَلَةٌ) قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ صِنْفَانِ: مَنْ لَهُ كِتَابٌ، وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَالسَّامِرَةِ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ، وَفِرَقِ النَّصَارَى مِنَ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُوْرِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَالْفِرِنْجَةِ وَالرُّومِ وَالْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَانَ بِالْإِنْجِيلِ وَانْتَسَبَ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ فَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا (6: 156) وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّابِئِينَ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَسْبِتُونَ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا سَبَتُوا فَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ يَسْبِتُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي أَمْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي نَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَيُرْوَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَمَّا أَهْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَزَبُورِ دَاوُدَ فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصُّحُفَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا شَرَائِعُ إِنَّمَا هِيَ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ، كَذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورَ دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمُ الْمَجُوسُ ; فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ فَصَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دِمَائِهِمْ وَأَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُنْتَهَضْ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ

وَلَا ذَبَائِحِهِمْ دَلِيلٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يُعَلَّمُونَهُ وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى بِنْتِهِ وَأُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ وَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ وَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ وَقَدْ أَنْكَحَ بَنِيهِ بَنَاتِهِ؟ فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ، قَالَ، فَتَابَعَهُ قَوْمٌ وَقَاتَلُوا الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ، وَرُفِعَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ - وَأُرَاهُ قَالَ: وَعُمَرُ - مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَسَعِيدٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَنَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا (6: 156) وَالْمَجُوسُ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَجَالَةَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَمَا وَقَفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا ذَكَرُوهُ هُوَ الَّذِي صَارَ لَهُمْ بِهِ شُبْهَةُ الْكِتَابِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا أَحْسَبُ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا مَحْفُوظًا وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَمَا حَرَّمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نِسَاءَهُمْ وَهُوَ كَانَ أَوْلَى بِعِلْمِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُبِيحَ لِذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ فَلَمْ يُنْتَهَضْ لِلْإِبَاحَةِ، وَيَثْبُتُ بِهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَيُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَنِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ، وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ دِلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَدِلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَى أَخْذِ

الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُغِيرَةِ لِأَهْلِ فَارِسَ: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ عَجَمًا أَوْ عَرَبًا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ شُرِّفُوا بِكَوْنِهِمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَأَخَذَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَهُمْ عَرَبٌ، وَبَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَكَانُوا عَرَبًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَجَمِ كَانُوا سُكَّانًا بِالْيَمَنِ حِينَ وَجَّهَ مُعَاذًا، وَلَوْ كَانَ لَكَانَ فِي أَمْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جَمِيعِهِمْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَأْمُرُ مَنْ بَعَثَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَخُصَّ بِهَا عَجَمِيًّا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَغْزُو الْعَرَبَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ فَإِنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَرَادَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مِثْلَمَا يَأْخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَحِقُوا بِالرُّومِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنِ الْجِزْيَةِ، فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ جِزْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَمَا أَنْكَرَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُوْدِهِمْ كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ أَوِ ابْنَ وَثَنِيِّينِ أَوِ ابْنَ كِتَابِيٍّ وَوَثَنِيٍّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ أَحَدُهُمَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَالْآخَرُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا عُمُومُ النَّصِّ فِيهِنَّ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِهِ الْجِزْيَةُ فَيُقَرُّونَ بِهَا كَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَيْ: يَلْتَزِمُوا أَدَاءَهَا فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يَبْقُوا عَلَى إِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

(فَصْلٌ) وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنْ يَلْتَزِمُوا الْجِزْيَةَ فِي كُلِّ حَوْلٍ. (الثَّانِي) الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: " فَادْعُهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ " وَلَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْإِعْضَاءِ وَلَا جَرَيَانُ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَالْكَفَّ عَنْهُمْ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْبَذْلِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يُعْطُوا أَيْ: يَلْتَزِمُوا الْإِعْطَاءَ، وَيُجِيبُوا إِلَى بَذْلِهِ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (5) وَالْمُرَادُ بِهِ الْتِزَامُ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَوْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. " مَسْأَلَةٌ " قَالَ: (وَمَنْ سِوَاهُمْ فَالْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ) . يَعْنِي مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ فَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا قُتِلُوا، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَّارِ إِلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ إِلَّا أَنَّهُ خَرَّجَ مِنْهُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ ; لِتَغَلُّظُ كُفْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) دِينُهُمْ (وَالثَّانِي) كَوْنُهُمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، لَكِنْ فِي أَهْلِ الْكُتُبِ غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلِ أَهْلِ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَزَبُورِ دَاوُدَ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا الْعَرَبَ ; لِأَنَّهُمْ رَهْطُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ وَغَيْرُهُمْ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهُ يُقَرُّ بِالِاسْتِرْقَاقِ فَأُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ كَالْمَجُوسِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ; لِأَنَّهُمُ ارْتَدُّوا، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَنَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (9: 5) وَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ

وَالْمَجُوسُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الصُّحُفِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. اهـ. . . اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْمُشْرِكِينَ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْحَقُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ حَتْمٌ وَعَدَمَ قَبُولِهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَتْمٌ، وَمَا عَدَاهُمَا فَمَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، كَسَائِرِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ. وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ اجْتِهَادِيٌّ أَيْضًا بِشَرْطِهِ. (اسْتِطْرَادٌ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِهَادِ أَوِ الْحَرْبِ وَالْغَزْوِ) وَإِصْلَاحُ الْإِسْلَامِ فِيهَا الْجِهَادُ كَلِمَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْحَرْبِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ بِمَعْنَى كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ لَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الْأَعَمِّ، وَهِيَ مَصْدَرُ جَاهَدَ يُجَاهِدُ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا كَقَاتَلَ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً وَقِتَالًا، فَهِيَ صِيغَةُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالْمَشَقَّةُ، كَمَا أَنَّ الْقِتَالَ مُشَارَكَةٌ مِنَ الْقَتْلِ، قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: وَالْجِهَادُ وَالْمُجَاهَدَةُ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي مُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ. وَالْجِهَادُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ، مُجَاهَدَةُ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ. وَمُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ، وَمُجَاهَدَةُ النَّفْسِ. وَتَدْخُلُ ثَلَاثَتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ (22: 78) وَوَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (9: 41) وَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (8: 72) وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَاهِدُوا أَهْوَاءَكُمْ كَمَا تُجَاهِدُونَ أَعْدَاءَكُمْ وَالْمُجَاهَدَةُ تَكُونُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ. قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: جَاهِدُوا الْكُفَّارَ بِأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ اهـ وَالْجِهَادُ بِالْأَلْسِنَةِ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ. لَا أَذْكُرُ مَنْ خَرَّجَ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَشْهَدَ بِهِمَا الرَّاغِبُ فِي الْجِهَادِ الْمَعْنَوِيِّ، وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى كَحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ النَّجَّارِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ يُجَاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ بِلَفْظِ " أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَكَ وَهَوَاكَ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى " وَحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْخَطِيبِ قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ، قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، مُجَاهَدَةِ الْعَبْدِ هَوَاهُ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ الْجِهَادُ أَرْبَعٌ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصِّدْقُ فِي مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَشَنَآنُ الْفَاسِقِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا مِنْ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ ; لِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ وَمُقَلِّدِيهِمْ وَتَلَامِيذَهُمْ مِنْ نَصَارَى الْمَشْرِقِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِهَادَ هُوَ قِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، لِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعَادُوهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ

مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا وَمَا سَنُفَصِّلُهُ بِهِ تَذْكِيرًا بِمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ أَنَّ مِنْ غَايَاتِ الْقِتَالِ فِيهِ مَنْعَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، أَيْ اضْطِهَادَ النَّاسِ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (2: 256) وَنَصُّ الْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُنَا وَيُعَادِينَا فِي دِينِنَا، وَالنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ الْمَحْضِ، وَنَصُّ تَفْضِيلِ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ، وَوُجُوبِ الْجُنُوحِ إِلَيْهَا إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ، وَنَصُّ جَعْلِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ إِرْهَابَ الْأَعْدَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَنُصُوصُ أَحْكَامِ الْمُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَحْرِيمِ قِتَالِهِمْ مَا دَامُوا مُحَافِظِينَ عَلَى الْعَهْدِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْخَاضِعِينَ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَالَّذِينِ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (8: 72) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ كَانَ مِنْ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ إِبْطَالُ الْوَثَنِيَّةِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَجَعْلِهَا مَوْئِلَهُ وَمَأْرَزَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَاتَلَ مُشْرِكِيهَا إِلَّا دِفَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. أَمَّا الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ لِمَحْضِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَالضَّرَاوَةِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ كَحُرُوبِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ وَالْغَابِرِينَ - أَوْ لِغَرَضِ الِانْتِقَامِ وَالْبُغْضِ الدِّينِيِّ كَالْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ، وَتَسْخِيرِ الْبَشَرِ وَإِرْهَاقِهِمْ ; لِتَمَتُّعِ الْقَوِيِّ بِثَمَرَاتِ كَسْبِ الضَّعِيفِ كَحُرُوبِ أُورُبَّةَ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - فَكُلُّ هَذِهِ الْحُرُوبِ مُحَرَّمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُبِيحُ شَيْئًا مِنْهَا، لِأَنَّهَا لِحُظُوظِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَمِنْ إِهَانَةِ الدِّينِ الْمُغْضِبَةِ لِشَارِعِ الدِّينِ أَنْ يُتَّخَذَ الدِّينُ وَسِيلَةً لَهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا بَسَطْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْجِزْيَةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا ذُكِرَ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا مَالٌ حَقِيرٌ قَلِيلٌ لَا يُفْقِرُ مُعْطِيهِ، وَلَا يُغْنِي آخِذِيهِ، وَأَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا أَنْ تَكُونَ عَنْ قُدْرَةٍ وَسَعَةٍ، وَأَلَّا يُكَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهَا مَا لَا يُطِيقُ. وَأَمَّا كَوْنُهَا عُنْوَانَ الدُّخُولِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَبُولِ سِيَادَةِ أَهْلِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يُبِيحُ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِرْهَاقِ وَاسْتِنْزَافِ ثَرْوَةِ الَّذِينَ يَقْبَلُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ

الْأُخْرَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمُشَاهَدِ فِي جَمِيعِ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَدْلِ وَالْحُقُوقِ وَالضَّرَائِبِ، مَعَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ أَكْثَرُ، كَأَنْوَاعِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ، حَتَّى قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ الْمُضْطَرِّ مِنْ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ، إِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ لَهُ بِهَا مِنْ قَرِيبٍ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَكْسِ مِنَ الذِّمِّيِّينَ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرُبُعِ الْعُشْرِ فِي مُقَابَلَةِ الزَّكَاةِ. وَمَعَ هَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ بَدْءُ الْحَرْبِيِّينَ بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ الْجِزْيَةِ وَالدُّخُولِ فِي حُكْمِنَا، إِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ آخَرُ، خِلَافًا لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ فِي الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا يَرَاهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَدْ لَخَّصَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَقْوَالَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ - الَّتِي يَحْتَجُّ بِبَعْضِهَا هَؤُلَاءِ الْقَلِيلُو الِاطِّلَاعِ - فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: (بَابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ) فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ الْكَلَامَ فِي حَالَيْنِ: زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا بَعْدَهُ، فَأَمَّا زَمَنُهُ فَالتَّحْقِيقُ مِنْ عِدَّةِ أَقْوَالٍ: أَنَّ وُجُوبَهُ فِيهِ كَانَ عَيْنًا عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا بَعْدَهُ " فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَأَنْ يَدْهَمَ الْعَدُوُّ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ (أَيِ الْأَعْظَمُ) وَيَتَأَدَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِهِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبْ بَدَلًا عَنْهُ، وَلَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ اتِّفَاقًا فَلْيَكُنْ بَدَلُهَا كَذَلِكَ، وَقِيلَ: يَجِبُ كُلَّمَا أَمْكَنَ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى أَنْ تَكَامَلَتْ فُتُوحُ مُعْظَمِ الْبِلَادِ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِمَّا بِيَدِهِ، وَإِمَّا بِلِسَانِهِ، وَإِمَّا بِمَالِهِ، وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ " اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَسْأَلَةِ جِهَادِ الْعَدُوِّ بِالسَّيْفِ إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي حَالِ اعْتِدَاءِ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحِينَئِذٍ إِذَا أَعْلَنَ الْإِمَامُ النَّفِيرَ الْعَامَّ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَإِذَا اسْتَنْفَرَ بَعْضَهُمْ كَالْجُنْدِ الْمُرَابِطِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَغَيْرِهِمْ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، فَإِنَّهُ يُطَاعُ فِي الْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ كَالْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: وَيَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: (الْأَوَّلُ) إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ إِلَخْ. (الثَّانِي) إِذَا نَزَلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ. (الثَّالِثُ) إِذَا اسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ مَعَهُ اهـ. بِدُونِ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (8: 15) وَأَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (8: 60) أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ وَاجِبٌ عَلَى الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ الَّذِي عَلَيْهِ

الْعَمَلُ عِنْدَ جَمِيعِ دُوَلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ إِرْهَابُ عَدُوِّ اللهِ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ يُقَاوِمُ دِينَهُ وَيَمْنَعُ نَشْرَهُ وَيَضْطَهِدُ أَهْلَهُ، وَعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يُعَادِيهِمْ وَلَوْ لِغَيْرِ دِينِهِمْ كَالطَّمَعِ فِي بِلَادِهِمْ، وَالضَّرَاوَةِ بِاسْتِعْبَادِهِمْ ; لِيَخْشَوْا بَأْسَهُمْ فَلَا يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنِ اعْتَدَوْا لَمْ يَجِدُوهُمْ ضُعَفَاءَ وَلَا عَاجِزِينَ. وَالْمَعْلُومُ مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ الْحَرْبَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، أَوْ أَكْبَرُ مَظْهَرٍ وَأَثَرٍ لِسُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ، وَتَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْوَاءُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَرُؤَسَاءِ الدُّنْيَا، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ بَعْضِ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ التَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ كَالنَّمْلِ، فَهُوَ يَغْزُو وَيُبِيدُ وَيَسْتَرِقُّ وَيَسْتَخْدِمُ رَفِيقَهُ فِي خِدْمَتِهِ وَتَرْفِيهِ مَعِيشَتِهِ وَغَزْوِ أَعْدَائِهِ، وَعُلِمَ مِنَ التَّارِيخِ أَيْضًا أَنَّ شُعُوبَ أُورُبَّةَ أَشَدُّ الْبَشَرِ ضَرَاوَةً وَقَسْوَةً فِي الْحَرْبِ فِي أَطْوَارِ حَيَاتِهَا كُلِّهَا مِنْ هَمَجِيَّةٍ، وَوَثَنِيَّةٍ، وَنَصْرَانِيَّةٍ مَذْهَبِيَّةٍ، وَصَلِيبِيَّةٍ، وَمَدَنِيَّةٍ مَادِّيَّةٍ. وَمِنْ عُلَمَائِهِمْ وَفَلَاسِفَتِهِمُ الْغَابِرِينَ وَالْمُعَاصِرِينَ مَنْ يَرَى مَنَافِعَ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ فِي الْبَشَرِ أَكْبَرَ مِنْ مَضَارِّهَا، وَإِنْ كَانَ الْخَسَارُ فِيهَا عَامًّا شَامِلًا لِلْغَالِبِينَ وَالْمَغْلُوبِينَ، وَلَا تَزَالُ جَمِيعُ دُوَلِهِمْ تُنْفِقُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فَوْقَ مَا تُنْفِقُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ، وَتُرْهِقُ شُعُوبَهَا بِالضَّرَائِبِ لِأَجْلِهَا، فَوْقَ مَا تَسْتَنْزِفُهُ مِنْ ثَرْوَةِ مُسْتَعْمَرَاتِهَا وَمَا تَقْتَرِضُهُ بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الدُّيُونِ الْفَاحِشَةِ، هَذَا مَعَ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ سَاسَتِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ بِسُوءِ نِيَّةِ كُلِّ دَوْلَةٍ، وَعَدَمِ انْتِمَائِهَا لِلْأُخْرَى. وَعِلْمِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَوْلَا سُوءُ النِّيَّةِ، وَفَسَادُ الطَّوِيَّةِ، لَأَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ سِرًّا وَجَهْرًا عَلَى مَا يَقْتَرِحُهُ فُضَلَاءُ الْعُقَلَاءِ مِنْ تَقْلِيلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ الَّذِي كَثُرَتْ أَسْبَابُهُ، وَاتَّسَعَتْ بِالِاخْتِرَاعَاتِ أَبْوَابُهُ، حَتَّى صَارَ خَطَرًا عَلَى الْبَشَرِ وَحَضَارَتِهِمْ وَعُمْرَانِهِمْ يُخْشَى أَنْ يُدَمِّرَ أَكْبَرَ مَمْلَكَةٍ مِنْ أُورُبَّةَ، وَيُبِيدَ أَهْلَهَا فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا غُلُوًّا فِيهَا. وَلَوْ أَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِالْإِسْلَامِ - الَّذِي صَارَ وَاأَسَفَاهُ مَجْهُولًا حَتَّى عِنْدَ أَهْلِهِ - لَاهْتَدَوُا الطَّرِيقَ، وَوَجَدُوا الْمَخْرَجَ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ الْحَرْبِيِّ مَنْعُ جَعْلِ الْحَرْبِ لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، أَوْ لِلْإِبَادَةِ، أَوْ لِلِاسْتِعْبَادِ الشَّخْصِيِّ أَوِ الْقَوْمِيِّ. أَوْ لِسَلْبِ ثَرْوَةِ الْأُمَمِ، أَوْ لِلَذَّةِ الْقَهْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ. وَمِنْهَا مَنْعُ الْقَسْوَةِ كَالتَّمْثِيلِ، وَمَنْعُ قَتْلِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ كَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْعُبَّادِ، وَمَنْعُ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ الَّذِي لَا ضَرُورَةَ تَقْتَضِيهِ. وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الْفَظَائِعُ كُلُّهَا عَلَى أَشُدِّهَا عِنْدَ دُوَلِ أُوْرُبَّةَ إِلَّا اسْتِبْعَادَ الْأَفْرَادِ بِاسْمِ الْمِلْكِ الشَّخْصِيِّ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجْتَنِبُونَهُ مَعَ بَقَاءِ اسْتِعْبَادِهِمْ لِلْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ عَلَى مَا كَانَ، فِي نِظَامٍ وَدَسَائِسَ يُقْصَدُ بِهَا إِفْسَادُ الْآدَابِ وَالْأَدْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ صِفَةَ الْحَرْبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى حُرُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ "

ضَمَّ الْإِسْلَامُ سُكَّانَ الْقِفَارِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى وَحْدَةٍ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا تَارِيخُهُمْ، وَلَمْ يُعْهَدْ لَهَا نَظِيرٌ فِي مَاضِيهِمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَتَهُ بِأَمْرِ رَبِّهِ إِلَى مَنْ جَاوَرَ الْبِلَادَ الْعَرَبِيَّةَ فِي مُلُوكِ الْفُرْسِ وَالرُّومَانِ، فَهَزِئُوا وَامْتَنَعُوا، وَنَاصَبُوهُ وَقَوْمَهُ الشَّرَّ، وَأَخَافُوا السَّابِلَةَ، وَضَيَّقُوا عَلَى الْمَتَاجِرِ، فَغَزَاهُمْ بِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْبُعُوثَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَرَى عَلَى سُنَّتِهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ صَحَابَتِهِ، طَلَبًا لِلْأَمْنِ وَإِبْلَاغًا لِلدَّعْوَةِ ". ثُمَّ ذَكَرَ سِيرَتَهُمُ الْعَادِلَةَ الرَّحِيمَةَ فِي حَرْبِهِمْ ثُمَّ فِي سِلْمِهِمْ، وَمَا أَثْمَرَتْهُ مِنْ سُرْعَةِ انْتِشَارٍ وَقَفَّى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ (ص211) : " قَالَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْهَمَهُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَطُفْ عَلَى قُلُوبِ الْعَالَمِ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، فَقَدْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ دِيَارَ غَيْرِهِمْ وَالْقُرْآنُ بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالسَّيْفُ بِالْأُخْرَى، يَعْرِضُونَ الْقُرْآنَ عَلَى الْمَغْلُوبِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ فَصَلَ السَّيْفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَاتِهِ. " سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَنْ دَخَلُوا تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، هُوَ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ تَوَاتُرًا صَحِيحًا لَا يَقْبَلُ الرِّيبَةَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي تَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا شَهَرَ الْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَفًّا لِلْعُدْوَانِ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ الِافْتِتَاحُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ جَاوَرُوهُمْ وَأَجَارُوهُمْ، فَكَانَ الْجِوَارُ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لِصَلَاحِ الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ دَاعِيَةَ الِانْتِقَالِ إِلَيْهِ ". ثُمَّ كَتَبَ كَلِمَةً بَلِيغَةً فِي بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ فُتُوحَاتِ النَّصَارَى الْأُورُبِّيِّينَ، وَنَشْرِهِمْ لِدِينِهِمْ بِالْقَهْرِ وَالتَّقْتِيلِ، وَإِبَادَةِ الْمُخَالِفِينَ مُدَّةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ كَامِلَةٍ، لَمْ يَبْلُغِ السَّيْفُ مِنْ كَسْبِ عَقَائِدِ الْبَشَرِ فِيهَا مَا بَلَغَهُ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَقَلَّ مِنْ قَرْنٍ. وَنَقُولُ نَحْنُ أَيْضًا: إِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ مُطَّلِعٍ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَرْنِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَدَدِيَّةِ وَالْآلِيَّةِ، وَلَا مِنْ سُهُولَةِ الْمُوَاصَلَاتِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ قَهْرِ الشُّعُوبِ الَّتِي فَتَحُوا بِلَادَهَا عَلَى تَرْكِ دِينِهَا، وَلَا عَلَى قَبُولِ سِيَادَةِ شَعْبٍ كَالشَّعْبِ الْعَرَبِيِّ كَانَ دُونَهَا فِي حَضَارَتِهَا وَقُوَّتِهَا، فَهُمْ لَمْ يَخْضَعُوا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدِينُوا بِدِينِهِمْ، وَيَتَعَلَّمُوا لُغَتَهُمْ إِلَّا لِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَنَّ دِينَهُمْ هُوَ دِينُ الْحَقِّ الْمُوَصِّلُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أَوْ مِنْ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْحُكَّامِ وَأَعْدَلُهُمْ. ثُمَّ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْإِسْلَامِ فِيمَا سَمَّاهُ الْفَتْحَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ضَرُورَةُ الْمُلْكِ، أَوِ الْحَرْبَ الَّتِي يَقُولُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، تَقْتَضِيهَا الضَّرُورَةُ وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فِي مُقَابَلَةِ غَوَائِلِهَا الْكَثِيرَةِ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ (ص212) : " جَلَّتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، سَلْسَبِيلُ حَيَاةٍ نَبَعَ فِي الْقِفَارِ الْعَرَبِيَّةِ، أَبْعَدِ بِلَادِ اللهِ عَنِ الْمَدَنِيَّةِ، فَاضَ حَتَّى شَمِلَهَا فَجَمَعَ شَمْلَهَا فَأَحْيَاهَا حَيَاةً شَعْبِيَّةً مَلِيَّةً، عَلَا مَدُّهُ حَتَّى

اسْتَغْرَقَ مَمَالِكَ كَانَتْ تُفَاخِرُ أَهْلَ السَّمَاءِ فِي رِفْعَتِهَا، وَتَعْلُو أَهْلَ الْأَرْضِ بِمَدَنِيَّتِهَا، زَلْزَلَ هَدِيرُهُ عَلَى لِينِهِ مَا كَانَ اسْتَحْجَرَ مِنَ الْأَرْوَاحِ فَانْشَقَّتْ عَنْ مَكْنُونِ سِرِّ الْحَيَاةِ فِيهَا. " قَالُوا: كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ غَلَبٍ (بِالتَّحْرِيكِ) . قُلْنَا: تِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ، لَا تَزَالُ الْمُصَارَعَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ قَائِمَةً فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ قَضَاءَهُ فِيهِ. " إِذْ سَاقَ اللهُ رَبِيعًا إِلَى أَرْضٍ جَدْبَةٍ لِيُحْيِيَ مَيْتَهَا، وَيَنْقَعَ غَلَّتَهَا، وَيُنَمِّيَ الْخِصْبَ فِيهَا، أَفَيُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهِ إِنْ أَتَى فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَقَبَةٍ فَعَلَاهَا، أَوْ بَيْتٍ رَفِيعِ الْعِمَادِ فَهَوَى بِهِ؟ اهـ ". هَذَا بَعْضُ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ مِنَ الْوِجْهَةِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، ثُمَّ مِنَ الْوِجْهَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ كُلِّهَا أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ لِدَفْعِ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الدِّينِ أَوِ الْوَطَنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَتُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ شَرَائِعِ أُمَمِ الْإِفْرِنْجِ كُلِّهَا، وَيَعْذُرُونَ كُلَّ أُمَّةٍ فُقِدَ مِنْ وَطَنِهَا شَيْءٌ، إِذَا هِيَ ظُنَّتْ تَسْتَعِدُّ لِاسْتِعَادَتِهِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ بِذَلِكَ كَمَا فَعَلَتْ فَرَنْسَةُ بِاسْتِعَادَةِ وِلَايَتِيِ الْأَلْزَاسِ وَاللُّورِينَ مِنْ أَلْمَانْيَا فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ، وَكَانَتِ انْتَزَعَتْهُمَا مِنْهَا مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ وَنَيِّفٍ وَرَبَّتْ أَهْلَهُمَا تَرْبِيَةً أَلْمَانِيَّةً، وَفِي أَهْلِهِمَا كَثِيرُونَ مِنَ الْعِرْقِ الْأَلْمَانِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْ سُكَّانِهَا الْآنَ يُفَضِّلُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلدَّوْلَةِ الْأَلْمَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ تَفْسِيرُنَا هَذَا تَفْسِيرًا عِلْمِيًّا عَمَلِيًّا أَثَرِيًّا عَصْرِيًّا وَجَبَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ نُبَيِّنَ حَالَ مُسْلِمِي عَصْرِنَا فِيهِ مَعَ مُغْتَصِبِي بِلَادِهِمْ، وَالْجَانِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ; لِيَكُونَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْعِلْمِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا فَيَجِدُوا لَهُ صُلْحًا مُعْتَدِلًا إِنْ أَمْكَنَ الصُّلْحُ بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلْيَنْتَظِرُوا حُكْمَ الْأَقْدَارِ، فِيمَا لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (3: 140) . فَصْلٌ (فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ، وَدَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ، وَحُقُوقِ الْأَدْيَانِ وَالْأَقْوَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) جَرَى اصْطِلَاحُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبِلَادِ الَّتِي تَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ دَوْلَتِهِمْ، وَتُنَفَّذُ فِيهَا شَرِيعَتُهُمْ " دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَارَ الْعَدْلِ "، لِأَنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ فِيهَا فِي جَمِيعِ أَهْلِهَا بِالْمُسَاوَاةِ، وَيُسَمُّونَ مَا يُقَابِلُهَا " دَارَ الْحَرْبِ " وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَيُسَمَّى أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ " الْحَرْبِيِّينَ " إِنْ كَانُوا مُعَادِينَ مُقَاتِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، " وَالْمُعَاهَدِينَ " إِنْ كَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ عَلَى السِّلْمِ وَحُرِّيَّةِ الْمُعَامَلَةِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سُمُّوا الْبُغَاةَ، فَإِنْ أَسَّسُوا حُكُومَةً تَغَلَّبُوا بِهَا عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ سُمُّوا الْمُتَغَلِّبِينَ أَوِ الْمُتَغَلِّبَةَ، وَتُسَمَّى دَارُ الْإِسْلَامِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِـ " دَارِ الْعَدْلِ " وَلِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامٌ، فَأَيْنَ دَارُ الْإِسْلَامِ؟ .

تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ " الْحَرْبِيِّينَ " إِذَا هَاجَمُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا صَارَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَيْنِيًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَعْلَنَ الْإِمَامُ النَّفِيرَ الْعَامَّ وَجَبَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُطِيعَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى كَأَنْ يَسْتَنْفِرَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَيَفْرِضَ الْمَالَ النَّاطِقَ وَالصَّامِتَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْعَدْلِ. وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الدُّوَلُ الْأُورُوبِّيَّةُ وَغَيْرُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَا ذِكْرَهُ لِنُذَكِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَطُولَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ كَغَيْرِهِ مِنْ شُعُوبِ الشَّرْقِ مِنْ رُقَادِهِ الطَّوِيلِ، وَطَفِقَ يَبْحَثُ فِي مَاضِيهِ وَحَاضِرِهِ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، وَهَاتِفُ الْإِيمَانِ يَهْتِفُ فِي أَعْمَالِ سَرِيرَتِهِ مُذَكِّرًا إِيَّاهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ تِلْكَ الدَّارِ الْوَاسِعَةِ، أَوِ الْمَمَالِكِ الشَّاسِعَةِ، وَإِقَامَةِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ، وَإِحْيَاءِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ الشَّامِلَةِ لِتُضِيءَ لِلْبَشَرِ الطَّرِيقَ لِلْخُرُوجِ مِنْ ظُلُمَاتِ هَذَا الِاضْطِرَابِ النَّفْسِيِّ، وَالْفَوْضَى الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالسَّرَفِ الشَّهْوَانِيِّ، الَّتِي أَحْدَثَتْهَا الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ وَنَزَعَاتُ الْإِلْحَادِ وَالْحُكْمُ الْبُلْشُفِيُّ الَّذِي هُوَ شَرُّ نَتَائِجِهَا، فَقَدْ عَجَزَتْ بَقَايَا هِدَايَةِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ صَدِّ غِشْيَانِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ لِأَعْظَمِ مَمَالِكِهَا، بَعْدَ أَنْ ثَارَتْ سُحُبُهَا مِنْ أُفُقِ مَدَارِسِهَا، فَكَيْفَ تَقْوَى عَلَى تَقْشِيعِ هَذِهِ السُّحُبِ بَعْدَ تَكَاثُفِهَا، وَقَدْ كَانَتْ هِيَ نَفْسُهَا مِنْ أَسْبَابِ حُدُوثِهَا؟ . هَذَا مَا يُفَكِّرُ فِيهِ خَوَاصُّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَهْدِ وَيُشَارِكُهُمُ الدَّهْمَاءُ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ دِينُ سِيَادَةٍ وَسُلْطَانٍ وَتَشْرِيعٍ، وَحُكُومَةٍ شُورِيَّةٍ يَحْمِيهَا نِظَامٌ حَرْبِيٌّ جَامِعٌ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّهُ قَدِ اعْتَدَى عَلَيْهِ الْفَاتِحُونَ الْمُسْتَعْمِرُونَ فَسَلَبُوا مَمَالِكَهُ الْعَامِرَةَ الْخِصْبَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ هَاجَمُوهُ فِي مَهْدِ وِلَادَتِهِ، وَبَيْتِ تَرْبِيَتِهِ، وَمَعْقِلِ قُوَّتِهِ (وَهُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ) حَتَّى وَصَلَ عُدْاوَنُهُمْ إِلَى مَشْرِقِ نُورِهِ، وَقِبْلَةِ صَلَاتِهِ، وَمَشَاعِرِ نُسُكِهِ، وَرَوْضَةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (وَهُوَ الْحِجَازُ) حَيْثُ حَرَمُ اللهِ وَحَرَمُ رَسُولِهِ، بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ الْحِجَازِيَّةِ فِي سُورِيَةَ وَفِلَسْطِينَ، وَبِمَا أَلْحَقُوهُ بِشَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ نَفْسِهَا. كَانَ الْمُعْتَدُونَ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَحْسِبُونَ كُلَّ حِسَابٍ لِقِيَامِ الْمُسْلِمِينَ بِنَهْضَةٍ عَامَّةٍ بَاسِمِ (الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ) لِاسْتِعَادَةِ مَا سُلِبَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ كُلَّ حِسَابٍ لِتَعَلُّقِهِمْ بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا لَهَا بِمَنْصِبِ (الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ) فَمَا زَالُوا يُجَاهِدُونَ هَذِهِ الْخِلَافَةَ وَتِلْكَ الْجَامِعَةَ بِأَنْوَاعِ الْجِهَادِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهِيَ: السَّيْفُ، وَالْمَالُ، وَاللِّسَانُ، وَالْقَلَمُ (أَيِ الْعِلْمُ) حَتَّى صَرَفُوا وُجُوهَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَنِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْجَامِعَتَيْنِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ، وَهَدَمُوا هَيْكَلَ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِأَيْدِي حُمَاتِهَا مِنَ التُّرْكِ أَنْفُسِهِمْ، وَدَفَعُوا

حُكُومَةَ هَذَا الشَّعْبِ الْإِسْلَامِيِّ الْبَاسِلِ مِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي إِلَى مُحَارَبَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ نَفْسِهِ بِأَشَدَّ مِنْ مُحَارَبَتِهِمْ هُمْ لَهُ بِمَدَارِسِهِمُ التَّبْشِيرِيَّةِ، وَاللَّادِينِيَّةِ، وَبِكُتُبِهِمْ وَصُحُفِهِمْ وَنُفُوذِهِمْ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ قَدْ تَمَّ لَهُمْ بِهَذَا فَتْحُ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ لِإِتْمَامِ هَذَا الْفَتْحِ إِلَّا الْقَضَاءُ الْأَخِيرُ عَلَى مَهْدِهِ الدِّينِيِّ، وَعَلَى شَعْبِهِ وَأَنْصَارِهِ مِنْ قَوْمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهَذَا مَا جَرَّأَهُمْ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَكَانُوا فِيهِ مُخْطِئِينَ، وَفِي مُحَاوَلَتِهِ مُسِيئِينَ، وَكُنَّا مِنْ إِسَاءَتِهِمْ مُسْتَفِيدِينَ. أَمَّا الْخِلَافَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ الْمُتَغَلِّبَةُ فَكَانَتْ هَيْكَلًا وَهْمِيًّا خَادِعًا لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَتَوَجَّهْ هِمَمُهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى قُوَاهُمُ الذَّاتِيَّةِ، وَلَاسِيَّمَا قُوَّةُ الْوِلَايَةِ وَالتَّعَاوُنِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ سِيَاجًا لِمَنْ يَعْمَلُ لِلْإِسْلَامِ وَلَهَا بِاعْتِرَافِ الدُّوَلِ لَهَا بِالْحُقُوقِ الدَّوْلِيَّةِ، وَبِمَا كَانَتْ تُحَافِظُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَكَانَ أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ وَالسِّيَاسِيِّينَ كَالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا السِّيَاجَ ضَعِيفٌ، وَعُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ الْقَرِيبِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ مِنْ وَرَائِهِ مَعَ عَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْإِصْلَاحِ، وَلَكِنَّ الْجَهْلَ الْعَامَّ حَالَ دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِآرَاءِ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) بِأَصْرَحَ مِمَّا كَانُوا يُصَرِّحُونَ أَوْ يُبِيحُونَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ زَوَالُ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ نَافِعًا لَا ضَارًّا. وَأَمَّا الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَلَمْ تَكُنْ أَمْرًا وَاقِعًا بِالْفِعْلِ، كَمَا حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَمْرًا تَقْتَضِيهِ الْعَقِيدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ، وَيَحُولُ دُونَهُ الْجَهْلُ الْعَامُّ، وَلَاسِيَّمَا جَهْلُ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ مِنَ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقْظَةُ الْمُقَاوِمِينَ لَهُمْ، وَسَتَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي طَوْرٍ مِنَ النِّظَامِ تَبَلَّجَ نُورُ فَجْرِهِ فِي الْمُؤْتَمَرِ الْإِسْلَامِيِّ الْأَوَّلِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ. وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ الْجِنْسِيَّةُ وَالْوَطَنِيَّةُ بَيْنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ وَوُجُودٌ بِمَا كَانَ مِنْ عَصَبِيَّةِ الْأَعَاجِمِ لِأَجْنَاسِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا التُّرْكُ الَّذِينَ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ سِيَاسَتِهِمُ احْتِقَارُ الْعَرَبِ، وَهَضْمُ حُقُوقِهِمْ حَتَّى فِي مِصْرَ الَّتِي كَانَ الْأَعَاجِمُ الْحَاكِمُونَ فِيهَا فِئَةً قَلِيلَةً، وَكَانَ احْتِقَارُهُمْ لِلْمِصْرِيِّينَ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِلَقَبِ فَلَّاحٍ وَفَلَّاحِينَ أَكْبَرَ أَسْبَابِ الثَّوْرَةِ الْعُرَابِيَّةِ، وَاحْتِلَالِ الْإِنْكِلِيزِ لِمِصْرَ - وَلَكِنَّ التَّعَالِيمَ الْأُورُبِّيَّةَ قَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الشُّعُوبَ الْمُسْتَيْقِظَةَ قُوَّةً جَدِيدَةً عَصْرِيَّةً تُجَاهِدُ بِهَا الْمُسْتَعْبَدِينَ بِسِلَاحِهِمُ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُفَلُّ حَدُّهُ، وَلَا يُجْزَرُ مَدُّهُ، وَهُوَ قُوَّةُ وَحْدَةِ الشَّعْبِ، وَمُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ الطَّبِيعِيِّ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، مَعَ عَطْفِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ وَمَذْهَبٍ فِيهِ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الْوَطَنِيِّينَ فِي كُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ حُقُوقِهِمُ الْمِلِّيَّةِ الْعَامَّةِ حَتَّى فِي خَارِجِ وَطَنِهِمْ. كَمَا نَرَى فِي عَطْفِ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُطَالِبُونَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ فِي فِلَسْطِينَ.

وَأَهَمُّ الْمَسَائِلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَدُورُ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَيْنَ كِبَارِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَيَتَهَامَسُونَ بِهَا سِرًّا - مَسْأَلَةُ (دَارِ الْإِسْلَامِ) الَّتِي يُفْتَرَضُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِإِعَادَتِهَا. وَأَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِي أَنْ أُفْشِيَ الْآنَ مِنْ سِرِّهَا مَا يُعِينُ عَلَى تَمْحِيصِهَا، فَأَقُولُ: إِنَّ لَهُمْ فِيهَا أَرْبَعَةَ آرَاءٍ: - (1) الرَّأْيُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَقْرَبُ الْآرَاءِ إِلَى نُصُوصِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ مِنَ الْبِلَادِ فِي مُحِيطِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَنُفِّذَتْ فِيهَا أَحْكَامُهُ وَأُقِيمَتْ شَعَائِرُهُ قَدْ صَارَ مِنْ (دَارِ الْإِسْلَامِ) وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْهُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا كَانُوا كُلُّهُمْ آثِمِينَ بِتَرْكِهِ، وَأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْأَجَانِبِ عَلَيْهِ لَا يَرْفَعُ عَنْهُمْ وُجُوبَ الْقِتَالِ لِاسْتِرْدَادِهِ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ. فَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَجِبُ عَلَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ إِزَالَةُ سُلْطَانِ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْمُسْتَعْمِرَةِ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِرْجَاعُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهَا مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَعَجْزُهُمُ الْآنَ عَنْ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُمْ وُجُوبَ تَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِعْدَادِ مَا يُمْكِنُ مِنَ النِّظَامِ وَالْعُدَّةِ لَهُ، وَانْتِظَارِ الْفُرَصِ لِلْوُثُوبِ وَالْعَمَلِ. وَهَذَا الرَّأْيُ يُوَافِقُ الْقَاعِدَةَ الَّتِي وَضَعَهَا أَحَدُ وُزَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى فِي الْغَلَبِ وَالسُّلْطَانِ وَهِيَ (مَا أَخَذَ الصَّلِيبُ مِنَ الْهِلَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُوْدَ إِلَى الْهِلَالِ، وَمَا أَخَذَ الْهِلَالُ مِنَ الصَّلِيبِ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الصَّلِيبِ) . وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَجْرِي الْيَهُودُ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ بِإِعَادَةِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِ فِلَسْطِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِإِعَادَةِ الْمُلْكِ (بِضَمِّ الْمُلْكِ) بَلْ يَطْلُبُونَ جَعْلَ الْمِلْكِ (بِالْكَسْرِ) وَسِيلَةً لَهُ فَهُمْ يُحَاوِلُونَ سَلْبَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِهَا الْعَرَبِ بِمُسَاعَدَةِ الْإِنْكِلِيزِ. وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُنْكِرُ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ وَالْيَهُودِ مَا ذُكِرَ، وَنَعُدُّهُ غُلُوًّا وَبَغْيًا وَأَثَرَةَ مِنْهُمْ، وَمِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ أَنْ نَرْضَى لِأَنْفُسِنَا مَا نُنْكِرُهُ عَلَى غَيْرِنَا. دَعْ مَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى هَذَا الْمَطْلَبِ الْكَبِيرِ، مِنَ الْغُرُورِ وَالتَّغْرِيرِ. (2) الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) مَا كَانَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ خِلَافَةُ الرَّاشِدِينَ وَالْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ جَمِيعًا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا فَتَحَتْهُ دُوَلُ الْأَعَاجِمِ، وَلَمْ يُنَفَّذْ فِيهِ حُكْمُ خَلِيفَةٍ قُرَشِيٍّ. وَهَذَا الرَّأْيُ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي بُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ. عَلَى نِزَاعٍ فِي دَلِيلِهِ مِنَ الْمَنْقُولِ. (3) الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) الْحَقَّ هِيَ مَا فُتِحَ فَتْحًا إِسْلَامِيًّا رُوعِيَ فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَجِزْيَتُهُ وَصُلْحُهُ وَتَنْفِيذُ حُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ إِلَّا فِيمَا فَتَحَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ طَلَبَ الْمُلْكِ وَالتَّمَتُّعِ بِالسُّلْطَانِ وَالنَّعِيمِ، فَالْوَاجِبُ

عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَوْا لِإِعَادَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ بِأَنْ يَضَعَ عُقَلَاؤُهُمْ لِذَلِكَ نِظَامًا يَدْعُونَ إِلَيْهِ دَعْوَةً عَامَّةً، وَيَجْمَعُونَ الْمَالَ الَّذِي يُمَكِّنُهُمْ مِنَ السَّعْيِ إِلَيْهِ. (4) الرَّأْيُ الرَّابِعُ: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) قِسْمَانِ: (الْأَوَّلُ) مَهْدُهُ وَمَشْرِقُ نُورِهِ وَمَصْدَرُ قُوَّتِهِ، وَمَوْطِنُ قَوْمِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَهُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ. (وَالثَّانِي) بِيئَةُ حَضَارَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَظْهَرُ عَدَالَتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَيَنْبُوعُ حَيَاتِهِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَهُوَ سُورِيَةُ الشَّامِلَةُ لِفِلَسْطِينَ، وَالْعِرَاقِ الْعَرَبِيِّ، وَمِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَهَذِهِ الْأَقْطَارُ هِيَ الَّتِي عَمَّتْ فِيهَا لُغَةُ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةُ، وَرَسَخَتْ فَنَسَخَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ لُغَاتٍ أُخْرَى ; لِأَنَّ أَكْثَرَ سُكَّانِهَا الْأَصْلِيِّينَ مِنَ السَّلَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ تَغَلْغَلُوا فِيهَا مِنْ عُصُورِ التَّارِيخِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ وَلُغَاتِهَا شَكٌّ فِي أَنَّ الْفِينِيقِيِّينَ سُكَّانَ سَوَاحِلِ سُورِيَةَ الْأَوَّلِينَ الْمُعَمِّرِينَ - مَنْ عَرَبِ سَوَاحِلِ الْبَحْرَيْنِ وَنَجْدٍ - وَأَنَّ امْتِزَاجَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْهِيرُوغْلِيفِيَّةِ الْقَدِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْعَرَبَ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ إِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ عِرْقَيْنِ امْتَزَجَا وَاتَّحَدَا مُنْذُ أُلُوفِ السِّنِينِ. وَلَكِنَّ الْمِصْرِيِّينَ قَدْ رَسَخَتْ فِي زُعَمَائِهِمُ الْمَدَنِيِّينَ عَصَبِيَّةُ الْوَطَنِيَّةِ فَلَا مَجَالَ الْآنَ لِمُطَالَبَتِهِمْ بِعَمَلٍ سِيَاسِيٍّ لِإِعَادَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِمُؤْتَمَرِ الْخِلَافَةِ الَّذِي عَقَدَهُ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَحَسْبُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ إِعْلَاءُ شَأْنِهِ بِإِحْيَاءِ لُغَتِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ. فَانْحَصَرَ الرَّجَاءُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ سُورِيَةَ وَالْعِرَاقِ اللَّذَيْنِ يَعُدُّهُمَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْهَا. دَارُ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ: أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ أَنْ تَكُونَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ دَارَهُ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ، فَقَضَى عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَأَهَمُّهَا وَصِيَّتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْهَا، وَبِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِأَنَّ ثُغُورَ الْحِجَازِ الْبَحْرِيَّةَ، وَمَا يُوجَدُ فِي بَحْرِهِ مِنَ الْجَزَائِرِ لَهُمَا حُكْمُ أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَسُلْطَانِهِمْ أَنْ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا. وَقَدْ ظَهَرَ لِمُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ دُوَلِهِمُ الْقَوِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ الَّتِي تَسَاهَلَتْ وَقَصَّرَتْ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَسَمَحَتْ بِبَقَاءِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ بِقَاعِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (كَالْيَمَنِ) ثُمَّ بِوُجُودِ بَعْضِهِمْ فِي (جُدَّةَ) وَهِيَ مِنَ الْحِجَازِ.

ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ أَسَاسَ السِّيَاسَةِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ هُوَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ الْحَقَّ فِي حِمَايَةِ وَطَنِهَا بِحُدُودِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، وَمَا يُعَدُّ سِيَاجًا وَحَرِيمًا لَهُ مِنْ سَوَاحِلِهِ الْبَحْرِيَّةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْمَلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَأَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي تُوقَدُ نَارُهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِمَايَةِ، وَمَنْعِ الْعُدْوَانِ هِيَ حَقٌّ وَعَدْلٌ يُقِرُّهُ الْقَانُونُ الدُّوَلِيُّ الْعَامُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَا يُعَدُّ مُنَافِيًا لِلْفَضِيلَةِ وَالْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بَلْ مُؤَيِّدًا لَهُمَا. وَدُوَلُ الِاسْتِعْمَارِ الْفَاتِحَةُ تَعُدُّ مَا تَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْطَانِ سَائِرِ الْأُمَمِ كَوَطَنِ أُمَّتِهَا فِي أَنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي حِمَايَتِهِ، وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى طُرُقِهِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَهِيَ تُبِيحُ لِنَفْسِهَا الِاعْتِدَاءَ بِحُجَّةِ مَنْعِ غَيْرِهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ، كَمَا فَعَلَتِ انْكِلْتِرَهْ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مِصْرَ فَالسُّودَانِ، وَمِنْ قَبْلِهِمَا عَلَى عَدَنٍ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ طَرِيقِ الْهِنْدِ الَّتِي اعْتَدَتْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ، وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ اعْتَدَتْ عَلَى الْعِرَاقِ وَفِلَسْطِينَ وَشَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنَ الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ امْتَدَّ طَمَعُهَا إِلَى الْحِجَازِ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَلْبُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمَادِّيُّ، وَقَلْبُ الْإِسْلَامِ الْمَعْنَوِيُّ، بِجَعْلِ أَهَمِّ ثُغُورِهِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ (الْعَقَبَةَ) وَأَهَمِّ مَوَاقِعِ سِكَّةِ الْحَدِيدِ الْحِجَازِيَّةِ فِيهِ (مَعَانٍ) وَمَا بَيْنَهُمَا تَابِعًا لِشَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ الَّذِي وَضَعَتْهُ تَحْتَ سَيْطَرَتِهَا بِاسْمِ الِانْتِدَابِ، دَعْ ذِكْرَ الْخَطِّ الْحَدِيدِيِّ الْمُمْتَدِّ مِنْ حُدُودِ الْحِجَازِ إِلَى حِيفَا، فَبِهَذَا انْتَهَكَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ حُرْمَةَ الْحِجَازِ الْمُقَدَّسَةَ. وَبِهَذَا صَارَ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ تَحْتَ رَحْمَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنْ تَمَّ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ هَذَا فَسَتَمُدُّ سِكَّةً حَدِيدِيَّةً تِجَارِيَّةً فِي الظَّاهِرِ عَسْكَرِيَّةً فِي الْبَاطِنِ مِنَ الْعَقَبَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَقُولُ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ وُجُودَ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِيهِمَا يُهَدِّدُ سِكَّةَ الْحَدِيدِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَمْنِ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِزَالَةِ كُلِّ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ أَوْ جَعْلِ الْقُوَّةِ الْمُحَافِظَةِ عَلَى الْأَمْنِ مِنْ تَحْتِ إِشْرَافِهَا وَنُفُوذِهَا. وَلَوْ كَانَ فِي الْحِجَازِ سُكَّانٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَفَتَحَتْ لِنَفْسِهَا بَابَ التَّدَخُّلِ فِي أَمْرِ حُكُومَتِهِ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ هَؤُلَاءِ السُّكَّانِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مِنَ النَّصَارَى كَمَا انْتَحَلَتْ لِنَفْسِهَا حَقَّ حِمَايَةِ الْأَقَلِّيَّاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمِصْرَ، وَكَمَا فَعَلَتْ فِي إِعْطَاءِ الْيَهُودِ حَقَّ تَأْسِيسِ وَطَنٍ قَوْمِيٍّ لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ، وَفِي حِمَايَتِهِمْ فِيهَا بَلْ إِعَانَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَأَكْثَرُهُمْ مُسْلِمُونَ، وَكَمَا خَلَقَتْ فِي الْعِرَاقِ أَقَلِّيَّةً مِنْ بَقَايَا الْأَشُورِيِّينَ، وَإِنْ تَمَّ لَهَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مِنْطَقَةِ الْعَقَبَةِ وَمَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ فَسَتَجْعَلُ جُلَّ مَالِكِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ فِيهَا مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; لِيَكُونَ لَهَا مِنْ حَقِّ الْحُكْمِ فِيهَا

وَالْحِمَايَةِ لَهَا حِمَايَةُ هَؤُلَاءِ السُّكَّانِ فَوْقَ حِمَايَةِ الْأَرْضِ وَسِكَّةِ الْحَدِيدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالْمَصَالِحِ السِّيَاسِيَّةِ - أَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْبُقْعَةَ الْعَظِيمَةَ مِنْ وَطَنِ الْحِجَازِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَرَبِيِّ يُخْشَى أَنْ يَخْرُجَ بِهَا الْحِجَازُ كُلُّهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا أَوْ إِسْلَامِيًّا، كَمَا يَدَّعُونَ الْآنَ فِي فِلَسْطِينَ. أَقُولُ: إِنْ تَمَّ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ مَا ذُكِرَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا يَتِمَّ لَهَا ذَلِكَ (وَلَنْ يَتِمَّ إِنْ شَاءَ اللهُ) فَإِنَّ مَلِكَ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ عَارَضَهَا فِي دَعْوَى إِلْحَاقِ هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ بِحُكُومَةِ شَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ، وَلَكِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى إِرْجَاءِ الْبَتِّ النِّهَائِيِّ فِي أَمْرِهَا بِضْعَ سِنِينَ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُؤْتَمَرِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَامِّ الَّذِي عُقِدَ فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ سَنَةَ 1344 عَلَى إِنْكَارِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ بِشَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ وَوُجُوبِ جَعْلِهَا تَابِعَةً لِلْحِجَازِ، وَتَكْلِيفِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمُطَالَبَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ بِإِعَادَتِهَا إِلَى الْحِجَازِ، وَاتِّخَاذِ كُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ لِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ وَيُؤَيِّدَهُ فِيهِ. هَذَا مُجْمَلُ مَا يَدُورُ فِيهِ الْبَحْثُ بَيْنَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآرَاءِ السِّيَاسِيَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ (الْخِلَافَةِ) وَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقِّينَ لِعِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ عِقَابُهُ فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ وَالنَّكَالِ، بِفَقْدِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الَّذِي عَمَّ جَمِيعَ الشُّعُوبِ وَالْأَجْيَالِ، إِلَّا هَذِهِ الْبَقِيَّةَ الْقَلِيلَةَ الْفَقِيرَةَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهِيَ مُهَدَّدَةٌ فِي كُلِّ آنٍ بِالْخَطَرِ، وَهَذَا السَّعْيُ الْوَاجِبُ لَا يُرْجَى نَجَاحُهُ إِلَّا بِنِظَامٍ سِرِّيٍّ مُحْكَمٍ يُرَاعَى فِيهِ حَالُ الزَّمَانِ، وَاخْتِلَافُ اسْتِعْدَادِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحُكُومَاتِ وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، تَقُومُ بِهِ جَمْعِيَّاتٌ دِينِيَّةٌ وَسِيَاسِيَّةٌ وَخَيْرِيَّةٌ، تُوَجِّهُ جُهُودَهَا كُلَّهَا إِلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ مِنَ الْقَائِمِينِ بِهَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ الْجَهْرِيُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي جُمْلَتِهِ وَمُخْتَلِفِ شُعُوبِهِ السَّعْيُ لَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ صِيَانَةُ الْحِجَازِ مِنَ النُّفُوذِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يُهَدِّدُهُ بِاسْتِيلَاءِ دَوْلَتِيِ انْكِلْتِرَهْ وَفَرَنْسَةَ عَلَى سِكَّةِ الْحَدِيدِ الْحِجَازِيَّةِ، وَبِإِلْحَاقِ مِنْطَقَةِ الْعَقَبَةِ وَمَعَانٍ شَرْقِيَّ الْأُرْدُنِّ الْوَاقِعِ تَحْتَ السَّيْطَرَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ مِنْ عَمَلٍ إِيجَابِيٍّ أَوْ سَلْبِيٍّ بِالِانْفِرَادِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْمُقَاطَعَةُ التِّجَارِيَّةُ وَغَيْرُهَا وَبَثُّ الدَّعَايَةِ لِذَلِكَ. أَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ

الْبَدْءُ بِالْجِهَادِ الدِّينِيِّ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ. مِنْ قَوْلٍ، وَمَالٍ، وَنَفْسٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَبَثِّ الدَّعْوَةِ لِذَلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِحْصَاءِ الْبَشَرِيِّ الْعَامِّ: إِنَّ عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ بَلَغَ أَرْبَعَمِائَةِ مِلْيُونِ نَسَمَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَهَلْ يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَسَاحَةِ أُورُبَّةَ كُلِّهَا أَضْعَافًا أَنْ يَكُونُوا أَذَلَّ وَأَحْقَرَ وَأَجْبَنَ مِنَ الْيَهُودِ الصَّهْيُونِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُونَ عُشْرَ عُشْرِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى انْتِزَاعِ فِلَسْطِينَ مِنْهُمْ؟ وَيَرَوْنَ مَعَ هَذَا أَنَّ حَرَمَ اللهِ تَعَالَى وَحَرَمَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُهَدَّدَانِ بِالْخَطَرِ بَعْدَ ثَالِثِهِمَا وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قَدِ انْتَقَصَا مِنْ أَطْرَافِهِمَا، وَاغْتُصِبَتِ السِّكَّةُ الْحَدِيدِيَّةُ الْوَحِيدَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِمَا، وَهُمْ سَاكِنُونَ سَاكِتُونَ، وَدِينُهُمْ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ إِعَادَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِ الْإِسْلَامِ، إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي سَالِفِ الْأَيَّامِ عَلَى اخْتِلَافِ الدَّرَجَاتِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ. فَمِمَّ يَخَافُونَ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَحْرِصُونَ؟ وَلِمَ يَعِيشُونَ؟ . لَقَدْ دَلَّتْ أَفْعَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ الْأَخِيرَةِ إِذْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ دِفَاعًا عَنْ مُسْتَذِلِّيهِمْ وَمُسْتَعْبِدِيهِمْ وَدَلَّتِ الثَّوْرَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْحِجَازِيَّةُ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ، وَالثَّوْرَاتُ الْمِصْرِيَّةُ فَالْعِرَاقِيَّةُ فَالسُّورِيَةُ فَالْمَغْرِبِيَّةُ الرِّيفِيَّةُ بَعْدَ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ أَشْجَعَ الْأُمَمِ وَأَشَدَّهَا احْتِقَارًا لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبُ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ كُلِّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ أَوَّلًا وَآخِرًا - فَسَادَ رُؤَسَائِهِمْ وَخِيَانَةَ أُمَرَائِهِمْ، وَجَهْلَ عَامَّةِ دَهْمَائِهِمْ، وَقَدْ آنَ لِلْجَاهِلِ أَنْ يُعَلَّمَ، وَلِلْفَاسِدِ أَنْ يَصْلُحَ وَلِلْخَائِنِ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُقْتَلَ. فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَدَبَّرُوا قَوْلَ رَبِّكُمُ الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ، الْوَلِيِّ النَّصِيرِ، الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (47: 7) وَإِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) وَوَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (4: 141) وَوَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ (22: 47) وَلَكِنَّكُمْ نَقَضْتُمْ عَهْدَهُ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (24: 31) وَوَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 139) .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (29) السَّابِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُرَادَ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ - عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَشَرًا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، أَيْ أَجْسَادًا وَأَرْوَاحًا، وَأَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ سَعَادَتِهِمْ وَشَقَائِهِمْ، لَا عَلَى أَشْخَاصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ - وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِيمَانًا وَإِذْعَانًا، وَعَمَلًا، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أَيْ: إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ تَقَالِيدَ وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا فِي سِيَاقِ قِتَالِهِمْ وَمَا يُنْتَهَى بِهِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ أَدَاءُ الْجِزْيَةِ بِشَرْطِهَا - عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُبَيِّنُ مُبْهَمَهُ، وَيُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وَيُبَيِّنُ غَايَتَهُ، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ إِلَخْ نَبْدَأُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ عُزَيْرٍ هَذَا، وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ الْقَوْمِ ثُمَّ بِبَيَانِ مَنْ سَمَّوْهُ ابْنَ اللهِ مِنَ الْيَهُودِ، وَنُقَفِّي عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ قَوْلِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ وَتَفْنِيدِهِ، ثُمَّ مَنْ قَالَ بِمِثْلِ

هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُفْصَلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ. عُزَيْرٌ هَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ (عِزْرَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ هُمُ الَّذِينَ صَغَّرُوا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّحْبِيبِ وَصَرَفُوهُ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ اسْمَ " يَسُوعَ " قَلَبَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالَتْ " عِيسَى " وَهُوَ كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنَ السِّفْرِ الْمَعْرُوفِ بِاسْمِهِ عِزْرَا بْنِ سَرَايَا بْنِ عِزْرِيَا بْنِ حِلْقِيَا - وَسَاقَ نَسَبَهُ إِلَى الِعَازَارِ بْنِ هَارُونَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) . جَاءَ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْيَهُودِيَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ (طَبْعَةَ 1903) أَنَّ عَصْرَ عِزْرَا هُوَ رَبِيعُ التَّارِيخِ الْمِلِّيِّ لِلْيَهُودِيَّةِ الَّذِي تَفَتَّحَتْ فِيهِ أَزْهَارُهُ وَعَبَقَ شَذَا وَرْدِهِ. وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ نَشْرَ الشَّرِيعَةِ (وَفِي الْأَصْلِ عَرَبَةَ أَوْ مَرْكَبَةَ الشَّرِيعَةِ) لَوْ لَمْ يَكُنْ جَاءَ بِهَا مُوسَى (التِّلْمُودَ، 21 ب) فَقَدْ كَانَتْ نُسِيَتْ وَلَكِنَّ عِزْرَا أَعَادَهَا أَوْ أَحْيَاهَا، وَلَوْلَا خَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَاسْتَطَاعُوا رُؤْيَةَ الْآيَاتِ (الْمُعْجِزَاتِ) كَمَا رَأَوْهَا فِي عَهْدِ مُوسَى اهـ. وَذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُ كَتَبَ الشَّرِيعَةَ بِالْحُرُوفِ الْأَشُورِيَّةِ وَكَانَ يَضَعُ عَلَامَةً عَلَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي يَشُكُّ فِيهَا - وَأَنَّ مَبْدَأَ التَّارِيخِ الْيَهُودِيِّ يَرْجِعُ إِلَى عَهْدِهِ. وَقَالَ الدُّكْتُورُ جُورْجْ بُوسْتْ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: عِزْرَا (عَوْنٌ) كَاهِنٌ يَهُودِيٌّ وَكَاتِبٌ شَهِيرٌ سَكَنَ بَابِلَ مُدَّةَ مُلْكِ (ارْتَحْشِشْتَا) الطَّوِيلِ الْبَاعِ، وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِمُلْكِهِ أَبَاحَ لَعِزْرَا بِأَنْ يَأْخُذَ عَدَدًا وَافِرًا مِنَ الشَّعْبِ إِلَى أُورْشَلِيمَ نَحْوَ سَنَةِ 457 ق. م (عِزْرَا ص7) وَكَانَتْ مُدَّةُ السَّفَرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. (ثُمَّ قَالَ) وَفِي تَقْلِيدِ الْيَهُودِ يَشْغَلُ عِزْرَا مَوْضِعًا مُهِمًّا يُقَابَلُ بِمَوْضِعِ مُوسَى وَإِيلِيَّا وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَسَّسَ الْمَجْمَعَ الْكَبِيرَ، وَأَنَّهُ جَمَعَ أَسْفَارَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَأَدْخَلَ الْأَحْرُفَ الْكَلْدَانِيَّةَ عَوْضَ الْعِبْرَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ أَلَّفَ أَسْفَارَ الْأَيَّامِ وَعِزْرَا وَنِحْمِيَا. (ثُمَّ قَالَ) وَلُغَةُ سِفْرِ عِزْرَا مِنْ ص4: 8 - 6: 19 كَلْدَانِيَّةً، وَكَذَلِكَ ص7: 1 - 27 وَكَانَ الشَّعْبُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنَ السَّبْيِ يَفْهَمُونَ الْكَلْدَانِيَّةَ أَكْثَرَ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ حَتَّى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَهَا فِي تَابُوتِ الْعَهْدِ أَوْ بِجَانِبِهِ (تث 31: 25، 26) قَدْ فُقِدَتْ قَبْلَ عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا فُتِحَ التَّابُوتُ فِي عَهْدِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ غَيْرُ اللَّوْحَيْنِ الَّذَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ كَمَا تَرَاهُ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ (عِزْرَا) هَذَا هُوَ الَّذِي كَتَبَ التَّوْرَاةَ وَغَيَّرَهَا بَعْدَ السَّبْيِ بِالْحُرُوفِ الْكَلْدَانِيَّةِ وَاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ الْمَمْزُوجَةِ بِبَقَايَا اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ الَّتِي نَسِيَ الْيَهُودُ مُعْظَمَهَا. وَيَقُولُ أَهْلُ

الْكِتَابِ: إِنَّ (عِزْرَا) كَتَبَهَا كَمَا كَانَتْ بِوَحْيٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ. وَهَذَا مَا لَا يُسَلِّمُهُ لَهُمْ غَيْرُهُمْ وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْخَاصَّةِ بِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى مِنْ تَآلِيفِهِمْ كَذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ لِلْكَاثُولِيكِ وَأَصْلُهُ فَرَنْسِيٌّ، وَقَدْ عَقَدَ الْفَصْلَيْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ لِذِكْرِ بَعْضِ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى كَوْنِ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ لِمُوسَى، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: (7 - جَاءَ فِي سِفْرِ عِزْرَا 4 ف 14 عَدْ 21) أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ حُرِّقَتْ بِالنَّارِ فِي عَهْدِ نُبُوخَذْ نَصْرَ حَيْثُ قَالَ: " إِنِ النَّارَ أَبْطَلَتْ شَرِيعَتَكَ فَلَمْ يَعُدْ سَبِيلٌ لِأَيِّ امْرِئٍ أَنْ يَعْرِفَ مَا صَنَعَتْ " اهـ. وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عِزْرَا أَعَادَ بِوَحْيِ الرُّوحِ الْقُدُسِيِّ تَأْلِيفَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي أَبَادَتْهَا النَّارُ وَعَضَّدَهُ فِيهَا كَتَبَةٌ خَمْسَةٌ مُعَاصِرُونَ. وَلِذَلِكَ تَرَى ثِرْثُولْيَانُوسْ، وَالْقِدِّيسَ ايرْيَنَاوْسْ، وَالْقِدِّيسَ ايْرُونِيمُوسْ، وَالْقِدِّيسَ يُوحَنَّا الذَّهَبِيَّ، وَالْقِدِّيسَ بَاسِيلْيُوسَ وَغَيْرَهُمْ يَدَّعُونَ عِزْرَا مُرَمِّمَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ اهـ. ثُمَّ أَجَابَ الْمُؤَلِّفُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ السِّفْرَ الرَّابِعَ مِنْ سِفْرِ عِزْرَا (كَذَا) لَيْسَ بِقَانُونِيٍّ، وَأَنَّ نُسَخَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا " مَحْفُوظَةً فِي الْهَيْكَلِ أَوْ فِي أُورْشَلِيمَ، وَأَنَّ الْآبَاءَ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ الْمُعْتَرِضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ إِنَّمَا يُؤْخَذُ بِتَعْلِيمِهِمْ لَا بِرَأْيِهِمْ، قَالَ " يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ رَأْيُهُمْ غَيْرُ التَّعْلِيمِيِّ غَيْرَ مُصِيبٍ ; إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ إِذْ سَمَّوْا عِزْرَا مُرَمِّمَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ بَعْدَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ جَمَعَ كَلَّ مَا تَمَكَّنَ مِنْ جَمْعِهِ مِنْ نُسَخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَقَابَلَهَا وَجَعَلَ مِنْهَا مَجْمُوعًا مُنَقَّحًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَغْلَاطِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ انْدَسَّتْ فِيهِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ تَأْوِيلٌ لِأَقْوَالِ الْقِدِّيسِينَ الْمَذْكُورِينَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيمَهُمْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِمْ، وَاحْتِمَالَاتٌ وَدَعَاوَى فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، دَلِيلٌ عَلَيْهَا ; إِذْ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ قَبْلَ عِزْرَا كِتَابٌ اسْمُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ، وَلَا أَنَّ أَسْفَارَ مُوسَى كَانَ يُوجَدُ مِنْهَا نُسَخٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي التَّارِيخِ أَنَّ مَا كَتَبَهُ عِزْرَا مِنْهَا قَدْ فُقِدَ أَيْضًا، وَكَانَ يُوجَدُ فِيهِ الْأُلُوفُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْبَابِلِيَّةِ - وَعِبَارَاتٌ كَانَ عِزْرَا يَشُكُّ فِيهَا - وَأَغْلَاطٌ كَثِيرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، يَتَمَحَّلُونَ فِي الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، فَنُسْخَةُ عِزْرَا لَيْسَتْ عَيْنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي كَانَ كَتَبَهَا مُوسَى قَطْعًا. وَقَدْ جَاءَ فِي ص167 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ (طَبْعَةَ الْآسِتَانَةِ) بَعْدَ نَقْلِ نَحْوٍ مِمَّا ذُكِرَ عَنْ سَفَرِ عِزْرَا وَإِحْرَاقِ التَّوْرَاةِ وَجَمْعِ عِزْرَا لَهَا بِإِعَانَةِ رُوحِ الْقُدُسِ - مَا نَصُّهُ: " وَقَالَ كِلِيمْنِسْ اسْكَنْدَرْ يَانُوسَ: إِنَّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ ضَاعَتْ فَأُلْهِمَ عِزْرَا أَنْ يَكْتُبَهَا مَرَّةً أُخْرَى اهـ. وَقَالَ ترتولينُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ عِزْرَا كَتَبَ مَجْمُوعَ الْكُتُبِ بَعْدَ

مَا أَغَارَ أَهْلُ بَابِلَ بُرُوشَالِمَ (؟) اهـ. وَقَالَ تهيوفلكتُ: إِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ انْعَدَمَتْ رَأْسًا، فَأَوْجَدَهَا عِزْرَا مَرَّةً أُخْرَى بِإِلْهَامٍ اهـ. وَقَالَ جَانْ مِلْنَرْ كَاتْلِكَ فِي الصَّفْحَةِ 115 مِنْ كِتَابِهِ الَّذِي طُبِعَ فِي بَلْدَةِ دَرْبِي سَنَةَ 1843: " اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نُسْخَةَ التَّوْرَاةِ الْأَصْلِيَّةِ وَكَذَا نُسَخُ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ ضَاعَتْ مِنْ أَيْدِي عَسْكَرِ بُخْتُ نَصَّرَ، وَلَمَّا ظَهَرَتْ نَقُولُهَا الصَّحِيحَةُ بِوَاسِطَةِ عِزْرَا ضَاعَتْ تِلْكَ النُّقُولُ أَيْضًا فِي حَادِثَةِ أَنْتِيُوكَسَ، انْتَهَى كَلَامُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ اهـ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ إِظْهَارِ الْحَقِّ ذَكَرَ فِي بَحْثِ إِثْبَاتِ تَحْرِيفِ كُتُبِهِمْ (ص235 - 39) مَا فِي تَوَارِيخِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ (سِفْرِ الْمُلُوكِ وَسِفْرِ الْأَيَّامِ) مَنْ خَبَرِ ارْتِدَادِ أَكْثَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آخِرِ مُدَّةِ سُلَيْمَانَ، الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنِ ارْتَدَّ وَعَبَدَ الْأَوْثَانَ وَبَنَى لَهَا الْمَعَابِدَ بِزَعْمِهِمْ، وَوَلَدَيْهِ اللَّذَيْنِ اقْتَسَمَا مُلْكَهُ فَكَانَ مَمْلَكَتَيْنِ، مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ عَشْرَةِ أَسْبَاطٍ، وَمَمْلَكَةَ يَهُوذَا الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ السِّبْطَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَغَلَبَةُ الْوَثَنِيَّةِ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْأُولَى أَغْلَبَ. وَامْتَدَّ ذَلِكَ زُهَاءَ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ، لَمْ يَعُدْ لِلْمَمْلَكَتَيْنِ فِيهَا حَاجَةٌ إِلَى التَّوْرَاةِ، إِلَى أَنْ جَلَسَ (يُوشِيَا) بْنُ (آمُونَ) عَلَى سَرِيرِ السَّلْطَنَةِ فَتَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَرَادَ إِعَادَةَ دِينِ مُوسَى إِلَى الشَّعْبِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ نُسْخَةً مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ ; إِذِ ادَّعَى حَلْقِيَا الْكَاهِنُ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ وَجَدَ نُسْخَةً مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى فِي بَيْتِ الرَّبِّ (وَيَقُولُ صَاحِبُ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ رُبَّمَا كَانَتْ " سِفْرَ التَّثْنِيَةِ " وَحْدَهُ) وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْعَمَلَ جَرَى عَلَى تِلْكَ النُّسْخَةِ مُدَّةَ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ مُلْكِهِ، وَقَدِ ارْتَدَّ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُلُوكِ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَى أَوَّلِهِمْ مَلِكَ مِصْرَ، وَعَلَى ثَالِثِهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ، وَلَمْ تُذْكَرْ نُسْخَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا أَصَابَهَا. وَأَمَّا مَا كَتَبَهُ عِزْرَا فُقِدَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ اسْتِيلَاءِ انْطُويُوكَسْ مَلِكِ سُورِيَةَ عَلَى أُورْشَلِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ وَضَّحَهُ بِقَوْلِهِ فِي (ص238 ج 1) فَقَالَ: " لَمَّا كَتَبَ عِزْرَا عَلَيْهِ السَّلَامُ كُتُبَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى زَعْمِهِمْ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ أُخْرَى جَاءَ ذِكْرُهَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ لِلْمَكَابِيِّينَ هَكَذَا ". " لَمَّا فَتَحَ انْتِيُوكَسْ مَلِكُ مُلُوكِ الْإِفْرِنْجِ (كَذَا) أُورْشَلِيمَ، أَحْرَقَ جَمِيعَ نُسَخِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ بَعْدَمَا قَطَّعَهَا، وَأَمَرَ أَنَّ مَنْ يُوجَدْ عِنْدَهُ نُسْخَةٌ مِنْ نُسَخِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَوْ يُؤَدِّي رَسْمَ الشَّرِيعَةِ يُقْتَلْ، وَكَانَ تَحْقِيقُ هَذَا الْأَمْرِ

فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَكَانَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ وَجَدَ عِنْدَهُ نُسْخَةً مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَدَّى رَسْمًا مِنْ رُسُومِ الشَّرِيعَةِ، وَتُعْدَمُ تِلْكَ النُّسْخَةُ " انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ كَانَتْ سَنَةَ 161 ق. م، وَامْتَدَّتْ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ وَنِصْفٍ كَمَا فُصِّلَتْ فِي تَوَارِيخِهِمْ وَتَارِيخِ يُوسِيفُوسَ. (قَالَ) فَانْعَدَمَتْ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ جَمِيعُ النُّسَخِ الَّتِي كَتَبَهَا عِزْرَا كَمَا عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ 16 مِنَ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلَامِ جانْ مِلْنَرْ كَاتْلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي حَادِثَةِ اسْتِيلَاءِ الْإِمْبِرَاطُورِ تِيطَسَ الرُّومِيِّ عَلَى أُورْشَلِيمَ وَبِلَادِ الْيَهُودِ، أُتْلِفَتْ نُسَخٌ كَثِيرَةٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ كَمَا بَيَّنَهُ يُوسِيفُوسُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ. نَكْتَفِي بِهَذَا الْبَيَانِ هُنَا وَلَنَا فِيهِ غَرَضَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَدِينُونَ لِعُزَيْرٍ هَذَا فِي مُسْتَنَدِ دِينِهِمْ، وَأَصْلِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ. (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْمُسْتَنَدَ وَاهِي الْبَيَانِ مُتَدَاعِي الْأَرْكَانِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي سِفْرِهِ وَسِفْرِ نِحْمِيَا مِنْ كِتَابَتِهِ لِلشَّرِيعَةِ: أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ إِلَيْهِمُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي أُحْرِقَتْ فَقَطْ، بَلْ أَعَادَ جَمِيعَ الْأَسْفَارِ الْعِبْرِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أُتْلِفَتْ، وَأَعَادَ سَبْعِينَ سِفْرًا غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ [أَبُو كَرِيفٍ] ثُمَّ قَالَ كَاتِبُ التَّرْجَمَةِ فِيهَا: وَإِذَا كَانَتِ الْأُسْطُوْرَةُ الْخَاصَّةُ بِعِزْرَا هَذَا قَدْ كَتَبَهَا مَنْ كَتَبَهَا الْمُؤَرِّخِينَ بِأَقْلَامِهِمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَنِدُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى كِتَابٍ آخَرَ - فَكُتَّابُ هَذَا الْعَصْرِ يَرَوْنَ أَنَّ أُسْطُورَةَ عِزْرَا قَدِ اخْتَلَقَهَا أُولَئِكَ الرُّوَاةُ اخْتِلَاقًا [انْظُرْ ص14 ج 9 مِنَ الطَّبْعَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ سَنَةَ 1929] . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا وَمَا زَالُوا يُقَدِّسُونَ عُزَيْرًا هَذَا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَقَبَ ابْنِ اللهِ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى التَّكْرِيمِ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، أَمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْ فَيْلَسُوفِهِمْ (فَيْلُو) وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ فَلْسَفَةِ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ عَقِيدَةِ النَّصَارَى. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ يُرَادُ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَحْكِي عَنْهُمْ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا مُسْنَدَةً إِلَيْهِمْ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَهِيَ مِمَّا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ تَقْرِيرُ أَنَّ الْأُمَّةَ تُعَدُّ مُتَكَافِلَةً فِي شُئُوْنِهَا الْعَامَّةِ، وَأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْفِرَقِ أَوِ الْجَمَاعَاتِ أَوِ الزُّعَمَاءُ مِنْهَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي جُمْلَتِهَا، وَأَنَّ الْمُنْكَرَ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ إِذَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ وَيُزِيلُوهُ يُؤَاخَذُونَ بِهِ كُلُّهُمْ، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) أَنَّ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنَّ الْمَصَائِبَ

وَالرَّزَايَا الَّتِي تَحِلُّ بِالْأُمَمِ بِفُشُوِّ الْمَفَاسِدِ وَالرَّذَائِلِ فِيهَا لَا تَخْتَصُّ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ وَحْدَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوْبِئَةَ الَّتِي تَحْدُثُ بِكَثْرَةِ الْأَقْذَارِ فِي الشَّعْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ تَكُونُ عَامَّةً أَيْضًا. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْيَهُودِ فَهُمْ بَعْضُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، كَالَّذِينِ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ (5: 64) الْآيَةَ، وَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (3: 181) رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا (2: 245) ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى وَأَبُو أَنَسٍ وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا، وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ؟ وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ ابْنُ اللهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ عُزَيْرًا كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ عِنْدَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهَا مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمَلُوا، ثُمَّ أَضَاعُوهَا وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَى اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا التَّوْرَاةَ، وَعَمِلُوا بِالْأَهْوَاءِ رَفَعَ عَنْهُمُ التَّابُوتَ وَأَنْسَاهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ (وَذَكَرَ الرَّاوِي حِكَايَةً إِسْرَائِيلِيَّةً قَالَ فِي آخِرِهَا: إِنَّ عُزَيْرًا صَلَّى وَدَعَا اللهَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ ذَهَبَ مِنْ جَوْفِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ فَاسْتَجَابَ لَهُ فَصَارَ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ نَزَلَ التَّابُوتُ عَلَيْهِمْ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَلَّمَهُمْ عُزَيْرٌ فَوَجَدُوهُ مِثْلَهُ) . فَنَحْنُ نَأْخُذُ بِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً عَمَّنْ جَاءُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالُوا مَا قَالُوا، فَإِنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ فِي زَمَنِهِ فَأَخْبَرَ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ مِنْ سَبَبِ قَوْلِهِمْ فَمَا هُوَ إِلَّا رِوَايَةٌ عَنْ بَعْضِهِمْ كَذَبُوا فِيهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِمَّا سَمِعَهُ مَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ إِذْ رَوَى عَنْهُ كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا عُزَيْرٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُلْقِيَ التَّوْرَاةَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَلْبِهِ، فَأَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ رِوَايَاتٍ أُخْرَى إِسْرَائِيلِيَّةً خُرَافِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَحَرَّقَ التَّوْرَاةَ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَعُزَيْرٌ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ يَتَعَبَّدُ فِيهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا تَمَثَّلَتْ لَهُ فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ فَأَخْبَرَتْهُ بِأَنَّهُ سَيَنْبُعُ فِي مُصَلَّاهِ عَيْنُ مَاءٍ، وَتَنْبُتُ فِيهِ شَجَرَةٌ فَإِذَا شَرِبَ مِنَ الْعَيْنِ، وَأَكَلَ مِنَ الثَّمَرَةِ جَاءَهُ مَلَكَانِ - (إِلَى أَنْ قَالَ) فَجَاءَ الْمَلَكَانِ وَمَعَهُمَا

قَارُورَةٌ فِيهَا نُورٌ فَأَوْجَرَاهُ مَا فِيهَا فَأَلْهَمَهُ اللهُ التَّوْرَاةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْخُرَافَةَ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَطْوَلَ مِمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا ذَكَرْنَا هَذَا إِلَّا لِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ شَرِّ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَغُشُّ النَّاسَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا لَيْسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَاجَتْ عَلَى أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَلَا سِيَّمَا سِفْرُ الْأَيَّامِ الثَّانِي، وَسِفْرَيْ عُزَيْرٍ وَنِحْمِيَا، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا مَنْ كُتُبِهِمْ، وَلَا عَلَى تَارِيخِ يُوسِيفُوسَ الْيَهُودِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّوَارِيخِ، دَعْ كُتُبَ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ وَمُؤَرِّخِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَعْضَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللهِ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ كَانَ (فَيْلُو) الْفَيْلَسُوفُ الْيَهُودِيُّ الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمُعَاصِرُ لِلْمَسِيحِ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ ابْنًا هُوَ كَلِمَتُهُ الَّتِي خَلَقَ بِهَا الْأَشْيَاءَ - فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى عَصْرِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ قَدْ قَالُوا إِنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ هَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَقُولُهُ الْقُدَمَاءُ مِنْهُمْ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ مَعْنًى مَجَازِيًّا كَالْمَحْبُوبِ وَالْمُكَرَّمِ، ثُمَّ سَرَتْ إِلَيْهِمْ فَلْسَفَةُ الْهُنُودِ فِي (كِرَشْنَا) وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ، ثُمَّ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ فِرَقُهُمُ الْمَعْرُوفَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَعَلَى أَنَّ (ابْنَ اللهِ) بِمَعْنَى (اللهِ) وَبِمَعْنَى (رُوحِ الْقُدُسِ) ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، هَذَا تَعْلِيمُ الْكَنَائِسِ الَّذِي قَرَّبَتْهُ الْمَجَامِعُ الرَّسْمِيَّةُ، بِتَأْثِيرِ الْفَلْسَفَةِ الرُّومِيَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ الْمَسِيحِ وَتَلَامِيذِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ، وَيُخَالِفُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَعْظَمُهُمْ شَأْنًا الْمُوَحِّدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ. وَالْكَنَائِسُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ وَالْأَرْثُوذُكْسِيَّةُ وَالْبُرُوتِسْتَانْتِيَّةُ لَا تَعْتَدُّ بِنَصْرَانِيَّتِهِمْ وَلَا بِدِينِهِمْ، وَهَاكَ خُلَاصَةً تَارِيخِيَّةً فِي أَطْوَارِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَهِيَ مَا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ، قَالَ: ثَالُوثٌ Trinite - y كَلِمَةٌ تُطْلَقُ عِنْدَ النَّصَارَى عَلَى وُجُودِ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مَعًا فِي اللَّاهُوتِ تُعْرَفُ (بِالْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ) وَهَذَا التَّعْلِيمُ هُوَ مِنْ تَعَالِيمِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ وَعُمُومِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ إِلَّا مَا نَدَرَ، وَالَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا التَّعْلِيمِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَقَدْ أَضَافَ اللَّاهُوتِيُّونَ إِلَيْهِ شُرُوحًا وَإِيضَاحَاتٍ اتَّخَذُوهَا مِنْ تَعَالِيمِ الْمَجَامِعِ الْقَدِيمَةِ وَكِتَابَاتِ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ الْعِظَامِ، وَهِيَ تَبْحَثُ عَنْ طَرِيقَةِ وِلَادَةِ الْأُقْنُومِ الثَّانِي، وَانْبِثَاقِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَمَا بَيْنَ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ مِنَ النِّسْبَةِ وَصِفَاتِهِمُ الْمُمَيِّزَةِ وَأَلْقَابِهِمْ، وَمَعَ أَنَّ لَفْظَةَ ثَالُوثٍ لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى بِآيَةٍ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ تُصَرِّحُ بِتَعْلِيمِ الثَّالُوثِ، قَدِ اقْتَبَسَ الْمُؤَلِّفُونَ الْمَسِيحِيُّونَ الْقُدَمَاءُ آيَاتٍ كَثِيرَةً تُشِيرُ إِلَى وُجُودِ صُورَةٍ جَمْعِيَّةٍ فِي اللَّاهُوتِ، وَلَكِنْ إِذْ كَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ قَابِلَةً لِتَفَاسِيرَ مُخْتَلِفَةٍ، كَانَتْ لَا يُؤْتَى بِهَا كَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ عَلَى تَعْلِيمِ الثَّالُوثِ، بَلْ كَرُمُوزٍ إِلَى الْوَحْيِ الْوَاضِحِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ

اقْتُبِسَ مِنْهُ مَجْمُوعَانِ كَبِيرَانِ مِنَ الْآيَاتِ كَحُجَجٍ لِإِثْبَاتِ هَذَا التَّعْلِيمِ (أَحَدُهُمَا) الْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْآبُ وَالِابْنُ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ مَعًا. (وَالْآخَرُ) الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَالَّتِي تَحْتَوِي عَلَى نَوْعِ أَخَصِّ صِفَاتِهِمْ وَنِسْبَةِ أَحَدِهِمْ إِلَى الْآخَرِ. وَالْجِدَالُ عَنِ الْأَقَانِيمِ فِي اللَّاهُوتِ ابْتَدَأَ فِي الْعَصْرِ الرَّسُولِيِّ، وَقَدْ نَشَأَ عَلَى الْأَكْثَرِ عَنْ تَعَالِيمِ الْفَلَاسِفَةِ الْهِيلَانِيِّينَ وَالْغَنُوسْطِيِّينَ، فَإِنَّ ثِيُوفِيلُوسَ أُسْقُفَّ أَنْطَاكِيَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ ثرياسَ بِالْيُونَانِيَّةِ، ثُمَّ كَانَ ترتليانوسُ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ ترينيتاسَ الْمُرَادِفَةَ لَهَا وَمَعْنَاهَا الثَّالُوثُ، وَفِي الْأَيَّامِ السَّابِقَةِ لِلْمَجْمَعِ النِّيقَاوِيِّ حَصَلَ جِدَالٌ مُسْتَمِرٌّ فِي هَذَا التَّعْلِيمِ، وَعَلَى الْخُصُوصِ فِي الشَّرْقِ، وَحَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآرَاءِ بِأَنَّهَا أَرَاتِيكِيَّةٌ وَمِنْ جُمْلَتِهَا آرَاءُ الْأَبْيُونِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ إِنْسَانٌ مَحْضٌ، وَالسَّابِلِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْآبَ وَالِابْنَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ إِنَّمَا هِيَ صُورَةٌ مُخْتَلِفَةٌ أَعْلَنَ بِهَا اللهُ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ، وَالْآرْيُوسِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِابْنَ لَيْسَ أَزَلِيًّا كَالْآبِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْهُ قَبْلَ الْعَالَمِ؛ وَلِذَلِكَ هُوَ دُونَ الْأَبِ وَخَاضِعٌ لَهُ، وَالْمَكْدُونِيِّينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ أُقْنُومًا. وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْكَنِيسَةِ فَقَدْ قَرَّرَهُ الْمَجْمَعُ النِّيقَاوِيُّ سَنَةَ 325 لِلْمِيلَادِ، وَمَجْمَعُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ 381 وَقَدْ حَكَمَا بِأَنَّ الِابْنَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ مُسَاوِيَانِ لِلْآبِ فِي وَحْدَةِ اللَّاهُوْتِ، وَأَنَّ الِابْنَ قَدْ وُلِدَ مُنْذُ الْأَزَلِ مِنَ الْآبِ، وَأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ مُنْبَثِقٌ مِنَ الْآبِ، وَمَجْمَعُ طُلَيْطِلَةَ الْمُنْعَقِدُ سَنَةَ 589 حَكَمَ بِأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ مُنْبَثِقٌ مِنَ الِابْنِ أَيْضًا. وَقَدْ قَبِلَتِ الْكَنِيسَةُ اللَّاتِينِيَّةُ بِأَسْرِهَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَتَمَسَّكَتْ بِهَا، وَأَمَّا الْكَنِيسَةُ الْيُونَانِيَّةُ فَمَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَاكِتَةً لَا تُقَاوِمُ قَدْ أَقَامَتِ الْحُجَّةَ فِيمَا بَعْدُ عَلَى تَغْيِيرِ الْقَانُونِ حَاسِبَةً ذَلِكَ بِدْعَةً. وَعِبَادَةً (وَمِنَ الِابْنِ أَيْضًا) لَا تَزَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَانِعِ الْكُبْرَى لِلِاتِّحَادِ بَيْنَ الْكَنِيسَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْكَاثُولِيكِيَّةِ، وَكُتُبُ اللُّوثِيرِيِّينَ وَالْكَنَائِسُ الْمُصْلِحَةُ أَبْقَتْ تَعْلِيمَ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ لِلثَّالُوثِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ دُونِ تَغْيِيرٍ، وَلَكِنْ قَدْ ضَادَّ ذَلِكَ مُنْذُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ عَشَرَ جُمْهُورٌ كَبِيرٌ مِنَ اللَّاهُوتِيِّينَ وَعِدَّةُ طَوَائِفَ جَدِيدَةٍ كَالسُّوسِينْيَانِيِّينَ وَالْجِرْمَانِيِّينَ وَالْمُوَحِّدِينَ وَالْعُمُومِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ حَاسِبِينَ ذَلِكَ مُضَادًّا، لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ أَطْلَقَ سُوِيدُ نَبْرَغُ الثَّالُوثَ عَلَى أُقْنُومِ الْمَسِيحِ مُعْلِمًا بِثَالُوثٍ، وَلَكِنْ لَا ثَالُوثَ الْأَقَانِيمِ بَلْ ثَالُوثُ الْأُقْنُومِ، وَكَانَ يَفْهَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا هُوَ إِلَهِيٌّ فِي طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ هُوَ الْآبُ، وَأَنَّ الْإِلَهِيَّ الَّذِي اتَّحَدَ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ هُوَ الِابْنُ، وَأَنَّ الْإِلَهِيَّ الَّذِي انْبَثَقَ مِنْهُ هُوَ الرُّوحُ الْقُدُسُ، وَانْتِشَارُ مَذْهَبِ الْعَقْلِيِّينَ فِي الْكَنَائِسِ اللُّوثِيرِيَّةِ

وَالْمُصْلِحَةِ أَضْعَفَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ اعْتِقَادَ الثَّالُوثِ بَيْنَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ اللَّاهُوتِيِّينَ الْجِرْمَانِيِّينَ. وَقَدْ ذَهَبَ (كَنْتْ) إِلَى أَنَّ الْآبَ وَالِابْنَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى ثَلَاثِ صِفَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ فِي اللَّاهُوْتِ وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ وَالْمَحَبَّةُ، أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ فَوَاعِلَ عُلْيَا: وَهِيَ الْخَلْقُ وَالْحِفْظُ وَالضَّبْطُ، وَقَدْ حَاوَلَ كُلٌّ مِنْ هِيجِنْ وَشِلِنْغِ أَنْ يَجْعَلَا لِتَعْلِيمِ الثَّالُوثِ أَسَاسًا تَخَيُّلِيًّا، وَقَدِ اقْتَدَى بِهِمَا اللَّاهُوتِيُّونَ الْجِرْمَانِيُّونَ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَحَاوَلُوا الْمُحَامَاةَ عَنْ تَعْلِيمِ الثَّالُوثِ بِطُرُقٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أُسُسٍ تَخَيُّلِيَّةٍ وَلَاهُوتِيَّةٍ، وَبَعْضُ اللَّاهُوْتِيِّينَ الَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْوَحْيِ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِتَعْلِيمِ اسْتِقَامَةِ الرَّأْيِ الْكَنَائِسِيَّةِ بِالتَّدْقِيقِ كَمَا هِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي مَجْمَعَيْ نِيقِيَّةَ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ الْمَسْكُونَيْنِ، وَقَدْ قَامَ مُحَامُونَ كَثِيرُونَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِعَضْدِ آرَاءِ السَّابِلِيِّينَ عَلَى الْخُصُوصِ اهـ. وَأَقُولُ: قَدْ حَدَثَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَذَاهِبُ جَدِيدَةٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ قَرُبَ بِبَعْضِهَا كَثِيرُونَ مِنْ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لَهَا، سَيُفْضِي هَذَا إِلَى رُجُوعِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِلَيْهِ بَعْدَ تَنْظِيمِ الدِّعَايَةِ الصَّحِيحَةِ لَهُ وَتَعْمِيمِهَا، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ هَذِهِ الْأَطْوَارَ فِي الْمَنَارِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَنَعُودُ الْآنَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ; لِأَنَّ هَذَا آخَرَ مَوْضِعٍ لَهُ فِي التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: كُنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (5: 18) أَنَّ لَقَبَ " ابْنِ اللهِ " أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى آدَمَ، كَمَا تَرَاهُ فِي نَسَبِ الْمَسِيحِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا وَهُوَ: " ابْنُ شَيْثِ بْنِ آدَمَ بْنِ اللهِ " وَعَلَى يَعْقُوبَ كَمَا فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ (4: 22) هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِيَ الْبِكْرُ وَعَلَى أَفْرَايِمَ كَمَا فِي سِفْرِ أَرْمَيَا: (31: 9) لِأَنِّي صِرْتُ أَبًا وَأَفْرَايِمَ هُوَ بِكْرِي وَعَلَى دَاوُدَ: مِنْ (89: 26) هُوَ يَدْعُونِي أَبِي أَنْتَ إِلَهِيَ وَصَخْرَةُ خَلَاصِي 270 أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا أَعْلَى مِنْ كُلِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ أَيْضًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَسَمَّى اللهَ أَبًا لَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ، وَيُقَابِلُهُ إِطْلَاقُ الْمَسِيحِ لَقَبَ " أَوْلَادِ إِبْلِيسَ " عَلَى غَيْرِ الصَّالِحِينَ، وَتَسْمِيَةُ إِبْلِيسَ أَبَاهُمْ كَمَا تَرَى فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: (8: 41) أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ، قَالُوا: إِنَّنَا لَمْ نُوْلَدْ مِنْ زِنًا لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ 42 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي - إِلَى أَنْ قَالَ - أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا، وَهُنَالِكَ شَوَاهِدُ أُخْرَى مِنِ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ ابْنِ اللهِ فِي الْأَفْرَادِ كَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَتَسْمِيَتِهِمْ مَوْلُودِينَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَتَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ أَبًا لَهُمْ. وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَجَازِيٌّ قَطْعًا لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَوَانِينِ الْعَقْلِ وَاللُّغَاتِ بِجَعْلِ إِطْلَاقِ لَفْظِ " ابْنِ اللهِ " عَلَى الْمَسِيحِ وَحْدَهُ حَقِيقِيًّا وَعَلَى غَيْرِهِ مَجَازِيًّا، وَوَعَدْنَا بِتَوْضِيحِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:

وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ عَلَى أَنَّنَا كُنَّا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَوَضَّحْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (4: 171) الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ (الْمَنَارَ) وَلَعَلَّنَا مَا وَعَدْنَا بِإِيضَاحِهِ إِلَّا وَنَحْنُ ذَاهِلُونَ عَنْ هَذَا وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُحَالِ لَا تَزِيدُهُ إِلَّا غُمُوضًا وَإِشْكَالًا، فَالنَّصَارَى قَدْ تَحَكَّمُوا فِي تَفْسِيرِ (ابْنِ اللهِ) وَتَفْسِيرِ (الْكَلِمَةِ) وَتَفْسِيرِ (رُوحِ الْقُدُسِ) وَتَفْسِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) بِمَا يُنَافِي الْعَقْلَ وَنُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، فَجَعَلُوهَا مُتَعَارِضَةً مُتَنَاقِضَةً. كُلُّ ذَلِكَ لِإِدْخَالِ عَقِيدَةِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ عَلَى دِينِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ. وَلَكِنَّنَا نَأْتِي بِخُلَاصَةٍ أُخْرَى فِي الْمَوْضُوعِ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَوْضَحَ وَأَظْهَرَ مِمَّا سَبَقَ، وَأَدُلَّ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، مِمَّا كَانَ مَجْهُولًا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا وَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَاتٍ مِنْهُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسِيحِ نَفْسِهِ وَفِي مَعْنَى اسْمِ اللهِ وَكَلِمَتِهِ، وَرُوحِهِ أَوْ رُوحِ الْقُدُسِ فَنَقُولُ: قَالَ جُورْجْ بُوسْتْ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: (اللهُ) اسْمُ خَالِقِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْحَاكِمِ الْأَعْظَمِ عَلَى جَمِيعِ الْعَوَالِمِ، وَالْمُعْطِي كُلَّ الْمَوَاهِبِ الْحَسَنَةِ، وَاللهُ " رُوحٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، أَزَلِيٌّ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ فِي وُجُودِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَدَاسَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَجَوْدَتِهِ وَحَقِّهِ " وَهُوَ يَظْهَرُ لَنَا بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَعْمَالِهِ وَتَدْبِيرِ عِنَايَتِهِ (رو 1: 20) وَلَا سِيَّمَا فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ حَيْثُ يَتَجَلَّى غَايَةَ التَّجَلِّي فِي شَخْصِيَّتِهِ وَأَعْمَالِ ابْنِهِ الْوَحِيدِ الْمُخْلِصِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (ثُمَّ قَالَ) : (طَبِيعَةُ اللهِ) عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ (مت 28: 19 و2 كو 13: 14) اللهُ الْآبُ، وَاللهُ الِابْنُ، وَاللهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، فَإِلَى الْآبِ يَنْتَمِي الْخَلْقُ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ (مز 33: 6 وكو 1: 16 وعب 201) وَإِلَى الِابْنِ الْفِدَى، وَإِلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ التَّطْهِيرُ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَانِيمَ تَتَقَاسَمُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى السَّوَاءِ. أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّثْلِيثِ فَغَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا هِيَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي تك ص1 حَيْثُ ذَكَرَ " اللهَ " " وَرُوحَ اللهِ " (قَابِلْ مز 33: 6 وَيو 1: 1 و3) وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُشَخِّصَةُ أَمْ ص8 تُقَابِلُ الْكَلِمَةِ " (فِي يو ص 1)

وَرُبَّمَا تُشِيرُ إِلَى الْأُقْنُومِ الثَّانِي، وَتُطْلَقُ نُعُوتُ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ أُقْنُومٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حِدَتِهِ. (ثُمَّ قَالَ) : (وَحِدَةُ اللهِ) ظَاهِرَةٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَالتَّثْلِيثُ بَيِّنٌ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ خَفِيٌّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَالدَّاعِي الْأَعْظَمُ لِهَذَا الْأَمْرِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ لِخَطَأِ الشِّرْكِ بِاللهِ وَمَنْعِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ كَثِيرَةَ الشُّيُوعِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْأُولَى قَدِيمًا فَفِي تث 6: 4 يُدْعَى اللهُ " رَبًّا وَاحِدًا " وَكَانَ يُدْعَى الْإِلَهُ الْحَيُّ " تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ الْكَاذِبَةِ، وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ بَيِّنٌ جِدًّا فِي دِيَانَةِ الْيَهُودِ (ثُمَّ قَالَ) : (ابْنُ اللهِ) - د 31: 25 ابْنُ الْآلِهَةِ - لَقَبٌ مِنْ أَلْقَابِ الْفَادِي وَلَا يُطْلَقُ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ سِوَاهُ إِلَّا حَيْثُ يُسْتَفَادُ مِنَ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُلَقَّبِ غَيْرُ ابْنِ اللهِ الْحَقِيقِيِّ، وَقَدْ تَسَمَّتِ الْمَلَائِكَةُ بَنِي اللهِ (أي 38: 7) وَأُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى آدَمَ (لو 3: 38) إِذْ أَنَّهُ هُوَ الشَّخْصُ الْأَوَّلُ الْمَخْلُوقُ مِنَ الْبَارِي رَأْسًا. وَقَدْ تَسَمَّى الْمُؤْمِنُونَ أَبْنَاءَ اللهِ (رو 8: 14 و2 كو 6: 18) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَعْضَاءٌ فِي عَائِلَةِ اللهِ الرُّوحِيَّةِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَذَا اللَّقَبِ الْمَسِيحُ فَيُذْكَرُ مَعَ التَّفْخِيمِ وَالْعَظْمَةِ حَتَّى إِنَّ الْقَارِئَ يَعْرِفُ الْقَصْدَ بِكُلِّ سُهُولَةٍ. وَهَذَا اللَّقَبُ يَدُلُّ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ " ابْنُ الْإِنْسَانِ " يَدُلُّ عَلَى طَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْمَسِيحُ هُوَ ابْنُ اللهِ الْأَزَلِيُّ وَالِابْنُ الْوَحِيدُ (قَابِلْ يو 1: 18 و5: 19 - 26 و9: 35: 38 ومت 11: 27 و16: 16 و21: 37 وَآيَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ فِي الرَّسَائِلِ) وَمَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَدْعُوَ اللهَ " أَبَانَا " فَهُوَ لَا يَدْعُوهُ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يَدْعُوْهُ " أَبِي " وَذَلِكَ إِيمَاءٌ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأُلْفَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْعِلَاقَةِ الشَّدِيدَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَهُمَا مِمَّا تَفُوقُ عَلَاقَتُهُ كُلَّ عِلَاقَةٍ بَشَرِيَّةٍ. وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّنَا نَحْنُ أَوْلَادُهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْبُنُوَّةِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ رَبِّنَا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْبُنُوَّةِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهَا بِوَاسِطَةِ التَّبَنِّي وَالتَّجْدِيدِ اهـ. بِحُرُوفِهِ. أَقُولُ: إِنَّ مَا لَخَّصَهُ صَاحِبُ هَذَا الْقَامُوسِ مِنْ عَقِيدَةِ النَّصَارَى، هُوَ أَوْضَحُ مَا تُعْرَفُ بِهِ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ بِالِاخْتِصَارِ الْمُتَوَخَّى فِي هَذَا الْقَامُوسِ، عَلَى غُمُوضِهِ وَضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِمْ قَلَّمَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ لِمَا فِي عِبَارَاتِهَا مِنَ التَّعْقِيدِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي مَوْضُوعٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فِي نَفْسِهِ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ مُؤَاخَذَاتٌ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ أَهَمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَوْضُوعِنَا هُنَا مِنْهَا، وَلِذَلِكَ نَغُضُّ الطَّرْفَ عَمَّا قَالَهُ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ ; لِأَنَّنَا نَقَلْنَاهُ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ فَنَقُولُ: (1) مَا ذَكَرَهُ فِيمَا سَمَّاهُ " طَبِيعَةَ اللهِ " لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الِاسْمِ الْكَرِيمِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَلَا مِمَّا جَاءَ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ

هَذِهِ الطَّبِيعَةُ الْمُدَّعَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَنْبِيَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَهِيَ أَصْلُ الدِّينِ فِيهَا، وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ مُبْتَدَعَةٌ بَعْدَهُمْ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْهَا. (2) إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ نَصِّ الْإِنْجِيلِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ رِوَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (28: 19) " وَعَمَّدُوهُمْ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ " فَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ (اللهِ) الْخَالِقِ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا تَتَقَاسَمُ الْأَعْمَالَ الْإِلَهِيَّةَ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا ادَّعَاهُ فِيمَا سَمَّاهُ طَبِيعَةَ اللهِ. وَكَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ رِسَالَةِ بُولُسَ الثَّانِيَةِ إِلَى كُورَنْثُوسَ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا (13: 14) نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ وَمَحَبَّةُ اللهِ وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِهِمْ) عَلَى أَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ بُولُسَ هُوَ وَاضِعُ أَسَاسِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَجَاءَ فِيهَا بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا عَنْ تَلَامِيذِهِ الْحَوَارِيِّينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ. (3) إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ مِنِ اسْتِعْمَالِ ابْنِ اللهِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ يُنَافِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَتَّفِقُ مَعَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِنَا عِنْدَ ذِكْرِهَا فِي الْآيَاتِ مِنْ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَهَمِّهَا آنِفًا. (4) إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ الْمَزْمُورِ (33: 6) لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى هَذِهِ الطَّبِيعَةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي هَذَا التَّثْلِيثِ وَهَذَا نَصُّهَا (بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسْمَةٍ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا) وَهُوَ يَزْعُمُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ (بِكَلِمَةِ " الرَّبِّ " الْمَسِيحُ، تَفْسِيرًا لَهَا بِرَأْيِ يُوحَنَّا فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْكَلِمَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى اخْتَرَعَهُ الَّذِي كَتَبَ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ أَحَدُ تَلَامِيذِ بُولُسَ. وَكَانَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتُ كَتَبَ هَذَا الشَّاهِدَ هُنَا قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ " الْكَلِمَةِ " فِي قَامُوسِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَتَبَهُ نَسِيَ مَا كَانَ كَتَبَهُ هُنَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ: يُقْصَدُ بِالْكَلِمَةِ السَّيِّدُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مُؤَلِّفَاتِ يُوحَنَّا اهـ. فَكَيْفَ فَسَّرَ بِهَا عِبَارَةَ الْمَزْمُورِ إِذًا؟ وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنْ رِسَالَتَيْ بُولُسَ إِلَى كُولُوسِي، وَإِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهَا لَكَانَ أَحَدَ دَلَائِلِنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ قَدْ وَضَعَ بُولُسُ أَسَاسَهَا، إِذْ لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ التَّوْرَاةِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا الْمَسِيحُ. (5) قَوْلُهُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ التَّثْلِيثِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، صَوَابُهُ: غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالظَّاهِرِ وَلَا بِالْفَحْوَى وَالْإِشَارَةِ الْوَاضِحَةِ. وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عِنْدَ

النَّصَارَى هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ أَوْ رُكْنُهُ الْأَعْظَمُ، فَلَوْ كَانَتْ عَقِيدَةً إِلَهِيَّةً مُوحًى بِهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَصَرَّحُوا كُلُّهُمْ بِهَا تَصْرِيحًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَمَا صَرَّحُوا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي اعْتَرَفَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ (وَبَيِّنٌ جِدًّا) فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَهَاتَانِ الْعَقِيدَتَانِ عَلَى أَتَمِّ التَّنَاقُضِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ سِفْرِ التَّكْوِينِ بِذِكْرِ اللهِ وَلَفْظِ (رُوحِ اللهِ) غَيْرُ مُسَلَّمٍ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَا غَيْرِهِمْ قَبْلَ ابْتِدَاعِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَلْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسُ الْعَقِيدَةِ فِي كِتَابِ اللهِ مُبْهَمًا لَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُونَ مِنْهُ، كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنِ اسْتِشْهَادِهِ بِالْمِزْمَارِ (33: 6) وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ مَوْجُودَانِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي يُصَرِّحُ بِكُفْرِ الْقَائِلِينَ بِالتَّثْلِيثِ. (6) مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ (وِحْدَةِ اللهِ) مِنْ سَبَبِ التَّصْرِيحِ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى بِأَقْوَى النُّصُوصِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ سَدُّ ذَرِيعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ كَثِيرَةَ الشُّيُوعِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْأُولَى هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْوَثَنِيَّةَ الَّتِي أَرَادَ اللهُ تَعَالَى سَدَّ ذَرَائِعِهَا بِنُصُوصِ التَّوْحِيدِ الْقَطْعِيَّةِ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَانَ مِنْ أَرْكَانِهَا عَقِيدَةُ التَّثْلِيثِ الْهِنْدِيَّةُ الْمِصْرِيَّةُ الْيُونَانِيَّةُ، فَمَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى مِنَ الْوَثَنِيَّةِ هُوَ الَّذِي أُرِيدَ وِقَايَةُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ بِتِلْكَ النُّصُوصِ الْإِلَهِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا الْوَصِيَّةُ الْأُولَى مِنْ وَصَايَا التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ فِي رَسَائِلِ بُولُسَ وَأَنَاجِيلِ تَلَامِيذِهِ، وَعَدَمِ تَأْوِيلِهِمْ لَهَا بِهَا يُوَافِقُ تَوْحِيدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصَ التَّنْزِيهِ فِيهَا وَفِي الْإِنْجِيلِ أَيْضًا. (7) إِنَّ اسْتِشْهَادَهُ عَلَى " كَلِمَةِ ابْنِ اللهِ " بِمَا جَاءَ فِي الْفَصْلِ 3 مِنْ سِفْرِ دَانْيَالَ غَرِيبٌ جِدًّا جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُ فِي قَامُوسِهِ أَنْ يَذْكُرَ بِجَانِبِ كُلِّ كَلِمَةٍ تَفْسِيرًا لَهَا وَشَاهِدًا عَلَيْهَا مِنْ كَلَامِ اللهِ أَوْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعِبَارَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا هِيَ كَلِمَةُ الْمَلِكِ بَابِلَ نِبُوخَذْ نَصْرِ الْوَثَنِيِّ قَالَهَا فِي أَحَدِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أَلْقَاهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ وَلَمْ يَحْتَرِقُوا، وَهِيَ " وَمَنْظَرُ الرَّابِعِ شَبِيهٌ بِابْنِ الْآلِهَةِ " فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ بِمَ يُؤَيِّدُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى تَسْمِيَتَهُمُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ؟ ! وَبِمَ يُثْبِتُونَ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا حَقِيقِيًّا؟ إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِثْبَاتَ هَذَا أَوْ يُؤَيِّدُونَهُ بِكَلَامِ الْوَثَنِيِّينَ فِي عَقَائِدِهِمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ وَثَنِيُّونَ. (8) إِنَّهُ حَاوَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ الْمَسِيحُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ خِطَابِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ " أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ " إِلَخْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ " أَبِي وَأَبِيكُمْ " وَبَيْنَ رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ قَوْلِهِ " أَبِي " فَهُوَ يَزْعُمُ تَقْلِيدًا لِرُؤَسَاءِ مَلَّتِهِ أَنَّ إِضَافَةَ الْأَبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِضَافَتَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمِيعِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِ " أَبَانَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أُبُوَّتَهُ تَعَالَى لَهُ حَقِيقِيَّةٌ وَأُبُوَّتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَنِّي. وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنَ التَّحَكُّمِ وَالِابْتِدَاعِ الْمُخَالِفِ لِلُّغَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلنَّقْلِ الْمَأْثُورِ

عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأُبُوَّةُ اللهِ الْحَقِيقِيَّةُ لِبَعْضِ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ لَا تُعْقَلُ، وَأُبُوَّةُ التَّبَنِّي تَزْوِيرٌ يَجِلُّ اللهُ عَنْهُ كَمَا يَتَنَزَّهُ عَنْ مُجَانَسَةِ الْخَلْقِ بِالْأُبُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأُبُوَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِنْ صَحَّ النَّقْلُ أَنَّهَا مَجَازٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالتَّكْرِيمِ، وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَظَّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْ حَظِّ يَعْقُوبَ وَأَفْرَايِمَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبُ فِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَمِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَالطَّعْنِ فِي تَنْزِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ مُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ ابْنًا حَقِيقِيًّا، وَأَبْنَاءَ بِالتَّبَنِّي، أَيْ أَدْعِيَاءَ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي أَبْنَاءِ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَبْطَلَهُ بِالْإِسْلَامِ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ (33: 4 و5) . وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِيمَا نَقَلُوهُ فَسَبَبُهُ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ كَالْخَوَاصِّ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمُفْرَدَ لِلْمُفْرَدِ، وَلَوْ نَقَلُوهُ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: " أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ " لَكَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ. عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الرَّبِّ فِي دَاوُدَ (مز 89: 26 هُوَ يَدْعُونِي أَنْتَ أَبِي) فَإِذَا كَانَتْ إِضَافَةُ لَفْظِ أَبٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ الْمُتَكَلِّمِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ابْنًا حَقِيقِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ كَانَ هَذَا الْفَخْرُ لِدَاوُدَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ لِإِضَافَةِ ابْنٍ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ الْمُفْرَدِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا يُسَاوِي بَلْ يَفُوقُ إِضَافَةَ لَفْظِ الْأَبِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَبْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِ الرَّبِّ (4: 22 ابْنِي بِكْرِي إِسْرَائِيلُ) وَمِثْلَهُ قَوْلُهُ فِي سِفْرِ أَرْمَيَا (31: 9 إِنِّي صِرْتُ أَبًا لِإِسْرَائِيلَ وَإِفْرَايِمَ هُوَ بِكْرِي) وَوَصْفُ الْأَبِ الِابْنَ بِكَوْنِهِ بِكْرًا لَهُ يَقْرُبُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ مَا لَا يَقْرُبُ مِثْلَهُ بِإِضَافَةِ الِابْنِ اسْمَ أَبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُتَبَنَّى يُخَاطِبُ مُتَبَنِّيَهُ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " أَبِي " كَالِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِفُ مَنْ تَبَنَّاهُ وَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ابْنِيَ الْبِكْرِ. (9) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْضَاءٌ فِي عَائِلَةِ اللهِ الرُّوحِيَّةِ - مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ لَفْظِ " ابْنِ اللهِ وَأَبْنَاءِ اللهِ " إِلَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْقَلُ مِنْ نُصُوصِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَسِيحِ بِكَثْرَةٍ أَوْ نَوْعِ امْتِيَازٍ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْعَائِلَةِ الرُّوحِيَّةِ الْمُدَّعَاةِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُنْكِرُونَ هَذَا الِامْتِيَازَ فَإِنَّهُمْ يُفَضِّلُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَجْدَادِهِ إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَقَبُ (ابْنِ اللهِ) فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بَلْ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عَدَا إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

(10) إِنَّنَا عَلَى بَحْثِنَا هَذَا فِي كَلَامِهِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ نُنْكِرُ لَفْظَ " عَائِلَةِ اللهِ " وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يُخِلُّ بِتَنْزِيهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْمُجَانَسَةِ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لَهُ جِنْسٌ مَادِّيٌّ وَلَا رُوحِيٌّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (42: 11) وَسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (37: 180) وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (112: 1 - 4) . وَأَمَّا مَعْنَى " رُوحِ الْقُدُسِ " وَبُطْلَانُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ اللهَ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (2: 87) وَآيَةِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (4: 171) الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. (11) إِنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَدَاوَتِهِ لِلتَّوْحِيدِ، وَلِتَنْزِيهِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْجِنْسِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، لَمْ يَذْكُرْ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَرَدَ فِي الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، مِنْ تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ النِّدِّ وَالنَّظِيرِ وَالشَّبِيهِ، الَّذِي يَجِبُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ تُئَوَّلَ لِأَجْلِهِ أَوْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ وَتُقَيَّدَ بِهِ جَمِيعُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَمَا جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَقَوْلَهُ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أَصْلَ عَقِيدَةِ التَّنْزِيهِ وَقَيَّدُوا بِهَا مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْمُوْهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ (4: 12) فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ جَوْفِ النَّارِ فَسَمِعْتُمْ صَوْتَ كَلَامِهِ، وَلَمْ تَرَوُا الشَّبَهَ أَلْبَتَّةَ (15) فَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ بِحِرْصٍ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا شَبَهًا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ جَوْفِ النَّارِ) وَالْعُقَلَاءُ مِنَ الْيَهُودِ يَرُدُّونَ جَمِيعَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّشْبِيهُ وَالْأَعْضَاءُ لِلرَّبِّ تَعَالَى إِلَى هَذَا النَّصِّ النَّافِي لِلتَّشْبِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا الَّذِي تَفَرَّدَ بِأَقْوَى الشُّبُهَاتِ عَلَى التَّثْلِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ قَالَ (1: 18 اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ الَّذِي خَبَّرَ وَمِثْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا (4: 12 اللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ) قَطُّ بَلْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ أُسْتَاذُهُ بُولُسُ فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى إِلَى نِيمُوتَادُسَ، فَإِنَّهُ وَصَّاهُ بِحِفْظِ الْوَصِيَّةِ إِلَى ظُهُورِ الْمَسِيحِ، وَقَالَ عَنْ هَذَا الظُّهُورِ: (15 الَّذِي سَيُبَيِّنُهُ فِي أَوْقَاتِهِ الْمُبَارَكُ الْوَحِيدُ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الْأَرْبَابِ 16 الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ سَاكِنًا فِي نُورٍ لَا يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرْ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الْأَبَدِيَّةُ) . فَتَبَيَّنَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ عَقِيدَةُ التَّثْلِيثِ، وَأُلُوهِيَّةُ الْمَسِيحِ الْمُخَالِفَةُ لِحُكْمِ الْعَقْلِ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ شُبُهَاتِهَا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ ضَعِيفَةٌ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرَةً فِيهَا. عَلَى أَنَّ كُتُبَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَا يُوثَقُ بِهَا، فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ أَضَاعُوا أَكْثَرَ مَا كُتِبَ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ فِي عَصْرِهِ ثُمَّ رَفَضَتْ

مَجَامِعُهُمُ الْمَسْكُونِيَّةُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ دُخُولِ التَّعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ مِنْ قِبَلِ الرُّومَانِيِّينَ أَكْثَرَ مَا وُجِدَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي كَانَتْ تُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَقِيلَ بِالْمِئَاتِ، وَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعًا مِنْهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا رَوَاهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ: " وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كَتَبْتُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ آمِينَ " اهـ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَمَا كَانَ يَفْعَلُ، فَلَمْ تُكْتَبْ أَقْوَالُهُ وَلَا أَفْعَالُهُ الْكَثِيرَةُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَمِنْهَا الْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ ذِكْرُ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا يُسَمَّى " إِنْجِيلَ اللهِ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا الْإِنْجِيلِ أَحَدُ هَذِهِ التَّوَارِيخِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تُحُدِّثَ عَنْهُ، وَفِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ أَنَاجِيلُ كَاذِبَةٌ وَأَنَاجِيلُ مُحَرَّفَةٌ وَرُسُلٌ كَذَبَةٌ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَأَثْبَتْنَا عَدَمَ الثِّقَةِ بِهَا، وَأَنَّ مَجْمُوعَهَا يُثْبِتُ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ الْمُنَزَّلُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَارَى كَالْيَهُودِ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَأَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَأَنَّهُمُ انْتَحَلُوا عَقَائِدَ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقُدَمَاءِ فِي الثَّالُوثِ [فَرَاجِعْهُ فِي ص239 - 25 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] . قَالَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي قَالُوهُ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ هُوَ قَوْلُهُمُ الَّذِي تَلُوكُهُ أَلْسِنَتُهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، مَا أَنْزَلَ بِهِ اللهُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ حَرَكَةَ اللِّسَانِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَدْلُولٌ فِي الْوُجُودِ، وَلَا حَقِيقَةٌ فِي مَدَارِكِ الْعُقُولِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (18: 4، 5) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي التَّبَنِّي: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (33: 4) وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (24: 15) فَذَكَرَ الْأَفْوَاهَ - وَكَذَا الْأَلْسِنَةُ - مَعَ الْعِلْمِ بِهَا بِالْحِسِّ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ، أَيْ أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَعْدُوهَا وَلَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْعَوَامُّ: " كَلَامٌ فَارِغٌ ". يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: يُشَابِهُونَ وَيُحَاكُونَ فِيهِ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ مِثْلَهُ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ سَلَفُهُمُ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ، إِذْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ أُولَئِكَ

الْيَهُودِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْ غَيْرِهَا قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ لَجَزَمْنَا بِهِ ; لِأَنَّهُ عَدَمُ وُصُولِ نَقْلٍ إِلَيْنَا فِيهِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْآيَةِ الْجِنْسُ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ، وَالْمُخْتَارُ فِي مُضَاهَأَتِهِمْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ يَصْدُقُ فِي كُلِّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَنَّ عَقِيدَةَ الِابْنُ اللهُ، وَالْحُلُولِ، وَالتَّثْلِيثِ، كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ فِي الْهِنْدِ وَالْبُوذِيِّينَ فِيهَا وَفِي الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَقُدَمَاءِ الْفُرْسِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: (4: 171) الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا آنِفًا وَهَذَا الْبَيَانُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِمَّنْ حَوْلَهُمْ، بَلْ لَمْ تَظْهَرْ إِلَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ كُتُبِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ خَاصٍّ. قَاتَلَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِلتَّعَجُّبِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا لَا ظَاهِرُ مَعْنَاهَا. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَقَاتَلَهُ اللهُ مَا أَفْصَحَهُ اهـ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْلَ " قَاتَلَهُ اللهُ " الدُّعَاءُ، ثُمَّ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّبِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ اهـ. وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّعْنَةُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ قَالَ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (5: 75) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ: ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (6: 95) وَالْإِفْكُ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ (وَبَابُهُ مِنْ وَزْنِ ضَرَبَ) وَيُقَالُ: أُفِكَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى صُرِفَ عَقْلُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ، وَرَجُلٌ مَأْفُوكُ الْعَقْلِ، فَمَادَّةُ أَفَكَ تُسْتَعْمَلُ فِي صَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الَّذِي تَجْزِمُ بِهِ الْعُقُولُ وَالَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى كُلُّ رَسُولٍ، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَيَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ نَقْلٌ؟ فَأَيْنَ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْخَالِقِ لهَذَا الْكَوْنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي وَصَلَ مِنْ عَجَائِبَ سَعَتِهِ إِلَى عَالَمِ الْبَشَرِ الْقَلِيلِ أَنَّ بَعْضَ شُمُوْسِهِ

لَا يَصِلُ نُورُهَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الْمَلَايِينَ مِنَ السِّنِينَ النُّورِيَّةِ - فَهَلْ يَلِيقُ بِعَاقِلٍ مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَعِيشُ عَلَى هَذِهِ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ مِنْهُ (وَهِيَ الْأَرْضُ) أَنْ يَجْعَلَ لِخَالِقِهِ كُلِّهِ وَمُدَبِّرِ أَمْرِهِ، وَلَدًا وَعَائِلَةً مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنْ يَرْتَقِيَ بِهِ الْغُرُورُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ هُوَ الْخَالِقَ لَهُ وَالْمُدَبِّرَ لِأَمْرِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وُلِدَ مِنِ امْرَأَةٍ وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتْعَبُ وَيَتَأَلَّمُ إِلَخْ. .! ؟ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (39: 67) وَوَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (21: 26 - 29) وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ تَنْوِينُ (عُزَيْرٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ بِمَا تَصَرَّفَتْ بِهِ الْعَرَبُ فَجَعَلَتْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّصْغِيرِ، وَأَنَّ (ابْنُ اللهِ) خَبَرٌ عَنْهُ لَا وَصْفٌ لَهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَاجْتَمَعَ فِيهِ عِلَّتَا الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ (يُضَاهِئُونَ) بِالْهَمْزِ وَالْبَاقُونَ (يُضَاهُونَ) مِنَ النَّاقِصِ وَهُمَا لُغَتَانِ. فَصْلٌ اسْتِطْرَادِيٌّ فِي هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَشَهَادَتِهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا (إِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَا ذَكَرْتَ يُبْطِلُ الثِّقَةَ بِالْكُتُبِ الَّتِي بِهَا سَمَّى اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ لِلْيَهُودِ بِأَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَ النَّاجِينَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (7: 157) وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَمِنْ دُعَاةِ النَّصَارَى (الْمُبَشِّرِينَ) مَنْ أَلَّفَ كِتَابًا فِي ذَلِكَ سَمَّاهُ (شَهَادَةَ الْقُرْآنِ لِكُتُبِ أَنْبِيَاءِ الرَّحْمَنِ) فَبُطْلَانُ الثِّقَةِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الثِّقَةِ بِالْقُرْآنِ، وَيَكُونُ حُجَّةً لِمَلَاحِدَةِ التَّعْطِيلِ عَلَى بُطْلَانِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَمَا جَوَابُكَ عَنْ هَذَا؟ . (قُلْتُ) . قَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي (الْمَنَارِ) وَنُعِيدُهُ الْآنَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَحُجَّتُهُمْ عَلَيْنَا بِمَا قَالُوا إِلْزَامِيَّةٌ

لَا حَقِيقِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا تَنْفَعُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الطَّعْنِ فِي ثُبُوتِ كُتُبِهِمْ، وَهُمْ يَكْتَفُونَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِتَشْكِيكِهِمْ فِي دِينِهِمْ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِدِينِهِمْ يَسْهُلُ إِدْخَالُهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَلَوْ نِفَاقًا كَالْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِهَا ; لِأَنَّهَا أَدْنَى إِلَى اسْتِبَاحَةِ جَمِيعِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً (4: 89) وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَا يَتِمُّ لَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا أُخِذَتْ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مَعَ شَهَادَتِهِ لَهَا، وَقَبُولِ حُكْمِهِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُهَيْمِنٌ رَقِيبٌ لَهُ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهَا، إِذْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ (5: 48) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ لَا الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى الْمُبَشِّرِينَ وَمَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْمَنَارِ. وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِنُصُوصِ التَّوَارِيخِ مَعَ دَلَائِلِ الْعَقْلِ عَلَى فَقْدِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودِ مِنْهَا، فَجَوَابُنَا لَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَرِيبٌ مِنْ حُكْمِهِمْ عَلَيْهَا مِنْ نَاحِيَةِ فَقْدِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَكِنْ فِي جُمْلَتِهَا لَا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا. فَحُكْمُهُ أَدَقُّ وَأَصَحُّ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْيَهُودِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (5: 13) مَعَ قَوْلِهِ: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْمَعْقُولُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ تَنْسَى أُمَّةٌ كَبِيرَةٌ جَمِيعَ شَرِيعَتِهَا بِفَقْدِ نُسْخَةِ الْكِتَابِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهِ، وَقَدْ عَمِلَتْ بِهِ فِي عِدَّةِ قُرُونٍ. وَكَذَا قَوْلُهُ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَغْيِيرٍ وَتَبْدِيلٍ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) وَغَيْرِهِ. وَالْيَهُودُ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ عُزَيْرًا (عِزْرَا) كَتَبَ مَا كَتَبَ مِنَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ فَقْدِهَا بِاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ لَا بِلُغَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَضَعُ خُطُوطًا عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ، فَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ كَتَبَ مَا ذَكَرَهُ

وَتَذَكَّرَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ دُونَ مَا نَسُوهُ، وَكَانَ مِنْهُ الصَّحِيحُ قَطْعًا، وَمِنْهُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، وَمِنْهُ الْغَلَطُ، وَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ التَّحْرِيفُ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِلْإِتْيَانِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا (2: 136) الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ كَانَ قَدْ نَسَخَ شَيْئًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَنْكَرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَأَنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مَا هُوَ حَقٌّ وَهُوَ مَا أُوتُوهُ، وَمَا هُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مَا حَرَّفُوهُ، وَدَعْ مَا فُقِدَ وَهُوَ مَا نَسُوهُ. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّحْقِيقُ عِنْدَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِأَنَّ مَا وَرَدَ النَّصُّ عِنْدَنَا بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى كَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ (5: 43) نَجْزِمُ بِأَنَّهُ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ كَكَوْنِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعِجْلَ الذَّهَبِيَّ الَّذِي عَبَدُوهُ، وَكَوْنِ سُلَيْمَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَعَبَدَ الْأَوْثَانَ، وَكَوْنِ لُوطٍ زَنَا بِابْنَتِهِ - فَإِنَّنَا نَجْزِمُ بِكَذِبِهِ، وَأَمَّا مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَإِنَّنَا لَا نُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُكَذِّبُهُمْ فِيهِ. وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي نِسْيَانِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ إِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَذَا التَّحْقِيقِ، وَبِتَحْقِيقِ مَسْأَلَةِ كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِ اللهِ (رُوحِ الْقُدُسِ) الَّتِي ضَلَّ فِيهَا قُدَمَاءُ الْوَثَنِيِّينَ وَتَبِعَهُمُ النَّصَارَى، الَّذِي جَاءَنَا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا مِنَ التَّوَارِيخِ الْعَامَّةِ وَلَا الْخَاصَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ التَّحْقِيقُ الْمَعْقُولُ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى نُقُولِ التَّوَارِيخِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَسْبِقْ إِلَى بَيَانِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسَعُ عَاقِلًا مُنْصِفًا رَدُّهُ. وَلَا يُعْقَلُ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَرَفَهُ بِرَأْيِهِ ; لِأَنَّ الرَّأْيَ فِي مِثْلِ هَذَا يُبْنَى عَلَى مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَا لِقَوْمِهِ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (11: 49) وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَعْدَائِهِ

مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ: بَلْ نَعْلَمُهَا وَهِيَ مِنَ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَيْنَ كَانُوا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَلَا يُعْقَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَخَذَ حُكْمَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهِ فَقَطْ، بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوهُ لَمَا قَالُوهُ ; لِأَنَّهُ طَعْنٌ فِيهِمْ وَفِي دِينِهِمْ - فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ظُهُورِ صِدْقِهِ إِلَّا الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَوَجْهًا مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ السَّافِرَةِ النَّيِّرَةِ. فَصْلٌ اسْتِطْرَادِيٌّ آخَرُ نَصْرَانِيَّةُ الْإِفْرِنْجِ وَلِمَاذَا لَا يُسْلِمُونَ! ؟ . (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّكُمْ مَعْشَرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا وَقَفْتُمْ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي تُبْطِلُ الثِّقَةَ بِنَقْلِ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخَطَأِ الْعِلْمِيِّ وَالتَّارِيخِيِّ، وَكَذَا التَّعَالِيمُ الضَّارَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا كُلِّهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا عَلَى مَصَادِرِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ مِنْ أَدْيَانِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ - مَا وَقَفْتُمْ عَلَى كُلِّ هَذَا مِمَّا لَخَّصْتُمْ بَعْضَهُ هُنَا وَبَعْضَهُ مِنْ قَبْلُ - إِلَّا - مِنْ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا كُتُبُ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ مِنْ أَحْرَارِ الْمَادِّيِّينَ وَالْمُتَدَيِّنِينَ جَمِيعًا، وَبِالِاطِّلَاعِ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ كَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْكُمْ كَالشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ الْهِنْدِيِّ، وَالطَّبِيبِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي الْمِصْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللهُ وَغَيْرُهُمَا أَعْلَمُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ فُحُولِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى النَّصَارَى كَالْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ فَكَيْفَ نَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى ثَابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ هَذَا فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟ وَلَا سِيَّمَا الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ نَشَرُوا تِلْكَ الْحَقَائِقَ فِي شُعُوبِهِمْ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ، وَلَا يَزَالُ أَغْنِيَاؤُهُمْ يَبْذُلُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; لِنَشْرِ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ وَتُؤَيِّدُهُمْ دُوَلُهُمْ فِي ذَلِكَ؟ . بَلْ كَيْفَ لَا يَسْتَحْيُونَ وَهَذِهِ حَالُهُمْ فِي دِينِهِمْ مِنْ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ وَمِنْ طَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ بَلْ كَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا، وَقَدِ اخْتَبَرُوا جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ، وَآنَ لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الْقَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ، الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. الْحَلَّالُ لِجَمِيعِ مَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِ الْمُفْسِدَةِ لِلْحَضَارَةِ، الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ، وَمَا عَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ فَأَيَّدَتْهُ فِيهِ أَبْحَاثُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الْأَحْرَارِ؟ . (قُلْنَا) : إِنَّ حَلَّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ وَالْأَجْوِبَةَ عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا إِلَّا فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي هُنَا بِالْإِلْمَامِ بِقَضَايَاهَا الْكُلِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ بِالْإِجْمَالِ، وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ وَالتَّفْسِيرِ بِالتَّفْصِيلِ، فَنَقُولُ:

(1) أَسْبَابُ بَقَاءِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ: إِنَّ لِلدِّينِ الْمُطْلَقِ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحِ الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلَّاتِهِمْ بِعَالَمِ الْغَيْبِ مَبْدَأً وَغَايَةً، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ وُجُودَهَا الْمَحْجُوبُونَ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ (الْمَادِّيِّ) وَهُوَ مَعَ هَذَا حَاجَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا التَّنَوُّعِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَأَعْطَى اسْتِعْدَادًا لِعِلْمٍ لَا حَدَّ لَهُ، يَهْدِي إِلَى أَعْمَالٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، فَلَا بُدَّ لِجَمَاعَتِهِ فِي التَّعَاوُنِ عَلَيْهَا مِنْ وَازِعٍ نَفْسِيٍّ وِجْدَانِيٍّ يَزَعُ كُلًّا مِنْهُمْ، وَيَرْدَعُهُ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتِمُّ عِلْمُهُ وَبُرُوزُ اسْتِعْدَادِهِ إِلَّا بِهِمْ أَيْنَمَا كَانَ وَكَانُوا، وَحَيْثُ لَا وَازِعَ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَالْعَدْلِ بِالْأَوْلَى. وَلَمْ يَعْرِفِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُوبِ دِينًا تَعْلِيمِيًّا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الدِّينُ الْفِطْرِيُّ الْمُطْلَقُ وَيَتَقَيَّدُ بِهِ إِلَّا هَذَا الدِّينَ الَّذِي لَا يَزَالُ فِيهِ أَثَارَةٌ مِنْ هِدَايَةِ طَائِفَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لَمْ تَقْوَ أَحْدَاثُ الزَّمَانِ الْقَدِيمَةُ عَلَى مَحْوِهَا، عَلَى كُلِّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عَبَثِهَا بِهَا، فَهُوَ بِهَا مُظْهِرٌ لِمَا كَانَ مِنْ تَعَرُّفِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِيَّاتِ، وَقَدْ أَتْقَنَ رُؤَسَاؤُهُ نِظَامَ تَرْبِيَتِهِمُ الْوِجْدَانِيَّةِ عَلَيْهِ، وَتَلْقِينِهِ لَهُمْ بِالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَارْتَبَطَتْ سِيَاسَتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ بِهِ، وَصَارَ وَسِيلَةً مِنْ أَقْوَى وَسَائِلِ الِاسْتِعْمَارِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشُّعُوبِ لِدُوَلِهِمْ، فَاتَّفَقَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ عَلَى نَشْرِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ بِدِعَايَةِ التَّبْشِيرِ، فَاجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ هَذِهِ الدِّعَايَةِ الْقُوَّةُ وَالْمَالُ الْكَثِيرُ، وَالْعِلْمُ وَالنِّظَامُ الدَّقِيقُ - فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقُوَى وَالْأَسْبَابِ بَقِيَ هَذَا الدِّينُ حَيًّا فِي هَذِهِ الشُّعُوبِ عَلَى تَفَاوُتٍ عَظِيمٍ بَيْنَ أَهْلِهَا فِي فَهْمِهِ. (2) غُلُوُّ الْإِفْرِنْجِ فِي الْإِلْحَادِ وَشُعُورُهُمْ أَخِيرًا بِالْحَاجَةِ إِلَى الدِّينِ: إِنَّ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي تُبْطِلُ الثِّقَةَ بِرِوَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا الْمُخَالِفَةِ لِلْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ، وَبِعَقَائِدِهِمْ أَيْضًا قَلِيلُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَشَا فِيهِمُ الْكُفْرُ وَالتَّعْطِيلُ، أَوِ الْكُفْرُ بِدَيْنِ الْكَنِيسَةِ خَاصَّةً مِنَ التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ. وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِحَالَةِ فِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ - أَيْ اسْتِحَالَةِ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ إِلَى جَسَدِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ - وَقَدْ كَانُوا غَلَوْا فِي الْإِلْحَادِ عَقِبَ تَمَكُّنِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ، بِقَدْرِ مَا كَانَ مِنْ غُلُوِّ سَيْطَرَةِ الْكَنِيسَةِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَلَّفُوا كَثِيرًا مِنَ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ فِي الطَّعْنِ فِي هَذَا الدِّينِ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَى زُوَّارِ أُورُبَّةَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ أَنَّ أُورُبَّةَ أَصْبَحَتْ مَادِّيَّةً، لَا تَدِينُ بِدِينٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ رُسُومِ النَّصْرَانِيَّةِ يَدِينُ بِهَا الْعَامَّةُ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْمُتَمَتِّعُونَ بِأَوْقَافِ الْكَنَائِسِ وَسُلْطَانِهَا الرُّوحَانِيِّ، وَلَكِنَّ الْفَوْضَى الدِّينِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ مَدِّهَا فِي إِثْرِ حَرْبِ الْمَدِينَةِ

الْعَامَّةِ، فَشَعَرَ الْعُقَلَاءُ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّينِ الْمُطْلَقِ بِسُنَّةِ " رَدِّ الْفِعْلِ " وَأَلَّفُوا عِدَّةَ جَمْعِيَّاتٍ لِإِرْجَاعِ هِدَايَتِهِ عَلَى قَوَاعِدَ مُخْتَلِفَةٍ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنَ الْعَقْلِ وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ عَنْهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّينَ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّهُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا عَقْلٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ فِي الْبُرُوتُسْتَانْتِ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ مَنْ يَمِيلُونَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكَاثُولِيكِيَّةِ، لِأَنَّ لِرُسُومِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصُوَرِهَا وَتَمَاثِيلِهَا، وَنَغَمَاتِ نَشِيدِهَا مِنَ السُّلْطَانِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقَلْبِ مَا لَيْسَ لِلْكَنِيسَةِ الْإِصْلَاحِيَّةِ اللَّوْثَرِيَّةِ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَثَرِ هَذَا الِانْقِلَابِ تَوَدُّدُ جُمْهُورِيَّةِ فَرَنْسَةَ الْإِلْحَادِيَّةِ إِلَى الْبَابَا، وَإِعَادَتُهَا لِمَا سَلَبَتْ مِنْ أَوْقَافِ الْكَنَائِسِ. وَاتِّفَاقُ الدَّوْلَةِ الْإِيطَالِيَّةِ مَعَ الْبَابَا عَلَى إِرْجَاعِ سُلْطَانِهِ السِّيَاسِيِّ، وَالِاعْتِرَافِ بِمَمْلَكَتِهِ الدِّينِيَّةِ، وَرَدِّ أَمْلَاكِهَا إِلَيْهَا، ثُمَّ إِجَابَةُ طَلَبِهِ إِلَى إِعَادَةِ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ الْكَاثُولِيكِيِّ إِلَى جَمِيعِ الْمَدَارِسِ الْإِيطَالِيَّةِ؛ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ رَجُلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَرَئِيسِ حُكُومَتِهَا فِي هَذَا، أَنَّ حِفْظَ أَخْلَاقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ وَجَامِعَتِهَا مِنَ الِانْحِلَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالدِّينِ - أَيِّ دِينٍ يُحَرِّمُ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيَجْمَعُ الْكَلِمَةَ - وَأَنَّ دِينَ الْأُمَّةِ الْمَوْرُوثَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، إِنْ فُرِضَ أَنَّ غَيْرَهُ مُمْكِنٌ قَرِيبُ الْمَنَالِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَفْكَارِ لَا يَعْقِلُهَا مَلَاحِدَةُ هَذِهِ الْبِلَادِ وَأَمْثَالُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِيمَا يَنْفَعُ الْأُمَّةَ وَيَضُرُّهَا، وَلَا فِي تَأْثِيرِ الدِّينِ فِي أَخْلَاقِهَا وَوَحْدَتِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْشُرُ إِلْحَادَهُ تَلَذُّذًا بِتَقْلِيدِ مَلَاحِدَةِ أُورُبَّةَ، وَتَشَرُّفًا بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، لِصَغَارِهِ وَخِسَّةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْشُرُهُ خِدْمَةً لِلْمُسْتَعْمِرِينَ، وَمُسَاعَدَةً لِلْمُبَشِّرِينَ، بِأَجْرٍ حَقِيرٍ، وَإِثْمٍ كَبِيرٍ. (3) مُحَافَظَةُ الْكَنِيسَةِ عَلَى عَقَائِدِهَا وَتَأْوِيلَاتِ الْمُخَالِفِينَ لَهَا. إِنَّنَا نَعْتَقِدُ بِمَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنَ الْبَحْثِ وَالِاخْتِبَارِ الطَّوِيلِ أَنَّ عُلَمَاءَ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ وَمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ فِيهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا السُّؤَالِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَضَايَا الْجَوَابِ عَنْهُ، وَلَا بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَلَا أَكْثَرَهُ حَقٌّ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ مَخْلُوقٌ، وَنَبِيٌّ رَسُولٌ لَا إِلَهٌ خَالِقٌ، بَلْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ الدِّينِ الْكَاثُولِيكِيِّ فَجَهَرَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ مِمَّا يُخَالِفُ تَعَالِيمَهُمْ فَحَرَمَهُ الرَّئِيسُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا - حَدَّثَنِي بِأَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ أَنْفُسَهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا حَقَائِقَ الْعُلُومِ لَا يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَلَا التَّثْلِيثَ، وَلَا الِاسْتِحَالَةَ فِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ، بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا دَخِيلَةٌ فِي دِينِ الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِذَا صَرَّحُوا بِهَذَا تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّصَارَى بِالدِّينِ مِنْ أَصْلِهِ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَى رِجَالِ الْكَنِيسَةِ بِسُقُوطِ رِيَاسَتِهَا حَمْلُهُمْ عَلَى الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الدِّينِ، وَهِيَ الْفَضَائِلُ وَالْآدَابُ وَتَقْوَى اللهِ الصَّادَّةُ عَنِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ. هَذَا وَإِنَّ لِكِبَارِ الْأَذْكِيَاءِ مِنْهُمْ تَأْوِيلَاتٍ يَتَفَصَّوْنَ بِهَا مِنْ مُنْكَرَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ وَالتَّقَالِيدِ

كَتَأْوِيلِ عَاهِلِ الْأَلْمَانِ الْأَخِيرِ (غِلْيُومُ الثَّانِي) بَعْدَ عُثُورِ عُلَمَاءِ قَوْمِهِ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي فِي الْعِرَاقِ، وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ جُلَّ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَأْخُوذَةٌ عَنْهَا، فَإِنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا لِصَدِيقٍ لَهُ فِي كَوْنِ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَنْقُضُ دِينَهُمُ الْمَبْنِيَّ عَلَى أَسَاسِ التَّوْرَاةِ أَيْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الرُّوحَ الَّذِي فِيهَا لَا عَلَى نُصُوصِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْكِتَابِ: وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ عِنْدِي أَنَّ التَّوْرَاةَ تَحْتَوِي عَلَى عِدَّةِ فُصُولٍ تَارِيخِيَّةٍ هِيَ مِنَ الْبَشَرِ لَا مِنْ وَحْيِ اللهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ أَنَّ اللهَ أَعْطَى مُوسَى عَلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ شَرِيعَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ إِلَّا اعْتِبَارًا شِعْرِيًّا رَمْزِيًّا ; لِأَنَّ مُوسَى قَدْ نَقَلَ تِلْكَ الشَّرَائِعَ عَنْ شَرَائِعَ أَقْدَمَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْجَحِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا مَأْخُوذًا مِنْ شَرَائِعِ حَمُورَابِي، وَيُوشِكُ أَنْ يَجِدَ الْمُؤَرِّخُ اتِّصَالًا بَيْنَ شَرَائِعِ حَمُورَابِي صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَبَيْنَ شَرَائِعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاللَّفْظِ وَالْفَحْوَى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَطْعِيًّا مِنَ الِاعْتِقَادِ بِوَحْيِ اللهِ لِمُوسَى، وَظُهُورِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَاسِطَتِهِ " ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّنِي أَسْتَنْتِجُ مِمَّا تَقَدَّمَ مَا يَأْتِي: (1) أَنَّنِي أُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. (2) أَنَّنَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ نَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْإِلَهِ الْعَظِيمِ إِلَى شَيْءٍ يُمَثِّلُ إِرَادَتَهُ، وَأَوْلَادُنَا أَشَدُّ احْتِيَاجًا مِنَّا إِلَى ذَلِكَ. (3) أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُمَثِّلُ إِرَادَةَ اللهِ عِنْدَنَا هُوَ التَّوْرَاةُ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْنَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِذَا فَنَّدَتِ الْمَكْشُوفَاتُ الْأَثَرِيَّةُ بَعْضَ رِوَايَاتِهَا، وَذَهَبَتْ بِشَيْءٍ مِنْ رَوْنَقِ الشَّعْبِ الْمُخْتَارِ - شَعْبَ إِسْرَائِيلَ - فَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ رُوحَ التَّوْرَاةِ يَبْقَى سَلِيمًا، مَهْمَا يَطْرَأُ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الِاعْتِلَالِ وَالِاخْتِلَالِ، وَهَذَا الرُّوحُ هُوَ اللهُ وَأَعْمَالُهُ. إِنَّ الدِّينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُسْتَحْدَثَاتِ الْعِلْمِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَيَضَانٌ مِنْ قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَوِجْدَانِهِ بِمَا لَهُ مِنَ الصِّلَةِ بِاللهِ " هـ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَسِيحِ، فَإِنَّهُ فَسَّرَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَظْهَرُ دَائِمًا فِي الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي هُوَ خَلِيفَتُهُ وَصَنِيعَتُهُ بِمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (قَالَ) : أَعْنِي أَنَّهُ مَنَحَهُ شَيْئًا مِنْ ذَاتِهِ إِذْ أَعْطَاهُ نَفْسًا حَيَّةً، وَإِنَّ ظُهُورَهُ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي كَاهِنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَلِكٍ، سَوَاءً كَانَ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ أَوِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ حَمُورَابِي مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ كَمَا كَانَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ وَهُوَ مِيرُوسُ وَشَارْلِمَانُ وَلُوثَرُ وَشِكْسِبِيرُ وَجُوتُّ وَقُنْتُ (أَوكُونْتُ) وَالْإِمْبِرَاطُورُ غِلْيُومُ الْكَبِيرُ (يَعْنِي جَدَّهُ) . . . . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ظُهُورَ اللهِ فِي

الْأَشْخَاصِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ وَدَرَجَاتِهَا فِي الْحَضَارَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَظْهَرُ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا (يَعْنِي فِي شَخْصِهِ) . فَبِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ يَدِينُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فِي أُورُبَّةَ لَا بَدِينِ الْكَنِيسَةِ كَمَا يَزْعُمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ (الْمُبَشِّرُونَ) الْكَذَّابُونَ الْخَدَّاعُونَ لِيَغُشُّوا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ بِعَظَمَةِ الْإِفْرِنْجِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبِتَسْمِيَتِهِمْ حَضَارَةَ أُورُبَّةَ مَسِيحِيَّةً. وَقَدْ كَانَ لِلْفَيْلَسُوفِ تُولُسْتُوِي الرُّوسِيِّ الشَّهِيرِ تَأْوِيلٌ لِلْإِنْجِيلِ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَخُلَاصَتِهِ أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِكَمِهِ وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي كَانَتْ جَوَاهِرَ أُلْقِيَتْ فِي مَزَابِلَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَإِنَّهُ هُوَ قَدْ عُنِيَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَتَنْظِيفِهَا مِمَّا عَلَقَ بِهَا، وَشَبَّهَهَا بِتِمْثَالٍ مُكَسَّرٍ مُلْقًى فِيهَا، فَعَثَرَ هُوَ عَلَيْهِ قِطْعَةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا تَمَّ وَكَمُلَ، عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ حَقٌّ صَحِيحٌ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا كَبِيرًا سَمَّاهُ الْأَنَاجِيلَ، وَسَمَّى مَا اسْتَخْلَصَهُ مِنْهَا الْإِنْجِيلَ الصَّحِيحَ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَلْخِيصُ مُقَدِّمَتِهِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا مَا حَقَّقَهُ فِي الْمَوْضُوعِ (ص131 و226 و259 م 6 مَنَارٌ) . وَمِمَّا قَالَهُ فِيهَا: " إِنَّ الْقَارِئَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْسَى أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ الْفَاحِشِ وَالْكَذِبِ الصُّرَاحِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ هِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ فِي جَمِيعِ آيَاتِهَا " وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَهُمْ مِنْ " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُؤَلِّفْ كِتَابًا قَطُّ كَمَا فَعَلَ أَفْلَاطُونُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُلْقِ تَعَالِيمَهُ مِثْلَ سُقْرَاطَ عَلَى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَإِنَّمَا عَرَضَهَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ قَدْ خَشَنَتْ طِبَاعُهُمْ كَانَ يُصَادِفُهُمْ فِي طَرِيقِهِ " أَيْ فَلَمْ يَحْفَظُوهَا وَلَمْ يَكْتُبُوهَا، وَفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ كَلَامِ الْمَسِيحِ وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالُهُ الَّتِي كَانَ يَضْرِبُهَا لَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تُولُسْتُوِي أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهُ بِزُهَاءِ مِائَةِ عَامٍ رِجَالٌ أَدْرَكُوا مَكَانَةَ كَلِمَاتِهِ فَخَطَرَ فِي بَالِهِمْ أَنْ يُدَوِّنُوهَا بِالْكِتَابَةِ، فَكَانَتْ مُدَوَّنَاتُهُمْ كَثِيرَةً، وَمِنْهَا مَا كَانَ مَحْشُوًّا بِالْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، وَأَنَّ الْكَنِيسَةَ اخْتَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُلُوفِ الْمُصَنَّفَاتِ مَا رَأَتْهُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَمَالِ " وَأَنَّ الْغَلَطَ فِي الْأَنَاجِيلِ الْقَانُونِيَّةِ هُوَ بِقَدْرِ الْغَلَطِ فِي الْأَنَاجِيلِ الْمُهْمَلَةِ لِاعْتِبَارِهَا مَحَلًّا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ الْمَتْرُوكَةَ تَشْتَمِلُ أَشْيَاءَ جَمِيلَةً، قَدْ تُعَادِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَنَاجِيلُ الرَّسْمِيَّةُ " إِلَخْ وَمِمَّا حَقَّقَهُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ دِينَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقِيدَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَعَقِيدَةِ الْكَنَائِسِ النَّصْرَانِيَّةِ وَأَنَّ بُولُسَ لَمْ يَفْهَمْ دِينَ الْمَسِيحِ أَلْبَتَّةَ. فَهَذِهِ نَصْرَانِيَّةُ هَذَا الْفَيْلَسُوفِ الْكَبِيرِ، وَتِلْكَ عَقِيدَةُ ذَلِكَ الْعَاهِلِ الْكَبِيرِ، وَمَا أَتْعَبَ الْأَوَّلَ فِي التَّفْكِيرِ، وَالْآخَرَ فِي التَّأْوِيلِ، إِلَّا سُلْطَانُ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ عَلَى النَّفْسِ، وَمُشَاقَّةُ

الدِّينِ الْكَنِيسِيِّ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ أَنَّهُمَا اطَّلَعَا عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي أَمْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ وَآيَةً مِنْ آيَاتِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ كَلِمَةَ اللهِ، أَنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ " كُنْ " - لَكَانَ هَذَا وَحْدَهُ بُرْهَانًا كَافِيًا لِاهْتِدَائِهِمَا بِالْإِسْلَامِ، وَاتِّبَاعِهِمَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ لَوِ اطَّلَعَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي بَلَغَهُمَا مِنْهُ قَدْ أَنْطَقَهُمَا بِمَا يَدُلَّانِ عَلَى إِكْبَارِهِ، فَلِلْفَيْلَسُوفِ رِسَالَةٌ جَلِيلَةٌ فِي (حُكْمِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَلِلْإِمْبِرَاطُورِ كَلِمَةٌ قَالَهَا لِمُوسَى الْكَاظِمِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي الْآسِتَانَةِ إِذْ زَارَهَا فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ الْكُبْرَى تُغْنِي عَنْ مُؤَلَّفٍ كَبِيرٍ وَهِيَ: فَسِّرُوا الْقُرْآنَ التَّفْسِيرَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ عُلْوِيَّتُهُ. . . فَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ عُلْوِيٌّ لَا أَرْضِيٌّ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا دُوْنَهُ. (4) إِحْصَاءَاتٌ نِسْبِيَّةٌ فِي عَقَائِدِ الْإِنْكِلِيزِ النَّصْرَانِيَّةِ: لَا تَقُلْ إِنَّ هَذِهِ آرَاءٌ لِبَعْضِ كُبَرَاءِ الْعُقُولِ وَمُفْرِطِي الذَّكَاءِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ مِثْلُهُمْ فِي الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ نَقَلَتْ إِلَيْنَا الصُّحُفُ أَنَّ جَرِيدَتَيْنِ مِنْ أَشْهَرِ الْجَرَائِدِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ نَشَرَتَا أَسْئِلَةً فِي الْعَقَائِدِ عَلَى أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ، وَذَكَرَتْ خُلَاصَةَ أَجْوِبَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ الْمِئَوِيَّةِ، عُلِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَلَايِينَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْهُمْ لَا يَدِينُونَ بِدِينِهِمُ الْبُرُوتُسْتَنَتِيِّ الَّذِي هُوَ عَلَى عِلَّاتِهِ أَسْلَسُ مِنَ الدِّينِ الْكَاثُولِيكِيِّ، وَالدِّينِ الْأَرْثُوذُكْسِيِّ لِقِيَادَةِ الْعَقْلِ وَإِذْعَانِ النَّفْسِ. وَمِنْهَا " هَلْ تَعْتَقِدُ بِإِلَهٍ مُجَسَّدٍ؟ فَأَجَابَ إِحْدَاهُمَا 40 فِي الْمِائَةِ و55 فِي الْمِائَةِ لَا، و4 لَمْ يُجِيبُوا وَأَجَابَ الْأُخْرَى 71 نَعَمْ، و26 لَا وَاثْنَانِ لَمْ يُجِيبَا ". وَمِنْهَا: " هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَسِيحَ ذُو أُلُوهِيَّةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ هُمْ أُولُو أُلُوهِيَّةٍ مِثْلَهُ؟ أَجَابَ الْأُولَى 35 فِي الْمِائَةِ نَعَمْ، و61 لَا، و2 لَمْ يُجِيبَا، وَأَجَابَ الْأُخْرَى 68 نَعَمْ، و29 لَا، وَاثْنَانِ لَمْ يُجِيبَا. وَمِنْهَا: " هَلْ تَعْتَقِدُ بِمَذْهَبِ الرُّسُلِ أَيْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ؟ أَجَابَ الْأُولَى 21 نَعَمْ، و71 لَا، و7 لَمْ يُجِيبُوا - وَأَجَابَ الْأُخْرَى 53 نَعَمْ، و36 لَا، و10 لَمْ يُجِيبُوا ". وَمِنْهَا: " هَلْ تَعْتَقِدُ بِالْمَذْهَبِ الَّذِي تَرْسُمُهُ الْكَنِيسَةُ؟ أَجَابَ الْأُولَى 24 نَعَمْ، و68 لَا، و7 لَمْ يُجِيبُوا - وَأَجَابَ الثَّانِيَةَ 52 نَعَمْ، و37 لَا، و10 لَمْ يُجِيبُوا. وَمِنْهَا: هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ التَّوْرَاةَ مُوحًى بِهَا؟ أَجَابَ الْأُولَى 29 نَعَمْ، 68 لَا، و3 لَمْ يُجِيبُوا - وَأَجَابَ الثَّانِيَةَ 63 نَعَمْ، و33 لَا و3 لَمْ يُجِيبُوا ". وَمِنْهَا: " هَلْ تَعْتَقِدُ بِاسْتِحَالَةِ الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ إِلَى لَحْمٍ وَدَمٍ كَأَنَّهُ مِنْ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟ أَجَابَ الْأُولَى 4 نَعَمْ، و93 لَا، و2 لَمْ يُجِيبَا - وَأَجَابَ الْأُخْرَى 10 نَعَمْ، و86 لَا، و3 لَمْ يُجِيبُوا ".

وَسَبَبُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَجْوِبَةِ الْجَرِيدَتَيْنِ أَنَّ أَكْثَرَ قُرَّاءِ الْأُولَى الَّذِينَ لَا يَدِينُونَ بِتِلْكَ الْعَقَائِدِ مِنَ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَأَكْثَرَ مَسْئُولِي الْأُخْرَى الَّذِي يَدِينُونَ بِهَا مِنَ الْعَوَامِّ الْمُقَلِّدِينَ. (5) عَقَائِدُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَهْدِ: مُلَخَّصُ الْقَوْلِ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ كَمَا يَتَرَاءَى لَنَا: أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَزَالُونَ يَخْضَعُونَ لِدِينِ الْكَنَائِسِ، وَنُظُمِ رِجَالِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَعَلَّهُمْ يَبْلُغُونَ النِّصْفَ فِي مَجْمُوعِ شُعُوبِهَا. وَإِنَّ الْمَلَاحِدَةَ الْمُعَطِّلِينَ فِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ هُمُ الْأَقَلُّونَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَسَائِرُ النِّصْفِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلِيمٌ، يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ، وَأَمَّا ذَاتُهُ فَهِيَ غَيْبٌ مُطْلَقٌ لَا تَتَصَوَّرُ كُنْهَهَا الْعُقُولُ. ضَرَبَ لَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ (أَيْنِشْتَيِنْ) الشَّهِيرُ مَثَلًا غُلَامًا مُمَيِّزًا دَخَلَ دَارًا مَنْ دَوْرِ الْكُتُبِ الْكُبْرَى، فَرَأَى فِي خِزَانَاتِهَا أُلُوفًا مِنَ الْكُتُبِ مَنْضُوْدَةً مُرَتَّبَةً مِنْ أَدْنَى الْحُجُرَاتِ إِلَى سُقُوفِهَا - فَهُوَ يُدْرِكُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عُلُومًا كَثِيرَةً مَكْتُوبَةً بِلُغَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ وَضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا أُولُو فَهْمٍ، وَنِظَامٍ هَنْدَسِيٍّ دَقِيقٍ، وَأَمَّا مَا دُوِّنَ فِيهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ فَلَا يَصِلُ عَقْلُهُ إِلَى أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِبَقَاءِ النَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَجَزَائِهَا بِعَمَلِهَا بِقَدْرِ تَأْثِيرِ الْحَسَنِ أَوِ الْقَبِيحِ فِيهَا فَقَدْ كَانَ قَلِيلًا فِي هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي هَذَا الْقَرْنِ بِانْتِشَارِ مَذْهَبِ الرُّوحِيِّينَ الَّذِينَ أَدْرَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضَ الْأَرْوَاحِ تَتَجَلَّى لِبَعْضِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهَا (وَهُمْ قَلِيلُونَ) وَتُخَاطِبُهُمْ وَتُمْلِي عَلَيْهِمْ كَلَامًا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ، وَتُحَرِّكُ أَيْدِيَهُمْ بِكِتَابَةِ أَشْيَاءَ رُبَّمَا كَانَتْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُ الْمُصَدِّقِينَ بِهَذِهِ التَّجَلِّيَّاتِ الرُّوحِيَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، وَلَهُمْ جَرَائِدُ وَمَجَلَّاتٌ وَمَدَارِسُ خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْعُلَمَاءُ بِكُلِّ عِلْمٍ مِنْ عُلُومُ الْعَصْرِ الْعَالِيَةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَطِبِّيَّةٍ وَرِيَاضِيَّةٍ، الَّذِينَ لَمْ يُؤَيِّدُوا هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَّا بَعْدَ تَجَارِبَ دَقِيقَةٍ أَمِنُوا أَنْ يَكُونَ مَا رَأَوْهُ وَسَمِعُوهُ مِنْ جَانِبِ الْأَرْوَاحِ خِدَاعًا. وَرُؤْيَةُ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِمَّا نُقِلَ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلَا سِيَّمَا الصُّوفِيَّةُ، وَمَجْمُوعُ الْمَنْقُولِ مِنْهَا يَدُلُّ دِلَالَةً عَقْلِيَّةً عَلَى أَنَّ لَهَا حَقِيقَةً ثَابِتَةً، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْهَا قَدِ اخْتَلَطَ بِالتَّخَيُّلَاتِ وَالْأَوْهَامِ وَبِالشَّعْوَذَةِ وَصِنَاعَةِ السِّحْرِ، فَقَلَّتْ ثِقَةُ الْعُقَلَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِأَخْبَارِهَا ; لِتَعَسُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا، وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ فِي هَذَا الْعَصْرِ جَعْلُ اسْتِحْضَارِ الْأَرْوَاحِ وَمُخَاطَبَتِهَا صِنَاعَةً تَعْلِيمِيَّةً تُثْبِتُهَا التَّجَارِبُ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُ مَعْرِفَتَهَا، وَلَكِنْ بِوَسَاطَةِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِرُؤْيَتِهَا، وَقَدْ كَثُرَ فِي مُنْتَحِلِيهَا الدَّجَّالُونَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهَا ذَرِيعَةً لِلْكَسْبِ، فَكَانَ مَا عُرِفَ مِنْ خِدَاعِهِمْ أَقْوَى صَارِفٍ لِلْعُقَلَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ عَنْ تَصْدِيقِ غَيْرِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي يَسْتَحْضِرُونَهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ لَا مِنْ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمَادِّيِّينَ بِوُجُودِ عَالَمٍ حَيٍّ عَاقِلٍ غَيْرَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا - نَوَامِيسَهَا - أَيْضًا.

وَرِجَالُ الدِّينِ يُكَذِّبُونَهُمْ غَالِبًا ; لِأَنَّ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ يُخَالِفُ بَعْضَ تَعَالِيمِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُؤَيِّدُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْعَقِيدَةِ، وَهُوَ بَقَاءُ النَّفْسِ وَالْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى زَعَمَ زَاعِمٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ثُبُوتُ الدِّينِ إِلَّا بِثُبُوتِهَا، قُلْتُ لَهُ مَرَّةً: إِنْ صَحَّ قَوْلُكَ فَالدِّينُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي! ! . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْأَرْوَاحِ بِالِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ بَيْنَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ هَذَا الطَّعْنُ بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى تَعْلَمُ الْحَقَائِقَ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَكُونَ مَعْصُومَةً مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ الْوُسَطَاءَ الَّذِينَ تَتَجَلَّى لَهُمْ. (ثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْوُسَطَاءُ يُدْرِكُونَ كُلَّ مَا تُلْقِيهِ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ كَمَا هُوَ لَا يَفُوتُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُؤَدُّونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ لَا يُخْطِئُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا وَلَا ذَاكَ، بَلَى قَرَأْنَا مِمَّا نَقَلُوهُ عَنِ الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي عَالَمِهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا مِنْهَا لَا تُدْرِكُ مَا تُدْرِكُهُ الْعُلْيَا، وَأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْلُغَ كُلَّ مَا نَعْلَمُ مِنْهُ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْذَنُ لَهَا بِتَبْلِيغِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَتَحْقِيقٍ لَيْسَ هَذَا الِاسْتِطْرَادُ فِي التَّفْكِيرِ بِمَحَلٍّ لَهُ. وَأَمَّا الْوَحْيُ، فَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَأَمْثَالِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ غَيْرِ عَالَمِ الْمَادَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَحْيَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ النَّفْسِ تَسْتَحْوِذُ عَلَيْهَا فَتَفِيضُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَعَارِفِ، وَتَنْطِقُهَا بِمَا تَكُونُ مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَنْبُعُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا، وَلَا مِنَ التَّعَالِيمِ الْعَمَلِيَّةِ وَنَفْعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُزِيلِ لِشُبُهاتِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (6) آرَاءُ الْإِفْرِنْجِ وَأَمْثَالِهِمْ فِي الدِّينِ وَالتَّدَيُّنِ: لِلْمُتَدَيِّنِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالسِّيَاسَةِ كَالْيَابَانِيِّينَ وَالْهِنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ آرَاءٌ فِي الدِّينِ، تَصْرِفُ أَكْثَرَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ بِمِثْلِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ اسْتِبَانَةُ الصَّحِيحِ الرَّاجِحِ أَوِ الْأَرْجَحِ لِأَجْلِ اعْتِمَادِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنَّ الدِّينَ تَعَالِيمُ أَدَبِيَّةٌ تَهْذِيبِيَّةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَرَابِطَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ سِيَاسِيَّةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ فَائِدَتَهُ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ تَكُونُ بِقَدْرِ حُسْنِ تَلْقِينِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْبَرَاعَةِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ عَلَيْهِ - لَا بِقَدْرِ صِحَّةِ عَقَائِدِهِ وَمَصَادِرِهِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ - وَجَوْدَةِ آدَابِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي نَفْسِهَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهَا

فَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ أَقْوَى الْأَدْيَانِ حُجَجًا، وَأَقْوَمِهَا مَنْهَجًا لِيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ، وَيَدْعُوا قَوْمَهُمْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مُحَاوَلَةَ تَحْوِيلِ الشَّعْبِ عَنْ دِينٍ وِرَاثِيٍّ تَلَقَّاهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ إِلَى دِينٍ آخَرَ أَصَحَّ بُرْهَانًا مِنْهُ لَا يَخْلُو مِنْ مَضَارَّ، مِنْهَا الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ فِي الشَّعْبِ وَضَعْفُ ارْتِبَاطِهِ بِأُمَّتِهِ وَدَوْلَتِهِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي صِيَانَةِ عَقَائِدِ شَعْبِهِمْ، وَدَفْعِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْأَحْرَارُ الْمُسْتَقِلُّونَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَقَائِدِ مَسْأَلَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ لَا يُثْبِتُهَا الْعِلْمُ الْعَصْرِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، فَالصَّوَابُ لِمَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى حَقِّيَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَدِينَ اللهَ تَعَالَى بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ بِدَعْوَةٍ إِلَيْهِ، وَلَا تَخْطِئَةٍ لَهُ فِيمَا يَدِينُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْحُرِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ لَا تَكَادُ تَخْلُصُ مِنْ دَخَائِلَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَتَسْلَمُ مِنَ الشَّوَائِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنْ كُلِّ شَعْبٍ، وَشَرْحُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ يَخْرُجُ بِنَا عَنِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الِاسْتِطْرَادِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْعِبْرَةِ مِنْ سِيَاقِ مَوْضُوعِنَا فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَاقَةَ الدِّينِ بِالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ وَقُوَّةِ الشَّعْبِ الْأَدَبِيَّةِ وَمُحَافَظَتِهِ عَلَى مُقَوِّمَاتِهِ وَمُشَخَّصَاتِهِ الْمِلِّيَّةِ تَحُولُ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ أَقْوَمِ الْأَدْيَانِ وَأَحَقِّهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالْإِيثَارِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ. وَيُسْتَعَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ بِنِظَامِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ مِنَ النِّظَامِ، وَلَكِنَّ أَطْوَارَ الِاجْتِمَاعِ سَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ وَاخْتِيَارِ الْأَصْلَحِ بِذَاتِهِ. وَلَا بُدَّ لَنَا مَعَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ دِينًا تَتَحَقَّقُ بِهِ هِدَايَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْدَرُهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَصَادِرِ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ، لِتُذْعِنَ لَهُ النَّفْسُ، وَتَخْضَعَ الْإِرَادَةُ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ قَوَاعِدَ لِدِينٍ عِلْمِيٍّ عَقْلِيٍّ اسْتَحْسَنُوهَا وَلَمْ يُذْعِنُوا لَهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُذِعِنُ إِلَّا لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُ وَلَهُ السُّلْطَانُ وَالْقَهْرُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يُدْرِكُهُ بِكَسْبِهِ فَهُوَ يَرَاهُ دُونَهُ وَمَقْهُورًا لِإِرَادَتِهِ ; لِذَلِكَ لَا يَخْضَعُ الْبَشَرُ لِكُلِّ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صَوَابٌ وَحَقٌّ فِي نَفْسِهِ، إِلَّا إِذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَطْعِ مِنْ سِيرَةِ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالِاخْتِلَافُ مِنْ طَبْعِهَا، فَالدِّينُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِصْلَاحِ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا فِي عَصْرِنَا هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ. (7) مَبْلَغُ عِلْمِ الْإِفْرِنْجِ بِالْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ: بَزَغَتْ شَمْسُ الْإِسْلَامِ فِي عَصْرٍ كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ شُعُوبِ الْأَرْضِ مُتَسَكِّعَةً فِي دَيَاجِيرِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدٍ لِأُورُبَّةَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْحَضَارَةِ

عَهْدُ الرُّومِ (الرُّومَانَ) الَّذِينَ فَتَحُوا أَعْظَمَ مَمَالِكِ الشَّرْقِ الْمُصَاقِبَةِ لِأُورُبَّةَ، وَكَانُوا قَوْمًا وَثَنِيِّينَ، ثُمَّ سَطَعَ عَلَيْهِمْ بَرِيقٌ مِنْ نُورِ الْإِنْجِيلِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمُ النَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ الزُّهْدِ وَالْإِيثَارِ وَالسَّلَامِ، وَلَكِنْ كَانَ إِفْسَادُهُمْ لَهَا أَقْوَى مِنْ إِصْلَاحِهَا لَهُمْ، فَأَحَالُوا تَوْحِيدَهَا وَثَنِيَّةً. وَحَوَّلُوا سِلْمَهَا حَرْبًا، وَبَدَّلُوا زُهْدَهَا إِسْرَافًا وَطَمَعًا، وَطَهَارَتَهَا فُحْشًا وَدَنَسًا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَهُوَ الْمُصْلِحُ الْأَعْظَمُ، الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَسَمَّاهُ الْفَارْقِلِيطَ رُوْحَ الْحَقِّ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، لَمْ يَلْبَثِ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ الْبَائِسُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ دَكُّوا لَهُمْ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ فِي الشَّرْقِ، وَثَلُّوا لَهُمْ عُرُوشَ مَا اسْتَعْمَرُوا مِنَ الْمَمَالِكِ وَطَرَدُوهُمْ مِنْ سُورِيَةَ وَمِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ، فَأَرَزُوا وَانْكَمَشُوا إِلَى أَوْطَانِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ فَصَارَ الْعَرَبُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَغْزُونَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي أُورُبَّةَ نَفْسِهَا وَتَلَاهُمُ التُّرْكُ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، فَصَبَرُوا إِلَى أَنْ أَمْكَنَهُمْ جَمْعَ كَلِمَةِ دُوَلِ أُورُبَّةَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَمَالِكِ الشَّرْقِيَّةِ بِالدَّعَايَةِ إِلَى إِنْقَاذِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَهْدِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ، فَكَانَتِ الْحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّارِيخِ بِفَظَائِعِهَا وَفُجُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا وَفَوَاحِشِهَا وَمَطَامِعِهَا، الَّتِي اقْتُرِفَتْ بِاسْمِ الْمَسِيحِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهَا. كَانَ مِنْ تَمْهِيدِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ دُعَاةِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَمُوقِدِي نَارِهَا أَنْ أَلَّفُوا كُتُبًا وَرَسَائِلَ كَثِيرَةً، وَزَوَّرُوا خُطَبًا بَلِيغَةً، وَنَظَمُوا أَنَاشِيدَ وَأَغَانِيَ مُهَيِّجَةً كُلَّهَا فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَشْوِيهِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَتَشْوِيهِ الْمَحَاسِنِ، وَمُحَاوَلَةِ جَعْلِ النُّورِ ظَلَامًا، وَالْحَقِّ بَاطِلًا، وَالْفَضِيلَةِ رَذِيلَةً، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَكْتَوْبَاتِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوبِ بِقَرْنٍ، أَدْهَشَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ، وَلَمْ تَلُحْ لَهَا صُورَةٌ فِي خَيَالٍ، لِمُبَايَنَتِهَا لِلْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْفُتُوحَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، رَحْمَةً وَعَدْلًا، وَكَرَمًا وَفَضْلًا، وَشَرَفًا وَنُبْلًا، وَكَذَا مَا دُوْنَهَا مِنَ الْحُرُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَمِنْ غَرَائِبِ ذَلِكَ الْبُهْتَانِ الْمُشَوَّهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَيْنَ دِينِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ مِنْ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ دِينَ وَثَنِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَصْنَامٍ - وَأَنَّهُمُ اخْتَلَقُوا لَهُ " ثَالُوثًا " وَأَصْنَامًا وَزَعَمُوا أَنَّ " مُحَمَّدًا نَفْسَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَاخْتَرَعُوا لَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْفَظِيعَةِ مَا تَعْجَزُ غَيْرُ تِلْكَ الْعُقُولِ الْمُظْلِمَةِ الْقَذِرَةِ عَنْ تَخَيُّلِهِ، وَيَتَنَزَّهُ كُلُّ ذِي وِجْدَانٍ بِشْرِيٍّ سَلِيمٍ عَنِ افْتِرَائِهِ، وَيَسْتَحِي غَيْرُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنَ النُّطْقِ بِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلْمَامٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي (كِتَابِ الْإِسْلَامُ. خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْمُسْتَشْرِقِ الْفَرَنْسِيِّ (الْكُونْتِ هِنَرِي دِي كَاسْتِرِي) وَتَرْجَمَتُهُ الْعَرَبِيَّةُ لِأَحْمَد فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول، وَحَسْبُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْهُ

فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَسْمَاءَ بَعْضِ تِلْكَ الْكُتُبِ الَّتِي لَفَّقُوهَا، وَالْأَنَاشِيدِ وَالْأَغَانِي الَّتِي نَظَمُوهَا فِيمَا ذَكَرَ، لِتَهْيِيجِ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى الزَّحْفِ مِنْ أُورُبَّةَ إِلَى الشَّرْقِ ; لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَضَاءِ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَانَتْ كُلُّ تِلْكَ الْمُفْتَرَيَاتِ الَّتِي تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَكَادُ يَتَصَدَّعُ لِتَصَوُّرِهَا الْحَجَرُ الْجُلْمُودُ، تُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنْ جَمَاهِيرِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ لِصُدُورِهَا عَنْ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الْمَعْصُومَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا تَزَالُ سُمُومُهَا تَسْرِي فِي أَرْوَاحِ الْمَلَايِينِ مِنْ نَابِتَتِهِمْ بِمَا يَنْفُثُهُ فِيهَا الْقِسِّيسُونَ الْمُرَبُّونَ، وَمَا يَكْتُبُهُ وَيَنْشُرُهُ الْمُبَشِّرُونَ، كَمَا بَيَّنَهُ اللُّورْدُ هِدِلِي الْإِنْكِلِيزِيُّ - بَعْدَ إِسْلَامِهِ - فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ تُرْجِمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَزَالُ نَرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ مُفْتَرَيَاتِهِمْ بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا مَا نَجْزِمُ بِأَنَّ الَّذِينَ يُدَوِّنُونَهُ فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ نَفْسِهَا ; لِاسْتِحَالَةِ إِبَاحَتِهَا لِلْكَذِبِ الَّذِي هُوَ شَرُّ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا. زَحَفَتِ الشُّعُوبُ الْأُورُبِّيَّةُ عَلَى سُورِيَةَ وَفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَرَفُوا فِيهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ مِثَالِ الْكَمَالِ وَالطَّهَارَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّحْمَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْأَرْجَاسِ وَالرَّذَائِلِ وَالْأَطْمَاعِ وَالْقَسْوَةِ، مَا لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمِثْلِهِ شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِ الْوَثَنِيَّةِ وَلَا الْقَبَائِلِ الْهَمَجِيَّةِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ، ثُمَّ عَادُوا مِنَ الشَّرْقِ مَخْذُولِينَ. مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَفَادُوا مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَدْلِ مَا كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِنَهْضَةِ أُورُبَّةَ الْأَخِيرَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ. يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ فَلَاسِفَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّارِيخِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا رِجَالُ السِّيَاسَةِ وَدُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فَلَا يَزَالُونَ يَفْتَرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَا تَزَالُ سِيَاسَةُ أُورُبَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَرْبًا صَلِيبِيَّةً إِلَى الْيَوْمِ. أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِالْإِيجَازِ سَبَبًا كَافِيًا لِجَهْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ شُعُوبِ أُورُبَّةَ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ. وَكِتْمَانِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَارِفِينَ لِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْهُ، وَتَشْوِيهِ رِجَالِ السِّيَاسَةِ وَالدَّعَايَةِ الدِّينِيَّةِ لَهُ، وَمُحَاوَلَةِ طَمْسِ نُورِهِ كُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ بَلَى، وَإِنَّهُمْ لَيَجِدُونَ مِنْ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينِ وَالْخُرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَى الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ مَا جَاءَتْهُمْ إِلَّا مِنْ تَعَالِيمِ دِينِهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَا جَاءَتْهُمْ إِلَّا مِنْ جَهْلِهِمْ لَهُ، وَتَرْكِهِمْ لِهِدَايَتِهِ، وَإِنَّهُمْ لِيَجِدُونِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ أَفْسَدَهُمُ التَّفَرْنُجُ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ عَنْ دِينِهِمْ مَنْ يُشَايِعُهُمْ أَوْ يُؤَيِّدُهُمْ فِي مَطَاعِنِهِمْ. زِدْ عَلَى هَذَا سَبَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ فُشُوُّ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَإِقْرَارُ بَعْضِ الْحُكُومَاتِ لَهَا حَتَّى الْحُكُومَةَ الْمِصْرِيَّةَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنْ أَسْبَابِ مُشَاقَّتِهَا لِحُكُومَةِ الْحِجَازِ بِدْعَةَ الْمَحْمَلِ، وَالَّتِي تَأْذَنُ بِاحْتِفَالَاتِ الْمَوَالِدِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْمَسَاجِدِ، أَضِفْ إِلَى هَذَا سَبَبًا رَابِعًا هُوَ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ

ضَعْفُ رِجَالِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْفُسُهِمْ، وَعَجْزُهُمْ عَنْ إِظْهَارِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ لِتِلْكَ الشُّعُوبِ، وَلِنَابِتَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَصْرِيَّةِ أَيْضًا بِالْبَيَانِ وَالْحُجَجِ الْمُنَاسِبَةِ لِحَالِ هَذَا الْعَصْرِ، وَمُقَاوَمَةُ بَعْضِهِمْ لِلْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ وَالْمَدَنِيِّ مَا اسْتَطَاعُوا، وَنِفَاقُ بَعْضِهِمْ لِلْأَجَانِبِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ شَرُّ آفَاتِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْدَى أَعْدَائِهِ، وَفِتْنَةٌ لِلَّذِينِ كَفَرُوا تَصُدُّهُمْ عَنْهُ: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60: 5) . هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَصْرِفُ الْأُورُبِّيِّينَ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ. (8) الرَّجَاءُ الْجَدِيدُ فِي اهْتِدَاءِ الْإِفْرِنْجِ بِالْإِسْلَامِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (41: 53) كَانَ نِظَامُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ رِجَالُ الدِّينِ فِي بِلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَحَيْثُ وُجِدَتْ لَهُمْ مَدَارِسُ وَكَنَائِسُ فِي غَيْرِهَا - كَانَ وَلَا يَزَالُ - مُهَيْمِنًا عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا شَيْءٌ يُخَالِفُ عَقِيدَتَهُمْ، فَإِنْ عَلِمُوا شَيْئًا مِنْهَا نَفَذَ إِلَيْهَا بَادَرُوا إِلَى نَزْعِهِ وَإِزَالَةِ تَأْثِيرِهِ، كَمَا يُبَادِرُ الْأَطِبَّاءُ إِلَى مُعَالَجَةِ مَنْ يُصَابُ بِمَرَضٍ مُعْدٍ أَوْ جُرْحٍ خَطِرٍ. بَيْدَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْفِكْرِ، وَحُبَّ الْعِلْمِ اللَّذَيْنِ تَغَلْغَلَا فِي أُورُبَّةَ بَعْدَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ قَاوَمَا هَذِهِ السَّيْطَرَةِ الْكَنِيسِيَّةِ، فَوُجِدَ تَعْلِيمٌ حُرٌّ، وَتَفْكِيرٌ حُرٌّ، وَتَصْنِيفٌ حُرٌّ، وَلَكِنَّ التَّرْبِيَةَ الْحُرَّةَ لَا تَزَالُ قَلِيلَةً وَضَعِيفَةً بِمَا لِلتَّأْثِيرِ السِّيَاسِيِّ وَالدِّينِيِّ مِنَ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ. أَعْقَبَتْ هَذِهِ الْحُرِّيَّاتُ وَمَا اقْتَضَاهُ الْأَخِصَّاءُ فِي فُرُوعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، مِنْ عِنَايَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِدِرَاسَةِ الْكُتُبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَكَانَ مِمَّا أَثْمَرَتْهُ سِيَاحَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَنِ اطَّلَعَ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ مِنْ كُلِّ شَعْبٍ مِنْ شُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامُ الصَّحِيحَةِ، وَتَرْجَمُوا كَثِيرًا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ، وَشَاهَدُوا عِبَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِتَارِيخِهِمْ وَسَمَحَ اتِّسَاعُ حُرِّيَّةِ الْعِلْمِ لِمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْهُمْ أَنْ يُصَرِّحُوا قَوْلًا وَكِتَابَةً بِمَا عَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَشَهِدَ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ بِأَنَّ عَقِيدَةَ الْإِسْلَامِ أَكْمَلُ عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ الَّتِي يَتَقَبَّلُهَا الْعَقْلُ السَّلِيمُ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّ عِبَادَاتِهِ مُوَافِقَةٌ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ عَادِلَةٌ، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً فَنَّدُوا فِيهَا مَطَاعِنَ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَنَارِ، مِنْ أَهَمِّهَا مَا جَاءَ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ (مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ) لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ. وَمِنْهَا كِتَابُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِلْأُسْتَاذِ أَرْنُولْدَ الْإِنْكِلِيزِيِّ. وَقَدْ كَتَبَ فَيْلَسُوفُ التَّارِيخِ وَالِاجْتِمَاعِ غُوسْتَافُ لُوبُونُ الْفَرَنْسِيُّ رُقْعَةً بَرِيدِيَّةً لِأَدِيبٍ تُرْكِيٍّ بَعْدَ الْحَرْبِ الْكُبْرَى قَالَ فِيهَا: إِنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا كَبِيرًا فِي (حَضَارَةِ الْعَرَبِ) ; لِيُثْبِتَ لِقَوْمِهِ أَنَّ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ أَسَاتِذَةُ أُورُبَّةَ كُلِّهَا فِي مَدَنِيَّتِهَا الْحَاضِرَةِ وَعُلُومِهَا. (قَالَ) : وَلَكِنَّ التَّرْبِيَةَ الْإِكْلِيرْكِيَّةَ

(الْكَاثُولِيكِيَّةَ) الْمُسَيْطِرَةَ عَلَى أَكْثَرِ الشَّعْبِ حَالَتْ دُونَ عِلْمِهِ وَإِذْعَانِهِ لِذَلِكَ اهـ. وَلَا نَزَالُ نَنْشُرُ بَعْضَ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَكَانَ آخِرُهَا مَا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْعَامِ (1348 هـ) مِنْ مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْعَالِمِ السُّوِيسْرِيِّ (مِسْيُو مُونْتِيهَ) الَّذِي أَظْهَرَ فِيهَا تَعَجُّبَهُ مِنْ إِيمَانِ نَصَارَى أُورُبَّةَ بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَكَرَ مِنْ خَبَرِ نُبُوَّتِهِ مَا هُوَ خُلَاصَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَإِنَّمَا عَثَرَتْ أَفْكَارُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي عَثَرَتْ فِيهَا أَقْلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِهَا وَلَا لِبَيَانِهَا كَمَا يَجِبُ، وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْمُخَالِفَةِ لِتَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ كَالطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَهِيَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَسَائِلِ الضَّرُورَاتِ، ثُمَّ قَبِلَتْ جَمِيعُ شُعُوبِهِمْ وَحُكُومَاتِهِمْ حُكْمَ الطَّلَاقِ، وَأَفْرَطُوا فِيهِ بِمَا لَا يُبِيحُهُ الْإِسْلَامُ، وَلَوْلَا فُشُوُّ الزِّنَا فِي بِلَادِهِمْ لَاضْطُرُّوا إِلَى قَبُولِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَيْضًا، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ أُورُبَّةَ الَّذِينَ اغْتَالَتْ حَرْبُ الْمَدَنِيَّةِ الْأَخِيرَةُ زُهَاءَ عِشْرِينَ مِلْيُونًا مِنْ رِجَالِهِمْ. وَتَصَدَّى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْقَرْنِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ، ثُمَّ فِي غَيْرِهَا فَأَسْلَمَ بَعْضُ النَّاسِ بِدَعْوَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا تَزَالُ ضَعِيفَةً بِضَعْفِ عِلْمِ أَكْثَرِ دُعَاتِهَا، وَابْتِدَاعٍ فِي بَعْضِ الْهُنُودِ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَسْلَمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى كَثْرَةِ مَا فِي هَذِهِ التَّرَاجُمِ مِنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الشَّرْقِ يُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْوُجَهَاءِ مِنْهُمْ وَأَصْحَابِ الْعَلَاقَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِعَشَائِرِهِمْ وَعُشَرَائِهِمْ يَكْتُمُونَ إِسْلَامَهُمْ، وَيُخْفُونَ عِبَادَاتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةَ عَنْهُمْ، وَقَدِ اعْتَرَفَ لِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَلْبَسُونَ (الْبُرْنِيطَةَ) بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ مُعَاشَرَةٍ طَوِيلَةٍ كَانَ يَسْأَلُنِي فِيهَا سُؤَالَ الْمُسْتَفِيدِ عَنْ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ، وَيَتَلَقَّى أَجْوِبَتِي بِالِارْتِيَاحِ - وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيَّ كِتْمَانَ خَبَرِهِ. وَكَانَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْإِدَارَةِ (قَائِمْقَامَ) فِي لِبْنَانَ صَدِيقًا لِوَالِدِي، وَكَانَ يَزُورُنَا فَيُكْثِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، ثُمَّ مَرِضَ فَعَادَهُ وَالِدِي بِدَارِهِ فِي مَرْكَزِ عَمَلِهِ فَخَلَا بِهِ، فَاعْتَرَفَ لَهُ فِي هَذِهِ الْخَلْوَةِ بِإِسْلَامِهِ وَاضْطِرَارِهِ لِكِتْمَانِهِ عِدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّنِي أَشْعُرُ الْآنَ بِقُرْبِ الْأَجَلِ فَأُشْهِدُكَ عَلَى أَنَّنِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَعَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَمُوتُ. وَلَوْ كَانَ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ عَزِيزَةٌ تُحْيِي حَضَارَتَهُ، وَتُقِيمُ شَرِيعَتَهُ لِرَأَيْنَا النَّاسَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا. هَذَا وَإِنَّ الَّذِينَ يُعَاشِرُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ وَيَقْدِرُونَ عَلَى بَيَانِهِ - مِنْ عُقَلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يَعْجَبُونَ مِمَّا يَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى لَيَشُكَّ أَكْثَرُهُمْ فِي أَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.

أَذْكُرُ أَنَّهُ قَالَ لِي اسْكَنْدَرُ كَاسْتِفْلِيسُ زَعِيمُ نَصَارَى طَرَابُلُسِ الشَّامِ فِي عَهْدِهِ - وَكَانَ قُنْصُلًا لِرُوسِيَّةَ وَأَلْمَانِيَّةَ فِيهَا - بِمُنَاسَبَةِ مُذَاكَرَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِدَارِهِ وَكُنْتُ تِلْمِيذًا: إِنَّ عِنْدَكُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ مِثْلَ الْجِبَالِ وَلَكِنَّكُمْ دَفَنْتُمُوهَا وَأَخْفَيْتُمُوهَا بِسِيرَتِكُمْ، وَعِنْدَنَا شَيْءٌ قَلِيلٌ مَدَّدْنَاهُ وَكَبَّرْنَاهُ حَتَّى مَلَأَ الْأَرْضَ، مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ " حُبِّ اللهِ وَالْقَرِيبِ ". وَذَكَرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ أَنَّنِي عَاشَرْتُ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوا بَعْضَ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ بِمِصْرَ، فَكُنْتُ كُلَّمَا ذَكَرْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ يَتَعَجَّبُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ يَعْتَقِدُ هَذَا، أَوْ هَذَا فَلْسَفَةٌ لَا دِينٌ، وَأَنَّهُ قَالَ لِي مَرَّةً إِنْ كَانَ مَا تَقُولُهُ هُوَ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَازِحًا: إِمَّا أَنْ أَكُونَ أَنَا مُسْلِمًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَنْتَ كَافِرًا! ! وَفَسَّرَ هَذِهِ بِكَلِمَةٍ ثَالِثَةٍ قَالَهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ خُلَاصَتُهَا: إِذَا سَأَلْنَا عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ عَمَّا تَقُولُهُ أَنْتَ وَالشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْإِسْلَامِ فَوَافَقُوا عَلَيْهِ فَأَنَا أُعْلِنُ إِسْلَامِي، وَلَكِنْ أَرَى أَنَّكُمَا أُوتِيتُمَا مِنَ الْعِلْمِ الْفَلْسَفَةَ الْعَالِيَةَ فِي الدِّينِ مَا لَا يُنْكِرُهُ عَالِمٌ عَاقِلٌ، فَأَنْتُمَا تُسْنِدَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ يُبَايِنُهُ. قُلْتُ لَهُ: إِنَّنِي مُسْتَعِدٌّ لِإِثْبَاتِ كُلِّ مَا أَقُولُهُ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَكُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ فَاسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ، وَدَلَلْتُهُ عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ أَنَّ كُلَّ مَا أَقُولُهُ لَهُ كَذَلِكَ. وَنَشَرْتُ فِي الْمَنَارِ شَهَادَةَ لُورْدِ كُرُومَرَ بِنَجَاحِ الْإِسْلَامِ فِي عَقَائِدِهِ الْقَائِمَةِ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ، وَنِظَامِهِ الْمَدَنِيِّ وَعَدْلِهِ، ثُمَّ نَشَرْتُ شَهَادَةَ لُورْدِ كَتْشِنَرَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِالْعَدْلِ، وَبِأَنَّهَا خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوَانِينِ أُورُبَّةَ نَشَرْتُ هَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي أَيَّامِ حَيَاةِ اللُّورْدَيْنِ فَكَانَتَا مَثَارَ الْعَجَبِ لِبَعْضِ النَّاسِ ; لِأَنَّ رِجَالَ السِّيَاسَةِ قَلَّمَا يُصَرِّحُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْإِسْلَامِ وَهُمْ خُصُومُ أَهْلِهِ. وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ حَدَّثَنِي تَاجِرٌ مُسْلِمٌ مُقِيمٌ فِي مَدِينَةِ مَانْشِسْتَرَ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ أَنَّهُ حَضَرَ وَعْظَ قِسِّيسٍ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ الْمُوَحِّدِينَ فِي كَنِيسَتِهِ فَكَانَ مِنْ وَعْظِهِ إِثْبَاتُ فَضَائِلِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالرَّدُّ عَلَى مُفْتَرَيَاتِ الْمُبَشِّرِينَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا زَعْمُهُمْ أَنَّهُ كَانَ شَهْوَانِيًّا هَمُّهُ فِي التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ. قَالَ الْقَسُّ: إِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَحْتَقِرُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَثِّرَ تَأْثِيرًا صَالِحًا فِي قُلُوبِ الْأُلُوفِ وَالْمَلَايِينِ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ أَمْكَنَ لِمُحَمَّدٍ إِذًا أَنْ يَهْدِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْعَظِيمَةَ، وَتَنْتَشِرَ فِي هِدَايَتِهِ فِي الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَقَرَأَ فِي صِلَاتِهِ شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ.

الْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْخُلَاصَةُ الصَّحِيحَةُ لِدِينِ اللهِ الْحَقِّ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، الَّذِينَ لَمْ يُحْفَظُ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِهِمْ كُلُّهُ كَمَا بَلَّغُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ، وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهَا يُنَافِي مَصَالِحَهُمْ كَتَشْدِيدَاتِ التَّوْرَاةِ فِي أُمُورِ الْمَعِيشَةِ وَالْحَرْبِ، وَأَثَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْبَشَرِ، وَتَشْدِيدِ الْأَنَاجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا. وَقَدْ نَسَخَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ جُلَّ مَا جَاءُوا بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِشُعُوبِهِمْ فِي أَزْمِنَتِهَا، وَزَادَ عَلَيْهَا مَا أَكْمَلَهَا بِهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُبَيِّنًا إِيَّاهَا أَكْمَلَ الْبَيَانِ، مُؤَيَّدًا بِأَوْضَحِ الْبُرْهَانِ، مَعَ أُصُولِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَانَ مِنْ بَرَاهِينِ صِحَّتِهِ ظُهُورُ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ، وَلَمْ يُعَاشِرِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْعَارِفِينَ بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ. وَمِنْ مُعْجِزَاتِ كِتَابِهِ الْخَالِدَةِ - وَرَاءَ إِعْجَازِهِ لِلْبَشَرِ بِعُلُومِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ عَنِ الْغَيْبِ وَبِبَلَاغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي يَعْلُو جَمِيعَ كَلَامِ الْبَشَرِ - أَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ لَمْ يَنْقُضْ شَيْئًا مِنْهُ. فَلَا وَسِيلَةَ لِإِنْقَاذِ الْعَالِمِ الْمَدَنِيِّ الْعَصْرِيِّ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمَادِّيَّةِ، وَالْفَوْضَى الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، وَتَعَارُضِ الْمَذَاهِبِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ، إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الْوَسَطِ كَمَا يَعْتَرِفُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى مِنَ الْمَادِّيِّينَ، وَقَدْ قَوِيَ اسْتِعْدَادُ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ إِذَا أَمْكَنَ بَيَانُهُ لَهُمْ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَبَيَّنَهُ رَسُولُهُ الْأَعْظَمُ بِسُنَّتِهِ الْمُتَّبَعَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ سَلِيمَةً مِنَ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ الْمَذْهَبِيَّةِ، وَالْخُرَافَاتِ التَّصَوُّفِيَّةِ، وَكَانَ حَكِيما الْإِسْلَامِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْدُهُ يَعْتَقِدَانِ أَنَّ مَآلَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى الْإِسْلَامِ، إِسْلَامِ الْقُرْآنِ لَا إِسْلَامِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ، وَكَثِيرٍ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَخْذِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ - بِالْوِرَاثَةِ دُونَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - إِلَى أَخْذِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ عُلُومَ الْإِسْلَامِ عَنِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَبَدَءُوا يُقَلِّدُونَ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي أَمْرِيكَةَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَرْكِ شُرْبِ الْخَمْرِ. إِنَّ الْإِفْرِنْجَ وَلَا سِيَّمَا أُولِي التَّرْبِيَةِ الْحُرَّةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ مِنْهُمْ يَقْرُبُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا يُرْجَى اهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ بِتَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ غَنِيَّةٍ ; لِنَشْرِ دِعَايَتِهِ فِي أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَهَذَا مَا كُنَّا شَرَعْنَا فِيهِ مُنْذُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، إِذْ أَنْشَأْنَا جَمْعِيَّةَ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَمَدْرَسَةَ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ لَهَا، وَكُنَّا قَدْ وُفِّقْنَا لِتَقْرِيرِ وِزَارَةِ الْأَوْقَافِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمِصْرَ لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمَدْرَسَةِ، وَلَكِنَّ الدَّسَائِسَ الْأَجْنَبِيَّةَ فَازَتْ بِحَمْلِ وِزَارَةِ الْأَوْقَافِ عَلَى إِلْغَاءِ هَذِهِ الْإِعَانَةِ فِي زَمَنِ

الْحَرْبِ الْكُبْرَى، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْنِيَاءِ السُّفَهَاءِ، وَلَا مِنْ أُمَرَائِهِمُ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ لَاحَ فِي مَهْدِ الْإِسْلَامِ نُورٌ جَدِيدٌ لِإِحْيَاءِ هَذَا الدِّينِ هُوَ الْآنَ مَحْمَلُ الرَّجَاءِ لِجَمِيعِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُصْلِحِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (38: 88) . (تَفْسِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيْنَ مَا فِي قَوْلِهِ: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ مِنَ الْإِجْمَالِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطْلَقُوا لَقَبَ ابْنِ اللهِ عَلَى عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا، كَمَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَمْ يُضَاهِئُوا بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ لَمَا كَانُوا بِهِ كُفَّارًا، وَإِنَّمَا كَانُوا كُفَّارًا بِهَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْمُضَاهَأَةِ وَبَيَّنَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ. الْأَحْبَارُ: جَمْعُ حَبْرٍ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا - وَهُوَ الْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالرُّهْبَانُ: جَمْعُ رَاهِبٍ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْخَائِفُ، وَهُوَ عِنْدَ النَّصَارَى الْمُتَبَتِّلُ الْمُنْقَطِعُ لِلْعِبَادَةِ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِدْعَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ (57: 27) وَكَانَتْ نِيَّتُهُمْ فِيهَا صَالِحَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَأْثِيرُ مَوَاعِظِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الزُّهْدِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، ثُمَّ صَارَ أَكْثَرُ مُنْتَحِلِيهَا مِنَ الْجَاهِلِينَ وَالْكُسَالَى فَكَانَتْ عِبَادَتُهُمْ صُورِيَّةً أَعَقَبَتْهُمْ رِيَاءً وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِتَعْظِيمِ الْعَامَّةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَلَمَّا صَارَتِ النَّصْرَانِيَّةُ ذَاتَ تَقَالِيدَ مُنَظَّمَةٍ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ وَضَعَ رُؤَسَاؤُهُمْ نُظُمًا وَقَوَانِينَ لِلرَّهْبَانِيَّةِ وَلِمَعِيشَتِهِمْ فِي الْأَدْيَارِ. وَصَارَ لَهَا عِنْدَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ يَشْكُوا بَعْضُ أَحْرَارِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِهِمْ فِيهَا. فَكَانَ ذَلِكَ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَلَفِهِمُ الْمُخْلِصِينَ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَفِي خَلَفِهِمُ الْمُرَائِينَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (57: 27) وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَحْرِيرِ الْقُرْآنِ لِلْحَقَائِقِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَبِيرَةِ بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ هِيَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ فِيهَا. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُحْيِيَنَا وَيُوَفِّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا. وَالْمَعْنَى: اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رُؤَسَاءَ الدِّينِ فِيهِمْ أَرْبَابًا، فَالْيَهُودُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ فِيهِمْ أَرْبَابًا، بِمَا أَعْطَوْهُمْ مِنْ حَقِّ التَّشْرِيعِ فِيهِمْ وَأَطَاعُوهُمْ فِيهِ، وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا رُهْبَانَهُمْ أَيْ عُبَّادَهُمُ الَّذِينَ يَخْضَعُ الْعَوَامُّ لَهُمْ أَرْبَابًا كَذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ جُمْلَةَ رِجَالِ الدِّينِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ

فَذُكِرَ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ مَا حُذِفَ مُقَابِلُهُ مِنَ الْآخَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاحْتِبَاكِ - أَيْ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ وَرَبَّانِيِّهِمْ وَالنَّصَارَى قُسُوسَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا غَيْرَ اللهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ، بِإِعْطَائِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ لَهُمْ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ حَقُّ الرَّبِّ تَعَالَى، وَالرُّهْبَانُ عِنْدَ النَّصَارَى أَدْنَى طَبَقَاتِ رِجَالِ الدِّينِ، فَاتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا يَسْتَلْزِمُ اتِّخَاذَ مَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الْأَسَاقِفَةِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْبَطَارِقَةِ بِالْأَوْلَى، فَالرُّهْبَانُ يَخْضَعُونَ لِتَشْرِيعِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ مُدَوَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُدَوَّنٍ، وَالْعَوَامُّ يَخْضَعُونَ لِتَشْرِيعِ الرُّهْبَانِ وَلَوْ غَيْرَ مُدَوَّنٍ سَوَاءً قَالُوهُ بِالتَّبَعِ لِمَنْ فَوْقَهُمْ أَوْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ ; لِثِقَتِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَكَذَلِكَ اتَّخَذُوا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ رَبًّا وَإِلَهًا. أَشْرَكَ تَعَالَى بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي اتِّخَاذِ رِجَالِ الدِّينِ أَرْبَابًا شَارِعِينَ، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا انْفَرَدَ بِهِ النَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ مِنِ اتِّخَاذِهِمُ الْمَسِيحَ رَبًّا وَإِلَهًا يَعْبُدُونَهُ، وَالْيَهُودُ لَمْ يَعْبُدُوا عُزَيْرًا، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَمَّنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللهِ أَنَّهُمْ عَنُوا مَا يَعْنِيهِ النَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ: إِنَّهُ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ، وَمِنَ النَّصَارَى مَنْ يَعْبُدُونَ أُمَّهُ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً وَيُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ، وَجَمِيعُ الْكَاثُولِيكِ وَالْأَرْثُوذُكْسِ يَعْبُدُونَ تَلَامِيذَهُ وَرُسُلَهُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ فِي عُرْفِهِمْ، يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ فِي كَنَائِسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا عِبَادَةً فِي الْغَالِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ فِي الْمِلَّةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَمَّا اتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا بِالْمَعْنَى الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَقَدْ كَانَ عَامًّا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَلْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا مِنَ الشَّرَائِعِ اللِّسَانِيَّةِ عَنْ رُؤَسَائِهِمْ مَا كَانَ خَاصًّا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدَوِّنُوهُ فِي الْمِشْنَةِ وَالتِّلْمُودِ، ثُمَّ دَوَّنُوهُ فَكَانَ هُوَ الشَّرْعَ الْعَامَّ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا النَّصَارَى: فَقَدْ نَسَخَ رُؤَسَاؤُهُمْ جَمِيعَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَويَّةَ عَلَى إِقْرَارِ الْمَسِيحِ لَهَا، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا شَرَائِعَ كَثِيرَةً فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا. وَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ انْتِحَالَهُمْ حَتَّى مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ لِمَنْ شَاءُوا وَحِرْمَانٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَمَلَكُوتِهِ. وَهَذَا حَقُّ اللهِ وَحْدَهُ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ (3: 135) ؟ أَيْ لَا أَحَدَ. وَالْقَوْلُ بِعِصْمَةِ الْبَابَا رَئِيسِ الْكَنِيسَةِ فِي تَفْسِيرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ " كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ

عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَرَّ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ قَدْ تَنْصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أُخْتِهِ وَأَعْطَاهَا، فَرَجَعَتْ إِلَى أَخِيهَا فَرَغَّبَتْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي الْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَدِمَ عَدِيٌّ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ طَيِّءٍ، وَأَبُوهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْكَرَمِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِي عُنُقِ عَدِيٍّ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، فَقَالَ: " بَلَى، إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: يَا عَدِيُّ مَا تَقُولُ؟ أَيَضُرُّكَ أَنْ يُقَالَ اللهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللهِ؟ مَا يَضُرُّكَ؟ أَيَضُرُّكَ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ؟ " ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ " إِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ " وَهَكَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. اهـ وَسَنَذْكُرُ فِي إِسْلَامِهِ حَدِيثًا آخَرَ قَرِيبًا. وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِي الْآيَةِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُنْقَلَ بِنَصِّهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوْفِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِهِ (الْإِشَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ) أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ فِي الْقُرْآنِ - مَا نَصُّهُ: " أَمَّا الْمَسِيحُ فَاتَّخَذُوهُ رَبًّا مَعْبُودًا بِالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا الْأَحْبَارُ لِلْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ لِلنَّصَارَى، فَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مَجَازًا ; لِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ فَأَطَاعُوهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَطَاعُوهُمْ فِيهِ فَصَارُوا كَالْأَرْبَابِ لَهُمْ بِجَامِعِ الطَّاعَةِ، وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ عِنْدَ صُعُودِهِ عَنْهُمْ: مَا حَلَلْتُمُوهُ فَهُوَ مَحْلُولٌ فِي السَّمَاءِ. وَمَا رَبَطْتُمُوهُ فَهُوَ مَرْبُوطٌ فِي السَّمَاءِ، فَمِنْ ثَمَّ إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا جَاءَ بِالْقُرْبَانِ إِلَى الْبُتْرُكِ وَالرَّاهِبِ، وَقَالَ: يَا أَبُونَا اغْفِرْ لَنَا - بِنَاءً عَلَى أَنَّ خِلَافَةَ الْمَسِيحِ مُسْتَمِرَّةٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ مِنِ ابْتِدَاعَاتِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا (9: 31) الْآيَةَ - بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمَسِيحِ: يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ (5: 72) اهـ أَقُولُ: أَمَّا عِبَارَتُهُ فِي الْحَلِّ وَالرَّبْطِ فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِتَرْجَمَةِ الْيَسُوعِيِّينَ فِي التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ الْأَمِيرِكَانِيَّةُ فَهِيَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ هَكَذَا (مَتَّى 18: 18 الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ) وَأَمَّا أَمْرُ الْمَسِيحِ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ رَبِّهِ وَرَبِّهِمْ، وَكَذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَسَيَأْتِي

وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ) : الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْبَابِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ آلِهَةُ الْعَالَمِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي أَوَامِرِهِمْ وَنَوَاهِيهِمْ نُقِلَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَانْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَوَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟ - قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: - فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ " وَقَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. (ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ) قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ مَسَائِلَ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَلْفِتُوا إِلَيْهَا. وَبَقَوْا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا؟ وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا اهـ. ثُمَّ قَالَ: (فَإنْ قِيلَ) بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَفَّرَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ فَالْفَاسِقُ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ. (وَالْجَوَابُ) أَنَّ الْفَاسِقَ وَإِنْ كَانَ يَقْبَلُ دَعْوَةَ الشَّيْطَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَظِّمُهُ لَكِنْ يَلْعَنُهُ وَيَسْتَخِفُّ بِهِ، أَمَّا أُولَئِكَ الْأَتْبَاعُ كَانُوا (؟) يَقْبَلُونَ قَوْلَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، وَيُعَظِّمُونَهُمْ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. قَالَ: (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْجُهَّالَ وَالْحَشْوِيَّةِ إِذَا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَقُدْوَتِهِمْ، فَقَدْ يَمِيلُ طَبْعُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ، وَالِاتِّحَادِ، وَذَلِكَ الشَّيْخُ إِذَا كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ يُلْقِي إِلَيْهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ، وَشَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُزَوِّرِينَ مِمَّنْ كَانَ بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَأَصْحَابَهُ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ عَبِيدِي، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ أَشْيَاءَ، وَلَوْ خَلَا بِبَعْضِ الْحَمْقَى مِنْ أَتْبَاعِهِ فَرُبَّمَا ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ .

(قَالَ) : وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا كَانُوا مُخَالِفِينَ فِيهِ لِحُكْمِ اللهِ - وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْهُمْ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ فَكَفَرُوا بِاللهِ - فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ - وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّهِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مُشَاهَدٌ وَوَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ. (يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد) : إِنَّنَا أَوْرَدْنَا هَذَا عَنْ هَذَيْنِ الْمُفَسِّرَيْنِ مِنْ أَشْهَرِ مُفَسِّرِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَأَكْبَرِ نُظَّارِهَا ; لِيَعْتَبِرَ بِهِ مُسْلِمُو هَذَا الْعَصْرِ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ شُيُوخَ مَذَاهِبِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، بِدُونِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللهِ قَطْعِيِّ الدِّلَالَةِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ ظَاهِرِ الدِّلَالَةِ أَيْضًا، بَلْ فِيمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ وَكَذَا أُصُولَ أَئِمَّتِهِمْ أَيْضًا - وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَشَايِخَ الطُّرُقِ فِي بِدَعِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَيُوجَدُ فِيهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ هُمْ مِثْلَ مَنْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ، وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ مُعَاصِرٍ مِنَ الدَّجَّالِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مِصْرَ، أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الزَّائِرِينَ لَهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْخُرَافَاتِ: إِنَّ مُرِيدِيَّ وَأَتْبَاعِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّنِي أَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَاذَا أَفْعَلُ؟ وَبَلَغَنِي عَنْ رَجُلَيْنِ لَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَأَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ أَحَدَ تَلَامِيذِ هَذَا الدَّجَّالِ يَقُولُ: نَوَيْتُ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِسَيِّدِي الشَّيْخِ فُلَانٍ - أَوْ قَالَ: لِوَجْهِ الشَّيْخِ فُلَانٍ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ لِمُنْتَحِلِي الْفِقْهِ الْمَذْهَبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، وَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَنَصَّ الْقُرْآنِ، فَهَذَا دَاءٌ عَامٌّ قَلَّمَا كُنْتَ تَجِدُ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ فِي الْبَلَدِ الْكَبِيرِ أَحَدًا يُخَالِفُهُ، فَيُؤْثِرُ مَا صَحَّ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِ مَذْهَبِهِ إِلَّا أَفْرَادًا غَيْرَ مُجَاهِرِينَ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ رَأَيْنَا تَأْثِيرًا كَبِيرًا لِدَعْوَتِنَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى هِدَايَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَصَارَ يُوجَدُ فِي مِصْرَ وَغَيْرِهَا أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ إِلَيْهَا، وَأُولُو الْجَمْعِيَّاتِ الَّتِي أُسِّسَتْ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى نَشْرِهَا، عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِهِمَا. وَجَهْلِ بَعْضِهِمْ أَصْلَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَمَنْ جَدَّدَ نَشْرَهَا. (وَقَالَ) السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ) مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، عَنِ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللهِ، وَتَأْثِيرِ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ، عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَقَامَتْ بِهِ حُجَجُ اللهِ وَبَرَاهِينُهُ، وَنَطَقَتْ بِهِ كُتُبُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ، هُوَ كَاتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، بَلْ أَطَاعُوهُمْ، وَحَرَّمُوا

مَا حَرَّمُوا، وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا، وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَةِ، وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ، وَالْمَاءِ بِالْمَاءِ. فَيَا عِبَادَ اللهِ، وَيَا أَتْبَاعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا، وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللهِ لَهُمْ بِهِمَا، وَطَلَبِهِ لِلْعَمَلِ مِنْهُمْ بِمَا دَلَّا عَلَيْهِ وَأَفَادَاهُ؟ فَعَمِلْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعَمَّدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ، وَلَمْ تُعَضَّدْ بِعَضُدِ الدِّينِ، وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ، وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَيُبَايِنُهُ، فَأَعَرْتُمُوهُمَا آذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَفْهَامًا مَرِيضَةً، وَعُقُولًا مَهِيضَةً، وَأَذْهَانًا كَلَيْلَةً، وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً، وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ: وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدِ فَدَعُوا أَرْشَدَكُمُ اللهُ وَإِيَّايَ كُتُبًا كَتَبَهَا لَكُمُ الْأَمْوَاتُ مِنْ أَسْلَافِكُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا كِتَابَ اللهِ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِكُمْ، وَمُتَعَبَّدِهِمْ وَمُتَعَبَّدِكُمْ، وَمَعْبُودِهِمْ وَمَعْبُودِكُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِأَقْوَالِ مَنْ تَدْعُونَهُمْ بِأَئِمَّتِكُمْ، وَمَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الرَّأْيِ أَقْوَالَ إِمَامِكُمْ وَإِمَامِهِمْ، وَقُدْوَتِهِمْ وَقُدْوَتِكُمْ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَمَا آمِنٌ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ اللهُمَّ هَادِيَ الضَّالِّ مُرْشِدَ التَّائِهِ مُوَضِّحَ السَّبِيلِ اهْدِنَا إِلَى الْحَقِّ، وَأَرْشِدْنَا إِلَى الصَّوَابِ، وَأَوْضِحْ لَنَا مَنْهَجَ الْهِدَايَةِ، اهـ. (أَقُولُ) : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَرْبَابِ غَيْرُ اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ، وَأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، فَإِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُهُمْ، وَمُرَبِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ بِسُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ، وَشَارِعُ الدِّينِ لَهُمْ، وَأَمَّا الْإِلَهُ فَهُوَ الْمَعْبُودُ بِالْفِعْلِ، أَيِ: الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ بِالْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالتُّرُوكِ، لِلْقُرْبَةِ وَرَجَاءِ الثَّوَابِ وَمَنْعِ الْعِقَابِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِالْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفَةِ إِذْ هُوَ مُسَخِّرُهَا، وَبِغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ، وَالْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ مِنَ الْبَشَرِ مَنْ يَتْرُكُ عِبَادَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَّخِذُ أَصْنَامًا تَعْبُدُهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهَا أَرْبَابًا، بَلْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ اللهَ الْخَالِقَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ، وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا مِنْ دُونِهِ لَا بَشَرًا وَلَا مَلَكًا وَلَا شَيْئًا سُفْلِيًّا وَلَا عُلْوِيًّا. فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ إِنْسَانًا أَوْ مَلَكًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللهُ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى تَدْبِيرِ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِقُدْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْعَامَّةِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا. وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَى أَيَّ

إِنْسَانٍ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ كَالْأَوْرَادِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ شَعَائِرَ مَوْقُوْتَةً كَالْفَرَائِضِ، وَبِالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُتَّبَعُ خَوْفًا مِنْ سُخْطِ اللهِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ - فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَأَمَّا إِذَا دَعَاهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ بِمَا لَهُمْ مِنَ الْكَسْبِ فِي دَائِرَةِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ سَجَدَ لَهُ أَوْ ذَبَحَ الْقَرَابِينَ لَهُ، وَذَكَرَ عَلَيْهَا اسْمَهُ، أَوْ طَافَ بِقَبْرِهِ وَتَمَسَّحَ بِهِ وَقَبَّلَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَعَطْفِهِ أَوْ إِرْضَائِهِ اللهَ عَنْهُ، وَتَقْرِيبِهِ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ - وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَعَ هَذَا أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ - فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا لَا رَبًّا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ الْمُشْرِكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّا هَذَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْقَطْعِيَّةِ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ شَارِعُ الدِّينِ، وَأَنَّ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ عَنْهُ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ (42: 48) وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (5: 99) وَفَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْحَصْرِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الدِّلَالَاتِ. وَأَرْكَانُ الدِّينِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بَيَانِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمُرَادِهِ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ: (1) الْعَقَائِدُ. (2) الْعِبَادَاتُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُقَيَّدَةُ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْعَدَدِ، كَكَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْمَعْدُودَةِ، الْمَشْرُوطِ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ. (3) التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ نَصٌّ، وَمَدَارُهُ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ، وَعَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَكَلَامُهُمْ كَثِيرٌ فِي هَذَا، وَلَا سِيَّمَا التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُنَا هُنَا وَكَوْنُهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدِّلَالَةِ. نَقَلَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُطْلِقُوا الْحَرَامَ إِلَّا عَلَى مَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ قَطْعًا، وَذَكَرَ عَقِبَهُ أَنَّ فِي إِطْلَاقِ الْحَرَامِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ رِوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ. وَنَحْنُ نَقُولُ يَكْفِينَا هَدْيُ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحًا لِلرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ وَتَضْعِيفًا لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ جَرَى عَلَيْهَا الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ الْمُقَلِّدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْعَوَامُّ حَتَّى عَسَّرُوا مَا يَسَّرَهُ اللهُ مِنْ دِينِهِ، وَأَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَى اللهُ تَعَالَى قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (22: 78) وَمَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (5: 6) وَيُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2: 185) . وَرَوَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ بِعِبَارَةٍ أَخَصَّ وَأَقْوَى وَهِيَ: "

أَدْرَكْتُ مَشَايِخَنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ فِي الْفُتْيَا أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيِّنًا بِلَا تَفْسِيرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ السَّائِبِ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَكَانَ أَفْضَلَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ إِنَّ اللهَ أَحَلَّ هَذَا أَوْ رَضِيَهُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أَرْضَهُ - وَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ، وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَفْتَوْا بِشَيْءٍ أَوْ نَهَوْا عَنْهُ قَالُوا هَذَا مَكْرُوهٌ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. فَأَمَّا أَنْ نَقُولَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا " اهـ. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَذَا النَّقْلَ وَلَا مَضْمُونَهُ، بَلْ أَقَرَّهُ وَمَا كَانَ لِيُقِرَّ مِثْلُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ. وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ السَّلَفِ هُوَ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ وَكِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ فَأَقْوَى الْحُجَجِ فِيهِمَا مَا عُلِمَ نَصًّا وَعَمَلًا مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَحْرِيمًا عَامًّا تَشْرِيعِيًّا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ دِلَالَةً ظَنِّيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (2: 219) بَلْ تَرَكَ الْأَمْرَ فِيهَا لِاجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّحْرِيمَ تَرَكَهُمَا، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ ظَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِبَاحَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَقَطْ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الَّذِي ظَلَّ يُرَاجِعُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَائِدَةِ الْقَطْعِيَّةُ الدِّلَالَةِ كَمَا بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ فَمِنَ النَّقْلِ الْعَامِّ عَنْهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَمِنْهُ النُّصُوصُ الْخَاصَّةُ الْكَثِيرَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَرَوْنَ حَظْرَهَا وَالتَّعْبِيرَ عَمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ مِنْهَا بِمِثْلِ أَكْرَهُ كَذَا، أَوْ لَا أَرَاهُ، أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ التَّابِعِينِ. وَلَكِنْ قَسَّمَ بَعْضُ أَتْبَاعِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مَا كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِكَرَاهَتِهِ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةِ تَنْزِيهٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ التَّحْرِيمَ هُوَ الْأَصْلَ الْمُرَادَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ الْفُرُوعِ فِي بَيَانِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي، أَوْ لَا يَصِحُّ، أَوْ أَسْتَقْبِحُهُ، أَوْ هُوَ قَبِيحٌ، أَوْ لَا أَرَاهُ - لِلتَّحْرِيمِ اهـ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ احْتِيَاطِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاتِّقَائِهِ تَحْرِيمَ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَطْعِيَّةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسَاهُلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ وَتَشْدِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ اللهَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مُفْلِحٍ نَفْسُهُ قَوْلًا آخَرَ مُسْتَنَدُهُ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي عَدَمِ التَّحْرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي " أَكْرَهُ " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي "

أَوْ " لَا أُحِبُّهُ " أَوْ " لَا أَسْتَحْسِنُهُ " أَوْ " يَفْعَلُ كَذَا احْتِيَاطًا " وَجْهَانِ. وَ: أُحِبُّ كَذَا أَوْ يُعْجِبُنِي أَوْ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِلنَّدْبِ وَقِيلَ لِلْوُجُوبِ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: وَجْهَانِ. يَعْنِي لِلْأَصْحَابِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ. وَفِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْأُولَى أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَتُحْمَلُ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَأَقُولُ: مَا كَانَ أَغْنَاهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ غَيْرِهِمْ بِجَعْلِ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللهُ لِلتَّشْرِيعِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُ وَلَوْ بِالِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الدَّالُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ الْمُحْتَمِلِ لِعَدَمِهِ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَجْعَلْهُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابُهُ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَيُلْزِمُوا الْأُمَّةَ الْعَمَلَ بِهِ، بَلْ تَرَكُوهُ لِاجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ كَلَامَ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِكَلَامِهِ مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ الْعَامِّ؟ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اجْتِهَادَ الْعَالِمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ الْأَخْذِ بِالتَّقْلِيدِ، وَمَنْعُ الْأَئِمَّةِ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْكَرَ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَفَهْمِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَسَمَّاهُ كَذَّابًا وَسَمَّى اتِّبَاعَهُ شِرْكًا، وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي حَدِيثِ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَحَلَّ اللهُ هَذَيْنِ بِالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (2: 29) وَجَعَلَهُ الْعُلَمَاءُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ فَقَالُوا: الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ. وَالْعُمْدَةُ فِي تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ رِجَالِ الدِّينِ أَرْبَابًا بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآثَارِ - هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي كَوْنِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ حَقُّ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنِهِ تَشْرِيعًا دِينِيًّا، وَإِنَّمَا شَارِعُ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، فَإِذَا نِيطَ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ بِغَيْرِهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ إِشْرَاكًا بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ (42: 21) وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ. فَلْيَتَّقِ اللهَ تَعَالَى مَنْ يَظُنُّونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّ جُرْأَتَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، سَوَاءً حَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، أَوْ بِقِيَاسٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ بِالنَّقْلِ عَنْ بَعْضِ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَإِنْ كَبُرَتْ أَلْقَابُهُمْ، وَكَذَا إِنْ كَانَ أَخْذًا مِنْ نَصٍّ شَرْعِيٍّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دِلَالَةً قَطْعِيَّةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَلْيَتَقِ اللهَ مَنْ يَضَعُونَ لِلنَّاسِ الْأَوْرَادَ وَالْأَحْزَابَ الْكَثِيرَةَ، وَيَجْعَلُونَهَا لَهُمْ كَشَعَائِرِ الدِّينِ الْمَنْصُوْصَةِ بِحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا فِي الِاجْتِمَاعَاتِ، وَاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، أَوْ تَوْقِيتِهَا لَهُمْ كَالصَّلَوَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَكْمَلِ الْبَشَرِ فِي الدِّينِ

مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الْأُولَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَوَاللهِ إِنَّ الْمَأْثُورَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، خَيْرٌ مِنْ حِزْبِ فُلَانٍ وَوِرْدِ فُلَانٍ وَأَمْثَالُ دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ، وَمَا هِيَ بِقَلِيلٍ، فَلْيُرَاجِعُوهَا فِي كُتُبِ الْأَذْكَارِ لِلْمُحَدِّثِينَ كَأَذْكَارِ النَّوَوِيِّ، وَكِتَابِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ لِلْجَزَرِيِّ، فَفِيهِمَا مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَبِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَحُدُودِ الْحَوَادِثِ. (قَدْ يَقُولُ) نَصِيرٌ لِلْبِدْعَةِ، خَذُولٌ لِلسُّنَّةِ: إِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَادَ وَالْأَحْزَابَ وَالصَّلَوَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا شُيُوخُ الطَّرِيقَةِ الْعَارِفِينَ، وَكِبَارُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِي جُرِّبَتْ فَائِدَتُهَا، وَثَبَتَتْ مَنْفَعَتُهَا بِمُوَاظَبَةِ الْأُلُوفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَخُشُوعِهِمْ بِتِلَاوَتِهَا، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْفِكَهُمْ عَنْهَا؟ . (وَأَقُولُ) إِنَّ كَاتِبَ هَذَا مِمَّنْ جَرَّبُوهَا بِإِخْلَاصٍ وَحُسْنِ اعْتِقَادٍ، وَكَانَ يَبْكِي لِقِرَاءَةِ وِرْدِ السَّحَرِ، وَلَا يَبْكِي لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْجَهْلِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ عَيْنُ مَا وَقَعَ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْعُبَّادِ وَالرُّهْبَانِ. وَإِنَّنَا نَكْشِفُ الْغِطَاءَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ، الَّتِي قَدْ تُعَدُّ عُذْرًا لِجَاهِلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْمَرْضِيَّةِ، دُونَ مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْعِلْمِ، وَنَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحَقَائِقِ الْآتِيَةِ: (1) إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْلَمُ بِمَا يُرْضِيهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمَا يَتَزَكَّى بِهِ عَابِدُوهُ مِنْهَا، وَلَا يُبِيحُ الْإِيمَانُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَقُولَ أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ شُيُوخِ الطَّرِيقِ وَالْأَوْلِيَاءِ يُسَاوِي عِلْمُهُ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى أَوْ عِلْمَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ. دَعِ الظَّنَّ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لَا يَعْلَمُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَوْ فَوْقَ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَصْرَحُ فِي الْكُفْرِ بِقَدْرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ (أَفْعَلَ) فِي الْمَوْضُوعِ. (2) إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (5: 3) فَكُلُّ مَنْ يَزِيدُ فِي الْإِسْلَامِ عِبَادَةً أَوْ شِعَارًا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِكَمَالِهِ مُدَّعٍ لِإِتْمَامِهِ، وَأَنَّهُ أَكْمَلُ فِي الدِّينِ مِنْ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْإِمَامِ مَالِكٍ الْقَائِلِ: " مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَأْتِي فِي هَذَا الدِّينِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَانَ الرِّسَالَةَ " وَالْقَائِلِ: " لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا ". (3) إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (7: 3) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَغَيْرِ الْمِنْبَرِ: وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ عَامَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعِبَادَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَأَنَّ الْبِدْعَةَ الَّتِي تَنْقَسِمُ إِلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ هِيَ الْبِدْعَةُ

اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، كَوَسَائِلِ الْجِهَادِ وَتَأْلِيفِ الْكُتُبِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَتَنْوِيرِ الْمَسَاجِدِ. إِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ الَّتِي أَتَى بِهَا الصَّالِحُونَ هِيَ مِنَ الْمَشْرُوعِ بِإِطْلَاقَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (33: 41) وَقَوْلِهِ: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (33: 56) فَلَا تُنَافِي مَا تَقَدَّمَ - قُلْنَا: (4) إِنَّ حَقِيقَةَ الِاتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَلْتَزِمَ إِطْلَاقَ مَا أَطْلَقَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْيِيدَ مَا قَيَّدَتْهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: " وَصَلَاةُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ بِدْعَتَانِ قَبِيحَتَانِ مَذْمُومَتَانِ " - وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْمِنْهَاجِ - وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا قُيِّدَتَا بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَزَمَنٍ مَخْصُوصٍ وَهَذَا حَقُّ الشَّارِعِ لَا الْمُكَلَّفِ - وَإِلَّا فَهُمَا مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ فَصَّلَ هَذَا الْمَوْضُوعَ الْإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ. (5) إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَإِنَّ التَّكَلُّفَ وَالْمُبَالَغَةَ فِي الْمَشْرُوعِ مِنْهَا غُلُوٌّ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ بِالْمُسْتَطَاعِ مِنْهُ. (6) إِنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهَا زِيَادَةً إِلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَصْلِ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمَأْثُورِ الْمَشْرُوعِ، وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ فَهُوَ مُفَضِّلٌ لَهُ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكَفَى بِذَلِكَ ضَلَالًا وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِجَمِيعِ مَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ الْمُتَعَبِّدِينَ بِهَذِهِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ لَا يُعْنَوْنَ بِحِفْظِ الْمَأْثُورِ وَلَا يَعْلَمُونَهُ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ كَالْوَارِدِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَهُمْ يَبْتَدِعُونَ فِيهِ بِالِاجْتِمَاعِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّاطِبِيُّ وَسَمَّاهُ الْبِدْعَةَ الْإِضَافِيَّةَ، وَرَدَّ بِحَقٍّ عَلَى مَنْ تَسَاهَلَ فِيهِ مِنَ الْمُتَفَقِّهَةِ. (7) إِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَادَ وَالْأَحْزَابَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ مُنْكَرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَأُمُورٍ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْهُ، كَوَصْفِ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ أَوِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ، أَوْ بِحُقُوقِهِمْ عَلَيْهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، أَوِ الْقَسَمِ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شِرْكًا، وَكَذَا وَصْفُ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِهِ، وَإِسْنَادُ أَفْعَالٍ إِلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ بِهَا رِوَايَةٌ، وَكَذَا الْغُلُوُّ فِيهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ. وَلِبَعْضِ الدَّجَّالِينَ الْمُعَاصِرِينَ صَلَوَاتٌ وَأَوْرَادٌ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَمْثَالِهَا، وَالَّذِينَ يَعْرِفُونَ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ وَضَعُوهَا لِلتِّجَارَةِ بِالدِّينِ

وَاكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَلَا تَنْسَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ تَفْسِيرَيْ مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ وَفَتْحِ الْبَيَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (24: 40) . (8) إِذَا بَحَثَ الْعَالِمُ الْبَصِيرُ عَنْ سَبَبِ عِنَايَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ بِهَذِهِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ وَالصَّلَوَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَإِيثَارِهَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبِالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَأَذْكَارَهُ وَأَدْعِيَتَهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي يَلِيهَا فِي الْفَضِيلَةِ، وَفِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا حَقًّا فِي دَرَجَتِهِ - لَا يَجِدُ بَعْدَ دِقَّةِ الْبَحْثِ إِلَّا مَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ شِرْكِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِاتِّخَاذِ رُؤَسَائِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، بِإِعْطَائِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ لِلْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ غُلُوًّا فِي تَعْظِيمِهِمْ، وَمُضَاهَأَةُ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا فِي ذَلِكَ كَمَا ضَاهَئُوا هُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَوْلِهِ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ "؟ وَمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مَا قَصَّ مِنْ كُفْرِهِمْ إِلَّا تَحْذِيرًا لَنَا مِنْ مِثْلِهِ. فَأَنْتَ إِذَا بَحَثْتَ عَنْ عِبَادَاتِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ جَمِيعِ الْفِرَقِ تَجِدُ فِي أَيْدِيهِمْ أَوْرَادًا وَأَحْزَابًا كَثِيرَةً مَنْظُومَةً وَمَنْثُورَةً كُلُّهَا مِنْ وَضْعِ رُؤَسَائِهِمْ، وَلَكِنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ كَصِيغَةِ " الصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ " وَبَعْضِ عِبَارَاتِ الْمَزَامِيرِ عِنْدَ النَّصَارَى. وَأَنَّى لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوَرٍ كَسُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ بِأَدْعِيَةٍ وَأَذْكَارٍ نَبَوِيَّةٍ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي وَصْفِ جَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. وَطَلَبِ أَفْضَلِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَعَالَى مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا؟ وَهَلْ كَانَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَادَةً لِلْأُمَمِ كُلِّهَا فِي فُتُوحِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ إِلَّا بِهِدَايَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ وَهَلْ صَارَتِ الشُّعُوبُ تَدْخُلُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا إِلَّا اهْتِدَاءً بِهِمْ؟ ثُمَّ هَلْ

صَارَتِ الشُّعُوبُ الْإِسْلَامِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَتَنْفِيرِ الْأُمَمِ عَنِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا بِتَرْكِ هِدَايَتِهِمَا إِلَى الْبِدَعِ أَوِ الْإِلْحَادِ؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَالْغُلَاةُ الْمُبْتَدِعُونَ لِهَذِهِ الْأَوْرَادِ وَالصَّلَوَاتِ يَخْدَعُونَ الْعَوَامَّ بِمَا يَمْزُجُونَهُ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ مَعَ تَحْرِيفِهِمْ لَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا أَوْ لِأَجْلِهَا، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالصَّالِحِينَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَيَرُدُّونَ عَلَى دُعَاةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ يَكْرَهُونَ تَعْظِيمَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - ; لِأَنَّهُمْ يَقِفُونَ فِيهِ عِنْدَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ - وَبِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْأَوْلِيَاءَ وَيُنْكِرُونَ مُكَاشَفَاتِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ، وَالْعَوَامُّ يَقْبَلُونَ هَذَا مِنْهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا بِفِعْلِهِ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا الشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِعِصْمَةِ 12 رَجُلًا مِنْ آلِ الْبَيْتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ أَيْضًا. وَقَدْ أَرْسَلَ رَجُلٌ مِنْ دَجَّالِي عَصْرِنَا صَلَوَاتِهِ وَبَعْضَ كُتُبِهِ مَعَ بَعْضِ الْحُجَّاجِ الصَّالِحِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ ; لِتَوْزِيعِهَا فِيهَا عَلَى نَفَقَةِ بَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْبِيَاءِ، فَرَأَى ذَلِكَ الْحَاجُّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي نَوْمِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ بِلَيْلَةٍ يَأْمُرُهُ بِأَلَّا يُدْخِلَ تِلْكَ الْكُتُبَ فِي مَدِينَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَدَفَنَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، ثُمَّ أَخْبَرَ صَاحِبَهَا بِمَا رَأَى بَعْدَ عَوْدَتِهِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ فَبُهِتَ الدَّجَّالُ. إِنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ الصُّوفِيَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْفَوَائِدِ وَالْمَوَاعِظِ الْمُؤَثِّرَةِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهَا قَدْ أَفْسَدَ فِي دِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى مِثْلِهِ شُبُهَاتُ الْفَلَاسِفَةِ وَآرَاءُ مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; لِأَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ لَا يَنْظُرُ فِيهِمَا إِلَّا بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ، وَأَمَّا كُتُبُ الصُّوفِيَّةِ فَيَنْظُرُ فِيهَا جَمِيعُ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَتْ أَدَقَّ عِبَارَةً، وَأَخْفَى إِشَارَةً مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ خَيْرَ صُوفِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ السَّابِقُونَ، الَّذِينَ كَانُوا لَا يَتَصَوَّفُونَ إِلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالْعَمَلِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ كَالْإِمَامِ الْجُنَيْدِ وَطَبَقَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ فِيهِمُ الْغُلَاةُ وَمَنْ يُسَمَّوْنَ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، فَابْتَدَعُوا مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمُ الْأَئِمَّةُ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَصَوَّفَ أَوَّلَ النَّهَارِ لَا يَأْتِي آخِرُهُ إِلَّا وَهُوَ مَجْنُونٌ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ مِنْ أَجَلِّ عُلَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْجُنَيْدُ وَكَانَ مِنَ الْتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّا خَلَّفَهُ وَالِدُهُ مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ دَانَقًا وَاحِدًا عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا تَوَارُثَ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَمَا كَانَ وَالِدُهُ إِلَّا وَاقِفِيًّا، أَيْ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ: هُوَ مَخْلُوقٌ، وَقَدْ أَلَّفَ الْحَارِثُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ

وَالزُّهْدِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ فَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْهُ وَعَنْ كُتُبِهِ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: إِيَّاكَ وَهَذِهِ الْكُتُبُ، بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ، عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، قِيلَ لَهُ: فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عِبْرَةٌ. فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ عِبْرَةٌ - بَلَغَكُمْ أَنَّ مَالِكًا أَوِ الثَّوْرِيَّ أَوِ الْأَوْزَاعِيَّ أَوِ الْأَئِمَّةَ صَنَّفُوا كُتُبًا فِي الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ خَالَفُوا أَهْلَ الْعِلْمِ، يَأْتُونَنَا مَرَّةً بِالْمُحَاسِبِيِّ وَمَرَّةً بِعَبْدِ الرَّحِيمِ الدُّبَيْلِيِّ، وَمَرَّةً بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ - ثُمَّ قَالَ - مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى الْبِدَعِ. وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سَمِعَ كَلَامَ الْمُحَاسِبِيِّ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: مَا سَمِعْتُ فِي الْحَقَائِقِ مِثْلَ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا أَرَى لَكَ صُحْبَتَهُمُ انْتَهَى. مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، وَتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ) إِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ صُحْبَتِهِمْ لِعِلْمِهِ بِقُصُورِهِ عَنْ مَقَامِهِمْ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ ضَيِّقٌ لَا يَسْلُكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُخَافُ عَلَى مَنْ يَسْلُكُهُ أَلَّا يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ اهـ. فَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَافِظُ فِي بَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ خِيَارِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، أَفَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمْ كَدَجَاجِلَةِ هَذَا الزَّمَانِ وَعَوَامِّهِ أَوْلَى بِأَلَّا يَنْظُرُوا فِي كُتُبِ مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنْ طَبَقَةِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِحَيْثُ إِنَّ إِمَامَ السُّنَّةِ الْأَعْظَمَ فِي عَصْرِهِ (أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ) لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِمَّا سَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ هُوَ وَأَبُو زُرْعَةَ ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ مُبْتَدَعٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ، يَشْغَلُ النَّاظِرَ فِيهِ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَنَهَى عَنْ صُحْبَتِهِمْ لِذَلِكَ أَوْ لِضِيقِ مَسْلَكِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَا يَفْهَمُهُ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ كَمَا عَلَّلَهُ الْحَافِظُ. فَمَا الْقَوْلُ بَعْدَ هَذَا بِكُتُبِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُصَادِمَةِ لِلنُّصُوصِ، كَمُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ الَّذِي يَقُولُ فِي خُطْبَةِ فُتُوحَاتِهِ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُكَلَّفْ إِنْ قُلْتَ عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قُلْتَ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ أَسَاسَ التَّكْلِيفِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّورَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي دِيوَانِهِ: وَمَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إِلَّا إِلَهُنَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ وَكَلَامَ أَمْثَالِهِ حُجَّةً وَيَتَّخِذَهُ قُدْوَةً فِي عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَيَدْعُوَ الْعَامَّةَ إِلَى ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ نَرَى الْمَفْتُونِينَ بِهِ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّهِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ إِلَّا لِأَهْلِهَا مِنَ الْعَارِفِينَ بِرُمُوزِ الصُّوفِيَّةِ وَإِشَارَاتِهِمُ الْخَفِيَّةِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّعْرَانِيُّ، وَهُوَ أَشْهَرُ دَاعِيَةٍ فِي عَصْرِهِ إِلَى خُرَافَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ شَيْخَهُ فِي التَّصَوُّفِ عَلِيًّا الْخَوَّاصَ: لِمَاذَا يَتَأَوَّلُ الْعُلَمَاءُ مَا يَشْكُلُ ظَاهِرُهُ مِنْ نُصُوصِ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْمُشْكِلِ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْقَطْعُ بِعِصْمَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَعَدَمِ عِصْمَةِ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ مِنَ الْخَطَأِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى مِنْ كِتَابِهِ الدُّرَرِ وَالْجَوَاهِرِ، وَهُوَ حَقٌّ. وَإِنَّنِي أَضْرِبُ لَكَ مَثَلًا لِلْغُرُورِ بِكُتُبِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ عَنِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، نَقَلَ عَنْهُ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: عَمَلْتُ كِتَابًا فِي الْمَعْرِفَةِ، وَأُعْجِبْتُ بِهِ فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَنْظُرُ فِيهِ مُسْتَحْسِنًا لَهُ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ شَبَابٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ رَثَّةٌ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ الْمَعْرِفَةُ حَقٌّ لِلْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ أَوْ حَقٌّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ؟ فَقُلْتُ: أَحَقُّ عَلَى الْخَلْقِ لِلْحَقِّ، فَقَالَ: هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكْشِفَهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، فَقُلْتُ: بَلْ حَقٌّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ، فَقَالَ هُوَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ. ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيَّ وَخَرَجَ. قَالَ الْحَارِثُ: فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ وَحَرَقْتُهُ، وَقُلْتُ: لَا عُدْتُ أَتَكَلَّمُ فِي الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ. (أَقُولُ) يَعْنِي بِالْمَعْرِفَةِ هُنَا الْمَعْرِفَةَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهَا عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنَّمَا رَجَعَ عَنْهَا الْحَارِثُ لِاقْتِنَاعِهِ بِقَوْلِ الشَّابِّ وَتَذَكُّرِهِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً مَرَضِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَبَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (16: 89) وَيُرْوَى عَنْ ذِي النُّونِ الصُّوفِيِّ الشَّهِيرِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِعَارِفٍ مَنْ وَصَفَ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَكَيْفَ عِنْدَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؟ يَعْنِي أَنَّ وَصْفَهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا لِأَهْلِهَا الْعَارِفِينَ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَاضَ مِنْ كَلَامِ صُوفِيَّةِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ عَالِمٍ بِرُمُوزِهِمْ ضَلَّ وَرُبَّمَا كَفَرَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ سُلُوكُ طَرِيقَتِهِمْ إِلَّا عَلَى يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ مِنَ الْوَاصِلِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ. وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ أَبُو الْمَحَاسِنِ الْقَاوَقْجِيُّ مِنْ كِبَارِ الْعُبَّادِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ الْمُسَلْسَلَةُ وَغَيْرُهَا، وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ طَرِيقَةِ الشَّاذِلِيِّ، فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: إِنَّنِي لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْمُقَلِّدِينَ، الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ حِزْبِ الْبِرِّ وَهَذِهِ الْأَذْكَارِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أُرِيدُ السُّلُوكَ الصَّحِيحَ بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّعَبُّدِ السِّرِّيِّ كَالْمُتَقَدِّمِينَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَتَوَلَّى ذَلِكَ مَعِي؟ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّنِي لَسْتُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَلَا أَغُشُّكَ وَأَغُشُّ نَفْسِي أَوْ كَمَا قَالَ: وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ كَلَامِ خِيَارِ الصُّوفِيَّةِ فِي الْحَقَائِقِ مَعَ الْتِزَامِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ فِي الْعِبَادَةِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ) لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ شَرْحِ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ الْأَنْصَارِيِّ فَإِنَّ فِيهِ خُلَاصَةَ مَعَارِفِ الصُّوفِيَّةِ الَّتِي لَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الرَّدِّ عَلَى مَا خَالَفَهُمَا، وَأَمَّا كُتُبُهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ فَيُغْنِي عَنْهَا كُلِّهَا (كِتَابُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمِنَحِ الْمَرْعِيَّةِ) لِابْنِ مُفْلِحٍ الْفَقِيهِ الْحَنْبَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَلَامِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَلَالَتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا مَا نَنْصَحُ بِهِ لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ لِلْعَمَلِ. وَثَمَّ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ لِعُلَمَاءِ

الصُّوفِيَّةِ مُفِيدَةٌ فِي فَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ النَّفْسِ وَخَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ، وَالِاسْتِفَادَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِ الْبَصِيرَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْ خِيَارِ الصُّوفِيَّةِ الْوُعَّاظِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ نَهَى عَنْ كَلَامِهِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْقَاصِّ بِهِ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الْحُسَيْنِ قَالَ: إِنَّمَا رَأَى إِمَامُنَا أَحْمَدُ النَّاسَ لَهِجِينَ بِكَلَامِهِ، وَقَدِ اشْتُهِرُوا بِهِ حَتَّى رَوَوْهُ وَفَصَّلُوهُ مَجَالِسَ يَحْفَظُونَهَا وَيُلْقُونَهَا وَيُكْثِرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دِرَاسَتَهَا فَكَرِهَ لَهُمْ أَنْ يَلْهُوا بِذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَيَشْتَغِلُوا بِهِ عَنْ كُتُبِ السُّنَّةِ وَأَحْكَامِ الْمِلَّةِ لَا غَيْرُ اهـ. فَإِنْ كَانَتْ حَالُ النَّاسِ هَكَذَا فِي زَمَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، زَمَنِ حِفْظِ السُّنَّةِ وَرِوَايَتِهَا وَالتَّفَقُّهِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَاشْتِرَاكِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا الزَّمَنِ وَأَهْلِهِ وَأَنْتَ لَا تَجِدُ فِي عُلَمَاءِ مِصْرَ حَافِظًا، وَلَا مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مُحَدِّثًا، دَعْ مُتَصَوِّفَتَهُ الَّذِينَ يَسْتَحْوِذُ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْجَهْلُ، وَيُوجَدُ فِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ جَوَاسِيسَ وَدُعَاةً لِلِاسْتِعْمَارِ، مُحْتَجِّينَ بِشُبْهَةِ الرِّضَا بِالْأَقْدَارِ، وَهُمْ أَكْبَرُ مَصَائِبِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْإِفْرِيقِيَّةِ وَمِنْ شُيُوخِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ الرَّوَاتِبَ الْمَالِيَّةَ مِنْ حُكَّامِهَا، وَمَنْ نَالَ بَعْضَ أَوْسِمَتِهَا الشَّرَفِيَّةِ. فَهَذَا نَمُوذَجٌ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ نَدْعُمُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالنُّصُوصِ فِي دَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَبِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِهِ وَالِاكْتِفَاءِ بِعِبَادَاتِهِمَا وَأَذْكَارِهِمَا وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهَا مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَكَلُّفٍ لِمَا لَا يَسْهُلُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّفَرُّغُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْقِيَامِ بِفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مِنَ الدِّفَاعِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَعْزِيزِهِ، وَدَفْعِ الْأَذَى وَالِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ عَنْ أَهْلِهِ، وَإِعْزَازِ الْأُمَّةِ بِالْقُوَّةِ وَالثَّرْوَةِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْفُنُونِ الصَّحِيحَةِ وَالنِّظَامِ، وَإِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْأَوْرَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا أَيِ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رُؤَسَاءَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْأُلُوهِيَّةَ بِالذَّاتِ، إِذِ الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ - وَاتَّخَذَ النَّصَارَى الْمَسِيحَ رَبًّا وَإِلَهًا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا أُمِرُوا عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَعِيسَى وَمَنِ اتَّبَعَهُمَا فِيمَا جَاءَا بِهِ عَنِ اللهِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا وَيُطِيعُوا فِي الدِّينِ إِلَهًا وَاحِدًا بِمَا شَرَعَهُ هُوَ لَهُمْ، وَهُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِإِلَهٍ، فَهِيَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ بِمَحْضِ الْهَوَى وَالْجَهْلِ، إِذْ ظَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلْخَلْقِ

مِثْلَ مَا لِلَّهِ، إِمَّا بِالذَّاتِ وَإِمَّا بِالْوَسَاطَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى وَالشَّفَاعَةِ لَدَيْهِ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الشِّرْكِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ - عَنْ شِرْكِهِمْ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ، وَفِي رُبُوبِيَّتِهِ بِطَاعَةِ الرُّؤَسَاءِ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ بِدُونِ إِذْنِهِ. أَمَّا أَمْرُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا أَوَّلُ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَهَا لِمُوسَى عِنْدَ مُنَاجَاتِهِ فِي سَيْنَاءَ بِأُصْبُعِهِ عَلَى لَوْحَيِ الْعَهْدِ، وَهَذَا أَوَّلُهَا: " أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَلَا مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَلَا مِمَّا فِي الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ، لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَهٌ غَيُورٌ " إِلَخْ. وَأَمَّا أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِهَا عَلَى لِسَانِ عِيسَى الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَجِدُ مِنْهُ فِيمَا رَوَاهُ يُوحَنَّا فِي إنْجِيلِهِ قَوْلَهُ: (7: 3 وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) وَفِي إِنْجِيلِ بَرْنَابَا - الَّذِي تَعُدُّهُ الْكَنِيسَةُ غَيْرَ قَانُونِيٍّ - مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ مِنْ جَمِيعِ شَوَائِبِ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَجْدَرُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الْقَانُونِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفٍ ثَالِثٍ فِي تَفْصِيلِ حَالِ كُفْرِهِمُ الْمُجْمَلِ الْمُتَقَدِّمِ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِاتِّخَاذِ ابْنِ اللهِ وَرُؤَسَائِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ - وَهُوَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ أَيْ: يُرِيدُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ الَّذِي أَفَاضَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِهِدَايَةِ دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُسُلِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ بِبَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّدِّ عَنْهُ بِالْبَاطِلِ. كَمَا فَعَلُوا مِنْ قَبْلُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، الَّتِي لَمْ تَتَجَاوَزْ أَفْوَاهَهُمْ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَبِمَا ابْتَدَعَهُ الرُّؤَسَاءُ لَهُمْ مِنَ التَّشْرِيعِ، حَتَّى صَارَ التَّوْحِيدُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ عِنْدَهُمْ شِرْكًا، وَالْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ رَبًّا، وَالْعَابِدُ الْمَأْلُوهِ إِلَهًا عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ فِرَقِهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْإِرَادَةُ فِي الْأَصْلِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَاعِلُهُ. يُقَالُ فِي الرَّجُلِ الْمُسْرِفِ الْمُبَذِّرِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِبَ بَيْتَهُ. أَوْ: أَنْ يَتْرُكَ أَوْلَادَهُ فُقَرَاءَ أَيْ أَنَّ تَبْذِيرَهُ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ بِقَصْدِهِ ; لِأَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَادَوُا الْإِسْلَامَ مُنْذُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَانُوا يَقْصِدُونَ إِبْطَالَهُ وَالْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِإِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَالطَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ يَصِحُّ التَّعْبِيرُ

عَنْهُ بِإِرَادَةِ إِطْفَاءِ النُّورِ ; لِأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ مَعَهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ إِفْسَادِهِمْ فِي دِينِهِمْ فَمِنْهُ مَا كَانَ بِقَصْدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا الرُّومُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا النَّصْرَانِيَّةَ عَصَبِيَّةً سِيَاسِيَّةً مُنْذُ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ، وَمِنْهُ مَا كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُ بِقَصْدِ خِدْمَتِهِ (كَمَا فَعَلَ بَعْضُ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِوَضْعِ الْأَحَادِيثِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَنَشْرِ الْخُرَافَاتِ) وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا وَأَقْرَبُهَا مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي هَذَا السِّيَاقِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ هُنَا الْإِسْلَامُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ الدَّلَائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَنَّهَا يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الْحَقِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، كَمَا يُهْتَدَى بِالنُّورِ فِي رُؤْيَةِ الْحِسِّيَّاتِ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ النُّورِ الْحِسِّيِّ وَالنُّورِ الْمَعْنَوِيِّ هُوَ أَنَّهُ الشَّيْءُ الظَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ النُّورَ الْمَعْنَوِيَّ لِلْبَصِيرَةِ كَالنُّورِ الْحِسِّيِّ لِلْبَصَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (5: 15) أَنَّ فِي هَذَا النُّورِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا وَبَيَّنَّا وَجْهَ كُلٍّ مِنْهَا، وَاخْتَرْنَا الثَّالِثَ مِنْهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (4: 174) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ الْأَعْظَمِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (7: 157) وَقَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (64: 8) وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِنَّ فِيهِ نُورًا وَهُدًى (5: 44، 46) وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَيْنَ النُّورِ كَالْقُرْآنِ. وَنَخْتَارُ هُنَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِلِ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ، وَلَا سِيَّمَا دِينُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَقَدْ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا نُورًا لِأَهْلِهِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ كَانَ هُوَ النُّورَ الْأَعْظَمَ الْكَافِيَ لِهِدَايَةِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي لَامِيَّتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْكُتُبِ: اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ ... طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا نَعَمْ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ أَطْفَئُوا جُلَّ ذَلِكَ النُّورِ فَزَجُّوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَلُوحُ لَهُمْ فِيهَا إِلَّا وَمِيضٌ ضَئِيلٌ مِنْهُ، وَهُمْ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ الْآخِرِ الْأَخِيرِ أَيْضًا. وَالنُّورُ الْحِسِّيُّ قَدْ يُطْفَأُ بِنَفْخِ الْفَمِ كَسُرُجِ الزَّيْتِ الْقَدِيمَةِ، وَإِطْفَاؤُهُ: إِزَالَتُهُ وَإِطْفَاءُ النَّارِ: إِزَالَةُ لَهَبِهَا وَاتِّقَادُ جَمْرِهَا مَعًا، فَهُوَ

32

أَبْلَغُ مِنْ إِخْمَادِهَا ; لِأَنَّ الْإِخْمَادَ إِزَالَةُ اللهَبِ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ إِطْفَاءُ السِّرَاجِ سَهْلًا فَإِطْفَاءُ نُورِ الشَّمْسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ فِي كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ فِي زَمَنِهِمْ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّمَامَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى اسْمِهِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، مُبَيِّنًا لَهُمْ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، مِنْ عَقَائِدَ يُؤَيِّدُهَا الْبُرْهَانُ، وَيَطْمَئِنُّ لَهَا الْوِجْدَانُ، وَتَبْطُلُ بِهَا عِبَادَةُ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَضْلًا عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَعِبَادَاتٍ تَتَزَكَّى بِهَا النَّفْسُ، وَتَطْهُرُ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَتَجْعَلُ كِفَايَةَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ حُقُوقًا إِلَهِيَّةً، تَكْفُلُهَا الْعَقَائِدُ الْوِجْدَانِيَّةُ، وَيُبْطِلُ ثَوَابَهَا الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَآدَابٍ تَطْبَعُ فِي الْأَنْفُسِ مَلَكَاتِ الْفَضَائِلِ، وَتَتَوَثَّقُ بِهَا عُرَى الْمَصَالِحِ. وَتَشْرِيعٍ سِيَاسِيٍّ وَقَضَائِيٍّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَيُجْعَلُ السُّلْطَانَ الْحُكْمِيَّ لِلْأُمَّةِ، وَيُقَرِّرُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْحَقِّ، مَعَ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَاحْتِرَامِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ وَالرَّأْيِ وَالْوِجْدَانِ. وَمَنْعِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَدْيَانِ، وَالتَّوْحِيدِ الْمُصْلِحِ لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي الْعَقَائِدِ وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّشْرِيعِ وَاللُّغَةِ، لِإِزَالَةِ التَّعَادِي بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا كُلَّهَا، كَانَ تَشْرِيعُ الْمُسَاوَاةِ بِالْعَدْلِ كَافِيًا لِحِفْظِ حُقُوقِهِ فِيهَا. أَتَمَّ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ آيَتَهُ الْكُبْرَى عِلْمِيَّةً عَقْلِيَّةً وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَكَفَلَ حِفْظَهَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكْفُلْ ذَلِكَ لِكِتَابٍ آخَرَ ; لِأَنَّ سَائِرَ الْكُتُبِ كَانَتْ أَدْيَانًا خَاصَّةً مُؤَقَّتَةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ الدَّعْوَةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ الْمَحَجَّةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (5: 3) . وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى فِي هَذَا التَّرْكِيبِ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا قُطْبُهُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ جَمِيعُ عِبَادَاتِهِ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَتَحَوَّلُوا عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، لَا يُرِيدُ فِي هَذَا الشَّأْنِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ هَذَا النُّورَ الَّذِي بَدَأَ فِي الْأَجْيَالِ السَّابِقَةِ كَالسِّرَاجِ عَلَى مَنَارَتِهِ، أَوْ كَنُورِ الْهِلَالِ فِي بُزُوغِهِ، فَالْقَمَرُ فِي مَنَازِلِهِ، فَيَجْعَلُهُ بَدْرًا كَامِلًا، بَلْ شَمْسًا ضَاحِيَةً يَعُمُّ نُورُهُ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَمَا يُرِيدُهُ اللهُ كَائِنٌ لَا مَرَدَّ لَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ذَلِكَ بَعْدَ إِتْمَامِهِ، كَمَا كَانُوا يَكْرَهُونَهُ مِنْ قَبْلُ عِنْدَ بَدْءِ ظُهُورِهِ، وَجَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ كَمَا يَقُولُ النُّحَاةُ. فَهُمْ يَكِيدُونَ لَهُ، وَيَفْتَرُونَ عَلَيْهِ، وَيَطْعَنُونَ فِيهِ وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ. وَيُحَاوِلُونَ إِخْفَاءَهُ، أَوْ " خَنْقَ دَعْوَتِهِ، وَحَصْدَ نَبْتَتِهِ " كَمَا قَالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ. فَأَمَّا الْيَهُودُ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي مُقَاوَمَةِ دَعْوَتِهِ، وَمُسَاعَدَةِ

الْمُشْرِكِينَ عَابِدِي الْأَصْنَامِ فِي قِتَالِ أَهْلِهِ، وَمِنْ خُذْلَانِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ، وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِأَهْلِهِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ سَوَاءً، وَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ إِطْفَاءِ نُورِهِ بِمُسَاعَدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، قَصَدُوا إِطْفَاءَ نُورِهِ بِبَثِّ الْبِدَعِ فِيهِ، وَتَفْرِيقِ كَلِمَةِ أَهْلِهِ بِمَا فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ مِنِ ابْتِدَاعِ التَّشَيُّعِ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَالْغُلُوِّ فِيهِ، وَإِلْقَاءِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ لِشِيعَتِهِ مِنَ الدَّسَائِسِ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ثُمَّ فِي الْفِتْنَةِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ أَقْبَحُ التَّأْثِيرِ، وَلَوْلَاهُمْ لَمَا قُتِلَ أُولَئِكَ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ مِنْ صَنَادِيدَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ السَّعْيَ إِلَى الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ نَجَحَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَأَفْسَدُوهُ بِدَسَائِسِهِمْ، ثُمَّ كَانَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَالْقِيَامَ بِفَرَائِضِهِ نِفَاقًا مَكِيدَةٌ أُخْرَى لَا تَزَالُ مَفَاسِدُهَا مَبْثُوثَةً فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ، وَهِيَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الَّتِي بَيَّنَّا بَعْضَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا نَزَالُ نُبَيِّنُ مَا يَعْرِضُ لَنَا فِيهِ وَفِي الْمَنَارِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ كَانَ الْحَبَشَةُ مِنْهُمْ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْمَوَدَّةَ لَهُمْ، وَأَكْرَمَ مَلِكُهُمُ النَّجَاشِيُّ مَنْ لَجَأَ مِنْ مُهَاجِرِهِمْ، وَمَنَعَهُمْ مَنْ تَعَدِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَسْلَمَ هُوَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (5: 82) الْآيَةَ، ثُمَّ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَانْعَكَسَتِ الْقَضِيَّةُ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَوَدَّدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ أَنْقَذُوهُمْ مِنْ ظُلْمِ النَّصَارَى وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَصَارَ نَصَارَى أُورُبَّةَ الْمُسْتَعْمِرُونَ لِلْمَمَالِكِ الشَّرْقِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَادُونَهُمْ، دُونَ نَصَارَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَلَا سِيَّمَا سُورِيَةُ وَمِصْرُ الْأَصْلِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا مِنْ عَدْلِ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَائِلِهِمْ مَا فَضَّلُوهُمْ بِهِ عَلَى الرُّومُ الَّذِينَ كَانُوا يَظْلِمُونَهُمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَغُلُوِّ نَصَارَى أُورُبَّةَ فِي عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَهَا فِي تَفْسِيرِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَالِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ مَعَ دُوَلِ أُورُبَّةَ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ، الْمُهَدِّدَةِ لَهُمْ فِيمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ مَهْدِ دِينِهِمْ وَمَشَاعِرِهِ وَحَرَمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَالِكَ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ (61: 8) وَبَاقِي الْآيَةِ وَنَصُّ الْآيَةِ بَعْدَهَا كَآيَتَيْ بَرَاءَةَ سَوَاءً. فَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيُطْفِئُوا فَمِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ بِمَعْنَى " أَنْ يُطْفِئُوا " ; لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ وَالْمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ

لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ بِشَارَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَكْذِيبَ الْيَهُودِ لَهُ فِي رِسَالَتِهِ وَبِشَارَتِهِ، وَقَالَ قَبْلَهَا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (61: 7) فَالْمَعْنَى عَلَى التَّعْلِيلِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِإِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي بَشَّرَهُمْ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَوَاءً كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ - بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَظُهُورِ نُورِهِ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ - يُرِيدُونَ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ بِإِنْكَارِ تِلْكَ الْبِشَارَاتِ وَتَأْوِيلِهَا بِمَا يَصْرِفُهَا عَنْ وَجْهِهَا ; لِأَجْلِ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ تَعَالَى بِافْتِرَائِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الِافْتِرَاءَ بِإِنْكَارِهَا وَتَأْوِيلِهَا، وَبِالطَّعْنِ فِي مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُطْفِئُ هَذَا النُّورَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ (61: 8) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُتِمُّ نُورِهِ بِالْفِعْلِ فَلَا يُطْفِئُهُ الِافْتِرَاءُ، بَلْ هُوَ كَمَنْ يَنْفُخُ فِي نُورٍ قَوِيٍّ لِيُطْفِئَهُ فَيَزِيدُهُ بِذَلِكَ اشْتِعَالًا، أَوْ كَمَنْ يُحَاوِلُ إِطْفَاءَ نُورِ الشَّمْسِ فَلَا يَنَالُ مِنْهَا مَنَالًا. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الصَّفِّ تَعْلِيلٌ لِافْتِرَائِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ إِطْفَاءَ النُّورِ بِهِ، وَآيَةَ بَرَاءَةَ لَمَّا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ شِرْكِهِمْ بِمُضَاهَأَتِهِمْ لِأَقْوَالِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَعَلَ ذَلِكَ نَفْسَهُ بِمَعْنَى إِرَادَةِ إِطْفَاءِ النُّورِ بِلَا وَاسِطَةٍ. ثُمَّ إِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا آخَرَ وَهُوَ التَّعْبِيرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الصَّفِّ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةَ بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَالْأَوَّلُ: يُفِيدُ أَنَّهُ مُتِمُّهُ بِالْفِعْلِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: وَعْدٌ بِأَنْ يُتِمَّهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَيَجْتَمِعُ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ هَذَا الْإِتْمَامِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَهُوَ النُّورُ التَّامُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ، بَلْ يَبْقَى مُشْرِقًا إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِهَذَا الْعَالَمِ بِالزَّوَالِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَغِيبِ عَنْ عِلْمِ الْخَلْقِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ النَّاسُ، أَكَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِهِ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ ; لِأَنَّ صِدْقَهُ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ، وَنَاهِيكَ بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَيْ: إِنَّهُ لَا يَرْضَى وَلَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ فَلَا يَجْعَلُ فِي قَدْرَةِ أَحَدٍ أَنْ يُطْفِئَهُ. وَالْآيَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْكَارِهِينَ لَهُ سَيُحَاوِلُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِطْفَاءَ هَذَا النُّورِ، كَمَا حَاوَلُوا ذَلِكَ فِي عَصْرِ مَنْ أَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ وَبَيَانِهِ لَهُ. وَهَذَا مَا وَقَعَ مِنْ قَبْلُ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَأَفْظَعُهُ الْحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ وَمُقَدِّمَاتُهَا. وَمَا هُوَ وَاقِعٌ الْآنِ، فَإِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ (الْمُبَشِّرُونَ) مِنَ الْإِفْرِنْجِ يُغْلُونَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي كُلِّ بَلَدٍ لِدُوَلِهِمْ فِيهِ حُكْمٌ أَوْ نُفُوذٌ أَوِ امْتِيَازٌ، كَمِصْرَ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَوْلَا شِدَّةُ غُلُوِّهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ فِي الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ لَمَا أَطَلْنَا فِي هَذَا السِّيَاقِ بِمَا أَطَلْنَا بِهِ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ

33

فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ. وَهَذَا مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا (4: 87) . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْمُرَادِ مِنْ إِتْمَامِ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ أَنَّ اللهَ الَّذِي كَفَلَ إِتْمَامَ هَذَا النُّورِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الْأَكْمَلَ الَّذِي أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلُ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (3: 81) إِنْ جَاءَ فِي زَمَنِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ الْأَعَمِّ الْأَشْمَلِ، وَدِينِ الْحَقِّ أَيِ: الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي لَا يَنْسَخُهُ دِينٌ آخَرُ، وَلَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (41: 42) وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي ذُكِرَ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ: وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ (9: 29) ; لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا حَظًّا عَظِيمًا مِنْ كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ وَمَوَاعِظِهِمْ وَحَرَّفُوا الْبَاقِيَ مِنْهَا فَلَمْ يُقِيمُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا بِهِ تَقَالِيدَ وَضَعَهَا لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ بِأَهْوَائِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ، وَأَنَّ إِضَافَةَ الدِّينِ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ صَحِيحٌ يُجَامِعُهُ وَلَا يُبَايِنُهُ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ دِينَ اللهِ الْمَحْضَ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ كَالشَّوَائِبِ الَّتِي عُرِضَتْ لِلْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ وَلِمَا بَقِيَ مِنْ كُتُبِهَا. وَكَلِمَةُ الْحَقِّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ (10: 32) . وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ الْعَامِّ - وَلَا سِيَّمَا تَارِيخُ الْأَدْيَانِ - أَنَّهُ لَا يُوجَدُ دِينٌ مَنْقُولٌ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ مِنْ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ نَقْلًا صَحِيحًا مُتَوَاتِرًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُتَّصِلَ الْأَسَانِيدِ إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي عَقَدْنَاهُ لِإِثْبَاتِ ضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَتَحْرِيفِ النَّصَارَى لِكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ 5: 13 مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، أَنَّ فَيْلَسُوفًا هِنْدِيًّا دَرَسَ تَوَارِيخَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَبَحَثَ فِيهَا بَحْثَ حَكِيمٍ مُنْصِفٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا اسْتِبَانَةَ الْحَقِّ، وَأَطَالَ الْبَحْثَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ لِمَا لِلدُّوَلِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا مِنَ الْمُلْكِ وَسَعَةِ السُّلْطَانِ، وَنَظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ غَايَةُ ذَلِكَ الدَّرْسِ أَنْ عَرَفَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، فَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا بِاللُّغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ عُنْوَانُهُ (لِمَاذَا أَسْلَمْتُ) أَظْهَرَ فِيهِ مَزَايَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَكَانَ مِنْ أَهَمِّهَا عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَهُ تَارِيخٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ. . . . وَكَانَ مِنْ مَثَارِ الْعَجَبِ عِنْدَهُ أَنْ تَرْضَى أُورُبَّةُ لِنَفْسِهَا دِينًا تَرْفَعُ مَنْ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ فَتَجْعَلُهُ إِلَهًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ مِنْ تَارِيخِهِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ. . . ثُمَّ بَيَّنَ غَايَةَ إِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِدِينِ الْحَقِّ أَوْ عِلَّتَهُ بِقَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يُقَالُ أَظْهَرَ الشَّيْءَ: أَوْضَحَهُ وَأَبَانَهُ فَجَعَلَهُ ظَاهِرًا لَا خَفَاءَ فِيهِ. وَأَظْهَرَ فُلَانًا عَلَى الشَّيْءِ

أَوْ عَلَى الْخَبَرِ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (72: 26 و27) وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ (66: 3) إِلَخْ. وَأَظْهَرَهُ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ عَلَى الشَّخْصِ جَعَلَهُ فَوْقَهُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ. وَالِاسْتِعْلَاءُ هُنَا بِالْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، أَوِ السِّيَادَةِ وَالْغَلَبَةِ، أَوِ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، أَوْ بِهَا كُلِّهَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَإِنْ كَانَ الْوَعْدُ يَصْدُقُ بِبَعْضِهَا، وَالدِّينُ جِنْسٌ يَشْمَلُ كُلَّ دِينٍ. وَفِي الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ هُنَا قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ هَذَا الرَّسُولَ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُرْسَلُ هُوَ إِلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَأَحْكَامِهِ ; لِأَنَّ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ هُوَ الدِّينُ الْأَخِيرُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ ; بَلْ يُوكَلُونَ فِيمَا وَرَاءَ نُصُوصِهِ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِبَارِهِمُ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ مَعَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، حَتَّى لَا يَضِلُّوا وَلَا يَتَفَرَّقُوا بِتَرْكِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ كُتُبِ الْأَدْيَانِ وَتَارِيخِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ لَا تَعْدُو كُتُبُ كُلٍّ مِنْهَا حَاجَةَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مِنْ قَوْمِ رَسُولِهَا، فَالْيَهُودِيَّةُ دِينُ شَعْبٍ نِسْبِيٍّ أَرَادَ اللهُ تَرْبِيَتَهُمْ بِشَرِيعَةٍ شَدِيدَةِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ ; لِتَطْهِيرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَعِبَادَةِ الْبَشَرِ، لِيُقِيمُوا التَّوْحِيدَ فِي بِلَادٍ مُبَارَكَةٍ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا الشِّرْكُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ زَمَنًا مَا، ثُمَّ فَسَدُوا وَصَارَ أَكْثَرُهُمْ وَثَنِيِّينَ مَادِّيِّينَ فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَعَالِيمَ شَدِيدَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَمُقَاوَمَةِ الْمَفَاسِدِ الْمَادِّيَّةِ، وَكَبْحِ جِمَاحِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ، فَكَانَ لَهُ مَا كَانَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِيهِمْ فِي الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ زَمَنًا مَا، وَلَكِنْ غَلَا بَعْضُهُمْ فِي الزُّهْدِ، وَعَرَضَ لَهُمْ فِيهِ الْغُرُورُ مَعَ الْجَهْلِ، وَعَادَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ ذَاكَ تَمْهِيدًا لِلدِّينِ التَّامُ الْوَسَطِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْمَزَايَا الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ ; لِيَكُونَ عَامًّا لِلْبَشَرِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ النَّصْرَانِيَّةُ الَّتِي يَدَّعِي أَهْلُهَا أَنَّهَا دِينٌ عَامٌّ بِالرَّغْمِ مِمَّا فِي أَنَاجِيلِهَا مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ لَهُمْ إِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ، وَلَمْ يُرْسِلْهُمْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ، يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ قَالَ: (مت 5: 17 لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكْمِلَ) إِلَخْ وَنَقَلُوا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَعَ هَذَا قَالَ: (يو 16: 12 إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لِأَقُولَ لَكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ 13 وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ) إِلَخْ. وَهَذَا لَا يَصْدُقُ وَلَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ إِلَّا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ وَأَخْبَرَ غَيْرَهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (6: 38) وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ اللهِ

عَزَّ وَجَلَّ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (53: 3، 4) وَأَخْبَرَهُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا صَرِيحَةٍ بَعْضُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرُهَا غَلَبُ الرُّومِ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ سِنِينَ، وَبَعْضُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَفِي رِوَايَاتٍ بِالْغِيبَةِ، أَيْ قَالَ هَذَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَإِخْبَارُهُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِمَوْتِهِ، وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ، وَإِخْبَارُهُ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ يَوْمَ مَوْتِهِ وَصَلَاتُهُ عَلَيْهِ إِلَخْ إِلَخْ. وَلَا يَزَالُ الزَّمَانُ يُظْهِرُ صِدْقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ - وَقَدْ مَجَّدَ الْمَسِيحَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا بِنَفْيِ طَعْنِ الْيَهُودِ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِهِ وُلِدَ طَاهِرًا مِنَ الدَّنَسِ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ وَمُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ، وَبَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْمَسِيحُ بِاسْمِهِ الدَّالِّ عَلَى الْحَمْدِ الْكَثِيرِ (أَحْمَدَ) وَمِثْلُهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ فِي نُسَخِ الْإِنْجِيلِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الْبَارْقِلِيطُ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ فِي التَّرَاجِمِ الْأَخِيرَةِ فَسَمَّوْهُ الْعُزَّى كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ لِدِينِ الْحَقِّ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْلِي هَذَا الدِّينَ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ وَالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَكَذَا السِّيَادَةُ وَالسُّلْطَانُ (كَمَا قُلْنَا آنِفًا) وَلَمْ يَكُنْ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَالْمَادِّيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ وَحْدَهُ. لَا نُنْكِرُ أَنَّ جَمِيعَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ صَلَحَتْ حَالُهُمْ بِاهْتِدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِنَبِيِّهِمْ مُدَّةَ اهْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَلَكِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يَرْوِ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلُّ هَذِهِ الْفَوَائِدِ بِتَأْثِيرِهِ فِيهِمْ. أَمَّا ظُهُورُ الْإِسْلَامِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ مُسْتَقِلَّانِ، عَرَفَاهُ وَعَرَفَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا السِّيَاقِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَأَشَرْنَا إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا مِمَّا يُمْكِنُ لِمُقْتَنِي مُجَلَّدَاتِ مَجَلَّةِ الْمَنَارِ أَنْ يُرَاجِعُوهُ فِي أَكْثَرِهَا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْفِهْرِسِ الْعَامِّ، وَلَا سِيَّمَا لَفْظُ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا ظُهُورُهُ عَلَيْهَا بِالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَالسِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ، فَالَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ بَادِيَ الرَّأْيِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ وَالْيَابَانُ وَضَعْفِ مَا بَقِيَ مِنْ دُوَلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ فِي دُوَلِ الْعَرَبِ الْأُولَى وَكَذَا دَوْلَةُ التُّرْكِ فِي أَوَّلِ عَهْدِهَا. وَنُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ وَالْيَابَانُ وَشُعُوبُهُمَا لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ أَدْيَانِهِمَا فِي تَعَالِيمِهَا، وَلَا فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ عَقِبَ وُجُودِ الدِّينِ فِيهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَقَدْ نَقَلْنَا فِي هَذَا السِّيَاقِ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ الْمُسْتَقِلِّينَ أَنَّ مَدَنِيَّتَهُمُ الْحَاضِرَةَ

وَمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ كُتُبِهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مُلِمٍّ بِالتَّارِيخِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَابَانَ اقْتَبَسَتْ حَضَارَتَهَا وَقُوَّتَهَا مِنْ أُورُبَّةَ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي، وَحَضَارَةُ الْعَرَبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا سَبَبٌ إِلَّا هِدَايَةَ دِينِهِمْ. وَقَدْ قَصَّرَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ تَفَاسِيرَهُمْ مِنْ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ دُونَ تَحْقِيقٍ لِمَدْلُولَاتِهَا فِي الْخَارِجِ وَمِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَلَى قِلَّتِهَا وَقِلَّةِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَقَدْ صَحَّ فِي بَعْضِهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ شَابٍّ مِنْ مُحَارِبٍ مَرْفُوعًا " أَنَّهُ سَتُفْتَحُ لَكُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا " وَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمَا رُوِيَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مَنْ يُوجِبُ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَفِي بَعْضِهَا تَعْيِينُ مِصْرَ، وَأَوْصَى بِالْقِبْطِ خَيْرًا وَالشَّامِ وَمُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكُلُّ هَذَا قَدْ تَمَّ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا صَحَّ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ سَيُفْتَحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمَّا يُفْتَحْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفْتَحَ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " يَا عَدِيُّ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ. قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ، فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ " قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا. قَالَ: " أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ. تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ، أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ. قُلْتُ ; كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ " قَالَ عَدِيٌّ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَهَا، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْعِمَادِ بْنِ كَثِيرٍ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ لَا يَتِمُّ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ وَإِقَامَتِهِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِظْهَارِهِ بِالْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِمَا يَتَوَقَّعُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَتِهِ، وَقَدْ كَانَ شُيُوعُ هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ تَقَاعُدِهِمْ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ إِعْلَاءِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِ وَحِمَايَةِ دَعْوَتِهِ، وَتَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ وَتَعْزِيزِ سُلْطَتِهِ اتِّكَالًا عَلَى أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ فَرِيضَةً حَاضِرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْمَهْدِيِّ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ مُتَدَافِعَةٌ، وَأَنَّ مَصْدَرَهَا نَزْعَةٌ سِيَاسِيَّةٌ شِيعِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلِلشِّيعَةِ فِيهَا خُرَافَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الدِّينِ لَا نَسْتَحْسِنُ نَشْرَهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُ نُزُولِ عِيسَى فَبَعْضُ أَسَانِيدِهَا صَحِيحَةٌ، وَهِيَ عَلَى تَعَارُضِهَا وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِأَحَادِيثِ الدَّجَّالِ الْمُتَعَارِضَةِ مِثْلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْبَحْثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ أَمْرُهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَلَّا تَكُونَ سَبَبًا لِلتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَّكِلُونَ فِي إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ فِي فِلَسْطِينَ وَمَا جَاوَرَهَا عَلَى مَا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبَشَائِرِ بِظُهُورِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) الَّذِي يُعِيدُهُ لَهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَمَرَّتْ أُلُوفُ السِّنِينَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ هَبُّوا إِلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ حَتَّى إِنَّهُمْ سَخَّرُوا الدَّوْلَةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ لِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَمُعَادَاةِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِهِ، أَفَلَسْنَا أَحَقَّ بِحِفْظِ مَا بَقِيَ مِنْ مُلْكِنَا، وَاسْتِعَادَةِ مَا فَقَدْنَا مِنْهُ بِكَسْبِنَا وَاجْتِهَادِنَا، مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِنَا؟ بَلَى وَاللهِ، وَإِنَّ مِنَ الْجَهْلِ بِالدِّينِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ أَنْ نُقَصِّرَ فِي ذَلِكَ اتِّكَالًا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَتَى جَاءَ وَكُنَّا مُقِيمِينَ لِدِينِنَا كُنَّا أَجْدَرَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، بَلْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَعْتَدَّ الْمَهْدِيُّ وَالْمَسِيحُ بِدِينِ أَحَدٍ لَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَطِيعُ فِي إِقَامَةِ فَرَائِضِ اللهِ وَحُدُودِهِ وَسَبَقَ لِي أَنْ أَطَلْتُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِي (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ) الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي عَهْدِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسِ الشَّامِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا نَرْجُوهُ وَنَتَوَقَّعُهُ مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (24: 55) الْآيَةَ. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْإِظْهَارَ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَالشِّرْكُ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ إِتْمَامَ اللهِ لِدِينِهِ، وَإِظْهَارَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ سَيَكُونُ بِالرَّغْمِ مِنْ

34

أُنُوفِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِاللهِ تَعَالَى وَغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (30: 4 - 7) . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَمِّمَتَانِ لَهُ، وَمُقَرِّرَتَانِ لِمَوْعِظَةٍ عَامَّةٍ تَقْتَضِيهَا الْمُنَاسَبَةُ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا فَعَبَدُوا غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ الَّذِي أَفَاضَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّ اللهَ لَا يُرِيدُ إِطْفَاءَهُ بَلْ يُرِيدُ إِتْمَامَهُ وَقَدْ فَعَلَ - فَنَاسَبَ أَنَّ يُبَيِّنَ مَعَ هَذَا شَيْئًا مِنْ سِيرَةِ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ الدِّينِيِّينَ الْعَمَلِيَّةِ ; لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ اسْتَعْمَلَ أَكْلَ الْأَمْوَالِ بِمَعْنَى أَخْذِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، الَّتِي يُعَدُّ مَا يُبْتَاعُ بِهَا لِلْأَكْلِ أَعَمَّ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (2: 188) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (4: 29)

وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الْمُزْرِيَةِ إِلَى الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ مِنْ دَقَائِقِ تَحَرِّي الْحَقِّ فِي عِبَارَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ بِفَسَادِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا أَوْ فِسْقِهِمْ أَوْ ظُلْمِهِمْ، بَلْ يُسْنِدُ ذَلِكَ إِلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، أَوْ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْعَامَّ ثُمَّ يَسْتَثْنِي مِنْهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (5: 62، 63) وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِيهِمْ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (5: 59) وَمِنَ الثَّالِثِ: قَوْلُهُ فِي الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ: وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 46) وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى هَذَا الْعَدْلِ الدَّقِيقِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا نُكَرِّرُهُ لِعَظِيمِ شَأْنِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ هُنَا بَعْضَ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهَا بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَبْذُلُ النَّاسُ فِيهَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ بِحَقٍّ يَرْضَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) مَا يَبْذُلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عَابِدٌ قَانِتٌ لِلَّهِ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا ; لِيَدْعُوَ لَهُمْ وَيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَشِفَاءِ مَرْضَاهُمْ ; لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللهَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ وَلَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ - وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ دُونَ أَخْذِ الْمَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ بِاسْتِجَابَتِهِ حَسَنٌ، وَاعْتِقَادُهُمْ بِالْجَزْمِ جَهْلٌ، أَوْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ سُلْطَانًا وَتَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ فَهُوَ يَقْضِي الْحَاجَاتِ مِنْ دَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ شَاءَ، وَجَلْبِ الْخَيْرِ لِمَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْأَصْلِ، وَمِمَّنْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْعَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأَوَّلَهَا لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الدِّينِيُّونَ الْمُضِلُّونَ بِأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذِهِ النَّزَعَاتِ الشِّرْكِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ أَنَّ غَيْرَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. (وَمِنْهَا) مَا يَأْخُذُهُ سَدَنَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَعَابِدِ الَّتِي بُنِيَتْ بِأَسْمَائِهِمْ مِنَ الْهَدَايَا وَالنُّذُورِ، الَّتِي يَحْمِلُهَا إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ أَمْثَالُ مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ وَالنَّصَارَى يَبْنُونَ الْكَنَائِسَ وَالْأَدْيَارَ بِأَسْمَاءِ الْقِدِّيسِينَ وَالْقِدِّيسَاتِ، فَتُحْبَسُ عَلَيْهَا الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتُ، وَتُقَدَّمُ لَهَا النُّذُورُ وَالْهَدَايَا تَقَرُّبًا إِلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْوَقْفُ عَلَى الدِّيرِ أَوِ الْكَنِيسَةِ عِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا قُرْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَأَخْذُ الْمَالِ وَإِعْطَاؤُهُ فِي بِنَاءِ

الْمَعَابِدِ حَقٌّ فِي أَصْلِ كُلِّ دِينٍ سَمَاوِيٍّ، وَإِنَّمَا الْبِدَعُ الْوَثَنِيَّةُ فِي الْمَعَابِدِ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعِبَادَةِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَعْبَدُ، وَيُوضَعُ لَهُ فِيهِ قَبْرٌ أَوْ صُورَةٌ أَوْ تِمْثَالٌ فَيُدْعَى فِيهِ مَعَ اللهِ تَارَةً، وَمِنْ دُونِهِ تَارَةً، وَيُنْذَرُ لَهُ وَحْدَهُ آوِنَةً، وَمَعَ اللهِ آوِنَةً، فَهَذِهِ بِدَعٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَدْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُوحَاةُ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّفَقَةُ فِيهَا كُلُّهَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَآكِلُوهَا مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، وَسَدَنَةِ الْمَعَابِدِ مِنَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. (وَمِنْهَا) مَا هُوَ خَاصٌّ بِالنَّصَارَى بَلْ بِبَعْضِ فِرَقِهِمْ كَالْأَرْثُوذُكْسِ وَالْكَاثُولِيكِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ جُعْلًا عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ أَوْ ثَمَنًا لَهَا، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهَا بِمَا يُسَمُّونَهُ سِرَّ الِاعْتِرَافِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَوِ الْمَرْأَةُ الْقِسِّيسَ أَوِ الرَّاهِبَ الْمَأْذُونَ لَهُ مِنَ الرَّئِيسِ الْأَكْبَرِ بِسَمَاعِ أَسْرَارِ الِاعْتِرَافِ، وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَيَخْلُو بِهِ أَوْ بِهَا ; فَيَقُصُّ عَلَيْهِ الْخَاطِئُ مَا عَمِلَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا ; لِأَجْلِ أَنْ يَغْفِرَهَا لَهُ ; لِأَنَّ مِنْ عَقَائِدِ الْكَنِيسَةِ أَنَّ مَا يَغْفِرُهُ هَؤُلَاءِ يَغْفِرُهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ لِبَيْعِ البَّابَوَاتِ لِلْغُفْرَانِ نِظَامٌ مُتَّبَعٌ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى لِلنَّصْرَانِيَّةِ (أَعْنِي الْوُسْطَى فِي الزَّمَنِ لَا فِي الِاعْتِدَالِ) وَكَانَ الثَّمَنُ يَتَفَاوَتُ بِقَدْرِ ثَرْوَةِ الْمُشْتَرِينَ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالنُّبَلَاءِ وَكِبَارِ الْأَغْنِيَاءِ فَمَنْ دُونَهُمْ، وَكَانُوا يُعْطُونَ بِالْمَغْفِرَةِ صُكُوكًا يَحْمِلُونَهَا ; لِيَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِهَا، وَكَانَ هَذَا الْخَطْبُ الْكَبِيرُ مِنْ غُلُوِّ الْكَاثُولِيكِ فِي اسْتِغْلَالِ سُلْطَتِهِمُ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَالِانْقِلَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْإِصْلَاحَ (الْبُرُوتِسْتَانْتَ) إِذْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَسَادٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَكَبَائِرِ الْمَعَاصِي. وَالِاعْتِرَافُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُوضَعْ لَهُ ثَمَنٌ، وَلَكِنَّ سُوءَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِ رِجَالِ الدِّينِ لَهُ أَغْرَاهُمْ بِجَعْلِهِ وَسِيلَةً لِسَلْبِ الْمَالِ، وَفِي الْقَوَانِينِ السِّرِّيَّةِ لِبَعْضِ الرَّهْبَنَاتِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ مَوَادُّ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. (وَمِنْهَا) مَا يُؤْخَذُ عَلَى فَتَاوَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَأُولُو الْمَطَامِعِ وَالْأَهْوَاءِ يُفْتُونَ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ وَكِبَارَ الْأَغْنِيَاءِ بِمَا يُسَاعِدُهُمْ عَلَى إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، أَوْ ظُلْمِ رَعَايَاهُمْ وَمُعَامِلِيهِمْ، بِضُرُوبٍ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّأْوِيلِ يُصَوِّرُونَ بِهِ النَّوَازِلَ بِغَيْرِ صُوَرِهَا، وَيُلْبِسُونَ بِهِ الْمَسَائِلَ أَثْوَابًا مِنَ الزُّورِ تَلْتَبِسُ بِحَقِيقَتِهَا، وَفِي الْمَادَّةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ التَّعَالِيمِ السِّرِّيَّةِ لِلرَّهْبَنَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا وُجُوبُ التَّسَاهُلِ مَعَ الْمُلُوكِ وَعَشَائِرِهِمْ فِي الزَّوَاجِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ، وَغُفْرَانِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا لَهُمْ، وَاسْتِخْرَاجِ بَرَاءَةٍ مِنَ الْبَابَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. بَلْ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ نَصٌّ فِي وُجُوبِ التَّسَاهُلِ فِي الِاعْتِرَافِ وَالْمَغْفِرَةِ حَتَّى لِخَدَمِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ خِطَابَ الِاحْتِجَاجِ وَالتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ (6: 91)

(وَمِنْهَا) : مَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ سَلْبُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي جِنْسِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ مِنْ خِيَانَةٍ وَسَرِقَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى ـ: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، [3: 75] يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ أَمْوَالِ إِخْوَانِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ دُونَ الْأُمِّيِّينَ وُهُمُ الْعَرَبُ وَكَذَا سَائِرُ الطَّوَائِفِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هَؤُلَاءِ يَقُولُ الْبُوصِيرِيُّ فِي سَرْدِ مَا خَالَفَ الْيَهُودُ فِيهِ الْحَقَّ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَهُمْ: وَبِأَنَّ أَمْوَالَ الطَّوَائِفِ حُلِّلَتْ لَهُمُ رِبًا وَخِيَانَةً وَغُلُولَا. (وَمِنْهَا) الرِّشْوَةُ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمَدَنِيَّةِ رَسْمِيَّةً أَوْ غَيْرَ رَسْمِيَّةٍ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَجْلِ الْحُكْمِ أَوِ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ إِحْقَاقِ بَاطِلٍ هُوَ فِي مَعْنَى الْأَخْذِ عَلَى الْفَتْوَى، وَهُمَا مِمَّا اتَّبَعَ فِيهِ بَعْضُ فُقُهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامُهُمْ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا. (وَمِنْهَا) الرِّبَا حَتَّى الْفَاحِشُ مِنْهُ، وَهُوَ فَاشٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّهُ مِنْهُ مَا يُحِلُّهُ لَهُمْ رِجَالُ الدِّينِ، وَمِنْهُ مَا يُحَرِّمُونَهُ فِي الْفَتْوَى وَكُتُبِ الشَّرْعِ، وَالْيَهُودُ أَسَاتِذَةُ الْمُرَابِينَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَأَحْبَارُهُمْ يُفْتُونَهُمْ بِأَكْلِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ إِخْوَانِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَيَأْكُلُونَهُ مَعَهُمْ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ بِنَصٍّ فِي تَوْرَاتِهِمُ الْمَحَرَّفَةِ بَدَلًا مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّوْرَاةِ النَّهْيُ عَنْ أَخْذِ الرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ وَإِقْرَاضِ النَّقْدِ وَالطَّعَامِ بِالرِّبَا مُطْلَقًا، وَذِكْرُ الْأَخِ فِي نُصُوصِ النَّهْيِ سَبَبُهُ أَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِمْ وَهُمْ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِمْ. وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (23: 19: لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا 20 لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرَبًا وَلَكِنْ لِأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا لِكَيْ يُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ فِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا) فَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ هُنَا إِنْ كَانَ مِنَ الْأَصْلِ هُوَ الْعَدُوُّ الْحَرْبِيُّ الَّذِي كَانُوا مَأْذُونِينَ فِي شَرِيعَتِهِمْ بِقِتَالِهِ لِامْتِلَاكِ بِلَادِهِ، وَهَذَا قَدْ مَضَى وَلَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فِي أَيِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ اللهِ ـ تَعَالَى ـ خِلَافًا لِمَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُعِدُّونَ عَرَبَ فِلَسْطِينَ الْمَالِكِينَ لِمُعْظَمِ أَرْضِهَا أَعْدَاءً حَرْبِيِّينَ كَالَّذِينَ كَانُوا فِيهَا عِنْدَ مُقَاتَلَةِ يُوشَعَ لَهُمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ سَلْبَ أَمْوَالِهِمْ وَسَفْكَ دِمَائِهِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ وَعَدُوهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْبَلَادَ كُلَّهَا وَمَا فِيهَا مِنْ مَوْضِعِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ سَتَعُودُ إِلَيْهِمْ، كَمَا وَعَدَ الرَّبُّ أَجْدَادَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِجَعْلِهَا لَهُمْ، وَلَكِنْ وَعْدُ أَنْبِيَائِهِمْ مُقَيَّدٌ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ أَتَى وَكَذَّبَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ غَيْرَهُ، فَلْيَصْبِرُوا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ وَيُصَدِّقَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا التَّعَدِّي عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ وَمُحَاوَلَةُ سَلْبِ أَرْضِهِمْ وَعَقَارِهِمْ مِنْهُمْ بِتْسَخِيرِ بَعْضِ الدُّوَلِ الَّتِي

تَعْبُدُ الْمَالَ بِمَالِهِمْ لِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ، فَلَيْسَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي تِلْكَ الْبِشَارَاتِ. وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِشَارَةٌ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ مِنْ بِشَارَاتِهِمْ، وَإِخْبَارِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ بِأَنَّ الْيَهُودَ يُقَاتِلُونَهُمْ فَيُظْهِرُهُمُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ عَلَيْهِمْ. . (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ، (11: 122) . عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَقِفُوا فِي الرِّبَا عِنْدَ حَدٍّ، فَقَدْ صَارُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ مَنْهِيُّونَ فِي التَّوْرَاةِ عَنْهُ بِلَفْظِ " شَعْبِي الْفَقِيرُ "؛ كَمَا يُرَى فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (22: 25) ، وَقَدْ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ نِحِمْيَا " الَّذِي كَانَ صَاحِبَ السَّعْيِ الْأَوَّلِ لِإِطْلَاقِهِمْ مِنَ السَّبْيِ، وَالْمُعِيدَ لِبِنَاءِ أُورْشَلِيمَ بَعْدَ خَرَابِهَا، وَالْحَاكِمَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ لِلسَّبْتِ، وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ رَفِيقُهُ الْعُزَيْزُ (عِزْرَا) كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، (30) مِنْ أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ، فَرَاجِعِ الْفَصْلَ الْخَامِسَ مِنْ سِفْرِ نِحِمْيَا، وَفِي نُبُوَّةِ حِزْقِيَالَ نَهْيٌ لَهُمْ عَنِ الرِّبَا تَارَةً بِالْإِطْلَاقِ، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِ الْفَقِيرِ، كَمَا تَرَى فِي الْإِصْحَاحِ 18 مِنْهُ، وَكَذَلِكَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي ذَمِّ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ فِي آخِرِ الْمَزْمُورِ الْخَامِسَ عَشَرَ. وَأَمَّا النَّصَارَى: فَقَدْ وَضَعَ لَهُمُ الْأَسَاقِفَةُ أَحْكَامًا لِلرِّبَا، وَالْقُرُوضِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ اللَّاهُوتَ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا بَيَانُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا مَوْضُوعُنَا أَنَّ الرِّبَا الْمُحَرَّمَ عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالَى ـ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ لِضَرَرِهِ، مِمَّا يَأْكُلُهُ رُهْبَانُهُمْ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، وَأَنَّ لِبَعْضِ رُهْبَانَاتِهِمْ جَمْعِيَّاتٍ غَنِيَّةً مُعْظَمُ ثَرْوَتِهَا مِنَ الرِّبَا مِنْهَا جَمْعِيَّةٌ كَانَتْ قَدْ أَسَّسَتْ بِأَرْضِ فَرَنْسَةَ مَصْرِفًا مَالِيًّا (بَنْكًا) جَمَعُوا فِيهِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أُلُوفَ الْأُلُوفِ، ثُمَّ ادَّعَوْا إِفْلَاسَهُ فَضَاعَتْ تِلْكَ الْأَمَانَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مُودِعِيهَا فِي مَصْرِفِهِمْ، فَهَاجَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى فَكَانُوا يَهْجِمُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَدْيَارِهِمْ، وَيُقَتِّلُونَهُمْ تَقْتِيلًا، ثُمَّ طَرَدَتْهُمْ فَرَنْسَةُ مِنْ بِلَادِهَا، وَإِنَّمَا تُسَاعِدُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهَا وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ لِتَرْوِيجِهِمْ لِسِيَاسَتِهَا. وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى نِظَامٍ فِي الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْمَعُونَ بِهَا الْأَمْوَالَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا حَمْلُ الْأَغْنِيَاءِ وَلَا سِيَّمَا الْمُثْرِيَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِجَمْعِيَّتِهِمْ أَوْ بَعْضِ أَدْيَارِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، أَوِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا مِمَّا لَا حَاجَةَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِلَى تَفْصِيلِهِ. وَحَسْبُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَيَانِ صِدْقِ كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالَى ـ وَهُوَ مَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ وَخَطَرَ فِي الْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِمَّا عَلِمْنَاهُ مِنَ التَّارِيخِ، وَكُلُّهُ حَقٌّ وَإِنْ فَاتَ أَكْثَرُهُ جَمِيعَ مَنْ عَرَفْنَا كُتُبَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَمِدُّونَ مِثْلَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْإِسْرَائِيلِّيَّاتِ، فَعَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهِ، وَيَعْجَبَ مِنْ وَقَاحِةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ، كَيْفَ لَا يَخْجَلُونَ مِنْ بَثِّ الدُّعَاةِ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ أَحْرَارِ أُورُبَّةَ وَالْكُتُبِ الَّتِي يَرُدُّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ هَذَا الْفَسَادِ الَّذِي طَرَأَ

عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ الْحَقِّ فَهُوَ مِنْ غُلُوِّ أَهْلِ أُورُبَّةَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ فِي الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، فَهُمْ غُلَاةٌ مُسْرِفُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَصَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ يُتْقِنُ كُلَّ مَا يَأْخُذُ بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ; لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى مِنْهُ بِمَا دُوْنَ غَايَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَتْقَنَتْ رَهْبَنَاتُهُمْ جَمْعَ الْمَالِ ثُمَّ أَتْقَنَتِ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي دِينِهَا التَّقْلِيدِيِّ وَدُنْيَاهَا، وَأَخَذَتْ رَهْبَنَاتُ الشَّرْقِ النِّظَامَ عَنْهَا، وَمَاذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوْقَافِهِمْ وَخِدْمَةِ دِينِهِمْ؟ ؟ . وَأَمَّا صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ مَنْعُهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ سَبِيلَ اللهِ فِي الدِّينِ هِيَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الصَّحِيحَةِ وَعِبَادَتِهِ الْقَوِيمَةِ الَّتِي تُرْضِيهِ، وَرَأْسُ مَعْرِفَتِهِ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ غَيْرُ مُوَحِّدِينَ، وَمُشَبِّهُونَ غَيْرُ مُنَزِّهِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ مِمَّا مَرَّ فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ الْأُولَى: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَأَمَّا عِبَادَتُهُ الْقَوِيمَةُ فَهِيَ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ هُوَ دُونَ الْبَشَرِ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ فَالْيَهُودُ قَدْ تَرَكُوا جُلَّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ حَتَّى الْقَرَابِينَ وَالتَّقْدُمَاتِ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَرْطَهَا أَنْ تُفْعَلَ فِي هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، مَعَ أَنَّ اللهَ شَرَعَ الشَّرَائِعَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى قَبْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِالْمَسِيحِ الْمُصْلِحِ الْأَكْبَرِ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَالنَّصَارَى يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهَ وَالْقِدِّيسِينَ، وَجُلُّ عِبَادَاتِهِمْ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ مُبْتَدَعَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ الْمَسِيحِ. فَمَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الْمَرْضِيِّ لَهُ تَعَالَى مَحْصُورَةٌ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي حَفِظَ اللهُ كِتَابَهُ الْمُنَزَّلَ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكُلُّ مَا ابْتَدَعَهُ جَهَلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَائِدُونَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ حُجَّةٌ عَلَى بُطْلَانِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، يُقِيمُهَا أَنْصَارُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ - فَسَبِيلُ اللهِ إِذًا هَذَا الْإِسْلَامُ، إِسْلَامُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَأَمَّا طُرُقُ صَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْإِمْكَانِ، وَقَدِ انْفَرَدَ النَّصَارَى بِالْعِنَايَةِ بِهَذَا الصَّدِّ مِنْ طَرِيقَيِ السِّيَاسَةِ وَالدَّعْوَةِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ بِالْإِجْمَالِ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِصَدِّ أَهْلِ مِلَلِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَصُدُّونَ أَهْلَهُ عَنْهُ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِهِمُ الْمُلَفَّقِ مِنَ الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْقَدِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَسَّمَتْ أُمَمُهُمْ وَدُوَلُهُمُ الْبِلَادَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِلَى مَنَاطِقِ نُفُوذٍ دِينِيَّةٍ تَبْشِيرِيَّةٍ، تَابِعَةٍ لِمَنَاطِقِ النُّفُوذِ السِّيَاسِيَّةِ الدُّوَلِيَّةِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ ضَرَاوَتُهُمْ بَعْدَ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ بِسَلْبِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَا بَقِيَ مِنِ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَتَعْمِيمِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَهْلِهَا، حَتَّى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَهْدِ الْإِسْلَامِ وَمَعْقِلِهِ وَمَأْرَزِهِ، وَعَقَدُوا لِلتَّنْصِيرِ عِدَّةَ مُؤْتَمَرَاتٍ دُوَلِيَّةٍ، وَأَلَّفُوا لِلتَّمْهِيدِ لَهُ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَقَدْ سَخَّرُوا بَعْضَ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَعْبَدِينَ وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ وَالْفِقْهِ الْمُنَافِقِينَ لِشَدِّ

أَزْرِهِمْ، فَمَاذَا تُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مِنْ تَسْخِيرِ زَنَادِقَتِهِمْ وَمَلَاحِدَتِهِمْ. وَمَاذَا يُفِيدُ الْمُسْلِمُ مِنْ قِرَاءَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ تَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْأَلْفَاظِ وَالرِّوَايَاتِ لَهَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَضْمُونَهَا التَّفْصِيلِيَّ الْعَمَلِيَّ فِي عَصْرِهِ، وَيَسْعَى لِتَدَارُكِ خَطْبِهِ؟ وَإِنَّمَا فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهَا لِتَفْنِيدِ تِلْكَ الدِّعَايَةِ، وَنَقْضِ تِلْكَ الْمُصَنَّفَاتِ بِالْإِجْمَالِ، وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَسْتَمِدُّونَ مِنْهُ التَّفْصِيلَ. هَذَا وَإِنَّ أَشَدَّ طُرُقِهِمْ فِي الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَظَاعَةً وَقُبْحًا وَإِهَانَةً لَهُوَ الطَّعْنُ فِي النَّبِيِّ الْأَعْظَمِ وَالْقُرْآنِ، وَأَشَرُّ مِنْهُ وَأَضَرُّ تَعْلِيمُ الْمَدَارِسِ الَّتِي يُفْسِدُونَ عَقَائِدَ النَّشْءِ الَّذِي يَتَرَبَّى وَيَتَعَلَّمُ فِيهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُسْلِمِي الْأَمْصَارِ لَا يَعْقِلُونَ كُنْهَ مَفَاسِدِهَا، وَسُوءَ عَاقِبَتِهَا فِي الدِّينِ وَالْأَدَبِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَسَيَأْتِي نَصُّهُ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، فَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ كَنْزِهَا وَجَمْعِهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ يُنْفِقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِحَالِ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، الَّذِينَ صَارَ جَمْعُ الْأَمْوَالِ وَالِافْتِتَانُ بِكَثْرَتِهَا وَخَزْنِهَا فِي الصَّنَادِيقِ وَاسْتِغْلَالِهَا فِي الْمَصَارِفِ (الْبُنُوكِ) أَعْظَمَ هَمِّهِمْ فِي الْحَيَاةِ ; لِأَنَّهُمْ فَقَدُوا لَذَّةَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ - تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِخْلَادِ إِلَى هَذِهِ السَّفَالَةِ. وَسَيَأْتِي عَنْ أَبِي ذَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهَا فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; فَإِنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ جَرَيَانُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ، وَأُولَئِكَ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ يَدْخُلُونَ فِيهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِدِلَالَةِ السِّيَاقِ ; لِأَنَّهُمْ هَبَطُوا فِي الْمَطَامِعِ الْمَادِّيَّةِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرَكَاتِ. وَالْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ وَرَصُّهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ كَنِيزُ اللَّحْمِ وَمُكْتَنِزُهُ أَيْ صُلْبُهُ وَشَدِيدُهُ، وَكَنَزْتُ الْحَبَّ فِي الْجِرَابِ فَاكْتَنَزَ فِيهِ، وَكَنَزْتُ الْجِرَابَ إِذَا مَلَأْتُهُ جِدًّا قَالَهُ فِي الْأَسَاسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَنْزُ جَعْلُ الْمَالِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَحِفْظُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ كَنَزْتُ التَّمْرَ فِي الْوِعَاءِ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْكَنْزِ هُنَا خَزْنُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي الصَّنَادِيقِ أَوْ دَفْنُهَا فِي التُّرَابِ وَإِمْسَاكُهَا، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إِنْفَاقِهَا فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فِي آيَةِ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ (60) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهَا وَمَا قَبْلَهُ مُثَنًّى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّهَبِ الدَّنَانِيرُ وَبِالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا جِنْسُ الذَّهَبِ.

وَالْفِضَّةِ وَمَعْدَنِهِمَا الَّذِي يَصْدُقُ بِالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْإِنْفَاقِ، وَالْوَسِيلَةُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالِارْتِفَاقِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إِلَّا فِي إِنْفَاقِهَا، فَكَنْزُهَا إِبْطَالٌ لِمَنَافِعِهَا، فَهُوَ مِنْ سَخَفِ الْعَقْلِ، وَعِصْيَانِ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مُثَنَّى لَهُ أَفْرَادٌ لِكُلٍّ مِنْ نَوْعَيْهِ يَجُوزُ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ بَعْدَهُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَفْرَادِ مِنْ نَوْعَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ، (49: 9) ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ يُنْفِقُونَهَا الْأَمْوَالُ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهَا بِالْبَاطِلِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ الْكَلَامُ بِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا) أَنَّ الْوَاجِبَ إِنْفَاقُهَا كُلُّهَا، وَأَنَّ الْوَعِيدَ مَوْضِعُهُ إِلَى مَنْ يَبْقَى عِنْدَهُ شَيْئًا يَزِيدُ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ؛ فَإِنَّ اللهَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، وَ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، (70: 24، 25) ، وَقَالَ: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) ، (2: 267) ، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) (63: 10) ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلُمَاءِ: إِنَّهُ يَجِبُ التُّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَا أَحْرَزَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، دُونَ إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ مِنَ الْحِلِّ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَكَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْمُعَارِضَةِ لَهُمَا، وَفِي الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ وُجُوبَ إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَقْدِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ جُمْهُورَهُمْ رَجَعُوا عَنْ هَذَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَّا يَدَعُ لِوَلَدِهِ مَالًا يَبْقَى بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ ثَوْبَانُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ "، فَكَبَّرَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ " وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

قَالَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ عِنْدِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَعْلَمُ عَدَدَهُ، أُزَكِّيهِ وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ وُجُوبُ إِنْفَاقِ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الْمُؤْمِنُ مِنَ النَّقْدَيْنِ ـ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ " بَرَاءَةٌ " هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ؛ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، " وَبَرَاءَةٌ " نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي عُيِّنَ فِيهَا الْعُمَّالُ لِجَمْعِ الزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَحْفُوظُ الْمَوْقُوفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْخَطِيبُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَيُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا، فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ، قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ " أَقُولُ: وَكَذَا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِيمَا زَادَ مِنَ الْمَالِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الِاكْتِنَازِ - وَهُوَ حَبْسُ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ عَنِ الْمُوَاسَاةِ بِهِ - فَعَلىَ هَذَا الْمُرَادُ بِنُزُولِ الزَّكَاةِ بَيَانُ نِصَابِهَا وَمَقَادِيرِهَا لَا إِنْزَالُ أَصْلِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَلَى مَالٍ تَحْتَ يَدِ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُ، أَوْ يَكُونَ لَهُ لَكِنَّهُ مِمَّنْ يُرْجَى فَضْلُهُ، وَتُطْلَبُ عَائِدَتُهُ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَدَّخِرَ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ رَعِيَّتِهِ شَيْئًا، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَالٍ يَمْلِكُهُ، قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ، فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَرَابَتَهُ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَلَا يَرَى ادِّخَارَ شَيْءٍ أَصْلًا. (قَالَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَدَتْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ فَهُوَ كَنْزٌ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَحَمَلُوا الْوَعِيدَ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَأَصَحُّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ، وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ (يَعْنِي الزَّكَاةَ) ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ كَمَا

تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (2: 219) أَيْ: مَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَقُولُ: وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ فَأَخْبَارُ مَذْهَبِهِ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالْرَّبَذَةِ (وَهِيَ بِالْفَتْحِ مَكَانٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. اهـ. ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ إِنَّمَا سَأَلَ أَبَا ذَرٍّ عَنْ نُزُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ مُبْغِضِي عُثْمَانَ كَانُوا يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَفَى أَبَا ذَرٍّ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ نُزُولَهُ فِيهِ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ. (قَالَ) نَعَمْ أَمَرَهُ عُثْمَانُ بِالتَّنَحِّي عَنِ الْمَدِينَةِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي خَافَهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْمَذْكُورِ فَاخْتَارَ الرَّبَذَةَ، وَقَدْ كَانَ يَغْدُو إِلَيْهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (قَالَ) وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالُوا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَ بِكَ وَفَعَلَ، فَهَلْ أَنْتَ نَاصِبٌ لَنَا رَأْيَهُ؟ - يَعْنِي فَنُقَاتِلَهُ - فَقَالَ: لَا، لَوْ أَنَّ عُثْمَانَ سَيَّرَنِي مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنَّهُ يُؤْذِينَا - فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ بَقِيَ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتُهُ عَلَيْهِ " وَأَنَا بَاقٍ عَلَى عَهْدِهِ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِالشَّامِ. وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُولُ: لَا يَبِيتَنَّ عِنْدَ أَحَدِكُمْ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنْ كَانَ لَكَ بِالشَّامِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمْ عَلَيَّ، فَقَدِمَ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي قِصَّةِ أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عِبْرَةً بِمَا كَانَ مِنْ دَسَائِسِ الشِّيعَةِ فِي الْخُرُوجِ عَلَى عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ حُرِّيَّةَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَاحْتِرَامِ الْعُلَمَاءِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي فَوَائِدِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْفَتْحِ: وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الْأَئِمَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَجْسُرْ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ حَتَّى كَاتَبَ

مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي أَمْرٍ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَحْنَقْ عَلَى أَبِي ذَرٍّ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي تَأْوِيلِهِ. (وَفِيهِ) التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّقَاقِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ - وَأَمْرُ الْأَفْضَلِ بِطَاعَةِ الْمَفْضُولِ خَشْيَةَ الْمَفْسَدَةِ - وَجَوَازُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ - وَالْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فِرَاقِ الْوَطَنِ - وَتَقْدِيمُ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَاءِ أَبِي ذَرٍّ بِالْمَدِينَةِ مَصْلَحَةً كَبِيرَةً مِنْ بَثِّ عِلْمِهِ فِي طَالِبِ الْعِلْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ رَجُحَ عِنْدَ عُثْمَانَ دَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ مِنَ الْأَخْذِ بِمَذْهَبِهِ الشَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ مُجْتَهِدًا اهـ. وَمِنْ أَخْبَارِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَافِرِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعَ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى فَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقُلْتُ: لَا أَرَى الْقَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ. قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا: قَالَ لِي خَلِيلِي - قَالَ قُلْتُ: وَمَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أَحَدًا "؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ - نَعَمْ، قَالَ: " مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلُّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ " وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، وَلَا وَاللهِ مَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِنْفَاقِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزُّهْدِ فِي الْمَالِ - وَإِنَّمَا الزُّهْدُ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ. وَتَفْضِيلِ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ وَهُوَ عَزِيمَةِ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عِيَالٌ لَا الْمَشْرُوعُ لِكُلِّ النَّاسِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُنَافِي إِنْفَاقَ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْمُرُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، فَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (25: 67) ووَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا

35

(17: 29) ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ حَدِيثُ نَهْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَإِجَازَتِهِ بِالثُّلُثِ مَعَ قَوْلِهِ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ". وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَسْمَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْأَمْرَ فِيهِ الشِّدَّةُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى بَادِيَتِهِ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُحْفَظُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الرُّخْصَةَ، فَلَا يَسْمَعُهَا أَبُو ذَرٍّ، فَيَأْخُذُ أَبُو ذَرٍّ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ. اهـ. وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ لِتَشَدُّدِهِ اسْتِعْدَادُهُ الْفِطْرِيُّ لِلْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، وَاحْتِقَارِ التَّنَعُّمِ، وَالسَّعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعُرِفَ هَذَا التَّشَدُّدُ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدِ اخْتَبَرَهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صُهَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَمِيرٌ بِالشَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى حَاجَتِكَ، فَرَدَّهَا، وَقَالَ لِرَسُولِهِ: ارْجِعْ بِهَا إِلَيْهِ، أَمَا وَجَدَ أَحَدًا أَغَرَّ بِاللهِ مِنَّا؟ مَا لَنَا إِلَّا الظِّلُّ نَتَوَارَى بِهِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْنَا، وَمَوْلَاةٌ لَنَا تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا بِخِدْمَتِهَا، ثُمَّ إِنِّي لَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْفَضْلَ. قَوْلُهُ: تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا أَصْلُهُ تَتَصَدَّقُ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِا الْمَقَامِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ اعْتِدَالِ الشَّرِيعَةِ، وَغُلُوِّ بَعْضِ الزُّهَّادِ، وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي الْمُسْلِمِينَ الزُّهَّادُ وَالْمُقْتَصِدُونَ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْبُخَلَاءُ وَالْمُسْرِفُونَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَالِهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ. (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ) : الظَّرْفُ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ قَبْلَهُ: (بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِشَارَةِ الْخَبَرُ الْمُؤَثِّرُ يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ بِالسُّرُورِ، أَوِ الْكَآبَةِ وَلَكِنْ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى آلِهَتِكُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْذَارُ، أَيْ أَخْبِرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يُصِيبُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يُحْمَى فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَيْ دَارِ الْعَذَابِ، بِأَنْ تُوضَعَ وَتُضْرَمَ عَلَيْهَا النَّارُ الْحَامِيَةُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَهَا؛ فَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ) ، (13: 17) وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " يَوْمَ تُحْمَى " فَتَكُونُ مِنَ الْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْمَيْسَمِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْذَارِ يَحْصُلُ بِالْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مِثْلِهَا، وَلَيْسَ فِي أَعْيَانِهَا مِنَ الْمَعْنَى وَلَا الْحِكْمَةِ مَا فِي إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا نُدْرِكُ كُنْهَهَا وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَبِّرَةِ عَنْهَا، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ الْحَقِّ: الْإِيمَانُ بِالنُّصُوصِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْكُنْهِ، وَالصِّفَةِ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ سُبْحَانَهُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا ـ مَعَ الْإِيمَانِ بِالنَّصِّ ـ الْعِبْرَةُ الْمُرَادَةُ مِنْهُ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ.

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تَفْنَى بِخَرَابِ الدُّنْيَا، وَصَيْرُورَةِ الْأَرْضِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ هَبَاءً مُنْبَثًا، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا مِنْ قُدْرَةِ اللهِ ـ تَعَالَى ـ عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْوَنُ مِنْهُ إِيرَادُ كَوْنِ الدِّرْهَمِ أَوِ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكْنِزُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالتَّدَاوُلِ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمْ جَسَدًا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْحِيتَانِ وَالْوُحُوشِ وَالْأَنْعَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ الْمَكْنُوزَةَ تُحْمَى كُلُّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ وَيَتَّسِعُ جَسَدُهُ لَهَا كُلِّهَا حَتَّى لَا يُوضَعَ دِينَارٌ مَكَانَ دِينَارٍ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ " الْحَدِيثَ. وَالصَّفائِحُ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهِيَ بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِجُعِلَ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ هِيَ الْمَشْهُورَةُ. قَالَ الشُّرَّاحُ وَفِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا: " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ فَيَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ " ثُمَّ تَلَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ آيَةَ: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، فَيَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ، يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ أَنَا كَنْزُكَ " فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ بِجَعْلِ الْمَالِ صَفَائِحَ يُكْوَى بِهَا مَانِعُ الزَّكَاةِ أَوْ شُجَاعًا (وَهُوَ ذَكَرُ الْحَيَّاتِ) يُطَوِّقُهُ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَوِ التَّخْيِيلِ، لَا نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ يَكْنِزُهُ فِي الدُّنْيَا، وَبِهِ يَبْطُلُ كُلُّ إِيرَادٍ وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ، وَالتَّعْذِيبُ حَقِيقِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ) ، الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِهَا النَّاسَ مُنْبَسِطَةً أَسَارِيرُهَا مِنَ الِاغْتِبَاطِ بِعَظَمَةِ الثَّرْوَةِ ـ وَيَسْتَقْبِلُونَ بِهَا الْفُقَرَاءَ مُنْقَبِضَةً مُتَغَضِّنَةً مِنَ الْعُبُوسِ وَالتَّقْطِيبِ فِي وُجُوهِهِمْ؛ لِيُنَفُرُوا وَيُحْجِمُوا عَنِ السُّؤَالِ، (وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) الَّتِي كَانُوا يَتَقَلَّبُونَ بِهَا عَلَى سُرُرِ النِّعْمَةِ اضْطِجَاعًا وَاسْتِلْقَاءً، وَيُعْرِضُونَ بِهَا عَنْ لِقَاءِ الْمَسَاكِينِ، وَطُلَّابِ الْحَاجَاتِ ازْوِرَارًا وَإِدْبَارًا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ ارْتِفَاقٌ وَلَا اسْتِرَاحَةٌ فِيمَا سِوَى الْوُقُوفِ إِلَّا بِالِانْكِبَابِ عَلَى وُجُوهِهِمْ كَمَا قَالَ: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (54: 48) ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُنَا: (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ، أَيْ تَقُولُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ كَيَّهُمْ: هَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ الْوَاقِعُ بِكُمْ هُوَ جَزَاءُ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ فِي الدُّنْيَا، أَوْ هَذَا الْمِيسَمُ الَّذِي تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ الْمَالُ الَّذِي كَنَزْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ لِتَتَفَرَّدُوا بِالتَّمَتُّعِ بِهِ.

فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أَيْ: ذُوقُوا وَبَالَهُ وَنَكَالَهُ، أَوْ وَبَالَ كَنْزِكُمْ لَهُ وَإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ مِنْ مَنْفَعَةِ كَنْزِهِ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً بِهَا لَا يُشَارِكُكُمْ فِيهَا أَحَدٌ قَدْ كَانَ لَكُمْ خَلَفًا، وَعَلَيْكُمْ ضِدًّا، فَإِنَّهُ صَارَ فِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكُمْ، وَكَانَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْخَاصُّ بِكُمْ، كَدَأْبِ جَمِيعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فِيمَا زَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الرَّذَائِلِ، يَرَى الْبُخَلَاءُ أَنَّ الْبُخْلَ حَزْمٌ، كَمَا يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ، وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ الْأَفِينِ، فَالْأَوَّلُونَ مِنْ خَوْفِ الْفَقْرِ فِي فَقْرٍ، وَالْآخَرُونَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْأَذَى أَوِ الْمَوْتِ بِهَرَبِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ جُبْنَهُمْ هُوَ الَّذِي يُغْرِي الْمُعْتَدِينَ بِإِيذَائِهِمْ، وَيُمَكِّنُ الْقَائِلِينَ مِنَ الْفَتْكِ بِهِمْ. وَإِنَّ أَكْبَرَ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَتَمْكِينِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ سَلْبِ مُلْكِهِمْ، وَمُحَاوَلَةِ تَحْوِيلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، هُوَ بُخْلُ أَغْنِيَائِهِمْ، وَجُبْنُ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَقُوَّادِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ، الَّذِي جَعَلَهُمْ أَعْوَانًا لِسَالِبِي مُلْكِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2: 195) فَلَوْ أَسَّسَ الْأَغْنِيَاءُ مَدَارِسَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، لَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ مَدَارِسِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَأَمْكَنَ لِلْمُصْلِحِينَ مِنْهُمْ إِذَا تَوَلَّوْا إِدَارَتَهَا أَنْ يُخْرِجُوا لَهُمْ فِيهَا رِجَالًا يَحْفَظُونَ لِلْأُمَّةِ دِينَهَا وَمُلْكَهَا، وَيُعِيدُونَ إِلَيْهَا مَجْدَهَا، وَيَجْذِبُونَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَيَعُودُ الْأَمْرُ كَمَا بَدَأَ. إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

36

هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَوْدٌ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُشْرَعُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَسُقُوطِ عَصَبِيَّةِ الشِّرْكِ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ مِنْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، اقْتَضَاهُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ خُتِمَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَيَانِ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمُ الْمَطَامِعُ الْمَالِيَّةُ، الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ الْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَإِنْذَارِ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُعِلَ هَذَا الْإِنْذَارُ مُوَجَّهًا إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْكَلَامِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَكَنْزِ النَّقْدَيْنِ، إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُخَالِفُوا فِيهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِبْطَالِ النَّسِيءِ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ - تَنَاسُبًا ظَاهِرًا قَوِيًّا، وَهُنَالِكَ مُنَاسَبَةٌ دَقِيقَةٌ بَيْنَ حِسَابِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَحِسَابِ الشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي حِسَابِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. الْمُرَادُ الشُّهُورُ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَوَاحِدُهَا شَهْرٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ أَوِ الْقَمَرِ مِنْ مَادَّةِ الشُّهْرَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَوَّلِ ظُهُورِ الْهِلَالِ إِلَى سِرَارِهِ، وَمَبْلَغُ عِدَّتِهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِيمَا كَتَبَهُ اللهُ، وَأَثْبَتَهُ مِنْ نِظَامِ سَيْرِ الْقَمَرِ وَتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ الْمَعْرُوفِ لَنَا مِنْ لَيْلٍ وَنَهَارٍ إِلَى الْآنِ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: الْوَقْتُ الَّذِي خَلَقَهُمَا فِيهِ بِاعْتِبَارِهِ تَمَامَهُ وَنِهَايَتَهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ التَّكْوِينِ بِاعْتِبَارِ تَفْصِيلِهِ وَخَلْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا فِيهِمَا. فَالْكِتَابُ يُطْلَقُ عَلَى نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ كَالشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي لَا يُنْسَى، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ كُلَّ نِظَامٍ عَنْ خَلْقِهِ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ يُسَمَّى اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ الْكِتَابُ هُنَا. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى فِي جَوَابِهِ لِفِرْعَوْنَ عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (20: 52) وَقَالَ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (13: 38) وَقَالَ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ (58: 22) وَقَالَ: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ (59: 3) وَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْنَى النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ الْقَدَرِيِّ. وَتَقَدَّمَ بَحْثُ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابِ اللهِ هُنَا حُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ لَا نِظَامُهُ التَّقْدِيرِيُّ، وَمِنْهُ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَوْنُ الْحَجِّ أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ، وَمِنْ أَحْكَامِ كِتَابِ اللهِ التَّشْرِيعِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِحِسَابِ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ وَالرَّضَّاعِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ. وَحِكْمَتُهُ.

الْعَامَّةُ أَنَّهَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ، وَالْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّيَاسَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا تَحَكُّمِ الرُّؤَسَاءِ. وَمِنْ حِكْمَةِ شَهْرِ الصِّيَامِ، وَأَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهَا تَدُورُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَتُؤَدَّى الْعِبَادَةُ بِهَذَا الدَّوَرَانِ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، فَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً يَكُونُ قَدْ صَامَ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ الصِّيَامُ فِيهِ وَمَا يَسْهُلُ، وَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْحَجِّ، وَفِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى فِي شَأْنِ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فُصُولُهَا، وَأَيَّامُ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ فِيهَا، وَإِطْلَاقُ " الْكِتَابِ " بِهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى ـ بَعْدَ سَرْدِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ، (4: 24) ، وَلَكِنْ ذِكْرُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْأَوَّلِ، وَيُنَاسِبُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ; وَاحِدُهَا حَرَامٌ، (كَسُحُبٍ جَمْعُ سَحَابٍ) ، وَهُوَ مِنَ الْحُرْمَةِ; فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ كَتَبَ وَفَرَضَ احْتِرَامَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمَهَا، وَحَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَقَلَتِ الْعَرَب ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالتَّوَاتُرِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ، وَلَكِنَّهَا أَخَلَّتْ بِالْعَمَلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسِيءِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْأَشْهَرُ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ; وَهِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبُ، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا وَتَعْظِيمِهَا سَتَأْتِي. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِعِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَقْسِيمِهَا إِلَى حُرُمٍ وَغَيْرِهَا، وَعَدَدُ الْحُرُمِ مِنْهَا، وَقِيلَ: لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَحْرِيمِهَا، وَالدِّينُ الْقَيِّمُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُدَانُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ بِهِ دُونَ النَّسِيءِ، وَفَسَّرَ الْبَغَوِيُّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُنَا بِالْحِسَابِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ ذَلِكَ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْهُرِ مِنَ الْأَحْكَامِ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ لِلْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الشُّهُورِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ يَشْمَلُ كُلَّ مَحْظُورٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ اخْتَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ، وَبَعْضَ الْأَمْكِنَةِ بِأَحْكَامٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ فِيهَا، وَالْمَكْرُوهَاتِ بِالْأَوْلَى، لِأَجْلِ تَنْشِيطِ الْأَنْفُسِ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ بِمَا يُزَكِّيهَا، وَيَرْفَعُ شَأْنَهَا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ الْمَلَلُ، وَالسَّآمَةُ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ تَشُقُّ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ اللهُ الْعِبَادَاتِ الدَّائِمَةَ خَفِيفَةً لَا مَشَقَّةَ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ أَدْنَى مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَجَاوَزُ خَمْسَ دَقَائِقَ لِلرُّبَاعِيَّةِ مِنْهَا وَهِيَ أَطْوَلُهَا، وَمَا زَادَ فَهُوَ كَمَالٌ، وَخُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْأُسْبُوعِ بِوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ لِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمَاعِ خُطْبَتَيْنِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُقَوِّي فِي الْمُؤْمِنِينَ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَكُرْهَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالتَّعَاوُنَ

عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِقَامَةَ مَصَالِحِ الْمِلَّةِ وَالدَّوْلَةِ، وَخُصَّ شَهْرُ رَمَضَانَ بِوُجُوبِ صِيَامِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ مَنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَجَعْلِ مَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخَرِ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي يُحَرَّمُ فِيهَا الْقِتَالُ; لِأَنَّ السَّفَرَ إِلَى شَعَائِرِ الْحَجِّ فِي الْحِجَازِ، وَالْعَوْدَةَ مِنْهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا حَرَّمَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، لِتَأْمِينِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَاحْتِرَامِ الْبَيْتِ الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَشَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ عَلَى شِدَّتِهِمْ فِي الثَّأْرِ، وَضَرَاوَتِهِمْ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَحُرِّمَ شَهْرُ رَجَبَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ لِتَقْلِيلِ شُرُورِ الْقِتَالِ، وَتَخْفِيفِ أَوْزَارِهِ، وَلِتَسْهِيلِ السَّفَرِ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِيهِ، وَلَوْلَا اخْتِصَاصُهُ ـ تَعَالَى ـ لِمَا شَاءَ مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، لَمَا كَانَ لِلْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ فِي نَفْسِهَا مَزِيَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَهْوَاءُ النَّاسِ لَا تَتَّفِقُ عَلَى زَمَنٍ، وَلَا مَكَانٍ فَيُوَكَّلُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ اللهُ الِاخْتِصَاصَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا خَالِصًا يُفْعَلُ لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ وَالْقُرْبَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ; أَيْ قَاتِلُوهُمْ جَمِيعًا كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا، بِأَنْ تَكُونُوا فِي قِتَالِهِمْ إِلْبًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَحَدٌ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي قِتَالِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ لِدِينِكُمْ لَا انْتِقَامًا وَلَا عَصَبِيَّةً، وَلَا لِلْكَسْبِ كَدَأْبِهِمْ فِي قِتَالِ قَوِيِّهِمْ لِضَعِيفِهِمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تُقَاتِلُوهُمْ لِشِرْكِهِمْ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْقِتَالِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَّا فِي حَالِ إِعْلَانِ الْإِمَامِ لِلنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حُكْمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لِلظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَلِأَسْبَابِ الْخُذْلَانِ وَالْفَشَلِ فِي الْقِتَالِ كَالتَّنَازُعِ، وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ، وَمُخَالَفَةِ سُنَنِ اللهِ ـ تَعَالَى ـ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِالْقِتَالِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالتَّقْوَى مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ كَلِمَةُ (كَافَّةً) لَمْ تَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا مُنَكَّرَةً مُنَوَّنَةً فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (2: 208) وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (122) وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (34: 28) وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا هَكَذَا، وَحُكِمَ بِخَطَأِ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ بِمَا نُفَصِّلُهُ فِي الْحَاشِيَةِ لِيَقْرَأَهُ وَحْدَهُ مَنْ أَرَادَهُ.

37

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ النَّسِيءُ: وَصْفٌ أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ نَسَأَ الشَّيْءَ يَنْسَؤُهُ وَمِنْسَأَةً إِذَا أَخَّرَهُ. وَيُقَالُ: أَنْسَأَهُ بِمَعْنَى نَسَأَهُ أَيْضًا. فَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ، أَيِ: الشَّهْرُ الَّذِي أُنْسِئَ تَحْرِيمُهُ، وَالْمَصْدَرُ كَالْحَرِيقِ، وَالسَّعِيرِ بِمَعْنَى النَّسْءِ وَالْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَرِثَتْ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ لِتَأْمِينِ الْحَجِّ وَطُرُقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا وَرِثُوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا فِي الْمَنَاسِكِ، وَفِي تَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا سِيَّمَا شَهْرُ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْقِتَالِ وَشَنُّ الْغَارَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةً، فَأَوَّلُ مَا بَدَّلُوا فِي ذَلِكَ إِحْلَالُ الشَّهْرِ الْمُحَرَّمِ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنْ يُنْسِئُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى صَفَرٍ، لِتَبْقَى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةً كَمَا كَانَتْ، وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلنَّصِّ وَلِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ مَعًا. وَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ نِظَامٌ مُتَّبَعٌ بِأَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ يُسَمَّى الْقُلْمُسُ فِي أَيَّامِ مِنَى حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْحَجِيجُ الْعَامُّ، فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي لَا أُحَابِ وَلَا أُعَابُ، وَلَا يُرَدُّ قَوْلِي. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي لَا يُرَدُّ لِي قَضَاءٌ. فَيَقُولُونَ: صَدَقْتَ فَأَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ وَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ، وَبِذَلِكَ يَجْعَلُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ حَلَالًا، ثُمَّ صَارُوا يَنْسِئُونَ غَيْرَ الْمُحَرَّمِ وَيُسَمُّونَ النَّسِيءَ بِاسْمِ الْأَصْلِ فَتَتَغَيَّرُ أَسْمَاءُ الشُّهُورِ كُلُّهَا، وَأَمَّا قِتَالُهُمْ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا وَبَغْيًا وَعُدْوَانًا أَوْ ثَأْرًا. وَفِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ لِلْبَلَاذُرِيِّ أَنَّ مِمَّنْ كَانَ يَنْسَأُ الشُّهُورَ لَهُمْ أَبُو ثُمَامَةَ الْقَلَمَّسُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَوْفٍ إِلَخْ. نَسَأَ الشُّهُورَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَذَكَرَ مَنْ نَسَأَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَتْ خَثْعَمُ وَطَيِّئٌ لَا يُحَرِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فَيُغِيرُونَ فِيهَا وَيُقَاتِلُونَ، فَكَانَ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ مِنَ النَّاسِئِينَ يَقُومُ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أُحَابِ وَلَا أُعَابُ وَلَا يُرَدُّ مَا قَضَيْتُ

بِهِ، وَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ دِمَاءَ الْمُحَلِّلِينَ مِنْ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ فَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِذَا عَرَضُوا لَكُمْ. (قَالَ) وَأَنْشَدَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ لِبَعْضِ الْقَلَامِسِ لَقَدْ عَلِمَتْ عُلْيَا كِنَانَةَ أَنَّنَا ... إِذَا الْغُصْنُ أَمْسَى مُورِقَ الْعُودِ أَخَضَرَا أَعَزُّهُمْ سِرْبًا وَأَمْنَعُهُمْ حِمَى ... وَأَكْرَمُهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّهْرِ عُنْصُرًا وَأَنَّا أَرَيْنَاهُمْ مَنَاسِكَ دِينِهِمْ ... وَحُزْنًا لَهُمْ حَظًّا مِنَ الْخَيْرِ أَوْفَرَا وَإِنَّ بِنَا يُسْتَقْبَلُ الْأَمْرُ مُقْبِلًا ... وَإِنْ نَحْنُ أَدْبَرْنَا عَنِ الْأَمْرِ أَدْبَرَا وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلٍ الطَّعَّانِ: لَقَدْ عَلِمَتْ مُعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِرَامًا أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا فَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نُدْرِكْ بِوَتَرٍ؟ ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نُعْلِكْ لِجَامًا؟ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّسِيءَ تَشْرِيعٌ دِينِيٌّ مُلْتَزَمٌ غَيَّرُوا بِهِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِسُوءِ التَّأْوِيلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَلِهَذَا سَمَّاهُ اللهُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ، أَيْ أَنَّهُ كُفْرٌ بِشَرْعِ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ بِالشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ شَرْعَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعِبَادَةِ حَقٌّ لَهُ وَحْدَهُ، فَمُنَازَعَتُهُ فِيهِ شِرْكُ رُبُوبِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ، أَقْرَبُهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا (31) وَأَنَّهُمْ يُضِلُّونَ بِهِ سَائِرَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُمْ فِيهِ، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ وَاطَئُوا فِيهِ عِدَّةَ مَا حَرَّمَهُ اللهُ مِنَ الشُّهُورِ فِي مِلَّتِهِ، وَإِنْ أَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ شَرْعِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مُجَرَّدَ الْعَدَدِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ بِهَذَا مَنْ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِآرَائِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ قَطْعِيٍّ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ؟ . زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ الْعَدَدَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا. وَقَدْ أُسْنِدَ التَّزْيِينُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِظُهُورِ خَيْرِيَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي بَعْضِهَا إِلَى الشَّيْطَانِ لِوُضُوحِ مَفْسَدَتِهِ، وَفِي بَعْضِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ لِإِبْهَامِهِ، وَبَيَّنَّا مُنَاسَبَةَ كُلٍّ مِنْهَا لِلْمَوْضُوعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ إِلَى حُكْمِهِ فِي أَحْكَامِ شَرْعِهِ، وَبِنَائِهَا عَلَى مَصَالِحِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ تَوَابِعِ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ (10: 9) ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَيَتَّبِعُونَ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ وَمَا يُزَيِّنُهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَهِيَ سَبَبُ الشَّقَاءِ وَدُخُولِ النَّارِ.

رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " قَالَ هَذَا فِي مِنًى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخْرَى بِزِيَادَةٍ عَمَّا هُنَا. وَالْمُرَادُ مِنِ اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ عَوْدَةُ حِسَابِ الشُّهُورِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ نِظَامِ الْخَلْقِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عِنْدَ الْعَرَبِ بِسَبَبِ النَّسِئِ فِي الْأَشْهُرِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءَ، مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُحَرَّمَ صَفَرًا فَيُحِلُّ فِيهِ الْقِتَالَ، وَيُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي صَفَرٍ وَيُسَمِّيهِ الْمُحَرَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ سَنَةً هَكَذَا وَسَنَةً هَكَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ سَنَتَيْنِ هَكَذَا وَسَنَتَيْنِ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ صَفَرًا إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَبِيعًا إِلَى مَا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَوَّالٌ ذَا الْقِعْدَةِ، وَذُو الْقِعْدَةِ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُعِيدُ الْعَدَدَ عَلَى الْأَصْلِ اهـ. وَذُكِرَ عَنِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَفِي رِوَايَةٍ 12 شَهْرًا و25 يَوْمًا، فَالْمُرَادُ مِنِ اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ إِذًا أَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَقَعَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ شَهْرُهُ الْأَصْلِيُّ بِمَا كَانَ مِنْ تَنَقُّلِ الْأَشْهُرِ بِالنَّسِيءِ. وَنُقِلَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَالِفُونَ بَيْنَ أَشْهُرِ السَّنَةِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُمْ، مِنْهَا اسْتِعْجَالُ الْحَرْبِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ثُمَّ يُحَرِّمُونَ بَدَلَهُ شَهْرًا غَيْرَهُ، فَتَتَحَوَّلُ فِي ذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ وَتَتَبَدَّلُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ السِّنِينَ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ فَاتَّفَقَ وُقُوعُ حَجَّةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالزَّمَانِ السَّنَةُ، وَقَوْلُهُ " كَهَيْئَتِهِ " أَيِ: اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ، وَلَفْظُ الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ. وَالْمُرَادُ بِاسْتِدَارَتِهِ وُقُوعُ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ حَيْثُ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ اهـ. وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَجْدِيدِ اللهِ تَعَالَى لِدِينِهِ وَإِكْمَالِ هِدَايَتِهِ كَمَا تَجَدَّدَ عُمُرُ الزَّمَانِ بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الَّذِي تَحْيَا فِيهِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ، فَاسْتِدَارَةُ الزَّمَانِ حِسَابِيَّةٌ وَطَبِيعِيَّةٌ وَدِينِيَّةٌ، وَإِنَّنِي مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ أَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ الْحِسَابِ الزَّمَنِيِّ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ أَنَّهُ اتَّفَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ

38

حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. قُلْتُ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ إِشَارَةً أَوْ بِشَارَةً بِتَحَقُّقِ مَا شُرِعَ لَهُ الْإِسْلَامُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجَمْعِهِ الْكَلِمَةَ وَاهْتِدَاءِ الْأُمَمِ بِهِ. وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُؤَيِّدُهَا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ، لَخَّصَ بَعْضَهَا مُحَمَّدُ لَبِيبٌ بِكِ الْبَتَانُونِيُّ فِي رِحْلَتِهِ الْحِجَازِيَّةِ قَالَ: إِنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنَحْوٍ مِنْ 27 قَرْنًا ذَاتَ مَنْزِلَةٍ سَامِيَةٍ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَثَنِيِّيهِمْ وَيَهُودِهِمْ وَنَصَارَاهُمْ، وَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَكَانَتُهَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ رُوحَ (هُرْمُزَ) نُقِلَتْ فِي الْكَعْبَةِ، ثُمَّ إِلَى بِلَادِ الْهُنُودِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ رُوحَ (شَبَوْهَ) أَحَدَ آلِهَتِهِمْ قَدْ تَقَمَّصَتْ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَقُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْحِجَازَ بِالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ. وَالْيَهُودُ كَانُوا يَحْتَرِمُونَهَا وَيَتَعَبَّدُونَ فِيهَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنِ احْتِرَامُهُمْ لَهَا بِأَقَلَّ مِنِ احْتِرَامِ الْيَهُودِ إِيَّاهَا، وَكَانَ لَهُمْ فِيهَا صُوَرٌ وَتَمَاثِيلُ مِنْهَا تِمْثَالُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، وَصُورَةُ الْعَذْرَاءِ وَالْمَسِيحِ إِلَى أَنْ قَالَ: هَكَذَا كَانَ شَأْنُ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دِيَانَاتِهِمْ عَلَى احْتِرَامِهَا، وَاتَّخَذَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُ اللهَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ إِلَخْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هَذَا السِّيَاقُ مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا كَانَتْ وَسِيلَةً لَهُ مِنْ هَتْكِ أَسْتَارِ النِّفَاقِ، وَتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَوَامِلِ الشِّقَاقِ. إِلَّا الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِهَا، وَمَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ قِتَالُهُمْ فِي تَبُوكَ: هُمُ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمُ الْمُسْتَعْبَدُونَ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي حُكْمِ قِتَالِ الْيَهُودِ وَقِتَالِهِمْ، وَبَيَانِ حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَهَمُّهَا خُرُوجُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ. وَكَانَ ذِكْرُ النَّسِيءِ فِي آخِرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ بَيَانَ سَبَبِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَفَاءً بِمَا وَعَدْنَا بِهِ فَنَقُولُ: غَزْوَةُ تَبُوكَ وَسَبَبُهَا: تَبُوكُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَدِمَشْقَ تَقْرِيبًا. وَقَالُوا: إِنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَاللَّفْظُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى الْأَشْهَرِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا - أَيِ الْغَزْوَةِ - مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْبَاطِ الَّذِي يَقْدَمُونَ بِالزَّيْتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ. فَنَدَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزْوِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَتَبَتْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ هَلَكَ، وَأَصَابَتْهُمْ سِنُونَ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ قَبَادُ وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ قُوَّةٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَهَّزَ عِيرًا إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَا يَضُرُّ عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا " وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَابٍ نَحْوَهُ. وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ فِي (شَرَفِ الْمُصْطَفَى) وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَالْحَقْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ. فَغَزَا تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا (17: 76) الْآيَةَ. انْتَهَى. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ

الْحَافِظُ، وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ فِي السَّبَبِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَا نَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَالُوا؟ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَإِجْلَائِهِمْ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ فِي التَّقْرِيبِ إِنَّهُ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَعِلْمِهِ وَنَقْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ؟ وَقَدْ صَرَّحَ السُّيُوطِيُّ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ مَا بَذَلَهُ عُثْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ. وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ بَعْدَ الطَّائِفِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ يَجْعَلُ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ بَعْدَ عَوْدَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهُوَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَهُ الْحَافِظُ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ اسْتِعْدَادُ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِعْدَادُ جَيْشٍ كَثِيفٍ لِلزَّحْفِ بِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَهِيَ كَسَائِرِ غَزَوَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِفَاعٌ لَا اعْتِدَاءٌ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَاتِلُهُ عَادَ، وَلَمْ يُهَاجِمْ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا لِمَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ تَرْبِيَةً لَهُمْ بِمَا لَعَلَّهُ وَقَعَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَمِنْهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمُنَافِقُونَ. وَالنَّفْرُ وَالنَّفِيرُ عِبَارَةٌ عَنْ فِرَارٍ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ إِقْدَامٍ عَلَيْهِ بِخِفَّةٍ وَنَشَاطٍ وَانْزِعَاجٍ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ بِمَعْنَى الْفَزَعِ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ. يُقَالُ: نَفَرَتِ الدَّابَّةُ وَالْغَزَالُ نُفُورًا، وَنَفَرَ الْحَجِيجُ مِنْ عَرَفَاتٍ نَفْرًا، وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ الْعَسْكَرَ إِلَى الْقِتَالِ أَوْ أَعْلَنَ النَّفِيرَ الْعَامَ فَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا، وَالتَّثَاقُلُ التَّبَاطُؤُ فَهُوَ ضِدُّ النَّفْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثِّقَلِ الْمُقْتَضِي لِلْبُطْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَةِ النَّفِيرِ، وَعَلَى مَنْ حَاوَلَ أَوِ اسْتَجَابَ مُتَبَاطِئًا. وَأَصْلُ (اثَّاقَلْتُمْ) تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ الْمُثَنَّاةُ فِي الْمُثَلَّثَةِ فَجِيءَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَجْلِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَبْدَأُ بِالسَّاكِنِ، وَلَا تَقِفُ عَلَى الْمُتَحَرِّكِ، وَقَدْ عُدِّي بِـ (إِلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّسَفُّلِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْمَيْلِ إِلَى رَاحَتِهَا وَنَعِيمِهَا. وَلَمَّا دَعَا اللهُ الْمُؤْمِنِينَ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ الْحَرِّ، وَكَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَتَيِ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ، وَكَانَتِ الْعُسْرَةُ شَدِيدَةً، وَكَانَ مَوْسِمُ الرُّطَبِ فِي الْمَدِينَةِ

قَدْ تَمَّ صَلَاحُهُ، وَآنَ وَقْتُ تَلَطُّفِ الْحَرِّ وَالرَّاحَةِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَجَبٍ وَافَقَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بُرْجَ الْمِيزَانِ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالصَّيْفِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَبَعْدَ الطَّائِفِ، بِأَمْرِهِمُ النَّفِيرَ فِي الصَّيْفِ حِينَ اخْتَرَقَتِ النَّخْلُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهُوا الظِّلَالَ وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. (قَالَ) فَقَالُوا: مِنَّا الثَّقِيلُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالضَّيْعَةِ وَالشُّغْلِ وَالْمُنْتَشِرُ بِهِ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةٍ أَنْ يُوَرِّيَ بِغَيْرِهَا لِمَا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةُ الْحَرْبِ مِنَ الْكِتْمَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَدْ صَرَّحَ بِهَا؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَصِيرَةٍ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ. فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخُرُوجُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَتْ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِهِمْ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ فِيهَا قِتَالًا - مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهَا مِنْ تَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخِزْيِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَضِيحَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ مَاذَا عَرَضَ لَكُمْ مِمَّا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِيمَانِ أَوْ كَمَالِهِ الْمُقْتَضِي لِلْإِذْعَانِ وَالطَّاعَةِ، حِينَ قَالَ لَكُمُ الرَّسُولُ: انْفرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِقِتَالِ الرُّومِ الَّذِينَ تَجَهَّزُوا لِقِتَالِكُمْ، وَالْقَضَاءِ عَلَى دِينِكُمُ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ السَّبِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ وَسُنَنِهِ، فَتَثَاقَلْتُمْ عَنِ النُّهُوضِ بِالنَّشَاطِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، مُخْلِدِينَ إِلَى أَرْضِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَآيَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (49: 15) . أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِرَاحَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا النَّاقِصَةِ الْفَانِيَةِ بَدَلًا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْكَامِلَةِ الْبَاقِيَةِ؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَبْدَلْتُمُ الَّذِي هُوَ أَدْنَأُ وَأَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: فَمَا هَذَا الَّذِي يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مُنَغَّصًا بِالشَّوَائِبِ وَالْمَتَاعِبِ فِي جَنْبِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ الْعَظِيمِ، إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُهُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَفِي قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَزَمَنِهِ بِمَنْ وَضَعَ أَصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْهُ قَالَ: " فَانْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ "؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.

39

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ (إِلَّا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ " إِنْ " الشَّرْطِيَّةِ وَ " لَا " النَّافِيَةُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ كَإنْ لَمْ لِلْمَاضِي أَيْ: إِلَّا تَنْفِرُوا كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعَذِّبْكُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا يُهْلِكْكُمْ بِهِ بِعِصْيَانِكُمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَيَسْتَبْدِلْ بِكُمْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، قِيلَ: كَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَبْنَاءِ فَارِسَ، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لِلتَّهْدِيدِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الشَّرْطُ وَلَا جَزَاؤُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَوْمٌ يُطِيعُونَهُ وَيُطِيعُونَ رَسُولَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَيْدِيكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ (22: 47) قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ (5: 54) الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَتَثَاقَلُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا، وَحِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَسِيَادَتِهَا، وَلَا تَتِمُّ فَائِدَةُ الْقُوَّةِ الدِّفَاعِيَّةِ وَالْهُجُومِيَّةِ إِلَّا بِطَاعَةِ الْإِمَامِ وَالْقَائِدِ الْعَامِّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ وَالْقَائِدُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ مِنْ رَبِّهِ الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَهَلَاكِ مَنْ عَصَاهُ وَخَذَلَهُ؟ . وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا أَيْ: وَلَا تَضُرُّوهُ تَعَالَى شَيْئًا مَا مِنَ الضَّرَرِ فِي تَثَاقُلِكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ ضُرَّهُ وَلَا نَفْعَهُ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُسَخَّرٌ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لِلْبَشَرِ شَيْئًا مِنَ الِاخْتِيَارِ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ: وَلَا تَضُرُّوا رَسُولَهُ بِتَثَاقُلِكُمْ فَإِنَّهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ، وَكَفَلَ لَهُ النَّصْرَ بِقَرِينَةِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْهُ إِهْلَاكُكُمْ إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَتَوَلَّيْتُمْ عَنْ إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِتْمَامِ نُورِهِ، وَنَصْرِ رَسُولِهِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (5: 54) كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (47: 38) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الرَّوَافِضِ أَنَّهُ لَوْلَا ثَبَاتُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَالنَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ بَغْلَةِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَهَبَ دِينُهُ فَلَمْ تَقُمْ لَهُ قَائِمَةٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ جَهْلِهِمْ، وَرَسُولُهُ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ، وَمِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ حَوْلَ بَغْلَتِهِ، وَوَعْدُهُ أَصْدَقُ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي رَفْضِهِمْ، وَهَاكَ مِنْ حُجَجِ كِتَابِهِ مَا يَزِيدُ شُبْهَةَ بِدْعَتِهِمُ افْتِضَاحًا، وَحُجَّةَ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا اتِّضَاحًا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: إِلَّا تَنْصُرُوا الرَّسُولَ الَّذِي اسْتَنْفَرَكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى مَنْ أَرَادُوا قِتَالَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَسَيَنْصُرُهُ اللهُ بِقُدْرَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ، كَمَا نَصَرَهُ إِذْ أَجْمَعَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ وَبَلَدِهِ. أَيِ: اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ - وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُ إِخْرَاجِ

40

الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا طَرْدَهُمْ وَإِخْرَاجَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ خَرَجَ مُسْتَخْفِيًا كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ صَاحِبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَوْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّصْرَ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَيْشٌ وَلَا أَنْصَارٌ مِنْكُمْ، بَلْ حَالَ كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَيْ: أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوَّلِيَّةُ وَلَا الْأَوْلَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَانٍ لِلْآخَرِ، وَمِثْلُهُ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ بِهِ تَمَّ هَذَا الْعَدَدُ. عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ: " مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "؟ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاثْنَانُ فِي الْغَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ غَارُ جَبَلِ ثَوْرٍ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا أَيْ: إِذْ كَانَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ ثَانِيهِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَأَى مِنْهُ أَمَارَةَ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ، أَوْ كُلَّمَا سَمِعَ مِنْهُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ: لَا تَحْزَنْ، الْحُزْنُ انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ اضْطِرَارِيٌّ يُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مُجَاهَدَتُهُ، وَعَدَمُ تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ وَهُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِمَّا وَقَعَ، يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَاضِي بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ (يَقُولُ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِيَتَمَثَّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَا كَانَ لَهَا مِنْ عَظْمَةِ الشَّأْنِ، وَعَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ مَعَنَا أَيْ: لَا تَحْزَنْ؛ لِأَنَّ اللهَ مَعَنَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا تُغْلَبُ وَقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا تُقْهَرُ، وَرَحْمَتِهِ الَّتِي قَامَ وَيَقُومُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَلَّا يَسْتَسْلِمَ لِحُزْنٍ وَلَا خَوْفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَعْلَى مِنْ مَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (16: 127، 128) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعِيَّةَ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ لِجَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَجِبُ تَرْكُهُ وَالْمُحْسِنِينَ لِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ، فَهِيَ مُعَلَّلَةٌ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ هُوَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ قَبْلَهَا لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ هُنَا فَهِيَ لِذَاتِ الرَّسُولِ وَذَاتِ صَاحِبِهِ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِوَصْفٍ هُوَ عَمَلٌ لَهَا بَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَاحِبُهُ، مَكْفُولَةٌ بِالتَّأْيِيدِ بِالْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَكِبَرِ الْعِنَايَاتِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ بِمَقَامِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الَّتِي يُوَفَّقُ لَهَا الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ الْمُتْقِنِينَ لِلْأَعْمَالِ. يُعْلَمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْحَقِّ الْوَاقِعِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى

وَهَارُونَ إِذْ أَرْسَلَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَظْهَرَا الْخَوْفَ مِنْ بَطْشِهِ بِهِمَا: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (20: 45، 46) وَقَدْ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَكْمَلَ مِنْهُمَا إِذْ لَمْ يَخَفْ مِنْ قَوْمِهِ الْخَارِجِينَ فِي طَلَبِهِ لِلْفَتْكِ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَكَانَ لِلصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِهِمَا إِذْ خَافَ عَلَى خَلِيلِهِ وَصَفِيِّهِ الَّذِي شَرَّفَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْفَذِّ بِصُحْبَتِهِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الْحُزْنِ لَا عَنِ الْخَوْفِ، وَنَهَى اللهُ مُوسَى وَهَارُونَ عَنِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْحُزْنِ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ وَاقِعٍ، وَقَدْ كَانَ نَهْيُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُ عَنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَدْرَكَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ الْغَارَ بِالْفِعْلِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "؟ وَأَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ انْفِعَالُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَقَدْ نَهَى اللهُ رَسُولَيْهِ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِ سَبَبِهِ وَهُوَ لِقَاءُ فِرْعَوْنَ وَدَعْوَتُهُ إِلَى مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ خَائِفًا وَحَزِنًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَهُوَ مُقْتَضَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ. حَاصِلُ الْمَعْنَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ بِالنَّفْرِ لِمَا اسْتَنْفَرَكُمْ لَهُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ، فَهُوَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي اضْطَرَّهُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ بِتَأَلُّبِهِمْ عَلَيْهِ، وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ، أَعْزَلَيْنِ غَيْرَ مُسْتَعِدَّيْنِ لِلدِّفَاعِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ فِيهِ قَدْ سَاوَرَهُ الْحُزْنُ وَالْجَزَعُ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَقُولُ لَهُ فِيهِ وَهُوَ آمِنٌ مُطَمْئِنٌ بِوَعْدِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَمَعِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَنَحْنُ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْنَا مِنِ اسْتَخْفَائِنَا هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَ حَالَيِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ وَالصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ هُنَالِكَ إِذْ كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ، وَيَسْتَنْجِزُهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يُسَلِّيهِ وَيُهَوِّنُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، عَلَى خِلَافِ حَالِهِمَا فِي الْغَارِ، وَأَثْبَتْنَا أَنَّ حَالَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ الْأَكْمَلَ الْأَفْضَلَ، إِذْ أَعْطَى حَالَ الْأَخْذِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِي بَدْرٍ حَقَّهُ، وَأَعْطَى حَالَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ فِي الْغَارِ حَقَّهُ. فَتَكْرَارُ الظَّرْفِ " إِذْ " فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُبْدِلًا بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ، بِهِ يَتَجَلَّى تَأْيِيدُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي، فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِوَقْتِ خُرُوجِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُهَاجِرًا مَعَ صَاحِبِهِ بِمَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ شِدَّةِ الضَّغْطِ وَالِاضْطِهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (8: 30)

مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَسَيُعَادُ مُخْتَصَرًا فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَيَتْلُوهُ تَذْكِيرُهُمْ بِإِيوَائِهِ مَعَ صَاحِبِهِ إِلَى الْغَارِ لَا يَمْلِكَانِ مِنْ أَسْبَابِ الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا، ثُمَّ يَخُصُّ بِالذِّكْرِ وَقْتَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا أَيْ: أَنَّهُ كَانَ هُوَ الَّذِي يُسَلِّي صَاحِبَهُ وَيُثَبِّتُهُ لَا أَنَّهُ كَانَ يَتَثَبَّتُ بِهِ (وَهَكَذَا. كَانَ شَأْنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَشْتَدُّ فِيهِ الْقِتَالُ أَيْضًا) وَكَوْنُ سَبَبِ ذَلِكَ وَعِلَّتِهِ إِيمَانُهُ الْأَكْمَلُ بِمَعِيَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْخَاصَّةِ. فَالْعِبْرَةُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نَفْرِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ بِقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَأَنَّ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَنِيٌّ عَنْ نَصْرِهِمْ لَهُ بِنَصْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْخِيرِ غَيْرِهِمْ لَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَعِبَادِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَثَرَ ذَلِكَ وَعَاقِبَتَهُ بِقَوْلِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ تَزَلِ السَّكِينَةُ مَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ. فَأَمَّا النَّبِيُّ فَقَدْ كَانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ. وَقَدْ أَخَذَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ بَعْضُ مُفَسِّرِي اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ، وَوَضَّحُوا مَا فِيهَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ وَقْتَئِذٍ اضْطِرَابٌ وَلَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، وَقَوَّاهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الصَّاحِبُ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَنَّ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا أَوْ مُضْطَرِبًا أَوْ مُنْزَعِجًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَطْفِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِهِ بَعْدَهُ وَتَرَتُّبُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ نُزُولَهَا وَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهِ: لَا تَحْزَنْ وَلَكِنَّهُمْ قَوَّوْهُ بِأَنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْجُنُودِ الْمَلَائِكَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَعْطُوْفَاتِ التَّعَانُقُ وَعَدَمُ التَّفَكُّكِ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْآخِذُونَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ - أَوَّلًا - بِأَنَّ التَّأْيِيدَ بِالْجُنُودِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ لَا عَلَى: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ - ثَانِيًا - بِأَنَّ تَفَكُّكَ الضَّمَائِرِ لَا يَضُرُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا ظَاهِرًا لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ - ثَالِثًا - بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مَنْ جَعْلِ التَّأْيِيدِ لِأَبِي بَكْرٍ، نَقَلَهُ الْآلُوْسِيُّ وَقَالَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَيْكَ وَأَيَّدَكَ " إِلَخْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْجُنُودِ مَا أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأَحْزَابِ وَحُنَيْنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِمَلَائِكَةٍ فِي حَالَةِ الْهِجْرَةِ يَسْتُرُونَهُ هُوَ وَصَاحِبُهُ عَنْ أَعْيُنِ الْكُفَّارِ وَيَصْرِفُونَهَا عَنْهُمَا، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ وَالشُّبَّانُ الْمُتَوَاطِئُونَ عَلَى قَتْلِهِ وُقُوفٌ وَلَمْ يَنْظُرُوهُ. وَإِنَّنَا نَرْجِعُ إِلَى سَائِرِ مَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ ذِكْرِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْمَلَائِكَةِ لِنَسْتَمِدَّ مِنْهَا فَهْمَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

أَمَّا إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فَذُكِرَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ فَقَطْ: (أَوْلَاهَا) الْآيَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ. (وَالثَّانِيَةُ) الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهَا، وَكَانَ نُزُولُ السُّورَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي فُتِنَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَاضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ بِمَا سَاءَهُمْ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي عَدُّوهَا إِهَانَةً لَهُمْ وَفَوْزًا لِلْمُشْرِكِينَ وَأَمْرُهَا مَشْهُورٌ، فَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ أَنْ ثَبَّتَ قُلُوبَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ وَأَنْزَلَ سُورَةَ الْفَتْحِ مُبَيِّنًا فِيهَا حُكْمَ ذَلِكَ الصُّلْحِ وَفَوَائِدِهِ، وَامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَيْهِمْ بِقَوْلِهُ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (48: 1 - 4) فَهَذِهِ سَكِينَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ حِكْمَتَهَا الْعِلِيمُ الْحَكِيمُ، وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى جُنُودِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَصْرِيحٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ الصُّلْحِ، وَمَا أَعْقَبَهُ مِنَ الْفَتْحِ، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (48: 26) الْأَشْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحَمِيَّةِ أَنَّهَا مَا أَبَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ بَدْئِهِ بِكَلِمَةِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمِنْ وَصْفِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِ بِرَسُولِ اللهِ وَتَعَصُّبِهِمْ لِمَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ: بِاسْمِكَ اللهُمَّ، وَهَذَا مِمَّا سَاءَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِلَا شَكٍّ، كَمَا سَاءَهُ كَرَاهَةُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْظَمِ لِهَذَا الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُضِيعَ بِذَلِكَ صُلْحًا عَظِيمًا كَانَ أَوَّلَ فَتْحٍ لِبَابِ حُرِّيَّةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُشْرِكِينَ، بِوَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَلْهَمَهُ قَبُولَ شُرُوطِهِمْ، وَأَنْزَلَ لَهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ هَمُّوا بِمُعَارَضَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِمْ فَتَلَبَّثُوا حَتَّى خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكَ، اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَوْجَهُ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَيَأْمُرَ حَلَّاقَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهِ، فَفَعَلَ فَاقْتَدَوْا بِهِ، بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِ. وَالْآيَةُ (الثَّالِثَةُ) هِيَ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، إِذْ رَاعَ الْمُسْلِمِينَ رَشْقُ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ بِالنَّبْلِ، فَانْهَزَمَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَاضْطَرَبَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ بِهَزِيمَتِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ مَعَ عَدَدٍ قَلِيلٍ صَارَ يَكْثُرُ بِعِلْمِهِمْ بِمَوْقِفِهِ، وَقَدْ حَزِنَ قَلْبُهُ لِتَوَلِّيهِمْ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (26) وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَعِيدٍ، فَهَذِهِ سَكِينَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ سَكَنَ بِهَا مَا عَرَضَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ تَأْثِيرِ هَزِيمَتِهِمْ، وَسَكَنَ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ لِهَزِيمَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْجُنُودِ الَّتِي وَصَفَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَمْ تَرَوْهَا فَقَدْ جَاءَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، أَيْ آيَةِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَآيَةِ الْغَارِ مِنْ سِيَاقِ الْهِجْرَةِ. وَجَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى

غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا وَهُوَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (33: 9) وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُنُودُ وَالْجُنُودُ الَّتِي أُرْسِلَتْ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ لِتَخْذِيلِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأْيِيدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (8: 9) فَهَذِهِ الْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ لِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَأْيِيدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَثْبِيتِ قُلُوبِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (8: 10 - 12) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ السِّيَاقِ [فِي ص505 - 511 ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَفِيهِ ذِكْرُ آيَاتِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ - فَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا نَزَلَتْ لِتَأْيِيدِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَخْذِيلِ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ النَّائِبُ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَالُّ مَحَلِّهِمْ فِي خِدْمَةِ رَسُولِهِ يَوْمَ الْهِجْرَةِ هُوَ صَاحِبُهُ الْأَوَّلُ، الَّذِي اخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَكُونَ التَّأْيِيدُ الْمُرَافِقُ لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ لَهُ لِحُلُولِهِ مَحَلِّهِمْ كُلِّهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا إِلَّا بِالتَّبْلِيغِ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا أَيَّدَ بِهِ تَعَالَى سَائِرَ أَصْحَابِ رَسُولِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ كَانَ تَأْيِيدًا لَهُ، وَتَحْقِيقًا لِمَا وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النَّصْرِ عَلَى جَمِيعِ أَعْدَائِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَبِـ كَلِمَةُ اللهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَعَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ عَدَاوَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ مِنْ جَمِيعِ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَامَ أَبُو سُفْيَانَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَقَالَ رَافِعًا صَوْتَهُ لِيَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ. وَهُبَلُ صَنَمُهُمُ الْأَكْبَرُ، فَأَمَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُجَابَ: " اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ غَضَبًا وَحَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمَغْنَمِ وَلِلذِّكْرِ، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَا أَجْمَعُوهُ بَعْدَ التَّشَاوُرِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْقَضَاءِ عَلَى دَعْوَتِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (8: 30) إِلَخْ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِـ كَلِمَةُ اللهِ

مَا قَضَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ وَمَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ نَصْرِ رُسُلِهِ وَبَيَّنَهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (37: 171 - 173) وَقَوْلُهُ: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (58: 21) فَهَذِهِ كَلِمَةُ اللهِ الْإِرَادِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهَا وَعْدُهُ لِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ بِالنَّصْرِ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ كَلِمَتَهُ هُنَا بِمَا وَعَدَهُ مِنْ إِحْبَاطِ كَيْدِهِمْ وَرَدِّ مَكْرِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (8: 30) وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَلِمَةُ اللهِ بِالرَّفْعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا الْعُلْيَا الْمَرْفُوعَةُ بِذَاتِهَا لَا بِجَعَلٍ وَتَصْيِيرٍ، وَلَا كَسْبٍ وَتَدْبِيرٍ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا أَنَّهَا هِيَ الْعُلْيَا بِالذَّاتِ، ثُمَّ بِمَا يَكُونُ مِنْ تَأْيِيدِ اللهِ لِأَهْلِهَا الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِهَا بِجَعْلِهِمْ بِهَا أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 139) وَبِجَعْلِهَا بِهِمْ ظَاهِرَةٌ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَعْلُو كُلَّ مَا يُخَالِفُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَالَى وَمَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ نَصْرِ رُسُلِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ (وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ) فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ فَيَعْلُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُسَاوِيَهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْخَبَرَ الْإِلَهِيَّ، بِهَذَا النَّصْرِ وَالْوَعْدِ بِهِ، الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (40: 51) إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ الْحَقِّ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ (22: 47) وَالْخَبَرُ وَالْوَعْدُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ. فَكَلِمَةُ التَّكْوِينِ الْإِرَادِيَّةُ، وَكَلِمَةُ التَّكْلِيفِ الْخَبَرِيَّةُ مُتَّحِدَتَانِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَوْ دِينُهُ تَعَالَى الْمَبْنِيُّ عَلَى أَسَاسِ تَوْحِيدِهِ فَالنَّظَرُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَضْمُونُ الْكَلِمَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ وَحْدَانِيَّتُهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ قَطْعِيَّةٌ قَامَتْ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ، وَكَذَا إِنْ أُرِيدَ بِهَا هَذَا الدِّينُ عَقَائِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَآدَابُهُ إِذْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَلِمَةُ التَّكْلِيفِ أَوْ كَلِمَاتُهُ - فَهَذِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيَّةِ لَهَا صِفَةُ الْعُلْيَا بَيَانًا وَبُرْهَانًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَفَضْلًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِهَا صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ. وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6: 115) و (الْوَجْهُ الثَّانِي) إِقَامَةُ الْمُكَلَّفِينَ لَهَا بِمَعْنَيَيْهَا، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَدْ تَخْفَى عُلْوِيَّتُهَا عَلَى النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، إِذْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي صِفَاتِ الْمُدَّعِينَ لَهَا، وَأَعْمَالِهِمْ لَا فِي ذَاتِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ غَيْرَ قَائِمِينَ بِهَا، وَلَا مُقِيمِينَ لَهَا، وَمِنْ عَجَائِبِ مَا رُوِيَ لَنَا مِنْ إِدْرَاكِ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ لِعُلْوِيَّةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وَعَقَلِهِ

أَنَّ عَاهِلَ الْأَلَمَانِ الْأَخِيرَ قَالَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُكُومَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ لَمَّا زَارَ الْآسِتَانَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ الْكُبْرَى: يَجِبُ عَلَيْكُمْ - وَأَنْتُمْ دَوْلَةُ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - أَنَّ تُفَسِّرُوا هَذَا الْقُرْآنَ تَفْسِيرًا تَظْهَرُ بِهِ عُلْوِيَّتُهُ كَمَا أَدْرَكَ هَذِهِ الْعُلْوِيَّةَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ كُبَرَاءِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِذَكَائِهِ وَدِقَّةِ فَهْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ، إِذْ كَانَ مِمَّا قَالَهُ فِيهِ: وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ. وَرَاجِعْ مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (33) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ كَانَتْ لَا مُقَابِلَ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، مِنْ حَيْثُ الْقِيَامِ بِهَا لِتُوصَفَ بِالْوَصْفِ اللَّائِقِ بِهَا وَهُوَ السُّفْلِيَّةُ، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا كَلِمَةُ الشِّرْكِ أَوْ كَلِمَةُ الْحُكْمِ، فَقَدْ كَانَ لِأَهْلِهَا السِّيَادَةُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ حَتَّى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَدَنَّسُوا بَيْتَ اللهِ بِأَوْثَانِهِمْ فَأَذَلَّ اللهُ أَهْلَهَا، وَأَزَالَ سِيَادَتَهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ كِفَاحٍ مَعْرُوفٍ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا تَقْرِيرُهُمْ لِقَتْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ أَيْضًا. وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ بِجَعْلِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ، ثُمَّ بِكَسْبِ الْمُؤْمِنِينَ وَجِهَادِهِمْ. وَأَمَّا كَلِمَةُ الْكُفْرِ فِي نَفْسِهَا، وَبِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ تَلَبُّسِ بَعْضِ الشُّعُوبِ أَوِ الْقَبَائِلِ بِهَا، فَلَا حَقِيقَةَ لَهَا. أَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ لَا حَقِيقَةَ لِمَضْمُونِهِ فِي الْوُجُودِ وَإِنَّمَا هُوَ دَعَاوَى لَفْظِيَّةٌ، صَادِرَةٌ عَنْ وَسَاوِسَ شَيْطَانِيَّةٍ خَيَالِيَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (12: 40) وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ لِلْكَلِمَتَيْنِ وَأَثَرِهِمَا فِي الْوُجُودِ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (14: 24 - 27) وَقَدْ خَتَمَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الْعَزِيزُ: الْمُمْتَنِعُ الْغَالِبُ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَالْحَكِيمُ: الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَقَدْ نَصَرَ رَسُولَهُ بِعِزَّتِهِ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِحِكْمَتِهِ، وَأَذَلَّ كُلَّ مَنْ نَاوَأَهُ وَنَاوَأَ الْمُتَّقِينَ مِنْ أَمَتِّهِ. وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِكَلِمَاتٍ تَزِيدُهَا بَيَانًا، وَتَزِيدُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِيمَانًا. وَتَزِيدُ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى خِزْيًا وَخِذْلَانًا، ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: كَلِمَةٌ فِي خُلَاصَةِ مَا صَحَّ مِنْ خَبَرِ الْهِجْرَةِ وَصِفَةِ الْغَارِ، وَكَلِمَةٌ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ وَأَخْبَارُ الْهِجْرَةِ مِنْ مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَكَلِمَةٌ فِي دَحْضِ شُبُهَاتِ الرَّوَافِضِ، بَلْ مُفْتَرَيَاتِهِمْ فِي تَشْوِيهِ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ، وَتَحْرِيفِ كَلِمَاتِ اللهِ وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ مَوَاضِعِهَا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ (27: 14) .

الْكَلِمَةُ الْأُولَى فِي الْهِجْرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الْمُرْسَلِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَمُصْلِحًا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، أَنَّ أَعْدَلَهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْأُمِّيَّةُ بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَذَكَاءِ الْقَرِيحَةِ، وَارْتِقَاءِ اللُّغَةِ وَالسَّلَامَةِ، مِمَّا مُنِيَتْ بِهِ أُمَمُ الْحَضَارَةِ مِنَ الِاسْتِذْلَالِ وَالِاسْتِعْبَادِ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَرُؤَسَاءِ الدِّينِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ عَادَى هَذِهِ الدَّعْوَةَ وَالْقَائِمَ بِهَا كُبَرَاءُ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ، كِبْرًا وَبَغْيًا وَعُلُوًّا وَاسْتِكْبَارًا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِمْ وَضَلَالِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، لِئَلَّا يَكُونَ فِي ظُهُورِهَا بِالْحَقِّ شُبْهَةٌ يُظُنُّ بِهَا أَنَّهَا إِنَّمَا قَامَتْ بِعَصَبِيَّةِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِضْعَةُ أَعْمَامٍ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَّا حَمْزَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَخُوهُ فِي الرَّضَاعِ وَقَرِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَإِنَّ أُمَّهُ ابْنَةُ عَمِّ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَقَدْ آمَنَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ بِعْثَتِهِ. وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّهُ الْكَبِيرُ الْغَنِيُّ أَوَّلَ مَنْ صَارَحَهُ الْعَدَاوَةَ، فَقَالَ لِقُرَيْشٍ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ. وَحَسْبُكَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَفِي امْرَأَتِهِ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ، وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي كَفَلَهُ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ شَيْبَةَ الْحَمْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْمِيهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ لِعَصَبِيَّةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَكَانَ لِزَوْجِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ مَقَامٌ كَبِيرٌ فِي قُرَيْشٍ، كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ سَلْبِيٌّ فِي تَقْلِيلِ إِيذَائِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَقَدْ تُوُفِّيَتْ هِيَ وَأَبُو طَالِبٍ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ، فَاشْتَدَّ إِيذَاءُ قُرَيْشٍ لَهُ بَعْدَهُمَا، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ قِتَلَةً تَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهَا شَابًّا نَهْدًا قَوِيًّا يُعْطُونَهُ سَيْفًا فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الشُّبَّانُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيُقَطِّعُونَهُ بِسُيُوفِهِمْ؛ لِيَضِيعَ دَمُهُ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَيَتَعَذَّرَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ الْأَخْذُ بِثَأْرِهِ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ الْعَرَبِ فَيَرْضَوْنَ بِالدِّيَةِ. عِنْدَ هَذَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَى يَثْرِبَ الَّتِي صَارَ اسْمُهَا الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ بِهِجْرَتِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهِ وَبَايَعَهُ مَنْ أَهْلِهَا الْأَنْصَارُ فِي الْمَوْسِمِ مَنْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى مُقَدِّمَةً لِإِيمَانِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ الْكِرَامِ. لَمْ يُكَاشِفِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِجْرَتِهِ أَحَدًا غَيْرَ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنُ بِهِ مِمَّنْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَهْلِ بَيْتِهِ (وَهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ وَعَتِيقُهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَرَبِيبُهُ عَلِيٌّ، وَكَانَ دُونَ الْبُلُوغِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمُوا بِنُبُوَّتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَدَّقُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ اللهُ بِالْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صَاحِبَهُ الْمُلَازِمَ، وَمُسْتَشَارَهُ الدَّائِمَ، وَوَزِيرَهُ الْأَكْبَرَ وَمَوْضِعَ سِرِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ اسْتِعْدَادًا لِنُورِ الْإِسْلَامِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ عَقْلِهِ، وَعِرْفَانِهِ بِفَضَائِلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ كَانَ صَدِيقُهُ مِنْ سِنِّ الشَّبَابِ.

وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَعْرِضِ الْإِسْلَامَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا وَكَانَ لَهُ فِيهِ كَبْوَةٌ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ أَصَحَّ مَا أَوْرَدَهُ نُقَّادُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ خَبَرِ الْهِجْرَةِ. وَأَوْضَحُهُ وَأَبْسَطُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ فَنَبْدَأُ بِهِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ أُخْرَى مِنَ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِلَى رِوَايَتِهَا فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ نُشِيرُ إِلَى غَيْرِهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ بِرْكَ الْغَمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَّةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقِرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِيَنَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْر، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ

رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ. وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجْرَنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْمُسْلِمِينَ: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ " وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبْطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسًا فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَأْذَنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَبِي بَكْرٍ: " أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ

يَا رَسُولَ اللهِ - إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " بِالثَّمَنِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ. وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتُ النِّطَاقِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمِنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَنْ بَنِيَ الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِيَ مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةَ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِيَ فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحطَطْتُ بِزُجِّهِ

الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِيَ إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ لَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذْ لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: " أَخْفِ عَنَّا " فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فَهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْ فِي رَجُلٍ مِنْ يَهُوْدَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوا رَسُولَ اللهِ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ

بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَنْزِلُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ وَيَقُولُ: " اللهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَةِ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ " فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَفَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ، صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبُطُهُ إِلَّا نِطَاقِي، قَالَ: فَشُقِّيهِ فَفَعَلْتُ، فَسُمِّيَتْ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ، قَالَ: ادْعُ اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكَ، فَدَعَا لَهُ.

قَالَ: فَعَطِشَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَرَّ بِرَاعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ اهـ. (أَقُولُ) : هَذَا مَا اخْتَرْتُ نَقَلَهُ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ خَبَرِ الْهِجْرَةِ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى تُرَاجَعُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالسِّيَرِ وَفِيهَا عِبَرٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّنِي أُقَفِّي عَلَيْهِ بِوَصْفِ الْغَارِ الَّذِي شَرَّفَهُ اللهُ بِإِيوَائِهِ إِلَيْهِ إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ. غَارُ ثَوْرٍ وَطَرِيقُهُ مِنْ مَكَّةَ: الْغَارُ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ مِنْ مَادَّةِ الْغَوْرِ، وَغَوْرُ كُلِّ شَيْءٍ قَعْرُهُ وَعُمْقُهُ، فَالْغَارُ فِي الْجَبَلِ تَجْوِيفٌ فِيهِ يُشْبِهُ الْبَيْتَ، وَثَوْرٌ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ وَعْرُ الْمُرْتَقَى، وَقَدْ وَصَفَهُ وَحَدَّدَ مَسَافَةَ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ إِبْرَاهِيمُ رِفْعَتْ بَاشَا أَمِيرُ الْحَجِّ الْمِصْرِيُّ إِذْ زَارَهُ فِي 18 ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1318 هـ وَكَانَ يَحْرُسُهُ ثُلَّةٌ مِنَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ خَوْفًا مِنْ فَتْكِ الْأَعْرَابِ بِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَسْكَرِ الْمَحْمَلِ الْمِصْرِيِّ فِي الْمَحَلِّ الْمُسَمَّى بِالشَّيْخِ مَحْمُودٍ مِنْ ضَوَاحِي مَكَّةَ قَرِيبَةٌ مِنْ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ وَنِصْفٍ، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوهَا عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ فِي سَاعَةٍ وَثُلُثِ سَاعَةٍ، ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ الطَّرِيقِ وَالْغَارِ مَا نَذْكُرُهُ بِنَصِّهِ لِيَعْلَمَ الْقُرَّاءُ أَنَّ إِيوَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَاحَبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بِالسَّهْلِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْكَبِيرِ الَّذِي يَعِزُّ الْعُثُورُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْفِي فِيهِ، قَالَ: وَالطَّرِيقُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْجَبَلِ تَحُفُّهُ الْجِبَالُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَبِهِ عَقَبَةٌ صَغِيرَةٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا، وَلَمْ يَسْتَغْرِقْ قَطْعُهَا إِلَّا ثَلَاثَ دَقَائِقَ، وَبِالطَّرِيقِ سَبْعَةُ أَعْلَامٍ مَبْنِيَّةٌ بِالْحَجَرِ وَمُجَصَّصَةٌ فَوْقَ نُشُوزٍ مِنَ الْأَرْضِ يَبْلُغُ ارْتِفَاعَ الْوَاحِدِ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَمْتَارٍ، وَقَاعِدَتُهُ مِتْرٌ مُرَبَّعٌ، وَتَنْتَهِي بِشَكْلٍ هَرَمِيٍّ، وَهَذِهِ الْأَعْلَامُ عَلَى يَسَارِ الْقَاصِدِ لِلْجَبَلِ وَبَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهَا بُعْدٌ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ 200 مِتْرٍ وَأَلْفِ مِتْرٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا وُضِعَ عِنْدَ تَعْرِيجَةٍ؛ حَتَّى لَا يَضِلَّ السَّالِكُ عَنِ الْجَبَلِ، وَسَاعَةُ بَلَغْنَا الْجَبَلَ قَسَّمْنَا قُوَّتَنَا (يَعْنِي عَسْكَرَهُمْ) قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ صَعَدَ مَعَنَا إِلَى الْجَبَلِ، وَالْآخَرُ وَقَفَ بِسَفْحِهِ يَرُدُّ عَنَّا عَادِيَةَ الْعُرْبَانِ إِنْ هَمُّوا بِالْأَذَى، وَقَدْ تَسَلَّقْنَا الْجَبَلَ فِي سَاعَةٍ وَنِصْفِهَا بِمَا فِي ذَلِكَ اسْتِرَاحَةُ دَقِيقَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ كُلَّ خَمْسِ دَقَائِقَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كُنَّا نَسْتَرِيحُ خَمْسَ دَقَائِقَ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَعْرٌ حَلَزُونِيٌّ، وَقَدْ عَدَدْتُ 54 تَعْرِيجَةً إِلَى نِصْفِ الْجَبَلِ، وَكُنَّا آوِنَةً نَصْعَدُ وَأُخْرَى نَنْحَدِرُ حَتَّى وَصَلْنَا الْغَارَ بِسَلَامٍ، وَلَوْلَا الْإِصْلَاحُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُشِيرُ عُثْمَانُ بَاشَا نُورِي الَّذِي وَلِيَ الْحِجَازَ سَنَةَ 1299 هـ وَالْمُشِيرُ السَّيِّدُ إِسْمَاعِيلُ حَقِّي بَاشَا الَّذِي كَانَ وَالِيًا عَلَى الْحِجَازِ، وَشَيْخًا لِلْحَرَمِ سَنَةَ 1307 هـ لَازْدَادَتِ الصُّعُوبَةُ، وَضَلَّ السَّائِرُ عَنِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْغَارِ لِعِظَمِ الْجَبَلِ وَاتِّسَاعِهِ وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ، وَكَانَ مِنْ أَثَرِ إِصْلَاحِهِمَا

جَعْلُ الطَّرِيقِ بِهَيْئَةِ سَلَالِمَ تَارَةً تَتَصَعَّدُ وَأُخْرَى تَنْحَدِرُ، عَلَى أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ الْعُرُوجُ صَعْبًا، فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الصَّاعِدِينَ امْتَقَعَ لَوْنُهُ وَخَارَتْ قُوَاهُ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّنَا تَدَارَكْنَاهُ بِجُرْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ شَرِبَهَا وَصَبَابَةٍ مِنْهُ سَكَبْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَفَاقَ لَبَاغَتَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَلِهَذَا نَنْصَحُ لِلزَّائِرِينَ بِأَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنَ الْمَاءِ لِيَقُوا أَنْفُسَهُمْ شَرَّ الْعَطَبِ. وَلَمَّا بَلَغْنَا الْغَارَ وَجَدْنَاهُ صَخْرَةً مُحَوَّفَةً فِي قُنَّةِ الْجَبَلِ أَشْبَهَ بِسَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ ظَهْرُهَا إِلَى أَعْلَى، وَلَهَا فَتْحَتَانِ فِي مُقَدِّمِهَا وَاحِدَةٌ وَفِي مُؤَخِّرِهَا أُخْرَى، وَقَدْ دَخَلْتُ مِنَ الْغَرْبِيَّةِ زَاحِفًا عَلَى بَطْنِي مَادًّا ذِرَاعِي إِلَى الْأَمَامِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي تَتَّسِعُ عَنِ الْأُولَى قَلِيلًا بَعْدَ أَنْ دَعَوْتُ فِي الْغَارِ وَصَلَّيْتُ، وَالْفَتْحَةُ الصَّغِيرَةُ عَرْضُهَا ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ فِي شِبْرَيْنِ تَقْرِيبًا وَهِيَ الْفُتْحَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْغَرْبِ. أَمَّا الْفُتْحَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي الشَّرْقِ وَيُقَالُ: إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ؛ لِيَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ الدُّخُولُ إِلَى الْغَارِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ، وَالْغَارُ مِنَ الْجَبَلِ فِي النَّاحِيَةِ الْمُوَالِيَةِ لِمَكَّةَ، وَقَدْ وَجَدْنَا بِجَانِبِهِ رَجُلًا عَرَبِيًّا يَتَنَاوَلُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الزَّائِرِينَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْغَارِ إِذْ تُوجَدُ هُنَاكَ صُخُورٌ تُشْبِهُ صَخْرَتَهُ وَلَكِنَّهَا لَا تُمَاثِلُهَا تَمَامًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا رِفْعَتْ فِي كِتَابِ مِرْآةِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَدْ وَضَعَ فِي الْكِتَابِ صُورَةَ الْغَارِ وَصُورَةَ الْجَبَلِ بِرَسْمِ آلَةِ الِانْعِكَاسِ الشَّمْسِيِّ، فَاسْتَفَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْغَارَ ضَيِّقٌ وَوَعْرُ الْمُرْتَقَى وَضَيِّقُ الْمَدْخَلِ. فَعَلِمُنَا قَدْرَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتِ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَاحَبَهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ، وَسَبَبُ إِشْفَاقِ الصِّدِّيقِ وَخَوْفِهِ أَنْ يَرَاهُمَا الْمُشْرِكُونَ بِأَدْنَى الْتِفَاتٍ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ أَبْصَارَهُمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ وَدُخُولِ الْغَارِ، فِيهَا كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقٌ يَتَسَاهَلُونَ بِقَبُولِ مِثْلِهَا فِي الْمَنَاقِبِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ بِطُرُقٍ مُتَّصِلَةٍ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَا فِي الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِالْأَوْلَى. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنَ الْفَتْحِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَوَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (8: 30) الْآيَةَ. قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ - يُرِيدُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطَلَعَ اللهُ نَبِيَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي: يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَقُومَ فَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَرَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ

فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْخَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ اهـ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَاتٍ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ فِي بَعْضِ السِّيَرِ وَغَيْرِهَا وَنَقَلَ عَنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَيْلَةَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْغَارِ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً، وَمِنْ خَلْفِهِ سَاعَةً، فَسَأَلَهُ (أَيْ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ) فَقَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ. وَأَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي أَمَامَكَ، فَقَالَ: " لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ دُونِي "؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ قَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَاسْتَبْرَأَهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ زِيَادَاتِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بَلَاغًا نَحْوَهُ اهـ. أَقُولُ: فَهَذِهِ مَرَاسِيلُ عَنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِي الْمَوْضُوعِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَدَّ كُلَّ جُحْرٍ كَانَ فِي الْغَارِ بِقِطَعٍ مِنْ ثَوْبِهِ، وَهَذَا مُرَادُهُ مِنِ اسْتِبْرَائِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ قَوْلِ عَائِشَةَ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ: ذَكَرَ الْوَاقِدَيُّ أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّ خُرُوجَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُخُولُهُ الْمَدِينَةَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيَّ قَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. (قُلْتُ) : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ مَكَّةَ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخُرُوجَهُ مِنَ الْغَارِ كَانَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَهِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ السَّبْتِ وَلَيْلَةُ الْأَحَدِ وَخَرَجَ فِي أَثْنَاءِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ اهـ. الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ، مَنَاقِبُ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ: قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمَا يُفَسِّرُهَا وَيَشْرَحُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مِمَّا دُوْنَهَا فِي الرِّوَايَةِ عَلَى مَنَاقِبَ وَفَضَائِلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، امْتَازَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ لِبَدَاهَتِهِ، وَمِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ تَرْتِيبٍ. (الْأَوَّلُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَى نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي كَانَتْ أَهَمَّ حَوَادِثِ رِسَالَتِهِ، وَأَشَدَّهَا خَطَرًا وَخَيْرَهَا عَاقِبَةً غَيْرَ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ لِصُحْبَتِهِ وَإِينَاسِهِ فِيهَا غَيْرَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ

عَدِيٍّ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِحَسَّانَ: " هَلْ قَلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا "؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ " فَقَالَ: وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ ... طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إِذْ صَعِدَ الْجَبَلَا وَكَانَ حُبُّ رَسُولِ اللهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلًا فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: " صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ هُوَ كَمَا قُلْتَ ". (الثَّانِيَةُ) أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ هَذِهِ الرَّاحِلَةِ مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ تَكُونَ الرَّاحِلَةُ الَّتِي رَكِبَهَا بِالثَّمَنِ يَدْفَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَضِبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي مُحَاوَرَةٍ بَيْنِهِمَا، فَطَلَبَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى، فَأَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " ثَلَاثًا - قَالَ الرَّاوِي وَهُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ثُمَّ إِنَّ عَمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا - فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمُ - مَرَّتَيْنِ - فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي "؟ مَرَّتَيْنِ - فَمَا أُوذِيَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهَا. وَقَدْ صَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ أَبُو بَكْرٍ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. (الثَّالِثَةُ) أَنَّ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَخْتَرْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ إِلَّا مَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلصِّدِّيقِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. (الرَّابِعَةُ) ذَكَرَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَامِ إِطْلَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ عَلَى تَثَاقُلِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ اسْتِنْفَارِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ بِأَمْرِهِ. أَخْرَجَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: إِنَّ اللهَ ذَمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَدَحَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (40) وَأَخْرَجَ ابْنُ

عَسَاكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: عَاتَبَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ الْآيَةَ. ذَكَرَهُمَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ - فَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْآيَةِ، وَالسِّيَاقُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وَالَّذِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ لَقَدْ عُوتِبَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي نُصْرَتِهِ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ الْآيَةَ. خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مِنَ الْمَعْتَبَةِ. (الْخَامِسَةُ) أَمْرُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ يُبَلِّغَ النَّاسَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي جُمْلَةِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَفِي ذَلِكَ حِكَمٌ بَالِغَةٌ تَقْطَعُ كُلَّ وَتِينٍ مِنْ قُلُوبِ الرَّافِضَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقْطَعْ أَلْسِنَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ الْخَاطِئَةَ. (السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهِ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي خِطَابٍ جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالسِّيَاقُ فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى فَضْلِ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، وَكَوْنُ الصِّدِّيقُ هُوَ الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي كُلِّ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ لِلْهِجْرَةِ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَهِيَ كَوْنُ أَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْغَارِ مَا نَصُّهُ: وَالْعُلَمَاءُ أَثْبَتُوا أَنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ ثَانِيَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أَكْثَرِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ، وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ آمَنَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ ذَهَبَ وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ أَجِلَةِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَالْكُلُّ آمَنُوا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ فَكَانَ هُوَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَأَيْضًا كُلَّمَا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةٍ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقِفُ فِي خِدْمَتِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَامَ مَقَامَهُ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِجَنْبِهِ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ هُنَاكَ أَيْضًا اهـ. وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ ثَانِيَهِ فِي الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ الشَّرْعِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يَرَ الْأَنْصَارُ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَحَدًا قَبْلَهُ. (السَّابِعَةُ) - وَهِيَ تُؤَيِّدُ مَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الِاثْنَيْنِيَّةِ مِنْ رِفْعَةِ الْمَقَامِ - قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا " وَإِنَّهُمَا لَمَنْقَبَةٌ تَتَضَاءَلُ دُونَهَا الْمَنَاقِبُ، وَمَرْتَبَةٌ تَنْحَدِرُ عَنْ عُلْيَا سَمَائِهَا الْمَرَاتِبُ، أَكْبَرُ أَعْلَمِ رُسُلِ اللهِ بِاللهِ أَمَرَّهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَدْرِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " بِكَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحُومَ الظُّنُونُ أَوْ تَنْتَهِيَ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ إِلَى شَأْنٍ أَعْلَى مِنْ شَأْنِهَا، وَمَنَعَةٍ أَعَزُّ مِنْ مَنَعَتِهَا إِلَخْ.

(الثَّامِنَةُ) حِكَايَةُ رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ لِقَوْلِ رَسُولِهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لِهَذَا الصَّاحِبِ الصِّدِّيقِ الْمَكِينِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ، لَا مِنْ حُسْنِ ظَنِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَبِّهِ وَاجْتِهَادِ رَأْيِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اجْتِهَادًا أَقَرَّهُ رَبُّهُ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ عَنْهُ، وَجَعَلَهُ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، لَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي غَايَتِهِ، بِمَعْنَى مَا كَانَ عَنِ الْوَحْيِ مُنْذُ بِدَايَتِهِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِير الْمَعِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا مَعِيَّةً خَاصَّةً مِنْ نَوْعِ الْمَعِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا مُوسَى وَهَارُوْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهَا أَعْلَى فِي ذَاتِهَا وَشَخْصِهَا مِنْ كُلِّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ، فَالْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ مَعْنًى إِضَافِيٌ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِ وَمُتَعَلِّقِهِ، فَمَعِيَّةِ الْعِلْمِ عَامَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (58: 7) وَهِيَ لَا تَشْرِيفَ فِيهَا لِأَهْلِهَا بَلْ هِيَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَإِنْذَارٌ بِأَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ وَيَجْزِيهِمْ بِهِ،: وَأَعْلَى مِنْهَا مَعِيَّتُهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّوْفِيقِ وَاللُّطْفِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَفِيهَا شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَأَعْلَى مِنْهَا مَعِيَّتُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فِي مَقَامِ التَّأْيِيدِ عَلَى الْأَعْدَاءِ الْمُنَاوِئِينَ، وَهِيَ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا مَا ثَبَتَ لِلصِّدِّيقِ هُنَا. (التَّاسِعَةُ) إِنْزَالُ اللهِ تَعَالَى سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَنْقُولِ الْمَعْقُولِ، وَهِيَ مَنْقَبَةٌ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِثْبَاتُهَا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَإِنَّمَا وَرَدَ إِثْبَاتُهَا لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَائِمًا مُقَامَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْغَارِ وَسَائِرِ رِحْلَةِ الْهِجْرَةِ الشَّرِيفَةِ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَإِنَّمَا نَزَلَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ أَيْ: سَنَةَ تِسْعٍ مِنْهَا، وَقَدْ رَوَيْنَا لَكَ مَا قَالَهُ عَلَيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَهَا عَنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ. (الْعَاشِرَةُ) تَأْيِيدُهُ بِجُنُودٍ لَمْ يَرَهَا الْمُخَاطَبُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِعَطْفِ جُمْلَةِ التَّأْيِيدِ عَلَى جُمْلَةِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَيَأْتِي فِي هَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَجَعْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَقَامِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مَعَ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ. (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) إِثْبَاتُ اللهِ تَعَالَى صُحْبَتَهُ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أَعْظَمِ مَوَاطِنِ بَعْثَتِهِ، وَأَطْوَارِ نُبُوَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ سَمَّى أَتْبَاعَهُ فِي عَهْدِهِ أَصْحَابًا تَوَاضُعًا مِنْهُ، وَتَرْبِيَةً لَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَإِزَالَةً لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنِ احْتِقَارِ بَعْضِ الْقَبَائِلِ لِبَعْضٍ، وَاحْتِقَارِ الْأَغْنِيَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ لِمَنْ دُونَهُمْ.

وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَ فِي شُعُوبٍ أُخْرَى كَالْهُنُودِ مِنْ جَعْلِ النَّاسِ طَبَقَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِالتَّحَكُّمِ وَالتَّوَارُثِ وَهُوَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجَمِيعِ وَلِإِصْلَاحِ الْجَمِيعِ - فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَأَقَرَّتْهُ شَرِيعَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ مَنْ تُفَاضِلِ أَفْرَادِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَمَعَالِي الْأَخْلَاقِ: 30 إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (49: 13) وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً (4: 95 و96) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ (20) إِلَخْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَرَدَ فِي فَضَائِلِ الْهِجْرَةِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَوَّلُ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّهُ امْتَازَ بِهِجْرَتِهِ مَعَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَرَغْبَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قَبْلِ الْإِذْنِ الْإِلَهِيِّ لَهُ، إِذْ مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَحْدَهُ انْتِظَارًا مِنْهُ لِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِهِجْرَتِهِ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ كُلُّ مَا عَلِمْنَا مِنَ الْمَزَايَا فِي الْهِجْرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ بِهَا أَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَيِّدِ الْمُهَاجِرِينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَنْ تَكُونَ صُحْبَتُهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ صُحْبَةِ غَيْرِهِ، وَفِي قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثِ مُغَاضَبَةِ عَمَرَ لَهُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: " فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي " إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّاحِبَ الْأَكْمَلَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَهُوَ قَدْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، إِذِ الْإِضَافَةُ هُنَا كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ (17: 1) إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَبِيدُ اللهِ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (19: 93) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِنَّ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ؛ لِتَكْذِيبِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَهَاتَانِ مَنْقَبَتَانِ فِي الصُّحْبَةِ وَالْهِجْرَةِ جَعَلْنَاهُمَا وَاحِدَةً، وَقَدْ يُثَلِّثُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ وَصَلَ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَآهُ مَعَهُ جَمَاعَةُ الْأَنْصَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ جَمَاعَةٍ، وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ ظَهَرَتْ بِهَا شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ. (الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) حِكَايَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا تَحْزَنْ فَكَوْنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْنَى بِتَسْلِيَتِهِ وَطَمْأَنَتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَإِخْبَارُ اللهِ بِذَلِكَ فِيمَا يُتَعَبَّدُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَمْرٌ أَعْظَمُ، وَنَاهِيكَ بِتَعْلِيلِهِ بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ مِنْ مَعِيَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا. وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْقُرْآنِ خِطَابًا مِنْ قَبْلِهِ تَعَالَى إِلَّا لِلنَّبِيِّ

الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَوَرَدَ خِطَابًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَلَّلَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بِمَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَعَلَّلَ هُنَا بِالْمَعِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْهَا وَأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. (الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَكْمَلُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ كَافَّةً، فَهُوَ يَمْدَحُ الْإِيمَانَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةَ وَأَهْلَهَا، وَيَذُمُّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَالْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ، وَالصِّفَاتَ الْقَبِيحَةَ وَأَهْلَهَا، وَلَا تَرَى فِيهِ مَدْحًا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ غَيْرِ رَسُولِهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا لِصَاحِبِهِ الْأَكْبَرِ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَلَا ذَمًّا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرِ أَبِي لَهَبِ وَامْرَأَتِهِ. فَاخْتِصَاصُ أَبِي بَكْرٍ بِالْمَدْحِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْقَبَةٌ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، تَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى - أَيِ الِاخْتِصَاصُ - غَيْرُ مَوْضُوعِ الْمَدْحِ الْمُتَقَدِّمِ تَفْصِيلُهُ فَهُوَ يَجْعَلُ قِيمَتَهُ مُضَاعَفَةً، إِذْ لَوْ كَانَ فِي التَّنْزِيلِ مَدْحٌ لِغَيْرِهِ كَالْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الْوَارِدَةِ فِي فَضَائِلِهِ وَفَضَائِلِ آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ لَمَا كَانَتْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالصِّدِّيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْحُ الْمَفْرُوضُ لِغَيْرِهِ دُونَ مَدْحِهِ فِي مَوْضُوعِهِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَحَادِيثِ الْمَنَاقِبِ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَدْحُ فِي سِيَاقِ تَوْبِيخِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّثَاقُلِ فِي إِجَابَةِ الرَّسُولِ إِلَى مَا اسْتَنْفَرَهُمْ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَالْآثَارُ فِيهِ؟ . وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّ قِصَّةَ الْأَعْمَى تَتَضَمَّنُ ثَنَاءً عَلَيْهِ بِالْخَشْيَةِ، وَهُوَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْمُؤَذِّنُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِيهَا لَيْسَ سِيَاقَ مَدْحٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يَخْشَى (80: 9) لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ خَاصَّةً بِهِ، وَلَا أَنَّهُ مُمْتَازٌ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لَهُ مَا لَا يَخْفَى، وَلَا يَرِدُ أَيْضًا عَلَى ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي سُورَةِ الْعَلَقِ، فِي أَبِي جَهْلٍ؛ فَإِنَّ الذَّمَّ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصْفِ لَا بِالشَّخْصِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ قَدْ عُرِفَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ لَا مِنَ النَّصِّ. وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ كَتَوَاتُرِ وَصْفِ الصَّاحِبِ لِلصِّدِّيقِ وَدُونَهُ وَصْفُ الْأَعْمَى لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، عَلَى أَنْ لَا يَضُرَّنَا عَدَمُ الْحَصْرِ هُنَا، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي بَحْثِنَا. الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ، تَفْنِيدُ مِرَاءِ الرَّوَافِضِ، وَتَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ لِهَذِهِ الْمَنَاقِبِ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَاقِبِ بِدُونِ مَا أَلْهَمَنَا اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مَا نَصُّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوَافِضَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الطَّعْنِ فِي أَبِي بَكْرٍ مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ حَقِيرَةٍ جَارِيَةٍ مَجْرَى إِخْفَاءِ الشَّمْسِ بِكَفٍّ مِنَ الطِّينِ. (فَالْأَوَّلُ) قَالُوا: إِنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: " لَا تَحْزَنْ " فَذَلِكَ الْحُزْنُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَكَيْفَ

نَهَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ؟ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ مُذْنِبًا وَعَاصِيًا فِي ذَلِكَ الْحُزْنِ (وَالثَّانِي) قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ فِي مَكَّةَ أَنْ يَدُلَّ الْكُفَّارَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُوقِفَهُمْ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَعَانِيهِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ دَفْعًا لِهَذَا الشَّرِّ (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مَعَ كَوْنِ الْكُفَّارِ قَاصِدِينَ قَتْلَ رَسُولِ اللهِ تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْفِدَاءِ، فَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ عَلِيٍّ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَنْ كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ صَاحِبًا لِلرَّسُولِ - فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ اهـ. هَذَا مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ بِحُرُوفِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ أَخَسُّ مِنْ شُبَهَاتِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ وَرَدَّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي رَدِّهِ رَدًّا آخَرَ لِأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ إِمَامِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي عَصْرِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ (تُوُفِّيَ سَنَةَ 303) فَدَلَّ هَذَا عَلَى قِدَمِ هَذَا الْجَهْلِ وَالسَّخْفِ فِي الْقَوْمِ. وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ الشِّهَابُ الْآلُوْسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ نَقْلًا عَنْهُمْ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاحْتِكَاكِ بِعُلَمَائِهِمْ فِي بَغْدَادَ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَأَنْكَرَ الرَّافِضَةُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْفَضْلِ فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. قَالُوا: إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْفَضْلِ إِنْ كَانَ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ مُتَمِّمًا لِلْعَدَدِ - وَإِنْ كَانَ: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنِ اجْتِمَاعِ شَخْصَيْنِ فِي مَكَانٍ، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَإِنْ كَانَ (لِصَاحِبِهِ) فَالصُّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ (18: 37) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (81: 22) وَيَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ (12: 39) بَلْ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ مَنْ يَعْقِلُ وَغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْحِمَارَ مَعَ الْحِمَارِ مَطِيَّةٌ ... وَإِنْ خَلَوْتَ بِهِ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ وَإِنْ كَانَ لَا تَحْزَنْ فَيُقَالُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُزْنُ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً وَإِلَّا لَمَا نَهَى عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً لِمَكَانِ النَّهْيِ، وَذَلِكَ مُثْبِتُ خِلَافِ مَقْصُودِكُمْ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجُبْنِ مَا فِيهِ - وَإِنْ كَانَ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحْدَهُ، لَكِنْ أَتَى بِـ " نَا " سَدًّا لِبَابِ الْإِيحَاشِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْإِتْيَانِ بِـ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (34: 24) وَإِنْ كَانَ: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (40) فَالضَّمِيرُ فِيهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَفْكِيكُ الضَّمَائِرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي تَخْصِيصِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالسَّكِينَةِ هُنَا مَعَ عَدَمِ التَّخْصِيصِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: 30 فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (48: 26)

إِشَارَةً إِلَى ضِدِّ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ - وَإِنْ كَانَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُخْرِجْهُ مَعَهُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ كَيْدِهِ لَوْ بَقَى مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَفِي كَوْنِ الْمُجَهِّزِ لَهُمْ بِشِرَاءِ الْإِبِلِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ إِشَارَةٌ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَرَاءَ ذَلِكَ فَبَيِّنُوهُ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُمْ. (قَالَ الشِّهَابُ الْآلُوْسِيُّ إِثْرَ نَقْلِهِ) : وَلَعَمْرِي إِنَّهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَذَيَانِ الْبمَحْمُومِ أَوْ عَرْبَدَةِ السَّكْرَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَكَى فِي كِتَابِهِ الْجَلِيلِ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا هُوَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَدُّهُ رَحْمَةٌ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مَا كُنَّا نَفْتَحُ فِي رَدِّهِ فَمَا، أَوْ نَجْرِي فِي مَيْدَانِ تَزْيِيفِهِ قَلَّمَا. ثُمَّ رَدَّ كُلَّ كَلِمَةٍ قَالُوهَا رَدًّا عِلْمِيًّا أَدَبِيًّا مُفْحِمًا، وَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْهَا بِمَعُونَةِ أَحَادِيثِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْمَنَاقِبِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ ظَاهِرَةٌ فِي تَفْضِيلِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَعَنْهُمْ، وَلَعْنِ مُبْغِضِيهِ وَمُبْغِضِيهِمْ، وَمَا سَنَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ هُنَا مِنْ إِفْحَامِهِمْ يُغْنِينَا عَنْ نَقْلِ عِبَارَتِهِ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي تَفْنِيدِهَا هَذَا التَّحْرِيفُ لِكَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَالِافْتِرَاءُ الْمَفْضُوحُ الْمَعْلُومُ بُطْلَانُهُ بِالْبَدَاهَةِ، وَإِنَّمَا أَخْتَارُ مِنْ كَلَامِ السَّيِّدِ الْآلُوْسِيِّ قَوْلَهُ فِي آخِرِهِ: " وَأَيْضًا إِذَا انْفَتَحَ بَابُ هَذَا الْهَذَيَانِ أَمْكَنَ لِلنَّاصِبِيِّ أَنْ يَقُولَ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى فِي عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْبَيْتُوتَةِ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةَ هَاجَرَ إِلَّا لِيَقْتُلَهُ الْمُشْرِكُونَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَسْتَرِيحَ مِنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَعْجَبَ وَلَا أَبْطَلَ مِنْ قَوْلِ الشِّيعِيِّ إِنَّ إِخْرَاجَ الصِّدِّيقِ إِنَّمَا كَانَ حَذَرًا مِنْ شَرِّهِ. فَلْيَتَّقِ اللهَ مَنْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ، الْمُسْتَهْجَنَ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ " اهـ. أَقُولُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ فِي سُوءِ التَّأْوِيلِ، الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ لِمَحْضِ التَّضْلِيلِ، تَأْوِيلُ مُعَاوِيَةَ لِحَدِيثِ " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ فِئَتَهُ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ - يَعْنِي عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - بَلْ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّوَافِضِ لِخُرُوجِ الصِّدِّيقِ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَذْكُورِ آنِفًا إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى تَأْوِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَضْلِيلٌ لَا تَأْوِيلٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْفِرْيَةَ الَّتِي افْتَجَرَهَا هَؤُلَاءِ الْفَجَرَةُ لَيْسَ لَهَا شُبْهَةٌ لُغَوِيَّةٌ لَا مِنْ أَلْفَاظِ الْآيَةِ، وَلَا مِنْ أَلْفَاظِ أَحَادِيثِ الْهِجْرَةِ، بَلْ هِيَ مُصَادَمَةٌ لِلنُّصُوصِ كُلِّهَا وَمُنَاقَضَةٌ لِمَا تَوَاتَرَ وَصَارَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنَشْأَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُلَازَمَةِ الصِّدِّيقِ لَهُ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى آخِرَ حَيَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْحِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَا بَسَطْنَاهُ هُنَا مِنْ أَمْرِهِ.

وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاوِيَةَ فَلَهُ شُبْهَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَهُوَ إِسْنَادُ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ مَجَازًا، وَمِنْهُ إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا أُطْلَقَ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الِاضْطِهَادُ وَالْإِيذَاءُ الَّذِي نَالُوْهُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْمَجَازِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَوْلَهُ رَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمَّهُ حَمْزَةَ وَابْنَ عَمِّهِ جَعْفَرَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَسَائِرِ الْغَزَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ مَنْ يَخَافُ مِنْ وِشَايَةِ آخَرَ عَلَيْهِ لَا يُخْبِرُهُ بِسِرِّهِ، فَكَيْفَ أَمِنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ عَلَى سِرِّهِ، وَرَضِيَ أَنْ يُعْلِمَ بِذَلِكَ جَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَعَاهَدَهُمَا وَلَدُهُ وَعَتِيقُهُ فِي الْغَارِ بِالْغِذَاءِ وَبِالْأَنْبَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِئْجَارَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَرْحَلُ بِهِمَا؟ . ثُمَّ أَقُولُ زِيَادَةً فِي فَضِيحَةِ هَؤُلَاءِ الْمُخَرِّفِينَ الْمُحَرِّفِينَ: (أَوَّلًا) إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي صُحْبَةِ الصِّدِّيقِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْغَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ لَا فَضِيلَةَ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَا فِي صُحْبَةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي غَيْرِ الْغَارِ مِنْ أَزْمِنَةِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْأَوْلَى؛ إِذْ تَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الصُّحْبَةَ تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ أَيْضًا. فَإِذَا كُنْتُمْ تَلْتَزِمُونَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُكُمْ خِزْيَانِ لَا مَفَرَّ لَكُمْ مِنْهُمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صُحْبَةَ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْلَى اللهُ قَدْرَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَصُحْبَةُ الْكَافِرِ أَوِ الْحِمَارِ سَوَاءٌ (وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى مِنْ حِكَايَةِ هَذَا الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ حَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ) ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تُسَمَّى صُحْبَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَكُمْ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ أَنَّ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ، وَمَا لَا شَأْنَ لَهُ عِنْدَكُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ فَضِيلَةً أَوْ رَذِيلَةً. وَمَا قُلْتُمُوهُ فِي الصُّحْبَةِ يَجْرِي مَثَلُهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ أَنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ تَكُونُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوِ امْرَأَةٍ يُرِيدُ الْمُهَاجِرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَإِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى هِجْرَةً، فَالْمُهَاجِرُونَ عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لَهُمْ، وَلَا أَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى خِلَافًا لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ لَهُ لَا يُعَدَّانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ (4: 51) الْآيَةَ. وَقَالَ: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (34: 41) وَقَالَ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (36: 60)

وَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ (10: 18) . وَإِذَا نَحْنُ انْتَقَلْنَا إِلَى طَبِيعَةِ الصُّحْبَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، نَقُولُ: إِنَّ مَا هَذَى بِهِ الرَّوَافِضُ مِنْ صُحْبَةِ الْمُؤْمِنِ لِلْكَافِرِ وَنَحْوِهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الصُّحْبَةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ الْعَارِضَةِ، كَصُحْبَةِ يُوسُفَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السِّجْنِ، وَالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، دُونَ صُحْبَةِ الْمَوَدَّةِ وَلَا سِيَّمَا الدَّائِمَةُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ صُحْبَةَ الْمَوَدَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ الْمُتَشَاكِلَيْنِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْكَارِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ تَعَارَفَتْ رُوحَا النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَائْتَلَفَتَا، وَزَادَهُمَا الْإِسْلَامُ تَعَارُفًا وَائْتِلَافًا، حَتَّى إِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَقَدْ مَهَّدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ السَّبِيلَ لِاجْتِمَاعِ قَبْرَيْهِمَا إِذْ أَرْشَدَ الْأُمَّةَ إِلَى دَفْنِهِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَدْفِنَ وَالِدَهَا بِجَانِبِهِ وَعُلَمَاءُ التَّرْبِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ يَعُدُّونَ الصُّحْبَةَ وَالْمُعَاشَرَةَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ اقْتِبَاسِ كُلٍّ مِنَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، فَيَحُثُّونَ عَلَى صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، وَيُحَذِّرُونَ مِنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ، قَالَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وَقَالَ آخَرُ: وَقَائِلٌ كَيْفَ تَفَارَقْتُمَا ... فَقُلْتُ قَوْلًا فِيهِ إِنْصَافُ لَمْ يَكُ مِنْ شَكْلِي فَفَارَقْتُهُ ... وَالنَّاسُ أَشْكَالٌ وَآلَافُ 206 (ثَانِيًا) أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لِلصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي كَوْنِهِ مَعَ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثَانِيَ اثْنَيْنِ بِشَهَادَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ، وَلَا فِي كَوْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَالِثُهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ بِزَعْمِكُمْ مَهْمَا تَكُنْ قِيمَةُ الْمَعْدُودِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ لَا يَقُولُونَ إِنَّ لَفْظَ " اثْنَيْنِ " أَوْ لَفْظَ " ثَانِيَ " أَوْ " ثَالِثُهُمَا "، لَهُ فَضِيلَةٌ فِي حُرُوفِهِ أَوْ تَرْكِيبِهَا أَوِ النُّطْقِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إِنَّ الْفَضِيلَةَ لِلصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْمَعْدُودِ وَالْمُرَادُ بِلَفْظِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْآيَةِ وَبِلَفْظِ " مَا قَوْلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فِي اثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا " فِي الْحَدِيثِ، فَثَلَاثَةٌ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَحَدُهُمْ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ثَانِيهِمْ يَكُونُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَعْظَمُ الشَّرَفِ فِي أَنْ يَكُونَ ثَالِثَهُمْ - أَوْ كَمَا قُلْتُمْ مُتِمًّا لِلْعَدَدِ - وَيَزِيدُ هَذَا الشَّرَفَ الذَّاتِيَّ قِيمَةً أَنَّهُ لَيْسَ يَحْصُلُ مِثْلُهُ بِالْمُصَادَفَةِ، وَلَا بِالْكَسْبِ وَالسَّعْيِ، وَإِنَّمَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُ هُوَ رَسُولُ اللهِ بِإِذْنِ اللهِ، وَالْمُخْبِرُ بِذَلِكَ هُوَ اللهُ وَرَسُولُهُ. وَلَوْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَكَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لَقُلْتُمْ فِي الثَّلَاثَةِ حِينَئِذٍ نَحْوًا

مِمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِي ثَالُوثِهِمْ (الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ) كَمَا قُلْتُمْ فِي كَوْنِهِ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَحَدُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ، فَجَعَلْتُمْ هَذَا الثَّبَاتَ الَّذِي لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَا مُرْسَلٍ مُتَوَاتِرٍ، حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَنِ اعْتَرَفْتُمْ بِثَبَاتِهِمْ مَعَهُ سَبَبًا لِلنَّصْرِ، وَإِنْقَاذِ الرَّسُولِ مِنَ الْقَتْلِ، وَبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْوُجُودِ، وَكَمَا فَعَلْتُمْ فِي حَدِيثِ مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ، إِذْ فَضَّلْتُمُوهُ بِهِ عَلَى الصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ عَلَى حِينِ قَدْ ثَبَتَتْ تَسْمِيَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الصِّدِّيقَ أَخًا لَهُ بِأَحَادِيثَ أَصَحَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ كَقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا دُونَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عِنْدَهُ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ. وَقَدْ قَرَأْنَا وَسَمِعْنَا عَنْكُمْ أَنَّكُمْ تَفْخَرُونَ بِعَدَدٍ آخَرَ لَمْ تَثْبُتْ رِوَايَتُهُ بِمِثْلِ مَا ثَبَتَتْ بِهِ رِوَايَةُ هَذَا الْعَدَدِ، وَلَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي عَظَمَةِ الْمَعْدُودِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوَافِضَ فِي الدِّينِ كَانُوا إِذَا حَلَفُوا قَالُوا: وَحَقِّ خَمْسَةٍ سَادِسُهُمْ، وَأَرَادُوا بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانُوا قَدِ احْتَجَبُوا تَحْتَ عَبَاءَةٍ يَوْمَ الْمُبَاهَلَةِ فَجَاءَ جِبْرِيلُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ سَادِسًا لَهُمْ، فَذَكَرُوا لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْوَالِدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَوْمَ هَكَذَا يَقُولُونَ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: لَكُمْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "؟ وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ جِنَايَاتِ الرَّوَافِضِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ خَصْمَيْنِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَنَاقِبِهِمَا مُعَارِضًا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا كَانَا إِلَّا أَخَوَيْنِ فِي اللهِ، وَفِي نَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَمَا وَرَدَ فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ أَعْلَى اللهُ مَقَامَهُ أَكْثَرَ مِمَّا وَرَدَ فِي مَنَاقِبِ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَقَدْ غَلَطَ الرَّازِيُّ فِي نَقْلِهِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَبَاءَةِ أَوِ الْكِسَاءِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ الْمُبَاهَلَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي إِثْبَاتِ جَعْلِ عَلِيٍّ وَزَوْجِهُ وَوَلَدَيْهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ دَاخِلِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33: 33) وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ ـ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَمَعَهُمْ مَعَهُ فِي الْكِسَاءِ، وَدُعَاءُ اللهِ بِأَنْ يُذْهِبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا، وَالْمَقَامُ لَا يَسْمَحُ بِالْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا. (ثَالِثًا) أَنَّكُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ نَهْيَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلصِّدِّيقِ عَنِ الْحُزْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ الْحُزْنِ وَمُتَّصِفًا بِالْجُبْنِ، وَهَذَا الزَّعْمُ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَقَامِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَبِاللُّغَةِ، وَبِطِبَاعِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا

أَوْقَعَكُمْ فِي هَذِهِ الْجَهَالَاتِ التَّعَصُّبُ الذَّمِيمُ، وَسُوءُ النِّيَّةِ فِيهِ، وَحَسَبِي فِي إِثْبَاتِ جَهْلِكُمْ مَا بَيَّنْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ مِنْ مَعْنَى الْحُزْنِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ لَا تَحْزَنْ لَمْ تُرِدْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي خِطَابِ اللهِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَفِي خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْجُبْنِ يَلْزَمُكُمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ، وَفِي نَبِيِّ اللهِ لُوطٍ مَا هُوَ صَرِيحُ الْكُفْرِ، بَلْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى عُرُوضَ الْحُزْنِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ (6: 33) وَمِنَ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَحَسْبُ الصِّدِّيقِ شَرَفًا أَنْ يَنْهَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَّا نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهُ، وَأَيُّ شَرَفٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا؟ . (رَابِعًا) أَنَّ مَا زَعَمْتُمُوهُ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّ اللهَ مَعَنَا إِثْبَاتَ الْمَعِيَّةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحْدَهُ، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ إِلَّا عَنْكُمْ بِالتَّبَعِ لِمَلَاحِدَةِ سَلَفِكُمُ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا مِثْلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَأْبَاهُ اللَّفْظُ وَالْأُسْلُوبُ وَالسِّيَاقُ وَالْمَقَامُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ الْإِفْهَامُ، وَمَا زَعَمْتُمُوهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَفْهَمَ صَاحِبَهُ غَيْرَ الْحَقِّ وَأَرَادَ أَنْ يَغُشَّهُ وَيُوهِمَهُ بِالْبَاطِلِ أَنَّ اللهَ مَعَهُمَا؟ حَاشَ لِلَّهِ وَحَاشَ لِرَسُولِهِ، مَا هَذَا إِلَّا مِنْ نَوْعِ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ وَالْبَاطِنِيَّةِ لِكَلَامِ اللهِ، بِمَا لَا يَلِيقُ بِاللهِ وَلَا بِرَسُولِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَعِيدَةٌ أَشَدَّ الْبُعْدِ عَنْ جُمْلَةِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (34: 24) الْمُرَادُ بِهَا اسْتِمَالَةُ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ لِاسْتِمَاعِ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَكَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ (6: 26) وَالتَّرْدِيدُ فِيهَا حَقٌّ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لَا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بِالْفِعْلِ أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَهُمْ وَهُوَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْهُدَى، وَأَنْ يَكُونُوا هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَلَمَّا كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّبْرَسِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَمُعْتَدِلِي الشِّيعَةِ أَبَتْ عَلَيْهِ كَرَامَةُ الْعِلْمِ أَنْ يُسَفِّهَ نَفْسَهُ بِنَقْلِ جَهَالَتِهِمُ الَّتِي نَقَلَهَا الرَّازِيُّ وَالْآلُوسِيُّ لِلرَّدِّ عَلَيْهَا، فَكَانَ كُلُّ مَا ضَعَّفَ بِهِ مَنَاقِبَ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْآيَةِ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِمَا احْتَجَّ غَيْرُهُ مِمَّنْ رَجَّحُوا هَذَا الْقَوْلَ مِنِ اتِّسَاقِ مَرْجِعِ الضَّمَائِرِ - وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ - وَأَشَارَ بَعْدَهُ إِلَى مَا لِلشِّيعَةِ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَنْقُلَهُ لِئَلَّا يُتَّهَمَ بِمَا لَا يَجِبُ أَنْ يُتَّهَمَ بِهِ. (خَامِسًا) زَعْمُكُمْ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ هُوَ الْمُجَهِّزُ لَهُمْ بِشِرَاءِ الْإِبِلِ لَمْ يَثْبُتْ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، بَلِ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ شِرَاءِ الصِّدِّيقِ لِلرَّاحِلَتَيْنِ، وَأَخْذِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِإِحْدَاهُمَا بِالثَّمَنِ. وَلَوْ ثَبَتَ قَوْلُكُمْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى مَا زَعَمْتُمُوهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

هَذَا وَإِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ قَائِلِي مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الرَّافِضَةِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ لَيْسُوا مِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ مَا قَالُوا وَمَا كَتَبُوا، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ يَجْحَدُونَ مَا يَعْتَدُونَ، وَيَفْتَرُونَ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَالْيَهُودِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْبِشَارَاتِ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَالَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمْ قَوَاعِدَ الرَّفْضِ وَخُطَطَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ هُمْ مَلَاحِدَةُ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى هَدْمِ هَذَا الدِّينِ، وَإِزَالَةِ مُلْكِ الْعَرَبِ؛ تَمْهِيدًا لِإِعَادَةِ الدِّيَانَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالسُّلَطَةِ الْكِسْرَوِيَّةِ، وَقَدْ وَضَعُوا لَهُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَنْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ فِي تَحْرِيفِ الْقُرْآنِ وَالْغُلُوِّ فِيهِمْ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الْبِدَعِ مَا كَانُوا بِهِ شَرَّ فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ بَرَعُوا فِي تَرْبِيَةِ عَوَامِّهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ عَلِيٍّ وَآلِهِ بِمَا هُوَ وَرَاءَ مُحِيطِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، وَالْغُلُوِّ فِي بُغْضِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ وَذِي النُّورَيْنِ وَأَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَالطَّعْنِ فِيهِمْ بِمَا هُوَ وَرَاءَ مُحِيطِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا خَصُّو الْخَلِيفَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ مِنْهُمْ بِمَزِيدِ الْبُغْضِ وَالذَّمِّ؛ لِأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ جَهَّزَا الْجُيُوشَ وَسَيَّرُوهَا إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَفَتَحُوهَا وَأَزَالُوا دِينَهَا وَمُلْكَهَا مِنَ الْوُجُودِ. وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ التَّقَالِيدُ رَاسِخَةً بِالتَّرْبِيَةِ وَالْوِرَاثَةِ حَتَّى صَارَ مَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ يَكْتُبُونَ مِثْلَ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُعَاصِرِينَ مِنْهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ أَعْرَقُ فِي الْغُلُوِّ، وَأَرْسَخُ فِي الْجَهْلِ مِمَّا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ وَالْآلُوْسِيُّ هُنَا عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِيهِمْ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟ ثُمَّ كَيْفَ حَالُ عَوَامِّهِمُ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ هَذِهِ الْأَضَالِيلَ وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَى بُغْضِ مَنْ أَقَامَ اللهُ بِهِمْ صَرْحَ هَذَا الدِّينِ، وَصَرَّحَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَعَلَى لَعْنِ مَنْ فَضَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ؟ وَنَاهِيكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْضِيلًا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا (4: 122) . أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضَ شَرُّ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَأَشَدُّهُمْ بَلَاءً عَلَيْهَا، وَتَفْرِيقًا لِكَلِمَتِهَا، وَقَدْ سَكَنَتْ رِيَاحُ التَّفْرِيقِ الَّتِي أَثَارَهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفِرَقِ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ رِيحُهُمْ عَاصِفَةٌ وَحْدَهَا، فَهَؤُلَاءِ الْإِبَاضِيَّةُ لَا يَزَالُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ وَإِمَارَةٌ، وَلَا نَرَاهُمْ يُثِيرُونَ بِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ. وَلَوْ كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّ تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ لَهَانَ الْأَمْرُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَتَّحِدُوا مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْذُرُونَهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا هَذَا التَّفَرُّقَ وَلَا يَتَعَادُّوا هَذَا التَّعَادِيَ اللَّذَيْنِ أَضْعَفَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَمَزَّقَا مُلْكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، حَتَّى اسْتَذَلَّ الْأَجَانِبُ أَكْثَرَ أَهْلِهِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يُشْغِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَادِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّنَازُعِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَيُؤَلِّفُونَ الْكُتُبَ وَالرَّسَائِلَ فِي الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ. وَيَالَيْتَهُمْ يَطْلُبُونَ إِعَادَةَ الْخِلَافَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَتَجْدِيدَهَا؛ لِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ

41

وَإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ آلَ عَلِيٍّ أَصَحُّ بُطُونِ قُرَيْشٍ أَنْسَابًا. وَأَكْرَمُهَا أَحْسَابًا، وَأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ تَجْتَمِعُ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِهَا وَيَرْضَاهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. كَلَّا إِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ تَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ وَإِقَامَتِهِ بِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُونَهُ مَعَهُمْ، فَلْيَكْتَفُوا بِهَذَا وَيَكُفُّوا عَنْ تَأْلِيفِ الْكُتُبِ فِي الطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَبِحَمَلَةِ السُّنَّةِ وَحُفَّاظِهَا الْأَعْلَامِ، وَإِثَارَةِ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، الَّتِي لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى غُلَاتِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ، طَمَعًا فِي الْجَاهِ الْبَاطِلِ وَالْحُطَامِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْحَقِيقِيَّةُ لِلْأَجَانِبِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ شِيعَةَ الْأَعَاجِمِ فِي إِيرَانَ قَدْ شَعَرُوا بِضَرَرِ الْغُلُوِّ، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ دُونَ شِيعَةِ الْعَرَبِ فِي الْعِرَاقِ وَسُورِيَةَ فَقَدْ بَلَغَنَا عَنْهُمْ مَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ لَهُمْ وَاللهُ الْمُوَفِّقُ. انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ رُوِيَ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ نَزَلَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ بِهَذَا نَقْلٌ، وَلَا يَقْبَلْهُ فَهْمٌ وَلَا عَقْلٌ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ أَوَّلَهُ خِطَابُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يُسَوِّغُهُ وَمَا يَنْتَهِي بِهِ مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَيَتْلُوهُ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِمُ التَّثَاقُلَ عَنِ النَّفْرِ إِذِ اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ سِيَاقٌ مُسْتَقِلٌّ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ كُلَّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا قِيلَ مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي آخِرِهَا. فَإِنْ صَحَّ أَنَّ شَيْئًا نَزَلَ مِنْهَا قَبْلَ السَّفَرِ فَهَذَا السِّيَاقُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ لَا هَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّ أَكْثَرَهُ نَزَلَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ، وَمِنْهُ مَا نَزَلَ بَعْدَهُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ. وَأَمَّا وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَبَّخَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّثَاقُلِ عَنِ النَّفْرِ لَمَّا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حُكْمِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، الَّذِي يُوجِبُ الْقِتَالَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْإِقْدَامِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَقَالَ: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا الْخِفَافُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ خَفِيفٍ وَالثِّقَالُ جَمْعُ ثَقِيلٍ. وَالْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يَكُونَانِ بِالْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَنَحَافَةٍ وَسِمْنٍ، وَشَبَابٍ وَكِبَرٍ،

وَنَشَاطٍ وَكَسَلٍ، وَيَكُونَانِ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَحْوَالِ، كَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالْعِيَالِ. وَوُجُودِ الظَّهْرِ (الرَّاحِلَةِ) وَعَدَمِهِ، وَثُبُوتِ الشَّوَاغِلِ وَانْتِفَائِهَا. فَإِذَا أُعْلِنَ النَّفِيرُ الْعَامُّ، وَجَبَ الِامْتِثَالُ إِلَّا فِي حَالِ الْعَجْزِ التَّامِّ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 91 مِنْ هَذَا السِّيَاقِ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ، وَعُذْرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَسَتَأْتِي. وَمَا وَرَدَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخِفَافِ وَالثِّقَالِ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ فَهُوَ لِلتَّمْثِيلِ لَا لِلْحَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مُوسِرِينَ وَمُعْسِرِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ، أَيْ: مُقِلِّينَ مِنْهُ، وَثِقَالًا بِهِ أَيْ: مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَأَبُو صَالِحٍ: فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي مَعْنَاهُ: الثَّقِيلُ الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ يَكْرَهُ أَنْ يَدَعَ ضَيْعَتَهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَشَاغِيلَ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ. وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ فِي إِرَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ قَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - وَقَدْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا غَزْوَةً وَاحِدَةً: قَالَ اللهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحَرَّانِيِّ قَالَ: وَافَيْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَالِسًا عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ - وَقَدْ فَضَلَ عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ - يُرِيدُ الْغَزْوَ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: أَبَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبُعُوثِ - يَعْنِي بَرَاءَةٌ - انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَرُوِيَ عَنْ حَيَّانَ بْنِ زَيْدٍ الْشَرَعْبِيِّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو - وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ - قِبَلَ الْأَفْسُوسِ إِلَى الْجَرَاجِمَةِ فَرَأَيْتُ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ. مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِيمَنْ أَغَارَ، فَقُلْتُ: يَا عَمُّ قَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ عَنْ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا اللهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، أَلَا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللهُ يَبْتَلِيهِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ صَبَرَ وَشَكَرَ وَذَكَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. أَقُولُ: بِمِثْلِ هَذَا الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فَتَحَ سَلَفُنَا الْبِلَادَ، وَسَادُوا الْعِبَادَ، وَكَانُوا خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِلْدَتِهِمْ، وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ. وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنْ شُعُوبِ أُمَّتِنَا حَظٌّ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا تَغَنَّى بَعْضُهُمْ بِتِلَاوَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَاشْتِغَالِ آخَرِينَ بِإِعْرَابِ جُمَلِهِ، وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَأَسَالِيبِهِ، مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا فِقْهٍ فِيهَا، وَلَا فِكْرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَا أُوْدِعَ مِنَ الْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ فِي مَطَاوِيهَا، فَهُمْ يَتَشَدَّقُونَ بِأَنَّ: 30 خِفَافًا وَثِقَالًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ، وَلَا يُرْشِدُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا غَيْرَهُمْ إِلَى مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى ذِي الْحَالِ. وَقَدْ يَذْكُرُ مَنْ يُسَمَّى الْفَقِيهُ فِيهِمْ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (9: 122)

وَهُوَ زَعْمٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ كَافَّةٌ، مِنْ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِير الثَّانِيَةِ. وَبِمِثْلِ هَذَا وَذَاكَ أَضَاعَ الْمُسْلِمُونَ مُلْكَهُمْ، وَصَارَ أَكْثَرُهُمْ عَبِيدًا لِأَعْدَائِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَجِبُ مِنْ هَذَا النَّفْرِ بِقَوْلِهِ: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ: وَجَاهِدُوا أَعْدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، بِبَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ. فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِمَالِهِ وَبِنَفْسِهِ مَعًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِهِمَا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْهُمَا. كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُنْفِقُ كُلٌّ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَالِ بَذَلَ مِنْهُ فِي تَجْهِيزِ غَيْرِهِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ نَجْدٍ الْآنَ. وَلَمَّا صَارَ بَيْتُ الْمَالِ غَنِيًّا بِكَثْرَةِ الْغَنَائِمِ صَارَ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ يُجَهِّزُونَ الْجَيْشَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَئِمَّةِ الْيَمَنِ يَدَّخِرُونَ الْمَالَ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، وَيُنْفِقُونَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ طُولَ السَّنَةِ؛ لِتَكُونَ مُسْتَعِدَّةً لِلْقِتَالِ كُلَّمَا اسْتُنْفِرَتْ لَهُ. وَالدُّوَلُ الْمُنَظَّمَةُ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ عَامٍ مَبْلَغًا مُعَيَّنًا مِنَ الْمَالِ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ لِلنَّفَقَاتِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَرِّيَّةٍ وَبَحْرِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ. وَإِذَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ يَزِيدُونَ فِي هَذِهِ الْمَبَالِغِ، وَيُجَدِّدُونَ لَهَا كَثِيرًا مِنَ الضَّرَائِبِ، بَلْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ أَمْوَالِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا وَمَرَافِقِهَا تَحْتَ نُفُوذِ قُوَّادِ الْحَرْبِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: ذَلِكُمُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ النَّفْرِ وَالْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مَرَامِي الْأُمَمِ حِفْظِ حَقِيقَتِهَا، وَعُلُوِّ كَلِمَتْهَا، وَتَقْرِيرِ سِيَاسَتِهَا - خَيْرٌ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، أَيْ: خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مُقَابِلِهِ، أَوْ خَيْرٌ مِنَ الْقُعُودِ وَالْبُخْلِ عَنْهُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَلَا حَيَاةَ لِلْأُمَمِ فِيهَا، وَلَا عِزَّ وَلَا سِيَادَةَ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ يُغْرِي الْأَعْدَاءَ بِالْقَاعِدِينَ الْعَاجِزِينَ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ يَجْلِبُ التَّعَبَ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا سَعَادَةَ فِيهَا إِلَّا لِمَنْ يَنْصُرُ الْحَقَّ، وَيُقِيمُ الْعَدْلَ، وَيَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ، وَيَتَخَلَّى عَنِ الرَّذَائِلِ، بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْحَكِيمِ. وَلَا يُمْكِنُ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا بِاسْتِقْلَالِ الْأُمَّةِ بِنَفْسِهَا، وَقُدْرَتِهَا عَلَى حِفْظِ سِيَادَتِهَا وَسُلْطَانِهَا بِقُوَّتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَلَا سِيَّمَا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (8: 60) وَفِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ.

42

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِّيَّةَ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ عِلْمًا إِذْعَانِيًّا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَجَوَابُ " إِنْ " مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَيُقَدِّرُهُ بَعْضُهُمْ أَمْرًا بِالِامْتِثَالِ، أَيْ فَانْفِرُوا وَجَاهِدُوا. وَقَدْ عَلِمَ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةَ وَامْتَثَلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، وَاسْتَأْذَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي التَّخَلُّفِ فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَى ضَعْفِ أَعْذَارِهِمْ، وَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُنَاسٌ آخَرُونَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي الْجَمِيعِ الْآيَاتِ الْآتِيَةَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ. لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ كَانَ دَأْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَتُهُمْ إِذَا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْقِتَالِ أَنْ يَنْفِرُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ تَثَاقَلُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِلتَّثَاقُلِ دَرَجَاتٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ، وَيُسْرِ الْأَسْبَابِ وَعُسْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْأَعْذَارِ وَقِلَّتِهَا، وَلَكِنْ نَفَرَ الْأَكْثَرُونَ طَائِعِينَ، وَتَخَلَّفَ الْأَقَلُّونَ عَاجِزِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ فِيهِمُ الْخَطْبُ، وَطَفِقُوا يَنْتَحِلُونَ الْأَعْذَارَ الْوَاهِيَةَ، وَيَسْتَأْذِنُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا؛ لِبَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَأَحْكَامِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَهِيَ لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، كَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا مَنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ. وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّهُ يَضْطَرُّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصْرِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تَارِيخِهِ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى فَهْمِ مَا تَعَبَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيَعْرِفُوا نَشْأَةَ دِينِهِمْ، وَسِيَاسَةَ مِلَّتِهِمْ، وَصِفَةَ تَكْوِينِ أُمَّتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ أَعْوَنَ لِلْأُمَمِ عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا كَمَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا. لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ أَيْ: لَوْ كَانَ مَا اسْتَنْفَرْتَهُمْ لَهُ، وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَرَضًا - وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ مِنْ مَنْفَعَةٍ وَمَتَاعٍ، مِمَّا لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ -

قَرِيبَ الْمَكَانِ وَالْمَنَالِ، لَيْسَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَبِيرُ عَنَاءٍ، وَسَفَرًا قَاصِدًا، أَيْ: وَسَطًا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَلَا كَلَالَ لَاتَّبَعُوكَ فِيهِ وَأَسْرَعُوا بِالنَّفْرِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُبَّ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالرَّغْبَةَ فِيهَا لَاصِقَةٌ بِطَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَنَاهِيكَ بِهَا إِذَا كَانَتْ سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ قَرِيبَةَ الْمَنَالِ، وَكَانَ الرَّاغِبُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْمُوقِنِينَ بِالْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ لِلْمُجَاهِدِينَ كَأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ الَّتِي دُعُوا إِلَيْهَا وَهِيَ تَبُوكُ - وَالشُّقَّةُ: النَّاحِيَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُقْطَعُ إِلَّا بِتَكَبُّدِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ - وَكَبُرَ عَلَيْهِمُ التَّعَرُّضُ لِقِتَالِ الرُّومِ فِي دِيَارِ مُلْكِهِمْ وَهُمْ أَكْبَرُ دُوَلِ الْأَرْضِ الْحَرْبِيَّةِ، فَتَخَلَّفُوا جُبْنًا وَحُبًّا بِالرَّاحَةِ وَالسَّلَامَةِ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ أَيْ: بَعْدَ رُجُوعِكُمْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ (9: 95) كَمَا قَالَ: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ (9: 94) قَائِلِينَ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أَيْ: لَوِ اسْتَطَعْنَا الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ بِانْتِفَاءِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ؛ فَإِنَّنَا لَمْ نَتَخَلَّفْ عَنْكُمْ إِلَّا مُضْطَرِّينَ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِامْتِهَانِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ؛ لِسَتْرِ نِفَاقِهِمْ وَإِخْفَائِهِ، يُؤَيِّدُونَ الْبَاطِلَ بِالْبَاطِلِ، وَيَدْعُمُونَ الْإِجْرَامَ بِالْإِجْرَامِ، أَوْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَضِيحَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ النَّجَاةَ فَيَقَعُونَ فِي الْهَلَاكِ: وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا الْخُرُوجَ لَخَرَجُوا مَعَكُمْ. عَفَا اللهُ عَنْكَ الْعَفْوُ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. أَيْ عَفَا عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ اجْتِهَادُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ حِينَ اسْتَأْذَنُوكَ وَكَذَبُوا عَلَيْكَ فِي الِاعْتِذَارِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ كَمَا أَرَادُوا، وَهَلَّا اسْتَأْنَيْتَ وَتَرَيَّثْتَ بِالْإِذْنِ؟ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الِاعْتِذَارِ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فِيهِ، أَيْ: حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَتُعَامِلَ كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبِينَ لَا يَخْرُجُونَ سَوَاءً أَذِنْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَزْمِ أَنْ تَتَلَبَّثَ فِي الْإِذْنِ أَوْ تُمْسِكَ عَنْهُ اخْتِبَارًا لَهُمْ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قَالَ: هُمْ نَاسٌ قَالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

قَالَ: لَقَدْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَلَكِنْ كَانَ تَبْطِئَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَزَهَادَةً فِي الْجِهَادِ. هَذَا وَإِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا سِيَّمَا الزَّمَخْشَرِيُّ قَدْ أَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ عَفْوِ اللهِ تَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهَا أَعْلَى الْأَدَبِ مَعَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِذْ أَخْبَرَهُ رَبُّهُ وَمُؤَدِّبُهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى التَّكْرِيمِ وَاللُّطْفِ، وَبَالَغَ آخَرُونَ كَالرَّازِيِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَأَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْإِذْنَ الَّذِي عَاتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَهُوَ جُمُودٌ مَعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُحَدَثَةِ وَالْعُرْفِ الْخَاصِّ فِي مَعْنَى الذَّنْبِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَهْرَبُوا مِنْ إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ تَمَسُّكًا بِاصْطِلَاحَاتِهِمْ وَعُرْفِهِمُ الْمُخَالِفِ لَهُ وَلِمَدْلُولِ اللُّغَةِ أَيْضًا، فَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ يَسْتَتْبِعُ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الدَّابَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادِفًا لِلْمَعْصِيَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْهَا، وَالْإِذْنُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ قَدِ اسْتَتْبَعَ فَوْتَ الْمَصْلَحَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ تُبَيِّنُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَالْعِلْمَ بِالْكَاذِبِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (48: 1 و2) الْآيَةَ. فَالتَّفَصِّي مِنْ إِسْنَادِ الذَّنْبِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّأْوِيلِ لَيُوَافِقَ الْمَذَاهِبَ وَالْقَوَاعِدَ، كَالتَّفَصِّي مِمَّا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ بَيَانِ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِحَقَائِقِ دِينِ اللهِ أَفْصَحُ وَأَبْيَنُ وَأَوْلَى بِالتَّلْقِينِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي وَصَفَهُ بِأَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَفْطُنْ لَهُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ وَيَلْتَزِمْهُ، كَمَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يُكْفِّرُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، لَجَازَ الْحُكْمُ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُحَرِّفِينَ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يَمْنَعُونَ مِنَ الْحُكْمِ بِالْكُفْرِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فِيمَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَعُدُّونَ مِنَ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ مَا لَا يَعُدُّهُ الْمُتَكَلِّمُونَ عُذْرًا. وَقَدْ كَانَ الْإِذْنُ الْمُعَاتَبُ عَلَيْهِ اجْتِهَادًا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا خَاصَّةٌ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ بِبَيَانِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يُخْطِئَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ أَوْ يُخَالِفَهُ بِالْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ إِذْ رَآهُمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُلَقِّحُونَهَا فَقَالَ: " مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا " فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَنَفَضَتِ النَّخْلُ وَسَقَطَ ثَمَرُهَا، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي

بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالُوا: وَلَكِنْ لَا يُقِرُّهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الصَّوَابَ فِيهِ. وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ عِتَابِ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ، وَالْخَطَأُ هُنَالِكَ أَعْظَمُ مِمَّا هُنَا، فَغَايَةُ مَا فِيهِ هُنَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَزْمُ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، بِرَسُولِهِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، أَنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، قَبْلَ بَيَانِهِ لَهُ، وَأَمَّا ذَاكَ فَقَدْ بَدَأَ عِتَابَهُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلَ بِرَأْيِ جُمْهُورِهِمْ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (8: 67) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضِيًا لِعَذَابٍ أَلِيمٍ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ فَكَانَ مَانِعًا، وَسَنَذْكُرُ فَائِدَةَ أَمْثَالِ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 47 وَهِيَ قَرِيبَةٌ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ نُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ إِذْ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَعَنِ الْكَاذِبِينَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ بِأَنْ عَبَّرَ عَنِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي صِلَتُهُ فِعْلٌ دَالٌّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَعَنِ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَاسِمِ الْفَاعِلِ الْمُفِيدِ لِلدَّوَامِ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ صِدْقٌ حَادِثٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ غَيْرِ مُصَحِّحٍ لِنُظُمِهِمْ فِي سَلَكِ الصَّادِقِينَ، وَأَنَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْآخِرِينَ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا حَادِثًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَكِنَّهُ أَمْرٌ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِمُ الْمُسْتَمِرَّةِ نَاشِئٌ عَنْ رُسُوخِهِمْ فِي الْكَذِبِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ظُهُورِ الصِّدْقِ بِالتَّبَيُّنِ، وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكَذِبِ بِالْعِلْمِ، لِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ أَنَّ مَدْلُولَ الْخَبَرِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ، فَظُهُورُ صِدْقِهِ إِنَّمَا هُوَ تَبَيُّنُ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ، وَانْقِطَاعُ احْتِمَالِ نَقِيضِهِ بَعْدَ مَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُ احْتِمَالًا عَقْلِيًّا، وَأَمَّا كَذِبُهُ فَأَمْرٌ حَادِثٌ لَا دَلَالَةَ لِلْخَبَرِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يَكُونَ ظُهُورُهُ تَبَيُّنًا لَهُ بَلْ هُوَ نَقِيضٌ لِمَدْلُولِهِ، فَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَكُونُ عِلْمًا مُسْتَأْنَفًا، وَإِسْنَادُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إِلَى الْمَعْلُومِينَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ إِسْنَادِ التَّبَيُّنِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا عِلْمُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِمْ، وَمُؤَاخَذَتُهُمْ بِمُوجِبِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِينَ؛ حَيْثُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا قَالَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ مِنْ صِدْقٍ فِي عُذْرِهِ مِمَّنْ كَذَبَ فِيهِ. وَإِسْنَادُ التَّبَيُّنِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، وَتَعْلِيقُ الْعِلْمِ بِالْآخِرِينَ - مَعَ أَنَّ مَدَارَ الِاسْتِنَادِ وَالتَّعَلُّقِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُوَ وَصْفُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ - لِمَا أَنَّ الْمَقْصِدَ هُوَ الْعِلْمُ بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِمَا بِوَصْفَيْهِمَا

44

الْمَذْكُورَيْنِ، وَمُعَامَلَتِهِمَا بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا، لَا الْعِلْمِ بِوَصْفَيْهِمَا بِذَاتَيْهِمَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِمَا بِمَوْصُوفَيْهِمَا. اهـ. لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كُلَّهُمْ وَيَعْرِفُ شُئُونَهُمْ بِمِثْلِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ، كَمَا قَالَ اللهُ لَهُ فِي الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (9: 101) وَسَتَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضِ صِفَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ جَاءَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) مِنْهَا سُوَرُ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَحْزَابِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْفَالِ وَالْقِتَالِ وَالْحَشْرِ، وَأَمَّا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) فَهِيَ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ، وَالْكَاشِفَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ نِفَاقِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَوَّلُ السِّيَاقِ فِي هَذَا الْبَيَانِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هَذَا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُلَاحَظُ فِي الْفِعْلِ فِيهِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ أَوِ الْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْمُضَارِعُ بَلْ يَشْمَلُهُمَا كَمَا يَشْمَلُ الْمَاضِيَ، كَمَا تَقُولُ: الصَّائِمُ لَا يَغْتَابُ النَّاسَ، وَالَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ، أَيْ: هَذَا شَأْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْأَجْرُ الْأَكْمَلُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إِذَا عَرَضَ الْمُقْتَضِي لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

(49: 15) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ بَلْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، بَلْ هُمْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ فِي وَقْتِ السِّلْمِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ مَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ، بَعْدَ إِعْلَانِ النَّفِيرِ الْعَامِّ لَهُ؟ كَلَّا، إِنَّ أَقْصَى مَا قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمُ التَّثَاقُلُ وَالْبُطْءُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ الْبَعِيدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ لَا يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ الَّذِي يَرْجُو اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْجِهَادِ الْفَوْزُ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: الْغَنِيمَةِ وَالنَّصْرِ، أَوِ الشَّهَادَةِ وَالْأَجْرِ، وَإِنَّمَا قَدْ يَسْتَأْذِنُ صَاحِبُ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُمْ، وَأَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ (91 و92) رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ إِلَخْ. يَعْنِي رَجُلًا أَعَدَّ فَرَسَهُ رِبَاطًا فِي سَبِيلِ اللهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَيْ: صَيْحَةً لِقِتَالٍ أَوْ فِي قِتَالٍ، أَوْ فَزْعَةً أَيْ: دَعْوَةً لِلْإِغَاثَةِ وَالنَّصْرِ فِيهِ طَارَ عَلَى فَرَسِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِي مَظَانِّهِ، أَيِ: الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَظُنُّ أَنْ يَلْقَى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِيهَا. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ لَهُ بِاجْتِنَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا بِالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةً لِلْقِتَالِ فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِئْذَانُ فِي أَدَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا فِي الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَسَائِرِ عَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا مَعْنَاهُ: مَنْ قَالَ لَكَ: أَتَأْكُلُ؟ هَلْ آتِيكَ بِكَذَا مِنَ الْفَاكِهَةِ أَوِ الْحَلْوَى مَثَلًا؟ فَقُلْ لَهُ: لَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَكَ لَمَا اسْتَأْذَنَكَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا سَبَقَ؛ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَجَاءَ الْحَصْرُ فِيهِ بِـ (إِنَّمَا) الَّتِي مَوْضِعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَدْ عُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ بَذْلَ الْمَالِ لِلْجِهَادِ مَغْرَمًا يَفُوتُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَنَافِعِهِمْ بِهِ، وَلَا يَرْجُونَ عَلَيْهِ ثَوَابًا كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَرَوْنَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ آلَامًا وَمَتَاعِبَ وَتَعَرُّضًا لِلْقَتْلِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ عِنْدَهُمْ، فَطَبِيعَةُ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَقْتَضِي كَرَاهَتَهُمْ لِلْجِهَادِ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ مَا وَجَدُوا لَهُ سَبِيلًا، بِضِدِّ مَا يَقْتَضِيهِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: وَقَدْ وَقَعَ لَهُمُ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ فِي الدِّينِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ

45

بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ الْمُقَارِنُ لِلْإِذْعَانِ وَخُضُوعِ النَّفْسِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَرِّينَ فِي أَمْرِهِمْ، مُذَبْذَبِينَ فِي عَمَلِهِمْ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَسْهُلُ أَدَاؤُهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ ضَاقَتْ بِهِ صُدُورُهُمْ، وَالْتَمَسُوا التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْحِيَلِ وَالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حُضُورُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَشَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ فَضَائِحِهِمْ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْمُسْتَأْذِنُونَ أَوِ الْمُتَخَلِّفُونَ مِنْهُمْ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (24: 62) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ سُورَةَ النُّورِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَمَوْضُوعُ الِاسْتِئْذَانِ فِيهَا غَيْرُ مَوْضُوعِهِ هُنَا، وَإِلَّا كَانَتَا مُتَنَاقِضَتَيْنِ، فَآيَةُ " بَرَاءَةٌ " فِي الِاسْتِئْذَانِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْقُعُودِ عَنْهُ بَعْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَآيَةُ " النُّورِ " فِي اسْتِئْذَانِ مَنْ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ - وَلْيَكُنْ مِنْهُ الْجِهَادُ - وَيَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ قَضَاءَهَا، وَالْعَوْدَةَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا كَالَّذِينِ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتِ الْعِيرُ بِالتِّجَارَةِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوهُ قَائِمًا يَخْطُبُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَجَابِرٌ الَّذِي أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَسَبْعُ نِسْوَةٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا اسْتَأْذَنُوهُ وَأَذِنَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةِ " بَرَاءَةٌ ": لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ (44) الْآيَةَ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ هَذَا، مَنْ سَلَّمَ مِنْهُمُ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ؟ . وَحَكَى الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ فِي مَاذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فَأَذِنَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْهُ صَوَابًا؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا عُيُونًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُثِيرُونَ الْفِتَنَ وَيَبْغُونَ الْغَوَائِلَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ

46

مَعَ الرَّسُولِ مَصْلَحَةً. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لِلْمُتَخَلِّفِينَ وَالْمَدْحِ لِلْمُبَادِرِينَ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْقَاعِدِينَ وَبَيَانِ حَالِهِمُ انْتَهَى مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْهُ وَعَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ إِعْلَانِ النَّفِيرِ فَيَسْتَأْذِنُوا لَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ خُرُوجِهِمْ مَفْسَدَةً فَهُوَ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ (فِي الْآيَةِ 47) وَلَكِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَأْذِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَدَمِ الْإِذْنِ لَهُمْ؛ لِيَنْكَشِفَ سَتْرُهُمْ، فَيَعْرِفُ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ كُنْهَ أَمْرِهِمْ، وَيُثْبِتُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ لِمِثْلِ هَذَا السَّفَرِ الْبَعِيدِ، وَكَانُوا مُسْتَطِيعِينَ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، الِانْبِعَاثُ: مُطَاوِعُ الْبَعْثِ وَهُوَ إِثَارَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَتَوْجِيهُهُ إِلَى الشَّيْءِ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ كَبَعْثِ الرُّسُلِ، أَوْ إِزْعَاجٍ كَبَعَثْتُ الْبَعِيرَ فَانْبَعَثَ، وَبَعَثَ اللهُ الْمَوْتَى. وَالتَّثْبِيطُ: التَّعْوِيقُ عَنِ الْأَمْرِ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ بِالتَّكْسِيلِ أَوِ التَّخْذِيلِ، وَلَمْ تَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: كَرِهَ اللهُ نَفِيرَهُمْ وَخُرُوجَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ ضَرَرِهِ الْعَائِقِ عَمَّا أَحَبَّهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ بِمَا أَحْدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَأْثِيرِ النِّفَاقِ، فَلَمْ يَعُدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوهُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالِاسْتِئْذَانِ سَتْرَ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي هَذَا الْقِيلِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِدَاعِيَةِ الْقُعُودِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ التَّثْبِيطِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدَرَيٌّ تَكْوِينِيٌّ لَا خِطَابٌ كَلَامِيٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِإِذْنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ، وَأَنَّهُ قَالَهُ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى السُّخْطِ لَا عَلَى الرِّضَاءِ. إِذْ مَعْنَاهُ: اقْعُدُوا مَعَ الْأَطْفَالِ وَالزَّمْنَى وَالْعَجَزَةِ وَالنِّسَاءِ، فَأَخَذُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِمُرَادِهِمْ. وَيَحْتَجُّ الْمُجْبِرَةُ وَمِنْهُمُ الْأَشْعَرِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيَتَأَوَّلُهَا هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا لَا تُنَافِي وُجُوبَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، وَتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَمَذْهَبُنَا فِي أَمْثَالِهَا أَنَّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، عَلَى مَا يَبْعَثُ عَلَيْهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ هُنَا لِحِكْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ تَعَالَى بِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ تَوْفِيقُ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ، فِي ضِمْنِ دَائِرَةِ الِاخْتِيَارِ، فَلَا جَبْرَ وَلَا اضْطِرَارَ لِلْعَبْدِ، وَلَا وُجُوبَ عَلَى الرَّبِّ، فَالْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ وَمَا فِي شَرْعِهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ مِمَّا يَجِبُ لَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالرَّحْمَةِ.

47

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانَتْ تَكُونُ عَلَيْهِ لَوْ خَرَجُوا، وَالتَّذْكِيرُ بِمَا كَانَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ السَّابِقَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أَمْرِهِمْ إِلَى خِطَابِ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، يَقُولُ: لَوْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ فِي جَمَاعَتِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا خَبَالًا، أَيْ: اضْطِرَابًا فِي الرَّأْيِ، وَفَسَادًا فِي الْعَمَلِ، وَضَعْفًا فِي الْقِتَالِ، وَخَلَلًا فِي النِّظَامِ؛ فَإِنَّ الْخَبَالَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْجُنُونِ، وَالْمَرَضِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ. وَالْمُرَادُ: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَمَنَعَةً وَإِقْدَامًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُوَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بَلْ ضَعْفًا وَفَشَلًا وَمَفْسَدَةً، كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، وَتَبِعَهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ طُلَقَاءِ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاضْطَرَبَ لِذَلِكَ الْجَيْشُ كُلُّهُ، وَفَسَدَ نِظَامُهُ، فَوَلَّى أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ، الْوَضْعُ وَالْإِيضَاعُ كَمَا فِي التَّاجِ: أَهْوَنُ سَيْرِ الدَّوَابِّ، وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنْ سَيْرِ الْإِبِلِ دُونَ الشَّدِّ، وَقِيلَ: هُوَ فَوْقَ الْخَبَبِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَيُقَالُ: وَضَعَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَى أَيْ: أَسْرَعَ وَهُوَ مَجَازٌ، وَيُقَالُ: أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ اهـ. وَخِلَالُ الْأَشْيَاءِ: مَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَنَحْوِهَا، وَالْمَعْنَى: وَلَأَوْضَعُوا رَكَائِبَهُمْ - أَوْ - وَلَأَسْرَعُوا فِي الدُّخُولِ فِي خِلَالِكُمْ وَمَا بَيْنَكُمْ سَعْيًا بِالنَّمِيمَةِ، وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ يَبْغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثْبِيطِ عَنِ الْقِتَالِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ: وَفِيكُمْ أُنَاسٌ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ أَوْ ضُعَفَاءِ الْعَزْمِ وَالْعَقْلِ كَثِيرُو السَّمْعِ لَهُمْ؛ لِاسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ وَسْوَسَتِهِمْ، وَقِيلَ: أُنَاسٌ نَمَّامُونَ يَسْمَعُونَ لِأَجْلِهِمْ مَا يَعْنِيهِمْ

مِنْ أَقْوَالِكُمْ فَيُلْقُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَإِنْ رَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَدَّمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَسَمَاعُ التَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لَا يَخْتَصُّ بِمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ فِيهَا؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ مُتَمَيِّزِينَ بِحَيْثُ تَكُونُ لَهُمْ هَيْئَةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْجَيْشِ تَتَّخِذُ الْجَوَاسِيسَ لِتَنْظِيمِ عَمَلِهَا. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ: مُحِيطٌ عِلْمًا بِذَوَاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَبِمَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِمَّا وَقَعَ، وَمِمَّا لَمْ يَقَعْ وَلَا يَقَعُ، كَكَوْنِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَا يَزِيدُونَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيهِمْ إِلَّا خَبَالًا إِلَخْ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حُلَفَاءِ الْيَهُودِ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيُغْرُونَهُمْ بِمَا يَعِدُونَهُمْ بِهِ مِنْ نَصْرِهِمْ عَلَيْهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَذَّبَهُمْ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (59: 12) فَأَحْكَامُهُ تَعَالَى فِيهِمْ عَلَى عِلْمٍ تَامٍّ، لَيْسَ فِيهَا ظَنٌّ، وَلَا اجْتِهَادٌ كَاجْتِهَادِ الرَّسُولِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ، الَّذِي تُثْبِتُ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْسُهَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَهُمْ شَرٌّ لَا خَيْرٌ، وَضَعْفٌ لَا قُوَّةٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إِذَا لَمْ يَأْذَنُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ وَمَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ تَعَالَى بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. فَاجْتِهَادُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِيهِمْ كَاجْتِهَادِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى (عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) عِنْدَمَا جَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُو أَكَابِرَ رِجَالِ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ لَاحَ لَهُ بَارِقَةُ رَجَاءٍ فِي إِيمَانِهِمْ بِتَحَدُّثِهِمْ مَعَهُ، فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلِمَ أَنَّ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ يُنَفِّرُهُمْ، وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ طَرِيقَ دَعْوَتِهِمْ، وَكَانَ يَرْجُو بِإِيمَانِهِمُ انْتِشَارَ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ الْعَرَبِ فَتَوَلَّى عَنْهُ، وَتَلَهَّى بِهَذِهِ الْفِكْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَنْ يَتَّبِعُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُصْلِحِينَ فُقَرَاءَ الْأُمَمِ وَأَوْسَاطَهَا، دُونَ أَكَابِرِ مُجْرِمِيهَا الْمُتْرَفِينَ وَرُؤَسَائِهَا الَّذِينَ يَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِهِمْ ضَعَةً بِذَهَابِ رِيَاسَتِهِمْ، وَمُسَاوَاتِهِمْ لِمَنْ دُونَهُمْ إِلَخْ. فَيَكْفُرُونَ عِنَادًا وَيَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ اسْتِكْبَارًا لَا اعْتِقَادًا. وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَرْبِيَةِ رَسُولِهِ وَتَكْمِيلِهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ الشَّخْصِيِّ الْبَشَرِيِّ فِيهَا؛ لِتَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِهِ وَأَنْفُسِ أَتْبَاعِهِ، فَيَحْرِصُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَا يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ تَحْكِيمَ آرَائِهِمْ أَوْ أَهْوَائِهِمْ فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ الَّذِينَ أَوْرَثَهُمُ اللهُ بِهِدَايَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَرَكُوهَا، فَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ وَالنِّفَاقُ، فَسَلَبَهُمْ ذَلِكَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، فَهَلْ يَفْقَهُ أَهْلُ عَصْرِنَا وَيَعْتَبِرُونَ؟ وَمَتَى يَتَدَبَّرُونَ وَيَهْتَدُونَ؟ . لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: تَاللهِ لَقَدِ ابْتَغَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِيقَاعَ الْفِتْنَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ

48

مِنْ قَبْلِ هَذَا الْعَهْدِ - عَهْدِ غَزْوَةِ تَبُوكَ - وَأَوَّلُهُ مَا كَانَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (3: 122) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى أُحُدٍ اعْتَزَلَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْجَيْشِ فِي مَوْضِعٍ يُسَمَّى الشَّوْطَ، بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ، وَطَفِقَ يَقُولُ لَهُمْ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي. وَفِي رِوَايَةٍ: أَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ، فَمَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟ وَكَانَ رَأْيُ ابْنِ أُبَيٍّ لَعَنَهُ اللهُ عَدَمَ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ - وَلَا سِيَّمَا الشُّبَّانُ - الْخُرُوجَ فَعَمِلَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خِلَافَ رَأْيِهِ أَيْضًا، فَرَجَعَ ابْنُ أُبَيٍّ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَادَ يَفْشَلُ بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْأَوْسِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَعَصَمَهُمَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفِتْنَةِ بِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ وَلِيُّهُمَا (3: 122) وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ. وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أَيْ: دَبَّرُوا لَكَ الْحِيَلَ وَالْمَكَايِدَ، وَدَوَّرُوا الْآرَاءَ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهَا لِإِبْطَالِ دِينِكَ، وَفَضِّ قَوْمِكَ مِنْ حَوْلِكَ، فَإِنَّ تَقْلِيبَ الشَّيْءِ تَصْرِيفُهُ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهِ، وَالنَّظَرُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ أَنْحَائِهِ؛ لِيُعْلَمَ أَيُّهَا الْأَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ. وَمَا زَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ضِلْعٌ مَعَ الْيَهُودِ، وَضِلْعٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فِي كُلِّ مَا فَعَلَا مِنْ عَدَاوَتِكَ وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ بِالنَّصْرِ الَّذِي وَعَدَكَ بِهِ رَبُّكَ، وَكَانُوا بِهِ يَمْتَرُونَ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ أَيْ: ظَهَرَ دِينُ اللهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالتَّنْكِيلِ بِالْيَهُودِ الْغَادِرِينَ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا، وَهُمْ كَارِهُونَ لِذَلِكَ، حَتَّى كَانُوا بَعْدَ الْفَتْحِ يُمَنُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي حُنَيْنٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ. وَحِينَ طَابَ الثَّمَرُ، وَأُحِبَّتِ الظِّلَالُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الَّذِي يُصْمَدُ لَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي صَمَدَ لَهُ؛ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أَهُبَتَهُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُرْهِ لِذَلِكَ

الْوَجْهِ، لِمَا فِيهِ مَعَ مَا عَظَّمُوا مِنْ ذِكْرِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَدَّ فِي سَفَرِهِ فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ عَسْكَرَهُ عَلَى ذِي حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابِ جَبَلٍ بِالْجَبَّانَةِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَخَا بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ التَّابُوتِ أَخَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكِيدُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، قَالَ: وَفِيهِمْ - كَمَا ثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - أَنْزَلَ اللهُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ اهـ. وَأَوَّلُ هَذَا التَّلْخِيصِ مُوَافِقٌ لِمَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَبَقِيَّةُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ أُبَيٍّ وَعَسْكَرِهِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ إِلَى عَدَمِ ثِقَتِهِ بِهَا بِقَوْلِهِ: (فِيمَا يَزْعُمُونَ) وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ 36 رَجُلًا. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَاوَلَةُ الْمُنَافِقِينَ اغْتِيَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ هَذَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ الْعَوْدَةِ مِنْ تَبُوكَ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي آيَةِ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا (74) وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ

49

هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حَالِ أُنَاسٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَهْرًا وَأُمُورٍ أَكَنُّوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ سِرًّا، وَأَقْوَالٍ سَيَقُولُونَهَا، وَأَقْسَامٍ سَيُقْسِمُونَهَا، وَأَعْذَارٍ سَيَعْتَذِرُونَهَا غَيْرَ مَا سَبَقَ مِنْهُمْ، وَشُئُونٍ عَامَّةٍ فِيهِمْ - أَكْثَرُهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ - مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيُنَاسِبُهُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي هَذَا بَيَانٌ لِأَوَّلِ اسْتِئْذَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَعَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ جَدَّ بْنَ قَيْسٍ مِنْ شُيُوخِهِمْ قَالَ هَذَا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أَوَّلِ عَهْدِ الدَّعْوَةِ لِلْغَزْوَةِ، وَأَثْنَاءِ التَّجْهِيزِ لِلسَّفَرِ، وَرُوِيَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ قَالَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى تَبُوكَ: إِنَّهُ لَيَفْتِنَكُمْ بِالنِّسَاءِ. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: " مَا تَقُولُ فِي مُجَاهَدَةِ بَنِي الْأَصْفَرِ "؟ قَالَ: إِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ أُفْتَنَ، فَأْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي. وَرَوَى ابْنُ حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ لِجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: " يَا جِدُّ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ "؟ قَالَ جِدٌّ: أَتَأْذَنُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنِّي رَجُلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ أَفْتَتِنَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ: " قَدْ أَذِنْتُ لَكَ " فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالِ لِغَرَابَتِهَا، فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي نِفَاقِهِ لَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ إِثْمَ الِافْتِتَانِ بِالنِّسَاءِ إِذْ لَا يَجِدُ مِنْ دِينِهِ مَانِعًا مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِنَّ وَهُوَ يُحِبُّهُنَّ، بَلْ شَأْنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَغِّبًا لَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ شُبْهَتَهُ وَشُبْهَةَ مَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا وَرَدَّدُوا مَعْنَاهَا بِقَوْلِهِ: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا بَدَأَ الرَّدَّ عَلَى قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ (أَلَا) الْمُفِيدَةِ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا بَعْدَهَا؛ وَلِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهِ إِنْ كَانَ خَبَرًا لِتَوْجِيهِ السَّمْعِ وَالْقَلْبِ لَهُ، وَعَبَّرَ عَنِ افْتِتَانِهِمْ بِالسُّقُوطِ فِي الْفِتْنَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ: فِي الْفِتْنَةِ عَلَى عَامِلِهِ: (سَقَطُوا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ، يَقُولُ: أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ سَقَطُوا وَتَرَدَّوْا بِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَاوِيَةِ الْفِتْنَةِ بِأَوْسَعِ مَعْنَاهَا، لَا فِي شَيْءٍ آخَرَ مِنْ شُبُهَاتِهَا أَوْ مُشَابِهَاتِهَا، مِنْ حَيْثُ يَزْعُمُونَ اتِّقَاءَ التَّعَرُّضِ لِشُبْهَةِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَهُوَ الْإِثْمُ بِالنَّظَرِ إِلَى جَمَالِ نِسَاءِ الرُّومِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِجَمَالِهِنَّ، فَتَرَدَّوْا فِي شَرٍّ مِمَّا اعْتَذَرُوا بِهِ. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى الْفِتْنَةِ الَّتِي تَرَدَّوْا فِيهَا، وُضِعَ فِيهِ الْمُظْهَرُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِإِحَاطَةِ جَهَنَّمَ بِهِمْ عِقَابٌ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِذَارِ، الَّذِي هُوَ ذَنْبٌ فِي نَفْسِهِ كَانَ أَقْصَى عِقَابِهِ مَسَّ النَّارِ دُونَ إِحَاطَتِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ الْكُفْرَ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْجِهَادِ وَثَوَابِهِ وَالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، أَوِ الشَّكِّ

50

فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ آنِفًا: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ (45) وَقَلَّمَا يَكُونُ الْكُفْرُ إِلَّا شَكًّا أَوْ ظَنًّا، فَإِنْ رَأَيْتَ صَاحِبَهُ مُوقِنًا فِيهِ فَاعْلَمْ أَنَّ يَقِينَهُ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَيْهِ عَنْ جَهْلٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ جَهَنَّمَ سَتَكُونُ مُحِيطَةً بِهِمْ جَامِعَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ؛ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ مُشَاهَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمُ الْآنَ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِحَاطَةِ مَعَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ فِي وَسَطِهَا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنَّمَا تُحِيطُ النَّارُ بِمَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطَايَاهُ حَتَّى لَا رَجَاءَ فِي تَوْبَتِهِ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (2: 81) . إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، الْمُتَبَادِرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ شَأْنِهِمْ فِي مَاضِيهِمْ وَحَاضِرِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ، وَالْحَسَنَةُ كُلُّ مَا يَحْسُنُ وَقْعُهُ وَيَسُرُّ مِنْ غَنِيمَةٍ وَنُصْرَةٍ وَنِعْمَةٍ، أَيْ أَنَّهُ يَسُوءُهُمْ كُلُّ مَا يَسُرُّكَ، مَا سَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ أَيْ: نَكْبَةٌ وَشِدَّةٌ كَالَّذِي وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ أَيْ: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا بِالْحَزْمِ وَالْحَذَرِ الَّذِي هُوَ دَأْبُنَا مِنْ قَبْلِ وُقُوعِهَا إِذْ تَخَلَّفْنَا عَنِ الْقِتَالِ، وَلَمْ نُلْقِ بِأَيْدِينَا إِلَى الْهَلَاكِ: وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ أَيْ: وَيَنْصَرِفُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ بُلُوغِهِمْ خَبَرُ الْمُصِيبَةِ إِلَى أَهْلِيهِمْ، أَوْ يُعْرِضُوا عَنْكَ بِجَانِبِهِمْ وَهُمْ فَرِحُونَ فَرَحَ الْبَطَرِ وَالشَّمَاتَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ (3: 120) الْآيَةَ وَهِيَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ عَنْ مُسْتَقْبَلِ الْأَمْرِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: إِنَّ تُصِبْكَ فِي سَفَرِكَ هَذَا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، قَالَ: الْجَدُّ وَأَصْحَابُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: جَعَلَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي الْمَدِينَةِ يُخْبِرُونَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَخْبَارَ السُّوءِ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ جَهِدُوا فِي سَفَرِهِمْ وَهَلَكُوا فَبَلَغَهُمْ تَكْذِيبُ خَبَرِهِمْ وَعَافِيَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ أَظْفَرَكَ اللهُ وَرَدَّكَ سَالِمًا سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا فِي الْقُعُودِ قَبْلَ أَنْ تُصِيبَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَهُوَ يَشْمَلُ هَذَا وَغَيْرَهُ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تُفْرِحُهُمْ مُصِيبَتُكَ، وَتَسُوءُهُمْ نِعْمَتُكَ وَغَنِيمَتُكَ، لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَهُ اللهُ وَأَوْجَبَهُ لَنَا بِوَعْدِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَقْدِيرِهِ لِنِظَامِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، مِنْ نَصْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَتَمْحِيصٍ وَشَهَادَةٍ، وَضَمَانٍ لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ هُوَ مَوْلَانَا أَيْ: هُوَ وَحْدَهُ مَوْلَانَا يَتَوَلَّانَا بِالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، وَنَتَوَلَّاهُ بِاللَّجَأِ

51

إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَلَا نَيْأَسُ عِنْدَ شِدَّةٍ، وَلَا نَبْطُرُ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَقَدْ قَالَ لَنَا فِي وَعْدِهِ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (8: 39 و40) وَقَالَ فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (47: 10 و11) وَقَالَ فِي سُنَّتِهِ فِي الْعَوَاقِبِ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (7: 128) . وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَإِذَا كَانَ اللهُ هُوَ مَوْلَاهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْهَا مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي فَصَّلَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَغَيْرِهَا، كَإِعْدَادِ مَا تَسْتَطِيعُ الْأُمَّةُ مِنْ قُوَّةٍ، وَاتِّقَاءِ التَّنَازُعِ الَّذِي يُوَلِّدُ الْفَشَلَ، وَيُفَرِّقُ الْكَلِمَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكِلُوا إِلَيْهِ تَوْفِيقَهُمْ لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّجَاحُ، وَتَسْهِيلُ أَسْبَابِهِ الَّتِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا كَسْبُهُمْ، وَمَا أَجْهَلُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَكِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ، يَقْتَضِيَانِ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالتَّدْبِيرِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي الْأَمْرَيْنِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَيُقَابِلُ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، اتِّكَالَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَحْدَهَا، حَتَّى إِذَا مَا أَدْرَكَهُمُ الْعَجْزُ وَخَانَتْهُمُ الْقُوَّةُ أَمَامَ قُوَّةٍ تَفَوقُهَا، خَانَهُمُ الصَّبْرُ وَأَدْرَكَهُمُ الْيَأْسُ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى ذِي الْقُوَّةِ الَّتِي لَا تَعْلُوهَا قُوَّةٌ - وَشَرٌّ مِنْهُ اتِّكَالُ الْخَرَّافِيِّينَ عَلَى الْأَوْهَامِ، وَتَعَلُّقُ آمَالِهِمْ بِالْأَمَانِي وَالْأَحْلَامِ، حَتَّى إِذَا مَا انْكَشَفَتْ أَوْهَامُهُمْ، وَكَذَبَتْ أَحْلَامُهُمْ، وَخَابَتْ آمَالُهُمْ، نَكَّسُوا رُؤُوسَهُمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَاسْتَكَانُوا لِأَعْدَائِهِمْ، وَكَفَرُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَعْدُ اللهِ أَصْدُقُ مِنْ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَإِنَّمَا وَعَدَ بِالنَّصْرِ أَوْلِيَاءَهُ لَا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ التَّرَبُّصُ: التَّمَهُّلُ فِي انْتِظَارِ مَا يُرْجَى أَوْ يُتَمَنَّى وُقُوعُهُ. وَمَضْمُونُ هَذَا بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ بَيَانٌ لَهُ، وَالْحُسْنَيَانِ مُثَنَّى الْحُسْنَى، وَهِيَ اسْمُ التَّفْضِيلِ لِلْمُؤَنَّثِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّحْقِيقِ. وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيْضًا: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ إِلَّا إِحْدَى الْعَاقِبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُسْنَى الْعَوَاقِبِ وَفُضْلَاهَا، وَهُمَا النُّصْرَةُ وَالشَّهَادَةُ، النُّصْرَةُ الْمَضْمُونَةُ لِلْجَمَاعَةِ، وَالشَّهَادَةُ الْمَكْتُوبَةُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ؟ أَيْ: لَا شَيْءَ يُنْتَظَرُ لَنَا غَيْرُ هَاتَيْنِ الْعَاقِبَتَيْنِ مِمَّا كَتَبَ لَنَا رَبُّنَا، وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَ

52

مَا تَتَرَبَّصُونَ بِنَا: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ إِحْدَى السُّوءَيَيْنِ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا الْأُولَى: أَنْ يُهْلِكَكُمْ بِقَارِعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا كَسْبَ لَنَا فِيهَا، كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبَلَكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَنَا بِقَتْلِكُمْ، أَنْ أَغْرَاكُمُ الشَّيْطَانُ بِإِظْهَارِ كُفْرِكُمْ، بِهَذَا الِاسْتِدْرَاجِ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى إِجْرَامِكُمْ، كَمَا قَالَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ (33: 60) الْآيَاتِ. وَحَكَمَ الشَّرْعُ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ مَا دَامُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، بِإِقَامَةِ الشَّعَائِرِ، وَأَدَاءِ الْأَرْكَانِ، وَلَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَلَمْ تُذْكَرْ هَاتَانِ الْعَاقِبَتَانِ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ كَعَاقِبَتَيِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتُوبُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ، وَيَصِحَّ إِيمَانُهُمْ، وَقَدْ تَابَ بَعْضُهُمْ، وَاعْتَرَفُوا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِمْ، كَالَّذِينِ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ بِمَا ائْتَمَرُوا بِهِ مِنِ اغْتِيَالِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْبَاقِينَ قَدْ تَابُوا بَعْدَ أَنْ أَنْجَزَ اللهُ لِرَسُولِهِ جَمِيعَ مَا وَعَدَهُ بِهِ، وَوَقَعَ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَهُ مِنْ تَنْزِيلِ سُورَةٍ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمِنْهَا فَضِيحَتُهُ تَعَالَى لِزَعِيمِهِمُ الَّذِي مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لَكَانَ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا سَيَقَعُ، وَهُوَ هَلَاكُهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِدُونِ الشَّرْطِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أَيْ: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَتَرَبَّصُوا بِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ عَاقِبَتِنَا وَعَاقِبَتِكُمْ، إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَظَهَرَ أَمْرُكُمْ، مِمَّا نَحْنُ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّنَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَكُمْ، وَيَالَلَّهِ مَا أَبْلَغَ الْإِيجَازَ فِي حَذْفِ مَفْعُولَيْ تَرَبُّصِهِمَا، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ تَرَبُّصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَكُّنِ الثِّقَةِ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ! . قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةِ النَّفَقَةِ فِي الْقِتَالِ، وَهِيَ الْجِهَادُ الْمَفْرُوضُ فِي الْمَالِ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ النَّفَقَاتِ، فِي حُكْمِ مَا يَعْتَوِرُهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ

53

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا دَعَا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ إِلَى جِهَادِ الرُّومِ قَالَ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أُفْتَتَنَ وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي، فَفِيهِ نَزَلَ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ وَقَدْ ضَعَّفَ (الطَّبَرِيُّ) هَذَا الْقَوْلَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِـ " قِيلَ " وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ هَذَا وَغَيْرَهُ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ لَا عَقِبَ قَوْلِ جَدِّ بْنِ قَيْسٍ مَا قَالَ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ: أَنْفِقُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي حَالِ الطَّوْعِ لِلتَّقِيَّةِ، أَوِ الْكُرْهِ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ، فَمَهْمَا تُنْفِقُوا فِي الْحَالَتَيْنِ لَنْ يَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْهُ، مَا دُمْتُمْ عَلَى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مَا يُنْفِقُونَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَخْذِ زَكَاتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مَانِعٌ خَاصٌّ فِي شَأْنِ بَعْضِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ (75) الْآيَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: وَخَرَجَ قَوْلُهُ: أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ. وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَحْسُنُ فِيهَا " إِنِ " الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَهُوَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ فَكَذَلِكَ قَوْلُ: أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنْ تُنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمُ اهـ. إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ هَذَا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ إِنْفَاقَكُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ سِيَّانِ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (5: 27) وَالْمُرَادُ بِالْفُسُوقِ: الْخُرُوجُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ مَعَ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ - وَتَخْصِيصُهُ بِالْمَعَاصِي مِنِ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُنَافِقُو هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، وَيُعْلِنُونَ أَمْرَهَا فِي صُحُفِ الْأَخْبَارِ؛ لِيَشْتَهِرُوا بِهَا فِي الْأَقْطَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ مِنَ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ أَيْ: وَمَا مَنَعَهُمْ قَبُولَ نَفَقَاتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا كَفْرُهُمْ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ، وَمِنْهَا الْحِكْمَةُ وَالتَّنَزُّهُ عَنِ الْعَبَثِ فِي خَلْقِ الْخَلْقِ وَهِدَايَتِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (تُقْبَلُ) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَتَأْنِيثُ النَّفَقَاتِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ فِعْلِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ

54

فَفِعْلِهِمْ لِهَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، اللَّذَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ، لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُمَا رِيَاءً وَتَقِيَّةً لَا إِيمَانًا بِوُجُوبِهِمَا، وَلَا قَصْدًا إِلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ بِمَا شَرَعَهُمَا اللهُ لِأَجْلِهِ، وَاحْتِسَابًا لِأَجْرِهِمَا عِنْدَهُ أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتُونَهَا إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى أَيْ: فِي حَالِ الْكَسَلِ وَالتَّثَاقُلِ مِنْهَا، فَلَا تَنْشَطُ لَهَا أَبْدَانُهُمْ، وَلَا تَنْشَرِحُ لَهَا صُدُورُهُمْ، زَادَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 142) وَقَدْ أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِصُورَتِهَا، وَوَصْفِهِمْ بِالْخُشُوعِ فِيهَا، وَهُوَ يُنَافِي الْكَسَلَ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَيْهَا، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ صَلَاتُهُ صَلَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَمْ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ؟ . وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فِي مَصَالِحِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُؤْتُونَهُ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهُ، غَيْرَ طَيِّبَةٍ أَنْفُسُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ هَذِهِ النَّفَقَاتِ مَغَارِمَ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ، تَقُومُ بِهَا مَرَافِقُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ، فَلَا يَرَوْنَ لَهُمْ بِهَا نَفْعًا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِنَفْعِهَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكُفْرَ وَحْدَهُ كَافٍ فِي عَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى وَصْفِهِمْ بِالْكَسَلِ عِنْدَ إِتْيَانِ الصَّلَاةِ، وَكُرْهِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَفَقَاتِ الْبِرِّ؟ وَتَمَحَّلَ الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوِ الْأَشْعَرِيَّةِ؟ فَإِنَّ وَصْفَهُمَا بِمَا ذُكِرَ تَقْرِيرٌ لِكُفْرِهِمْ، وَدَفْعٌ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) الْكَرَاهِيَةُ خِلَافُ الطَّوَاعِيَةِ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ طَائِعِينَ فِي قَوْلِهِ: طَوْعًا ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (قُلْتُ ) الْمُرَادُ بِطَوْعِهِمْ أَنَّهُمْ يَبْذُلُونَهُ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَمَا طَوْعُهُمْ ذَاكَ إِلَّا عَنْ كَرَاهِيَةٍ وَاضْطِرَارٍ، لَا عَنْ رَغْبَةٍ وَاخْتِيَارٍ اهـ. عَلَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْكَرْهَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالْإِكْرَاهِ. وَالرَّاجِحُ عِنْدِي مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بَطَوْعِهِمْ مَا كَانَ بِقَصْدِ التَّقِيَّةِ لِإِخْفَاءِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ يَقْتَضِي كَرْهَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَدَمَ إِخْلَاصِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ مَا أَثْبَتَهُ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ طَوَاعِيَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الطَّبْعِ، لَا طَاعَةُ الشَّرْعِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ التَّرْدِيدَ بَيْنَ الطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ وُقُوعِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَهْمَا يَكُنِ الْوَاقِعُ فَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِوُجُودِ الْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنَ الْقَبُولِ، وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَعَصَاهُمَا فِيمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ مُذْعِنًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُذْعِنًا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ

55

(2: 85) وَقَدْ بَايَعَ الْمُؤْمِنُونَ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُولِي الطَّوْلِ وَالسَّعَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) وَكَانَ تَرَفُ الْغَنِيِّ وَطُغْيَانُهُ أَقْوَى أَسْبَابِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ - بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ فَقَالَ: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، الْإِعْجَابُ بِالشَّيْءِ أَنْ تُسَرَّ بِهِ سُرُورَ رَاضٍ بِهِ فَتَعْجَبُ مِنْ حُسْنِهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ الْقَوْلَ أَوْ بَلَغَهُ، وَالْكَلَامُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُمْ فِي مَظِنَّةِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، فَلَا تُعْجِبْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمُ الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ وَأَجَلِّهَا، وَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ وَقَدْ حُرِمُوا مِنْ ثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ قَدْ صَفَا لَهُمْ نَعِيمُهَا فِي الدُّنْيَا، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْحَسَرَاتِ، أَمَّا الْأَمْوَالُ فَإِنَّهُمْ يَتْعَبُونَ فِي جَمْعِهَا، وَيَحْرِصُونَ عَلَى حِفْظِهَا، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْهَا مِنْ زَكَاةٍ وَإِعَانَةٍ عَلَى قِتَالٍ، وَإِنْفَاقٍ عَلَى قَرِيبٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَقُّ مِنْهُ إِعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهَا بَعْدَهُمْ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُمْ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ حَتَّى زَعِيمِهِمُ الْأَكْبَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ (لَعَنَهُ اللهُ) كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي خَبَرِ مَوْتِهِ عَلَى كُفْرِهِ، وَأُعِيدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَلِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُمْ قَدْ نَشَؤُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ هَذِهِ حَسَرَاتٌ فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَقَدْ كَانَ ثَعْلَبَةُ الَّذِي عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَخْلَفَ اللهَ مَا وَعَدَهُ بَعْدَ أَنْ أَغْنَاهُ - أَشَدَّهُمْ حَسْرَةً بِامْتِنَاعِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَخُلَفَائِهِ عَنْ قَبُولِ زَكَاتِهِ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ فَيُعَذَّبُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِمَّا عُذِّبُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمُ الْمُحْبِطِ لِعَمَلِهِمْ. زُهُوقُ الْأَنْفُسِ: خُرُوجُهَا مِنَ الْأَجْسَادِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْخُرُوجُ بِصُعُوبَةٍ. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (17: 81) أَيْ هَلَكَ وَاضْمَحَلَّ، وَجَعَلَهُ فِي الْأَسَاسِ مَجَازًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ زَهَقَ السَّهْمُ إِذَا سَقَطَ دُونَ الْهَدَفِ، وَوَرَدَ زَهَقَتِ النَّاقَةُ بِمَعْنَى أَسْرَعَتْ، فَالتَّعْبِيرُ بِالزُّهُوقِ هُنَا إِمَّا مِنَ الْأَوَّلِ أَيِ: الْهَلَاكِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِمَّا مِنَ الْإِسْرَاعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ حَقِيقَةً، أَوْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (33: 16) .

56

وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ سَبَبِ النِّفَاقِ، وَمُصَانَعَةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَبَيَانُ حَالِهِمْ فِيهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا أَنَّهُمْ لَمِنْكُمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، بَلْ هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يَقُولُ: وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَخَافُونَكُمْ، فَهُمْ خَوْفًا مِنْكُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ إِنَّهُمْ مِنْكُمْ؛ لِيَأْمَنُوا فِيكُمْ فَلَا يُقْتُلُوا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَقَ بِالتَّحْرِيكِ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَإِدْرَاكِهِ - أَوْ هُوَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: تَفَرُّقُ الْقَلْبِ مِنَ الْخَوْفِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفَرَقِ فِيهِ كَاسْتِعْمَالِ الصَّدْعِ وَالشَّقِّ فِيهِ، وَفِعْلُهُ بِوَزْنِ فَرَحَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمُ الَّذِي فَرَقَ قُلُوبَهُمْ وَمَزَّقَهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُوءَ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْفَرَقِ بِقَوْلِهِ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ الْمَلْجَأُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْخَائِفُ؛ لِيَعْتَصِمَ بِهِ مِنْ حِصْنٍ أَوْ قَلْعَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ قُنَّةٍ فِي جَبَلٍ، وَالْمَغَارَاتُ: جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهِيَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ، وَالْمُدَّخَلُ بِالتَّشْدِيدِ (مُفْتَعَلٌ مِنَ الدُّخُولِ) السِّرْبُ فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُهُ الْإِنْسَانُ بِمَشَقَّةٍ، وَالْجِمَاحُ: السُّرْعَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَتَعَسَّرُ مُقَاوَمَتُهَا أَوْ تَتَعَذَّرُ. يَقُولُ: إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ كُرْهِهِمْ لِلْقِتَالِ مَعَكُمْ وَلِمُعَاشَرَتِكُمْ، وَلِشِدَّةِ رُعْبِهِمْ مِنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ لَكُمْ، يَتَمَنَّوْنَ الْفِرَارَ مِنْكُمْ، وَالْمَعِيشَةَ فِي مَضِيقٍ مِنَ الْأَرْضِ يَعْتَصِمُونَ بِهِ مِنِ انْتِقَامِكُمْ، بِحَيْثُ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يَلْجَؤُونَ إِلَيْهِ، أَوْ مَغَارَاتٍ يَغُورُونَ فِيهَا، أَوْ مُدَّخَلًا يَنْدَسُّونَ وَيَنْجَحِرُونَ فِيهِ، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ - أَيْ: إِلَى مَا يَجِدُونَهُ مِمَّا ذُكِرَ - وَهُمْ يُسْرِعُونَ مُتَقَحِّمِينَ كَالْفَرَسِ الْجَمُوحِ لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ مَنْ أَبْلَغِ مُبَالَغَةِ الْقُرْآنِ فِي تَصْوِيرِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَتَجَلَّى لِلْفَهْمِ وَالْعِبْرَةِ بِدُونِهَا، فَتَصَوَّرْ شُخُوصَهُمْ وَهُمْ يَعْدُونَ بِغَيْرِ نِظَامٍ، يَلْهَثُونَ كَمَا تَلْهَثُ الْكِلَابُ، يَتَسَابَقُونَ إِلَى تِلْكَ الْمَلَاجِئِ مِنْ مَغَارَاتٍ وَمُدَّخَلَاتٍ، فَيَتَسَلَّقُونَ إِلَيْهَا، أَوْ يَنْدَسُّونَ فِيهَا. فَكَذَلِكَ كَانَ تَصَوُّرُهُمْ عِنْدَ مَا سَمِعُوا الْآيَةَ فِي وَصْفِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقَامُوا بَيْنَ

58

أَظْهُرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ، وَلِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْمِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ، وَفِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ وَفِرَاقِهِ فَصَانَعُوا الْقَوْمَ بِالنِّفَاقِ، وَدَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ (كَذَا وَلَعَلَّ أَصْلَهُ بِإِخْفَاءِ الْكُفْرِ) وَدَعْوَى الْإِيمَانِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الْبُغْضِ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمُ اهـ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْتَقِبُونَ الْفُرَصَ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالطَّعْنِ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالشُّبَهِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُوقِعُ الرَّيْبَ فِي قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْهَا قِسْمَةُ الصَّدَقَاتِ وَالْغَنَائِمِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمُصَنِّفُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقْسِمُ قَسَمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: " وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدَلْ؟ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ " الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. قَالَ (أَبُو سَعِيدٍ) فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " رَحْمَةُ اللهِ عَلَى مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَنَزَلَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ وَرَوَى سُنَيْدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ فَقَسَّمَهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ، وَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ أَفْرَادٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ سَبَبُهُ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْعَطِيَّةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَكَانُوا مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ، بَلْ كَانَ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَسْلَمُوا فِي وَقْتِ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَمَلُوا الْإِيذَاءَ الشَّدِيدَ فِي سَبِيلِ إِسْلَامِهِمْ، وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ كَالَّذِينِ بَايَعُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مِنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ سَبَبُ حِرْمَانِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْأَنْصَارَ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، وَمَنِ اسْتَاءَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَكَلَّمَ، وَإِرْضَاءُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، فَجَعَلَ الْغَنَائِمَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا مِنْ جُمْلَةِ تَسَاهُلِهِمْ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَسْبَابَ النُّزُولِ. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ اللَّمْزُ: مَصْدَرُ لَمَزَهُ إِذَا عَابَهُ وَطَعَنَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا هَمَزَهُ هَمْزًا فَمَعْنَاهُ عَابَهُ فِي غِيبَتِهِ، وَأَصْلُهُ الْعَضُّ وَالضَّغْطُ عَلَى الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعِيبُكَ وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَهِيَ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُحَابِي فِيهَا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطَاؤُهُمْ بِاسْتِحْقَاقٍ، كَأَنْ أَظْهَرُوا الْفَقْرَ كَذِبًا وَاحْتِيَالًا أَوْ كَانَ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا فَاجَأَهُمُ السُّخْطُ أَوْ فَاجَئُوكَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَاهَمَّ لَهُمْ، وَلَا حَظَّ مِنَ الْإِسْلَامِ، إِلَّا الْمَنَعَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَنَيْلِ الْحُطَامِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ رِضَاهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِأَجْلِ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِهِ وَيَنْقَضِي، فَلَا يَعُدُّونَهُ نِعْمَةً يَتَمَنَّوْنَ دَوَامَ الْإِسْلَامِ لِدَوَامِهَا، وَعَبَّرَ عَنْ سُخْطِهِمْ بِـ " إِذَا " الْفُجَائِيَّةِ، وَبِفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سُرْعَتِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَهَذَا دَأْبُ الْمُنَافِقِينَ وَخُلُقُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا نَرَاهُ بِالْعِيَانِ، حَتَّى مِنْ مُدَّعِي كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا، وَأَعْطَاهُمْ رَسُولُهُ بِقَسْمِهِ لِلْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ أَيْ: هُوَ مُحْسِبُنَا وَكَافِينَا فِي كُلِّ حَالٍ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أَيْ: سَيُعْطِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْكَسْبِ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَيُعْطِينَا رَسُولُهُ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ زِيَادَةً مِمَّا أَعْطَانَا مِنْ قَبْلُ، لَا يَبْخَسُ أَحَدًا مِنَّا حَقًّا يَسْتَحِقُّهُ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ لَا نَرْغَبُ إِلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ بِيَدِهِ

59

مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِلَيْهِ نَتَوَجَّهُ، وَمِنْهُ نَرْجُو أَنْ يَبْسُطَ لَنَا فِي الرِّزْقِ بِمَا يُوَفِّقُنَا لَهُ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَهَبُهُ لَنَا مِنَ النَّصْرِ - لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. الرَّغَبُ بِالتَّحْرِيكِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، يُقَالُ رَغِبَهُ، وَيَتَعَدَّى بِـ " فِي " يُقَالُ: رَغِبَ فِيهِ، أَيْ: أَحَبَّ حُصُولَهُ لَهُ وَتَوَجَّهَ شَوْقُهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَيَتَعَدَّى بِـ " عَنْ " لِضِدِّ ذَلِكَ، فَيُقَالُ: رَغِبَ " عَنْهُ، وَمِنْهُ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 13) وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِـ " إِلَى فَهُوَ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا غَايَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا أُرِيدَ بِالْغَايَةِ مَا بَعْدَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهُوَ مَقَامُ التَّوَكُّلِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ، حَسْبُنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، كَمَا يَقُولُونَ: سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، فَلِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَسْبٌ فِي الْإِيتَاءِ بَعْدَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْمُحْسِبَ الْكَافِيَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (39: 36) ؟ وَقَالَ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (65: 3) وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي التَّنْزِيلِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْقَلَمِ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (68: 32) وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي سُورَةِ الِانْشِرَاحِ: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (94: 8) . وَإِنَّمَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَتَفْصِيلُ الْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مِنَ اللهِ بِنِعْمَتِهِ، وَمِنَ الرَّسُولِ بِقِسْمَتِهِ، وَعَلَّقُوا أَمَلَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ بِفَضْلِ اللهِ وَكِفَايَتِهِ، وَمَا سَيُنْعِمُ اللهُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَبِعَدْلِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْقِسْمَةِ، وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَمْزِ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ مِنْ كُلِّ مَلْمَزٍ وَمَهْمَزٍ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَالْآيَتَانِ تَهْدِيَانِ الْمُؤْمِنَ إِلَى الْقَنَاعَةِ بِكَسْبِهِ وَمَا يَنَالُهُ بِحَقٍّ مِنْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ بِأَنْ يُوَجِّهَ قَلْبَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَلَا يَرْغَبَ إِلَّا إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَغَائِبِهِ الَّتِي وَرَاءَ كَسْبِهِ وَحُقُوقِهِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا إِلَى الرَّسُولِ، وَلَا إِلَى مَنْ دُونَهُ فَضْلًا وَعَدْلًا وَقُرْبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالْأَوْلَى، فَتَعِسًا لِعُبَّادِ الْقُبُورِ، وَالرَّاغِبِينَ إِلَى مَا دُفِنَ فِيهَا مِنْ مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

60

لَمَّا كَانَ طَمَعُ الْبَشَرِ فِي الْمَالِ لَا حَدَّ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْغَنِيُّ أَشَدَّ طَمَعًا فِيهِ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكَانَ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ لَا يُرْضِيهِ قِسْمَةُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ لَهُ إِذَا لَمْ يُعْطِهِ مَا يُرْضِي طَمَعَهُ، وَكَانَ غَيْرُ الْمَعْصُومِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى مَصَارِفَهَا بِنَصِّ كِتَابِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ هَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ قَصْرِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ زَكَاةُ النُّقُودِ عَيْنًا أَوْ تِجَارَةً وَالْأَنْعَامِ وَالزَّرْعِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ أَوِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمَزَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ مِنْهَا - وَهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ - وَقَاطِعَةٌ لِأَطْمَاعِ أَمْثَالِهِمْ. وَ " اللَّامُ " فِي قَوْلِهِ: (لِلْفُقَرَاءِ) لِلْمِلْكِ وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مَفْرُوضَةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَسَيَأْتِي حُكْمُ سَائِرِ الْمَعْطُوفَاتِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ مُسْتَقِلَّانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْمِسْكِينِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْعَكْسِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي يَتَعَصَّبُ لَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ أَنَّهُمَا قِسْمَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ يَخْتَلِفَانِ بِالْوَصْفِ لَا بِالْجِنْسِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لَنَا، وَلَمْ يَجْمَعِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَكْفِي مِنْ دَلَالَةِ الْعَطْفِ فِيهَا عَلَى الْمُغَايَرَةِ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَغَيُّرِهِمَا فِي الْوَصْفِ. فَالْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْغَنِيِّ وَمُقَابِلُهُ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا (4: 135) وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (4: 6) وَقَوْلُهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (24: 32) وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَكُلُّ عِبَادِهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (47: 38) وَأَمَّا فَقْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَا مِنْ غَنِيٍّ إِلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَمِمَّنْ دُونَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْفَقِيرِ فِي مُقَابَلَةِ الْغَنِيِّ أَوْ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُحْتَاجِ فِي مَعِيشَتِهِ إِلَى مُوَاسَاةِ غَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَكْفِيهِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيُطْلَقُ الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسِيرِ الْفَقَارِ وَمَنْ يَشْتَكِي فَقَارَهُ - وَهِيَ جَمْعُ فَقْرَةٍ وَفَقَارَةٌ (بِفَتْحِهِمَا) عِظَامُ الظَّهْرِ الْمَنْضُودَةُ مِنْ لَدُنِ الْكَاهِلِ إِلَى عَجْبِ الذَّنَبِ فِي الصُّلْبِ - وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، كَمَا قِيلَ: وَمِنْهُ الْفَاقِرَةُ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ أَوِ الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَكْسِرَ فَقَارَ الظَّهْرِ. وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَمَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ السُّكُونِ الْمُرَادِ بِهِ قِلَّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ الْحِسِّيِّ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، أَوِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَقِيرِ إِذَا كَانَ الْفَقْرُ سَبَبَ سُكُونِهِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّلَّةِ وَالضَّعْفِ اهـ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْفَقِيرُ الْقَانِعُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَقِيلَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ الْمِسْكِينِ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الذَّلِيلِ وَالضَّعِيفِ، وَبِمَعْنَى الْمُتَوَاضِعِ الْمُخْبِتِ، وَالْخَاشِعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمُقَابِلُهُ الْجَعْظَرِيُّ الْجَوَّاظُ الْمُتَكَبِّرُ، وَيُقَالُ: سَكَنَ الرَّجُلُ وَتَسَكَّنَ وَتَمَسْكَنَ إِذَا صَارَ مِسْكِينًا. وَلَكِنَّ صِيغَةَ تَمَسْكَنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ الْمَسْكَنَةِ وَمُحَاوَلَتِهَا بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّعَوُّدِ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: تَمَسْكَنَ لِرَبِّهِ: تَضَرَّعَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: " اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ وَخَطَّأَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأُخْرَى عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (93: 8) فَلَا يُعْقَلُ هَذَا أَنْ يَسْأَلَهُ أَشَدَّ الْفَقْرِ، وَقَدْ عَاشَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكْفِيًّا وَمَاتَ مَكْفِيًّا. وَقَالَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ: وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ أَوِ الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ. وَالْمِسْكِينُ مَنْ أَذَلَّهُ الْفَقْرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ اهـ. قَالَ شَارِحُهُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فَإِذَا كَانَتْ مَسْكَنَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَكَانَ فَقِيرًا مِسْكِينًا، وَإِذَا كَانَ مِسْكِينًا قَدْ أَذَلَّهُ سِوَى الْفَقْرِ فَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ إِذْ كَانَ شَائِعًا فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: ضُرِبَ فُلَانٌ الْمِسْكِينُ وَظُلِمَ الْمِسْكِينُ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْيَسَارِ - وَإِنَّمَا لَحِقَهُ اسْمُ الْمِسْكِينِ مِنْ جِهَةِ الذِّلَّةِ، فَمَنْ لَمْ تَكُنْ مَسْكَنَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْفَقِيرَ فِي اللُّغَةِ الْمُحْتَاجُ، وَهُوَ ضِدُّ الْغَنِيِّ أَيِ الْمَكْفِيِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مِنَ الْغَنَاءِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْكِفَايَةُ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ وَصْفٌ مِنَ السُّكُونِ يُوصَفُ بِهِ الْفَقِيرُ وَغَيْرُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: هَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْفَقِيرِ أَوْ أَحْسَنُ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَيُقَالُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ زِيَادَةٌ عَمَّا قُلْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ آنِفًا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ فِي الْآيَةِ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِلْفَقِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ فِيهِ وَصْفٌ لِلْفَقِيرِ، كَمَا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَقِيرٍ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْمَسَكَنَةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِسَبَبِ فَقْرِهِ بَلْ بِتَوَاضُعِهِ وَأَدَبِهِ مَثَلًا، كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَكَيْفَ يَكُونُ أَسْوَأَ مِنَ الْفَقِيرِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الصَّدَقَةَ؟ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنَ الْفَقِيرِ بِوَصْفِ الْمَسْكَنَةِ الَّتِي كَانَ سَبَبُهَا الْفَقْرَ، فَلَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا شِدَّةَ الْفَقْرِ وَسُوءَ الْحَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفُقَرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُمْ بِعُمُومِهِ لَهُمْ، وَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الشَّدِيدِ الْفَقْرِ لِلصَّدَقَةِ أَوْلَى مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَنْ دُونَهُ فِيهِ. فَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُقَالَ: أَعْطِ هَذِهِ الصَّدَقَةَ

أَوْ أَطْعِمْ هَذَا الطَّعَامَ لِلْفُقَرَاءِ وَلِأَشَدِّ النَّاسِ فَقْرًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ أَشَدِّهِمْ فَقْرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ يَكُونُ لَغْوًا، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِضْرَابُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: بَلْ لِأَشَدِّهِمْ فَقْرًا، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، فَتَرَجَّحَ أَوْ تَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ بِالْمَسَاكِينِ مَنْ جَعَلَتْهُمْ مَسْكَنَةُ الْفَقْرِ أَقَلَّ اضْطِرَابًا فِيهِ، وَأَكْثَرَ تَجَمُّلًا وَسُكُونًا لِخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ وُصُولِهِ بِهِمْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ، وَلَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا بِالتَّجَمُّلِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (90: 16) لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَاجَةِ الْمُلْصِقَةِ بِالتُّرَابِ لَا تُنَافِي التَّجَمُّلَ وَالتَّعَفُّفَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا (2: 273) وَفِي لَفْظِ: " وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ " وَالْحَدِيثُ بِلَفْظَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا اخْتَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِتَفْنِيدِ مَا أَطَالَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ. فَالْفُقَرَاءُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِفَقْرِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 271) وَلِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا (2: 273) وَكَمَا قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (59: 7) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ خَصَّ الْمَسَاكِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَا يُفْطَنُ لَهُمْ لِتَجَمُّلِهِمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَالِيًا وَقَاضِيًا: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَكَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ خِيَارُهَا وَنَفَائِسُهَا الَّتِي تَضِنُّ النَّفْسُ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَخْذُهَا فِي الصَّدَقَةِ لِتُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ، وَلَا بِالرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَوْلَى. وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْفُقَرَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ كَالْآيَاتِ لُغَةً، وَحَيْثُ يُذْكَرُ الْمِسْكِينُ أَوِ الْمَسَاكِينُ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْفُقَرَاءَ بِالتَّغْلِيبِ أَوْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِهِمْ، وَفِي كَفَّارَاتِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْغَنَائِمِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَهُمَا صِنْفَانِ لِجِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ

الْمُسْتَحِقِّينَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهَيْنِ فِي اللُّغَةِ، وَعُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ لِلَفْظَيْنِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا، وَحَيْثُ يُذْكَرُ أَحَدُهَا وَحْدَهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْآخَرَ، فَاللَّفْظَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي مَفْهُومِهِمَا، مُتَّحِدَانِ فِيمَا يَصْدُقَانِ عَلَيْهِ، وَمَا يُعْطَاهُ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مِنَ الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَمِقْدَارِ الْمَالِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا أَيِ: الَّذِينَ يُوَلِّيهِمُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْعَمَلَ عَلَى جَمْعِهَا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَهُمُ الْجُبَاةُ، وَعَلَى حِفْظِهَا وَهُمُ الْخَزَنَةُ، وَكَذَا الرُّعَاةُ لِلْأَنْعَامِ مِنْهَا، وَالْكَتَبَةُ لِدِيوَانِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ عَامِلَ الْإِمَامِ أَوِ السُّلْطَانِ عَلَى بَلَدِ كَذَا أَوْ عَلَى الزَّكَاةِ أَوِ الْخَرَاجِ، وَفِي الْأَسَاسِ: وَيُقَالُ: مَنِ الَّذِي عُمِّلَ (بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ) عَلَيْكُمْ؟ أَيْ: نُصِّبَ عَامِلًا عَلَيْكُمُ اهـ. وَقَالَ فِي أَوَّلِ الْمَادَّةِ: تَقُولُ: أَعْطِ الْعَامِلَ عُمَالَتَهُ، وَوَفِّهِ جُعَالَتَهُ، وَهُوَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا جَزَاءُ الْعَمَلِ وَأُجْرَتُهُ الْمُعَيَّنَةُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رِزْقُ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلصَّدَقَةِ بِفَقْرِهِ مَثَلًا، وَلَكِنْ إِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعَمَلِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا عُمَالَتُهُ عَلَى عَمَلِهِ لَا عَلَى فَقْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَقْرِهِ مَا يَأْخُذُهُ أَمْثَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى حَاجَتِهِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيُهْدِيَ وَيَتَصَدَّقَ، وَقَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا بِشُرُوطِهَا مِنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَيَسْقُطُ سَهْمُهُ. وَلَا تَجُوزُ الْعُمَالَةُ لِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنْ آلِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَأَلَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُؤَمِّرَهُمَا عَلَى الصَّدَقَاتِ بِالْعُمَالَةِ كَمَا يُؤَمِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُمَا: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ " وَفِي لَفْظٍ " لَا تَنْبَغِي " بَدَلُ " لَا تَحِلُّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ ابْنَ السَّعِيدِ الْمَالِكِيَّ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِيَ بِعُمَالَةٍ. فَقُلْتُ إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ. فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَعَمَّلَنِي فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أَيِ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يُرَادُ تَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ بِالِاسْتِمَالَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ التَّثَبُّتِ

فِيهِ، أَوْ بِكَفِّ شَرِّهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ رَجَاءِ نَفْعِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنْهُمْ، أَوْ نَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ، لَا فِي تِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَنَحْوِهِمَا. فَإِنَّ مَنْ يَرَى أَنَّ مُخَالِفَهُ فِي الدِّينِ مَصْدَرُ نَفْعٍ لَهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَادَّهُ، فَإِنْ لَمْ يُوَادَّهُ لَمْ يُحَادَّهُ كَالْعَدُوِّ الَّذِي يَخْشَى ضَرَرَهُ وَلَا يَرْجُو نَفْعَهُ. وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ قِسْمَانِ: كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ. وَالْكُفَّارُ ضَرْبَانِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَرْبَعَةٌ، فَمَجْمُوعُ الْفَرِيقَيْنِ سِتَّةٌ، وَهَذَا بَيَانُهُمْ بِالتَّفْصِيلِ وَالِاخْتِصَارِ: (الْأَوَّلُ) قَوْمٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَزُعَمَائِهِمْ لَهُمْ نُظَرَاءُ مِنَ الْكَفَّارِ إِذَا أُعْطُوا رُجِيَ إِسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِإِعْطَاءِ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِعَدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِمَا لِمَكَانَتِهِمَا فِي أَقْوَامِهِمَا. (الثَّانِي) زُعَمَاءُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مُطَاعُونَ فِي أَقْوَامِهِمْ يُرْجَى بِإِعْطَائِهِمْ تَثَبُّتُهُمْ، وَقُوَّةُ إِيمَانِهِمْ وَمُنَاصَحَتُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، كَالَّذِينِ أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعَطَايَا الْوَافِرَةَ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، وَهُمْ بَعْضُ الطُّلَقَاءِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُ، وَمِنْهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. (الثَّالِثُ) قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الثُّغُورِ وَحُدُودِ بِلَادِ الْأَعْدَاءِ، يُعْطَوْنَ لِمَا يُرْجَى مِنْ دِفَاعِهِمْ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا هَاجَمَهُمُ الْعَدُوُّ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ هُوَ الْمُرَابَطَةُ، وَهَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ يُدْخِلُونَهَا فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللهِ كَالْغَزْوِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا. وَأَوْلَى مِنْهُمْ بِالتَّأْلِيفِ فِي زَمَانِنَا قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَلَّفُهُمُ الْكُفَّارُ؛ لِيُدْخِلُوهُمْ تَحْتَ حِمَايَتِهِمْ أَوْ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّنَا نَجِدُ دُوَلَ الِاسْتِعْمَارِ الطَّامِعَةَ فِي اسْتِعْبَادِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ يُخَصِّصُونَ مِنْ أَمْوَالِ دُوَلِهِمْ سَهْمًا لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَلِّفُونَهُ لِأَجْلِ تَنْصِيرِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَلِّفُونَهُ؛ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي حِمَايَتِهِمْ وَمُشَاقَّةِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَوِ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَكَثِيرٍ مِنْ أُمَرَاءِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَسَلَاطِينِهَا! ! أَفَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى بِهَذَا مِنْهُمْ؟ . (الرَّابِعُ) قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ لِجِبَايَةِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا إِلَّا بِنُفُوذِهِمْ وَتَأْثِيرِهِمْ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، فَيُخْتَارُ بِتَأْلِيفِهِمْ وَقِيَامِهِمْ بِهَذِهِ الْمُسَاعَدَةِ لِلْحُكُومَةِ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ وَأَرْجَحُ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَهَذَا سَبَبٌ جُزْئِيٌّ قَاصِرٌ، فَمِثْلُهُ مَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. (الْخَامِسُ) مِنَ الْكَفَّارِ مَنْ يُرْجَى إِيمَانُهُ بِتَأْلِيفِهِ وَاسْتِمَالَتِهِ، كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الَّذِي وَهَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ الْأَمَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمْهَلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ بِطَلَبِهِ، وَكَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ وَشَهِدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ سِلَاحَهُ مِنْهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ. وَهُوَ الْقَائِلُ يَوْمَئِذٍ: لِأَنْ يَرِثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرِثَنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. وَقَدْ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِبِلًا كَثِيرًا مُحَمَّلَةً كَانَتْ فِي وَادٍ، فَقَالَ: هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ قَالَ: كَانَ صَفْوَانُ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ شَرَفُ الْجَاهِلِيَّةِ وَوَصَلَهُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ عَشَرَةِ بُطُونٍ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ أَحَدَ الْمَطْعِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْفُصَحَاءِ، وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ. (السَّادِسُ) مِنَ الْكَفَّارِ مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ فَيُرْجَى بِإِعْطَائِهِ كَفُّ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ مَعَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمًا كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَدَحُوا الْإِسْلَامَ، وَقَالُوا: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ. وَإِنْ مَنَعَهُمْ ذَمُّوا وَعَابُوا. وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ فِي قِسْمَةِ غَنَائِمِ هَوَازِنَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَهْمَ هَؤُلَاءِ قَدِ انْقَطَعَ بِإِعْزَازِ اللهِ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مُشْرِكًا جَاءَ يَلْتَمِسُ مِنْ عُمَرَ مَالًا فَلَمْ يُعْطِهِ وَقَالَ: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (18: 29) وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ؛ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ كُلَّ مُشْرِكٍ يُعْطَى لِتَأْلِيفِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَا يَطْلُبَانِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَرْضًا، فَكَتَبَ لَهُمَا خَطًّا بِذَلِكَ، فَمَزَّقَهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمُوهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَأْلِيفًا لَكُمْ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ وَأُغْنِيَ عَنْكُمْ، فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفُ، فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ؟ بَذَلْتَ لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ - فَقَالَ هُوَ إِنْ شَاءَ. فَقَدْ وَافَقَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَقْتَضِي سُقُوطَ هَذَا السَّهْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ اسْتِمْرَارُ هَذَا التَّأْلِيفِ لِهَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ الطَّامِعَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا، بَعْدَ الْأَمْنِ مِنْ ضَرَرِ ارْتِدَادِهِمَا لَوِ ارْتَدَّا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَقْوَامِهِمَا حَتَّى إِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِمَا - لَوِ ارْتَدَّا - أَدْنَى فِتْنَةٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا أَعْطَيَا أَحَدًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ السَّهْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ سَلْبِيٌّ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقُصَارَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْخَلِيفَتَيْنِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُمَا حَاجَةٌ إِلَى تَأْلِيفِ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِذَلِكَ. وَهُوَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمَا.

وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، فَدَعْوَاهُ مَمْنُوعَةٌ. لَا الْإِجْمَاعُ بِثَابِتٍ بِمَا ذُكِرَ، وَلَا كَوْنُهُ حُجَّةً عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَحِيحًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا. وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ التَّأْلِيفِ الْعِتْرَةُ وَالْجُبَّائِيُّ وَالْبَلْخِيُّ وَابْنُ بِشْرٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَتَأَلَّفُ كَافِرًا، فَأَمَّا الْفَاسِقُ فَيُعْطَى مِنْ سَهْمِ التَّأْلِيفِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ سَقَطَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِامْتِنَاعِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ إِعْطَاءِ أَبِي سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَالظَّاهِرُ جَوَازُ التَّأْلِيفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ قُوَّةٌ لَا يُطِيعُونَهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِدْخَالِهِمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ بِالْقَسْرِ وَالْغَلَبِ، فَلَهُ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَلَا يَكُونُ لِفُشُوِّ الْإِسْلَامِ تَأْثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعْ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ اهـ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الِاجْتِهَادُ فِي تَفْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمِقْدَارُ الَّذِي يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ وَمِنَ الْغَنَائِمِ إِنْ وُجِدَتْ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ الْأَخْذُ بِرَأْيِ أَهْلِ الشُّورَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ عَنْ إِدْخَالِ الْإِمَامِ إِيَّاهُمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ بِالْغَلَبِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ، بَلِ الْأَصْلُ فِيهِ تَرْجِيحُ الضَّرَرَيْنِ وَخَيْرِ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: وَلِلصَّرْفِ فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ مِنَ الْأَرِقَّاءِ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الرِّقِّ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْإِصْلَاحِ الْبَشَرِيِّ الْمَقْصُودِ مِنْ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ لِشِرَاءِ الْعَبِيدِ مِنْ قِنٍّ وَمُبَعَّضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِعْتَاقِهِمْ. وَالْمُخْتَارُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ. قَالَ فِي مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَارِدِ فِي هَذَا الصِّنْفِ: وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَكَاتِبَ وَغَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْتَقَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبْعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " أَعْتَقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: " لَا، عِتْقُ الرَّقَبَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ بِثَمَنِهَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ثَلَاثَةٌ، كُلٌّ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُ. الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمَكَاتِبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الْمُتَعَفِّفُ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ اهـ. وَيَعْنِي بِالْخَمْسَةِ: الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابَ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةَ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ:

قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْعِتْرَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ مِنَ الزَّكَاةِ عَلَى الْكِتَابَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا تُشْتَرَى رِقَابٌ لِتُعْتَقَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا لَوِ اخْتَصَّتْ بِالْمُكَاتَبِ لَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَبِأَنَّ شِرَاءَ الرَّقَبَةِ لِتُعْتَقَ أَوْلَى مِنْ إِعَانَةِ الْمَكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَانُ وَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمَكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَكَّ الرِّقَابِ غَيْرُ عِتْقِهَا، وَعَلَى أَنَّ الْعِتْقَ وَإِعَانَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْمُبْعِدَةِ مِنَ النَّارِ اهـ. وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْغَارِمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ صُرِفَ لِأَشْخَاصٍ مَوْصُوفِينَ، لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ: وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: وَلِلْغَارِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ غَرَامَةٌ مِنَ الْمَالِ بِدُيُونٍ رَكِبَتْهُمْ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ تَكُونَ الدُّيُونُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، إِلَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْغَارِمَ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَسَفَاهَةٍ إِلَّا إِذَا رَشَدَ فَكَانَتْ مُسَاعَدَتُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ عَوْنًا لَهُ عَلَى رُشْدِهِ، وَكَذَا الْغَارِمُونَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ اقْتَضَتْ غَرَامَةً فِي دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَامَ أَحَدُهُمْ فَتَبَرَّعَ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ وَالْقِيَامِ بِهِ حَتَّى تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْفِتْنَةُ الثَّائِرَةُ، وَكَانُوا إِذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمُ الْتَزَمَ غَرَامَةً أَوْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً بَادَرُوا إِلَى مَعُونَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ سُؤَالَ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى ذَلِكَ فَخْرًا، لَا ضَعَةً وَذُلًّا. عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: " أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا - ثُمَّ قَالَ - يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ - سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ - سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي سَبِيلِ اللهِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ صُرِفَ

فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لَا لِأَشْخَاصٍ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وَسَبِيلُ اللهِ: الطَّرِيقُ الِاعْتِقَادِيُّ الْعَمَلِيُّ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَلِكَثْرَةِ اقْتِرَانِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ الدِّينِيِّ فِي الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ الْغُزَاةَ وَالْمُرَابِطِينَ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَذَا الصِّنْفِ مِنْ مُسْتَحِقِّي الصَّدَقَاتِ، إِمَّا وَحْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِمَّا مَعَ غَيْرِهِمْ مِمَّا يَشْمَلُهُ عُمُومُ الْإِضَافَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، عَلَى بَحْثٍ فِي تَخْصِيصِهِ سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالضَّرْبِ (أَيِ السَّفَرِ) فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمَخْمَصَةِ (أَيِ الْمَجَاعَةِ) فِي سَبِيلِ اللهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَصْحَابِ هَذَا السَّهْمِ هُنَا: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُمَا جَعَلَا الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ. وَفِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ - مِنْ أَشْهَرِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ - فِي عَدِّ الْأَصْنَافِ مَا نَصُّهُ: (السَّابِعُ) فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ، وَلَا يُعْطَى مِنْهَا فِي الْحَجِّ، وَعَنْهُ (أَيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) يُعْطَى الْفَقِيرُ قَدْرَ مَا يَحُجُّ بِهِ الْفَرْضَ أَوْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِيهِ اهـ. وَقَدْ ضَعَّفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْفَقِيرَ إِنَّمَا يُعْطَى لِفَقْرِهِ مَا يَسُدُّ بِهِ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ مَنْ يَمُونُهُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَالْحَجُّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ سَهْمَ سَبِيلِ اللهِ لِلْغُزَاةِ غَيْرِ الْمُرَتَّبينَ فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَغْنِيَاءَ أَمْ فُقَرَاءَ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ ": وَيُعْطَى فِي سَبِيلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ مَنْ غَزَا مِنْ جِيرَانِ الصَّدَقَةِ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا، وَلَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ فَيُعْطَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ اهـ. وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ جِيرَانَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أُرِيدَ بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُنْقَطِعُو الْغُزَاةِ وَالْحَجِيجِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْبَدَائِعِ بِجَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ سَعْيٍ فِي طَاعَةِ اللهِ وَسُبُلِ الْخَيْرَاتِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَيْدَ الْفَقْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا، فَحِينَئِذٍ لَا تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ بِهَذَا الْقَيْدِ أَبْطَلَ كَوْنَ سَبِيلِ اللهِ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا إِذَا أَرْجَعَهُ إِلَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ: وَفِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللهِ هُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللهِ (هَكَذَا) إِنَّ مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهُ الْحَجُّ. وَالَّذِي يَصِحُّ

عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ فَأُعْطِي مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يَحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ، وَيَخْرِمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ، وَمَا جَاءَ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُعْطَى مِنْهَا الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ. قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ. وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَلَا نَسْخَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَقَدْ بَيَّنَا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي الْخُمُسِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبَى فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْفَقْرَ، وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ مِنَ الْخُمُسِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَتَمَةَ إِطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ اهـ. وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْغَزْوِ بَدَلَ الْغُزَاةِ، وَمِنَ الصَّرْفِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ إِلَخْ هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ مِنْ كَوْنِ هَذَا السَّهْمِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَا لِأَشْخَاصِ الْغُزَاةِ. وَقَالَ السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق فِي فَتْحِ الْبَيَانِ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّينَ - بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُرَابِطُونَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ إِنِ اللَّفْظَ عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْجُسُورِ وَالْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ عَلَيْهِ اهـ. وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ: وَمِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللهِ الصَّرْفُ فِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّ لَهُمْ فِي مَالِ اللهِ نَصِيبًا سَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ. بَلِ الصَّرْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَمَلَةُ الدِّينِ وَبِهِمْ تُحْفَظُ بَيْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَشَرِيعَةُ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ يَأْخُذُونَ مِنَ الْعَطَاءِ مَا يَقُومُ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ يَتَفَوَّضُونَ بِهَا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَالْأَمْرُ

فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ تُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الزَّكَاةُ. وَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ يُعْطَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ: " مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ " كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ اهـ. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ ابْنُ السَّعْدِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ عُمَالَةٌ كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَجَّحَ آخَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْغَنَائِمِ، وَفِيهِ: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: " خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ". قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَسِّمُهَا الْإِمَامُ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ، وَلَكِنْ مِنَ الْحُقُوقِ، فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِمَعْنًى غَيْرِ الْفَقْرِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: " خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّدَقَاتِ. " وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: " فَخُذْهُ " بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ، فَقِيلَ: هُوَ نَدْبٌ لِكُلِّ مَنْ أُعْطِيَ عَطِيَّةً أَبَى قَبُولَهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، يَعْنِي بِالشَّرْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي السُّنَنِ " إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ ذَا سُلْطَانٍ " وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَحْرُمُ قَبُولُ الْعَطِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْعَطِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، أَوِ الْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَرَعِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَصَرُّفِ السَّلَفِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَلَالًا فَلَا تُرَدُّ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَرَامًا فَتَحْرُمُ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ شُكَّ فِيهِ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ وَهُوَ الْوَرَعُ، وَمَنْ أَبَاحَهُ أَخَذَ بِالْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْيَهُودِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ (5: 42) وَقَدْ رَهَنَ الشَّارِعُ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ إِذَا رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَأَنَّ رَدَّ عَطِيَّةِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَا سِيَّمَا مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (59: 7) الْآيَةَ اهـ.

(أَقُولُ) : إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ أَبَاحَ أَخْذَ مَالِ السَّلَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ حَرَامًا، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي هَذَا السَّهْمِ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا مِنْهَا بِأَحَادِيثَ (مِنْهَا) رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى لِغَنِيٍّ مِنْهَا وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي دَاوُدَ. وَإِسْنَادُ مَنْ أَسْنَدَهُ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ مَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. (وَمِنْهَا) مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: حَمَلَنَا رَسُولُ اللهِ عَلَى إِبِلٍ مِنَ الصَّدَقَةِ إِلَى الْحَجِّ - وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بِكْرًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبِكْرَ فَأَبَى، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ، وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ: لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجَّتِهِ جِئْتُهُ فَقَالَ: " يَا أَمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي "؟ قَالَتْ: لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي يَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقَالَ: " فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ "؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، لَا لِلْخِلَافِ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ هُنَا، وَمَنْ وَثَّقَهُ يَرُدُّونَ مَا عَنْعَنَ فِيهِ لِتَدْلِيسِهِ. وَأَقُولُ: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى - أَوَّلًا - أَنَّ جَعْلَ أَبِي مَعْقِلٍ جَمَلَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ وَصِيَّتَهُ بِهِ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، وَهِيَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تُصْرَفَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الَّتِي قَصَرَتْهَا عَلَيْهَا الْآيَةُ - وَثَانِيًا - أَنَّ حَجَّ امْرَأَتِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ تَمْلِيكًا لَهَا يُخْرِجُ الْجَمَلَ عَنْ إِبْقَائِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ. وَيُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي لَاسٍ - ثَالِثًا - أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ لِلَّفْظِ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فِي الْآيَةِ. وَيَأْتِي هَاهُنَا تَحْرِيرُ الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ: أَمَّا عُمُومُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ أُرِيدَ بِهِ مَرْضَاةُ اللهِ تَعَالَى، بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَحُسْنِ 6عِبَادَتِهِ، وَمَنْفَعَةِ

عِبَادِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْجَهْلُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَهَذَا الْعُمُومُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا مِنَ الْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَمَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُنَاطَ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ دَوْلِيَّةٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ طَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى فَيُرَاعَى هَذَا فِي الْحُقُوقِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، اقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَمُتَصَدِّقٍ وَتَالٍ لِلْقُرْآنِ وَذَاكِرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُمِيطٍ لِلْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مُسْتَحِقًّا بِعَمَلِهِ هَذَا لِلزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَإِرَادَتُهُ تُنَافِي حَصْرَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَاتِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا حَدَّ لِجَمَاعَاتِهِ فَضْلًا عَنْ أَفْرَادِهِ، وَإِذَا وُكِّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ تَصَرُّفًا تَذْهَبُ بِهِ حِكْمَةُ فَرْضِيَّةِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَصْلِهَا. (فَإِنْ قِيلَ) نُخَصِّصُ الْعُمُومَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ - وَقَالَ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ - وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَاحَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا (قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا لَيْسَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ " سَبِيلِ اللهِ ". وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ سَبِيلَ اللهِ هُنَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ حَجَّ الْأَفْرَادِ لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْفَرَائِضِ الْعَيْنِيَّةِ بِشَرْطِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، لَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ وَإِقَامَةَ الْأُمَّةِ لَهَا مِنْهَا، فَيَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْ هَذَا السَّهْمِ عَلَى تَأْمِينِ طُرُقِ الْحَجِّ وَتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَالْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الصِّحَّةِ لِلْحُجَّاجِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِذَلِكَ مَصْرَفٌ آخَرُ. وَاِبْنِ السَّبِيلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ بَلَدِهِ فِي سَفَرٍ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ، فَقِيرٌ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى لِفَقْرِهِ الْعَارِضِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالسِّيَاحَةِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُهُ فِي دِينٍ وَلَا شَرْعٍ آخَرَ - وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ فِي طَاعَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتَّنَزُّهِ لَا الِاسْتِشْفَاءِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَامَّةِ كَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَعَدَمِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ فِي السَّفَرِ كَوْنُهُ بِقَصْدِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْأَصْلَيْنِ 13 و14 مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص77 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَقَلَّمَا يُوجَدُ غَنِيٌّ يُسَافِرُ فِي أَمْصَارِ الْحَضَارَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ الْمَالِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ.

فَرِيضَةً مِنَ اللهِ أَيْ: فَرَضَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ فَرِيضَةٌ مِنْهُ تَعَالَى فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ، أَوْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ حَالَ كَوْنِهَا مَفْرُوضَةً لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِحَالِ عِبَادِهِ وَمَصَالِحِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ، فَهُوَ لِتَطْهِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، بِمَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالشُّكْرِ لَهُ، وَإِرْضَائِهِ بِنَفْعِ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى نُفَاةِ الْمَصَالِحِ فِي أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ. هَذَا مَا فُتِحَ عَلَيْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَنُعَزِّزُهُ بِمَبَاحِثَ فِي نَظْمِهَا وَأَحْكَامِهَا وَحِكَمِهَا وَمَدَارِكِ الْأَئِمَّةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ وَحَالَةُ هَذَا الْعَصْرِ فِيهَا فَنَقُولُ: (1) مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ قِسْمَانِ: أَشْخَاصٌ وَمَصَالِحُ: عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ قِسْمَانِ (أَحَدُهُمَا) أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ يَمْلِكُونَهَا تَمْلِيكًا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلتَّمْلِيكِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَامِ الْمِلْكِ. (وَثَانِيهِمَا) مَصَالِحُ عَامَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَدَوْلِيَّةٌ لَا يُقْصَدُ بِهَا أَشْخَاصٌ يَمْلِكُونَهَا بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِـ " فِي " الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ وَقَوْلُهُ: وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَالْأَوَّلُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَسْتَحِقُّونَهَا بِفَقْرِهِمْ مَا دَامُوا فُقَرَاءَ - وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ الْحَاجَةُ إِلَى تَأْلِيفِهِ، وَالْغَارِمُونَ بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ غُرْمِهِمْ، وَابْنُ السَّبِيلِ بِقَدْرِ مَا يُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فَقْرُهُ عَارِضًا بِسَبَبِ السِّيَاحَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَكُّ الرِّقَابِ وَتَحْرِيرُهَا، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَمْلِيكٌ لِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ بِوَصْفٍ فِيهَا - وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ يَشْمَلُ سَائِرَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالتَّقْدِيمِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَرْبِ بِشِرَاءِ السِّلَاحِ، وَأَغْذِيَةِ الْجُنْدِ، وَأَدَوَاتٍ لِنَقْلِ وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُجَهَّزُ بِهِ الْغَازِيَ يَعُودُ بَعْدَ الْحَرْبِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى كَالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ دَائِمًا بِصِفَةِ الْغَزْوِ الَّتِي قَامَتْ بِهِ، بَلْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْعَامِلِ عَلَيْهَا وَالْغَارِمِ وَالْمُؤَلَّفِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ مَا أَخَذُوا بَعْدَ فَقْدِ الصِّفَةِ الَّتِي أَخَذُوهُ بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ إِنْشَاءُ الْمُسْتَشْفَيَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَكَذَا الْخَيْرِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَإِشْرَاعُ الطُّرُقِ وَتَعْبِيدُهَا، وَمَدُّ الْخُطُوطِ الْحَدِيدِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا التِّجَارِيَّةِ، وَمِنْهَا بِنَاءُ الْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَالْمَنَاطِيدِ وَالطَّيَّارَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ. وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا إِعْدَادُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِرْسَالُهُمْ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ مِنْ قِبَلِ جَمْعِيَّاتٍ مُنَظَّمَةٍ تَمُدُّهُمْ بِالْمَالِ الْكَافِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي نَشْرِ دِينِهِمْ، وَقَدْ

بَيَّنَّا تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (3: 104) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَدَارِسِ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْطَى مِنْهَا مُعَلِّمُو هَذِهِ الْمَدَارِسِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ وَظَائِفَهُمُ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي يَنْقَطِعُونَ بِهَا عَنْ كَسْبٍ آخَرَ، وَلَا يُعْطَى عَالِمٌ غَنِيٌّ لِأَجْلِ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ النَّاسَ بِهِ. وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْأَحَقِّ فَالْأَحَقِّ لِلصَّدَقَاتِ، عَلَى الْقَاعِدَةِ الْغَالِبَةِ عِنْدَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فِي مَعْطُوفَاتِهَا، فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذِهِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " وَيَلِيهِمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ يُعْطَى عُمْلَتَهُ مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ رَوَاتِبُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْهُ، وَيَلِيهِمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الْغَنَائِمِ أَيْضًا، فَالْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ عَارِضَةٌ لَا كَالْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَيَلِيهِمْ مَصْلَحَةُ فَكِّ الرِّقَابِ وَالْعِتْقِ وَهِيَ الْمَصَالِحُ مِنَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكَمَالِيَّةِ لَا الضَّرُورِيَّةِ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا لَا يُرْهِقُ مَعُوزًا كَالْفَقِيرِ، وَلَا يُضَيِّعُ مَصْلَحَةً تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَيَلِيهَا مُسَاعَدَةُ الْغَارِمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ غُرْمِهِ، فَهُوَ دُونَ مُسَاعَدَةِ الرَّقِيقِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ رِقِّهِ، وَيَلِيهِمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَبِيلِ اللهِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَاصِّ مِمَّا قَبْلَهَا الَّذِي تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ دُونَ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ. وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّرْتِيبِ لَذُكِرَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنَ الْأَفْرَادِ بِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنْهَا أَلْقَابُهُمْ نَسَقًا (وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِيلِ) ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُمُ الْمَصَالِحُ الَّتِي أُدْخِلَ عَلَيْهَا " فِي " وَهِيَ الرِّقَابُ وَسَبِيلُ اللهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ يَحْجُبُ مَا دُونَهُ حَجْبَ حِرْمَانٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَتَرْتِيبِ الْوَارِثِينَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُهُ فِي حَالِ قِلَّةِ الْمَالِ، فَالْمُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَلَكِنْ بَعْدَ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوهَا، وَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قِسْمَتِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ. هَذَا مَا نَفْهُمُهُ مِنَ الْآيَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَلَكِنَّنَا بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا مَا فَهِمْنَاهُ، رَاجَعْنَا الْكَشَّافَ الَّذِي

يُعْنَى بِهَذِهِ النُّكَتِ الدَّقِيقَةِ، فَرَأَيْنَا لَهُ رَأْيًا آخَرَ فِي نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمِ الْأَصْنَافِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ يُخَالِفُ رَأْيَنَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) لِمَ عَدَلَ عَنِ " اللَّامِ " إِلَى " فِي " فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ؟ (قُلْتُ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ " فِي " لِلْوِعَاءِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقَاتُ، وَيُجْعَلُوا مَظِنَّةً لَهَا وَمَصَبًّا. وَذَلِكَ لِمَا فِي فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْكِتَابَةِ أَوِ الرِّقِّ وَالْأَسْرِ، وَفِي فَكِّ الْغَارِمِينَ مِنَ الْغُرْمِ، مِنَ التَّخْلِيصِ وَالْإِنْقَاذِ، وَلِجَمْعِ الْغَازِي الْفَقِيرِ، أَوِ الْمُنْقَطِعِ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جَامِعٌ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَتَكْرِيرُ " فِي " فِي قَوْلِهِ: وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي (الِانْتِصَافِ) نُكْتَةً أُخْرَى هِيَ أَقْرَبُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ قَالَ: وَثَمَّ سِرٌّ آخَرُ هُوَ أَظْهَرُ وَأَقْرَبُ، ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْأَوَائِلَ مُلَّاكٌ لِمَا عَسَاهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ مِلْكًا، فَكَانَ دُخُولُ " اللَّامِ " لَائِقًا بِهِمْ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْأَوَاخِرُ فَلَا يَمْلِكُونَ مَا يُصْرَفُ نَحْوَهُمْ، بَلْ وَلَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ وَلَكِنْ فِي مَصَالِحَ تَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَالْمَالُ الَّذِي يُصْرَفُ فِي الرِّقَابِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ السَّادَةُ الْمُكَاتِبُونَ وَالْبَائِعُونَ، فَلَيْسَ نَصِيبُهُمْ مَصْرُوفًا إِلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّامِ الْمُشْعِرَةِ بِتَمَلُّكِهِمْ لِمَا يُصْرَفُ نَحْوَهُمْ، وَإِنَّمَا هُمْ مَحَالٌّ لِهَذَا الصَّرْفِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْغَارِمُونَ إِنَّمَا يُصْرَفُ نَصِيبُهُمْ لِأَرْبَابِ دُيُونِهِمْ تَخْلِيصًا لِذِمَمِهِمْ لَا لَهُمْ. وَأَمَّا سَبِيلُ اللهِ فَوَاضِحٌ فِيهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَكَأَنَّهُ كَانَ مُنْدَرِجًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ مُجَرَّدٌ مِنَ الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا، وَعَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ عَلَى الْقَرِيبِ مِنْهُ أَقْرَبُ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ جَدِّي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ الْفَقِيهُ الْوَزِيرُ اسْتَنْبَطَ مِنْ تَغَايُرِ الْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَجْهًا فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ الْمَصْرَفِ، " وَاللَّامُ لِذَلِكَ لَامُ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ الْوَاقِعِ خَبَرًا عَنِ الصَّدَقَاتِ مَحْذُوفٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُهُ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ مَصْرُوفَةٌ لِلْفُقَرَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، أَوْ مَمْلُوكَةٌ لِلْفُقَرَاءِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا يَصِحُّ تَعَلُّقُ اللَّامِ بِهِ وَفِي مَعًا فَيَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: هَذَا الشَّيْءُ مَصْرُوفٌ فِي كَذَا، وَلِكَذَا بِخِلَافِ تَقْدِيرِهِ مَمْلُوكةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ اللَّامِ وَعِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى " فِي " يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَصْرُوفَةٌ لِيَلْتَئِمَ بِهَا، فَتَقْدِيرُهُ مِنَ اللَّامِ عَامُّ التَّعَلُّقِ شَامِلُ الصِّحَّةِ مُتَعَيَّنٌ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ يُوَافِقُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ سَهْمَ الْغَارِمِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَمَا قُلْنَاهُ فِيهِمْ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطَى كُلُّ مَا يَأْخُذُونَهُ لِأَرْبَابِ دُيُونِهِمْ

وَلَا سِيَّمَا الْغَارِمِينَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَمَا يُعْطَوْنَهُ مُسَاعَدَةٌ عَلَى مَا يُعْطُونَ غَيْرَهُمْ أَوْ تَعْوِيضٌ عَمَّا أَعْطَوْا، وَأَجَازَ الْوَجْهَيْنِ فِي ابْنِ السَّبِيلِ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْلِكُونَ سَهْمَهُمْ. (2) أَنْوَاعُ الصَّدَقَاتِ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مِنْهَا: ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أَنْوَاعَ الصَّدَقَاتِ: زَكَاةُ النَّقْدَيْنِ، وَزَكَاةُ الْأَنْعَامِ، وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ، وَزَكَاةُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْكُنُوزِ الْمَدْفُونَةِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا نِصَابٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَهُ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ، وَلَعَلَّنَا نَذْكُرُهُ فِي تَفْسِيرِ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (103) وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَطْعِيٌّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِيهَا رِوَايَاتٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا مَعَ الِاعْتِبَارِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى النُّصُوصِ، وَهُوَ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ لِلِاسْتِغْلَالِ نُقُودٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانُهَا إِلَّا فِي كَوْنِ النِّصَابِ يُقْلَبُ وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَهُوَ النَّقْدُ، وَالْمُثَمَّنُ وَهُوَ الْعُرُوضُ، فَلَوْ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي التِّجَارَةِ لَأَمْكَنَ لِجَمِيعِ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنْ يَتَّجِرُوا بِنُقُودِهِمْ، وَيَتَحَرَّوْا أَلَّا يَحُولَ عَلَى نِصَابٍ مِنَ النَّقْدَيْنِ أَبَدًا. وَبِذَلِكَ تَبْطُلُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ. وَرَأْسُ الِاعْتِبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ صَدَقَةً لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، وَإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا. وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذَلِكَ لِلْأَغْنِيَاءِ تَطْهِيرُ أَنْفُسِهِمْ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَتَزْكِيَتُهَا بِفَضَائِلِ الرَّحْمَةِ بِالْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمُسَاعَدَةُ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ فِي إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْأُخْرَى الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْفَائِدَةَ لِلْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ إِعَانَتُهُمْ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ - مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَدِّ ذَرِيعَةِ الْمَفَاسِدِ فِي تَضَخُّمِ الْأَمْوَالِ وَحَصْرِهَا فِي أُنَاسٍ مَعْدُودِينَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكْمَةِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (59: 7) فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّهَا التُّجَّارُ الَّذِينَ رُبَّمَا تَكُونُ مُعْظَمُ ثَرْوَةِ الْأُمَّةِ فِي أَيْدِيهِمْ؟ وَسَنَذْكُرُ سَائِرَ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ وَمَنَافِعِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (103) إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. (3) تَوْزِيعُ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي بَحْثِ مَنْ تَجِبُ لَهُ الصَّدَقَةُ مِنْ كِتَابِهِ (بِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ) مَا نَصُّهُ: فَأَمَّا عَدَدُهُمْ فَهُمُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ نُصَّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْآيَةَ. وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْعَدَدِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ جَمِيعُ الصَّدَقَةِ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ؟ أَمْ هُمْ شُرَكَاءُ فِي الصَّدَقَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهَا صِنْفٌ

دُونَ صِنْفٍ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ إِذَا رَأَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ يُقَسَّمُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ كَمَا سَمَّى اللهُ تَعَالَى. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يُؤْثِرَ بِهَا أَهْلَ الْحَاجَةِ، إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا سَدَّ الْخَلَّةِ، فَكَانَ تَعْدِيدُهُمْ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا وَرَدَ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ - أَعْنِي أَهْلَ الصَّدَقَاتِ - لَا تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ. فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّ اللهَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَحْكُمَ نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَطَالَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ تَعْمِيمِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْأَصْنَافِ فِي كِتَابِهِ " الْأُمُّ " فِي فُصُولٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّوَوِيُّ الْمَذْهَبَ فِيهَا وَالْقَائِلِينَ بِالتَّعْمِيمِ وَالْمُخَالِفِينَ فِيهِ مِنَ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. قَالَ: " قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللهُ. إِنْ كَانَ مُفَرِّقُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَامِلِ، وَوَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ الْبَاقِينَ إِنْ وُجِدُوا وَإِلَّا فَالْمَوْجُودُ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صِنْفٍ مِنْهُمْ مَعَ وُجُودِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ ضَمِنَ نَصِيبَهُ، وَهَذَا لِاخْتِلَافٍ فِيهِ إِلَّا مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَبِمَذْهَبِنَا فِي اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ وَدَاوُدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَهُ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَهُ صَرْفُهَا إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ قَالَ مَالِكٌ وَيَصْرِفُهَا إِلَى أَمَسِّهِمْ حَاجَةً، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً جَازَ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَإِلَّا وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ. قَالُوا وَمَعْنَاهَا (أَيْ آيَةِ الصَّدَقَاتِ) لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ فِيهِمْ مُخَيَّرًا اهـ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهِ. أَقُولُ: إِنَّ خِلَافَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ فِيهَا سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنْ عَهْدِ الرَّسُولِ، وَلَا مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهَا مِنَ الْمَصَالِحِ

الَّتِي يَتَرَجَّحُ فِيهَا الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ أُولُو الْأَمْرِ فِي دَرَجَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَقْرَبُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا جِدًّا إِذَا أَعْطَاهَا وَاحِدًا انْتَفَعَ بِهِ، وَإِذَا وَزَّعَهُ عَلَى مَنْ يُوجَدُ مِنَ الْأَصْنَافِ أَوْ عَلَى أَفْرَادِ صِنْفٍ وَاحِدٍ كَالْفُقَرَاءِ لَمْ يُصِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ مَالُهُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ. وَأَمَّا جَوَازُ إِعْطَاءِ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَصْنَافًا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا مَنْ دُونَهُ عِلْمًا وَفَهْمًا. إِنَّ إِعْطَاءَ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ يُعَدُّ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ وَعَمَلًا بِكِتَابِهِ. وَيَنْبَغِي لِجَمَاعَةِ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يَضَعُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقُطْرٍ نِظَامًا لِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ إِذَا لَمْ تَكْفِ الصَّدَقَاتُ الْجَمِيعَ؛ لِيَمْنَعُوا السَّلَاطِينَ وَالْأُمَرَاءَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِأَهْوَائِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَصْنَافِ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْحَاجِيَّةِ تَخْتَلِفُ. (4) الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُعَيَّنَةُ وَمَكَانَتُهَا فِي الدِّينِ، وَحُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ أَوِ الذَّبْذَبَةِ فِيهَا: فُرِضَتِ الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَتُرِكَ أَمْرُ مِقْدَارِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى شُعُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَرْيَحِيَّتِهِمْ، ثُمَّ فُرِضَ مِقْدَارُهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي الْأُولَى: ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2: 271) وَقَدْ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمُعَاذٍ: " تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " وَتَقَدَّمَ. ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْمَصَارِفُ السَّبْعُ أَوِ الثَّمَانِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَالْحِكْمَةُ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَقَادِيرِ، وَقِيَامَ أُولِي الْأَمْرِ بِتَحْصِيلِهَا وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَنْ فُرِضَتْ لَهُمْ، وَتَعَدُّدِ أَصْنَافِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا وُجِدَ بِوُجُودِ حُكُومَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ تُنَاطُ بِهَا مَصَالِحُ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا فِي دَارٍ تُسَمَّى دَارَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُنَفَّذُ فِيهَا بِسُلْطَانِهِ، وَكَانَتْ دَارُ الْهِجْرَةِ إِذْ كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ لَا يُنَفَّذُ فِيهَا لِلْإِسْلَامِ حُكْمٌ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ فِيهَا حُرِّيَّةُ الْجَهْرِ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بِحِمَايَةِ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي تُؤَدَّى لَهُ صَدَقَاتُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِجَمْعِهَا وَصَرْفِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ أَدَائِهَا إِلَيْهِ كَمَا فَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَضِيَ عَنْهُ فِيمَنْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ مِنَ الْعَرَبِ وَقَالَ: " وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ

مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَالزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ - وَأَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اشْتِرَاطُ أَدَائِهَا فِي قَبُولِ إِسْلَامِ الْكُفَّارِ وَعَدِّهِمْ إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَايِعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَائِهَا، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ جَاحِدِهَا وَمُسْتَحِلِّ تَرْكِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَكَانَةَ الزَّكَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتَهَا عَلَى صِدْقِ الْإِيمَانِ وَضَلَالِ تَارِكِيهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُكُومَاتٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُقِيمُ الْإِسْلَامَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَالْجِهَادِ الَّذِي يُوجِبُهُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا، وَتُقِيمُ حُدُودَهُ، وَتَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةَ كَمَا فَرَضَهَا، وَتَضَعُهَا فِي مَصَارِفِهَا الَّتِي حَدَّدَهَا، بَلْ سَقَطَ أَكْثَرُهُمْ تَحْتَ سُلْطَةِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ، وَبَعْضُهُمْ تَحْتَ سُلْطَةِ حُكُومَاتٍ مُرْتَدَّةٍ أَوْ مُلْحِدَةٍ، وَلِبَعْضِ الْخَاضِعِينَ لِدُوَلِ الْإِفْرِنْجِ رُؤَسَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ اتَّخَذَهُمُ الْإِفْرِنْجُ آلَاتٍ لِإِخْضَاعِ الشُّعُوبِ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ حَتَّى فِيمَا يَهْدِمُونَ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَيَتَصَرَّفُونَ بِنُفُوذِهِمْ وَأَمْرِهِمْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ فِيمَا لَهُ صِفَةٌ دِينِيَّةٌ مِنْ صَدَقَاتِ الزَّكَاةِ وَالْأَوْقَاتِ وَغَيْرِهَا، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْحُكُومَاتِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنَ الزَّكَاةِ لَهَا مَهْمَا يَكُنْ لَقَبُ رَئِيسِهَا وَدِينُهُ الرَّسْمِيُّ. وَأَمَّا بَقَايَا الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي يَدِينُ أَئِمَّتُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا بِالْإِسْلَامِ، وَلَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لِلْأَجَانِبِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَهِيَ الَّتِي يَجِبُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ لِأَئِمَّتِهَا، وَكَذَا الْبَاطِنَةُ كَالنَّقْدَيْنِ إِذَا طَلَبُوهَا، وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِمْ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ مَنْ أَدَّاهَا إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَضَعُوهَا فِي مَصَارِفِهَا الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ بِالْعَدْلِ. وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْإِمَامَ السُّلْطَانَ إِذَا كَانَ جَائِرًا لَا يَضَعُ الصَّدَقَاتِ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ، فَالْأَفْضَلُ لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا بِنَفْسِهِ، إِذَا لَمْ يَطْلُبْهَا الْإِمَامُ أَوِ الْعَامِلُ مِنْ قِبَلِهِ. (5) لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلْمُرْتَدِّينَ، وَلَا لِلْمَلَاحِدَةِ وَالْإِبَاحِيِّينَ: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْإِلْحَادُ وَالزَّنْدَقَةُ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي أَفْسَدَ التَّفَرْنُجُ تَرْبِيَتَهَا الْإِسْلَامِيَّةَ وَتَعْلِيمَ مَدَارِسِهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ دُونَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ.

وَالْمَلَاحِدَةُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ أَصْنَافٌ (مِنْهُمْ) مَنْ يُجَاهِرُ بِالْكُفْرِ بِاللهِ إِمَّا بِالتَّعْطِيلِ وَإِنْكَارِ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَإِمَّا بِالشِّرْكِ بِعِبَادَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَاهِرُ بِإِنْكَارِ الْوَحْيِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ، أَوْ بِالطَّعْنِ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِلُّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُصَلِّي وَلَا يُزَكِّي وَلَا يَصُومُ وَلَا يَحُجُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا اعْتِدَادَ بِإِسْلَامِهِمُ الْجُغْرَافِيِّ، فَلَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي أَنْ يَتَحَرَّى بِزَكَاتِهِ مَنْ يَثِقُ بِصِحَّةِ عَقِيدَتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ فِي الدِّينِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ عَدَمُ اقْتِرَافِ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يُذْنِبُ وَلَكِنَّهُ يَتُوبُ. وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ وَلَا بِبِدْعَةٍ عَمَلِيَّةٍ أَوِ اعْتِقَادِيَّةٍ هُوَ فِيهَا مُتَأَوِّلٌ لَا جَاحِدٌ لِلنَّصِّ. وَأَنَّ الْفَرْقَ عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْمُذْعِنِ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا أَذْنَبَ، وَالْمُسْتَحِلِّ لِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَاقْتِرَافِ الْفَوَاحِشِ فَهُوَ يُصِرُّ عَلَيْهِمَا بِدُونِ شُعُورٍ مَا بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنَ اللهِ بِشَيْءٍ، وَلَا بِأَنَّهُ قَدْ عَصَاهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ. وَلَا يَنْبَغِي إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِمَنْ يَشُكِّكُ الْمُسْلِمَ فِي إِسْلَامِهِ. وَمَا أَدْرِي مَا يَقُولُ فِيمَنْ يَرَاهُمْ بِعَيْنِهِ فِي الْمَقَاهِي وَالْحَانَاتِ وَالْمَلَاهِي يُدَخِّنُونَ أَوْ يَسْكَرُونَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَتَّى فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَلْهَى تُجَاهَ مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْجُمُعَةِ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُذْنِبِينَ؟ أَمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْإِبَاحِيِّينَ؟ مَهْمَا يَكُنْ ظَنُّهُ فِيهِمْ فَلَا يُعْطِهِمْ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ شَيْئًا، بَلْ يَتَحَرَّى بِهَا مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَصَلَاحِهِ، إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَاسِقِ اسْتِصْلَاحًا لَهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. (6) الْتِزَامُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ: الْمَالُ قِوَامُ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمِلِّيَّةِ أَوْ مِلَاكُهَا وَقِيَامُ نِظَامِهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا (4: 5) إِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْتَازُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ فِيهِ، كَمَا يَعْتَرِفُ لَهُ بِهَذَا حُكَمَاءُ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَعُقَلَاؤُهَا، وَلَوْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الرُّكْنَ مِنْ دِينِهِمْ لَمَا وُجِدَ فِيهِمْ - بَعْدَ أَنْ كَثَّرَهُمُ اللهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ - فَقِيرٌ مُدْقِعٌ، وَلَا ذُو غُرْمٍ مُفْجِعٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الْفَرِيضَةَ فَجَنَوْا عَلَى دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ فَصَارُوا أَسْوَأَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ حَالًا فِي مَصَالِحِهِمُ الْمِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، حَتَّى فَقَدُوا مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ وَشَرَفَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَصَارُوا عَالَةً عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى حَتَّى فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ، فَهُمْ يَلْقَوْنَهُمْ فِي مَدَارِسِ دُعَاةٍ أَوْ دُعَاةِ الْإِلْحَادِ فَيُفْسِدُونَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَقْطَعُونَ رَوَابِطَهُمُ الْمِلِّيَّةَ وَالْجِنْسِيَّةَ، وَيُعِدُّونَهُمْ لِيَكُونُوا عَبِيدًا أَذِلَّةً لِلْأَجَانِبِ عَنْهُمْ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَاذَا لَا تُؤَسِّسُونَ لِأَنْفُسِكُمْ مَدَارِسَ

كَمَدَارِسِ هَؤُلَاءِ الرُّهْبَانِ وَالْمُبَشِّرِينَ؟ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ الْإِبَاحِيِّينَ؟ قَالُوا: إِنَّنَا لَا نَجِدُ مِنَ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْحَقُّ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مِنَ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْغَيْرَةِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُمْ يَرَوْنَ أَبْنَاءَ الْمِلَلِ الْأُخْرَى يَبْذُلُونَ لِلْمَدَارِسِ وَلِلْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مَالًا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَتْهُ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ وَغَيْرَتُهُمُ الْمِلِّيَّةُ وَالْقَوْمِيَّةُ وَلَا يَغَارُونَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا عَالَةً عَلَيْهِمْ. تَرَكُوا دِينَهُمْ، فَضَاعَتْ لَهُ دُنْيَاهُمْ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (59: 19) . فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِيهِمْ أَنْ يَبْدَءُوا بِإِصْلَاحِ مَنْ بَقِيَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرَفِ بِتَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ لِتَنْظِيمِ جَمْعِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ، وَصَرْفِهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَصَالِحِ الْمُرْتَبِطِينَ بِهَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِي نِظَامِ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ أَنَّ لِسَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَصْرَفًا فِي مُقَاوَمَةِ الرِّدَّةِ وَالْإِلْحَادِ، وَأَنَّ لِسَهْمِ فَكِّ الرِّقَابِ مَصْرَفًا فِي تَحْرِيرِ الشُّعُوبِ الْمُسْتَعْمَرَةِ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَصْرَفُ تَحْرِيرِ الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ لِسَهْمِ سَبِيلِ اللهِ مَصْرَفًا فِي السَّعْيِ لِإِعَادَةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ لِحِفْظِهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ مِنْ عُدْوَانِ الْكَفَّارِ، وَمَصْرَفًا آخَرَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْأَقْلَامِ، إِذَا تَعَذَّرَ الدِّفَاعُ عَنْهُ بِالسُّيُوفِ وَالْأَسِنَّةِ وَبِأَلْسِنَةِ النِّيرَانِ. أَلَا إِنَّ إِيتَاءَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لِلزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا بِالنِّظَامِ، كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ، بَلْ لِإِعَادَةِ مَا سَلَبَهُ الْأَجَانِبُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِقِّ الْكُفَّارِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بَذْلُ الْعُشْرِ أَوْ رُبْعِ الْعُشْرِ مِمَّا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْأَغْنِيَاءِ. وَإِنَّنَا نَرَى الشُّعُوبَ الَّتِي سَادَتِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا سَادَتَهُمْ يَبْذُلُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ أُمَّتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَدْ كَثُرَ تَسَاؤُلُ أَذْكِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِحْيَاءِ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ، وَقَوِيَ اسْتِعْدَادُ أَهْلِ الْغَيْرَةِ لِلْقِيَامِ بِهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَكَادَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ يَسْتَغِلُّونَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ لِمَنَافِعِهِمْ، فَهَلْ نَجِدُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مَنْ يَنْهَضُ بِهِ نَهْضَةً تَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَثِقُ بِهَا الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ وَيُعَزِّزُهَا، قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْأَعْدَاءُ طَرِيقَهَا؟ . طَالَمَا طَالَبْنَا الْعُقَلَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَمَا زِلْنَا نُسَوِّفُ انْتِظَارًا لِلْأَنْصَارِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَى صِفَتِهِمْ، وَقَدِ اضْطُرِرْنَا إِلَى التَّصْرِيحِ بِالِاقْتِرَاحِ هُنَا قَبْلَ الْعُثُورِ عَلَيْهِمْ. وَسَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ وَحِكَمِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103) فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ.

61

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ نِفَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَآثَارِهِ، وَهُوَ إِيذَاءُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالطَّعْنِ فِي أَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْكَرِيمَةِ، كَإِيذَاءِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمَزُوهُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ الْعَادِلَةِ وَهِيَ قِسْمَةُ الصَّدَقَاتِ، وَنَاهِيكَ بِكُفْرِ مَنْ يُصَغِّرُونَ مَا عَظَّمَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (68: 4) . أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَجْلِسُ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْقِلُ حَدِيثَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ وَلَكِنَّ مَنْطُوقَ الْآيَةِ يُسْنِدُ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجَمَاعَةِ يَصْدُقُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَإِقْرَارِ الْبَاقِينَ. وَالْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَ مُحَمَّدًا فَيَقَعُ بِكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا، فَنَزَلَ (وَمِنْهُمْ) وَذَكَرَ الْآيَةَ. الْأَذَى: مَا يُؤْلِمُ الْحَيَّ الْمُدْرِكَ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ أَلَمًا خَفِيفًا، يُقَالُ: أَذَى الْإِنْسَانُ (كَرَضَى) بِكَذَا أَذًى، وَتَأَذَّى تَأَذِّيًا، إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ يَسِيرٌ - كَذَا قَالُوا - وَآذَى غَيْرَهُ إِيذَاءً، وَأَنْكَرَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ لَفْظَ الْإِيذَاءِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا الْأَذَى وَالْأَذَاةُ وَالْأَذِيَّةُ، وَرُبَّمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى (3: 111) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ آذَى الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ لَا مِنْ أَذَى اللَّازِمِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَتَقْيِيدُهُمْ لِلْأَذَى بِالْمَكْرُوهِ الْيَسِيرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْيَسِيرِ وَالْخَفِيفِ وَعَلَى الشَّدِيدِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنَ الضَّرَرِ، وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَذَى مِنَ الْمَطَرِ وَأَذَى الرَّأْسِ مِنَ الْقَمْلِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (33: 57، 58) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ بِالَّذِينِ نَسَبُوا إِلَيْهِ الِابْنَ وَالْبَنَاتِ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَهُ بِالَّذِينِ شَجُّوا رَأْسَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِالَّذِينِ كَانُوا يُكَذِّبُوا بِرِسَالَتِهِ وَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِالطَّاعِنِينَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَبِالزُّنَاةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النِّسَاءَ لِمُرَاوَدَتِهِنَّ. وَنَاهِيكَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْجَمِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (أُذُنٌ) فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّخْصِ بِاسْمِ الْجَارِحَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِوَظِيفَتِهَا وَهُوَ كَثْرَةُ السَّمْعِ لِمَا يُقَالُ وَتَصْدِيقُهُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَاسُوسِ عَيْنٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ عَدَمُ الدِّقَّةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يُسْمَعُ، وَتَصْدِيقُ مَا يُعْقَلُ وَمَا لَا يُعْقَلُ، فَيُرَادُ بِهِ الذَّمُّ بِالْغَرَارَةِ وَسُرْعَةِ الِانْخِدَاعِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ عُيُوبِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَبُولِ الْغِشِّ بِالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَقْرِيبِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِبْعَادِ النَّاصِحِينَ. وَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا الَّتِي يُعَامِلُ بِهَا عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِبِنَاءِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (أُذُنٌ) بِضَمَّتَيْنِ وَنَافِعٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ لَقَّنَهُ اللهُ تَعَالَى الرَّدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أَيْ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ وَلَكِنَّهُ نِعْمَ الْأُذُنُ؛ لِأَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ لَا كَمَا تَزْعُمُونَ، فَهُوَ لَا يَقْبَلُ مِمَّا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْحَقَّ وَمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لِلْخَلْقِ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَسَمَاعِ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ، فَهُوَ لَا يُلْقِي سَمْعَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَيْهِ لَا يَقْبَلُهُ، وَلَا يُصَدِّقُ مَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ مَنْ يُوصَفُونَ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالزُّعَمَاءِ فَيَسْتَعِينُ الْمُتَمَلِّقُونَ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ بِهِ عَلَى السِّعَايَةِ عِنْدَهُمْ؛ لِإِبْعَادِ النَّاصِحِينَ الْمُخْلِصِينَ عَنْهُمْ، وَحَمْلِهِ عَلَى إِيذَاءِ مَنْ يَبْغُونَ إِيذَاءَهُ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَقَرَأَ نَافِعٌ (أُذُنٌ) بِالتَّنْوِينِ وَ (خَيْرٌ) بِالرَّفْعِ صِفَةً لَهُ. وَالرَّدُّ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فَهُوَ فِي أَوَّلِهِ يُوَافِقُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ، ثُمَّ يُتْبِعُهُ مَا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَضَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (63: 28) الْآيَةَ. فَهُمْ كَانُوا يَعْنُونَ أَنَّهُمُ الْأَعِزَّةُ، وَيُعَرِّضُونَ بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَقَلَبَ عَلَيْهِمْ مُرَادَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَصْلِ الْقَضِيَّةِ وَهِيَ إِخْرَاجُ الْأَعَزِّ لِلْأَذَلِّ بِإِثْبَاتِ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْأَذَلُّونَ وَلَوْ شَاءَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَأَخْرَجَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا إِذَا

أَظْهَرُوا كَفْرَهُمْ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرْعِيَّتِهِ الْحُكْمُ عَلَى الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَقَالَ: لَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِطْمَاعٌ لَهُمْ بِالْمُوَافَقَةِ ثُمَّ كَرٌّ عَلَى طَمَعِهِمْ بِالْحَسْمِ وَأَعْقَبَهُمْ فِي تَنَقُّصِهِ بِالْيَأْسِ مِنْهُ، وَيُضَاهِي هَذَا مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِ الْفُقَهَاءِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ فِي أَوَّلِهِ إِطْمَاعًا لِلْخَصْمِ بِالتَّسْلِيمِ، ثُمَّ بِالطَّمَعِ عَلَى قُرْبٍ وَلَا شَيْءَ أَقْطَعُ مِنَ الْأَطْمَاعِ ثُمَّ الْيَأْسِ يَتْلُوهُ وَيَعْقُبُهُ اهـ. ثُمَّ فَسَّرَ الْمُرَادَ مِنْ أُذُنِ الْخَيْرِ بِأَفْضَلِ الْخَيْرِ وَأَعْلَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ الْمُسْتَأْنَفِ فَقَالَ: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: يُصَدِّقُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنْ خَبَرِكُمْ وَخَبَرِ غَيْرِكُمْ، وَهُوَ الْخَبَرُ الْقَطْعِيُّ الصِّدْقُ، الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ الشَّكُّ؛ لِأَنَّهُ بُرْهَانِيٌّ وِجْدَانِيٌّ عِيَانِيٌّ لَهُ بِمَا كَشَفَهُ اللهُ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِيمَانُهُ بِهِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ فِي الْيَقِينِ مِنْ تَصْدِيقِ غَيْرِهِ بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ، وَيُصَدِّقُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ تَصْدِيقَ ائْتِمَانٍ وَجُنُوحٍ لَلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقَيِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ الَّذِينَ بَرْهَنُوا عَلَى صِدْقِهِمْ بِجِهَادِهِمْ مَعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَهُوَ يُصَدِّقُ أَخْبَارَهُمْ لَا لِذَاتِهَا بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا، بَلْ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ آيَاتِ إِيمَانِهِمُ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الصِّدْقَ وَلَا سِيَّمَا الصِّدْقُ بِمَا يُحَدِّثُونَهُ بِهِ، وَلِمَا يَجِدُهُ فِي أَخْبَارِهِمْ مِنْ أَمَارَاتِهِ وَآيَاتِهِ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِيمَانَ تَسْلِيمٍ وَائْتِمَانٍ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ فِي أَخْبَارِهِمْ وَإِنْ وَكَّدُوهَا بِالْأَيْمَانِ كَمَا ظَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: هُوَ أُذُنٌ اغْتِرَارًا بِلُطْفِهِ وَأَدَبِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ كَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ، وَبِمُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا يُعَامِلُ أَمْثَالَهُمْ مِنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ. بِأَنْ يُنْبِئَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (64) وَتَخْوِيفٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ فِيهِمْ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَيُخْبِرُوهُ بِهِ فَيَأْذَنَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُذُنَ خَيْرٍ لَهُمْ مَعَ هَذَا فَهُوَ مُعَامَلَتُهُ لَهُمْ بِالْحِلْمِ وَمَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّوَاهِرِ، وَمِنْهَا قَبُولُ الْمَعَاذِيرِ قَبْلَ نَهْيِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَوْ كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ عَنْهُمْ - كَمَا تَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ أُذُنٍ لَمَا سَلِمُوا مِنْ عِقَابِهِ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَ السُّوءِ عَنْهُمْ كَثِيرَةٌ بِكَثْرَةِ أَعْمَالِ السُّوءِ فِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ يَقْبَلُ أَخْبَارَ الشَّرِّ لَقَبِلَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِيهِمْ وَلَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّنْوِينِ فِي قَوْلِهِ (أُذُنُ خَيْرٍ) بِأَنَّ كُلًّا مِنَ اللَّفْظَيْنِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أُذُنٌ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، يَعْنِي إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ وَلَا يُكَافِئُكُمْ عَلَى سُوءِ دَخِيلَتِكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أُذُنٌ ذُو خَيْرٍ لَكُمْ، أَوْ بِمَعْنَى: أَخْيَرُ لَكُمْ.

وَنُكْتَةُ تَعْدِيَةِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فِي اللهِ تَعَالَى. وَبِاللَّامِ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْأَصْلِ فِي آمَنَ بِهِ ضِدَّ كَفَرَ بِهِ، وَصَدَّقَ بِهِ ضِدَّ كَذَّبَ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ضَمِنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالِائْتِمَانِ وَالْجُنُوحِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (29: 26) وَقَوْلِهِ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (10: 83) وَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا (12: 17) وَقَوْلِهِ فِي جِدَالِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (26: 111) فَفِي كُلِّ هَذَا مَعْنَى التَّصْدِيقِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِائْتِمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَيْلِ عَنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي إِيمَانِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَا فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ كَذِبُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ تَصْدِيقَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ فِيمَا يَعْتَذِرُونَ لَهُ، فَهُوَ لَا يُصَدِّقُهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْكَاذِبِينَ. وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَى كَوْنِهِ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا؛ إِذْ كَانَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، دُونَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكَفْرَ مُنَافِقًا فَهُوَ نِقْمَةٌ عَلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2: 218) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ كَانَ قَوْلُهُ: (مِنْكُمْ) تَعْرِيضًا بِغَيْرِ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ لَا تَصْرِيحًا. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَالِمٌ بِأَنَّ مِنْهُمْ مُنَافِقِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ وَأَشْخَاصَهُمْ، وَيَخْشَى أَنْ يُخْبِرَهُ رَبُّهُ بِهِمْ وَيَكْشِفَ لَهُ عَنْ أَسْرَارِ قُلُوبِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (64) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا مِنْهُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ بِقَبُولِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِهَا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِلَّذِينِ آمَنُوا فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَصْفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ. وَكَثِيرًا مَا نَاطَ التَّنْزِيلُ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ أَهْلِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَرَحْمَةٍ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى (خَيْرٍ) قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَكُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَمَا فُصِلَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَلْ هُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كَافَّةً. وَأُذُنُ رَحْمَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَا فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنَّ لِينَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلُطْفَهُ وَإِلْقَاءَهُ السَّمْعَ إِلَى مُحَدِّثِهِ، وَعَدَمَ مُعَامَلَتِهِ بِمُقْتَضَى سِرِّهِ وَسَرِيرَتِهِ، هُوَ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِينَ مِنْ عَدَمِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يُخْفُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِقَطْعِ رِقَابِهِمْ، وَبَقَاؤُهُمْ خَيْرٌ لَهُمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ لَفْظِ الْخَيْرِ، وَخَيْرٌ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ إِمْهَالٌ لَهُمْ يُرْجَى أَنْ يَتُوبَ بِسَبَبِهِ مَنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْخَيْرِيَّةُ

دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ لِلْجَمِيعِ، وَالرَّحْمَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا إِرْسَالُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَا أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ كَمَنْ آمَنَ بِهِ. وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ يُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، فَجَزَاؤُهُ ضِدُّ جَزَائِهِ وَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ الْإِيلَامِ، وَفِي إِضَافَةِ الرَّسُولِ إِلَى اسْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيذَانٌ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ إِيذَاءً لِمُرْسِلِهِ أَيْ: سَبَبٌ لِعِقَابِهِ، كَمَا أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لَهُ وَسَبَبٌ لِثَوَابِهِ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ (4: 80) وَقَوْلُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِي هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا. الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كُفْرٌ إِذَا كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ إِيذَاءَهُ فِي رِسَالَتِهِ، يُنَافِي صِدْقَ الْإِيمَانِ بِطَبِيعَتِهِ، وَأَمَّا الْإِيذَاءُ الْخَفِيفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَادَاتِ وَالشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لَا كُفْرٌ، كَإِيذَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيلُونَ الْمُكْثَ فِي بُيُوتِهِ عِنْدَ نِسَائِهِ بَعْدَ الطَّعَامِ فَنَزَلَ فِيهِمْ: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا (33: 53) وَقَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فِي نِدَائِهِ وَيُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (49: 2) فَهَذِهِ آدَابُ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ مَعَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِي التَّقْصِيرِ فِيهَا خَطَرُ حُبُوطِ الْأَعْمَالِ بِدُونِ شُعُورٍ مِنَ الْمُقَصِّرِ. وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، كَإِيذَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ نِكَاحُ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ الْخَوْضُ فِي أَبَوَيْهِ وَآلِ بَيْتِهِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ ذَنْبًا لَا كُفْرًا، وَلَاشَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَانِعٌ مِنْ تَصَدِّي الْمُؤْمِنِ لِمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنْ يُؤْذِيَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِيذَاءً مَا. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَا يُؤْذِي أَحَدًا مِنْ سَلَائِلِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّنَازُعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالْمُخَاصَمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ: لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَنْسُوبُ إِلَى الْآلِ الْكِرَامِ جَانِيًا آثِمًا وَمُعْتَدِيًا ظَالِمًا. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ (4: 148) وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَسَبَبُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: " دَعُوهُ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ فَاطِمَةُ

62

سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِهِ بَلْ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ كَمَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ تَأَذَّتْ مِنَ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي كَانَ أَحَبَّ الرِّجَالِ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَتْ أَحَبَّ النِّسَاءِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا مَا ظَنَّتْ مِنْ مِيرَاثِهَا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَعُذْرُهُ أَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِهِ وَمُقِيمٌ لِشَرْعِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنُطْقِ فَمِهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ وَمَا تَرَكُوهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَعَمَلُهُ بِوَصِيَّتِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ إِيذَاءً لَهُ، فَتَأَذِّيهَا عَلَيْهَا السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ عَنْ إِيذَاءٍ مِنْهُ عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْذُورٌ، فَمَاذَا يَقُولُ بَعْدَ هَذَا فِيمَنِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُدَّعِي هَذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِ حَقٍّ، كَغُلَاةِ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ فَاطِمِيَّةِ مِصْرَ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسَّسُوا جَمْعِيَّاتِهِمُ السِّرِّيَّةَ لِمَحْوِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَرْضِ، مِنْ طَرِيقِ دَعْوَى عِصْمَةِ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَبَيَّنَّاهُ مِرَارًا؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ يُؤْذِيهِمْ يُعَدُّ مُؤْذِيًا لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ أَعْدَى أَعْدَائِهِ، وَأَخْبَثُ الْمُفْسِدِينَ لِدِينِهِ؟ وَمَنْ دُونَهُمْ مُبْتَدِعَةُ الرَّوَافِضِ، وَخُرَافَاتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ، وَجِنَايَاتُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ آثَرَ الْأَدَبَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ آلِ الرَّسُولِ عَلَى حَقِّهِ الشَّخْصِيِّ حُبًّا لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِ كَمَا فَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُعْتَصِمِ الْعَبَّاسِ لِقَرَابَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَقَّ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْآلِ وَالْأَبَوَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ فِي تَفْسِيرِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ (6: 74) الْآيَاتِ. فَتُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [ط الْهَيْئَةِ] . يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ فِي شَأْنِ الْمُتَخَلِّفِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ مَا نَزَلَ: وَاللهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحُمُرِ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ أَشَرُّ مِنَ الْحِمَارِ. فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ "؟ فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ (أَيْ يَلْعَنُ نَفْسَهُ) وَيَحْلِفُ بِاللهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ اللهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ

مِثْلَهُ، وَسَمَّى الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ عَامِرَ بْنَ قَيْسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَهَذَا لَيْسَ بِحَصْرٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا الْحَلِفَ لِيُصَدَّقُوا؛ لِأَنَّهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ يَظُنُّونَ أَوْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَيَحْلِفُونَ لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (42) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ حَلِفُهُمْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَخَرَجُوا، وَالتَّصْرِيحُ بِعِلْمِ اللهِ بِكَذِبِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ هَذَا - وَفِي الْآيَةِ (56) مِنْهُ وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ إِلَخْ. وَسَيَأْتِي فِي آيَةِ (74) مِنْهُ مِثْلُ هَذَا الْحَلِفِ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْكُفْرِ قَالُوهُ إِنَّهُمْ مَا قَالُوهُ، وَفِي آيَاتِ 59 و96 و107 مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ شُئُونِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ شَعَرُوا بِمَا لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ مِنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ، فَكَثُرَ اعْتِذَارُهُمْ وَحَلِفُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعِلْمٍ؛ لِيُرْضُوهُمْ فَيَطْمَئِنُّوا لَهُمْ، فَتَنْتَفِي دَاعِيَةُ إِخْبَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا يُنْكِرُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبُهُمْ فِيهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِالْيَقِينِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَهُوَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَهُوَ يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: " يُرْضُوهُمَا " وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى: (يُرْضُوهُ) الْإِعْلَامُ بِأَنَّ إِرْضَاءَ رَسُولِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولُهُ عَيْنُ إِرْضَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إِرْضَاءٌ لَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِيجَازِ، وَلَوْ قَالَ: (يُرْضُوهُمَا) لَمَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ يَجُوزُ فِي نَفْسِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ إِرْضَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ مَا يَكُونُ بِهِ إِرْضَاءُ الْآخَرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُرَادِ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: " وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الرَّكَاكَةِ وَالتَّطْوِيلِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي السُّعُودٍ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ هُنَا يَعُودُ إِلَى مَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ " مَا ذُكِرَ " كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ يَعْنِي كَأَنَّ ذَلِكَ أَوْ كَأَنَّ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُثَنَّى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَيُقَدَّرُ مِثْلُهُ لِلرَّسُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لِلرَّسُولِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ

الْكَلَامَ فِي إِيذَائِهِ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إِلَى قَوَاعِدِهِمْ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: الْكَلَامُ جُمْلَتَانِ حُذِفَ خَبَرُ إِحْدَيْهِمَا لِدَلَالَةِ خَبَرِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْـ ... دَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ فَهَذَا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنْ تَفُوتُ بِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبَيَانِ اقْتِبَاسُهَا، وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْبِيهُ لَمَا عُنِينَا بِنَقْلِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْإِعْرَابِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمِنْهَاجِنَا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ لِبَيَانِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُنْجِي فِي الْآخِرَةِ غَيْرُهُ، أَيْ: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَدَّعُونَ وَيَحْلِفُونَ فَلْيُرْضُوا اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ، وَإِلَّا كَانُوا كَاذِبِينَ، وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي زَمَانِنَا كَكُلِّ زَمَانٍ، وَعِبْرَةٌ بِحَالِهِمْ لِمَنْ يَرَاهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَحْلِفُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى تَأْكِيدِ أَخْبَارِهِمْ فِيمَا يُحَاوِلُونَ بِهِ إِرْضَاءَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ فِيمَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى بَلْ فِيمَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ، الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهَا بِأَخَسِّ الْوَسَائِلِ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْمُحَادَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَدِّ وَهُوَ طَرَفُ الشَّيْءِ، كَالْمُشَاقَّةِ مِنَ الشِّقِّ وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْجَانِبُ وَنِصْفُ الشَّيْءِ الْمُنْشَقِّ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْمُعَادَاةِ مِنَ الْعُدْوَةِ وَهِيَ بِالضَّمِّ جَانِبُ الْوَادِي؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّنْ يُعَادِيهِ عَدَاءَ الْبُغْضِ وَالشَّنَآنِ، بِحَيْثُ لَا يَتَزَاوَرَانِ وَلَا يَتَعَاوَنَانِ، فَشُبِّهَ بِمَنْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ وَشِقٍّ وَعُدْوَةٍ، كَمَا يُقَالُ: هُمَا عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ يَكُونُونَ فِي الْحَدِّ وَالْجَانِبِ الْمُقَابِلِ لِلْجَانِبِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ وَالرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا سِيَّمَا الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِهِمَا. وَالْعَاصِي وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَنَهْيَهُمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَنْتَهِي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَوِ الْعُدْوَةِ فِي الْبُعْدِ عَنْهُمَا، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يُكَفِّرُونَ الْعُصَاةَ. وَجَهَنَّمُ دَارُ الْعَذَابِ وَتَقَدَّمَ هَذَا الِاسْمُ مِرَارًا. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الشَّأْنَ وَالْأَمْرَ الثَّابِتَ الْحَقَّ هُوَ: مَنْ يُعَادِي اللهَ وَرَسُولَهُ بِتَعَدِّي حُدُودِ اللهِ، أَوْ بِلَمْزِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِهِ كَقِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ أَوْ أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أُذُنٌ - فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِدًا فِيهَا لَا مُخْرِجَ لَهُ مِنْهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيْ: ذَلِكَ الصَّلْيُ الْأَبَدِيُّ هُوَ الذُّلُّ وَالنَّكَالُ الْعَظِيمُ، الَّذِي يَتَضَاءَلُ دُونَهُ كُلُّ خِزْيٍ وَذُلٍّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

64

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي كَشَفَتْ سَوْأَتَهُمْ فِيهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى أَلَّا يُفْشَى عَلَيْنَا هَذَا. وَأَخْرَجُوا إِلَّا الْأَوَّلَ مِنْهُمْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ فَاضِحَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الْمُنْبِئَةُ أَنْبَأَتْ بِمَثَالِبِهِمْ وَعَوْرَاتِهِمْ. الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ (يَحْذَرُ) خَبَرٌ عَلَى ظَاهِرِهَا. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهَا إِنْشَائِيَّةٌ فِي الْمَعْنَى أَيْ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَالْحَذَرُ كَالتَّعَبِ: الِاحْتِرَازُ وَالتَّحَفُّظُ مِمَّا يُخْشَى وَيُخَافُ مِنْهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ (فِي مَادَّتَيْ حَ ذَ رَ، وَحَ رَ زَ) وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْحَذَرُ مِنْهُمْ، وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ، وَأَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْحَذَرَ اسْتِهْزَاءً، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي الْوَحْيِ وَرِسَالَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا مِنَ الْكُفْرِ، فَهُمْ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الْجَازِمِينَ بِالْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَكُّهُ قَوِيًّا، وَمَنْ كَانَ شَكُّهُ ضَعِيفًا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهِمْ وَبَيَانُ أَصْنَافِهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةِ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ تَعَالَى لَهُمْ. وَهَذَا الْحَذَرُ وَالْإِشْفَاقُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، فَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَا خَطَرَ لَهُمْ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى بَالٍ. وَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِتَصْدِيقِهِ لَمَا كَانَ هُنَاكَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُطَمْئِنَةٌ بِالْإِيمَانِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضَمِيرِ (عَلَيْهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَالْمُرَادُ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ نُزُولُهُ فِي شَأْنِهِمْ، وَبَيَانُ كُنْهِ حَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ

(2: 102) أَيْ: فِي شَأْنِ مُلْكِهِ. وَيُقَالُ: كَانَ كَذَا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ أَيْ: فِي عَهْدِهِمْ وَزَمَنِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِإِنْبَائِهِمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ لَازَمَهُ، وَهُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَكَشْفُ عُوَارِهِمْ وَإِنْذَارُهُمْ مَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ الْحَذِرِينَ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَالْأَضْغَانِ الَّتِي يُخْفُونَهَا فِي قُلُوبِهِمْ. قِيلَ: فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلضَّمَائِرِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَفْكِيكَ الضَّمَائِرِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَلَا يُنَافِي الْبَلَاغَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ. وَلَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بَحْثَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا تَفْكِيكٌ لِلضَّمَائِرِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُرْضُوهُمْ، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اهْتِمَامِهِمْ بِإِرْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ إِرْضَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَهُمَا أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ، وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ سَبَبَ حَلِفِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَاهْتِمَامِهِمْ بِإِرْضَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَتُبْطِلُ ثِقَتَهُمْ بِهِمْ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِيهِمْ. (وَالْبَحْثُ الْآخَرُ) أَنَّ إِنْزَالَ الْوَحْيِ يُعَدَّى بِـ " إِلَى " وَبِـ " عَلَى " إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى - وَيُعَدَّى بِهِمَا إِلَى قَوْمِهِ الْمُنَزَّلِ لِيُتْلَى عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ هِدَايَتِهِمْ، وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا (2: 136) إِلَخْ. وَقَالَ: قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا (3: 84) إِلَخْ. وَقَالَ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (7: 3) وَقَالَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (2: 231) وَقَالَ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (21: 10) ؟ . قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ اسْتَدَلَّ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْحَذَرَ مِمَّا ذُكِرَ اسْتِهْزَاءً، وَلَمْ يَكُونُوا يَحْذَرُونَ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ؛ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَيَرُدُّهُ إِسْنَادُ الْحَذَرِ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالْحِكَايَةِ فَأَسْنَدَ الْحَذَرَ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (2: 14) وَيُؤَيِّدُ وُقُوعَ الْحَذَرِ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِهِمْ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ (63: 4) وَفِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ لِضَرْبٍ آخَرَ مِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ فِي

هَذَا الْمَقَامِ مِنْ سِيَاقِ غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَالِاسْتِهْزَاءُ دَأْبُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ، وَحَذَرُهُمْ مِنْ تَنْزِيلِ السُّورَةِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ، بَلْ مِنْ خَوْفِ عَاقِبَتِهِ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ أَمْرِهِمُ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا الْحَذَرِ، وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِهِ فَهُوَ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِإِخْرَاجِهِ تَعَالَى مَا يَحْذَرُونَ ظُهُورَهُ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ، وَمَكْتُوبَاتِ ضَمَائِرِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِخْرَاجِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْخَفِيِّ الْمُسْتَتِرِ، أَوِ الْمُتَمَكِّنِ الْمُسْتَقِرِّ. وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ (47: 29) وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (47: 37) وَمِنْهُ إِخْرَاجُ الْمَوْتَى بِالْبَعْثِ. وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ وَالنَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ كَثِيرٌ. وَمِنَ الثَّانِي النَّفْيُ مِنَ الْأَوْطَانِ وَالدِّيَارِ وَفِيهِ آيَاتٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ (22: 40) الْآيَةَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُخْرِجُهُ الْآنَ بِتَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي لَمْ تَدَعْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْئًا مِنْ مُخَبَّآتِ نِفَاقِهِمْ إِلَّا أَخْرَجَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ رُوِيَ فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ نَذْكُرُ أَمْثَلَهَا: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَتِهِ إِلَى تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا: أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَحُصُونُهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " احْبِسُوا عَلَيَّ هَؤُلَاءِ الرَّكْبَ " فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: قُلْتُمْ كَذَا، قُلْتُمْ كَذَا. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا تَسْمَعُونَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَسِيرِهِ وَأُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ أَمَامَهُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَلَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مَا قَالُوا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ: لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِائَةً عَلَى أَنْ نَنْجُوَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: " أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ هُمْ أَنْكَرُوا وَكَتَمُوا فَقُلْ: بَلَى قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا " فَأَدْرَكَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ فَجَاءُوا يَعْتَذِرُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ الْآيَةَ. فَكَانَ الَّذِي عَفَا اللهُ عَنْهُ مَخْشِيَّ بْنَ حُمْيَرٍ فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَقْتَلِهِ، فَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ لَا يُعْلَمُ مَقْتَلُهُ وَلَا مَنْ قَتَلَهُ وَلَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ وَلَا عَيْنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِيهِمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ

65

لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ، كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ، وَاللهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا تُقَادُونَ فِي الْحِبَالِ، قَالَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ: مَا وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَبَّأَ رَسُولَهُ بِمَا كَانَ يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي أَثْنَاءِ السَّيْرِ إِلَى تَبُوكَ، مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِتَصَدِّيهِ لِقِتَالِ الرُّومِ الَّذِينَ مَلَأَ صِيتُهُمْ بِلَادَ الْعَرَبِ، بِمَا كَانَ تُجَّارُهُمْ يَرَوْنَ مِنْ عَظَمَةِ مُلْكِهِمْ فِي الشَّامِ؛ إِذْ كَانُوا يَرْحَلُونَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ صَيْفٍ. نَبَّأَهُ نَبَأً مُؤَكَّدًا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُمْ عَنْ أَقْوَالِهِمْ هَذِهِ يَعْتَذِرُونَ عَنْهَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِيهَا جَادِّينَ وَلَا مُنْكِرِينَ، بَلْ هَازِلِينَ لَاعِبِينَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلتَّسَلِّي وَالتَّلَهِّي، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ مَقْبُولٌ؛ لِجَهْلِهِمْ أَنَّ اتِّخَاذَ أُمُورِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا، لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنِ اتَّخَذَهُ هُزُوًا، وَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَيَغْفُلُ عَنْ هَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَخُوضُونَ فِي الْقُرْآنِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. كَمَا يَفْعَلُونَ إِذْ يَخُوضُونَ فِي أَبَاطِيلِهِمْ وَأُمُورِ دُنْيَاهُمْ، وَفِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَفَكَّهُونَ بِالتَّنَادُرِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ " الْخَوْضُ " فِيمَا كَانَ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي الْوَحْلِ، فَيُرَادُ بِهِ الْإِكْثَارُ، وَالتَّعَرُّضُ لِتَقَحُّمِ الْأَخْطَارِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ آيَةَ رَقَمِ (83) وَالْمَعَارِجِ آيَةَ رَقَمِ (42) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَقَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (52: 11 و12) وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (4: 140) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِكُلِّ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْمُبْتَدِعُونَ الْمُحْدِثُونَ فِي الدِّينِ، وَالَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الدَّاعِينَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ لِاعْتِصَامِهِمْ بِهِمَا وَإِيثَارِهِمْ إِيَّاهُمَا عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمُقَلِّدَةِ [رَاجِعْ ص377 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] . وَبَعْدَ أَنْ نَبَّأَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ لَقَّنَهُ مَا يَرُدُّ بِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَوْضَ وَاللَّعِبَ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُهُ صِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالَهُ وَشَرْعَهُ وَآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةَ وَأَفْعَالَ رَسُولِهِ وَأَخْلَاقَهُ وَسِيرَتَهُ كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَكُلُّ مَا يُلْعَبُ بِهِ فَهُوَ مُسْتَخَفٌّ بِهِ، وَقَدْ حَرَّرْنَا مَعْنَى اللَّفْظِ فِي تَفْسِيرِ مَا أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ:

66

إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (2: 14) أَيْ بِقَوْلِنَا لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا، كَمَا أَنَّ مَنْ يَحْتَرِمُ شَيْئًا أَوْ شَخْصًا أَوْ يُعَظِّمُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ مَوْضُوعَ الْخَوْضِ وَاللَّعِبَ، وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ فِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَيْهِ يُفِيدُ الْقَصْرَ وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَجِدُوا مَا تَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فِي خَوْضِكُمْ وَلَعِبِكُمْ إِلَّا اللهَ وَآيَاتِهِ وَرَسُولَهُ فَقَصَرْتُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، فَهَلْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ مَذَاهِبِ الْكَلَامِ تَخُوضُونَ فِيهَا وَتَعْبَثُونَ دُونَهُمَا، ثُمَّ تَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ مَقْبُولٌ، فَتُدْلُونَ بِهِ بِلَا خَوْفٍ وَلَا حَيَاءٍ؟ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أَيْ: قَدْ كَفَرْتُمْ بِهَذَا الْخَوْضِ وَاللَّعِبِ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، فَاعْتِذَارُكُمْ إِقْرَارٌ بِذَنْبِكُمْ، وَإِنَّمَا الِاعْتِذَارُ الْإِدْلَاءُ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ بِالضَّمِّ مَا يُرَادُ بِهِ مَحْوُ الذَّنْبِ، وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمْ قَدْ جِئْتُمْ بِمَا يُثْبِتُ الذَّنْبَ وَيَقْتَضِي الْعِقَابَ، أَوْ هُوَ كَمَا قِيلَ: " عُذْرٌ أَقْبَحُ مِنَ الذَّنْبِ " يُقَالُ: اعْتَذَرَ إِلَيَّ عَنْ ذَنْبِهِ فَعَذَرْتُهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) أَيْ: قَبِلْتُ عُذْرَهُ، وَرَفَعْتُ اللَّوْمَ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ عَذَرَ الصَّبِيَّ يَعْذُرُهُ - أَيْ خَتَنَهُ، فَعَذْرُهُ - تَطْهِيرُهُ بِالْخِتَانِ، إِذْ هُوَ قَطْعٌ لِعَذْرَتِهِ أَيْ قُلْفَتِهِ الَّتِي تُمْسِكُ النَّجَاسَةَ. (فَإِنْ قِيلَ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا بِهَذَا الِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي سَمَّوْهُ خَوْضًا وَلَعِبًا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْكُفْرَ الَّذِي يُسِرُّونَهُ، هُوَ سَبَبُ الِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي يُعْلِنُونَهُ. (قُلْنَا) كِلَاهُمَا حَقٌّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجْهٌ فَالْأَوَّلُ: بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حُكْمًا، فَإِنَّهُمُ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ إِنَّمَا تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَا ذُكِرَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ وَيَقْتَضِي الْكُفْرَ، فَبِهِ صَارُوا كَافِرِينَ حُكْمًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حُكْمًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ الْوَاقِعُ بِالْفِعْلِ، وَالْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَوْضَ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي رَسُولِهِ، وَفِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَجَعْلِهَا مَوْضُوعًا لِلَّعِبِ وَالْهُزُؤِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَتُجْرَى عَلَيْهِ بِهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَيُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ الطَّائِفَةُ مُؤَنَّثُ الطَّائِفِ، مِنَ الطَّوْفِ أَوِ الطَّوَافِ حَوْلَ الشَّيْءِ، وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ، وَمِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، يُقَالُ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَمِنَ الْعُمُرِ. وَأَعْطَاهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالطَّائِفَةِ الْجَمَاعَةُ كَانَ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةً عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي الْجَمْعِ. وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُعْتَذِرِينَ أَوْ لِجُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ

كَالَّذِي قَبْلَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ وَالتَّعْذِيبِ مَا يَفْعَلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِلَّا كَانَ الْمُرَادُ مَا سَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا إِنْ نَعْفُ عَنْ بَعْضِكُمْ بِتَلَبُّسِهِمْ بِمَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ، وَهُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ (وَمِنْهُمْ مَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ) نُعَذِّبْ بَعْضًا آخَرَ بِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِجْرَامِ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ، وَعَدَمِ تَحَوُّلِهِمْ عَنْهُ، أَيْ: بِالْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَقْلِيٌّ إِذْ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ أَوِ الْإِصْرَارِ، فَمَنْ تَابَ مِنْ كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ عُفِيَ عَنْهُ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ عُوقِبَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَعِيدُ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَعْنَاهُ هَذَا مَا سَنُنْفِذُ حُكْمَ الشَّرْعِ عَلَيْكُمْ بِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تُقَامُ فِيهَا الْحُدُودُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَفْوُ اللهِ وَتَعْذِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ عَفَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِتَارِكِ الْآخَرِينَ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّهُ بَيَّنَ سَبَبَ التَّعْذِيبِ وَهُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْإِجْرَامِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبًا لِلْعَفْوِ، أَفَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِمَحْضِ الْفَضْلِ؟ (قُلْنَا) إِنَّ مَا بَيَّنَهُ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ بِكُفْرِهِمْ. فَبَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا لِسَبَبِ تَعْذِيبِ بَعْضِهِمْ دَالٌّ عَلَى أَنَّ التَّعْذِيبَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ هَذَا السَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَرْكِ النِّفَاقِ وَإِجْرَامِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُمَا، وَالْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الْكُفْرِ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الذُّنُوبِ بَعْضُهُ يُنَفَّذُ وَبَعْضُهُ يُدْرِكُهُ الْعَفْوُ. وَأَمَّا عَدَدُ مَنْ يَتُوبُ وَيُعْفَى عَنْهُ، وَعَدَدُ مَنْ يُصِرُّ وَيُعَاقَبُ بِالْفِعْلِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا يُسَمَّى طَائِفَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَاحِدًا مِنَ الطَّائِفَةِ مُمَثِّلًا لَهَا، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ اسْتَهْزَئُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْقُرْآنِ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَمْ يُمَالِئْهُمْ فِي الْحَدِيثِ يَسِيرُ مُجَانِبًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ وَدِيعَةَ، فَنَزَلَتْ: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً فَسُمِّيَ طَائِفَةً وَهُوَ وَاحِدٌ اهـ. وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّائِفَةَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْأَلْفِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - وَمَنْ زَعَمَ - أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَالنَّفَرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنِ الْكَلْبِيِّ لَا تَقْتَضِيهِ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ سَنَدًا فَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ، وَلَا مَعْنَى لَهَا فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَسِيرُ مُجَانِبًا لَا يَتَنَاوَلُهُ وَعِيدُهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُتَعَلِّقِينَ بِالرِّوَايَاتِ يُحَكِّمُونَهَا فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، أَفَلَا يُحَكِّمُونَهَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاحِدَ يُسَمَّى طَائِفَةً؟ وَقَدْ حَافَظَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اللُّغَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالُوا: إِنَّ التَّاءَ فِي طَائِفَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ، كَرَاوِيَةٍ لِكَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ هُنَا

67

وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا شَرَحْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ تَابُوا وَاهْتَدَوْا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَبَّأَتْهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، بِمَا سَقَطَ بِهِ اسْتِشْكَالُ بَعْضِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، كَسُلْطَانِهِمُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَاسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَمَّا تَكَلَّفَهُ الْمُتَكَلِّفُونَ لِحَلِّ الْإِشْكَالِ. الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكِمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ هَذَا بَيَانٌ عَامٌّ لِحَالِ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، مَقْرُونٌ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ عَلَى فَسَادِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، يَتْلُوهُ ضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ. فَاتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ بَيَانِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ هُوَ مِنْ

قَبِيلِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي رَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ، وَبَيْنَ الْوَقَائِعِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُعَدُّ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالسُّنَنِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: أَهْلُ النِّفَاقِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُتَشَابِهُونَ فِيهِ وَصْفًا وَعَمَلًا، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ عَيْنُ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ: تِلْكَ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ ... هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّهْ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (3: 34) وَفِي اسْتِجَابَتِهِ لِدُعَاءِ الذَّاكِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (3: 195) ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا التَّشَابُهَ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، الْمُنْكَرُ الشَّرْعِيُّ: مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَيَسْتَقْبِحُهُ، وَالْمُنْكَرُ الْعَقْلِيُّ وَالْفِطْرِيُّ: مَا تَسْتَنْكِرُهُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ، لِمُنَافَاتِهِ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَنَافِعِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَالشَّرْعُ: هُوَ الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرَ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ، وَمِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ وَالْفُجُورُ وَالْغَدْرُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَنْهَوْنَ عَنْهُ الْجِهَادُ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِ الْقِتَالِ. كَقَوْلِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (63: 7) . وَقَبْضُ الْأَيْدِي: ضَمُّ أَصَابِعِهَا إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبَذْلِ، كَمَا أَنَّ بَسْطَ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالْبَذْلِ، فَهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْبَذْلِ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمُ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا، وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى النِّفَاقِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَقْوَى الْآيَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَنْفَالِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ أَيْ: نَسُوا اللهَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ، فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ

فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ مِنَ الرِّيَاءِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَذَّرَهُمْ رَبُّهُمْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَلَاسِيَّمَا فِي الْبُخْلِ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (2: 268) الْفَحْشَاءُ: مَا فَحُشَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، وَفُسِّرَتْ بِهِ فِي الْآيَةِ كَمَا فُسِّرَ الْفَاحِشُ بِالْبَخِيلِ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَأَمَّا نِسْيَانُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ إِيَّاهُ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ فَوَائِدِ ذِكْرِهِ، وَفَضِيلَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ فِي الدُّنْيَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (69) فَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ لَازِمُهُ وَهُوَ جَعْلُهُمْ كَالْمَنْسِيِّ الَّذِي لَا يُتَعَهَّدُ، وَلَا يُعْتَنَى بِشَأْنِهِ. لَا كَالْمَنْسِيِّ مُطْلَقًا. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الرَّاسِخُونَ فِي الْفُسُوقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مُحِيطِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِهِ، النَّاكِبُونَ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى طُرُقِ الشَّيْطَانِ وَرَذَائِلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (: 53) وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا صَحَّ هُنَا ; لِأَنَّهُ فِي جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْحَصْرُ فِيهِمْ إِضَافِيٌّ، فَهُمْ أَشَدُّ فُسُوقًا مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْعُصَاةِ، حَتَّى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ عَقَائِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَتَعَالِيمِهِمُ الْمُنْكَرَةِ، فَلَا يَبْلُغُ فُسُوقُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ بِمُخَالَفَةِ دِينِهِمْ، وَلَا الْخُرُوجُ مِنْ فَضَائِلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، حَدَّ فُسُوقِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُمْ بَاطِنَهُمْ، وَالْمُرَجَّحُ فِي تَفْصِيلِ حَالِهِمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا تَأَخَّرَ. ثُمَّ قَفَّى تَعَالَى عَلَى بَيَانِهِ حَالَهُمْ هَذِهِ بِذِكْرِ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ وَلِإِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا الْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِيمَا يَنْفَعُ وَفِيمَا يَضُرُّ، وَالْوَعِيدُ خَاصٌّ بِالثَّانِي، وَلَا يَكَادُ يُذْكَرُ الْوَعْدُ فِيهِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ (ص378) مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقَاتِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ فِي النِّسَاءِ نِفَاقًا كَالرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي طِبَاعِ النَّاسِ، كَمَا قَرَنَ ذِكْرَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَعَمِلُوا أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ - شَرٌّ مِنَ الْكُفَّارِ الصُّرَحَاءِ، وَلَاسِيَّمَا الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُمْ بِأَدْيَانٍ بَاطِلَةٍ مِنَ الْأَصْلِ أَوْ مُحَرَّفَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَبَيَّنَا وَجْهَهُ.

68

وَتَقَدَّمَ آنِفًا ذِكْرُ الْخُلُودِ فِي جَهَنَّمَ وَعِيدًا عَلَى مُحَادَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَزَادَ هُنَا ثَلَاثًا فَقَالَ: هِيَ حَسْبُهُمْ إِلَخْ. فَزِيَادَةُ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ جَزَاءِ جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ، الرَّاسِخِينَ فِي النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمَا، وَجَزَاءِ أَفْرَادِ الْعَاصِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَفَاسِدُ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ شَخْصِيَّةٌ كَبِيرُهَا وَصَغِيرُهَا، وَأَمَّا مَفَاسِدُ جَمَاعَاتِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْأُمَمِ الْمُتَعَاوِنَةِ فِيهَا فَهِيَ أَكْبَرُ ; لِأَنَّهَا أَعَمُّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ عِقَابًا فِي الْآخِرَةِ وَلَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، الَّذِينَ تُذْكَرُ صِفَاتُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُقَابِلَةِ لِهَذِهِ عَقِبَهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ أَيْ: ثَابِتٌ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ نَفْسِيٌّ مَعْنَوِيٌّ غَيْرُ عَذَابِ جَهَنَّمَ الْحِسِّيِّ الْخَاصِّ بِهَا بِنَوْعَيْهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ: الظَّاهِرِ كَالسَّمُومِ الَّذِي يَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ، وَالْحَرَارَةِ الَّتِي تُنْضِجُ جُلُودَهُمْ، وَالْحَمِيمِ الَّذِي يَصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ، وَالزَّقُّومِ طَعَامِ الْأَثِيمِ، وَالضَّرِيعِ الَّذِي لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ. وَالْبَاطِنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحُطَمَةِ: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (104: 7) فَهَذَا النَّوْعُ الْمُقِيمُ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يَلْصَقُ بِقُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ خَوْفِ الْفَضِيحَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (55) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ مُقِيمٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُعَطِّلِينَ مِنْهُمْ، الَّذِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْهَا أَوْ يُنَغِّصُهَا عَلَيْهِمْ لَهُمْ فِيهِ عَذَابٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الرَّاضُونَ بِقَضَاءِ اللهِ، الصَّابِرُونَ عَلَى بَلَائِهِ، الشَّاكِرُونَ لِنَعْمَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنْ لِقَاءِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَامَتِهِ، وَالْحِجَابُ دُونَ رُؤْيَتِهِ، كَمَا قَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (83: 15 و16) وَمَا يُذْكِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ إِطْلَاعُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُهُ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ الَّذِي عُطِفَ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِهِ لِمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْمَعْنَوِيِّ أَظْهَرُ، وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي النَّارِ (5: 37) . كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هَذَا عَوْدٌ إِلَى خِطَابِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ، بَعْدَ ذِكْرِ حَالِ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ. يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْذُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فِي أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، مَفْتُونُونَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، مَغْرُورُونَ بِدُنْيَاكُمْ، كَمَا كَانُوا مَفْتُونِينَ وَمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ

69

أَيْ: فَكَانَ مَطْلَبُهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَسَعْيِهِمُ التَّمَتُّعَ وَالتَّنَعُّمَ بِنَصِيبِهِمْ، وَحَظِّهِمُ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَطْلَبٌ وَلَا غَرَضٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا التَّمَتُّعُ بِعَظَمَتِهَا تُطْغِيهِمْ بِهَا الْقُوَّةُ وَبِلَذَّاتِهَا تُغْرِيهِمْ بِهَا الثَّرْوَةُ، وَبِزِينَتِهَا تُفْرِحُهُمْ بِهَا كَثْرَةُ الذُّرِّيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَقَاصِدُ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْحَيَاةِ سِوَاهَا، كَالَّذِي يَقْصِدُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ كَانَ خَلَاقُهُمْ كَخَلَاقِ السِّبَاعِ وَالْأَنْعَامِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّسْلِ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ سَوَاءً، لَمْ تُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ إِرْشَادِ كَلَامِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا الْأَنْفُسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَكُونُ بِهَا أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَكُنْتُمْ أَجْدَرَ بِاللَّائِمَةِ وَالْعُقَابِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أُوتُوا مِنَ الْقُوَّةِ الْمُطْغِيَةِ، وَالْأَمْوَالِ الْمُبْطِرَةِ، وَالْأَوْلَادِ الْفَاتِنَةِ، فَوْقَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَمْ يَرَوْا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى مَا رَأَيْتُمْ، وَلَا سَمِعُوا مِنْ حِكَمِ كَلَامِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا سَمِعْتُمْ، وَلَا نَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْمُثُلِ الْأَعْلَى لِهِدَايَةِ رُسُلِهِ مَا نَصَبَ لَكُمْ بِهَدْيِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّ اللهَ نَزَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ، وَأَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، أَعَادَ ذِكْرَ اسْتِمْتَاعِ مَنْ قَبْلِهِمْ لِمَا يَقْتَضِيهِ التَّبْكِيتُ وَالتَّأْنِيبُ مِنَ الْإِطْنَابِ ; لِبَيَانِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَعَلْتُمْ فِعْلَتَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى ضِدِّهِ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أَيْ: وَخُضْتُمْ فِي حَمْأَةِ الْبَاطِلِ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، عَلَى مَا بَيْنَ حَالِكُمْ مِنَ الْفَرْقِ، الَّذِي كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونُوا أَهْدَى مِنْهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ إِنَّ (الَّذِي) تَأْتِي مَصْدَرِيَّةً:كَـ " مَا " فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَخُضْتُمْ كَخَوْضِهِمْ، وَقِيلَ: (الَّذِي) هُنَا لِلْجِنْسِ كَمَنَ، وَمَا وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّكُمْ تَخُوضُونَ كَخَوْضِ مَنْ قَبْلَكُمْ - وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ - لَا كَالَّذِينِ خَاضُوا مُطْلَقًا مِنْ أَيِّ فَرِيقٍ كَانُوا. أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَبِطَ الْعَمَلُ بِكَسْرِ الْبَاءِ حَبْطًا بِسُكُونِهَا وَحُبُوطًا: فَسَدَ وَذَهَبَتْ فَائِدَتُهُ، وَحَبِطَ دَمُ الْقَتِيلِ هَدَرَ، وَهُوَ مِنْ حَبِطَ بَطْنُ الْبَعِيرِ حَبَطًا (بِفَتْحَتَيْنِ) انْتَفَخَ وَفَسَدَ مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِ الْحَنْدَقُوقِ فَلَمْ يَثْلِطْ، أَيْ: أُولَئِكَ الْمُسْتَمْتِعُونَ بِخِلَاقِهِمْ وَحَظِّهِمْ مِمَّا ذُكِرَ، وَالْخَائِضُونَ فِي الْبَاطِلِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي الدُّنْيَا، فَكَانَ ضَرَرُهَا أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهَا لَهُمْ لِإِسْرَافِهِمْ فِيهَا، وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَحْبَطُ بُطُونُ الْمَاشِيَةِ تَأْكُلُ الْخَضِرَ فَتَسْتَوْبِلُهُ فَتَنْتَفِخُ وَتَفْسَدُ وَيَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهَا، وَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الدِّينِيَّةُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَصُنْعِ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ وَقِرَى الضُّيُوفِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَجْرٌ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَحُبِّ الظُّهُورِ وَالثَّنَاءِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ

الْمُسْلِمِينَ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ، لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا لِمَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي التَّنْزِيلِ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي حُبُوطِ الْأَعْمَالِ بِالشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ، أَيْ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَبِطَ بُطُونُ الْمَاشِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَالَهَا مِنِ اسْتِعَارَةٍ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ عِنْدَمَا تَأْكُلُ الْخَضِرَ مِنَ النَّبَاتِ تَلَذُّذًا بِهِ فَتَكْثُرُ بِهِ فَتَسْتَوْبِلُهُ وَتَسْتَوْخِمُهُ، يَكُونُ حَظُّهَا مِنْهَا فَسَادَ بُطُونِهَا وَهَلَاكَهَا، بَدَلًا مِنَ التَّغَذِّي وَالِانْتِفَاعِ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِشَهْوَتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَشَلُهُمْ وَخَيْبَتُهُمْ فِيمَا كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ: فَالدِّينِيَّةُ تَحْبَطُ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِهَا الْإِيمَانُ وَالْإِخْلَاصُ، وَتَحْبَطُ فِي الدُّنْيَا إِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَافْتَضَحَ أَمْرُهُمْ، وَلِحُبُوطِهَا مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ: أَنَّهَا لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي تَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ. وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ قِسْمَانِ: (1) تَمَتُّعٌ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْقُوَّةِ. (2) كَيْدٌ وَمَكْرٌ وَنِفَاقٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى حُبُوطِهِمَا آنِفًا بِمَا يَطَّرِدُ فِي أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يُشْبِهُهَا كَعَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَأَمَّا أَعْمَالُ النِّفَاقِ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي أَيَّامِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ الْفَاسِقِينَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَكْثَرَ رَوَاجًا وَنِتَاجًا مِنْ أَعْمَالِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ أَدُلُّ مِنْ تَقْرِيبِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُتَمَلِّقِينَ مِنْهُمْ، وَإِبْعَادِهِمْ لِلنَّاصِحِينَ الصَّادِقِينَ عَنْهُمْ. قَالَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْتَامُوا الْخُسْرَانَ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَظِّهِمْ مِنْ نِعَمِ اللهِ الِاسْتِمْتَاعَ الْعَاجِلَ، وَالْخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ، إِذْ جَاءَ خَسَارُهُمْ مِنْ مَظِنَّةِ الرِّبْحِ وَالْمَنْفَعَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (18: 103، 104) وَكُلُّ خَسَارٍ دُونَ هَذَا هَيِّنٌ كَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَسَارٍ، وَهَذَا مَعْنَى صِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ؟ أَمْ هَلْ يَعْتَبِرُ بِهِ التَّالُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ لِلْقُرْآنِ، أَمْ يَقْرَءُونَهُ وَيُفَسِّرُونَهُ لِكَسْبِ الْحُطَامِ؟ . أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ هَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ لِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُذَكِّرُهُمْ بِالْأَقْوَامِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ قَبْلِهِمْ وَوَصَلَتْ إِلَيْهِمْ سِيرَتُهُمْ

70

وَكَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا مِنْهُمْ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ: جُمَعُ مُؤْتَفِكَةٍ مِنَ الِائْتِفَاكِ: وَهُوَ الِانْقِلَابُ وَالْخَسْفُ وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَدْ فَصَّلَ التَّنْزِيلُ قِصَصَهُمْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَبَيَّنَ هُنَا خُلَاصَةَ نَبَئِهِمْ وَمَحَلَّ الْعِبْرَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أَيْ: فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُوَ الطُّوفَانُ الَّذِي أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ، وَالرِّيحُ الْعَقِيمُ الَّتِي أَهْلَكَتْ عَادًا قَوْمَ هُودٍ، وَالصَّيْحَةُ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ، وَالْعَذَابُ الَّذِي هَلَكَ بِهِ النَّمْرُودُ الَّذِي حَاوَلَ إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْخَسْفُ الَّذِي نَزَلَ بِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُمْ فِيهَا: فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ كَذَا، مَعْنَاهُ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ. وَهُوَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْفِعْلِ بِدَلِيلِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ أَيْ: فَمَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَظْلِمَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ وَأَعْذَرَ إِلَيْهِمْ لِيَجْتَنِبُوهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِجُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِإِنْذَارِ رُسُلِهِمْ. وَالْمُرَادُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ لِلْكَافِرِينَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ لَا ظُلْمَ فِيهَا وَلَا مُحَابَاةَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (54: 43) ؟ . وَأَمَّا قَوْمُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ تَعَالَى أَكَابِرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ غَزْوَةٍ هَاجَمُوهُ فِيهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، ثُمَّ خَذَلَ اللهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (33: 26) وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (59: 2) ثُمَّ صَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَمَا زَالُوا يَكِيدُونَ لَهُ فِي السِّرِّ، حَتَّى فَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَتَابَ أَكْثَرُهُمْ، وَمَاتَ زَعِيمُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بِغَيْظِهِ وَكُفْرِهِ، وَلَمْ تَقُمْ لِلنِّفَاقِ قَائِمَةٌ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَبَأُ مَوْتِهِ، وَلَوْ بَقِيَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَكِيدُونَ بِهَا لِلْإِسْلَامِ لَمَا خَفِيَ أَمْرُهَا عَلَى الْمُؤَرِّخِينَ، كَانَ قَوْمُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهَذَا التَّمْحِيصِ خَيْرَ أَقْوَامِ النَّبِيِّينَ، نَشَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ أَعْلَامَ هَذَا الدِّينِ، فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ، وَلَوْلَا مَا أَحْدَثَهُ الرَّوَافِضُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْخَوَارِجُ الْمَغْرُورُونَ، مِنَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَعَمَّتْ سِيَادَةُ الْإِسْلَامِ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ.

71

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرَضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مَعْطُوفَتَانِ عَلَى الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِبَيَانِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْإِيمَانُ - الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُنَافِقُونَ كَذِبًا وَتَقِيَّةً - وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ بِمَعْنَاهَا الْعَامِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (2: 257) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَوِلَايَةُ النُّصْرَةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ أَهَمُّهَا فِي شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (5: 51) وَفِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (8: 72 و73) وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ وِلَايَةَ النُّصْرَةِ وَوِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَلَكِنَّ نُصْرَةَ النِّسَاءِ تَكُونُ فِيمَا دُونَ الْقِتَالِ بِالْفِعْلِ، فَلِلنُّصْرَةِ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ، مَالِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ، وَكَانَ نِسَاءُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنِسَاءُ أَصْحَابِهِ يَخْرُجْنَ مَعَ الْجَيْشِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُجَهِّزْنَ الطَّعَامَ، وَيُضَمِّدْنَ جِرَاحَ الْجَرْحَى، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَانَتْ هِيَ وَأُمُّ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا يَنْقُزْنَ قِرَبَ الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَيُسْرِعْنَ بِهَا إِلَى الْمُقَاتَلَةِ وَالْجَرْحَى يَسْقِينَهُمْ وَيَغْسِلْنَ جِرَاحَهُمْ، وَكَانَ النِّسَاءُ يُحَرِّضْنَ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَرْدُدْنَ الْمُنْهَزِمَ مِنْ رِجَالٍ، قَالَ حَسَّانُ: تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٌ ... يُلَطِّمْهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ

وَفِي سِيرَةِ الْخَنْسَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَرِّضُ أَبْنَاءَهَا عَلَى الْقِتَالِ بِشِعْرِهَا كُلَّمَا قُتِلَ وَاحِدٌ، حَتَّى إِذَا مَا قُتِلَ الثَّالِثُ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. هَذَا شَأْنُ الْخَنْسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ مِنْ أَرَقِّ النِّسَاءِ قَلْبًا، وَأَكْمَدِهِنَّ حُزْنًا، وَرِثَاؤُهَا لِأَخَوَيْهَا مَلَأَ أَنْدِيَةَ الْأَدَبِ شَجْوًا وَشَجَنًا. وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْوَصْفِ الْمُتَقَابِلِ هُنَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا وِلَايَةَ بَيْنَهُمْ بِأُخُوَّةٍ تَبْلُغُ فَضِيلَةَ الْإِيثَارِ، وَلَا تَنَاصُرٍ يَبْلُغُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقِتَالِ ; لِأَنَّ النِّفَاقَ شُكُوكٌ وَذَبْذَبَةٌ مِنْ لَوَازِمِهِمَا الْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَهُمَا الْخُلُقَانِ الْمَانِعَانِ مِنَ التَّنَاصُرِ، بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، بَلْ قِصَارَاهُ التَّعَاوُنُ بِالْكَلَامِ وَمَا لَا يَشُقُّ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ بِالْقِتَالِ لِأَصْحَابِ الْعَقَائِدِ الثَّابِتَةِ، وَالْمِلَّةِ الرَّاسِخَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلَةً ; وَلِذَلِكَ أَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِبَعْضٍ وَلِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا لِلْمُنَافِقِينَ الْخُلَّصِ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ، بَلْ كَذَّبَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ فِي وَعْدِهِمْ لِلْيَهُودِ حُلَفَائِهِمْ بِنَصْرِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (59: 11، 12) فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي عَلَاقَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُشْبِهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شَكِّهِمْ وَارْتِيَابِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَآثَارِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مِنْ أُخُوَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَتَرَاحُمٍ، حَتَّى شَبَّهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَمَاعَتَهُمْ بِالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَبِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَوِلَايَةُ النُّصْرَةِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمِلَّةِ وَالْوَطَنِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي آثَارِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لِمَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَمْتَازُونَ بِهَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، هُمَا سِيَاجُ حِفْظِ الْفَضَائِلِ، وَمَنْعُ فُشُوِّ الرَّذَائِلِ، فَرَاجِعْ مَزَايَاهُمَا فِي تَفْسِيرِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (3: 104) وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (3: 110) الْآيَةَ وَوَرَدَ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا وَفَوَائِدِهِمَا آيَاتٌ أُخْرَى وَأَحَادِيثُ حَكِيمَةٌ.

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أَيْ: يُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَمَا شَاءُوا مِنَ التَّطَوُّعِ، عَلَى أَقْوَمِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ فِي شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا، وَلَاسِيَّمَا الْخُشُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِيهَا، وَمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَيُعْطُونَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ لِمَنْ فُرِضَتْ لَهُمْ فِي الْآيَةِ السِّتِّينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا وُفِّقُوا لَهُ مِنَ التَّطَوُّعِ. وَفَائِدَةُ إِقَامَةِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ قَدْ بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (70: 19 - 26) الْآيَاتِ. فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ عِلَاجٌ لِمَا فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجُبْنِ الْحَاجِمِ لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمِنَ الشُّحِّ الصَّادِّ لَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَجْبَنَ النَّاسِ وَأَبْخَلَهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ غَايَةً لِلْإِذْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فِي الدِّينِ وَسَبَبًا لِنَصْرِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ ; إِذْ قَالَ بَعْدَ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (22: 41) وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْفُتُوحَاتِ، وَدَانَتْ لَهُمُ الْأُمَمُ طَوْعًا، وَبِتَرْكِهَا سُلِبَ أَكْثَرُ مُلْكِهِمْ، وَالْبَاقِي عَلَى وَشْكِ الزَّوَالِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَرْجِعُوا إِلَى هِدَايَةِ دِينِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا إِقَامَةِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ مِنْهُ. وَإِقَامَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلصَّلَاةِ يُقَابِلُ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ نِسْيَانَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ رَوْحَ الصَّلَاةِ مُرَاقَبَةُ اللهِ تَعَالَى وَذِكْرُهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا بِدُونِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ (29: 45) أَيْ أَنَّ ذِكْرَهُ الَّذِي شُرِعَتِ الصَّلَاةُ لَهُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ; إِذْ بِهِ يَسْتَحْكِمُ لِلْمُؤْمِنِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَيَنْتَهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَتَزْكُو نَفْسُهُ، وَتَعْلُو هِمَّتُهُ، وَتَكْمُلُ شَجَاعَتُهُ، وَيَتِمُّ سَخَاؤُهُ وَنَجْدَتُهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (87: 14 و15) وَقَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (20: 14) وَإِيتَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلزَّكَاةِ يُقَابِلُ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (67) وَلَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُصَلُّونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَكَانُوا يُزَكُّونَ وَيُنْفِقُونَ. وَلَكِنْ خَوْفًا أَوْ رِيَاءً لَا طَاعَةً لِلَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا

(4: 142) وَمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا، وَالْمُقَارَنَةَ بَيْنَ صَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَزَكَاتِهِمَا لَا يَفْقَهُ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْفِقْهُ لَا يَجِدُهُ طَالِبُهُ فِيمَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَإِنْ زَعَمَ الْخَاسِرُونَ الْجَاهِلُونَ أَنَّهَا تُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ فَائِدَةٌ مِنْهُ إِلَّا التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهِ، وَالتَّبَرُّكُ بِمَصَاحِفِهِ، وَكَذَا اتِّجَارُ بَعْضِ حُفَّاظِ أَلْفَاظِهِ بِتَغَنِّيهِمْ بِهِ! . ثُمَّ قَالَ: وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ: يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الطَّاعَةِ، بِتَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ وَفِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهُوَ يُقَابِلُ وَصْفَهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَاسِقُونَ، فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ حَظِيرَةِ الطَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ يُقَابِلُ نِسْيَانَهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ وَلَعْنَهُ لَهُمْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَهَّدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ " السِّينَ " فِي مِثْلِ سَيَرْحَمُهُمُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ " لَنْ " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَكِلْتَاهُمَا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِتَعْلِيلِ هَذَا الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَعْدِهِ، وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يَضَعُ شَيْئًا مِنْهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْوَعْدَ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ صِفَاتِهِمْ وَرَحِمَتَهُ لَهُمْ بِالْإِجْمَالِ، بَيْنَ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُفَسِّرِ لِرَحْمَتِهِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فِي مُقَابَلَةِ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْوَانَهُمِ الْكُفَّارَ تَفْسِيرًا لِنِسْيَانِهِ لَهُمْ، فَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الْآيَةُ نَصٌّ فِي مُسَاوَاةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كُلِّهِ حَتَّى أَعْلَاهُ، بِالتَّبَعِ لِمُسَاهَمَتِهِنَّ لَهُمْ فِي التَّكْلِيفِ وَوِلَايَةِ الْإِيمَانِ، إِلَّا مَا خَصَّهُنَّ الشَّرْعُ بِهِ لِضَعْفِهِنَّ، وَانْفِرَادِهِنَّ بِوَظَائِفِهِنَّ الْخَاصَّةِ بِهِنَّ، إِذْ حَطَّ عَنْهُنَّ وُجُوبَ الْقِتَالِ، وَالصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَهِلَهُ أَوْ تَجَاهَلَهُ أَعْدَاؤُهُ الطَّغَامُ، وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ الْمُلْتَفَّةُ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجِنُّ الْأَرْضَ، أَيْ تُغَطِّيهَا وَتَسْتُرُهَا. وَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، مَزِيدٌ فِي جَمَالِهَا، وَمَانِعٌ مَنْ أُسُونِ مَائِهَا، وَالْخُلُودُ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَامِ الدَّائِمِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِرَارًا. وَأَمَّا الْمَسَاكِنُ الطَّيِّبَةُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فَهِيَ الدُّورُ وَالْخِيَامُ، الَّتِي يَطِيبُ لِسَاكِنِيهَا بِهَا الْمُقَامُ فِي ذَلِكَ الْمُقَامِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَرَافِقِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ وَالزِّينَةِ وَالرِّزْقِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ رَاحَةُ الْمُقِيمِ فِيهَا وَغِبْطَتُهُ، وَمِنْهَا الْغُرُفَاتُ الَّتِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ

72

(43: 37) وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (29: 58) وَقَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (39: 20) . وَأَمَّا إِضَافَةُ هَذِهِ الْجَنَّاتِ إِلَى (عَدْنٍ) فَقَدْ تَعَدَّدَتْ فِي التَّنْزِيلِ بِمَا جَاوَزَ جَمْعَ الْقِلَّةِ، وَمَعْنَى الْعَدْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِقَامَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ، يُقَالُ: عَدَنَ فِي مَكَانِ كَذَا (مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَقَعَدَ) أَقَامَ وَثَبَتَ فِيهِ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقِرِّ الْجَوَاهِرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَاسِ وَغَيْرِهَا. وَفَسَّرُوهَا بِقَوْلِهِمْ: جَنَّاتُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّةُ الْخُلْدِ (25: 15) وَجَنَّةُ الْمَأْوَى (53: 15) وَلَكِنَّ هَاتَيْنِ وَرَدَتَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مُضَافًا إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَهُمَا اسْمَانِ لِدَارِ النَّعِيمِ كَلَفْظِ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ يُونُسَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (10: 9) وَأَمَّا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَهُوَ جَمْعٌ أُضِيفَ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ (عَدْنٍ) فَجَعَلَهُ بِمَعْنَى إِقَامَةٍ - كَمَا قِيلَ - يَقْتَضِي جَعْلَهُ مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ قَبْلُ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ; لِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِالْإِقَامَةِ وَبِالْخُلُودِ فِيهَا أَيْضًا، عَلَى مَا فِي تَنْكِيرِ عَدْنٍ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الضَّعْفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ عَدْنٍ مَعْرِفَةً، وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ: فِي جَنَّاتِ الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ (عَدْنٍ) . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُفَسِّرُ هَذَا، وَهُوَ ذِكْرُ جَنَّةِ عَدْنٍ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ، وَفِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَكَانٌ أَوْ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ دَارِ النَّعِيمِ كَالْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَاهَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي تَجَلِّي الرُّؤْيَةِ، الَّتِي هِيَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ. رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ (وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ) فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (55: 46) وَقَوْلُهُ بَعْدَ وَصْفِهِمَا: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (55: 62) عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا عَدْنٌ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ مَكَانٌ سَامٍ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَجْمُوعُ الْحَدِيثِ وَالْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدْنًا مَنْزِلٌ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَنَّ فِيهِ جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ مُتَعَدِّدَةً، لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مِنْهَا جَنَّتَانِ، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ وَهِيَ كَالْأَرْبَعِ الْمَوْصُوفَةِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

وَيَقْرُبُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضًا إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ هُوَ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَا مَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ قَالَا: عَدْنٌ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَفِيهَا عَيْنُ التَّسْنِيمِ وَالْجَنَّاتُ مُحْدَقَةٌ حَوْلَهَا إِلَخْ. وَتَتِمَّتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْمَرْفُوعِ أَنَّ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ تُسَمَّى الْوَسِيلَةُ، وَهِيَ دَرَجَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّتِي طَلَبَ مِنَّا أَنْ نَسْأَلَهَا لَهُ فِي دُعَاءِ الْأَذَانِ: " اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ. وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ " فَهَذِهِ دَرَجَةٌ خَاصَّةٌ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ بَعْدَ ذِكْرِ جَنَّاتِ عَدْنٍ يُرَادُ بِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرِّضْوَانِ، وَمَا هُوَ إِلَّا مَقَامُ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَتَتِمُّ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ، فَالْإِنْسَانُ جَسَدٌ وَرُوحٌ، فَفِي الْجَنَّاتِ وَمَسَاكِنِهَا أَعْلَى النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ، وَرَضْوَانُ اللهِ الْأَكْبَرُ هُوَ أَعْلَى النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، فَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا حَرَّرْتُهُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ مُفْرَدًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِمَّا وُعِدُوا بِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ ; لِأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ جَزَاءٍ، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (10: 26) بَلْ جَاءَ مَرْفُوعًا فِي اللَّفْظِ كَرِفْعَةِ مَعْنَاهُ، فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ تَقْدِيرُهَا: وَهُنَالِكَ رِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا، لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُكْتَنَهُ سِرُّهُ. فَهَذَا مَا يُفْهَمُ بِمَعُونَةِ الْحَدِيثِ مِنَ اخْتِلَافِ إِعْرَابِهِ وَوَصْفِهِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ (أَكْبَرُ) وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ (وَرَضْوَانٌ) مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ غَيْرَ مَوْصُوفٍ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَلَا مَوْصُولًا بِكَوْنِهِ مِنَ اللهِ فِي آيَةِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ (21) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ (3: 15) مَعْطُوفًا عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ، فَهَلْ يَجُوزُ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ وَوَصْفِ (أَكْبَرُ) بِغَيْرِ فَائِدَةٍ؟ وَهَلْ نَجِدُ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ نِعْمَةِ الرُّؤْيَةِ؟ ، كَلَّا وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي الْقُرْآنِ، لِئَلَّا يَكُونَ فِتْنَةً لِمَنْ لَمْ تَسْمُ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَحِكْمَتُهُ الرَّحْمَةُ بِضَعْفِ الْإِنْسَانِ، وَاللَّبِيبُ يَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، مَا لَا يَفْهَمُهُ الْغَبِيُّ بِأَفْصَحِ عِبَارَةٍ، أَفَلَمْ تَرَ كَيْفَ اخْتَلَفَ الْأَلِبَّاءُ فِي فَهْمِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (75: 22 و23) .

وَأَمَّا تَحْقِيقُ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَالْحُكْمِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْنَى رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُجُبِ الَّتِي تَحْجُبُ الْعَبْدَ عَنْ رَبِّهِ، فَقَدْ فَصَّلْتُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ تَفْصِيلًا يُقَرِّبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ (ص112 - 154 ج 9 ط الْهَيْئَةِ) فَهُوَ وَمَا هُنَا مِمَّا انْفَرَدَ هَذَا التَّفْسِيرُ بِتَحْقِيقِهِ بِإِلْهَامِ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَوَجْهُ الْمُقَابَلَةِ الضِّدْيَةِ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ قَبْلَهُ ظَاهِرٌ، فَالْجَنَّاتُ الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالْخُلُودُ فِيهَا مُقَابِلٌ لِنَارِ جَهَنَّمَ وَالْخُلُودِ فِيهَا، وَالْمَسَاكِنُ الطَّيِّبَةُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مُقَابِلٌ لِلْعَذَابِ الْمُقِيمِ، وَرِضْوَانُ اللهِ الْأَكْبَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُقَابِلٌ لِلَعْنَةِ اللهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، إِذْ هِيَ الطَّرْدُ وَالْحِرْمَانُ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، نَعُوذُ بِوَجْهِهِ. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ الْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِالنَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُجْزَى بِهِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ الْمُصْلِحُونَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ، الَّتِي يَتَكَالَبُ عَلَيْهَا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ الْفَاسِدُونَ الْمُفْسِدُونَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي نَظَرِ الْمُتَّقِينَ بُلْغَةُ عَامِلٍ، وَزَادُ مُسَافِرٍ. فَمَا عَلَى الْمُؤْمِنِ إِلَّا أَنَّ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ، وَيَنْصِبَ لَهَا الْمِيزَانَ، مِنْ كِفَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَكِفَّةِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَحْكُمَ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا بِحُكْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِهَوَاهَا، وَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ وَلَا بِدَعْوَى الْإِيمَانِ، إِلَّا شَهِدَ بِصِدْقِهِ الْقُرْآنُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِهَا وَحُورِهَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْمُنْكَرُ وَالْمَوْضُوعُ، وَالْمُرْسَلُ وَالْمَوْقُوفُ، وَمِنَ الْمَرْفُوعِ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فَذَكَرَ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، وَأَنَّهُمَا سَأَلَا عَنْهَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَذَكَرَ وَصْفًا طَوِيلًا، مِنْهُ: أَنَّهُ يُوجَدُ هُنَالِكَ أُلُوفٌ مِنَ الْبُيُوتِ، فِي كُلٍّ مِنْهَا أُلُوفٌ مِنَ الْحَوَرِ الْعَيْنِ. . وَهُوَ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ لَهُ مَتْنٌ وَلَا سَنَدٌ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي نِسَاءِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِأَكْثَرَ مِنْ زَوْجَيْنِ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْ دَسَائِسِهِ أَيْضًا.

73

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنَّ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبُهُمْ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ هَاتَانِ الْآيَتَانِ تَهْدِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِالْجِهَادِ كَالْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ، إِذَا اسْتَرْسَلُوا بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ فِي إِظْهَارِ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَالْقَوْلِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي إِنْكَارِهِمْ، أَوْ بِجِهَادٍ دُونَ جِهَادِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ وَأَقَلُّهُ أَلَّا يُعَامَلُوا بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ كَمُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ يُقَابَلُوا بِالْغِلْظَةِ وَالتَّجَهُّمِ لَا بِالطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ وَاللِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَيْ: ابْذُلْ جَهْدَكَ فِي مُقَاوَمَةِ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ فِي عَدَاوَتِكَ، وَعَامِلْهُمْ بِالْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِسُوءِ حَالِهِمْ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ فِي جِهَادِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهُ بِإِظْهَارِهِمْ لِعَدَاوَتِهِمْ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْمُنَافِقُونَ يُخْفُونَ كُفْرَهُمْ وَعَدَاءَهُمْ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فَيُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَشَدُّ، وَعُذْرَهُمْ فِيهِ أَضْعَفُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجِهَادِ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْقُرْآنِ، وَبِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ بِالْقِتَالِ فِي مَوَاضِعَ أَجْمَعَهَا الِاسْتِطْرَادُ الَّذِي كَتَبْنَاهُ فِي آخِرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ (ص269 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِيهَا أَنَّ الْجِهَادَ مُشَارَكَةٌ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالْمَشَقَّةُ كَالْقِتَالِ مِنَ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَقَوْلِيٌّ وَفِعْلِيٌّ، وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُعَامَلُونَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ، فَلَا يُقَاتَلُونَ إِلَّا إِذَا أَظْهَرُوا الْكُفْرَ الْبَوَاحَ بِالرِّدَّةِ، أَوَبَغَوْا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُوَّةِ، أَوِ امْتَنَعَ بَعْضُ طَوَائِفِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ

وَأَرْكَانِهِ، وَرُوِيَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: جِهَادُ الْكَفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ، فَفَسَّرَ الْكَفَّارَ هُنَا بِالْحَرْبِيَّيْنِ، وَسَيَأْتِي مِنْ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَمِنْ صَلَاتِهِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللهِ أَنْ يُجَاهِدَ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ، فَقَوْلُهُ: " فَلْيَلْقَهُ " يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا فِي جِهَادِ الْأَفْرَادِ بِالْمُعَامَلَةِ، لَا فِي جِهَادِ الْجَمَاعَاتِ بِالْمُقَاتَلَةِ، فَهُوَ إِذًا بِمَعْنَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ - إِلَّا الْبُخَارِيَّ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِقَاءُ الْكَافِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ أَيْ: عَبُوسٍ مُقَطَّبٍ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ جَعْلُهُ دُونَ كَرَاهَةِ الْقَلْبِ، وَلَا أَنَّ كَرَاهَةَ الْقَلْبِ لَا تُسْتَطَاعُ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ فَنَعْرِفُ مَكَانَهُ مِنَ الصِّحَّةِ. وَكَانَ مِنْ شَمَائِلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَالْبَشَاشَةُ فِي وُجُوهِ جَمِيعِ مَنْ يَلْقَاهُمْ حَتَّى الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، رَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " يَا عَائِشَةُ مَتَّى عَهِدْتِنِي فَاحِشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ " وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّاجِحِ عُيَيْنَةَ ابْنَ حِصْنٍ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فِي سِيَاقِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَعْدَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَسِيَاقِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ عَلَى حَمَاقَتِهِ، فَلُقِّبَ بِالْأَحْمَقِ الْمُطَاعِ وَقَدْ أَسْلَمُوا تَبَعًا لَهُ، فَكَانَ إِسْلَامُهُمْ أَصَحَّ مِنْ إِسْلَامِهِ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ شَمَائِلِ النَّبِيِّ وَآدَابِهِ الْعَامَّةِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُعَامَلَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْعُقُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (3: 159) وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَالثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (9: 123) وَالْغِلْظَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُشُونَةُ وَالشِّدَّةُ، وَمُعَامَلَةُ الْعَدُوِّ الْمُحَارِبِ بِهِمَا مِنَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَمُعَامَلَتُهُ بِاللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَضْعٌ لَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمَا. وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ فِي الْعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ لِرَسُولِهِ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (63: 4) وَالْكُفَّارُ الْمُعَاهَدِينَ وَالذِّمِّيِّينَ الْخَائِنِينَ فَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعَامِلُهُمْ أَوَّلًا بِلُطْفِهِ وَلِينِهِ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ هِيَ الَّتِي جَرَّأَتِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى أَذَاهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِيهِ: " هُوَ أُذُنٌ " (61) وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْيَهُودِ، كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَاهَدَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَكَانُوا يُؤْذُونَهُ حَتَّى بِتَحْرِيفِ السَّلَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَوْتُ، فَيَقُولُ: " وَعَلَيْكُمْ " ثُمَّ تَكَرَّرَ نَقْضُهُمْ لِعَهْدِهِ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (ص46 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي جِهَادِهِ التَّأْدِيبِيِّ لَهُمْ - وَمِثْلُهَا بِنَصِّهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ - وَهُوَ جِهَادٌ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ ; لِأَنَّهُ مَوْقِفٌ وَسَطٌ بَيْنِ رَحْمَتِهِ وَلِينِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَشِدَّتِهِ فِي قِتَالِهِ لِلْأَعْدَاءِ الْحَرْبِيَّيْنِ، يَجِبُ فِيهِ إِقَامَةُ الْعَدْلِ، وَاجْتِنَابُ الظُّلْمِ، وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ: أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ، وَهَذِهِ الْغِلْظَةُ الْإِرَادِيَّةُ (أَيْ غَيْرُ الطَّبِيعِيَّةِ) تَرْبِيَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَعُقُوبَةٌ، يُرْجَى أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِهِدَايَةِ مَنْ لَمْ يَطَبَعِ الْكُفْرُ عَلَى قَلْبِهِ، وَتُحِيطْ بِهِ خَطَايَا نِفَاقِهِ، فَإِنَّ اكْفِهْرَارَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وُجُوهِهِمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ يَتْبَعُهُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِهِ وَبِمَا سَيَأْتِي يَفْقِدُونَ جَمِيعَ مَنَافِعَ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ الْأَدَبِيَّةِ، وَمَظَاهِرَ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعَطْفِهِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مُحْتَقَرٌ بَيْنَ قَوْمِهِ وَأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، مِنَ الرَّئِيسِ وَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَغَيْرِهِ يَضِيقُ صَدْرُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، فَيَرَاهَا إِذَا أَنْصَفَ وَتَدَبَّرَ مُلِيمَةً مُذْنِبَةً فَلَا يَزَالُ يُنْحِي عَلَيْهَا بِاللَّائِمَةِ، حَتَّى تَعْرِفَ ذَنْبَهَا، وَتَثُوبَ إِلَى رُشْدِهَا، فَتَثُوبَ إِلَى رَبِّهَا، وَهِيَ سِيَاسَةُ حِكْمَةٍ كَانَتْ سَبَبُ تَوْبَةِ أَكْثَرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِسْلَامِ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الْكَافِرِينَ. هَذَا وَإِنَّ مُعَاشَرَةَ الرَّئِيسِ مِنْ إِمَامٍ وَمَلِكٍ وَأَمِيرٍ لِمُنَافِقِي قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا يُعَاشِرُ بِهِ الْمُخْلِصِينَ مِنْهُمْ، فِيهِ تَوْطِينٌ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَحَمْلٌ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الشِّقَاقِ، فَكَيْفَ إِذَا وَضَعَ الْمُحَاسَنَةَ مَوْضِعَ الْمُخَاشَنَةِ، وَالْإِيثَارَ لَهُمْ حَيْثُ تَجِبُ الْأَثَرَةُ عَلَيْهِمْ، وَبَالَغَ فِي تَكْرِيمِهِمْ بِالْحِبَاءِ وَالِاصْطِفَاءِ، لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّمَلُّقِ لَهُ، وَدِهَانِ الدَّهَاءِ، وَالْإِطْرَاءِ فِي الثَّنَاءِ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُفْسِدَةٌ لِأَخْلَاقِ الدَّهْمَاءِ، وَمُثِيرَةٌ لِحَفَائِظَ الْمُخْلِصِينَ الْفُضَلَاءِ، وَكَمْ أَفْسَدَتْ عَلَى الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ أَمْرَهُمْ، وَكَانَتْ سَبَبًا لِإِضَاعَةِ مُلْكِهِمْ. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هَذَا جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَطَفَهُ عَلَى جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ لَا مَأْوَى لَهُمْ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ هُنَالِكَ إِلَّا دَارَ الْعَذَابِ الْكُبْرَى، الَّتِي لَا يَمُوتُ مَنْ أَوَى إِلَيْهَا وَلَا يَحْيَا، فَهُمْ يَصِيرُونَ إِلَيْهَا مَعْتُولِينَ، وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهَا مَقْهُورِينَ، لَا يَأْوُونَ إِلَيْهَا مُخْتَارِينَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هِيَ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (25: 66) .

74

يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ هَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِجِهَادِهِمْ كَالْكَفَّارِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِالْقَوْلِ، وَهَمُّوا بَشَرِّ مَا يُغْرِي بِهِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْبَأَهُ بِأَنَّهُمْ سَيُنْكِرُونَهُ إِذَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِيُصَدَّقُوا كَدَأْبِهِمُ الَّذِي سَبَقَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً (58: 16) وَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُرْضُوهُمْ، وَكَانُوا يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ، وَفِي رَسُولِهِ بِمَا هُوَ اسْتِهْزَاءٌ خَرَجُوا بِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدْعُونَهُ إِلَى مَحْظُورِ الْكُفْرِ الَّذِي يَكْتُمُونَهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِسْنَادُ قَوْلٍ آخَرَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ يُنَافِي الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ، فَضْلًا عَنِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ، وَالْمَعْنَى: يَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي أُسْنِدَتْ إِلَيْهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى يُكَذِّبُهُمْ وَيَثْبُتُ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ وَ " قَدْ " أَنَّهُمْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلِمَةَ الَّتِي نَفَوْهَا وَأَثْبَتَهَا ; لِأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ فَيَتَعَبَّدُ الْمُسْلِمُونَ بِتِلَاوَتِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَعْيِينِهَا وَالْقَائِلِينَ لَهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعُرْوَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَفِيهِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (65) وَأَشْهَرُهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاسُ (بِضَمِّ الْجِيمِ) بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَيْلَةً فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: وَاللهِ لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهُ غُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ - وَكَانَ رَبِيبَهُ - فَقَالَ: أَيْ عَمِّ تُبْ إِلَى اللهِ، وَجَاءَ الْغُلَامُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَحْلِفُ وَيَقُولُ: وَاللهِ مَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: بَلَى وَاللهِ لَقَدْ قُلْتَهُ فَتُبْ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ فَيَجْعَلَنِي مَعَكَ مَا قُلْتُهُ، فَجَاءَ الْوَحْيُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَكَتُوا فَلَا يَتَحَرَّكُونَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ، فَرُفِعَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ: يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ فَقَالَ: قَدْ قُلْتُهُ وَقَدْ عَرَضَ اللهُ عَلَيَّ التَّوْبَةَ فَأَنَا أَتُوبُ، فَقُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَعْطَاهُ دِيَتَهُ فَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ، وَكَانَ هَمَّ أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْغُلَامِ: " وَعَتْ أُذُنُكَ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَخَذَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأُذُنِ عُمَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: " يَا غُلَامُ وَعَتْ أُذُنُكَ وَصَدَّقَكَ رَبُّكَ " اهـ. وَقَدْ أَشَارَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ إِلَى ضَعْفِ حَدِيثِ جُلَاسَ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَابَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ لَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ تَبُوكَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ " فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ وَأَنْزَلَ اللهُ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا أَحَدُهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ وَالْآخَرُ مِنْ غِفَارٍ، وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ فَظَهَرَ الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَنِيِّ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ لِلْأَوْسِ: انْصُرُوا أَخَاكُمْ، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَاللهِ: " لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ " فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللهِ مَا قَالَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الْآيَةَ. وَأَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذَا قَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " الْمُنَافِقُونَ " وَأَنَّهُ كَانَ فِي غَزَاةٍ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهَا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ " الْمُنَافِقُونَ "، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ الْخِصَامَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ قَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ (لَعَنَهُ اللهُ) مَا قَالَ كَانَ بَيْنَ مُهَاجِرِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ رِوَايَةَ قَتَادَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ عَقْلًا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نَقْلًا. وَابْنُ أُبَيٍّ كَانَ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ لَمْ يَخْرُجْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَالْجُلَاسِ. وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ اغْتِيَالُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْعَقَبَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ. ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ " زَادِ الْمَعَادِ " مَا نَصُّهُ: - " ذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَدِ فِي مُغَازِيهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ مَكَرَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَتَآمَرُوا أَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْعَقَبَةَ أَرَادُوا أَنْ يَسْلُكُوهَا مَعَهُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُخْبِرَ خَبَرَهُمْ فَقَالَ: " مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ

يَأْخُذَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِنَّهُ أَوْسَعُ لَكُمْ " وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعَقَبَةَ وَأَخَذَ النَّاسُ بِبَطْنِ الْوَادِي إِلَّا النَّفَرَ الَّذِينَ هَمُّوا بِالْمَكْرِ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ اسْتَعَدُّوا وَتَلَثَّمُوا وَقَدْ هَمُّوا بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَمَشَيَا مَعَهُ، وَأَمَرَ عَمَّارًا أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النَّاقَةِ، وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَسُوقَهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا وَكْزَةَ الْقَوْمِ مِنْ وَرَائِهِمْ قَدْ غَشَوْهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدَّهُمْ، وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ غَضَبَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَرَجَعَ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ، وَاسْتَقْبَلَ وُجُوهَ رَوَاحِلَهُمْ فَضَرَبَهَا ضَرَبَا بِالْمِحْجَنِ، وَأَبْصَرَ الْقَوْمَ وَهُمْ مُتَلَثِّمُونَ وَلَا يَشْعُرُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْمُسَافِرِ، فَأَرْعَبَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ، وَظَنُّوا أَنَّ مَكْرَهُمْ قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَأَسْرَعُوا حَتَّى خَالَطُوا النَّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتَّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ: " اضْرِبِ الرَّاحِلَةَ يَا حُذَيْفَةَ وَامْشِ أَنْتَ يَا عَمَّارُ وَرَاءَهَا " فَأَسْرَعُوا حَتَّى اسْتَوَوْا بِأَعْلَاهَا، فَخَرَجُوا مِنَ الْعَقَبَةِ يَنْتَظِرُونَ النَّاسُ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِحُذَيْفَةَ: " هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ أَوِ الرَّكْبِ أَحَدًا "؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: عَرَفْتُ رَاحِلَةَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَالَ: كَانَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَغَشَيْتُهُمْ وَهُمْ مُتَلَثِّمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " هَلْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ شَأْنُ الرَّكْبِ وَمَا أَرَادُوا "؟ قَالُوا: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَإِنَّهُمْ مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِي حَتَّى إِذَا طَلَعْتُ فِي الْعَقَبَةِ طَرَحُونِي مِنْهَا " قَالُوا: أَوَلَا تَأْمُرُ بِهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ إِذًا فَنَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ؟ قَالَ: " أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ وَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ " فَسَمَّاهُمْ لَهُمَا وَقَالَ: " اكْتُمَاهُمْ ". وَهَذَا السِّيَاقُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ رَوَى الْقِصَّةَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَ أُولَئِكَ الرَّهْطِ بِمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَعْضَهُ، وَالصَّحِيحُ فِي عَدَدِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَحُذَيْفَةَ اللَّذَيْنِ كَانَا مَعَ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْعَقَبَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمَا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَمْرَهُمَا بِكِتْمَانِهَا فَقَدْ رَوَى فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قُلْنَا لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتَ قِتَالَكُمْ أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ؟ أَوْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " إِنَّ فِي أُمَّتِي " - قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ، وَقَالَ غُنْدَرٌ: أَرَاهُ قَالَ: فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا

لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ. سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ. وَرَوَى بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضَ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ. قَالَ كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعُذِرَ ثَلَاثَةٌ (؟) قَالُوا: مَا سَمِعْنَاَ مُنَادِيَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، وَقَدْ كَانَ فِي حَرَّةٍ فَمَشَى فَقَالَ: " إِنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ فَلَا يَسْبِقُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ " فَوَجَدَ قَوْمًا قَدْ سَبَقُوهُ فَلَعَنَهُمْ يَوْمَئِذٍ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ مُعْتِبُ بْنُ بَشِيرٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَدُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطَّائِيُّ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُوِيدٍ وَسَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَقَيْسُ بْنُ فَهْدٍ، وَسُوِيدٌ وَدَاعِسٌ مِنْ بَنِي الْحُبْلَى، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللَّصِيتِ، وَسُلَالَةُ بْنُ الْحُمَامِ، وَهُمَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ عَدَدَهُمْ وَأَسْمَاءَهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ لِخُلَفَائِهِمْ مِنْ مُنَافِقِي الرَّوَافِضِ سَبِيلٌ إِلَى تَضْلِيلِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، بِمَا اعْتَادُوا مِنَ الطَّعْنِ فِي خَيْرِ أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ نَقِمَ مِنْهُ الشَّيْءُ: أَنْكَرَهُ وَعَابَهُ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَكَذَا عَاقَبَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: نَقَمْتَ الشَّيْءَ إِذَا نَكِرْتَهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْعُقُوبَةِ. أَيْ: وَمَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَبِعْثَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِمْ شَيْئًا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَالْكُفْرَ وَالْهَمَّ بِالِانْتِقَامِ إِلَّا إِغْنَاءَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ وَرَسُولَهُ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى بِالْغَنَائِمِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ الْغَايَاتِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَكَانُوا كَسَائِرِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْفُقَرَاءِ فَالْإِغْنَاءُ مِنْ فَضْلِ اللهِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ وَالنَّصْرِ لَهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْغَنَائِمِ كَمَا وَعَدَهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ (59) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْأَنْصَارِ: " وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي ".

وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوِيدٍ حَمَلُوا الْإِغْنَاءَ عَلَى الدِّيَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَوْبِيخِ الْمُنَافِقِينَ كَافَّةٍ، وَلَاسِيَّمَا الَّذِينَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، وَلَمْ يَكُنْ جُلَاسٌ مِنْهُمْ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهَا أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْإِغْنَاءِ، فَيَحْمِلُ جُلَاسٌ مِنْ تَوْبِيخِهَا عِلَاوَةً عَلَى مَا يَحْمِلُهُ سَائِرُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ تَابَ وَأَنَابَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ نَوْعِ الْبَدِيعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمَدْحَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي كُرْهِ سَاسَةِ التُّرْكِ فِي الْآسِتَانَةَ لِلْعَرَبِ: وَمَا نَقَمُوا مِنَّا بَنِي الْعُرْبِ خُلَّةً ... سِوَى أَنْ خَيَّرَ الْخَلْقِ لَمْ يَكْ أَعَجَمًا فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ: فَإِنْ يَتُوبُوا مِنَ النِّفَاقِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَتَابُ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الرُّوحِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ وَالشُّكْرِ لِنَعْمَائِهِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَمُعَاشَرَةِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ، وَمُشَاهَدَةِ مَا حَجَبَهُ النِّفَاقُ عَنْهُمْ مِنْ أَنْوَارِهِ، وَمَعَارِفِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنَ الْفَوَائِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِأُخُوَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْوُدِّ الْخَالِصِ وَالْوَفَاءِ الْكَامِلِ، وَالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَزَايَا التَّعَاوُنِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْحُبِّ وَالْإِخْلَاصِ، الَّتِي قَلَّمَا تُوجَدُ أَوْ تَكْمُلُ فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ - وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا مِنْ وَعْدِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ، وَمُسَاوِيهِ الْمُدَنِّسَةِ لِلْأَرْوَاحِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ: يُعَذِّبُهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (55) وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي وَصْفِ مَا يُلَازِمُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْفَرَقِ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَفِي مَعْنَاهُ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ (63: 4) فَهُمْ فِي جَزَعٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ جِهَادِهِمْ، وَمَا تَرَى فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ مِنْ حِرْمَانِهِمْ مِنْ كُلِّ وَلِيٍّ وَنَصِيرٍ فِي الْعَالَمِ، وَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ - وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَحَسُبَكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ وَعِيدِهِمْ. وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ أَيْ: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا أَدْنَى وَلِيٍّ يَتَوَلَّاهُمْ وَيَهْتَمُّ بِشَأْنِهِمْ، وَلَا أَضْعَفُ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ وَيُدَافِعُ عَنْهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ خَذَلَهُ اللهُ وَآذَنَهُ بِحَرْبٍ مِنْهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُخَيِّرَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا نَاحِيَةُ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَأَبْوَابُهَا قَدْ أُغْلِقَتْ فِي وُجُوهِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى حَصَرَ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَوِلَايَةَ النَّصْرِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ فَلَنْ يَجِدُوا بَعْدَ الْآنَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَلَّاهُمْ أَوْ يَنْصُرُهُمْ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ

75

مِنْهُمْ مَا كَانَ، وَلَا مِنْ قَبَائِلِهِمْ وَأُولِي أَرْحَامِهِمْ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ أَبْطَلَ عَصَبِيَّةَ الْأَنْسَابِ - وَلَا مِنَ الْغُرَبَاءِ بِمَا كَانَ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ، فَقَدْ قَضَى الْإِسْلَامُ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ وَجُوَارِهَا - وَلَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا ; فَإِنَّ أَحْلَافَهُمْ مِنْهُمْ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي الْحِجَازِ، بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي شَاسِعِ الْأَمْصَارِ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُلْكِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَهَكَذَا كَانَ، وَصَدَقَ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنِ انْتِقَاءِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْصَارِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَهَذَا مِنْ نَبَأِ الْغَيْبِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَفْطِنْ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ. هَذَا مَا يَخُصُّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْصَارِ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا - وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالنُّصُوصِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُنَافِقِينَ وَلَا لِلْكُفَّارِ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَمْرَ الدُّنْيَا بِالذِّكْرِ هُنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُهِمُّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ دُونَ الْآخِرَةِ الَّتِي لَا يُوقِنُونَ بِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ بَعْدَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ. وَيُوجَدُ مِثْلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي وَقْتِ الْعُسْرَةِ وَالْفَقْرِ، أَوِ الشِّدَّةِ وَالضُّرِّ، فَيَدْعُونَهُ وَيُعَاهِدُونَهُ عَلَى الشُّكْرِ لَهُ، وَالطَّاعَةِ لِشَرْعِهِ، إِذَا هُوَ كَشَفَ ضُرَّهُمْ، وَأَغْنَى فَقْرَهُمْ، فَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَكَسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، وَبَطَرُوا الْحَقَّ، وَهَضَمُوا حُقُوقَ الْخَلْقِ، وَهَذَا مَثَلٌ مِنْ شَرِّ أَمْثَالِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ اللهَ تَعَالَى وَأَقْسَمَ أَوْكَدَ الْأَيْمَانِ، لَئِنْ آتَاهُمْ مَنْ فَضْلِهِ مَالًا وَثَرْوَةً لَيَشْكُرَنَّ لَهُ

76

نِعْمَتَهُ بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا، وَالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ النَّافِعَةِ الَّتِي يَنْتَظِمُونَ بِهَا فِي سِلْكِ الصَّالِحِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَعَادَ " اللَّامَ " الْوَاقِعَةَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي (لَنَكُونَنَّ) لِتَأْكِيدِ الْعَزْمِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِفَضْلِ الْمَالِ. إِلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِ الصَّلَاحِ، بِمَا هُوَ وَرَاءَ الصَّدَقَاتِ، الَّتِي عَقَدُوا الْعَهْدَ وَالْقَسَمَ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا طَلَبُوا مِنْ سَعَةِ رِزْقِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا أَيْ: مَا لَبِثُوا أَنْ بَخِلُوا بِمَا آتَاهُمْ عَقِبَ حُصُولِهِ، وَأَمْسَكُوهُ فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ: وَتَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَحَالِ أُمَّتِهِمْ كَمَا عَاهَدُوا وَأَقْسَمُوا، وَلَمْ يَكُنْ تَوَلِّيهِمْ هَذَا أَمْرًا عَارِضًا شَغَلَهُمْ عَنْهُ شَاغِلٌ يَزُولُ بِزَوَالِهِ بَلْ تَوَلَّوْا: وَهُمْ مُعْرِضُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِمْ، بِحَيْثُ إِذَا ذُكِّرُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَيْهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ يُقَالُ: أَعْقَبَهُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَثَمَرَتَهُ أَيْ: فَأَعْقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَوْ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ الْبُخْلَ وَتَوَلِّيِ الْإِعْرَاضِ، بَعْدَ الْعَهْدِ الْمُوَثَّقِ بِأَوْكَدِ الْإِيمَانِ، نِفَاقًا رَاسِخًا فِي قُلُوبِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا مُلَازِمًا لَهَا: إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ لِلْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ فِي التَّوْبَةِ. ذَلِكَ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فَذَكَرَ سَبَبَيْنِ هُمَا أَخَصُّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نِفَاقِهِمْ: إِخْلَافُ الْوَعْدِ، وَالْكَذِبُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنُصُوصُ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْوَعْدُ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعَهْدِ وَالْقَسَمِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِخْلَافِهِمُ الْوَعْدَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ فِي حَادِثَةٍ وَقَعَتْ، وَعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمِ الدَّائِمُ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ لَوَازِمِ النِّفَاقِ فَالْمُنَافِقُ مُضْطَرٌّ إِلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ بَاطِنَهُ، وَلَابُدَّ لَهُ مِنْ كِتْمَانِ مَا فِي بَاطِنِهِ، وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ دَائِمًا لِئَلَّا يَظْهَرَ فَيُفْتَضَحَ وَيُعَاقَبَ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَذِبِ. وَإِسْنَادُ إِعْقَابِهِمُ النِّفَاقَ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الثَّانِي آدَبُ. وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ النِّفَاقُ يُمَكِّنُ النِّفَاقَ وَيُقَوِّيهِ فِي الْقَلْبِ. كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ يَزِيدُهُ قُوَّةً وَرُسُوخًا فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا جَمِيعُ صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا وَعَقَائِدِهَا، تُقَوِّي وَتُرَسِّخُ الْعَمَلَ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، فَإِسْنَادُهَا إِلَى الْعَمَلِ يَكُونُ صَحِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ، كَمَا أَنَّ إِسْنَادَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى يَكُونُ صَحِيحًا ; لِأَنَّهَا مُقْتَضَى سُنَّتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْجَبْرِيَّةُ وَالصُّوفِيَّةُ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ

تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ الْآيَةَ. أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَجْلِسًا فَأَشْهَدَهُمْ فَقَالَ: لَئِنْ آتَانِي اللهُ مِنْ فَضْلِهِ آتَيْتُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَتَصَدَّقْتُ وَجَعَلْتُ مِنْهُ لِلْقَرَابَةِ، فَابْتَلَاهُ اللهُ فَآتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخْلَفَ مَا وَعَدَهُ، فَأَغْضَبَ اللهَ بِمَا أَخْلَفَهُ مَا وَعَدَهُ، فَقَصَّ اللهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ اهـ. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَارُودِيُّ وَأَبُو نُعَيمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، قَالَ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلِي؟ فَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُسَيِّرَ رَبِّي هَذِهِ الْجِبَالَ مَعِيَ لَسَارَتْ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ آتَانِي اللهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. قَالَ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ تُطِيقُ شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُ شُكْرَهُ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " اللهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا " فَاتَّجَرَ وَاشْتَرَى غَنَمًا فَبُورِكَ لَهُ فِيهَا، وَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى بِهَا فَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَاةَ بِالنَّهَارِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا يَشْهَدُهَا بِاللَّيْلِ. ثُمَّ نَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ فَضَاقَ بِهَا مَكَانُهُ، فَتَنَحَّى بِهِ فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمُعَةً وَلَا جِنَازَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَفَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ اشْتَرَى غَنَمًا، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ ضَاقَتْ بِهِ وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ ". ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (9: 103) الْآيَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلَيْنِ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي سَلَمَةَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَاتِ، فَكَتَبَ لَهُمَا أَسْنَانَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَيْفَ يَأْخُذَانِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا عَلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَبِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَا فَمَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: أَرِيَانِي كِتَابَكُمَا، فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا جِزْيَةٌ انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرَغَا ثُمَّ مُرَّا بِي، قَالَ: فَانْطَلَقَا وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ فَاسْتَقْبَلَهُمَا بِخِيَارِ إِبِلِهِ فَقَالَا: إِنَّمَا عَلَيْكَ دُونَ هَذَا. فَقَالَ مَا كُنْتُ أَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ إِلَّا بِخَيْرٍ مَالِي فَقَبِلَاهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَقَالَ: أَرِيَانِي كِتَابَكُمَا. فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا جِزْيَةٌ انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي فَانْطَلَقَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا: " وَيْحَ

79

ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ " وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنْزَلَ اللهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مَنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الثَّلَاثَ الْآيَاتِ. قَالَ: فَسَمِعَ بَعْضٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَأَتَى ثَعْلَبَةَ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَقَدِمَ ثَعْلَبَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ صَدَقَةُ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ " قَالَ: فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " هَذَا عَمَلُكَ بِنَفْسِكَ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي " فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى مَضَى. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي فَقَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَقْبَلُهَا؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي، وَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلُهَا أَنَا؟ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ فَهَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَفِيهِ نَزَلَتْ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ (79) قَالَ: وَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ - وَبِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ ثَعْلَبَةَ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَاسِيَّمَا بُكَائِهِ أَنَّهَا تَوْبَةٌ صَادِقَةٌ، وَكَانَ الْعَمَلُ جَارِيًا عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِظَوَاهِرِهِمْ، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى نِفَاقِهِ، وَلَا يَتُوبُ عَنْ بُخْلِهِ وَإِعْرَاضِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَخَلِيفَتَيْهِ عَامَلَاهُ بِذَلِكَ لَا بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ أَيْ: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ غَيْرَ مَا يُسِرُّونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْزِ الرَّسُولِ، أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمُ الْكَامِنَ فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِهِمْ، وَنَجْوَاهُمُ الَّتِي يَخُصُّونَ بِهَا مَنْ يَثِقُونَ بِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ: وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ كُلِّهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (3: 5) وَيَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (40: 19) فَهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ فِيمَا يُعَاهِدُونَهُ بِهِ وَعَلَى النَّاسِ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ. الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ الْقَاطِعِ لِطَرِيقِ الِاعْتِذَارِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَعِلْمِهِ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا تَقْلِيدِيًّا. وَإِنَّمَا كَانُوا يَرْتَابُونَ فِي الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ مِنْ عَمَلِهِمْ وَأَيْمَانِهِمِ الْكَاذِبَةِ بِاسْمِهِ هُوَ عَمَلُ مَنْ

لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجْوَاهُ، وَأَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ; فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا عِلْمًا صَحِيحًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ، وَيَخَافَ عِقَابَهُ إِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَاكَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا. الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الصَّدَقَاتِ لِلْجِهَادِ ; إِذْ لَمْ يَقِفِ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ حَدِّ بُخْلِهِمْ وَتَخَلُّفِهِمْ، بَلْ تَعَدَّوْهُ إِلَى لَمْزِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمِّهِمْ، بِمَا بَذَلَهُ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَلِحُكْمِ مَنْ تَرَدَّوْا فِي هَذِهِ الْهَاوِيَةِ مِنَ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَهُمْ أَدْنَى حَظٍّ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا أَدْنَى نَفْعٍ مِنِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ وَدُعَائِهِ لَهُمْ ; لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَعَدَمِ الرَّجَاءِ فِي إِيمَانِهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أَيْ: أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعِيبُونَهُمْ فِي أَمْرِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ - أَوْ أَعْنِي بِمَا ذُكِرَ مِنَ الذَّمِّ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُتَطَوِّعِينَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ فَهِيَ كَالْمُطَّهِّرِينَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ، وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَةِ: مَا زَادَ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَالصَّدَقَاتُ جَمْعُ صَدَقَةٍ تُطْلَقُ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَفْرَادِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: فِي الصَّدَقَاتِ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ (58) وَلَكِنَّ اللَّمْزَ هُنَالِكَ فِي قِسْمَتِهَا، وَهَاهُنَا فِي صِفَةِ أَدَائِهَا وَمِقْدَارِهَا، وَالنِّيَّةِ فِيهَا، كَمَا يُذْكَرُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ قَرِيبًا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَلْمِزُونَ) وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِـ (الْمُطَّوِّعِينَ) لِلْفَصْلِ بِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الْفَصْلُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُطَّوِّعِينَ، وَلَكِنَّ التَّطَوُّعَ وَاللَّمْزَ كِلَاهُمَا يَتَعَدَّيَانِ بِـ " الْبَاءِ "

لَا بِـ " فِي " فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ كَمَا فَعَلْنَا. وَالْمُتَطَوِّعُونَ وَالْمُطَّوِّعَةُ يُطْلَقُ عَلَى الَّذِينَ يَتَبَرَّعُونَ بِالْجِهَادِ وَالْغَزْوِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِدُونِ أَنْ يَدْعُوَهُمُ الْإِمَامُ أَوِ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ، وَالْمُتَطَوِّعُونَ بِالْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ تَتَوَلَّى نَفَقَتُهُمْ إِدَارَةُ الْعَسْكَرِ مِنْ مَالِ الْحُكُومَةِ ; إِذْ لَا يُمْكِنُهُمْ فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَ النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَالتَّطَوُّعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَكَلُّفُ الطَّاعَةِ أَوِ الْإِتْيَانُ بِمَا فِي الطَّوْعِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْوَاجِبَ، كَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ: وَمِنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (2: 158) وَاسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمَعْنَى النَّفْلِ، أَيِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ. قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتِ الصِّيَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ (2: 184) أَيْ: فَمَنْ زَادَ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَفِي الصِّيَامِ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمُسْتَفِيضِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا ذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصِيَامَ رَمَضَانَ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَهُ هَلْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا؟ قَالَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعْ " أَيْ: تَتَطَوَّعُ وَتَتَبَرَّعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ التَّطَوُّعِ هُنَا بِمَعْنَى التَّبَرُّعِ بِالْغَزْوِ ; إِذِ الْكَلَامُ خَاصٌّ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْرَ إِلَيْهَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللهَ قَدِ اسْتَنْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا، وَوَبَّخَ الْمُتَثَاقِلِينَ عَنْهَا، وَقَالَ: انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (41) وَلَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُطَّوِّعِينَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْعَامُّ، وَهُمُ الَّذِينَ نَفَرُوا لِلْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُطْلَبَ بِشَخْصِهِ لَهُ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُرَادَ هُنَا التَّطَوُّعُ بِالصَّدَقَاتِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّ اللَّمْزَ وَاقِعٌ فِي شَأْنِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَتِهَا وَمِقْدَارِهَا، لَا مُتَعَلِّقٌ بِهَا نَفْسِهَا، وَهُوَ الْوَاقِعُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْآتِي. وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أَيْ: وَيَلْمِزُونَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، وَالْجُهْدُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: الطَّاقَةُ، وَهِيَ أَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُهُ الْإِنْسَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ وَهِيَ الْفَتْلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْفَتِيلُ مِنَ الْفَتْلِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا، وَتُسَمَّى قُوَّةً، وَجَمْعُهَا قُوًى - كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (2: 184) مِنْ آيَاتِ الصِّيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا بِقَلِيلٍ هُوَ مَبْلَغُ جُهْدِهِمْ وَآخِرُ طَاقَتِهِمْ، وَعَطْفُهُمْ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْوِيهًا بِهِمْ ; لِأَنَّ مَجَالَ لَمْزِهِمْ وَعَيْبِهِمْ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ أَوْسَعُ، وَالسُّخْرِيَةَ مِنْهُمْ فِي عُرْفِهِمْ أَشَدُّ، وَإِنْ

كَانُوا أَجْدَرَ بِالثَّنَاءِ وَالْإِكْبَارِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمُ احْتِقَارًا لِمَا جَاءُوا بِهِ وَعَدًا لَهُ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْجُنُونِ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُكْثِرِينَ وَالْمُقِلِّينَ. قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ جَزَاءِ هَؤُلَاءِ اللَّامِزِينَ السَّاخِرِينَ: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ هَذَا التَّعْبِيرُ يُسَمَّى مُشَاكَلَةً، وَمَا هُوَ إِلَّا الْعَدْلُ فِي جَزَاءِ الْمُمَاثِلَةِ، أَيْ: جَزَاهُمْ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمْ فَجَعَلَهُمْ سُخْرِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِفَضِيحَتِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ هَذَا الْخِزْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَخَازِيهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، وَلَهُمْ فَوْقَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِيَ هَذَا السِّيَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ. لَا يَتَجَلَّى الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِبَيَانِ مَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ الْآخَرُ هَذَا إِلَّا رِيَاءً، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الْآيَةَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نَتَحَامَلُ عَلَى ظُهُورِنَا، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَفْسِيرِ " نَتَحَامَلُ " مِنْ فَتْحِ الْبَارِي: أَيْ: يَحْمِلُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِالْأُجْرَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: تَحَامَلَ فِي الْأَمْرِ تَكَلَّفَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ تَحَامَلَ عَلَى فُلَانٍ أَيْ: كَلَّفَهُ مَا لَا يُطِيقُ، وَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي اسْمِ أَبِي عُقَيلٍ وَلَقَبِهِ - وَهُوَ الْحَبْحَابُ - وَمَا وَرَدَ فِيهِ، ثُمَّ لَخَّصَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَخْتَارُهُ عَلَى مَا جَمَعَهُ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِبَيَانِ طُرُقِهِ وَصِفَتِهِ فَقَالَ: وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي، وَأَلْفَيْنِ أُمْسِكُهُمَا لِعِيَالِي، فَقَالَ: " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ " قَالَ: وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ - الْحَدِيثَ - قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَّا طَالُوتُ ابْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كَامِلٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَوَانَةَ مُرْسَلًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُغَازِي بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ

80

وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: وَحَثَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الصَّدَقَةِ، يَعْنِي فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ جِئْتُكَ بِنِصْفِهَا، وَأَمْسَكْتُ نِصْفَهَا، فَقَالَ: " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ " وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ - الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ بِمَعْنَاهُ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَمَانُمِائَةُ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ - الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَحَكَى عِيَاضٌ فِي " الشِّفَاءِ " أَنَّهُ جَاءَ يَوْمئِذٍ بِتِسْعِمِائَةِ بَعِيرٍ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أَحْضَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَصَحُّ الطُّرُقِ فِيهِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَوَقَعَ فِي مَعَانِي الْفَرَّاءِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ عُمَرُ بِصَدَقَةٍ وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ صَدَقَاتِهِمْ إِلَّا رِيَاءً. وَأَمَّا أَبُو عُقَيلٍ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصَاعِهِ لِيُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَتْ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِصَدَقَتِهِ وَجَاءَ الْمُطَّوِّعُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَدِيثَ اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِقَابَهُمِ الْخَاصَّ بِأَمْرِ الدِّينِ بِمَا جَعَلَ حُكْمَهُمْ فِي ذُنُوبِهِمْ حُكْمَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَعْنَى آيَةِ سُورَةِ " الْمُنَافِقُونَ ": سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (63: 6) وَفِيهَا زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ بِذِكْرِ السَّبْعِينَ مَرَّةً وَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ هُوَ الْكُفْرُ إِلَخْ. وَعَدَدُ السَّبْعِينَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ، بَلِ الْمَعْنَى مَهْمَا تُكْثِرْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فَلَنْ يُسْتَجَابَ لَكَ فِيهِمْ. وَحَسُنَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا لِتَأَخُّرِ نُزُولِهَا، فَهِيَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ - تَقْدِيرُهُ - الِاسْتِغْفَارُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُعَيَّنِينَ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ وَإِنْ كَثُرَ الِاسْتِغْفَارُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، رَجَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيَتُوبَ عَلَيْهِمْ

وَيَغْفِرَ لَهُمْ، كَمَا كَانَ يَدْعُو لِلْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لَهُ وَيَقُولُ: " اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَوَى مِثْلَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ - وَذَكَرَهُ. وَفِي مُسْلِمٍ " رَبِّ اغْفِرْ " إِلَخْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي نَفْسَهُ حِينَ شَجُّوا رَأْسَهُ فِي أُحُدٍ، فَهُوَ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ. وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) ; لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ تَبَيَّنَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الشِّرْكِ لَا لِلْأَحْيَاءِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَيَّنُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا سَيَأْتِي، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِسِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ وَبِسَائِرِ الْغُيُوبِ، وَلَا بِوَحْيِهِ لِرَسُولِهِ، وَمَا أَوْجَبَهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ، وَلَا بِبَعْثِهِ لِلْمَوْتَى وَحِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِاسْتِغْفَارِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ ; فَإِنَّ شَرْطَ قَبُولِهِ مَعَ قَابِلِيَّةِ الْمَغْفِرَةِ وَضْعُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (4: 64) يَعْنِي أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا وُعِدَ بِهَا التَّائِبُونَ الْمُسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ إِذَا اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي بَاطِنِهِمْ، مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَاسِقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: جَرَتْ سَنَّتُهُ فِي الرَّاسِخِينَ فِي فُسُوقِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمُ الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، الَّذِينَ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، أَنْ يَفْقِدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانَ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِمَا سَبِيلًا، وَتَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ بِهَذَا الْفُسُوقِ فِي الْآيَةِ (67) وَمِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَصِّهَا فِي الْآيَةِ (24) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّامِزُونَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَنَزَلَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ عَدَمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ. وَفِي التَّعْلِيلِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ كَالْمُنَافِقِينَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ صُدُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَلَمْزُ الْمُطَّوِّعِينَ لَيْسَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُمُ الِاسْتِغْفَارَ إِظْهَارٌ لِلتَّوْبَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ نَرَهَا فِي كُتُبِ

84

التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فَلَاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَا الرَّازِيُّ وَهُوَ لَمْ يَعْزُهَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ كَعَادَتِهِ، وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ وَزَعِيمِهِمْ. رَوَى هَذَا بَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ فَيُرَاجَعُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَالْإِشْكَالِ بَعْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (84) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ كَانَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى الْآيَةِ 28 مِنْهَا فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَاضْمِحْلَالِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ، وَجَاءَتْ بِضْعُ آيَاتٍ بَعْدَهَا فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ وَالْجِزْيَةِ، مَعَ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ دِينِ أَنْبِيَائِهِمْ، يَتْلُوهَا مَا كَانَ مِنْ إِعْلَانِ النَّفِيرِ الْعَامِّ لِقِتَالِ الرُّومِ فِي تَبُوكَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا بَيَانُ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اسْتِثْقَالِهِمْ لِلْجِهَادِ وَاسْتِئْذَانِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ، وَظُهُورِ أَمَارَاتِ نِفَاقِهِمْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَفَضِيحَتِهِمْ فِيهَا، وَوَعِيدِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى نِفَاقِهِمُ الصَّادِرَةِ عَنْهُ. وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ وَالْعَوْدَةِ مِنْهُ. وَانْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّمَانِينَ. وَعَادَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى بَيَانِ حَالِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْقِتَالِ وَظَلُّوا فِي الْمَدِينَةِ. وَمَا يَجِبُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ هَذَا قَدْ نَزَلَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْفَرَحُ: شُعُورُ النَّفْسِ بِالِارْتِيَاحِ وَالسُّرُورِ، وَالْخِلَافُ: مَصْدَرُ خَالَفَهُ يُخَالِفُهُ كَالْمُخَالَفَةِ

وَاسْتُعْمِلَ ظَرْفًا بِمَعْنَى بَعْدَ وَخَلْفَ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَجَلَسْتُ خِلَافَ فُلَانٍ وَخَلْفَهُ أَيْ: بَعْدَهُ، وَمِنْهُ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (17: 76) وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ وَحَفْصٍ. قَرَأَ الْبَاقُونَ (خَلْفَكَ) اسْتَشْهَدَ اللِّسَانُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بِبِضْعَةِ شَوَاهِدَ، وَهَاهُنَا يَصِحُّ الْمَعْنَيَانِ. وَالْمُخَلَّفُونَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ خَلَّفَ فُلَانًا وَرَاءَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) إِذَا تَرَكَهُ خَلْفَهُ وَالْمَعْنَى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ - أَيِّ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، بِقُعُودِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ مُخَالِفِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَصَحُّ هُنَا، وَإِنَّمَا فَرِحُوا ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُذْكَرُ بِجَانِبِهِ رَاحَةُ الْقُعُودِ فِي الْبُيُوتِ شَيْئًا وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أَيْ: قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ فِي النِّفَاقِ لَا تَنْفِرُوا مَعَهُ فِي الْحَرِّ، نَهْيًا لَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَإِغْرَاءً بِالثَّبَاتِ عَلَى الْمُنْكَرِ. وَهُوَ عَدَمُ النَّفْرِ، أَوْ قَالُوهُ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِيهِ، وَتَثْبِيطًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ تَفْنِيدًا لِقَوْلِهِمْ وَتَسْفِيهًا لِحُلُومِهِمْ: نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِمَنْ عَصَاهُ وَعَصَى رَسُولَهُ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ فِي أَوَائِلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، فَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَخِفَّ وَيَزُولَ، عَلَى كَوْنِهِ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْجُسُومُ، وَأَمَّا نَارُ جَهَنَّمَ فَحَرُّهَا عَلَى شِدَّتِهِ دَائِمٌ، فَهُوَ يَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ، وَيُنْضِجُ جُلُودَهُمْ، وَيَنْزِعُ شَوَاهُمْ، وَفِي هَذَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ لِمَنْ يَتْرُكُونَ الْجِهَادَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَالِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْمُنَافِقُونَ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَيْ: لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُونَ بِهِ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا، وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ إِذْ أَجْرَمُوا فَقَعَدُوا، بَلْ لَحَزِنُوا وَاكْتَأَبُوا، وَبَكَوْا وَانْتَحَبُوا، كَمَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ وَالنَّفَقَةَ فَعَجَزُوا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ قَرِيبًا. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِقِلَّةِ الضَّحِكِ وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَجْدَرُ بِهِمْ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُمْ، وَتَسْتَوْجِبُهُ جَرِيمَتُهُمْ، لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ مَا فَاتَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ وَالْخِلَافِ مِنْ أَجْرٍ، وَمَا سَيَحْمِلُونَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ وِزْرٍ، وَمَا يُلَاقُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ خِزْيٍ وَضُرٍّ، فَهُوَ خَبَرٌ فِي صِيغَةِ أَمْرٍ، نُكْتَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وَاجِبٍ مُقَرَّرٍ. (ثَانِيهَا) أَنَّ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَنْ يَطِيبَ لَهُمْ فِيهَا عَيْشٌ بَعْدَ أَنْ هَتَكَ الْوَحْيُ أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفَ عَوَارَهُمْ، وَأُمِرَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نِفَاقُهُمْ، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّحِكِ الْقَلِيلِ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مِنْ مَاضِيهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَبِالْبُكَاءِ الْكَثِيرِ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ

فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِنْذَارٌ مُقَابِلٌ لِمَا ذَكَرَ مِنْ فَرَحِهِمْ بِالتَّخَلُّفِ، مُثْبِتٌ أَنَّهُ فَرَحٌ عَاقِبَتُهُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ وَالْخَيْبَةُ وَالنَّدَامَةُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بَلْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا: يَظْهَرُ النِّفَاقُ وَتَرْتَفِعُ الْأَمَانَةُ، وَتُقْبَضُ الرَّحْمَةُ، وَيُتَّهَمُ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ غَيْرُ الْأَمِينِ، أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرُفُ الْجُونُ، الْفِتَنُ كَأَمْثَالِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ الشُّرُفُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ شَارِفٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الْعَالِيَةُ السِّنِّ، وَالْجُونُ السَّوْدَاءُ، أَيِ: الْفِتَنُ الْكَبِيرَةُ الْمُظْلِمَةُ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ، وَرُوِيَ بِالْقَافِ أَيِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ مَشْرِقِ الْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ بِالْجَزَاءِ لَا تَكْلِيفٌ، وَقَدْ قِيلَ فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَنِ الْخَبَرِ بِالْإِنْشَاءِ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَتْمٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَبَرِ لِذَاتِهِ فِي احْتِمَالِهِمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ وَهُوَ حَتْمٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِمَا ذُكِرَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِسَبَبِهِ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِلْخَبَرِ بِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَيُقَابِلُهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِلتَّفَاؤُلِ بِمَضْمُونِهِ كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ هُنَا لِلتَّكْوِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (96: 1) أَيْ كُنْ قَارِئًا بَعْدَ إِذْ كُنْتَ أُمِّيًّا بِاسْمِ اللهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ، ثُمَّ وَصَفَ رَبَّهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى جَعْلِ الْأُمِّيِّ قَارِئًا بِأَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، فَجَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَعَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجْعَلُكَ قَارِئًا بِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: فَلْيَكُونُوا بِقُدْرَتِنَا وَتَقْدِيرِنَا قَلِيلِي الضَّحِكِ كَثِيرِي الْبُكَاءِ ; لِأَنَّ سَبَبَ سُرُورِهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِتَخَلُّفِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ قَدْ زَالَ، وَأَعْقَبَهُمُ الْفَضِيحَةَ وَالنَّكَالَ ; وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ تَكْوِينًا قَدَرِيًّا، لَا تَكْلِيفًا شَرْعِيًّا، جَعْلُهُ عِقَابًا جَزَائِيًّا لَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ بِقَوْلِهِ: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَإِنَّ جَزَاءَ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَمَا يَدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَجِبُ مِنَ الْجَزَاءِ الَّذِي يُعَامَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، مِمَّا يَقْتَضِي انْقِضَاءَ عَهْدِ فَرَحِهِمْ وَغِبْطَتِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّمَتُّعِ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فَقَالَ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِعْلُ " رَجَعَ " يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ (20: 86) وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ (12: 63) وَمَصْدَرُهُ الرُّجُوعُ وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ (20: 40) وَمَصْدَرُهُ اَلرَّجْعُ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ رَدَّكَ اللهُ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ

87

سَفَرِكَ هَذَا إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، أَيِ الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَا كُلُّ مَنْ تَخَلَّفَ كَانَ مُنَافِقًا: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ فِي غَزَاةٍ أَوْ غَيْرِ غَزَاةٍ مِمَّا تَخْرُجُ لِأَجْلِهِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا أَيْ: لَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرَفُ صُحْبَةِ الْإِيمَانِ بِالْخُرُوجِ مَعِي إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ كَالنُّسُكِ أَبَدًا مَا بَقِيتُ: وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا مِنَ الْأَعْدَاءِ بِصِفَةٍ مَا، لَا بِالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَنْ يُهَاجِمُوا الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاصِمَتِهِمْ، كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ الْأَحْزَابِ مَثَلًا، فَكُلٌّ مِنَ الْخُرُوجِ الْمُطْلَقِ الَّذِي حُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ، وَالْقِتَالِ الَّذِي ذُكِرَ مُتَعَلِّقُهُ نَكِرَةٌ مَنْفِيَّةٌ عَامٌّ فَيَصْدُقَانِ بِكُلِّ خُرُوجٍ، وَكُلِّ قِتَالٍ لِعَدُوٍّ فِي أَيِّ مَكَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ غَفَلَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَزَعَمُوا أَنَّ الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ هَذَا الْحِرْمَانِ مِنْ شَرَفِ الْجِهَادِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِخِزْيِ الْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ دُعِيتُمْ فِيهَا إِلَى الْخُرُوجِ، وَاسْتُنْفِرْتُمْ فَلَمْ تَنْفِرُوا عِصْيَانًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ مَا حَيِيتُمْ أَبَدًا أَيْ: مَعَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّفْرِ، أَوْ مَعَ الْأَشْرَارِ الْفَاسِدِينَ، الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ سَبِيلِ الْمُهْتَدِينَ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَخَلَفَ اللَّبَنُ: تَغَيَّرَ، وَمَعْنَاهُ خَلَفَ طِيبَهُ تَغَيُّرُهُ أَيْ: صَارَ الْمُتَغَيِّرُ الْفَاسِدُ خَلَفًا لِلطَّيِّبِ وَخَلَفَ فُوهُ خُلُوفًا، وَخَلَفَ عَنْ خُلُقِ أَبِيهِ، وَخَلَفَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ: تَحَوَّلَ وَفَسَدَ، وَهُوَ خَالِفَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَيْ فَاسِدُهُمْ وَشَرُّهُمُ اهـ. وَالْخَالِفُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ أَيْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ الْخَلَفُ بِالتَّحْرِيكِ وَبِفَتْحٍ فَسُكُونٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ فِيمَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَالثَّانِي فِيمَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي الشَّرِّ وَالطَّلَاحِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: فَأَمَّا الْخَالِفَةُ فَهُوَ الَّذِي لَا غِنَاءَ عِنْدَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْخَالِفُ وَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الْخِلَافِ ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَثِيرِ: وَقَدْ يَكُونُ الْخَالِفُ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْقَوْمِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ (87) اهـ. وَيُرَادُ بِالْخَوَالِفِ الصِّبْيَانُ وَالْعَجَزَةُ وَالنِّسَاءُ، الَّذِينَ لَا يُكَلَّفُونَ الْقِيَامَ بِشَرَفِ الْجِهَادِ، لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالطَّبَرِيِّ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالْمَرَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَّلَ مَرَّةٍ قَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي كَلَامِهِمْ ظَرْفًا، وَأَصْلُهَا الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَرِّ وَالْمُرُورِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْمَرَّةُ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ جَمْعُهَا مَرٌّ وَمِرَارٌ وَمِرَرٌ بِكَسْرِهَا وَمُرُورٌ بِالضَّمِّ. " وَلَقِيَهُ ذَاتَ مَرَّةٍ " قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا ظَرْفًا، وَ " ذَاتَ الْمِرَارَةِ " أَيْ: مِرَارًا كَثِيرَةً. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ هَذَا بَيَانُ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَنْ يَمُوتُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِثْرِ مَا شَرَعَهُ فِي شَأْنِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ خَاصٌّ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتَتْ أَدِلَّةُ كُفْرِهِمْ أَوْ إِعْلَامِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ زَعِيمُهُمُ الْأَكْبَرُ الْأَكْفَرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ وَالِاثْنَى عَشَرَ الَّذِينَ أَرَادُوا اغْتِيَالَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أَيْ: لَا تُصَلِّ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ الْآنَ عَلَى أَحَدٍ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَرَّفْنَاكَ شَأْنَهُمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ أَبَدًا مَا حَيِيتَ - وَلَا تَقِفْ عَلَى قَبْرِهِ عِنْدَ الدَّفْنِ لِلدُّعَاءِ لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، كَمَا تَقُومُ عَلَى قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ دَفْنِهِمْ، وَيَلْزَمُ هَذَا النَّهْيَ عَدَمُ تَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ " وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ السُّنَّةِ فِي مَعْنَى الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ غَيْرَهُ، فَانْتِظَارُ الدَّفْنِ أَعَمُّ مِنْهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُهُمْ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ لَا بِلَفْظِ الْقِيَامِ. وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى هَذَا النَّهْيَ بِبَيَانٍ مُسْتَأْنَفٍ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، أَيْ: وَهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمِ السَّابِقِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِهِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ (وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ مَضْمُونِهَا قَبْلَ حُدُوثِ الْعَامِلِ فِيهَا) وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُكِّدَ بِكَلِمَةِ أَبَدًا الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ: وَمَاتُوا وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْقَاعِدَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي أَنْ يَكُونَ لِتَأْكِيدِهِ وَتَحَقُّقِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَسَيَمُوتُونَ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى مَا رُوِيَ

فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ صَلَاتُهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَاتَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَسَيَمُوتُ الْآخَرُونَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ بَحْثٌ نُبَيِّنُهُ بَعْدَ إِجْمَالِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ. وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا بِنَصِّهِ وَهُوَ الْآيَةُ 55 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَلَا أَوْلَادُهُمْ وَتَفْسِيرُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَةَ " لَا " فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ عَلَى حِدَتِهِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِمَنْ كَانَ لَهُ إِحْدَى الزِّينَتَيْنِ، وَالنَّهْيُ فِي هَذِهِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِهِمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ، وَهُوَ أَدْعَى إِلَى الْإِعْجَابِ، وَأُعِيدَ هَذَا النَّهْيُ هُنَا ; لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ لَهُ كَاقْتِضَائِهِ هُنَاكَ التَّأْثِيرَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ التَّالِي وَالسَّامِعِ ; وَلِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الطَّائِفَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي السِّيَاقِ الْأَوَّلِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَقَفَ قُلْتُ: أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا، وَالْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا - أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ - وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَبَسَّمُ - حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ قَالَ: " يَا عُمَرُ أَخِّرْ عَنِّي إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً (80) فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا " ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ فَعَجِبْتُ لِي وَلِجَرَاءَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَوَاللهِ مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مُنَافِقٍ بَعْدَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً (80) وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ " قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ (84) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ ". وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ كَانَ يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَبْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ - وَفِي رِوَايَةٍ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ - فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. اهـ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فَنَقْتَصِرُ عَلَى هَذَا الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا اسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُ. وَمَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ وُرُودَ هَذَا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا مِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَهِيَ لَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ حَدِيثُ مُعَارَضَةِ عَمَرَ بِطَرِيقَيْهِ مُشْكِلٌ وَمُضْطَرِبٌ مِنْ وُجُوهٍ: (1) جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى ابْنِ أَبَيٍّ سَبَبًا لِنُزُولِ آيَةِ النَّهْيِ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَفَرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَإِنَّمَا مَاتَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. (2) قَوْلُ عُمَرَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ سَابِقٌ لِمَوْتِ ابْنِ أُبَيٍّ - وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَخْ. صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. (3) قَوْلُهُ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ. إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَيَّرَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ التَّخْيِيرُ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بَقِيَّتُهَا، أَيْ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ (أَوْ) فِيهَا أَنَّهُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا بَعْدَهَا وَمَا قَبْلَهَا لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَبِهِ فَسَرَّهَا الْمُحَقِّقُونَ كَمَا فَهِمَهَا عُمَرُ، وَاسْتَشْكَلُوا الْحَدِيثَ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ فَهْمُ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَصَحَّ مِنْ فَهْمِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِخِطَابِ اللهِ لَهُ ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّتَهُ. (4) التَّعَارُضُ بَيْنَ رِوَايَةِ " فَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّنِي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا " وَرِوَايَةِ " وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ ". (5) التَّعَارُضُ بَيْنَ إِعْطَائِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَمِيصَهُ لِابْنِهِ لِتَكْفِينِهِ فِيهِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ إِخْرَاجُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِابْنِ أُبَيٍّ مِنْ قَبْرِهِ وَإِلْبَاسُهُ قَمِيصَهُ. (6) إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ قَبْلَ نُزُولِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ آيَةِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (63: 6) وَآيَةِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ (80) وَالْجَزْمُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ. وَقَدْ لَخَّصَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا وَرَدَ وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ إِشْكَالٍ وَجَوَابٍ بِمَا هُوَ أَجْمَعُ مِمَّا قَالَهُ مَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِمَّنِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَتَبَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ (بَابُ قَوْلِهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ وَهَذَا نَصُّهُ: "

ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ سِرًّا فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ " رَهْطٍ ذَوِي عَدَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ: فَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ اسْتَتْبَعَ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ مَشَى مَعَهُ وَإِلَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَرِيبًا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِصَاصِ الْمَذْكُورِينَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّهُمْ تَابُوا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: " إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ " أَوْ " أَخْبَرَنِي اللهُ " كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ. وَالْأَوَّلُ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مِنَ التَّخْيِيرِ وَالثَّانِي بِمُوَحَّدَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ " إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ " بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، أَيْ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. " وَاسْتُشْكِلَ فَهْمُ التَّخْيِيرِ مِنَ الْآيَةِ حَتَّى أَقْدَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ الَّذِينَ خَرَّجُوا الصَّحِيحَ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى مُنْكِرِي صِحَّتِهِ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى طُرُقِهِ. " قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَفْهُومُ الْآيَةِ زَلَّتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ، حَتَّى أَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ اهـ. وَلَفْظُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي التَّقْرِيبِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُخَرَّجٍ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ: لَا يُصَحِّحُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَالسَّبَبُ فِي إِنْكَارِهِمْ صِحَّتَهُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مِنْ حَمْلٍ (أَوْ) عَلَى التَّسْوِيَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ، وَحَمْلُ السَّبْعِينَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ تَرَدُّدٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ غَيْرُ مُرَادٍ انْتَهَى، وَأَيْضًا فَشَرْطُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَكَذَا الْعَدَدِ عِنْدَهُمْ مُمَاثَلَةُ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ، وَعَدَمُ فَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فَائِدَةٌ وَاضِحَةٌ. فَأَشْكَلَ قَوْلُهُ: " سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ " مَعَ أَنَّ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا.

وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: " سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ " اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِ عَشِيرَتِهِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرَدُّدُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ: " سَأَزِيدُ " وَوَعْدُهُ صَادِقٌ، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ: " لِأَزِيدَنَّ " الْمُبَالَغَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَتِهِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ ; لِأَنَّ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْمُبَالِغَةِ لَا يَتَنَافَيَانِ، فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ ; لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الدُّعَاءِ، وَالْعَبْدُ إِذَا سَأَلَ رَبَّهُ حَاجَةً فَسُؤَالُهُ إِيَّاهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الذِّكْرِ، لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ تَعْجِيلِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ لَيْسَ عِبَادَةً، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْمَغْفِرَةُ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ، وَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِعَدَمِ نَفْعِهَا لَا يُغَيِّرُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ طَلَبُهَا لَا لِغَرَضِ حُصُولِهَا بَلْ لِتَعْظِيمِ الْمَدْعُوِّ، فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْمَغْفِرَةُ عُوِّضَ الدَّاعِي عَنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعِ السُّوءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَنِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي قِصَّةٍ أَبِي طَالِبٍ. " هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَسْتَحِيلُ الْمَغْفِرَةُ لَهُ شَرْعًا، وَقَدْ وَرَدَ إِنْكَارُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ (113) . " وَوَقَعَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَطْلَقَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (80) وَأَخَذَ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ مِنَ السَّبْعِينَ فَقَالَ: " سَأَزِيدُ عَلَيْهَا " مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى (113) فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ - كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ قَرِيبًا - نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لِأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ " فَنَزَلَتْ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقِصَّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُنَافِقِينَ مَعَ الْجَزْمِ بِكُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْآيَةِ؟ ! . " وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى جَوَابٍ لِبَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِغْفَارٌ تُرْجَى إِجَابَتُهُ، حَتَّى يَكُونَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ، بِخِلَافِ الِاسْتِغْفَارِ لِمِثْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَإِنَّهُ اسْتِغْفَارٌ لِقَصْدِ تَطْيِيبِ قُلُوبِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمَرَضِيٍّ

عِنْدِي، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) كَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَفْصَحِ الْخَلْقِ، وَأَخْبَرِهِمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَلَوْ كَثُرَ لَا يُجْدِي، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ تَلَاهُ قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ (80) الْآيَةَ. فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَقَالَ مَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14: 36) وَفِي إِظْهَارِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرَّأْفَةَ الْمَذْكُورَةَ لُطْفٌ بِأُمَّتِهِ، وَبَاعِثٌ عَلَى رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا انْتَهَى. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ مَا قَالَهُ إِلَى الرَّسُولِ ; لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْكُفَّارِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ مُسْتَحِيلٌ، وَطَلَبُ الْمُسْتَحِيلِ لَا يَقَعُ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقَدُهُ صَحِيحًا. وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ. وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَالتَّرْجِيحُ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ جِدًّا، وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّتِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (28: 56) وَحَرَّرْتُ دَلِيلَ ذَلِكَ هُنَاكَ، إِلَّا أَنَّ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْقِصَّةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا، وَتَمَسَّكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (80) إِلَى هُنَا خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ عُمَرَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَعَلَى ذِكْرِ السَّبْعِينَ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ وَفَضَحَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ، وَنَادَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (80) وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ كِتَابَهِ تَكْمِيلُ الْآيَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. " وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ، وَجَدَ الْحَامِلَ عَلَى مَنْ رَدَّ الْحَدِيثَ أَوْ تَعَسَّفَ فِي التَّأَمُّلِ ظَنَّهُ بِأَنَّهُ قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ (80) نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَيْ: نَزَلَتِ الْآيَةُ كَامِلَةً ; لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُزُولُهَا كَامِلَةً لَاقْتَرَنَ النَّهْيُ بِالْعِلَّةِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ قَلِيلَ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرَهُ لَا يُجْدِي، وَإِلَّا فَإِذَا فُرِضَ مَا حَرَّرْتُهُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ نَزَلَ مُتَرَاخِيًا عَنْ صَدْرِ الْآيَةِ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحُجَّةُ الْمُتَمَسِّكِ مِنَ الْقِصَّةِ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ صَحِيحٌ، وَكَوْنُ ذَلِكَ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُتَمَسِّكًا بِالظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ

الْمَشْرُوعُ فِي الْأَحْكَامِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ عَنْ ذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ. " وَقَدْ وَقَفْتُ لِأَبِي نُعَيمٍ الْحَافِظِ صَاحِبِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " عَلَى جُزْءٍ جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِيهِ فَلَخَّصْتُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَسَامَهُ وَغَيْرِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ الْعُمَرِيِّ فِي قَوْلِ عُمَرَ: " أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ " وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحَلَّ النَّهْيِ، فَوَقَعَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ عَنِ الْعُمَرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَلَفْظُهُ: " وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ " قَالَ: وَفِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: " فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ " أَنَّ عُمَرَ تَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ، وَتَابَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهَا عَنْ عُمَرَ إِذْ لَمْ يَشْهَدْهَا، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. (أَقُولُ) حَاصِلُ مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَهُوَ مِنْ أَوْسَعِ حُفَّاظِ الْمِلَّةِ اطِّلَاعًا - أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ، إِلَّا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا، وَلَكِنْ يَبْعُدُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ آيَةُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ قَدْ نَزَلَ صَدْرُهَا أَوَّلًا ثُمَّ نَزَلَ بَاقِيهَا مُتَرَاخِيًا بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَكَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِ عُمَرَ: " وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ " بِأَنَّهُ يَعْنِي بِالصَّلَاةِ الِاسْتِغْفَارَ، وَإِذَا سَلَّمْنَا نُزُولَ صَدْرِ آيَةٍ مِنْ سِيَاقٍ طَوِيلٍ كَآيَةِ بَرَاءَةَ فِي سَنَةٍ، وَنُزُولَ بَاقِيهَا فِي سَنَةٍ أُخْرَى عَلَى بُعْدِهِ، فَمَاذَا نَقُولُ فِي آيَةِ سُورَةِ " الْمُنَافِقُونَ ". وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ بَرَاءَةَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ أَصْرَحُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ؟ . الْحُقُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَارِضٌ لِلْآيَتَيْنِ، فَالَّذِينَ يُعْنَوْنَ بِأُصُولِ الدِّينِ وَدَلَائِلِهِ الْقَطْعِيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ، لَمْ يَجِدُوا مَا يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا التَّعَارُضِ إِلَّا الْحُكْمَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ مَتْنِهِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ أَكْبَرُ أَسَاطِينِ النُّظَّارِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ. وَأَمَّا الَّذِينَ يُعْنَوْنَ بِالْأَسَانِيدِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِالْمُتُونِ، وَبِالْفُرُوعِ أَكْثَرَ مِنَ الْأُصُولِ، فَقَدْ تَكَلَّفُوا مَا بَيَّنَّا خُلَاصَتَهُ عَنْ أَحْفَظِ حُفَّاظِهِمْ. وَمِنَ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَنَّهُ مَا كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ يَكُونُ مَتْنُهُ صَحِيحًا، وَمَا كُلُّ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ يَكُونُ مَتْنُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى صِحَّةِ

السَّنَدِ إِذَا لَمْ يُعَارِضِ الْمَتْنَ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، فَمَنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ لِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْجَمْعِ أَوْ لِوَجْهٍ آخَرَ ظَهَرَ لَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ رَدِّ الْحَدِيثِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِتَرْجِيحِ الْقُرْآنِ، وَالْتِمَاسِ عُذْرٍ لِرُوَاةِ الْحَدِيثِ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعَارُضِ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ (ص408 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هَذَا بَيَانٌ لِحَالَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِيهِ، وَمَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِنَ التَّضَادِّ فِي الْعَمَلِ وَالْأَثَرِ فِي الْقَلْبِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَنَاطُ الْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ شَرْطِيَّةُ " إِذَا " فِي هَذَا الْمَقَامِ تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ خَبَرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْحَالِ الْخَاصَّةِ، وَهَذِهِ الشَّنْشَنَةِ الْعَامَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ تَدْعُو النَّاسَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ بِبَعْضِ آيَاتِهَا إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، أَيْ: نَاطِقَةٌ بِأَنْ آمِنُوا وَجَاهِدُوا اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ الطَّوْلُ: بِالْفَتْحِ يُطْلَقُ عَلَى الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ، وَعَلَى الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَهُوَ مِنْ

مَادَّةِ الطُّولِ (بِالضَّمِّ) ضِدُّ الْقِصَرِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا أُولُو الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيِ: اسْتَأْذَنُوكَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ أَيْ: دَعْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالزَّمْنَى الْعَاجِزِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ - أَوْ مُحَمَّدٍ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (47: 20 و21) وَالْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى جُبْنِ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ، وَرِضَاهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ مِنَ النِّسَاءِ - وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ - وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، فَهُوَ جَمْعُ خَالِفَةٍ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ مِنْ آيَةِ (83) . وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْخَتْمُ عَلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا لِشَيْءٍ جَدِيدٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَوْعِظَةِ غَيْرِ مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَصَارَ وَصْفًا وَوُجْدَانًا لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ حَقِيقَتَهُ وَمَجَازَهُ لِلْكَلِمَةِ فِي تَفْسِيرِ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (2: 7) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْأَعْرَافِ. فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ: فَلِأَجْلِ ذَلِكَ هُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يُخَاطَبُونَ بِهِ فَهْمَ تَدَبُّرٍ وَاعْتِبَارٍ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مَعْنَى الْفِقْهِ فِي مَوَاضِعَ أَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (7: 179) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَلْبِ. لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى قُعُودِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَلًا بِدَاعِي الْإِيمَانِ، وَأَمْرِ اللهِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّأْثِيرِ وَالِارْتِبَاطِ

88

بَيْنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَكَانُوا مَعَهُ فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ لَا يُفَارِقُونَهُ، قَدْ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَقَامُوا بِالْوَاجِبِ خَيْرَ قِيَامٍ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، وَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقُونَ الْجُبَنَاءُ الْبُخَلَاءُ بِأَهْلٍ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأَعْبَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَاسِيَّمَا آيَةُ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (47) . وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ عَطَفَ جَزَاءَهُمْ عَلَى جِهَادِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مَفْصُولًا مُسْتَأْنَفًا، كَقَوْلِهِ السَّابِقِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ (71) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (2: 5) الْآيَةَ. لِأَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ بَدْءًا وَانْتِهَاءً عَمَلًا وَجَزَاءً، أَيْ: وَأُولَئِكَ الْمُجَاهِدُونَ بَعِيدُو الْمَنَالِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، لَهُمْ دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْخَيْرَاتُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، مِنْ شَرَفِ النَّصْرِ، وَمَحْوِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِدِينِ اللهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالْغَنَائِمِ وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ الْفَائِزُونَ بِسِيَادَةِ الدُّنْيَا مَعَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ - دُونَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ حُرِمُوا مِنْهُمَا بِنِفَاقِهِمْ، وَمَا لَهُ مِنْ سُوءِ الْأَثَرِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا وَمَا يُنَاسِبُهُ وَيُؤَيِّدُهُ مُكَرَّرًا فِي هَذَا السِّيَاقِ. أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذِهِ فِي الْآيَةِ 72 وَسَيَأْتِي مِثْلُهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْمِائَةِ. وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ حَالِ الْأَعْرَابِ خَاصَّةً، وَهُمْ بَدْوُ الْعَرَبِ طَلَبُوا الْإِذْنَ بِالتَّخَلُّفِ، وَالَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ، عَقِبَ بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْحَضَرِ فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ

90

وَسَتَأْتِي آيَاتٌ أُخْرَى فِي مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ وَمُؤْمِنِيهِمْ فِي الْآيَاتِ 97، 98، 99 قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّعْذِيرِ كَالْمُقَصِّرُونَ مِنَ التَّقْصِيرِ. هَكَذَا قَرَأَ الْكَلِمَةَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِعْذَارِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، وَكَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 66 مَعْنَى الْعُذْرِ وَالِاعْتِذَارِ. وَالْإِعْذَارُ إِبْدَاءُ الْعُذْرِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ " أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ " وَأُعْذِرَ: ثَبَتَ لَهُ عُذْرٌ - وَقَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغْ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مُبَالِغٌ، كَأَنَّهُ ضِدٌّ - وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَعُيُوبُهُ، وَلَهُ مَعَانٍ أُخْرَى كَمَا فِي الْقَامُوسِ (قَالَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ بِتَشْدِيدِ " الذَّالِ " الْمَكْسُورَةِ أَيِ: الْمُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْرٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُعَذِّرُ غَيْرَ مُحِقٍّ، فَالْمَعْنَى: الْمُقَصِّرُونَ بِغَيْرِ عُذْرٍ اهـ. وَزَادَ شَارِحُهُ، وَمَعْنَى الْمُعَذِّرُونَ الَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ هَاهُنَا شَبِيهٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ، وَيَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُعِذِّرُونَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. الَّذِينَ يُعَذِّرُونَ: يُوهِمُونَ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَلَا عُذْرَ لَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَفِي الْمُعَذِّرِينَ وَجْهَانِ: إِذَا كَانَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ عَذِرَ الرَّجُلِ فَهُوَ مُعَذِّرٌ فَهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُعَذِّرُونَ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ فَأُلْقِيَتْ فَتْحَةُ التَّاءِ عَلَى الْعَيْنِ، وَأُبْدِلَ مِنْهَا " ذَالٌ " وَأُدْغِمَتْ فِي " الذَّالِ " الَّتِي بَعْدَهَا فَلَهُمْ عُذْرٌ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَعْنَاهُ الْمُعْتَذِرُونَ. يُقَالُ: عَذَرَ عِذَارًا فِي مَعْنَى اعْتَذَرَ، وَيَجُوزُ عَذَرَ الرَّجُلِ يَعْذِرُ عُذْرًا فَهُوَ مُعَذَّرٌ. قَالَ وَمِثْلُهُ: هَدَى يَهْدِي هُدَاءًإِذَا اهْتَدَى. قَالَ اللهُ: أَمَّنْ لَا يَهِدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى (10: 35) اهـ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَادَّةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا فِي الْآيَةِ. وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي الصِّيغَتَيْنِ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ فِي أَعْذَارِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عُذْرٌ صَحِيحٌ هُوَ مُوقِنٌ بِهِ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ صُورِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخَادِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عُذْرٌ ضَعِيفٌ هُوَ فِي شَكٍّ مِنْهُ إِنْ نُوقِشَ فِيهِ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي انْتِحَالِهِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ بِالْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ كُلَّهَا، مُبْهَمَةً إِلَّا عِنْدَ أَهْلِهَا لِلْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِبْهَامِهَا. وَالْمَعْنَى: وَجَاءَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ امْتِثَالًا لِلنَّفِيرِ الْعَامِّ، مِنْ أُولِي التَّعْذِيرِ وَالْإِعْذَارِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ رَهْطُ

عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ جَاءُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ: إِنْ نَحْنُ غَزَوْنَا مَعَكَ تُغِيرُ أَعْرَابُ طَيِّئٍ عَلَى حَلَائِلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " قَدْ أَنْبَأَنِي اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَقُولُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُذْرَهُمْ حَقٌّ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَمُقَابِلِهِ الَّذِي يُذْكَرُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ: وَقَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ وَعَنِ الْمَجِيءِ لِلِاعْتِذَارِ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، أَيْ: أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِهِمَا كَذِبًا وَإِيهَامًا، يُقَالُ - كَمَا فِي الْأَسَاسِ - كَذَبَتْهُ نَفْسُهُ إِذَا حَدَّثَتْهُ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا، وَكَذَبَتْهُ عَيْنُهُ إِذَا أَرَتْهُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. قَالَ الْأَخْطَلُ: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ الْأَقْحَاحُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ مُسِيئًا: قَوْمٌ تُكَلَّفُوا عُذْرًا بِالْبَاطِلِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ وَقَوْمٌ تَخَلَّفُوا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَعَدُوا جَرْأَةً عَلَى اللهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَأَوْعَدَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَعُودُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَامًّا فِي الْمُكَذِّبِينَ، وَخَاصًّا بِبَعْضِ الْمُعَذِّرِينَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْهُمْ) أَيِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ وَقَعَدَ بَعْضٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ كُلُّهُمْ كَفَّارٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَذِرُونَ فَمِنْهُمُ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ وَالْكَاذِبُ فِيهِ لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، أَوْ لِتَكْذِيبِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ فَيُحَاسِبُهَا إِذَا وَجَدَ الْوَعِيدَ مَوْضِعًا لِلْعِبْرَةِ مِنْهَا، وَلَوْ جَعَلَ التَّبْعِيضَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ لَظَلَّ الْقَاعِدُونَ الْكَاذِبُونَ بِغَيْرِ وَعِيدٍ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ شَرِّهِمْ، فَلَا يَصِحُّ التَّبْعِيضُ فِيهِمْ وَحْدَهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَى التَّحْقِيقُ أَنْ يُوَجَّهَ الْوَعِيدُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ لَا لِاعْتِذَارِهِمْ، وَإِلَى الَّذِينَ قَعَدُوا لِكُفْرِهِمْ لَا لِقُعُودِهِمْ، بَلْ لِلْكَذِبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَهُ وَهُوَ عَيْنُ الْكَفْرِ، وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ ; لِأَنَّ مِنَ الْقُعُودِ مَا يَكُونُ بِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَهُمْ أُولُو الضَّرَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى (4: 95) إِلَخْ. فَالْإِبْهَامُ لِمُسْتَحَقِّي هَذَا الْوَعِيدِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ

91

مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا إِعْجَازُهُ الْبَيَانِيُّ، وَهَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ يُرَادُ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ جَمِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْآيَةِ (74) . لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُوكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءٌ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَعْذَارَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَقْبُولَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ رَسُولِهِ بِالتَّفْصِيلِ فَعُلِمَ مِنْهُ بُطْلَانُ مَا عَدَاهَا، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ شَرُّ مَا عَدَاهَا وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ الضُّعَفَاءُ: جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ ضِدُّ الْقَوِيِّ، أَيْ: مَنْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ تُمَكِّنُهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَزَةَ، وَقِيلَ: هُمُ الصِّبْيَانُ، وَقِيلَ: النِّسْوَانُ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَالزَّمْنَى بِوَزْنِ الْمَرْضَى وَبِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ زَمِينٍ كَمَرِيضٍ - وَيُقَالُ: زَمِنٌ (كَكَتِفٍ) وَزَمِنُونَ ; وَهُمْ مَنْ أَصَابَتْهُمُ الزَّمَانَةُ وَهِيَ الْعَاهَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ بَلْ تَبْقَى عَلَى الزَّمَانِ. وَمِنْهَا الْكُسَاحُ (بِالضَّمِّ) وَالْعَمَى وَالْعَرَجُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ عُذْرَهُمْ دَائِمٌ لَا يَزُولُ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى جَمْعُ مَرِيضٍ، وَهُمُ الَّذِينَ عَرَضَتْ لَهُمْ أَمْرَاضٌ لَا يَتَمَكَّنُونَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَادِ كَالْحُمَّيَاتِ، وَعُذْرُهُمْ يَنْتَهِي بِالشِّفَاءِ مِنْهَا وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَالًا يُنْفِقُونَ مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا خَرَجُوا لِلْجِهَادِ وَيَتْرُكُونَ لِعِيَالِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُجَهِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ، فَالْفَقِيرُ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ

وَالْغَنِيُّ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ سِعَتَهُ كَمَا فَعَلُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَيْتُ مَالٍ غَنِيٍّ يُنْفَقُ مِنْهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْغُزَاةِ وَهَذَا الْعُذْرُ خَاصٌّ بِالْمَالِ، وَيَزُولُ إِذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ، أَيْ لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ (حَرَجٌ) أَيْ ضِيقٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ يُعَدُّونَ بِهِ مُذْنِبِينَ، وَلَا إِثْمَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي حَالِ قُعُودِهِمْ لِعَجْزِهِمْ، أَيْ: إِذَا أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ وَلِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَاسِيَّمَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْحَرْبِ فَالنَّصِيحَةُ وَالنُّصْحُ (بِالضَّمِّ) تَحَرِّي مَا يَصْلُحُ بِهِ الشَّيْءُ، وَيَكُونُ خَالِيًا مِنَ الْغِشِّ وَالْخَلَلِ وَالْفَسَادِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحَ الْعَسَلَ وَنُصِحَ إِذَا كَانَ مُصَفًّى خَالِصًا " وَنَصَحَ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ إِذَا أَنْعَمَ خِيَاطَتَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ فَتْقًا وَلَا خَلَلًا " ذَكَرَهُ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ وَقَالَ " شَبَّهَ ذَلِكَ بِالنُّصْحِ " عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي جَعْلِ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْمَجَازِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَنَحْنُ نَرَى عَكْسَ هَذَا - أَعْنِي أَنَّ نُصْحَ الْعَسَلِ وَالْخَيَّاطِ حَقِيقَةٌ، وَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، وَالْأَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ مَجَازًا، إِلَّا أَنْ يَكْثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَيُعَدُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ مِنَ النُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كُلُّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْأُمَّةِ، وَلَاسِيَّمَا الْمُجَاهِدِينَ مِنْهَا، مِنْ كِتْمَانِ سَرٍّ، وَحَثٍّ عَلَى بِرٍّ، وَمُقَاوَمَةِ خِيَانَةِ الْخَائِنِينَ فِي سِرٍّ وَجَهْرٍ، فَالنُّصْحُ الْعَامُّ رُكْنٌ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، بِهِ عَزَّ السَّلَفُ وَبَزُّوا، وَبِتَرْكِهِ ذَلَّ الْخَلْفُ وَابْتَزُّوا. رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ - قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ السَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّهْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ مِنْهُ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي الْخَيْرِ وَفِي الشَّرِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (6: 153) وَ (مَنْ) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْعَامِّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ قَوْلُكَ " مَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ " وَإِنْ كَانَ عَامًّا، فَقَوْلُكَ مَا عَلَى فُلَانٍ مِنْ سَبِيلٍ - مَعْنَاهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَدْنَى طَرِيقٍ يَسْلُكُهَا لِمُؤَاخَذَتِهِ أَوِ النَّيْلِ مِنْهُ، فَكُلُّ السُّبُلِ مَسْدُودَةٌ دُونَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُحْسِنُونَ ضِدُّ الْمُسِيئِينَ، وَهُوَ عَامٌّ فِيَ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ

(2: 112) الْآيَةَ. وَالشَّرْعُ الْإِلَهِيُّ يَجْزِي الْمُحْسِنَ بِأَضْعَافِ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ وَلَا يُعَاقَبُ الْمُسِيءُ إِلَّا بِقَدْرِ إِسَاءَتِهِ، فَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْمَعْذُورُونَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مُحْسِنِينَ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِمْ بِالنُّصْحِ الْمَذْكُورِ، انْقَطَعَتْ طُرُقُ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَهُمْ، وَالْإِحْسَانُ أَعَمُّ مِنَ النُّصْحِ الْمَذْكُورِ، فَالْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُونَ بِهِ فِي سِلْكِ الْمُحْسِنِينَ، فَيَكُونُ رَفْعُهُ عَنْهُمْ مَقْرُونًا بِالدَّلِيلِ، فَكُلُّ نَاصِحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُحْسِنٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُؤَاخَذَةِ الْمُحْسِنِ، وَإِيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَعْلَى مَكَانَةٍ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ. وَلَمَّا ذُكِرَ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ عَنْهُمْ بِإِحْسَانِهِمُ السُّلُوكَ فِيمَا هُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنَ الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، قَفَّى عَلَيْهِ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِمْ، وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِيمَا عَدَاهُ، عَلَى قَاعِدَةِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (55: 60) ؟ فَقَالَ: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ يَسْتُرُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنْ ضَعْفٍ - فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ - لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَالنُّصْحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ فِي عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ الْمُسِيئُونَ عَمَلًا وَنِيَّةً، فَإِنَّمَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ نِفَاقِهِمُ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى إِسَاءَتِهِمْ. وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ، وَنَفْيِ السَّبِيلِ عَنِ الْمُحْسِنِينَ، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِشَرْطِهِ، وَلَا سَبِيلَ عَلَى الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ فِي قُعُودِهِ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عَلَى الرَّوَاحِلِ فَيَخْرُجُوا مَعَكَ فَلَمْ تَجِدْ مَا تَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ إِلَخْ. وَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لِلْجِهَادِ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ كَغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فَقْدُهُمُ الرَّوَاحِلَ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. يُقَالُ: حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ: أَرْكَبَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ لِيَرْكَبَهُ، وَكَانَ الطَّالِبُ لِظَهْرٍ يَرْكَبَهُ يَقُولُ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُ احْمِلْنِي. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ جَوَابِ الرَّسُولِ لَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أَيْ: انْصَرَفُوا مِنْ مَجْلِسِكَ وَهُمْ فِي حَالٍ بُكَاءٍ شَدِيدٍ هَاجَهُ حُزْنٌ عَمِيقٌ فَكَانَتْ أَعْيُنُهُمْ تَمْتَلِئُ دَمْعًا، فَيَتَدَفَّقُ فَائِضًا مِنْ جَوَانِبِهَا تَدَفُّقًا، حَتَّى كَأَنَّهَا ذَابَتْ فَصَارَتْ دَمْعًا، فَسَالَتْ هَمُّهَا (حُزْنًا) مِنْهُمْ وَأَسَفًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ أَيْ: عَلَى عَدَمِ

92

وُجْدَانِهِمْ عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَهُمْ مَا يُنْفِقُونَ، وَلَا مَا يَرْكَبُونَ فِي خُرُوجِهِمْ مَعَكَ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ، فَجَاءَتْ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ احْمِلْنَا، فَقَالَ: " وَاللهِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فَتَوَلَّوْا وَلَهُمْ بُكَاءٌ، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحْبَسُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً وَلَا مَحْمَلًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عُذْرَهُمْ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الْآيَةَ. وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَحْمِلُونَهُ فَقَالَ: " لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فَأَنْزَلَ اللهُ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْبُطُونَ الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا، وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي عَدَدِهِمْ وَبُطُونِهِمْ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْبَكَّائِينَ، وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ مَا سَأَلُوهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا الْحُمْلَانَ عَلَى النِّعَالِ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الزَّادَ وَالْمَاءَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ كُلِّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْكَبِيرَةِ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِطِلَابِ الرَّوَاحِلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِالْإِتْيَانِ لِأَجْلِ الْحَمْلِ، وَالِاعْتِذَارِ عَنْهُ بِعَدَمِ وُجْدَانِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ ذِكْرِ جِنْسِهِ مِنْ رَاحِلَةٍ وَدَابَّةٍ، هِيَ إِفَادَةُ الْعُمُومُ فِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مُرِيدُ السَّيْرِ فَتَدْخُلُ فِيهِ مَرَاكِبُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ مَرَاكِبِ النَّقْلِ الْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ بِفَقْدِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا فِي كُلِّ سَفَرٍ بِحَسَبِهِ، وَفَقْدِ الْعُذْرِ بِوُجُودِهِ، فَوُجُودُ الْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْبِغَالِ لَا يَنْفِي الْعُذْرَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُقْطَعُ فِي الْقِطَارَاتِ الْحَدِيدِيَّةِ أَوِ السَّيَّارَاتِ، أَوِ الْمَنَاطِيدِ أَوِ الطَّيَّارَاتِ. لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ أُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، بَقِيَ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِمُ السَّبِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَذَكَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ الْوَاضِحُ السَّوِيُّ أَوْصَلُ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَيْ: أَغْنِيَاءُ يَطْلُبُونَ الْإِذْنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنِ النَّفْرِ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ فِي حَالِ هَذَا الِاسْتِئْذَانِ وَمِنْ قَبْلِهِ، قَادِرُونَ عَلَى إِعْدَادِ الْعُدَّةِ لَهُ مِنْ زَادٍ وَرَوَاحِلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِمَاذَا؟ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ أَيْ: رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَالْخَالِفِينَ، مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَعْذُورِينَ بَلْ مَعَ الْفَاسِدِي الْأَخْلَاقِ الْمُفْسِدِينَ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَأَحَاطَ بِهِمْ مَا جَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِهِمْ، بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي

93

أَمْثَالِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَ حَالِهِمْ، وَلَا سُوءَ مَآلِهِمْ، وَمَا هُوَ سَبَبُهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَأَمَّا حَالُهُمْ فِي التَّخَلُّفِ وَطَلَبِ الْقُعُودِ مَعَ الْخَوَالِفِ بِغَيْرِ أَدْنَى عُذْرٍ، فَهُوَ رِضًا بِالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْأَفْرَادِ عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الشُّعُوبُ وَالْأَقْوَامُ، وَرِضَاءَ الرِّجَالِ بِالِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، يُعَدُّ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ الْخِزْيِ وَالْعَارِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَقْوَى آيَاتِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَأَمَّا مَآلُهُمْ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِمْ فَهُوَ مَا فَضَحَهُمُ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا شَرَعَهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ جِهَادِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، وَعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ، وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْخِزْيِ الدَّائِمِ فِي نَارِ الْجَحِيمِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ بِمَعْنَى الْآيَاتِ (86، 87، 88) وَلَكِنْ أَسْنَدَ فِعْلَ الطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُنَالِكَ أَسْنَدَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فِي عَلَاقَةِ الْأَعْمَالِ، بِالْعَقَائِدِ وَالسَّجَايَا وَالْأَخْلَاقِ، إِلَّا أَنَّ التَّصْرِيحَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ مَزِيدُ إِهَانَةٍ لَهُمْ. وَعَبَّرَ هُنَا بِالْعِلْمِ وَهُنَاكَ بِالْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ وَالْعِرْفَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْعِلْمِ تَيَقُّنُ الْمَعْلُومِ، وَمِنَ الْفِقْهِ تَأْثِيرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ. نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُوقِنِينَ، الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبِرِينَ، الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، الْعَامِلِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ بِالْحَقِّ، النَّافِعِ لِلْخَلْقِ، وَيَهْدِينَا جَمِيعًا لِلْعَمَلِ بِهِ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ، وَيُؤْتِي هَذِهِ الْأُمَّةَ بِهِ مَا وَعَدَهَا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تَمَّ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كِتَابَةً وَتَحْرِيرًا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ 1349 - وَقَدِ اعْتَمَدْنَا جَعْلَ آيَةِ 93 إِنَّمَا السَّبِيلُ إِلَخْ مِنْهُ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ مُتَمِّمَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَوَّلُ الْجُزْءِ الْحَادِي عَشَرَ - وَكُنَّا بَدْأَنَا بِهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 1346 وَنُشِرَ فِي الْمُجَلَّدَاتِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَالْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْمَنَارِ. وَنَرْجُو أَنْ يُوَفِّقَنَا اللهُ تَعَالَى لِإِنْجَازِ تَفْسِيرِ كُلِّ جُزْءٍ مِمَّا بَقِيَ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ. مَعَ الِاخْتِصَارِ غَيْرِ الْمُخِلِّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

94

الْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشَرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) : يَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصِحَّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ (إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) مِنْ سَفَرِكُمْ هَذَا عَنْ جَمِيعِ سَيِّئَاتِهِمْ (قُلْ) أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ حِينَئِذٍ (لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لَنْ نُصَدِّقَكُمْ تَصْدِيقَ جُنُوحٍ وَائْتِمَانٍ لَكُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالْإِسْلَامِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ، وَلَا عَمَلًا بِالظَّوَاهِرِ، وَلِمَاذَا؟ (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) بِوَحْيِهِ إِلَى رَسُولِهِ

الْمُهِمَّ (مِنْ أَخْبَارِكُمْ) الَّتِي تُسِرُّونَهَا فِي ضَمَائِرِكُمْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِظَوَاهِرِكُمُ الَّتِي تَعْتَذِرُونَ بِهَا، وَنَبَأُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ، وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ الْبَاطِلَ، وَلَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ، وَلَمْ يَقُلْ ((نَبَّأَنِي)) وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُنَبَّأُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُنْبِئَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّبَأُ خَاصًّا بِهِ، وَاعْتِذَارُهُمْ لِلْجَمِيعِ يَقْتَضِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمِيعَ عَالِمُونَ بِمَا فَضَحَهُمُ اللهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَهُمْ هُوَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ، وَمَا لِخَبَرِهِ مِنَ الثِّقَةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا أَحَدٌ، وَالتَّأْثِيرِ الَّذِي يُحْسَبُ لَهُ كُلُّ حِسَابٍ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْلِيغَاتِ الرَّسْمِيَّةِ الْعُلْيَا الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، دَعْ كَوْنَهُ أَسْمَى وَأَعْلَى لِأَنَّهُ نَبَأُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) بَعْدَ الْآنَ. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ: إِمَّا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ، وَإِمَّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِذْعَانِ فِي الْإِيمَانِ، الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ. وَأَمَّا أَقْوَالُكُمْ فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ أَكَّدْتُمُوهَا بِالْأَيْمَانِ، فَإِنْ تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ، وَشَهِدَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ بِصَلَاحِ سَرِيرَتِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمْ، وَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَشْهَدُ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَصِدْقِهِمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِصْرَارَ عَلَى نِفَاقِكُمْ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى نِفَاقِ سُوقِ كَذِبِكُمْ بِأَعْذَارِكُمْ وَأَيْمَانِكُمْ، فَسَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جِهَادِكُمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْكُمْ كَإِخْوَانِكُمُ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ، وَعَدَمِ السَّمَاحِ لَكُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ أَبَدًا وَلَا بِأَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُ عَدُوًّا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ (ثُمَّ تُرَدُّونَ) مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى الذُّلِّ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ: (إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَمَا تَكْتُمُونَ وَمَا تُظْهِرُونَ. وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ عِلْمُهُ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَشْهَدُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ (1) (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عِنْدَمَا تُحْشَرُونَ وَتُحَاسَبُونَ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ مَا أَوْعَدَكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (4: 145) . وَمِنَ الْفِقْهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ تَحَامِيَ كُلِّ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يَحْتَاجُ فَاعِلُهُ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ((إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ)) رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ. (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) سَيُؤَكِّدُونَ لَكُمُ اعْتِذَارَهُمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ إِذَا انْقَلَبْتُمْ وَتَحَوَّلْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ سَفَرِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْ عَتْبِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى قُعُودِهِمْ مَعَ الْخَالِفِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْعَجَزَةِ، وَبُخْلِهِمْ بِالنَّفَقَةِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِهِ لِكُلِّ مَا يُعْتَذَرُ عَنْهُ: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إِعْرَاضَ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ، لَا إِعْرَاضَ

95

صَفْحٍ وَإِعْذَارٍ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَبْغُونَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَرْجُونَهُ مِنْهُ بَلْ عَلَى ضِدِّهِ، وَقَدْ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أَيْ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ تَنَزُّهًا عَنِ الْقُرْبِ مِنْهُ بِأَشَدَّ مِمَّا يَتَنَزَّهُ الطَّاهِرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَنْ مُلَابَسَةِ الْأَرْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ. وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (28) وَسَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الرِّجْسِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (5: 90) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أَيْ وَمَلْجَؤُهُمُ الْأَخِيرُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِ النِّفَاقِ الَّتِي دَنَّسَتْ أَنْفُسَهُمْ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ الَّذِي زَادَهُمْ رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ (125) الْآتِيَةِ. (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) فَتَسْتَدِيمُوا مُعَامَلَتَهُمُ السَّابِقَةَ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ وَهَذَا غَرَضٌ آخَرُ وَرَاءَ غَرَضِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لَا يَهْنَأُ عَيْشُهُمْ بِدُونِهِ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَهُ وَلَوْ كَانَ إِسْلَامُهُمْ عَنْ إِيمَانٍ لَكَانَ غَرَضُهُمُ الْأَوَّلُ إِرْضَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) (62) إِلَخْ. وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) فَرْضًا وَقَدْ أَعْلَمَكُمُ اللهُ بِحَالِهِمْ (فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) عَنْ أَمْرِهِ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْفُسُوقَ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ لِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ رِضَاهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ وَآمَنَ لَهُمْ بِاعْتِذَارِهِمْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ كَانَ فَاسِقًا مِثْلَهُمْ، مَحْرُومًا مِنْ رِضَائِهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ وَيُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ يَخْرُجُ مِنْ حُدُودِ سُخْطِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْخُلُ فِي حَظِيرَةِ مَرْضَاتِهِ ; إِذْ لَا يُعَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَاسِقًا. فَأَحْكَامُ اللهِ الْعَامَّةُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ لَا بِالذَّوَاتِ وَالْأَعْيَانِ، وَلَوْ قَالَ: ((فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ)) لَمَا أَفَادَ التَّعْبِيرُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ وَالْمَعَانِيَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ حُكْمًا عَلَى أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ، مُسَجِّلًا عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ وَعَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؟ وَلَا يُنَافِي هَذَا التَّحْقِيقُ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابِهِمَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَلَّا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مَقْصُودُونَ مِنَ الْآيَاتِ بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ كَالَّذِينِ نُهِيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَلَّلَهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِ، فَإِنَّهُ حَلَفَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عَوْدَتِهِ بِأَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَطَلَبَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَالْآيَاتُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ. وَهِيَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ بِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَقَاصِدِهِمُ الْخَفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِذَارُ وَالْحَلِفُ مِنْ سَجَايَاهُمْ

الْمَعْرُوفَةِ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ كَثْرَةَ الْحَلِفِ ; لِشُعُورِ الْمُنَافِقِ دَائِمًا بِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ. وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِجَهْلٍ فَظِيعٍ - وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِمُذَاكَرَةِ بَعْضِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعُلُومِ الدِّينِ التَّقْلِيدِيَّةِ - مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا عَابَهُ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَاتِّخَاذِ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِمَّا لَا يُنَالُ بِالْكَسْبِ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ وَبِأَوْلِيَائِهِمْ وَشُفَعَائِهِمْ وَأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ، وَالِاعْتِدَادَ بِإِسْلَامِهِمْ ; لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ مَنْ يَدْعُو الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَجْعَلُهَا وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى تَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَمَنْ يَدْعُو الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِذَلِكَ وَهُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُكْرَمُونَ، الَّذِينَ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؟ ؟ جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ فَمَنْ يَدْعُو مَعَ اللهِ صَنَمًا أَوْ كَوْكَبًا، كَمَنْ يَدْعُو نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا، عَلَى أَنَّ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ كَانَتْ تَمَاثِيلَ لِذِكْرَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَالْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ نِسْبَةً صَحِيحَةً أَوْ مُزَوَّرَةً، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمُدَافِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، مُتَوَسِّلِينَ بِهِمْ وَمُسْتَشْفِعِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعَ الْقُبُورِيُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُنَنَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا بِقَوْلِهِ ((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ)) الْحَدِيثَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِرَارًا، وَفُصِّلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا) (31) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا. وَيَذْكُرُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ بِالْقُرْآنِ وَتَارِيخِ الْإِسْلَامِ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ شِرْكِ الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِينَ اتَّخَذُوا أَوْثَانَهُمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَوْلِيَاءَ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ طَلَبًا لِشَفَاعَتِهِمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا أَرْبَابًا وَإِنَّمَا يَتَّخِذُونَهُمْ وَسَائِلَ وَوَسَائِطَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِثْلَهُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ أَرْبَابًا، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقَهُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى لُغَتِهِمْ ; وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَهَا آلِهَةً لِأَنَّ الْإِلَهَ فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالْمَعْبُودُ هُوَ مَنْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ النَّاسُ بِكَسْبِهِمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، وَيُعَظَّمُ وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى أَوْ بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا. وَسَيُعَادُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ

97

لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ، فَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ تَوَسُّلًا فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا عَنْ كَوْنِ اسْمِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِبَادَةً وَهُوَ مَا كَانَ يُسَمِّيهَا بِهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَإِنَّمَا التَّوَسُّلُ الشَّرْعِيُّ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَا بِالتَّقَالِيدِ الْمُتَّبَعَةِ. (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ حَالِ الْأَعْرَابِ مُنَافِقِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ وُصُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، بُدِئَ بِذِكْرِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَفَصْلٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ. (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٌ لِحَالِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَافِقِي الْحَضَرِ مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى. فَالْأَعْرَابُ اسْمُ جِنْسٍ لِبَدْوِ الْعَرَبِ، وَاحِدُهُ أَعْرَابِيٌّ، وَالْأُنْثَى أَعْرَابِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَعَارِيبُ أَوِ الْعَرَبُ اسْمُ جِنْسٍ لِهَذَا الْجِيلِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، بَدْوِهِ وَحَضَرِهِ، وَاحِدُهُ عَرَبِيٌّ. وَقَدْ وَصَفَ الْأَعْرَابَ بِأَمْرَيْنِ اقْتَضَتْهُمَا طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ (الْأَوَّلُ) أَنَّ كُفَّارَهُمْ وَمُنَافِقِيهِمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ نَفْسِهَا - لِأَنَّهُمْ أَغْلَظُ طِبَاعًا، وَأَقْسَى قُلُوبًا وَأَقَلُّ ذَوْقًا وَآدَابًا - كَدَأْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ بَدْوِ سَائِرِ الْأُمَمِ - بِمَا يَقْضُونَ جُلَّ أَعْمَارِهِمْ فِي رَعْيِ الْأَنْعَامِ وَحِمَايَتِهَا مِنْ ضَوَارِي الْوُحُوشِ وَمِنْ تَعَدِّي أَمْثَالِهِمْ عَلَيْهَا وَعَلَى نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَهُمْ

مَحْرُومُونَ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ، وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ (الثَّانِي) أَنَّهُمْ أَجْدَرُ: أَيْ أَحَقُّ وَأَخْلَقُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي كِتَابِهِ وَمَا آتَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا تِلْكَ الْحُدُودَ بِسُنَنِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَفَهْمُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيَّةِ لَا يَكْفِي فِي عِلْمِ حُدُودِهِ الْعَمَلِيَّةِ. كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقْتَ نُزُولِهِ، وَيَشْهَدُونَ سُنَّتَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَكَانَ يُرْسِلُ الْعُمَّالَ إِلَى الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ، وَيَحْكُمُونَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ فَيَعْرِفُ أَهْلُهَا تِلْكَ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ أَنْ يَعْتَدُّوهَا. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ مَيْسُورًا لِأَهْلِ الْبَوَادِي، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْهِجْرَةِ ; لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالنُّصْرَةِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ عِلْمٍ وَحَضَارَةٍ. فَالْأَعْرَابُ أَجْدَرُ بِالْجَهْلِ مِنَ الْحَضَرِ بِطَبِيعَةِ الْبَدَاوَةِ لَا بِضَعْفِ أَفْهَامِهِمْ، أَوْ بَلَادَةِ أَذْهَانِهِمْ أَوْ ضِيقِ نِطَاقِ بَيَانِهِمْ، فَقَدْ كَانُوا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي قُوَّةِ الْجَنَانِ، وَلَوْذَعِيَّةِ الْأَذْهَانِ، وَذَرَابَةِ اللِّسَانِ وَسَعَةِ بَيْدَاءِ الْبَيَانِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ رُوَاةُ الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرَ مُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا. وَالْجَدَارَةُ بِالشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ طَبْعِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَسْبِيَّةٍ، مِنْ فَنِّيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ سَلْبِيَّةٍ اقْتَضَتْهَا حَالَةُ الْمَعِيشَةِ وَالْبِيئَةِ، قِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجِدَارِ وَهُوَ الْحَائِطُ الَّذِي يَكُونُ حَدًّا لِلْبُسْتَانِ أَوِ الدَّارِ، وَقِيلَ: مِنْ جُدُرِ الشَّجَرَةِ، وَيُرَادِفُ الْجَدِيرُ بِالشَّيْءِ وَالْأَجْدَرُ، الْحَقِيقَ وَالْأَحَقَّ، وَالْخَلِيقَ وَالْأَخْلَقَ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَفْعَلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا لِلتَّفْضِيلِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ غَالِبًا كَحَدِيثِ ((وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) وَمَعَ تَرْكِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ أَحْيَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (9: 72) . (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وَاسِعُ الْعِلْمِ بِأُمُورِ عِبَادِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ مِنْ بَدَاوَةٍ وَحَضَارَةٍ وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَالْبَاطِنَةِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَإِخْلَاصٍ وَنِفَاقٍ تَامِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ وَمَا يَجْزِيهِمْ بِهِ، مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ، أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. مَا عَدَا ابْنَ مَاجَهْ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشَّعْبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ ((مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ)) قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ((مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنْ سُلْطَانِهِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللهِ بُعْدًا)) وَسَبَبُ الْأَخِيرِ أَنَّ السَّلَاطِينَ قَلَّمَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ يَلْتَزَمُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالنُّصْحَ الصَّرِيحَ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِمْ وَيَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي يَمْدَحُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَوْ بِالتَّأَوُّلِ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) (61) . (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (90) أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ

98

جَاءُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَذِّرِينَ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ الْجِهَادِ رِيَاءً وَتَقِيَّةً فَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنَ الْمَغَارِمِ وَهِيَ مَا يَلْزَمُهُ الْمَرْءُ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَلْتَزِمُهُ كُرْهًا أَوْ طَوْعًا لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ذَاتِيَّةٌ. وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُونَ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَلِهَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي بِالْمَغْرَمِ أَنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا عِنْدَ اللهِ وَلَا مُجَازَاةً وَإِنَّمَا يُعْطِي مَا يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَاتِ كُرْهًا. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ رِيَاءً اتِّقَاءَ أَنْ يُغْزَوْا وَيُحَارَبُوا وَيُقَاتَلُوا وَيَرَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ مَغْرَمًا (قَالَ) وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ وَغَطَفَانَ. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أَيْ يَنْتَظِرُونَ دَوَائِرَ الزَّمَانِ: أَيْ تَصَارِيفَهُ وَنَوَائِبَهُ الَّتِي تَدُورُ بِالنَّاسِ وَتُحِيطُ بِهِمْ بِشُرُورِهَا أَنْ تَنْزِلَ بِكُمْ فَتُبَدِّلَ قُوَّتَكُمْ ضَعْفًا، وَعِزَّكُمْ ذُلًّا، وَانْتِصَارَكُمْ هَزِيمَةً وَكَسْرًا، فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْمَغَارِمِ لَكُمْ، بِالتَّبَعِ لِلْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِكُمْ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا لَكُمْ. كَانُوا أَوَّلًا يَتَوَقَّعُونَ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ صَارُوا يَنْتَظِرُونَ مَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمُوتُ بِمَوْتِهِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ -. وَهَكَذَا يُعَلِّلُ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ نَفْسَهُ الْخَبِيثَةَ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ. وَإِذَا كَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وَمَا فِي اعْتِصَامِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْهَزِيمَةَ مِنَ الرُّومِ فِي تَبُوكَ، وَكَانُوا إِنْ أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبَةٌ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ يَفْرَحُونَ وَيَقُولُونَ: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) (9: 5) أَيِ احْتَطْنَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِثْلُ هَذَا التَّرَبُّصِ مِنَ الْأَعْرَابِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ مَا ذُكِرَ؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 50 - 45) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَرَبَّصُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ خَبَرٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ مَعَهُمْ، وَمَآلُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى حَقٌّ وَمَضْمُونَهُ كَمَضْمُونِ الدُّعَاءِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَالدُّعَاءُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ يُرَادُ بِهِ مَآلُهُ وَهُوَ وُقُوعُ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ. وَالسَّوْءُ بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ الْأَمْرُ ضِدَّ سَرَّهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ، وَالْإِضَافَةُ: كَرَجُلِ صِدْقٍ وَقَدَمِ صِدْقٍ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ: أَيْ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمُ الدَّائِرَةُ السُّوأَى تُحِيطُ بِهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَهَا بِهِمْ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا عَاقِبَةَ لَهُمْ تَتَرَبَّصُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ، وَمَا يَسُوءُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِذْلَانٍ وَخَيْبَةٍ وَتَعْذِيبٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَتَّى بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (52) وَقَوْلِهِ (فَلَا تُعْجِبْكُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) (55) .

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ إِذَا تَحَدَّثُوا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقُولُونَهَا لِلرَّسُولِ أَوْ لِعُمَّالِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُرَاءَاةً لَهُمْ، وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمُ الَّتِي يُخْفُونَهَا، فَهُوَ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ - أَيْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ - وَيَجْزِيهِمْ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الْمُنَافِقِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ. (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إِيمَانًا صَادِقًا إِذْعَانِيًّا تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) (92) الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِيهِمْ وَالنَّصُّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِمْ ضِدَّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَصْفِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُهُ وَسِيلَةً لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَوَّلُهُمَا الْقُرُبَاتُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَانِيهِمَا صَلَوَاتُ الرَّسُولِ، أَيْ أَدْعِيَتُهُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّصِّ انْتِفَاعُ أَحَدٍ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِلَّا الدُّعَاءَ وَمَا يَكُونُ الْمَرْءُ سَبَبًا فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالسَّنَّةُ الْحَسَنَةُ يُتَّبَعُ فِيهَا. فَهَذَا الْقَصْدُ فِي اتِّخَاذِ الصَّدَقَاتِ ضِدُّ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهَا مَغْرَمًا. وَالْقُرُبَاتُ كَالْقُرَبِ جَمْعُ قُرْبَةٍ (بِضَمِّ الْقَافِ) وَهِيَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ. كَالْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ وَالْقُرْبَى فِي الرَّحِمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ: وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، فَقَصْدُ الْقُرْبَةِ فِي الْعَمَلِ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِيهِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّفَقَاتِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى إِخْلَاصِهِمْ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلَاةٍ وَمَعْنَاهَا، أَوْ أَحَدُ مَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ شَرْعِيٌّ وَجْهُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ رُوحُهَا الْأَعْظَمُ ; لِأَنَّهُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا وَهُوَ فِي الْفَاتِحَةِ فَرِيضَةٌ، وَفِي السُّجُودِ فَضِيلَةٌ وَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُتَصَدِّقِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (103) . وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ عَلَى مَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِهِ مِنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَدَائِهِمْ بِهِ حَقَّ اللهِ، وَهُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ عِنْدَهُ. وَحَقُّ الرَّسُولِ وَهُوَ طَلَبُ دُعَائِهِ لَهُمْ بِقَبُولِ نَفَقَتِهِمْ وَإِثَابَتِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُشْعِرِ بِالِاهْتِمَامِ

99

(أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) وَهُوَ إِخْبَارٌ بِقَبُولِهِ تَعَالَى لِنَفَقَتِهِمْ. مُؤَكَّدٌ بِافْتِتَاحِهِ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا وَهِيَ (أَلَا) وَبِـ (إِنَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهَا قُرْبَةٌ) رَاجِعٌ إِلَى النَّفَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْلِهِ: (مَا يُنْفِقُ) فَإِفْرَادُ الْقُرْبَةِ لِأَنَّهَا خَبَرٌ لِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ. وَقَوْلُهُ: (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْقُرْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِمَنْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَهِيَ هِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ دَارِ نَعِيمٍ وَمَعْنَى إِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مَغْمُورِينَ فِيهَا وَتَكُونُ هِيَ مُحِيطَةً بِهِمْ شَامِلَةً لَهُمْ. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ مَثَلٍ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) (9: 21) وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ: (سَيُدْخِلُهُمْ) لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ وَتَحْقِيقِهِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ. وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ يَغْفِرُ لِلْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَيَرْحَمُ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَيَهْدِيهِمْ بِهِ إِلَى أَحْسَنِ الْعَمَلِ وَخَيْرِ الْمَصِيرِ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ مَقَامِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . هَذَا تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْبَدْوِ جَمِيعًا، عَطَفَ عَلَى تَقْسِيمِ الْأَعْرَابِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، قَالَ:

100

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) هَذِهِ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ هِيَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ فِي جُمْلَتِهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (فَالْأُولَى) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَعَلَيْهِ الشَّعْبِيُّ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَمَا قَبْلَهُ فِي السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا وَأَمَّا السَّابِقُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَحْدَهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ يَضْطَهِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنَ الْهِجْرَةِ مَا وَجَدُوا إِلَى صَدِّهِ سَبِيلًا، وَلَا مَنْجَاةَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ شَرِّهِمْ إِلَّا بِالْفِرَارِ أَوِ الْجِوَارِ، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مُنَافِقٌ كَمَا قُلْنَا ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنِّفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقْتَضًى وَلَا سَبَبٌ، وَلَا لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ دَاعٍ غَيْرَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ بِنَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَتَفَاضَلُونَ فِي السَّبْقِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَفْضَلُهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ فَسَائِرُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ بِأَشْخَاصِهِمْ، وَمَا كُلُّ سَابِقٍ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ مَسْبُوقٍ، وَمِنَ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ مَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالْهِجْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهَا خَبَرَ بَعْثَتِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ فَصَدَّقَتْ وَآمَنَتْ، وَيَلِيهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهَا، وَهُمْ عَلِيٌّ وَكَانَ ابْنَ 10 سِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَمِنْ خَارِجِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ آمَنَ عِنْدَمَا دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ أَدْنَى تَرَيُّثٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَلَا فِي أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ، وَأَوَّلُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي مِنًى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَانُوا سَبْعَةً، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَيَلِيهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَذَا مَنْ آمَنَ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَبْلَ أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ غَالِبَةٌ تُتَّقَى وَتُرْتَجَى، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ رَسَخَتْ عَقِبَ هِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) (8: 49) وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.

(الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ) الَّذِينَ اتَّبَعُوا هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ اتِّبَاعًا بِإِحْسَانٍ، أَوْ مُحْسِنِينَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَيْدُ الشَّهَادَةَ لِلسَّابِقِينَ بِكَمَالِ الْإِحْسَانِ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَئِمَّةً مَتْبُوعِينَ، وَخَرَجَ بِهِ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ مُسِيئِينَ غَيْرَ مُحْسِنِينَ فِي هَذَا الِاتِّبَاعِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ مُحْسِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمُسِيئِينَ فِي بَعْضٍ وَهْمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْآيَاتُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ. هَؤُلَاءِ الطَّبَقَاتُ الثَّلَاثُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِي إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَأَعْلَاهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَقَبِلَ طَاعَاتِهِمْ، وَغَفَرَ سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، إِذْ بِهِمْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ، وَنَكَّلَ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ (وَرَضُوا عَنْهُ) بِمَا وَفَّقَهُمْ لَهُ، وَأَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ نِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَهَدَاهُمْ مِنْ ضَلَالٍ، وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَأَعَزَّهُمْ مِنْ ذُلٍّ. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي الْآيَةِ (72) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْخَالِدِ مِنْ بَدَنِيٍّ وَرُوحَانِيٍّ؟ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَالْأَنْصَارِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى: (الْمُهَاجِرِينَ) ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى (وَالسَّابِقُونَ) وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ، بَلْ رُوِيَ أَيْضًا - وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ مَعَ جَعْلِ (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) صِفَةً لِلْأَنْصَارِ وَأَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ قَرَأَهَا بِالْخَفْضِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ وَجَامِعِ الْقُرْآنِ فَسَأَلَ عُمَرُ أُبَيًّا فَصَدَّقَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا هَكَذَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا - يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ - فَقَالَ أُبَيٌّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمْعَةِ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (62: 3) . وَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ فِيهَا نَصٌّ فِي الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي صِفَتَيْهِمْ: الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّابِعُونَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدِّينَ وَالْعِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَنَالُوا شَرَفَ الصُّحْبَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَسْمِيَةُ هَؤُلَاءِ بِالتَّابِعِينَ اصْطِلَاحِيَّةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَانْتِقَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَعَبَّرَ فِيهِ عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (8: 75) وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا آيَاتُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَقَدْ عَبَّرَ فِيهَا عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (59: 10) إِلَخْ وَلَا شَكَّ فِي مُشَارَكَةِ سَائِرِ

الْمُؤْمِنِينَ لِأُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ فِي رِضَاءِ اللهِ وَثَوَابِهِ بِقَدْرِ اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِنْ وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وَالْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهَا نُصْرَتُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي حُكْمِ اللهِ الْحَقُّ وَشَرْعُهُ الْعَدْلُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِلسَّابِقِينَ فِي كُلِّ عَمَلٍ فَضِيلَةُ السَّبْقِ وَالْإِمَامَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَيَمْتَازُ عَصْرُ الرَّسُولِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَأُقِيمَ بُنْيَانُهُ، وَرُفِعَتْ أَرْكَانُهُ، وَنُشِرَتْ فِي الْخَافِقَيْنِ أَعْلَامُهُ، عَلَى كُلِّ عَصْرٍ بَعْدَهُ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ الْمُقَرَّبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (56: 10 - 14) . هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْمَغُ حَقُّهَا بَاطِلَ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِيهِمْ، وَيُحْثُونَ التُّرَابَ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَالَّذِي سَنَّ لَهُمْ هَذَا الطَّعْنَ فِي جُمْهُورِهِمُ الْأَعْظَمِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهُودِيُّ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَجْلِ إِيقَاعِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ نَظَّمَ الدَّعْوَةَ لِذَلِكَ زَنَادِقَةُ الْمَجُوسِ بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِهِمْ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. ثُمَّ جَعَلَ الرَّفْضَ مَذْهَبًا لَهُ فِرَقٌ ذَاتُ عَقَائِدَ، مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ابْتِدَاعٌ قَبِيحٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَتَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنَّةِ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ اقْرَأْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) - إِلَى أَنْ قَالَ: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) شَرَطَ فِي التَّابِعِينَ شَرِيطَةً وَهِيَ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي أَفْعَالِهِمُ الْحَسَنَةِ دُونَ السَّيِّئَةِ. قَالَ أَبُو صَخْرٍ: فَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ قَطُّ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ نُزُولِهَا مُؤْمِنِيهِمْ وَمُنَافِقِيهِمْ. وَمُحْسِنِيهِمْ وَمُسِيئِيهِمْ وَالَّذِينَ خَلَطُوا مِنْهُمْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَالَّذِينَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ أَرْجَأَ تَوْبَتَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ - عِنْدَمَا أُبِيحَتِ الْهِجْرَةُ وَتَيَسَّرَتْ أَسْبَابُهَا بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ فَازُوا كُلُّهُمْ بِرِضَاءِ اللهِ وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَلْ كَانَ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَعْتَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَهَا فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَالسُّيُوفُ تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ الْمُقَلِّدُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ الْهَزِيمَةِ فِي حُنَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (25 - 27) ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُ الْأَكْثَرِينَ، فَفَتَحُوا الْفُتُوحَاتِ وَنَشَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الْعَالَمِينَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ أَفْرَادِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، قَدْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ وَاسْتَبَقُوا

101

الصِّرَاطَ، وَمَا عَادَ يُؤَثِّرُ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِمْ شَيْءٌ ; لِأَنَّ نُورَهُمْ يَمْحُو كُلَّ ظُلْمَةٍ تَطْرَأُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِإِلْمَامِهِ بِذَنْبٍ. وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُ: إِنَّ مَنِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى تَعْدِيلِهِ فِي الرِّوَايَةِ - أَيِ اعْتَمَدَا عَلَيْهِ فِي أُصُولِهِمَا الْمُسْنَدَةِ - قَدْ جَازَ قَنْطَرَةَ الْجَرْحِ، فَمَاذَا يُقَالُ فَيَمَنْ عَدَّلَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ؟ ؟ وَسَيَأْتِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى تَابَ عَلَى الْمُذْنِبِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَغَفَرَ لَهُمْ وَلِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ مُنَاظَرَةٌ مَعَ نَفْسِهِ بَسَطَهَا فِي كِتَابِهِ (رُوحُ الْقُدُسِ) ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ مُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ حَدَثَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِعْجَابِ بِعِبَادَتِهَا وَمَعْرِفَتِهَا مَا دَعَاهُ إِلَى مُنَاظَرَتِهَا وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا بِغُرُورِهَا، فَعَرَضَهَا أَوَّلًا عَلَى الْقُرْآنِ، فَاعْتَرَفَتْ بِضَعْفِهَا عَنْ بُلُوغِ مَا قَرَّرَهُ مِنْ أَوْجِ الْكَمَالِ، فَعَرَضَهَا عَلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْذَرَتْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) وَهُوَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ دُونِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَعَرَضَهَا عَلَى فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ فَأَقَرَّتْ بِعَجْزِهَا عَنِ الرُّجْحَانِ فِي هَذَا الْمِيزَانِ، وَمُسَابَقَةِ مَنْ رَبَّاهُمُ الْمُصْطَفَى بِكِتَابِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَزَكَّاهُمْ بِحِكْمَتِهِ فَاقْتَبَسُوا نُورَهُ مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَكِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تَعْتَرِفَ لِكِبَارِ التَّابِعِينَ بِمِثْلِ هَذَا السَّبْقِ، كَانَ لَهُ مَعَهَا حِجَاجٌ فِي أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى حَقَائِقِ عِلْمِ النَّفْسِ. (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ مَرَدَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَعَطْفُهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ عَطْفِ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ حَوْلَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مُنَافِقُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارَ، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْ كَمَا كَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ دَعَا لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نَفْسِهَا مُنَافِقِينَ أَيْضًا مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ غَيْرَ مَنْ أَعْلَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ، وَقَدْ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) أَيْ مُرِّنُوا عَلَيْهِ وَحَذَقُوهُ حَتَّى بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ إِتْقَانِهِ وَجَعْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِهِ لِاتِّقَائِهِمْ جَمِيعَ الْأَمَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ. يُقَالُ: مَرَدَ عَلَى الشَّيْءِ يَمْرُدُ (كَقَعَدَ يَقْعُدُ) مُرُودًا إِذَا مُرِّنَ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَتَا وَاشْتَدَّ فِيهِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ إِرْجَاعُهُ عَنْهُ. وَمِنَ الْأَوَّلِ الْغُلَامُ الْأَمْرَدُ الَّذِي لَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ فِي وَجْهِهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَرْدَاءُ الَّتِي لَا وَرَقَ فِيهَا، وَمِنْهُ مَرَّدَ الشَّيْءَ تَمْرِيدًا إِذَا صَقَّلَهُ وَمَلَّسَهُ حَتَّى صَارَ أَمْلَسَ لَا حُرْشَةَ فِيهِ وَلَا خُشُونَةَ، وَمِنْهُ (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) (27: 44) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَتَأْوِيلُ الْمُرُودِ أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَيْهِ الصِّنْفُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمُرُودُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرُونُ عَلَيْهِ، وَمَرَدَ عَلَى الْكَلَامِ: أَيُّ مَرُنَ عَلَيْهِ لَا يَعْبَأُ بِهِ - أَيْ لَا يُعْنَى أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ - قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ مَرَنُوا عَلَيْهِ وَجُرِّبُوا كَقَوْلِكَ: تَمَرَّدُوا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَرَدُ التَّطَاوُلُ بِالْكِبْرِ وَالْمَعَاصِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) أَيْ تَطَاوَلُوا. اهـ.

(لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أَيْ لَا تَعْرِفُهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِفِطْنَتِكَ وَدِقَّةِ فَرَاسَتِكَ الَّتِي تَنْظُرُ فِيهَا بِنُورِ اللهِ لِحِذْقِهِمْ وَتَجَنُّبِ مَثَارَاتِ الشُّبْهَةِ، وَأُكِّدَ هَذَا النَّفْيُ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِأَعْيَانِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَعَلَّهُمْ أَخْفَى نِفَاقًا وَأَشَدُّ تَقِيَّةً مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (47: 29، 30) . فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُعْلِمْهُ اللهُ بِأَعْيَانِهِمْ كَمَا أَعْلَمَهُ بِمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ (74) وَلَا فَضَحَهُمْ بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَلَا بِأَفْعَالٍ فَعَلُوهَا كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهُمْ بِمُرُودِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ يَتَحَامَوْنَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ، وَحِكْمَةُ إِخْبَارِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمُوا هُمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَيَحْذَرُوا أَنْ يَفْضَحَهُمْ كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ ; لِيَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَهُوَ فِي سِتْرِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُنْجِزَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِحْدَاهُمَا: مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَتَوْبِيخِ الضَّمَائِرِ، وَانْتِظَارِ الْفَضِيحَةِ بِهَتْكِ أَسْتَارِ السَّرَائِرِ وَمَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنْ جِهَادِهِمْ إِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ: آلَامُ الْمَوْتِ، وَزُهُوقُ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، فَأَقْرُبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْعَذَابُ مَرَّتَيْنِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (55، 73، 74، 82، 85) فَفِيهِ بَيَانٌ لِكُلِّ مَا يُصِيبُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ الْوِجْدَانِ الْبَاطِنِ، وَعَذَابِ مَنْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَقْوَالٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ بَعْضُهَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا وَبَعْضُهَا مَرْدُودٌ وَمُتَنَاقِضٌ. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ. جَاءَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ مَرَّةً فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُهُ فَلْيَقُمْ)) ثُمَّ قَالَ قُمْ يَا فُلَانُ - حَتَّى سَمَّى 36 رَجُلًا فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدَدُ الَّذِينَ سَبَقَ تَهْدِيدُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِظُهُورِ نِفَاقِهِمْ دُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنْ لَمْ يُرْوَ لَنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ بِكُفْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَمْ يَرْوِ لَنَا الْمُحَدِّثُونَ شَيْئًا فِيهِ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ عُرِفُوا بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا، وَفَرِيقٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَحَذَقُوهُ حَتَّى صَارَ أَمْلَسَ نَاعِمًا لَا يَكَادُ يَشْعُرُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ يَسْتَنْكِرُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلَا سِيَّمَا مُنَافِقِي السِّيَاسَةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْأَجَانِبُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ دُعَاةً وَوَلَائِجَ وَأَعْوَانًا عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِ أَوْطَانِهِمْ، فَمَا مِنْ قُطْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْطَارِ الَّتِي رُزِئَتْ بِالْأَجَانِبِ

102

إِلَّا وَلَهُمْ فِيهَا أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ مِنْ أَهْلِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدِمُونَ أُمَّتَهُمْ وَوَطَنَهُمْ مِنْ طَرِيقِ اسْتِمَالَتِهِمْ وَاسْتِرْضَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْلَاهُمْ لَمَا وُفِّقُوا مِنَ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَدِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْدِمُونَ الْأَجَانِبَ خِدَمًا خَفِيَّةً لَا تَشْعُرُ بِهَا الْأُمَّةُ لِأَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْخَوَنَةُ الْخَادِمُونَ لِلْأَجَانِبِ إِلَى نِفَاقٍ، وَتَلْبِيسِ خِيَانَتِهِمْ وَإِخْفَائِهَا بِالْكَذِبِ وَالِاخْتِلَاقِ، إِذَا كَانَ لِلرَّأْيِ الْعَامِّ فِطْنَةٌ وَقُوَّةٌ يَخْشَوْنَهَا، وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا الْجَهْلُ وَالضَّعْفُ فَلَا يُبَالِي الْخَائِنُونَ بِرِضَاءِ أَهْلِهَا وَلَا بِسُخْطِهِمْ. وَأَشَدُّ الْمُنَافِقِينَ مُرُودًا وَإِتْقَانًا لِلنِّفَاقِ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَشَرُّهُمْ وَأَضَرُّهُمُ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ. (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أَيْ وَثَمَّ آخَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أُنَاسٌ آخَرُونَ لَيْسُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ لَا إِسَاءَةَ فِيهِ، بَلْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) أَيْ خَلَطُوا فِي أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ عَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَعَمَلًا سَيِّئًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَلَطُوا صَالِحًا بِسَيِّئٍ وَسَيِّئًا بِصَالِحٍ أَوْ خَلَطُوا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُغَلِّبِ الْآخَرَ وَيَنْدَغِمْ فِيهِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الصَّالِحِينَ الْخُلَّصِ وَلَا مِنَ الْفَاسِقِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَاقْتَرَفُوا بَعْضَ السَّيِّئَاتِ، وَهُمْ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّفْرِ وَالْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ كَالضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَغَيْرِ الْوَاجِدِينَ، وَلَا اسْتِئْذَانٍ كَاسْتِئْذَانِ الْمُرْتَابِينَ وَلَا اعْتِذَارٍ كَاذِبٍ كَالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانُوا نَاصِحِينَ لِلَّهِ فِي أَثْنَاءِ قُعُودِهِمْ شَاعِرِينَ بِذَنْبِهِمْ، خَائِفِينَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْ قُعُودِهِمْ وَنُصْحِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْآخَرِ، كَالَّذِي يَدْخُلُ أَرْضًا مَغْصُوبَةً فَيُصْلِحُ فِيهَا، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ بِدُخُولِهَا وَيَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ لِتَكْفِيرِ ذَنْبِ الِاعْتِدَاءِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُكَ: خَلَطَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِالسَّيِّئِ، كَمَا تَقُولُ خَلَطَ الْقَمْحَ بِالشَّعِيرِ أَوِ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ ; لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْخَلْطِ يَصِيرُ فِيهِ الْمَخْلُوطُ وَالْمَخْلُوطُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يَقُولُ صَاحِبُهُ: عِنْدِي مَاءٌ فُرَاتٌ، وَلَا لَبَنٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ فَقَدْ بَقِيَ فِيهِ كُلُّ نَوْعَيْنِ مُمْتَازًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا خَلْطُهُ مَعَ الْآخَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْجَمْعِ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِالْعُدُولِ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ إِلَى الْعَطْفِ. (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أَيْ هُمْ مَحَلُّ الرَّجَاءِ لِقَبُولِ اللهِ تَوْبَتَهُمْ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَى وُقُوعِهَا اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (فِي ص 190 ج 10. ط الْهَيْئَةِ) أَنَّ كَلِمَةَ (عَسَى) وُضِعَتْ لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الرَّجَاءِ كَلَعَلَّ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا مِنَ اللهِ لِلْإِيجَابِ - غَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ لِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ

التَّوْبَةُ: بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَلَمِ الْوِجْدَانِ مِنْ تَصَوُّرِ سَخَطِ اللهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ أَوِ الذُّنُوبِ؛ بِبَاعِثِ هَذَا الْأَلَمِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى اقْتِرَافِهَا، ثُمَّ الْعَمَلِ بِضِدِّهَا ; لِيُمْحَى مِنَ النَّفْسِ أَثَرُهَا، وَالرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ اعْتِرَافَ مَنْ ذَكَرَ بِذُنُوبِهِمْ قَدِ اسْتَتْبَعَ كُلَّ هَذَا. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تَعْلِيلٌ لِرَجَاءِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لِلْمُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (20: 82) وَكَمَا قَالَ: (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (7: 56) وَكَمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) (40: 7 - 9) . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرْجَى الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (39: 53) وَإِنَّمَا هَذَا عِلَاجٌ لِمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى كَادُوا يَقْنَطُونَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ لَا لِلْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ بِغَيْرِ مُبَالَاةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (39: 54) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ قِسْمَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا يُوجَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَقِسْمِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَقَامَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ بِنَاءَ الْإِسْلَامِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَلْزَبُهُمْ قَرِينٌ. وَلَا يَلْحَقُهُمْ لَاحِقٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَلَعَلَّ أَسْوَأَ سَيِّئَاتِهِمْ تَرْكُ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ تَوْبَةِ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا تَتِمُّ الْعِبْرَةُ بِهَا، إِلَّا بِتَدَبُّرِ مَا بَعْدَهَا، وَهُوَ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مِنَ النِّفَاقِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، بِبَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا: أَتَانِي اللَّيْلَةَ (أَيْ فِي النَّوْمِ) مَلَكَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيَا بِي إِلَى مَدِينَةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ، وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنَ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحَ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا

103

فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَا: وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ)) اهـ فَهَذَا تَمْثِيلٌ فِي الرُّؤْيَا لِتَحْسِينِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَجْمِيلِهِ لِلنَّفْسِ وَتَشْوِيهِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ لَهَا، وَلِتَطْهِيرِهَا، بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا حَسَنَةً جَمِيلَةً وَأَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ بَعْدَ أَنْ تُبْعَثَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (11: 114) وَشَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِنَهْرٍ يَفِيضُ عَلَى عَتَبَةِ الْإِنْسَانِ خَمْسَ مَرَّاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ((فَهَلْ يُبْقِي عَلَيْهَا وَسَخًا أَوْ قَذَرًا)) ؟ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ فَوَائِدِ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ وَمَنَافِعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَعَلَى التَّوْبَةِ لِمَنْ قَصَّرَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ. وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ وَأَصْحَابَهُ جَاءُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُطْلِقُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ: ((مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا)) فَأَنْزَلَ اللهُ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ آبَائِهِ وَزَادَ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُزْءًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُمْ وَلَهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى. وَهَذَا النَّصُّ حُكْمُهُ عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ خَاصًّا، عَامٌّ فِي الْآخِذِ يَشْمَلُ خُلَفَاءَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُوسِرُونَ، قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا عَامٌّ وَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ فِي: (أَمْوَالِهِمْ) إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَخَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. وَلِهَذَا اعْتَقَدَ بَعْضُ مَانِعِي الزَّكَاةِ

مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا خَاصًّا بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) الْآيَةَ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَالْفَهْمَ الْفَاسِدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الزَّكَاةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - وَفِي رِوَايَةٍ عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالسِّيَرِ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهَاكَ مَعْنَى الْآيَةِ. (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) أَيْ خُذْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ ذُكِرَ، وَمِنْ سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَالُ التِّجَارَةِ - صَدَقَةً مُعَيَّنَةً كَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ التَّطَوُّعُ - فَالصَّدَقَةُ مَا يُنْفِقُهُ الْمُؤْمِنُ قُرْبَةً لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَفَقَةِ مُؤْمِنِي الْأَعْرَابِ (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) أَيْ تُطَهِّرُهُمْ بِهَا مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ وَالدَّنَاءَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْبَائِسِينَ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَتُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ بِهَا: أَيْ تُنَمِّيهَا وَتَرْفَعُهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الْخُلُقِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَتَّى تَكُونَ بِهَا أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَالْمُطَهِّرُ هُنَا الرَّسُولُ وَالْمُطَهَّرُ بِهِ الصَّدَقَةُ. وَالتَّزْكِيَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الزَّكَاءِ وَهُوَ نَمَاءُ الزَّرْعِ وَنَحْوُهُ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: رَجُلٌ زَكِيٌّ زَائِدُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ بَيِّنُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ، (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً) (19: 13) اهـ. وَالتَّزْكِيَةُ لِلْأَنْفُسِ بِالْفِعْلِ تُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ الْمُوَفِّقُ لِلْعَبْدِ لِفِعْلِ مَا تَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَصْلُحُ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) 2 (4: 21) وَتُسْنَدُ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَعْلُو قَدْرُهَا بِسُنَّتِهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ فِي بَيَانِ كِتَابِ اللهِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (62: 2) فَتَزْكِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمَّةِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبَعْثَةِ وَتُسْنَدُ إِلَى الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِطَهَارَةِ نَفْسِهِ وَزَكَائِهَا كَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 9، 10) وَقَوْلُهُ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (87: 14 و15) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) (4: 49) وَقَوْلُهُ (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (53: 32) فَهُوَ فِي زَكَاءِ النَّفْسِ بِدَعْوَى اللِّسَانِ، فَالتَّزْكِيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُزَكَّى وَهِيَ الْأَصْلُ وَعَلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: (صَلَاتُكَ) بِالْمُفْرَدِ أَيْ جِنْسُهَا وَالْبَاقُونَ: (صَلَوَاتُكَ) بِالْجَمْعِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمَاعَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مِنْ صَلَّى يُصَلِّي تَصْلِيَةً، وَقَدْ هُجِرَ لَفْظُ التَّصْلِيَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ: تَرَكْتُ الدِّنَانَ وَعَزْفَ الْقِيَانِ ... وَأَدْمَنْتُ تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا. وَمَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الدُّعَاءُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ صَلَاةً مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِأَهَمِّ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَقِيلَ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الرَّحْمَةُ وَالْحَنَانُ، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (33: 43) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (33: 56) وَصَلَاتُنَا عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاؤُنَا لَهُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِنَا فِي دُعَاءِ الْأَذَانِ الْمَأْثُورِ: ((اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا، وَالسَّكَنُ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَتَرْتَاحُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَتَاعٍ وَثَنَاءٍ. وَالْمَعْنَى ادْعُ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ عَاطِفًا عَلَيْهِمْ: إِنَّ دُعَاءَكَ وَاسْتِغْفَارَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، يَذْهَبُ بِهِ اضْطِرَابُ أَنْفُسِهِمْ إِذَا أَذْنَبُوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِأَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا وَيَرْتَاحُونَ إِلَى قَبُولِ اللهِ صَدَقَاتِهِمْ بِأَخْذِكَ لَهَا، وَوَضْعِكَ إِيَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أَيْ سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَإِجَابَةٍ، عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَالْمُرَادُ مِنَ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ لَازِمُهُمَا. وَسَمِيعٌ لِاعْتِرَافِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، عَلِيمٌ بِنَدَمِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ مِنْهَا، وَبِإِخْلَاصِهِمْ فِي صَدَقَتِهِمْ وَطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِهَا، فَهُوَ الَّذِي يُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا، فَجُمْلَةُ (إِنَّ صَلَاتَكَ) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، وَتَذْيِيلُهَا بِالتَّذْكِيرِ بِسَمْعِ اللهِ وَعِلْمِهِ إِشْعَارٌ بِقَبُولِ الدُّعَاءِ وَقَبُولِ الطَّاعَاتِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَتُصَرِّحُ بِهِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ. رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ)) فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى)) فَقَوْلُهُ: بِصَدَقَتِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زَكَاةُ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ صَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ أَوْ مَا يَعُمُّ الْفَرِيضَةَ وَغَيْرَهَا، وَعَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِ الدُّعَاءِ عَلَى آخِذِي الزَّكَاةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِلْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) - إِلَى قَوْلِهِ: - ((سَكَنٌ لَهُمْ)) وَالْجُمْهُورُ

عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ خَاصٌّ بِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْرِهِ وَبِدُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ، وَقَيَّدَ الْأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِمَا عَدَا هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ لِلْمُتَصَدِّقِينَ ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ)) عِنْدَ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِغَيْرِهِ أَيْضًا فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي رَجُلٍ بَعَثَ بِنَاقَةٍ حَسَنَةٍ فِي الزَّكَاةِ ((اللهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إِبِلِهِ)) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ وَيَقُولَ: آجَرَكَ اللهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ. وَالْأَفْضَلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَخُصُّ بِالسَّلَامِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَكَذَا جَمَاعَةُ آلِ بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالشِّيعَةُ يَلْتَزِمُونَ السَّلَامَ عَلَى السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ وَبَعْلِهَا وَوَلَدَيْهِمَا وَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ السِّبْطَيْنِ، وَيُوَافِقُهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الزَّهْرَاءِ وَالسِّبْطَيْنِ وَوَالِدِهِمَا سَلَامُ اللهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِمْ إِذَا ذُكِرُوا جَمَاعَةً أَوْ أَفْرَادًا، وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْآلِ بِالتَّبَعِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ صَلَاةُ التَّشَهُّدِ، وَكَذَا عَطْفُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْآلِ ذَائِعٌ فِي الْكُتُبِ وَالْخُطَبِ وَالْأَقْوَالِ. (فَصْلٌ فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ) وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ تَطْهِيرِ الصَّدَقَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِهَا يَشْمَلُ أَفْرَادَهُمْ وَجَمَاعَتَهُمْ، فَهِيَ تُطَهِّرُ أَنْفُسَ الْأَفْرَادِ مِنْ أَرْجَاسِ الْبُخْلِ وَالدَّنَاءَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْأَثَرَةِ وَالطَّمَعِ وَالْجَشَعِ، وَمِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ خِيَانَةٍ وَسَرِقَةٍ وَغَصْبٍ وَرِبًا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَرَبَّى بِالْإِيمَانِ عَلَى بَذْلِ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ أَوْ مَا أَوْدَعَهُ فِي خِزَانَتِهِ وَصُنْدُوقِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَخْذِ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهَذَا التَّطْهِيرُ لِأَنْفُسِ الْأَفْرَادِ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْعِلْمِ، وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، يَسْتَلْزِمُ تَطْهِيرَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ (وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ) مِنْ أَرْجَاسِ الرَّذَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّحَاسُدِ وَالتَّعَادِي وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ وَقُطْبُ الرَّحَى لِمَعَايِشِهِمْ وَمَرَافِقِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْكَسْبِ وَالتَّثْمِيرِ، وَالْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ، وَالْقَصْدِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، فَلَا يَنْفَكُّ بَعْضُهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بَعْضٍ فِي كَسْبِ الرِّزْقِ وَفِي

إِنْفَاقِهِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِجَمْعِ الثَّرْوَةِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى طِبَاعِهِمُ الْحِرْصُ وَالْبُخْلُ حَتَّى عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ، وَبِهَذَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ فِتْنَةً - أَيِ امْتِحَانًا - لِبَعْضٍ وَمَثَارًا لِلتَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (25: 20) أَيْ ذَلِكَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ. وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ مُرْشِدًا لِلْبَشَرِ إِلَى تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَقْوِيمِ أَخْلَاقِهِمْ بِمَا تَصْلُحُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ، وَيَرْتَقِي بِهِ أَفْرَادُهُمْ وَجَمَاعَتُهُمْ - شَرَعَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا يَقِيهِمْ شَرَّ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَيُنْقِذُهُمْ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِهْمَالِهَا مِنَ الْمِحْنَةِ فَأَوْجَبَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَا يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِ الثَّرْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ حَسَنَاتٍ، وَإِنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَا كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَا دَوَاوِينِ التَّارِيخِ بَيَانًا عِلْمِيًّا لِحِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ فِي السِّيَاسَةِ الْمَالِيَّةِ وَمَا انْفَرَدَتْ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَكُنْتُ عَازِمًا عَلَى شَرْحِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَيْهِ وَفَكَّرْتُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفُرُوعِهَا تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا إِلَّا بِتَأْلِيفِ سِفْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَرَأَيْتُ أَنْ أَكْتَفِيَ هُنَا بِإِيرَادِ أَهَمِّ الْحَقَائِقِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَأَقُولَ: إِنَّ اتِّسَاعَ دَوَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدِ اضْطَرَّ الْبَاحِثِينَ إِلَى انْفِرَادِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ لِلْإِحْصَاءِ فِي كُلِّ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا لِتَمْحِيصِ مَسَائِلِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، حَتَّى إِنَّ الرِّجَالَ الْمَالِيِّينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا اللَّقَبَ فِيهِ (أَيْ لَقَبَ الْمَالِيِّ) إِلَّا بَعْدَ إِتْقَانِ عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْهَا، وَالتَّمَرُّنِ، بِالْعَمَلِ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الِاجْتِمَاعِيِّينَ مِنْهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ جَمِيعَ الثَّوَرَاتِ وَالْحُرُوبِ السِّيَاسِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ ذَاتِ الشَّأْنِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ قَدْ كَانَ الْمَالُ سَبَبَهَا الصَّحِيحَ، أَوْ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهَا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ حُرُوبَ أُورُبَّةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا حُرُوبَهَا الصَّلِيبِيَّةَ لِلْإِسْلَامِ. بَلْ نُشِرَ مُنْذُ سِنِينَ كِتَابٌ عَرَبِيٌّ طُبِعَ فِي الْقُدْسِ مَوْضُوعُهُ (الْحَرَكَاتُ الْفِكْرِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ) زَعَمَ مُؤَلِّفُهُ تَابِعًا لِبَعْضِ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ فِكْرَةً دِينِيَّةً مَحْضًا بَلْ كَانَ مَسْأَلَةً اقْتِصَادِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً أَيْضًا، أَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ إِلَّا وَسِيلَةً لَهُ، وَنُقِلَ عَنْ (كَايْتَانِي) الْمُؤَرِّخِ الْإِيطَالِيِّ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ دِينِيًّا إِلَّا فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّ جَوْهَرَهُ كَانَ سِيَاسِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا قَالَ ((وَمِنْ فَضْلِ مُؤَسِّسِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَظَاهِرِ عَبْقَرِيَّتِهِ أَنَّهُ أَدْرَكَ مَصْدَرَ الْحَرَكَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِهِ بِمَكَّةَ عَاصِمَةِ الْحِجَازِ، وَعَرَفَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا وَيُسَخِّرُهَا لِأَغْرَاضِهِ السَّامِيَةِ دِينِيَّةً كَانَتْ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةً، ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ظَوَاهِرِ التَّارِيخِ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، خَادِعٌ

بِبَعْضِ مَظَاهِرِهِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ النَّاقِلَ عَنْهُ - وَهُوَ نَصْرَانِيُّ الدِّيَانَةِ. شُيُوعِيُّ السِّيَاسَةِ - يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ هَذَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ فِيمَا يَظْهَرُ نَشْرَ الشُّيُوعِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا بَلَاشِفَةُ دَوْلَتِهِ الرُّوسِيَّةِ فِي الْعَرَبِ وَزَلْزَلَةَ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَرُبَّمَا نَجِدُ فُرْصَةً لِلرَّدِّ عَلَى كِتَابِهِ فِي الْمَنَارِ، وَحَسْبِي هُنَا أَنْ أَقُولَ: لَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ كَمَا ذَكَرَ لَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَصْدَقِهِمْ فِي إِقَامَةِ أَرْكَانِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَفِي طَلِيعَتِهِمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَامِعُ بَيْنَ الْإِمَامَتَيْنِ فِي كِتَابٍ لَهُ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ الْمَالِيِّينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ هَادِيًا، وَلَمْ يُبْعَثْ جَابِيًا. وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْوَسَطُ، الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لِلسِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ وَسَطٌ بَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ الْمَالِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الزُّهْدِيَّةِ، وَأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحِيَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ هِدَايَةَ النَّاسِ إِلَى الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فِي أَمْرِ الْمَالِ ; لِيَكْتَفِيَ النَّاسُ شَرَّ طُغْيَانِ الْأَغْنِيَاءِ، وَذِلَّةِ الْفُقَرَاءِ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا هِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي الْإِصْلَاحِ، وَهِيَ هَادِمَةٌ لِمَزَاعِمِ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَاتِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْجَهْلِ وَالْهَوَى. غَلَا عُبَّادُ الْمَالِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْإِفْرِنْجِ فِي جَمْعِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، وَاسْتِعْبَادِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الْعُمَّالِ الْفُقَرَاءِ بِهِ، بِجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَهُمْ، وَغَلَا خُصُومُهُمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِيِّينَ فِي مُقَاوَمَتِهِمْ وَمُحَاوَلَةِ جَعْلِ النَّاسِ فِيهِ شَرْعًا، وَجَعْلِهِ بَيْنَهُمْ حَقًّا شَائِعًا فَانْتَهَى هَذَا الْغُلُوُّ بِالشُّيُوعِيَّةِ الرُّوسِيَّةِ فِي عَصْرِنَا أَنِ اسْتَعْبَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْبَشَرِ تُسَخِّرُهُمْ فِي تَنْفِيذِ مَذْهَبِهَا كَالْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ، وَتَبْذُلُ جُلَّ مَا تَنْتَزِعُهُ مِنْ ثَرْوَتِهِمْ فِي بَثِّ الدِّعَايَةِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ. وَيَخْشَى الْعُقَلَاءُ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْإِسْرَافِ وَالْغُلُوِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ حَرْبًا عَامَّةً طَامَّةً، وَفِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً. وَلَا مُنْقِذَ لِلْأُمَمِ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَعَوَاقِبِهَا إِلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ أَعْنِي بِالتَّدَيُّنِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَلَا يُمْكِنُ الْتِزَامُهَا بِالْعَمَلِ إِلَّا بِإِذْعَانِ الدِّينِ، وَقَدْ بَدَأَ عُقَلَاءُ الْإِفْرِنْجِ يَشْعُرُونَ بِالْحَاجَةِ إِلَى دِينٍ مَعْقُولٍ يَصْلُحُ بِالْتِزَامِهِ فَسَادُ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَنْ يَجِدُوا حَاجَتَهُمْ إِلَّا فِي دِينِ الْقُرْآنِ، وَسُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَخْشَى أَلَّا يَهْتَدُوا إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى وَالطَّامَّةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ حَرْبُ التَّدْمِيرِ الْمُنْتَظَرَةُ مِنْ تَنَازُعِ الْبُلْشُفِيَّةِ وَالرَّأْسِمَالِيَّةِ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ هُنَا أَهَمَّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَبْتَدِرُ فِكْرِي وَتَبْدَهُهُ فَأَقُولُ: (1) إِقْرَارُ الْمِلْكِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ وَتَحْرِيمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. (2) تَحْرِيمُ الرِّبَا وَالْقِمَارِ.

(3) مَنْعُ جَعْلِ الْمَالِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ: أَيْ يَتَدَاوَلُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ دُونِ الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا التَّدَاوُلُ فِي عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ الْبَشَرِ كَمَا فِي عَصْرِ النِّظَامِ الْمَالِيِّ الْمُتَّبَعِ فِي الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الْمَالِيَّةِ (الْمَصَارِفِ) وَالشَّرِكَاتِ وَالِاحْتِكَارَاتِ الَّتِي يُحَارِبُهَا الْعُمَّالُ، وَيُعَادُونَ لِأَجْلِهَا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ. (4) الْحَجْرُ عَلَى السُّفَهَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى لَا يُضَيِّعُوهَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ وَيَضُرُّ أُمَّتَهُمْ. (5) فَرْضُ الزَّكَاةِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتِ اشْتِرَاكِيَّةً بَاعِثُهَا إِذْعَانُ الْوِجْدَانِ لَا إِكْرَاهُ الْحُكَّامِ، ثُمَّ نُسِخَتْ أَوْ قُيِّدَتْ بِالْمُعَيَّنَةِ الْإِجْبَارِيَّةِ عِنْدَمَا صَارَ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةٌ، وَلَوْ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ فِيهَا تِلْكَ الزَّكَاةُ الِاشْتِرَاكِيَّةُ، أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي مَكَانٍ جَمَاعَةٌ مَحْصُورُونَ مِنْهُمُ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ، وَصَاحِبُ الثَّرْوَةِ وَذُو الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، وَجَبَ أَنْ يَقُومَ أَغْنِيَاؤُهُمْ بِكِفَايَةِ فُقَرَائِهِمْ وُجُوبًا دِينِيًّا إِذَا كَانَتِ الزَّكَاةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَكْفِيهِمْ. (6) جَعْلُ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ رُبْعَ الْعُشْرِ فِي النَّقْدَيْنِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْغَلَّاتِ الزِّرَاعِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَقْوَاتِ، وَزَكَاةُ الْأَنْعَامِ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. (7) فَرْضُ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَرَابَةِ. (8) إِيجَابُ كِفَايَةِ الْمُضْطَرِّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَدِينٍ وَضِيَافَةِ الْغَرِيبِ حَيْثُ لَا مَأْوَى وَلَا فَنَادِقَ لِلْمُسَافِرِينَ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَهْدُورَ الدَّمِ أَوْ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ. (9) جَعْلُ بَذْلِ الْمَالِ كَفَّارَةً لِبَعْضِ الذُّنُوبِ (وَمِنْهَا الظِّهَارُ وَإِفْسَادُ صِيَامِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ) . (10) نَدْبُ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا. (11) ذَمُّ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَالْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالتَّقْتِيرِ، وَعَدَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ، أَيْ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ. (12) إِبَاحَةُ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْإِسْرَافِ وَالْخُيَلَاءِ الْمُوقِعَيْنِ فِي الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الْبَدَنِيَّةِ، الْمُضَيِّعِينَ لِلثَّرْوَةِ الْمَالِيَّةِ، الْمُثِيرِينَ لِلْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَرَقِّي الثَّرْوَةِ. (13) مَدْحُ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، فِي النَّفَقَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْعِيَالِ. (14) تَفْضِيلُ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ. بِجَعْلِ الْيَدِ الْعُلْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. وَأَعْمَالُ الْبِرِّ الْمُتَعَدِّي نَفْعُهَا إِلَى النَّاسِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَاصِرِ نَفْعُهَا عَلَى فَاعِلِهَا، وَجَعْلِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، مِنَ الْمَثُوبَاتِ الدَّائِمَةِ الْبَاقِيَةِ.

104

أَرَأَيْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُقِيمُ هَذِهِ الْأَرْكَانَ وَيُوجَدُ فِيهَا فَقْرٌ مُدْقِعٌ، أَوْ غُرْمٌ مُوجِعٌ، أَوْ شَقَاءٌ مُفْظِعٌ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ زَكَاةَ النَّقْدَيْنِ الْوَاجِبَةَ - وَهِيَ رُبُعُ الْعُشْرِ - هِيَ أَوْسَطُ رِبْحٍ تَدْفَعُهُ الْمَصَارِفُ الْمَالِيَّةُ لِمُودِعِي نَقُودِهِمْ فِيهَا لِلِاسْتِغْلَالِ، وَقَدْ يَقِلُّ عَنْ ذَلِكَ؟ قَدِّرِ الثَّرْوَةَ الْقَوْمِيَّةَ فِي النَّقْدِ وَالتِّجَارَةِ لِلشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ، وَانْظُرْ مِقْدَارَ رُبُعِ عُشْرِهَا الْوَاجِبَ دَفْعُهُ فِي كُلِّ عَامٍ لِفُقَرَائِهَا وَمَصَالِحِهَا، وَارْجِعِ الْبَصَرَ إِلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِهَا، تَعْرِفْ قَدْرَ سَعَادَتِهِ إِذَا وَضَعَهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَتَعْلَمْ صِدْقَ مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَحْدَهُ كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَضَاعَهُ الْمُسْلِمُونَ. اقْرَأْ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (2: 195) وَاقْرَأْ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (59: 9) وَتَدَبَّرْ جِدَّ التَّدَبُّرِ (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (47: 38) . وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي بَذْلِ الْمَالِ فِي سُبُلِ الْبِرِّ، وَجَعْلِهِ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَمُوجِبَاتِ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ، وَتَبْوِيءِ غُرَفِ الْجِنَانِ وَتَسْمِيَتِهِ إِقْرَاضًا لِلرَّحْمَنِ مَا لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي أَيِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. وَتَجِدُ أَكْثَرَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَرَاءَةَ) مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أَيْ أَلَمْ يَعْلَمْ أُولَئِكَ التَّائِبُونَ مِنْ ذَنْبِهِمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ لِرَسُولِهِ بَلْهَ مَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِتَقْرِيرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ - أَوْ أَلَمْ يَعْلَمِ الْمُؤْمِنُونَ كَافَّةً هَذَا وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَمُوجِبُهُ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا تَحْضِيضٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى قَبُولِهَا مِنْهُمْ، نَحْوَ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ غِنًى وَمِنْ غِنًى، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ هُنَا قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالصَّفْحِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا مِنْهُمْ مُتَجَاوِزًا عَنْ ذُنُوبِهِمْ عَفْوًا عَنْهَا وَهَذَا أَبْلَغُ (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) أَيْ يَتَقَبَّلُهَا بِأَنْوَاعِهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَيَعُدُّهَا إِقْرَاضًا لَهُ فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهَا، بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (64: 17) وَقَوْلِهِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (2: 245) فَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ (أَحَدُهَا) أَخْذُ

الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ إِيَّاهَا مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ (الثَّانِيَةُ) أَخْذُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَهْدِهِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ إِيَّاهَا لِأَجْلِ وَضْعِهَا فِي مَصَارِفِهَا الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا (الثَّالِثَةُ) أَخْذُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهَا وَهُوَ قَبُولُهَا لِلْإِثَابَةِ عَلَيْهَا بِالْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَعَدَهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ بِأَخْذِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مَا أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ: (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ يَشْعُرُ بِضَرَرِ ذَنْبِهِ، وَيَتُوبُ عَنْهُ مُنِيبًا إِلَى رَبِّهِ مَهْمَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ. (الرَّحِيمُ) بِالتَّائِبِينَ الَّذِي يُثِيبُهُمْ. فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ (التَّوَّابُ) تَتَحَقَّقُ بِكَثْرَةِ التَّائِبِينَ وَبِتَكْرَارِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُصِرَّ عَلَى ذَنْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3: 135) وَفِي الْحَدِيثِ: " مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً ". رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا تَصَدَّقَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ)) وَالْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ لِمُضَاعَفَتِهِ تَعَالَى لِلصَّدَقَةِ الْمَقْبُولَةِ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِأَنَّ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ، الدَّالَّةُ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا فِيهَا مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمُبَالَغَةُ الصِّفَةِ الرَّاسِخَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ تُفِيدُ أَعْظَمَ الْبُشْرَى لِلتَّائِبِينَ، وَأَبْلَغَ التَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ لِلْمُذْنِبِينَ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَدَبِّرِينَ. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ، إِلَخْ، أَيْ: وَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: اعْمَلُوا لِدُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ وَلِأَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ (حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ لَا بِالِاعْتِذَارِ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَلَا بِدَعْوَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَنُوطَانِ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى النَّاسِ أَيْضًا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ تَعَالَى فِي أَعْمَالِكُمْ، وَتَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ نَاظِرٌ إِلَيْكُمْ، عَلِيمٌ بِمَقَاصِدِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِرُؤْيَةِ اللهِ لِعَمَلِهِ أَنْ يُتْقِنَهُ، وَأَنْ يُخْلِصَ لَهُ النِّيَّةَ فِيهِ، فَيَقِفُ فِيهِ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ، وَيَتَحَرَّى بِهِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَالْخَيْرَ لِخُلُقِهِ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ

بِتَرْكِ مَعَاصِيهِ، وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، رَاوَدَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَنْ نَفْسِهَا فِي فَلَاةٍ قَائِلًا: إِنَّهُ لَا يَرَانَا هُنَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، قَالَتْ: فَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟ فَخَجِلَ وَانْصَرَفَ. وَسَيَرَاهُ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَيَزِنُونَهُ بِمِيزَانِ الْإِيمَانِ الْمُمَيِّزِ بَيْنِ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَلَى النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يُعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ)) وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ فَإِذَا كَانَتِ الْخَلَائِقُ النَّفْسِيَّةُ، وَالْأَعْمَالُ السِّرِّيَّةُ، لَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَاحِبِهَا لِإِخْفَائِهَا، فَمَاذَا يُقَالُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَمَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْمَلَكَاتِ، وَمُرِّنَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَاتِ؟ نَرَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ يُخْفُونَ بَعْضَ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهَا كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُتَعَفِّفِ سَتْرًا عَلَيْهِ، وَمُبَالَغَةً فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي يُنَافِيهِ الرِّيَاءُ وَحُبُّ السُّمْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَشْتَهِرُوا بِهَا، وَنَرَى بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ يُخْفُونَ بَعْضَ أَعْمَالِ النِّفَاقِ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ لَا مِنَ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَفْتَضِحُوا بِهَا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَوَامِّ: إِنَّ الَّذِي يَخْتَفِي هُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ. وَالْآيَةُ تَهْدِينَا إِلَى أَنَّ مَرْضَاةَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ، الْمُقَرَّرَةِ صِفَاتُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تَلِي مَرْضَاةَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: مَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَجَبَتْ)) ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: ((وَجَبَتْ)) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: ((هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، ((أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ)) وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ تَكْرَارُ ((وَجَبَتْ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَا تَكْرَارُ ((أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ)) وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ)) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْمَدِينِيِّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسُلَيْمَانُ الْمَدِينِيُّ عِنْدِي هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ انْتَهَى. أَقُولُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَيُعْزَى الْحَدِيثُ إِلَى الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ ((لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ)) وَالْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ بِمُوَافَقَتِهِ لِلْآيَاتِ وَالصِّحَاحِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، لَا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ((مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ)) رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ فِي السُّنَّةِ لَا فِي الْمُسْنَدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ الْجُهَّالُ حَتَّى مِنَ الْمُعَمَّمِينَ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْبِدَعِ الْفَاشِيَةِ حَتَّى فِي الْعَقَائِدِ الثَّابِتَةِ كَبِدَعِ الْقُبُورِ الَّتِي كَانَ يَلْعَنُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلِيهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَإِيقَادِ السُّرُجِ

105

وَالْمَصَابِيحِ عِنْدَهَا، بَلْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عِبَادَتُهَا بِالطَّوَافِ حَوْلَهَا، وَدُعَاءِ أَصْحَابِهَا وَالنَّذْرِ لَهُمْ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، حَتَّى فِي الشَّدَائِدِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. بَلْ كَانُوا فِيهِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى مَا يَقْتَضِي الْإِحْسَانُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ وَتَحَرِّي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَيْرِ لِعِبَادِهِ بِهَا - ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فِي الدُّنْيَا مِمَّا كَانَ مَشْهُودًا لِلنَّاسِ مِنْهُ، وَمَا كَانَ غَائِبًا عَنْ عِلْمِهِمْ مِنْهُ وَمِنْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِ، يُنَبِّئُكُمْ بِهِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ، أَوْ سُوءِ الْعَذَابِ. (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . هَذِهِ الْآيَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) (102) وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْسَامِهِمْ وَمَنِ اعْتَذَرَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَذِرْ مِنْهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ (أَحَدُهُمَا) الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَتَابُوا وَزَكَّوْا تَوْبَتَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَطَلَبِ دُعَاءِ الرَّسُولِ وَاسْتِغْفَارِهِ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَ (ثَانِيهِمَا) الَّذِينَ حَارُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، وَأَرْجَئُوا تَوْبَتَهُمْ فَأَرْجَأَ اللهُ الْحُكْمَ الْقَطْعِيَّ فِي أَمْرِهِمْ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي يَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: وَهُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا: أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وَهُمْ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ وَالْحَظِّ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ لَا شَكًّا وَنِفَاقًا، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ، وَأُرْجِئَ هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَتَا التَّوْبَةِ الْآتِيَتَيْنِ (117، 118) (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أَيْ وَثَمَّ أُنَاسٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرُونَ لِحُكْمِ اللهِ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ لِأَمْرِهِ لِرَسُولِهِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (مُرْجَوْنَ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْآخَرُونَ (مُرْجَئُونَ) بِالْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْجَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ رَجَاهُ يَرْجُوهُ وَأَرْجَأَهُ يُرْجِئُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِرْجَاءَ كَانَ يَوْمًا.

106

(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أَيْ أُبْهِمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، لَا يَدْرُونَ مَا يَنْزِلُ فِيهِمْ، هَلْ تَنْصَحُ تَوْبَتُهُمْ فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَابَ عَلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أَمْ يَحْكُمَ بِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا حَكَمَ عَلَى الْخَالِفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؟ فَالتَّرْدِيدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ لَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَحِكْمَةُ إِبْهَامِ أَمْرِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِثَارَةٌ لِلْهَمِّ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِهِمْ لِتَصِحَّ تَوْبَتُهُمْ. وَحِكْمَةُ إِبْهَامِهِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ تَرْكَهُمْ مُكَالَمَتَهُمْ وَمُخَالَطَتَهُمْ - تَرْبِيَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا يَجِبُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الرَّاحَةَ وَنِعْمَةَ الْعَيْشِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَدَفْعِ عُدْوَانِ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ (118) (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عَلِيمٌ بِحَالِ عِبَادِهِ وَمَا يُرَبِّيهِمْ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُصْلِحُ حَالَ أَفْرَادِهِمْ وَمَجْمُوعِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُفِيدَةِ لِهَذَا الصَّلَاحِ مَا عَمِلُوا بِهَا. وَمِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ إِرْجَاءُ النَّصِّ عَلَى تَوْبَتِهِمْ فِي كِتَابِهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ تَكْرَارُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْآيَاتِ فِي ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرْهِيبًا وَتَخْوِيفًا، وَعِظَةً وَتَهْذِيبًا. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .

107

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ مِنْ مَكَايِدِ الْمُنَافِقِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَرَ أَحَدًا بَيَّنَ حِكْمَةً خَاصَّةً لِتَأْخِيرِهَا عَنْ أَمْثَالِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ وَوَضْعِهَا هُنَا فِي سِيَاقِ تَوْبَةِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا فَقُبِلَ، وَمَا تَأَخَّرَ فَأُرْجِئَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تَفْرِيقِ الْآيَاتِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ - وَهُوَ تَجْدِيدُ الذِّكْرَى وَالْعِظَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْعِبْرَةِ - فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى التَّنَاسُبِ وَوُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا قَدْ شَايَعُوا أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ فِي عَمَلِهِمْ جَاهِلِينَ مَقَاصِدَهُمْ مِنْهُ، فَأُرِيدَ بِوَضْعِ الْقِصَّةِ هُنَا وَإِبْهَامِ عَطْفِهَا عَلَى مَنْ أَرْجَأَ اللهُ الْحُكْمَ فِي أَمْرِهِمْ، أَنْ يَتَّعِظَ أُولَئِكَ الْغَافِلُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمُتَّخِذِيهِ، وَيَخَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا بِمُشَايَعَتِهِمْ لَهُمْ، وَلَوْ بِصَلَاتِهِمْ مَعَهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ. رُوِيَ أَنَّ مُجَمِّعَ بْنَ حَارِثَةَ كَانَ إِمَامَهُمْ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ فَكَلَّمَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَصْحَابُ مَسْجِدِ قُبَاءَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ بِأَنْ يَأْذَنَ لِمُجَمِّعٍ فَيَؤُمَّهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ، فَقَالَ: لَا وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ، أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، فَوَاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ بِهِمْ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ مَا أَضْمَرُوا فِيهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ مَا صَلَّيْتُ مَعَهُمْ فِيهِ، كُنْتُ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ وَكَانُوا شُيُوخًا لَا يَقْرَءُونَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا. فَعَذَرَهُ وَصَدَّقَهُ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ بِقَوْمِهِ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ السِّيَاقِ فِي جُمْلَتِهِ، حُذِفَ خَبَرُهَا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) إِلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ ((الَّذِينَ)) مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالذَّمِّ، وَجَعْلُهُ مُحْتَمِلًا لِمَا ذُكِرَ وَلِغَيْرِهِ نَرَاهُ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْإِيهَامِ، وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَحْيَانًا إِيرَادَ عِبَارَةٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ فِي فَهْمِهَا عِدَّةَ مَذَاهِبَ مُحْتَمَلَةٍ فِيهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِ الْحَسَنِ مِنْهَا إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ وَضْعِ الْآيَاتِ هُنَا أَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْهُ فِي قِرَاءَةِ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ - فَتَأَمَّلْ. ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَذَا الْمَسْجِدَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَسَمَّوْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْأَغْرَاضَ الَّتِي بَنَوْهُ لِأَجْلِهَا أَرْبَعَةٌ ذُكِرَتْ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَهِيَ: (1) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ لِمُضَارَّةِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مُحَاوَلَةِ إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ مَسْجِدِ قُبَاءَ

الَّذِي بَنَاهُ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْدَمَهُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا وَقَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِذْ بَنَوْهُ بِجِوَارِهِ مُضَادَّةً لَهُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ. (2) الْكُفْرُ أَوْ تَقْوِيَةُ الْكُفْرِ، وَتَسْهِيلُ أَعْمَالِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، كَتَمْكِينِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ هُنَالِكَ مَعَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالتَّشَاوُرُ بَيْنَهُمْ فِي الْكَيْدِ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ، قِيلَ لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ لَيْسَ كُفْرًا، وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَاتِ الْأَرْبَعَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالِاتِّخَاذِ، وَالْكُفْرُ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْعَمَلِ الْمُنَافِيَيْنِ لِلْإِيمَانِ. (3) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُنَالِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا فِيهِ، وَهُوَ التَّعَارُفُ وَالتَّآلُفُ وَالتَّعَاوُنُ وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْثِيرُ الْمَسَاجِدِ وَتَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ مُنَافِيًا لِمَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ إِذَا تَيَسَّرَ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا عَمْدًا وَصَلَّوْا فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَانُوا خَاطِئِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالتَّجْمِيعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَلِّينَ، وَغَيْرَ سَبَبٍ لِتَفْرِيقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ مِصْرَ الْقَرِيبِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ - وَكَذَا أَمْثَالُهَا فِي الْأَمْصَارِ الْأُخْرَى - لَمْ تُبْنَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى بِنَائِهَا الرِّيَاءَ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ، مِنْ جَهَلَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ. (4) الْإِرْصَادُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلِ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَسْجِدِ، أَيِ الِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَجِيءَ مُحَارِبًا، فَيَجِدَ مَكَانًا مَرْصَدًا لَهُ، وَقَوْمًا رَاصِدِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ مَعَهُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ بَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ مَرْصَدًا لِذَلِكَ. يُقَالُ: رَصَدْتُهُ أَيْ قَعَدْتُ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ أَتَرَقَّبُهُ، وَرَاصَدْتُهُ رَاقَبْتُهُ، وَأَرْصَدْتُ هَذَا الْجَيْشَ لِلْقِتَالِ وَهَذَا الْفَرَسَ لِلطِّرَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنَ الْأَسَاسِ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِهَذَا الْغَرَضِ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُعْرَفُ بِأَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ وَعَدَهُمْ بِأَنْ سَيَأْتِيَهُمْ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) إِخْبَارٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ: إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْخَصْلَةَ أَوِ الْخُطَّةَ الَّتِي تَفُوقُ غَيْرَهَا فِي الْحُسْنِ ; وَهِيَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَيْسِيرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أُولِي الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَمَنْ يَحْبِسُهُمُ الْمَطَرُ مِنْهُمْ، لِيُصَدِّقَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَلِّيَ لَهُمْ فِيهِ: (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فِي قَوْلِهِمْ، حَانِثُونَ بِيَمِينِهِمْ. قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ:

سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَأَظْهَرَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَأَلَّبَهُمْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مَنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ، وَامْتَحَنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَجُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى وَشُجَّ رَأْسُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وَسَبُّوهُ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللهِ قَبْلَ فِرَارِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَتَمَرَّدَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا، فَنَالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ أُحُدٍ وَرَأَى أَمْرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَعَدَهُ وَمَنَّاهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرِّيَبِ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ أَنَّهُ سَيَقْدَمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَنْ يَقْدَمُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبِهِ، وَيَكُونُ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِمْ لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: ((إِنَّا عَلَى سَفَرٍ وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ)) فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ (مَسْجِدِ قُبَاءَ) الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ مَنْ هَدَمَهُ قَبْلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ - وَذَكَرَ رِوَايَتَهُ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مُخْتَصَرَةً اهـ.

108

وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي خَبَرِ أَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ هَذَا أَنَّهُ مَا زَالَ يُقَاتِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مِلْكِ الرُّومِ فَآتٍ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) هَذَا نَهْيٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّبَعِ لَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الْأَبَدِ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ الزَّمَنَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَتَفْسِيرُ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ هُنَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (2: 238) وَقَوْلِهِ: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (73: 2) وَالنَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ الْمُطْلَقِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالنَّهْيِ لِطَلَبِهِمْ لَهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِلْقَسَمِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ. وَالتَّأْسِيسُ: وَضْعُ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ لِلْبِنَاءِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُرْفَعُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْقَصْدُ وَالْغَرَضُ مِنَ الْبِنَاءِ، وَالتَّقْوَى: الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمَا يُرْضِي اللهَ وَيَقِي مِنْ سُخْطِهِ، أَيْ: إِنَّ مَسْجِدًا قُصِدَ بِبِنَائِهِ - مُنْذُ وُضِعَ أَسَاسُهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ - تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَجَمْعِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ عَلَى مَا يُرْضِيهِ مِنَ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - هُوَ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُصَلِّيًا بِالْمُؤْمِنِينَ، عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا ذَلِكَ الْمَسْجِدِ الَّذِي وُضِعَ أَسَاسُهُ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ الْخَبِيثَةِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ - مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَقَدْ صَحَّ فِي أَحَادِيثَ رَوَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْهُ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُهُ الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ أَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: ((هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا)) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْهُ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: ((هُوَ مَسْجِدِي هَذَا)) . وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمَسْجِدَيْنِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ بَنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَ أَسَاسَهُ عَلَى التَّقْوَى مَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ بِبِنَائِهِ أَوْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وُجِدَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ: (مِنْ) تَدْخُلُ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) هَذِهِ جُمْلَةٌ وُصِفَ بِهَا الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى تُؤَكِّدُ تَرْجِيحَ الْقِيَامِ مَعَ أَهْلِهِ الْمُطَهِّرِينَ فِي مُقَابِلِ أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَهُمْ رِجْسٌ. وَالْمَعْنَى: فِيهِ رِجَالٌ يَعْمُرُونَهُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ فِيهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِذَلِكَ مَنْ كُلِّ مَا يَعْلَقُ بِأَنْفُسِهِمْ مَنْ دَرَنِ الْآثَامِ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَطَهَّرَ الْمُتَخَلِّفُونَ مِنْهُمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَمِنْ لَوَازِمِ عِمَارَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْعُكُوفِ فِيهِ: طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ الْحِسِّيَّةُ، وَطَهَارَةُ الْوُضُوءِ

وَالْغُسْلِ الْحُكْمِيَّةُ، فَالتَّطَهُّرُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَشْمَلُ الطَّهَارَتَيْنِ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ، وَوَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ مَوْضِعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْأَوْلَى. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أَيِ الْمُبَالِغِينَ فِي الطَّهَارَةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُبَالِغُونَ فِيهَا إِذَا أَحَبُّوهَا، وَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ إِنْسَانِيَّتُهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ. وَلَا يُطِيقُ نَجَاسَةَ الْبَدَنِ وَقَذَارَتَهُ إِلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ وَالْأَدَبِ، وَأَنْقَصُ مِنْهُ مَنْ يُطِيقُ خُبْثَ النَّفْسِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. دَعْ رِجْسَ الْمُنَافِقِينَ الْمُرَائِينَ فِي الْأَعْمَالِ، الْأَشِحَّةِ الْبَاخِلِينَ بِالْأَمْوَالِ. وَأَمَّا حُبُّ اللهِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِحُبِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ ; لِأَنَّ الْعَالِمَ بِتَفَاوُتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ يَكُونُ مِنْ أَفْضَلِ صِفَاتِهِ حُبُّ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبُغْضُ أَضْدَادِهَا وَكَرَاهَتُهَا، وَحُبُّهُ اللَّائِقُ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ حُبِّنَا، كَتَنَزُّهِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ ذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَحْبُوبِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمَعَارِفِهِمْ وَآدَابِهِمْ، وَأَعْلَاهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ الْقُدْسِيِّ ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) إِلَخْ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُعَلِّلًا مَا وَعَظَ بِهِ نِسَاءَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لَهُنَّ بِمَا يَلِيقُ بِمَكَانَتِهِنَّ مِنْ رَسُولِهِ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (33: 33) . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى لِلْمُطَّهِّرِينَ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ فُسِّرَ بِهِ اللَّفْظُ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ هَرَبًا مِنْ نَظَرِيَّةِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ اتِّصَافَ اللهِ تَعَالَى بِالْحُبِّ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ يَسْتَحِيلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ، فَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِلَازِمِهِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّحْمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ - فَهُوَ هُرُوبٌ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ الْحَقِّ، وَوُقُوعٌ فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ اللهِ بِخَلْقِهِ. إِذْ يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الرِّضَا عَاطِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ كَالْحُبِّ، وَالْإِحْسَانَ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ كَبَسْطِ الْيَدِ بِالْبَذْلِ وَهُمَا يُسْنَدَانِ إِلَى النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْخَلْقِ، وَكَذَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ وَالْكَلَامُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا وُضِعَتْ فِي اللُّغَاتِ لِمَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَكَوْنِ الْعِلْمِ صُوَرَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْهَا فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنْ يُوصَفَ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِقُيُودِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَرَّرَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ. أَيْ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَعِلْمُهُ تَعَالَى انْكِشَافٌ يَلِيقُ بِهِ، وَحُبُّهُ مَعْنًى نَفْسِيٌّ يَلِيقُ بِهِ إِلَخْ.

ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ حَاصِلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءَ عَنْ سَبَبِ ثَنَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ يُتْبِعُونَ الْحِجَارَةَ بِالْمَاءِ. وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَابْنَ الْمُنْذِرِ وَابْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيَّ وَالْحَاكِمَ وَغَيْرَهُمْ رَوَوْا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطُّهُورِ، فَمَا طَهُورُكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ قَالَ: ((فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ؟)) قَالُوا: إِنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ قَالَ: ((هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ)) . أَقُولُ: طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ هَذَا ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ مَقْرُونَةٌ بِغَيْرِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ رَوَاهَا عَنْ جَابِرٍ، وَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، لِقَوْلِ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ جَابِرٍ غَيْرَهَا، أَيْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ غَيْرُهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَلَكِنَّهُ هُنَا صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ فِيمَا رَوَاهُ مَنْ ذُكِرَ وَغَيْرُهُمْ. وَحَدِيثُهُ هَذَا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَقْوَى مِنْ أَحَادِيثِ سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ مَسْجِدِ قُبَاءَ وَجَعْلِهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ فِي سُؤَالِ الْأَنْصَارِ، وَالْمَسْئُولُونَ مِنْهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أَثْنَى الله عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ هُوَ مَسْجِدُهُ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِتَعَارُضِهِمَا، كَمَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِمَا لَا تُنَافِي إِرَادَةَ نَوْعَيِ الطَّهَارَةِ كِلَيْهِمَا، وَيُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الطَّهَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَسْجِدَيْنِ فِي مَقَاصِدِهِمَا مِنْهُمَا: أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي زَادُوا بِهِ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، وَأَهْلِ مَسْجِدِ التَّقْوَى وَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْصَارُهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَكْمَلَ الطَّهَارَةِ لِظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ، فَاسْتَفَادُوا بِذَلِكَ مَحَبَّةَ اللهِ لَهُمْ، وَوَرَدَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ الشُّعُورِ وَقُوَّةِ التَّأْثِيرِ، وَالْبُنْيَانُ: مَصْدَرٌ كَالْعُمْرَانِ وَالْغُفْرَانِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَبْنِيُّ، مِنْ دَارٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ هُنَا. وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى التَّأْسِيسِ، وَالشَّفَا: (بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ) الْحَرْفُ وَالشَّفِيرُ لِلْجُرُفِ وَالنَّهْرِ وَغَيْرِهِ. وَالْجُرُفُ (بِضَمَّتَيْنِ) : جَانِبُ الْوَادِي وَنَحْوُهُ الَّذِي يَنْحَفِرُ أَصْلُهُ بِمَا يَجْرُفُهُ السَّيْلُ مِنْهُ فَيَجْتَاحُ أَسْفَلَهُ فَيَصِيرُ مَائِلًا لِلسُّقُوطِ، وَالْهَارُ: الضَّعِيفُ الْمُتَصَدِّعُ الْمُتَدَاعِي لِلسُّقُوطِ وَهَذَا التَّعْبِيرُ يُضْرَبُ مَثَلًا لِمَا كَانَ فِي مُنْتَهَى الضَّعْفِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الزَّوَالِ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْثَالِ، لِمُنْتَهَى الْوَهْيِ وَالِانْحِلَالِ.

الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا بَيَانُ ثَبَاتِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتِهِ وَدَوَامِهِ، وَسَعَادَةِ أَهْلِهِ بِهِ، وَذِكْرِهِ بِأَثَرِهِ وَثَمَرَتِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِهِ، وَجِمَاعُهَا التَّقْوَى، وَبِجَزَائِهِمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَاهُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، وَبَيَانِ ضَعْفِ الْبَاطِلِ وَاضْمِحْلَالِهِ، وَوَهْيِهِ وَقُرْبِ زَوَالِهِ، وَخَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَسُرْعَةِ انْقِطَاعِ آمَالِهِ، وَشَرِّ أَهْلِهِ الْمُنَافِقِينَ. وَشَرُّ أَعْمَالِهِمْ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِلْمَفَاسِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي وَصْفِ بُنْيَانِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ إِلَّا الْمُبَالَغَةَ فِي الطَّهَارَةِ. وَذَكَرَ مِنْ وَصْفِ بُنْيَانِ الْفَرِيقِ الثَّانِي الْهَيْئَةَ الْمُشَبَّهَ بِهَا دُونَ الْمُشَبَّهِ. لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ مَقَاصِدَهُمْ مِنْهَا كُلَّهَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ. تَقُولُ فِي الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ مَأْوًى وَمَوْئِلًا لَهُ، يَقِيهِ مِنْ فَوَاعِلِ الْجَوِّ وَعُدْوَانِ كُلِّ حَيٍّ، وَمَوْطِنًا لِرَاحَتِهِ، وَهَنَاءَ مَعِيشَتِهِ، عَلَى أَمْتَنِ أَسَاسٍ وَأَثْبَتِهِ، وَأَقْوَاهُ عَلَى مُصَابَرَةِ الْعَوَاصِفِ وَالسُّيُولِ، وَصَدِّ الْهَوَامِّ وَالْوُحُوشِ - هُوَ خَيْرٌ بُنْيَانًا، وَرَاحَةً وَأَمَانًا؟ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى أَوْهَى الْقَوَاعِدِ وَأَقَلِّهَا بَقَاءً وَاسْتِمْسَاكًا فَهِيَ عُرْضَةٌ لِلِانْهِيَارِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ؟ وَأَمَّا مَعْنَى الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُصَوَّرُ هَكَذَا: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا صَادِقًا يَتَّقِي اللهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَيَبْتَغِي رِضْوَانَهُ فِي أَعْمَالِهِ بِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ بِهَا وَنَفْعِ عِيَالِهِ: (وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ) كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ خَيْرًا عَمَلًا، وَأَفْضَلَ عَاقِبَةً وَأَمَلًا، وَمِمَّنْ نَزَلَ فِيهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) (18: 107) أَمْ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ مُرْتَابٌ، مُرَاءٍ كَذَّابٌ، يَبْتَغِي بِأَفْضَلِ مَظَاهِرِ أَعْمَالِهِ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ، وَتَقْوِيَةَ أَعْمَالِ الْكُفْرِ وَمُوَالَاةَ الْكُفَّارِ، وَتَفْرِيقَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْإِرْصَادَ لِمُسَاعَدَةِ مَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَالْعَارِ، وَالْخِزْيِ وَالْبَوَارِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الِانْهِيَارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْقَرَارُ؟ وَفِي مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (13: 17) الْآيَةَ. وَخُلَاصَةُ الْمَثَلَيْنِ أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ الْمُثْمِرُ الثَّابِتُ، وَأَنَّ النِّفَاقَ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعَمَلِ الْفَاسِدِ هُوَ الْبَاطِلُ الزَّاهِقُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَافِقُ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ: إِنَّهُ لَا يَتَنَازَعُ شَيْئَانِ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَيَكُونُ الْغَالِبُ هُوَ الْأَصْلَحَ مِنْهُمَا. وَيُسَمُّونَ هَذِهِ السُّنَّةَ (نَامُوسَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ وَبَقَاءِ الْأَمْثَلِ) وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.

109

صَدَقَ اللهُ الْعَظِيمُ، فَقَدْ ثَبَّتَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَهَدَاهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَفَتَحُوا الْبِلَادَ، وَأَقَامُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْعِبَادِ، وَأَهْلَكَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ أَثَرٍ صَالِحٍ فِي الْعَالَمِينَ وَهَكَذَا كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَشَرُّ النِّفَاقِ وَأَضَرُّهُ نِفَاقُ الْعُلَمَاءِ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ. (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي ارْتِبَاطِ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ بِالْأَعْمَالِ بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا فِي أَعْمَالِهِ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَضْلًا عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَلَا أَظْلَمَ فِي النَّاسِ مِنَ الْمُنَافِقِ: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (3: 86) . (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) الرِّيبَةُ: اسْمٌ مِنَ الرَّيْبِ، وَهُوَ: مَا تَضْطَرِبُ فِيهِ النَّفْسُ، وَيَتَرَدَّدُ الْوَهْمُ وَيَسُوءُ الظَّنُّ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْهُ فِي شَكٍّ وَحَيْرَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَثَارُهُ الشَّكَّ. قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ، مُنْكِرِينَ دَعْوَتَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (11:62) وَلِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَمْثَالٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّكَّ مَثَارٌ لِلرَّيْبِ، وَمُوقِعٌ فِيهِ لَا أَنَّهُ عَيْنُهُ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِهِ بِاعْتِبَارِ لُزُومِهِ وَإِيقَاعِهِ فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاةَ سُفُورُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ ارْتِيَابَهُمْ فِيهِ كَانَ مُنْذُ بَنَوْهُ إِلَى أَنْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَدْمِهِ فَهُدِمَ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِسُوءِ نِيَّتِهِمْ فِي بِنَائِهِ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَطَّلِعَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَقَاصِدِهِمُ السُّوأَى فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ شَأْنَ سَائِرِ إِخْوَانِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تَنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) (9: 64) وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (63: 4) (رَاجِعْ ج 10) وَأَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا بَعْدَ هَدْمِهِ أَشَدَّ ارْتِيَابًا، وَأَكْثَرَ اضْطِرَابًا، بِمَا يَحْذَرُونَ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَنْذَرَتْهُمْ هَذِهِ السُّورَةُ مِرَارًا، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ مُلَازِمًا لَهُمْ (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَمْزَةُ (تَقَطَّعُ) بِفَتْحِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ التَّقَطُّعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ التَّقْطِيعِ، أَيْ إِلَّا أَنْ تُقَطِّعَ الرِّيبَةُ قُلُوبَهُمْ أَفْلَاذًا فَتُقَطَّعَ بِهَا وَتَكُونَ جُذَاذًا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ (إِلَى) بَدَلَ (إِلَّا) وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ وَالْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ مُعْتَادُو الْأَخْذِ عَنْهُ: لَا يَزَالُ هَدْمُهُ سَبَبَ شَكٍّ وَنِفَاقٍ زَائِدٍ عَلَى شَكِّهِمْ وَنِفَاقِهِمْ لَا يَزُولُ وَسْمُهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَضْمَحِلُّ أَثَرُهُ (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قِطَعًا وَتَفَرَّقَ أَجْزَاءً، فَحِينَئِذٍ يَسْلُونَ

110

عَنْهُ، وَأَمَّا مَا دَامَتْ سَالِمَةً مُجْتَمِعَةً، فَالرِّيبَةُ بَاقِيَةٌ فِيهَا مُتَمَكِّنَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّقَطُّعِ تَصْوِيرًا لِحَالِ زَوَالِ الرِّيبَةِ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ تَقْطِيعِهَا وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ بِقَتْلِهِمْ أَوْ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمُ، انْتَهَى. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فَحَكَمَ فِي أَمْرِهِمْ وَبَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ. (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّ الْإِيمَانِ، الْبَالِغِينَ فِيهِ مَا هُوَ غَايَةٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، وُضِعَتَا بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقَصِّرِينَ، وَمِنْهُمَا تُعْرَفُ جَمِيعُ دَرَجَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ هَذَا تَمْثِيلٌ لِإِثَابَةِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَذْلِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ بِتَمْلِيكِهِمُ الْجَنَّةَ دَارَ النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ، وَالرِّضْوَانِ السَّرْمَدِيِّ، تَفَضَّلَ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ بِجَعْلِهَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ بَاعَ شَيْئًا هُوَ لَهُ لِآخَرَ، لُطْفًا مِنْهُ تَعَالَى وَكَرَمًا وَتَكْرِيمًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَعْلِهِمْ كَالْمُتَعَاقِدِينَ مَعَهُ كَمَا يَتَعَاقَدُ الْبَيِّعَانِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْمَالِكُ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا، وَالْمَالِكُ لِأَمْوَالِهِمْ إِذْ هُوَ الَّذِي رَزَقَهَا، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَإِنَّمَا الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ - لَهُ. وَقَدْ جَعَلَهُمَا بِكَرَمِهِ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بَيَانٌ لِصِفَةِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِهِ تَعَالَى فَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَيَكُونُونَ إِمَّا قَاتِلِينَ لِأَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، وَإِمَّا مَقْتُولِينَ شُهَدَاءَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَقْدِيمِ

111

(يَقْتُلُونَ) الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، فَدَلَّتِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُهُمْ وَيَسْلَمَ بَعْضٌ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِي الْفَضْلِ، وَالْمَثُوبَةِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِهِ لَا حُبًّا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَا رَغْبَةً فِي اغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ، وَلَا تَوَسُّلًا إِلَى ظُلْمِ الْعِبَادِ، كَمَا يَفْعَلُ عُبَّادُ الدُّنْيَا مِنَ الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الْأَجْنَادِ. (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أَيْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ وَعْدًا أَوْجَبَهُ لَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ حَقًّا عَلَيْهِ أَثْبَتَهُ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَشْهَرِ رُسُلِهِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا الْوَعْدِ عَلَى وُجُودِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَصِّهِ، لِمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنْ ضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنْهُمَا، وَتَحْرِيفِ بَعْضِ مَا بَقِيَ لَفْظًا وَمَعْنًى، بَلْ يَكْتَفِي إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ وَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمَا. (رَاجِعْ ص 299 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) ؟ أَيْ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَأَصْدَقُ فِي إِنْجَازِ وَعْدِهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عَجْزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ فِيهِ التَّرَدُّدُ أَوِ الْبَدَاءُ، (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) الِاسْتِبْشَارُ: الشُّعُورُ بِفَرَحِ الْبُشْرَى أَوِ اسْتِشْعَارُهَا، الَّذِي تَنْبَسِطُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ فَيَتَأَلَّقُ نُورُهَا، وَالْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِتَمَامِ صَفْقَةِ الْبَيْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الَّذِي لَا يَتَعَاظَمُهُ فَوْزٌ، دُونَ مَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ النَّصْرِ وَالسِّيَادَةِ وَالْمِلْكِ، الَّذِي لَا يُعَدُّ فَوْزًا إِلَّا بِجَعْلِهِ وَسِيلَةً لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. أَعْلَى اللهُ تَعَالَى مَقَامَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ فَجَعَلَهُمْ بِفَضْلِهِ مَالِكِينَ مَعَهُ، وَمُبَايِعِينَ لَهُ، وَمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّمَنِ الَّذِي بَايَعَهُمْ بِهِ، وَأَكَّدَ لَهُمْ أَمْرَ الْوَفَاءِ بِهِ وَإِنْجَازَهُ، وَيُرْوَى عَنْ جَدِّنَا الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا ... فَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنُ بِهَا أَشْتَرِي الْجَنَّاتِ إِنْ أَنَا بِعْتُهَا بِشَيْءٍ سِوَاهَا إِنَّ ذَلِكُمْ غَبَنُ إِذَا ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا فَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَبْدَانِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ بَاذِلًا لِبَدَنِهِ الْفَانِي لَا لِرُوحِهِ الْبَاقِيَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ لِرَبِّهِ جَسَدَهُ دُونَ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُتَفَلْسِفِينَ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُنْزِلَتْ فِينَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَيْعٌ رَبِيحٌ، لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ - يَعْنِي الْبَيْعَ -.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ فَقَالَ: ((أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ)) قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: ((الْجَنَّةُ)) قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُبَايَعَةِ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ مُحَمَّدًا؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى أَنْ تُحَارِبُوا الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ كَافَّةً. فَقَالُوا: نَحْنُ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْتَرِطْ عَلَيَّ فَقَالَ: ((تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ تَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَلَا تُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: نَعَمْ هَذَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: ((الْجَنَّةُ وَالنَّصْرُ)) . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيٍ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِيلُ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ. فَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ: يَا مُحَمَّدُ سَلْ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وَلِأَصْحَابِكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: ((أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَأَصْحَابِي أَنْ تُئْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ)) قَالَ: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. فَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: مَا سَمِعَ الشَّيْبُ وَالشَّبَابُ بِخُطْبَةٍ أَقْصَرَ وَلَا أَبْلَغَ مِنْهَا. وَمَعْنَى نُزُولِهَا فِي مُبَايَعَةِ الْأَنْصَارِ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا أَنَّهَا خَاصَّةً بِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ((مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ)) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ. وَفِي لَفْظٍ: اسْعَوْا إِلَى بَيْعَةٍ بَايَعَ اللهُ بِهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) وَلَكِنَّ الْعَجَبَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ وَهُمْ يَنْكُثُونَ بَيْعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُمْ لَا يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ ثَمَنِهَا كَمَا يَطْلُبُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَسِيَادَتَهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَلَا طَرِيقَ لَهَا إِلَّا الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ،

112

وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَا يَدْحَضُهَا شَيْءٌ وَهِيَ تَدْحَضُ كُلَّ شَيْءٍ. ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَائِعِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِجَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، فَقَالَ: (التَّائِبُونَ) أَيْ هُمُ التَّائِبُونَ الْكَامِلُونَ فِي تَوْبَتِهِمْ وَهِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا يَبْعُدُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا، فَتَوْبَةُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ هِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِرْكٍ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (9: 11) وَتَوْبَةُ الْمُنَافِقِ مِنَ النِّفَاقِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا، وَتَوْبَةُ الْعَاصِي مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْهُ تَوْبَةُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَرْجَى أَمْرَهُ، وَتَوْبَةُ الْمُقَصِّرِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي التَّشْمِيرِ فِيهِ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ، وَتَوْبَةُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ رَبِّهِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ تَوْبَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْآيَتَيْنِ (117 و118) . (الْعَابِدُونَ) لِلَّهِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي جَمِيعِ عِبَادَاتِهِمْ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِمْ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا اسْتِعَانَةٍ، وَلَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى سِوَاهُ بِعَمَلٍ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الْقُرْبَةُ وَمَثُوبَةُ الْآخِرَةِ. (الْحَامِدُونَ) لِلَّهِ رَبِّهِمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْحَمْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَاءِ مِنْهُ تَعَالَى. وَمَهْمَا يُصِبِ الْإِنْسَانَ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَبْقَى لَهُ مِنَ النِّعَمِ فِيهَا وَفِي الدِّينِ بَلْ لَهُ مِنَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ فِي نَفْسِ الْمَصَائِبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيَشْكُرَهُ عَلَيْهِ (وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحَمْدِ وَالْعِبَادَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا) . (السَّائِحُونَ) فِي الْأَرْضِ يَجُوبُونَ الْأَقْطَارَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، أَوْ لِلْهِجْرَةِ حَيْثُ تُشْرَعُ الْهِجْرَةُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: السَّائِحُونَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، لَيْسَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ سِيَاحَةٌ إِلَّا الْهِجْرَةَ. أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ لِلسَّائِحِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوِ النَّافِعِ لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِطَلَبِ الْحَدِيثِ (لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ مِنْ مِصْرَ إِلَى أُخْرَى لِلرِّوَايَةِ) أَوْ لِلنَّظَرِ فِي خَلْقِ اللهِ وَأَحْوَالِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ لِلِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ وَمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكَمِهِ وَآيَاتِهِ، وَهَذَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَصْلَيْنِ (13 و14 مِنَ الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي اسْتَنْبَطْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ص 255 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِحِينَ الصَّائِمُونَ، وَقَالَهُ فِي تَفْسِيرِ (سَائِحَاتٍ) مِنْ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ مُصَنِّفُو التَّفَاسِيرِ لِاسْتِبْعَادِهِمْ مَدْحَ اللهِ تَعَالَى النِّسَاءَ بِالسِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يُحْظَرُ فِي الْإِسْلَامِ سَفَرُ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً دُونَ زَوْجِهَا أَوْ أَحَدِ مَحَارِمِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَسِيحُ مَعَ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ حَيْثُ يَسِيحُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ

أَوْ طَلَبِ الصِّحَّةِ أَوِ الرِّزْقِ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَدْحِهَا بِالسِّيَاحَةِ بَلْ يَنْبَغِي اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْحَيَاةِ النَّافِعَةِ. وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاحَةَ وَالسَّفَرَ لِطَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ تِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَصْحَبُونَ نِسَاءَهُمْ فِي غَزَوَاتِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَهُنَّ غَيْرُ مُكَلَّفَاتٍ بِالْقِتَالِ، بَلْ يُسَاعِدْنَ عَلَيْهِ بِتَهْيِئَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَضْمِيدِ الْجِرَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (9: 71) فَلَأَنْ يَصْحَبْنَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ أَوْلَى، وَفِي سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا إِحْصَانٌ لَهُ وَلَهَا، فَهُوَ مَانِعٌ لِلْمُسْلِمِ مِنَ التَّطَلُّعِ فِي السَّفَرِ إِلَى غَيْرِهَا. وَعَلَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ تَفْسِيرَ السَّائِحِينَ بِالصَّائِمِينَ بِأَنَّ الصَّائِمَ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كُلَّهَا كَالسَّائِحِ لِلتَّعَبُّدِ، وَمِثْلُهُ أَوْ مِنْهُ قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ: يُسَمَّى الصَّائِمُ سَائِحًا لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدًا لَا يَحْمِلُ زَادًا فَكَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ. وَلِهَذَا التَّعْلِيلِ خَصَّ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ وَصْفِ السَّائِحِينَ عَلَى الصَّائِمِينَ بِالَّذِينِ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَقَالَ: يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ صِيَامُ الْفَرْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ. وَالصُّوفِيَّةُ يَخُصُّونَ السَّائِحِينَ الْمَمْدُوحِينَ بِالَّذِينِ يَهِيمُونَ فِي الْأَرْضِ لِتَرْبِيَةِ إِرَادَتِهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَظَانِّ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ ; لِجَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالتَّكَمُّلِ فِي مَنَازِلِ مَعْرِفَتِهِ، كَالسَّيَّاحِينَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ كَانَ إِطْلَاقُ السِّيَاحَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ذَائِعًا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: السِّيَاحَةُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ لِلْعِبَادَةِ ; وَمِنْهُ سُمِّي الْمَسِيحُ إِلَخْ، وَاعْتَرَضُوهُ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ عُرْفٌ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّيَاحَةِ اللُّغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (9: 2) وَهُوَ أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص 136 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَقَدْ حَدَثَ لِلْمُتَصَوِّفَةِ بِدَعٌ فِي السِّيَاحَةِ كَقَصْدِ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَالِاسْتِمْدَادِ مِنْ أَرْوَاحِ مَنْ دُفِنُوا فِيهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُ هَوًى فِي التَّنَقُّلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَيَظَلُّ هَائِمًا فِي الْأَسْفَارِ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ وَعَنِ الزَّوَاجِ، وَيَرْتَكِبُ بَعْضُهُمْ فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيَكُونُ لَهُمْ طَمَعٌ فِي اسْتِجْدَاءِ النَّاسِ، وَالسُّؤَالُ حَرَامٌ إِلَّا لِضَرُورَةٌ، وَالْفُقَهَاءُ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ سِيَاحَتَهُمْ هَذِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ لَا لِمَقْصُودٍ وَلَا إِلَى مَكَانٍ مَعْرُوفٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تَبَتُّلَ وَلَا سِيَاحَةَ فِي الْإِسْلَامِ)) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا السِّيَاحَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ

وَالصَّالِحِينَ ; وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُشَتِّتُ الْقَلْبَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يُسَافِرَ إِلَّا فِي طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةِ شَيْخٍ يَقْتَدِي بِهِ اهـ. وَأَقُولُ: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا حَدِيثَ (السَّائِحُونَ هُمُ الصَّائِمُونَ) وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَمِنْ مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي بِالسِّيَاحَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْقَاسِمُ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى. أَقُولُ: مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَانَ يَقُولُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنَ الْمَنَاكِيرِ: إِنَّهَا مِنْ قَبْلِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، لَا مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَرْوِي عَنِ الصَّحَابَةِ الْمُعْضَلَاتِ. وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ السَّفَرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي فَوَائِدِ السِّيَاحَةِ وَالِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِثْلُهُ. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) لِلَّهِ تَعَالَى فِي صَلَوَاتِهِمْ. وَالصَّلَاةُ تُذْكَرُ تَارَةً بِلَفْظِهَا، وَتَارَةً بِبَعْضِ أَرْكَانِهَا كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ التَّذْكِيرَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ وَتَمْثِيلَهَا لِلْقَارِئِ وَالسَّامِعِ. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَكَانَتِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (71) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَهَذِهِ الصِّفَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَكُلُّ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْرَادِ. (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أَيْ شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ الَّتِي حَدَّدَ فِيهَا مَا يَجِبُ وَمَا يَحْظُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا، وَمَا يَجِبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأُولِي الْأَمْرِ وَأَهْلِ الْحِلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمْ إِقَامَتُهَا وَتَنْفِيذُهَا بِالْعَمَلِ فِي أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ إِذَا أَخَلُّوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِفْظِ لَهَا (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَبَشِّرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْبِضْعِ الصِّفَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُبَشِّرُهُمْ بِهِ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَشُمُولِهِ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ تُسْرَدُ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَإِنَّمَا عَطَفَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمَا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا عَطْفُ (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ، فَقِيلَ لِأَنَّ التَّعْدَادَ قَدْ تَمَّ بِالْوَصْفِ السَّابِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السَّبْعَةَ هُوَ الْعَدَدُ التَّامُّ وَالثَّامِنَ ابْتِدَاءُ عَدَدٍ آخَرَ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ تُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْوَاوَ النُّحَاةُ الْمُحَقِّقُونَ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ

113

أَنْ يُجْعَلَ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ فَيُسْرَدَ مَعَهُ. وَأَقْوَى مِنْهُ عِنْدِي أَنَّهُ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلتَّكَالِيفِ عَامَّةً، وَالْمَنْهِيَّاتِ خَاصَّةً، وَالسَّبْعَةُ الْمَسْرُودَةُ قَبْلَهُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَلَا يَحْصُلُ الْكَمَالُ لِلْمُؤْمِنِ بِهَا إِلَّا مَعَ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُلَاحَظُ فِي حِفْظِ حُدُودِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (2: 187) (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (2: 229) (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (65: 1) وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى نَظْمِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّبْعِ، وَالْحَافِظُونَ مَعَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِقَوْلِهِمْ: ((الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَيُطْلِقُونَهُ عَلَى الْأَفْرَادِ النَّابِغِينَ فِي بَعْضِ الْفَضَائِلِ الْعَامَّةِ، وَعَلَى الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ الرَّاقِيَةِ، وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهِ ((الْمَثَلُ)) فِي كَذَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) (43: 57) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (43: 59) أَوْ يُقَالُ: مَثَلٌ عَالٍ، أَوْ مَثَلٌ شَرِيفٌ. وَأَمَّا الْأَعْلَى فَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (16: 60) وَقَالَ: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (30: 27) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّهُمُ الْحَافِظُونَ لِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى. وَخُصَّتْ تِلْكَ الْخِلَالُ السَّبْعُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُمَثَّلُ فِي نَفْسِ الْقَارِئِ أَكْمَلَ مَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِهِ مُحَافِظًا عَلَى حُدُودِ اللهِ تَعَالَى. (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) .

تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّمَانِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ، فَاسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (4: 48 و116) وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ التَّأَسِّيَ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْأُسْوَةِ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِ فَقَالَ: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (60: 4) وَقَدْ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ ذَكَرَ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) هَذَا نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ فِيهِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُعَلَّلٌ بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - أَنْ يَدْعُوا اللهَ طَالِبِينَ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ (وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) ، لَهُمْ فِي الْأَصْلِ حَقُّ الْبِرِّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. وَكَانَتْ عَاطِفَةُ الْقَرَابَةِ تَقْتَضِي الْغَيْرَةَ عَلَيْهِمْ وَحُبَّ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ ((وَلَوْ)) هَذِهِ تُفِيدُ الْغَايَةَ لِمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ يُحْذَفُ حَذْفًا مُطَّرَدًا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تُبِيحُهُ النُّبُوَّةُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْ أَهْلِهِمَا - الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَحَتَّى لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعَدَمُ جَوَازِهِ أَوْلَى. ثُمَّ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْخَالِدِينَ فِيهَا بِأَنْ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلَوْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَاسْتِصْحَابِ حَالَةِ الْكُفْرِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ نَزَلَ وَحْيٌ يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ أُنَاسٍ مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُمْ طُبِعَ قُلُوبُهُمْ وَخُتِمَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (36: 10) وَمِثْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) (63: 6) إِلَخْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، إِذْ دَعَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَى قَوْلِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فَامْتَنَعَ وَأَبُو طَالِبٍ مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَهَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ عَقِبَ مَوْتِهِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا، أَمْ نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ بَرَاءَةَ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؟ وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ زَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الدُّعَاءِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَكَذَا وَصْفُهُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:

الْمَغْفُورُ لَهُ الْمَرْحُومُ فُلَانٌ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ الْآنَ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَتَقَيُّدِهِمْ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ وَالْحَامِلِينَ لِدَرَجَةِ الْعَالَمِيَّةِ مِنَ الْأَزْهَرِ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: ((أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ يُعَاوِدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فَأَنْزَلَ اللهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (28: 56) . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ بَرَاءَةَ وَفِي الْجَنَائِزِ أَيْضًا. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةَ الْأَشْيَاخِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرِيِّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي)) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لِنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لِعَمِّهِ، فَنَزَلَتْ. (قَالَ) وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكْرَارِ النُّزُولِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَأَتْبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا فَقَالَ: ((إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَأَنْزَلَ عَلَيَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)) ) وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ: نَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى رَسْمَ قَبْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ

لَهَا، فَنَزَلَتْ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ: لَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عَسْفَانَ. وَفِيهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) لَكِنْ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاصًّا بِالْأَحْيَاءِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ، وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ) الْآيَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: أَلَا نَسْتَغْفِرُ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَنَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرْنَا لَهُ أَنَّ رِجَالًا. . . . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا خَتَمَ عُمُرَهُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَارَنَ نُطْقَ لِسَانِهِ عَقْدُ قَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ وَصَلَ إِلَى حَدِّ انْقِطَاعِ الْأَمَلِ مِنَ الْحَيَاةِ وَعَجَزَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (4: 18) وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ وَقَدْ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي اسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِآبَائِهِمْ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ فَكَفُّوا. (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ تَأَسِّيكُمْ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ وَمَا وَقَعَ لِسَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) فِي حَيَاتِهِ إِذَا كَانَ يَرْجُو إِيمَانَهُ فَقَالَ لَهُ: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (60: 4) أَيْ لَا أَمْلِكُ لَكَ هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً وَإِنَّمَا أَمْلِكُ دُعَاءَ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَمَا كَانَ إِلَّا وَفِيًّا كَمَا شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (53: 37) فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يَبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (26: 86 - 89) أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالشَّكِّ الْمُقْتَضِي لِلنِّفَاقِ، فَمَنِ اسْتَغْفَرَ لِحَيٍّ يَرْجُو إِيمَانَهُ، يَقْصِدُ سُؤَالَ اللهِ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا يَكُونُ بِهِ أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ فَلَا بَأْسَ.

114

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ يَقُولُ لَمَّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَ مَاتَ وَعَلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ انْقَطَعَتْ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَمِنْ قَرَابَتِهِ، وَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) (58: 22) الْآيَةَ. وَوَرَدَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعُدُّ مِنَ الْخِزْيِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ فِي النَّارِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ رُؤْيَتِهِ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ)) فَيَمْسَخُ اللهُ أَبَاهُ ذِيخًا - وَهُوَ ذَكَرُ الضِّبَاعِ الْكَثِيرِ الشَّعَرِ - حَتَّى لَا يَخْزَى إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ص 449 ج 7 ط الْهَيْئَةِ. (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِوَصْفِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُبَالَغَةِ فِي خَشْيَةِ اللهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ، وَبِالْحِلْمِ وَالثَّبَاتِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِرُسُوخِهِ فِي الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. الْأَوَّاهُ: الْكَثِيرُ التَّأَوُّهِ وَالتَّحَسُّرِ وَإِنَّمَا يَتَأَوَّهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَيَتَحَسَّرُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَلَا سِيَّمَا أَبِيهِ، وَيُطْلَقُ الْأَوَّاهُ عَلَى الْخَاشِعِ الْكَثِيرِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لِلَّهِ. وَأَصْلُ التَّأَوُّهِ قَوْلُ ((أَوْهَ)) أَوْ آهٍ (بِالْكَسْرِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ) أَوْ وَاهٍ، أَوْ أَوَّهْ. وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ ((الْأَوَّاهُ الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ)) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ رِوَايَاتٌ مِنْهَا: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالْحَلِيمُ: الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ وَلَا يَعْبَثُ بِهِ الطَّيْشُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الْجَهْلُ أَوْ هَوَى النَّفْسِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ وَالصَّفْحُ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَاتِّقَاءِ الْعَجَلَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ، وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ، قَالَ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْأَوَّاهِ بِالَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: (لَأَرْجُمَنَّكَ) اهـ. (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى فِي حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَصِفَ قَوْمًا بِالضَّلَالِ، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُ بِالذَّمِّ وَالْعِقَابِ، بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، بَيَانًا جَلِيًّا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فَهُوَ يَشْرَعُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ بِهِ رَأْيُهُمْ

115

وَفَهْمُهُمْ، فَيُبَيِّنُ لَهُمْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ حَتَّى لَا يَضِلَّ فِيهِ اجْتِهَادُهُمْ بِأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ، وَيَتْرُكُ لَهُمْ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، فَهُوَ لِهَذَا لَمْ يُؤَاخِذْ إِبْرَاهِيمَ فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِوَالِدِيهِمْ وَأُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ قَبْلَ هَذَا التَّبْيِينِ لِحُكْمِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: بَيَانُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ عَامَّةً، مَا فَعَلُوا أَوْ تَرَكُوا. اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْأُسَارَى، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُ حَتَّى يُؤْذِنَ لَكُمْ. وَلَكِنْ مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا بِذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، قَالَ: حَتَّى يَنْهَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ اهـ. وَأَقُولُ: الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَكِنَّهَا شَامِلَةٌ لِحُكْمِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى هُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ هُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ شَأْنُ النُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (8: 67) فَهَذَا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ كَنَفْيِ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى هُنَالِكَ بَعْدَ عِتَابِهِمُ الشَّدِيدِ: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (8: 68) فَابْنُ عَبَّاسٍ يُفَسِّرُ هَذَا الْكِتَابَ بِحُكْمِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِضَلَالِ قَوْمٍ فِي شَيْءٍ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ بَيَانًا وَاضِحًا تَامًّا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلِاجْتِهَادِ الَّذِي يَكُونُ عُذْرًا فِي الْمُخَالَفَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ وَقْتَئِذٍ أَمْ لَا. فَهَذَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ يَخْطُبُ أَصْحَابَهُ كُلَّ عَشِيَّةِ خَمِيسٍ ثُمَّ يَقُولُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَغْدُوَ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَغْدُو لِسِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَالِمَ وَالْمُتَعَلِّمَ شَرِيكَانِ فِي الْخَيْرِ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْخَذُوا بِمَا لَمْ يُبَيَّنْ لَكُمْ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) فَقَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا تَتَّقُونَ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا قَاعِدَةٌ هِيَ أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَامَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَيُكَلَّفُ الْعَمَلَ بِهَا كُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا أَفْرَادُ الْأُمَّةِ كُلُّهُمْ، وَيُنَفِّذُهَا أَئِمَّتُهَا وَأُمَرَاؤُهَا فِيهَا، هِيَ مَا كَانَتْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ بِبَيَانٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا حُجَّةَ مَعَهُ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِهِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مَنُوطٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ ظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ حُكْمٌ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرَادُ اللهِ مِنَ الْآيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَمَنْ لَا فَلَا، كَمَا وَقَعَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِذْ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (2: 219) تَحْرِيمَهُمَا فَتَرَكَ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتَّى بَيَّنَ اللهُ تَحْرِيمَهَا مَعَ الْمَيْسِرِ بَيَانًا قَطْعِيًّا

116

بِآيَاتِ الْمَائِدَةِ. وَأَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالتَّحْرِيمَ الدِّينِيَّ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيِّ بَلْ هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السَّلَفِ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ (فِي ص 323 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يَجِبُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، صَرَّحَ بِهِ مُفَسِّرُهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاسْتَثْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى التَّوْقِيفِ)) نَعَمْ إِنَّ حُسْنَهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ. وَلَكِنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ جَزَاءُ الْآخِرَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالشَّرْعِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا. وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَأَوْجَبَهُمَا وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ، كَمَا بَيَّنَ كُلَّ مَا أَرَادَ جَعْلَهُ دِينًا لِلنَّاسِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ تَعَالَى غَيْرُ نِسْيَانٍ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَلَا أَنْ نَضَعَ لَهُ أَحْكَامًا بِآرَاءِ عُقُولِنَا. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا) (5: 101) إِلَخْ رَاجِعْ ص 107 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ مَعَ الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ ص 117 ط الْهَيْئَةِ إِلَخْ. (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِمَا وَلَا فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِمَا وَلَا فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيهِمَا (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أَيْ يَهَبُ الْحَيَاةَ الْحَيَوَانِيَّةَ وَالْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ الرُّوحِيَّةَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ وَالْهِدَايَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَيُمِيتُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْدَانِ بِانْقِضَاءِ آجَالِهَا الْمُقَدَّرَةِ فِي عِلْمِهِ، وَمِنَ الْأَنْفُسِ بِنُكُوبِهَا عَنْ صِرَاطِ هِدَايَتِهِ (وَمَا لَكَمَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أَيْ وَلَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ يَتَوَلَّى أَمْرَكُمْ، وَلَا نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، فَلَا تَحِيدُوا عَنْ هِدَايَتِهِ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ مِنْ عَصَبَاتِكُمْ فِي الْأَنْسَابِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

117

هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَوْضُوعِ تَوْبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أُخِّرَتْ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ الْآيَاتِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى أَلَّا يَسْأَمَ التَّالِي لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَأَقْوَى فِي تَجْدِيدِ الذِّكْرَى وَالتَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مِمَّا يُتَابُ مِنْهُ. (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ عَلَى حَرْفِ التَّحْقِيقِ، بَيَّنَ بِهِ تَعَالَى فَضْلَ عَطْفِهِ عَلَى نَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ هَفَوَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِاسْتِغْرَاقِهَا فِي حَسَنَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَفَوَاتُهُمْ هَذِهِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ اللهُ تَعَالَى بَيَانًا قَطْعِيًّا يُعَدُّ مُخَالِفُهُ عَاصِيًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (104) أَنَّ لِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ الرَّجَّاعِينَ إِلَى اللهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْهُ، وَتَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَهَا مَعْنَيَانِ: عَطْفُهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَعْلَاهُمَا، وَتَوْفِيقُهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَقَبُولُهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَنْبٍ، وَمَا كُلُّ ذَنْبٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (9: 43) ؟ الْآيَةَ وَحَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَسْأَلَةَ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُقِرَّهُمُ اللهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَهُمْ خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ التَّثَاقُلَ فِي الْخُرُوجِ حَتَّى وَرَدَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ فِيهِ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى التَّثَاقُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُمُ السَّمَاعَ لِلْمُنَافِقِينَ فِيمَا كَانُوا يَبْغُونَ مِنْ فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وَبِالْفِعْلِ. فَأَمَّا الْعُسْرَةُ فَهِيَ الشِّدَّةُ وَالضِّيقُ. وَكَانَتْ عُسْرَةً فِي الزَّادِ إِذْ كَانَتْ عِنْدَ انْتِهَاءِ فَصْلِ الصَّيْفِ الَّذِي نَفِدَتْ فِيهِ مُؤْنَتُهُمْ، وَأَوَّلَ فَصْلِ الْخَرِيفِ الَّذِي بَدَأَ فِيهِ إِرْطَابُ الْمَوْسِمِ الْجَدِيدِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَكَانَ يَكْتَفِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الِاثْنَانِ بِالتَّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ التَّمْرِ الْقَدِيمِ وَمِنْهُ الْمَمْدُودُ وَالْيَابِسُ، وَقَدْ تَزَوَّدَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِالشَّعِيرِ الْمُسَوَّسِ وَالْإِهَالَةِ الزَّنِخَةِ، وَعُسْرَةً فِي الْمَاءِ حَتَّى كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَعِيرَ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ لِيَعْتَصِرُوا الْفَرْثَ الَّذِي فِي كَرِشِهِ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ، وَعُسْرَةً فِي الظَّهْرِ حَتَّى كَانَ الْعَشَرَةُ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا، وَعُسْرَةً فِي الزَّمَنِ إِذْ كَانَ فِي حِمَارَةِ الْقَيْظِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ ; وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْعَصِيبِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ: عُسْرَةُ الظُّهْرِ وَعُسْرَةُ الزَّادِ وَعُسْرَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ

عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتُقْطَعُ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءُ، فَأَهْطَلَتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِمَا وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ. (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيعُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أَيِ اتَّبَعُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا قَرُبَ أَنْ يَزِيغَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَنْ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، بِعِصْيَانِ الرَّسُولِ حِينَ أَمَرَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، إِذْ تَثَاقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ النَّفَرِ وَوَبَّخَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ 38، 39، 40 أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَابَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْفِعْلِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ عِلَّةِ النِّفَاقِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ تَائِبِينَ فَقَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ هُنَا فِيهِمْ: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَأَمَّا عَلَى التَّوْجِيهِ الْآخَرِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى الْجَمِيعِ (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فَالرَّأْفَةُ الْعِنَايَةُ بِالضَّعِيفِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ وَأَوْسَعُ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ. قَرَأَ (كَادَ يَزِيغُ) بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ (تَزِيغُ) بِالْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ فِيهِمَا إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ مِنِ احْتِمَالِ الْإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ مَا لَيْسَ فِي تِلْكَ. (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أَيْ وَتَابَ أَيْضًا عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمُ الْمُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ فِي الْآيَةِ (106) أَوْ خُلِّفُوا بِمَعْنَى أُرْجِئُوا حَتَّى يَنْزِلَ فِيهِمْ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مَنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ مَنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أَيْ خُلِّفُوا وَأَبْهَمَ اللهُ أَمْرَهُمْ إِلَى أَنْ شَعَرُوا بِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ بِرَحِبِهَا أَيْ بِمَا وَسِعَتْ مِنَ الْخَلْقِ خَوْفًا مِنَ الْعَاقِبَةِ وَتَأَلُّمًا وَامْتِعَاضًا مِنْ إِعْرَاضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ وَهَجْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الْمُجَالَسَةِ وَالْمُحَادَثَةِ وَالتَّحِيَّةِ (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أَيْ وَضَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَا كَانُوا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ ضِيقِ صُدُورِهِمْ بِامْتِلَاءِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ حَتَّى لَا مُتَّسَعَ فِيهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْبَسْطِ وَالسُّرُورِ، فَكَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَكَانًا تَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنُّ بِهِ (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْ سُخْطِ اللهِ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ إِلَّا إِلَيْهِ تَعَالَى بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُوهُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ الْبَرَّ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ بِأَصْحَابِهِ مَا عَادَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ حَتَّى يَطْلُبُوا دُعَاءَهُ وَاسْتِغْفَارَهُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

لَا يَشْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَطَفَ تَعَالَى وَرَجَعَ عَلَيْهِمْ وَأَنْزَلَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَهُ (لِيَتُوبُوا) وَيَرْجِعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَتِهِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَإِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، الْوَاسِعُ الرَّحْمَةِ لِلْمُحْسِنِينَ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ قَرِيبًا. وَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِذِكْرِ أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ وَأَوْسَعِهَا فِي شَرْحِ مَا بَيَّنَ اللهُ مِنْ حَالِهِمْ فِيهَا وَهُوَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَشْهَرُ مُدَوِّنِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ قَائِدُ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ. قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ. وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا وَأَشْهَرَ، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَاللهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ. قَالَ كَعْبٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى بِهِ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَزَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَا أَقْضِي شَيْئًا، فَأَقُولُ لِنَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، وَقُلْتُ الْجِهَازُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ مَا فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، ثُمَّ

غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَ أَنِّي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْزِنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: ((مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، بِئْسَمَا قُلْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أَنْجُ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعًا وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ، حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لِي: ((تَعَالَ)) فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: ((مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ اشْتَرَيْتَ ظَهْرَكَ؟)) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، لَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى عَنِّي بِهِ لَيُوشِكَنَّ اللهُ يُسْخِطُكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثِ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لِأَرْجُوَ فِيهِ عُقْبَى مِنَ اللهِ وَاللهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ)) فَقُمْتُ وَبَادَرَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ أَلَّا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَلَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.

قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أَوْ قَالَ تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَدَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ حَائِطَ أَبِي قَتَادَةَ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ اللهَ تَعَالَى هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَسَكَتَ، قَالَ فَعُدْتُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَشَدْتُهُ. قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ. وَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعَامٍ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلَكِ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا، فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا. حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا بِرَسُولِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبَنَّهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هِلَالًا شَيْخٌ ضَائِعٌ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ قَالَ: ((لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ)) فَقَالَتْ إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ وَوَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِكَ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالٍ أَنْ تَخْدِمَهُ فَقُلْتُ وَاللهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَدْرِي مَا يَقُولُ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. قَالَ: فَلَبِثْنَا عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمَلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا، قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ الْفَجْرَ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَارِخًا أَوْفَى

عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ. فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثُوبِي فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ لِبِشَارَتِهِ وَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ! فَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ أَؤُمُّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدٍ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، قَالَ فَكَانَ كَعْبٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ ((أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)) قُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَ ((لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ)) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) فَقُلْتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أَنْجَانِي اللهُ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللهُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللهُ تَعَالَى، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَلِمَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيَ، وَأَنْزَلَ اللهُ: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) . قَالَ كَعْبٌ فَوَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ أَلَّا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلَكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ فَإِنَّ اللهَ قَالَ لِلَّذِينِ كَذَبُوهُ حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) - إِلَى قَوْلِهِ (الْفَاسِقِينَ) (9: 95، 96) . قَالَ كَعْبٌ وَكُنَّا خُلِّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَلَفُوا فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا حَتَّى قَضَى اللهُ فِيهِ فَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وَلَيْسَ الَّذِي ذُكِرَ مِمَّا خَلَّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ اهـ.

119

(أَقُولُ) : إِنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَأَكْبَرَ عِبْرَةٍ تَفِيضُ لَهَا عَبَرَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْشَعُ لَهَا قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يُبْكِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تُبْكِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَحَدِيثُ كَعْبٍ فِي تَفْصِيلِ خَبَرِهِمْ فِيهَا. وَأَيُّ مُؤْمِنٍ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ أَنْ تَفِيضَ مِنَ الدَّمْعِ، وَقَلْبَهُ أَنْ يَجِفَّ وَيَرْجُفَ مِنَ الْخَوْفِ إِذَا قَرَأَ أَوْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ، وَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا إِلَّا فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَا أَدْرِي مَا عَسَى أَنْ يَنَالَ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الْمَغْرُورِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَلَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِذَا وَعَظَهُمْ وَاعِظٌ أَوْ ذَكَّرَهُمْ مُذَكِّرٌ؛ وَجَدَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ بَيْنَ جَازِمٍ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُتَّكِلٍ عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ مَا لَا يَصِحُّ لَهُ سَنَدٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مَتْنٌ. وَمَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ - يُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (4: 31) وَمَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (16: 119) وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ (آخِرُهَا ص 158 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَبَيَّنَ تَحْرِيمَهَ مُطْلَقًا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أَيْ مَعَ جَمَاعَةِ الصَّادِقِينَ أَوْ مِنْهُمْ (وِفَاقًا لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ تَكُونُ تَفْسِيرًا) دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَنَصَّلُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْكَذِبِ وَيُؤَيِّدُونَهُ بِالْحَلِفِ. وَالصَّادِقُونَ هُمُ الْمُعْتَصِمُونَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي جِهَادِهِمْ إِذَا جَاهَدُوا، وَفِي عُهُودِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَفِي أَقْوَالِهِمْ وَوُعُودِهِمْ إِذَا حَدَّثُوا وَوَعَدُوا، وَفِي تَوْبَتِهِمْ إِذَا أَذْنَبُوا أَوْ قَصَّرُوا، وَالْمُنَافِقُونَ ضِدُّهُمْ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ. تَقَدَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ بِمَا صَدَقُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْتَحِلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَاذِبًا فِي التَّخَلُّفِ عَنِ النَّفَرِ مَعَهُ. وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) مَعَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَعَ عَلِيٍّ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَامَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي

عَهْدِهِ، وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي (الصَّادِقِينَ) مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَأَعْرَقُ فِي الصِّدْقِ وَأَكْمَلُ. وَلَكِنِّي أَشُمُّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ رَائِحَةَ وَضْعِ النَّوَاصِبِ وَالرَّوَافِضِ. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِـ (الصَّادِقِينَ) الْمُهَاجِرُونَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ احْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ لَا يَصِحُّ، وَوَجَّهَهُ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّادِقِينَ هُنَا هُمُ الصَّادِقِينَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) إِلَى قَوْلِهِ - (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (59: 8) وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ خَاصًّا بِالْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفًا كَآيَةِ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) - إِلَى قَوْلِهِ - (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (49: 15) وَقَوْلِهِ: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ) (33: 8) - (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) (33: 24) وَغَيْرِهِنَّ - وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَمَعَ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ كَمَا قَالَ الطَّوْفِيُّ. أَخْرَجَ سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (9: 119) فَهَلْ تَجِدُونَ لِأَحَدٍ رُخْصَةً فِي الْكَذِبِ؟ وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظٍ ((إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ ابْنَهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ إِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ - إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا - وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ)) - إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ - وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضِيلَةِ الصِّدْقِ وَرَذِيلَةِ الْكَذِبِ وَكَوْنِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُطْبَعُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلَّا الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ)) وَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ خَدِيعَةِ حَرْبٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا - يَعْنِي فِي مِثْلِ التَّحَبُّبِ إِلَيْهَا بِوَصْفِ مَحَاسِنِهَا وَرِضَاهُ عَنْهَا، لَا فِي مَصَالِحِ الدَّارِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِهَا - وَالرِّوَايَةُ فِي هَذَا عَلَى عِلَّاتِهَا تُقَيَّدُ بِحَدِيثِ ((إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ ((مَا يُغْنِي الرَّجُلَ الْعَاقِلَ عَنِ الْكَذِبِ)) رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ الْأَوَّلُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالثَّانِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.

120

(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي تَأْكِيدِ وُجُوبِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَحَظْرِ تَخَلُّفِ أَحَدٍ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، بِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ. (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) مَا كَانَ بِالَّذِي يَصِحُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَاصِمَةِ الْإِسْلَامِ وَمَقَرِّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بِالَّذِي يَسْتَقِيمُ أَوْ يَحِلُّ لَهُمْ (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ) كَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إِذَا خَرَجَ غَازِيًّا فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْمِلَّةِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ وَلَا أَنْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصُونُوهَا وَيَرْغَبُوا بِإِيثَارِ رَاحَتِهَا وَسَلَامَتِهَا عَنْ بَذْلِهَا فِيمَا يَبْذُلُ فِيهِ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ الْقُدْسِيَّةَ مِنِ احْتِمَالِ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. يُقَالُ رَغِبَ فِي الشَّيْءِ إِذَا أَحَبَّهُ وَآثَرَهُ، وَرَغِبَ عَنْهُ: إِذَا كَرِهَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُؤَثِّرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَخَلِّفَ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ وَيُؤْثِرُهَا عَلَى نَفْسِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ أَحَدٍ حَتَّى يُحِبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا يَصِحُّ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ رَاغِبٍ عَنْ سُنَّتِهِ وَالتَّأَسِّي بِهِ، كَالْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمُبْتَدَعَةِ وَالْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ بِدَعَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ عَلَى سُنَّتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وَنِعْمَ مَا قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَصْحَبُوهُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَنْ يُكَابِحُوا مَعَهُ الْأَهْوَالَ بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَأَنْ يُلَقُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ مَا تَلْقَاهُ نَفْسُهُ، عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عَلَى اللهِ وَأَكْرَمُهَا ; فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْلٍ

وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا وَلَا يُقِيمُونَ لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ، وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ اهـ. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ، وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَهُ، بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ فِي جِهَادِهِمْ مِنْ أَذًى وَإِنْ قَلَّ، وَمِنْ إِيذَاءٍ لِلْعَدُوِّ وَإِنْ صَغُرَ، فَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ لَهُمْ بِهِ أَكْبَرُ الْأَجْرِ، فَلَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ لِقِلَّةِ الْمَاءِ - أَوْ نَصَبٌ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ أَوْ قِلَّةِ الظَّهْرِ - أَوْ مَجَاعَةٍ لِقِلَّةِ الزَّادِ - فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَإِعْزَازِ دِينِهِ (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ) وَطْؤُهُمْ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَارِهِمْ، وَيَعُدُّونَ وَطْأَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِهَانَةً بِقُوَّتِهِمْ، فَيَغِيظُهُمْ أَنْ تَمَسَّهُ أَقْدَامُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ حَوَافِرُ خُيُولِهِمْ وَأَخْفَافُ رَوَاحِلِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا يَسَّرَ اللهُ فَتْحَهُ لَهُمْ (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) أَيْ وَلَا يَبْلُغُونَ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِمَّا أَرَادُوا مِنْ جَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ هَزِيمَةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ عَمَلٌ صَالِحٌ مُرْضٍ لِلَّهِ تَعَالَى مَجْزِيٌّ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَعُمُّ الْأُمُورَ الْعَارِضَةَ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَتَشْمَلُ كُلَّ حَرَكَةٍ مِنْ بَطْشَةِ يَدٍ أَوْ وَطْأَةِ قَدَمٍ؟ (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِهَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ أَجْرًا، وَأَنْفَسُ ذُخْرًا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَجْرِ، فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِحْسَانٌ، وَ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (55: 60) ؟ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِيمَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ صَغُرَ أَمْ كَبُرَ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَفِي كُلِّ وَادٍ يَقْطَعُونَهُ فِي سَيْرِهِمْ غَادِينَ أَوْ رَائِحِينَ (وَالْوَادِي: هُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ فِي مُنْفَرَجَاتِ الْجِبَالِ وَأَغْوَارِ الْآكَامِ، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ) لَا يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْ يُنْسَى بَلْ يُكْتَبُ لَهُمْ: (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بِكِتَابَتِهِ فِي صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ (أَحْسُنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَهُوَ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ وَفَرِيضَتِهِ بِالِاسْتِنْفَارِ لَهُ يَكُونُ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ ; إِذْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْإِيمَانِ، وَمُلْكُ الْإِسْلَامِ، وَجَمِيعُ مَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، يُقَالُ جَزَاهُ الْعَمَلَ وَجَزَاهُ بِهِ. كَمَا قَالَ: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (53: 41)

وَالنَّصُّ عَلَى جَزَائِهِمْ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يُنَافِي جَزَاءَهُمْ بِمَا دُونَهُ وَقَدْ قَالَ آنِفًا (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وَهُوَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ النَّصُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ أَحْسَنِهَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الثَّانِي فَقَطْ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَحْسَنِ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَلَى قَاعِدَةِ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (28: 84) وَبَيَانُ ذَلِكَ بِقَاعِدَةِ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (6: 160) وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِكُلِّ عَمَلٍ مِمَّا ذُكِرَ أَحْسَنَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، أَيْ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، بِأَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهِ كَالنَّفَقَةِ الْكَبِيرَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَبَرَّاتِ، وَالْمَشَقَّةُ الْقَلِيلَةُ فِيهِ كَالْمَشَقَّةِ الْكَثِيرَةِ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ. (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) . هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ بِالْقِتَالِ، مَعَ زِيَادَةِ حُكْمِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالنَّفَقَةِ فِي الدِّينِ وَهُوَ آلَةُ الْجِهَادِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا جِهَادُ السَّيْفِ حِمَايَةٌ وَسِيَاجٌ. وَسَبَبُهَا أَنَّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ وَثَوَابِهِ وَفِي ذَمِّ الْقَاعِدِينَ عَنْهُ وَكَوْنِهِ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ قَوَّى رَغْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ حَتَّى كَانُوا إِذَا أَرَادَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِرْسَالَ سَرِيَّةٍ لِلِقَاءِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ قَلُّوا يَنْتَدِبُ لَهَا جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى الْخُرُوجِ فِيهَا، وَيَدَعُونَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ أَوْ مَعَ نَفَرٍ قَلِيلٍ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ لَا فِي كُلِّ اسْتِنْفَارٍ لِمُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ، عَلَى أَنَّ النَّفَرَ الْعَامَّ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ تَكْثُرُ فِيهِ الْأَعْذَارُ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَلَى الْأَنْصَارِ بِمُقْتَضَى مُبَايَعَتِهِمْ لَهُ (رَاجِعْ ص 271 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أَيْ مَا كَانَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ، أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا فِي كُلِّ سَرِيَّةٍ تَخْرُجُ لِلْجِهَادِ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّرَايَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الرَّسُولُ وَاسْتَنْفَرَهُمْ لِلْخُرُوجِ (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) لَوْلَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ وَحَثٍّ عَلَى مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ: أَيْ فَهَلَّا نَفَرَ لِلْقِتَالِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ كَبِيرَةٍ (مِنْهُمْ) كَالْقَبِيلَةِ أَوْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، (طَائِفَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ

122

(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أَيْ لِيَتَأَتَّى لَهُمْ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ بِأَنْ يَتَكَلَّفَ الْبَاقُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْفَقَاهَةَ فِي الدِّينِ بِمَا يَتَجَدَّدُ نُزُولُهُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيَانِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَيُعَرِّفُ الْحُكْمَ مَعَ حِكْمَتِهِ، وَيُفَصِّلُ الْعِلْمَ الْمُجْمَلَ بِالْعَمَلِ بِهِ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الَّذِينَ نَفَرُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ (إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أَيْ يَجْعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنَ الْفَقَاهَةِ بِأَنْفُسِهِمْ إِرْشَادَ هَؤُلَاءِ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا عَلِمُوا، وَإِنْذَارَهُمْ عَاقِبَةَ الْجَهْلِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَخَافُوا اللهَ وَيَحْذَرُوا عَاقِبَةَ عِصْيَانِهِ ; وَيَكُونُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عُلَمَاءَ بِدِينِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى نَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَعْمِيمِ هِدَايَتِهِ، فَهَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ لَا الرِّيَاسَةُ وَالْعُلُوُّ بِالْمَنَاصِبِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْهُمْ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِتَعْلِيمِهِ فِي مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُمْ، وَيَكُونُونَ بِهِ هُدَاةً لِغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ الْمُتَخَصِّصِينَ لِهَذَا التَّفَقُّهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لَا يَقِلُّونَ فِي الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ عَنِ الْمُجَاهِدِينَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ. بَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الدِّفَاعُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، وَالدَّلَائِلُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ طَائِفَةٍ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ بَاطِلٌ. كُنْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي طَرَابُلُسَ وَكَانَ حَاكِمُهَا الْإِدَارِيُّ (الْمُتَصَرِّفُ) فِيهَا مُصْطَفَى بَاشَا بَابَانِ مِنْ سَرَوَاتِ الْكُرْدِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ لِي مَرَّةً فِي دَارِنَا بِالْقَلَمُونِ: لِمَاذَا تَسْتَثْنِي الدَّوْلَةُ الْعُلَمَاءَ وَطُلَّابَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ خِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ شَرْعًا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ؟ - يُعَرِّضُ بِي - أَلَيْسَ هَذَا خَطَأً لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؟ فَقُلْتُ لَهُ عَلَى الْبَدَاهَةِ بَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَلَوْتُ الْآيَةَ، فَاسْتَكْثَرَ الْجَوَابَ عَلَى مُبْتَدِئٍ مِثْلِي لَمْ يَقْرَأِ التَّفْسِيرَ وَأَثْنَى وَدَعَا. وَقَدْ تَعَارَضَتِ الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَالْحَقُّ فِيهَا مَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ نَسْخُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: (انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) (9: 41) - (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (9: 39) قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يَقُولُ لِتَنْفِرْ طَائِفَةٌ وَلِتَمْكُثْ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمَاكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إِخْوَانَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلْ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ - فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَعْنِي عُصْبَةً يَعْنِي السَّرَايَا فَلَا يَسِيرُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا وَقَدْ نَزَلَ قُرْآنٌ تَعَلَّمُهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ بَعْدَكُمْ قُرْآنًا وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ، فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يَقُولُ يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُ السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) . فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ آيَاتِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَهُوَ قَدْ يُوَافِقُ إِطْلَاقَ السَّلَفِ فِي النَّسْخِ وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ تَخْصِيصُ الْعَامِّ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا النَّسْخُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّفِيرِ الْخَاصِّ غَيْرُ مَوْضِعِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ. وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) لِلطَّائِفَةِ الَّتِي تَنْفِرُ لِلْغَزْوِ لَا لِلَّتِي تَبْقَى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيَتَفَقَّهَ الَّذِينَ خَرَجُوا بِمَا يُرِيهِمُ اللهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالنُّصْرَةِ، وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَزَعَمَ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ تَتَفَقَّهُ بِمَا تُعَايِنُ مِنْ نَصْرِ اللهِ أَهْلَ دِينِهِ وَأَصْحَابَ رَسُولِهِ عَلَى أَهْلِ عَدَاوَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَيُفَقَّهُ بِذَلِكَ مِنْ مُعَايَنَةِ حَقِيقَةِ عِلْمِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ فَقِهَهُ. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فَيُحَذِّرُوهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ شَاهَدُوا مِمَّنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ (إِذَا) هُمْ (رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) مِنْ غَزْوِهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يَقُولُ لَعَلَّ قَوْمَهُمْ إِذَا هُمْ حَذَّرُوهُمْ مَا عَايَنُوا مِنْ ذَلِكَ يَحْذَرُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَذَرًا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِالَّذِينِ أَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُمُ اهـ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُتَكَلَّفٌ يَنْبُو عَنْهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ ; فَإِنَّ اعْتِبَارَ طَائِفَةِ السَّرِيَّةِ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ لَهَا مِنَ النَّصْرِ - وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَلَا مُطَّرَدٍ - لَا يُسَمَّى تَفَقُّهًا فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْفِقْهِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ هُوَ: التَّعَلُّمُ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّدَرُّجِ وَالْمُتَبَادِرِ مِنَ الدِّينِ عِلْمُهُ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَبْقَوْنَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَزْدَادُونَ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَفِقْهًا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ) (9: 97) وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِيمَا يَنْزِلُ مِنَ السُّورِ فَيَزْدَادُ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا. وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَشْمَلُ السَّفَرَ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا فِي الرِّحْلَةِ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ الِاسْتِفَادَةِ بِالِانْقِطَاعِ لِلْعِلْمِ وَلِقَاءِ أَسَاطِينِهِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ فَضِيلَةَ السِّيَاحَةِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

123

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفِقْهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ بِفُرُوعِ الْأَحْكَامِ، وَحَقَّقْنَاهُ بِشَوَاهِدِ الْآيَاتِ فِي تَفْسِيرِ (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (7: 179) (352 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) . اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْقِتَالِ الَّذِي نَزَلَتْ أَهَمُّ قَوَاعِدِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ هَاهُنَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ الْكَثِيرِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَبَيَّنَّا حِكْمَتَهُ آنِفًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكَفَّارِ) أَيِ الَّذِينَ يَدْنُونَ مِنْكُمْ وَتَتَّصِلُ بِلَادُهُمْ بِبِلَادِكُمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ شُرِعَ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (42: 7) وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (6: 19) أَيْ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَخُصَّ الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أُمِّ الْقُرَى فَقَالَ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (26: 214) . أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الْعَرَبِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَزْوِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قَالَ ((الرُّومُ)) اهـ. يَعْنِي أَنَّ الرُّومَ هُمُ الْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرِهِمُ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فِي تَبُوكَ وَسَائِرِ بِلَادِ الشَّامِ. وَتَرْجِيحُ الْبَدْءِ بِالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبِ مَعْقُولٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَالْحَاجَةِ وَالْإِمْكَانِ وَالسُّهُولَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ فِيهِ عَامَّةً فِي الدَّعْوَةِ وَالْقِتَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَكَذَا مَا يُدَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ الْجَالِسِينَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَالَّذِي يَلِيهِ. وَأَمَرَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَلِيهِ. وَإِنَّمَا تَطَّرِدُ الْقَاعِدَةُ

فِي الْحَالَةِ الْعَادِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَعْرِضُ مِنْ ضَرُورَةٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَلَهُ حُكْمُهُ فَأَحْكَامُ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْآدَابِ. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أَيْ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ شِدَّةً وَخُشُونَةً فِي الْقِتَالِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (73 ج 10) وَالْغِلْظَةُ عَلَى الْمُقَاتِلِينَ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطَّبِيعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَتَنْكِيرُهَا فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِأُولِي الْأَمْرِ أَنْ يُحَدِّدُوهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا عَلَى كَوْنِهَا طَبِيعِيَّةً لِتَقْيِيدِ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي الْأَحْوَالِ الْعَامَّةِ مِنَ الرِّفْقِ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ فِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَأَمْرُ الْقِتَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَقَدْ حَرَّمَ فَظَائِعَهَا الْإِسْلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ بَلَغَتْ فَظَائِعُهَا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُخْشَى أَنْ يُفْضِيَ إِلَى تَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ كُلِّهِ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) لَهُ فِي مُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ، وَأَهَمُّهَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ، مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْغَلَبِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ، وَالَّتِي تُعْرَفُ بِالْعِلْمِ وَالتَّجَارِبِ، كَإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ، وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالطَّاعَةِ وَالنِّظَامِ، وَتَرْكِ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مَعْنَى التَّقْوَى وَأَنْوَاعِهَا وَاخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنْهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا فِي تَفْسِيرِ (8: 29 ص 538 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) . (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ آخِرُ مَا نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَتَأْثِيرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَإِخْبَارِ اللهِ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.

124

(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، كَلِمَةُ ((مَا)) بَعْدَ ((إِذَا)) تُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِمَضْمُونِ شَرْطِهَا، يَعْنِي وَإِذَا تَحَقَّقَ إِنْزَالُ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) أَيْ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَسَاءَلُ مَعَ إِخْوَانِهِ لِلِاخْتِبَارِ أَوْ مَعَ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلتَّشْكِيكِ، قَائِلًا: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ إِيمَانًا؟ أَيْ يَقِينًا بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فِيهَا مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْجَازِ الْعَامَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَالسُّؤَالُ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَخُضُوعِ الْوِجْدَانِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، لَا مُجَرَّدُ اعْتِقَادِ صِدْقِ الْخَبَرِ، الَّذِي يُقَابِلُهُ اعْتِقَادُ كَذِبِهِ، فَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ كُفْرًا أُولَئِكَ الْمُصَدِّقُونَ الْجَاحِدُونَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِ فِيهِمْ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (6: 33) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلْنَاهُ يَزِيدُ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ وَنَاهِيكَ بِمَنْ يَحْضُرُ نُزُولَهُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَكَذَا يَزِيدُ بِتِلَاوَتِهِ وَبِسَمَاعِهِ مَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا ثَبَاتًا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَقُوَّةِ إِذْعَانٍ، وَصِدْقِ وِجْدَانٍ، وَرَغْبَةً فِي الْعَمَلِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ بِزِيَادَةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِفَتِهِ مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ وَاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ. وَفِي مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَفِي أَثَرِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الرَّبِّ. وَإِنَّمَا يَتَسَاءَلُ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَفْقِدُونَهُ، وَإِنَّمَا غَيْرُهُ تَابِعٌ لَهُ. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُسَرُّونَ بِنُزُولِهَا وَتَسْتَدْعِي زِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمُ الْبُشْرَى وَالِارْتِيَاحَ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَثَرِ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أَيْ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ. يَدْعُو إِلَى النِّفَاقِ بِإِسْرَارِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أَيْ كُفْرًا وَنِفَاقًا مَضْمُومًا إِلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ أَقْذَرُ الرِّجْسِ النَّفْسِيِّ وَشَرُّ أَنْوَاعِهِ (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَاسْتَحْوَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَرَسَخَ فِيهِمْ. فَكَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَسَيَمُوتُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْكُفْرِ. وَهَاكَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) الِاسْتِفْهَامُ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَالْمَعْنَى: أَيَجْهَلُونَ

126

هَذَا وَيَغْفُلُونَ عَنْ حَالِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ مِنْ تَكْرَارِ الْفُتُونِ وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَنْفُسِ لِلْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ، وَمِنْ إِنْبَاءِ اللهِ رَسُولَهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَضِيحَتِهِمْ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فَصَّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ بَعْضَهُ فِي غَيْرِهَا - وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ ((أَوَلَا تَرَوْنَ)) عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ يُرَوِّعُهُمُ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَتَعْجَبُونَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوأَى وَلَا تَرَوْنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا مِنْ فِتْنَتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْهَبَ بِشَكِّهِمْ وَيَشْفِيَ مَرَضَ قُلُوبِهِمْ، مِنْ آيَاتِ اللهِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ: (ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ثُمَّ تَمُرُّ الْأَعْوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ بُرْهَانٍ عَلَى انْطِفَاءِ نُورِ الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟ إِنْ كَانَ وَرَاءَهُ بُرْهَانٌ أَقْوَى مِنْهُ فَهُوَ أَنَّهُمْ يَفِرُّونَ مِنَ الْعِلَاجِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْفِيَهُمْ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ مَا أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكُونُونَ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِ سُورَةٍ، وَمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لَهَا، وَمَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِهِمْ إِذَا بَلَغَهُمْ نُزُولُ سُورَةٍ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ تَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأُولَى تَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَمَنْ بَلَّغَ عَنْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِمَوْضُوعِهَا لَا بِطَرِيقَةِ الْعِلْمِ بِهَا، وَإِنَّ هَذِهِ أَدَلُّ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِي رُجُوعِهِمْ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِهَا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْنَعُونَهُ مِنْ تِلَاوَتِهِ عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَهْتَدُوا بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِسْكَاتِهِ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِهِ وَلَغَوْا فِيهِ. وَمَنَعُوا صَاحِبَهُ الصِّدِّيقَ أَيْضًا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ مِنْ مَسْجِدِهِ الْخَاصِّ لَمَّا رَأَوُا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ يَجْتَمِعُونَ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ وَيَتَأَثَّرُونَ بِخُشُوعِهِ فِيهِ. يَقُولُ: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ تَسَارَقُوا النَّظَرَ، وَتَغَامَزُوا بِالْعُيُونِ، عَلَى حِينِ تَخْشَعُ أَبْصَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَنْحَنِي رُءُوسُهُمْ، وَتَجِبُ قُلُوبُهُمْ، وَتَرَامَقُوا بِالْعُيُونِ يَتَشَاوَرُونَ فِي الِانْسِلَالِ مِنَ الْمَجْلِسِ خُفْيَةً لِئَلَّا يَفْتَضِحُوا بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْوَحْيِ، قَائِلًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْعِبَارَةِ: (هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَحْنُ انْصَرَفْنَا كَارِهِينَ لِسَمَاعِهَا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا إِلَى مَجَامِعِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ تَرَاخِي فِعْلِهِمْ عَنْ وَقْتِ قَوْلِهِمْ، إِلَى سُنُوحِ فُرْصَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُمْ وَلَوْ أَفْرَادًا، فَكُلَّمَا لَمَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَفْلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ انْصَرَفَ (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ وَالْخَبَرَ، لِأَنَّ مَضْمُونَهَا النِّهَائِيَّ فِي

127

كَلَامِ اللهِ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا. وَالْمَعْنَى صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْقُرْآنِ، الْمُرْشِدَةِ إِلَى آيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ سَبَبُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَقَدُوا صِفَةَ الْفَقَاهَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيهَا، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا، وَمُوَافَقَتِهَا لِلْعَقْلِ، وَهِدَايَتِهَا إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَنْفُسَهُمْ أَعْدَاءً وَخُصُومًا لِلرَّسُولِ، فَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا تَأَمُّلٍ فِيهِ: أَمَعْقُولٌ أَمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ أَحَقُّ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ؟ أَهُدًى أَمْ ضَلَالٌ؟ أَنَافِعٌ أَمْ ضَارٌّ؟ فَأَنَّى يُرْجَى لَهُمْ وَهَذِهِ حَالُهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا بِتَعَدُّدِ نُزُولِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ؟ إِنَّمَا مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّتِي جَرَوْا عَلَى نِظَامٍ تَعْلِيمِيٍّ وَتَرْبِيَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ فِي عَصَبِيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَارْتِبَاطِ مَنَافِعِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ بِهَا، لَقَّنَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُوجَدُ دِينٌ اسْمُهُ الْإِسْلَامُ بُنِيَ أَسَاسُهُ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ لِذَاتِكُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَنْظُرُوا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَحْثِ عَنْ مَطْعَنٍ وَلَوْ مُتَكَلَّفٍ تَلْمِزُونَهُ بِهِ، وَلَا تُفَكِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالِ أَهْلِهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا لِلْعَدَاوَةِ وَالتَّحْقِيرِ لَهُمْ، وَتَدْبِيرِ الْمَكَايِدِ لِلْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا ظَهَرَ لَكُمْ شَيْءٌ حَسَنٌ مِنْ دِينِهِمْ فَوَجِّهُوا كُلَّ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَبَلَاغَتِكُمُ الْكَلَامِيَّةِ إِلَى تَشْوِيهِهِ وَذَمِّهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ، وَهَذَا مَا يَفْعَلُهُ رِجَالُ الْكَنَائِسِ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْآيَاتِ الْخِلَافُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ، عَلَى مَذْهَبَيْنِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَغْرَبِ مَسَائِلِ عَصَبِيَّاتِ الْمَذَاهِبِ عِنْدَ النُّظَّارِ الْجَدَلِيِّينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ لِبَحْثِ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِاعْتِقَادِهِ الدُّخُولُ فِي الْمِلَّةِ هَلْ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فِي ذَاتِهِ؟ أَمِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُتَعَلِّقُ الْإِيمَانِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ؟ وَاسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَهِيَ نَظَرِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَرَ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِيهَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ هَذَا بَدِيهِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ الْمُنَافِقُونَ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ صَرِيحَةٌ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي صَرَّحَ فِيهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَجِّي مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ كَالذَّرَّةِ أَوِ الْخَرْدَلَةِ مِنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَمَسُّ لِأَهْلِهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ شَيْءٌ، كَالَّذِينِ وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (8: 2) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (49: 15) إِلَخْ.

128

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ لَهُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْيَقِينُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (2: 4) وَهُوَ دَرَجَاتٌ: مِنْهَا التَّقْلِيدُ الْجَازِمُ، وَمِنْهَا الْمَعْلُومُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا الشَّكُّ وَالزَّوَالُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تُصُوِّرَ ارْتِدَادُ مُؤْمِنٍ عَنْ دِينِهِ، وَمِنْهَا مَا يَصِيرُ وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، وَالنُّورِ الْإِلَهِيِّ، بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْبُرْهَانِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَذَا مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كَذَا، فَهُوَ هُوَ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَلَكِنَّهُ نَادِرُ الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ فِي وَصْفِهِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِهِ، وَفِي تَرَتُّبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ. وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ تَرَى شَبَحًا فِي سُدْفَةِ الْفَجْرِ فَتَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ فِي انْتِصَابِ قَامَتِهِ ثُمَّ تَزْدَادُ عِلْمًا بِهِ كُلَّمَا انْتَشَرَ الضِّيَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ تَفْصِيلِيًّا. وَالْبُرْهَانُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُفِيدُ لِهَذَا الْيَقِينِ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ النَّظَرِيَّةُ فِي دَرَجَةِ الضَّرُورِيَّاتِ قُوَّةً وَثَبَاتًا. وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْيَقِينَ إِلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: عِلْمِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَشْفِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالذَّوْقِ وَالْوِجْدَانِ. وَمَثَّلَ لَهَا بَعْضُهُمْ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْمَوْتِ، فَكُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ، فَإِذَا عَايَنَ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ عِنْدَ الْحَشْرَجَةِ وَقَبْلَ قَبْضِ الرُّوحِ كَانَ عَيْنَ الْيَقِينِ، فَإِذَا مَاتَ بِالْفِعْلِ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ حَقِّ الْيَقِينِ، لَكِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ وَمَا قَبْلَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا التَّكْلِيفُ. (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) . خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ. وَبَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّورَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يُعَارِضُهُ، وَسَنُحَقِّقُ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ.

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْعَرَبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) (62: 2) فَالْمِنَّةُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمِهِ أَعْظَمُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ أَنْهَضُ، وَأَخَصُّ قَوْمِهِ بِهِ قَبِيلَتُهُ قُرَيْشٌ، فَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ الْعَرَبُ لَمَا آمَنَ الْعَجَمُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (7: 158) وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ دَعْوَتَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَالْعَرَبُ آمَنُوا بِدَعْوَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ، الْعَرَبُ آمَنُوا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْعَمَلِ، وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي شَخْصِهِ، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ وَمَا شَاهَدُوا مِنْ عَدْلِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، ثُمَّ بِدَعْوَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا يَأْتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ التَّالِيَةِ (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) (10: 2) إِلَخْ، وَلَكِنَّ آيَةَ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ هَذِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي كَوْنِ الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ اللهِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ جَمِيعِ كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَآيَةُ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي امْتِنَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَصَمِيمِ قَوْمِهِمْ، لِتَأْيِيدِ الْحُجَّةِ بِالْمِنَّةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ كُلِّ قَوْمٍ حُبَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (43: 44) أَيْ شَرَفٌ لَكَ وَلَهُمْ، تُذْكَرُونَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، وَيُدَوَّنُ لَكُمْ فِي التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا قَاوَمَهُ وَعَانَدَهُ أَكَابِرُ قَوْمِهِ حَتَّى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَنَفَةً وَاسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ، وَلِمَا يَتَضَمَّنُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِكُفْرِهِمْ وَكُفْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِفَوْزِهِ وَبِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بِمَسَافَاتٍ تُطَاوِلُ السَّمَاءَ رِفْعَةً وَشَرَفًا، دَعْ مَا هُوَ فَوْقَ مَجْدِ الدُّنْيَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَخِرُونَ بِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، بِأَكْثَرَ مِمَّا يُبِيحُهُ دِينُهُ لَهُمْ، حَتَّى صَارَ أَقْرَبُهُمْ يَتَّكِلُ عَلَى نَسَبِهِ فَيُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ أَكَّدَ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ الْخَاصَّةَ بِوَصْفِهِ هَذَا الرَّسُولَ بِقَوْلِهِ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَخْ. الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَلِقَاءُ الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ، وَقَيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَعَزَّ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ: ثَقُلَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنَفَةِ عَنْهُ، وَ ((مَا)) مَصْدَرِيَّةٌ - أَيْ شَدِيدٌ عَلَى طَبْعِهِ وَشُعُورِهِ الْقَوْمِيِّ عَنَتُكُمْ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دُنْيَاهُمْ أُمَّةً ضَعِيفَةً ذَلِيلَةً يُعْنِتُهَا أَعْدَاؤُهَا بِسِيَادَتِهِمْ عَلَيْهَا وَتَحَكُّمِهِمْ فِيهَا، وَلَا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) الْحِرْصُ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ

بِحِفْظِ الْمَوْجُودِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرِيصًا عَلَى اهْتِدَاءِ قَوْمِهِ بِهِ بِإِيمَانِ كَافِرِهِمْ وَثَبَاتِ مُؤْمِنِهِمْ فِي دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) (16: 37) الْآيَةَ وَقَالَ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (12: 103) (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أَيْ شَدِيدُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْعَوَاطِفِ السَّامِيَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَصِّ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَرْحَمُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَرْأَفُ، وَكُلُّ شَاقٍّ مِنْهَا كَالْجِهَادِ فَهُوَ مَنْجَاةٌ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الشَّاقِّ مِنْهَا يُبَالِغُ حَدَّ الْعَنَتِ، لِلْقَطْعِ فِي هَذَا الدِّينِ بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ. وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى، وَسَمَّاهُ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، بَعْدَ وَصْفِهِ بِوَصْفَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ نُعُوتِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْأُمَمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَفِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَجَعَلَهُمَا بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّأْفَةَ أَخَصُّ، لَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَالرَّحْمَةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ. وَقَالَ أُسْتَاذُنَا: إِنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، اخْتِيَارًا لِقَوْلِ الرَّازِيِّ (ص 11 ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَكَانِ الضَّعْفِ وَالشَّفَقَةِ وَالرِّقَّةِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَفَ بِوَلَدِهِ وَتَرَأَّفَ بِهِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّحِيمِ هُوَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: رَءُوفٌ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ، وَرَحِيمٌ بِهِمْ كُلِّهِمْ. وَتَخْصِيصُ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ - لَا يُعَارِضُ كَوْنَ رِسَالَتِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مَبْذُولَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (9: 73) أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْأَدَبُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (3: 159) . وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْآيَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قَالَ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضَرِيِّهَا وَرَبِيعِيِّهَا وَيَمَانِيِّهَا، يَعْنِي أَنَّ نَسَبَهُ مُتَشَعِّبٌ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا. وَعَنْهُ فِي (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) قَالَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أَنْ يُؤْمِنَ كُفَّارُكُمْ. وَمِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الْآيَةِ قِرَاءَةُ ((أَنْفَسِكُمْ)) بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَاسَةِ، رَوَاهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، وَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا أَنَّ الْمَعْهُودَ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنَّ النَّفِيسَ وَالْأَنْفَسَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ لَا الْأَشْخَاصُ.

129

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ أُمَّةِ الرَّسُولِ أَوْ قَوْمِهِ الَّذِينَ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَجِيئِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَبِفَضَائِلِهِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِمْ، إِلَى خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ فِي شَأْنِهِ، يَقُولُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أَيْ هُوَ مُحْسِبِي الَّذِي يَكْفِينِي أَمْرَ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِمْ لِي وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَقَدْ بَلَّغْتَ وَمَا قَصَّرْتَ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ أَلْجَأُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ كَمَا يَلْجَئُونَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْمُنْتَحَلَةِ (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وَحْدَهُ، فَلَا أَكِلُ أَمْرِي فِيمَا أَعْجِزُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَكَيْفَ لَا أَخُصُّهُ بِالتَّوَكُّلِ (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ السُّورَةِ التَّالِيَةِ، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (10: 3) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ " (الْعَظِيمِ) " بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَظَمَةُ الْعَرْشِ بِعَظَمَةِ الرَّبِّ الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ وَعَظَمَةُ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِيهِ، وَعَظَمَتُهُمَا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَفِيمَا دُونَهُ هِيَ الْمَظْهَرُ الْوُجُودِيُّ لِعَظَمَةِ هَذَا الرَّبِّ الَّتِي لَا تُحَدُّ، وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا أَحَدٌ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ، وَكَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرُهُ بِالدُّعَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِ، وَيُرَاجَعُ هُنَا تَفْسِيرُ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) (8: 64) (فِي ص 63 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَرْشَ هُنَا بِالْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَجَوُّزًا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَا مُسَوِّغَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ فِي كُلِّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا اللَّفْظُ، وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَبْلَغُ مِنْهُ وَأَعَمُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَزِيَادَةٍ ; إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ عَرْشٌ حَقِيقِيٌّ هُوَ الْمَرْكَزُ الْوَحِيدُ لِتَدْبِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ، فَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَعَلَى وَحْدَةِ النِّظَامِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَلَفْظُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْخَلَلِ فِيهِ، وَكَوْنُ تَدْبِيرِهِ لَيْسَ لَهُ مَرْجِعُ وَحْدَةٍ تَكْفُلُ النِّظَامَ، وَتَمْنَعُ الْخَلَلَ وَالْفَسَادَ، وَنُظَّارُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرُوهُمْ يَتَأَوَّلُونَ الْعَرْشَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَيْهِ فِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ بِزَعْمِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي وَصْفِ الْعَرْشِ وَمَادَّتِهِ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ. وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَسْأَلَتَيْنِ ذُكِرَتَا فِي تَفْسِيرِهِمَا الْمَأْثُورِ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا حَقَّقَهُمَا: (الْأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي كِتَابَةِ الْآيَتَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَ) إِنَّ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي دَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ

فِي أَوَّلِ زَمَنِ الْبَعْثَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَ الْبَدْءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ ابْنَ أَبِي الْفَرَسِ قَالَ: إِنَّهُمَا مَكِّيَّتَانِ، وَأَنَّهُ يَرُدُّ قَوْلَهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ هُنَالِكَ أَصَحَّ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ أَبِي الْفَرَسِ هُوَ الْوَجِيهُ مِنْ جَانِبِ الْمَعْنَى، فَهُوَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ فَقَدْ أُخْرِجَ فِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ (مِنْهَا) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ: أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي لَفْظٍ أَنَّ آخِرَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَخِ الْآيَةَ (وَمِنْهَا) عَنِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللهِ - وَفِي لَفْظٍ بِالسَّمَاءِ - هَاتَانِ الْآيَتَانِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (وَمِنْهَا) مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْهُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ رِجَالٌ يَكْتُبُونَ وَيُمِلُّ عَلَيْهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ 127 مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَقْرَأَنِي بَعْدَ هَذَا آيَتَيْنِ " (لَقَدْ جَاءَكُمْ) " إِلَى " (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) " قَالَ: فَخَتَمَ الْأَمْرَ بِمَا فَتَحَ بِهِ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ اهـ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا صَحَّ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَالصَّحِيحُ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ السُّورِ سُورَةُ النَّصْرِ، وَمِنَ الْآيَاتِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (2: 281) كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحِلِّهِ. وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ الَّذِي كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ قَالَ: حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَى آخِرِهِمَا اهـ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُمَا مَكْتُوبَتَيْنِ عِنْدَمَا جَمَعَ الْمَكْتُوبَ فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا عِنْدَ خُزَيْمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَهِيَ أَرْجَحُ كَمَا سَيَأْتِي، إِلَّا أَنْ تَكُونَا وُجِدَتَا عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَكَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ لِلْكَثِيرِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَتَى الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ بَرَاءَةَ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إِلَى عُمَرَ فَقَالَ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي وَاللهِ إِلَّا أَنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ

رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَعَيْتُهُمَا وَحَفِظْتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ، فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَأَلْحِقُوهَا بِهَا، فَأُلْحِقَتْ فِي آخِرِ بَرَاءَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِهِمَا عُمَرَ، فَقَالَ: لَا أَسْأَلُكَ عَلَيْهَا بَيِّنَةً أَبَدًا كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ جَاءَ عُثْمَانَ حِينَ تَصَدَّى لِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَرَكْتُمْ آيَتَيْنِ لَمْ تَكْتُبُوهُمَا، فَقَالُوا مَا هُمَا؟ قَالَ تَلَقَّيْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَأَيْنَ تَرَى أَنْ نَجْعَلَهُمَا؟ قَالَ اخْتِمْ بِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَخُتِمَتْ بِهِمَا بَرَاءَةُ. فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِمَا، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمَا آخِرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمَا وُضِعَتَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ قَطْعًا لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ التَّوْقِيفَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ فِي مَوْضِعِهِمَا أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مَكِّيَّتَانِ. وَلَمْ تَصِحَّ لِجَمَاعَةِ جَامِعِي الْمُصْحَفِ رِوَايَةٌ بِكِتَابَتِهِمَا فِي إِحْدَى السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَلَكِنْ وُجِدَتَا عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ فِي آخِرِ بَرَاءَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ مَعَ آخَرِينَ، وَكَانَ عُمَرُ يَحْضُرُهُمْ وَهُمْ يَكْتُبُونَ قَالَ: فَوَجَدْتُ آخِرَ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ. بِالشَّكِّ وَهُوَ مِنَ الرَّاوِي لَا مِنْ زَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَعَ خُزَيْمَةَ وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ آخِرَ التَّوْبَةِ وُجِدَ عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ، وَأَمَّا الَّذِي وُجِدَ مَعَ خُزَيْمَةَ فَهُوَ آيَةُ الْأَحْزَابِ، وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَتِهَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فُقِدَتْ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (33: 23) . قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَعْتَمِدُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حِفْظِهِ. لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ اكْتَفَى مَعَ ذَلِكَ بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَقَدَهُ فَقْدَ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً، لَا فَقْدَ وُجُودِهَا مَحْفُوظَةً، بَلْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ ((فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ)) كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ اهـ وَأَقُولُ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا كُنْتُ أَفْهَمُهُ دُونَ

غَيْرِهِ، وَأُجِيبَ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْهُ مُسْتَشْكِلًا. فَقَوْلُ الْحَافِظِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ إِلَخْ. كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ: وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَطْعُ بِهِ كَذَا، وَحَسْبُكَ دَلِيلًا عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْبَحْثَ كَانَ عَمَّنْ كَتَبَهَا فَقَطْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ وَمَكْتُوبَتَيْنِ وَمَعْرُوفَتَيْنِ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الْجَمْعِ فِي مَوْضِعِ كِتَابَتِهِمَا حَتَّى شَهِدَ مَنْ شَهِدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي وَضَعَهُمَا فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ وِفَاقًا لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَحَدُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُرَتَّبًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَكَانَ عَدَدُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَوْضِعِهِمَا قَلِيلًا، فَلَمَّا كُتِبَتَا فِي الْمَصَاحِفِ وَافَقَ الْجَمِيعُ عَلَى وَضْعِهِمَا هَاهُنَا. وَلَمْ يُرْوَ أَيُّ اعْتِرَاضٍ عَلَى ذَلِكَ عَمَّنْ كَتَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَصَاحِفَ اعْتَمَدُوا فِيهَا عَلَى حِفْظِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. بَقِيَ الْبَحْثُ فِي حِكْمَةِ وَضْعِهِمَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَمَوْضُوعُهُمَا مَكِّيٌّ، يُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الْخِطَابِ فِيهِمَا لِقَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ وَمَا هُمَا بِأَوَّلِ مَا وُضِعَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ لِمُنَاسَبَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفِيدَا بِمَوْضِعِهِمَا صِحَّةَ الْخِطَابِ بِهِمَا لِكُلِّ مَنْ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، كَمَا دَلَّ مَوْضُوعُهُمَا وَنُزُولُهُمَا بِمَكَّةَ - كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَرَسِ - عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ فِيهِمَا لِقَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ. وَيَكُونُ مَا قُلْنَاهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. (طَهَارَةُ نَسَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلُ قَوْمِهِ وَاصْطِفَاؤُهُ مِنْ خِيَارِهِمْ) مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ مَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي طَهَارَةِ نَسَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ فَضْلِ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَعِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)) وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا لِمَعْنَى هَذَا الِاصْطِفَاءِ بِمَ كَانَ؟ وَقَدْ وَفَّقَنِي اللهُ لِاسْتِنْبَاطِهِ مِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ، وَبَيَّنْتُهُ فِي الْمَنَارِ وَفِي خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ حِكْمَةِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَبِالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِالدِّينِ الْعَامِّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ جَهَالَةُ الْبَدْوِ، وَبَعْدَ عَهْدِهِمْ بِمَا سَبَقَ لِأُمَّتِهِمْ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْ بَعْضِ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْقَرِيبَةِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَيَلِيهِ السُّؤَالُ عَنْ مَزِيَّةِ كِنَانَةَ فِي الْعَرَبِ

مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِينَ امْتَازُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ مِمَّنِ اصْطَفَى اللهُ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَنْ مَزِيَّةِ قُرَيْشٍ فِي بَنِي كِنَانَةَ، وَفَضْلِ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ خُلَاصَةُ مَا بَيَّنْتُهُ فِي فَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، الَّذِي أَعَدَّهُمْ بِهِ اللهُ لِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، بِالدِّينِ الْعَامِّ الْبَاقِي هِيَ: أَنَّ جَمِيعَ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا كَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ غَرَائِزُهَا وَأَخْلَاقُهَا الْفِطْرِيَّةُ، وَعَقَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَآدَابُهَا التَّقْلِيدِيَّةُ، بِفَسَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيهَا، وَتَعَاوُنِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْبَادِهَا وَاسْتِذْلَالِهَا لَهُمَا، وَتَسْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ لَذَّاتِهِمَا وَتَشْيِيدِ صُرُوحِ عَظَمَتِهِمَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ بِالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْكَهَنَةُ وَالْأَحْبَارُ وَالْقُسُوسُ الْخُضُوعَ لَهَا، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَدْنَى رَأْيٍ أَوِ اخْتِيَارٍ أَوْ فَهْمٍ فِيهَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يَضَعُ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ، وَبِتَحَكُّمِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ قَانُونٍ وَلَا نِظَامٍ أَيْضًا، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ كَانَتْ مُرْهَقَةً مُسْتَعْبَدَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا إِلَّا الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ رِيَاسَةُ حُكْمٍ اسْتِبْدَادِيَّةٌ تَسْتَذِلُّهُمْ وَتُفْسِدُ بَأْسَهُمْ وَتَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُونَ، وَلَا رِيَاسَةٌ دِينِيَّةٌ تَقْهَرُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ تَقَالِيدَ لَا يَعْقِلُونَهَا بَلْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الْحُرِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ فَبِحُرِّيَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَبِاسْتِقْلَالِ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلنُّهُوضِ بِمَا اعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ وَصَلَاحَهُ وَخَيْرِيَّتَهُ، وَلِإِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِمْ، وَنَشْرِهِ فِي غَيْرِهِمْ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، دُونَ تَحَكُّمِ رَئِيسٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ ; فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّادِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِذْعَانِ لِلشَّرْعِ، وَمَا تَضَعُهُ الْأُمَّةُ لِنَفْسِهَا مِنَ النِّظَامِ بِالشُّورَى بَيْنَ مُمَثِّلِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، حَتَّى فَرَضَ اللهُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَاوَرَتَهَا فِي أُمُورِهَا، وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي صِيغَةِ مُبَايَعَةِ نِسَائِهَا لَهُ: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) (60: 12) وَبِهَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ كَالنِّسَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ. وَأَمَّا كِنَانَةُ فَقَدْ كَانَ أَشْهَرَ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكَرَمِ وَالنُّبْلِ، حَتَّى كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ إِلَيْهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنْهُ حِكَمًا رَائِعَةً، وَكَفَى بِهَذَا اصْطِفَاءً عَلَيْهِمْ، وَامْتِيَازًا فِيهِمْ. وَأَمَّا امْتِيَازُ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ مُتَوَاتَرٌ، وَأَهَمُّهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ كَانَ أَكْمَلَ فِيهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ خَضَعُوا لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ خُضُوعًا مَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْرَحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَنْسَابًا، وَأَشْرَفَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَعْلَاهُمْ آدَابًا، وَأَفْصَحَهُمْ أَلْسِنَةً، وَهُمُ الْمُمَهِّدُونَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ الْعَامَّةِ، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ (قُصَيٌّ) جَمِيعَ قَبَائِلِهِمْ بِمَكَّةَ، وَاسْتَقَلُّوا بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّفَادَةِ - وَهِيَ إِسْعَافُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ -

وَأَسَّسُوا دَارَ النَّدْوَةِ لِأَجْلِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَكَانُوا أَعْرَفَ الْعَرَبِ بِبُطُونِ الْعَرَبِ فِي جَمِيعِ جَزِيرَتِهِمْ بِمَا كَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَغْنَى الْعَرَبِ أَيْضًا وَأَشْرَفَهُمْ بِلَا مُنَازِعٍ، وَنَاهِيكَ بِمَا عَقَدُوا مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ فِي حَدَاثَةِ سَنِّ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَاقَدُوا أَوْ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ إِلَى أَنْ تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ. وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَأُمِّ هَانِئٍ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ وَتَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، ((فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ: فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُ اللهَ إِلَّا قُرَشِيٌّ (أَيْ لَا يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا قُرَشِيٌّ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (أَيْ نَصَرَهُمْ عَلَى قُوَّةٍ تَفُوقُ قُوَّتَهُمْ كَثِيرًا بِمَا يُشْبِهُ نَصْرَهُ لِرُسُلِهِ فِي كَوْنِهِ بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ كَسْبِيٍّ يَقْرُبُ مِنِ اسْتِعْدَادِ عَدُوِّهِمْ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ وَهِيَ: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) (106: 1) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ وَالْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ)) وَأَمَّا اصْطِفَاؤُهُ تَعَالَى لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَدْ كَانَ بِمَا امْتَازُوا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ، فَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ هَاشِمٌ هُوَ صَاحِبَ إِيلَافِ قُرَيْشٍ الَّذِي أَخَذَ لَهُمُ الْعَهْدَ مِنْ قَيْصَرِ الرُّومِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنْ حُكُومَةِ الْيَمَنِ فِي رِحْلَةِ الشِّتَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَوْسِمِ الْحَجِّ كَافَّةً، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيْهِ فِي السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ كَانُوا أَكْرَمَ قُرَيْشٍ أَخْلَاقًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْأَثَرَةِ، وَلَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ فِي حَسَدِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا. . . حَتَّى إِذَا زَاحَمْنَاهُمْ بِالْمَنَاكِبِ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ. فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَارَاةِ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْفَضَائِلِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ أَحَدٌ فِي بَلَاغَتِهِ وَلَا هِدَايَتِهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ مَنْ كَانُوا أَشْهَرَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مِنْهُمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ لِهَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَيُرَاجَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ فِي شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَبَقِيَ تَلْخِيصُ مَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَآدَابِهِ وَسُنَنِ اللهِ فِي ذَلِكَ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَوْفِيقَنَا فِيهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ) .

خُلَاصَةُ سُورَةِ بَرَاءَةَ (التَّوْبَةِ) (وَهِيَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ وَفِيهَا فَصُولٌ) (هَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ نُزُولًا، فَيَقِلُّ فِيهَا ذِكْرُ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَكَذَا أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ - رَاجِعْ مُقَدِّمَةَ خُلَاصَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي ص 105 و106 وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي ص 132 و133 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَشُئُونِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهَا) وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْإِضَافَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى) (1 - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا الْمُكَرَّرُ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكُلٌّ مِنْهَا مَوْضُوعٌ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَاهُ فِي السِّيَاقِ أَوِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الْعَامَّةُ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَكْرَارِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهِيَ تَذْكِيرُ تَالِي الْقُرْآنِ وَسَامِعِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ وَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي يُثْمِرُ لَهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمِهِ وَحُبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، أَوْ خَالَفَ حِكْمَتَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِكْمَالِ الْإِيمَانِ، وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْإِنْسَانِ (فَرَاجِعْهُ فِي 106 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَمِمَّا وَرَدَ فِيهَا فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (9: 78) وَقَوْلُهُ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (9: 16) وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يُجَدِّدُ فِي الْقَلْبِ مُرَاقَبَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا وَازِعًا وَرَافِعًا. (2 - الْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمَعِيَّةِ الْعُلْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْغَارِ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (9: 40) وَهِيَ مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، وَالْحِفْظِ

وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ فِي حَالِ الْهِجْرَةِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا، وَمِنْ أَعْظَمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (20: 46) فَرَاجِعْ (ص 369 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (9: 123) وَهَذِهِ مَعِيَّةُ النَّصْرِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهَا: إِنَّهَا مَعِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ تَعَالَى. (3 - الدَّرَجَةُ وَالْعِنْدِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ وَسَكِينَتُهُ تَعَالَى) قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) (9: 20) الْآيَةَ. وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ (ص 198 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) إِنَّهَا حُكْمِيَّةٌ (بِضَمِّ الْحَاءِ) شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ هُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ. وَقَالَ بَعْدَ بِشَارَتِهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْخُلُودِ فِيهَا مِنَ الْآيَةِ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (9: 22) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَالْعِنْدِيَّةُ فِيهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (9: 36) فَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا يُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنِظَامَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَقِيلَ: كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي فِيهِ حُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ فِي الشُّهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (9: 36) إِلَخْ. وَفِي الْآيَةِ (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (9: 52) فَعِنْدِيَّةُ الْعَذَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِفِعْلِهِ تَعَالَى دُونَ كَسْبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ (أَوْ بِأَيْدِينَا) وَالْإِضَافَةُ فِي الْعِنْدِيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلتَّوْقِيفِ وَالتَّعْرِيفِ، وَفِي الْعِنْدِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ لِلتَّشْرِيفِ، وَمِثْلُهَا إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. (4 - حُبُّ اللهِ وَرِضَاهُ وَكُرْهُهُ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ) قَالَ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (9: 7) وَقَالَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (9: 100) وَقَالَ فِي جَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (9: 72) وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ مَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ مَقَامِ الرُّؤْيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ: (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (9: 96) . أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ الْحُبَّ وَالرِّضَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سُوَرٍ أُخْرَى، كَمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْكُرْهَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ) (9: 46) وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى. وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْإِثَابَةِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ لَوَازِمَ الْحُبِّ وَالرِّضَا،

وَبِالْعُقَابِ مِنْ لَوَازِمِ السُّخْطِ وَالْكُرْهِ وَالْغَضَبِ، فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِعَبِيدِهِ الَّذِينَ تُعَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتُ انْفِعَالَاتٍ نَفْسِيَّةً لَهُمْ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ حُبَّ اللهِ تَعَالَى وَكُرْهَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ صِفَاتٌ تَلِيقُ بِهِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَهِيَ لَا تُمَاثِلُ مَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ ذَوَاتِ الْبَشَرِ وَعِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ بِلَا فَرْقٍ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُمَاثِلُ فِي إِدْرَاكِهِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، بَلْ رُوِيَ فِي ثَمَرِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَطْعِمَةِ الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (32: 17) وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَفْسِيرِهِ لَهُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ الِانْفِرَادَ بِهَا دُونَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فَهُوَ أَنَّ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهِمَا، وَكَرَاهَةَ الْبَاطِلِ كَالْكُفْرِ، وَالشَّرِّ كَالظُّلْمِ وَمُجْتَرِحِيهِمَا، كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَحْضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا مَحْضًا فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِأَعْلَى مِمَّا يَكُونُ مِنْهُ لِلْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - فَقَدِ اتَّفَقَ الْعَقْلُ مَعَ النَّقْلِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ بِمَعْنًى أَكْمَلَ مِمَّا هِيَ فِي خِيَارِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ وَضْعُ أَسْمَاءَ لَهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الْفَاصِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (42: 11) فَالتَّنْزِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى السَّالِبَةِ أَزَالَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ التَّشْبِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُوجِبَةِ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّشْبِيهِ. (الْفَصْلُ الثَّانِي) (أَفْعَالُ اللهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ خَلْقِهِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ، لَا يَجْعَلُهُمْ مُجْبَرِينَ بِقُدْرَتِهِ) قَالَ تَعَالَى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (9: 14) الْآيَةَ. يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْجَبْرِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نِحْلَتِهِمْ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُجْبَرِينَ لَكَانَ أَمْرُهُمْ لَغْوًا وَعَبَثًا. وَقَوْلُهُ: (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) مَعْنَاهُ يُعَذِّبُهُمْ بِتَمْكِينِ أَيْدِيكُمْ مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، وَيُؤَكِّدُهُ الْوَعْدُ بَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ

قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (9: 52) . وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (9: 19) وَقَالَ فِي آيَتَيْ 24 و80: (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) . وَقَالَ: (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (9: 37) وَلَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ بِقُدْرَتِهِ فَصَارُوا عَاجِزِينَ عَنْهَا وَمُجْبَرِينَ عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ إِجْبَارًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِكَسْبِهِمْ مُنَافِيَةٌ لِهُدَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ رَاجِعْ (ص 197 و211 و363 و489 فِي ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَنْ تُرْجَى لَهُمُ الْهِدَايَةُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (9: 18) . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ وَطَبَائِعِ الْبَشَرِ قَوْلُهُ فِي خَوَالِفِ الْمُنَافِقِينَ: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (9: 87) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهِمْ: (وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (9: 93) فَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا رِضَاهُمْ بِخُطَّةِ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ. وَهُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ - أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا الَّتِي لَا تُفْقَهُ كُنْهُ حَالِهَا وَلَا تُعْلَمُ سُوءُ مَآلِهَا (ص 509 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ مِنْهُمْ مُتَسَلِّلِينَ مِنْ مَجْلِسِ الْقُرْآنِ: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (9: 127) أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَقَدُوا صِفَةَ الْفَقَاهَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ ; لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيهَا إِلَى آخِرِ مَا فَصَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . وَبِهَذِهِ الْمِرْآةِ تَرَى حَقِيقَةَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (9: 46) وَرَاجِعْهُ (فِي ص 407 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلِهِ (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (9: 67) وَرَاجِعْهُ فِي (ص 460 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) فِي تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهِمَا 1 - تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْعُهُودِ الْمُؤَقَّتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (9: 4 و7) . 2 - تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (9: 5) .

- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِقَوْلِهِ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (9: 6) . 4 - تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ بِقَوْلِهِ (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (9: 12) . 5 - تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ قَبُولِ صَدَقَاتِ الْمُنَافِقِينَ بِفِسْقِهِمْ ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ فِي آيَتَيْ 53 و54. 6 - تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَفِسْقِهِمْ فِي الْآيَةِ 9: 80. 7 - تَرَى تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْآيَةِ 9: 84. 8 - تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَطْهِيرِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِهَا 9: 103. 9 - تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ فِتْنَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ بِأَمَلِ التَّوْبَةِ وَالتَّذَكُّرِ 9: 126. فَيُعْلَمُ مِنْ كُلِّ تَعْلِيلٍ أَنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ مَنْفَعَةُ عِبَادِهِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَخَيْرِهِمْ. سُنَنُهُ تَعَالَى فِي أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَأَقْوَامِهِمْ وَأُمَمِهِمْ: بَيَّنَّا سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَرَتُّبِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ (مِنْهَا) إِخْزَاءُ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى (وَمِنْهَا) نَفْيُ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ 19 و24 و27 و80 (وَمِنْهَا) كَرَاهَتُهُ تَعَالَى انْبِعَاثَ الْمُنَافِقِينَ لِلْقِتَالِ وَتَثْبِيطَهُ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) فِي الْآيَةِ 46 (وَمِنْهَا) طَبْعُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ 87 و93 وَفِي مَعْنَاهُ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ 127 وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَمِنْ بَيَانِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (9: 39) فَبَقَاءُ الْأُمَمِ وَعِزَّتِهَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى قُوَّةِ الدِّفَاعِ الْحَرْبِيَّةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 368 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (9: 47) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 408 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (9: 115) . (الْفَصْلُ الرَّابِعُ) فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ هَذِهِ عِدَّةُ عَقَائِدَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيقَانِ، جُمِعَتْ كُلُّهَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ بِهَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ تَسُوءُهُمْ كُلُّ حَسَنَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَتُفْرِحُهُمْ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّكْبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (9: 51) فَتَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ يُوقِنُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَهُ اللهُ

لَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذَا الْمَكْتُوبَ لَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَعْدُو فِي جُمْلَتِهِ وَعْدَهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ وَالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا بِالْحُسْنَيَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ (أَيْ آيَةِ 52) وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرَهُ وَتَوْفِيقَهُ ; فَهُوَ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، تَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ وِجْدَانَهُ، هَلْ يَخَافُ مِنْ غَيْرِ اللهِ؟ هَلْ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ؟ هَلْ يَمْنَعُهُ أَيُّ خَطْبٍ مِنَ الْخُطُوبِ عَنِ الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَدِّ بِسَاطِ الْبِرِّ وَالْفَضْلِ؟ وَتَصَوُّرْ حَالَ أُمَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى أَفْرَادِهَا مَا ذُكِرَ، أَلَا تَكُونُ أَعَزَّ الْأُمَمِ نَفْسًا، وَأَشَدَّهَا بَأْسًا؟ وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَيَزِيدُهَا رُسُوخًا فِي قَلْبِ تَالِي هَذِهِ السُّورَةِ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (9: 129) فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا وَيُطَالِبَ نَفْسَهُ بِالتَّحَقُّقِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ بِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يَحْتَقِرُ بِهِ خَسَائِسَ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَكَالَبُ الْمَادِّيُّونَ عَلَيْهَا، وَيَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا إِذَا فَاتَهُمْ أَوْ أَعْيَاهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى ((حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 129. الْبَابُ الثَّانِي (فِي مَكَانَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِنْدَ رَبِّهِ وَفِي هِدَايَةِ دِينِهِ وَحُقُوقِهِ عَلَى أُمَّتِهِ) وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي اقْتِرَانِ اسْمِهِ بَاسِمِ رَبِّهِ وَحَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ) وَفِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا (1 و2) افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (9: 3) إِلَخْ فَقَرَنَ تَعَالَى اسْمَ نَبِيِّهِ بِاسْمِهِ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا. (3) قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْآيَةِ (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (9: 16) أَيْ دَخِيلَةً وَبِطَانَةً مِنْ غَيْرِهِمْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا أَشْرَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِمْ فِي وِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ دُونِ أَعْدَائِهِمْ، وَيَضُرُّهُمْ

أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَلَائِجُ وَدَخَائِلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. دُونَ مَا قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعٌ، هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغٌ وَتَنْفِيذٌ: هَمَّا حَقُّ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَهْدِهِ، وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (9: 24) فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَشْرُوطًا بِتَفْضِيلِ حُبِّ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُحَبُّ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْنَى حَقٍّ وَلَا شَرِكَةَ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِبَادَتِهِ. (5) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ شَرَعَ قِتَالَهُمْ مِنَ الْآيَةِ (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) (9: 29) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ((رَسُولَهُ)) فِي الْآيَةِ هُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُفَسِّرِينَ يُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَسُولُهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْيَهُودِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّصَارَى. وَهَلِ الْعَطْفُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَعْطَاهُ اللهُ حَقَّ التَّحْرِيمِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ حَظُّهُ مِنْهُ التَّبْلِيغُ عَنِ اللهِ تَعَالَى نَصًّا وَلَوْ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ أَوِ اسْتِنْبَاطًا؟ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي التَّشْرِيعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الدِّينِيِّ الْمَحْضِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَعَلُوا مِنْهُ تَحْرِيمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَخْ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الثَّانِي وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالتَّفْصِيلِ. (6) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَبَبِ مَنْعِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْآيَةِ (أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) (9: 54) وَمِثْلُهُ فِي سَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَةِ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (9: 80) وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّى يُعْرَفُ اللهُ وَمَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ؟ (7) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ لَمَزُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْ عَابُوهُ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَكَانُوا يَرْضَوْنَ إِذَا أُعْطَوْا وَيَسْخَطُونَ إِذَا مُنِعُوا: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولِهِ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ) (9: 59) وَالْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ اسْمِ اللهِ وَاسْمِ رَسُولِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الرِّضَاءُ بِمَا آتَيَا وَأَعْطَيَا بِالْفِعْلِ وَالثَّانِي الرَّجَاءُ فِيمَا يُؤْتِيَانِ مِنْ بَعْدُ، فَأَمَّا الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ وَيُنْعِمُ بِالْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ الَّذِي شَرَعَ قِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَجَعَلَ خُمْسَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالَّذِي فَرَضَ

فِيهَا مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الْقَاسِمُ لِلْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ بِإِعْطَائِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بِالْفَضْلِ. وَفِيهَا مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَمَا لَهُ وَلِلرَّسُولِ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُحْسِبَ الْكَافِيَ لِلْعِبَادِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا أَرْشَدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: (حَسْبُنَا اللهُ) وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي الْإِيتَاءِ، وَ (ثَانِيهِمَا) أَنَّ تَوَجُّهَ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يَرْغَبُهُ وَيَرْجُوهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ: (إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ) (9: 59) وَمِنْهُ (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (94: 8) أَيْ دُونَ غَيْرِهِ (رَاجِعْ ص 241 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (8) قَوْلُهُ تَعَالَى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) (9: 62) فَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ - تَحَرِّي الْمُؤْمِنِ إِرْضَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى وَإِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَاتِهِمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ التَّابِعَةِ الْأُولَى ; ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُرْضِي رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْضِيهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يُرْضِي بَعْضُهُمْ مَا لَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ لِجَهْلِهِ بِمَا يُرْضِيهِمَا أَوْ غَفْلَتِهِ عَنْهُ أَوِ اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِيهِ. وَمِنْهُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رُبَّمَا كَانُوا يُصَدِّقُونَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَمَّا اتُّهِمُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ بَاطِنِ أَمْرِهِمْ وَمَا أَعْلَمَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (9: 96) . (9) قَوْلُهُ (تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) (9: 63) الْآيَةَ هَذِهِ مُقَابِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَإِنَّ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ أَيْ يُعَادِيهِ يُعَادِي رَسُولَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ يُرْضِي أَحَدَهُمَا يُرْضِي الْآخَرَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْجَزَاءُ وَاحِدًا. (10) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي مَسْأَلَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَيَهْزَءُونَ بِمُحَاوَلَةِ غَزْوِ الرُّومِ وَرَجَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَبِمَا كَانَ وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِمُلْكِهِمْ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (9: 65) فَحُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِهِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَعَدَ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ وَأَمَرَهُ بِالْغَزْوِ، وَرَسُولُهُ إِنَّمَا بَلَّغَ عَنْهُ آيَاتِهِ وَوَعْدَهُ فِي ذَلِكَ. (11) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (9: 90) الْآيَةَ. مَعْنَى كَذِبِهِمْ إِيَّاهُمَا إِظْهَارُ الْإِيمَانِ بِهِمَا كَذِبًا وَخِدَاعًا وَمَنْ

كَذَّبَ الرَّسُولَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ - وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ - وَاسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ الَّذِي فِي الْآيَةِ. (12) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الصَّادِقَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (9: 19) فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِ عُذْرِهِمْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمَا فِي مُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُسَاعَدَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالنُّصْحُ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ. (13) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَذِرِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (9: 94) الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ رُؤْيَةِ الرَّسُولِ لَهَا إِعْلَامُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا فِي الدُّنْيَا، دُونَ أَقْوَالِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللهِ تَعَالَى لَهَا فَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (9: 105) هَذِهِ الْآيَةُ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمُؤْمِنُونَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِتَذْكِيرِ الْعَامِلِينَ بِأَنَّ اللهَ يَرَى أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِحْسَانُ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ فِيهَا. وَبِأَنَّ رَسُولَهُ يَرَاهَا وَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا. وَهَذَا خَاصٌّ بِحَالِ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِيَتَحَرَّوْا أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ - ثُمَّ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهَا فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا فِيهَا سَبِيلَهُمْ وَيَتَحَرَّوْا فِيهَا مَا يُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) (14) قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) (9: 99) فَهَذَا ضَرْبٌ مِنِ اقْتِرَانِ اسْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ مَعَ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ مَا لَهُ تَعَالَى وَمَا لِرَسُولِهِ. فَالَّذِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَابْتِغَاءُ الْمَرْضَاةِ وَالْمَثُوبَةِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ طَلَبُ صَلَوَاتِهِ أَيْ أَدْعِيَةٍ إِذْ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ) . وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يُفَنِّدُ دَعْوَى بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْقُرْآنُ وَحْدَهُ دُونَ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ مَا تَرَى فِي الْفَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) (فِي عُلُوِّ مَكَانَتِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُ) (وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَنْقَبَةً بِالْإِجْمَالِ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ) (الْمَنْقَبَةُ الْأَوْلَى) جَعْلُ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَحُبِّهِ وَإِرْضَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالثَّنَاءِ وَالثَّوَابِ بِمَا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعْلُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَعِصْيَانِهِ وَبُغْضِهِ وَإِغْضَابِهِ وَإِيذَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْحَظْرِ وَالْكُفْرِ وَالْوَعِيدِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْكُفْرِ بِاللهِ وَعِصْيَانِهِ إِلَخْ. وَتَجِدُ مَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُفَصَّلًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، فَهِيَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَا مَنْقَبَةٌ وَاحِدَةٌ. (الثَّانِيَةُ) إِنْزَالُ اللهِ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَأْيِيدُهُ بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ حِينَ انْهَزَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْآيَتَيْنِ 25 و26 (وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي ص 217 - 221 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الثَّالِثَةُ) نَصْرُ اللهِ لَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْهِجْرَةِ مَعَ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، وَمَعِيَّتُهُ الْخَاصَّةُ لَهُمَا، وَإِنْزَالُ سَكِينَتِهِ عَلَيْهِمَا، وَتَأْيِيدُهُمَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهَا عِدَّةُ مَنَاقِبَ كَمَا تَرَاهُ فِي آيَةِ الْغَارِ (40) وَتَفْسِيرُهَا الْبَدِيعُ (فِي ص 368 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الرَّابِعَةُ) إِتْمَامُ اللهِ تَعَالَى نُورَهُ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ 32 وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُورُ اللهِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (ص 333 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (9: 33) الْآيَةَ. وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ مَنَاقِبَ. فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (فِي ص 338 - 343 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (9: 43) الْآيَةَ. وَفِيهَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ إِيَّاهُ أَنْ أَعْلَمَهُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ فِي إِذْنِهِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى تَبُوكَ، وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِي ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (ص 401 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (السَّابِعَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُ لِلْمُشْرِكِينَ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ فِي جَانِبِ حُكْمِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ (80) وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِنَفْعِ الدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ.

(الثَّامِنَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ - مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ 113 وَهِيَ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ لَهُمْ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَقِفُوا عِنْدَهُ مِنْ مَوَدَّةِ الْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . (التَّاسِعَةُ) نَهْيُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ عِنْدَ الدَّفْنِ بَعْدَ صَلَاتِهِ عَلَى زَعِيمِهِمُ الْأَكْبَرِ الْأَكْفَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ تَكْرِيمًا لِنَجْلِهِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ، وَتَأْلِيفًا لِقَوْمِهِ - وَكَانَ أَكْثَرُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ - وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ وَالتَّأْدِيبَ وَالْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ فِي مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. (الْعَاشِرَةُ) نَهْيُهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّ اللهَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ 55 و58 عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِمَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلٌ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالسُّمُوِّ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ قُوَّةِ الْأَمْوَالِ وَعِزَّةِ الْأَوْلَادِ. وَزِينَتُهُمَا يَكُونَانِ لِلْمَحْرُومِينَ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّتِهِ، وَهُمَا اللَّتَانِ لَا يَعْلُوهُمَا شَيْءٌ - وَتَعْلِيمُهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّ النِّعَمَ الصُّورِيَّةَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَتِمُّ لِأَهْلِهَا النِّعْمَةُ بِهَا إِلَّا بِاطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَتَزَكِّي الْأَنْفُسِ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ سَعَادَةُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَعُلُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ مُتَمِّمَاتِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ كَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِفَقْدِهِمْ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، لَا سَعَادَةَ لَهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُنَغِّصَاتٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا نَفْسِهَا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (فِي ص 418 و495 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) تَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى خِيَارِ أَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِثْرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي أُرْهِقُوا فِيهَا أَشَدَّ الْعُسْرِ، وَقَاسَوْا أَعْظَمَ الْجُهْدِ، مِنَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ وَالنَّصَبِ، وَمُفَارَقَةِ مَوْسِمِ الرُّطَبِ، فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ، (الرَّوَاحِلِ) فَكَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ بَعْضَ الْهَفَوَاتِ الْجَدِيرَةِ بِرَأْفَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فِي جَانِبِ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي أُشِيرَ إِلَى مُضَاعَفَةِ أَجْرِهَا فِيمَا يَلِي الْإِخْبَارَ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 117) ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا يَلِيهَا تَوْبَتَهُ عَلَى الَّذِينَ خُلِّفُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ عَنْ تَبُوكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) (9: 118) إِلَخْ. وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ هِيَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِيهِ وَتَحَرِّيهِ مَا يُرْضِيهِ، وَهِيَ

تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ التَّائِبِينَ فِيمَا يَتُوبُونَ عَنْهُ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِي اسْتِكْمَالِ الْجُهْدِ فِي الطَّاعَةِ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ فَهِيَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْ ذَنْبِهِ أَوْ هَفْوَتِهِ، أَوْ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَتَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ - وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهِيَ آخِرُ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ، وَإِنَّهَا كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِمْرَارِهَا مِنْ أَوَّلِ سِنِّ التَّكْلِيفِ إِلَى آخِرِهَا. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (فِي فَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ، وَحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا، وَحُكْمِ إِخْلَالِهَا بِهَا وَتَقْصِيرِهَا فِيهَا) (وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ) (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي صِفَاتِهِ الْخَاصَّةِ وَفِيهِ بِضْعُ مَزَايَا وَفَضَائِلَ) (الْأَوَّلُ) وَصْفُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ: (أُذُنُ خَيْرٍ) (9: 61) فِي الرَّدِّ الْحَكِيمِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ (هُوَ أُذُنٌ) (9: 61) يَعْنُونَ أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ خِدَاعُهُ، وَقَدْ فَسَّرَ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (9: 61) وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِاللهِ: وَيُصَدِّقُ مَا يُوجِبُهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَطْعِيُّ الْيَقِينِيُّ، وَيَلِيهِ أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ تَصْدِيقَ ثِقَةٍ بِهِمْ وَائْتِمَانٍ لَهُمْ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَخَيْرٌ لِلنَّاسِ حَتَّى الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ إِلَّا مَا كَانَ حَقًّا وَخَيْرًا، دُونَ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 445 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الثَّانِيَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (9: 61) أَيْ بِمَا كَانَ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْبَاغِ اللهِ عَلَيْهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ أَوِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) فَهُوَ فِي مَعْنَى إِرْسَالِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِمَا هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مَعْنَى آخَرُ وَسَتَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. (الثَّالِثَةُ) وَصْفُهُ فِي آيَةِ (103) بِتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ،

وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي تَبْلِيغِهِ لِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَفِي أَخْذِهِ لَهَا وَقِسْمَتِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا - كَمِثْلِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَفْرُوضَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ إِتَاوَاتٍ وَضَرَائِبَ قَهْرِيَّةً يُؤَدُّونَهَا كَمَا يُؤَدُّونَ سَائِرَ الْمَغَارِمِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُنْفَقُ بِحَسَبِ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، وَيَكُونُ لَهُمْ مِنْهَا أَكْبَرُ نَصِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ حِكْمَةَ مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِالْعَدْلِ، وَيَحْرُمُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَبِهَذَا وَذَاكَ أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِعْلَ التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حِكْمَةِ بَعْثَتِهِ فِي قَوْلِهِ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (62: 2) وَتَجِدُ التَّفْصِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . (الرَّابِعَةُ) وَصْفُ دُعَائِهِ لِلْمُتَصَدِّقِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ: (سَكَنٌ لَهُمْ) (9: 103) تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَثِقُونَ بِقَبُولِ اللهِ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُتَصَدِّقٍ مُخْلِصٍ يَنَالُهُ حَظٌّ مِنْ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَصَدِّقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي سِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ الدُّعَاءَ لِأَحَدٍ. (الْخَامِسَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) (9: 128) فَأَثْبَتَ لَهُ شِدَّةَ الْحُبِّ لَهُمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعِزُّ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَنَتُ وَالْإِرْهَاقُ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ. (السَّادِسَةُ) وَصْفُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 128) وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ غَيْرِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا فِي كَمَالِهِمَا. وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ إِرْسَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ رَحْمَةً لَهُمْ خَاصَّةً، وَغَيْرُ إِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بِهِمْ مِنْ صِفَاتِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سِيَاسَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَنْفِيذِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَغَيْرِهَا، وَشَوَاهِدِ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَفْسِيرِهَا، فَتَأَمَّلْ خُطْبَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَنْصَارِ فِي أَثَرِ إِنْكَارِ بَعْضِ شُبَّانِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ حِرْمَانَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ (ص 229 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَهِيَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، وَالْكَمَالُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ لِبَشَرٍ كَمَا تَمَّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا إِرْسَالُهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ رِسَالَتِهِ وَفَوَائِدِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ

مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ رَحْمَةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَحَلِّهِ. (الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَفِيهِ خَمْسُ وَاجِبَاتٍ) (الْأَوَّلُ) وُجُوبُ حُبِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبَعِ لِحُبِّ اللهِ تَعَالَى وَفِي الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي دَرَجَتَهُ فِي ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَتَفْضِيلِ نَوْعِ حُبِّهَا عَلَى كُلِّ مَا يَجِبُ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَرَاجِعْ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (24) تَجِدْ فِيهِ مَا لَا تَجِدُ مَثَلَهُ فِي تَفْسِيرٍ آخَرَ (ص 202 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الثَّانِي) وُجُوبُ تَحَرِّي مَرْضَاتِهِ بِالتَّبَعِ لِمَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ (62) . (الثَّالِثُ) وُجُوبُ طَاعَتِهِ بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْآيَةِ (71) . (الرَّابِعُ) وُجُوبُ النُّصْحِ لَهُ بِالتَّبَعِ لِلنُّصْحِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَاتِ الْمَعْذُورِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ الْآيَةِ (91) . وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ لَهُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ. (الْخَامِسُ) وُجُوبُ نَصْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَةِ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) (9: 40) وَيُؤَيِّدُهَا مَا يَأْتِي فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ حَظْرِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَحْظُرُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِيذَاءٍ وَتَقْصِيرٍ فِي حَقِّهِ وَهُوَ خَمْسَةُ مَحْظُورَاتٍ) : (الْأَوَّلُ) حَظْرُ إِيذَائِهِ - فِدَاؤُهُ أَبِي وَأُمِّي وَنَفْسِي - وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ (61) . (الثَّانِي) حَظْرُ مُحَادَّتِهِ أَيْ مُعَادَاتِهِ، وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ (63) . (الثَّالِثُ) الْكُفْرُ الصَّرِيحُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فِي الْآيَةِ (65) . (الرَّابِعُ) حَظْرُ الْقُعُودِ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ لِلْجِهَادِ فِي الْآيَتَيْنِ (81 و90) . (الْخَامِسُ) حَظْرُ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ وَالرَّغْبَةُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَةِ (120) . وَهَذَا تَعْبِيرٌ بَلِيغٌ جِدًّا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصُونُ نَفْسَهُ عَنْ جِهَادٍ وَعَمَلٍ، بَذَلَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ فِيهِ، فَهُوَ مُفَضِّلٌ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فِي عَهْدِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ظَاهِرًا مِنْ نَاحِيَةِ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَعَدَمِهَا، وَمِنْ نَاحِيَةِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ بِمَا لَا تَقُومُ بِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَضْلًا عَمَّنْ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْإِمْكَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَذْلِهِ مَالَهُ وَنَفْسَهُ لِلَّهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِقَدْرِ إِمْكَانِهِ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (33: 21) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا فِي السُّورَةِ مِنْ حُجَجِهِ وَأُصُولِهِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُجَجِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَالنُّذُرِ وَالْأَخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهِيَ عَشْرٌ) (الْأُولَى) قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (9: 2) . (الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (9: 14) . (الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (9: 8) . (الرَّابِعَةُ) بِشَارَتُهُ بِخَذْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا يُحَاوِلُونَ مِنْ إِطْفَاءِ نُورِهِ تَعَالَى - الْإِسْلَامِ - وَوَعْدُهُ بِإِتْمَامِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (9: 32 و33) . (الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) (9: 64) . (السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (9: 65) الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِمَا سَيَأْتِي قَالَ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (9: 78) . (السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ) قَوْلُهُ: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) (9: 94) . الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) (9: 95) وَقَوْلُهُ: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) (9: 96) الْآيَاتِ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي خَبَرِ الْغَيْبِ مِنْ قَوْلِهِ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) (9: 56) وَقَوْلُهُ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) (9: 62) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِهَذَيْنِ الْحَلِفَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا لِبَيَانِ غَرَضِهِمْ وَمَا فِي بَاطِنِهِمْ وَهُوَ عَيْنُ تَعْلِيلِ حَلِفِهِمْ فِي الْآيَةِ 96. (الْعَاشِرَةُ) قَوْلُهُ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) (9: 101) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ تَمَّ كُلُّ ذَلِكَ وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ وَوَعِيدُهُ وَخَبَرُهُ. وَفِي السُّورَةِ أَخْبَارٌ أُخْرَى بِالْغَيْبِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ طَبِيعَةِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَتَرَى مِثَالَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) (فِي صِفَةِ الْإِسْلَامِ وَمَدْخَلِهِ وَأَهَمِّ أُصُولِ التَّشْرِيعِ فِيهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ أُصُولٍ) (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ نُورُ اللهِ تَعَالَى الْعَامِّ، وَهُدَاهُ الْكَامِلُ التَّامُّ، الَّذِي نَسَخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَوَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِتْمَامِهِ، وَخِذْلَانِ مُرِيدِي إِطْفَائِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ (32 و33) وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهِمَا فِي (ص 333 - 343 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْأُخْرَى مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَالسِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ. (الْأَصْلُ الثَّانِي) مَدْخَلُ الْإِسْلَامِ وَمِفْتَاحُهُ وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (9: 5) وَيُؤَكِّدُهَا قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (9: 11) وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْصُلُ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهِمَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ (ص 151 و169 وَمَا بَعْدَهُمَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) بِنَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ دُونَ التَّقْلِيدِ الَّذِي ذَمَّهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَشَنَّعَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَدَلِيلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (9: 6) وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (9: 11) وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ فِي مُقَلِّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) مَعَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ (ص 317 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) أَنَّ التَّكْلِيفَ الْعَامَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدِّينِيِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَأَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَشَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (9: 115) وَبَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَعَدَمُ السَّمَاحِ بِهِمْ بِالْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي آيَاتٍ، مِنْهَا الْآيَةُ الَّتِي سَمَّوْهَا آيَةَ السَّيْفِ وَهِيَ الْخَامِسَةُ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (9: 5) وَهِيَ غَيْرُ نَاسِخَةٍ لِآيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قِيلَ، وَتَرَى فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْآيَاتِ

النَّاسِخَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ (ص 150 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَسَتَأْتِي أَحْكَامُ الْقِتَالِ وَقَوَاعِدُهُ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ الْآتِي. (الْأَصْلُ السَّادِسُ) جَعْلُ الْغَايَةِ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَنَا بِشَرْطِهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ (29) وَسَتُذْكَرُ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وِلَايَةِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَصِفَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (9: 71) وَيَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ الْوِلَايَةِ وِلَايَةُ النَّصْرِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ الْقِتَالُ إِلَّا فِي حَالِ النَّفِيرِ الْعَامِّ (ص 466 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي جَمِيعِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ) (9: 71) إِلَخْ. (الْأَصْلَانُ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ) وُجُوبُ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَوُجُوبُ بَثِّ الْعِلْمِ مَقْرُونًا بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ الَّذِي يُرْجَى تَأْثِيرُهُ النَّافِعُ - وَهُمَا فِي الْآيَةِ (122) . وَفِي السُّورَةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَجَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ (تُرَاجَعُ الْآيَاتُ 3 و17 و18 و19 و21 و22 و31 و44 و45 و49 و61 و63 و68 و69 و74 و81 و95) . وَفَائِدَةُ هَذَا التَّكْرَارِ أَنَّ تَرْسَخَ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَعَبِّدِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، بِكَثْرَةِ تَذَكُّرِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْجَزَاءُ، وَإِنَّ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرِدَ فِيهِ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فِي الْعَشَرَاتِ أَوِ الْمِئَاتِ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَلَا يَمَلُّ تَكْرَارَهُ الْقَارِئُ وَلَا السَّامِعُ. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (فِي آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَطَبَقَاتِهِمْ وَفِيهِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ شَاهِدًا) (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ الَّتِي تَظْهَرُ بِالِامْتِحَانِ - وَهُوَ الْجِهَادُ - وَحِفْظِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ وَالدَّوْلَةِ - أَنْ يُفْضِيَ بِهَا إِلَى وَلِيجَةٍ أَوْ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ جَوَاسِيسُ الْأَعْدَاءِ. وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (16) رَاجِعْ (181) وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (2) آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَمَا يُنَافِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْآيَةِ (23) ، رَاجِعْ (201 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .

(3) آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ تَفْضِيلُ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ وَالْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ. وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي الْآيَةِ (24) وَتَجِدُ مِنْ بَيَانِ مَعَانِيهَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ (ص 202 - 216. ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (4) أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةُ فِي الْآيَةِ (11) ، وَتَفْسِيرُهَا فِي (ص 169 و172 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (5 و6) عِمَارَةُ مَسَاجِدِ اللهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَعَدَمُ خَشْيَةِ أَحَدٍ إِلَّا اللهَ فِي الْآيَةِ (18) . (7) وِلَايَةُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ ذُكُورًا وَإِنَاثًا. (8) الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. (9) طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ - فِي الْآيَةِ (71) (1) . (10) صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمَيِّزَةُ لَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ (44 و45) (ص 404 و405 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَبَيْنَ الْآيَةِ (68) وَمَا بَعْدَهَا وَالْآيَةِ (71) وَمَا بَعْدَهَا. (466 ج 10 ط الْهَيْئَةِ 9 وَالْآيَةِ (86) وَمَا بَعْدَهَا وَالْآيَةِ (88) وَمَا بَعْدَهَا (ج 10 تَفْسِيرٌ) وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ (98 و99) (بِأَوَّلِ ج 11 تَفْسِيرٌ) وَبَيْنَ الْآيَاتِ (124 - 125 و126 و127) (أَوَّلُ ج 11 تَفْسِيرٌ) . (11) طَبَقَاتُ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثُ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْآيَةِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْمِائَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَفِي الْآيَةِ (117) بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (12) الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فِي الْآيَةِ (102) (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَرْجَأَ اللهُ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآيَةِ (106) بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (13) الْإِخْلَاصُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ ابْتِغَاءَ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ، وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَيْ أَدْعِيَتِهِ - الْآيَةُ (99) . (14) الْعَمَلُ النَّافِعُ لِلدُّنْيَا وَالدِّينِ الَّذِي يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ - الْآيَةُ (105) . (15) حُبُّ التَّطَهُّرِ مِنَ الْأَدْرَانِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ - الْآيَةُ (108) . (16) بَيْعُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ (111) . (17 - 25) صِفَاتُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: التَّوْبَةُ. الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. السِّيَاحَةُ. رُكُوعُ الْخُضُوعِ. سُجُودُ الْخُشُوعِ. الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحِفْظُ لِحُدُودِ اللهِ فِي الْآيَةِ (112) .

(26) آيَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَدَمُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى - الْآيَةُ (113) . (27) تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (28) مُلَازَمَةُ الصَّادِقِينَ - الْآيَةُ (119) . (29) النَّفَقَةُ فِي الدِّينِ. (30) إِنْذَارُ النَّاسِ وَتَعْلِيمُهُمْ - الْآيَةُ (122) . (31) الْغِلْظَةُ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ - الْآيَةُ (123) . (32) زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ (124) . الْبَابُ الرَّابِعُ (فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْعُهُودِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ) (تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَحْكَامُ الْغَنَائِمِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِ، وَفَرْضِ الْخُمُسِ فِيهَا، وَمَصَارِفِهِ، وَحَقِّ آلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَمَا لِلْأُمَّةِ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأُمَّهَاتِ مَقَاصِدِهَا فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا أَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (1) الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْأَمْوَالِ. (2) أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ وَمَصَارِفُهَا. (3) فَوَائِدُ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ. (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) (فِي مَكَانِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْبُخْلِ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ) . (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) كَوْنُ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ أَحَدَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ مِنَ الْكَفَّارِ بِدُونِ الْتِزَامِهَا، وَلَا تَحْصُلُ أُخُوَّتُهُ الدِّينِيَّةُ إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَاعْتِبَارُ مَانِعِيهَا مِنَ الْجَمَاعَاتِ مُرْتَدِّينَ تَجِبُ مُقَاتَلَتُهُمْ. وَفِي الْأَفْرَادِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَنَصُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (9: 5) وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (9: 11) وَيُؤَكِّدُ عَدَّ الزَّكَاةِ كَالصَّلَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخَةِ فِي آيَةِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (9: 71) إِلَخْ. (م 2) كَوْنُ بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ آيَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَقِوَامَ الدِّينِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ الْآيَتَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا آنِفًا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا الْآيَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) (9: 20)

إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (9: 22) وَمِنْهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَنْ أَمْوَالُهُ وَتِجَارَتُهُ وَسَائِرُ حُظُوظِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ (24) وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ النَّفِيرِ الْعَامِّ (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (9: 41) وَقَوْلُهُ: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) (9: 44) وَيُتِمُّ مَعْنَاهَا الْآيَتَانِ بَعْدَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (9: 55) . (م 3) كَوْنُ الْبُخْلِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ آيَةَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَمِنْ شَوَاهِدِهِ عَدَمُ قَبُولِ نَفَقَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَوْنُ أَمْوَالِهِمْ بَلَاءً وَوَبَالًا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْآيَاتِ (53 و54 و55) ، (وَمِنْهَا) لَمْزُ الْمُنَافِقِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ لِلطَّمَعِ فِي الْمَالِ فِي الْآيَةِ (58) ، (وَمِنْهَا) وَصْفُ الْمُنَافِقِينَ بِالْبُخْلِ وَقَبْضِ الْأَيْدِيِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي قَوْلِهِ: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) - إِلَى قَوْلِهِ: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) (9: 67) وَيُؤَكِّدُهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ (70) بَعْدَهَا بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْمَغْرُورِينَ بِالْقُوَّةِ وَالْمَالِ، وَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهَا بِصِفَاتٍ مِنْهَا ((إِيتَاءُ الزَّكَاةِ)) . (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) (9: 75) الْآيَةَ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْبُخْلِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا (وَمِنْهَا) لَمْزُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ (79) وَمِنْهَا (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (9: 81) الْآيَةَ. (م 4) وَصْفُ كَثِيرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ تَحْذِيرًا مِنْ فِعْلَتِهِمْ، وَرَفْعًا لِقَدْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُسِفَّ وَيَسْفُلَ إِلَى دَرَكَتِهِمْ. (م 5) الْوَعِيدُ عَلَى كَنْزِ الْأَمْوَالِ وَعَدَمِ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي الْآيَتَيْنِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (9: 34 و35) . (م 6) آيَةُ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا) (9: 98) وَهُمْ مُنَافِقُوهُمْ كَبَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، كَانُوا يُعْطُونَ الصَّدَقَاتِ رِيَاءً. وَخَوْفًا لَا يَرْجُونَ مِنْهَا نَفْعًا بِتَأْيِيدِ الْإِسْلَامِ وَلَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، فَهِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَغَارِمُ يَلْتَزِمُونَهَا لِيُصَدَّقُوا بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَفِي الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ لَا يَبْذُلُونَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، بَلْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهُوَ فِي نَظَرِهِمْ غَرَامَةٌ. (م 7) آيَةُ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) (9: 99)

وَهُمْ بَنُو أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ، وَحَسْبُكَ شَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ، وَحُكْمُهَا عَامٌّ. (م 8) التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَقَاتِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهَا بِأَخْذِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا كَمَا فِي الْآيَةِ (104) . (م9) التَّرْغِيبُ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (9: 111) الْآيَةَ. (م10) فَضْلُ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَكَوْنُ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (121) وَتَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ. (الْقِسْمُ الثَّانِي) (أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَحْكَامُهَا بِالْإِجْمَالِ وَمَصَارِفُهَا وَفِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً) : (1) مَالُ الْجِزْيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا وَتَارِيخَهَا وَأَحْكَامَهَا وَشُرُوطَهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ (29) وَهُوَ فِي (248 - 249 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (2) أَنْوَاعُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ الْمُقَدَّرَةِ الْمَوْقُوتَةِ، وَهِيَ النَّقْدَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتِّجَارَةِ فِي اسْتِغْلَالِهِمَا، وَالْأَنْعَامُ وَالزَّرْعُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَقْوَاتِ، وَالرِّكَازُ: وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ يُعْثَرُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْدِنُ (رَاجِعْ 423 و439 ج 10 تَفْسِيرٌ) . (3) سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهَلْ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ يَنْقَسِمُ بِالْوَصْفِ إِلَى قِسْمَيْنِ؟ (رَاجِعْ ص 423 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (4) سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ مِنْ جُبَاةٍ وَخَزَنَةٍ وَكَتَبَةٍ (ص 426) . (5) سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَهُمْ سِتَّةُ أَصْنَافٍ (ص 426) . (6) سَهْمُ الرِّقَابِ: أَيْ تَحْرِيرُ الرَّقِيقِ بِإِعَانَتِهِ عَلَى شِرَائِهِ لِنَفَسِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ شِرَائِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَعِتْقِهِ (ص 429) . (7) سَهْمُ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ رَكِبَتْهُمْ دُيُونٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَالَّذِينَ يَغْرِمُونَ عَمْدًا مَا يُنْفِقُونَهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَمَنْعِ الْفِتَنِ الثَّائِرَةِ (ص 430) . (8) سَهْمُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ الَّذِينَ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (ص 430 - 436) . (9) سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ بَلَدِهِ فِي سَفَرٍ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى مَالِهِ

إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَيُعْطَى لِفَقْرِهِ الْعَارِضِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى إِتْمَامِ سِيَاحَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ (ص 435) . (10) الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ (ص 439) . (11) تَوْزِيعُ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ (ص 439) . (12) الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُعَيَّنَةُ وَمَكَانَتُهَا فِي الدِّينِ، وَحُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ فِيهَا، وَالْبِلَادِ الْمُذَبْذَبَةِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ (ص 441) . (13) لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلْمُرْتَدِّينَ وَلَا لِلْإِبَاحِيِّينَ وَالْمَلَاحِدَةِ (ص 442) . (14) الْتِزَامُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ (ص 443) . (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) (فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ) (وَامْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ) وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ فِي مَنَافِعِ الْمَالِ وَارْتِبَاطِ جَمِيعِ مَصَالِحِ الْبَشَرِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ بِهِ وَشَأْنِهِمْ فِي حُبِّهِ وَكَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ وَإِمْسَاكِهِ، وَإِرْشَادِ الدِّينِ فِيهِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ فِيهِ، وَغُلُوِّ عِبَادِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْإِفْرِنْجِ فِي جَمْعِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، وَبَيْنَ بِدْعَةِ الْبُلْشُفِيَّةِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ فِي مُقَاوَمَةِ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ الْمَالِيَّةِ وَغُلُوِّهَا فِي ذَلِكَ وَفِي عَدَمِ الْأَدْيَانِ. وَتَلْخِيصُ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ الْمَالِيِّ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا (فَتُرَاجَعُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) . (الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْمُعَاهَدَاتِ وَهِيَ عِشْرُونَ حُكْمًا) (الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَبْذُ عُهُودِ الْمُعَاهِدِينَ مِنْهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَدْ نَاصَبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَدَاوَةَ مُنْذُ دَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَبِعَهُمْ سَائِرُ الْعَرَبِ فَكَانُوا حَرْبًا لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْهُمْ أَوْ يُعَذِّبُونَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ هِجْرَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَعَدَهُ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرُوا وَصَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ اضْطُرَّ الْمُشْرِكُونَ إِلَى عَقْدِ أَوَّلِ صُلْحٍ مَعَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَعَاهَدُوهُمْ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ عَلَى السِّلْمِ وَالْأَمَانِ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ تَلْبَثْ قُرَيْشٌ مَعَ أَحْلَافِهَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَنْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ جَمَعَ الْمُشْرِكُونَ جُمُوعَهُمْ لِقِتَالِهِ فِي حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ بِأَنْ يَنْبِذَ لِلْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ (137 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .

(الثَّانِي) أَذَانُ الْمُشْرِكِينَ (إِعْلَامُهُمْ) بِذَلِكَ أَذَانًا عَامًّا فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَجْتَمِعُ بِهِ وُفُودُ الْحَاجِّ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ فِي مِنًى بِحَيْثُ يَعُمُّ هَذَا الْبَلَاغُ جَمِيعَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ الْغَدْرَ وَأَخْذَ الْمُعَاهِدِينَ عَلَى غِرَّةٍ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ بِمَا يَنْتَشِرُ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ لِعِلْمِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَلَا رَئِيسٌ عَامٌّ يُبَلِّغُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِشُئُونِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ فَيُكْتَفَى بِإِبْلَاغِهِ مِثْلَ هَذَا كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الدُّوَلِ الْمَلَكِيَّةِ أَوِ الْجُمْهُورِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ عَامَّةٌ وَلَا آلَاتٌ لِلْأَخْبَارِ الْبَرْقِيَّةِ تَنْشُرُ مِثْلَ هَذَا الْبَلَاغِ. (الثَّالِثُ) مَنْحُهُمْ هُدْنَةً أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءُوا آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ أَحْرَارًا فِي سَيْرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتَرَوَّوْا فِي أَمْرِهِمْ، وَيَتَشَاوَرُوا فِي عَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْقَادِرِ بِعَدُوِّهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بِحَقٍّ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ (ص 133 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الرَّابِعُ) وَعْظُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَمَا يُغْرِيهِمْ بِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقِتَالِهِمْ وَالْغَدْرِ بِهِمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ يُعْجِزُوهُ هَرَبًا مِنْهَا، وَقَدْ وَعَدَ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَيُبَايِعَهُ أَنْصَارُهُ، وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ فِي جُمْلَةِ غَزَوَاتِهِ مَعَهُمْ، وَسَبَبُ هَذَا الْوَعْظِ أَنَّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ طَرِيقُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَدَلَائِلُ الْإِقْنَاعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) إِلَخْ. وَفِيهَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَا صَدَّقَهُ الْوَاقِعُ. (الْخَامِسُ) اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ نَبْذِ عَهْدِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَلَمْ يَنْقُصُوهُمْ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ وَمَوَادِّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا وَيُعَاوِنُوا عَلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا نَقَضَ أَهْلُ مَكَّةَ الْعَهْدَ، بِمُظَاهَرَةِ أَحْلَافِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى أَحْلَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي خُزَاعَةَ. وَالْأَمْرُ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَظَلُّوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ. (السَّادِسُ) الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ أَشْهُرِ الْهُدْنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُ وَحَرُمَ فِيهَا، وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْحَصْرُ وَالْقُعُودُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْمَرَاصِدِ لِمُرَاقَبَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ التَّجْوَالِ وَالتَّغَلُّبِ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا يَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ وَسَائِلِ الْقِتَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْعَدُوُّ

مَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا قَابَلْنَاهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) (2: 194) . (السَّابِعُ) تَخْلِيَةُ سَبِيلِ مَنْ يَتُوبُونَ مِنَ الشِّرْكِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَبِلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَهُمَا. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ. (الثَّامِنُ) إِيجَابُ إِجَارَةِ مَنْ يَسْتَجِيرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَفِي حُكْمِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَنَائِبُهُ وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي حَالِ الْحَرْبِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ وَيَقِفَ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِبْلَاغِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ. (التَّاسِعُ) تَعْلِيلُ نَبْذِ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِ وَعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِ مَعَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ: (أ) أَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْغَدْرِ فَلَمْ يُخْبِرُوا الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ لِيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ. (ب) أَنَّ مِنْ دَأْبِهِمْ وَشَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُجْحَانِ قُوَّتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِيهِمْ عَهْدًا وَلَا ذِمَّةً وَلَا قَرَابَةً، بَلْ يَفْتِكُونَ بِهِمْ بِدُونِ رَحْمَةٍ. (ج) أَنَّهُمْ يُنَافِقُونَ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ فَيُرْضُونَهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ أَيِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. (د) أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيُعَادُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، وَيَخَافُونَ أَنْ تُسْلَبَ مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ الَّتِي تُحَرِّمُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْغَصْبِ وَالْغَزْوِ لِأَجْلِ الْكَسْبِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَ كُلَّ ذَلِكَ. (هـ) أَنَّهُمْ - عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَلَا فِي حَالِ الضَّعْفِ - هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظَلُّوا مَعَهُمْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ. (و) أَنَّهُمْ نَكَثُوا عُهُودَهُمُ السَّابِقَةَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا فَلَا ثِقَةَ بِهَا فَتُرَاعَى. (ز) أَنَّهُمْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ وَطَنِهِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ هُوَ وَسَائِرُ مَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَوَاطَئُوا عَلَى قَتْلِهِ. (ح) أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَبَقِيَتِ الْحَرْبُ مُسْتَمِرَّةً، فَلَمَّا أَنْهَتْ مُعَاهَدَةُ الْحُدَيْبِيَةِ حَالَةَ الْقِتَالِ أَعَادُوهَا بِغَدْرِهِمْ فِيهَا وَنَقْضِهِمْ لَهَا، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّمَانِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ (7 - 10) .

(الْحُكْمُ الْعَاشِرُ) وُجُوبُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَافَّةً إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (9: 36) وَجْهُهُ مَا عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَا عُهُودَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُمْ بِسَلَامٍ. (الْحُكْمُ 11) تَحْرِيمُ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَوْنُهَا مِنَ الظُّلْمِ فِي الْآيَةِ (23) . (الْحُكْمُ 12) حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِشَرْطِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فِي الْآيَةِ (29) . وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قِتَالِهِمْ وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَيَانِ غَايَتِهِ لَا فِي بِدَايَتِهِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّشْرِيعِ فِي الْقِتَالِ آيَاتُ سُورَةِ الْحَجِّ (22: 39 - 41) ثُمَّ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا (2: 190) (رَاجِعْ آخِرَ ص 247 وَمَا بَعْدَهَا وَص 255 ج 10) وَيَلِيهَا آيَاتُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، فَسُورَةُ مُحَمَّدٍ، فَهَذِهِ السُّورَةُ. (الْحُكْمُ 13) وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ هُنَا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبُ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ لِيَأْمَنَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحُرِّيَّةُ دِينِهِمْ مَعَهُمْ (فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ الْجِزْيَةِ فِي ص 248 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (فَصْلٌ) فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَتَارِيخِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ فِيهَا (ص 256 - 269) ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (اسْتِطْرَادٌ) فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ وَالْغَزْوِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ فِيهِ ص 269 - 274 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (فَصْلٌ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ. وَدَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ، وَحُقُوقِ الْأَدْيَانِ وَالْأَقْوَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ (ص 274 - 281 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . (الْحُكْمُ 14) إِبْطَالُ النَّسِيءِ فِي الْأَشْهُرِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ تَشْرِيعًا جَاهِلِيًّا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (37) . (الْحُكْمُ 15) النَّفِيرُ الْعَامُّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ الْقِتَالُ بِهِ وَاجِبًا بِشَرْطِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَمَا فُصِّلَ فِي الْآيَاتِ (38 و39 و41) وَأَمَّا النَّفِيرُ الْخَاصُّ فَهُوَ فِي الْآيَةِ (122) . (الْحُكْمُ 16) الِاسْتِئْذَانُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ،

وَمُنَافَيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (44 و45) وَمَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَتِمَّةُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ (86 - 93) . (الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) وُجُوبُ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْآيَةِ (73) . (الْحُكْمُ 18) الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى) 9: 91 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (93) . (الْحُكْمُ 19) وُجُوبُ بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ بِاشْتِرَاءِ اللهِ إِيَّاهُمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (111) وَتَقَدَّمَ تَحْرِيمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. (الْحُكْمُ 20) قِتَالُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (123) . (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) فِي الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَصْلًا: (1) جَوَازُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُهُودِ وَنَبْذُهَا لِلْمُعَاهِدِينَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى بَقَائِهَا، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ. (2) عَقْدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ لَهَا غُنْمُهَا وَعَلَيْهَا غُرْمُهَا، وَإِنَّمَا يَعْقِدُهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُمَثِّلُ لِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مَنْطُوقُ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: (عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (9: 1) مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ وَكُتِبَ بِاسْمِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (3) نَبْذُ الْمُعَاهَدَاتِ يَجِبُ أَنْ يُذَاعَ وَيُنْشَرَ بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ بِالْأَذَانِ بِهِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَالْإِذَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَأَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي حَضَارَتِهِمْ وَبَدَاوَتِهِمْ. (4) وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْمُعَاهَدَةِ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَفِي بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ (4 و7 و12 و13) إِكْمَالًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. (5) الْمُعَاهَدَةُ الْمَوْقُوتَةُ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (9: 4) وَقَوْلِهِ: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (9: 7) . (6) أَنَّ الْقَبَائِلَ وَالشُّعُوبَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا دِينٌ وَلَا شَرْعٌ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا نَقْضَ الْعُهُودِ وَجُرِّبَ

عَلَيْهَا نَكْثُهَا لِلْإِيمَانِ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ مُعَاهَدَاتِهَا السَّابِقَةِ، وَلَا تَجْدِيدُ مَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ مِنْهَا كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ، وَدُوَلُ الْإِفْرِنْجِ تَعْمَلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَلَا تَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الدُّوَلِ الْمُنَظَّمَةِ الَّتِي تَلْتَزِمُ الشَّرَائِعَ وَالْقَوَانِينَ الدَّوْلِيَّةَ. (7) الْهُدْنَةُ بَيْنَ الْمُحَارِبِينَ مَشْرُوعَةٌ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بِهَا إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ، وَمِنْهَا الرَّحْمَةُ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) . (8) تَأْمِينُ الْحَرْبِيِّ بِالْإِذْنِ لَهُ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا اسْتَأْمَنَ لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ أَوِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ إِجَارَتُهُ ثُمَّ إِبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ. (9) انْتِهَاءُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَنُوطٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُهُ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَأَهَمُّهَا رُكْنَا الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ. (10) انْتِهَاءُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ يُنَاطُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ شَرْعِنَا، كَمَا تَرَى فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ (29) وَفِي تَفْسِيرِهَا بَيَانُ حُكْمِ سَائِرِ الْمِلَلِ. (11) النَّفِيرُ الْعَامُّ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْآيَةِ (41) وَتَرَى فِي تَفْسِيرِهَا مَا تَكُونُ بِهِ فَرْضِيَّتُهُ، وَمَا يَكُونُ بِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ. (12) امْتِنَاعُ نَفْرِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ لِلْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَالِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي الْآيَةِ (122) . (13) الْعَجْزُ عَنِ الْقِتَالِ أَوْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ وَتَجِدُ بَيَانَ أَنْوَاعِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (91 - 93) وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ. الْبَابُ الْخَامِسُ (فِي شُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَحُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَسِيَاسَتِهِ فِيهِمْ وَفِيهِ فُصُولٌ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي ذَمِّ الْقُرْآنِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَزَاهَتِهِ فِيهِ عَنِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ) (تَنْبِيهٌ وَتَمْهِيدٌ) الذَّمُّ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْيِيرُ وَالتَّشَفِّي مِنَ الذَّمِّ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَاقِعًا أَوْ إِفْكًا مُفْتَرًى. وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (6: 108) فَنُهِيَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ وَمَعْبُودَاتِهِمْ وَمِنْهَا الْأَصْنَامُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الْمُتَسَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ

وَيَتَكَاذَبَانِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِمْ وَسُخْطِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِعِقَابِهِ، وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ؛ بِقَصْدِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ، لِأَجْلِ التَّنْفِيرِ وَالزَّجْرِ، وَلِذَلِكَ تَرَاهَا مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ بِوَصْفِهِمْ أَوْ إِلَى وَصْفِهِمُ الْعَامِّ: الْمُشْرِكِينَ، الْكَافِرِينَ، الْمُنَافِقِينَ، الْفَاسِقِينَ، الظَّالِمِينَ، الْمُجْرِمِينَ، الْمُفْسِدِينَ، أَوِ الْخَاصِّ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ كَبَعْضِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَا كُلِّهِمْ دُونَ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ، مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي كَانَ شَرَّهُمْ وَأَجْرَأَهُمْ عَلَى الضَّرَرِ، فَقَدْ كَانَ ضَرَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فِي مَكَّةَ (كَأَبِي جَهْلٍ) . وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هِجَاءِ الْعَرَبِ وَسِبَابِهِمُ الْبَذِيءِ وَقَذَعِهِمُ الْفَاحِشِ أَدْرَكَ نَزَاهَةَ الْقُرْآنِ، وَعُلُوَّهُ عَنْ مِثْلِ بَذَاءَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ. يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فِي ذَمِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَزَلَ فِي ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ فِي سُورَةٍ وَجِيزَةٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ آزَرَ وَالِاسْتِطْرَادِ إِلَى آبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ وَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ فِي أَبَوَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّيْهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ، لِإِثْبَاتِ قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَالْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا الْأَنْفُسُ وَتَكُونُ بِصِفَاتِهَا الْعَالِيَةِ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى وَمَرْضَاتِهِ. وَأَنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ وَالْفَوْزَ إِنَّمَا تَكُونُ بِوَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُوصَفُ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ أَوِ النُّبُوَّةِ، وَيُدْعَى لَهَا التَّأْثِيرُ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنِهَا تُحَابِي بِشَفَاعَتِهَا وَوَسَاطَتِهَا أُولِي الْقَرَابَةِ مِنْهَا وَالْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهَا بِالْمَدْحِ لَهَا وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا، وَدُعَائِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَغْنَى بَنِي هَاشِمٍ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ غُرُورًا بِمَالِهِ وَثَرْوَتِهِ وَنَشَبِهِ وَنَسَبِهِ وَكَانَ بِهَذَا الْغُرُورِ أَوَّلَ مَنْ جَاهَرَ بِعَدَاوَةِ ابْنِ أَخِيهِ (مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ) مُحْتَقِرًا لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ، الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ، وَعَمُّهُ الَّذِي كَفَلَهُ بَعْدَ جَدِّهِ - أَفْقَرَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ لَهُ حِينَ جَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَبَلَّغَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (26: 214)

: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُشْرِكِينَ صَدًّا لِلنَّاسِ عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ كُلَّمَا دَعَا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لِقَرَابَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْرِفَةً فِي عَدَاوَتِهِ وَذَمِّهِ، وَالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْهُ لِتَبْغِيضِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كُنْيَتِهَا: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَطَبَ الشَّائِكَ وَتُلْقِيهِ فِي طَرِيقِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ تَكُنِ السُّورَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِ إِلَّا دُعَاءً عَلَيْهِ بِالتَّبَّاتِ، وَهُوَ الْخَسَارُ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ إِخْبَارًا بِهِ، وَبِكَوْنِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الْكَثِيرُ وَمَا كَسَبَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْوَلَدِ شَيْئًا - فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ - فَهُوَ إِخْبَارٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا وَمَوْتِهِمَا عَلَى كُفْرِهِمَا، وَخُسْرَانِهِمَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ صَدَقَ خَبَرُ اللهِ وَوَعِيدُهُ لَهُ، فَهُوَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي سَاعَدَ عَلَيْهَا بِمَالِهِ، آسِفًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، فَذَاقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِخِذْلَانِ أَقْرَانِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُءُوسِ الشِّرْكِ، وَخُسْرَانِ مَالِهِ الَّذِي أَنْفَقَهُ فِيهَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (8: 36) وَرَأَى بِمِصْدَاقِهَا مَبَادِئَ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ. مَاتَ بَعْدَهَا بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِالْعَدَسَةِ شَرَّ مَيْتَةٍ، وَتُرِكَ مَيِّتًا حَتَّى أَنْتَنَ، ثُمَّ اسْتُؤْجِرَ بَعْضُ السُّودَانِ حَتَّى دَفَنُوهُ. وَكَانَ فُجِعَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بِوَلَدِهِ عُتْبَةَ الَّذِي كَانَ يَعْتَزُّ بِهِ، افْتَرَسَهُ أَسَدٌ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمَ أَخُوهُ وَثَانِيهِ فِي جَمْعِ الْمَالِ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَرَأَى مِثْلَ مَا رَأَى هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ ابْنِ أَخِيهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي وَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَجْمَعُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَجَمُ. ذَكَرْتُ هَذَا التَّنْبِيهَ الطَّوِيلَ لِبَيَانِ غَلَطِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى سَبِّهِمْ وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَتَفْنِيدًا لِمَا يَهْذِي بِهِ بَعْضُ مَلَاحِدَةِ الْكُتَّابِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ أَدَبِهِ وَالْأَدَبِ الْجَاهِلِيِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ سَبَبْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، فَذِكْرُ السَّبِّ وَالشَّتْمِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَفِيهِ رَجُلٌ مُتَّهَمٌ. وَهَاكَ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَشَدُّهُ.

(شَوَاهِدُ ذَمِّ الْقُرْآنِ النَّزِيهِ لِلْكَفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ) (1 - 4) وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ (8 - 10) بِأَنَّهُمْ لَا يَرْقُبُونَ وَلَا يُرَاعُونَ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، حَتَّى قَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ بِهِمْ خِلَافًا لِعَادَاتِهِمْ فِي عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ، وَأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. (5) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَنْعِهِمْ عَنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ وَمِنَ التَّعَبُّدِ فِيهِ: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) (9: 17) . (6) قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (9: 28) وَكَانَتْ نَجَاسَتُهُمْ مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ الشِّرْكُ وَخُرَافَاتُهُ، وَحِسِّيَّةً إِذَا كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَلَا يَدِينُونَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ. (7 - 10) وَصَفَ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ (30) بِأَنَّهُمْ بِاتِّخَاذِ ابْنٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَوَثَنِيِّ قُدَمَاءِ الْهِنْدِ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَقَوْلِهِ: (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (9: 30) وَوَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ (31) بِأَنَّهُمْ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) وَفِي الْآيَةِ (32) بِأَنَّهُمْ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) أَيْ بِكَلَامِهِمُ الْبَاطِلِ فِي الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْآيَةِ (34) بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ظَاهِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي تَارِيخِهِمُ الْمَاضِي وَسِيرَتِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِنْ دَقَائِقِ الصِّدْقِ فِي الْقُرْآنِ الْحُكْمُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَثِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ: (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (9: 8) وَلَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا التَّحَرِّي فِي كَلَامِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا وَصْفُهُ لِشُرُورِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ فِيهَا فَنُلَخِّصُهُ فِيمَا يَأْتِي تَابِعًا فِي الْعَدَدِ لِمَا قَبْلَهُ. (11) ذَكَرَ فِي اسْتِئْذَانِ الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيَانِ مَا يَكُونُ شَأْنُهُمْ لَوْ خَرَجُوا مِنِ ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّثْبِيطِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ فِيهِمْ: (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (9: 47) وَقَوْلِهِ: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (9: 49) (رَاجِعِ الْآيَاتِ 42 - 49) . (12 و13) تَعْلِيلُ عَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ فِي الْآيَةِ (53) بِفِسْقِهِمْ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (9: 54) . (14 و15) وَصَفَهُمْ بَعْدَ إِثْبَاتِ اسْتِهْزَائِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنْهُ

بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (9: 65) بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِمُ الْعَامَّةِ مِنَ الْآيَةِ: (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (9: 67) أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مُحِيطِ هِدَايَةِ الدِّينِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ. (16) قَوْلُهُ فِي لَمْزِهِمْ وَعَيْبِهِمْ لِلْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَسُخْرِيَتِهِمْ مِنْهُمْ فِي الْآيَةِ (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (9: 79) وَهَذَا التَّعْبِيرُ يُسَمَّى بِالْمُشَاكَلَةِ أَيْ عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ جُرْمِهِمْ فَجَعَلَهُمْ سُخْرِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَضَحَ بِهِ نِفَاقَهُمُ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ. (17) قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ غُفْرَانِ اللهِ لَهُمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (9: 80) وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (9: 84) وَقَدْ نَزَلَ هَذَا فِي زَعِيمِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَلَكِنْ جُعِلَ حُكْمُ النَّهْيِ عَامًّا. (18 و19) أَشَدُّ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْآيَةِ (95) أَنَّهُمْ رِجْسٌ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ زَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، حَتَّى مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا فِي الْآيَةِ (125) وَأَنَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا يَنْصَرِفُونَ مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ غَفْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا وَهَذَا آخِرُ مَا ذُكِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ 127. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا وُصِفُوا بِهِ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ بِأَنْزَهِ تَعْبِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقْرُونًا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالسَّرَائِرِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهِمُ التَّنْفِيرُ مِنْهُ لِإِعْدَادِ مَنْ فِيهِ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْحَقِّ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَابَ أَكْثَرُهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (الْفَصْلُ الثَّانِي) (فِي الْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ) النِّفَاقُ خُلُقٌ رَدِيءٌ وَوَصْفٌ خَبِيثٌ تَتَلَوَّثُ بِهِ الْأَنْفُسُ الدَّنِيئَةُ الْفَاسِدَةُ الْفِطْرَةِ، فَلَا يَرَى أَهْلُهَا وَسِيلَةً إِلَى مَطَامِعِهِمْ فِي الْمَالِ وَمَطَامِحِهِمْ إِلَى الْجَاهِ إِلَّا الْكَذِبَ، وَالرِّيَاءَ، وَلِقَاءَ النَّاسِ بِالْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالتَّصَنُّعَ، وَالْخِدَاعَ، وَلِينَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (63: 4) وَهُمْ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ شِعْبٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ، لَا تَخْلُو مِنْهُمْ بَادِيَةٌ وَلَا حَاضِرَةٌ، وَالنِّفَاقُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ، فَالْخَاصُّ: هُوَ الشَّخْصِيُّ الَّذِي يُحَاوِلُ صَاحِبُهُ لِقَاءَ كُلِّ أَحَدٍ مِمَّا يُرْضِيهِ عَنْهُ وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا الْحُكَّامِ وَأَصْحَابِ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ وَالثَّرَاءِ الَّذِينَ يُرْجَى الِانْتِفَاعُ مِنْهُمْ أَوْ يُخْشَى ضَرُّهُمْ، فَهُوَ يَلْبَسُ لِلصَّالِحِينَ مِنْهُمْ لِبَاسَ التَّقْوَى

وَالصَّلَاحِ، وَيَخْلَعُ لِلْفُسَّاقِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، وَيُفْرِغُ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِينَ حُلَلَ الْإِطْرَاءِ، وَهُوَ أَهْوَنُ الْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا النِّفَاقُ الْعَامُّ فَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَمَا وُجِدَ النِّفَاقُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا صَارَ لِلْإِسْلَامِ قُوَّةُ الدَّوْلَةِ، إِذْ أَسْلَمَ أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ بِظُهُورِ نُورِ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ تَحْجُبُ هَذَا النُّورَ عَنْ بَصَائِرِهِمْ، أَوْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَجُحُودِهِ، كَكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الْمَغْرُورِينَ بِثَرْوَتِهِمُ الْوَاسِعَةِ، وَجَاهِهِمْ فِي الْعَرَبِ بِسِدَانَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالسُّكْرِ وَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا وَالشَّهَوَاتِ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، وَيُفَضِّلُ الْفَقِيرَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْغَنِيِّ الْمُسْرِفِ فِي الْفُسُوقِ، وَيَقْتَصُّ لِلسُّوقَةِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَيُحَقِّرُ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُكْرِمُ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَيَزْدَرِي الظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ، فَيَسْلُبُهُمْ بِهَذَا جَمِيعَ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ عَلَى دَهْمَاءِ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ فِي مَكَّةَ الْفُقَرَاءَ وَبَعْضَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْحُرَّةِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى، وَكَانَ أَعْلَاهُمْ فِطْرَةً وَأَزْكَاهُمْ نَفْسًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَسَائِرُ الْعَشَرَةِ الْكِرَامِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ. آمَنَ بَعْضُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَوَّلًا بِلِقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَدَعَوْا قَوْمَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَتْ دَعْوَتُهُمْ رَوَاجًا لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَفَضَائِلُ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَثُرُوا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ إِذْ عَاهَدَهُ نُقَبَاؤُهُمْ فِي مِنًى عَلَى نَصْرِهِ وَمَنْعِهِ (أَيْ حِمَايَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ) مِمَّا يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ نُورُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَظْهَرْ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ قَوْمُهُمْ مُوَاتَاةً لَهُمْ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ نِظَامٍ لِدِيَانَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ يَرْتَبِطُ بِهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيُقِيمُونَهُ وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، فَكَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا الْإِسْلَامَ كَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ. وَكَانَ هُنَالِكَ يَهُودٌ كَثِيرُونَ يُقِيمُ أَكْثَرُهُمْ فِي حُصُونٍ لَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبُنِيَ النَّضِيرِ، وَقَدْ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُ وَيُظَاهِرُونَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا جَاءُوا لِقِتَالِهِ، بَلْ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانُوا فِي إِظْهَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ مُنَافِقِينَ، وَكَانَ لَهُمْ أَحْلَافٌ مِنْ عَرَبِ الْمَدِينَةِ، فَحَافَظَ عَلَى مَوَدَّتِهِمْ مُنَافِقُوهَا بِالسِّرِّ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَحَلِّهِ. فَكَانَتْ سِيَاسَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ،

لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ، وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّرَائِرِ، وَأَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُوَفَّى لَهُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمُ اعْتَذَرُوا عَنْهُ، حَتَّى إِذَا مَا افْتَضَحَ أَمْرُهُمْ حَارَبَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْلَاهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (55 - 58) مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (42 - 52 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي سُورَةِ الْحَشْرِ مَا كَانَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْإِخَاءِ وَالْوَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَفُوا لِلْيَهُودِ بِمَا وَعَدُوهُمْ بِهِ مِنْ نَصْرِهِمْ إِذَا هُمْ أَظْهَرُوا عَدَاوَتَهُمْ ; لِأَنَّ الْمُنَافِقَ الْقُحَّ دُونَ الْمُتَدَيِّنِ الْكَافِرِ هِمَّةً وَشَرَفًا وَخُلُقًا. قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) (59: 11 و12) . كَانَ سَبَبُ مُعَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِ وَإِقْرَارِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ حُرِّيَّةٍ وَعَدْلٍ، وَدَعْوَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْذِ أَوْلَادِهِمُ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا وَانْضَمُّوا إِلَى الْيَهُودِ بِالْقُوَّةِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ إِذْ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (2: 256) . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ هُوَ أَنَّ أَمْرَ السَّرَائِرِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُهَا، وَهُوَ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهَا، وَلَا يُبَاحُ لِحَاكِمٍ وَلَا لِنَبِيٍّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى إِنْسَانٍ بِأَنَّهُ يُسِرُّ الْكُفْرَ فِي نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَتَّهِمَهُ بِذَلِكَ وَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ عَلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ صَرِيحٍ مِنْهُ، أَوْ صُدُورِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ أَوِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ جُحُودِ كَوْنِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ; وَالشِّرْكِ بِاللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، كَجُحُودِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، أَوِ اسْتِحْلَالِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَأَمَّا حِكْمَةُ ذَلِكَ وَفَائِدَتُهُ فَهِيَ أَنَّ مَنْ يَلْتَزِمُ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ إِيمَانٍ يَقِينِيٍّ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ - بِطُولِ الْعَمَلِ - أَنْ يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَطْمَئِنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيُوقِنَ بِهِ عَقْلُهُ، وَإِلَّا كَانَتِ اسْتِفَادَتُهُ وَإِفَادَتُهُ لِلْأُمَّةِ دُنْيَوِيَّةً فَقَطْ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مُقْتَضَى حُرِّيَّةِ الدِّينِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْإِسْلَامُ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ - إِذْ

أَقَرَّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ حَتَّى فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُمْ - أَنْ يَسْمَحَ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا كَفْرَهُمْ (قُلْنَا) إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إِظْهَارِ كُفْرِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمْ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. تَنَاقُضٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ عَادِلٌ، وَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يُسْمَحُ لَهُ بِحُقُوقِ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ وَلَا يُطَالَبُ بِالْخُضُوعِ لِقَوَانِينِهَا، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى انْتِهَاكِهَا وَمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ حُرِّيَّةُ الدِّينِ الْمَعْقُولَةُ لِأَهْلِهِ فِي دَائِرَةِ مُحِيطِهِ بِأَلَّا يُحَاسِبَ أَحَدُهُمْ أَحَدًا عَلَى عَقِيدَتِهِ وَوِجْدَانِهِ فِيهِ، وَلَا اجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِهِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَيْسَ مِنْهَا أَنْ يُخَالِفَ أُصُولَهُ الْقَطْعِيَّةَ الَّتِي لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا بِدُونِهَا وَيُعَدُّ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، إِذًا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ حُكُومَتَهُ الْمُتَدَيِّنَةَ بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى دِينِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى قَوَانِينِهَا، فَتَكُونُ حُرِّيَّتُهُ هُنَا مُتَعَارِضَةً مَعَ حُرِّيَّتِهَا هِيَ وَحُرِّيَّةِ أُمَّتِهَا. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ فَضَحَ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يُنَفِّذِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ بَقِيَ يُعَامِلُهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ (قُلْنَا) إِنَّ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا كَانَ وَصْفًا لِأُنَاسٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ بِأَشْخَاصِهِمْ، إِنْذَارًا وَزَجْرًا لَهُمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَيَخْشَوْا سُوءَ مَآلِهِمْ، عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلتَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَابَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ، بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِهِمْ. وَكَانَ الَّذِينَ عَرَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَشْخَاصَهُمْ - قَلِيلِينَ جِدًّا، كَالَّذِينِ هَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَشْرِيدِ رَاحِلَتِهِ فِي عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ - مُنْصَرَفَهُمْ مِنْ تَبُوكَ - لِيَطْرَحُوهُ مِنْهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) (9: 74) وَلَمَّا اسْتَأْمَرَهُ أَصْحَابُهُ بِقَتْلِهِمْ قَالَ: ((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ وَيَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ)) أَيْ فِي رِقَابِهِمْ بِقَتْلِهِمْ، وَهَذَا أَكْبَرُ مُنَفِّرٍ عَنِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانَ يَسْتَحْسِنُ هَذَا الدِّينَ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ فِي أَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ لِذَاتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَقُومَ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى الْيَقِينِ بِكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَيَدْخُلُونَ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَكْثَرِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَفْضِيلِهِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِدَعْوَتِهِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) (49: 14) وَلَوْ سَمِعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسُلَّمَ يَقْتُلُ بَعْضَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَصَحِبَهُ لِظُهُورِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِإِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، لَنَفَرُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَخَافُوا عَاقِبَةَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَثَمَّ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارَ يُذِيعُونَ فِيهَا مَا شَاءُوا مِنَ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ وَالْإِفْكِ الْمُفْتَرَى، كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَ مَنْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا دَلَّهُمْ عَلَى بُطْلَانِ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ صَدَّقُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ. عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَبِالْهَمِّ بِشَرِّ نَتَائِجِهِ مِنَ الْفِعْلِ (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (9: 74) . الْآيَةَ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي (ص 473 - 481 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَيْلِي هَذَا فِي السُّورَةِ خَبَرُ الَّذِي عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ (فِي الْآيَاتِ 75 - 77) وَمَا رَوَوْا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا خَاصَّةً وَأَنَّهُ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ، وَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ تَابَ وَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ فِي حَدِيثِ سَبَبِ نُزُولِهَا إِشْكَالَاتٍ فِي سَنَدِهِ وَفِي مَتْنِهِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا فَصَّلُوهُ بِهِ تَفْصِيلًا (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ص 481 - 484 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَيَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (9: 84) وَأَنَّهُ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ زَعِيمِ الْمُنَافِقِينَ الْأَكْبَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّعَارُضِ مَعَ الْقُرْآنِ فَرَاجِعْهُ (فِي ج 10 تَفْسِيرٌ) . وَمِنَ الْمُشْكَلِ فِي هَذَا الْبَابِ قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ فِي الْآيَاتِ (107 - 110) فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ لِأَرْبَعَةِ أَغْرَاضٍ مِنْهَا الْكُفْرُ وَسَائِرُهَا أَقْبَحُ مَقَاصِدِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَدْمِهِ فَهُدِمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ بِكَذِبِهِمْ فِيمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ نِيَّتِهِمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ بَنَوْهُ لِلْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ كَانُوا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَتْبَاعِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَوَسَّلَ بِنَصْرَانِيَّتِهِ إِلَى قَيْصَرِ الرُّومِ وَالشَّامِ فَيُرْسِلَ مَعَهُ جُنْدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ صِدْقَهُمْ فِي ظَاهِرِ عَمَلِهِمْ وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ - كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَارَكُوهُمْ وَصَلَّوْا مَعَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ مُتَعَذِّرًا، فَصَحَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخْفِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (48: 25) .

وَالسَّبَبُ الْخَاصُّ لِعَدَمِ عِقَابِ أَصْحَابِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي أَثْبَتَهُ النَّصُّ الصَّرِيحُ - أَمْرَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْآيَاتِ فِي قِصَّتِهِمْ قَدْ بُدِئَتْ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ فِيهَا مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ أَرْجَأَ اللهُ الْبَتَّ فِي أَمْرِهِمْ وَجَعَلَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ مَرْجُوَّةً، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (9: 106) وَالثَّانِي خَتَمَ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (9: 110) فَيَظْهَرُ فِي مَعْنَى (تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمُ) احْتِمَالٌ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَقَطُّعُهَا مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَوُقُوعُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُحْتَمَلٌ، وَإِذًا يَكُونُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَأَصْدَقِهَا، وَيَكْفِي الِاحْتِمَالُ لِمَنْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنْ يُعَامَلُوا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمَا يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ عَلَيْهِ - وَمِثْلُهُ نُوَّابُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ - أَنْ يُعَرِّضَ فِي الْخُطَبِ الْعَامَّةِ وَالتَّصْرِيحَاتِ الرَّسْمِيَّةِ بِتَقْبِيحِ مَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَالْإِنْذَارِ بِسُوءِ عَوَاقِبِهَا لِيَعُدَّهُمْ لِلتَّوْبَةِ مِنْهَا، أَوِ الْحَذَرِ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْأُصُولَ الْآتِيَةَ: (الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَمُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ) 1 - إِنَّ حُرِّيَّةَ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ مَرْعِيَّةٌ لَا سَيْطَرَةَ عَلَيْهَا لِلرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرْشِدِينَ، وَإِنَّمَا لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَ إِنْسَانًا بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ وَلَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ لِمِلَّتِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ، وَلَا بِإِرَادَةِ السُّوءِ لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، وَلَا أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِقَابٍ بَدَنِيٍّ وَلَا مَالِيٍّ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ. 2 - إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ بِاللهِ أَوْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي عَقَائِدِهِمْ، أَوْ إِظْهَارِ مَا يُنَافِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَعْوَةً وَلَا طَعْنًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِنْ كَانَ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْكُفْرِ صَرِيحًا قَطْعِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ وَعِقَابِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ (وَمِنْهُ مَنْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَسْخُ نِكَاحِهِ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَعَدَمِ تَشْيِيعِ جِنَازَتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ حُرِّيَّةَ كُلٍّ أَحَدٍ فِي اعْتِقَادِهِ تَقِفُ عِنْدَ حَدِّ حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ. وَلَا سِيَّمَا احْتِرَامِ عَقَائِدَ الْمِلَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِي ظِلِّ شَرِيعَتِهَا، وَسَائِرِ شَعَائِرِهَا وَعِبَادَاتِهَا.

وَلَيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَسْرَفُوا فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَبَنَوْا كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ، وَالْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ الْقَرِيبَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِفَاقًا لَا يُنَافِي ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْآنَ كُفْرٌ مَحْضٌ لَا تُقْبَلُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، فَكِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمَا الْحُجَّةُ فِي الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهِمَا هُوَ الْوَاجِبُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُنَافِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. 3 - إِنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ بِمَا هُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ، مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِحَدٍّ وَلَا تَعْزِيرٍ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعِظَهُ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ بِالتَّصْرِيحِ وَالتَّكْشِيفِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يُرْجَى أَنْ يَزَعَهُ عَنْ غَيِّهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، كَالْحِرْمَانِ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ، أَوِ الْإِزْوِرَارِ وَالتَّقْطِيبِ، أَوِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (9: 73) وَمِنْهُ حِرْمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) (9: 83) الْآيَةَ. وَلَكِنَّ الْمُلُوكَ الْمُسْتَبِدِّينَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقِينَ فَيَزِيدُونَهُمْ فَسَادًا، وَيُجَرِّئُونَ غَيْرَهُمْ بَلْ يُرَغِّبُونَهُ فِي النِّفَاقِ وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ جِهَارًا، حَتَّى إِنَّ الْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ صَارَتْ تُنَالُ بِالنِّفَاقِ، وَيُذَادُ عَنْهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. (انْتَهَى بَيَانُ مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ) (وَكُتِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي سَنَةٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ) (وَتَمَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1350)

- سُورَةُ يُونُسَ (السُّورَةُ الْعَاشِرَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَآيَاتُهَا 109 عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الشَّامِيِّ 110) هِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَقِيلَ سُورَةِ هُودٍ. وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كَوْنِهَا مَدَنِيَّةً غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ بَلْ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي يُؤَيِّدُهُ مَوْضُوعُ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَهُوَ يَدُورُ عَلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَهَدْمِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ عَنْهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ فَكَيْفَ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَتْرُكُوا مُتَرَدَّمًا، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: اسْتُثْنِيَ مِنْهَا: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) الْآيَتَيْنِ (94 و95) - وَقَوْلُهُ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) (10 - 40) الْآيَةَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مَكِّيٌّ وَالْبَاقِي مَدَنِيٌّ: حَكَاهُ ابْنُ الْفَرَسِ وَالسَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ مَوْضُوعَ السُّورَةِ لَا يَقْبَلُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ تَثْبَتْ بِهِ رِوَايَةٌ. وَكَوْنُ الْمُرَادِ: بِـ (الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ) فِي الْآيَةِ (94) الْيَهُودَ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِيَّةِ فِيهَا الْفَرْضُ لَا وُقُوعُ الشَّكِّ حَقِيقَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ)) وَهُوَ مُرْسَلٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَ فِي سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ) (17: 101) وَقَوْلِهِ فِي سُورَتَيِ النَّحْلِ الْآيَةِ (43) وَالْأَنْبِيَاءِ الْآيَةِ (7) (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ تِلْكَ خُتِمَتْ بِذِكْرِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذِهِ افْتُتِحَتْ بِهَا، وَأَنَّ جُلَّ تِلْكَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْهُ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ (124 - 127) وَهَذِهِ فِي أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَمِنْهَا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ (15 و16 و17 و37 - 40) .

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُبَ الَّذِي يُوجَدُ بَيْنَ السُّورِ لَيْسَ سَبَبًا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي بَيْنَهَا، فَرُبَّ سُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقْوَى التَّنَاسُبِ فِي مَوْضُوعِ الْآيَاتِ وَمَسَائِلِهَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا تَارَةً وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا أُخْرَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ الْفَصْلُ بَيْنَ سُورَتَيِ الْهُمَزَةِ وَاللهَبِ وَمَوْضُوعُهُمَا وَاحِدٌ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ السُّوَرِ الْمَبْدُوءَةِ بِلَا تَسْبِيحٍ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَيُقَابِلُهَا مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَصْلُ بَيْنَ سُوَرِ الطَّوَاسِينِ وَسُوَرِ آلَ حَامِيمَ، وَبَيْنَ سُورَتَيِ الْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ وَسُورَتَيِ التَّكْوِيرِ وَالِانْفِطَارِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ إِنَّ التَّنَاسُبَ بَيْنَ أَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ أَقْوَى مِنْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَمِنْ حِكْمَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَوِيَّةِ التَّنَاسُبُ فِي الْمَعَانِي كَالْمَكِّيَّةِ الَّتِي مَوْضُوعُ أَكْثَرِهَا الْعَقَائِدُ وَالْأُصُولُ الْعَامَّةُ وَالزَّوَاجِرُ الصَّادِعَةُ، وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي مَوْضُوعُ أَكْثَرِهَا الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ - أَنَّهُ أَدْنَى إِلَى تَنْشِيطِ تَالِي الْقُرْآنِ بِالتَّرْتِيبِ وَأَنْأَى بِهِ عَنِ الْمَلَلِ، وَأَدْعَى لَهُ إِلَى التَّدَبُّرِ، فَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تُشْبِهُ حِكْمَةَ تَفْرِيقِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ عَقَائِدَ وَقَوَاعِدَ وَأَحْكَامٍ عَمَلِيَّةٍ، وَحِكَمٍ أَدَبِيَّةٍ، وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، وَبِشَارَاتٍ وَنُذُرٍ، وَأَمْثَالٍ وَقَصَصٍ، وَالْعُمْدَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ التَّوْقِيفُ وَالِاتِّبَاعُ. وَهَأَنَذَا أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مُلْتَزِمًا فِيهَا الْقَصْدَ وَالِاخْتِصَارَ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ لَهُ بَيَانٌ مُفَصَّلٌ فِي تَفْسِيرِ السُّوَرِ السَّابِقَةِ وَلَا سِيَّمَا السُّورَتَيْنِ الْمَكِّيَّتَيْنِ مِنَ السُّوَرِ الطُّوَلِ - الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ - وَإِنَّمَا أَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيمَا لَمْ أَبْسُطْهُ فِيهِ تَمَامَ الْبَسْطِ مِنْ قَبْلُ، وَأَهَمُّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَسْأَلَةُ الْوَحْيِ.

يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) . (الر) تُقْرَأُ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ بِأَسْمَائِهَا سَاكِنَةً غَيْرَ مُعْرَبَةٍ هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، رَا. وَالْحَرْفُ الْأَخِيرُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفَائِدَةُ النُّطْقِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا هَكَذَا تَنْبِيهُ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمُ السُّورَةُ لِمَا بَعْدَهَا لِأَجْلِ الْعِنَايَةِ بِفَهْمِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَقْوَى فِي هَذَا التَّنْبِيهِ مِنْ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ كَلِمَةِ ((أَلَا)) الِافْتِتَاحِيَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَعِيدَةُ الشَّأْوِ، الرَّفِيعَةُ الشَّأْنِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْأَحْكَامِ فِي مَبَانِيهِ، الْحَقِيقِ بِهِدَايَةِ مُتَدَبِّرِهِ وَوَاعِيهِ. (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ عَجَبِ الْكُفَّارِ وَاسْتِنْكَارِ إِنْكَارِهِمْ لِلْوَحْيِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ الْخَفِيُّ الْخَاصُّ لِامْرِئٍ بِمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. أَيْ أَكَانَ إِيحَاؤُنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا نُكْرًا اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً بَيْنَهُمْ يَتَفَكَّهُونَ بِاسْتِغْرَابِهَا؟ كَأَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالنَّاسِ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى الرِّسَالَةِ قَدْ سَبَقَتْهُمْ إِلَيْهَا أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ

2

وَهُوَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (7: 63 و69) وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَحَضْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ((أَنْ)) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كَافَّةً (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) التَّبْشِيرُ مُقَابِلُ الْإِنْذَارِ، أَيِ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبِشَارَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَجْزِيهِمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ - وَالصِّدْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضِدُّ الْكَذِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِيمَانِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْوَفَاءِ وَسَائِرِ مَوَاقِفِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ (مَقْعَدِ صِدْقٍ) (54: 55) وَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) (17: 80) وَ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) (17: 80) وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) وَالْقَدَمُ هَاهُنَا السَّابِقَةُ وَالتَّقَدُّمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سَابِقَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سُمِّيَتْ قَدَمًا لِأَنَّ السَّبْقَ بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصِّدْقِ لِتَحَقُّقِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنَالُونَهَا بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ (لَسَاحِرٌ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبَاقُونَ (لَسِحْرٌ) وَيَعْنُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَدْ قَالُوا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ جَاءَ بِهِ سَاحِرٌ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْلُومِ لِلْبَشَرِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَإِنَّ وَاللَّامِ، وَبِوَصْفِ السِّحْرِ أَوِ السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ

بِالْغَيْبِ (1) وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص 181 - 182 ج 1 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (4: 163) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص 55 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) . وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص 258 - 267 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص 242 - 247 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص 154 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ: فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ (فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ: أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.

كَتَبَ الْأُسْتَاذُ إِدْوَارْ مُونْتِيهِ الْمُسْتَشْرِقُ مُدَرِّسُ اللُّغَاتِ الشَّرْقِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ جِنِيفَ الْجَامِعَةِ فِي مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا تَرْجَمْتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ. ((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ. فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ. وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ: ((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ 12: 1) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ

يُقَالُ: ((إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ)) وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ حُلُولُ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ. (1) إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ. (2) إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ. تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ: ((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ. وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ. أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ. ((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ

جُمَّيْزٍ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَكَانَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَحْلَامِ وَالرُّؤَى وَالتَّبْلِيغِ، وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرَوْنَ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا، فَكَانَتْ تَقْتَرِنُ فِي رُؤَاهُمُ الْحَوَادِثُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ مَعَ الْبَعِيدَةِ كَاقْتِرَانِ نَجَاةِ الْيَهُودِ مِنَ الْآشُورِيِّينَ بِخَلَاصِ الْعَالِمِ بِوَاسِطَةِ الْمَسِيحِ، وَكَانْتِصَارِ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَكَاقْتِرَانِ انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اقْتِرَانُ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ بِحَوَادِثِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ. ((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ. مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا: أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟ وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي: (1) إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ. فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟ (2) إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ

الطُّرُقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مِنْ رِجَالِ التَّنَسُّكِ كُلَّ مَا يَقُولُونَ، وَيُسَلِّمُونَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ نَقَلَتْ عَنْهُمْ كُتُبُهُمُ الْمُقَدَّسَةُ بَعْضَ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّ مِنْ أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ وَالنُّسَّاكِ وَالسُّيَّاحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَفْضُلُ سِيرَتُهُمْ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَشْأَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَمَعِيشَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا. (3) أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ. (4) إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ، وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ: فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ) ، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (1 - 4) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (24: 55) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟ هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ

الزَّمَانِ، فَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَأَعْصَى عَلَى إِنْكَارِ الْمُرْتَابِينَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَأَوَّلُهُ بِهِ الْجَاحِدُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمْ. وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ. وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ. ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (9: 30) وَهُوَ فِي (ص 305 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ

مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى. ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص 313 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ

وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ. وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ. (صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا) إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ. وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.

وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ) . مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ: بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ. كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ. الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا: جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ: ((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ

عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ ; لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ. وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ. وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ. وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ. ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ 67 عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ 37، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.

بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقُولُ: إِنَّ 27 مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ. وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا 7: 11 - 16) الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ 9: 18 - 24) . فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ. وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ: ((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ 11 مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.

أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ. وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ. آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ: هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ. هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي

لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (17: 88) . وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ. تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ. لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ. وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.

وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى 24: 24) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (16: 12 إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ. وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ. ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا. الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ

دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ - وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ. وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ: (دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ: (إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ) . وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي

لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ. قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا. (شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ) (وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ. يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ. وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا. وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ 788 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ 1321 هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.

شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ. وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا. فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ) .

(جَوَابُ الْمَنَارِ) لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ. أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ. إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ. وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ: ((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ

إِلَى حِزْبِ أُورْلِيَانْ فِي الِانْقِسَامَاتِ الَّتِي مَزَّقَتْ مَمْلَكَةَ فَرَنْسَا، وَكَانَتْ جَانْ تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا 13 سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)) . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ 1429 م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ 1430 م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ. فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ. أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ

إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ هُوَ الَّذِي أَصْلَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَعَمَّرَهَا وَمَدَّنَهَا، وَإِنْ عُدَّ سَبَبًا بَعِيدًا فَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ، كَهُبُوبِ رِيحٍ تُهَيِّجُ الْبَحْرَ فَيَغْرَقُ الْأُسْطُولُ وَتَنْتَصِرُ الْأُمَّةُ. أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ. لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ. هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.

تَفْصِيلُ الشُّبْهَةِ وَدَحْضُهَا بِالْحُجَّةِ قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ: (1) قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ. بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ وَقِيلَ 12 سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ. (2) قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا. وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ

الْمُشْرِكُونَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ أَعْمَى وَلَمْ يَنْشَبْ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَقَدْ كَانَ تَعْذِيبُ بِلَالٍ بَعْدَ إِظْهَارِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِثَلَاثِ سِنِينَ - وَإِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ قَدْ غَلِطَ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ خَبَرِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لِاخْتِلَاطِ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْمُحَدِّثِينَ فِي خَبَرِ وَرَقَةَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا أَمْ لَا، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ لَنَقَلُوهُ. (3) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (157) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا. وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ ... قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ وَفِي الْمِرْآةِ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ الْحِجَازَ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَيُهَاجِرَ، فَعَلِمَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِيهَا فَجَدَعَ أَنْفَ نَاقَتِهِ وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَبَكَى ; لِأَنَّ فِيهِمُ ابْنَيْ خَالِهِ وَعَادَ إِلَى الطَّائِفِ وَمَاتَ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ الشَّرِيدَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: ((كَادَ أَنْ يُسْلِمَ)) وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفِيًّا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَتَنَصَّرْ وَمِنْ شِعْرِهِ: كُلُّ دَيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ ... إِلَّا دِينَ الْحَنِيفَةِ زُورٌ (4) إِسْلَامُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا فَتَنَصَّرَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَصَحِبَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آخِرِهِمْ بِقُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَبِيعَ لِبَعْضِ يَهُودِ يَثْرِبَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَسْلَمَ وَكَاتَبَ سَيِّدَهُ. وَفِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِدِرِمِنْغَامْ وَغَيْرِهِ. (5) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ. (6) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ. فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا. (7) قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) : ((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ

عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا تَدُلُّهُ عَلَيْهِ أَنْبَاءُ كُتُبِهِ. وَفِي الشَّامِ عَرَفَ مُحَمَّدٌ أَحْبَارَ الرُّومِ وَنَصْرَانِيَّتَهُمْ وَكُتَّابَهُمْ وَمُنَاوَأَةَ الْفُرْسِ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ لَهُمْ وَانْتِظَارَ الْوَقِيعَةِ بِهِمْ)) . كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا. فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ. (8) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ: ((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)) . هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.

(9) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ مَسْأَلَةَ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَالطَّاهِرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ وَيَقُولُ: إِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَلَدٍ لَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا فَقَدْ مَاتُوا فِي الْمَهْدِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ وَكُنِّيَ بِهِ وَأَنَّهُ مَاتَ طِفْلًا، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى أَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ وَأَنَّ الطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ لَقَبَانِ لِلْقَاسِمِ. وَلَكِنَّ دِرِمِنْغَامْ قَدْ كَبَّرَ مَسْأَلَةَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهَا حُكْمًا. وَأَثَارَ وَهْمًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُطِقْ عَلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْبَنِينَ صَبْرًا. ((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)) . ((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)) . غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا: ((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ. رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ. هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ

خَدِيجَةَ لَمْ تَيْأَسْ - بِمَوْتِ الْقَاسِمِ - مِنَ اللهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهَا بِوَلَدٍ آخَرَ، وَلَمْ تَنْحَرْ لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا، وَإِنَّ اللَّاتَ كَانَتْ صَخْرَةً فِي الطَّائِفِ تَعْبُدُهَا ثَقِيفُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ، وَالْعُزَّى كَانَتْ شَجَرَةً بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَعْبُدُهَا قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَغَطَفَانُ، وَمَنَاةَ كَانَتْ صَنَمًا فِي قُدَيْدٍ لِبَنِي هِلَالٍ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ. وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ. (10) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: (وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)) . وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي: وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ. ((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!

أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ. . . أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟ ((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا. ((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟ ((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ. قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ 610 م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.

وَلَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الشَّامِ وَمَكَّةَ لَهُمْ دِينٌ أُوحِيَ بِهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا غَيْرَهُمْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَعَوْهُ أَنْ جَاءَهُمْ عِلْمٌ مِنْ أَنْبِيَاءَ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَكُلَّمَا ضَلَّ النَّاسُ بَعَثَتِ السَّمَاءُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ. وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟ ((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ. ((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ. ((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)) . أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ

الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (96: 1 - 3) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ

فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (74: 1 - 5) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ. (وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.

هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ) (68: 1) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. (بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ. وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقُولُ: يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ - وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ

عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ. وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ. (تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ) (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ 610م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ

وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ - لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ 622م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ 614م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (30: 1 - 4) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا - هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا. وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (16: 103) . (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.

وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (28: 44، 45) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (11: 49) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. (الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. (الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (50: 1) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ

مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ. (الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ. قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (74: 11) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. (الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ. وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ. وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (48) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (4: 44 و51) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (5: 13، 14) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ

لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا. (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.

الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ: التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي 15 مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ. وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ

اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: ((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ: ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ. وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (93: 7) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (42: 52 و53) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،

وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (93: 7) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ. (أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (24: 35) . فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ. هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.

آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى - الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ (الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ) الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص 72 و82 و401 و409 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ. فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (7: 158) . وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،

وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ) . وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى ... وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى ... مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ - وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ. (أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ) لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ

الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُؤَلَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ قَوَاعِدَهُ التَّشْرِيعِيَّةَ وَأَحْكَامَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْحَرْبِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ وَحُدُودَهُ وَعُقُوبَاتِهِ التَّأْدِيبِيَّةَ رُتِّبَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ خَاصَّةٍ بِهَا كَأَسْفَارِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ - ثُمَّ لَوْ أَنَّ قِصَصَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ سُرِدَتْ فِي سُورِهَا مُرَتَّبَةً كَدَوَاوِينِ التَّارِيخِ - لَوْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ بِهَا إِصْلَاحَ شُئُونِ الْبَشَرِ جُمِعَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَحْدَهُ كَتَرْتِيبِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مُرَتِّبَهُ، أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقَوَانِينِ لَفَقَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مَزَايَا هِدَايَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِلْغَايَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِهِ وَاسْتِفَادَةُ كُلِّ حَافِظٍ لِلْقَلِيلِ مِنْ سُوَرِهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِي جَمِيعِ السُّورِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُوجَدُ فِيهَا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مَقْصِدٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ أَوِ الْحَيْضِ، فَهُوَ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَمَلُّهَا، وَأَمَّا سُوَرُهُ الْمُنَزَّلَةُ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا عِدَّةُ مَسَائِلَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَتَرَى فِي سُورَتَيِ الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ (الْمُتَعَلِّقَةُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى حَتَّى فِي الْإِعْرَابِ) ذِكْرَ مَسْأَلَتَيْنِ تَارِيخِيَّتَيْنِ قَدْ جُعِلَتَا حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَتَأْمِينِ تِجَارَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ - وَلَفَقَدَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَخَصَّ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ أَيْضًا. يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ. الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ: الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ

الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ. مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (13: 11) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟ هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا. ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ

وَأَلَمٍ وَأَمَلٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي الْأَحْدَاثِ بِالتَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ فِيمَنْ يَنْشَئُونَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْمُعَاشِرِينَ. وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ. وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ. ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،

وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ. وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (48: 29) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (25: 25) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى. وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (3: 110) . وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ. (فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ) بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ. بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ

مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ لِلْبَشَرِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ إِلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَأَرْقَاهُمْ لُغَةً وَأَقْوَاهُمُ اسْتِقْلَالًا فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مُلُوكٍ مُسْتَبِدِّينَ وَرُؤَسَاءَ دِينٍ أُولِي سُلْطَانٍ رُوحِيٍّ يَتَحَكَّمُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِشَهَوَاتِهِمْ. فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَدْ يُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَوَالِي، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَيُشَبِّهُهُمْ بِسَائِمَةِ الْأَنْعَامِ - فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا: ((يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَبِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ أَنْ يَأْتُوهُ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ، وَبِاضْطِهَادِ مَنِ اتَّبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْهُمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ ذِمَّةٍ، فَهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتْرَفُونَ الْمُسْرِفُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (6: 33) فَقَدْ كَابَرُوا الْحَقَّ بَغْيًا وَاسْتِكْبَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَكَانُوا أَجْدَرَ الْعَرَبِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) كَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَارُونَ. فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ. فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ

الَّتِي اعْتَرَفَ فِيهَا بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ كَلِمَةً فَائِضَةً مِنْ نُورِ عَقْلِهِ وَصَمِيمِ وِجْدَانِهِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً أُخْرَى فِي الصَّدِّ عَنْهُ بَعْدَ إِلْحَاحِ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بِاقْتِرَاحِهَا إِلَّا بِتَكْلِيفٍ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، وَأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (74: 11) الْآيَاتِ مِنْهَا. وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ. وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص 377 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (41: 26) . وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ) : وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ. كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ

الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (6: 19) أَيْ وَأَنْذِرْ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (27: 91 - 93) إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ عَرَفُوا مِنْ قُوَّةِ جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِوَقْعِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ)) فَفَعَلُوا. وَكَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى بَثِّ الدَّعْوَةِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى الِاضْطِهَادِ وَأَشَدِّ الْإِيذَاءِ لَهُ وَلِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعُ الرَّأْيِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ - لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ - وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ - الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ - وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (73: 1 - 4) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (73: 20) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ

رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (20: 1 و2) . فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (3: 191) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي. (مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ) . إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ

بِهَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ كَمَالُهُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُوضَعُ لَهُ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ الْفَحْوَى وَالْكِنَايَةِ. وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (62: 2) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ. (النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ) . إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2: 62) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ. (الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى) فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى - قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. ((أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ)) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً

وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ ; لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا. وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ. بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ. وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (3)

وَمِنْهَا اسْتَمَدَّ الْأَوْلِيَاءُ الْعَارِفُونَ وَالْأَئِمَّةُ الرَّبَّانِيُّونَ تِلْكَ الْكُتُبَ الْعَالِيَةَ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِ خَلْقِهِ، بَعْدَ أَنْ تَرَبُّوا بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ. بِهَذَا التَّكْرَارِ الَّذِي جَعَلَهُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَمْلُولٍ طَهَّرَ اللهُ عُقُولَ الْعَرَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّاهَا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ وَكَذَا غَيْرُ الْعَرَبِ مَنْ آمَنَ وَأَتْقَنَ لُغَةَ كِتَابِهِ وَصَارَ يُرَتِّلُهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، حَتَّى إِذَا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ دَبِيبُ الْجَهْلِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَقَلَّ تَدَبُّرُهُ، وَاعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَهْمِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُصَنَّفَةِ، ضَعُفَ التَّوْحِيدُ وَابْتَغَوْا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَتَأَوُّلًا وَجَدَلًا فَصَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِشُبَهَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ قَدْ بَالَغُوا فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَانْتَهَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، أَوْ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الشُّعُورِ الْوِجْدَانِيِّ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْبُرْهَانِ وَلَا مِنَ الْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْعَوَامَّ وَيَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ بِكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ الْجَاهِلِينَ وَلَوْ فَقِهُوا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ كَمَا يَجِبُ - وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ - لَمَا وَجَدَ الشِّرْكُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا. قَدْ كَانَ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهِ وَحُبُّهُمْ لَهُ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي زَكَّى أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْلَى هِمَمَهُمْ، وَكَمَّلَهَمْ بِعِزَّةِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَأْسِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَإِعْتَاقِهَا مِنْ رِقِّ الْكَهَنَةِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْبُوذَاتِ وَالْمُوبَذَانَاتِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَضَارَةِ، وَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَيِّتَةِ وَتَرْقِيَتِهَا فِيهِمْ وَقَدْ تَمَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ لِأُمَّةٍ مَنْ أَمَّمِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ الدُّكْتُورُ غُوسْتَافْ لُوبُونِ الْمُؤَرِّخُ الِاجْتِمَاعِيُّ الشَّهِيرُ: إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهَا لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ النَّاهِضَةِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ، أَوَّلُهَا جِيلُ التَّقْلِيدِ، وَثَانِيهَا جِيلُ الْخَضْرَمَةِ وَثَالِثُهَا جِيلُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ - قَالَ: إِلَّا الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ فَقَدِ اسْتَحْكَمَتْ لَهُمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَءُوا فِيهِ بِمُزَاوَلَتِهَا. وَأَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لَهُمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَاحْتِقَارِ التَّقْلِيدِ. وَتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ الْبَشَرِ وَقِيَادَتِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَقَدْ خَفِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى سَلَائِلِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَزَوَالِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَحَوُّلِ السُّلْطَانِ إِلَى الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ.

(الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ) وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانَ جُلُّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بَاعِثًا لِلْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِدُونِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ لَهَا كُتُبٌ وَتَشْرِيعٌ دِينِيٌّ وَمَدَنِيٌّ، ثُمَّ فُقِدَتْ كُتُبُهُمْ أَوْ حُرِّفَتْ وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ - يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ هَذَا قَدْ شَابَهُ الْفَسَادُ بِبِنَائِهِ عَلَى بِدَعٍ ذَهَبَتْ بِجُلِّ فَائِدَتِهِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ. وَأَسَاسُهَا عِنْدَ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ وَخَلْفِ النَّصَارَى - وُجُودُ الْمُخَلِّصِ الْفَادِي، الَّذِي يُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطَايَا وَيَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْأُقْنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي فِدَاءِ الْمَسِيحِ لِلْبَشَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ نُسْخَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْهُنُودُ فِي (كَرْشَنَةَ) فِي اللَّفْظِ وَالْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا فِي الِاسْمَيْنِ: كَرْشَنَةَ، وَيَسُوعَ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُلُّ دِيَانَتِهِمْ خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَمُحَابَاةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّعُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسَمُّونَهُ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ كَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَحْدَهُمْ لَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَدِيَانَتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا إِلَى الرُّوحِيَّةِ. فَكَانَ فَسَادُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ تَابِعًا لِفَسَادِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، وَمُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ مِثْلَهُ. جَاءَ الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِ بِهَذَا الْإِصْلَاحِ، فَقَدْ أَعَادَ دِينَ النَّبِيِّينَ فِي الْجَزَاءِ إِلَى أَصْلِهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ مَنُوطَيْنِ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ لَا مَنْ عَمْلِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِدُونِ مُحَابَاةِ شَعْبٍ عَلَى شَعْبٍ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً. وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ قَاعِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 7 - 10) أَيْ إِنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا بِمَا وَهَبَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ. قَدْ جَعَلَهَا بِإِلْهَامِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ مُسْتَعِدَّةً لِلْفُجُورِ الَّذِي يُرْدِيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَالتَّقْوَى الَّتِي تُنْجِيهَا وَتُعْلِيهَا، وَمُتَمَكِّنَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِرَادَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ خَوَاطِرِهَا وَمَطَالِبِهَا. وَمَنْحِهَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ يُرَجِّحَانِ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَبِقَدْرِ طَهَارَةِ النَّفْسِ وَأَثَرِ تَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، يَكُونُ ارْتِقَاؤُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَالْبَدَنِيِّ الَّذِي يُزَكِّي

النَّفْسَ أَوْ يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَحِكْمَةَ الدَّيَّانِ وَهُوَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْقُرْآنُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ. فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ. الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (23: 115) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (75: 36 - 40) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ

عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْدَمِينَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ كَانَتْ تُعْلِمُ النَّاسَ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ. وَلَوْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْأَرْوَاحِ وَحْدَهَا لَنَقَصَ مِنْ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعُ الْكَرِيمُ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْخَلْقِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةَ وَاللَّذَّاتِ الْجُثْمَانِيَّةَ، وَيَتَحَقَّقُ بِحِكَمِ اللهِ (جَمْعُ حِكْمَةٍ) وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ فِيهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ حَرَمَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَلَائِكَةَ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَمَا جَنَحَ مَنْ جَنَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ الْمُجَرِّدِ، إِلَّا لِاحْتِقَارِهِمْ لِلَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ وَتَسْمِيَتِهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ مَعَ شَغَفِ أَكْثَرِهِمْ بِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَقْصًا فِي الْإِنْسَانِ إِذَا سَخَّرَ عَقَلَهُ وَقُوَاهُ لَهَا وَحْدَهَا، حَتَّى يَصْرِفَهُ اشْتِغَالُهُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَصْلُ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ غُلُوُّ الْهُنُودِ فِي احْتِقَارِ الْجَسَدِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالرِّيَاضَةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ نُسَّاكُ النَّصَارَى كَمَا تَبِعُوهُمْ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَالتَّثْلِيثِ، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ تَلَامِيذِهِ لَمَّا وَدَّعَهُمْ فِي الْفِصْحِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي (مَتَّى 26: 29) وَجَرَى الْيَهُودُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالِاعْتِدَالِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَطَالَبَهُ بِمَا يَكُونُ بِهَا كَامِلًا فِي إِنْسَانِيَّتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَكَشْفِ شُبَهَاتِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِمَسَائِلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ، وَدَحْضِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا ص 417 - 427 ج 8 ط الْهَيْئَةِ. وَيُؤْخَذُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ صِفَةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ أَنَّ الْقُوَى الرُّوحِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ وَالْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْأَجْسَادِ، فَتَكُونُ قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِالصُّوَرِ اللَّطِيفَةِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ - وَإِنَّ تَرَقِّيَ الْبَشَرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَخَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ فِي عَصْرِنَا قَدْ قَرَّبَ كُلَّ هَذَا مِنْ حِسِّ الْإِنْسَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ يُعِدُّونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (7: 44) مِنْ تَخَيُّلَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُخَاطِبُ مِنْ مِصْرَ أَهْلَ عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ بِآلَةِ التِّلِيفُونِ، وَنَسْمَعُ خُطَبَهُمْ وَمَعَازِفَهُمْ بِآلَةِ الرَّادْيُو وَسَنَرَاهُمْ وَيَرَوْنَنَا بِآلَةِ التِّلِيفِزْيُونْ مَعَ التَّخَاطُبِ حِينَمَا يَعُمُّ انْتِشَارُهَا. وَأَمَّا عُلَمَاءُ الرُّوحِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي أَجْسَادٍ تَأْخُذُهَا مِنْ مَادَّةِ الْكَوْنِ كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسَائِلُ قَدْ شَرَحْنَاهَا

مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِجْمَالِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلْهَامَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ. وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَبَأِ خَرَابِ الْعَالِمِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَكَائِهِ أَوْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قَارِعَةً - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَوْكَبٌ - تَقْرَعُ الْأَرْضَ وَتَصُخُّهَا صَخًّا وَتَرُجُّهَا رَجًّا فَتَكُونُ هَبَاءً (غُبَارًا رَقِيقًا) مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ بِالْجَاذِبِيَّةِ لِلْعَامَّةِ فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهُ مِنْ أَحَدٍ فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِرَأْيِهِ وَفِكْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدْحَضُ زَعْمَ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْمُعَاصِرِينَ بِأَنَّ خَرَابَ الْعَالَمِ بِهَذَا السَّبَبِ هُوَ أَقْرَبُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِخَرَابِهِ. (الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلدِّينِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ) وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ الْبَشَرُ فِيهِ بِجَعْلِهِ تَقْلِيدِيًّا غَيْرَ مُزَكٍّ النَّفْسَ وَلَا مُصْلِحٍ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنْ دُونَ تَكْرَارِ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْدِيسِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذَا التَّكْرَارِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْثِيرِ لَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ كَافِيَةً فِي الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ عَلَى قِصَرِهَا، كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُكْتَبُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مِنْ مُعْجِزَاتِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً فِي الثَّوَابِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تُرْضِيهِ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ أُصُولِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَقَضَى رَبُّكَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (17: 23 - 39) إِلَخْ وَهِيَ أَجْمَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وَآيَاتُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (6: 151) إِلَخْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ

بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَثَارُهَا الْأَكْبَرُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطَاعَةُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَيُضَمِّدُهُمَا مَلَكَةُ التَّقْوَى، فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَقِي النَّفْسَ مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا وَتَسُوءُ بِهِ عَاقِبَتُهَا فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا تُذْكَرُ فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي (ص 538 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا. وَسُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَيَانُ أُصُولِهَا وَمَجَامِعِهَا، وَتَكْرَارُ التَّذْكِيرِ بِهَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَحُثُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الرُّوحِيَّةُ الْعُلْيَا وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الْمُثْلَى، وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْكُبْرَى، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِهِمَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبَيَّنَ أَهَمَّ مَنَافِعِهِمَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (29: 45) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (70: 19 - 26) الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (9: 103) . وَلَمْ يُكَرِّرْ مَا يُحْفَظُ بِالْعَمَلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا إِلَّا لِمَا لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، وَذُكِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الصِّيَامِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ وَيُحْفَظُ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَلَا تَغْذِيَةٌ لِلْإِيمَانِ. تَرْجِيحُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى فَضَائِلِ الْإِنْجِيلِ: وَأَذْكُرُ فَضِيلَتَيْنِ مِنْ فَضَائِلِهِ يَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عِنْدَهُمْ فِيهَا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ: (الْأُولَى) قَوْلُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَأَدِرْ لَهُ الْأَيْسَرَ)) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ امْتِثَالَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِ الْأَذِلَّةِ الْمُسْتَعْبَدِينَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ بِإِغْرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ بِالضُّعَفَاءِ الْخَاضِعِينَ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أُعْصَى النَّاسِ لَهَا مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَسِيحِيِّينَ. أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ لَا تَأْتِي فِي دِينِ الْفِطْرَةِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ امْتِثَالَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (2: 286) وَإِنَّمَا قَرَّرَ الْقُرْآنُ فِي مَوْضُوعِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. قَالَ تَعَالَى:

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (42: 40 - 43) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ لِلْمُسِيءِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِبْدَالِ الْمَوَدَّةِ بِالْعَدَاوَةِ، فِي مَكَانِ الْإِغْرَاءِ بِالتَّعَدِّي وَدَوَامِ الظُّلْمِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (41: 34، 35) فَانْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ وَدَرَجَاتِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَكَيْفَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْإِصْلَاحُ الْأَعْلَى عَلَى لِسَانِ أَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. (الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! . وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ

وَتَرْقِيَةِ رُوحِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذِي الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ الْأَعْلَى - وَأَهْلًا لِجِوَارِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ يَكُونُ نَاقِصًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَامِلًا إِذَا خَرَجَ عَنْ طَبْعِهِ، وَقَصَدَ النَّفْعَ بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ دُونَ نَفْسِهِ، وَدُونَ إِرْضَاءِ رَبِّهِ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَحِدُّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخَيْرِ لِلْبَشَرِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؟ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَحْيُ وَهِدَايَةُ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ بِتَعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ وَبِدَعِهَا، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَأَصْلَحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِهَا الَّذِي جَعَلَهَا غَيْرَ كَافِلَةٍ لِسَعَادَةِ الْبَشَرِ الْآخِذِينَ بِهَا، مِنْ شَوْبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ بِالشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلْقِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ بِالْمُحَابَاةِ وَالْفِدَاءِ، لَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعِبَادَاتِ تَقَالِيدَ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ، غَيْرَ مُثْمِرَةٍ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجِحَةً فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَآدَابُهُ كُلُّهَا مَعْقُولَةٌ مُكَمِّلَةٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ. وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى هَذَا بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِمَا جَعَلَهُ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ الدَّائِمِ لِلْبَشَرِ، الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ مَعَارِفِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّابِعَةِ مِنْ نَفْسِهِ. الْمَقْصِدُ الثَّانِي مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ (بَيَانُ مَا جَهِلَ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ) كَانَتِ الْعَرَبُ تُنْكِرُ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ بَقَايَا الْحُنَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَهْلِهِمَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَكَانَتْ شُبْهَةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ اسْتِبْعَادَ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ بِهَذَا التَّفْضِيلِ عَلَى سَائِرِهِمْ، وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يُخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُرَ النُّبُوَّةَ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَحْدَهُ، كَأَنَّ بَقِيَّةَ الْبَشَرِ لَيْسُوا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ مَا أَعْطَاهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هِدَايَةِ النُّبُوَّةِ. عَلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى اللهِ وَمُصَارَعَتِهِ وَارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَوَافَقَهُمُ النَّصَارَى عَلَى حَصْرِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَأَثْبَتُوا قَدَاسَةَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رُسُلِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَعَبَدُوهُمْ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّ تَلَامِيذِهِ إِنْكَارَهُ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسْلَمَهُ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: ((كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَقُسُوسَهُمْ أَرْبَابًا

مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِأَنْ نَحَلُوهُمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ مِنْ وَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَإِنْكَارِ عَدْلِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمُفْسِدَاتِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُ مُسْتَعْبَدًا لِأَفْرَادٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأَثْبَتَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْمُنْذِرِينَ لِجَمِيعِ شُعُوبِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (16: 36) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (35: 24) وَكَرَّمَ الْإِنْسَانَ بِجَعْلِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّونَ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَلَيْسُوا بِمُسَيْطِرِينَ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَطَاعَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِطَاعَتِهِ، فَقَدْ أَبْطَلَ مَا نَحَلَهُمُ النَّاسُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ التَّشْرِيعِ، كَمَا أَبْطَلَ عِبَادَتَهُمْ وَعِبَادَةَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، وَبِذَلِكَ تَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنَ الرِّقِّ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَيِّنَةُ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى. وَلِضَلَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي ذَلِكَ، كَرَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُ سَائِرِ الْبَشَرِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُبَلِّغِينَ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِهِمُ الْمُكَمِّلِ لِدِينِهِمْ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (18: 110) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ وَسَطِهَا: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (18: 56) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 48) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى. بَعَثَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالتَّنْفِيذِ، وَبِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً مِنَ الْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 188) وَسَيَأْتِي نَظِيرُهَا فِي الْآيَةِ 49 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ بِمَا لَا يَدَعُ لِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ سَبِيلًا حَتَّى فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا رَأَى خِزْيَ النَّصَارَى بِتَأْلِيهِ نَبِيِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، لَمْ يَكْتَفِ بِتَلْقِيبِ نَفْسِهِ بِرَسُولِ اللهِ، حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) . وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُثْبِتُونَهَا لِمَعْبُودَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُثْبِتُونَهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ وَقِدِّيسِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَهَا، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (21: 28، 29)

وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا (مِنْهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَحَادِيثِ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ) . وَكَرَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دُونَ تَكْرَارِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لَهَا فَالْإِقْنَاعُ بِهَا أَسْهَلُ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ: الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ: وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ. قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (2: 285) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (4: 150 - 152) . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ

اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ جِدًّا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (2: 253) . وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دَرَجَاتٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَالِ وَفَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَقْصَدَ التَّفْصِيلِ. وَإِنَّكَ لَتَجِدُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَتْبَاعِهِ: ((لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)) قَالَهُ إِنْكَارًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَطَمَ يَهُودِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ وَقَالَهُ. وَبَيَّنَ مَزِيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)) وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: ((لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)) وَفِي بَعْضِهَا ((لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى)) وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَنْقِيصِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّعَادِي بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: ((وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ (وَمَا يُشْبِهُ بَعْضَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَمَا يُشْتَبَهُ بِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَضَلَالِ الْمَادِّيِّينَ وَالْخُرَافِيِّينَ فِيهَا) تَكَلَّمْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّصَارَى بِالْعَجَائِبِ، وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَيَعُدُّونَهَا قِسْمًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا عِدَّةَ أَقْسَامٍ، وَنَقُولُ هُنَا كَلِمَةً وَجِيزَةً فِي إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِضَلَالِ الْبَشَرِ فِيهَا، وَالصُّعُودِ بِهِمْ أَعْلَى مَرَاقِي الْإِيمَانِ، اللَّائِقِ بِطَوْرِ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِسُنَنِ الْأَكْوَانِ، الَّذِي مَنَحُوهُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَنَقُولُ: آيَاتُ اللهِ نَوْعَانِ: آيَاتُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ نَوْعَانِ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا وَأَظْهَرُهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ

الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهِيَ أَقَلُّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَدَلَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا يَخْلُقُ، وَكَوْنِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ غَيْرَ مُقَيَّدَتَيْنِ بِسُنَنِ الْخَلْقِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ، فَالسُّنَنُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى مِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاخْتِيَارُ لَكَانَ الْعَالَمُ كَالْآلَاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا إِرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ. كَآلَةِ السَّاعَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا أَوْقَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَآلَاتِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَعَامِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلَةَ لِلْوُجُودِ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا النِّظَامِ بِنَظَرِيَّةِ (الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَهُمْ يَتَكَلَّفُونَ اخْتِرَاعَ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا. سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ: وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ. فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ: الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ. وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ

مَا لِلْحِجَابِ، وَإِدْرَاكِ مَا لِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، كَانَ بِهَا إِيمَانُهُمْ بِرُسُلِهِمْ فَوْقَ إِيمَانِ أَهْلِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا. وَمِنْ دُونِ هَؤُلَاءِ أَفْرَادٌ آخَرُونَ، قَدْ يَكُونُ مَنْ لَهُمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، أَوْ مُعَالَجَةُ النَّفْسِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَوْ مِنْ طُرُوءِ مَرَضٍ يَصْرِفُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِشَهَوَاتِ الْجَسَدِ، أَوْ مِنْ سُلْطَانِ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى إِرَادَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَصْرِفُهَا عَنْ حِسِّهَا، وَتُوَجِّهُ قُوَاهَا النَّفْسِيَّةَ إِلَى مَا شَاءَتْ أَنْ تُدْرِكَهُ لِقُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا - قَدْ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ مَا يَلْمَحُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مُرْتَسِمَةً فِي خَيَالِهِمْ، فَيُخْبِرُونَ بِهَا فَتَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا. الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ: إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً. وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ. إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَيَخْضَعُونَ لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ

عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ. بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (8: 17) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (17: 93) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (29: 50) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا. جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي. الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.

وَالْأَصْلُ فِي الْكَرَامَةِ الْإِخْفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ظُهُورُهَا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَهْلُهَا يُظْهِرُونَ مَا لَهُمْ كَسْبٌ فِيهِ مِنْهَا كَالْمُكَاشِفَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ. قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ: (الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ، وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ)) وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي. وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟

الْكَافِرُونَ بِالْآيَاتِ صِنْفَانِ. مُكَذِّبُونَ وَمُشْرِكُونَ، وَعِلَاجُ كُلٍّ مِنْهُمَا: الْكَافِرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُكَذِّبُهَا كُلَّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصِنْفٌ يُشْرِكُ بِاللهِ غَيْرَهُ فِيهَا، فَيَنْحَلُهُ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَيُشَرِّعُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ الْأَغْيَارَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِهِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بِدَعْوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ الْغَيْبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَامَوْنَ أَلْفَاظَ الْعِبَادَةِ وَالشِّرْكِ وَالْخَلْقِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَيَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِمْ بِمَا يُكَذِّبُهُمْ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْسَلُ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ آيَاتِ الْكِتَابِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ كَانَ يَرْزُقُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَا كَانَ رِزْقُهَا مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ سَخَّرَهُ اللهُ لَهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِتَسْخِيرِ بَعْضِ النَّاسِ لَهَا، وَوَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَدْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا. وَإِنَّ إِفْسَادَ هَؤُلَاءِ الْخُرَافِيِّينَ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَأَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، بِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أَسْبَابِ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْخَلْقِ بِمَا يُخَالِفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَيُحَوِّلُهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَجَعَلَهُ أَسَاسَ دِينِهِ، فَكَذَّبُوا بِالدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ، فَتَكُونُ فِتْنَتُهُمْ شَامِلَةً لِفَرِيقَيِ الْكَفَّارِ بِالْآيَاتِ - فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ وَفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِاللهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُتَعَدٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالِ النَّاسِ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ يَتْبَعُهُ عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ. عِلَاجُ خُرَافَةِ تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْكَوْنِ: أَمَّا الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي عِبَادَتِهِ بِجَهْلِهِمْ لِآيَاتِهِ، وَتَقْلِيدِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فِي خُرَافَاتِهِمْ فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِلَّا تَعْلِيمُهُمْ تَوْحِيدَ اللهِ الْخَالِصَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، دُونَ نَظَرِيَّاتِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَتَعْلِيمُهُمْ وَظَائِفَ الرُّسُلِ وَكَوْنَهُمْ بَشَرًا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَحْيِهِ لِتَبْلِيغِ عِبَادِهِ مَا ارْتَضَاهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصْرِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يُؤْتِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ فِي خَلْقِهِ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ عَلَى هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ بِالطَّبْعِ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَاشَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَوَلَدُ نُوحٍ

أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ مَاتَ كَافِرًا وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِحَمْلِهِ فِي السَّفِينَةِ فَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُغْرَقِينَ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ أَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْهُ الْمُؤْذِينَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَمِّهِ وَوَعِيدِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ يَنْزِلْ مِثْلُهَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ كَانَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ عَمَّهُ الَّذِي كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَكَفَّ عَنْهُ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِيَشْهَدَ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (6: 74) الْآيَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَاجِعَهُ مَنْ يُحِبُّ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ لَمْ يُؤْتُوا الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ فَكَيْفَ يُؤْتَاهُ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ؟ الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا: وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ. رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ 1837، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ

إِظْهَارَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ يُدْفَنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَيًّا، فَأَحْضَرَ الْمَهَرَاجَا نَفَرًا مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَأُمَرَاءِ بَنْجَابَ، فَجَلَسَ الْفَقِيرُ الْقُرْفُصَاءَ أَمَامَهُمْ فَكَفَّنُوهُ بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا الْقُطْنَ وَالشَّمْعَ عَلَى أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ - كَمَا أَوْصَاهُمْ - وَخَاطُوا عَلَيْهِ الْكَفَنَ وَوَضَعُوهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ السَّمِيكِ وَسَمَّرُوا غِطَاءَهُ وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا عَلَيْهِ خِتْمَهُ، وَدَفَنُوهُ فِي قَبْوٍ دَاخِلَ حُجْرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَأَقْفَلُوا بَابَهَا وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا خِتْمَهُ بِالشَّمْعِ عَلَى قُفْلِهَا، وَأَمَرَ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِ حَرَسِهِ الْأُمَنَاءِ بِحِرَاسَتِهَا وَطَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ بِمُعَاوَنَتِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشْهَدِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَنْجَابِيِّينَ وَحَاشِيَةِ الْمَهَرَاجَا. وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ. قَالَ: لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ. ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ. إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً

مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ) (18: 25) الْآيَةَ - حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) (18: 26) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ. وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ. الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (20: 66) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ

لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ. الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ: الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ. ((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ. أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا. وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 91) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (23: 50) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا. وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا

مَنْصُوصَةٌ فِي إِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي نَبَذَتْهُ الْمَجَامِعُ الْكَنَسِيَّةُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَفُقِدَ مِنَ الْعَالَمِ هِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ فَيَجْعَلُهَا بِهَيْئَةِ طَيْرٍ، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَيْ مِنْ رُوحِهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَطِيرُ قَلِيلًا وَيَقَعُ مَيِّتًا. وَدُونَ هَذَا إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ الْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ سَيَّالِ رُوحِهِ الْقَوِيِّ إِلَى جُثَّةِ الْمَيِّتِ مَعَ تَوْجِيهِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَائِهِ، كَانَ يَكُونُ سَبَبًا رُوحَانِيًّا لِإِعَادَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَمَسُّ النُّورُ ذُبَالَ السِّرَاجِ الْمُنْطَفِئِ فَتَشْتَعِلُ أَوْ كَمَا يَتَّصِلُ السِّلْكُ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسِّلْكِ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا فَيَتَأَلَّقُ النُّورُ مِنْهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلَا سِيَّمَا الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ. وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (3: 49) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلَا سِيَّمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.

عِبَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِلْمَسِيحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ دُونَ مُوسَى: وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ ; لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ - التَّوْرَاةِ - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ. وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ - وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 188) وَقَالَ: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) (72: 21) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.

وَنُلَخِّصُ الْمَوْضُوعَ هُنَا فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ: (1) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ - هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 22) . (2) إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ - الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا - إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ. (3) إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.

(4) إِنَّ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِ سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ فِي خَلْقِهِ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَيَّدَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ وَتَخْوِيفِ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَبُ ذَلِكَ أَوْ حِكْمَتُهُ خَتْمُ النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَجَعَلَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ آيَةً دَائِمَةً وَهِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ وَلَا إِلَى آيَةٍ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى. خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ: (5) لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ. وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ)) . ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (41: 42) .

لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ: (6) إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ - حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ ((مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ. (7) إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.

(خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ) إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (32: 7) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (آلم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (27: 88) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (3) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (54: 49) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (25: 2) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (15: 19) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (15: 21) . وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ. وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا. وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ

يَكُنْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ - فَهَذَا الْإِيمَانُ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْبَشَرَ إِلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ كَانَ يَعُدُّهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ كَالْغَيْبِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، حَتَّى لَمْ يُعَدَّ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ بَعِيدًا عَنِ الْعَقْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ: (الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ (الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ - لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ) - لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (6: 9) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.

الْخَطَرُ عَلَى الْبَشَرِ مِنِ ارْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِدُونِ الدِّينِ: إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ; وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ (بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ) . قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ. حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ: (1) الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (30: 30) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ

عَلَيْهَا هِيَ الْجِبِلَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: الْجِسْمَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَعْرِفَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ فِيهِمَا، وَمَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ غَرِيزَةِ الدِّينِ الْمُطْلَقِ، الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ - فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ - لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ - هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.

فَهَذَا الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ حَاجَةٌ مِنْ حَاجِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ كَمَالُهَا النَّوْعِيُّ بِدُونِهِ، فَهُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. (2) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ: تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ ((الْعَقْلِ)) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ ((أُولِي الْأَلْبَابِ)) فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ ((أُولِي النُّهَى)) أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه. أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (2: 164) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (6: 151) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (10: 16) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (67: 10) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (22: 46) الْآيَةَ. كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (34: 46)

وَقَوْلُهُ: (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (30: 8) وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُولِي الْأَلْبَابِ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (3: 191) وَقَوْلُهُ بَعْدَ نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصْرِ وَظِيفَتِهِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (6: 50) . وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ اهـ. وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ. (3) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ: ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (17: 36) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (46: 4) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (30: 6 و7) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (17: 85) . وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (22: 8) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (30: 22) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (35:28)

الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ هُنَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ الْكَوْنِ وَأَسْبَابَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهَا وَآيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا. عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (3: 18) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (58: 11) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (20: 114) . وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (10: 36) وَمِثْلُهُ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (53: 28) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (4: 157) . وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (7: 33) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ. وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (29: 8) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (2: 269) : وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (62: 2) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (4: 113) وَقَالَ لَهُ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (16: 125) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ:

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (17: 39) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (33: 34) . وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (4: 54) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (2: 251) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (5: 110) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (31: 12) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (17: 39) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (17: 27) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (17: 29) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ. وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا. (4) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ: قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (4: 174) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (23: 117) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:

وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28: 75) . وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 220) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (21: 24) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (27: 64) . وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (6: 81) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (6: 83) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) (40: 35) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) (40: 56) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. (5) الْإِسْلَامُ دِينُ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ: قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَقَالَ: وَالْقَلْبُ مِنَ الْفُؤَادِ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرُهُ وَوِجْدَانُهُ الْبَاطِنُ (قَالَ) : وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ اهـ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ هَذَا وَطَرِيقَ اسْتِعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مِائَةِ آيَةٍ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (50: 37) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (26: 88، 89) وَمَدْحُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ) (37: 84) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (2: 26) وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (13: 28)

وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (57: 72) وَوَصَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ لِلَّهِ وَتَمْحِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَقُلُوبِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالرِّجْسِ وَالْمَرَضِ وَالْقَسْوَةِ وَالزَّيْغِ. وَعَبَّرَ عَنْ فَقْدِهَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّهَا كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ. وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ، وَحُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، مَنَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِيهِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ دَلَائِلِهَا ذَمُّ الْقُرْآنِ لِلتَّقْلِيدِ وَتَضْلِيلُ أَهْلِهِ. (6) مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ: كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَحُرِّيَّةِ الْوِجْدَانِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَهْلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ) (2: 170) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ يَاأَيُّهَا) (5: 104) ذَمَّهُمْ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) الْجُمُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ التَّرَقِّي فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْعَاقِلِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي النُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ، وَالْعَقْلُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ وَالتَّجْدِيدَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ قَدْ فَقَدُوا مَزِيَّةَ الْبَشَرِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَطَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 28) وَقَالَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْمَلَائِكَةِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (43: 20 - 23) وَقَدْ وَرَدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ. فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ يَهْدِي جَمِيعَ مُتَّبِعِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ مَعَ ضَمَائِرِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الدِّينِ، وَأَلَّا يَكْتَفُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ

هَذَا جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ) يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ

وَمِنْ بَابِ التَّقْلِيدِ دَخَلَ أَكْثَرُ الْخُرَافَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِانْتِسَابِ جَمِيعِ الدَّجَّالِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُمْ فِي دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَنَحْنُ دُعَاةَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِاتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ. إِنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ لِلْعُلَمَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَتَرَى عُلَمَاءَ الرُّسُومِ الْجَامِدِينَ يَحْتَجُّونَ بِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَعَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهَا، وَصَاحِبُ الْمَنَارِ قَدِ انْفَرَدَ دُونَ عُلَمَاءِ مِصْرَ بِالرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْبَابِيَّةِ وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ وَالتِّيجَانِيَّةِ وَالْقُبُورِيِّينَ وَسَائِرِ مُبْتَدَعَةِ عَصْرِنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. (7) الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي الدِّينِ بِمَنْعِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِهَادِ وَرِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ: هَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ هِيَ نَتِيجَةُ الْمَزَايَا الَّتِي بَيَّنَّا بِهَا كَوْنَهُ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْإِكْرَاهِ فِيهِ وَعَلَيْهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (10: 99 - 101) عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَخْتَلِفَ عُقُولُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَتَتَفَاوَتُ أَنْظَارُهُمْ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ، فَمَا كَانَ يَتَمَنَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هِدَايَةِ الدِّينِ وَضَلَالَةِ الْكُفْرِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَخْذَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ عِنْدَ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَهَوَّدَ بَعْضُهُمْ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (2: 256) الْآيَةَ - فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَيِّرُوهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ أُجْلِيَ مَعَ الْيَهُودِ وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَنْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ اضْطِهَادُ النَّاسِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ، فَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (2: 193) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ 39 مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي بِلَفْظِهَا مَعَ زِيَادَةِ (كُلُّهُ) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ص 552 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ. وَأَمَّا مَنْعُ رِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَعْهُودَةِ عِنْدَ النَّصَارَى فَفِيهَا آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا

فِي الْكَلَامِ عَلَى وَظَائِفِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (88: 21، 22) . الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ (الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ) وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ. جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ. وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (21: 92) . ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (23: 51، 52) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ

فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَثَلُ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ بِنَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا لِمَا قَبْلَهُ كَمَثَلِ تَعْدِيلِ الْقَوَانِينِ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْضًا إِلَى أَنْ كَمَلَ الدِّينُ. (الْأَصْلُ الثَّانِي) الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ. وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (49: 13) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (7: 158) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (2: 256) . (الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ. (الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (49: 10) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (9: 11) . (الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ. (الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى

أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (5: 42) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (5: 48) . (الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا. وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص 264 وَمَا بَعْدَهَا) ج 9 ط الْهَيْئَةِ. وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي. رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:

جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟) . فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ)) فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((دَعْهُ إِلَى النَّارِ)) فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ. أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ. لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ. يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ

بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (11: 118، 119) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ. دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ. قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟ ! .

الْمَقْصِدُ الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ (تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ) (وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ) (1) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (2: 143) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ. (2) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ. (3) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي. وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ. (4) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (2: 286) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (2: 220) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (2: 185) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (22: 78) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (5: 6) . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101)

مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ. (5) مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (7: 31 و32) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وَهُوَ فِي (4: 171) وَ (5: 77) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. (6) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ: ((أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ)) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا. (7) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (35: 32) . (8) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (29: 43) . وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ

أَيْضًا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ. (9) مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ ((التَّوْبَةِ)) . (10) مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ. الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ (بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ) الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ. (الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ) الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (42: 38) وَقَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (3: 159) وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (4: 159) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (4: 83) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ

الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (4: 59) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ. وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (9: 1) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (49: 9) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ) . وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى) . فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ

كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ. ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: ((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ

بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ. (أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ) الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ: (1) الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ. (2) مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ. (3) إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ. (4) اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (5: 101) . وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ)) ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو. قَالَ مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ - عَلَى النَّصِّ. وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ. بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ

اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا. (قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ) أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ. (نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ) لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (4: 58) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (4: 135) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (5: 8) فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَهُنَاكَ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهَاهُنَا يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَعْدَائِهِ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، فَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقِيلَ مَعَ الِاحْتِقَارِ وَقَدْ قَالَ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (5: 8) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ. فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (42: 17) وَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (57: 25) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ. فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ. وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (11: 117) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (18: 59) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5: 45) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.

(قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ) مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ. وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟ . الْمَقْصِدُ السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ (الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ) (تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ: - طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ - ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ - مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ: (1 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (3: 186) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ) (27: 40)

الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) (34: 37) الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (30: 39) وَقَالَ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (3: 14) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (8: 28) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (64: 15) وَيَلِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَصْرُ الْفَلَاحِ عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ، وَقَالَ تَعَالَى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (18: 46) انْظُرْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (7) وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ وَأَرْضَاهُ لِلَّهِ بِشُكْرِهِ، ثُمَّ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْمَثَلِ بِصَاحِبَيِ الْجَنَّتَيْنِ، وَالْمَثَلِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (59: 7) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (9: 34) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ. وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا سِيَّمَا الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (2: 195) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (2: 195) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (92: 5 - 11) . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ: (2 - الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ) قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (96: 6 و7) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ

أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْمَسَدِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (111: 1 و2) إِلَخْ وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْهُمَزَةِ: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (104: 2 و3) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ مِنْ سُورَتَيِ الْمُدَّثِّرِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا. (3 - ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ) . قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (3: 180) وَقَالَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (2: 268) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (57: 23 و24) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ 9: 76 و77 وَآيَةُ 47: 38 وَآيَةُ 4: 39 وَآيَةُ 2: 188 وَآيَةُ 4: 161 وَآيَةُ 4: 29 وَآيَةُ: 9: 34 و35. (4 - مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ) قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْهُ: (فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (71: 10 - 12) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ (11: 52) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (72: 13 - 17) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (20: 122 و123) الْآيَاتِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) (9: 28) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ: (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) (8: 70) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ. وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (93: 8) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى

الْمَالَ الْكَثِيرَ خَيْرًا بِقَوْلِهِ فِي صِفَاتِ الْإِنْسَانِ: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ) (100: 8) وَقَالَ: (إِنَّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (2: 180) الْآيَةَ. (5 - مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ) . قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (4: 5) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (25: 67) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ. (6 - إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ) . هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (49: 14 و15) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (2: 177) إِلَخْ. وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (4: 95) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (57: 10) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (11) مِنَ التَّفْسِيرِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً

مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَخَلَّلُهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا فَرَاجِعْهَا مِنْ آيَةِ 261 - 281 مَعَ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ. ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. (7 - الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ) قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (9: 103) فَصْلًا: ((فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)) وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ. وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ ((دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ. الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ (إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ) التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (21: 18) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (13: 17) . وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ

فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ. وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) (16: 92) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ (وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ. وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ. (أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ) . قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ 28 قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (125 - 130 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ 13 قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و20 حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا

أَفْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ الْمُحَمَّلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِنْ آرَاءِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، الَّذِي عَاشَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ فِي الصِّبَا وَالتِّجَارَةِ فِي الشَّبَابِ، وَقَدْ قَصَّرَتْ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا كُتُبُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكُتُبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ. (الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى فِي الْحَرْبِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْعًا) وَرَدَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِّينَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَتَوْطِيدِ الْمَصَالِحِ، مُقْتَرِنًا بِالنَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (2: 190) وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مُطْلَقًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُحْكَمٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسَخِ، وَمِنْ ثَمَّ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَنَّ حُرُوبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعُدْوَانِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْحَرْبِ وَنَتِيجَتِهَا) وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْإِيجَابِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ - بَعْدَ دَفْعِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ وَاسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ - حِمَايَةَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمَصْلَحَةَ الْبَشَرِ، وَإِسْدَاءَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، لَا الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ بِالْقِتَالِ الدِّفَاعِيِّ لِلْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (22: 40 و41) . ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ. (أَوَّلُهَا) كَوْنُهُمْ مَظْلُومِينَ مُعْتَدًى عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمُخْرَجِينَ نَفْيًا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ خَاصٌّ بِهِمْ بِقِسْمَيْهِ الشَّخْصِيِّ وَالْوَطَنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ لَوْلَا إِذْنُ اللهِ لِلنَّاسِ بِمِثْلِ هَذَا الدِّفَاعِ، لَهُدِّمَتْ جَمِيعُ الْمَعَابِدِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ اللهِ تَعَالَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَصَوَامِعِ الْعِبَادِ وَبِيَعِ النَّصَارَى وَصَلَوَاتِ الْيَهُودِ (كَنَائِسِهِمَا) وَمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بِظُلْمِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا سَبَبٌ دِينِيٌّ عَامٌّ صَرِيحٌ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ وَحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَلِمَعَابِدِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ كَانَ.

(ثَالِثُهَا) أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُمْ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَالْحُكْمِ فِيهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ بِنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا وَصَفَهَا تَعَالَى، وَالْمُرَبِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ - وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشَّامِلِ لِكُلِّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلنَّاسِ - وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الشَّامِلِ لِكُلِّ شَرٍّ وَضُرٍّ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ. (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ السَّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ) هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا إِذَا عُلِمَ بِهِمَا أَنَّ الْحَرْبَ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِيهَا مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَأَنَّ السَّلْمَ هِي الْأَصْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ فَلِهَذَا أَمَرَنَا اللهُ بِإِيثَارِهَا عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (8: 61) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 59، 126 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ. (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لِلْحَرْبِ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ الْمَانِعِ مِنْهَا) إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ الْحَرْبِ، هُوَ إِعْدَادُ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا، أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحَةِ أَوِ التَّسْلِيحِ السِّلْمِيِّ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا فَتُكَذِّبُهَا أَعْمَالُهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعْلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ بِهِ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (8: 60) . (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الرَّحْمَةُ فِي الْحَرْبِ) إِذَا كَانَ الْغَلَبُ وَالرُّجْحَانُ فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُعَبَّرِ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَعْدَاءِ، وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ظُهُورَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفُوا بِالْأَسْرِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ فِي الْأُسَارَى إِمَّا بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (47: 4) الْآيَةَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا وَبَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (8: 67) الْآيَةَ: (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 72 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .

(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهَا) وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ. (الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً) قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (9: 29) مَا نَصُّهُ: هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) : هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! .

الْمَقْصِدُ التَّاسِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ (إِعْطَاءُ النِّسَاءِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ) كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَظْلُومَاتٍ مُمْتَهَنَاتٍ مُسْتَعْبَدَاتٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَفِي جَمِيعِ شَرَائِعِهَا وَقَوَانِينِهَا، حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَكْمَلَ اللهُ دِينَهُ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَأَعْطَى اللهُ النِّسَاءَ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَبِسُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَوَظَائِفُهَا النِّسَوِيَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَكْرِيمِهَا وَالرَّحْمَةِ بِهَا وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أُشِيرُ هُنَا إِلَى أَهَمِّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ النِّسَوِيِّ الَّتِي بَسَطْتُهَا بِكِتَابٍ وَسِيطٍ فِي ((حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ)) بَيَّنْتُ فِي مُقَدِّمَتِهِ حَالَهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عِنْدَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِجْمَالًا بِقَوْلِي: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُشْتَرَى وَتُبَاعُ، كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَتْ تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ وَعَلَى الْبِغَاءِ، وَكَانَتْ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ، وَكَانَتْ تُمْلَكُ وَلَا تَمْلِكُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَهَا يَحْجُرُونَ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّجُلِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِهَا مِنْ دُونِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرِّجَالُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي كَوْنِهَا إِنْسَانًا ذَا نَفْسٍ وَرُوحٍ خَالِدَةٍ كَالرَّجُلِ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تُلَقَّنُ الدِّينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا الْعِبَادَةُ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ الْمَلَكُوتَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ فَقَرَّرَ أَحَدُ الْمَجَامِعِ فِي رُومِيَّةَ أَنَّهَا حَيَوَانٌ نَجِسٌ لَا رُوحَ لَهُ وَلَا خُلُودَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ وَالْخِدْمَةُ، وَأَنْ يُكَمَّ فَمُهَا كَالْبَعِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ لِمَنْعِهَا مِنَ الضَّحِكِ وَالْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أُحْبُولَةُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَتْ أَعْظَمُ الشَّرَائِعِ تُبِيحُ لِلْوَالِدِ بَيْعَ ابْنَتِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْأَبِ الْحَقَّ فِي قَتْلِ بِنْتِهِ بَلْ فِي وَأْدِهَا - دَفْنِهَا حَيَّةً - أَيْضًا. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا دِيَةَ)) . وَكَتَبْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا مُخْتَصَرُهُ: ((قَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ التَّمَلُّكِ أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا يَمْلِكْنَ، وَاسْتِبْدَادَ أَزْوَاجِ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنْهُنَّ بِأَمْوَالِهِنَّ، فَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِأَنْوَاعِهِ وَالتَّصَرُّفَ بِأَنْوَاعِهِ الْمَشْرُوعَةِ، فَشَرَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَزَادَهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَوْلَادِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، وَأَعْطَاهُنَّ حَقَّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ حُقُوقُ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهَا كَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا بِالتَّقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ))

وَإِنَّنِي أُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ بِالْإِيجَازِ: (1) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (49: 13) الْآيَةَ: وَقَوْلَهُ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (4: 1) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا. (2) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ فِي أُورُبَّةَ وَغَيْرِهَا يَرَوْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا دِينٌ، حَتَّى كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ رَسْمِيًّا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُخَاطِبُ بِالتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مَعًا بِلَقَبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً، وَهِيَ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ جَمْعًا رَسْمِيًّا وُضِعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ هِيَ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَلَّ عِنْدَهَا مِنْ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَأُخِذَ مِنْ عِنْدِهَا وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي نُسَخِ الْمَصَاحِفِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ وَأُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ لِأَجْلِ النَّسْخِ عَنْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا. (3) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ فَتَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَهَذَا الزَّعْمُ أَصْلٌ لِعَدَمِ تَدَيُّنِهَا - فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 123 و124) وَيَقُولُ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (3: 195) الْآيَةَ. وَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّرِيحُ بِدُخُولِ الْفَرِيقَيْنِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. (4) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْتَقِرُونَ الْمَرْأَةَ فَلَا يَعُدُّونَهَا أَهْلًا لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَافِلِ الْأَدَبِيَّةِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِرْشَادَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَارِحُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (9: 71) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (9: 72) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص 466 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ.

(5) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْرِمُونَ النِّسَاءَ مِنْ حَقِّ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّمَلُّكِ، وَبَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكْنَ، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ هَذَا الظُّلْمَ وَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (4: 7) وَقَالَ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (4: 32) . وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكِيَّةِ لَمْ تَمْنَحِ النِّسَاءَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَّا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ، وَقَدْ مُنِحَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْحُقُوقَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفَ قَرْنٍ. (6) كَانَ الزَّوَاجُ فِي قَبَائِلِ الْبَدْوِ وَشُعُوبِ الْحَضَارَةِ ضَرْبًا مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَجَعَلَهُ الْإِسْلَامُ عَقْدًا دِينِيًّا مَدَنِيًّا؛ لِقَضَاءِ حَقِّ الْفِطْرَةِ بِسُكُونِ النَّفْسِ مِنِ اضْطِرَابِهَا الْجِنْسِيِّ بِالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ، وَاكْتِمَالِ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْتِشَارِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَوْلَادِ، عَلَى مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (30: 21) . (7) الْقُرْآنُ سَاوَى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ بِاقْتِسَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ جَعْلِ حَقِّ رِيَاسَةِ الشَّرِكَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمَايَةِ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الزَّوْجَاتِ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (2: 228) وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (4: 34) فَجَعَلَ مِنْ وَاجِبَاتِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا تُكَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ أَغْنَى مِنْهُ، وَزَادَهَا الْمَهْرَ فَالْمُسْلِمُ يَدْفَعُ لِامْرَأَتِهِ مَهْرًا عَاجِلًا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّلَا بَعْضَهُ بِالتَّرَاضِي، عَلَى حِينِ نَرَى بَقِيَّةَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمِ تُكَلِّفُ الْمَرْأَةَ دَفْعَ الْمَهْرَ لِلرَّجُلِ. وَكَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ يُجْبِرُونَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ تَكْرَهُ، أَوْ يَعْضُلُونَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ. (8) كَانَ الرِّجَالُ مِنَ الْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَا شَاءُوا غَيْرَ مُقَيَّدِينَ بِعَدَدٍ، وَلَا مُشْتَرَطٍ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَدْلُ، فَقَيَّدَهُمُ الْإِسْلَامُ بِأَلَّا يَزِيدُوا

عَلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الزِّيَادَةَ لِمُحْتَاجِهَا الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ. وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّعَدُّدِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ زِدْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ) مَا هُوَ مُقْنِعٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ بِأَنَّ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي التَّعَدُّدِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ. (9) الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْهُ وَفِيهِ ظُلْمٌ كَثِيرٌ وَغَبْنٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ شَرْعٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِمِثْلِهِ قَانُونٌ، وَكَانَ الْإِفْرِنْجُ يُحَرِّمُونَهُ وَيَعِيبُونَ الْإِسْلَامَ بِهِ، ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَسْرَفُوا فِيهِ إِسْرَافًا مُنْذِرًا بِفَوْضَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْحِلَالِ رَوَابِطِ الْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ. جَعَلَ الْإِسْلَامُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَيَتْبَعُهُ حَقُّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، وَكَوْنِهِمْ أَثْبَتَ مِنَ النِّسَاءِ جَأْشًا وَأَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِمَا يَزِيدُهُمْ قُوَّةً عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَقَالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (4: 19) عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُعْطِي الْمَرْأَةَ حَقَّ اشْتِرَاطِ جَعْلِ عِصْمَتِهَا بِيَدِهَا لِتُطَلِّقُ نَفْسَهَا إِذَا شَاءَتْ، وَأَعْطَتْهَا حَقَّ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ الزَّوَاجِ مِنَ الْقَاضِي إِذَا وَجَدَ سَبَبَهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْمَرَضِيَّةِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَجَعَلَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهِ حَقَّ النَّفَقَةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهَا فِيهَا الزَّوَاجُ، وَذَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ بِأَنَّ اللهَ يَبْغَضُهُ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهَا، وَفِي كِتَابِنَا الْجَدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ. (10) بَالَغَ الْإِسْلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَرَنَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَقَّ الْأُمِّ فَجَعَلَ بِرَّهَا مُقَدَّمًا عَلَى بَرِّ الْأَبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَكَفَالَةِ الْأَخَوَاتِ، بِأَخَصِّ مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، بَلْ جَعْلَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمًا شَرْعِيًّا يَتَوَلَّى كِفَايَتَهَا وَالْعِنَايَةَ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ أَقَارِبِهَا وَجَبَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَهَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُجِدَ دِينٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا قَانُونٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَعْطَى النِّسَاءَ مَا أَعْطَاهُنَّ

الْإِسْلَامُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، أَفَلَيَسَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمَبْعُوثِ فِي الْأُمِّيِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَنْ ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الْمُبَرْهِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْمَقْصَدُ الْعَاشِرُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ إِنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ قَدِيمٌ فِي شُعُوبِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ أَيْضًا كَالنَّمْلِ، فَإِذَا حَارَبَتْ قَرْيَةٌ مِنْهُ أُخْرَى فَظَفِرَتْ بِهَا وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَأْسِرُ مَا سَلِمَ مِنَ الْقِتَالِ وَتَسْتَعْبِدُهُ فِي خِدْمَةِ الظَّافِرِ مِنَ الْبِنَاءِ وَجَمْعِ الْمَئُونَةِ وَخَزْنِهَا فِي مَخَازِنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَانَتْ شُعُوبُ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهُنُودِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهَا تَتَّخِذُ الرَّقِيقَ وَتَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْأَعْمَالِ، وَتُعَامِلُهُ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الدِّيَانَتَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَظَلَّ الرَّقِيقُ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى أَنْ حَرَّرَتِ الْوِلَايَاتُ الْأَمِيرِيكِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ رَقِيقَهَا فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَتَلَتْهَا إِنْكِلْتِرَهْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَالِصًا لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَجُنُوحًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَزَالُ تُفَضِّلُ الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ الْأُورُبِّيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى الْجِنْسِ الْأَحْمَرِ الْوَطَنِيِّ الْأَصْلِيِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ السِّيَاسِيِّ الْمُبَاحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْإِفْرِنْجِ لِلشُّعُوبِ، كَمَا أَنَّ إِنْكَلْتِرَهْ تَحْتَقِرُ الْهُنُودَ وَتَسْتَذِلُّهُمْ وَلَكِنَّ النَّهْضَةَ الْهِنْدِيَّةَ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ خَفَّضَتْ مِنْ غُلَوَائِهِمْ، وَطَامَنَتْ مِنْ إِشْنَاقِ كِبْرِيَائِهِمْ. فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ الْمَاحِي لِكُلِّ ظَلَامٍ، كَانَ مِمَّا أَصْلَحَهُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ إِبْطَالُ ظُلْمِ الرَّقِيقِ وَإِرْهَاقُهُ، وَوَضْعُ الْأَحْكَامِ لِإِبْطَالِ الرِّقِّ بِالتَّدْرِيجِ السَّرِيعِ، إِذْ كَانَ إِبْطَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرًا فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةِ مَصَالِحِ السَّادَةِ الْمُسْتَرِقِّينَ، وَنَاحِيَةِ مَعِيشَةِ الْأَرِقَّاءِ الْمُسْتَعْبَدِينَ. فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ لَمَّا حَرَّرَتْ رَقِيقَهَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُ وَسِيلَةً لِلرِّزْقِ فَلَا يَجِدُهَا، فَيَحُورُ إِلَى سَادَتِهِ يَرْجُو مِنْهُمُ الْعَوْدَ إِلَى خِدْمَتِهِمْ كَمَا كَانَ. وَكَذَلِكَ جَرَى فِي السُّودَانِ الْمِصْرِيِّ، فَقَدْ جَرَّبَ الْحُكَّامُ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ رِزْقًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ فِيهِ مُكْتَفِينَ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى خِدْمَةِ الرِّقِّ السَّابِقَةِ، بِيَدَ أَنَّهَا لَا تَسْمَحُ لِلْمَخْدُومِينَ بِبَيْعِهِمْ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ.

هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ وَأَحْكَامِهِ قَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الرِّقِّ طَرِيقَتَيْنِ: عَدَمُ تَجْدِيدِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ، وَتَحْرِيرُ الرَّقِيقِ الْقَدِيمِ بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِيهِ. (الطَّرِيقَةُ الْأُولَى) مَنَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَّا اسْتِرْقَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا فِي الْحَرْبِ، الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَهِيَ شُرُوطٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ مَشْرُوعَةً عِنْدَ الْمِلِّيِّينَ، وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فَضْلًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَا قَانُونَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ كُلَّ مَا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، بَلْ شَرَعَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لِلْبَشَرِ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ إِبْطَالِهِ بِأَنْ خَيَّرَهُمْ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِيَّةِ، وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِدَاءُ الْمَالِ، وَفِدَاءُ الْأَنْفُسِ، إِذَا كَانَ لَنَا أُسَارَى أَوْ سَبْيٌ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قَوَاعِدِ الْحَرْبِ: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مِنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (47: 4) وَلَمَّا كُنَّا مُخَيَّرِينَ فِيهِمْ بَيْنَ إِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، جَازَ أَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لِإِبْطَالِ اسْتِئْنَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ وَالضَّرَرِ أَنْ يَسْتَرِقُّوا أَسْرَانَا وَنُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ وَنَحْنُ أَرْحَمُ بِهِمْ وَأَعْدَلُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَلَا صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ مَحَلَّ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، إِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْقَائِهِ أَبْقَوْهُ، وَإِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْجِيحِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ - وَهُوَ إِبْطَالٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ - أَوِ الْفِدَاءُ بِهِمْ عَمِلُوا بِهِ. (الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مَا شَرَعَهُ لِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ وُجُوبًا وَنَدْبًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ) . (النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ وَوَسَائِلِ تَحْرِيرِهِ اللَّازِبَةِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ) . (1) إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ. (2) تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ وَبُطْلَانُهُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ بِشَرْطِهِ. (3) الْكِتَابَةُ: وَهِيَ شِرَاءُ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْسِبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهَا لِمَنْ يَبْتَغِيهَا، وَأَمَرَ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ نَفْسِهِ. (4) إِذَا خَرَجَ الْأَرِقَّاءُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُونَ أَحْرَارًا. (5) مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ

وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ. (6) مَنْ عَذَّبَ مَمْلُوكَهُ أَوْ مَثَّلَ بِهِ كَأَنْ خَصَاهُ أَوْ جَبَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. (7) مَنْ آذَى مَمْلُوكَهُ بِمَا دُونَ التَّمْثِيلِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَكَفَّارَةُ ذَنْبِهِ أَنْ يَعْتِقَهُ. (8) التَّدْبِيرُ عِتْقٌ لَازِمٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ مَمْلُوكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بَعْدَ مَوْتِهِ. (9) إِذَا وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ لِسَيِّدِهَا وَلَدًا مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا لِغَيْرِهِ، وَتَصِيرُ حُرَّةً بِمَوْتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ. (10) مَنْ مَلَكَ أَحَدَ أَقَارِبِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) الَّذِي بَسَطْنَا بِهِ هَذَا الْبَحْثَ مِنَ التَّفْسِيرِ. (النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وَسَائِلِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ الْكَفَّارَاتُ) وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَأَعْظَمُهَا عِتْقُ الرِّقَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) وَاجِبٌ حَتْمٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْعِتْقِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُلِ زَوْجَهُ بِأُمِّهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ وَقَيْدِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي الْفِقْهِ. (ثَانِيهَا) وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَحَنَثَ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَحِكْمَةُ التَّخْيِيرِ ظَاهِرَةٌ. (ثَالِثُهَا) مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْعِتْقُ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مُكَفِّرَاتِهَا. (النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَسَائِلِ إِلْغَاءِ الرِّقِّ الْمَوْجُودِ) جَعْلُ سَهْمٍ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ (فِي الرِّقَابِ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعِتْقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ نَفْسِهِ (الْكِتَابَةُ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ زَكَاةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ تَبْلُغُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَوْ نُفِّذَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَحْدَهَا لَأَمْكَنَ تَحْرِيرُ جَمِيعِ الرَّقِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْهَا الْعِتْقُ الِاخْتِيَارِيُّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أَيِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ) . قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ مَا يَدْخُلُ تَدْوِينُهُ فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأُصُولِ الْبَرِّ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 177) . وَمِنْ أَشْهَرِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ

((عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ)) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)) قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا)) الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا مَالِكًا ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِلْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ)) قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ. (الْوَصِيَّةُ بِالْمَمَالِيكِ) أَضِفْ إِلَى هَذَا وَصَايَا اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَمَالِيكِ، وَمِنْهَا تَخْفِيفُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلُ حَدِّ الْمَمْلُوكِ فِي الْعُقُوبَاتِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِ السَّيِّدِ: ((عَبْدِي وَأَمَتِي)) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيُلْبِسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ وَيُعِينُوهُمْ عَلَى خِدْمَتِهِمْ إِنْ كَلَّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُوصِي بِالنِّسَاءِ وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ حَتَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَأَلَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) وَهَذَا مُبَالَغَةٌ، أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبَ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَالِغُونَ فِي تَكْرِيمِ الرَّقِيقِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْحِلْمِ حَتَّى صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي الْخِدْمَةِ. وَلَعَمْرُ الْحَقِّ إِنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ أَعَزُّ نَفْسًا وَأَطْيَبُ عَيْشًا مِنْ جَمِيعِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي هَذِهِ الْعُصُورِ بِحُكْمِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ مَنْ غَيْرِهِمْ أَوْ نُفُوذِهِمْ، وَإِنَّ حُكُومَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لَتُعَامِلُ الْجِنْسَ الْأَحْمَرَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَامِلُ بِهَا الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اعْتَدَى مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بَيْضَاءَ يُقْتَلُ شَرَّ قِتْلَةٍ - إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ الْحُكُومَةُ قَتَلَهُ الشَّعْبُ - بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ. خُلَاصَةُ الْبَحْثِ رَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ النَّصَارَى، وَمِنَ الْكَلَامِ فِي تَنْفِيذِ شُبْهَةِ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الِانْقِلَابِ الْبَشَرِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ أَضِفْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَشْرَةَ الْأَنْوَاعَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي التَّشْرِيعِ الرُّوحِيِّ وَالْأَدَبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ

وَالْمَالِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَهِي الَّتِي اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَيْهَا، مُوَضَّحَةً بِأُصُولٍ وَقَوَاعِدَ هِيَ أَصَحُّ وَأَكْمَلُ وَأَكْفَلُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّارِئَةِ، مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَهَا مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَلْسَفَةِ الْحُكَمَاءِ، وَقَوَانِينِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا يُؤْثِرُ بِطَبْعِهِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَوَانِينِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْحَثُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا أَنَّهُ نَطَقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِهَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنٌّ لَمْ يُعْرَفْ فِي اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَمُدْرَكَاتِ عُقُولِهِمْ، وَلَا فِي تَارِيخِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْتَنِفُ مِثْلَهَا ائْتِنَافًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ الْبَدْءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي أَنْفِ عُمْرِهِ، وَآنِفَةِ شَبَابِهِ وَشَرْخِهِ، رَاجِعْ هَذَا كُلَّهُ وَتَأَمَّلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَجِدْ عَقْلَكَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ بَشَرٍ أُمِّيٍّ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى. فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى ذِهْنِهِ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مِنْ أَفْوَاهِ عُقَلَاءِ قَوْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَقِيَ فِي أَسْفَارِهِ الْقَلِيلَةِ، أَوْ أَنَّهُ فَكَّرَ فِي حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى مِثْلِهَا مِمَّا أَدْرَكَهُ بِذَكَائِهِ الْفِطْرِيِّ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ الشَّارِدَةُ، وَهَذِهِ الْخَطَرَاتُ الْوَارِدَةُ، تَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْوَفَاءِ بِحَاجَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَأَنْ تَظَلَّ كُلُّهَا مَكْتُومَةً مِنْ سِنِّ الصِّبَا وَعَهْدِ حُبِّ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ مِنَ الْبَيَانِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقُوَّةِ الْبُرْهَانِ فِي الْعُقُولِ، فَتُحْدِثَ هَذِهِ الثَّوْرَةَ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ لِطِبَاعِهَا، الْمُبَدِّلَةِ لِأَوْضَاعِهَا، بِحَيْثُ تَسُودُ بِهَا شُعُوبُ الْمَدَنِيَّةِ كُلِّهَا وَيَتْلُو ذَلِكَ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنَ الِانْقِلَابِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ أُمَمَ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ الْعَجِيبَةِ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَيْهَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ. وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَهْتَدِيَ بِهِ لِتَكْمِيلِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنِ اعْتَرَضَتْهُ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فَلْيَبْحَثْ عَنْهَا أَوْ لِيَنْبِذْهَا، فَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَفْعُ عِلْمِ الطَّلَبِ أَنْ يَتْرُكَ مُرَاعَاتَهُ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ أَوْ مُدَاوَاةِ مَرَضِهِ لِشُبْهَةٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ، أَوْ خَيْبَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ مُعَالَجَاتِهِمْ لِلْمَرْضَى، وَإِنَّ حَاجَةَ الْبَشَرِ إِلَى طِبِّ الْأَرْوَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ، لَأَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى طِبِّ الْأَبْدَانِ. (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لِهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الْأَنْعَامِ 6: 149) . ((رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولًا)) (وَنَعُودُ إِلَى نَسَقِ التَّفْسِيرِ بِاسْمِ اللهِ وَحَمْدِهِ) .

3

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) . افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ آيَاتِ الْكِتَابِ، النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ أَنْ يُوحِيَ رَبُّهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ، مُنْذِرًا مَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ آمَنَ بِالثَّوَابِ وَحَكَى عَنِ الْكَافِرِينَ وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالسِّحْرِ؛ إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَشَرِ مُشَعْوِذُونَ وَدَجَّالُونَ يَأْتُونَ بَعْضَ الْخَوَارِقِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْجَمَاهِيرُ أَسْبَابَهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الْمَعْهُودِ وَجُودُهُ، الْمَجْهُولِ سَبَبُهُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَالْعِلْمُ، يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُنْتَحَلًا لِلسِّحْرِ، وَلَكِنَّ السِّحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةً وَلَا هِدَايَةً نَافِعَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسَّحَرَةُ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أُنَاسًا مِنَ الْمُتَكَسِّبِينَ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى غَرَائِبِهِمُ الْمَجْهُولَةِ لَهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، مِنْ حَقَائِقَ سَاطِعَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَلَا يَبْتَغِي بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِذْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِنَفْسِهَا وَبِآثَارِهَا النَّافِعَةِ، وَالسِّحْرُ بَاطِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ؟ فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْإِعْجَازِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بِالتَّحَدِّي، وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ لِجُمْلَتِهِمْ، كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَالِمِينَ، وَإِلَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ نَاقِصَةً بِحِرْمَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِرْفَانِ، وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى حِكَايَةَ عَجَبِهِمْ وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَفْنِيدِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي كَمَالُهَا ثُبُوتَهُ وَبُطْلَانَ الشَّرَكِ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَجِبُوا أَنْ يُوحَى إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمُنَبِّهِ لِلذِّهْنِ، يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي

فَوْقَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا فِي سِتَّةِ أَزْمِنَةٍ ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِهَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحُدُّهُ حَدَثٌ يَحْدُثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أُلُوفَ السِّنِينَ مِنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِهَا، أَيْ أَوْجَدَهَا كُلَّهَا بِمَقَادِيرَ قَدَّرَهَا فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَرْكَزَ التَّدْبِيرِ، لِهَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، بِمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ مِنَ النِّظَامِ، وَحِكْمَتُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِمَا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا، شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ فِيمَا لَا نَعْلَمُ كُنْهَهُ وَلَا صِفَتَهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْمُلْكِ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يُدْرِكُ كُنْهَ شُئُونِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ. وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (7: 54) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ 18) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ

الْمُوَصِّلِ إِلَى كُلِّ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ بِاسْتِحْقَاقٍ بِدُونِ عَمَلٍ مِنْكُمْ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ لِمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟ . وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ النَّاقِضَةُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ تَعَالَى إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ وَمَنْ يَقَبْلُ شَفَاعَتَهُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي وَحْيِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (20: 109) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (39: 44) . (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) احْتِجَاجٌ بِمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى شِرْكِهِمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ يَأْذَنُ بِهَا لِمَنْ شَاءَ فِيمَا شَاءَ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِ الْعَالَمِ وَمِنْهَا أُمُورُكُمْ، فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلَا مَعَهُ أَحَدًا، لَا لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ، وَلَا لِأَجْلِ مَطْلَبٍ آخَرَ مِنْ مَطَالِبِكُمْ، فَالشُّفَعَاءُ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ رَبُّكُمْ وَحْدَهُ، وَقَدْ هَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ الْكَسْبِيَّةِ بِعُقُولِكُمْ وَمَشَاعِرِكُمْ وَسَخَّرَهَا لَكُمْ، وَهَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ الْغَيْبِيَّةِ بِوَحْيِهِ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى وَبَيَّنَهَا لَكُمْ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ أَوْ جَهِلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِلَهِيِّ. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَيْ أَتَجْهَلُونَ هَذَا الْحَقَّ الْمُبِينَ، فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ، وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِ الْمُلْكِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَحْدَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَأَلَّا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ؟ وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَمَا إِنْكَارُهُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنَ الْغَفْلَةِ عِلَاجُهَا التَّذْكِيرُ. هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّعْجِيبِيُّ مِنْ غَفْلَةِ الْمُشْرِكِينَ مُنْكِرِي الْوَحْيِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْخَلْقِ أَحَدٌ إِلَّا رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، يُوَجَّهُ بِالْأَوْلَى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْقُبُورِيِّينَ وَعُبَّادِ الصَّالِحِينَ، كَيْفَ لَا يَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا كُلَّمَا شَعَرُوا بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا عَجَزُوا عَنْهُ بِكَسْبِهِمْ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ؟ إِذْ نَرَاهُمْ يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ إِلَى قُبُورِ الْمَشْهُورِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَيَشُدُّونَ الرِّحَّالَ إِلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا عَنْهُمْ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالنُّذُورِ وَيَطُوفُونَ بِهَا كَمَا يَطُوفُ الْحُجَّاجُ بِبَيْتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ

4

مُسْتَغِيثِينَ خَاشِعِينَ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا وَأَجْلَى مَظَاهِرِهَا، وَلَا تَرَى مِثْلَهُ مِنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْفَعُهُمْ كَهَذِهِ الْقُبُورِ، ذَلِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَ دِينِهِمْ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، وَهُمْ قُبُورِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ مَلْجَأً وَلَا مُلْتَحَدًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى السُّلْطَانِ الرَّبَّانِيِّ الْغَيْبِيِّ إِلَّا هَذِهِ الْقُبُورَ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ بَعْضَ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَافَّةِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوهَا، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْعَوَّامِ تِلْكَ الْعِبَادَةَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا كَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهَا نَفْسُ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، لَا فَرْقَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَأَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ. (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) . هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ. يَقُولُ تَعَالَى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أَيْ إِلَى رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ وَشُفَعَائِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ تَرْجِعُونَ جَمِيعًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أَيْ وَعَدَ اللهُ هَذَا وَعْدًا حَقًّا لَا يُخْلِفُ (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هَذَا بَيَانٌ لِمُتَعَلِّقِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ مَرَّتَيْنِ بِدَلِيلِهِ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُ تَعَالَى أَنْ يَبْدَأَ الْخَلْقَ وَيُنْشِئَهُ عِنْدَ التَّكْوِينِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى بَعْدَ انْحِلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُسْتَقَبْلِ (يَبْدَأُ) لِتَصْوِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقَبْلَ، وَلَفْظُ الْخَلْقِ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ وَالرُّوحِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، مَا يُرَى مِنْهَا بِالْأَبْصَارِ وَالْآلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ وَمَا لَا يُرَى، كُلُّهَا قَدْ وُجِدَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ فِي نَشْأَةِ تَكْوِينِهَا وَالْقُوَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي أَصْلِ مَادَّتِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَوَقُّعِ خَرَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُرْتَبِطَةِ مَعَهَا فِي هَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْجَامِعِ لَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْعِلْمِ الثَّابِتَةِ أَنْ تُصِيبَ الْأَرْضَ قَارِعَةٌ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ فَتَبُسُّهَا بَسًّا، حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ سُورَةُ الْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَغَيْرُهُمَا.

فَأَمَّا بَدْؤُهُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِعَادَتُهُ فَدَلِيلُهَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَدْءِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (30: 27) الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَهِيَ تُقَرِّبُ إِلَى الْعُقُولِ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ - أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ يُنْحَلُ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَتَبَخَّرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا يَمُوتُ فِي دَاخِلِ الْجِسْمِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ كُلِّ مَا يَزُولُ وَيَنْدَثِرُ مَوَادُّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ حَتَّى يَفْنَى جَسَدُ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَهُوَ يَزُولُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَيَتَجَدَّدُ غَيْرُهُ، فَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ فِي كُلِّ جَسَدٍ دَائِمَانِ مَا دَامَ حَيًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْبَعْثِ بِالْبَيَانِ الْعِلْمِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص 417 - 427 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ (هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِعَادَةِ، أَيْ يُعِيدُهُ لِأَجْلِ جَزَائِهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّصِيبُ مِنَ الْعَدْلِ، أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ بِعَدْلِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ كُلِّ عَامِلٍ حَقَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِعَمَلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُظْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (21: 47) الْآيَةَ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَزِيدَهُمْ وَيُضَاعِفَ لَهُمْ كَمَا وَعَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (4: 173) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (26) فَالْحُسْنَى هِي الْجَزَاءُ بِالْقِسْطِ الْمُضَادِّ لِلْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَسَيَأْتِي فِيهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (10: 47، 54) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ يَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (57: 25) وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (7: 29) عَلَى أَنَّ الْقِسْطَ فِي الْآيَتَيْنِ عَامٌّ شَامِلٌ لِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانُ أَوِ التَّوْحِيدُ الْمُقَابِلُ لِظُلْمِ الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) وَالْمُتَبَادَرُ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الثَّانِي إِلَّا بِالتَّبَعِ لِلْأَوَّلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الشَّرْعِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ أَوِ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي يُسْتَحَمُّ بِهِ، وَالْعَرَقُ، يُقَالُ: اسْتَحَمَّ الْفَرَسُ إِذَا عَرِقَ، وَالْحَمَّامُ الَّذِي هُوَ مَكَانُ الِاسْتِحْمَامِ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْكَافِرِينَ فِي مُقَابَلَةِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَلَى مَنْهَجِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ (وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ هَذَا الْخَاصِّ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا وَنَزَلَ بِلُغَتِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ

الْحِجَازِ - يَشْعُرُونَ بِمَا لَا يَشْعُرُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْحَمِيمِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ - وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ الْمُسْتَمِرَّةِ إِلَى الْمَوْتِ، كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ لِغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ لِغَيْرِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا لَهُمُ الْكُفْرُ وَيَصُدُّ عَنْهَا الْإِيمَانُ، فَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لِأَنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ مِنَ الْكُفْرِ أَعْمَالُهُ لَا عَقِيدَتُهُ. عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْعَقِيدَةِ هُوَ أَثَرُهَا، يَزِيدُهَا قُوَّةً وَرُسُوخًا وَاسْتِمْرَارًا، وَسَيُعَادُ ذِكْرُ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ آيَتَيْنِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ لِعَمَلِهِمَا. وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ النَّظْمِ أَوِ الْأُسْلُوبِ - فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَعْلِيلِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُنَا - هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُنْتَهَى كَمَالِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ لِلَّذِينِ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَلَبَةِ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، وَجَعْلِهَا تَابِعَةً لَهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَلْقَى الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ هُنَالِكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ الْخَالِي مِنَ الشَّوَائِبِ وَالتَّنْغِيصِ الَّذِي عَهِدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: 72 - مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَضْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ الْجَامِعَةِ، عَلَى الرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (32: 17) وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَعْلَاهُ مَقَامُ رُؤْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 143) وَأَدْنَاهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ. وَأَمَّا جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، عَلَى تَدْسِيَتِهِمْ وَتَدْنِيسِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْخَطَايَا - وَهِيَ لَهَا كَأَعْرَاضِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَبُهَا مُخَالَفَةُ سُنَّةِ اللهِ فِي حِفْظِ الْأَبْدَانِ وَصِحَّتِهَا - فَلَيْسَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ، وَمُقْتَضَى اطِّرَادِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلِ بِالْمَعْلُولَاتِ، فَهُوَ جَزَاءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْإِنْكِلِيزِ: هَلْ يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ الضَّعِيفَ عَلَى ذُنُوبِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى ضَعْفِهِ؟ قُلْتُ إِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ وَالْكُفْرَ بِنِعَمِهِ، وَاقْتِرَافَ الْخَطَايَا الْمُخَالِفَةِ لِشَرَائِعِهِ وَلِلْوِجْدَانِ الْفِطْرِيِّ فِي الْإِنْسَانِ، تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا وَتُفْسِدُهَا بِمَا يَجْعَلُهَا غَيْرَ أَهْلٍ لِلنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْخَاصِّ بِالْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ، فَيَكُونُ الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا

5

لِهَذَا الْفَسَادِ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِمُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ وَوَصَايَا الطَّبِيبِ. فَقَالَ: إِذَا كَانَ سَبَبُ الْعَذَابِ مِنَ الدَّاخِلِ لَا مِنَ الْخَارِجِ فَهُوَ مَعْقُولٌ. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) . فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَزَّلَتَيْنِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ مِنْ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَاطِّرَادِ النِّظَامِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَاءِ الْخَالِقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُقِيمُ النِّظَامَ فِي الْخَلْقِ، الَّتِي سِيقَتْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَقِّيَّةِ الْوَحْيِ. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) الضِّيَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَضَاءَ يُضِيءُ وَجَمْعُ ضَوْءٍ، كَسِيَاطٍ وَسَوْطٍ وَحِيَاضٍ وَحَوْضٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (ضِئَاءً) عَلَى الْقَلْبِ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: (الضَّوْءُ) هُوَ النُّورُ (وَيُضَمُّ) وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِذَا شَبَّهَ اللهُ هُدَاهُ بِالنُّورِ دُونَ الضَّوْءِ وَإِلَّا لَمَا ضَلَّ أَحَدٌ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ، وَحَقَّقَ فِي الْكَشْفِ أَنَّ الضَّوْءَ فَرْعُ النُّورِ وَهُوَ الشُّعَاعُ الْمُنْتَشِرُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا بِتَرَادُفِهِمَا لُغَةً بِحَسْبِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ الضَّوْءَ أَبْلَغُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ لِمَا بِالذَّاتِ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالنُّورُ لِمَا بِالْعَرَضِ وَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْغَيْرِ، هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَجَمْعُهُ أَضْوَاءٌ (كَالضِّوَاءِ وَالضِّيَاءِ بِكَسْرِهِمَا) لَكِنْ فِي نُسْخَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ ضَبْطُ الْأَوَّلِ بِالْفَتْحِ وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ عَنِ اللَّيْثِ: الضَّوْءُ وَالضِّيَاءُ مَا أَضَاءَ لَكَ، وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الضِّيَاءَ يَكُونُ جَمْعًا أَيْضًا، قُلْتُ: هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) (2: 20) اهـ.

وَأَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (71: 16) وَقَوْلُهُ: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (25: 61) وَالسِّرَاجُ مَا كَانَ نُورُهُ مِنْ ذَاتِهِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الضِّيَاءَ فِي الْآيَةِ جَمْعُ ضَوْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِكَوْنِ الْقَمَرِ نُورًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ مُفْرَدًا مِثْلُهُ. وَجَهِلَ هَذَا الْمُسْتَبْعِدُ وَأَمْثَالُهُ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْوَانِ النُّورِ السَّبْعَةِ، الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ فِي قَوْسِ السَّحَابِ فَهُوَ سَبْعَةُ أَضْوَاءٍ لَا ضَوْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كَشَفَ لَنَا تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى فِيهَا مَا كَانَ النَّاسُ أَوِ الْعَرَبُ يَجْهَلُونَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَتَعْبِيرِهِ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ بِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ. وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، التَّقْدِيرُ جَعَلَ الشَّيْءَ أَوِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (73: 20) وَقَالَ فِي الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ سَبَأٍ وَالشَّامِ: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) (34: 18) وَقَالَ فِي الْمَقَادِيرِ الْعَامَّةِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (25: 2) وَالْمَنَازِلُ أَمَاكِنُ النُّزُولِ جَمْعُ مَنْزِلٍ وَالضَّمِيرُ لِلْقَمَرِ كَمَا فِي سُورَةِ يس: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (36: 39) أَيْ قَدَّرَ لَهُ أَوْ قَدَّرَ سَيْرَهُ فِي فَلَكِهِ فِي مَنَازِلَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُخْطِئُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا مَعْرُوفَةٌ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ نُجُومِهَا الْمُحَاذِيَةِ لَهَا وَهِيَ. الشَّرَطَانِ. الْبَطِينُ. الثُّرَيَّا. الدَّبَرَانِ. الْهَقْعَةُ. الْهَنْعَةُ. الذِّرَاعُ. النَّثْرَةُ. الطَّرَفُ. الْجَبْهَةُ. الزُّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ. الْعَوَّاءُ. السِّمَاكُ الْأَعْزَلُ. الْغَفْرُ. الزُّبَانَى. الْإِكْلِيلُ. الْقَلْبُ. الشَّوْلَةُ. النَّعَائِمُ. الْبَلْدَةُ. سَعْدُ الذَّابِحِ. سَعْدُ بُلَع. سَعْدُ السُّعُودِ. سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ (وَيُسَمَّيَانِ الْفَرْغَ الْأَوَّلَ وَالْفَرْغَ الثَّانِيَ) . الرِّشَاءُ. وَيُرَاجِعْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ الْفَلَكِ مَنْ شَاءَ. فَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِي الَّتِي يُرَى فِيهَا الْقَمَرُ بِالْأَبْصَارِ، وَيَبْقَى مِنَ الشَّهْرِ لَيْلَةٌ إِنْ كَانَ 29 وَلَيْلَتَانِ إِنْ كَانَ 30 يَوْمًا يَحْتَجِبُ فِيهِمَا فَلَا يُرَى. (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا بِمَا ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ النَّيِّرَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ؛ لِضَبْطِ عِبَادَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ لَتَعَذَّرَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ فَنٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالدِّرَاسَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَامُّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ شَهْرَ الصِّيَامِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَعِدَّةَ الطَّلَاقِ وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْقَمَرِيِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمٍ فَنِّيٍّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ. وَلِعِبَادَتَيِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَوَرَانُهُمَا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَيَعْبُدُ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ فِي جَمِيعِ

الْأَوْقَاتِ مِنْ حَارَّةٍ وَبَارِدَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحِسَابِ الشَّمْسِيِّ وَلَهُ فَوَائِدُ أُخْرَى، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (55: 5) وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (17: 12) وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْغِيبٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَقَدْ بَرَعَ فِيهِمَا أَجْدَادُنَا بِإِرْشَادِهَا. ثُمَّ قَالَ: (مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ مَا خَلَقَ اللهُ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ تُفِيضُ أَشِعَّتَهَا عَلَى كَوَاكِبِهَا التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا، فَتَبُثُّ الْحَرَارَةَ وَالْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ فِيهِنَّ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ضَوْءٍ مِنْهَا مِنَ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ، وَيُبْصِرُ النَّاسُ فِيهَا جَمِيعَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَقُومُونَ بِأُمُورِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، وَمَا خَلَقَ الْقَمَرَ ذَا نُورٍ مُسْتَمَدٍّ مِنَ الشَّمْسِ تَنْتَفِعُ بِهِ السَّيَّارَةُ فِي سَرَاهُمْ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَعْرِفُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ السِّنِينَ وَالشُّهُورَ - مَا خَلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مُتَلَبِّسًا وَمُقْتَرِنًا بِالْحَقِّ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ لِحَيَاةِ الْخَلْقِ، وَنِظَامِ مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا خَلَلٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِ الضَّوْءِ وَحِكَمِهِ مَا صَارَ بِهِ عِلْمًا وَاسِعًا تَحَارُ الْعُقُولُ فِي نَظْمِهِ وَحِكَمِهِ، مِنْ أَصْغَرِ ذَرَّاتِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَجَامِعِ نَيِّرَاتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مِنْ هَذَا الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، أَنْ يَخْلُقَ هَذَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَيُعَلِّمَهُ الْبَيَانَ، وَيُعْطِيَهُ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ فِي عَالَمِهِ، مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِإِظْهَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ حِكَمِهِ وَخَوَاصِّ خَلْقِهِ، وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَيَجْعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ، ثُمَّ يَتْرُكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، يَمُوتُ وَيَفْنَى، ثُمَّ لَا يُبْعَثُ وَلَا يَعُودُ؛ لِيُجْزَى الْمُرْتَقُونَ مِنْهُ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِيُجْزَى الْمُشْرِكُونَ الْخُرَافِيُّونَ، وَالظَّالِمُونَ الْمُجْرِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ أَنْعَمَ فِي الدُّنْيَا مَعِيشَةً مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ؟ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (68: 35 و36) وَ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (38: 28) ؟ . (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ أَيْ نُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ مِنْ حِكَمِ خَلْقِنَا، عَلَى مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَى رَسُولِنَا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، مُفَصَّلَةً مُنَوَّعَةً مِنْ كَوْنِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ دَلَالَةِ الدَّلَائِلِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النِّظَامِ بِالْحَقِّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْعَجِيبِ عَبَثًا، وَلَا أَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى وَفِي الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينًا عِلْمِيًّا لَا تَقْلِيدِيًّا، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِآيَةٍ مُذَكِّرَةٍ بِسَائِرِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ:

7

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي حُدُوثِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا فِي طُولِهِمَا وَقِصَرِهِمَا؛ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ لَهُمَا بِحَرَكَتَيْهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالسَّنَوِيَّةِ، وَطَبِيعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا يَصْلُحُ فِيهِ مِنْ نَوْمٍ وَسُكُونٍ وَعَمَلٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى سُنَنِهِ فِي النِّظَامِ، وَحِكَمِهِ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَفِي تَشْرِيعِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ، وَسُنَنِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَالْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ سُنَنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ يَمْرَضُونَ، وَالشُّعُوبُ الَّتِي تُخَالِفُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ تَخْرُبُ بِلَادُهَا، وَتَضْعُفُ دُوَلُهَا، وَيُغَيِّرُ اللهُ تَعَالَى مَا بِهَا بِتَغْيِيرِهَا مَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هِدَايَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ فَيُدَنِّسُونَهَا بِالشِّرْكِ وَالْخُرَافَاتِ، وَيُفْسِدُونَهَا بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، يُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُجْزَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا فِي الدُّنْيَا (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى) . (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِحَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْغَافِلِينَ، وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَجَزَائِهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ. قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: رَجَوْتُهُ أَرْجُوهُ رُجُوًّا - عَلَى فُعُولٍ - أَمَّلْتُهُ أَوْ أَرَدْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) (24: 60) أَيْ يُرِيدُونَهُ، وَالِاسْمُ

رَجَاءٌ بِالْمَدِّ، وَرَجَيْتُهُ أَرْجِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى لُغَةً، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ يَخَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَرَجَّاهُ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (71: 13) ؟ قِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ؟ وَمَثَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ لِحَقِيقَةِ الرَّجَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ، وَالرُّشْدِ فِي الْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاكْتِرَاثِ، يُقَالُ: لَقِيتُ هَوْلًا مَا رَجَوْتُهُ وَمَا ارْتَجَيْتُهُ. وَمَثَّلَ لَهُ بِشِعْرٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجَاءَ: الْأَمَلُ وَالتَّوَقُّعُ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ وَنَفْعٌ، وَأَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ مَا فِيهِ شَرٌّ وَضُرٌّ، فَهُمَا مُتَقَابِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (17: 57) وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ 11 و15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ 21 مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنْ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ مَنْفِيًّا يَحْتَمِلُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْمٍ وَالرَّجَاءِ لِآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) (78: 27) . وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الرَّجَاءَ هُنَا بِمُجَرَّدِ التَّوَقُّعِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا يَسُرُّ وَمَا يَسُوءُ. وَاللِّقَاءُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْمُوَاجَهَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَهُ الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلِقَاءِ الرُّؤْيَةِ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَصَارَ كُلُّ هَمِّهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ مَحْصُورًا فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلِهِمْ لَهَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُتَثَاقِلِينَ عَنِ النَّفِيرِ لِلْجِهَادِ: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ) (9: 38) ؟ الْآيَةَ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا بِسُكُونِ نُفُوسِهِمْ وَارْتِيَاحِ قُلُوبِهِمْ بِشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزِينَتِهَا لِيَأْسِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْكَوْنِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجِهَادِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَكَانُوا بِهَذِهِ الْغَفْلَةِ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَنَا، فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَشْغَلُهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِحِسَابِنَا لَهُ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَارُ الْعَذَابِ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ الْمُدَنِّسَةِ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَعْمَالِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَظُلُمَاتِ الْمَظَالِمِ الْوَحْشِيَّةِ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِي دَنَّسَ أَنْفُسَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَمْ يَعُدْ لِنُورِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَكَانٌ فِيهَا. وَالْمَأْوَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ أَوِ الْخَائِفُ أَوِ الْمُحْتَاجُ مِنْ مَكَانٍ آمِنٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَافِعٍ، كَمَا تَرَى فِي اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِهِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (93: 6) (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) (18: 10) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) (8: 72) (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) (12: 69)

9

(أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (11: 80) إِلَخْ، إِلَّا لَفْظَ الْمَأْوَى فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ وَعَلَى النَّارِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا آيَةُ يُونُسَ هَذِهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ دَارِ الْعَذَابِ مَأْوًى مَعْنًى دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ دَخِيلٌ فِي أَعْمَاقِهَا، فَائِضٌ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، يُشْعِرُكَ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُطْمَئِنِّينَ بِالشَّهَوَاتِ، وَالْغَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ مَصِيرٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَوْلِ الْحِسَابِ، إِلَّا جَهَنَّمَ دَارَ الْعَذَابِ، فَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ لَهُ كَالْمَلْجَأِ وَالْمَوْئِلِ؛ إِذْ لَا مَأْوَى لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا. هَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَسَمَيْهِ، وَالْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَالْعِلْمِ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أَيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الْإِيمَانِ وَمُغَذِّيهِ وَمُكَمِّلُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِبَيَانِ صِنْفِهِمْ وَفَرِيقِهِمُ الْمُقَابِلِ لِلْفَرِيقِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِهِدَايَةِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ كَسْبِ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ سَبَبَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ لَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيهِمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ فِيهَا: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَقَاعِدِهِمْ مِنْ غُرُفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، وَتَقَدَّمَ لَفْظُ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 65) وَلَفْظُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 43) وَأَمَّا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مُكَرَّرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ الْعَمَلُ - لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ عَقِبَ إِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَدُخُولُ مِثْلِ هَذَا الْجَنَّةِ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ لِلْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ الْغَالِبَةِ. (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِكَلِمَاتٍ ثَلَاثٍ، تُمَثِّلُ حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ مَبَادِئِ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَتَنْزِيهِهِ، وَمَا يَدْعُونَهُ أَيْ يَطْلُبُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِ تَعَالَى وَتَحِيَّةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَزَاوُرِهِمْ أَوْ تَلَاقِيهِمْ، وَمِنْ حَمْدِهِمْ لَهُ فِي خَوَاتِيمِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلِمِ وَأَخْصَرَهُ وَأَعْذَبَهُ. الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ وَالدَّعَاوَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِادِّعَاءُ لِلشَّيْءِ، فَالدُّعَاءُ لِلنَّاسِ هُوَ النِّدَاءُ وَالطَّلَبُ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ التَّعَبُّدِيُّ لِلَّهِ نِدَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، الصَّادِرُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا دَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ

10

مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا وَالْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا، وَعَلَى الْمَنِّ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَالدَّعْوَى لِلشَّيْءِ تَشْمَلُ فِي اللُّغَةِ تَمَنِّيَهُ وَقَوْلَهُ وَطَلَبَهُ مِنْ مَالِكِهِ، وَادِّعَاءَ مَلَكِيَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا لِلَفْظِ الدَّعْوَى تَصِحُّ إِرَادَتُهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَخِيرَ مِنْهَا. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الدُّعَاءِ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكُلُّ دُعَاءٍ شَرْعِيٍّ عِبَادَةٌ، وَمَا كُلُّ عِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ دُعَاءٌ. وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ، وَكَلِمَةُ (اللهُمَّ) نِدَاءٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلُهُ يَا أَللَّهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، وَكُلَّ طَلَبٍ لِكَرَامَةٍ أَوْ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ، بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ، أَيْ تَنْزِيهًا وَتَقْدِيسًا لَكَ يَا أَللَّهُ، قِيلَ: أَوْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّ تَحِيَّتَهُمْ فِيهَا كَلِمَةُ: سَلَامٍ الدَّالَّةُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ التَّحِيَّةُ تَكُونُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (33: 44) وَفِي سُورَةِ يس: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (36: 58) وَتَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (9: 73) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (16: 32) وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (13: 23 و24) وَتَكُونُ مِنْهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) (19: 62) وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (56: 25 و26) فَإِنَّ اللَّغْوَ وَالتَّأْثِيمَ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا نَفَى وُقُوعَهُمَا مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْيِهِ بِاسْتِثْنَاءِ كَلِمَةِ سَلَامٍ مُنْقَطِعًا، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ عَامًّا يَشْمَلُهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي آيَتِنَا: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ تَشْمَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ آخِرُ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ تَعَالَى، وَمَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهَا. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الزُّمَرِ بَعْدَ آيَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (39: 74)

11

وَآخِرُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (39: 75) . فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ - وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا لَهُ هُنَا بِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى - أَنْ يُمَثِّلَ لِنَفْسِهِ حَالَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، الْمُبَيِّنَةِ لِنَعِيمِهِمُ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِمْ، وَلِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعْظَمَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ رُوحَانِيٌّ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهَا بِالِاتِّكَالِ عَلَى التَّوَسُّلَاتِ بِأَشْخَاصِ الْأَوْلِيَاءِ وَالتَّمَنِّي لِشَفَاعَاتِهِمْ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 123 و124) وَ (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (17: 72) . وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: ((إِذَا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ - أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ)) وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. فَالْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخَدَمِهِمْ فِي إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللهَ تَعَالَى. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ أَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَمْ لَا. (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضَرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا

مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَشُعُورِهِمْ فِيهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاللُّجُوءِ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْأُمُورَ قَبْلَ أَوَانِهَا، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنْ شِرْكٍ، وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، مُتَمَّمٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَيْهِ. تَعْجِيلُ الشَّيْءِ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَوَانِهِ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمُقَدِّرِ لَهُ أَوِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ بِهِ طَلَبُ التَّعْجِيلِ، وَالْعَجَلُ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الْقَابِلَةِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، كَيْ لَا تَطْغَى بِهِ فَتُورِدَهُ الْمَوَارِدَ. قَالَ تَعَالَى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (17: 11) وَقَالَ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (21: 37) فَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ فَلِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنَافِعِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالضُّرِّ وَالسَّيِّئَةِ فَلَا يَكُونُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ عَارِضٍ كَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ إِلَّا لِلنَّجَاةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُ الْيَائِسُونَ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ النَّجَاةِ مِنْ ذُلٍّ وَخِزْيٍ أَوْ أَلَمٍ لَا يُطَاقُ، إِذْ يَتَقَحَّمُونَ الْمَهَالِكَ أَوْ يَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا. قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ، كَاسْتِعْجَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ نُزُولَهُ بِهِمْ إِجْمَالًا، بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا كَخِزْيِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (13: 6) الْآيَةَ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) (29: 53) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (8: 32) وَقَالَ فِي السَّاعَةِ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) (42: 18) وَفِي الْعَذَابِ: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (29: 54) وَكُلُّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا تَعْجِيزَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَالَغَةً فِي التَّكْذِيبِ، وَاسْتِهْزَاءً بِالْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: (اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ لِذَاتِهِ بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْجُمْلَةَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ لَقَضَى اللهُ إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ إِلَيْهِمُ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاسْتَعْجَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى

أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِالْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَضَى بِأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيَحْمِلُوا دِينَهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْعَجَمِ وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ تَأْدِيبًا لِسَائِرِهِمْ، بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (9: 14) الْآيَةَ، وَيُؤَخِّرُ سَائِرَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ لَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَطُغْيَانُ السَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَالدَّمِ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَالْعَمَهُ (كَالتَّعَبِ) : التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ فِي الْأَمْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَالْمَعْنَى: فَنَتْرُكُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، لَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِئْصَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى فِي جَمَاعَتِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَفْرَادِهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَمَوْتِ بَعْضٍ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْكَافِرِينَ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ لَأَهْلَكَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (35: 45) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى هُنَا دُعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الْغَضَبِ، لَوْ يُعَجِّلُهُ اللهُ لَهُمْ لَأَهْلَكَهُمْ أَيْضًا (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ) (13: 14) بِرَبِّهِمْ أَوْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (13: 14) أَيْ ضَيَاعٍ لَا يَسْتَجِيبُهُ اللهُ لَهُمْ، لِحِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ. وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، هَذَا بَيَانٌ لِغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ الْعَامَّةِ وَشَأْنِهِ فِيمَا يَمَسُّهُ مِنَ الضُّرِّ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْجَالَ أُولَئِكَ النَّاسِ بِالشَّرِّ، تَعْجِيزًا لِنَبِيِّهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ طُغْيَانِهِمُ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى طَبِيعَتِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مِنَ الضُّرِّ مَا يَشْعُرُ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ أَوْ خَطَرِهِ مِنْ إِشْرَافٍ عَلَى غَرَقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْلُكَةِ، أَوْ شَدَّةِ مَسْغَبَةٍ، أَوْ إِعْضَالِ دَاءٍ دَعَانَا مُلِحًّا فِي كَشْفِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهِ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ، أَوْ قَاعِدًا فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، أَوْ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ، فَهُوَ لَا يَنْسَى حَاجَتَهُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ، مَا دَامَ يَشْعُرُ بِمَسِّ الضُّرِّ وَلَذْعِهِ لَهُ، يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهُ، قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَشَدَّ عَجْزًا وَأَقْوَى شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّهِ فَالَّتِي تَلِيهَا فَالَّتِي تَلِيهَا، وَثَمَّ حَالَةٌ رَابِعَةٌ هِيَ سَعْيُهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَلَمْ تُذْكَرْ

13

لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ مَا أُودِعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ ذِي السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، وَيَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ وَالْمُشْرِكُونَ بِاللهِ تَعَالَى أَقَلُّ النَّاسِ تَذَكُّرًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَلْجَئُونَ إِلَى مَظِنَّةِ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَعْبُودَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهَا سُلْطَانًا غَيْبِيًّا فَوْقَ الْأَسْبَابِ، مِنْ جِنْسِ سُلْطَانِ الرَّبِّ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ إِمَّا لِذَاتِهَا وَإِمَّا بِمَا لَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللهِ، وَالْمَثَلُ مَضْرُوبٌ هُنَا لِهَؤُلَاءِ. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: ((فَإِذَا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ)) ؛ إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلشَّرْطِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ لَا فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لِلْآيَةِ كَشْفَ الضُّرِّ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَاقِعًا مُشَاهَدًا مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَيَرَى مَا يَفْعَلُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ. أَيْ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ الَّذِي دَعَانَا لَهُ فِي حَالِ شُعُورِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ كَشْفِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، مَرَّ وَمَضَى فِي شُئُونِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ رَبِّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَأَنَّ الْحَالَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، وَلَمْ نَكْشِفْ عَنْهُ ضُرَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ كَهَذَا النَّحْوِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِهِ وَحْدَهُ فِي الشِّدَّةِ، وَنِسْيَانِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ بَعْدَ كَشْفِهَا، زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مِنْ طُغَاةِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ عِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَنِ اسْتَعْجَلُوهُ بِالْعَذَابِ؛ وَالْإِسْرَافُ رَدِيفُ الطُّغْيَانِ وَأَخُوهُ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ عَشْرِ آيَاتٍ بِبَيَانٍ أَبْلَغَ. وَقَدْ أُسْنِدَ التَّزْيِينُ هُنَا إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبْرَةِ دُونَ فَاعِلِهِ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ 3: 14 وَالْأَنْعَامِ 6: 43 وَالتَّوْبَةِ 9: 37 وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْفَالِ، وَأُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (108) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ رَاجِعْ ص 557 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) .

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ شَأْنَهُ فِي النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ مَعَهُ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ وَطُغْيَانِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِيَعْتِبَرَ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُهُ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَسِيرَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَقَالَ عَاطِفًا لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الْخِطَابُ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وُجِّهَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى قَوْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ وَطَنِهِ مَكَّةَ إِذْ أُنْزِلَتِ السُّورَةُ فِيهَا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ يُفِيدُ مَزِيدَ التَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهَ أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَوْضُوعِهِ، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهُوَ جَمْعُ قَرَنٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَبَدَأَ هَذِهِ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّامِ " وَلَقَدْ " وَصَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (18: 59) وَلَمَّا ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) وَقَدْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ دُونَ الْهَمَجِ. وَإِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِالظُّلْمِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) هُوَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَلِاسْتِيلَاءِ الْقَوِيَّةِ مِنْهَا عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتِيلَاءً مُوَقَّتًا، إِنْ كَانَ إِفْسَادُ الظُّلْمِ لَهَا عَارِضًا لَمْ يُجْهِزْ عَلَى اسْتِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ وَاسْتِعَادَتِهَا لِلِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (2: 243) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ دَائِمًا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحَيَاةِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوَ تُدْغَمَ فِي الْغَالِبَةِ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) (21: 11) الْآيَاتِ - وَهَذَا النَّوْعُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلظُّلْمِ بِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: ظُلْمُ الْأَفْرَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأَبْدَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَظُلْمُ الْحُكَّامِ الَّذِي يُفْسِدُ بَأْسَ الْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ دَائِمَةٌ فِي الْأُمَمِ، وَلَهَا حُدُودٌ وَمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهَا، هِيَ آجَالُهَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ (49) الْآتِيَةِ وَأَمْثَالِهَا. (ثَانِيهِمَا) عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْأَقْوَامِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا رُسُلًا لِهِدَايَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ الْعَدْلُ، فَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَنْذَرُوهُمْ عَاقِبَةَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا

14

جَاءُوهُمْ بِهِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُرِّنُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَاطْمَأَنُّوا بِهِ، وَصَارَتْ لَذَّاتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْقَوْمِيَّةُ مِنَ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ مُقْتَرِنَةً بِأَعْمَالِهِ الْإِجْرَامِيَّةِ مِنْ ظُلْمٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ: تَذْيِيلٌ لِإِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَتَقْدِيرُهُ كَالَّذِي مَرَّ قَبْلَهُ فِي الْمُسْرِفِينَ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (7: 40) وَتَفْسِيرَ: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (7: 84) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. م (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) الْخِطَابُ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ بِمَا آتَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الدِّينِ مِنْ أَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْحُكْمِ وَقَدَّرْنَاهُ لَكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ الَّذِي بِهِ جَاءَكُمْ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَلَا يُوجَدُ بَعْدَ أُمَّتِهِ أُمَّةٌ أُخْرَى لِنَبِيٍّ آخَرَ، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي الشَّيْءِ أَيْ يَكُونُ خَلَفَهُ فِيهِ، وَلَقَدْ كَانَ لِتِلْكَ الْأُمَمِ دُوَلٌ وَحُكْمٌ فِي الْأَرْضِ، كَمِلْكِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ، وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَالْفَرَاعِنَةِ وَالْهُنُودِ، فَاللهُ يُبَشِّرُ قَوْمَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنَّهَا سَتَخْلُفُهُمْ فِي الْأَرْضِ، إِذَا آمَنَتْ بِهِ وَاتَّبَعَتِ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (24: 55) الْآيَةَ، وَقَدْ عَلَّلَ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ لِنَرَى وَنُشَاهِدَ أَيَّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَ فِي خِلَافَتِكُمْ، فَنُجَازِيَكُمْ بِهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ إِنَّمَا جَعَلَهَا لَكُمْ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ، لَا لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّةِ الْمُلْكِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ آيَاتِ الْإِذْنِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (22: 41) فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَمْرَ بَقَاءِ خِلَافَتِهِمْ مَنُوطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ نَاظِرًا إِلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَغْفُلُ عَنْهُمْ فِيهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِمَا سَيَنَالُونَهُ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ بَاقٍ لَهُمْ لِذَاتِهِمْ أَوْ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُمْ يَتَفَلَّتُونَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ وَقَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ آنِفًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (أَوْ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينِ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (7: 100) الْآيَةَ، وَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا فِيهَا مَا حَذَّرَ بِهِ قَوْمَ مُوسَى عِنْدَمَا وَعَدَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِإِرْثِ الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَهُمْ، فِي إِثْرِ مَا شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (7: 129) . وَلْيُرَاجِعِ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ، وَتَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ الْعَامِّ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)

15

الْآيَةَ رَقْمَ 165 ص 220 ج 8 ط الْهَيْئَةِ وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، بِمَا تَبَيَّنَ بِهِ إِعْجَازُ كِتَابِهِ وَصَدَقَ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَوْنُهُ رَبَّى أُمَّتَهُ بِمَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَطَبَائِعِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ، بَلْ لَمْ تَصِرْ عِلْمًا مُدَوَّنًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ؛ لِغَفْلَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا الصَّرِيحَةِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَهَا الْمُؤَرِّخُ الْفَقِيهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ؛ مُؤَمِّلًا أَنْ يُعْنَى بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيَأْتُوا بِتَوْسِيعِ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ مَبَاحِثِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ فِي دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، كَانَ دَاخِلًا فِي طَوْرِ الِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى الْإِفْرِنْجُ فِيهِمَا فَتَرْجَمُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ بِلُغَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَخَذُوا مِنْهَا عِدَّةَ عُلُومٍ فِي سُنَنِ الْعُمْرَانِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُهَا الْيَوْمَ عَنْهُمْ غَافِلِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ الْمُقَلِّدِينَ حَجَبُونَا عَنْ هِدَايَتِهِ، بَلْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِكُتُبِ مَذَاهِبِهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ انْتِقَامَهُ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ بِهَا سَلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ عَادُوا إِلَيْهَا بِإِقَامَةِ سُنَنِ الْقُرْآنِ، لَيُتِمَّنَّ لَهُمْ وَعْدَهُ بِخِلَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَبِقَدْرِ إِقَامَةِ هَذِهِ السُّنَنِ يَكُونُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقِيمُهَا. (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) . بُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْكِتَابِ الْحَكِيمِ (الْقُرْآنِ) وَإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَحْيِ بِشُبْهَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَسِيقَتْ بَعْدَهَا الْآيَاتُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَمِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَتَارِيخِهِ،

مُتَضَمِّنَةً لِإِثْبَاتِ أَهَمِّ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ نَفْسِهِ وَتَفْنِيدِ مَا اقْتَرَحَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الرَّسُولِ فِيهِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ فِي كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى. (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) فِي الْآيَةِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ هَؤُلَاءِ الْمَوْعُوظِينَ إِلَى الْغَيْبَةِ عَنْهُمْ، وَتَوْجِيهٌ لَهُ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُسْلُوبُ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفَائِدَتُهُ الْعَامَّةُ تَلْوِينُ الْكَلَامِ بِمَا يُجَدِّدُ الِانْتِبَاهَ لَهُ وَالتَّأَمُّلَ فِيهِ، وَفِي كُلِّ الْتِفَاتٍ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، لَوْ أَرَدْنَا بَيَانَ مَا نَفْهَمُهُ مِنْهَا لَطَالَ بِنَا بَحْثُ الْبَلَاغَةِ الْكَلَامِيَّةِ، بِمَا يَشْغَلُ الْقُرَّاءَ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ تَفْسِيرِنَا. وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُكْتَةَ حِكَايَةِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ السَّخِيفِ بِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمٍ غَائِبِينَ إِفَادَةُ أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إِظْهَارُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُمْ غَيْرُ حَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْخِطَابَ بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى: (ثَانِيهِمَا) تَلْقِينُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ عَنْهُ بِمَا تَرَى مِنَ الْعِبَارَةِ الْبَلِيغَةِ التَّأْثِيرِ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ حَالَةَ كَوْنِهَا بَارِزَةً فِي أَعْلَى مَعَارِضِ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرِ مُقَدِّمَاتِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ قَرِيبًا - وَأَعَادَهُ وَاضِعًا إِيَّاهُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْقَوْلِ - أَيْ قَالُوا لِمَنْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، الْأَظْهَرُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُنْذِرَهُمْ بِهِ، وَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَكَانُوا فِي رَيْبٍ مِنْ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ لِبَشَرٍ مِثْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَفِي رَيْبٍ مَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَفُوقُهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ كِبَارِ فُصَحَائِهِمْ مِنْ بُلَغَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَحِنُوهُ بِمُطَالَبَتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ فِي جُمْلَةِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ سُورَةٍ فِي أُسْلُوبِهَا وَنَظْمِهَا وَدَعْوَتِهَا، أَوْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنْهُ، كَتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ وَتَكْفِيرِ آبَائِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ هَذَا أَوْ ذَاكَ كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مَنْقُوضَةً مِنْ أَسَاسِهَا، وَكَانَ قُصَارَى أَمْرِهِ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ، بِقُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ فِيهِ كَانَتْ خَفِيَّةً عَنْهُمْ كَأَسْبَابِ السِّحْرِ لَا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ، وَهُمَا مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ فِي عَصْرِنَا، وَقَدْ فَنَّدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا مِمَّا تُبِيحُهُ لِي رِسَالَتِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، أَيْ بِمَحْضِ رَأْيِي وَمُقْتَضَى اجْتِهَادِي، وَكَلِمَةُ (تِلْقَاءِ) بِكَسْرِ التَّاءِ مَصْدَرٌ مِنَ اللِّقَاءِ كَتِبْيَانٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَكَسْرُ التَّاءِ فِيهِمَا سَمَاعِيٌّ وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا الْمَصْدَرِ فَتْحُهَا كَالتَّكْرَارِ وَالتَّطْوَافِ وَالتَّجْوَالِ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أَيْ مَا أَتَّبِعُ فِيهِ إِلَّا تَبْلِيغَ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ فَإِنْ بَدَّلَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ شَيْئًا بِنَسْخِهِ بَلَّغْتُهُ عَنْهُ، وَمَا

عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمَحْضُ، وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَمْ يُعْطِ رَسُولَهُ الْحَقَّ فِي تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ، فَمَا حُكْمُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يُبَدِّلُونَهُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِصِدْقِ وَعْدِهِ لِأَهْلِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ) (48: 15) أَوْ بِتَرْكِ أَحْكَامِهِ لِمَذَاهِبِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (2: 181) إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِنَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَيَّ عِصْيَانٍ كَانَ، عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَصَيْتُهُ بِتَبْدِيلِ كَلَامِهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: إِنْ عَصَيْتُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ، إِذِ الشَّرْطِيَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِـ ((إِنْ)) يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا شَأْنُهُ أَلَّا يَقَعَ. وَهَذَا جَوَابٌ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ. ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ عَنِ الشَّقِّ الْأَوَّلِ مَفْصُولًا لِأَهَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا أَتْلُوَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّمَا أَتْلُوهُ بِأَمْرِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ أَلَّا يُدْرِيَكُمْ وَيُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ لَمَا أَرْسَلَنِي وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ الْأَعْلَى؛ لِتَدْرُوهُ فَتَهْتَدُوا بِهِ وَتَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِهِ لَا بِقُرْآنٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (4: 166) وَقَالَ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 52) (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ج 8 تَفْسِيرٍ) فَهُوَ قَدْ أَنْزَلَهُ عَالِمًا بِأَنَّ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَأَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَهُ (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ فَقَدْ مَكَثْتُ فِيمَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ سُورَةً مِنْ مِثْلِهِ وَلَا آيَةً تُشْبِهُ آيَاتِهِ، لَا فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَلَا فِي الْبَلَاغَةِ وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ إِنَّ مَنْ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا كِتَابًا، وَلَمْ يُلَقَّنْ مَنْ أَحَدٍ عِلْمًا، وَلَمْ يَتَقَلَّدْ دِينًا، وَلَمْ يَعْرِفْ تَشْرِيعًا، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ الْبَيَانِ، فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ، وَلَا خَطَابَةٍ وَفَخْرٍ، وَلَا عِلْمٍ وَحِكَمٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لَكُمْ، بَلْ هُوَ يُعْجِزُ جَمِيعَ الْخَلْقِ حَتَّى الدَّارِسِينَ لِكُتُبِ الْأَدْيَانِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّارِيخِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؟ فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَيَّ إِذًا أَنْ آتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ؟ وَسَيَتَحَدَّاهُمْ فِي الْآيَةِ 38 بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَمِمَّا يَمْتَازُ بِهِ الْوَحْيُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ، أَنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ نُبُوَّتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْقَرِيبَةِ، وَفَاتَنَا فِيهَا التَّذْكِيرُ بِمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ الْوَهْبِيِّ قَبْلَهَا أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (28: 14) وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ يَكُونُ فِي اسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِينَ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا

خُرُوجَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ عَوْدَتِهِ مِنْهَا. وَكَانَ مُوسَى عَلَى عِلْمٍ بِشَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ وَمَعَارِفِهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (12: 22) وَلَمْ يَقُلْ: ((وَاسْتَوَى)) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَكَانَ الْعِلْمُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ يُوسُفُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ وَالرُّؤَى أَيِ الْإِخْبَارَ بِمَآلِهَا. وَقَالَ فِي يَحْيَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (19: 12) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِلْمٌ وَلَا حُكْمٌ فِي الْأُمُورِ، اللهُمَّ إِلَّا حُكْمُهُ فِي تَنَازُعِ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ عِنْدَ بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ، أَيُّهُمْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ مِنَ الرُّكْنِ، وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ نُحَكِّمُهُ وَنَرْضَى بِحُكْمِهِ؛ أَيْ لِأَنَّهُ أَمِينٌ صَادِقٌ لَا يُحَابِي، فَحَكَمَ بِوَضْعِهِ فِي ثَوْبٍ يَأْخُذُ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ نَاحِيَةً مِنْهُ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنَ الرُّكْنِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَوَضَعَهُ فِيهِ. وَالْخَبَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ السِّيَرِ لَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزَّهْرِيِّ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِكَلِمَةِ ((غُلَامٍ)) وَفِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ سِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. هَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ نَاهِضَةٌ، عَلَى بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمُ الدَّاحِضَةِ، الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُطَالَبَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ مَا أَيَّدَ دَلَالَتَهَا الْعِلْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ بِمَا حَذَقُوا عِلْمَ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَ الْبَشَرِ وَطِبَاعَهُمْ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ دَرَجَاتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِاسْتِقْرَاءِ تَارِيخِهِمْ، قَدْ حَقَّقُوا أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ الْعَقْلِيَّ لِلْعُلُومِ، وَاسْتِعْدَادَهُ النَّفْسِيَّ لِلنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الْعَالَمِيَّةِ، يَظْهَرُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعْدَادَيْنِ فِيهِ مَنْ أَوَائِلِ نَشْأَتِهِ، وَيَكُونُ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ فِي الْعَقْدَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَظْهَرْ نُبُوغُهُ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَبَقَ اشْتِغَالُهُ بِهَا، وَلَا النُّهُوضُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانَ اسْتَشْرَفَ لَهَا، فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ مِنْ بَعْدِهَا جَدِيدًا أُنُفًا وَيَكُونُ فِيهِ نَابِغًا نَاجِحًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ إِثْبَاتِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَمْحِيصِ الْحَقَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ قَامَ بِتَنْفِيذِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بِمَا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ، وَقَلَبَ أَحْوَالَ أَكْثَرِ أُمَمِهَا فَحَوَّلَهَا إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَضَاهَا فِي الْأُمِّيَّةِ. فَهَذَا الْعِلْمُ الْجَدِيدُ الَّذِي أَيَّدَ حُجَّةَ الْقُرْآنِ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَهُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ نَظَائِرُ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا كَثِيرًا مِنْهَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّفَاسِيرِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ غَافِلِينَ عَنْهُ تَبَعًا لِغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ، بِصَدِّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْمُعَمَّمِينَ

17

إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَرَى أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ بُرْهَانِهِ بِفَضْلِهِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ! ! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) هَذِهِ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّ تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مِمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْهُ - لِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْخَاصُّ بِهِ - وَثَانِيًا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ عَزَّزَ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ بِثَالِثَةٍ أَدَبِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ شَرَّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ فِي الْبَشَرِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِمْ، وَثَانِيهِمَا التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللهِ، وَهُوَ مَا اجْتَرَحُوهُ بِإِجْرَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ عِنْدَ اللهِ وَأَجْدَرُ بِغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا أَنْعِي عَلَيْكُمُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ أَرْضَى لِنَفْسِي بِالْأَوَّلِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِي مِنْ هَذَا الْإِجْرَامِ الْعَظِيمِ وَأَنَا أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ وَأَدْعُو إِلَيْهِ وَأَحْتَمِلُ الْمَشَاقَّ فِي سَبِيلِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلُوبِهِمُ الَّذِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 21 و93 و144) وَفِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 37) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي ج 8 تَفْسِيرِ) . (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) . هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَحْضِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَهِي الشَّفَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بُطْلَانُهَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَحْدَهُ، وَصَرَّحَ هُنَا بِإِسْنَادِ هَذَا الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ وَبِاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ فَقَالَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ بَيَانِ

شِرْكِهِمْ وَسَخَافَتِهِمْ فِيهِ، وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي جُحُودِ الْحَقِّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، أَيْ وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ غَيْرِ اللهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا وَحْدَهَا، فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (12: 106) وَفِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ إِيذَانٌ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَضَلَالِهِمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِ مَنْ يَعْبُدُهُ، وَضُرِّ مَنْ يَكْفُرُهُ، وَيُشْرِكُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَصْلُ غَرِيزَةِ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي الْبَشَرِ، فِي سَذَاجَتِهِمُ الَّتِي لَا تَلْقِينَ فِيهَا لِحَقٍّ وَلَا بَاطِلٍ، هِيَ الشُّعُورُ الْبَاطِنُ بِأَنَّ فِي الْوُجُودِ قُوَّةً غَيْبِيَّةً وَسُلْطَانًا عُلْوِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ لِمَنْ شَاءَ، وَإِيقَاعِ الضُّرِّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَكَشْفِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَمَّنْ شَاءَ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلنَّاسِ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَوَارِيخِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِمُ الْبَدَوِيَّةِ وَالْحَضَرِيَّةِ، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّدَيُّنِ الْغَرِيزِيِّ فِيهِمْ، وَأَمَّا صُوَرُ التَّعَبُّدِ وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودَاتِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ تَلْقِينِ دُعَاةِ الدِّينِ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّمَا عَبَدَهُ مَنْ عَبَدَهُ لِشُبْهَةٍ فَهِمَ مِنْهَا قُدْرَتَهُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ لَهُ فَوْقَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوْسَطُهَا وَأَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِيهِ آزَرَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ آخِرِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَوَارِقِ مِنْ بَحْثِ الْوَحْيِ الِاسْتِطْرَادِيِّ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ - هُوَ بَيَانَ عَجْزِهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا جَمَادَاتٌ مَصْنُوعَةٌ كَالْأَوْثَانِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَكَذَا الْحِجَارَةِ، أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ كَاللَّاتِ وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ بِالطَّائِفِ يُلَتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقُ ثُمَّ عُظِّمَتْ حَتَّى عُبِدَتْ، وَإِمَّا أَشْجَارٌ كَالْعُزَّى مَعْبُودَةِ قُرَيْشٍ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي قَطَعَهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدٍ، وَشَجَرَةِ الْمَنْضُورَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا النِّسَاءُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ الْحَبَلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ قَدْ وُضِعَتْ ذِكْرَى لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ عِبَادَتُهُمْ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِيهَا أَرْوَاحًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ شَجَرَةِ الْعُزَّى أَوْ شَجَرَاتِهَا الثَّلَاثِ، إِذْ ظَهَرَتْ عِنْدَ قَطْعِهَا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا جِنِّيَّةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُوَاثِبَهُ وَتُخِيفَهُ فَقَتَلَهَا، فَهِيَ كَالْقُبُورِ الَّتِي تُشَرَّفُ وَتُجَصَّصُ وَيُوضَعُ عَلَيْهَا السُّتُورُ وَتُبْنَى عَلَيْهَا الْقِبَابُ، لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ تَمَاثِيلَ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةُ

18

هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا شَرْعِيٌّ. نَعَمْ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ نَفْيِ ضَرِّهَا وَنَفْعِهَا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا عَمَلَ لَهَا فَقَطْ كَمَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَظْهَرَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادَةِ الثَّعَابِينِ وَالْبَقَرِ وَالْقُرُودِ - وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي الْهِنْدِ - وَعَلَى عِبَادَةِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ النَّصْرَانِيَّةِ الْآرِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِمْبِرَاطُورُ قُسْطَنْطِينُ، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَنَ النَّصَارَى وَالْهُنُودِ مِنْ جَهَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بَيَانُ بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَهْمَا يَكُنِ الْمَعْبُودُ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ قِسْمَانِ: ادِّعَاءُ وَسَاطَتِهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ. وَهُوَ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيِهِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ حَتَّى الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، لَا بِذَوَاتِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ، وَلَا بِتَأْثِيرٍ خَاصٍّ لَهُمْ عِنْدَ الْخَالِقِ يَحْمِلُونَهُ بِهِ عَلَى نَفْعِ مَنْ شَاءُوا أَوْ ضُرِّ مَا شَاءُوا أَوْ كَشَفِ الضُّرِّ عَنْهُ، كَمَا يَعْتَقِدُ عُبَّادُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (5: 76) وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى عَبَدَةِ الْقُبُورِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ عِبَادَتَهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ فَهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ لَا كَالْأَصْنَامِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّصَارَى: إِنَّ الْمَسِيحَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِعِبَادَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنَ الشُّيُوخِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَدَوِيِّ وَالْحُسَيْنِ وَالسَّيِّدَةِ زَيْنَبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ، وَحَيَاتُهُ لَا تَزَالُ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَيَاةً عُنْصُرِيَّةً وَحَيَاتُهُمْ بَرْزَخِيَّةٌ وَمُعْجِزَاتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَكَرَامَاتُهُمْ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ. كَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَهُمْ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِنَفْيِ مِلْكِهِ لِضُرِّ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ وَهُوَ حَيٌّ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (49) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَبَقَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 188) . (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) أَيْ يَقُولُونَ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِأَنْفُسِهِمْ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ اللهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ فَنَحْنُ نَعْبُدُهُمْ بِتَعْظِيمِ هَيَاكِلِهِمْ وَتَطْيِيبِهَا بِالْعِطْرِ وَالطَّوَافِ بِهَا وَبِتَقْدِيمِ النُّذُورِ لَهُمْ، وَالْإِهْلَالِ عِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَبِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَيَدْفَعُ بِجَاهِهِمْ عَنَّا الْبَلَاءَ، وَيُعْطِينَا مَا نَطْلُبُ مِنَ النَّعْمَاءِ، هَذَا مَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْبَعْثِ مِنْهُمْ

وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (41: 50) وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ: أَتُخَبِّرُونَ اللهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُشْرِكُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ. وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ. وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا،

19

وَلِمَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ مَجَلَّةٌ تَنْشُرُ بِاسْمِهَا هَذِهِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَطْعَنُ عَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَعَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَخْذُ الدِّينِ كُلِّهِ عَنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، حَتَّى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ. (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السِّيَاقِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لِلْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ إِلَّا كَدَأْبِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي اسْتِعْجَالِ نَبِيِّهِمُ الْعَذَابَ إِلَّا كَالَّذِينِ اسْتَعْجَلُوا رُسُلَهُمُ الْعَذَابَ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ فِيهِ بَيَانُ بَعْضِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَلَا سِيَّمَا الْكُفَّارِ فِي الرُّعُونَةِ وَالْعَجَلَةِ، وَفِي الضَّرَاعَةِ إِلَى اللهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَفِي الْإِشْرَاكِ بِاللهِ بِدَعْوَى أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِوَجَاهَتِهِمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَمَا صَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، فَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْعَرَبُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الَّذِي ابْتَدَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ وَصَنَعَ لَهُمُ الْأَصْنَامَ - كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - فَاخْتَلَفُوا بِأَنْ أَشْرَكَ بَعْضُهُمْ وَثَبَتَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ آخَرُونَ. وَقِيلَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، إِنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْفِطْرَةِ، إِذْ كَانُوا يَعِيشُونَ عِيشَةَ السَّذَاجَةِ وَالْوَحْدَةِ كَأُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فَصَارُوا عَشَائِرَ فَقَبَائِلَ فَشُعُوبًا تَخْتَلِفُ حَاجَاتُهَا وَتَتَعَارَضُ مَنَافِعُهَا، فَتَتَعَادَى وَتَتَقَاتَلُ فِي التَّنَازُعِ فِيهَا، فَبَعَثَ اللهُ فِيهِمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ نَفْسِهِ أَيْضًا بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (2: 213) وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَةُ حَقٍّ فَاصِلَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فِي جَعْلِ جَزَاءِ النَّاسِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ، لَعَجَّلَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْمُبْطِلِينَ الْبَاغِينَ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (93) وَمِثْلُهُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى. وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ الْمُفْضِي إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا سِيَّمَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِزَالَةِ الشِّقَاقِ بِحُكْمِهِ، وَإِدَالَةِ الْوَحْدَةِ وَالْوِفَاقِ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَحِكْمَتُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (213) وَفِي غَيْرِهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ وَحِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (11: 118) إِلَخْ. (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أَنْزِلُ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ) . الْكَلَامُ فِي مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، حَكَى عَنْهُمْ عَجَبَهُمْ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مُطَالَبَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، الدَّالِّ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌّ مِنْ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَبْدِيلِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمْتَ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاحْتِجَاجَ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ بِعَدَمِ إِنْزَالِ رَبِّهِ عَلَيْهِ آيَةً كَوْنِيَّةً غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالِهِمْ فِي جُحُودِ الرِّسَالَةِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، لَا عَلَى آخَرِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا) (18) خَاصَّةً لِقُرْبِهِ وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ؛ فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ مُشَارِكٍ لِلْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ فِي خَاصَّةِ مَوْضُوعِهِ أَوْ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا عَلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ تَبْدِيلِهِ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، لِبُعْدِهِ وَلِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي حِكَايَةِ ذَاكَ بِالْمَاضِي وَهُوَ: (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) (15) وَحِكَايَةِ هَذَا بِالْمُضَارِعِ إِلَخْ.

20

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَرْجِيحِهِ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي هُنَاكَ، وَإِنَّمَا آثَرَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهَا مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهَا الشَّنِيعَةِ اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّرْجِيحِ وَبَاعَدَ، وَإِنْ سَدَّدَ فِي التَّعْلِيلِ وَقَارَبَ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ حِكَايَةُ أَنْوَاعِ جُحُودِهِمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا وَفِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (38) وَقَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (48) إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي الْجُحُودِ؛ فَإِنَّ اقْتِرَاحَ نُزُولِ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَلَيْهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ، وَذُكِرَ فِي سُورٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ (يُونُسَ) وَمِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بِشَوَاهِدِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ هَكَذَا. وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ قَدْ قَالُوا وَلَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةٌ كَوْنِيَّةٌ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُنَا عَنْهُمْ، حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ هَذَا الِاقْتِرَاحَ هُنَا مُجْمَلًا وَأَجَابَ عَنْهُ جَوَابًا مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ سَبَقَ مُفَصَّلًا فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا كُفَّارُ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، فَقَالُوا فِي مِثْلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَكَّةَ يَفِرُّ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُشْرِكِينَ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) وَالْآيَاتُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَبِيَدِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا خَوَارِقُ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَالْغَيْبُ لِلَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدَّرَ إِنْزَالَ آيَةٍ عَلِيَّ فَهُوَ يَعْلَمُ وَقْتَهَا وَيُنَزِّلُهَا فِيهِ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لِمَا يَفْعَلُهُ بِي وَبِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ رَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (46: 9) وَيُفَسِّرُ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (102) وَفِيهِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ قِسْمَانِ: عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ أُوتُوا مَا اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ فَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، وَعَذَابُ مَنْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ وَهُوَ خِذْلَانُهُمْ وَنَصْرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اقْتِرَاحَ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مُبْهَمَةٍ فِي بَعْضِ السُّورِ، وَاقْتِرَاحَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، مِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْحِجْرُ (15: 6 - 8) فَالْأَنْعَامُ (6: 8 و9 39 - 41 و109 و111) فَالْأَنْبِيَاءُ (21: 5) فَالْعَنْكَبُوتُ (29: 50) فَالرَّعْدُ (13: 7 و27) وَفِيهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، فَأَمَّا الْأَنْعَامُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِكَوْنِ الْآيَاتِ لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا عَلَى الْجُحُودِ فَتَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَنَافِي مُرَادَ

اللهِ تَعَالَى مِنْ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءَيْنِ 7 و8 مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا فَيُرَاجَعْ، ثُمَّ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (21: 6) ثُمَّ أَجَابَ عَنْهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ لَمَ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) (29: 51) ؟ لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ فَصَّلَ مُقْتَرَحَاتِهِمْ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (25: 7 و8) ؟ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَاحِدَةٍ مِنْ بِضْعِ آيَاتٍ وَعَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى إِجَابَةِ طَلَبِهِمْ، فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَا صَرَّفَهُ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْأَمْثَالِ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (17: 90) إِلَخْ. الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (17: 93 و95) أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ فِي جَوَابِهِمْ، تَسْبِيحَ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِسُنَنِ الْكَوْنِ، وَأَنَّ آفَتَهُمْ هِيَ آفَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْهُدَى، وَأَنَّهُ مَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ اتِّبَاعُهُ لِذَاتِهِ، فَاحْتَقَرُوا الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَاقْتَرَحُوا أَنْ تَجِيئَهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ فِيهَا كَالْبَشَرِ يُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُمْ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا نَزَّلَ الْمَلَكَ فَهُوَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالْعَذَابِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَشَرًا، وَإِذًا لَاحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِمْ لِلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: (مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) (15: 7 و8) وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (6: 8 و9) . وَلَقَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) حُجَّةً أُخْرَى فِي حِكْمَةِ عَدَمِ نُزُولِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَيْهِ أَوْ سَبَبَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (17: 59) أَيْ وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ اللَّاتِي اقْتَرَحَتْهَا قُرَيْشٌ، إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الطَّبْعِ وَالْعَادَةِ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَاسْتَوْجَبُوا

عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُنَا، وَقَدْ قَضَيْنَا أَلَّا نَسْتَأْصِلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أُمَّةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْبَاقِيَةُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ يُولَدُ لَهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَةِ الْبَيْضَاوِيِّ الْوَجِيزَةِ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ) لِسُؤَالِهِمْ: مُبْصِرَةً بَيِّنَةً ذَاتَ إِبْصَارٍ أَوْ بَصَائِرَ أَوْ جَاعِلَتَهُمْ ذَوِي بَصَائِرَ فَظَلَمُوا بِهَا أَيْ فَكَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ عَقْرِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ أَيِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا تَخْوِيفًا (17: 59) مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا نَزَلَ اهـ. وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي مَوْلِدِهِ وَنَشْأَتِهِ وَفِرَارِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِلَى مَدْيَنَ وَبَعْثَتِهِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ إِلَخْ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي آخِرِهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا، فَهِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ (28: 44 - 46) مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهَا فِي (مَبَاحِثِ الْوَحْيِ ج 11 تَفْسِيرٍ) ثُمَّ قَالَ: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) (28: 47 و48) إِلَخْ. فَجُمْلَةُ مَا وَرَدَ فِي اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْ مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مُقَرِّرٌ؛ لِمَا عُلِمَ بِالْقَطْعِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ حُجَّتَهُ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هَذَا الْقُرْآنَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِيَّةِ وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَإِعْجَازِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْهِدَايَةِ إِلَى آخَرِ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الِاسْتِطْرَادِيِّ الَّذِي عَقَدْنَاهُ لِإِثْبَاتِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (ج 11 تَفْسِيرٍ) وَقَدْ آتَى اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ آيَاتٍ أُخْرَى عِلْمِيَّةً وَكَوْنِيَّةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً عَلَى رِسَالَتِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِالتَّحَدِّي بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ لِضَرُورَاتٍ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهَا كَاسْتِجَابَةِ بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ سَابِقًا. وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وَقَدْ يُعَارِضُهُ آيَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مَعَ مَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فَكَانَ فِرْقَتَيْنِ، وَلَكِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي انْشِقَاقِهِ عِلَلًا فِي مَتْنِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَإِشْكَالَاتٍ عِلْمِيَّةً وَعَقْلِيَّةً وَتَارِيخِيَّةً فَصَّلْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ

21

الثَّلَاثِينَ مِنَ الْمَنَارِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الصَّرِيحِ فِي حَصْرِ مُعْجِزَةِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ، وَكَوْنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ تَقْتَضِي إِجَابَةُ مُقْتَرِحِيهَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَتِهِ شَيْءٌ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَمَرِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِتْمَامِ التَّفْسِيرِ بِفَضْلِهِ. (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ يَتَضَمَّنُ - بِمَعُونَةٍ مَا يُفَصِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ - أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَقْتَنِعُونَ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهَا بِأَعْيُنِهِمْ يُكَابِرُونَ حِسَّهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ، ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لَهُ فِي آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْمَكْرِ فِيهَا وَكَوْنِهَا لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فَقَالَ: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ مُنْتَظِمَةٌ مَعَ أُخْتَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ 12 و15 فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالذَّوْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِدْرَاكُ الطَّعْمِ بِالْفَمِ، وَالْمُدْرِكُ لَهُ

عَصَبٌ خَاصٌّ فِي اللِّسَانِ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِدْرَاكِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ كَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ كَالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، وَالضَّرَّاءُ الْحَالَةُ مِنَ الضُّرِّ الْمُقَابِلِ لِلنَّفْعِ، وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ، أَيْ وَإِذَا كَشَفْنَا ضَرَّاءَ مَسَّ النَّاسَ أَلَمُهَا، بِرَحْمَةٍ مِنَّا أَذَقْنَاهُمْ لَذَّتَهَا عَلَى أَتَمِّهَا؛ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِهَا عَقِبَ زَوَالِ ضِدِّهَا يَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ _ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ((إِذَا)) هَذِهِ تُسَمَّى الْفُجَائِيَّةُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْمَكْرِ، وَأَسْرَعُوا بِالْمُفَاجَأَةِ بِهِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَرًا أَحْيَا الْأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ، وَدَرَّ بِهِ الضَّرْعُ بَعْدَ جَدَبٍ وَقَحْطٍ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، قَالُوا: مُطِرْنَا بِالْأَنْوَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ وَأَعْوَزَتْهُمْ أَسْبَابُهَا، عَلَّلُوهَا بِالْمُصَادَفَاتِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبَهَا دُعَاءُ نَبِيِّهِمْ أَنْكَرُوا إِكْرَامَ اللهِ لَهُ وَتَأْيِيدَهُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ عَقِبَ آيَاتِ مُوسَى، وَكَمَا فَعَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ إِثْرَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُمْ بِدُعَائِهِ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَجُحُودًا وَمَكْرًا وَكَنُودًا. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجُهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (44: 10 و11) فَأَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَقِ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. فَقَالَ: ((مُضَرُ؟)) مُتَعَجِّبًا.؟ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللهَ، فَدَعَا لَهُمْ فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَمُطِرُوا، فَعَادُوا إِلَى حَالِهِمْ وَمَكْرِهِمُ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (8: 30) الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ آيَةِ 7: 99 وَآيَةِ (3: 54) مَعْنَى الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وَسَيِّئًا وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ، وَأَنَّ مَكْرَهُ تَعَالَى وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَحُسْنٌ، وَلَكِنْ مَا يَسُوءُ النَّاسَ مِنْهُ يُسَمُّونَهُ شَرًّا وَسُوءًا، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً عَدْلًا، وَيُرَاجَعْ تَحْقِيقُهُ فِي الْجُزْءِ 3 و9 مِنَ التَّفْسِيرِ (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ فِي الْمَكْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُفَاجَأَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مَكْرًا مِنْكُمْ؛ إِذْ سَبَقَ فِي تَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَتَقْدِيرِهِ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَى مَكْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) يَعْنِي الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِإِحْصَاءِ

أَعْمَالِ النَّاسِ وَكَتْبِهَا لِلْحِسَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكِتَابَةُ الْمَكْرِ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ مُتَعَلِّقِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ نِيَّتُهَا وَهِيَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ لِلْمَكْرِ. وَالْجُمْلَةُ تَتِمَّةُ الْجَوَابِ الَّذِي لَقَّنَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّبْلِيغِ لَفْظُ " قُلْ " وَهُوَ خِطَابُ اللهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَقُولِهِ الْخَاصِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (109: 1) وَأَمْثَالُهُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهُمُ الْآيَةَ بِرُمَّتِهَا: مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ كُلِّهَا لَا وَحْدَهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ كَلِمَةَ: ((اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) مِنْ قَبْلِ نَفْسِهِ؛ فَيَسْتَشْكِلَ الِالْتِفَاتُ فِيهَا عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي: (إِنَّ رُسُلَنَا) بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَصْوِيرِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ ((إِنَّ رُسُلَهُ يَكْتُبُونَ)) إِلَخْ؛ لِأَنَّ فِي ضَمِيرَ الْجَمْعِ مِنْ تَصْوِيرِ الْعَظْمَةِ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَظِيمِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ، مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ سَيِّدَةِ اللُّغَاتِ، الَّتِي اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِأَنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لُغَاتِهِمْ، فِي التَّعْبِيرِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (18: 109) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ (يَمْكُرُونَ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْغَائِبِينَ كَالْحَاضِرِينَ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ النَّاسِ وَحِكْمَتِهَا فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (6: 61) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَشَرَحْنَا قَبْلَهَا مَسْأَلَةَ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ كُلِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (6: 59) مِنْهَا فَيُرَاجِعُ الْمَوْضُوعُ كُلُّهُ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّابِعِ مَنْ شَاءَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ فَحَسْبُهُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْأَعْمَالَ كِتَابَةً غَيْبِيَّةً لَمْ يُكَلِّفْنَا اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَةَ صِفَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ لَهُ نِظَامًا حَكِيمًا فِي إِحْصَائِهَا؛ لِأَجْلِ مُرَاقَبَتِنَا لَهُ فِيهَا؛ لِنَلْتَزِمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَنَجْتَنِبَ أَضْدَادَهَا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ: (أَسْرَعُ) فِيهَا عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ: سَرُعَ كَضَخُمَ وَحَسُنَ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِعٌ وَسَرِيعٌ وَسَرَاعٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ الرُّبَاعِيُّ أَسْرَعَ، وَفِي اللِّسَانِ أَنْ سِيبَوَيْهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَسْرَعَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَكَلُّفُهُ كَأَنَّهُ أَسْرَعَ

22

الْمَشْيَ أَيْ عَجَّلَهُ، وَأَمَّا سَرُعَ فَكَأَنَّهَا غَرِيزَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ اسْتَعْمَلَ أَسْرَعَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ النُّحَاةِ كَوْنَ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِثْلِ ((أَسْرَعُ)) مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ. ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) السَّيْرُ الْمُضِيُّ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَالتَّسْيِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ يَسِيرُ بِتَسْخِيرِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَرْكَّبَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ، أَيْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (وَزَادَنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ الْبُخَارِيَّةَ وَالطَّيَّارَاتِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْجَوَاءِ) (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أَيْ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي إِحْدَى حَوَادِثِ سَيْرِكُمُ الْبَحْرِيِّ رَاكِبِينَ فِي الْفُلْكِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَكُمْ، وَالْفُلْكُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ الْمُفْرَدَةِ وَلِجَمْعِهَا وَهُوَ السُّفُنُ وَالسَّفَائِنُ (مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ وَاحِدٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ إِذْ قَالَ: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ وَجَرَتْ هَذِهِ الْفُلْكُ بِمَنْ فِيهَا بِسَبَبِ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، أَيْ رُخَاءٍ مُوَاتِيَةٍ لَهُمْ فِي جِهَةِ سِيَرِهِمْ، وَالطِّيبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ وَالْمَنْفَعَةَ؛ يُقَالُ: رِزْقٌ طَيِّبٌ، وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، وَبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَشَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (بِهِمْ) الْتِفَاتٌ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَائِدَتُهُ _ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ _ الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعْجِبَهُمْ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا لِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَفَرِحُوا بِهَا لِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالِانْتِعَاشِ وَالْأَمْنِ مِنْ دُوَارِ الْبَحْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِ الْجَمِيلِ، فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْعَلِيلِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ أَيْ جَاءَتِ الْفُلْكَ أَوِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ لَاقَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَوِيَّةٌ. يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ أَيْ تَعْصِفُ الْأَشْيَاءَ فَتَكُونُ كَعَصْفِ النَّبَاتِ وَهُوَ الْحُطَامُ الْمُتَكَسِّرَةُ مِنْهُ: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَيْ وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ وَتَمَوَّجَ سَطْحُهُ كُلُّهُ، فَتَلَقَّاهُمْ مَوْجُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي بِتَأْثِيرِ الرِّيحِ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَهُبُّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهَا النَّكْبَاءُ وَهِي الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْمُتَنَاوِحَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَمِنْهَا الْإِعْصَارُ وَهِي الرِّيحُ الَّتِي تَدُورُ فَتَكُونُ عَمُودِيَّةً فَيَرْتَفِعُ بِهَا مَا تَدُورُ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَصَى مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَاءِ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مَنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي مَكَانٍ آخَرَ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أَيِ اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا رَاجِحًا أَنَّهُمْ هَلَكُوا بِإِحَاطَةِ الْمَوْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ بِعَدُوِّهِ إِذْ يُطَوِّقُهُ بِمَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ سُبُلَ النَّجَاةِ. ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَاصِفِ يَهْبِطُ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ تَارَةً كَأَنَّهُمْ سَقَطُوا فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَثِبَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى غَوَارِبِ الْمَوْجِ كَأَنَّهُمْ فِي قُنَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ أَصَابَهُ رَجْفَةُ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةٍ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هَذَا جَوَابٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلَخْ، أَيْ حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ

نُذُرِ الْعَذَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ دُونَ النَّجَاةِ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ، دَعَوُا اللهَ فِي كَشْفِهِ عَنْهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ مَعَهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا نِدٍّ وَلَا شَرِيكٍ، مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ، عَازِمِينَ عَلَى طَاعَتِهِ قَائِلِينَ: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ نُقْسِمُ لَكَ يَا رَبَّنَا لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ التَّهْلُكَةِ أَوِ الْعَاصِفَةِ لَنَكُونَنَّ لَكَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِكَ لَا نَكْفُرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا، وَلَا نَتَوَجَّهُ فِي تَفْرِيجِ كُرُوبِنَا وَقَضَاءِ حَاجِنَا إِلَى وَثَنٍ وَلَا صَنَمٍ، وَلَا إِلَى وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا مَلِكٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بَيَانٌ صَرِيحٌ لِكَوْنِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ إِلَّا اللهَ رَبَّهُمْ، وَلَكِنْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ بِزَعْمِهِمْ لَا يَدْعُونَ عِنْدَ أَشَدِّ الضِّيقِ إِلَّا مَعْبُودِيهِمْ مِنَ الْمَيِّتِينَ، كَالْبَدَوِيِّ وَالرِّفَاعِيِّ وَالدُّسُوقِيِّ وَالْجِيلَانِيِّ وَالْمَتْبُولِيِّ وَأَبِي سَرِيعٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَتَجِدُ مِنْ حَمْلَةِ الْعَمَائِمِ الْأَزْهَرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا سِيَّمَا سَدَنَةِ الْمَشَاهِدِ الْمَعْبُودَةِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِأَوْقَافِهَا وَنُذُورِهَا، مَنْ يُغْرِيهِمْ بِشِرْكِهِمْ وَيَتَأَوَّلُهُ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالتَّوَسُّلِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ حِكَايَةً يَتَنَاقَلُونَهَا رُبَّمَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُطْرَيْنِ لِتُشَابُهِ أَهْلِهِمَا وَأَكْثَرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي خُرَافَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ جَمَاعَةً رَكِبُوا الْبَحْرَ فَهَاجَ بِهِمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ فَصَارُوا يَسْتَغِيثُونَ مُعْتَقَدِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَا سَيِّدُ يَا بَدَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يَصِيحُ يَا رِفَاعِيُّ، وَآخَرُ يَهْتِفُ: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ يَا جِيلَانِيُّ. . . . . إِلَخْ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مُوَحِّدٌ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا فَقَالَ: يَارَبِّ أَغْرِقْ أَغْرِقْ، مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَعْرِفُكَ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ السَّيِّدُ حَسَنُ صِدِّيقٍ الْهِنْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ تَفْسِيرِهِ فَتْحِ الرَّحْمَنِ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا شَابَهَهَا. فَيَا عَجَبًا لِمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَوَائِفَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ، دَعَوُا الْأَمْوَاتَ وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ إِلَيْنَا تَوَاتُرًا يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ، فَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَا فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ؟ وَأَيْنَ وَصَلَ أَهْلُهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ رَمَى بِهِمُ الشَّيْطَانُ؟ وَكَيْفَ اقْتَادَهُمْ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْقَادُوا لَهُ انْقِيَادًا مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) . وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأُلُوسِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ: ((أَيْ دَعَوْهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ لِرُجُوعِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ لَا مُتَصَرِّفَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ الْمَرْكُوزُ فِي طَبَائِعِ الْعَالَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلْأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَأَخَذَتْهُمُ الرِّيحُ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُونَهُ قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مَكَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ: فَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ فَارْجِعُوا بِنَا، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الدُّعَاءِ فَقَطْ بِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِهِ تَعَالَى أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَكُونُونَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ إِذَا اعْتَرَاهُمْ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، دَعَوْا مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الْخِضْرَ وَإِلْيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَادِي أَبَا الْخَمِيسِ وَالْعَبَّاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرَعُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْأُمَّةِ، وَلَا تَرَى فِيهِمْ أَحَدًا يَخُصُّ مَوْلَاهُ، بِتَضَرُّعِهِ وَدُعَاهُ، وَلَا يَكَادُ يَمُرُّ لَهُ بِبَالٍ، أَنَّهُ لَوْ دَعَا اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ يَنْجُو مِنْ هَاتِيكَ الْأَهْوَالِ، فَبِاللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ قُلْ لِي أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَهْدَى سَبِيلًا، وَأَيُّ الدَّاعِيَيْنِ أَقُومُ قِيلًا! وَإِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُشْتَكَى مِنْ زَمَانٍ عَصَفَتْ فِيهِ رِيحُ الْجَهَالَةِ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُ الضَّلَالَةِ، وَخُرِّقَتْ سَفِينَةُ الشَّرِيعَةِ، وَاتُّخِذَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ ذَرِيعَةً، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعَارِفِينَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَالَتْ دُونَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ صُنُوفُ الْحُتُوفِ اهـ. أَقُولُ - يَعْنِي الشِّهَابُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ - إِنَّ فُشُوَّ هَذَا الشِّرْكِ فِي النَّاسِ عَامَّتِهِمْ، وَشُيُوخِ الْبِدَعِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حُكَّامِهِمْ، جَعَلَ نَهْيَ الْعَارِفِينَ عَنْهُ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَذِّرَةِ، الَّتِي يُخْشَى عَلَى الْمُجَاهِرِ بِهَا الْحُتُوفُ وَالْهَلَكَةُ. وَنَحْنُ مَا أَمْكَنَنَا هَذِهِ الْمُجَاهَرَةُ فِي مِصْرَ إِلَّا بِمَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِتَفَرْنُجِ الْحُكُومَةِ. وَلَمَّا جَهَرْتُ بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَرْسٍ عَامٍّ بِالْمَسْجِدِ الْحُسَيْنِيِّ سَنَةَ 1316 هَاجَ عَلَيَّ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْتُلَنِي جَهْرًا، فَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْأَزْهَرِ وَمُحَرِّرُو مَجَلَّةِ الْمَشْيَخَةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فِي السَّيِّدِ الْأَلُوسِيِّ وَفِي السَّيِّدِ حَسَنِ صِدِّيقٍ؟ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَطْعَنَ هَذِهِ الْمَجَلَّةُ فِي دِينِهِمَا وَعَقِيدَتِهِمَا كَمَا طَعَنَتْ عَلَى دِينِ الْإِمَامِ الشَّوْكَانِيِّ فِي جُزْئِهَا الَّذِي صَدَرَ أَثْنَاءَ كِتَابَتِنَا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

(اهْتِدَاءُ بَارِجٍ إِنْكِلِيزِيٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا) سَاقَ اللهُ تَعَالَى نُسْخَةً مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ إِلَى بَارِجٍ مِنْ رَبَابِينِ الْبَوَاخِرِ الْكُبْرَى الَّتِي تَمْخُرُ الْبِحَارَ بَيْنَ إِنْكِلْتِرَةَ وَالْهِنْدِ، فَرَأَى فِيهَا تَرْجَمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ فَرَاعَتْهُ بَلَاغَةُ وَصْفِهَا لِطُغْيَانِ الْبَحْرِ وَاصْطِخَابِهِ، وَمَا تَفْعَلُهُ الرِّيَاحُ الْمَوْسِمِيَّةُ الْعَاتِيَةُ بِالْبَوَاخِرِ وَالْبَوَارِجِ الْعَظِيمَةِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، فَطَفِقَ يَتَأَمَّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ الْبَحْرِ، وَالسَّفَائِنِ الْكُبْرَى فِيهِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) (55: 19 - 24) وَرَأَى أَنَّ الْمُتَرْجِمَ الْإِنْكِلِيزِيَّ يَنْقُلُ عَنْ أَشْهَرِ تَفَاسِيرِ الْقُرْآنِ لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَ افْتِتَاحِ الْعَرَبِ لِلْمَمَالِكِ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْبِحَارِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرَفُونَ مَا عَرَفَهُ الْإِنْكِلِيزُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْحُلْوَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْمَالِحَةِ، فَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مُجْتَمَعِهِمَا الصَّادِقِ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِزَعْمِهِمْ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحُ فَقَطْ، غَافِلِينَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (35: 12) وَنَبَّهَ نَظَرَهُ تَشْبِيهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتِ بِالْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) (42: 32، 33) وَالْعَلَمُ الْجَبَلُ، وَأَصْلُهَا أَعْلَامُ الطَّرِيقِ الْعَالِيَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْمَسَالِكُ، أَطَالَ الْفِكْرَ هَذَا الرُّبَّانُ الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَعَمَّدَ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ ثُغُورِ الْهِنْدِ، فَسَأَلَهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ فِي الْبِحَارِ؟ قَالُوا: لَا إِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي الْبَحْرِ قَطُّ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَذَا النَّبِيِّ الْعَظِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّشْرِيعِ وَالتَّهْذِيبِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ مِنْ كُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَسْلَمَ عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَظَلَّ زَمَنًا طَوِيلًا يَتَعَبَّدُ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أُتِيحَ لَهُ تَرْكُ عَمَلِهِ فِي الْبِحَارِ فَأَقَامَ فِي مِصْرَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ وَعَاشَرَ فُضَلَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِسْتَرْ عَبْدُ اللهِ بِرَاوِنْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَا قَدْ أَدْرَكْتُهُ وَعَرَفْتُهُ، وَلَا يَزَالُ فِي مِصْرَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَقَدْ ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِهِ الْمَثَلَ فِي صَلَاتِهِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْبَحْرِ بِقَدْرِ مَا يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ بِكُلِّ خُشُوعٍ وَتَوَجُّهٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فِي كَلَامٍ لَهُ فِي رُوحِ الصَّلَاةِ وَمَغْزَاهَا، وَصُورَتِهَا وَأَرْكَانِهَا، قَالَ: قَدْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ أَقْرَبَ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الصُّورِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، الَّتِي يُمَثِّلُهَا مَنْ لَا يَخْطُرُ فِي قُلُوبِهِمْ فِيهَا أَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى اللهِ وَمُنَاجُونَ لَهُ، مَعَ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ إِلَخْ.

23

قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ إِذَا هُمْ يُفَاجِئُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَهْبِطُونَ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ وَالْإِفْسَادُ، يَمْنَعُونَ فِي ذَلِكَ وَيُصِرُّونَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ الْبَغْيِ طَلَبُ مَا زَادَ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، إِلَى الْإِفْرَاطِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ وَالِاخْتِلَالِ، مِنْ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا زَادَ حَتَّى تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَغَتِ السَّمَاءُ، إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي الْمَطَرِ الْحَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَإِمْدَادِ الْيَنَابِيعِ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي بُضْعِهَا الْحَقَّ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِ إِلَى الْفُجُورِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَمَا وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَكُونُ الصِّفَةُ كَاشِفَةً لِلْوَاقِعِ لِلتَّذْكِيرِ بِقُبْحِهِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَغْيُ - وَهُوَ تُجَاوُزُ حَدِّ الِاعْتِدَالِ - بِحَقٍّ إِذَا كَانَ عِقَابًا عَلَى مِثْلِهِ أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَقَعُ فِي الْحُرُوبِ وَقِتَالِ الْبُغَاةِ مِنِ اضْطِرَارِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ، إِلَى تَجَاوُزِ الْحُدُودِ فِي أَثْنَاءِ الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (42: 39 - 42) وَقَالَ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْجَرَائِمِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (7: 33) إِلَخْ. (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ حِكَايَةِ الْمَثَلِ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْبُغَاةِ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدُوا، مَبْدُوءًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يَصِيحُ بِهِ الْوَاعِظُ الْمُنْذِرُ بِالْبَعِيدِ فِي مَكَانِهِ، أَوِ الْغَافِلِ الَّذِي يُشْبِهُ الْغَائِبَ فِي حَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يَصِيحُ بِهِ لِيُنَبِّهَهُ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الضَّالُّونَ عَنْ رُشْدِهِمْ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، حَسْبُكُمْ بَغْيًا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْكُمْ، وَغُرُورًا بِكِبْرِيَائِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، إِنَّمَا بَغْيُكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ لِأَنَّ عَاقِبَةَ وَبَالِهِ عَائِدَةٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ تَبْغُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِكُمْ أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ، كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (4: 29) الْمُرَادُ بِهِ: وَلَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: أَيْ حَالَ كَوْنِ بَغْيِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، فَهُوَ يَنْقَضِي وَعَقَابِيلُهُ بَاقِيَةٌ، وَأَقَلُّهَا تَوْبِيخُ الْوِجْدَانِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ((مَتَاعَ)) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ أَيْ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ هَذَا التَّمَتُّعِ الْقَلِيلِ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا وَحْدَنَا فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دَائِمًا مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْبَاطِلِ مُصِرِّينَ فَنُجَازِيكُمْ بِهِ. دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْبَغْيَ يُجَازَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إِنْذَارُ أَهْلِهِ الرُّجُوعَ إِلَى اللهِ، وَإِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ يُعَجِّلُ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ

فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ النَّجَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: ((احْذَرُوا الْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَحْضُرُ مِنْ عُقُوبَةِ الْبَغْيِ)) ! ! وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: ((أَسْرَعُ الْخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: ((لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي)) وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ: ((لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا)) أَخْرَجَهُ ابْنٌ لَالٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا. الْمَكْرُ وَالنَّكْثُ وَالْبَغْيُ)) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (10: 23) ، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (35: 43) ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (48: 10) وَالْمُرَادُ نَكْثُ الْعُهُودِ مَعَ اللهِ أَوْ مَعَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تَبْغِ وَلَا تَكُنْ بَاغِيًا)) فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِثْلَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، إِلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْعُمْرَانِ وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي تُثْبِتُهَا وَقَائِعُ التَّارِيخِ، فَهِي الَّتِي تُفَسِّرُ لَنَا أَنَّ الْبَغْيَ - وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ ضُرُوبِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ - يَرْجِعُ عَلَى فَاعِلِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَإِيقَادِ نِيرَانِ الْفِتَنِ وَالثَّوْرَاتِ فِي الْأَقْوَامِ، فَالْفَرْدُ الَّذِي يَبْغِي عَلَى مِثْلِهِ يَخْلُقُ لَهُ بَغْيُهُ عَدُوًّا أَوْ أَعْدَاءً مِمَّنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ، وَمِمَّنْ يَكْرَهُونَ الْبَغْيَ وَأَهْلَهُ، فَوُجُودُ الْأَعْدَاءِ وَالْمُبْغِضِينَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا إِيذَاءَ الْبَاغِي لِعَجْزِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا قَدَرُوا وَفَعَلُوا وَهُوَ الْغَالِبُ؟ وَأَمَّا بَغْيُ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ عَلَى الْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ فَأَهْوَنُ عَاقِبَتِهِ عَدَاوَتُهُمْ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تُفْضِي إِلَى اغْتِيَالِ أَشْخَاصِهِمْ، أَوْ إِلَى ثَلِّ عُرُوشِهِمْ وَالْقَضَاءِ عَلَى حُكْمِهِمْ، إِمَّا بِثَوْرَةٍ مِنَ الشَّعْبِ تَسْتَبْدِلُ بِهَا عَرْشًا بِعَرْشٍ، أَوْ نَوْعًا مِنَ الْحُكْمِ بِنَوْعٍ آخَرَ، وَإِمَّا بِإِغَارَةِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى الدَّوْلَةِ الَّتِي يُضْعِفُهَا الْبَغْيُ تَسْلُبُهَا اسْتِقْلَالَهَا، وَتَسْتَوْلِي عَلَى بِلَادِهَا، وَلَا تَنْسَ مَا تَكَرَّرَ عَلَيْكَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأَفْرَادِ مِنْ بَغْيٍ وَظُلْمٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَطَّرِدُ الْعِقَابُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ ذُنُوبِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ عِقَابَهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا، وَإِنَّمَا يُوَفَّى كُلُّ أَحَدٍ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ.

(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا تَسْتَغِيثُ رَبَّهَا مِنْ بَغْيِ دُوَلِ أُورُبَّةَ وَظُلْمِهَا، فَمَا لَنَا لَا نَرَى بَغْيَهَا يَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا، وَمَا لَنَا لَا نَرَى وَعِيدَهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ نَازِلًا بِهَا، وَمُدِيلًا لِلشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَظْلُومَةِ مِنْهَا وَمِنْ شُعُوبِهَا الْمُؤَيِّدَةِ لَهَا؟ . (قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْجَهْلِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ، فَإِنَّ فِي بِلَادِ هَذِهِ الدُّوَلِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ وَالْجَوَائِحِ وَالْفَقْرِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ قَتَلَتْ مِنْ رِجَالِهَا فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الْعَامَّةِ، أَضْعَافَ مَنْ قَتَلَتْهُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا مَنْ أَهْلِ الشَّرْقِ مُنْذُ اعْتَدَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَرَّبَتْ مِنْ عُمْرَانِهَا أَكْثَرَ مِمَّا خَرَّبَتْ فِي الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَسِرَتْ مِنْ أَمْوَالِهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ أَضْعَافَ مَا رَبِحَتْ مِنَ الشَّرْقِ فِي مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ شُعُوبِهَا بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ لِلْوَثَبَانِ، وَالْفَتْكِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ، لَأَشَدُّ مِمَّا فِي قُلُوبِ شُعُوبِ الشَّرْقِ لِظَالِمِيهِمْ وَمُسْتَذِلِّيهِمْ مِنْهُمْ - فَهَذَا بَعْضُ انْتِقَامِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَاهَدِ. فَأَمَّا الْجَوَائِحُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَهَا إِلَى أَسْبَابِهَا مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ، فَمَكْرُهُمْ فِي آيَاتِهِ أَشَدُّ مِنْ مَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا الْمَصَائِبُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَوَخَّوْنَ تَخْفِيفَهَا، وَتَلَافِيَ شُرُورِهَا، بِالْمُفَاوَضَاتِ وَالْمُؤْتَمَرَاتِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ. وَأَمَّا مَا نَتَمَنَّاهُ مِنَ الْإِدَالَةِ لِشُعُوبِنَا مِنْهُمْ فَلَا نَزَالُ غَيْرَ أَهْلٍ لَهُ لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْبَابِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَشَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا لِآيَاتِ كِتَابِهِ مِرَارًا، وَمِنَ الْمُكَابَرَةِ لِلْحِسِّ أَنْ نُنْكِرَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي بِلَادِنَا مِنْ عُمْرَانٍ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جُلُّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ مَنْ يُسْتَخْدَمُونَ مِنْ مُلُوكِنَا وَأُمَرَائِنَا وَحُكَّامِنَا هُمْ شَرٌّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، بَلْ لَمْ يَسُودُونَا وَيَغْلِبُونَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِنَا، إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْنَا (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (8: 53) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي ص 32 - 41 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . تَعْلَمْ أَنَّنَا إِذَا غَيَّرْنَا مَا بِأَنْفُسِنَا الْآنَ، بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا مِنْ إِيمَانٍ وَأَخْلَاقٍ تَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سُلِبَ مِنَّا يَرْجِعُ إِلَيْنَا، وَنُزَادُ عَلَيْهِ بِالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِنَا، وَلَوِ اتَّبَعُوا هُمْ كِتَابَنَا كُلَّهُ لَأَصْلَحُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا. ضَرَبَ اللهُ هَذَا الْمَثَلَ هُنَا لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ مِنَ الْبَاغِينَ فِي الْأَرْضِ وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ، فَذَكَرَ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ لَهُ لَئِنْ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا، لَيَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (29: 65)

24

وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ النَّاسِ فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (31: 31 و32) الْخَتَّارُ الْكَفُورُ هُنَا: ضِدٌّ مُقَابِلٌ: لِلصَّبَّارِ الشَّكُورِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَالْخَتْرُ: الْغَدْرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَعَنِ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، وَعَنِ الْخَتَّارِينَ الْفَاقِدِينَ لِفَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يَدْعُونَهُ فِي شِدَّةِ الضِّيقِ وَمُسَاوَرَةِ خَطَرِ الْبَحْرِ لَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْتَرِفُونَ هَذَا الشِّرْكَ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ فِي أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ مُنَغِّصَاتِهَا، وَأَنَّ الَّذِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ، أَيِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ فَلَا تُقَنِّطُهُمُ الشِّدَّةُ، وَلَا تُبَطِّرُهُمُ النِّعْمَةُ. وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا مَنْ هُمْ أَشَدُّ شِرْكًا وَكُفْرًا بِالنِّعَمِ وَالْمُنْعِمِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَدْعُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ فِي أَشَدِّ أَوْقَاتِ الضِّيقِ وَالْخَطَرِ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُوَحِّدُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمَوْرُوثَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) (47: 19) وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .

لَمَّا كَانَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ، هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي حُبِّ التَّمَتُّعِ بِمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ، ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بَلِيغًا يَصْرِفُ الْعَاقِلَ عَنِ الْغُرُورِ بِهَا، وَيَهْدِيهِ إِلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، وَاجْتِنَابِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَشْبِيهِ زِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا فِي افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهِمَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بِحَالِ الْأَرْضِ يَسُوقُ اللهُ إِلَيْهَا الْمَطَرَ فَتُنْبِتُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الَّذِي يَسُرُّ النَّاظِرِينَ بِبَهْجَتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ جَائِحَةٌ تَحُسُّهُ وَتَسْتَأْصِلُهُ قُبَيْلَ بُدُوِ صَلَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ لَا شَبَهَ لَهَا فِي صُورَتِهَا وَمَآلِهَا إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ فِي جُمْلَةِ حَالِهِ الْآتِيَةِ (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أَيْ فَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتِ تَشَابَكَتْ بِسَبَبِهِ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي تَجَاوُرِهَا وَتَقَارُبِهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) بَيَانٌ لِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ وَكَوْنِهَا شَتَّى كَافِيَةً لِلنَّاسِ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَكُلِّ مَرَامِي آمَالِهِمْ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ بِهَا فِي خُضْرَةِ زُرُوعِهَا السُّنْدُسِيَّةِ، وَأَلْوَانِ أَزْهَارِهَا الرَّبِيعِيَّةِ، كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتْ حُلِيَّهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحُلَلَهَا مِنَ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، فَتَحَلَّتْ وَازَّيَّنَتْ بِهَا اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ الزَّوْجِ - وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُسْنِ الِاسْتِعَارَةِ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ زِينَتَهَا، حَتَّى كَانَ اسْتِكْمَالُ جَمَالِهَا، كَأَنَّهُ فِعْلُ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ فِيهَا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (27: 88) وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِثَمَرَاتِهَا، وَادِّخَارِ غَلَّاتِهَا، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَيْ نَزَلَ بِهَا فِي هَذَا الْحَالِ أَمْرُنَا الْمُقَدَّرُ لِإِهْلَاكِهَا؛ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ غَافِلُونَ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أَيْ كَالْأَرْضِ الْمَحْصُودَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَاسْتُؤْصِلَ زَرْعُهَا، فَالْحَصِيدُ يُشَبَّهُ بِهِ الْهَالِكُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْمُهْلَكَةِ: (جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) (21: 15) وَيُشْبِهُ هَذَا الْهَلَاكُ فِي نُزُولِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهِ أَهْلُهُ قَوْلُهُ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضَحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (7: 97 و98) (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أَيْ هَلَكَتْ فَجْأَةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ زُرُوعِهَا شَيْءٌ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ وَلَمْ تَمْكُثْ قَائِمَةً نَضِرَةً بِالْأَمْسِ، يُقَالُ: غَنِيَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ

طَوِيلًا كَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ الْهَالِكِينَ فِي أَرْضِهِمْ: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (7: 92) وَالْأَمْسُ: الْوَقْتُ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَأَمَّا أَمْسُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغُرُورِ النَّاسِ فِيهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا، نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا، وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا وَخُسْرَانَهَا. وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ _ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ وَالْمَآتِمِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ، وَهُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، إِلَّا عُلَمَاءُ السُّوءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ، وَزَعْمُهُمُ الْبَاطِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْبَشَرِ أَحَدٌ أَهْلًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَبِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الِاجْتِهَادَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَصْبَحَ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَهْدِ - وَهِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً شَهْرِيَّةً بَاسِمِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) تُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَطْعَنُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَإِنَّهَا لَدَرْكَةٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَبْلُغُوا قَعْرَهَا إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ.

25

(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . لَمَّا بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَوَصْفِ حَالِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِيهَا فَقَالَ: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَقَرِينَةُ الْمُقَابَلَةِ أَيْ ذَاكَ الْإِيثَارُ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَالْإِسْرَافُ وَالْبَغْيُ فِيهِ، هُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَسُوقُ مُتَّبِعِيهِ إِلَى النَّارِ، دَارِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاللهُ يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَهِي الْجَنَّةُ، وَفِي الْمُرَادِ بِـ ((السَّلَامِ)) الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ ((الدَّارُ)) وُجُوهٌ يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَعَايِبِ، وَالنَّقَائِصِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْخِصَامِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ تَحِيَّةُ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ لِأَهْلِهَا، وَتَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ الدَّالَّةُ عَلَى تَحَابِّهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّ ((السَّلَامَ)) مِنْ أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُضِيفَتْ دَارُ النَّعِيمِ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّنْزِيهِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ إِضَافَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ضَمِيرِ الذَّاتِ (دَارِي) . (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ إِلَى دُخُولِ ((دَارِ السَّلَامِ)) وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيقٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ عَقَائِدُهُ وَفَضَائِلُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْهِدَايَةُ فِي الْأَصْلِ الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، وَتَكُونُ بِالتَّشْرِيعِ وَهُوَ بَيَانُهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ، وَبِالتَّوْفِيقِ لِلسَّيْرِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِقَامَةِ

26

الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِذَلِكَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَهِي الْمُرَادَةُ هُنَا وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) هَذَا بَيَانٌ لِصِفَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، فَوَصَلُوا بِالسَّيْرِ عَلَيْهِ إِلَى غَايَتِهِ وَهِيَ ((دَارُ السَّلَامِ)) أَيْ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَثُوبَةُ ((الْحُسْنَى)) أَيِ الَّتِي تَزِيدُ فِي الْحُسْنِ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَهِيَ مُضَاعَفَتُهَا بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (53: 31) وَلَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحُسْنَى، وَهِيَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ مُضَاعَفَتِهَا الَّتِي هِيَ مِنْ جَزَائِهَا مَهْمَا تَكُنْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (4: 173) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَدِيدَةِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هِي النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ الْعَارِفُونَ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص 112 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ، وَيَدْحَضُ شُبُهَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُنْكِرِينَ لَهُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ مُحَالٌ عَقَلًا، وَمَا هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا نَظَرِيَّاتُ عُقُولِهِمُ الَّتِي تَقِيسُ عَالَمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ عُلُومِ الْمَادَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقْبَلُهُ عَقْلٌ مِنَ الْعُقُولِ الْمُقَيَّدَةِ بِتِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْجَهْمِيِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَالَمُ الْغَيْبِ الْإِلَهِيِّ مُقَيَّدًا بِهَا؟ ! وَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) رَهِقَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ (كَتَعِبَ) أَدْرَكَهُ وَرَهِقَهُ الشَّيْءُ كَالدِّينِ وَالذُّلُّ غَشِيَهُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى غَطَّاهُ وَحَجَبَهُ: (وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) (18: 73) لَا تُكَلِّفْنِي مَا يَعْسُرُ عَلَيَّ، وَالْقَتَرُ: الدُّخَانُ السَّاطِعُ مِنَ الشِّوَاءِ وَالْحَطَبِ وَكُلُّ غَبَرَةٍ فِيهَا سَوَادٌ أَيْ لَا يَغْشَى وُجُوهَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شَيْءٌ مِمَّا يَغْشَى وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ الْكُسُوفِ وَالظُّلْمَةِ وَالذِّلَّةِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ دَارِ السَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ، خَالِدُونَ مُقِيمُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا جَزَاءً وِفَاقًا، لَا يُزَادُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ بِسَيِّئَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ تَغْشَاهُمْ ذِلَّةُ الْفَضِيحَةِ وَكُسُوفُ الْخِزْيِ بِمَا يُظْهِرُهُ حِسَابُهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَزُورٍ وَفُجُورٍ (مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) مَا لَهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يَعْصِمُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَزَعَمُوهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ. وَانْتَحَلُوهُمْ مِنَ الْوَسَائِلِ وَالْوُسَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَأَنَّى تُفِيدُ فِيهِ الْمَزَاعِمُ الشِّرْكِيَّةُ الْوَهْمِيَّةُ: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19)

27

أَوْ مَا لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَنْ فَضْلِهِ مِنْ عَاصِمٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ كَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، كَالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى مِنْ عِبَادِهِ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الْخَاصَّةَ لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُنْتَحِلِي الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِشُفَعَائِهِمْ تَأْثِيرًا فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ، حَتَّى يَحْمِلُوهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَا شَفَاعَتُهُمْ، فَيَجْعَلُونَ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ مَعْلُولَةً تَابِعَةً لِمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا شَفَاعَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحَةُ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (21: 28) (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أَيْ كَأَنَّمَا قُدَّ لِوُجُوهِهِمْ قِطَعٌ مِنْ أَدِيمِ اللَّيْلِ، حَالَةَ كَوْنِهِ حَالِكًا مُظْلِمًا، لَيْسَ فِيهِ بَصِيصٌ مِنْ نُورِ قَمَرٍ طَالِعٍ، وَلَا نَجْمٍ ثَاقِبٍ، فَأُغْشِيَتْهَا قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، فَصَارَتْ ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَإِنَّهُ لَتَشْبِيهٌ عَظِيمٌ فِي بَلَاغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي خِذْلَانِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمُ الَّتِي تَكْسِفُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، خَالِدُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوًى سِوَاهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يَدْخُلُهَا بَعْضُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا. هَذَا الْوَصْفُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ لَهُ نَظِيرٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْمَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (8: 38 - 42) وَفِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (75: 22 - 25) وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ تُرَجِّحُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحُسْنَى فِي آيَةِ يُونُسَ هِيَ مَرْتَبَةُ النَّظَرِ إِلَى الرَّبِّ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا وَأَوْلَادَنَا وَأَهْلَ بَيْتِنَا وَإِخْوَانِنَا الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِهَا. (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .

28

هَذَا لَوْنٌ آخَرُ مِنْ أَلْوَانِ الْبَيَانِ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا التَّكْرَارِ الْمُخْتَلِفِ الْأَسَالِيبِ وَالْأَلْوَانِ وَأَمْثَالِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ. (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِفَرِيقَيِ النَّاسِ الَّذِينَ ضَرَبْنَا لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَبَيَّنَّا مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، أَوِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) (25: 17) (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ) أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ وُقُوفٍ طَوِيلٍ لَا يُخَاطَبُ فِيهِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآيَاتِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوهُ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا يُفْعَلُ بِكُمْ: وَأَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ أَيِ الْزَمُوهُ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؛ لِنَفْصِلَ بَيْنَكُمْ فِيمَا كَانَ مَنْ سَبَبِ عِبَادَتِكُمْ لَهُمْ وَمَا يَقُولُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِيهَا فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَمَنْ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللهِ، وَمَيَّزْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَالتَّزْيِيلُ مِنْ زَالَهُ يَزَالُهُ كَنَالَهُ يَنَالُهُ بِمَعْنَى نَحَّاهُ (وَهُوَ يَأْتِي) وَزَايَلْتُهُ فَارَقْتُهُ وَتَزَيَّلُوا تَمَيَّزُوا بِافْتِرَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَاخْتِلَاطِ مُؤْمِنِيهِمْ بِكُفَّارِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (48: 25) أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّزْيِيلِ وَالتَّفْرِيقِ تَقْطِيعُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الصِّلَاتِ وَمَا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الشُّرَكَاءِ مِنَ الْآمَالِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْعِبَادَةُ الشِّرْكِيَّةُ أَنْوَاعٌ وَالْمَعْبُودَاتُ وَالْمَعْبُودُونَ أَنْوَاعٌ يَصِحُّ فِي بَعْضِهِمْ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ؛ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعْنَى حَشْرِ الْفَرِيقَيْنِ وَحِسَابِهِمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، بَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْجِنِّ، وَبَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْبَشَرِ، وَمَا اتُّخِذَ لَهُمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ، وَمِثْلُهَا الْقُبُورُ الْمُعَظَّمَةُ وَسَنُشِيرُ إِلَى شَوَاهِدِهِ: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) أَيْ مَا كُنْتُمْ تَخُصُّونَنَا بِالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَهْوَاءَكُمْ وَشَهَوَاتِكُمْ وَشَيَاطِينَكُمُ الْمُغْوِيَةَ لَكُمْ، وَتَتَّخِذُونَ أَسْمَاءَنَا وَتَمَاثِيلَنَا هَيَاكِلَ وَمَوَاسِمَ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْعُبُودِيَّةِ الصَّادِقَةِ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ، الَّذِي يُطَاعُ وَيُعْبَدُ لِأَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْخَلْقِ، وَبِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَمَصَادِرُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. (فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أَيْ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا وَحَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِنَا وَحَالِكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ أَيْ إِنَّنَا كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَا نَنْظُرُ إِلَيْهَا وَلَا نُفَكِّرُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِهَا. (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوِ الْيَوْمِ تَخْتَبِرُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ عَابِدَةٍ وَمَعْبُودَةٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَجَاحِدَةٍ وَشَاكِرَةٍ وَكَافِرَةٍ، مَا قَدَّمَتْ فِي حَيَاتِهَا الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا كَانَ لِكَسْبِهَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ أَثَرٍ، مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ

30

بِمَا تَرَى مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِ ثَمَرَةً طَبِيعِيَّةً لَهُ، لَا شَأْنَ فِيهِ لِوَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا مَعْبُودٍ وَلَا شَرِيكٍ. وَهُنَالِكَ مَوَاقِفُ وَأَوْقَاتٌ أُخْرَى لَا سُؤَالَ فِيهَا وَلَا جِدَالَ، تُغْنِي فِيهَا دَلَالَةُ الْحَالِ عَنِ الْمَقَالِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) أَيْ أُرْجِعُوا إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَالْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) (5: 48 و105، 11: 4) ، (إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) (6: 164، 39: 7) ، (إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) (6: 108) (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (24: 42، 35: 18) (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (5: 18، 42: 15، 64: 3) (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَضَاعَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُنْقِذُهُمْ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) . هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الشُّرَكَاءِ، وَالْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَعَ الضُّعَفَاءِ وَالْمُضِلِّينَ مَعَ الضَّالِّينَ، وَالْغَاوِينَ مَعَ الْمُغْوِينَ، قَدْ تَكَرَّرَ بَيَانُهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَفِي بَعْضِهَا مُفَصَّلًا وَمُبَيَّنًا فَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الْعَابِدِينَ، وَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ فِيهِ الْمَعْبُودِينَ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمِنْهَا مَا عَيَّنَ فِيهِ اسْمَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَبَرَّأُ الْمُضِلُّونَ مِنَ الضَّالِّينَ، فَتُرَاجَعُ فِيهَا سُورَةُ الْفُرْقَانِ 25: 17 - 19 وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ 6: 22 - 24 وَسُورَةُ سَبَأٍ 34: 40 - 42 وَسُورَةُ الْقَصَصِ 28:62 - 64 وَمِنْهَا مَا يَتَنَاقَشُ فِيهَا الْفَرِيقَانِ فَرَاجِعْ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ 14: 21 و22 وَسُورَةَ الصَّافَّاتِ 37: 22 و23 فَبِمُرَاجَعَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَآيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ 2: 166، 167 وَمَعَ تَفْسِيرِنَا لِهَاتَيْنِ (ج2) يَتَبَيَّنُ لَكَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا التَّكْرَارِ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَيْهِ آنِفًا. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .

31

هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَيَلِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِمَا يُنْبِتُهُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ أَنْعَامُكُمْ؟ (وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) بَلْ قُلْ لَهُمْ أَيْضًا: مَنْ يَمْلِكُ مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ مِنْ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، الَّتِي لَوْلَاهَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ شَيْئًا، بَلْ تَكُونُ الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ وَكَذَا الشَّجَرُ خَيْرًا مِنْكُمْ بِاسْتِغْنَائِهَا عَمَّنْ يَقُومُ بِضَرُورَاتِ مَعَاشِهَا، مَنْ يَمْلِكُ خَلْقَ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَهِبَتِهَا لِلنَّاسِ، وَحِفْظِهَا مِنَ الْآفَاتِ وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا مَدَارَ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَكَمَالَ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَحْصِيلَ الْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ، يَشْعُرُ بِذَلِكَ الْمَسْئُولُونَ بِمُجَرَّدِ إِلْقَاءِ السُّؤَالِ، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا فِيهِ تَفَكُّرًا ازْدَادُوا عِلْمًا وَإِعْجَابًا وَإِكْبَارًا لِإِنْعَامِ اللهِ تَعَالَى بِهِمَا وَإِيمَانًا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِدْرَاكَ الْكَلَامِ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَمَا يَرْسُمُهُ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْهَوَاءِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ الَّتِي يُدْلِي بِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَتَتَكَيَّفُ بِهَا كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ (أَيِ الْهَوَاءُ) فَتُقْرَعُ بِهِ طَبْلَةُ كُلِّ أُذُنٍ مِنْ آذَانِ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا، فَيَنْقُلُهَا الْعَصَبُ الْمُتَّصِلُ بِهَا إِلَى مَرْكَزِ إِدْرَاكِ الْكَلَامِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَيُدْرِكُ مَعْنَاهَا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَا بِأَقْوَى مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ قَرَأَهَا مَخْطُوطَةً فِي كِتَابٍ، لِمَا لِجَرْسِ الصَّوْتِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ، فَمَنْ ذَا الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَلْهَمَهَا إِيدَاعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْوَاتِ وَمَنْ ذَا الَّذِي وَضَعَ هَذَا النِّظَامَ فِي الْهَوَاءِ؟ . ثُمَّ إِذَا ازْدَادَ عِلْمًا بِإِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلْمُبْصِرَاتِ، وَمَا لَهَا مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَمَا لِلْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ مِنَ الشَّكْلِ الْمُحَدَّبِ، وَمَا لَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ، الْمُوَافِقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي النُّورِ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ، مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْأَسْفَارِ وَمُوجَزٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ، ازْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا الْمَشْغُولُونَ عَنْ عَظَمَةِ الصَّانِعِ بِعَظَمَةِ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَدْ وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّ إِدْرَاكَهُ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَجَمَعَ الْبَصَرَ لِتَعَدُّدِ أَجْنَاسِ الْمُبْصَرَاتِ. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أَيْ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَمْلِكُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَيُخْرِجُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِيمَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَجَدَّدُ، وَفِيمَا لَا تَعْرِفُونَ؟ فَمِمَّا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبَاتَ يُخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ

بَعْدَ إِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوِ النَّابِعِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ سَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا قَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (39: 21) الْآيَةَ بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ قِسْمَيْنِ: حَيَاةُ النَّبَاتِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ، وَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ وَالْإِحْسَاسُ وَالْحَرَكَةُ بِالْإِرَادَةِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ وَصْفَ الْأَرْضِ بِالْحَيَاةِ مَجَازًا وَلَمْ يَكُونُوا يَصِفُونَ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ بِالْحَيَاةِ كَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَبَيْضِ الْحَيَوَانِ وَمَنِيِّهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالطَّائِرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَعَكْسِهِمَا وَمَا يُشَابِهُهُمَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَرَحْمَتِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ وَضْعَ قَوَاعِدَ فَنِّيَّةٍ لِلْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَحْدِيدَ وَظَائِفِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَّفِقُ وَقَوَاعِدَ الْفُنُونِ وَتَجَارِبَ الْعُلُومِ الَّتِي تَزْدَادُ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا يُثْبِتُونَ أَنَّ فِي أُصُولِ النَّبَاتِ مِنْ بَذْرٍ وَنَوَى وَبَيْضٍ وَمَنِيٍّ حَيَاةً، فَهُمْ يُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَادَّةٍ مَيِّتَةٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ كُتْلَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً انْفَصَلَتْ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَارَتْ مَاءً، ثُمَّ نَبَتَتِ الْيَابِسَةُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ تَكَوَّنَ مِنَ الْمَاءِ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فِي أَطْوَارٍ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ الْغِذَاءَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ دَمٌ، وَمِنْ هَذَا الدَّمِ يَكُونُ الْبَيْضُ وَالْمَنِيُّ الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى مَادَّةِ الْحَيَاةِ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ مَوَادِّ الْبَدَنِ الْحَيَّةِ تَمُوتُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الْبُخَارِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْبَدَنُ وَيَلْفِظُهُ، وَيَتَجَدَّدُ فِيهِ مَوَادٌّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ تَحُلُّ مَحَلَّ مَا انْدَثَرَ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: إِثْبَاتُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَتَدْبِيرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَنِّ وَمُحْدَثَاتِ الْعِلْمِ، بَلْ تَزِيدُهُ كَمَالًا لِلْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ، وَقَدْ تَكُونُ حِجَابًا لِغَيْرِهِ تَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ، فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى مِنْ خَلْقِ اللهِ الْحَيِّ لِذَاتِهِ الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ. وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَوِيَّيْنِ مِنْهُمَا، كَخُرُوجِ الْمُؤْمِنِ مِنْ سُلَالَةِ الْكَافِرِ، وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالْبَرِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَعَكْسِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 27) الْوَارِدِ فِيهَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِهَا. وَهُنَاكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَذَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَرَاجِعْهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ وَقَدَّرَهُ مِنَ النِّظَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّدْبِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أَيْ فَسَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الْخَمْسِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُهُ وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِحَمْلِهِمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ فَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَتَعْلَمُونَ هَذَا وَتُقِرُّونَ بِهِ، فَلَا تَتَّقُونَ سُخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِهِ، وَعِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا كُلِّهَا؟ ! . (فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ اللهُ رَبُّكُمْ، أَيِ الْمُرَبِّي لَكُمْ بِنِعَمِهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِكُمْ، الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِذَاتِهِ، الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِدْمَاجٌ بِمَا يُسَمُّونَهُ الِاحْتِبَاكَ، أَيْ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ؟ وَمَاذَا بَعْدَ الْهُدَى إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَالْعَقَائِدِ، فَالَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْأُمُورَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَالْقَوْلُ بِرُبُوبِيَّةِ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يُعْبَدُ بِحَقٍّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ هِي الْهُدَى، فَمَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُسَطَاءِ ضَلَالٌ، فَكُلُّ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ مُبْطِلٌ ضَالٌّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ وَتَتَحَوَّلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا كَانَ بِهِ اللهُ هُوَ الرَّبَّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْحَقُّ، الَّذِي يُعْبَدُ بِالْحَقِّ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَمَا بَالُكُمْ تُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؟ فَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى وَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ . فَالْآيَةُ تُقَرِّرُ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِينَ أَخَذُوا عَقِيدَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَجَهِلُوا عَقَائِدَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْهُومَيِ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا وَحَّدَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ الشَّرْعِيِّ، لَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ وَالْعِلْمِ، أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فِيهِمَا

33

ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ. وَفِيهَا مِنْ حَسَنَاتِ الْإِيجَازِ فِي التَّعْبِيرِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ. (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي حَقَّتْ بِهِ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي وَحْدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ لَيْسَ بَعْدَهُ لِتَارِكِهِ إِلَّا الْبَاطِلُ، وَالْهُدَى لَيْسَ وَرَاءَهُ لِلنَّاكِبِ عَنْهُ إِلَّا الضَّلَالُ ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) : أَيْ سُنَّتُهُ أَوْ وَعِيدُهُ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، أَيْ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ الْحَقِّ. فَفِي كَلِمَةِ الرَّبِّ وَجْهَانِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَهِيَ سُنَّتُهُ فِي الْفَاسِقِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ، الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ؛ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَمَلِ فَقَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا بَيَانٌ لِلْكَلِمَةِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيِ اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُنَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى مَهْمَا تَكُنْ آيَاتُهُمْ بَيِّنَةً، وَحُجَجُهُمْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا قَهْرِيًّا مُسْتَأْنَفًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ تَرْجِيحًا لِلْكُفْرِ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (10: 96 و97) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَلِمَةُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِوَعِيدِ الْفَاسِقِينَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) (32: 20) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (40: 6) وَيَكُونُ قَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ ظَاهِرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ هُنَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (كَلِمَةُ) فِي آيَتَيْ يُونُسَ وَآيَةِ غَافِرٍ بِالْجَمْعِ (كَلِمَاتُ) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِالتَّاءِ الْمَبْسُوطَةِ (كَلِمَتُ) وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمْعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهَيْهِ قَدْ تَعَدَّدَ وَتَكَرَّرَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ.

34

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) . (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لَمْ يَعْطِفْ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ تَلْقِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَلَاغَةِ فِيهِ الْفَصْلُ كَأَمْثَالِهِ مِمَّا يُسْرَدُ سَرْدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ. أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَهُ هَذَا الشَّأْنُ فِي الْكَوْنِ، وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ فِي طَوْرٍ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي طَوْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَنْصُوبَةِ، أَوْ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهَا، أَوْ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِمَّا لَا يُجِيبُونَ عَنْهُ كَمَا أَجَابُوا عَنْ أَسْئِلَةِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ - لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ (قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فَأَدْمَجَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ الْقَادِرَ عَلَى بَدْءِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ هُوَ إِعَادَتُهُ تَعَالَى لِلْأَحْيَاءِ الْحَيَوَانِيَّةِ دُونَ مَا دُونَهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ، فَهُمْ يُشَاهِدُونَ بَدْءَ خَلْقِ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَمَا يُصِيبُهَا مَاءُ الْمَطَرِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، وَمَوْتَهُ بِجَفَافِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ ثُمَّ إِعَادَتَهُ بِمِثْلِ مَا بَدَأَهُ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْبَدْءَ وَالْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ كُلًّا مِنْهُمَا، فَهُمْ أَسْرَى الْحِسِّ وَالْعِيَانِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ فَقَدُوا الْعِلْمَ بِبُرْهَانِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّنَا لَا نَزَالُ نَرَى أَمْثَالًا لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّمُوا الْمَنْطِقَ وَطُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ

مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى جَهْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيُنَبِّهَهُمْ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي الْفِطْرَةِ وَخَاصَّةِ الْعَقْلِ فِي التَّفْكِيرِ، لِلْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصِيرِ؟ . (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ؟ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا حِكْمَةُ الْخَلْقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا عَقِبَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (26: 78) (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) ، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (87: 2، 3) وَهِيَ أَنْوَاعُ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِدَايَةِ الْحَوَّاسِ، وَهِدَايَةِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ فِي جُمْلَتِهِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ الْمُوصِّلِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْغَايَةِ بِتَوْجِيهِ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَتَسْهِيلِ سَبِيلِهِ وَمَنْعِ الصَّوَارِفِ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، بِادِّعَاءِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ التَّشْرِيعِ، لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) فِعْلُ الْهُدَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (1: 6) ، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (48: 2) (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (29: 69) وَيَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (6: 87) ، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (5: 16) (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) (72: 2) ، (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) (38: 22) وَبِاللَّامِ كَقَوْلِهِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) (7: 43) (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (17: 9) ، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) (49: 17) فَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ تُفِيدُ اتِّصَالَ الْهِدَايَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مُبَاشَرَةً، وَتَعْدِيَتُهُ بِـ ((اللَّامِ)) تُفِيدُ التَّقْوِيَةَ أَوِ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَبِـ ((إِلَى)) لِلْغَايَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْهِدَايَةُ، فَهِيَ تَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً إِلَى الْمُنْتَهَى الْمَقْصُودِ لِلْهَادِي السَّائِقِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ مَجْهُولًا لِمُطِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (22: 4) وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الدَّقِيقَةِ الْعَالِيَةِ. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفَيْنِ، وَبَيْنَ تَرْكِ التَّعْدِيَةِ وَهُوَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكُلٌّ مِنْهَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فَهَاكَهُ فَلَمْ نَرَ أَحَدًا بَيَّنَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ عَدَّاهُ بِإِلَى فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَّخَذِينَ بِالْبَاطِلِ يَدُلُّ النَّاسَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَنْتَهِي سَالِكُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، فَهُوَ يَنْفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَنَتَائِجَهَا، وَالْأَسْبَابَ وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَلَوْ عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ لَمَا أَفَادَ

35

إِلَّا إِنْكَارَ هِدَايَةِ الْإِيصَالِ إِلَى الْحَقِّ بِالْفِعْلِ، دُونَ هِدَايَةِ التَّشْرِيعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَدَّاهُ بِاللَّامِ لَكَانَ بِمَعْنَى تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ أَوْ لِإِنْكَارِ هِدَايَةٍ يُقْصَدُ بِهَا الْحَقُّ إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى مَذْهَبِنَا الَّذِي اتَّبَعْنَا فِيهِ الْإِمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ، يَكُونُ مَعْنَاهُ: قُلِ اللهُ يَهْدِي لِمَا هُوَ الْحَقُّ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: أَيْ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) قَرَأَ (يَهِدِّي) يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ لُغَةِ الْكَلِمَةِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ كَيَرْمِي، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا نَصًّا وَاقْتِضَاءً: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِي لَهُ وَيَهْدِيهِ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيمَا يُشَرِّعُهُ، أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ وَلَا هُوَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ، أَيِ اللهُ تَعَالَى إِذْ لَا هَادِيَ غَيْرُهُ؟ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مَنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِهِدَايَةِ اللهِ وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ سُورَتِهِمْ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (21: 73) وَقَالَ النَّحَّاسُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْمَعَ، فَمَعْنَى (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُهْدَى انْتَهَى. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الَّتِي يَظْهَرُ لِلْمُدَقِّقِينَ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَدَائِعِهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا فَاتَ أَسَاطِينَ بُلَغَاءِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا قَبْلَهُ. (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ مِنَ الْعَجْزِ الْمُطْلَقِ شُرَكَاءَ مَعَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْرَدَهُ بِاسْتِفْهَامَيْنِ تَقْرِيعِيَّيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ، وَمَاذَا حَلَّ بِكُمْ حَتَّى اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ هَذِهِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُدَبِّرَ وَلَا هَادِيَ لَكُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سِوَاهُ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهِمْ، وَبِمَا زَعَمْتُمْ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ . وَمِنَ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَعْنَى، قِرَاءَةُ ((يَهِدِّي)) الْمُشَدَّدَةِ الدَّالِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ التَّاءِ فِي أَصْلِهَا (يَهْتَدِي) إِلَى الْهَاءِ وَإِدْغَامِهَا فِيهَا، وَقِرَاءَتِهَا بِكَسْرِهِمَا مَعًا فَالْهَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْيَاءُ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهَا، وَقِرَاءَتُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ لِمُنَاسَبَةِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ بِلَادِنَا. (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الِاعْتِقَادِيَّةِ، فِي إِثْرِ إِقَامَةِ أَنْوَاعِ

36

الْحُجَجِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، بِأُسْلُوبِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ، وَالْهَادِيَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرَكَائِهِمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَقَائِدِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ وَعُلُوِّ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ رَبِّهِمْ، وَلَا فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الظَّنِّ، قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ تَنْكِيرُهُ، وَذَلِكَ كَاسْتِبْعَادِ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ، وَقِيَاسِ الْغَائِبِ وَالْمَجْهُولِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ ثِقَةً بِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى بَاطِلٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَضَلَالٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَكْثَرِ فَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَالْهُدَى، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا عَبَدُوا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ، وَضَنًّا بِرِيَاسَتِهِمْ وَزَعَامَتِهِمْ أَنْ يَهْبِطُوا مِنْهَا إِلَى اتِّبَاعِ مَنْ دُونَهُمْ ثَرْوَةً وَقُوَّةً وَمَكَانَةً فِي قَوْمِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ بِالْأَكْثَرِ جَاءَ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَتَارَةً يَسْتَثْنِي مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْإِطْلَاقِ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ مِنْ قَبْلُ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْأَكْثَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ يَقِلُّ فِيهِمْ ذُو الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حُكْمُ اللهِ فِي الظَّنِّ؟ فَالْجَوَابُ: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) مِنَ الْإِغْنَاءِ وَلَوْ قَلِيلًا، أَيْ لَا يَجْعَلُ صَاحِبَهُ غَنِيًّا بِعِلْمِ الْيَقِينِ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ أَيِ الظَّنُّ بَدَلًا مِنَ الْيَقِينِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالدِّينِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَالْمَظْنُونُ وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا عِنْدَ صَاحِبِهِ عُرْضَةٌ لِلشَّكِّ، يَتَزَلْزَلُ وَيَزُولُ إِذَا عَصَفَتْ بِهِ أَيُّ عَاصِفَةٍ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَالْإِغْنَاءُ يَتَعَدَّى بِـ ((عَنْ)) كَقَوْلِهِ: (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) (7: 48) (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (69: 28) (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) (11: 101) وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِـ ((مِنْ)) وَفِي مِثْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي ظِلِّ دُخَانِ النَّارِ (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (77: 31) وَقَوْلِهِ فِي الضَّرِيعِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِهَا: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (88: 7) فَعُدِّيَ بِـ ((مِنْ)) لِإِفَادَةِ الْقِلَّةِ أَوْ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْبَدَلِ أَيْ إِنَّ ظِلَّ دُخَانِ النَّارِ لَا وَارِفَ يَمْنَعُ الْحَرَّ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ بِأَنْ يُقَلِّلَهُ أَوْ يُزِيلَهُ وَيَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّ الضَّرِيعَ الَّذِي هُوَ طَعَامُ أَهْلِ النَّارِ لَا يُسْمِنُ الْبَدَنَ بِالتَّغْذِيَةِ الْكَافِيَةِ، وَلَا يُقَلِّلُ الْجُوعَ أَوْ يُزِيلُهُ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ التَّغْذِيَةِ. وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَاجِبٌ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُقَلِّدَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَدْخُلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْإِيمَانُ بِوُجُوبِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِيمَانُ بِتَحْرِيمِ الْمَحْظُورَاتِ الْقَطْعِيَّةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْيَقِينَ الْمَشْرُوطَ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ شَرْعًا هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ

الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ مَعَهُ - لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُظَّارِ الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤَلَّفُ مِنْ عِلْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ يَكْفِي فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ، فَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْمَظْنُونِ، بَلِ التَّصْدِيقُ بِالْمَظْنُونِ لَا يُسَمَّى إِيمَانًا. وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ خُرُوجًا مِنَ الْحَيْرَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِهَوَى النَّفْسِ. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) هَذِهِ قَضِيَّةٌ ثَانِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ خَاصَّةٌ بِالْعَمَلِ، شَأْنُهَا أَنْ يُسْأَلَ عَنْهَا بَعْدَ الْقَضِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِمُقْتَضَى اعْتِقَادَاتِهِمُ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْهَا بِحَسَبِهِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ الْقَطْعِيِّ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَجُحُودٍ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ. وَيَلِيهِ التَّكْذِيبُ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ كَالتَّقْلِيدِ. وَمِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِهِ، وَمِنْهَا سَائِرُ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْقَتْلِ وَالْفَاحِشَةِ وَالسُّكْرِ وَالرِّبَا إِلَخْ. وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَهُمَا مِنْ آيَاتِهِ الْمُحْكَمَاتِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ مِنْ حَيَاتِهِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي كُلِّ اعْتِقَادٍ، وَالْهُدَى وَهُوَ الصَّلَاحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْخَرْصِ وَالْوَهْمِ، فَالْعِلْمُ الْمُفِيدُ لِلْحَقِّ وَالْمُبَيِّنُ لِلْهُدَى فِي الدِّينِ هُوَ مَا كَانَ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى، وَهُوَ الشَّرْعُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَهُوَ مَنَاطُ وَحْدَتِهِمْ، وَرَابِطَةُ جَامِعَتِهِمْ، وَمَا دُونَهُ مِمَّا لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ، اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي الْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَاجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، مَعَ تَقْيِيدِهِمْ فِيهِ بِالشُّورَى فِي اسْتِبَانَةِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ، فَحَكَمَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْعَادَاتِ الْمُبَاحَةِ فِي الْأَصْلِ كَلِعْبِ الشَّطْرَنْجِ، وَكَذَا الْمُسْتَحَبَّةِ كَمُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجِهِ، وَسَمَاعِ الْغَنَاءِ، بِشُبْهَةِ أَنَّهَا مِنَ الْبَاطِلِ أَوْ مِنَ الضَّلَالِ، وَلَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَضْلًا عَنْ قَطْعِيٍّ وِفَاقًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ الْمُخَالِفِ فِيهِ لِلرِّوَايَةِ عَنْ إِمَامِهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي الْفِقْهِ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَقَدْ حَرَّمُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَا يُحْصَى بِالرَّأْيِ وَالْأَقْيِسَةِ الْوَهْمِيَّةِ، الَّتِي هِيَ دُونَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَهَدْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشُّبَهَاتِ الِاحْتِيَاطُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيَّنٌ)) الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَاسْتِفْتَاءُ (الْوِجْدَانِ) لِحَدِيثِ: ((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ.

وَإِنَّمَا الْبَاطِلُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا ثَبَتَ بُطْلَانُهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ قَطْعِيٍّ، كَمَا أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مَا ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَبَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ هِيَ مَا لَا دَلِيلَ فِيهِ بِخِلَافِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْعَمَلِيَّةِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَمِنْهُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فَرْضِهِ وَعَنْ تَحْرِيمِهِ وَعَنْ قَوَاعِدِ حُدُودِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّادِسِ. وَالَّذِي أُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَ بِهِ كُلَّ مُسْلِمٍ هُنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْآنَ فِي الْأَرْضِ دِينٌ مُتَّبَعٌ. وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ مُنَفَّذٌ، وَلَا نِظَامٌ حِزْبِيٌّ وَلَا جَمَاعِيٌّ مُلْتَزَمٌ يَفْرِضُ عَلَى النَّاسِ الْحَقَّ وَالْهُدَى فَرْضًا دِينِيًّا، وَالِاعْتِمَادُ فِي اسْتِبَانَتِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَحَصْرِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّرْجِيحِ فِيمَا سِوَاهُمَا. وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْوِجْدَانِ فِي الشَّخْصِيَّاتِ، وَالشُّورَى فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَلَنْ يَصْلُحَ حَالُ الْبَشَرِ الْفَرْدِيُّ وَلَا الِاجْتِمَاعِيُّ وَالدَّوْلِيُّ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي فَرَضَهَا الْإِسْلَامُ، وَجَعَلَهَا دِينًا يُدَانُ اللهُ بِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَجَاوُزُهُ، وَقَدْ عَجَزَتْ عُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَعُقُولُهُمْ عَلَى ارْتِقَائِهَا عَنِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُمْ كُلَّمَا ازْدَادُوا عِلْمًا يَزْدَادُونَ بَاطِلًا وَضَلَالًا وَبَغْيًا، خِلَافًا لِدُعَاةِ حَضَارَتِهِمُ الْكَاذِبِينَ. قَالَ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْقَرْنِ (وَهُوَ هِرْبِرْت سِبِنْسَر الْإِنْكِلِيزِيُّ) لِحَكِيمِ الْإِسْلَامِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ؟ إِنَّ فَكْرَةَ الْحَقِّ قَدْ زَالَتْ مِنْ عُقُولِ أُمَمِ أُورُبَّةَ أَلْبَتَّةَ، فَلَا يَعْرِفُونَ حَقًّا إِلَّا لِلْقُوَّةِ، وَإِنَّ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ قَدْ أَفْسَدَتْ أَخْلَاقَهُمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ سَبِيلٍ إِلَى عِلَاجِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَخْتَبِطُ بِبَعْضٍ - وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْحَرْبَ - لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمُ الْأَقْوَى لِيَسُودَ الْعَالَمَ. وَقَدْ وَقَعَ مَا تَوَقَّعَهُ هَذَا الْحَكِيمُ فِي سَنَةِ 1903 بِالْحَرْبِ الْكُبْرَى مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ (مِنْ 1914 - 1918) فَازْدَادَتِ الْأُمَمُ وَالدُّوَلُ شَقَاءً وَفَسَادًا وَطُغْيَانًا وَإِبَاحَةً، حَتَّى جَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ بِأَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِهَذَا الْفَسَادِ فِي الْبَشَرِ إِلَّا الْهِدَايَةُ الرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، وَسَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ مُؤْتَمَرًا عَامًّا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِكَانِيَّةِ، وَلَنْ يَجِدُوا الْعِلَاجَ الْمَطْلُوبَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا فَصَّلْنَاهَا بِهِ فِي مَبَاحِثِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ جَمَعْنَاهُ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَفْصِيلِهِ، فَعَسَى أَنْ يَسْبِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَنَشْرِهِ.

37

(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) . بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَاجِزًا كَغَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهِ، وَفِي عِلْمِهِ وَلُغَتِهِ - وَمَا تَلَاهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِ أَكْثَرِهِمْ لِأَدْنَى الظَّنِّ وَأَضْعَفِهِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ - عَادَ إِلَى تَفْنِيدِ رَأْيِهِمُ الْأَفِينِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ مِنَ الْأَكْثَرِينَ، وَالْجَحُودِ الْعِنَادِيِّ مِنَ الْأَقَلِّينَ، كَالزُّعَمَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ) النَّفْيُ هُنَا لِلشَّأْنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ نَفْيِ الشَّيْءِ مُبَاشَرَةً كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ أَعْرَبَهُ إِعْرَابًا آخَرَ لِقِصَرِ نَظَرِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّدِّ، أَيْ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي عُلُوِّ شَأْنِهِ، الْمُحَلَّى لَهُ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ، وَعُلُومِهِ الْعَالِيَةِ، وَحِكْمَتِهِ السَّامِيَةِ، وَتَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ، وَآدَابِهِ الْمُثْلَى، وَتَمْحِيصِهِ لِلْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِنْبَائِهِ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَجَعْلِ الْمَقْصِدِ مِنْ إِصْلَاحِهِ مَا بَيَّنَهُ آنِفًا مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَاجْتِنَابِ الضَّلَالِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالِاعْتِمَادِ فِيهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ - مَا كَانَ وَمَا صَحَّ وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَهُ أَحَدٌ عَلَى اللهِ مِنْ دُونِهِ وَيُسْنِدَهُ إِلَيْهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَشَرًا يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، فَلَنْ يَكُونَ إِلَّا بَشَرًا أَرْقَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحُكَمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا الْمَلَائِكَةِ وَمِثْلُهُ لَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ، بَلْ قَالَ أَشَدُّ الْكُفَّارِ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ ! .

(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ لِرُسُلِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَالِ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَّى الله عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ إِلَى أُصُولِ دِينِ اللهِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي دَعَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ نَسِيَ بَعْضُ ذَلِكَ بَقَايَا أَتْبَاعِهِمْ وَضَلُّوا عَنْ بَعْضٍ، وَشَوَّهُوهُ بِالتَّقَالِيدِ الْمُبْتَدَعَةِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ تَصْدِيقَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ جَاءَ وَفَاقًا لِمَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ حَرَمِ اللهِ، وَلِمَا بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (7: 157) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ التَّاسِعِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) الْإِلَهِيِّ أَيْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَا شَرَّعَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَكْتُبَ وَيَهْتَدِيَ بِهِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَثَارٌ لِلشَّكِّ وَلَا مَوْضِعٌ لِلرَّيْبِ ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالْهُدَى مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَحْيِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) . (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ أَجَلَّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُفْتَرَى لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، إِلَى حِكَايَةِ زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْمُعَانِدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَاهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَوِ التَّمْهِيدِ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِتَحَدِّي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعِلْمِهِ، مُفْتَرَاةٍ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا تَلْتَزِمُونَ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي أَخْبَارِهَا، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وَاطْلُبُوا لِلْمُظَاهَرَةِ لَكُمْ وَالْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (17: 88) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ يُونُسَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي افْتَرَيْتُهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سُورَةٍ هُنَا يَصْدُقُ بِالْقَصِيرَةِ كَالطَّوِيلَةِ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ السُّورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُ وَعِيدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ تَتَعَلَّقُ تُهْمَتُهُ بِالْإِخْبَارِ لَا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا (يُونُسَ) فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْكِتَابِ أَوْ كِتَابٍ أَحْيَانًا وَيُرَادُ بِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ

(المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) (7: 1 و2) أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ كِتَابٌ إِلَخْ وَمِنْ تَنْكِيرِ لَفْظِ ((سُورَةٍ)) الْمُرَادِ بِهَا النَّوْعُ دُونَ الْوَحْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) (47: 20) أَيْ يُفْرَضُ فِيهَا الْقِتَالُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) (47: 20) الْآيَةَ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ لِعَاقِلٍ مِثْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ هَذَا التَّحَدِّيَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مُوقِنًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مِنْهُمْ وَلَا جَمَاعَاتُهُمْ وَلَا جُمْلَتُهُمْ، إِنْ فُرِضَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَمُظَاهَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُ وَأَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ بِرَأْيِهِ - كَمَا ارْتَأَى بَعْضُ الْمُعْجَبِينَ بِعَقْلِهِ وَذَكَائِهِ وَعُلُوِّ أَفْكَارِهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ - لَكَانَ عَقْلُهُ وَذَكَاؤُهُ وَعُلُوُّ فِكْرِهِ مَانِعَاتٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْجَزْمِ بِعَجْزِ عُقَلَاءِ الْخَلْقِ مِنَ الْعَوَالِمِ الظَّاهِرَةِ ((الْإِنْسِ)) وَالْخَفِيَّةِ ((الْجِنِّ)) عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ مَا أَتَى هُوَ بِهِ ; فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُتَوَسِّطِ الذَّكَاءِ وَالْفِكْرِ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْأَمْرِ فَهُوَ يُمْكِنُ غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ كَغَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَهِيَ إِحْدَى حُجَجِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ نَفْسِهِ، مُعْتَقِدًا، أَنَّهُ مِنْ رَبِّهِ. (قُلْنَا أَوَّلًا) إِنَّ دَعْوَى الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ بَاطِلَةٌ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَثَانِيًا) إِنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانُوا أَفْصَحَ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، يَعْتَمِدُونَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحَدِّيهِ لِلْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِجْمَالًا، أَوْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَبِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ فَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فِي أُمِّيَّتِهِ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لَفَعَلُوا ; لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى تَكْذِيبِ دَعَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِفْحَالِ قُوَّتِهِ، وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي مُكَافَحَتِهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ تَحَدِّيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ، وَتَحِدِّي بَعْضِ الدَّجَّالِينَ الْمَغْرُورِينَ بِبَعْضِ مَا هَذَوَا بِهِ مِنْ نَثْرٍ وَنَظْمٍ وَسَمَّوْهُ وَحْيًا، كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادَيَانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ سُخْرِيَةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَقَدْ أَخْفَى الْبَهَائِيُّونَ كِتَابَهُ (الْأَقْدَسَ) عَنِ النَّاسِ.

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ تَحَدِّيَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَقَدْ صَنَّفُوا فِي بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِهَا كُتُبًا مُسْتَقِلَّةً، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ مِنْ نَاحِيَتِهَا وَلَا سِيَّمَا نَظْمِهِ الْعَجِيبِ بَلَهَ النَّوَاحِي الْمَعْنَوِيَّةِ. (وَقَالُوا) إِنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، هُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَهُ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِّي)) وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ وَضْعِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي إِعْجَازِهِ بِالْبَلَاغَةِ قَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، حَتَّى الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِهِ وَامْتِيَازِهِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا. قَالَ الْفَرِيقَانِ: إِنَّ لِكُلِّ بَلِيغٍ مِنْ فُصَحَاءِ كُلَّ أُمَّةٍ أُسْلُوبًا يَمْتَازُ بِهِ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَمْتَازَ فِيهِمْ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا امْتَازَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ وَكَمَا امْتَازَ شَكْسِبِيرُ فِي شُعَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَفِيكْتُورْ هُيُغُو فِي الشُّعَرَاءِ الْفَرَنْسِيسِ، فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي بَلَاغَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (وَنَقُولُ) إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ يَذُوبُ فَيَزُولُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْأَشِعَّةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْ ضِيَاءِ شَمْسِ الْقُرْآنِ، فِي إِعْجَازَيْهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (15، 16) مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي إِحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ: إِنَّ مُحَمِّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَأَبْلَغَهَمْ فِي لُغَتِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ يُذْكَرُ فِي فُحُولِ فُصَحَائِهِمْ وَلَا فِي وَسَطِهِمْ بَلْ لَمْ يَكُنْ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَ كَلَامُهُ مُمْتَازًا بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَادَ مَنْ دُونَهُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ ظَلَّ كَكَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مُشَابَهَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَتَأْثِيرِهِ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْ رَوْعَةِ الْبَلَاغَةِ وَبَرَاعَةِ النَّظْمِ لَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ. (قُلْنَا) لَكِنَّ النَّاسَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورِ الْقِصَارِ كَغَيْرِهَا، وَلِخَفَاءِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّ عَجْزَهُمْ كَانَ بِصَرْفِ اللهِ تَعَالَى لِقُدَرِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا كَانَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنِ الرَّازِيِّ وَوَجَّهْنَاهُ بِأَظْهَرِ مِمَّا وَجَّهَهُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ مِنْ تُهْمَةِ افْتِرَائِهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ خَاصًّا بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ وَطَهَ

39

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالطَّوَاسِينِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ السُّوَرَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى نُذُرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِدَعْوَتِهِمْ لَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بَعْضُ سُورِ الْمُفَصَّلِ أَيْضًا كَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الطُّورِ مَبْنِيٌّ عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ فِي آيَةِ: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (39) الَّتِي تَلِي هَذَا. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْمُفَصَّلِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعِبَارَاتِ الْعَدِيدَةِ مَعَ تَعَدُّدِ أَسَالِيبِهَا، وَاخْتِلَافِ نَظْمِهَا، وَأَنْوَاعِ فَوَاصِلِهَا، وَأَلْوَانِ بَيَانِهَا، وَقَوَارِعِ نُذُرِهَا، وَصَوَادِعِ وَعِيدِهَا، وَقَابِلِيَّتِهَا لِلتَّرْتِيلِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ اللَّائِقَةِ بِكُلٍّ مِنْهَا، فَأَجْدِرْ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ أُوتِيَ حَظًّا مِنْ بَيَانِ هَذِهِ اللُّغَةِ وَالشُّعُورِ الذَّوْقِيِّ بِبَلَاغَتِهَا، أَنْ يَقْتَنِعَ بِأَنَّ إِعْجَازَهَا اللُّغَوِيَّ كَإِعْجَازِ قَصَصِ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ أَوْ أَظْهَرَ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا حَقًّا مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَأَنْ يَتَجَلَّى لَهُ سِرُّ تَأْثِيرِهَا الْعَجِيبِ فِي أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُمْ - بِعِبَارَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: ((وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ)) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَأَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي قَوْلِهِ: ((أَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِيَ عَجْزًا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَنَافِذَ الْقَوْلِ أَخْذًا)) عِلْمًا ذَوْقِيًّا وِجْدَانِيًّا. وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ إِلَّا الْقَوَاعِدَ الْفَنِّيَّةَ، وَأَمْثِلَتَهَا الْجُزْئِيَّةَ الْمُدَوَّنَةَ فِي مِثْلِ مُخْتَصَرِ السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَمُطَوَّلَةٍ مِنْ كُتُبِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يُطَبِّقَهَا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا عَدَّ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَنَطِّعُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَشُرُوطِ الْفَصَاحَةِ وَعُيُوبِهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَجَّ ذَوْقَهُ بَعْضُ فَوَاصِلِ سُورَةِ الْقَمَرِ، فَكَانَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَصَحَّ مِنْهُ فَهْمًا وَذَوْقًا، إِذْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ أَبْلَغِهَا كُلِّهَا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ التَّحَدِّيَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: (يُونُسَ، وَهُودٍ، وَالطَّوْرِ) جَاءَ رَدًّا عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّقَوُّلِ كَمَا قُلْتُمْ، فَيَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا تُهْمَةُ الِافْتِرَاءِ كَمَا قَرَّرْتُمْ وَلَكِنَّ التَّحَدِّيَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ (قُلْنَا) لَكِنَّهُ جَوَابٌ لِلْمُرْتَابِينَ فِيهِ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَهُنَّ مَكِّيَّاتٌ. فَإِنْ مَنَعْنَا هَذَا وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْكِيرَ فِيهَا يَصْدُقُ بِأَصْغَرِ سُورَةٍ وَهِي الْكَوْثَرُ، وَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْجَازُ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ (قُلْنَا) إِنَّهَا مُعْجِزَةٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيجَازِ وَخَبَرَيِ الْغَيْبِ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَفِي الْجِلَالَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فَقَدَ قَالَ: فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: هِيَ مِثْلُهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ اهـ. وَقَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: هِيَ مِثْلُهُ فِي الْفَصَاحَةِ

وَالْبَلَاغَةِ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ اهـ. وَإِعْجَازُ السُّوَرِ الصَّغِيرَةِ الْمَعْنَوِيُّ بِالْهُدَى وَالنُّورِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ لَا يُكَابِرُ فِيهِ إِلَّا الْجَهُولُ الْمَحْجُوبُ. (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) هَذَا إِضْرَابٌ عَنْ بَعْضِ مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُمْ: (افَتَرَاهُ) وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْذِبُ، أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي جُمْلَتِهِ افْتِرَاءٌ مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ تَحَرِّيَهُ الصِّدْقَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَانْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ مَوْضُوعِ تَكْذِيبِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بِعَدَمِ إِحَاطَتِهِمْ بِعِلْمِهِ، أَيْ لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ وَنَوَاحِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أَيْ مِصْدَاقُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ تَوَقُّعِ إِتْيَانِهِ، وَبِتَشْبِيهِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمِثْلِهِ، فَبَيَّنَ مَا كَذَّبُوا بِهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ. فَالْوَصْفُ (الْأَوَّلُ) لِمَا كَذَّبُوا بِهِ أَنَّهُ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فَيَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا ظَنُّوا ظَنًّا، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (وَالثَّانِي) قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أَيْ وَلَمْ يَأْتِهِمْ إِلَى الْآنَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مِصْدَاقًا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَإِتْيَانُهُ مُتَوَقَّعٌ بَلْ آتٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ خَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ الْفَنِّيُّونَ فِي مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الْحُرَّةِ الْفُصْحَى، بَلْ بِلُغَةِ اصْطِلَاحَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ وَلَا سِيَّمَا أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ بِالتَّكْذِيبِ طَبْعًا، وَسَبَبُ مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ جَعْلُهُمُ التَّأْوِيلَ تَارَةً بِمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ رَدِيفُ التَّفْسِيرِ، وَتَارَةً بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ فِي اللُّغَةِ بِشَرْطِ مُوَافَقَتِهِ لِلشَّرْعِ ; لِتَخْرُجَ تَأْوِيلَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ. وَقَدْ جَمَعَ الرَّازِيُّ كَعَادَتِهِ كُلَّ مَا رَآهُ مُحْتَمَلًا مِنْ هَذَا التَّكْذِيبِ فِي خَمْسَةِ وُجُوهٍ: (1) تَكْذِيبُ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ لَهَا ثَلَاثَ صُوَرٍ. (2) حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ إِذْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَزَعَمَ أَنَّ اللهَ أَجَابَ عَنْهَا بِآيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ. (3) ظُهُورُ الْقُرْآنِ مَنَجَّمًا شَيْئًا فَشَيْئًا. (4) أَخْبَارُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. (5) الْعِبَادَاتُ، قَالُوا إِنَّ اللهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ عِبَادَتِنَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاطِلَةٌ لَا يُحْتَمَلُ إِرَادَةُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا الرَّابِعُ، وَفَسَّرَ عَدَمَ إِتْيَانِهِمْ بِجَهْلِهِمْ حَقِيقَتَهَا وَحِكَمَهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَنَاهِيكَ بِحَمْلِهَا عَلَى الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ فَيُكَذَّبَ أَوْ يُصَدَّقَ. ثُمَّ قَالَ: ((قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: قَوْلُهُ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالتَّأْوِيلَاتِ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ ; لِأَنَّ ظَوَاهِرَ النُّصُوصِ قَدْ يُوجَدُ فِيهَا مَا تَكُونُ مُتَعَارِضَةً، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ وَجْهَ التَّأْوِيلِ فِيهَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَيْسَ بِحَقٍّ. أَمَّا إِذَا عَرَفَ وَجْهَ التَّأْوِيلِ طَبَّقَ التَّنْزِيلَ

عَلَى التَّأْوِيلِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)) اهـ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَهْلِ التَّحْقِيقِ بَاطِلٌ بَعِيدٌ عَنِ الْحَقِّ، وَحُكْمُ عَلَى كِتَابِ اللهِ بِمَا عَابَهُ مِنَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمَا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي عُرْفِهِ إِلَّا نُظَّارُ عِلْمِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَا وَلَّدَ الْبِدَعَ الْمُضِلَّةَ إِلَّا الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا قَالَ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي الْمَأْثُورِ عَنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ سَلَفِ الْأُمَّةِ كَمَا سَتَرَاهُ قَرِيبًا. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَلَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ، وَهُوَ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ الَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَانِ مِصْدَاقِهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، الَّتِي أَطَالَ الرَّازِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فَأَخْطَأَ مَحَجَّةَ الصَّوَابِ، وَحُرِمَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، فَكَانَ أَجْدَرَ بِالْخَطَأِ هُنَا وَقَدِ الْتَزَمَ الِاخْتِصَارَ، وَأَوْضَحُ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا عَلِمْتَ مِنْ حَمْلِهِ التَّأْوِيلَ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، غَفْلَتُهُ عَنْ نَفْيِ إِتْيَانِهِ بِحَرْفِ (لَمَّا) الدَّالِّ عَلَى تَوَقُّعِهِ ; إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ لَمْ يَأْتِهِمْ إِلَى الْآنَ وَإِتْيَانُهُ مُتَوَقَّعٌ بَعْدَهُ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ تَشْبِيهِ تَكْذِيبِهِمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ وَعِيدُ اللهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا فَسَّرَ الْآيَةَ بِهِ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ تَكْذِيبُكَ، وَلَكِنْ بِهِمُ التَّكْذِيبُ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ. (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يَقُولُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ بَيَانُ مَا يَئُولُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ بِوَعِيدِ اللهِ، كَذَلِكَ كَذَّبَ الْأُمَمُ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُمْ بِوَعِيدِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمُ انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَغَوَيُّ فِي تَفْسِيرِ التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ مُحَدِّثٌ فَقِيهٌ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ، وَتَبِعَهُمَا الْجَلَالُ هُنَا وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الْآتِي ذِكْرُهَا. الْوَصْفُ (الثَّالِثُ) التَّشْبِيهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) شَبَّهَ تَكْذِيبَ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَكْذِيبِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ بِهِ، كَمَا تَرَى فِي قَصَصِهِمُ الْمُفَسَّرَةِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَلَا سِيَّمَا سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الْمَبْدُوءَةِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (26: 105) (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (26: 123) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (26: 141) ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ التَّكْذِيبِ فِي وَعِيدِهِمْ كَقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ:

(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) (26: 135 - 139) إِلَخْ. وَقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ بَعْدَهُمْ إِذْ أَتَتْهُمْ آيَةُ النَّاقَةِ: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ) (26: 156 - 158) إِلَخْ فَهَذَا تَأْوِيلُهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَبِرُ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلُ وَعِيدِهِمْ لَهُمْ ; لِتَعْلَمَ مَصِيرَ الظَّالِمِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ مُبَيَّنَةٌ بِالْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (29: 40) وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ كُلَّهُ قَرِيبًا فِي الْآيَاتِ (46 - 55) . وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَكَذَّبَهُ الْمُعَانِدُونَ الْمُقَلِّدُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ظَانِّينَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، لَا غَيْرَ فَاهِمِينَ لِمَعْنَاهُ أَوْ لِإِعْجَازِهِ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى حِفْظَ قَوْمِهِ مِنْ تَكْذِيبِ أَكْثَرِهِمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ أَخْذِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُمْ. وَارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (7: 53) إِلَخْ تَعْلَمْ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الَّذِي لَا تَقَبْلُ غَيْرَهُ لُغَةُ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَأَنَّ مَا قَرَّرَهُ الرَّازِيُّ هُوَ الْبَاطِلُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ الَّذِي تَدْحَضُهُ الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ فِينَا إِذْ قَالَ: وَيَخْرُجُ وَحْيُ اللهِ لِلنَّاسِ عَارِيًا ... مِنَ الرَّأْيِ وَالتَّأْوِيلِ يَهْدِي وَيُلْهِمُ (اسْتِطْرَادٌ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَتَفْسِيرِ إِمَامِهِمُ الرَّازِيِّ) اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ كَانَ إِمَامَ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ فِي عَصْرِهِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ النَّظَرِ اعْتَرَفُوا لَهُ بِهَذِهِ الْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنْ أَقَلِّهِمْ حَظًّا مِنْ عَلَمِ السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ، بَلْ وَصَفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ إِمَامُ عِلْمِ الرِّجَالِ فِي عَصْرِهِ بِالْجَهْلِ بِالْحَدِيثِ، فَلَمْ يَجِدِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَذَا الْعِلْمِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِطَعْنٍ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِ وَلَا بِذِكْرِهِ فِي رِجَالِهِ الْمَجْرُوحِينَ وَلَا الْعُدُولِ. أَمَّا عِلْمُهُ بِالْكَلَامِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ (مُحَصِّلِ أَفْكَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ) مَا يُنْبِئُكَ بِحَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ:

مُحَصِّلٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ حَاصِلُهُ ... مِنْ بَعْدِ تَحْصِيلِهِ عِلْمٌ بِلَا دِينِ رَأْسُ الْغَوَايَةِ فِي الْعَقْلِ السَّقِيمِ ... فَمَا فِيهِ فَأَكْثَرُهُ وَحْيُ الشَّيَاطِينِ وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مُصَنَّفٌ مُسْتَقِلٌّ فِي نَقْضِ كِتَابِهِ (أَسَاسِ التَّقْدِيسِ) وَفِيهِ. وَلَوْلَا أَنْ تَصَدَّى لِإِحْيَاءِ شُبُهَاتِهِ فِي هَذَا الْعَهْدِ اثْنَانِ مِنْ مُكْثِرِي النَّشْرِ فِي الصُّحُفِ لِلْمَبَاحِثِ الدِّينِيَّةِ أَحَدُهُمَا شَيْخٌ أَزْهَرِيٌّ، وَثَانِيهِمَا كَاتِبٌ مَدَنِيٌّ، لَمَا أَبْدَيْنَا وَأَعَدْنَا فِي تَفْنِيدِ بِدَعِهِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يَجْهَلَانِهَا ; لِأَنَّ بِضَاعَةَ الْأَوَّلِ نَظَرِيَّاتُ مُتَكَلِّمِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى عَلَى قِلَّةِ مَنْ يَفْهَمُهَا مِنْهُمُ الْيَوْمَ وَبِضَاعَةَ الثَّانِي نَظَرِيَّاتُ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ، وَلَمَّا رَأَيَا نَظَرِيَّةَ الرَّازِيِّ فِي التَّأْوِيلِ تُؤَيِّدُ فَهْمَهُمَا الْبَاطِلَ، أَرَادَ الثَّانِي تَرْوِيجَهَا فِي سُوقِ الْعَامَّةِ بِتَسْمِيَتِهِ إِمَامَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَا كَانَ إِلَّا إِمَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ فَقَدِ اشْتُهِرَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ: إِنَّ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا التَّفْسِيرَ كَمَا فِي كِتَابِ الْإِتْقَانِ وَالْحَقِّ أَنَّ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ نَقْلُ آرَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشَاعِرَةِ. فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ الْمُسْتَقِلُّ الْفَهْمِ كَيْفَ فَعَلَ تَقْلِيدُ الْمُسْلِمِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي دِينِهِمْ: يَنْقُلُ لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ مُفَسِّرٌ عَنْ مُتَكَلِّمٍ مَجْهُولٍ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ يَعْرِفْ لُغَتَهَا وَلَا مَعْنَاهَا النَّاقِلُ وَلَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ ((تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالتَّأْوِيلَاتِ (الَّتِي ابْتَدَعُوهَا) وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ)) وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ نَكْتَفِي مِنْهَا بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَامِيٍّ ذَكِيٍّ وَلَا بَلِيدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالنُّصُوصِ إِذَا رَأَى فِيهَا مَا هُوَ مُتَعَارِضٌ ; فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَبْحَثَ عَنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي (كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ) إِذَا رَأَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَفِي حَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَحْثَ إِلَى أَهْلِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا التَّعَارُضُ الصُّورِيُّ سَبَبًا لِشَكِّهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِمَّا يَكُونُ بِهِ مُبْتَدِعًا أَوْ كَافِرًا، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ لَوَجَبَ تَحْرِيمُ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللهِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِقَاعِدَتِهِمْ هَذِهِ، وَبِتَعَلُّمِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ قَبْلَ تِلَاوَتِهِ لِأَجْلِهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَدْيِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِ، وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَصَدٌّ عَنْهُ بِتَأْوِيلَاتِهِمُ الْمُبْتَدَعَةِ بَعْدَ عَصْرِ النُّورِ الْأَوَّلِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَلْزَمُ بِهِ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَى أَكْثَرِ مَنْ يَقْرَءُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا هِي الْمَثَارُ الْأَكْبَرُ لِلشُّكُوكِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ كُلَّهُ هُدًى وَنُورٌ، وَأَصَحُّ بَيَانٍ لَهُ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَيْرُ الْمُهْتَدِينَ بِهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَحُفَّاظُ السُّنَّةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهَ تَعَالَى بِهِ

نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا صَحَّ مِنْ وَصْفِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَجْعَلُهُ كَاللَّغْوِ، وَلَا تَمْثِيلٍ بِتَشْبِيهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ يُعَدُّ مِنَ النَّقْصِ، وَلَا تَأْوِيلٍ يُخْرِجُ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ عَنْ مَعْنَاهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ. وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْقَارِئُ أَنَّ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، لَا تَنْقُصُ إِيمَانَ الْمُوقِنِ بِكِتَابِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ الْمُتَّبِعِ لَهُمَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيمَنْ يُوَسْوِسُ لَهُ الشَّيْطَانُ: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ وَفِيمَنْ أَوْصَى بِحَرْقِ جُثَّتِهِ لِئَلَّا يَبْعَثَهُ اللهُ وَيُعَذِّبَهُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوَسْوَسَةِ فَقَالُوا إِنَّ أَحَدَنَا لِيَجِدَ فِي نَفْسِهِ مَا لَأْنَ يَحْتَرِقُ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً) أَيْ فَحْمَةً) أَوْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟ قَالَ ((ذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الْمُؤْمِنِ لَهَا دَلِيلٌ عَلَى إِيمَانِهِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ. هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ كِبَارِ النُّظَّارِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ قَدْ رَجَعُوا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْإِيمَانِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ (مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ) وَمِنْ قَبْلِهِ وَالِدُهُ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ الَّذِي نَقَلَ السُّبْكِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ عُلَمَاءَ عَصْرِهِ قَالُوا: لَوْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبِيًّا فِي هَذَا الْعَصْرِ لَكَانَ الْجُوَيْنِيَّ، وَمِنْ بَعْدِهِمَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ أَيْضًا رَحِمَهُمُ اللهُ وَرَحِمَنَا وَعَفَا عَنْهُمْ وَعَنَّا، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ مِنْ قَبْلِ رُجُوعِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحِرَاسَةِ الْعَقِيدَةِ كَالْحَرَسِ لِلْحَاجِّ (وَأَقُولُ) إِنَّمَا رَاجَتْ كُتُبُهُ فِي عَصْرِهِمْ ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلرَّدِّ عَلَى مَلَاحِدَتِهِمْ وَمُبْتَدِعَتِهِمْ وَلَا تَنْفَعُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَلَاحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ وَلَا مُبْتَدِعَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ لِلْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَالْمَأْثُورِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى قَبْلَ ظُهُورِ الْبِدَعِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَتُجْعَلَ أَصْلًا تُرَدُّ إِلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، إِيثَارًا لِبَيَانِهِمْ عَلَى بَيَانِهِ. وَإِنْ تَعَجَبْ فَعَجَبٌ جَعْلُهُمْ عَقِيدَةَ السَّنُوسِيَّةِ الصُّغْرَى الْأَسَاسَ الْأَوَّلَ لِتَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ فِي الْأَزْهَرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَظَرِيَّاتٌ كَلَامِيَّةٌ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ، وَقَدْ أَخْطَأَ مُحْشُوهَا وَشُرَّاحُهَا فِي جَعْلِ التَّوْحِيدِ عِبَارَةً عَنْ نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، أَوِ الْمُنْفَصِلِ فِي أَفْعَالِهِ فَقَطْ، وَهِيَ فَلْسَفَةٌ مُبْتَدَعَةٌ لَا يَعْرِفُهَا الشَّرْعُ وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهَا اللُّغَةُ، كَمَا أَخْطَأَ مُؤَلِّفُهَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) بِلَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهَا الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَتْ عُنْوَانَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ بِالظَّنِّ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي

40

مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، فَزَعَمَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَعَلَّقَانِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ ذَوَاتِ الْجَوَاهِرِ وَأَعْرَاضَهَا كَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَيَرَى الْأَصْوَاتَ وَيُبْصِرُ اللُّغَاتِ. غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ قَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (2: 169) وَمَعَ هَذَا زَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ فِي الْآخِرَةِ لِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إِمَامُ الْمُوَحِّدِينَ، الَّذِي آتَاهُ حُجَّتَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ وَعَلَى سَائِرِ الْعَالَمِينَ، وَاطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِكَيْفِيَّةِ إِحْيَائِهِ تَعَالَى لِلْمَيِّتِينَ، فَكَيْفَ يَحْتَاجُ بَعْدَ كَشْفِ الْحُجُبِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى نَظَرِيَّاتِ السَّنُوسِيِّ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ؟ ؟ وَقَدْ صَرَّحَ السَّيِّدُ الْأُلُوسِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْعَارِفِينَ، بِمَا حَقَّقْنَاهُ هُنَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الظَّنِّ فِي بَابِ الْإِشَارَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (36) ذَمٌّ لَهُمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ لِمَوْلَاهُمْ وَمَا يَمْتَنِعُ وَمَا يَجُوزُ، وَلَا يَكَادُ يَنْجُو مِنْ هَذَا الذَّمِّ إِلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ جَلَّ شَأْنُهُ بِهِ لَا بِالْفِكْرِ، بَلْ يَكَادُ يَقْصُرُ الْعِلْمُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ أَهْلِ الرُّسُومِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مُتَعَارِضَةٌ، وَكَلِمَاتُهُمْ مُتَجَاذِبَةٌ، فَلَا تَكَادُ تَرَى دَلِيلًا سَالِمًا مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَنِزَاعٍ وَجِدَالٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرٌ أَبَعْدُ مِنَ الْعَيُّوقِ، وَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ. لَقَدْ طُفْتُ فِي تِلْكَ الْمَعَاهِدِ كُلِّهَا ... وَسَرَّحْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ فَلْيَفْعَلْ مَا فَعَلَ لِيَحْصُلَ لَهُ مَا حَصَلَ لَهُمْ، أَوَّلًا فَلْيَتَّبِعِ السَّلَفَ الصَّالِحَ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِمَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّتِي لَا تَزِيدُ طَالِبَ الْحَقِّ إِلَّا شَكًّا)) اهـ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) .

لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَالَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّهَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ، وَبِتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ لَهُمْ، بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَقْسَامَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَمُسْتَقَبْلِ أَمْرِهِمْ أَوْ حَالِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَفِي عَمَلِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِهِمْ، وَعَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى رِسَالَتِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ فِيهِمْ فَقَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ) يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، بَلْ سَيَكُونُ قَوْمُكَ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ سَيُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَقِسْمٌ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) فِي الْأَرْضِ بِالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِفَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُخْزِيهِمْ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِفَسَادِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُهُ فِي الظَّاهِرِ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ جَهْلًا وَتَقْلِيدًا، وَمِنْ هَذَا الْفَرِيقِ مَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَيَأْتِي وَصْفُ حَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ 42 - 44 قَرِيبًا وَلَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرُوا التَّأْوِيلَ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي بَيَّنَّا فَسَادَهُ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِحَالِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِ التَّأْوِيلِ الْمُتَوَقَّعِ أَيْ سَيَكُونُ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مَعْنَى لِإِتْيَانِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى جَاءَ تَأْوِيلُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ وُقُوعُ الْعَذَابِ، يَكُونُ الْإِيمَانُ بِهِ اضْطِرَارِيًّا عَامًّا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (7: 53) وَتَأْوِيلُهُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَوْ بِقِيَامِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَهُ الْإِيمَانُ إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (51) وَانْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ (غَافِرٍ) (40: 82 - 85) وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (46) عَدَمَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَكِّدُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أَيْ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: لِي عَمَلِي بِمُقْتَضَى رِسَالَتِي وَهُوَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَالْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِمُسَيْطِرٍ وَلَا بِجَبَّارِ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِكُمْ وَشِرْكِكُمْ،

41

وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، الَّذِي تُجْزَوْنَ بِهِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَيُقَالُ لَكُمْ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (52) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا) (17: 84) (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فَلَا يُؤَاخِذُ اللهُ أَحَدًا مِنَّا بِعَمَلِ الْآخَرِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (11: 35) وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (26: 216) . (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَسْمَعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) . لَمَّا أَنْبَأَ اللهُ رَسُولَهُ بِأَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ حَالًا وَلَا اسْتِقْبَالًا، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَيَانُ مَهْمَا يَكُنْ نَاصِعًا، وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبُرْهَانُ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا، وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ مِنْهُمْ بَعْدَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي دَمْغَتْهُمْ بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ، أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَيَنْتَظِرَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ، كَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا النَّبَأِ أَنْ يُثِيرَ عَجَبَهُ لِغَرَابَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ يَسُوءَهُ لِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِقَامِ اللهِ مِنْهُمْ، بَيَّنَ لَهُ مَثَلَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَكَوْنِ مُصِيبَتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، فَقَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أَيْ يُصِيخُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ مُصْغِينَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أَوْ بَيَّنْتَ مَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِذْ يَسْتَمِعُونَ ; إِذْ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعْقِلُونَ مَا يُرَادُ بِهِ. وَلَا يَفْقَهُونَ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْكَ مَقْصُودٌ عِنْدَهُمْ

42

لِذَاتِهِ لَا لِمَا يُرَادُ بِهِ، وَهِيَ بَلَاغَتُهُ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ بِتَرْتِيلِهِ، كَمَنْ يَسْتَمِعُ إِلَى طَائِرٍ يُغَرِّدُ عَلَى فَنَنِهِ ; لِيَسْتَمْتِعَ بِصَوْتِهِ لَا لِيفْهَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (21: 2 و3) أَوْ كَالْبَهَائِمِ يَصِيحُ بِهَا الرَّاعِي فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا لِاسْتِمَاعِ صَوْتِهِ الَّذِي رَاعَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ رَعْيِهَا، كَمَا قَالَ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2: 171) أَوْ كَمَا قَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (6: 25) وَالْقَاعِدَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا. وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْصِدُونَ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَوْ فِي الْمَآتِمِ، لِيَسْتَمِعُوا إِلَى فُلَانٍ الْقَارِئِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ لِغَرَضِ التَّلَذُّذِ بِتَرْتِيلِهِ وَتَوْقِيعِ صَوْتِهِ أَوْ بَلَاغَتِهِ، وَلَا أَحَدَ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ، وَحِكَمِهِ وَعِبَرِهِ، وَلَا عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ سَمِعْتُ بِأُذُنِي مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ وَيَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ تَأْثِيرِهِ وَتَغَلْغُلِهِ فِي أَعْمَاقِ الْقَلْبِ وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي أَنَّ السَّمَاعَ النَّافِعَ لِلْمُسْتَمِعِ هُوَ مَا عَقَلَ بِهِ مَا يَسْمَعُهُ وَفَقِهَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذَا كَانَ كَالْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَمْ تُؤْتَ الْقُدْرَةَ عَلَى إِسْمَاعِ الصُّمِّ أَيْ فَاقِدِي حَاسَّةِ السَّمْعِ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ الْإِسْمَاعَ النَّافِعَ لِلصُّمِّ مَجَازًا وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهُ فَيَهْتَدُوا بِهِ. وَالْبَلَاغَةُ فِي ظَاهِرِ تَعْبِيرِ الْآيَةِ وَصْفُهُمْ بِفَقْدِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعًا، وَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ مَنْ فَقَدَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ حَقِيقَةً لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا. وَإِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمَنْفِيِّ هَنَا عَقْلَ الْكَلَامِ وَفِقْهَهُ، فَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ السَّمَاعِ وَنَفْيَ الصَّمَمِ الْحَقِيقِيَّيْنِ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أَيْ يُوَجِّهُ أَشِعَّةَ بَصَرِهِ إِلَيْكَ عِنْدَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَا آتَاكَ اللهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ، وَهِيبَةِ الْخُشُوعِ لِلدَّيَّانِ، وَكَمَالِ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَأَمَارَاتِ الْهَدْيِ وَالْحَقِّ، وَآيَاتِ الْتِزَامِ الصِّدْقِ، الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَحَدُ أُولِي الْبَصِيرَةِ بِقَوْلِهِ عِنْدَمَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاللهِ مَا هَذَا بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَقَالَ فِيهِ آخَرُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنِةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ وَقَالَ حَكِيمٌ إِفْرِنْجِيٌّ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي حَالَةِ وَلَهٍ وَتَأَثُّرٍ وَتَأْثِيرٍ، فَيَجْذِبُ بِهِ

43

إِلَى الْإِيمَانِ أَضْعَافَ مَنْ جَذَبَتْهُمْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) . وَمَنْ فَقَدَ الْبَصِيرَةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْقَلْبِيَّةَ فِيمَا يَرَاهُ بِبَصَرِهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ وُجُودِ النَّظَرِ الْحِسِّيِّ بِالْعَيْنَيْنِ، وَعَدَمِ النَّظَرِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ مَحْرُومٌ مِنْ هِدَايَةِ الْبَصَرِ، وَهِي الْبَصِيرَةُ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ بَصَرِ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّهُ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيِ بِدَلَائِلِ الْبَصَرِ الْحِسِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِدَلَائِلِهِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَوْ كَانُوا فَاقِدِينَ لِنِعْمَةِ الْبَصِيرَةِ الَّتِي تُدْرِكُهَا، وَقَدْ أَسْنَدَ فِعْلَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْجَمِيعِ لِكَثْرَةِ تَفَاوُتِ الْمُسْتَمِعِينَ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ، وَأَسْنَدَ فِعْلَ النَّظَرِ إِلَى الْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ أَفْرَدَ السَّمْعَ وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْهَا (31) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ كَهِدَايَةِ الْحِسِّ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْتَعِدِّ لَهَا بِهِدَايَةِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ هِدَايَةَ الْعَقْلِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَوَجُّهٍ النَّفْسِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُفَّارِ قَدِ انْصَرَفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي الدَّلَائِلِ الْبَصَرِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِإِدْرَاكِ مَطْلَبٍ مِنَ الْمَطَالِبِ مِمَّا وَرَاءَ شَهَوَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فَقَدُوا نِعْمَةَ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَلَا نِعْمَةَ الْحَوَّاسِ، بَلِ اسْتِعْمَالَهَا النَّافِعَ - كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِمَا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) أَيِ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِ النَّاسِ أَنْ يَنْقُصَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ، الَّتِي يَهْتَدُونَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَمَنَافِعُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِي الْحَوَاسُّ وَالْعَقْلُ وَسَائِرُ الْقُوَى فَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ نَقْصُ مَا تَقْتَضِي الْخِلْقَةُ الْكَامِلَةُ وَجُودَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (18: 33) (وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أَيْ يَظْلِمُونَهَا وَحْدَهَا ; لِأَنَّ عِقَابَ ظُلْمِهِمْ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ يَجْنُونَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ هِدَايَاتِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَهُوَ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا

45

لِأَجْلِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْهُدَى فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَصِّلُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، الْمُنَجِّي مِنْ عَذَابِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَلَكِنْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَ (النَّاسُ) بِالرَّفْعِ. وَقَدْ وَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: (وَلَكِنَّ النَّاسَ وَلَمْ يَقُلْ: ((وَلَكِنَّهُمْ)) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ ; فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو فِي اسْتِعْمَالِ مَشَاعِرِهَا وَقُوَاهَا مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنْ حِفْظِ حَيَاتِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وَالنَّوْعِيَّةِ، وَأَمَّا النَّاسُ فَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، كَمَا قَالَ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (25: 44) وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ قَصْرِ هَذَا الظُّلْمِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَوْ دُونَ رَبِّهِمُ الَّذِي كَفَرُوا بِنِعَمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 54) وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (7: 160) . هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ نَفْيِ ظُلْمِ النَّاسِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَقَصْرِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِعِقَابِهِ لَهُمْ شَيْئًا بِأَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ أَوْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ وَلَكِنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، عَلَى قَاعِدَةِ: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) (6: 164) الْآيَةَ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا مَعَ مَا هُنَا، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ، وَذَكِّرْ غَيْرَكَ، وَلَا تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحِكَمَ الْبَلِيغَةَ حِكَايَةً لِلتَّسْلِيَةِ بِهَجْوِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّمَا هِيَ حَقَائِقُ هَادِيَةٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِبْصَارِ. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) . هَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّذْكِيرِ بِمِقْدَارِ ظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَخَسَارَتِهِمْ لَهَا فِي الْآخِرَةِ، بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَغُرُورِهِمْ بِدُنْيَاهُمُ الْحَقِيرَةِ مِصْدَاقًا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، قَالَ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ يَحْشُرُهُمُ اللهُ - وَهَذِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ (نَحْشُرُهُمْ) بِالنُّونِ أَيْ نَجْمَعُهُمْ بِبَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ

وَنَسُوقُهُمْ إِلَى مَوَاقِفِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَمْكُثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً مِنَ النَّهَارِ رَيْثَمَا يَعْرِفُ فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَأُولِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ ثُمَّ زَالَتْ ; فَإِنَّ السَّاعَةَ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي قِلَّةِ الْمُدَّةِ. فَالتَّشْبِيهُ بَيَانٌ لِحَالِهِمْ فِي تَذَكُّرِهِمْ لِلدُّنْيَا. يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي غَرَّتْهُمْ بِمَتَاعِهَا الْحَقِيرِ الزَّائِلِ قَصِيرَةٌ سَتَزُولُ بِعَذَابِهِمْ أَوْ مَوْتِهِمْ وَسَيُقَدِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِصَرَهَا بِسَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنَ التَّعَارُفِ الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) (46: 35) وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) (30: 55) وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ النَّازِعَاتِ عَنِ السَّاعَةِ: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (79: 46) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ أَهْلِ الْمَوْقِفِ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ، أَيْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ الرُّومِ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (30: 56) وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (23: 112 - 114) وَفِي سُورَةِ طَهَ يَخْتَلِفُونَ بَيْنَ الْيَوْمِ وَالْعَشْرِ، وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ يُحْشَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَارَقُوا لِقِصَرِ مُدَّةِ الْفِرَاقِ، وَثَمَّ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي التَّشْبِيهِ يُبْطِلُهَا مَا أَوْرَدْنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي شَوَاهِدِهِ: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) أَيْ خَسِرُوا السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ ; إِذْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَعَمِلِ الصَّالِحَاتِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، الْمُرَقِّيَّةِ لِلرُّوحِ، بِمَا تَكُونُ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ فِي جَنَّاتِهِ، فَآثَرُوا عَلَيْهَا حَيَاةَ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةَ الْحَقِيرَةِ الْمُنَغَّصَةَ بِالْأَكْدَارِ، السَّرِيعَةَ الزَّوَالِ الَّتِي يُقَدِّرُونَهَا يَوْمَ الْحَشْرِ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْهُ تَعَالَى لِخُسْرَانِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ ; وَبِذَلِكَ ذَكَرَهُمْ بِصِفَتِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ وَهِي التَّكْذِيبُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِيمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ إِيثَارِ الْخَسِيسِ الْفَانِي، عَلَى النَّفِيسِ الْخَالِدِ الْبَاقِي، أَوْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (قَدْ خَسِرَ) أَيْ خَسِرُوا تِجَارَتَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالرِّبْحِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (2: 16) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ 7، 11، 15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ خُسْرَانِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 31) .

46

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعَدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجَزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .

هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْآيَةِ 39 وَمَا بَعْدَهَا. (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ زِيدَتْ ((مَا)) فِي حَرْفِ الشَّرْطِ ((إِنْ)) وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي فِعْلِهِ فَكَانَ تَوْكِيدُهُ مُزْدَوَجًا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَأْكِيدُ وُقُوعِ مَا وَعَدَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَرْطِهِ فِيهِمَا، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمَا شَيْءٌ فِي جُمْلَتِهِمَا، سَوَاءٌ أَرَى اللهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَشَاهَدَهُ، أَمْ تَوَفَّاهُ قَبْلَ إِرَادَتِهِ إِيَّاهُ فَإِبْهَامُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِلْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ مِنْ جِهَةِ قُرْبِهِ أَوْ بُعْدِهِ وَرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا، وَسَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي إِبْهَامِهِ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ نُرِيَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا فَذَاكَ - وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُرِيهِ بَعْضَهُ لَا كُلَّهُ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) بِقَبْضِكَ إِلَيْنَا قَبْلَ إِرَاءَتِكَ إِيَّاهُ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ حَيْثُ يَكُونُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ وَهُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا جَوَابَ الشَّرْطِ بِقِسْمَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَإِلَيْنَا وَحْدَنَا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) بَعْدَكَ أَوْ مُطْلَقًا فَيَجْزِيهِمْ بِهِ عَلَى عِلْمٍ وَشَهَادَةٍ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِمَّا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي تَرَبُّصِهِمْ مَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتِرَاحَتِهُمْ مِنْ دَعْوَتِهِ وَنُذُرِهِ بِمَوْتِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَآخَرِ سُورَةِ طَهَ، فَالْعَذَابُ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ. وَقَدْ وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (40: 77) وَيَلِيهَا آيَةٌ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ذُكِرَ فِيهَا الرُّسُلُ وَكَوْنُ آيَاتِهِمْ بِإِذْنِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِهِمْ، وَالْقَضَاءُ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِالْهَلَاكِ بَعْدَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكَوْنِ آيَاتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ بِإِذْنِ اللهِ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (13: 40) وَمَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى السِّيَاقِ الَّذِي هُنَا، وَقَوْلُهُ: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (43: 41، 42) وَقَبْلَهَا: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (43: 40) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَ هَذِهِ أَيْضًا. وَقَدْ أَبْهَمَ أَمْرَ عَذَابِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَآيَاتٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ بِهِمْ مَا وَقَعَ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (23: 93، 94) أَيْ كَمَا هِيَ سُنَّتُكَ فِي رُسُلِكَ الْأَوَّلِينَ، وَقَدْ أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ فَقَالَ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (8: 33) .

47

وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِبْهَامِ التَّخْوِيفُ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ، مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لَنْ يَقَعَ عَلَى قَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَجِيئَهُمْ مَا اقْتَرَحُوا مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَيُصِرُّوا بَعْدَهُ التَّكْذِيبَ، وَلَنْ يَقَعَ، وَلَكِنْ فِي آيَةِ يُونُسَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُرِي رَسُولَهُ بَعْدَ نُزُولِهَا بَعْضَ الَّذِي يَعِدُهُمْ لَا كُلَّهُ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَهُ ذَلِكَ فَأَرَاهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْمَجَاعَةِ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ النَّصْرِ فِي أَوَّلِ مَعْرَكَةٍ هَاجَمَهُ بِهَا رُؤَسَاؤُهُمْ وَصَنَادِيدُهُمْ وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِهَا إِلَى فَتْحِ عَاصِمَتِهِمُ الْكُبْرَى أُمِّ الْقُرَى، وَإِكْمَالِ الدِّينِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَوَاضِعِهِ. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ رَسُولًا بَعَثَهُ فِيهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ أُصُولَ دِينِهِ الثَّلَاثَةَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُنَاسِبُ لِحَالِ زَمَنِهِمْ: (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ) وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فِي قَضَائِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي تَأْكِيدُهُ قَرِيبًا) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) أَيْ وَيَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَتَى يَقَعُ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَنْتَقِمُ لَكُمْ مِنَّا وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْنَا، أَيْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (19: 75) وَقَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (72: 24 - 26) إِلَخْ. وَهَاهُنَا لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) أَيْ إِنَّنِي بَشَرٌ رَسُولٌ لَا أَمَلِكُ لِنَفْسِي - فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا - شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الضُّرِّ فَأَدْفَعَهُ عَنْهَا وَلَا النَّفْعِ فَأَجْلِبَهُ لَهَا، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْدِرُ غَيْرِي عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْهَا إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِالْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ، وَلَا هِبَةُ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) أَيْ لَكِنْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَتَى شَاءَ لِي فِيهِ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الرِّسَالَةِ الَّتِي وَظِيفَتُهَا التَّبْلِيغُ لَا التَّكْوِينُ. هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مُنْقَطِعٌ وَلَهُ أَمْثَالٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ مَنْ أَظْهَرِهَا الصَّرِيحِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 188) وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ وَتَأْخِيرِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، فَقَدْ قُدِّمَ الضُّرُّ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مِيعَادِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، وَهُوَ مِنَ الضُّرِّ، وَقُدِّمَ النَّفْعُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ فَضْلًا عَنْ مِلْكِهِ لِغَيْرِهِ، وَالْمُنَاسِبُ فِي هَذَا تَقْدِيمُ النَّفْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ تَصَرُّفِ

49

الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَامًّا لِمَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ أَمْلِكَهُ بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْكَسْبِ الِاخْتِيَارِيِّ مَعَ تَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ لِي، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ فَهِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا مِمَّا يَمْلِكُهُ رُسُلُهُ. وَقَدْ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) لِبَقَائِهَا وَهَلَاكِهَا، عَلِمَهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ لَهَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أَيْ فَلَا يَمْلِكُ رَسُولُهُمْ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الزَّمَانِ الْمُقَدَّرِ لَهُ وَإِنْ قَلَّتْ وَلَا أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى هَذَا النَّصِّ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 34) بِلَفْظِهِ فَاسْتَغْرَقَ أَرْبَعَ وَرَقَاتٍ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَالِكَ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ) إِلَخْ وَقَالَ هُنَا: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ) إِلَخْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا هُنَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ تَأْخِيرِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ تَفْنِيدٌ لِاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ وَصْفًا لِلْأَجَلِ مُرْتَبِطًا بِهِ مُبَاشَرَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَمَا هُنَالِكَ إِخْبَارٌ بِآجَالِ الْأُمَمِ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ تَفْرِيعٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِهِ لَهُ بِلَا مُهْمَلَةٍ كَالَّذِي هُنَا. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا السُّؤَالُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ جَوَابِهِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَأَشْبَهَهُ بِمَا هُنَا سِيَاقُ سُورَةِ النَّمْلِ وَأُجِيبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (27: 72) وَهُوَ مِنْ رَدِفَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَتَبِعَهُ، وَعُدِّيَ بِاللَّامِ لِتَأْكِيدِهِ أَوْ تَضْمِينِهِ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ. وَقَدْ بَلَغَ مِنْ جَهْلِ الْخُرَافِيِّينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ لَمْ تَصُدَّ الْجَاهِلِينَ بِهِ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَى قُدْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - حَتَّى الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ - عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْعِهِمْ وَضُرِّهِمْ، مِمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَسْبِ الْمَقْدُورِ لَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كُلِّهِ، كَالَّذِينِ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ. وَأَنَّ بَعْضَ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَكْتُبُ هَذَا حَتَّى فِي مَجَلَّةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَيُفْتِي بِجَوَازِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ مِنَ الْمَوْتَى وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ، وَأَلَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ الْمَيِّتِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ بَعْدَ نَقْلِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ أَئِمَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرْجِيحِهِ مَا نَصُّهُ: ((وَفِي هَذَا أَعْظَمُ وَازِعٍ وَأَبْلَغُ زَاجِرٍ لِمَنْ صَارَ دَيْدَنَهُ وَهَجِيرَاهُ الْمُنَادَاةُ لِرَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ الِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ ;

فَإِنَّ هَذَا مَقَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَرَزَقَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ صَالِحٍ مِنَ الصَّالِحِينَ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ؟ وَيُتْرَكُ الطَّلَبُ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُعْطِي الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَوْعِظَةٍ، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ يَأْمُرُهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ؟ وَكَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ - مِمَّنْ رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ - لِنَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ؟ ((فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَنِ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ! كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا يَنْتَبِهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَمَدْلُولِ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (112: 1) ((وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا ; فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ وَكَفَاكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ، وَمُطَهِّرُ شَرِيعَتِهِ مِنْ أَوَضَارِ الشِّرْكِ وَأَدْنَاسِ الْكُفْرِ. وَلَقَدْ تَوَسَّلَ الشَّيْطَانُ أَخْزَاهُ اللهُ بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (18: 104) ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) اهـ. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَخْبَرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يُمْكِنُكُمْ فِعْلُهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ فِي اللَّيْلِ، أَوْ وَقْتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ أَوْ أُمُورِ مَعَاشِكُمْ بِالنَّهَارِ، وَهُوَ لَا يَعْدُوهُمَا (كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ 4، 97، 98 مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أَيَّ شَيْءٍ أَوْ أَيَّ نَوْعٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْآنَ؟ أَعَذَابَ الدُّنْيَا أَمْ قِيَامَ السَّاعَةِ؟ أَيًّا مَا اسْتَعْجَلُوا فَهُوَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ مِنْكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ، أَيْ أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ لِلنُّحَاةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوا اقْتِرَانَ مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ بِالْفَاءِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ لَا نَعْرِضُ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (6: 47) وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي (أَرَأَيْتُمْ) وَ (أَرَأَيْتَكُمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ ذَلِكَ؟ .

51

(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((ثُمَّ)) بِالضَّمِّ وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ بِمَعْنَى هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ (أَثُمَّ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَهُنَالِكَ؟ وَلَيْسَ ((ثُمَّ)) هَاهُنَا الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَضْبُطْهَا بِفَتْحِ الثَّاءِ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَضْمُومَةَ تَأْتِي ظَرْفًا أَيْضًا وَهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، بَلْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ: وَهَذَا وَهْمٌ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمَضْمُومَةُ الثَّاءِ بَالْمَفْتُوحَتِهَا اهـ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْجَالِ مُجْرِمِيهِمْ بِالْعَذَابِ، كَمَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (7: 63) ؟ وَقَوْلِهِ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (23: 115) وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ، أَيَسْتَعْجِلُ بِالْعَذَابِ مُجْرِمُوكُمُ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِالْخَوْفِ مِنْهُ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَعَنْكُمْ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ آمَنْتُمْ بِهِ إِذْ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ ; لِأَنَّهُ صَارَ ضَرُورِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، لَا تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: (آلْآنَ) آمَنْتُمْ بِهِ اضْطِرَارًا (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) تَكْذِيبًا بِهِ وَاسْتِكْبَارًا؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ (الَانَ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِعْجَالُ يَتَضَمَّنُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْذِيبِ الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِيمَانُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ إِيَّاهُ وَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (91) . (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ((قِيلَ)) هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ((قِيلَ)) الْمُقَدَّرَةِ قَبْلَ (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أَيْ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ بِالرِّسَالَةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ: (ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) الْخُلْدُ كَالْخُلُودِ مَصْدَرُ خَلَدَ الشَّيْءُ إِذَا بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَخَلَدَ الشَّخْصُ فِي الْمَكَانِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ فِيهِ، لَا يَرْحَلُ وَلَا هُوَ بِصَدَدِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ. وَظَاهِرُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى (الْخُلْدِ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَقَاءُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْعَذَابِ الْخَالِدِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَكْثَرِ وَالْمُقَيَّدَةِ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 128) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَسَيَأْتِي. (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَهُ بِاخْتِيَارِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَزْمِ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا بِالظُّلْمِ، حَتَّى لَمْ تَعُدْ أَهْلًا لِجِوَارِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عَذَابًا أُنُفًا مِنْ خَارِجِهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (6: 139) .

53

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) النَّبَأُ الْخَبَرُ الْمُهِمُّ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ طَلَبُهُ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا ظَانِّينَ مُسْتَبْعِدِينَ، بَيْنَ مُعَانِدِينَ وَمُقَلِّدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (36) وَالْمَعْنَى: وَيَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تُنَبِّئَهُمْ عَنْ هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحَقٌّ هُوَ سَيَقَعُ بِالْفِعْلِ؟ أَمْ هُوَ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) إِيْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْخَفِيفَةِ حَرْفُ جَوَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْقَسَمِ؛ أَيْ نَعَمْ أُقْسِمُ لَكُمْ بِرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَاقِعٌ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطُّورِ بَعْدَ الْقِسْمِ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (52: 7 و8) وَقَدْ أَكَّدَهُ هُنَا بِالْقَسَمِ وَبِإِنَّ مَعَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِنْزَالِهِ بِكُمْ، وَلَا بِفَائِتِيهِ هَرَبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ مَا جَهِلْتُمْ إِذْ قَالُوا كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) (72: 12) . وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِّيًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَالْجَوَابُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ تَأْكِيدَهُ بِالْقَسَمْ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُقْنِعُ السَّائِلِينَ، وَمَنْ عَرَفَ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ لَمْ يَسْتَشْكِلِ السُّؤَالَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُونَ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا أَهْوَ جِدٌّ أَمْ هَزْلٌ، فَأَرَادُوا مِنَ الْحَقِّ لَازِمَهُ وَهُوَ الْجِدُّ لَا مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقِلُّ فِيهِمُ الْكَذِبُ لِعَزَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَدَمِ خُضُوعِهِمْ لِرِيَاسَةٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يَهَابُونَ الْأَيْمَانَ الْبَاطِلَةَ وَيَخَافُونَهَا، وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ، وَنَاهِيكَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ صِغَرِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَعَنِ الشَّرَائِعِ وَيَسْتَحْلِفُهُ فَإِذَا حَلَفَ اطْمَأَنَّ لِصِدْقِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَإِنَّ صِدْقَ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَقِلُّ مِثْلُهُ فِي رِجَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّجْدَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ أَجَبْتُكَ)) فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: ((سَلْ عَمَّا بَدَالَكَ)) فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا

فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ)) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهُ: قَالَ أَنَسٌ نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: ((صَدَقَ)) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: ((اللهُ)) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ ((اللهُ)) قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ فَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: ((اللهُ)) قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ ((نَعَمْ)) (ثُمَّ سَأَلَهُ بِالَّذِي أَرْسَلَهُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ. فَأَجَابَ نَعَمْ) ثُمَّ وَلَّى وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ)) . وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَيْضًا: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) وَأَنَّهُ كَانَ أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)) وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكْمُ إِنَّهُمَا وَاللهِ مَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فَوَاللهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا. وَأَقُولُ: إِنَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَمَا فِيهَا ثُمَّ ذِكْرَهُ فِي الْقَسَمِ، أَنَّ اسْتِحْضَارَ ذَلِكَ فِيهِ يَكُونُ أَحْرَى أَنْ يُلْتَزَمَ فِي الْجَوَابِ الصِّدْقُ وَتَعْظِيمُ الْقَسَمِ وَالْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِنْثِ، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا إِثْبَاتَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْجَدَلِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِلْجَاحِدِينَ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ، وَجَهِلَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَلَا سِيَّمَا السِّيَاسِيِّينَ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ وَدُعَاةِ التَّنْصِيرِ الْبُرُوتِسْتَنْتِيُّ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكَسْبِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِقَوْلِ رُؤَسَائِهِمْ: ((إِنَّ الْغَايَةَ تُبَرِّرُ الْوَاسِطَةَ)) يَعْنُونَ أَنَّ اقْتِرَافَ الْكَذِبِ وَسَائِرِ الرَّذَائِلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْكَنِيسَةِ فَضِيلَةٌ - جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمُ احْتِرَامًا لِلصِّدْقِ، فَضْلًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ

54

فَأَبَاحُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ، مَا لَمْ يَخْطُرْ مِثْلُهُ فِي بَالِ الشَّيْطَانِ قَبْلَهُمْ فَيُوَسْوِسَ بِهِ لِغَيْرِهِمْ: لَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كِذْبًا ... تَزُولُ الشُّمُّ مِنْهُ مُزَلْزَلَاتِ أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (16: 105) وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي هَدْيِهِ: ((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ)) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أَيْ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ تَلَبَّسَتْ بِهَذَا الظُّلْمِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ وَالزِّينَةِ وَصُنُوفِ النَّعِيمِ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ، أَيْ تَجْعَلُهُ فِدَاءً لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ذُو قُوَّةٍ يُنْقِذُهَا مِنْهُ بِذُلِّهَا لَهُ، لَافْتَدَتْ بِهِ كُلِّهِ لَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) إِسْرَارُ الشَّيْءِ إِخْفَاؤُهُ وَكِتْمَانُهُ، وَإِسْرَارُ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ، فَهُوَ ضِدُّ إِعْلَانِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ، وَمِنْهُ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (67: 13) (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) 21: 110) وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا فَهُوَ ضِدٌّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالنَّدَمُ وَالنَّدَامَةُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ عَقِبَ كُلِّ فِعْلٍ يَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ، وَقَدْ يَجْهَرُ بِهِ بِالْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (39: 56) أَوْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ إِعْلَانِهِ أَوِ اتِّقَاءً لِلشَّمَاتَةِ أَوِ الْإِهَانَةِ بِهِ، أَيْ وَأَسَرَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا نَدَامَتَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَوْ كَتَمُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أَيْ رَأَوْا مَبَادِيَهُ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لَا مَصْرِفَ لَهُمْ عَنْهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِرُؤْيَتِهِ عَنْ وُقُوعِهِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أَيْ وَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالظُّلْمِ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيذَاءِ فَخُصُومُهُمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَكَذَا مَنْ أَضَلُّوهُمْ وَظَلَمُوهُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ هُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مُجَادَلَةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (34: 33) وَإِنْ أُرِيدَ بِالظُّلْمِ مَا يَعُمُّ ظُلْمَهُمْ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَهَضْمَ الْحُقُوقِ كَانَ كُلُّ مَظْلُومٍ خَصْمًا لِظَالِمِهِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أَيْ لَا يَظْلِمُهُمُ اللهُ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا أَتْبَاعَهُمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ. وَالْآيَاتُ فِي نَدَمِ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (78: 40) وَقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) (25: 27 و28)

55

وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِنْفَاذِ حُكْمِهِ وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لَا يُعْجِزُونَهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الِافْتِدَاءَ مِنْ عَذَابِهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْنَا مِرَارًا: إِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ الْعَالَمِ، وَهُوَ تَعَالَى مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَلِكُهُمَا، وَلَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِهَذَا كُلِّهِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، فَهَاهُنَا غَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى غُرُورِ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ بِمَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ بِهِ، وَتَعَذُّرِ الِافْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 66 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ (أَلَا) الَّذِي يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِتَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا لِكَثْرَةِ ذُهُولِ النَّاسِ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى: لِيَتَذَكَّرِ النَّاسِي وَلْيَتَنَبَّهِ الْغَافِلُ وَلْيَعْلَمِ الْجَاهِلُ أَنَّ لِلَّهِ وَحْدَهُ مَا فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَعَالَمِ الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْفِدَاءِ، فِي يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ (أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أَعَادَ فِيهِ حَرْفَ التَّنْبِيهِ تَأْكِيدًا لِتَمْيِيزِهِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ عَمَّا سَبَقَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ هُنَا بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَيْ كُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ حَقٌّ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ وَعْدُ الْمَالِكِ الْقَادِرِ عَلَى إِنْجَازِ مَا وَعَدَ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) يَعْنِي بِأَكْثَرِهِمُ الْكُفَّارَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْرَ الْآخِرَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) بِقُدْرَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 31 و34 (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عِنْدَمَا يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ وَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا قَبْلَهُ بِالْإِيجَازِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي مَوْضُوعِ تَشْرِيعِ الْقُرْآنِ الْعَمَلِيِّ التَّهْذِيبِيِّ جَاءَ بَعْدَ بَيَانِ عَقَائِدِهِ الثَّلَاثِ: (التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ) وَتَأْيِيدِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى صِدْقِ

57

وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، وَقَدْ أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى فِي جَمِيعِ مَقَاصِدِ هَذَا التَّشْرِيعِ وَإِصْلَاحِهِ لِلنَّاسِ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ لِلْعَاقِلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ بِذَاتِهِ لَا يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَحْتَاجَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ لِإِصْلَاحِ أَخْلَاقِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الظَّاهِرَةِ، وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ لِإِصْلَاحِ خَفَايَا أَنْفُسِكُمْ وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهَا الْبَاطِنَةِ، وَهِدَايَةٌ وَاضِحَةٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحْمَةٌ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ هِيَ شَجْنَةٌ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، يَتَرَاحَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَتَكْمُلُ بِهَا رَحْمَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ بِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَبِهِمْ، وَقَدْ عَرَفَ هَذَا مِنْ تَارِيخِهِمْ أَشْهَرُ فَلَاسِفَةِ التَّارِيخِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: ((مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ)) فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّاسِ، بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقُرْآنِ. فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْكِتَابِ، الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَآلِ وَالْمَآبِ، وَلَا تُفَكِّرُونَ فِي آدَابِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَهِدَايَةِ نَوَامِيسِهِ وَسُنَنِهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، الَّتِي لَا يُمَارِي فِيهَا عَالِمٌ وَلَا يُكَابِرُ فِيهَا عَاقِلٌ؟ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ إِيذَاءً لَهُ وَصَدًّا عَنْ دَعْوَتِهِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا الطَّعْنَ عَلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ، وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالشُّرُورِ وَالْفُجُورِ، كَأَبِي سُفْيَانَ عِنْدَمَا سَأَلَهُ هِرَقْلُ قَيْصَرُ الرُّومِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَمَا سَأَلَهُ أَصْحَمَةُ نَجَاشِيُّ الْحَبَشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْجَاحِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ تَعْمِيمِ نَشْرِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ، وَقَبْلَ ظُهُورِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَرَبِ، وَمِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ فِي شُعُوبِ الْعَجَمِ، أَفَلَيْسَ مِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ أَنْ يُمَارِيَ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُصَدِّقُ مَا يَفْتَرِيهِ عَلَيْهِ دُعَاةُ الْكَنِيسَةِ وَرِجَالُ السِّيَاسَةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ وَهُمْ أَكْذَبُ الْبَشَرِ؟ ! . أَجْمَلَتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هَذَا الْإِصْلَاحَ الْقُرْآنِيَّ لِأَنْفُسِ الْبَشَرِ فِي أَرْبَعِ قَضَايَا أَوْ مَسَائِلَ نُكِّرْنَ فِي اللَّفْظِ لِتَعْظِيمِ أَمْرِهِنَّ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُنَّ نَوْعٌ خَاصٌّ لَمْ يَعْهَدِ النَّاسُ مِثْلَهُنَّ، فِي كَمَالِهِنَّ الْمَعْنَوِيِّ وَبَيَانِهِنَّ اللَّفْظِيِّ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ رَبِّكُمْ) لِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَزِيدُهَا تَعْظِيمًا، وَوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِهَا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ; لِأَنَّهَا مِنْ مَالِكِ أَمْرِ النَّاسِ وَمُرَبِّيهِمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. (الْأُولَى: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ) وَهِي اسْمٌ مِنَ الْوَعْظِ أَيِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَاجْتِنَابُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، بِأَسَالِيبِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ الَّتِي يَرِقُّ لَهَا الْقَلْبُ، فَتَبْعَثُ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (2: 231)

الْآيَةَ، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2: 232) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (3: 137 و138) وَيَلِيهِ الْكَلَامُ فِي الْجِهَادِ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) (4: 58) الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ وَسَيَأْتِي غَيْرُهُ مِمَّا يُفَسِّرُ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَوْعِظَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَارَى عَاقِلَانِ فِي حُسْنِهَا وَمَنْفَعَتِهَا لِلْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ؟ كَلَّا إِنَّهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. (الثَّانِيَةُ: شِفَاءُ مَا فِي الصُّدُورِ) أَيْ شِفَاءُ جَمِيعِ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَدْوَاءِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَشْعُرُ صَاحِبُهَا ذُو الضَّمِيرِ الْحَيِّ بِضِيقِ الصَّدْرِ، مِنْ شَكٍّ فِي الْإِيمَانِ، وَمُخَالَفَةٍ لِلْوِجْدَانِ، وَإِضْمَارٍ لِلْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَحُبٍّ لِلْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، وَبُغْضٍ لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ. قَالَ الرَّاغِبُ: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ حَيْثُمَا ذَكَرَ اللهُ الْقَلْبَ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ نَحْوُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) (50: 37) وَحَيْثُمَا ذَكَرَ الصَّدْرَ فَإِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ وَإِلَى سَائِرِ الْقُوَى مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْغَضَبِ وَنَحْوِهَا، وَقَوْلُهُ: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (20: 25) فَسُؤَالُ الْإِصْلَاحِ قَوَّاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (9: 14) إِشَارَةٌ إِلَى اشْتِفَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (22: 46) أَيِ الْعُقُولُ الَّتِي هِيَ مُنْدَسَّةٌ فِيمَا بَيْنَ سَائِرِ الْقُوَى وَلَيْسَتْ مُهْتَدِيَةً وَاللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصَّدْرَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقَلْبِ الْحِسِّيِّ الَّذِي فِيهِ وَعِلَاقَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْقَلْبِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ لِلنَّفْسِ كَالْقَلْبِ الْحِسِّيِّ لِلْبَدَنِ لِأَنَّهُ لُبُّهَا، وَمَرْكَزُ شُعُورِ مَدَارِكِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا، دُونَ الدِّمَاغِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَشْعُرُ بِمَا يَنْطَبِعُ فِيهِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ مِنَ انْشِرَاحٍ وَبَسْطٍ وَحَرَجٍ وَضِيقٍ وَقَبْضٍ، فَجَمِيعُ الْإِدْرَاكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ تُوصَفُ بِهَا الْقُلُوبُ حَقِيقَةً وَالصُّدُورُ مَجَازًا، وَتَكُونُ فَاعِلَةً وَمُفَعْوِلَةً وَصَفَاتٍ لِلْأَفْعَالِ الْعَامِلَةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعَقْلُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْحَكَمُ الصَّحِيحُ فِي بَعْضِ الْإِدْرَاكَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَمَرْكَزُهُ الدِّمَاغُ قَطْعًا، فَأَمْرَاضُ الصُّدُورِ وَالْقُلُوبِ تَشْمَلُ الْجَهْلَ وَسُوءَ الظَّنِّ، وَالشَّكَّ

فِي الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقَ، وَالْحِقْدَ وَالضَّغَنَ وَالْحَسَدَ، وَسُوءَ النِّيَّةِ وَخُبْثَ الطَّوِيَّةِ وَفَسَادَ السَّرِيرَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ شِفَاءَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي فَقَالَ: ((اقْرَأِ الْقُرْآنَ؛ يَقُولُ اللهُ: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) وَفِيهِ أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي الْغَالِبِ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ لَا بَدَنِيٌّ، قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ دِينِيًّا وَقَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا كَالْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِرَاءَةُ الْمُؤْمِنِ لِلْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (6: 125) وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (15: 97 - 99) وَالتَّسْبِيحُ بِحَمْدِ اللهِ وَالسُّجُودُ لَهُ وَعِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، كَمَا قَالَ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (39: 22) الْآيَةَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)) وَهُوَ عَلَى ضَعْفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قِيلَ إِذْ مَعْنَاهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، تَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُفِيدُكَ، إِذْ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الصُّدُورِ وَالْعَسَلَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الْبَدَنِ، فَهُوَ كَوَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ لِمَنْ شَكَا لَهُ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ ابْنِ أَخِيهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطِّبِّ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَسَلَ مُطَهِّرٌ طِبِّيٌّ وَمُضَادٌّ لِلْفَسَادِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْأَمْعَاءِ، وَكَذَا وَجَعُ الْحَلْقِ بِالْتِهَابِ اللَّوْزَتَيْنِ وَنَحْوِهِ وَالْعَسَلُ مُطَهِّرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ تَنْكِيرَ الشِّفَاءِ فِي آيَةِ الْعَسَلِ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ لَا الْعُمُومِ. عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ تُفِيدُ فِي شِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الرَّاقِي قَوِيَّ الْإِيمَانِ وَالْمَرْقِيُّ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. (الثَّالِثَةُ: الْهُدَى) وَهُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الْمُنْقِذُ مِنَ الضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي الْعَمَلِ بِبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَا فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَأَنْوَاعِهِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

(الرَّابِعَةُ: الرَّحْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ) وَهِيَ مَا تُثْمِرُهُ لَهُمْ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ وَتُفِيضُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمُ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ مِنْ آثَارِهَا إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الظُّلْمِ، وَمَنْعُ التَّعَدِّي وَالْبَغْيِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ، وَمُقَاوَمَةِ الشَّرِّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (48: 29) وَبِقَوْلِهِ: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (90: 17) . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَالْمَوْعِظَةُ: التَّعَالِيمُ الَّتِي تُشْعِرُ النَّفْسَ بِنَقْصِهَا وَخَطَرِ أَمْرَاضِهَا الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ، وَتُزْعِجُهَا إِلَى مُدَاوَاتِهَا وَطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهَا، وَالشِّفَاءُ تَخْلِيَةٌ يُتْبِعُهَا طَلَبُ التَّحْلِيَةِ بِالصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ، وَالْعَافِيَةُ التَّامَّةُ، وَهُوَ الْهُدَى، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا تُوجَدُ عَلَى كَمَالِهَا إِلَّا فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ، وَلَا يُحَرِّمُهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ الْمَادِّيُّونَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ، يَجْعَلُ صَاحِبَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ، وَمَا هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَفَلْسَفَةِ الْكُفْرِ، فَلَقَدْ كَانَ أَشْجَعُ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، أَرْحَمَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ عَطْفًا، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 128) بَلْ جَعَلَهُ عَيْنَ الرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (21: 107) وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَتَّى كَانَ مَنْ يُوصَفُ بِالشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَارَ مِنْ أَرْحَمِ النَّاسِ وَسِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ وَهُوَ وَفِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ طِفْلٍ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، أَيِ اخْتَصَرَ وَخَفَّفَ رَحْمَةً بِهِ وَبِأُمِّهِ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرَّ بِصَفِيَّةَ وَبِابْنَةِ عَمٍّ لَهَا عَلَى قَتْلَى قَوْمِهِمَا الْيَهُودِ بَعْدَ انْتِهَاءِ غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ فَصَكَّتِ ابْنَةُ عَمِّهَا وَجْهَهَا وَحَثَتْ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَهِيَ تَصِيحُ وَتَبْكِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: ((أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا)) وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُقَبِّلُونَ أَوْلَادَكُمْ وَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ: ((أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. بَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِالْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ، وَطَالَمَا أَوْصَى بِهَا وَلَا سِيَّمَا صِغَارِهَا وَأُمَّهَاتِهَا. جَاءَهُ مَرَّةً رَجُلٌ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُكَ أَقْبَلْتَ، فَمَرَرْتُ بِغَيْطَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعَتْهُنَّ فِي كِسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي وَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهَا مَعَهُنَّ بِكِسَائِي فَهُنَّ أُولَاءِ مَعِي، فَقَالَ: ((ضَعْهُنَّ (قَالَ) فَفَعَلْتُ فَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا

58

لُزُومَهُنَّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَتَعْجَبُونَ لِرَحْمَةِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ، وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ)) ، فَرَجَعَ بِهِنَّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَوَى مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا حَدِيثَيْنِ خُلَاصَتُهُمَا أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَلِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَأَى كَلْبًا قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ فَرَحِمَهُ وَأَخْرَجَ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ بِخُفِّهِ فَسَقَاهُ، قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ)) . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ أُسْتَاذِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْمَحَاسِنِ الْقَاوَقْجِيِّ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فِيهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) - وَفِي رِوَايَةٍ - وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (15: 49، 50) وَيَقُولُ: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (12: 87) وَيَقُولُ: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (7: 99) وَمَا دَامَ الْمُؤْمِنُ حَيًّا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللهَ خَوْفًا يُرْهِبُهُ وَيَزْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَأَنْ يَرْجُوَهُ رَجَاءً يُرَغِّبُهُ فِي ثَوَابِهِ وَمَا يُرْضِيهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ مَجْهُولٌ لَنَا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذْلِيِّ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ: ((وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ، فَآمِنْ خَوْفَنَا، وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا)) اللهُمَّ آمِينْ. خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُمْ جَمِيعُ النَّاسِ، فَمَوْعِظَةُ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ شِفَاءٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالرَّذَائِلِ، وَهُدَاهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ مُوَجَّهَاتٌ إِلَى الْجَمِيعِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تُثْمِرُهُ الثَّلَاثُ مِنَ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُبَلِّغَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَبِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ كُلَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ مَقَاصِدِ تَشْرِيعِهِ فَقَالَ: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) فَضْلُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ عَظِيمٌ وَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَعْظَمُ، وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَهُمْ وَبِهِمْ وَاسِعَةٌ، وَرَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْسَعُ، وَبِكُلٍّ

مِنَ النَّوْعَيْنِ نَطَقَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ مَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْجَمْعِ لَهُمْ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي آيَاتٍ، وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (24: 21) وَإِنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفَرَحِ بِهِ فَهُوَ يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((فَضْلُ اللهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ)) وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ (إِحْدَاهُمَا) إِنَّ فَضَلَّ اللهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتَهُ: الْإِسْلَامُ وَ (الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْفَضْلَ: الْعِلْمُ، وَالرَّحْمَةَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ، فَضْلُ اللهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا فِي رِوَايَتِهَا. وَأَظْهَرُهَا فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ لِمَعَانِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، أَنَّ فَضْلَ اللهِ: تَوْفِيقُهُ إِيَّاهُمْ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالشِّفَاءِ وَالْهُدَى الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ ثَمَرَتُهَا الَّتِي فَضَلُوا بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ فَكَانُوا أَرْحَمَهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَلَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ بِالْبَرِّ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَأَمْرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ حَتَّى فِي الْمُحَارِبِينَ لَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ شَرَّهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَقْصِدِ الثَّامِنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّنَاسُبِ لَقُلْتُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (2: 143) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (30: 110) الْآيَةَ وَلَكِنْ مَا قَلْتُهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَيُوَافِقُهُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَالْفَرَحُ كَالسُّرُورِ: انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ بِنِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ يَلَذُّ الْقَلْبَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ وَضِدَّهُمَا الْأَسَى وَالْحُزْنُ وَهُمَا مِنَ الْوِجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ لَا يُمْدَحَانِ وَلَا يُذُمَّانِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ حُكْمُهُمَا حُكْمُ سَبَبِهِمَا أَوْ أَثَرِهِمَا فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهِمَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (30: 4، 5) وَهَذَا فَرَحٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا) (30: 36) وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (13: 36) الْآيَةَ. وَذَمَّ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ بِالْبَاطِلِ وَفَرَحَ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ بِالْمَالِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مَعْرُوفَةٍ. وَجَعَلَ الِاعْتِدَالَ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْأَسَى وَالْحُزْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَرْبِيَتِهِمْ بِالْمَصَائِبِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (57: 23)

وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْحُزْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ (9: 40) ، (369 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) . وَالتَّعْبِيرُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى بِدُونِهِمَا: قُلْ لِيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَأَخَّرَ الْأَمْرَ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقَهُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ فَهُوَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ((الْفَاءَ)) لِإِفَادَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ فَصَارَ فِيهِمَا ((فَلْيَفْرَحُوا)) دُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمُبَيَّنِ فِي آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَى الْأَمْرِ (فَبِذَلِكَ) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَفْصِيلِ مَبَاحِثِهِ فِي الْإِعْرَابِ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْنَا، وَبَسْطُهُ يُشْغِلُ عَنِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ. ثُمَّ قَالَ: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أَيْ أَنَّ الْفَرَحَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِهِمَا لَا لِأَنَّهُ سَبَبُ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، كَمَا اشْتُهِرَ فِيمَا خَطَّتْهُ الْأَقْلَامُ وَلَاكَتْهُ الْأَلْسِنَةُ، بَلْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ إِذْ كَانَتْ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ سَبَبًا لِمَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ، وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، مَعَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِزِّ الْكَبِيرِ، فَلَمَّا صَارَ جَمْعُ الْمَالِ وَمَتَاعُ الدُّنْيَا وَفَرَحُ الْبَطَرِ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ لَهُمْ بِالذَّاتِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ الدِّينِ فِي إِنْفَاقِهِ وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ، ذَهَبَتْ دُنْيَاهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضِلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، تَعْزِيزًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَدَفْعِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ التَّشْرِيعِ الْعَمَلِيِّ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ،

59

وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَرْزَاقِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْخَلْقُ الْإِبَاحَةَ، وَقَاعِدَةِ كَوْنِ انْتِحَالِ الْعَبِيدِ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِرَبِّهِمُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ وَكُفْرًا بِهِ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ أَشَدَّ عِقَابِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا لِهَذَا الْقُرْآنِ عَنْهُ تَعَالَى، مُؤَكَّدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى صِدْقِهِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللهِ الْمُعْجِزَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أَيْ أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْجَاحِدُونَ لِلْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ (مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أَيْ هَذَا الَّذِي أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ سَمَاءِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ رِزْقٍ تَعِيشُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَكُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (39: 6) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (57: 25) - (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِهِ لِمَنْفَعَتِكُمْ أَنْ جَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَبَعْضَهُ حَلَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا) (6: 136 - 150) الْآيَاتِ وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (5: 103) أَيْ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَقَالَ هُنَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَمُدَّتْ هَمْزَتُهُ لِدُخُولِهَا عَلَى أَلْفِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ أَنْ يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلَّ لَهُمْ إِلَّا رَبُّهُمُ اللهُ، فَهَلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَذِنَ لَكُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ؟ (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ أَيْ لَا مَنْدُوحَةَ لَكُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا دَعْوَى الْإِذْنِ مِنَ اللهِ لَكُمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْوَحْيِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ وَتُلِحُّونَ وَتَلِجُّونَ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ؟ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُكُمْ بِإِنْكَارِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ ((أَمْ)) مُتَّصِلَةً، فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَأَصْلُ الْفَرْيِ قَطْعُ الْجِلْدِ لِمَصْلَحَةٍ وَالِافْتِرَاءُ تَكَلُّفُهُ وَغَلَبَ فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا لِمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ إِتْقَانٍ، كَبَعْضِ فُقَهَاءِ هَذَا الزَّمَانِ، وَقَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ أَنْكَرَ اللهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا اهـ. وَنَحْنُ نَقُولُ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا

لِمَنْ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى بِنَصِّ كِتَابِهِ، كَالتَّحْرِيمِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، أَوْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ غَيْرِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ: لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ فِي شَيْءٍ إِنَّهُ حَرَامٌ إِلَّا مَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللهِ بِلَا تَفْسِيرٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوَاعِدُ أَشَرْنَا إِلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا: (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْزَاقِ نَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يُحَرِّمُونَ أَكَلَ اللُّحُومَ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا شُبْهَتَانِ: (الشُّبْهَةُ الْأُولَى) قَدِيمَةٌ وَهِيَ زَعْمُهُمْ أَنِّ أَكْلَ لَحْمِ الْحَيَوَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَذْكِيَتِهِ بِالذَّبْحِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ تَعْذِيبٌ مُسْتَقْبَحٌ عَقْلًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَهْلٌ، فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ تَعْذِيبًا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَهْوَنَ مِنْ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ كَافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ تَرَدٍّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوِ انْخِنَاقٍ بَيْنَ شَجَرَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ نِطَاحٍ، أَوْ وَقْذِ رَاعٍ قَاسٍ أَوْ مُتَعَدٍّ آخَرَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ (5: 3) أَكْلَ مَا مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَالَّذِي يَمُوتُ حَتْفِ أَنْفِهِ وَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَعْذِيبِ أَيِّ ذِي رُوحٍ وَحَثَّ عَلَى رَحْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالذَّبْحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُؤْلِمُ الْحَيَوَانَ إِلَّا لَحْظَةً قَصِيرَةً، وَالْحَيَوَانَاتُ لَا تَشْعُرُ بِالْأَلَمِ بِقَدْرِ مَا يَشْعُرُ بِهِ الْبَشَرُ كَمَا قَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ. (الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) حَادِثَةٌ وَهِيَ مَا يَزْعُمُهُ النَّبَاتِيُّونَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَغْذِيَةَ النَّبَاتِيَّةَ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ مِنْ كَوْنِ أَكْلِ اللُّحُومِ ضَارًّا لِلنَّاسِ، وَجَوَابُنَا عَنْهَا أَنَّهُمْ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ يَضُرُّ كُلَّ آكِلٍ مِنْهُمْ مُطْلَقًا فَهَذَا زَعْمٌ تُبْطِلُهُ التَّجَارِبُ وَيُنْكِرُهُ أَكْثَرُ أَطِبَّاءِ الْعَالَمِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَضُرُّ بَعْضَهُمْ كَأَصْحَابِ أَمْرَاضِ التَّرَفِ وَضِعَافِ الْمَعِدَةِ (كَالرَّئْيَةِ وَالنِّقْرِسِ) فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِالْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي الْمَضَارِّ الْحَظْرُ، وَمِنْهُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ) أَنَّ تَشْرِيعَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الدِّينِيِّ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّ جَعْلَهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ بِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ.

60

(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ وَسَخَّرَهُ لَنَا مِنْ سَائِرِ مَنَافِعِ الْكَوْنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالرِّزْقِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَحْوَى، وَبِنَاءُ الْمِنَّةِ فِيهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2: 29) . (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَرِيمَةَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ اخْتِلَاقُهُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهِ مُشِيرًا إِلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَشَدَّةِ عِقَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِغَيْرِ عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ تَعَمُّدُهُ فِي حَقٍّ خَاصٍّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ نِزَاعٌ لَهُ فِيهَا وَشِرْكٌ بِهِ، كَمَا قَالَ: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (42: 21) الْآيَةَ. فَوَيْلٌ لِلْمُعَمِّمِينَ مِنْ جُهَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (16: 116، 117) . (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ بِمَفْهُومِهِ تَعْلِيلًا لِمَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهَا مِنْ عِقَابِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ عَدْلًا اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا ظُلْمًا مِنْهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ فَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَشَدَّ التَّوْكِيدِ، فَأَفَادَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لَهُمْ إِذَا قَابَلُوا أَكْبَرَ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، بِأَشَدِّ الْكُفْرِ وَأَنْكَرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَغْرَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ. وَالْمَعْنَى: تَاللهِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَكُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الْإِبَاحَةَ وَجَعَلَ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِكَيْلَا يَتَحَكَّمَ فِيهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ - بَرَاءَةٌ - وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَلِهَذَا أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَكَانَ تَرْكُهُ أَضَرَّ مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَحَصَرَ أُصُولَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ: (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (6: 145) وَفَصَّلَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 3) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجِبُ، كَمَا قَالَ: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (34: 13) فَيَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْغُلُوِّ فِي الزُّهْدِ، وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْأَكْلِ

61

وَالشُّرْبِ، وَزِينَةِ اللِّبَاسِ، ابْتِغَاءَ الشُّهْرَةِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْرِيمُهُ تَعَبُّدًا وَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالْوَسَطِ وَالِاعْتِدَالِ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) (65: 7) الْآيَةَ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي الْحَوْصِ، وَهُوَ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مَالٌ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((مِنْ أَيِّ الْمَالِ)) ؟ قُلْتُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ فَقَالَ: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيَرَ عَلَيْكَ)) الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْهُ: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتُهُ)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ مَرْفُوعًا: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهُ عَلَى عَبْدِهِ حَسَنًا، وَلَا يُحِبُّ الْبُؤْسَ وَلَا التَّبَاؤُسَ)) وَالشُّكْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ بِحَسْبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، وَهِيَ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَلِعِبَادِهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ، وَمُوَافَقَةِ سُنَنِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الصَّبْرُ، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِي حَالِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ وَالِابْتِلَاءِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ وَيُضَادُّ الشُّكْرَ الْكُفْرُ وَهُوَ قِسْمَانِ: كُفْرُ النِّعَمِ، وَكُفْرُ الْمُنْعِمِ، وَأَنْصَحُ لِلْقَارِئِ أَنْ يُطَالِعَ كِتَابَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ إِحْيَاءِ الْعُلُومِ لِلْغَزَالِيِّ. (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، وَبِكَوْنِ أَكْثَرِهِمْ لَا يَشْكُرُونَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ - عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَبِكُلِّ مَا فِي الْعَوَالِمِ عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا، لِيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبَدَأَ بِخِطَابِ أَعْظَمِهِمْ شَأْنًا فِي أَعْظَمِ شُئُونِهِ فَقَالَ: وَمَا تَكُونُ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي شَأْنٍ أَيْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ الْمُهِمَّةِ الْخَاصَّةِ بِكَ أَوِ الْعَامَّةِ

الَّتِي تُعَالِجُ بِهَا أَمْرَ الْأُمَّةِ)) فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، إِنْذَارًا وَتَبْشِيرًا، وَتَعْلِيمًا وَعَمَلًا: (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ أُنْزِلَ عَلَيْكَ، تَعَبُّدًا بِهِ أَوْ تَبْلِيغًا لَهُ، فَـ ((مِنْ)) الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لِلْكِتَابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ بَلِ السُّورَةَ كُلَّهَا فِيهِ، وَإِضْمَارُهُ قَبْلَ الذِّكْرِ ثُمَّ بَيَانُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَقِيلَ لِلَّهِ، لِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَالتَّعْبِيرُ فِي خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّأْنِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ أَوْ ذُو الْبَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أُمُورِهِ وَأَعْمَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عَظِيمَةً حَتَّى الْعَادَاتِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِيهَا كُلِّهَا (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي كُلِّ شُئُونِهَا وَأَعْمَالِهَا، بَعْدَ خِطَابِ رَأْسِهَا وَسَيِّدِهَا فِي أَخَصِّ شُئُونِهِ وَأَعْلَاهَا، فَتُذَكِّرُكَ الْآيَةُ فِي أَخْصَرِ الْأَلْفَاظِ وَأَقْصَرِهَا بِأَفْضَلِ مَا أَتَاكَ اللهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَنِعْمَةٍ، وَتَنْتَقِلُ بِكَ إِلَى كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُهُ مِنْ شُكْرٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ كَمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ. (عَمَلٍ) نَكِرَةً مَنْفِيَّةً يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَدُخُولَ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ يُؤَكِّدُ هَذَا الْعُمُومَ، فَيَشْمَلُ أَدَقَّ الْأَعْمَالِ وَأَحْقَرَهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (99: 7، 8) (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) أَيْ رُقَبَاءَ مُطَّلِعِينَ عَلَيْكُمْ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَخُوضُونَ وَتَنْدَفِعُونَ فِيهِ، فَنَحْفَظُهُ لِنَجْزِيَكُمْ بِهِ، وَأَصْلُ الْإِفَاضَةِ فِي الشَّيْءِ أَوْ مِنَ الْمَكَانِ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِقُوَّةٍ أَوْ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ (2: 198) (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أَيْ وَمَا يَبَعْدُ عَنْهُ وَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يَعْزُبُ)) بِضَمِّ الزَّايِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهَا - وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَبَ الرَّجُلُ يَعْزُبُ بِإِبِلِهِ، أَيْ يَبَعْدُ وَيَغِيبُ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ الْعَازِبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِفَلَاةٍ بَعِيدَةٍ حَيْثُ لَا زَرْعَ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُنْفَرِدٌ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ أَيْ مُنْفَرِدٌ لَا زَوْجَ لَهُ أَوْ لَهَا وَيُقَالُ: أَمِرْأَةٌ عَزَبَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي أَعْزَبَ وَعَزْبَاءَ. وَنَفِيُ عُزُوبِ الشَّيْءِ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْخَفَاءِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ فِي الْعَمَلِ أَخَصُّ مِنْ إِتْيَانِهِ مُطْلَقًا، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ اللَّفْظِ الْأَعَمِّ مِنْهَا، هِيَ أَنَّ مَا يَفِيضُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مُهْتَمًّا بِهِ مُنْدَفِعًا فِيهِ جَدِيرٌ بِأَلَّا يَنْسَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ فِيهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ، فَاللَّفْظُ يُذَكِّرُهُ بِهِ تَذْكِيرًا مُنَبِّهًا مُؤَثِّرًا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ (يَعْزُبُ) الدَّالُّ عَلَى الْخَفَاءِ وَالْبَعْدِ مَعًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَبْعُدَ وَيَخْفَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، أَيْ أَقَلُّ شَيْءٍ يَبْلُغُ وَزْنُهُ ثِقَلَ ذَرَّةٍ وَهِي النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالْخِفَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقَةِ مِنَ الْهَبَاءِ وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي لَا يُرَى إِلَّا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى إِلَى الْبُيُوتِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْوُجُودِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ أَهْلِهَا وَأَخَّرَهُ فِي آيَةِ سَبَأٍ (34: 3) وَقَدَّمَ السَّمَاءَ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَوَصَفَهُ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ، فَإِنَّ فِيهَا مِنَ الشُّمُوسِ وَعَوَالِمِهَا مَا يَبْعُدُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ مَسَافَةَ أُلُوفِ

الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي تُقَدَّرُ أَبْعَادُهَا بِسُرْعَةِ النُّورِ، كَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ هَذَا الْعَصْرِ (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ قَائِمٌ بِرَأْسِهِ، مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِتَعْبِيرٍ أَدَقَّ وَأَشْمَلَ وَ (لَا) فِيهِ نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَيْ وَلَا شَيْءَ أَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ وَهُوَ مَا لَا تُبْصِرُونَهُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) (69: 38 و39) وَلَا أَكْبَرَ مِنْهَا وَإِنْ عَظُمَ مِقْدَارُهُ كَعَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِـ ((أَصْغُرُ)) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَخْفَى تَوْجِيهُهُ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى أَهْلِهِ. قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَكْبَرَ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَكَوْنِ الْأَكْبَرِ لَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْغَرَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ إِلَّا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَمَحْصِيٌّ عِنْدَهُ وَمَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ تَامِّ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَقَادِيرُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إِكْمَالًا لِلنِّظَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ فِي تَفْسِيرِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (6: 59) الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 381 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا تُدْرِكُهَا الْأَبْصَارُ، وَقَدْ رُؤِيَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْآلَاتِ الَّتِي تُكَبِّرُ الْمَرْئِيَّاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ حِكْمَتُهَا لِلنَّاسِ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَتَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِمَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ. (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ سَعَةَ عِلْمِهِ، وَمُرَاقَبَتَهُ لِعِبَادِهِ، وَإِحْصَاءَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَكَّرَهُمْ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَالَ الشَّاكِرِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ) افْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِكَلِمَةِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهِ الْفِكْرِ لَهَا، وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ وَلِيٍّ وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْوَلَاءِ وَالتَّوَالِي، وَمِنَ الْوِلَايَةِ وَالتَّوَلِّي، فَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِالنَّسَبِ وَبِالْمَكَانَةِ وَالصَّدَاقَةِ، وَعَلَى النَّصِيرِ، وَالْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالْحُكْمِ أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ وَالْقَاصِرِ الْمُدَبِّرُ لِشُئُونِهِ، وَيُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ وَالرَّبُّ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (2: 257) وَفَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِهِ

62

بِمَا بَيَّنَّا بِهِ وِلَايَةَ اللهِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ لِعِبَادِهِ، وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، أَوْ لِلشَّيْطَانِ وَالطَّاغُوتِ، وَوِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَضَلَالِ بَعْضِهِمْ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةَ بِهِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ، (وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ اللهِ بِمَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا اللَّقَبِ، وَذَكَرْنَا فِي شَوَاهِدِ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ. أَوْلِيَاءُ اللهِ أَضْدَادُ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَالْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَعْلَاهُمْ دَرَجَةً هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُبِّهِ وَالْحُبِّ فِيهِ، وَالْوِلَايَةِ لَهُ، فَلَا يَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِ، وَلَا يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَلَا وَكِيلًا وَلَا نَصِيرًا فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ تَوْفِيقِهِمْ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَيَتَوَلَّوْنَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (6: 51) وَقَالَ: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (32: 4) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (33: 17) وَقَالَ فِي آيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنْهَا: (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) (33: 3، 48) وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي تَوَلِّيهِمْ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَتَوَلِّيهِ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ. وَحَسْبُنَا هُنَا مَا نَفَاهُ عَنْهُمْ وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ ثُمَّ مَا زَفَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ، فَأَمَّا مَا نَفَاهُ مُخْبِرًا بِهِ عَنْهُمْ فَقَوْلُهُ: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وَهُوَ مَا نَفَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَالْمُصْلِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ (رَاجِعْ 2: 62، 5: 69 و6: 48، 7: 35، 49 وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا) فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ هَذَا عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فَلَا خَوْفَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ وَيُرْهَقُونَ بِهِ مِمَّا يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالظَّالِمُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ جَهَنَّمَ: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (21: 103) الْآيَةَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوا وَرَاءَهُمْ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَخَافُونَ مِمَّا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَعَبِيدِ الدُّنْيَا مِنْ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ كَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، قَالَ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (3: 175) أَوْ بَخْسٍ فِي الْحُقُوقِ أَوْ رَهَقٍ يَغْشَاهُمْ بِالظُّلْمِ وَالذُّلِّ، قَالَ: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) (72: 13) (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ ذَهَابِ مَحْبُوبٍ وَقَعَ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ: (لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) (57: 23) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ فِي الدُّنْيَا كَخَوْفِ الْكُفَّارِ وَلَا يَحْزَنُونَ كَحُزْنِهِمْ، وَسَنَذْكُرُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا أَصْلُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَهُوَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ أَصْبَرَ النَّاسِ وَأَرْضَاهُمْ بِسُنَنِ اللهِ، اعْتِقَادًا وَعِلْمًا بِأَنَّهُ إِذَا ابْتَلَاهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخِيفُ أَوْ يُحْزِنُ فَإِنَّمَا يُرَبِّيهِمْ بِذَلِكَ لِتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ وَتَمْحِيصِهَا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي يَزْدَادُ بِهِ أَجْرُهُمْ كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.

63

وَأَمَّا مَا وَصَفَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ بِهِ فَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ النَّفْسِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ. أَيْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَلَكَةِ التَّقْوَى لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَمَلٍ. وَعَبَّرَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا بِالْيَقِينِ، لَمْ يُزَلْزِلْهُ شَكٌّ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَنْ تَقْوَاهُمْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ التَّقْوَى تَتَجَدَّدُ دَائِمًا بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهَا: مِنْ كَسْبٍ وَحَرْبٍ، وَشَهْوَةٍ وَغَضَبٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِيهَا أَنَّهَا اتِّقَاءُ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، وَاتِّقَاءِ مُخَالَفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَسِيَادَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَهَمِّهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (8: 29) . وَأَمَّا الْبُشْرَى الَّتِي زَفَّهَا إِلَيْهِمْ فَهِيَ قَوْلُهُ: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الْبُشْرَى: الْخَبَرُ السَّارُّ الَّذِي تَنْبَسِطُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ فَيَتَهَلَّلُ وَتَبْرُقُ أَسَارِيرُهُ. وَهَذِهِ الْبُشْرَى مُبَيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا الَّذِي يُبَشَّرُونَ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا بُشِّرُوا بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَهُمُّهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّصْرِ، وَبِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَبِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ وَسُنَنَهُ، وَنَصَرُوا دِينَهُ وَأَعْلَوْا كَلِمَتَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمِنْ أَكْمَلِهَا وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْآيَةِ لِأَكْمَلِهِمْ قَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (41: 30 - 32) الْمَشْهُورُ فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِهِ لِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (8: 10) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (8: 12) وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ إِلْهَامُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيِّ ((إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلِكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَيَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) . (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) أَيْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْبُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَوْزٌ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَالتَّقْوَى الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ.

مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْأَوْلِيَاءِ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَأَقْرَبُ مَا رَوَوْهُ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأَوْلِيَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ)) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ ((هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ)) ثُمَّ قَرَأَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (62) أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرٍ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِ سَنَدِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي زُرْعَةَ وَعَمْرٍو، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ وَمَا كُلُّ مَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ بِصَحِيحٍ، وَمَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ: إِنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ شَيْطَانِيٌّ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا ((يَأْتِي مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ قَوْمٌ لَمْ تَتَّصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ، وَتَصَافَوْا فِي اللهِ، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) وَالْحَدِيثُ مُطَوَّلٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ لَهُمْ أَهْوَنُهُ مَا اكْتَفَى بِهِ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ وَهُوَ أَنَّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَذَكَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ مِمَّا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ يَرْوِي الْمُنْكَرَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ سَاقِطٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ضَعِيفٌ جِدًّا. وَوَرَدَ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ مَرْفُوعَةٍ وَآثَارٌ فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ. وَعَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِآيَةِ ((حَمِ)) السَّجْدَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا مَعَ تَفْسِيرِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِمْ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ أَوْلِيَاءَ اللهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِيٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ. فَهَذِهِ خُلَاصَةُ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ. وَإِنَّنَا لَمْ نَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَوْلِيَاءِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ إِلَى

كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَدِيثَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ)) إِلَخْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ غَرَابَةٌ كَمَتْنِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، خَرَّجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ وَلَيْسَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ الْقَطْوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَهُ مَنَاكِيرُ (ثُمَّ قَالَ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَخْلُو كُلُّهَا مِنْ مَقَالٍ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ اخْتِلَافًا فِي أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي خَالِدٍ، وَمِنْهُ تَصْرِيحُ جَمَاعَةٍ بِرِوَايَتِهِ لِلْمَنَاكِيرِ وَمِنْهُ: فِي (الْمِيزَانِ) لِلذَّهَبِيِّ قَالَ: أَبُو حَاتِمٍ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: فِي حَدِيثِهِ بَعْضُ الْمَنَاكِيرِ وَهُوَ عِنْدَنَا فِي عِدَادِ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ: كَانَ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ مُتَشَيِّعًا مُفْرِطًا فِي التَّشَيُّعِ وَكَتَبُوا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْجُرْحِ وَغَيْرَهُ فِي مُقَدِّمَةِ (فَتْحِ الْبَارِي) وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ التَّشَيُّعَ لَا يَضُرُّ مِثْلَهُ، وَأَمَّا الْمَنَاكِيرُ فَقَدْ تَتَبَّعَهَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِهِ وَأَوْرَدَهَا فِي كَامِلِهِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا أَخْرَجَهُ لَهُ الْبُخَارِيُّ (قَالَ) بَلْ لَمْ أَرَ لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) الْحَدِيثَ اهـ. (أَقُولُ) وَأَمَّا الْغَرَابَةُ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) إِلَى آخَرِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ وَبَيَّنْتُ أَمْثِلَةَ تَأْوِيلٍ لَهُ عِنْدِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَفْسِيرِ (9: 24 ص 214 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَرَاجِعْهُ يُغْنِكَ عَنْ ذِكْرِهِ كُلِّهِ هُنَا. (أَوْلِيَاءُ الْخَيَالِ وَأَوْلِيَاءُ الطَّاغُوتِ وَالشَّيْطَانِ) ذَلِكَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَتَيْنِ بِشَوَاهِدَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْقُرْآنُ خَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَصَحُّهُ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ وَخَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعَزَّرْنَاهُ بِأَمْثَلِ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِيهِمَا، فَأَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ يَشْهَدُ لَهُمْ كِتَابُهُ بِالْوِلَايَةِ لَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ عَالَمٌ خَيَالِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لَهُمْ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَوْقَ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللهِ وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ الصَّادِقَةِ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُرْسَلِينَ، بَلْ فَوْقَ كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ جَمِيعُ الْوَثَنِيِّينَ آلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَيَنْقُلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعَاوَى عَنْ بَعْضِ مَنِ اشْتُهِرُوا بِالْوِلَايَةِ مِمَّنْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي التَّارِيخِ، وَمَنْ لَا ذِكْرَ لَهُمْ إِلَّا فِي كُتُبِ الْأَدْعِيَاءِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِهِمْ، مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الطَّرِيقِ، يَنْقُلُونَ عَنْهُمْ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَزَاعِمَهُمُ الْخُرَافِيَّةَ الشِّرْكِيَّةَ كَمَا تَرَى فِيمَا نَنْقُلُهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ: وَلَئِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَحَدِيثِ نَبِيِّهِمْ مُفَسِّرٌ أَوْ مُحَدِّثٌ

لَيَقُولُنَّ هَذَا ضَالٌّ مُضِلٌّ مُنْكِرٌ لِلْكَرَامَاتِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَقَرَءُوا عَلَيْهِ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (62) وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2: 62) وَغَيْرِهِ مِمَّا أَوْرَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ آنِفًا، نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ دَرَجَاتٌ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَفْسِيرِ (9: 24) . هَذِهِ الْوِلَايَةِ الْخَيَالِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ مِنْ مُحْدَثَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَلْبَسُوهَا أَوَّلًا ثَوْبَ الشَّرِيعَةِ وَجَعَلُوا لِلشَّرِيعَةِ مُقَابِلًا سَمَّوْهُ الْحَقِيقَةَ، ثُمَّ صَارُوا يُلْبِسُونَهَا عَلَيْهَا لَبْسًا، وَيَبْعُدُونَ بِهَا عَنْهَا مَعْنًى وَحِسًّا بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَيُوغِلُونَ فِي الِابْتِدَاعِ، وَاعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ بِسِيرَةِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِينَ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ وَالسَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وَمَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالْجُنَيْدِ وَالشِّبْلِيِّ وَجُمْهُورِ رِجَالِ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ، وَمِثْلِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ وَسِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ قَدْ رَوَوُا الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الِاعْتِصَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْذَرُونَ وَيُحَذِّرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْبِدَعِ، وَيَحُثُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ كَالْأَرْبَعَةِ وَطَبَقَتِهِمْ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غُلَاةِ مُتَصَوِّفَةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالدَّجَّالِينَ أَصْحَابِ الدَّعَاوَى الْعَرِيضَةِ وَالْخُرَافَاتِ الشَّنِيعَةِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صُوفِيَّةِ الْبُرْهُمِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكِتَابِهِمُ (الْفِيدَا) وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ. أَمْرِرْ بِبَصَرِكَ عَلَى طَبَقَاتِ الشَّعَرَانِيِّ الْكُبْرَى، فَإِنَّكَ لَا تَرَى فِيهَا فَرْقًا كَبِيرًا بَيْنَ سِيرَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَأَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ انْظُرْ فِي سِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى ثُمَّ قَرْنِ الْمُؤَلِّفِ وَهُوَ الْعَاشِرُ وَتَأَمَّلْ وَوَازِنْ تَرَ فِي أَوْلِيَاءِ الشَّعَرَانِيِّ الْمَجَانِينَ وَالْمُجَّانَ وَالْقَذِرِينَ الَّذِينَ تَتَنَاثَرُ الْحَشَرَاتُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ وَثِيَابِهِمُ الَّتِي لَا يَغْسِلُونَهَا حَتَّى تَبْلَى أَوْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً تَجِدْ ذَلِكَ الْبَوْنَ الشَّاسِعَ فِيهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الِاتِّحَادَ بِاللهِ أَوِ الْأُلُوهِيَّةَ. تَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ فِي تَرْجَمَةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعُ النَّاسَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ إِلَّا الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيَّ، وَتَجِدُ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُوَبِّخُهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ، وَيُخَاطِبُونَهُ بِلَقَبِ الدَّجَّالِ وَيَرْمُونَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَأَمَّا الدُّسُوقِيُّ فَكَتَبَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعَجَمِيِّ وَالسُّرْيَانِيِّ وَالْعِبْرَانِيِّ وَالزَّنْجِيِّ وَسَائِرِ لُغَاتِ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ كِتَابًا مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ أَرْسَلَهُ إِلَى أَحَدِ مُرِيدِيهِ، وَهُوَ خَلْطٌ مُخْتَرَعٌ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ وَسَلَامًا مِثْلَهُ أَرْسَلَهُ مَعَ أَحَدِ الْحُجَّاجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مِنْهُ قَوْلُهُ: ((موز الرموز، عموز النهوز، سلاحات أفق، فردنانية امق، شوامق اليرامق حيد وفرقيد وفرغاط الْأَسْبَاط، إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلنَّاسِ فِيهِ؟ . وَنَقَلَ عَنْهُ كَلَامًا مِنَ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، فَمِنَ الْحَقِّ النَّافِعِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ الْأَحْوَالُ لَمَا قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا صَحِيحَ الْمَأْثُورِ، وَمِنَ الضَّارِّ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ بِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ دِينَهُمْ وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُنَاجَاتِهِ، أَنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَمَلَاتِهِ أَنَا كُلُّ وَلِيٍّ فِي الْأَرْضِ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ، أُلْبِسُ مِنْهُمْ مَنْ شِئْتُ، أَنَا فِي السَّمَاءِ شَاهَدْتُ رَبِّي وَعَلَى الْكُرْسِيِّ خَاطَبْتُهُ أَنَا بِيَدِيَّ أَبْوَابُ النَّارِ غَلَّقْتُهَا، وَبِيَدِيَّ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ فَتَّحْتُهَا، مَنْ زَارَنِي أَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (وَاعْلَمْ يَا وَلَدِي أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مُتَّصِلُونَ بِاللهِ، وَمَا كَانَ وَلِيٌّ مُتَّصِلٌ بِاللهِ إِلَّا وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ كَمَا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَمَا مِنْ وَلِيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَحْمِلُ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ أَشْيَاخًا فِي الْأَزَلِ، بَيْنَ يَدَيْ قَدِيمِ الْأَزَلِ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَنِي مِنْ نُورِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَنِي أَنْ أَخْلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ بِيَدِي فَخَلَعْتُ عَلَيْهِمْ بِيَدِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَقِيبٌ عَلَيْهِمْ فَكُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخِي عَبْدُ الْقَادِرِ خَلْفِي وَابْنُ الرِّفَاعِيِّ خَلْفَ عَبْدِ الْقَادِرِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِي: ((يَا إِبْرَاهِيمُ سِرْ إِلَى مَالِكٍ وَقُلْ لَهُ يُغْلِقِ النِّيرَانَ، وَسِرْ إِلَى رَضْوَانَ وَقُلْ لَهُ يَفْتَحُ الْجِنَانَ، فَفَعَلَ مَالِكٌ مَا أُمِرَ بِهِ، وَرَضْوَانَ مَا أُمِرَ بِهِ)) إِلَخْ وَلَهُ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّهُ أَطَالَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِطَالَةِ، تُعْطِي الرُّتْبَةُ صَاحِبَهَا أَنْ يَنْطِقَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ فَلَا يَنْبَغِي مُخَالَفَتُهُ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّ مُثْبِتَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْمُنْكَرَةَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَكْرَمِ رُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ دُونَ مُنْكِرِهِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَسَنَذْكُرُ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى فِي إِفْسَادِ الدِّينِ، وَإِضْلَالِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. جَاءَ فِي كُتُبِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ مَسَّ بِيَدِهِ سَمَكَةً، فَأَرَادُوا شَيَّهَا بِالنَّارِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النَّارُ. فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَعَدَنِي الْعَزِيزُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمَسَتْهُ يَدُ هَذَا اللَّاشِ حَمِيدٌ لَا تَحْرِقُهُ النَّارُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَجَاءَ فِيهَا أَنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُمِيتُ وَيُحْيِي

وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى مَقَامٍ صَارَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي رِجْلِهِ كَالْخَلْخَالِ وَفِي الْبَهْجَةِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ سَيِّدَهُمْ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ بَاعَ بُسْتَانًا فِي الْجَنَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَكَرَ لَهُ حُدُودًا أَرْبَعَةً. وَقَدْ نَقَلْتُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي كِتَابِي (الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) . وَجَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ مَنَاقِبِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ أَنَّهُ مَاتَ بَعْضُ مُرِيدِيهِ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَبَكَتْ فَرَقَّ لَهَا فَطَارَ وَرَاءَ مَلَكِ الْمَوْتِ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ يَحْمِلُ فِي زِنْبِيلٍ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَرْوَاحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ رُوحَ مُرِيدِهِ أَوْ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ فَامْتَنَعَ، فَجَذَبَ الزِّنْبِيلَ مِنْهُ فَأَفْلَتَ فَسَقَطَ جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَرْوَاحِ فَذَهَبَتْ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَصَعِدَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ وَشَكَا لَهُ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ فَأَجَابَهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِمَا امْتَنَعْنَا مِنْ نَقْلِهِ، إِذْ نَقَلْنَا هَذِهِ الْخُرَافَةَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجَلَّدِ التَّاسِعِ مِنَ الْمَنَارِ تَنْزِيهًا وَأَدَبًا مَعَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ. وَنَقَلْنَا ثَمَّ أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهِنْدَ ذَاكِرًا مَنَاقِبَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فَقَالَ إِنَّ حِدَأَةً خَطَفَتْ قِطْعَةَ لَحْمٍ مِمَّا ذُبِحَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي مَوْلِدِهِ - كَمَا كَانُوا يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ - فَوَقَعَتْ عَظْمَتُهَا فِي مَقْبَرَةٍ فَغَفَرَ اللهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَيَا وَيْلَ مَنْ يُنْكِرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ فَيُسْتَهْدَفُ لِرَمْيِهِ بِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (10: 62) وَإِنْكَارِ الْكَرَامَاتِ وَقَوْلِ اللَّقَانِيِّ: وَأَثْبِتَنْ لِلْأَوْلِيَا الْكَرَامَهْ ... وَمَنْ نَفَاهَا فَانْبِذَنْ كَلَامَهُ وَمِنْ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِزَعْمِهِمْ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ وَلَا يُنَافِيهَا عِنْدَهُمْ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ وَعِلْمُ الْغَيْبِ، وَمِلْكُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَتَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ إِلَّا صُورِيَّةً لِمَصْلَحَةٍ وَكَذَا الْكُفْرُ الصَّرِيحُ كَمَا تَرَى فِي الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ: (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ كَرَامَاتُ وَلِيٍّ شَيْطَانِيٍّ مُوَحِّدِ أُلُوهِيَّةِ إِبْلِيسَ) . قَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ: ((كَانَ مِنْ أَصْحَابِ جَدِّي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا دَامَ صَاحِيًا، فَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ الْحَالُ تَكَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ لَا يُطِيقُ أَحَدٌ سَمَاعَهَا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يُرَى فِي كَذَا كَذَا بَلَدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ السَّرَسِيُّ أَنَّهُ جَاءَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَأَلُوهُ الْخُطْبَةَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ فَطَلَعَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ ثُمَّ قَالَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَقَالَ النَّاسُ: كَفَرَ، فَسَلَّ السَّيْفَ وَنَزَلَ فَهَرَبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنَ الْجَامِعِ فَجَلَسَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِلَى أَذَانِ الْعَصْرِ، وَمَا تَجَرَّأَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَامِعَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ فَأَخْبَرَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، قَالَ فَعَدَدْنَا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ثَلَاثِينَ خُطْبَةً، هَذَا وَنَحْنُ نَرَاهُ جَالِسًا عِنْدَنَا فِي بَلَدِنَا.

((وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقَلَعِيُّ أَنَّ السُّلْطَانَ قَايْتَبَايْ كَانَ إِذَا رَآهُ قَاصِدًا لَهُ تَحَوَّلَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ خَوْفًا أَنْ يَبْطِشَ بِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا أَمْسَكَ أَحَدًا يُمْسِكُهُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَيَصِيرُ يَبْصُقُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَصْفَعُهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ إِطْلَاقُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَكْبَرُ النَّاسِ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ ضَرْبِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَكْمُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ مَقَامُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ عَلَى الدَّوَامِ، وَكَانَ يَقُولُ الْأَرْضُ بَيْنَ يَدَيَّ كَالْإِنَاءِ الَّذِي آكُلُ مِنْهُ، وَأَجْسَادُ الْخَلَائِقِ كَالْقَوَارِيرِ أَرَى مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ، تُوُفِّيَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمَائَةٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - اهـ. ص 94 ج 2 طَبَقَاتٍ. (أَقُولُ) لَوْلَا أَنَّ سُلْطَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَجْنُونٌ بِالْخُرَافَاتِ مِثْلُهُمْ، لَمَا كَانَ لِمِثْلِ هَذَا الْمَجْنُونِ مَأْوًى إِلَّا الْبِيمَارَسْتَانُ يَكُفُّ كُفْرَهُ وَشَرَّهُ عَنْهُمْ. (الشَّاهِدُ الثَّانِي كَرَامَةُ وَلِيِّ الْعَاهِرَاتِ وَالزُّنَاةِ الْفَاعِلِ بِالْأَتَانِ) قَالَ فِي تَرْجَمَةِ مَنْ سَمَّاهُ (سَيِّدِي عَلِيُّ وَحِيشٍ مِنْ مَجَاذِيبِ النِّحَارِيَّةِ) كَانَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ أَعْيَانِ الْمَجَاذِيبِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ يَأْتِي مِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ يَوْمًا فِي خَطٍّ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ فَقَالَ لِي: وَدِّينِي لِلزَّلَبَانِيِّ فَوَدَّيْتُهُ لَهُ فَدَعَا لِي وَقَالَ: اللهُ يُصَبِّرُكَ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْبَلْوَى. وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الطَّنِيخِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ الشَّيْخُ وَحِيشٌ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) يُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْمَحَلَّةِ فِي خَانِ بَنَاتِ الْخَطَأِ (أَيِ الْعَاهِرَاتِ) وَكَانَ كُلُّ مَنْ خَرَجَ يَقُولُ لَهُ قِفْ حَتَّى أَشْفَعَ فِيكَ عِنْدَ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ، فَيَشْفَعُ فِيهِ، وَكَانَ يَحْبِسُ بَعْضَهُمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يُجَابَ فِي شَفَاعَتِهِ، وَقَالَ يَوْمًا لِبَنَاتِ الْخَطَأِ: اخْرُجُوا فَإِنَّ الْخَانَ رَائِحٌ يُطْبِقُ عَلَيْكُمْ فَمَا سَمِعَ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ وَوَقَعَ عَلَى الْبَاقِي فَمِتْنَ كُلُّهُنَّ، وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْخَ بَلَدٍ أَوْ غَيْرَهُ يُنْزِلُهُ مِنْ عَلَى الْحِمَارَةِ وَيَقُولُ لَهُ امْسِكْ رَأْسَهَا حَتَّى أَفْعَلَ فِيهَا: فَإِنْ أَبَى شَيْخُ الْبَلَدِ تَسَمَّرَ فِي الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُ يَمْشِي خُطْوَةً، وَإِنْ سَمَحَ حَصَلَ لَهُ خَجَلٌ عَظِيمٌ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرْتُ عَنْهُ سَيِّدِي مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يُخَيِّلُونَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ)) اهـ. (ص 129 مِنْهُ) وَوِلَايَةُ هَذَا الْمَجْنُونِ أَنَّهُ قَوَّادٌ لِلْعَاهِرَاتِ بِضَمَانِهِ الْمَغْفِرَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِهِنَّ بِشَفَاعَتِهِ، وَأَضَلُّ مِنْهُ عُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ الْمُدَّعُونَ لِكَرَامَتِهِ. (الشَّاهِدُ الثَّالِثُ وِلَايَةُ مَجْنُونٍ مُعَارِضٍ لِلْقُرْآنِ بِالْكُفْرِ وَالْهَذَيَانِ) قَالَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ شَعْبَانَ الْمَجْذُوبِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْرِيفِ بِمِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ الْخَوَّاصِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِهَا وَأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ) وَكَانَ يَقْرَأُ سُوَرًا غَيْرَ السُّوَرِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى

كَرَاسِيِّ الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ الْعَامِّيُّ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ لِشَبَهِهَا بِالْآيَاتِ فِي الْفَوَاصِلِ. ((وَقَدْ سَمِعْتُهُ مَرَّةً يَقْرَأُ عَلَى بَابِ دَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ فِي الْبُيُوتِ فَصَغَيْتُ إِلَى مَا يَقُولُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَمَا أَنْتُمْ فِي تَصْدِيقِ هُودٍ بِصَادِقِينَ، وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ لَنَا قَوْمًا بِالْمُؤْتَفِكَاتِ يَضْرِبُونَنَا، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا وَمَا لَنَا مِنْ نَاصِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَزِيزِ فِي صَحَائِفِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ - إِلَى آخَرِ مَا قَالَ)) . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا دَائِمًا إِلَّا أَنَّهُ يَسْتُرُ سَوْأَتَيْهِ بِقِطْعَةِ جِلْدٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا قَالَ: ((وَكَانَتِ الْخَلَائِقُ تَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا زَائِدًا لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَالِهِ، بَلْ يَعُدُّونَ رُؤْيَتَهُ عِيدًا عِنْدَهُمْ تَحْنِينًا عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَاتَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ)) اهـ ص 160 مِنْهُ. (أَقُولُ) إِذَا كَانَ الشَّعَرَانِيُّ مِنْ أَكْبَرِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَمُؤَلِّفِيهِ يَعُدُّ هَذَا الْمَجْنُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَيَتَرَضَّى عَنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ عَلِيٌّ الْخَوَاصُّ يَتَلَقَّى عَنْهُ حَلَّ مُشْكِلَاتِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كَشْفِهِ، فَهَلْ نَكُونُ مُخْطِئِينَ إِذَا قُلْنَا إِنَّ جَمِيعَ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ كَانُوا خُرَافِيِّينَ مَجَانِينَ مِثْلَهُ، وَأَيُّ قِيمَةٍ كَانَتْ فِي عَصْرِهِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ؟ وَهَلْ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُنُونَ كَانَ تَخَبُّطًا شَيْطَانِيًّا لَا جَذْبًا إِلَهِيًّا أَقْوَى مِنْ مُعَارَضَةِ صَاحِبِهِ لِلْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ مِمَّا سَمِعَهُ وَرَآهُ مِنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنَ الْهَذَيَانِ؟ . (شَوَاهِدُ أُخْرَى عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالتِّجَانِيِّ تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا) كَانَ مِنْ فَسَادِ هَذَا التَّصَوُّفِ الَّذِي بَثَّهُ الشَّعَرَانِيُّ وَأَمْثَالُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، أَنْ وُجِدَ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ شَيْخٌ اسْمُهُ الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ التِّجَانِيُّ، صَارَ لَهُ طَرِيقَةٌ مِنْ أَشْهَرِ الطُّرُقِ امْتَدَّتْ مِنَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى إِلَى السُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ وَالْجَزَائِرِ فَتُونُسَ فَمِصْرَ، وَصَارَ لَهَا مِئَاتُ الْأُلُوفِ مِنَ الْأَتْبَاعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُرَافَاتِ وَالِابْتِدَاعِ وَتَفْضِيلِ شَيْخِهَا نَفْسَهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَقْطَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَذَا الْأَنْبِيَاءِ بِأُمُورٍ مِنْهَا ضَمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَلِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يُكْرِمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالطَّعَامِ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَعَاصِيهِمْ وَتَبِعَاتِهِمْ تُغْفَرُ لَهُمْ لِأَجْلِهِ إِلَخْ، كَانَ الْغَرَضُ مِنْ طَرِيقَتِهِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَطَعَامِهِمْ وَالْجَاهَ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِجَمِيعِ صُوفِيَّةِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَلَّفَ أَحَدُ أَتْبَاعِهِ كِتَابًا كَبِيرًا فِي مَنَاقِبِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَأَوْرَادِهِ تَلَقَّاهَا مِنْ لِسَانِهِ وَقَلَمِهِ، هَدَمَ بِهَا هَدْيَ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهُ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ مِنْهُ:

(الشَّاهِدُ الرَّابِعُ ضَمَانُ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتِّجَانِيِّ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ. ((قَالَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَخْبَرَنِي سَيِّدُ الْوُجُودِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا قَالَ لِي: أَنْتَ مِنَ الْآمَنِينَ وَكُلُّ مَنْ رَآكَ مِنَ الْآمَنِينَ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ بِخِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَطْعَمَكَ (!) يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ. (ثُمَّ قَالَ) فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا صَدَرَ لِي مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَحَبَّةِ وَصَرَّحَ لِي بِهَا تَذَكَّرْتُ الْأَحْبَابَ وَمَنْ وَصَلَنِي إِحْسَانُهُمْ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِي بِخِدْمَةٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ لِي نُحَاسِبُكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ إِنْ دَخَلْنَا النَّارَ وَأَنْتَ تَرَى، فَأَقُولُ لَهُمْ: لَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْمَحَبَّةَ سَأَلْتُهُ لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي بَعْدَهَا، وَلِكُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) بَعْدَهَا، وَآكَدُ ذَلِكَ مِنْ أَطْعَمَنِي طَعَامَهُ (! !) قَالَ: كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ)) . ((قَالَ: وَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ مْنَ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا أَنْ تُغْفَرَ لَهُمْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنْ تُؤَدَّى عَنْهُمْ تَبَعَاتُهُمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَنْ يَرْفَعَ اللهُ عَنْهُمْ مُحَاسَبَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونُوا آمَنِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ فِي جِوَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضَمِنْتُ لَهُمْ هَذَا كُلَّهُ ضَمَانَةً لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُجَاوِرَنِي أَنْتَ وَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ. (قَالَ الْمُؤَلِّفُ) ثُمَّ اعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ مَا كَتَبْتُ هَذَا مِنْ سَمَاعِهِ وَإِمْلَائِهِ عَلَيْنَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ حَفْظِهِ وَلَفْظِهِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا أَرْسُمُهُ، مِنْ خَطِّهِ، وَنَصِّهِ: ((أَسْأَلُ مِنْ فَضْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضْمَنَ لِي دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ أَنَا وَكُلُّ أَبٍ وَأُمٍّ وَلَدَنِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى أَوَّلِ أَبٍ وَأُمٍّ لِي فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي، وَجَمِيعُ مَا وَلَدَ آبَائِي وَأُمَّهَاتِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى الْجَدِّ الْحَادِي عَشَرَ وَالْجَدَّةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (؟) مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي مِنْ كُلِّ مَا تَنَاسَلَ مِنْهُمْ (؟) مِنْ وَقْتِهِمْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ سَيِّدُنَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ مِنْ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِإِحْسَانٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ، مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَلَيَّ مَشْيَخَةٌ فِي عِلْمٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ سِرٍّ مِنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعَادِنِي مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا مَنْ عَادَانِي أَوْ أَبْغَضَنِي فَلَا، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) وَكُلُّ مَنْ وَالَانِي وَاتَّخَذَنِي شَيْخًا أَوْ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا، وَكُلُّ مَنْ زَارَنِي وَكُلُّ مَنْ خَدَمَنِي أَوْ قَضَى لِي حَاجَةً أَوْ دَعَا لِي، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي وَآبَائِهِمْ (؟) وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَوَالِدِي أَزْوَاجِهِمْ يَضْمَنُ لِي سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ أَمُوتَ أَنَا وَكُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَنَا اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ عَذَابِهِ، وَعِقَابِهِ وَتَهْوِيلِهِ وَتَخْوِيفِهِ وَرُعْبِهِ وَجَمِيعِ الشُّرُورِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْمُسْتَقَرِّ فِي الْجَنَّةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَلِجَمِيعِهِمْ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ وَأَنْ تُؤَدِّيَ عَنِّي وَعَنْهُمْ جَمِيعَ تَبِعَاتِنَا وَتَبِعَاتِهِمْ، وَجَمِيعَ مَظَالِمِنَا وَمَظَالِمِهِمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِنَا، وَأَنْ يُؤَمِّنَنِي اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مُحَاسَبَتِهِ وَمُنَاقَشَةِ سُؤَالِهِ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُظِلَّنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُجِيزَنِي رُبِّيَ أَنَا وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الصِّرَاطِ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ عَلَى كَوَاهِلِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ يَسْقِيَنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ حَوْضِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُدْخِلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ جَنَّتَهُ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى وَأَنْ يَجْعَلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ مُسْتَقِرِّينَ فِي الْجَنَّةِ فِي عِلِّيِّينَ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ وَمِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ. أَسْأَلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ بِاللهِ أَنْ يَضْمَنَ لِي وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كُلَّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِكَمَالِهِ كُلِّهِ، ضَمَانًا يُوَصِّلُنِي وَجَمِيعَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَى كُلِّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ (كَذَا بِهَذَا التَّكْرَارِ) فَأَجَابَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ الشَّرِيفِ: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ضَمِنْتُهُ لَكَ ضَمَانَةً لَا تَتَخَلَّفُ عَنْكَ وَعَنْهُمْ أَبَدًا إِلَى أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتَ فِي جِوَارِي فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَضَمِنْتُ لَكَ جَمِيعَ مَا طَلَبْتَ مِنَّا ضَمَانَةً لَا يُخْلَفُ عَلَيْكَ الْوَعْدُ فِيهَا وَالسَّلَامُ، انْتَهَى بِحُرُوفِهِ وَلَحْنِهِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ ص 91 و92 ج1 - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: ثُمَّ قَالَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكُلُّ هَذَا وَقَعَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ وَجَمِيعُ الْأَحْبَابِ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَى رُؤْيَتِي إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى رُؤْيَتِي مَنْ لَمْ يَكُنْ حَبِيبًا يَعْنِي تَابِعًا وَلَا آخِذًا عَنِّي ذِكْرًا وَلَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ ضَمِنَهُمْ لِي بِلَا شَرْطِ رُؤْيَةٍ مَعَ زِيَادَةِ أَنَّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ)) وَلَوْ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَالَ التِّجَانِيُّ: وَأَمَّا مَنْ رَآنِي فَقَطْ غَايَتُهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي عِلِّيِّينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ ذَكَرْتُهُمْ وَهُمْ أَحْبَابُنَا وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَمَنْ أَخَذَ عَنَّا ذِكْرًا فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ فِي عِلِّيِّينَ مَعَنَا. وَقَدْ ضُمِنَ لَنَا هَذَا بِوَعْدٍ صَادِقٍ لَا خُلْفَ فِيهِ إِلَّا أَنِّي اسْتَثْنَيْتُ مَنْ عَادَانِي بَعْدَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِحْسَانِ فَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِمَحَبَّتِنَا فَأَبْشِرُوا بِمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْبَابِ قَطْعًا اهـ. وَهَاهُنَا ذَكَرَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ الْمِقْدَارِ، وَهِيَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ لِمَنْ ذَكَرَهُمْ، لَمْ تَقَعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ قَبْلَهُ إِلَخْ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضْمَنْ مِثْلَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَتَّى الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ مَا زَعَمَ

التِّجَانِيُّ أَنَّهُ ضَمِنَهُ لِمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ قَاعِدَةُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ أَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَمَنْ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُمْ تُضَاعَفُ سَيِّئَاتُهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي خِطَابِ نِسَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (26: 214) جَمَعَهُمْ وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُمْ: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) قَالَ هَذَا لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَلِبِنْتِهِ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَكَلَامُ التِّجَانِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَتْبَاعِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمُحِبِّيهِ وَالْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ فَوْقَ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُحِبِّيهِمْ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ لِلْجَنَّاتِ السَّبْعِ أَحَدٌ يَسْكُنُهُنَّ وَهُوَ افْتِرَاءٌ لَمْ يَتَجَرَّأْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَازِفِينَ قَبْلَهُ. (الشَّاهِدُ الْخَامِسُ عَنْهُ تَفْضِيلُ أَوْرَادِهِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَأْثُورَةِ) . ذَكَرَ مُؤَلَّفُ هَذَا الْكِتَابِ صَلَاةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْفَاتِحِ، وَغَلَا فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ يَقَظَةً بِهَا وَالْغُلُوِّ فِي ثَوَابِهَا وَهَذَا نَصُّهَا: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ، وَالْخَاتَمِ لِمَا سَبَقَ، نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، وَالْهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ الْعَظِيمِ)) وَذَكَرَ أَنَّ شَيْخَهُ التِّجَانِيَّ كَانَ يَقْرَؤُهَا ثُمَّ تَرَكَهَا لِصَلَاةٍ أُخْرَى الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا بِسَبْعِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ مِنْ دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَقَالَ فِي ص 96 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَا نَصُّهُ: ((فَلَمَّا أَمَرَنِي عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقِرَاءَتِهَا سَأَلْتُهُ عَنْ فَضْلِهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَعْدِلُ مِنَ الْقُرْآنِ سِتَّ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي ثَانِيًا أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَعْدِلُ مَنْ كُلِّ تَسْبِيحٍ وَقَعَ فِي الْكَوْنِ وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ وَمِنْ كُلِّ دُعَاءٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَمِنَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ آلَافِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَذْكَارِ)) . (قَالَ) ((وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَدْعِيَاءِ (كَذَا) دُعَاءُ السَّيْفِيِّ، فَفِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ ثَوَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَقِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعِبَادَةُ سَنَةٍ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ سَيِّدُنَا عَنْ سَيِّدِ الْوُجُودِ. ((وَأَعْظَمُ مِنْ دُعَاءِ السَّيْفِيِّ دُعَاءُ: يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ هَدِيَّةٌ مِنْ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَلَائِكَةُ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ عَلَى أَنْ يَصِفُوهُ لَمَا وَصَفُوهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ يَصِفُ مَا لَا يَصِفُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ فِيهِ: ((أُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا خَلَقْتُ فِي سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَفِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالْمَطَرِ وَالْبِحَارِ، وَعَدَدِ الْحَصَى وَالرَّمْلِ،)) وَمِنْ جُمْلَتِهَا

أَيْضًا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا كُلُّهُمْ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ) وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي صَحِيفَةِ عُمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ إِلَخْ. وَصَرَّحَ الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ أَمْلَاهُ شَيْخُهُ التِّجَانِيُّ. ثُمَّ قَالَ عَنْ شَيْخِهِ: ((وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ فَإِنِّي سَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا أَنَّهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَجْرُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مُفْرَدَةً؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ: نَعَمْ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا أَجْرُ مَنْ صَلَّى بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مُفْرَدَةٍ. وَسَأَلْتُهُ: هَلْ يَقُومُ مِنْهَا طَائِرٌ الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ. الْحَدِيثَ. أَمْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَثَوَابِ تَسْبِيحِهِمْ لِقَارِئِهَا؟ فَقَالَ: بَلْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَقَالَ فِي ص 97 فَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ غَزْوَةٍ كُلُّ غَزْوَةٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ حَجَّةٍ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ صَحِيحٌ فَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَدَدِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ هَلْ يَقُومُ مِنْ صَلَاةِ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ أَمْ يَقُومُ أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ صَلَاةً مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ غَزْوَةٍ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ صَلَاةَ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِهَا، أَيْ بِالْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ مَا إِذَا صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِنٍّ وَإِنْسٍ وَمَلَكٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَالَمِ إِلَى وَقْتِ تَلَفُّظِ الذَّاكِرِ بِهَا، أَيْ كَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ جَمِيعِ صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عُمُومًا: مَلَكًا وَجِنًّا وَإِنْسًا وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِزَوْجَةٍ مِنَ الْحُورِ وَمَحْوِ عَشْرِ سَيِّئَاتٍ وَثُبُوتِ عَشْرِ حَسَنَاتٍ وَرَفْعِ عَشْرِ دَرَجَاتٍ، وَأَنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى صَاحِبِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ (قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللهُ عِنْهُ) فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا بِقَلْبِكَ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَقُومُ لَهَا عِبَادَةٌ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَكَيْفَ مَنَّ صَلَّى بِهَا مَرَّاتٍ مَاذَا لَهَا مِنَ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا اهـ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الْجُنُونِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا دِمَاغُهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْعُقُولِ، وَمِنْهَا مَا عَدَّهُ مِنْ ثَوَابِ مَلَايِينِ الْأُمَمِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُفَضَّلْ عَلَيْهَا إِلَّا الدُّعَاءُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ هَذَا بِزَعْمِهِمْ (اهم سقك حلع يص) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي ص 102 مَا نَصُّهُ: (فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عَدَدُ أَلْسِنَةِ الطَّائِرِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ الْحَدِيثَ أَلْفُ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ ثَمَانِيَ مَرَاتِبَ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ سَبْعَ مَرَاتِبَ وَسَبْعَمِائَةِ

أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ خَمْسَ مَرَاتِبَ فَهَذَا مَجْمُوعُ عَدَدِ أَلْسِنَتِهِ، وَكُلُّ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللهَ تَعَالَى بِسَبْعِينَ أَلْفَ لُغَةٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَكُلُّ ثَوَابِهَا لِلْمُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَرَّةٍ، هَذَا فِي غَيْرِ الْيَاقُوتَةِ الْفَرِيدَةِ وَهِي الْفَاتِحُ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ، وَأَمَّا فِيهَا فَإِنَّهُ يُخْلَقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَسُبْحَانُ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ وَلَا عِلَّةٍ اهـ. مَنْ خَطِّ سَيِّدِنَا وَحَبِيبِنَا وَخَازِنِ سِرِّ سَيِّدِنَا أَبِي عَبْدِ اللهِ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ الْمِشْرِيِّ حَفِظَهُ اللهُ اهـ. (الشَّاهِدُ السَّادِسُ عَنِ التِّجَانِيِّ دَعْوَاهُ مَوْتَ مَنْ يَكْرَهُهُ كَافِرًا) وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ الْمُخَالِفَةِ لِعَقَائِدِ جَمِيعِ السَّلَفِ وَحُفَّاظِ السُّنَنِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، مَا نَعْهَدُ مِثْلَهُ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ وَسَائِرِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَلِعِلْمِ التِّجَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالضَّرُورِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَنْ أَصُولِ طَرِيقَتِهِمُ التَّسْلِيمَ لَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَقَدْ بَالَغَ التِّجَانِيُّ فِيمَا يُلَقِّنُهُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، حَتَّى زَعَمَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَكَرِهَ عَمَلَهُ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ أَبْغَضَهُ يَمُوتُ كَافِرًا قَطْعًا ; وَهَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ كَدَعْوَى دُخُولِ أَتْبَاعِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ الْجَنَّةَ قَطْعًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقَطْعِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ. وَإِنَّمَا الْقَطْعِيُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّ الْخَوَاتِيمَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ أَتْبَاعًا فِي مِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ لَمَا سَوَّدْنَا صَحَائِفَ هَذَا التَّفْسِيرِ بِذِكْرِ خُرَافَاتِهِ وَضَلَالَاتِهِ، وَقَدِ اسْتَفْتَانِي بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ لِدَعْوَاهُمْ تَلَقِّيَ شَيْخِهِمْ لِأَوْرَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ، وَحُضُورَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَجَالِسِ حَضْرَتِهِمْ، عَنْ دَعْوَى رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ، فَأَفْتَيْتُ فِي الْمَنَارِ بِبُطْلَانِهَا، فَلَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَجَلَّةِ مَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَاسْتَفْتَوْهَا فِي ذَلِكَ فَأَفْتَاهُمْ مُفْتِيهَا الدِّجَوِيُّ الدَّجَّالُ بِمَا يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ مَا افْتَرَاهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يَرُدُّونَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى فِيهَا مَا صَحَّ مِنْهَا عَنِ الْمَعْصُومِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا وَإِنِّي لَا أَجْهَلُ أَنَّ لِلتِّجَانِيَّةِ فِي الْمَغْرِبِ وَالسُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ، حَسَنَاتٍ فِي مُقَاوَمَةِ التَّنْصِيرِ وَالِاسْتِعْمَارِ الْمُعَادِي لِلْإِسْلَامِ كَالْقَادِرِيَّةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ، وَلَكِنَّ كِتَابَهُمْ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) قَدْ فَضَحَهُمْ فَضَائِحَ لَا يَقْبَلُهَا مُسْلِمٌ يَعْرِفُ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، وَسَتَعْلَمُ قِيمَةَ حَسَنَاتِهِمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا سَنَنْقُلُهُ فِي كَرَامَاتِ أَمْثَالِهِمْ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.

(تَقْلِيدُ الْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادْيَانِيُّ لِغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ) (فِي دَعْوَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ) قَدْ جَرَّأَ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ إِخْوَانَهُمْ فِي الِابْتِدَاعِ عَلَى دَعْوَى الْوَحْيِ وَالتَّلَقِّي عَنِ اللهِ تَعَالَى كَالْأَنْبِيَاءِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمُ النُّبُوَّةَ نَفْسَهَا، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْأُلُوهِيَّةَ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنْ كَلَامِ الْبَابِ مُؤَسِّسِ فَرْقَةِ الْبَابِيَّةِ، وَالْبَهَاءِ مُؤَسِّسِ دِيَانَةِ الْبَهَائِيَّةِ عَلَى أَنْقَاضِ، الْبَابِيَّةِ، وَغُلَامِ أَحْمَدِ الْقَادَيَانِيِّ - مَسِيحِ الْهِنْدِ الدَّجَّالِ - أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَتَجِدُ كَلَامَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي أَنْفُسِهِمْ مَمْزُوجًا بِاصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ، فَلَمْ يُفْسِدِ الْإِسْلَامَ عَلَى أَهْلِهِ بِدَعَةٌ وَلَا فَلْسَفَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ وَلَا رَأْيٌ، كَمَا أَفْسَدَ أَدْعِيَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْكَشْفِ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذَا الدِّينِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ أَهْلِهِ، وَبِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَأَمَّا الْبَابِيَّةُ فَقَدِ انْحَصَرُوا فِي الْبَهَائِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ كَانَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَكْبَرِ الدُّهَاةِ يَسُوسُهُمْ فَمَاتَ فَانْحَطَّ شَأْنُهُمْ، وَوَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى الزَّعَامَةِ وَظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسُهُمُ الْبَاطِنِيُّ فَقَلَّمَا يَنْخَدِعُ بِدَعْوَتِهِمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَزَعِيمُهُمُ الْوَارِثُ لَهُ قَدْ تَرَبَّى تَرْبِيَةً إِنْكِلِيزِيَّةً مَفْضُوحَةً، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَأْوِيلَاتِ عَبَّاسٍ أَفَنْدِي الصُّوفِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَأَمَّا الْقَادَيَانِيَّةُ فَقَدْ نَشِطُوا لِلدَّعَايَةِ وَهُمْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يُوجِدُوا فِي بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَوْجَدَتِ الْمَسِيحِيَّةُ فِي الْيَهُودِ، أَعْنِي إِحْدَاثَ مِلَّةٍ جَدِيدَةٍ تُسَمَّى الْمَسِيحِيَّةَ الْأَحْمَدِيَّةَ، وَسَيَفْتَضِحُونَ ; لِأَنَّ زَعِيمَهُمْ وَمَسِيحَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ، وَالْعَصْرُ يُطْلَبُ تَجْدِيدًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَقْدِيسَ فِيهِ إِلَّا لِلَّهِ، وَجَمِيعُ كُتُبِ مَسِيحِهِمْ غُلَامِ أَحْمَدَ تَدُورُ عَلَى تَقْدِيسِ نَفْسِهِ كَالْبَهَاءِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ رَجُلٌ دَاهِيَةٌ كَعَبَّاسٍ عَبْدِ الْبَهَاءِ، يُخْفِي كُتُبَهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ وَيَتَصَرَّفُ فِي التَّأْوِيلِ لِدَعْوَتِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّهَاءِ وَكَيْفَ يَتَسَنَّى لَهُمْ إِخْفَاءُ كُتُبِهِ، وَقَدْ طَبَعَهَا وَنَشَرَهَا فِي عَصْرِهِ، وَفِيهَا أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى ضَلَالِهِ وَإِضْلَالِهِ، وَخِزْيِهِ وَنَكَالِهِ؟ . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ الْمُهْتَدِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُمْ مِنْ خِيَارِ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصُوفِيَّةُ الْفَلْسَفَةِ الْهِنْدِيَّةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَغُلَاتُهُمْ كَغُلَاةِ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرُّ الْمُبْتَدِعَةِ الْهَادِمِينَ لِلدِّينِ، وَصُوفِيَّةُ التَّقْلِيدِ وَهُمْ أَهْلُ الطَّرَائِقِ وَالزَّوَايَا الْكُسَالَى، وَإِنْ هُمْ إِلَّا صُوفِيَّةُ أَكْلٍ وَاحْتِفَالَاتٍ، وَبِدَعٍ وَخُرَافَاتٍ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَهَاكَ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ رَأْيِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

(كِتَابُ الْفُرْقَانِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ) (اسْتِمْتَاعُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَمَثُّلُهُمْ بِصُوَرِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ) هَذَا الْكِتَابُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، بَيَّنَ فِيهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَبَاحِثِهِ مُلَابَسَةُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لِلنَّاسِ وَتَلْبِيسُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَظُهُورُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرِ مَشَايِخِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْخِضْرِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْإِيحَاءُ إِلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ، وَظُهُورُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِيمَا هُوَ نَافِعٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مَبَاحِثِ التَّفْسِيرِ وَهَدْيِ السُّنَّةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْجِنِّ وَالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَحِكَايَاتُ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ كَثِيرَةٌ فِي قَدِيمِ الْأُمَمِ كُلِّهَا وَحَدِيثِهَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَدَّعُونَهَا أَوْ كُلُّهُمْ دَجَّالُونَ مُحْتَالُونَ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَمَثَّلُونَ لَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَقِّقٌ وَصِدِّيقٌ لَا يَرْمِي الْقَوْلَ عَلَى عَوَاهِنِهِ. وَمِمَّا قَالَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رُؤْيَةُ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ الْخِضْرُ وَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ شَيْطَانٌ لَا الْخِضْرُ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمِثْلُ ذَلِكَ ظُهُورُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّصَارَى عَقِبَ رَفْعِهِ وَبَعْدَهُ إِلَى الْآنِ ثُمَّ قَالَ: ((وَأَصْحَابُ الْحَلَّاجِ لَمَّا قُتِلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ أَنَا الْحَلَّاجُ فَيَرَوْنَهُ فِي صُورَتِهِ، وَكَذَلِكَ شَيْخٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الدِّسُوقِيُّ بَعْدَ أَنْ مَاتَ كَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ مِنْ جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكْتُوبَةٌ، وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْجِنِّ - وَقَدْ رَأَيْتُ خَطَّ الْجِنِّ غَيْرَ مَرَّةٍ - وَفِيهِ كَلَامٌ مِنَ الْجِنِّ، وَذَاكَ الْمُعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ، وَكَانَ يَقُولُ انْتَقَلَ ثُمَّ مَاتَ، وَكَذَلِكَ شَيْخٌ آخَرُ كَانَ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ خَوَارِقُ مِنَ الْجِنِّ، وَقِيلَ: كَانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ فِي صُورَتِهِ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ. وَالَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ عَلِيٍّ أَوْ بَقَاءَ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ قَدْ كَانَ يَأْتِي إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ جِنِّيٌ فِي صُورَتِهِ، وَهَكَذَا مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَدْ يَرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانًا وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ جِنِّيًّا. ((فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَوْمُ أَجْهَلَ كَانَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ، فَفِي الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي النَّصَارَى، وَهُوَ فِي النَّصَارَى كَمَا هُوَ فِي الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ يُسْلِمُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ وَيَتُوبُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ يَكُونُونَ أَضَلَّ مِنْ أَصْحَابِهَا فَيَنْتَقِلُونَ بِسَبَبِهَا إِلَى مَا هُوَ

خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، كَالشَّيْخِ الَّذِي فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنَ الْإِنْسِ قَدْ يَأْتِيهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ وَيَصِيرُونَ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا وَإِنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ)) وَهَذَا كَانَ كَالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَقْوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا بَاطِلَةً فَغَيْرُهَا أَبْطَلُ مِنْهَا وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَقْوَامٌ يَنْتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ((وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى الْكَفَّارِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدْ يَغْزُو غَزْوًا يَظْلِمُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسْلِمِينَ، وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ خَيْرٌ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ، قَدْ يَسْمَعُهَا أَقْوَامٌ فَيَنْتَقِلُونَ بِهَا إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ كَذِبًا وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسْلِمُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَرَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، ثُمَّ إِذَا أَسْلَمَ وَطَالَ مُكْثُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَنَفْسُ ذُلِّ الْكُفْرِ عَلَيْهِ وَانْقِهَارِهِ وَدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَى كَافِرًا، فَانْتَقَلَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَدْخَلَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَعْلِيلِهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا الْخَلْقَ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ، وَنَقَلَ كُلَّ شَخْصٍ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (46: 19) وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ وَبِدَعَةً بِبِدْعَةٍ، لَكِنْ قَدْ يَرُدُّونَ بَاطِلَ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِبَاطِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مُبْتَدِعًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرُدُّ الْبِدَعَ الظَّاهِرَةَ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ بِبِدْعَةٍ أَخَفَّ مِنْهَا وَهِيَ بِدْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَصْنَافَ الْبِدَعِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. (أَقُولُ) كُلُّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي نَقَلَ خَبَرَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ هُنَا مَشْهُورَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَأَهْلِ عَصْرِنَا، وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتُونَ الْمَهْدِيَّ الْمُنْتَظَرَ فِي بَعْضِ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَضَعُونَ

وَرَقَةَ الِاسْتِفْتَاءِ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ يَجِدُونَ الْفَتْوَى مَكْتُوبَةً عَلَيْهَا وَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَارِ، وَمِنْ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ حِيَلِ شَيَاطِينِ النَّاسِ وَتَزْوِيرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ. (بَعْضُ حِكَايَاتِ النَّصَارَى الْمُعَاصِرِينَ فِي رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) . إِنَّ الَّذِينَ يَتَرَاءَى لَهُمُ الْمَسِيحُ أَوْ أُمُّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقِدِّيسِينَ عِنْدَهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ الرِّجَالِ الْمَشْهُورِينَ بِهَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ رَشِيدٌ بِكُّ مُطْرَانُ وَهُوَ وَجِيهٌ سُورِيٌّ مِنْ بَعْلَبَكَّ مَشْهُورٌ يُقِيمُ فِي أُورُبَّةَ وَيَكُونُ غَالِبًا فِي (بَارِيسَ) فَهُوَ يَرَى أَوْ يَتَرَاءَى لَهُ مِثَالُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ كَثِيرًا وَيَسْأَلُهَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ فَتُجِيبُهُ. وَحَدَّثَنِي الْأَمِيرُ شَكِيبُ أَرْسَلَانُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهَا مَرَّةً عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَتْهُ مُثْنِيَةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَنَاءً عَظِيمًا لَمْ أَحْفَظْهُ. وَقَرَأْتُ فِي جَرِيدَةِ مِرْآةِ الْغَرْبِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ فِي (نِيويُورْكَ) فِي مَارِسَ سَنَةَ 1933 رِسَالَةً مِنْ عَمَّانَ عَاصِمَةِ إِمَارَةِ شَرْقِ الْأُرْدُنِّ كُتِبَتْ فِي 26 مِنْ كَانُونَ الثَّانِي (يَنَايِرَ) سَنَةَ 1923 (الْمُوَافِقِ 29 رَمَضَانَ سَنَةَ 1351) مُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً فِي عَمَّانَ اسْمُهَا حِنَّةُ بِنْتُ إِلْيَاسَ غَابِي الْمُلَقَّبِ صِهْرَ اللهِ مُتَزَوِّجَةً وَلَهَا أَوْلَادٌ وَأَخٌ، فَقِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالتَّقْوَى عَرَضَ لَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ نَزِيفٌ دَمَوِيٌّ عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَأُرِيدَ عَمَلُ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ لَهَا فَأُرْشِدَتْ إِلَى التَّوَجُّهِ أَوَّلًا إِلَى الطَّبِيبِ السَّمَاوِيِّ، فَدَعَتْ يَسُوعَ لَيْلًا ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْكَنِيسَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ لِتُصَلِّيَ وَهِيَ فِي حَالِ غَيْبُوبَةٍ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَا، فَرَأَتِ الْكَنِيسَةَ خَالِيَةً وَشَاهَدَتْ فِي الْهَيْكَلِ شَخْصًا يُحِيطُ بِهِ نُورٌ عَظِيمٌ فَاشْتَدَّ خَوْفُهَا وَرُعْبُهَا، فَدَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: لَا تَخَافِي أَنَا الْمَسِيحُ، فَرَكَعَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ وَقَالَتْ لَهُ اشْفِنِي يَا سَيِّدُ، فَقَالَ لَهَا: حَسَبُ إِيمَانِكِ يَكُونُ لَكِ، فَبَرِئَتْ وَقَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ بَعْدَ فَحْصِهَا أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْعَمَلِيَّةِ الْجِرَاحِيَّةِ فَازْدَادَتْ عِبَادَةً وَتَقْوَى. ((وَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ك2 مِنْ ((يَنَايِرَ)) شَعَرَتْ فِي مُنْتَصَفِ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ بِيَدٍ تَهُزُّهَا مِنَ الْكَتِفِ، فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا فَإِذَا نُورٌ عَظِيمٌ فِي الْغُرْفَةِ وَفِي وَسَطِ النُّورِ شَخْصُ الْمَلَاكِ يَقُولُ لَهَا: سَيَحْدُثُ ضِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنْ لَا تَخَافُوا وَسَتَكُونُ لَكُمْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ - وَكَانَ بِيَدِهِ كَأْسٌ فَغَمَسَ الْيَدَ الْأُخْرَى فِي الْكَأْسِ وَبِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَضَعَ عَلَى جَبِينِهَا عَلَامَةً ثُمَّ تَرَكَهَا وَقَالَ: اعْطُوا مَجْدَ اللهِ فَقَامَتْ وَصَارَتْ تُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَالٍ فَهَبَّ أَهْلُهَا وَقَالُوا لَهَا: مَاذَا جَرَى لَكِ؟ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَوُا النُّورَ وَتَسْمَعُوا الصَّوْتَ؟ قَالُوا لَا، قَالَتْ: جِيئُونِي بِالضَّوْءِ، فَلَمَّا أَحْضَرُوا الْقِنْدِيلَ رَأَوْا فِي جَبِينِهَا عَلَامَةَ طَائِرٍ يُشْبِهُ النَّسْرَ صَافًّا جَنَاحَيْهِ مُمْتَدًّا عَلَى طُولِ جَبِينِهَا وَعَرْضِهِ (أَيْ جَبْهَتِهَا) وَلَيْسَ مَاسًّا لِلْحَاجِبَيْنِ وَلَا شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَوْنُهُ عُنَّابِيٌّ كَالدَّمِ وَرَسْمُهُ مُتْقَنٌ كَأَنَّهُ رَسْمُ فَنَّانٍ عَظِيمٍ)) .

وَقَالَتْ كَاتِبَةُ الرِّسَالَةِ: إِنَّ أَهْلَ عَمَّانَ لَمَّا عَلِمُوا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَقَبَلَ النَّاسُ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَجَانِبَ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ فَشَاهَدُوا هَذَا الرَّسْمَ وَعُنِيَ الْأَطِبَّاءُ بِإِزَالَتِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا يُعَدُّونَ بِالْمِئَاتِ، ثُمَّ نَقَلَتْ عَنْ قِسِّيسٍ مَعْرُوفٍ جَاءَ مِنْ نَابْلُسَ وَكَتَبَ عَنْهَا مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا: (قَالَتْ إِنَّهُ ظَهَرَ لَهَا الْمَلَاكُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ السَّابِعَةِ مِنَ الشَّهْرِ نَفْسِهِ (يَنَايِرَ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهَا فَزَالَتِ الْعَلَامَةُ، فَقَالَتْ لَهُ يَارَبِّ ارْفَعِ الضَّيِّقَ عَنِ الْعَالَمِ، فَقَالَ: ((سَيَرَوْنَ)) أَعْمَالَ اللهِ)) قَالَتْ: ارْحَمْنَا يَا رَبِّ، قَالَ: ((تَكْفِيكُمْ نِعْمَتِي)) وَفِي ثَانِي لَيْلَةٍ أَفَاقَ أَهْلُهَا فَوَجَدُوهَا وَاقِفَةً تَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرَانِيِّ فَكَتَبُوا مَا قَالَتْهُ وَتَرْجَمُوهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا هُوَ تَسْبِيحٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ ثُمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي اللَّيَالِي التَّالِيَةِ بِاللُّغَاتِ الْأَلْمَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالطَّلْيَانِيَّةِ وَفِي الْخَامِسَةِ وَثُلُثٍ بِالْعَرَبِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، وَكَانَتْ تَرْتِيلَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْ نَظْمِهَا وَقَوْلِهَا ((اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي يَا رَبِّي، خُذْنِي يَا رَبِّي، خُذْنِي إِلَى أُورْشَلِيمَ)) ثُمَّ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. إِلَّا أَنَّ الْمَلَاكَ ظَهَرَ لَهَا لَيْلَةَ 17 مِنَ الشَّهْرِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعَلَامَةَ وَقَالَ: ((لِتَكُنْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ مُبَارَكَةً ثُمَّ اخْتَفَى، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَمَحَا الْعَلَامَةَ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَبِلَفْظِهِ إِلَّا تَصْحِيحَ كُلَيْمَاتٍ قَلِيلَةٍ. (أَقُولُ) سُئِلَ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَّانَ كِتَابَةً عَنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَعَمَّا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ مِنْ رُؤْيَةِ مَوْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ وَلَا لَفَائِفُهُمْ فَأَنْكَرَهَا. وَقَدْ سَبَقَ لِي تَحْقِيقٌ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَلَّدَتْهُ الْأَوْهَامُ يُشْبِهُ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ رُؤْيَةٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ بِأَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ كَثَافَةِ الْحِسِّ، وَمِنْهَا مَا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةٍ مَادِّيَّةٍ كَثِيفَةٍ كَمَا صَحَّ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - لِلْمَلَكِ وَلِلْجِنِّ، وَالْمُشْتَغِلُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِمُعَالَجَةِ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ يُسَمُّونَ صَاحِبَ الِاسْتِعْدَادِ الْخَاصِّ لِرُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ بِالْوَسِيطِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ أُولُو كَذِبٍ وَحِيَلٍ وَتَلْبِيسٍ، وَأَنَّ أَقَلَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ، وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينِ الْمَوْتَى وَقُرَنَائِهِمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ يَقُولُ مَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وُقُوعَهُ لِكِبَارِ شُيُوخِهِمْ، بَلْ أَثْبَتُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيُلَقِّنُهُمْ كَلَامًا مُدَّعِيًا أَنَّهُ رَبُّهُمْ، كَمَا حَكَاهُ الشَّعَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْقُطْبَ الْغَوْثَ الْأَكْبَرَ. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا عَظِيمًا مَلَأَ الْأُفُقَ وَسَمِعَ مِنْهُ صَوْتًا يُخَاطِبُهُ بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَقَدْ أَحَلَّ لَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَالَ لَهُ: اخْسَأْ يَا لِعَيْنُ، فَتَحَوَّلَ النُّورُ ظَلَامًا وَدُخَانًا، وَقَالَ لَهُ قَدْ نَجَوْتَ مِنِّي بِفَقِهِكَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ فَتَنَ بِهَذَا كَثِيرِينَ مِنْ كِبَارِ الشُّيُوخِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ خَاطَبَهُمْ بِالْحَقَائِقِ وَكَشَفَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمْ يَتَعَارَضُونَ فِي دَعَاوِيهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلِلشَّيْخِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعَرَانِيِّ كِتَابٌ صَغِيرٌ سَمَّاهُ (الْأَنْوَارَ الْمُقَدَّسَةَ، فِي بَيَانِ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ) مَطْبُوعٌ مَعَ كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ، ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ سَمِعَ وَهُوَ فِي حَالَةٍ بَيْنِ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ هَاتِفًا يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَلَامًا ذَكَرَهُ قَالَ: ((فَمَا اسْتَتَمَّ هَذَا الْكَلَامُ وَبَقِيَ عِنْدِي شَهْوَةُ نَفْسٍ لِمَقَامٍ مِنْ مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى مُرَادِهِمْ بِالْهَاتِفِ وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ((خَوْفًا أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ مِنَ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ عِنْدِهِمْ بِمَرَاتِبِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ وَحَيٌّ كَوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَقُولُ: ((اعْلَمْ أَنَّ الْهَاتِفَ الْمَذْكُورَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ وَلِيًّا أَوْ مِنْ صَالِحِي الْجِنِّ أَوْ هُوَ الْخِضْرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخِضْرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ بَاقٍ لَمْ يَمُتْ، وَقَدِ اجْتَمَعْنَا بِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ وَبِالْمَهْدِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُمَا طَرِيقَ الْقَوْمِ إِلَخْ. ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ الْوَحْيَ أَقْسَامًا وَضُرُوبًا كَثِيرَةً وَذَكَرَ مِنْهَا الْكَهَانَةَ وَالزَّجْرَ - أَيْ وَهُوَ أَسْفَلَهَا - وَوَحْيَ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ الْخَاصَّ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَمَا بَيْنَهُمَا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْإِخْوَانِ سَأَلَهُ أَنْ يُمْلِيَ عَلَيَّ إِلْقَاءَ الْهَاتِفِ الَّذِي سَمِعَهُ جُمْلَةً مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَآدَابِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَآدَابِ الْفُقَرَاءِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ((وَمَا يَدْخُلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّسَائِسِ فِي مَقَاصِدِهِمْ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِ اللهِ)) وَهَذَا مَحَلُّ الشَّاهِدِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَاتِفَهُ الَّذِي جَعَلَهُ الْأَصْلَ لِهَذَا التَّأْلِيفِ هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيْطَانِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الْمَعْصُومِ، بَلْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لَهُ وَكَذَا كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ فَهِيَ مَنْ أَشَدِّ الْكُتُبِ إِفْسَادًا لِلدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَآدَابِهِ بِمَا فِيهَا مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، فَقَدْ أَصْبَحَ الْمَلَايِينُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكِينَ بِاللهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَقَبُولِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، وَهُمْ يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ وَمُدَّعِي عِلْمِ الْغَيْبِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِالْكَرَامَاتِ أَوِ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَسْلُبُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَهْتِكُونَ أَعْرَاضَهُمْ، وَفِي نَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ. عَلَى أَنَّ مِنْ دُعَاةِ الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ التَّصَوُّفِ مَنْ أَلْبَسُوا دَعَايَتَهُمْ ثَوْبَ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَهُمْ يَبُثُّونَهَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ كَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَكُلُّ خِلَابَتِهِمْ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْوَحْيَ وَادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ طَرِيقِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَدْ جَعَلَهَا اللهُ وَسَطَا بَيْنَ الْغَالِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، مِنَ الْمُعَطَّلِينَ وَالْمُشْرِكِينَ،

فَهِيَ لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، وَلَا تُؤْمِنُ بِوَحْيٍ وَلَا نُبُوَّةٍ لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَا بِتَشْرِيعٍ دِينِيٍّ إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ، وَلَا بِوِلَايَةٍ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَقَدْ صَارَ الْمُعْتَصِمُونَ بِهَذَا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي انْتَشَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَسَادُ، جَمَاعَاتٍ قَلِيلَةَ الْأَفْرَادِ، فَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهَا اللهُ ضَاعَ فِيهَا الْإِسْلَامُ. (اسْتِطْرَادٌ، فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ) (مِنْ طَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ) أَيُّهَا الْقَارِئُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ، قَدْ آنَ أَنْ أُصَارِحَكَ بِمَسَائِلَ مُخْتَصَرَةٍ هِيَ ثَمَرَةُ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَعِبَادَةٍ وَرِيَاضَةٍ وَتَصَوُّفٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَصْنِيفٍ وَمُنَاظَرَاتٍ وَمُحَاجَّةٍ فِي مُدَّةِ نِصْفِ قَرْنٍ كَامِلٍ، لَمْ يَشْغَلْنِي عَنْهَا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا شَاغِلٌ، وَإِنَّهَا لَكَلِمَاتٌ فِي حَقِيقَةِ دِينِ اللهِ وَعُلَمَائِهِ وَعِبَادِهِ صَادِرَةٌ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ، فَتَأَمَّلْهَا بِإِخْلَاصٍ وَاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ، وَلَا يَصُدَنَّكَ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا لِذَاتِهَا وَالِاعْتِمَادِ فِي ثُبُوتِهَا عَلَى مَصَادِرِهَا، حِرْمَانُ الْمُعَاصِرَةِ، وَاحْتِقَارُ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيسُ شُهْرَةِ الْأَمْوَاتِ، وَاتِّهَامُ قَائِلِهَا بِالْغُرُورِ وَالدَّعْوَى، فَإِنْ عَرَضَ لَكَ رَيْبٌ أَوْ شُبْهَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَارْجِعْ إِلَى مَصَادِرِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوِ ارْجِعْ إِلَى كَاتِبِهَا فَاسْأَلْهُ عَنْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَرَضَكَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، دُونَ التَّعَصُّبِ وَالْجَدَلِ، أَوِ التَّحَرُّفِ لِمَذْهَبٍ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ. (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) أَنَّ هَذَا الدِّينَ (الْإِسْلَامَ) وَحْيٌ إِلَهِيٌّ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ ظَهَرَ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ ; لِيُعَلِّمَهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ، فَيَجْعَلَهَا بِهِ مُعَلِّمَةً وَهَادِيَةً لِجَمِيعِ شُعُوبِ التَّعْطِيلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْحَضَارَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ هَذَا الدِّينَ لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ عُمْرِ نَبِيِّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ عَقِيدَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا تَحْرِيمًا دِينِيًّا مُطْلَقًا، وَلَا تَشْرِيعًا مَدَنِيًّا، إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَسَاسِ نُصُوصِهِ وَقَوَاعِدِهِ، فَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ وَأَفْقَهَهُمْ بِهِ وَأَصَّحَهُمْ دَعْوَةً إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُمْ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَهَذِهِ إِحْدَى مُعْجِزَاتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ وَضْعًا بَشَرِيًّا لَكَانَ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ مَبَادِئُهَا الْأُولَى نَاقِصَةً ثُمَّ تَنْمَى (وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ اشْتُهِرَتْ تَنْمُو) وَتَتَكَامَلُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ فِي عُلُومِ الْبَشَرِ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْعَمَلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اهْتَدَوْا بِإِرْشَادِهِ إِلَى الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ وَالْأَرْضِيِّ، وَلَا سِيَّمَا نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَعُلُومِهِ وَفَلْسَفَتِهِ وَأَدْيَانِهِ وَنُظُمِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَآدَابِ شُعُوبِهِ فَازْدَادُوا بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَظَهَرَ لِلرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْأَوَّلُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ نُصُوصَهُ الْقَطْعِيَّةَ مِنَ الْعَقَائِدِ

وَالْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْهُ جَمِيعُ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلِيَّةِ، وَكَشْفُ فَلْسَفَةِ الصُّوفِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْبَشَرِ كَافَّةً أَنْ يَقْصُرُوا هِدَايَةَ الدِّينِ عَلَى نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةِ، وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ وَجُمْهُورِ عِتْرَتِهِ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ فُشُوِّ الِابْتِدَاعِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْمِلَّةِ، ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ مِنْ مُجْتَهَدِي الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَعْذُرَ بَعْضُهَمْ بَعْضًا فِيمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَسَائِلِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الدِّينِ فَلَا يَجْعَلُوهُ سَبَبًا لِلتَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ، بِالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ ; لِئَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِيهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (6: 159) فَاسْتَحَقُّوا وَعِيدَ قَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (6: 65) وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (3: 105) . (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الْبِدَعَ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ فِي أُصُولِ دِينِهَا وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا تُؤْثِرُ كُلُّ شِيعَةٍ أَتْبَاعَ زُعَمَائِهَا وَمَذَاهِبِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ سَلَفِهِ الصَّالِحِ بِالتَّأْوِيلِ، مِنْ حَيْثُ تَدَّعِي أَنَّ أَئِمَّتَهَا أَعْلَمُ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مُؤَيَّدٌ بِالْكَشْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُقَلَّدُوا وَيُتَّبَعُوا، وَلَكِنَّ الْأَعْلَمَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا تُفْهَمُ النُّصُوصُ بِقَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِهَذِهِ الْبِدَعِ الْمُفَرِّقَةِ ثَلَاثُ مَثَارَاتٍ مِنْ أَرْكَانِ حَضَارَةِ الْأُمَمِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: السِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَالْعِلْمُ الْعَقْلِيُّ وَالْعُرْفَانُ وَفَلْسَفَةُ التَّعَبُّدِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ دَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ، وَالْكَرَامَاتِ الشَّامِلَةِ لِدَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ، وَنَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا كَلِمَةً: (1) السِّيَاسَةُ الدَّوْلِيَّةُ وَكَانَ مَثَارَهَا الْأَوَّلَ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ كَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْخِلَافَةُ وَضَاعَتْ سِيَادَةُ الْأُمَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، وَمَفَاسِدُهَا لَا تَزَالُ مَاثِلَةً، بِمَا لِلزُّعَمَاءِ الْمُسْتَغِلِّينَ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَإِنَّهَا لَعَصَبِيَّةٌ قَضَتْهَا السِّيَاسَةُ، وَسَتَقْضِي عَلَيْهَا السِّيَاسَةُ، وَقَدْ زَالَتِ السُّلْطَةُ الدِّينِيَّةُ مِنْ بَعْضِ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مُذَبْذَبَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا مَحَلَّ لِبَسْطِ ذَلِكَ هُنَا وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ. إِلَّا التَّذْكِيرُ بِأَنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ قَدْ غَلَبَهُمْ جَهَلَةُ الْأَعَاجِمِ عَلَى خِلَافَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلُوهَا عَصَبِيَّةً وِرَاثِيَّةً، فَلَمْ يَعْمَلُوا أَيَّ عَمَلٍ لِتَقْوِيَتِهَا بَعْدَ ضَعْفِهَا، وَلَا لِإِحْيَائِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَمْ يَضَعُوا نِظَامًا لِلِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ كَمَا فَعَلَ الْكَاثُولِيكُ بِنِظَامِ الْفَاتِيكَانِ الْبَابَوِيِّ، وَكَانَتِ الزَّيْدِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ أَشَدَّ حَزْمًا وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ بِنَصْبِ إِمَامٍ بَعْدَ إِمَامٍ لَهُمْ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ بَيْدَ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي وَضْعِ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِ الدَّعْوَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْقُوَّةِ.

وَلَكِنَّ غُلَاةَ الشِّيعَةِ نَقَضُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَسَاسِهِ بِدَعَايَةِ عِصْمَةِ الْأَئِمَّةِ، وَتَأْوِيلِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ كُلِّ ابْتِدَاعٍ مُخْرِجٍ مِنَ الْمِلَّةِ، إِذِ انْتَهَى بِأَهْلِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْوَحْيِ وَادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ سِرًّا فَعَلَانِيَةً. (2) النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَتَحْكِيمُهَا فِي النُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ، وَكَانَ أَضَرَّهَا وَشَرَّهَا ذَلِكَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الِاتِّبَاعِ وَعَلَى رَأْسِهِمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدُعَاةِ الِابْتِدَاعِ مِنْ مُتَكَلِّمِي نُظَّارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَوْلَا تَدَخُّلُ سُلْطَانِ الْعَبَّاسِيِّينَ فِي نَصْرِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، لَمَا وَصَلَتْ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ مِنَ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَدْ ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا دُوَلٌ تَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَتَى تَوَطَّدَتْ حُرِّيَّةُ الْعِلْمِ كَانَ النَّصْرُ وَالْفَلْجُ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيَمُوتُ مَا بَقِيَ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ بِمَوْتِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِهَا وَنَظَرِيَّاتِهَا، بَلْ هِيَ قَدْ مَاتَتْ وَصَارَتْ مِنْ مَوَارِيثِ التَّارِيخِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَاتَ هُوَ وَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَيَخْلُفُهُ عِلْمٌ آخَرُ فِي حِرَاسَةِ الْعَقَائِدِ مِنْ شُبُهَاتِ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَةِ هَذَا الْعَصْرِ، مَعَ إِبْقَاءِ الْخَلْطِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَقَائِدِ الدِّينِ وَمُحَاوَلَةِ تَحْكِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ نُظَّارُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَجَنَوْا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا أَضْعَفَ سُلْطَانَ الدِّينِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، بِمَا يُوقِفُهَا عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْفَضِيلَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، وَأَضْعَفَ سُلْطَانَ الْعِلْمِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ إِظْهَارُ سُنَنِ اللهِ فِي الْعَالَمِ وَتَسْخِيرِ قُوَى الطَّبِيعَةِ لِمَنَافِعِ النَّاسِ، وَفِاقًا لِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَوْ بَقِينَا عَلَى تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَانَ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ نَبَتَتْ نَابِتَةٌ وَدَعَايَةٌ لِتَحْكِيمِ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا بِتَأْوِيلٍ يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَأُصُولَ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يَتْرُكُ مَدْلُولَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، وَلِبَعْضِ الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ كُتُبٌ تُطْبَعُ وَمَقَالَاتٌ تُنْشَرُ فِي الصُّحُفِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا، وَمَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ تُقِرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُهَا. (3) دَعْوَى الْكَرَامَاتِ وَالْكَشْفِ، وَتَحْكِيمُهُ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَتَفْسِيرِ نُصُوصِهِ، وَفِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ نَجَمَتِ الْبِدَعُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ صَغِيرَةً كَقُرُونِ الْمَعْزِ ثُمَّ كَبِرَتْ فَصَارَتْ كَقُرُونِ الْوُعُولِ الَّتِي تُنَاطِحُ الصُّخُورَ، هَاجَمَهَا عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ يُؤَيِّدُهُمُ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ فَانْهَزَمَتْ أَمَامَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا ضَعُفَ الْعِلْمُ فَصَارَ تَقْلِيدِيًّا، وَضَعُفَ الْحُكْمُ فَصَارَ إِرْثًا جَهْلِيًّا، وَصَارَ صُوفِيَّةُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مِثْلِ الشَّعَرَانِيِّ وَسَلَاطِينُ مِصْرَ مِثْلَ قَايْتَبَايْ، خَضَعَتْ رِقَابُ الْمُسْلِمِينَ لِوِلَايَةِ مِثْلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ الَّذِي يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ)) ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَسُلُّ السَّيْفَ فَيَهْرُبُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ عَلَى دُخُولِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَيَزْعُمُ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الشَّيْطَانِيَّ نَفْسَهُ قَدْ خَطَبَ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ فِي ثَلَاثِينَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِالصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا. وَمِثْلُهُ ذَلِكَ الْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِالْهَذَيَانِ، وَالْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِي مَاخُورِ الْمُومِسَاتِ ; لِيَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ يَأْتِيهِنَّ عِنْدَ اللهِ وَيُمْسِكُهُ عِنْدَهُنَّ إِلَى أَنْ يُخْبِرَهُ كَشْفُهُ الشَّيْطَانِيَّ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فِيهِ وَمَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ. وَكَانَ مِنْ كَرَامَاتِهِ إِتْيَانُ الْأَتَانِ - فَهَذَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالْإِلْحَادُ وَمُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ، وَاجْتِرَاحُ كَبَائِرِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، كُلُّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَمْثَالِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَيُطِيعُ أَمْرَهُمْ رَضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ، وَمَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ عَنِ الدُّسُوقِيِّ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَدْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْخُرَافَاتُ فِي قُلُوبِ الْمَلَايِينِ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ، فَهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَإِنَّكَ لِتَجِدُ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيَانَ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (39: 34، 42: 22) فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الْخَيَالِيِّينَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ كُلَّ مَا أَرَادُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا يَزْعُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ مِنْهُمْ أَقْطَابًا مُتَصَرِّفِينَ (أَوْ مُدْرِكِينَ) بِالْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ وَتَحْرِيفٌ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِمَا هُوَ شِرْكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، لَا فِي أَوْلِيَاءِ الْخَيَالِ الْخُرَافِيِّ الْمَزْعُومِ، رَاجِعْ سُورَةَ النَّحْلِ (16: 30 - 32) وَسُورَةَ الْفُرْقَانِ (25: 15، 16) وَسُورَةَ الزُّمَرِ (39: 33، 34) وَسُورَةَ الشُّورَى (42: 22) وَسُورَةَ ق (50: 31 - 35) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ عَلَى النَّهْجِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ لَا يَقُومُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا كَشْفِيَّةٌ بَاطِنَةٌ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا مِنَ الْإِسْلَامِ لَكَانَ مَا جَاءَ الرَّسُولَ نَاقِصًا ثُمَّ كَمَلَ بِهَا. (بُطْلَانُ تَأْوِيلِ النُّصُوصِ لِلنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، بَلَهَ الْبَاطِنِيَّةِ) أَمَّا النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يَتَأَوَّلُ النُّصُوصَ لِأَجْلِهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهَا وَبُطْلَانُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ الْيَوْمَ لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا فِي بَابِهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُعَدُّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْقَطْعِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا، بَلْ كُلُّهَا قَابِلَةٌ لِلنَّقْضِ وَالْبُطْلَانِ،

كَمَا ثَبَتَ بُطْلَانُ مِثْلِهَا مِنْ مُسَلَّمَاتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ إِلَى السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ الْمِيلَادِيِّ، الَّتِي تَرَجَّحَ فِيهَا أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ مَظَاهِرِ الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ هُوَ مَظْهَرٌ لِتَرْكِيبٍ خَاصٍّ مَجْهُولٍ لِجُزْئَيِ الْكَهْرَبَاءِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكَلِمَتَيِ (الْبُرُوتُونِ وَالْإِلِكْتِرُونِ) فَبَطَلَتْ بِهَذَا جَمِيعُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِذَنْ تَأْوِيلُ نَصٍّ دِينِيٍّ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ فِي خَبَرٍ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، لِنَظَرِيَّةٍ ظَنِّيَّةٍ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الرَّأْيِ الْبَشَرِيِّ؟ . وَإِذَا بَطَلَ تَأْوِيلُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوَاعِدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُرَاعَاةِ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ، وَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمُخَالَفَةِ لِأَصْلٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَطَلَ تَأْوِيلُ الْمُعَاصِرِينَ لِمَا يُخَالِفُ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ، فَأَجْدَرُ بِتَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ بُطْلَانًا لِأَنَّهَا تَحْكُمُ فِي اللُّغَةِ بِمَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُفْرَدَاتُهَا، وَلَا قَوَاعِدُ نَحْوِهَا وَبَيَانِهَا، وَنَاقِضَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الْقَطْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا لِلتَّحْرِيفِ فِيهِ، كَتَأْوِيلِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ السَّابِقَيْنِ، وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ اللَّاحِقَيْنِ، الْبَهَائِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى أُلُوهِيَّةِ الْبَهَاءِ، وَالْقَادَيَانِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى نُبُوَّةِ مِيرْزَا غُلَامِ أَحْمَدَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدِلُّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مُخَالِفًا لِلُغَتِهِمَا عَلَى دِينِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ النَّاسُ وَيُقَدِّسُوهُ. بُطْلَانُ الْأَخْذِ بِالْكَشْفِ فِي الدِّينِ: وَأَمَّا الْكَشْفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ إِدْرَاكِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُطَّرِدٌ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكَاتٌ نَاقِصَةٌ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، وَقَدْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ الطَّبِيعِيَّةُ وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ فِطْرِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَسْبِيٌّ وَصِنَاعِيٌّ، كَالتَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَمُرَاسَلَةَ الْأَفْكَارِ، وَيُشَبِّهُونَهُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِخُطُوطِ الْأَسْلَاكِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ وَبِدُونِهَا، وَهُوَ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ صُوفِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِصُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَعْتَرِفُونَ بِتَلْبِيسِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَقِلَّةٌ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْكَشْفِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى حَقِيقِيًّا إِلَّا مَا وَافَقَ نَصًّا قَطْعِيًّا. وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَطَأِ وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّخَيُّلَاتِ فِي الْكَشْفِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ النُّورَانِيَّ تَعَارُضُ أَهْلِهِ وَتَنَاقُضُهُمْ فِيهِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِيهِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ مَعْلُومَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ وَالْخُرَافِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ جَبَلَ قَافٍ الْمُحِيطَ بِالْأَرْضِ وَالْحَيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي تَرْجَمَةِ الشَّعَرَانِيِّ لِلشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ الْأَفْلَاكَ وَكَوَاكِبَهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْيُونَانِيَّةِ الْبَاطِلَةِ أَيْضًا. وَأَكْثَرُهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كَشْفِهِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ، فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْمَفْتُونِينَ بِكَشْفِهِمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ

قَالُوا: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ فِي كَشْفِنَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي رِوَايَاتِكُمْ، وَكَشْفُنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعِلْمُكُمْ ظَنِّيٌّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَشْفًا هَذَا شَأْنُهُ وَشَأْنُ أَهْلِهِ إِنْ صَحَّ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الشَّرْعِ وَعَقَائِدَهُ وَأَحْكَامَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُصَدِّقَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُهُمَا، وَأَنْ يُثْبِتَ مَنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا، وَمَا أَغْنَانَا عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ الْإِلْهَامَ - وَهُوَ الْكَشْفُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، ((لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِعَدَمِ ثِقَةِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا بِخَوَاطِرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ)) أَيْ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا بِهِ الْأُصُولَ كَمَا خَالَفُوا النُّصُوصَ. الْكَرَامَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِصْمَةِ: وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ إِنَّهَا تَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالنَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَتُسَمَّى مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ إِذَا تَحَدَّى بِهَا، وَكَرَامَةً لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ، وَمَعُونَةً لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِدْرَاجًا لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ. وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكُبْرَى مَا قَلَّمَا كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَقَالَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَعْتَدُّوا بِهِ (أَوْ كَلِمَةً بِهَذَا الْمَعْنَى) حَتَّى تَرَوْهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلَّاطُونَ مِنْهُمْ، فَفِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ (الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ) لِلشَّعْرِانِيِّ ((وَظُهُورُ الْكَرَامَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَضْبُوطًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ بِوِلَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِيهِ أَحَدٌ)) إِلَخْ. وَهَذَا عَيْنُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَمِنْ خَلْطِهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي طَبَقَاتِهِمْ مُخَالِفٌ لِشَرْطِهِ، فَهُوَ يُبْطِلُ وِلَايَةَ أَكْثَرِ رِجَالِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْمَجَاذِيبِ الْمَجَانِينِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ. وَمِنْهُ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ: ((فَلَوْ رَأَيْنَا الصُّوفِيَّ يَتَرَبَّعُ فِي الْهَوَاءِ لَا يُعْبَأُ بِهِ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُخَاطِبًا بِتَرْكِهَا كُلَّ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حَالَةً أَسْقَطَتْ عَنْهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ أَمَارَةٍ تُصَدِّقُهُ عَلَى دَعْوَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَمَنْ يَشْطَحُ مِنْ شُهُودٍ فِي حَضْرَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَى اللهِ وَعَلَى أَهْلِ اللهِ، وَلَا يَرْفَعُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ رَأْسًا، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَطْرُودٌ عَنْ بَابِ الْحَقِّ، مُبَعْدٌ

عَنْ مَقْعَدِ صِدْقٍ، وَحَرَامٌ عَلَى الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمِثْلِ هَذَا)) اهـ. وَهُوَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. ثُمَّ قَالَ (فِي آخِرِ ص 8 مِنْهُ) وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ خَالَفَهُمَا خَرَجَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَحَالِ غَالِبِ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتُسِيءَ الظَّنَّ بِهِمْ، إِنَّمَا كَانُوا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - عَالِمِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، قَائِمِينَ صَائِمِينَ زَاهِدِينَ وَرِعِينَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَرَاجِمِهِمْ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إِذِ ادَّعَى أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا رَاجِعِينَ الْقَهْقَرَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) الْحَدِيثَ اهـ. أَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ قَدْ ذَرَّ قَرْنُهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَظَهَرَ الشُّذُوذُ فِي الْمُنْتَحِلِينَ لَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 202 هـ. إِذَا تَصَوَّفَ الرَّجُلُ فِي الصَّبَاحِ لَا يَأْتِي الْمَسَاءُ - أَوْ قَالَ الْعَصْرُ - إِلَّا وَهُوَ مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 241 هـ. بَعْدَهُ عَلَى خِيَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِرَاءَةِ كُتُبِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ عَلَى الْتِزَامِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الْحَارِثُ فِي سَنَةِ 243 هـ. وَهُوَ أُسْتَاذُ أَكَابِرِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الشَّعَرَانِيَّ يَعُدُّ أَهْلَ قَرْنِهِ الْعَاشِرِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصُّوفِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُدُّ أَهْلَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَوَّلَ الْمُتَشَبِّهِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ وَعَدَّ مِنْهُمْ فِرَقًا مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ 505 هـ. وَكَانَ قَدْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ عُلُومِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَانْقَطَعَ إِلَى عِلْمِ السُّنَّةِ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةِ 737 هـ. تَكَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَبَيَّنَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَفَنَّدَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَامَ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مِدْرَهُ السُّنَّةِ الْأَكْبَرُ، وَقَامِعُ الْبِدَعِ الْأَقْهَرُ، أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ، نَبَذَ مَنْ قَبْلَهِ، وَأَغْنَى عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَعَلَى كُتُبِهِ وَكُتُبِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمُعَوَّلُ.

تَفْضِيلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ: وَمِمَّا كَتَبَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنَ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَبَاطِيلِ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ - مَا نَصُّهُ: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مَتَّ بِالْإِرْثِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَحَادِيثَ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، فَلَهُمْ حَظٌّ فِي الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُمْ نَقْلَةُ الْوَحْيِ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْفُقَهَاءِ بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ، فَلَا يُحْشَرُونَ مَعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُحْشَرُونَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْطَبِقُ اسْمُ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَيُحْشَرُونَ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ لَا غَيْرَ كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُمَيَّزُونَ عَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّنْيَا، لَا غَيْرَ)) اهـ. وَلَكِنَّ بَعْضَ مَنْ يُسَمَّوْنَ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِنَا يُفَضِّلُونَ خُرَافَاتِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ إِلَى الْعَاشِرَةِ وَآرَاءَ مُقَلِّدِي الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ - وَهِي السُّفْلَى - عَلَى عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَائِهِ وَحُكَمَائِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَكُلِّ مَنْ يَهْتَدِي بِالْحَدِيثِ قَوْلًا وَكِتَابَةً بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ! ! . إِقْرَارُ مُتَقَدِّمِي الصُّوفِيَّةِ وَمُتَأَخَّرِيهِمْ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ: تَوَاتَرَ عَنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ أَصْلَ طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُوَافَقَةُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ خَلَطُوا الْبِدَعَ بِالسُّنَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ اللهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ مُبَاشَرَةً، وَأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ الْمَيِّتِينَ كَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذَا أَسَاسُ الِابْتِدَاعِ بَلِ الْمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ. وَمِمَّا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيِّ عَنِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ مِنَ الْخَلْطِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا نَصُّهُ: ((وَكَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ أَسْلَمُ التَّفْسِيرِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا عَنِ السَّلَفِ، وَأَنْكَرُهُ مَا فُتِحَ بِهِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَوْلَا مُحَرِّكُ قُلُوبِنَا لَمَا نَطَقْتُ إِلَّا بِمَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ، فَإِذَا حَرَّكَ قُلُوبَنَا وَارِدٌ اسْتَفْتَحْنَا بَابَ رَبِّنَا وَسَأَلْنَاهُ الْفَهْمَ فِي كَلَامِهِ فَنَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا يَفْتَحُهُ عَلَى قُلُوبِنَا، فَسَلِّمُوا لَنَا تَسْلَمُوا، فَإِنَّنَا فَخَّارَةٌ فَارِغَةٌ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى)) اهـ. أَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَوْ يَعْلَمُونَ هُمْ أَنَّ خَوَاطِرَهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْوَارِدَاتِ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لَا مِنَ الْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَكَيْفَ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَا لَا نَعْلَمُ، وَالْإِلْهَامُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَمُوَافِقًا لِإِلْحَادِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ بِدَعِ الْخَلَفِ، وَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْخِلَافُ فِيهِ؟

فَثَبَتَ إِذًا أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، هُمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ الْحَقِّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (35: 32) فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: مَنْ يُقَصِّرُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَلَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْفَضَائِلِ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّكَمُّلِ بِالْفَضَائِلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأَدُّبِ وَالتَّأْدِيبِ، حَتَّى يَكُونَ إِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ وَالصِّدِّيقِينِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَةُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَرَاجِعْ سُورَتَيِ الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ، فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (4: 69) وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِدُعَائِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (1: 6، 7) . وَبِهَذَا تَقُومُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعَالَمِينِ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَكْمَلَهُ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِيهِ بِفَلْسَفَتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ بِمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْكَشْفِ لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةُ اللهِ بِإِكْمَالِهِ، وَلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كُلُّ غَرَضِنَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَقَدْ أُظْهِرَ بِهِ الْحَقُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَّاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) .

65

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالَ أَوْلِيَائِهِ وَصِفَتَهُمْ وَمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَكَوْنَهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِهِ فِيمَا بَشَّرَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَنَصْرِ مَنْ آمَنَ لَهُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَنْصَارُ دِينِهِ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ فِي مَكَّةَ لَا تَزَالُ لِلْمُشْرِكِينَ بِكَثْرَتِهِمُ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَكَانُوا لِغُرُورِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَكَانَ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) (6: 33) الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لَهُ وَمُؤَكَّدًا وَعْدَهُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَوَعِيدَهُ لِأَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ. وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ مِنْ قَوْلِهِمُ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي تَكْذِيبِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَحَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أَيْ إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ لِلَّهِ جَمِيعَهَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَتْ لِلْكَثْرَةِ دَائِمًا كَمَا يَدَّعُونَ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِهَا رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (58: 21) وَ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (40: 51) وَ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (63: 8) فَعِزَّتُهُ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَمِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) (3: 26) وَقَرَأَ نَافِعٌ (يُحْزِنْكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَحْزَنَهُ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ (أَنَّ الْعِزَّةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّ لِحَذْفِ لَامِهَا، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (هُوَ السَّمِيعُ) لِمَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَادِّعَاءٍ لِلشِّرْكِ (الْعَلِيمُ) بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِيذَاءٍ وَكَيْدٍ وَمَكْرٍ، فَهُوَ يُذِلُّهُمْ وَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ آخَرُ فِي تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسْلِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ بِالْعِزَّةِ وَوَعِيدَ تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لَهُ جَمِيعًا وَالْجَزَاءِ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا أَيْضًا وَمُفْتَتِحًا بِأَدَاةِ التَّنَبُّهِ: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) مِنْ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ فَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَمْلُوكُونَ لَهُ (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ وَالْوَسَائِلِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ يَنْفَعُونَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ وَبِتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ

66

مِنْ رَعَايَاهُمْ إِلَّا بِوَسَائِلِ حُجَّابِهِ وَوُسَائِطِهِ وَوُزَرَائِهِ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ وَمَا هُمْ فِي اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا، أَيْ يَحْزِرُونَ حَزْرًا، أَوْ يَكْذِبُونَ كَذِبًا، أَصْلُ الْخَرَصِ: الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ مِنْ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ ذِرَاعٍ، بَلْ هُوَ كَخَرَصِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَلِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ أُطْلِقَ عَلَى لَازِمِهِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْكَذِبُ، فَالظَّنُّ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الظَّنِّ وَأَبَعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ قِيَاسِ الرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ سَمِعْتُهُ مِنْ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْجَاهِلِينَ لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْحِيدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَنْ يُلَقَّبُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْبَاشَوَاتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي وَسَائِلِهِمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَقَبْلُ وَسَاطَتَهُ وَشَفَاعَتَهُ، فَيَقِيسُونَ تَأْثِيرَ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُ تَعَالَى، عَلَى تَأْثِيرِ أَصْدِقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ وَمَعْشُوقِيهِمْ فِي قَبُولِهِمْ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَيَجْهَلُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الذَّاتِيِّ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الْعَادِلَةِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ وَأَنَّ جَمِيعَ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لَهُ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (17: 57) أَيْ إِنَّ أَقْرَبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِهِمْ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ دُونَهَمْ هُمْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ رَاجِينَ خَائِفِينَ، لَا كَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا يَقُومُ أَمْرُ مَلِكِهِمْ بِدُونِهِمْ، وَمَعْشُوقِيهِمُ الَّذِينَ لَا يَتِمُّ تَمَتُّعُهُمُ الشَّهْوَانِيُّ إِلَّا بِهِمْ. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْوَقْتَ قَسَمَيْنِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِدُونِ مُسَاعِدٍ وَلَا شَفِيعٍ، بَلْ بِمَحْضِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ: أَحَدُهُمَا اللَّيْلُ جَعَلَهُ مُظْلِمًا لِأَجْلِ أَنْ تَسْكُنُوا فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْحَرَكَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي الْأَرْضِ، تَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَثَانِيهِمَا النَّهَارُ جَعَلَهُ مُضِيئًا ذَا إِبْصَارٍ لِتَنْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَتَقُومُوا بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعُمْرَانِ وَالْكَسْبِ، وَالشُّكْرِ لِلرَّبِّ، فَالْمُبْصِرُ هُنَا مُعْطَى الْإِبْصَارِ سَبَبَهُ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (17: 12) الْآيَةَ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (17: 59) أَيْ آيَةً مُفِيدَةً لِلْبَصِيرَةِ وَالْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (27: 13) . وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَبْصَرَ النَّهَارُ وَأَضَاءَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَذَا إِبْصَارٍ

67

وَذَا ضِيَاءٍ اهـ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّذْكِيرُ فِي التَّنْزِيلِ بِآيَاتِ اللهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ خَلْقِهِمَا وَتَقْدِيرِهِمَا وَمَنَافِعِ النَّاسِ فِيهِمَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكٌ وَهُوَ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى وَالْعَكْسُ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) مِثْلُهُ، أَيْ إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَدَلَائِلَ بَيِّنَاتٍ، وَآيَاتٍ أَيَّ آيَاتٍ، عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ بِحِكَمِهِ تَعَالَى وَنَعَمِهِ فِيهَا سَمَاعَ فِقْهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَيُبْصِرُونَ مَا فِي الْكَائِنَاتِ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ إِبْصَارَ تَأَمُّلٍ، ذَكَرَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلَّيْلِ الَّذِي قَدَّمَ ذِكْرَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهَارِ وَتَذْكِيرٌ بِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ الْإِيجَازِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَقَامِ الْإِطْنَابِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (28: 71 - 73) وَأَحْسِنْ بِذَلِكَ الْإِطْنَابِ تَفْسِيرًا لِمَا هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعُهُ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ. (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يَفْلَحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعِهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ حِكَايَةٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى قَرِيبٍ مِنْ كُفْرِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا، وَقَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحَكَاهُ عَنْهُمْ مَفْصُولًا لَا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مُسْتَقِلٌّ وَتَعَقَّبَهُ بِالْإِبْطَالِ. (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (وَيَرَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ عُزَيْرًا هُوَ أُوزِيرُوسُ أَحَدُ آلِهَةِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ) (سُبْحَانَهُ) كَلِمَةُ التَّسْبِيحِ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهُ

68

وَالتَّقْدِيسُ، أَيْ تَسْبِيحًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَتُقَالُ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ، وَيَصِحُّ هُنَا جَمْعُ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَقَفَّى عَلَى هَذَا التَّنْزِيهِ وَالتَّعَجُّبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ: (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِلْكٌ وَعَبِيدٌ لَهُ لَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُجَانِسُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ لِأُمُورٍ مِنْهَا بَقَاءُ ذِكْرِهِ بِهِ وَبِذَرِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ قُوَّةٌ وَعُصْبَةٌ لَهُ يَعْتَزُّ بِهِ هُوَ وَعَشِيرَتُهُ، وَمِنْهَا أَنَّ وُجُودَهُ زِينَةٌ لَهُ فِي دَارِهِ يَلْهُو بِهِ فِي صِغَرِهِ، وَيُفَاخِرُ بِهِ أَقْرَانَهُ فِي كِبَرِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقَضَاءِ مَصَالِحِهِ وَتَنْمِيَةِ ثَرْوَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِهِ وَبِرِّهِ، عِنْدَ عَجْزِهِ أَوْ فَقْرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا) ((إِنْ)) هُنَا نَافِيَةٌ وَ ((مِنْ)) مُؤَكِّدَةٌ لِهَذَا النَّفْيِ مُفِيدَةٌ لِعُمُومِهِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَالْجُمْلَةُ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَدٌّ عَلَيْهِمْ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَعِلْمٍ وَلَا وَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَتُعَارِضُونَ بِهِ هَذَا الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللهِ وَغِنَاهُ الْمُطْلَقُ عَنِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ الْمَالِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَبْكِيتٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى أَقْبَحِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَجِيءِ مَا يَنْقُضُهُ مِنَ الْعِلْمِ الْبُرْهَانِيِّ، وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ قَاطِعٍ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ عَنِ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَعَنِ النَّصَارَى خَاصَّةً فِي سُورِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي فِي سُوَرٍ أُخْرَى مَعَ إِبْطَالِهِ وَتَفْنِيدِهِ بِالدَّلَائِلِ وَوُجُوهِ الْحُجَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسَالِيبِ، أَوِ التَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ. (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بِاتِّخَاذِهِمُ الشُّرَكَاءَ لَهُ، أَوْ بِزَعْمِهِمُ اتِّخَاذَهُ وَلَدًا لِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، أَوْ بِدَعْوَى وِلَايَتِهِمْ وَإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَسْرَارِ خَلْقِهِ وَتَصْرِيفِهِ لَهُمْ فِي مُلْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ 17، 59، 60 (لَا يُفْلِحُونَ) أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِنَعِيمِهَا بِشَفَاعَةِ الْوَلَدِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ لَهُ تَعَالَى أَوْ فِدَائِهِمْ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) هَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ يَرُدُّ عَلَى نَفْيِ فَلَاحِهِمْ بِالْإِطْلَاقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، وَالْمُفْتَرُونَ عَلَى اللهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الْجَاهِلِينَ،

70

لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ لَا يَزَالُونَ جَاهِلِينَ يَخْضَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءِ الْمُلَبِّسِينَ، فَهُوَ يَقُولُ: هَذَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ - أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا حَقِيرٌ يَتَلَهَّوْنَ بِهِ فِي حَيَاةٍ قَصِيرَةٍ، فَأَمَّا قِلَّتُهُ وَحَقَارَتُهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهَا تَنْكِيرُهُ مَعَ الْقَرِينَةِ، وَأَمَّا قِصَرُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَمَعْلُومٌ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَهْمَا يَبْلُغْ هَذَا الْمَتَاعُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَعَظَمَةِ الْجَاهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ لِلصَّادِقِينَ الْمُتَّقِينَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَهُمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْعَرْضِ (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بِآيَاتِنَا وَنِعَمِنَا، وَبِالِافْتِرَاءِ عَلَيْنَا، وَتَكْذِيبِ رُسُلِنَا أَوِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فِي الْحِسَابِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّنَا لَا نَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) . هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ أَتَمَّ الِاتِّصَالِ، بِتَفْصِيلِهِ لِبَعْضِ مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ، وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا وَسَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَخْذُلُهُمْ وَيَنْصُرُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَأَهْلَكَهُمْ وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِهَا قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (13)

71

إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 14 ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (39) ثُمَّ قَالَ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (47) جَاءَ هَذَا فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى الْوَحْيِ، وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَرَأْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَالْحُجَجِ عَلَى مَضْمُونِ الدَّعْوَى مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَالتَّكْرَارِ الْبَلِيغِ لِمَقَاصِدِهَا، وَإِنْذَارِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَجَاءَ بِهِ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِهِ مُتَمِّمٌ لَهُ بِخِلَافِ سَرْدِ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (7: 59) لِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ أُورِدَتْ هُنَاكَ مُسْتَقِلَّةً، لَا تَفْسِيرًا، وَلَا تَفْصِيلًا لِمُجْمَلٍ قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً بِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ مَوْضُوعِهَا الْعَامِّ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فَلْسَفَةً عَقْلِيَّةً نَفْسِيَّةً، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أَيْ وَاقْرَأْ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ مِنْ قَوْمِكَ، فِيمَا أَوْعَدْتُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ عَلَى سَابِقِ سُنَّتِهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ مِنْ قَبْلِكَ، خَبَرَ نُوحٍ ذِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) أَيْ نَبَأَهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَكَذَّبُوهُ، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) - لَا جَمِيعَ أَنْبَاءِ قِصَّتِهِ مَعَهُمْ (الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَوُضِعَتْ بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ) لِيَعْلَمُوا مِنْ هَذَا النَّبَأِ الْخَاصِّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي نَصْرِ رُسُلِهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ مَنِ اتَّبَعَكَ وَضَعْفِهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ سَيَكُونُونَ خَلَائِفَ الْأَرْضِ فِي قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ مُكْثُهُ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ فَمَلُّوا مَقَامَهُ، وَسَئِمُوا وَعْظَهُ وَائْتَمَرُوا بِهِ: يَا قَوْمِي إِنْ كَانَ قَدْ كَبُرَ أَيْ شَقَّ وَعَظُمَ عَلَيْكُمْ قِيَامِي فِيكُمْ، أَوْ مَكَانِي مِنَ الْقِيَامِ بِمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي ثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ - التَّذْكِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفِي الْآفَاقِ فَيُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَتَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، حَتَّى يَكُونَ بَيَانُهَا تَذْكِيرًا أَوْ كَالتَّذْكِيرِ لِمَنْ فَقِهَهَا بِشَيْءٍ كَانَ يَعْرِفُهُ بِالْقُوَّةِ، فَعَرَفَهُ بِالْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ التَّالِيَةِ قَوْلُهُ لَهُمْ: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) (11: 34) الْآيَةَ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَضْعِفُونَهُمْ، أَيْ إِنْ كَانَ كَبُرَ

عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَأَرَدْتُمُ التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِالْإِيقَاعِ بِي، فَإِنَّنِي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ رِسَالَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ كَالسَّفَرِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، قِيلَ أَصْلُهُ جَمْعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ لَمْ يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَيْ أَجْمِعُوا مَا تُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ كَمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) الَّذِي تَعْتَزِمُونَهُ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أَيْ خَفِيًّا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْرَةِ أَوِ اللَّبْسِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ فِي الْإِنْقَاذِ، بَعْدَ الْعَزْمِ وَالْإِجْمَاعِ، بَلْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِيهِ لِكَيْلَا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ بِظُهُورِ الْخَطَأِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ هُوَ الصَّوَابَ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذَلِكَ الْأَمْرَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ وَاعْتِزَامِهِ وَبَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا غُمَّةَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ بِأَنْ تُنَفِّذُوهُ بِالْفِعْلِ، فَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّيْءِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِتْمَامِهِ وَمِنْهُ: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) (28: 29) (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) (33: 23) وَ (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) (33: 37) وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى لِإِفَادَةِ إِبْلَاغِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ آيَةَ رَقْمِ 11 (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، وَإِذَا عُدِّيَ هَذَا بِإِلَى يُفِيدُ تَبْلِيغَ خَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) (17: 4) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (15: 66) ، (وَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ لَا تُمْهِلُونِي بِتَأْخِيرِ هَذَا الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا. هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَبْلَغِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِبَارَةً، وَأَجْمَعِهَا عَلَى إِيجَازِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشَجَاعَتِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا سِوَاهُ، وَبَيَانِ خَاتَمِهِمْ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَقْوَامِهِمْ، وَحَسُنِ وَعْظِهِ لَهُمْ بِوَحْيِ رَبِّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَضْرِبُ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُمْ مَثَلَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي غُرُورِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِرَسُولِهِ وَلِمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِمَا يَعْتَزُّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّسُولَيْنِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَالْجَزْمِ بِإِهْلَاكِ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَأَصْحَابَ السُّلْطَانِ فِيهَا. صَوَّرَتِ الْآيَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْبُلَغَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِمُطَالَبَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ - الْمَشْهُورُ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَظَوَاهِرِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ - بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْإِيقَاعِ بِهِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ دَعْوَتِهِ، مُطَالَبَةَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الْمُذِلِّ بِبَأْسِهِ، وَالْمُعْتَصِمِ بِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ رَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، لِلضَّعِيفِ الْعَاجِزِ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِجَمِيعِ أَسْبَابِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، إِذْ أَمَرَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى بِإِجْمَاعِ

أَمْرِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِهَا مُتَفَرِّقًا بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَضُمُّوا إِلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ قُوَّةَ الْإِيمَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِشُرَكَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ الْمُجَمَّعَةُ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوَهْنُ أَوِ الْعِلَلُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْفَسْخِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ، نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي أَجْمَعُوا شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْخَفَاءِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ إِجْمَاعَ الْعَزْمِ فِي الْأَمْرِ لَا يَكُونُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ الْبَاعِثِ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ غُمَّةً امْتَنَعَ إِجْمَاعُهُ كَمَا يَمْتَنِعُ إِجْمَاعُ الصِّيَامِ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَمْرُ بِإِجْمَاعِ الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً، فَمَا حِكْمَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الرُّتْبَةِ؟ (قُلْتُ) : يَكْفِي فِي إِجْمَاعِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ غَيْرُ مُعَارَضَةٍ بِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْحَيْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَسْخِ أَوِ التَّرَدُّدِ فَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُؤَكِّدَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ الْغُمَّةِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ وَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْطِفَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذِهِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَالنَّهْيِ كِلْتَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا مَعًا بِـ (ثُمَّ) ، وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْظَارِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ الَّتِي تُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ لِاتِّحَادِ زَمَنِهِمَا وَرُتْبَتِهِمَا فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنِهِمَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ، أَيِ اجْمَعُوا مَا تَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (وَشُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لَا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بِالرَّفْعِ أَيْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَلَا تُتْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ ((أَفْضُوا إِلَيَّ)) مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيِ انْصَرَفْتُمْ عَنِّي مُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِكُمْ عَنْ تَذْكِيرِي (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ عَلَى هَذَا التَّذْكِيرِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَةِ وَالنُّصْحِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ وَالْمُكَافَآتِ فَتَتَوَلَّوْا لِثِقَلِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فَيَضُرُّنِي أَنْ يَفُوتَ عَلَيَّ وَأُحْرَمَهُ فَأُبَالِيَ بِتَوَلِّيكُمْ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي عَلَى دَعْوَتِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَفِّينِي إِيَّاهُ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الْمُنْقَادِينَ الْمُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَسْلَمْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ، فَلَا أَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (11: 88) .

73

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أَيْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ لَهُمُ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى حَقِّيَّةِ دَعْوَتِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مَنْ كُلِّ خَوْفٍ مِنْهُمْ إِذَا كَذَّبُوا، وَرَجَاءٍ فِيهِمْ إِذَا آمَنُوا، فَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا بِأَمْرِنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَفْظُ ((الْفُلْكِ)) هُنَا مُفْرَدٌ وَهُوَ السَّفِينَةُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ أَيْضًا كَمَا قَالَ: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) (16: 14) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْقَرَائِنِ، إِنْ لَمْ تُوصَفْ بِالْجَمْعِ كَالْمَوَاخِرِ (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ) يَخْلُفُونَ الْمُكَذِّبِينَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا عَلَى قِلَّتِهِمْ (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ وَأَوْعَدَهُمُ الْعَذَابَ، أَيْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أَيْ فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِعَيْنِ بَصِيرَتِكَ وَعَقْلِكَ، كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْذَرَهُمْ رَسُولُهُمْ وُقُوعَ عَذَابِ اللهِ عَلَيْهِمْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، فَكَذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ مَنْ يُصِرُّونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَكَ. قَدَّمَ ذِكْرَ تَنْجِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِخْلَافَهُمْ عَلَى إِغْرَاقِ الْمُكَذِّبِينَ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ صِدْقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا تَقْدِيمُ مِصْدَاقِ الْوَعْدِ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْرِيَةِ حُزْنِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَمِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا كَوْنُهُ هُوَ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا (أَيِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ) مِنَ اللهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى إِيقَاعِهِمَا، عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمَغْرُورُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّةِ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّهَا تُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَمْيِيزَ فِيهَا وَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَكَانَ آيَةً لَهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ عَلَى وَفْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لَمَا هَلَكَ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ، وَنَجَا أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ لَهُمْ صِفَةٌ خَاصَّةٌ أَخْرَجَهُمْ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِخَبَرِ رَسُولِهِمْ، وَمَا سِيقَ هَذَا النَّبَأُ هُنَا إِلَّا لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَغَفَلَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ عَنْ نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ فَقَالُوا: إِنَّهَا تَعْجِيلُ الْمَسَرَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِيذَانُ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُقَدِّمَةٌ عَلَى الْعَذَابِ وَلَكِنْ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ لِذَاتِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهِمِ الصَّوَابِ. (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسَلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) . بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةً أُخْرَى مَنْ عِبَرِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَسُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، تَكْمِلَةً لِمَا بَيَّنَهُ فِي حَالِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ رَسُولِهِمْ، عَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَيَعْلَمُوا كَيْفَ

74

يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ سُوءٍ وَضُرٍّ عُلِمَ سَبَبُهُ أَمْكَنَ اتِّقَاؤُهُ بِاتِّقَاءِ سَبَبِهِ، إِذَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيِّ كَالْكُفْرِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ. (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) أَيْ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا مِثْلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مِثْلَ قَوْمِهِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ خَبَرِهِمْ مَعَهُمْ، وَلِهَذَا أَفْرَدَ كَلِمَةَ (قَوْمِهِمْ) فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ: أَرْسَلَنَا كُلَّ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ كَهُودٍ إِلَى عَادٍ وَصَالِحٍ إِلَى ثَمُودَ، وَلَمْ يُرْسَلْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إِلَى كُلِّ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ إِلَّا شُعَيْبًا، أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدِينَ وَإِلَى جِيرَانِهِمْ أَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَةِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أَيْ فَجَاءَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْهُمْ قَوْمَهُ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ وَصِحَّةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِحَسْبِ أَفْهَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي سَبَبِ كُفْرِهِ، وَهُوَ اسْتِكْبَارُ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقْلِيدُ الدَّهْمَاءِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أَيْ مِثْلُ هَذَا الطَّبْعِ، وَعَلَى غِرَارِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي اطَّرَدَتْ فِيهِمْ، (نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) مَثَلُهُمْ فِي كُلِّ قَوْمٍ كَقَوْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا كَانُوا مِثْلَهُمْ: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (17: 77) وَ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) (33: 62، 48: 23) فَأَمَّا الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا شَيْئًا غَيْرَ مَا رَسَخَ فِيهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِمَّا يُخَالِفُهُ كَقَبُولِ الْجَاهِلِ الْمُقَلِّدِ الدَّلِيلَ الْعِلْمِيَّ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِ التَّقْلِيدِيِّ وَرُجُوعِ الْمُعَانِدِ عَنْ عِنَادِهِ وَكِبَرِهِ النَّفْسِيِّ (وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا مَا سَبَقَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورِ النِّسَاءِ وَالْأَعْرَافِ وَالتَّوْبَةِ، وَمَثَلُهُ تَفْسِيرُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ آيَةَ (7) . وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ الَّذِي صَارَ وَصْفًا ثَابِتًا لِهَؤُلَاءِ (الْمُعْتَدِينَ) فَمَعْنَاهُ تَجَاوُزُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، فَالطَّبْعُ الْمَذْكُورُ أَثَرٌ طَبَعِيٌّ لِلْحَالَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِوَصْفِ الِاعْتِدَاءِ، وَلَيْسَ عِقَابًا أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ أَيْ جَدِيدًا) خَلَقَهُ اللهُ لِمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ بِكُفْرِهِمْ وَلَمَا كَانَ فِيهِ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، بَلْ لَكَانَ حُجَّةً لَهُمْ، وَقَدْ فَهِمَتْ قُرَيْشٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُتَكَلِّمُو الْجَبْرِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا وَصْفٌ لِلْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَسَنَّتُهُ تَعَالَى فِي دَوَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَوَامِ الْآخَرِ، لَا بِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ خَلْقِيًّا لَا مَفَرَّ مِنْهُ، بَلِ الْمَفَرُّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ مُمْكِنٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَانِدِ لِعِنَادِهِ وَالْمُقَلِّدِ لِتَقْلِيدِهِ، إِيثَارًا لِلْحَقِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، فَهِمُوا هَذَا فَاهْتَدَى الْأَكْثَرُونَ بِالتَّدْرِيجِ، وَهَلَكَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا.

75

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ بِآيَتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) . هَذِهِ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مُلَخَّصَةً هُنَا فِي 19 آيَةً مُفَصَّلَةً مُرَتَّبَةً كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ مِنْهَا فِي اسْتِكْبَارِ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى مِنَ السِّحْرِ، وَتَعْلِيلِ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اتِّبَاعَهُ تَحْوِيلٌ لَهُمْ عَنِ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنِ الْآبَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْلُبُ سُلْطَانَهُمْ مِنْهُمْ وَيَنْفَرِدُ هُوَ وَأَخُوهُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ الْمُخْتَصَرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهُنَّ بِالِاخْتِصَارِ: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) أَيْ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ - الَّذِينَ بَعَثْنَاهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ - مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ مِصْرَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ أَرْكَانُ دَوْلَتِهِ، وَإِلَى قَوْمِهِمُ الْقِبْطِ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ لَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكُفْرِهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ آمَنُوا (بِآيَاتِنَا) أَيْ بَعَثْنَاهُمَا مُؤَيِّدَيْنِ بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أَيْ فَاسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ كِبْرًا وَعُلُوًّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَصِنَاعَةِ السِّحْرِ، وَكَانُوا قَوْمًا رَاسِخِينَ فِي الْإِجْرَامِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) . (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ) وَهُوَ آيَاتُنَا الدَّالَّةُ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ (مِنْ عِنْدِنَا) وَوَحْيِنَا

76

إِلَى مُوسَى كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا، الْمُبْطِلِ لِادِّعَاءِ فِرْعَوْنَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (79: 24) وَقَوْلِهِ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (28: 38) (قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ أَقْسَمُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ إِنَّمَا هُوَ سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا السِّحْرُ صِنَاعَةٌ بَاطِلَةٌ هُمْ أَحَذَقُ النَّاسِ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَّبِعُونَ مَنْ جَاءَ يُنَازِعُهُمْ سُلْطَانَهُمْ بِهَا، فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى؟ . (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ) أَيْ قَالَ لَهُمْ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَقُولُونَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ لِلْحَقِّ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ أَبَعْدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ كَيْدِ السِّحْرِ الْبَاطِلِ، لَمَّا جَاءَكُمْ وَعَرَفْتُمُوهُ وَاسْتَيْقَنَتْهُ أَنْفُسُكُمْ، حَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مُنْكِرًا لَهُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ: (أَسِحْرٌ هَذَا) أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ بِأَعْيُنِكُمْ، وَتَرْجُفُ مِنْ عَظَمَتِهِ قُلُوبُكُمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا مِنْ جِنْسِ مَا تَصْنَعُهُ أَيْدِيكُمْ، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّاحِرِينَ لَا يَفُوزُونَ فِي أُمُورِ الْجِدِّ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ دَعْوَةِ دِينٍ وَتَأْسِيسِ مُلْكٍ وَقَلْبِ نِظَامٍ، وَهُوَ مَا تَتَّهِمُونَنِي بِهِ عَلَى ضَعْفِي وَقُوَّتِكُمْ، لِأَنَّ السِّحْرَ أُمُورُ شَعْوَذَةٍ وَتَخْيِيلٍ، لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْتَضِحَ وَتَزُولَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا جَوَابُهُمْ لَهُ: (قَالُوا أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْرِيطٍ وَتَقْرِيرٍ، تُجَاهَ مَا أَوْرَدَهُ مُوسَى مِنَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، فَحَوَاهُ أَتُقِرُّ وَتَعْتَرِفُ بِأَنَّكَ جِئْتَنَا لِتَصْرِفَنَا وَتَحَوُّلِنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا مِنَ الدِّينِ الْقَوْمِيِّ الْوَطَنِيِّ لِنَتِّبِعَ دِينَكَ وَتَكُونَ لَكَ وَلِأَخِيكَ كِبْرِيَاءُ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ كِبْرِيَاءِ الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّابِعَةِ لَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّهَا؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَكَ مِنْ دَعْوَتِكَ إِلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِهِ اعْتِرَافًا. جَعَلُوا الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالدَّعْوَةِ وَالْغَرَضَ مِنْهَا لِمُوسَى لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي لَهُمْ بِالذَّاتِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ أَخَاهُ فِي ثَمَرَةِ الدَّعْوَةِ وَفَائِدَتِهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِالضَّرُورَةِ (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِمُتَّبِعِينَ لَكُمَا اتِّبَاعَ إِيمَانٍ وَإِذْعَانٍ فِيمَا يُخْرِجُنَا مِنْ دِينِ آبَائِنَا الَّذِي تُقَلِّدُهُ عَامَّتُنَا، وَيَسْلُبُنَا مُلْكَنَا الَّذِي تَتَمَتَّعُ بِكِبْرِيَائِهِ خَاصَّتُنَا - وَهُمُ الْمَلِكُ وَأَرْكَانُ دَوْلَتِهِ وَبِطَانَتُهُ وَحَوَاشِيهِ - وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يَمْنَعَانِ جَمِيعَ الْأَقْوَامِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ.

79

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي خُلَاصَةِ مَا قَاوَمَ بِهِ فِرْعَوْنُ دَعْوَةَ مُوسَى لِتَأْيِيدِ ادِّعَائِهِ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَصَرْفِ قَوْمِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ السِّحْرِ وَآيَاتِ اللهِ لَهُ. (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) أَيْ ذَاكَ مَا قَالَهُ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنْ إِصْرَارِ مُوسَى عَلَى دَعْوَتِهِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِالتَّصْرِيحِ لَهُ بِمَا يَدْعُونَ أَوْ يَظُنُّونَ مِنْ مُرَادِهِ: (ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ وَاسِعِ الْعِلْمِ رَاسِخٍ فِيهِ مُتْقِنٍ لِلسِّحْرِ بِالْعَمَلِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (6: 37) . (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ) الْمَطْلُوبُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ (قَالَ لَهُمْ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ خَيَّرُوهُ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ مَا عِنْدَهُ أَوَّلًا أَوْ يُلْقُوا هُمْ مَا عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ وَإِظْهَارُ الْحَقِّ. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) مَا أَلْقَوْهُ مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ السِّحْرِيَّةِ (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ وَأَلْقَيْتُمُوهُ أَمَامَنَا هُوَ السِّحْرُ لَا مَا جِئْتُ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ سِحْرًا (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أَيْ سَيُظْهِرُ بُطْلَانَهُ لِلنَّاسِ وَأَنَّهُ صِنَاعَةٌ خَادِعَةٌ، لَا آيَةٌ خَارِقَةٌ صَادِعَةٌ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةُ لِبَيَانِ مَا يُوقِنُ بِهِ مُوسَى مِنْ مَآلِ هَذَا السِّحْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا لِمَا قَبْلَهَا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ الَّذِي هُوَ السِّحْرُ، إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَعَلَّلَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وَهُوَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَنَازُعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا سِحْرُهُمْ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَفَسَادٌ، أَيْ لَا يَجْعَلُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ صَالِحًا، وَالسِّحْرُ مِنْ عَمَلِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْمُفْسِدِينَ. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) أَيْ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ الْخَلْقِ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الْبَاطِلِ بِكَلِمَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ وَهِيَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يُوجِبُهَا إِلَى رُسُلِهِ

82

وَمِنْهَا وَعْدُهُ بِنَصْرِي عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِنْقَاذِ قَوْمِي مِنْ عُبُودِيَّتِهِ وَظُلْمِهِ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) كَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ (8: 7، 8) . (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لِمَنِ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ اللهُ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ مِصْرَ، فِي إِثْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الْمُتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ أَوِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّ إِصْرَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِمُوسَى بَعْدَ خَيْبَةِ السَّحَرَةِ وَظُهُورِ حَقِّهِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، ثُمَّ عَزْمَهُ عَلَى قَتْلِهِ كَمَا أَنْبَأَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (40: 26) يَعْنِي بِالْفَسَادِ الثَّوْرَةَ وَالْخُرُوجَ عَلَى السُّلْطَانِ - كَمَا قَتَلَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ السَّحَرَةِ. كُلُّ هَذَا أَوْقَعَ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِ مُوسَى، فَمَا آمَنَ لَهُ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ الْأَحْدَاثُ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ وَالشُّبَّانُ، وَقِيلَ: قَوْمُ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَلَا يُقَالُ آمَنَ لَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَكُونُوا صِغَارًا، وَالذُّرِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَأَصْلُهُ الْجَمْعُ. (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أَيْ آمَنُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، أَيْ أَشْرَافِ قَوْمِهِمُ الْجُبَنَاءِ الْمُرَائِينَ الَّذِينَ هُمْ عُرَفَاؤُهُمْ عِنْدَ

83

فِرْعَوْنَ فِيمَا يَطْلُبُ هُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يَسْتَذِلُّونَ الشُّعُوبَ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ بِرُؤَسَاءَ وَعُرَفَاءَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَجَمْعُ ضَمِيرِهِ لِلتَّعْظِيمِ، عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِمُوسَى وَاتِّبَاعِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْإِرْهَاقِ. الْفُتُونُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الشَّدِيدُ لِلْحَمْلِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاضْطِهَادِ وَالتَّعْذِيبِ لِلِارْتِدَادِ عَنِ الدِّينِ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (8: 39) (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَاتٍ شَدِيدُ الْعُتُوِّ، مُسْتَبِدٌّ غَالِبٌ قَوِيُّ الْقَهْرِ فِي أَرْضِ مِصْرَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِعُلُوِّهِ قَهْرُهُ وَاسْتِبْدَادُهُ كَمَا حَكَى الله عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (7:127) (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أَيِ الْمُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِلَى الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ، وَالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَغَمْطِ الْحَقِّ وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى الْكِبْرِيَاءِ. (وَقَالَ مُوسَى) لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَدْ رَأَى خَوْفَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ مُرْشِدًا وَمُثْبِتًا لَهُمْ: (يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقَّ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَبِوَعْدِهِ فَثِقُوا، إِنْ كُنْتُمْ فِي إِيمَانِكُمْ مُسْتَسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ يَقِينًا إِذَا صَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ قَوْمِهِ كَمَا قِيلَ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ لِمُوسَى الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالِاتِّبَاعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَصْنَامِ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعَجَلَ الْمَصْنُوعَ وَعَبَدُوهُ. (فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ الْوَعْدِ، وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الْقَوْلِ، مَعَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَحْفَظَهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُ فَيُسْتَجَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا أَوْ مُقَارَنًا لِاتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَنْ تَعْمَلَ مَا تَسْتَطِيعُ، وَتَطْلُبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ، وَلَفْظُ (فِتْنَةٍ) هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْفَاتِنِ وَالْمَفْتُونِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِهِمْ فَنَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّنَا، أَوْ نَضْعُفَ فِيهِ فِرَارًا مِنْ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنْهُمْ بِنَا فَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا بِظُهُورِهِمْ عَلَيْنَا، وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَمِنَ الْمَعْقُولِ وَالثَّابِتِ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ سُوءَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، يَجْعَلُهُمْ مَوْضِعًا أَوْ مَوْضُوعًا لَافِتَتَانِ الْكَفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِهِمْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) (6: 53) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (25: 20) فَكَيْفَ إِذَا خَذَلَ أَهْلَ الْحَقِّ حَقُّهُمْ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ؟ .

86

(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ نَجِّنَا مِنْ سُلْطَانِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَافِرِ لَا يُطَاقُ، وَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فِي جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (60: 4، 5) وَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ بِهَذِهِ الْأُسْوَةِ وَتَجْدِيدِ الْإِنَابَةِ، وَتَكْرَارُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاشِعِينَ مُعْتَبِرِينَ مُسْتَعْبِرِينَ فَقَدْ أَصْبَحُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) يُقَالُ تَبَوَّأَ الدَّارَ: اتَّخَذَهَا مُبَوَّءًا أَوْ مَبَاءَةً أَيْ مَسْكَنًا ثَابِتًا وَمَلْجَأً يَبُوءُ إِلَيْهِ، أَيْ يَرْجِعَ كُلَّمَا فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ، وَبَوَّأَهَا غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ: (أَنْ تَبَوَّآ) تَفْسِيرٌ لِأَوْحَيْنَا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قُلْنَا لَهُمَا: اتَّخِذُوا لِقَوْمِكُمَا بُيُوتًا فِي مِصْرَ تَكُونُ مَسَاكِنَ وَمَلَاجِئَ يَبُوءُونَ إِلَيْهَا وَيَعْتَصِمُونَ بِهَا. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أَيْ مُتَقَابِلَةً فِي وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يُقَابِلُ الْإِنْسَانَ وَيَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمِنْهُ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَخَصُّ وَيَصِحُّ الْجَمْعُ هُنَا بَيْنَ الْمَعْنِيِّينَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أَيْ فِيهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الِاتِّجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِكْمَةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) وَحِكْمَةُ هَذَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَبْلِيغِهِمَا إِيَّاهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ مِمَّا بُعِثَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِاسْتِقْبَالِهَا وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِتْنَةِ فِرْعَوْنَ وَمِلْئِهِ الظَّالِمِينَ لَهُمْ وَتَنْجِيَتِهِمْ مِنْ ظُلْمِهِمْ. خَصَّ اللهُ مُوسَى بِهَذَا الْأَمْرِ (التَّبْشِيرِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ الْمَنُوطِ بِهِ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ عَمَلِيٌّ هُوَ وَزِيرُهُ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ. (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .

88

هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا الرَّابِطَتَانِ بَيْنَ سِيرَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي مِصْرَ، وَبَيْنَ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ عَلَيْهِ وَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَإِهْلَاكِهِ عِقَابًا لَهُ كَمَا وَقَعَ لِنُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ. (وَقَالَ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ إِعْدَادًا دِينِيًّا دُنْيَوِيًّا، مُتَوَجِّهًا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِتْمَامِ الْأَمْرِ، بَعْدَ قِيَامِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْبَابِ: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ إِنَّكَ أَعْطَيْتَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ وَكُبَرَاءَهُمْ دُونَ دُهَمَائِهِمْ - مِنَ الصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ وَالْجُنْدِ وَالْخَدَمِ - زِينَةً مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْآنِيَةِ وَالْمَاعُونِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ وَالْمَقَادِيرِ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِدُونِ حِسَابٍ (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ هَذَا الْعَطَاءِ إِضْلَالَ عِبَادِكَ عَنْ سَبِيلِكَ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِكَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزِّينَةَ سَبَبُ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ عَلَى النَّاسِ، وَكَثْرَةَ الْأَمْوَالِ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْضِعُ رِقَابَ النَّاسِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (96: 6، 7) وَذَلِكَ دَأْبُ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ، بِهِ تَشْهَدُ آثَارُهُمْ وَرِكَازُهُمُ الَّتِي لَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ مِنْ بِرَابِيهِمْ وَنَوَاوِيسِ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتُحْفَظُ فِي دَارِ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُوجَدُ مِثْلُهَا دُورٌ أُخْرَى فِي عَوَاصِمِ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ مَلْأَى بِأَمْثَالِهَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِيُضِلُّوا) تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَهِي الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَثَرٌ وَغَايَةٌ فِعْلِيَّةٌ لِمُتَعَلِّقِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ لَا بِالسَّبَبِيَّةِ وَلَا بِقَصْدِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (28: 8) وَيُمَيَّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ كَيِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ بِالْقَرِينَةِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ هُنَا مِنْهَا وَحَمَلُوهَا عَلَى الِاسْتِدْرَاجِ، أَيْ آتَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يُضِلُّوا النَّاسَ فَيَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ وَقَدْ يُعَزِّزُهُ قَوْلُهُ: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) يُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرُ وَطَمَسَتْهُ الرِّيحُ إِذَا زَالَ حَتَّى لَا يُرَى أَوْ لَا يُعْرَفَ (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (36: 66) وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْعَمَى وَبِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) (43) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَى هُنَا عَمَى الْبَصِيرَةِ لَا الْبَصَرِ وَالْمَعْنَى هُنَا: رَبَّنَا امْحَقْ أَمْوَالَهَمْ بِالْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ حَرْثَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَتُنْقِصُ مَكَاسِبَهُمْ وَثَمَرَاتِهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ فَيَذُوقُوا ذُلَّ الْحَاجَةِ (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا، وَزِدْهَا قَسَاوَةً وَإِصْرَارًا

وَعِنَادًا، حَتَّى يَسْتَحِقُّوا تَعْجِيلَ عِقَابِكَ فَتُعَاقِبَهُمْ (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) هَذَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ أَوْ دُعَاءٌ آخَرُ بِلَفْظِ النَّهْيِ مُتَمِّمٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَمَّنَ هَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُمَا بِقَوْلِهِ: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) أَيْ قُبِلَتْ، وَإِذَا قُبِلَتْ نُفِّذَتْ (فَاسْتَقِيمَا) عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْ إِعْدَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَامْضِيَا لِأَمْرِي وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ وَلَا تَسْلُكَانِ طَرِيقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ سُنَّتِي فِي خَلْقِي وَإِنْجَازِ وَعْدِي لِرُسُلِي، فَتَسْتَعْجِلَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَتَسْتَبْطِئَا وُقُوعَهُ فِي إِبَّانِهِ. هَذَا - وَإِنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا يُفَسِّرُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ، بِمَا يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا مِنْ إِرْسَالِ اللهِ النَّوَازِلَ عَلَى مِصْرَ وَأَهْلِهَا، وَلُجُوءِ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ إِلَى مُوسَى عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْهَا لِيَدْعُوَ رَبَّهُ فَيَكْشِفَهَا عَنْهُمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَشَفَهَا قَسَّى الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَأَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) . إِلَى قَوْلِهِ: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (7: 133: 136) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مِنْ أَبَاطِيلِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ)) وَأَمْثَالِهِ مِنْهَا (كَمَا نَرَى) صَدَّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَرَوْنَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فِي وَقَائِعَ عَمَلِيَّةٍ وَأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ. (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكِ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .

90

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ بِآخِرِ الْقِصَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ تَأْيِيدِ اللهِ لِمُوسَى وَأَخِيهِ الضَّعِيفَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَدَوْلَةً. (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) يُقَالُ: جَازَ الْمَكَانَ وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ إِذَا ذَهَبَ فِيهِ وَقَطَعَهُ حَتَّى خَلَّفَهُ وَرَاءَهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ جَوْزِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَسَطُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْجَوْزَاءِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَعَرُّضِهَا فِي جَوْزِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَمُجَاوَزَةُ اللهِ الْبَحْرَ بِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ جَاوَزُوهُ بِمَعُونَتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِفْظِهِ، إِذْ كَانَ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِفَرْقِهِ تَعَالَى بِهِمُ الْبَحْرَ وَانْفِلَاقِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا) أَيْ لَحِقَهُمْ فَأَدْرَكَهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا عَلَيْهِمْ لِيَفْتِكَ بِهِمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ يَتَعَبَّدُهُمْ وَيَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أَيْ فَخَاضَ الْبَحْرَ وَرَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْغَرَقِ: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أَيْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يُطْبِقْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ بِالْحَقِّ إِلَّا الرَّبُّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدَعْوَةِ مُوسَى: (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ وَأَنَا فَرْدٌ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُذْعِنِينَ لَهُ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مِنْ كُفْرِ الْجُحُودِ بِآيَاتِهِ وَالْعِنَادِ لِرَسُولِهِ. يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ بِالْفِعْلِ، بِدُونِ امْتِيَازٍ لِعَظَمَةِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مِنْ قَبْلُ جَاحِدًا، أَيْ مُصَدِّقًا غَيْرَ مُذْعِنٍ وَلَا خَاضِعٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ وَفِي آلِهِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) يَعْنِي آيَاتِ مُوسَى. وَهَذِهِ هِي الْعَاقِبَةُ، وَقَدْ أُجِيبَ فِيهَا فِرْعَوْنُ عَنْ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي يَعْرِفُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ أَتُسْلِمُ الْآنَ أَوْ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَإِذْعَانَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، حَيْثُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَلَا إِمْكَانَ، بِمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلَهُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الظَّالِمِينَ لِلْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ دَعْوَى الْإِسْلَامِ الْآنَ بَاطِلَةٌ، وَالْإِيمَانَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَا يُقْبَلُ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ وَقَدْ صَارَ اضْطِرَارًا لَا مَعْنَى لِقَبُولِهِ ; لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ لِصَاحِبِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَتْ وَحِيَاضُ الْمَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُكَذِّبِينَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ بِمَا كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (51) وَسَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ أَجَلِ الْقَوْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ مَوْتِ الشَّخْصِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ

92

تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (4: 18) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا تَنْفَعُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي ادِّعَائِهِ إِيَّاهُ أَوْ طَلَبِهِ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مُوَطِّنٌ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ إِنْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو بِهَذَا أَنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجَّاهُ وَقَوْمَهُ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ حَلَّتْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (7: 134) وَلَكِنَّ تِلْكَ النَّوَازِلَ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى فَهِيَ غَايَتُهَا، وَلَمْ تَكُنْ عِقَابًا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى كُفْرِ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، الَّذِي هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَدَلُّهَا عَلَى خُبْثِ طَوِيَّةِ صَاحِبِهِ، كَهَذَا الْعِقَابِ الْأَخِيرِ بَعْدَ نَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ رَغْمَ أَنْفِهِ. (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) قَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ: فَالْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ مَنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ) لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يَقُولُ: لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. وَالنَّجْوَةُ: الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنَ بِنَجْوَتِهِ ... وَالْمَسَّتِكُنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ ثُمَّ ذَكَرَ رُوَاتِهِ عَمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ نَجْوَةً وَنَجَاةً وَزَادَ بَعْضُهُمْ: مَنْجًى - لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ يَنْجُو مِنَ السَّيْلِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ وَدَفَعَهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ إِنْجَاءَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَرَقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِخُرُوجِهِ حَيًّا بِبَدَنِهِ وَنَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَكُلُّ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ كَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّنْجِيَةِ تَهَكُّمٌ بِهِ، وَإِنَّ الْحِكْمَةَ بِذِكْرِ الْبَدَنِ أَنَّهُ يُخْرِجُ جَسَدَهُ سَالِمًا لِيُعْرَفَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَدَنِ الدِّرْعُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهَا فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ أَنْ يَلْفِظَهُ الْبَحْرُ بِبَدَنِهِ لِيُعْرَفَ فَيَعْتَبِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي غَرَقِهِ، وَيَعْتَبِرَ الْقِبْطُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ دِرْعَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً وَإِنَّهَا مِنَ الْمُذَّهَبِ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوْقَ دِرْعِ الزَّرَدِ دِرْعٌ أُخْرَى مِنَ الذَّهَبِ، وَلَكِنَّ الدُّرُوعَ تَقْتَضِي رُسُوبَ الْغَرِيقِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا أَنْ يَجْرُفَهُ الْمَوْجُ. وَأَمَّا الْعِبْرَةُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَعَمُّ: هِيَ مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ مِنْ كَوْنِهَا شَاهِدًا كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ، كَطُغَاةِ مَكَّةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ

هَذِهِ الْآيَاتُ بَلْ هَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا لِإِقَامَةِ حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَأَكَّدَهُ هَذَا التَّأْكِيدَ لِمَا تَقْتَضِيهِ شِدَّةُ الْغَفْلَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّنْبِيهِ، أَيْ إِنَّهُمْ لَشَدِيدُو الْغَفْلَةِ عَنْهَا عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهَا فَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِهَا وَنَتَائِجِهَا وَحِكَمِ اللهِ فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا مُعْرِضِينَ كَمَا يَمُرُّونَ عَلَى مَسَارِحِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ ذَمٌّ لِلْغَفْلَةِ، وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ وَعَوَاقِبِهَا وَاسْتِبَانَةِ سُنَنِ اللهِ فِيهَا، لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، كَلَّا إِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْغَافِلِينَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ. (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنْ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) . هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمُنْتَهَى الْعِبْرَةِ فِيهَا لِمُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَاحِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ، فِي مُوسَى وَالْجَاحِدِينَ لِآيَاتِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَأَعْظَمَ زِينَةً وَأَوْفَرَ ثَرْوَةً، وَسُنَّةُ اللهِ فِي مُوسَى وَمَنْ قَبْلَهُ وَاحِدَةٌ، وَقِصَّتُهُ كَقِصَّةِ نُوحٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَأَمَّا نَصْرُ اللهِ لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَإِنْجَازُ وَعْدِهِ لَهُ، قَدْ جَرَى عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ فِي غَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا فِي صُورَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ أَكْثَرَ زُعَمَاءِ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخْضَعَ لَهُ الْآخَرِينَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِأَتْبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْطَاهُمْ أَعْظَمَ مُلْكٍ فِي الْعَالَمِينَ، وَمِنْهُ مَا كَانَ أُعْطِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَهُوَ فِلَسْطِينُ. قَالَ: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قُلْنَا آنِفًا: إِنَّ الْمُبَوَّأَ مَكَانُ الْإِقَامَةِ الْأَمِينُ. وَأُضِيفَ إِلَى الصِّدْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِهِ وَهُوَ مَنْزِلُهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْجَنُوبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِفِلَسْطِينَ (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) فِيهِ، وَهِي الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي وَصْفِ أَرْضِهَا مِنْ كُتُبِهِمْ بِأَنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالْأَنْعَامِ، وَكَذَا صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَا كَانَ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَمِنْ أَيْلُولَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ حِرْمَانِ الْيَهُودِ مِنْهُ تَصْدِيقًا لِوَعِيدِ أَنْبِيَائِهِمْ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى أَوَّلًا ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ

93

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ مَنْ قَبْلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَأُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رِسَالَتُهُ أَوِ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (4: 166) وَقَوْلِهِ: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (11: 14) وَقَوْلِهِ: (بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) (7: 52) فَقَدْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى بِشَارَةِ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إِنَّ الْمُرَادَ هَنَا عِلْمُ الدِّينِ مُطْلَقًا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أُوتُوا الْكُتُبَ مِنْ وُجُوهٍ فَصَّلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فِي الِاخْتِلَافِ وَهِيَ (2: 213) وَفِي الْآيَةِ 19 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إِذْ جَعَلُوا الدَّوَاءَ عَيْنَ الدَّاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فَذْلَكَةُ هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي كَانَ ذِكْرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ شَوَاهِدَ فِيهِ، وَهِيَ تَقْرِيرُ صِدْقِ الْقُرْآنِ فِي دَعْوَتِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَكَوْنِهِ لَا مَجَالَ لِلِامْتِرَاءِ فِيهِ، وَبَيَانِ الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَتَوْجِيهِ الِاعْتِبَارِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَقْرُونًا بِالْإِنْذَارِ، بِأُسْلُوبِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلَطُّفِ فِي الْعِبَارَةِ، عَلَى حَدِّ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) أَيْ فَإِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّذِي ذُكِرَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيرِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ

94

لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ وُقُوعِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا، كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ لِابْنِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَكُنْ شُجَاعًا أَوْ فَلَا تَكُنْ بَخِيلًا، أَوْ فَإِنَّكَ سَتَكُونُ أَوْ سَتَفْعَلُ كَذَا - بَلْ يَفْرِضُونَ سُؤَالَ الدِّيَارِ وَالْأَطْلَالِ أَيْضًا مِنْهُ قَوْلُ الْمَسِيحِ فِي جَوَابِ سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) (5: 116) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَحِلُّ الشَّاهِدِ، فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَفْرِضُهُ لِيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَهُ لَعَلِمَهُ اللهُ مِنْهُ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْرِي عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَيُشَكِّكُ تِلْمِيذَهُ أَوْ مُنَاظِرَهُ فِيمَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُمَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمًا آخَرَ. وَيَجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِـ ((إِنِ)) الَّتِي وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ أَوْ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَقَعُ، دُونَ ((إِذَا)) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ شَرْطِهَا الْوُقُوعُ (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَشُكَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْأَلْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَاهُ فَهْمًا لُغَوِيًّا، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خَبَرًا قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ)) وَلَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُهُ، أَيْ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ حَقٌّ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَالْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ كَوْنَ السُّؤَالِ مَفْرُوضًا فَرْضًا قَوْلُهُ: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْقَسَمِ مِنْ رَبِّهِ، تَجْتَثُّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ بِالْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَزِيدُهَا تَأْكِيدًا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أَيْ مِنْ فَرِيقِ الشَّاكِّينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ، وَهَذَا النَّهْيُ وَالَّذِي بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ وُقُوعِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ فِيمَا قَبْلَهُمَا عَنْهُ تَعْرِيضٌ بِالشَّاكِّينَ الْمُمْتَرِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ. (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ، وَأَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكِّينَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتٍ بِهَا، وَمَا لَهُ مِنْ رِبْحِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْمُؤْتَمَرِ الْمُنْتَهِي وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (34: 24، 25)

96

وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُوقِعٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي اسْتِمَالَةِ الْكَافِرِينَ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ. (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ الدَّالَّةُ عَلَى سُنَّتِهِ فِيمَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِاهْتِدَاءِ، (لَا يُؤْمِنُونَ) لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِحَاطَةِ خَطَايَاهُمْ وَجَهَالَاتِهِمْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ) لَا أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا خَلْقِيًّا قَهْرِيًّا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ. وَهَذَا بِمَعْنَى الْآيَةِ 33 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا. (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَآيَاتِ مُوسَى الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَالْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ بِإِعْجَازِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُنْذِرُهُمْ إِيَّاهُ (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَذُوقُوهُ بِوُقُوعِهِ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ إِيمَانُهُمُ اضْطِرَارِيًّا لَا يُعَدُّ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ: (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (51) كَمَا قِيلَ لِفِرْعَوْنَ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (91) . (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةً آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ تَفْرِيعٌ عَلَى اللَّوَاتِي قَبْلَهُنَّ، وَتَكْمِيلٌ لَهُنَّ فِي بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَفِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُسْتَعِدِّينَ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَفِي تَعَلُّقِ مَشِيئَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَوُقُوعِهَا عَلَى وَفْقِهِمَا. (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) لَوْلَا هَذِهِ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ،

98

وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا وَهُمْ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ بُعِثُوا فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ دُونَ الْبَادِيَةِ، أَيْ فَهَلَّا كَانَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ آمَنَتْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَرُمَّتِهِمْ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الْجَحْدَ (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَكَانُوا عَلِمُوا بِقُرْبِهِ مِنْ خُرُوجِ نَبِيِّهِمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ صَرَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَرَجَ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَلَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِذَهَابِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ عَلَى قُرْبِ وُقُوعِ الْعَذَابِ كَمَا أَنْذَرَهُمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا فَكَشَفْنَاهُ عَنْهُمْ (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَمَتَّعْنَاهُمْ بِمَنَافِعِهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ هُوَ عُمْرُهُمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي يَعِيشُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْدَادِ بِنْيَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَجَلِ الَّذِي يُسَمَّى الطَّبِيعِيَّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (6: 2) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ ظَاهِرَةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ، صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَابِقِ كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجَزَوْنَ بِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ. هَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَالْمُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ وَلِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْذَارُهُمْ، وَحَضٌّ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَقَوْمِ يُونُسَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ بِعِنَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَنْذَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ قُرْبَ وُقُوعِهِ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمُ اعْتَبَرُوا وَآمَنُوا قَبْلَ الْيَأْسِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَا ثَبَتَ مِنْ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي جُمْلَتِهِ لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ - أَنْ يُؤْمِنَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا لَا يَشِذُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَآمَنُوا، بِأَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلْجَاءً، وَيُوجِرَهُ فِي قُلُوبِهِمْ إِيجَارًا، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ كَالْمَلَائِكَةِ لَا اسْتِعْدَادَ فِي فِطْرَتِهِمْ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) (6: 107) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (11: 118) وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعِدِّ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، الَّذِي يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الْمُسْتَطَاعَةِ لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَيُخَالِفُهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، لَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا

99

النَّوْعَ الْعَجِيبَ وَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ، مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَا مِنْ وَظَائِفِ الرِّسَالَةِ الَّتِي بُعِثْتَ بِهَا أَنْتَ وَسَائِرُ الرُّسُلِ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (42: 48) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (50: 45) وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ بِالْإِكْرَاهِ أَيْ لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ وَلَا يُسْتَطَاعُ، ثُمَّ نَزَلَ عِنْدَ التَّنْفِيذِ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2: 256) أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ بِهِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِنَا سَبَبَ نُزُولِهَا، وَهُوَ عَزْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ أَوْلَادٍ لَهُمْ كَانُوا تَهَوَّدُوا مِنَ الْجَلَاءِ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْحِجَازِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ لَا يَسْتَحُونَ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ رَمْيُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُخَيِّرُونَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيْفِ يَقُطُّ رِقَابَهُمْ، عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: ((رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ)) . (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ اسْتِقْلَالِهَا فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا مِمَّا أَعْطَاهَا اللهُ مِنَ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هَدَاهَا مِنَ النَّجْدَيْنِ، وَمَا أَلْهَمَهَا مِنْ فُجُورِهَا وَتَقْوَاهَا الْفِطْرِيَّيْنِ، أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي اسْتِطَاعَةِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي اخْتِيَارِهِمْ أَتَمَّ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مُقَيَّدَةٌ بِنِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ اسْتِطَاعَةُ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا النِّظَامِ الْعَامِّ، لَا الِاسْتِطَاعَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوَافِقَةُ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (3: 145) أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ شَهِيدًا أَوْ مُنْتَحِرًا بِمَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ لِمُعَارِضٍ مُنَافٍ فِي نِظَامِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالرُّخْصَةِ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَسْهِيلُهُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ مِنْهُ. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ دَلَالَةَ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ، أَيْ وَإِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي تَجْرِي بِقَدَرِهِ وَسُنَّتِهِ، فَهُوَ يَجْعَلُ الْإِذْنَ وَتَيْسِيرَ الْإِيمَانِ لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الْأُمُورِ فَيَخْتَارُونَ خَيْرَ الْأَعْمَالِ عَلَى شَرِّهَا، وَيُرَجِّحُونَ نَفْعَهَا عَلَى ضُرِّهَا بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أَيِ الْخِذْلَانَ وَالْخِزْيَ الْمُرَجِّحَ لِلْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، (عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فَهُمْ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، يَخْتَارُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْفُجُورَ عَلَى التَّقْوَى، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي الْكَلَامِ

101

عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، أَنَّ الرِّجْسَ لَفْظٌ يُعَبِّرُ عَنْ أَقْبَحِ الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ. (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ إِرْشَادٌ لِلْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِمَّا قَبْلَهَا أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَنْ خَلَقَهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْحَرِيصَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَا عَلَى الْكُفْرِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَقْلِ الْمُسْتَنِيرِ، فَالدِّينُ مُسَاعِدٌ لِلْعَقْلِ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ إِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّفْكِيرَ، وَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِمَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ: انْظُرُوا بِعُيُونِ أَبْصَارِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْبَيِّنَاتِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ وَالْعَجِيبِ فِي شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَكَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا، وَبُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَلَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَسَحَابِهَا وَمَطَرِهَا، وَهَوَائِهَا وَمَائِهَا، وَبِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا، وَأَنْوَاعِ حَيَوَانَاتِهَا الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُبْصِرُونَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، ثُمَّ انْظُرُوا مَاذَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51: 20 و21) إِنَّهُ يُرِيكُمْ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّفْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالنُّذُرُ فِيهَا جَمْعُ نَذِيرٍ أَوْ إِنْذَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَى ظُهُورِ دَلَالَتِهَا، وَالنُّذُرَ التَّشْرِيعِيَّةَ عَلَى بَلَاغَةِ حُجَّتِهَا، لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا وَلَا غِنَى لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ

102

بِاللهِ عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْآيَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الدَّلَالَةِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَفَائِدَةُ الْإِيمَانِ الْأُولَى تَوْجِيهُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ إِلَى حُسْنِ الْقَصْدِ فِي نَظَرِهِ فِي الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا فِيمَا يُزَكِّي نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَيَرْفَعُهَا عَنْ أَرْجَاسِ الْأُمُورِ وَسَفْسَافِهَا، وَبِهَذَا تَفْهَمُ مَعْنَى جَعْلِ الرِّجْسِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ الْمَجَانِينَ الْفَاقِدِينَ لِغَرِيزَةِ الْعَقْلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْعَقْلَ فِي أَفْضَلِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَهْلًا لِإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَرَامَتِهِ، بِالْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ وَقَائِعَهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ مِمَّا بَلَغَهُمْ مَبْدَؤُهُ وَغَايَتُهُ، أَيْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ آخَرُ يُنْتَظَرُ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ مُنْذِرًا وَمُهَدَّدًا: إِذًا فَانْتَظِرُوا مَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَتِكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ، عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا وَعَدَ اللهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ لِلْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ سَيَكُونُونَ كَمُعَانَدِيهِمْ مِنَ الْهَالِكِينَ. (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَعْجَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ كَسُنَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تُسْتَنْبَطُ مِنْ قِصَّةٍ أَوْ قِصَصٍ وَاقِعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ لَا يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمَلِ، فَيَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وُجُوبُ عَطْفِهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَامِّ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي رُسُلِنَا مَعَ قَوْمِهِمْ: يُبَلِّغُونَهُمُ الدَّعْوَةَ، وَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُنْذِرُونَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيُصِرُّ الْآخَرُونَ، فَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْجَاءُ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَنُهْلِكُ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَعْدًا حَقًّا عَلَيْنَا لَا نُخْلِفُهُ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (17: 77) وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ كَمَا قَالَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُنَجِّي رُسُلَنَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّخْفِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْأُولَى لِكَثْرَةِ الْأَقْوَامِ.

104

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا خَتْمٌ لِلسُّورَةِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، أَجْمَلَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا فِي خَاتِمَتِهَا، كَمَا فَصَّلَتْ فِي جُمْلَتِهَا، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ دِينِيَ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ ثَبَاتِي وَاسْتِقَامَتِي عَلَيْهِ، وَتَرْجُونَ تَحْوِيلِي عَنْهُ (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أَيْ فَلَا أَعْبُدُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ، مَنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ ; أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، مِمَّا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أَيْ يَقْبِضُكُمْ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فَيُحَاسِبُكُمْ وَيَجْزِيكُمْ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ هَذَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وَشَرْطُهُ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي شَكِّهِمْ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشُكُّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَزَلَّ دِينَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكُّوا فِيهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَتَأَلُّقِ نُورِهِ، كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (2: 23) الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا. وَوَصْفُ اللهِ بِتَوَفِّيهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا وَعَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي أَرْضِهِ، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ.

105

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أَيْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ أُقِيمَ وَجْهِيَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ حَالَةَ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اخْتِيرَ هُنَا صِيغَةُ الطَّلَبِ وَفِيمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَةِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَاضِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَوْعُودِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ، وَالطَّلَبُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَتِهِ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، مِنْ دَعْوَةِ هَذَا الدِّينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَائِرِ النَّاسِ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ كَمَا حَقَّقَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ - وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلدِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ (30 - 43) عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ، وَفِي مَعْنَاهُ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) (6: 79) وَمِثْلُهُ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 112) وَآلِ عِمْرَانَ (3: 20) وَالنِّسَاءِ (4: 125) وَإِسْلَامُهُ إِلَى اللهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (31: 22) وَكَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهِ الْحِسِّيِّ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ تَوَجَّهَ قَلْبُهُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَلَا سِيَّمَا مُخِّ الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا وَهُوَ الدُّعَاءُ) إِلَى غَيْرِ اللهِ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ مُشْرِكٌ بِاللهِ، وَأَكَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ يُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ تُصِيبُهُمْ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى كَسْبِهِمْ، وَوُجُوهَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ إِلَى صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فِي هَيَاكِلِهِمْ، أَوْ قُبُورِهِمْ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا بِشَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى سَبَبِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّهْيِ عَنْ مَثَلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) أَيْ وَلَا تَدْعُ غَيْرَهُ تَعَالَى (دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي طَلَبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ) لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بِوَسَاطَةِ الشُّفَعَاءِ - مَا لَا يَنْفَعُكَ إِنْ دَعْوَتَهُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَسَاطَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكَ إِنْ تَرَكْتَ دُعَاءَهُ وَلَا إِنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا بِأَنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ فَإِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَغَامَةِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمُ الظُّلْمَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ هُوَ أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - كَانَ دُعَاءُ غَيْرِهِ هُوَ مُعْظَمُ الشِّرْكِ وَمُخُّهُ، كَمَا كَرَّرْنَا التَّصْرِيحَ بِهِ بِتَكْرَارِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنْهُ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (218) وَقَوْلُهُ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (49) وَقَوْلُهُ قَبْلَهُمَا: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) (12)

107

وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْفُلْكِ (السَّفِينَةِ) الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ إِحَاطَةِ الْخَطَرِ بِهِمْ: (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (22) . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي السُّورِ، كُرِّرَتْ لِأَجْلِ انْتِزَاعِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ مِنْ قُلُوبِ الْجُمْهُورِ الْأَكْبَرِ، وَقَدِ انْتُزِعَ مِنْ قُلُوبِ الَّذِينَ أَخَذُوا دِينَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ جُلَّ عِبَادَتِهِمْ تَكْرَارُ تِلَاوَتِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ عَادَ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ إِلَى الَّذِينَ هَجَرُوا تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَهُمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُعَاشِرِينَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْخُرَافِيَّيْنِ الْأُمِّيَّيْنِ، الْجَاهِلِينَ، وَأَكْثَرُ الْقَارِئِينَ مِنْهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ يَأْخُذُونَهَا مِنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ مُتَأَخَّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَدَلِيَّةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْخُرَافِيَّةِ، وَلَا يَكَادُ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ يَخْلُو مِنْ قَبْرٍ مُشْرِفٍ مَشِيدٍ، تُوقَدُ عَلَيْهِ السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ، وَقَدْ لَعَنَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلِيهَا، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُقِيمُونَ فِيهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالْهَدَايَا وَالنُّذُورِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَبِعَرَائِضِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالدُّعَاءِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، لِيَكْشِفُوا عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَهَبُوا لَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنَ النَّفْعِ، وَمِنْ أَمَامِهِمْ وَوَرَائِهِمْ عَمَائِمُ مُكَوَّرَةٌ، وَلِحًى طَوِيلَةٌ أَوْ مُقَصَّرَةٌ، يُسَمُّونَ شِرْكَهُمُ الْأَكْبَرَ تَوَسُّلًا، وَاسْتِغَاثَتَهُمُ اسْتِشْفَاعًا، وَنُذُورَهُمْ لِغَيْرِ اللهِ صَدَقَاتٍ مَشْرُوعَةً، وَطَوَافَهُمْ بِالْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ زِيَارَاتٍ مَقْبُولَةً، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ، بَلْ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنُّذُورِ لِلْأَوْثَانِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبَانِ، كَأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللهِ جَائِزٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْبَلَاءِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ أَنْ أَصْدَرَتْ لَهُمْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً دِينِيَّةً، تُفْتِيهِمْ بِشَرْعِيَّةِ كُلِّ هَذِهِ الْبِدَعِ الشَّرِكِيَّةِ الْقُبُورِيَّةِ، سَمَّتْهَا (نُورَ الْإِسْلَامِ) وَأَلَّفَ لَهُمْ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْفِتْنَةِ كِتَابًا فِي هَذَا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ لَهُ سَبْعُونَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ بِزَعْمِهِ، بَلْ طَبَعَ فِي طُرَّتِهِ خَوَاتِمَ بَعْضِهِمْ وَتَوَاقِيعَ آخَرِينَ مِنْهُمْ بِخُطُوطِهِمْ وَذَكَرَ جَمِيعَ أَسْمَائِهِمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَبِهِ وَحْدُهُ الْمُسْتَعَانُ لِإِنْقَاذِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى نَفْعِ هَذَا الدُّعَاءِ لِغَيْرِ اللهِ بِالتَّجَارِبِ، كَمَا يَحْتَجُّ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ وَالنَّصَارَى، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا دَاحِضَةٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ بِأَنَّهُمْ طَالَمَا اسْتَفَادُوا مِنْ دُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فَشُفِيَتْ أَمْرَاضُهُمْ، وَكُبِتَتْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكُشِفَ الضُّرُّ عَنْهُمْ، وَأُسْدِيَ الْخَيْرُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ تَعَالَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِسْلَامِ، بِكَلَامِ اللهِ وَتَبْلِيغِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ)

أَيُّهَا الْإِنْسَانُ (بِضُرٍّ) كَمَرَضٍ يُصِيبُكَ بِمُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ بِأَسْبَابِهِ لَكَ فِيهِ عِبْرَةٌ، أَوْ ظُلْمٍ يَقَعُ عَلَيْكَ مِنَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمُعْتَدِينَ (فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْرِفُهُ خَلْقُهُ بِتَجَارِبِهِمْ، كَكَشْفِ الْأَمْرَاضِ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَخَوَاصِّ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُدَاوَى بِهَا، وَتَجَارِبِ الْأَعْمَالِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا أَهْلُهَا، فَعَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَهَا مِنْ أَسْبَابِهَا، وَتَكِلَ أَعْمَالَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَتَأْتِيَ سَائِرَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، مَعَ الْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لِمُسَخِّرِهَا، فَإِنْ جَهِلْتَ الْأَسْبَابَ أَوْ أَعْيَاكَ أَمْرُهَا، فَتَوَجَّهْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَادْعُهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، يُسَخِّرْ لَكَ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ يَشْفِكَ مِنْ مَرَضِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ، كَمَا ضَرَبَ لَكَ الْأَمْثَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كِتَابِهِ (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) يَهَبْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ لَكَ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا سَعْيٍ مِنْكَ، (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أَيْ فَلَا أَحَدَ وَلَا شَيْءَ يَرُدُّ فَضْلَهُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ حَتْمًا، فَلَا تَرْجُ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا تَخَفْ رَدَّ مَا يُرِيدُهُ لَكَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يُصِيبُ بِالْخَيْرِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ وَبِسَبَبٍ مِمَّا قَدَّرَهُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ عَامٌّ بِعُمُومِ رَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ الضُّرِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، أَوِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ مَعْلُومٌ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْرِضُ بِتَرْكِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْوِقَايَةِ جَهْلًا أَوْ تَقْصِيرًا، وَفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسُقُوطِ الدُّوَلِ الَّذِي يَقَعُ بِتَرْكِ الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَالثَّانِي كَالضَّرَرِ الَّذِي يَعْرِضُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَطُغْيَانِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَزَلَازِلِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ الْوَاسِعَةُ وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ النَّاسِ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) (35: 45) . (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) .

108

هَذَا النِّدَاءُ خَاتِمَةُ الْبَلَاغِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، بِمُقْتَضَى بِعْثَةِ الرَّسُولِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسَائِرِ السُّوَرِ الْمُبَارَكَةِ. (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فَسَمِعَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ مِنْكَ، وَمَنْ سَتَبْلُغُهُ عَنْكَ: قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ الْمُبَيِّنُ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ مِنْ رَبِّكُمْ، بِوَحْيِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ الَّذِي افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مَجْهُولًا خَفِيًّا عَنْكُمْ، بِمَا جَهِلَ بَعْضُكُمْ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْأَقْدَمِينَ، وَمَا حَرَّفَ بَعْضُكُمْ وَجَهِلَ وَبَدَّلَ وَتَأَوَّلَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَصَّلَهُ لَكُمْ هَذَا الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أَيْ فَمَنِ اهْتَدَى بِمَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنَّمَا فَائِدَةُ اهْتِدَائِهِ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ السَّعَادَةَ فِي دُنْيَاهُ وَدِينِهِ، دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلَا فِدَائِهِ وَلَا تَأْثِيرِهِ (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أَيْ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ هَذَا الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ آيَاتِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَحُجَجِهِ فِيهِ بِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَفُوتُهُ مِنْ فَوَائِدِ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِ وَجَرَائِمِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ وَمَا أَنَا بِمُوَكَّلٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِأُمُورِكُمْ، وَلَا مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ فَأُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمْنَعَكُمْ بِقُوَّتِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ هُدَاكُمْ، وَلَا أَمَلِكُ نَفْعَكُمْ وَلَا ضَرَّكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ لِمَنِ اهْتَدَى، وَنَذِيرٌ لِمَنْ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ. (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) فِي هَذَا الْقُرْآنِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَعْلِيمًا (وَاصْبِرْ) كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ، وَالْجِهَادِ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَيُنْجِزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ كُلُّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ حُكْمٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَحْكُمُ بِالْبَاطِلِ لِجَهْلِهِ الْحَقَّ أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَدِ امْتَثَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَ رَبِّهِ، وَصَبَرَ حَتَّى حَكَمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ لِهَذَا الدِّينِ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ، وَجَعَلَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ، وَسُنَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا، وَصَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. (تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ تَفْصِيلًا) وَيَلِيهِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ إِجْمَالًا

الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ (جَمِيعُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يُنْكِرُهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى، وَالْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الثَّلَاثَ وَيَمُدُّهَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَشُئُونُ الْبَشَرِ فِي صِفَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمُحَاجَّةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سِيَّمَا هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، فَهِيَ كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْهَا وَمِنْ سَائِرِ السُّوَرِ إِثْبَاتًا لِلْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَتَحَدِّيًا بِالْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِإِعْجَازِهِ وَحَقِّيَّتِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ أَوِ الْعَقَائِدُ مُكَرَّرَةٌ فِيهَا بِالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ، وَالنَّظْمِ الْبَلِيغِ، بِحَيْثُ يَحْدُثُ فِي نَفْسِ سَامِعِهَا وَقَارِئِهَا أَرْوَعُ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وَإِنَّنِي أُوجِزُ فِي تَلْخِيصِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي أَبْوَابِهَا ; لِمَا سَبَقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ بَسْطِهَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَسَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي امْتَازَتْ بِهَا عَلَى سَائِرِ السُّوَرِ) . الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَصِفَاتِ عَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِيهِمْ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَفِي آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ كُلِّهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ) أَجْمَعُ الْآيَاتِ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الَّتِي خَاطَبَتِ النَّاسَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَطْوَارًا فِي سِتَّةِ أَيَّامِ أَيْ أَزْمِنَةً، تَمَّ فِيهَا خَلْقُهَا وَتَكْوِينُهَا فَكَانَتْ مُلْكًا عَظِيمًا، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِ هَذَا الْمُلْكِ الِاسْتِوَاءَ اللَّائِقَ بِهِ، الدَّالَّ عَلَى عُلُوِّهِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِهِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِيهِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا شَرِيكٍ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، مَا مِنْ شَفِيعٍ عِنْدَهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ. بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ تَعَالَى مُحْتَجًّا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) 3 أَيْ فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِطَلَبِ شَفَاعَةٍ وَلَا دُعَاءٍ

وَلَا مَا دُونَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ ; إِذْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ لِرَبِّ الْعِبَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَا فِي الْآيَاتِ 3 - 6 مِنَ الْآيَاتِ (الدَّلَائِلِ) الْكَوْنِيَّةِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَاصَّةُ فِي الْآيَةِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (18) وَدَحَضَ هَذَا الْقَوْلَ مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ. ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ هَذَا بِمَا فِي الْآيَتَيْنِ 22 و23 مِنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّجْرِبَةِ ; لِوُقُوعِهِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وَعَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ، وَهَاجَ بِهِمُ الْبَحْرُ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَنْسَوْنَ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَطَرِ مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْآيَاتِ 31 - 36 وَإِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (49) . ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ 55 أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ، مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَالْخَرَصَ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ 71 و85 أَنَّ كَمَالَ التَّوْحِيدِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ. وَمِنْ شُئُونِ الرَّبِّ وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ 15 وَالْآيَةِ 109 أَنَّ الرَّسُولَ مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيْهِ عَمَلًا وَتَبْلِيغًا، لَا مُشَرِّعٌ مُسْتَقِلٌّ فِيهِ وَلَا مُتَحَوِّلٌ عَنْهُ. وَفِي الْآيَتَيْنِ 59 و60 أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِمْ لِذَاتِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا. وَأَنَّ مَنْ تَحَكَّمَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى مُفْتَرٍ عَلَيْهِ. (الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الذَّاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرَّحْمَةِ) أَمَّا الْعِلْمُ فَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) (61) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَأَمَّلْ عَجَائِبَ بَلَاغَتِهَا، وَإِحَاطَتَهَا بِعَظَائِمِ الْأُمُورِ وَصَغَائِرِهَا، وَظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَذَرَّاتِ الْوُجُودِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، وَمَا تُدْرِكُهُ الْمَشَاعِرُ وَمَا لَا تُدْرِكُهُ مِنْ خَلَايَا مَرْكَبَاتِهَا وَدَقَائِقِ بَسَائِطِهَا. وَتَدَبَّرْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِهَا كُلِّهَا، وَكِتَابَتَهُ لَهَا مِنْ قَبْلِ إِيجَادِهَا، وَشُهُودَهُ إِيَّاكَ فِي كُلِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنْهَا، تَجِدْهُ رَافِعًا لَكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ غَيْرَهُ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعِهِمْ لَهُمْ، وَكَشْفِهِمُ الضُّرَّ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (18) تَعْلَمْ مِقْدَارَ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَا يَقُولُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، مِنْ تَصْغِيرِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّوَجُّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَمَّا صِفَةُ الْمَشِيئَةِ فَتَأَمَّلْ فِيهَا أَمْرَهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) (16) إِلَخْ. وَفِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (49) تَعْلَمْ مِنْهُ قَدْرَ إِيمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَشِيئَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ انْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى لَهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) (99) تَعْلَمْ مِنْهُ كَيْفَ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مُخْتَلِفِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشِيئَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ لِأَعْظَمِهِمْ قَدْرًا وَفَضْلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (100) وَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا مَشِيئَتُهُ فِي اخْتِيَارِهِمْ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمَا يَسْتَلْزِمَانِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأَسْبَابِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (107) الْآيَةَ: فَلَا يَقْدِرُ الْأَوْلِيَاءُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الشُّفَعَاءَ عَلَى النَّفْعِ وَلَا عَلَى الضُّرِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِمَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَاضِعُ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَحْدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ سَدُّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ وَإِعْتَاقُ الْبَشَرِ مِنْ رِقِّهِ، بِاعْتِمَادِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى مَا وَهَبَهُمْ مِنَ الْقُوَى، وَطَلَبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لَهُمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي تَسْخِيرِ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى مَنْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ عَدْوَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ الْمُعْتَقَدِينَ فِيمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ أَيْضًا. وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ قُدْرَتَهُمْ أَوْ قُدْرَةَ أَمْثَالِهِمْ كَالْأَطِبَّاءِ عَلَيْهِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُعْتَقَدِيهِمُ - الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْكَوْنِ بِزَعْمِهِمْ - أَقْرَبُ مَنَالًا، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مُكَرَّرًا اتِّبَاعًا لِكِتَابِهِ تَعَالَى. وَأَمَّا صِفَةُ الْعِزَّةِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرٌ لَهَا إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (65) وَمَعْنَاهَا الْمَنَعَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يَغْلِبَ صَاحِبُهَا وَلَا يُغْلَبَ عَلَى أَمْرِهِ، وَيَنَالَ خَصْمُهُ مِنْهُ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ تُجَاهَ قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، فَيَطْعَنُونَ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَقُولُونَ، فَنَهَاهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الْحُزْنِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعِزَّةَ الْحَقَّ هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ كَتَبَهَا لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا

بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ السَّمْعَ وَالْعِلْمَ ; لِتَذْكِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِ تَعَالَى لِأَقْوَالِهِمْ، كَإِحَاطَتِهِ عِلْمًا بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ قَدِيرٌ عَلَى إِعْزَازِهِ وَإِذْلَالِهِمْ. وَأَمَّا صِفَةُ الرَّحْمَةِ فَقَدْ جَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِالْمَغْفِرَةِ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ 107 النَّاطِقَةِ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذُكِرَتِ الرَّحْمَةُ بِآثَارِهَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا فِي الرِّزْقِ مِنَ الْآيَةِ 21. وَفِي خَصَائِصِ الْقُرْآنِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْآيَةِ 57 وَفِيمَا يَعُمُّهُمَا مِنَ الْآيَةِ 58 وَفِي التَّنْبِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَحُكْمِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ 86 فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَعُمَّنَا بِأَنْوَاعِ رَحْمَتِهِ كُلِّهَا وَيَجْعَلَنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْدِيسِهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَغِنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ) نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَوَاضِعَ: (أَوَّلُهَا) أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شُفَعَاءُ يَنْفَعُونَ مَنْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، فَيَكُونَ لِتَأْثِيرِهِمْ شِرْكٌ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ شُبْهَةُ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ فَشَا فِي أَكْثَرِ النَّصَارَى وَكَذَا جُهَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ تَكْرَارًا، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 18: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) . وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ) (68) الْآيَةَ. وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْآيَاتِ 44 و47 و52 و54. (الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرِّزْقِ) وَنُجْمِلُهَا فِي عِشْرِينَ مَسْأَلَةً (1) خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَيْ أَزْمِنَةٍ يُحَدِّدُ كُلًّا مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ. (2) اسْتِوَاؤُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْخَلْقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ عَرْشًا هُوَ مَرْكَزُ التَّدْبِيرِ وَالنِّظَامِ الْعَامِّ لَهُ. (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي بَيَانِهِمَا وَمَا نُحِيلُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهُمَا) . (3) بَدْءُ الْخَلْقِ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي الْآيَتَيْنِ 4 و34. (4 - 6) جَعْلُ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرُهُ مَنَازِلِ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.

(7) اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ، وَبَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ 67. (8) مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي زِينَتِهَا وَغُرُورِ النَّاسِ بِهَا وَزَوَالِهَا فِي الْآيَةِ 24. (9) إِنْزَالُ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي الْآيَتَيْنِ 31 و59. (10) مِلْكُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ فِي 31 أَيْضًا. (11) إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِيهَا (31) . (12) تَدْبِيرُ أَمْرِ الْخَلْقِ فِي الْآيَتَيْنِ 3 و31. (13) كَوْنُ خَلْقِهِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ضِيَاءً وَنُورًا وَحُسْبَانًا بِالْحَقِّ لَا عَبَثًا، فِي الْآيَةِ 5. (14) هِدَايَتُهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ فِي الْآيَتَيْنِ 35 و36، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فِي 32، وَأَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فِي 82. (15) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 55. (16) لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 66. (17) الْأَمْرُ بِنَظَرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ 101. (18) سُرْعَةُ مَكْرِهِ تَعَالَى مِنْ إِحْبَاطِ مَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَالْإِمْلَاءُ لِلظَّالِمِينَ، فِي الْآيَةِ 21. (19 و20) تَسْيِيرُهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الْآيَتَيْنِ 22، 33. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالْمُرْشِدَةُ إِلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ هَذَا الدِّينِ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ مَا خَلَقَ اللهُ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، لِيَزْدَادُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ عِلْمًا بِدُنْيَاهُمْ، وَعِرْفَانًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِمْ، كُلَّمَا رَتَّلُوا كِتَابَهُ، وَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (38: 29) فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَبْرَارِهِمْ. الْبَابُ الثَّانِي فِي الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فَتَحْنَا لَهُ بَابًا خَاصًّا وَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، بَلْ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ كِتَابًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ. وَعَقِيدَةُ الْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ تَعَالَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَنُلَخِّصُ مَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي عَشْرِ مَسَائِلَ.

(1) افْتَتَحَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابِهِ الْحَكِيمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَثَنَّى فِي الَّتِي تَلِيهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى بَشَرٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ نَذِيرًا وَبَشِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ هَذَا الْوَحْيِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ وَحْيٌ فَاضَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَقْلِهِ الْبَاطِنِ عَلَى لِسَانِهِ بِإِسْهَابٍ وَإِطْنَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا مُسْتَنْبَطًا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعَالَمِ، فَنُشِيرُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِالْإِيجَازِ. (2) فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهَا اقْتِرَاحُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَبْدِيلِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ (وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ) . (3 و4) فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَلَّغَهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، فَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ لَمَا تَلَاهُ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يُدْرِيَهُمْ وَلَا يُعْلِمَهُمْ بِهِ لَمَا أَدْرَاهُمْ: فَهُوَ الَّذِي أَقْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (96: 1) وَ (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) (87: 6) وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (4: 113) وَ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (42: 52) إِلَخْ. (5) أَنَّهُ أَيَّدَ هَذَا بِالْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ سِنُّ الْإِدْرَاكِ وَالصِّبَا فَالشَّبَابِ حَتَّى بَلَغَ أُشَدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَقْرَأُ وَلَا يُقْرِئُ، وَلَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يُعَلِّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا (أَيِ الْآيَةِ 16) أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ حُكَمَاءِ التَّارِيخِ بِالتَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَعَارِفِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، إِنَّمَا يَظْهَرَانِ وَيَبْلُغَانِ أَوْجَ قُوَّتِهِمَا مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى إِلَى مُنْتَصَفِ الْعُشْرِ الثَّالِثِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ إِلَّا التَّمْحِيصُ وَالتَّكْمِيلُ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا بَيَانٌ وَلَا عَمَلٌ إِصْلَاحِيٌّ عَامٌّ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ الَّذِي فُوجِئَ بِهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ، وَيَلِيهَا فِي الْآيَةِ 17 أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِآيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، فَهَلْ يَرْتَكِبُ هَذَا الظُّلْمَ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا؟ وَلِمَاذَا يَرْتَكِبُهُ وَقَدْ عَرَفَ قُبْحَهُ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ نَشَأَ عَلَى الْتِزَامِ الصِّدْقِ صَغِيرًا، وَاشْتُهِرَ بِهِ وَبِالْوَفَاءِ عِنْدَ الْمُعَاشِرِينَ، حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ؟ . (6) فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) وَأَمْرُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ

بِعِلْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِلَّا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَ الْإِنْسَانُ مَا هُوَ عَاجِزٌ كَغَيْرِهِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَعْنَى التَّحَدِّي وَالْعَجْزِ، وَمَوْضُوعَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ قِصَارُ السُّوَرِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا تَجِدْ فِيهِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ) . (7 و8) فِي الْآيَةِ 39 ذَكَرَ إِضْرَابَهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ، إِلَى التَّكْذِيبِ الْمُقَيَّدِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَفِي الْآيَةِ 40 كَوْنُهُمْ فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأُولَى مِنْهُمَا تَحْقِيقُ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَخَطَأُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي فَهْمِ التَّأْوِيلِ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ، حَاشَ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ. (9) فِي الْآيَةِ 57 بَيَانُ أَنْوَاعِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ وَإِصْلَاحِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (10) فِي الْآيَتَيْنِ 108 و109 وَهُمَا خَاتِمَةُ السُّورَةِ خُلَاصَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَمَوْضُوعُ الْأُولَى فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالضَّلَالِ عَنْهُ، وَمَوْضُوعُ الثَّانِيَةِ أَمْرُ الرَّسُولِ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ تَبْلِيغًا وَعَمَلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَفِيهِ فَصْلَانِ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ) (1) فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ إِثْبَاتُ وَحْيِ الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ وَظِيفَتَهُمُ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ آيَاتِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ سِحْرًا وَيُسَمُّونَهُ سَاحِرًا. (2) فِي الْآيَةِ 13 أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْقُرُونَ (الْأُمَمَ) الْقَدِيمَةَ لَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَجَزَاهُمْ بِإِجْرَامِهِمْ. (3) فِي الْآيَةِ 49 أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالرُّسُلُ فِيهِ كَغَيْرِهِمْ كَمَا تَرَى فِي آيَاتِ تَوْحِيدِهِ. (4) فِي الْآيَةِ 47 أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، فَلَيْسَتِ الرِّسَالَةُ خَاصَّةً بِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَدَّعُونَ، وَلَا بِهِمْ وَبِالْعَرَبِ كَمَا تَوَهَّمَ آخَرُونَ، وَالشُّبْهَةُ عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ

أَكْثَرَ أُمَمِ الْأَرْضِ وَثَنِيَّةٌ وَتَوَارِيخُهَا عَرِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَشُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ الْقَدِيمَةِ وَكَذَا قُدَمَاءِ أَمْرِيكَةَ. وَجَوَابُهَا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ لَهَا أَدْيَانٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهِي الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا التَّقَالِيدُ الْوَثَنِيَّةُ طُرُوءًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَمِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ. (5) فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ عَانَدَهُ قَوْمُهُ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَكْذِيبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَتُذْكَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. (6) مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا قِصَّةُ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي خُلَاصَةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَإِهْلَاكِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَرَقِ، وَإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ 71 - 73 وَيَلِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَهُ إِجْمَالًا، وَيَلِيهَا قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَغَايَتُهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِالْغَرَقِ، وَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ إِلَى حِينٍ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ 75 - 93 وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) . (7) فِي الْآيَةِ 98 الْعِبْرَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِقَوْمِ يُونُسَ، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِعِنَادِهِمْ لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا اسْتَحَقَّهُ قَوْمُ يُونُسَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا قَبْلَ وُقُوعِ هَذَا الْعَذَابِ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ كَمَا نَفَعَ قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. (الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَسِيرَتِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَعَاصِمَةِ بِلَادِهِ، وَنَجْعَلُ آيَاتِهِ فِي أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا (1) فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْكَافِرِينَ أَنْكَرُوا دَعْوَةَ نُبُوَّتِهِ، وَعَجِبُوا مِنْهَا أَنْ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَمُّوا آيَتَهُ سِحْرًا وَنَبَزُوهُ بِلَقَبِ سَاحِرٍ مُبِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشُبْهَةُ السِّحْرِ لَا تُخِيلُ (أَيْ لَا تَشْتَبِهُ؛ مِنْ أَخَالَ الْأَمْرُ إِذَا أَشْكَلَ وَاشْتَبَهَ) فِي الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوهُ تَكَلُّفًا وَعِنَادًا. (2) فِي الْآيَةِ 15 أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ أَمْرُهُ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَفِي الْآيَةِ 16 الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا، وَيَلِيهَا تَأْيِيدُ الرَّدِّ. (3) فِي الْآيَةِ 20 اقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَجَوَابُهُ لَهُمْ: وَفِي الْآيَتَيْنِ 96، 97 أَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ بِفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمْ كُلُّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا وَمِمَّا لَمْ يَقْتَرِحُوا.

(4) فِي الْآيَةِ 37 بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى مَنْ دُونِ اللهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا رَيْبَ فِيهِ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَدْرِي شَيْئًا مِمَّا نَزَلَ فِيهِ. (5) فِي الْآيَةِ 38 تَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا افْتَرَاهُ، وَهُوَ مُطَالَبَتُهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ يَسْتَطِيعُونَ اسْتِعَانَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى. (6) فِي الْآيَةِ 39 الْإِضْرَابُ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ إِلَى التَّكْذِيبِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِقِسْمَيْهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ. (7) فِي الْآيَاتِ 40 - 45 أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَمُنَاقَشَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَوَصْفُ حَالِ مَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَلَا الْبَصَرِيَّةَ، وَإِبْهَامُ أَمْرِ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ هَلْ يَقَعُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِبْهَامِ لَهُ وَاسْتِعْجَالُهُمْ بِهِ، وَكَوْنُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ يَوْمَئِذٍ - وَسُؤَالُهُمْ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَجَوَابُهُمْ بِالْقَسَمِ: (إِنَّهُ لَحَقٌّ) لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ كُلَّهُ حَقٌّ، وَفِي تَفْسِيرِنَا لَهُ بَيَانُ قِلَّةِ الْكَذِبِ فِي الْعَرَبِ، وَاحْتِرَامُ الْقَسَمِ بِاللهِ تَعَالَى، وَاشْتِهَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمْ مِنْ صِغَرِهِ. (8) بَعْدَ أَنْ أَيَّدَ اللهُ دَعَوْتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِصَّتَيْ نُوحٍ وَمُوسَى بِالْإِيجَازِ مُفَصَّلَةً، وَذَكَرَ مَنْ بَيْنَهُمَا بِالْإِشَارَةِ الْمُجْمَلَةِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَكٍّ مِنْهُ وَسَأَلَهُمْ لَأَجَابُوا: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ لَا مَوْضِعَ لِلِامْتِرَاءِ بِهِ. (9) كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْزِنُهُ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ لَهُ وَكُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ 65 وَكَانَ يَتَمَنَّى إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ فَجَاءَهُ فِي الْآيَاتِ 96 - 101 بَيَانُ سُنَّةِ اللهِ فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَكَانُوا غَيْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، وَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ لَا تَنْفَعُ إِلَّا الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لِرُسُلِ اللهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ. (10) خَتَمَ السُّورَةَ مِنَ الْآيَةِ 104 - 109 بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَا وَكِيلٌ لِلَّهِ مُتَصَرِّفٌ فِي أَمْرِ عِبَادِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حُكْمَهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

(11) إِعْلَامُهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي الْآيَةِ 14 بِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا بَعْدَ إِهْلَاكِ أَكْثَرِ الْقُرُونِ الْأُولَى مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ لِرُسُلِهِمْ، وَتَحْرِيفِ آخَرِينَ لِأَدْيَانِهِمْ، وَنَسْخِهِ تَعَالَى لِمَا بَقِيَ مِنْهَا بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ فِيهَا، وَأَخَّرْنَا هَذَا لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا وَعَدَهُمْ وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُمْ بِشَرْطِهِ فِي الْآيَةِ (24: 55) مِنْ سُورَةِ النُّورِ. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَنُلَخِّصُ آيَاتِهِ فِي بِضْعَةِ أَنْوَاعٍ (1) الْآيَةُ الرَّابِعَةُ ذِكْرُ رُجُوعِ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى اللهِ رَبِّهِمُ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ بِأَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ بِالْقِسْطِ، وَالْكَافِرِينَ بِمَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا كَوْنَهُ بِالْقِسْطِ أَيْضًا كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ، وَكَوْنَ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُضَاعَفُ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِهَا. (2) فِي الْآيَاتِ 7 - 11 تَفْصِيلٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، مَعَ تَعْلِيلٍ طَبِيعِيٍّ عَقْلِيٍّ لِتَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فِي الْأَنْفُسِ، وِفَاقًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِسِيرَتِهَا فِي الدُّنْيَا، بِجَعْلِهَا أَهْلًا بِطَبْعِهَا وَصِفَاتِهَا لِجِوَارِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ أَوْ لِسُخْطِهِ. (3) فِي الْآيَاتِ 24 - 30 تَفْصِيلٌ آخَرُ مُوَضَّحٌ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَ، وَكَوْنُ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ بِالْمِثْلِ، وَكَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَبْلُو فِي الْآخِرَةِ مَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا، لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ أَحَدًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ. (4) فِي الْآيَاتِ 45 - 56 سِيَاقٌ رَابِعٌ مُفْتَتَحٌ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقْدِيرِ النَّاسِ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَتَأْكِيدِ وَعْدِ اللهِ بِهِ، وَاسْتِبْطَائِهِمْ لَهُ، وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ، وَاسْتِنْبَائِهِمُ الرَّسُولَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَحَالِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ، وَتَمَنِّيهِمُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، وَإِسْرَارِهِمُ النَّدَامَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وَهَذَا الْأَخِيرُ فِي الْآيَتَيْنِ 47 و54. (5) فِي الْآيَاتِ 62 - 64 ذِكْرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، (وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وَأَنَّ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (6) فِي الْآيَتَيْنِ 69 و70 ذِكْرُ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ وَكَوْنِهِمْ لَا يُفْلِحُونَ، لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللهِ فَيُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ. (7) فِي الْآيَةِ 93 عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَنَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ،

أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنَّ اللهَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. إِذَا عَدَدْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَجَدْتَهَا تَبْلُغُ زُهَاءَ الثُّلُثِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَكِنَّكَ لَا تَشْعُرُ عِنْدَمَا تَقْرَأُ السُّورَةَ أَنَّكَ تُكَرِّرُ مَعْنًى وَاحِدًا فِيهَا يَبْلُغُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَلْبِكَ وَيَمْلَؤُهُ إِيمَانًا بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَالْخَوْفِ مِنْ حِسَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ، وَمَا كَانَ التَّكْرَارُ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَبْلَغُ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ كَهَذَا؟ لَا لَا. الْبَابُ الْخَامِسُ فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ وَخَلَائِقِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَسُنَنِ اللهِ فِيهَا وَهِيَ نَوْعَانِ (النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ الَّتِي تَجِبُ مُعَالَجَتُهَا بِالتَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ) (الْأُولَى: الْعَجَلُ وَالِاسْتِعْجَالُ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (21: 37) وَقَالَ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (17: 11) وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (11) وَمِنْهَا اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَاهُ فِي سِيَاقِهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ 50 و51. (الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ) قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (14: 34) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَمَانَةِ: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (33: 72) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَوِ الشِّيمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 44 و85 و106. (الثَّالِثَةُ: الْكُفْرُ بِاللهِ وَبِنِعَمِهِ) قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُورَتِهِ سُورَةِ الدَّهْرِ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (76: 3) وَوَصَفَهُ بِالْكَفُورِ فِي سُورِ الْإِسْرَاءِ وَالْحَجِّ وَالشُّورَى، وَبِالْكَفَّارِ (بِالْفَتْحِ لِلْمُبَالَغَةِ) فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَذُكِرَتْ آنِفًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِلَفْظِهِ وَمُشْتَقَّاتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَلِيلٌ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْكَافِرُونَ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ جَزَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآخِرَةِ بِكُفْرِهِمْ، وَذُكِرَ فِي الْآيَةِ 86 فِي دُعَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنَّجَاةِ مِنْ حُكْمِ الْكَافِرِينَ. وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ كَثِيرٌ فِيهَا، فَمِنْهُ مَا هُوَ بِلَفْظِ التَّكْذِيبِ وَعَدَمِ الرَّجَاءِ بِلِقَاءِ اللهِ،

وَمَا هُوَ بِلَازِمِهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْإِجْرَامِ وَالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَكَذَا الظُّلْمِ الَّذِي خَصَصْنَاهُ بِالذِّكْرِ. (الرَّابِعَةُ: الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى) وَهُوَ عَادَةٌ صَارَتْ وِرَاثِيَّةً فِي الْأُمَمِ، وَذُكِرَ فِي الْآيَاتِ 18 و28 و34 و35 و66 و71 وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ. (الْخَامِسَةُ: الْجَهْلُ وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ غَرَائِزَهُ الْخِلْقِيَّةَ أَضْعَفُ مِنْ غَرَائِزِ الْحَشَرَاتِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، وَجَعَلَ عِمَادَ أَمْرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ التَّدْرِيجِيِّ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (16: 78) وَآيَةِ الْأَمَانَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الظُّلْمِ. وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتِّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (36) وَقَوْلُهُ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (66) . (السَّادِسَةُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَالْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا تَعُودَ تَقَبْلُ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهَا الْمَوْرُوثَةَ وَالرَّاسِخَةَ بِمُقْتَضَى الْعَمَلِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (74) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ نَتِيجَةً مَعْلُولَةً لِاعْتِدَاءِ حُدُودِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِهَا، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الصُّرَحَاءِ وَالْمُتَأَوِّلِينَ، وَغَايَةُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْقَلْبِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الْحِرْمَانُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ اللهِ فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ الْمُرْشِدَةِ لِلْفِطْرَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمَا هُوَ تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 23 و66 - 101. (السَّابِعَةُ: الْغُرُورُ وَالْبَطَرُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعَمِ) فَهُمْ فِي أَثْنَائِهَا يَمْكُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشَّدَائِدُ تَذَكَّرُوا وَأَخْلَصُوا فِي دُعَائِهِ، فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 21 - 23 و88. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا مُشْرِكُونَ مُعَانِدُونَ كَافِرُونَ ظَالِمُونَ مُجْرِمُونَ جَاهِلُونَ، مُسْتَكْبِرَةٌ رُؤَسَاؤُهُمْ، مُقَلِّدَةٌ دُهَمَاؤُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا تَقْدِيمَ الْإِنْذَارِ فِيهَا عَلَى التَّبْشِيرِ كَمَا تَرَاهُ فِي أَوَّلِهَا ; وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ وَالْخَلَائِقِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ النَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ أَكْثَرُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَكَوْنِ أَصْلِ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنِهِ فُطِرَ عَلَى تَرْجِيحِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ،

أَوِ التَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَكَوْنِ الدِّينِ مُؤَيِّدًا لِلْعَقْلِ، حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَالْجَهْلُ. فَتَأَمَّلِ الْأَصْلَ فِي تَكْوِينِ الْأُمَمِ وَوَحْدَتِهَا فِي فِطْرَتِهَا، ثُمَّ طُرُوءَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ 19 - ثُمَّ انْظُرْ فِي مُقَدِّمَةِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ 99 - 103 وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي اسْتِعْدَادِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي تَرْجِيحِهِمُ الرِّجْسَ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِجَعْلِهِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِسُنَّتِهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ وَعَاقِبَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ. ثُمَّ تَأْمَّلْ خُلَاصَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ 104 إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِ الشَّكِّ جَهْلًا، وَكَوْنِهِمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ وَهْمًا، وَكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَوْنِهِمْ يَعْبُدُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَكَوْنِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الْحَقَّ، وَكَوْنِهِمْ مُخْتَارِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، وَكَوْنِ مَا يَخْتَارُونَهُ إِمَّا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مُوَكَّلًا بِهِدَايَتِهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ الْخُلَاصَةُ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، فَارْجِعْ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَغْرُوسَةٌ فِي أَعْمَاقِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وَفِي السَّادِسَةِ (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) وَخِطَابِهِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لِلْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَفِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ لِلْفِكْرِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ثُمَّ ارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) الْآيَاتِ 35 - 39، ثُمَّ إِلَى بَيَانِهِ لَهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أُصُولِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَةِ 57 وَمَا بَعْدَهَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ.

(الْبَابُ السَّادِسُ) فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِي الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَأَخَّرْنَاهُ لِأَنَّهُ الثَّمَرَةُ وَالنَّتِيجَةُ وَهُوَ قِسْمَانِ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) (1) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) وَالصَّالِحَاتُ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْأَفْرَادِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ، هَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ مُجْمَلًا، وَفُصِّلَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَسْبِ مَا كَانَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ أَوِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، فَإِمَّا فَاسِدٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِمَّا أُدِّيَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. (2) قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (9) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا عَلَاقَةَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَوْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ هَذَا وَيَتَوَخَّهُ لَمْ يَفْقَهْ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ صَالِحًا يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَفِي أَمْثَالِهِمَا مِنْ طُولَى السُّورِ وَمِئِينِهَا وَمُفَصَّلِهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا (وَهِيَ سُورَةُ وَالْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّحَادُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْمَاصَدَقِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ 84 و90، فَمَفْهُومُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ الْإِذْعَانِيُّ الْجَازِمُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَمَفْهُومُ الْإِسْلَامِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ فَيَكُونُ إِسْلَامًا إِلَّا بِهِ. (3) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (26) ظَاهِرٌ فِي دَلَالَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مُضَاعَفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ. (4) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيفِ بِأَوْلِيَائِهِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (63) فَالتَّقْوَى جِمَاعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اتِّقَاءِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَبْسَطُهَا وَأَظْهَرُهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرَقَانًا) (8: 29) الْآيَةَ. (5) قَوْلُهُ حِكَايَةً لِوَصِيَّةِ مُوسَى لِقَوْمِهِ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (87) . (الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا) (6) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، الرَّاضِينَ الْمُطَمْئِنِينَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا غَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِيهَا: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (8) . (7) قَوْلُهُ فِيمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَيَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ وَيَنْسَوْنَهُ فِي السَّرَّاءِ: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (12) .

(8) قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ بَغْيِ النَّاسِ فِي السَّرَّاءِ وَغُرُورِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَوْنِ وَبَالِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْآيَاتِ 21 - 23 (وَهِيَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا) : (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (23) . (9) قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (15) . (10) قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) (27) الْآيَةَ. (11) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (52) . (12) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (81) . (13) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (14) . (14) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (41) . (15) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (61) . (16) قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (108) . فَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُصْلِحَ أَعْمَالَنَا، وَيَجْعَلَ خَيْرَهَا خَوَاتِيمَهَا. وَهَذَا آخَرُ مَا نَخْتِمُ بِهِ خُلَاصَةَ هَذِهِ السُّورَةِ الْبَلِيغَةِ، وَنَضْرَعُ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مُفَصَّلًا وَمُجْمَلًا، كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي كُلِّ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ. وَصَلَّى الله عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالْمُهْتَدِينَ مِنْ خَلْقِهِ قَدْ جَعَلْنَا آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ الْجُزْءِ الْحَادِيَ عَشَرَ

- سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَهِيَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُصْحَفِ، وَآيَاتُهَا 123 آيَةً) : هِيَ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ. الْأُولَى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ 12 إِلَخْ. الثَّانِيَةَ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ 17 إِلَخْ. وَالثَّالِثَةَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ 114 إِلَخْ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الثَّالِثَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهِيَ فِي مَعْنَاهَا وَمَوْضُوعِهَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهُوَ أَصُولُ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ فُصِّلَ فِيهَا مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَهَا كُلَّ الْمُنَاسَبَةِ بِبَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ فِي فَاتِحَتِهَا، وَالْمَقْطَعِ فِي خَاتِمَتِهَا، وَتَفْصِيلِ الدَّعْوَةِ فِي أَثْنَائِهَا، فَقَدِ افْتُتِحَتَا بِذِكْرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الر، وَمِثْلُهُمَا فِي هَذَا مَا بَعْدَهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ إِلَّا الرَّعْدَ فَأَوَّلُهَا المر، وَذِكْرُ رِسَالَةِ النَّبِيِّ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَبَيَانُ وَظِيفَتِهِ فِيهَا، وَهُوَ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَخُتِمَتَا بِخِطَابِ النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ فِي الْأُولَى بِالصَّبْرِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِانْتِظَارِ ; أَيِ انْتِظَارِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ - تَعَالَى - مَعَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ، رَدًّا عَلَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَاهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي الْأُولَى أَوْفَى مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَذَا مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ كُلِّهَا، فَقَدْ أُجْمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا فُصِّلَ فِي الْأُخْرَى مَعَ فَوَائِدَ انْفَرَدَتْ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا، فَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْمَوْضُوعِ، وَاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الْإِعْجَازِ، تَخِرُّ لِتِلَاوَتِهِمَا الْوُجُوهُ لِلْأَذْقَانِ، سَاجِدَةً لِلرَّحْمَنِ.

هود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، خُوطِبَ بِهَا النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِ ذِكْرِهِمْ، وَلَا ذِكْرٍ لِأَمْرِهِ - تَعَالَى - لَهُ بِهِ، لِلْعِلْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، وَبِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ هَذَا. (الر) تُقْرَأُ كَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةً لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا، فَيُقَالُ: أَلِفْ، لَامْ، رَا، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ، أَوْ لِلْقُرْآنِ (وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ الِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) : أَيْ هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ (كَمَا أَفَادَهُ التَّنْوِينُ) جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاضِحَةَ الْمَعَانِي بَلِيغَةَ الدَّلَالَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهِيَ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعِ، وَالْقَصْرِ الْمُشَيَّدِ الرَّفِيعِ، فِي إِحْكَامِ الْبِنَاءِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْإِيوَاءِ مَعَ حُسْنِ الرِّوَاءِ، فَهِيَ لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا وَوُضُوحِهَا لَا تَقْبَلُ شَكًّا وَلَا تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : أَيْ جُعِلَتْ فُصُولًا مُتَفَرِّقَةً فِي سُوَرِهِ بِبَيَانِ حَقَائِقِ الْعَقَائِدِ،

وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَسَائِرِ مَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، كَمَا يُفْصَلُ الْوِشَاحُ أَوِ الْعِقْدُ بِالْفَرَائِدِ، فَالْإِحْكَامُ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ مَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ مُجْتَمِعَتَانِ، لَا نَوْعَانِ مِنْهُ مُتَفَرِّقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فُصِّلَتْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، كَمَا تَرَى فِي الْقَصَصِ الْقِصَارَ وَالطِّوَالَ، وَقَدْ أُبْهِمَا بِبِنَاءِ فِعْلَيْهِمَا لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بُيِّنَا بِجَعْلِهِمَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِمَا إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ كَامِلِ الْحِكْمَةِ هُوَ الَّذِي أَحْكَمَهَا، وَخَبِيرٍ تَامِّ الْخِبْرَةِ هُوَ الَّذِي فَصَّلَهَا، وَ ((لَدُنْ)) ظَرْفُ مَكَانٍ أَخَصُّ مِنْ ((عِنْدَ)) وَأَبْلَغُ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (كَعَضُدٍ) مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ. هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَرْفَيِ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ: (الْأُولَى) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ 22: 52، (وَالثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ ((الْقِتَالِ)) : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ 47: 20 الْآيَةَ. . (وَالثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (3: 7) وَوَجَدْتَ الْإِحْكَامَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا. وَقَدْ حَمَلَ الْمُقَلِّدُونَ الْمُحْكَمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمَنْسُوخَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، فَقَالُوا: سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَحِيحًا ; فَإِنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُرْفِ الْقُرْآنِ، بَلْ وُضِعَ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَالْآيَةُ الْأُولَى حُجَّةٌ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهَا غَيْرُ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَا كُلُّهَا وَلَا بَعْضُهَا ; لِأَن َّ إِنْزَالَ سُورَةٍ مَنْسُوخَةٍ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا مَعْنَى إِذًا لِنَفْيِهِ، وَحَمَلُوهُ فِي الثَّالِثَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُتَشَابَهَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِيهِمَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ اللُّغَةِ وَلِلْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْأَوَّلِ: الْمُحْكَمُ مَا أُحْكِمَ، الْمُرَادُ بِهِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ أَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّسْخِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ النَّسْخَ فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ التَّأْوِيلَ فَمُفَسَّرٌ، وَإِلَّا فَإِنْ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُرَادِ فَنَصٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ، وَإِذَا خَفِيَ لِعَارِضٍ أَيْ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَخَفِيٌّ،

وَإِنْ خَفِيَ لِنَفْسِهِ أَيْ لِنَفْسِ الصِّيغَةِ وَأُدْرِكَ عَقْلًا فَمُشْكِلٌ، أَوْ نَقْلًا فَمُجْمَلٌ، أَوْ لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا فَمُتَشَابِهٌ اهـ. وَقَالَ فِي الثَّانِي: الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ، وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ، اهـ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي تَعْرِيفِ التَّأْوِيلِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ التَّرْجِيحُ، وَفِي الشَّرْعِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (6: 95) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا، اهـ. وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: الظَّاهِرُ مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً، وَالتَّأْوِيلُ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، فَإِنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ، أَوْ لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، اهـ. هَذَا الِاصْطِلَاحُ الْمُفَصِّلُ لِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ فِيهِ مَا تَرَى - فِي كُتُبِ الْأُصُولِ - مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَمَذَاهِبَ وَجِدَالٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ عِنْدَ قِرَاءَاتِهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - بَلْ كَانُوا يَفْهَمُونَهَا بِمَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ الْمَحْضِ، فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ فَقَدْ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ عَشْرِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ، وَفِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْصِيلِ الْكِتَابِ، وَبَعْضٌ آخَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ، وَنَوْعٌ آخَرُ أَعَمُّ وَهُوَ (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِ الْمُكَلَّفِينَ، وَكُلُّهَا دَاخِلٌ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي حَرَّرْنَاهُ. بَقِيَ عَلَيْنَا الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَهُوَ قَلِيلٌ مُخْتَصَرٌ، فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (قَالَ) : إِنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّ التَّفْصِيلَ فِيهَا هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ خَالَفَهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ) (24) الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ هُودٍ (قَالَ) : فَكَانَ هَذَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُهُ مُحْكَمًا، انْتَهَى. بِالْمَعْنَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ الْمُجْمَلُ، وَأَنَّ الْمُفَصَّلَ مَا يُقَابِلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِمَا. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَفُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ثُمَّ فُصِّلَتْ، قَالَ: فُسِّرَتْ، وَعَنْ قَتَادَةَ: أَحْكَمَهَا اللهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا اللهُ بِعِلْمِهِ، فَبَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ تَفْصِيلَ الْإِجْمَالِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: (الْأَوَّلُ) تَفْصِيلُ أُصُولِ الْعَقَائِدِ

2

وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ، (وَالثَّانِي) مَا يَعُمُّ تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْضًا. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، هَذَا تَفْسِيرٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ بِهِ وَلَهُ الْآيَاتُ: أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، أَوْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَهَذَا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي قِصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّوْحِيدِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وَهُوَ تَبْلِيغٌ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مُبَيِّنٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ، وَهِيَ إِنْذَارُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَتَبْشِيرُ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى بِالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَدَّمَ الْإِنْذَارَ لِأَنَّ الْخِطَابَ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَنَظِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَسُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُبَلِّغُ هَذَا هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَأَنِ اسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أَيْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ - عَنْهُ وَعَنْ آيَاتِهِ - يَعْرِضُ لَكُمْ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، نَادِمِينَ مُنِيبِينَ مُصْلِحِينَ لِمَا أَفْسَدْتُمْ، مُسْتَدْرِكِينَ مَا قَصَّرْتُمْ، عَطَفَ التَّوْبَةَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَمَلِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الذَّنْبِ، وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ فِي قِصَّةِ كُلٍّ مِنْ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) الْمَتَاعُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَحَاجَةِ الْبُيُوتِ، وَالْإِمْتَاعُ وَالتَّمْتِيعُ: إِعْطَاءُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ تَمَتُّعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا، وَأَمَّا وَصْفُهُ - تَعَالَى - لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِ أَهْلِهَا بِهَا بِالْقَلِيلِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَنْبٍ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكُّبٍ عَنْ سُنَّتِهِ، يُمَتِّعْكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا مُرْضِيًا مُمْتَدًّا (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) عِنْدَهُ وَهُوَ الْعُمُرُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ فِي عِلْمِهِ، الْمَكْتُوبُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي عِبَادِهِ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِهْلَاكُكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَا بِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسَلْبِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُنَغِّصُهُ كُلُّ مَا يُنَغِّصُ حَيَاةَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِتَنْغِيصِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَسَلْبِ النِّعَمِ مِنْ أَهْلِهَا أَسْبَابًا تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً إِلَّا لِأَنَّهَا ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ، أَوْ مُزِيلَةٌ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْعَقْلِ أَوْ لِلصِّحَّةِ أَوْ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْمَالِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَفْسَدَةً بِإِصْرَارِ فَاعِلِيهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ يَنْدَمُ وَيُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَيُصْلِحُ مَا نَجَمَ مِنْ فَسَادِهَا بِالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لَهُ، امْتَنَعَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَزَالَ أَثَرُهُ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ مَا اشْتَرَطَ

3

وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (4: 17) وَقَوْلِهِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (5: 39) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3: 135) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا. وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ (كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، يُهْلِكُهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (100 - 103) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ - تَعَالَى - كَامِلًا شَامِلًا. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللهُ - تَعَالَى - لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا ((سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ)) وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَدِيثِ ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ)) وَهُوَ صَحِيحٌ

أَيْضًا، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ - يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ - يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (7) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْذَارِ: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أَيْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ. قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ ; لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَصِفَتِهِمْ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، افْتُتِحَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِيَتَأَمَّلَهَا السَّامِعُ وَيَتَصَوَّرَهَا فِي صِفَتِهَا الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيْرَةِ وَالْعَجْزِ وَمُنْتَهَى الْجَهْلِ، يُقَالُ: ((ثَنَى الثَّوْبَ إِذَا عَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَطَوَاهُ، وَأَثْنَاءُ الثَّوْبِ أَطْوَاؤُهُ وَمَطَاوِيهِ، وَثَنَاهُ عَنْهُ لَوَاهُ وَحَوَّلَهُ، وَثَنَاهُ عَلَيْهِ أَطْبَقَهُ وَطَوَاهُ لِيُخْفِيَهُ فِيهِ، وَثَنَى عِنَانَهُ عَنِّي أَيْ تَحَوَّلَ وَأَعْرَضَ، وَثَنَى عِطْفَهُ أَيْ أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ تَكَبُّرًا، وَمِنْهُ فِي الْمُجَادِلِ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ 22: 9 وَالِاسْتِخْفَاءُ مُحَاوَلَةُ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ:

5

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) (4: 108) وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ التَّغَطِّي بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (71: 7) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، ((أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)) ، فَسَّرَ بَعْضُهُمْ ثَنْيَ الصُّدُورِ هُنَا بِالْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَالِاسْتِدْبَارِ لِلرَّسُولِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ثَنْيِ الْعِطْفِ وَالْجَانِبِ، وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِطَيِّهَا عَلَى مَا هُوَ مَكْنُونٌ فِيهَا مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ تَصْوِيرًا لِمَا كَانَ يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ بِتَنْكِيسِ الرَّأْسِ، وَثَنْيِ الصَّدْرِ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ، حَتَّى يَخْفَى فَاعِلُهُ بَيْنَ الْجَمْعِ، خَجَلًا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْقَرْعِ وَالصُّدَاعِ، فَالْمَعْنَى: أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْكَارِهِينَ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ يَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ وَيُنَكِّسُونَ رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ طَيَّ صُدُورِهِمْ عَلَى بُطُونِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنًى بَلِيغٌ وَوَاقِعٌ وَأَدْنَى إِلَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أَيْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَرَاهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْقَوَارِعِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، أَوْ لِيَسْتَخْفُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ الْمُظْهِرِ لِخِزْيِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، الْمُثْبِتِ لِعَجْزِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي كُلَّمَا تَلَوْتُ الْآيَةَ أَوْ سَمِعْتُهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ مَا قَبْلَهُ فَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَنَى صَدْرَهُ لِكَيْ لَا يَرَاهُ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَسْتَغْشِي بِثَوْبِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يَقُولُ: يُطَأْطِئُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ، أَيْ أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ثَنْيَ صُدُورِهِمْ وَتَنْكِيسَ رُءُوسِهِمْ ; لِيَسْتَخْفُوا مِنَ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ظُهُورِ فَضِيحَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ فَيُغَطُّونَ بِهَا جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَخْلُونَ بِخَوَاطِرِهِمْ وَمَا يُبَيِّتُونَ مِنَ السُّوءِ وَالْمَكْرِ، فَإِنَّ رَبَّهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْهَا لَيْلًا، ثُمَّ مَا يُعْلِنُونَ نَهَارًا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَحْنُونَ صُدُورَهُمْ لِكَيْلَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى -، قَالَ - تَعَالَى -: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وَذَلِكَ أَخْفَى مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ إِذَا حَنَى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ، وَأَضْمَرَ هَمَّهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أَيْ إِنَّهُ -

تَعَالَى - عَلِيمٌ مُحِيطٌ بِأَسْرَارِ الصُّدُورِ، وَخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (4: 108) . وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ مَالَا يَظْهَرُ فِي مَعْنَاهَا وَلَا فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَصْدُقُ فِيهِمْ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - تُذَكِّرُهُمْ بِهِ رُؤْيَةُ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَقْتَضِي الْأَدَبُ السَّتْرَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ ثَوْبٌ وَلَا ظُلْمَةُ لَيْلٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قُرِأَ: ((أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ)) - بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِالتَّحْتِيَّةِ - مِنِ اثْنَوْنَى كَاحْلَوْلَى، وَكَذَا تَثْنَوِي كَتَرْعَوِي، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى كُلُّهَا شَاذَّةٌ لَا نُعْنَى بِنَقْلِهَا وَلَا بِتَوْجِيهِهَا.

6

أَوَّلُ الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْمَصَاحِفِ: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)) بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ إِثْرَ بَيَانِ مَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ عِلْمِهِ بِهِ، وَبَيَّنَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا شُمُولَ قُدْرَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا يُهِمُّ النَّاسَ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِهِ، وَكِتَابَةِ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِمْ وَشُئُونِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمَكَانَ عَرْشِهِ قَبْلَ هَذَا مِنْ مُلْكِهِ، وَبَلَاءَ الْبَشَرِ خَاصَّةً بِذَلِكَ كُلِّهِ ; لِيُظْهِرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَبَعْثَهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَنَالُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْكَارَ كُفَّارِهِمْ لِهَذَا، قَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) الدَّبُّ وَالدَّبِيبُ: الِانْتِقَالُ الْخَفِيفُ الْبَطِيءُ حَقِيقَةً كَدَبِيبِ الطِّفْلِ وَالشَّيْخِ الْمُسِنِّ وَالْعَقْرَبِ وَالْجَرَادِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ كَدَبِيبِ الْجَيْشِ، أَوْ مَجَازًا كَدَبِيبِ السُّكْرِ وَالسُّمِّ فِي الْجِسْمِ، وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ نَسَمَةٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ زَحْفًا أَوْ عَلَى قَوَائِمَ ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ، قَالَ - تَعَالَى -: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ) (24: 45) أَيْ مِمَّا تَعْلَمُونَ وَمِمَّا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِمَّا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمِمَّا يَسْبَحُ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَغَلَبَةُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عُرْفًا لَا لُغَةً. وَرِزْقُ الدَّابَّةِ غِذَاؤُهَا الَّذِي تَعِيشُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِهِ، فَمِنْهَا الْجِنَّةُ الَّتِي لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ،

وَصِغَارُ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَضِخَامُ الْأَجْسَامِ، وَالْوُسْطَى بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَأَغْذِيَةُ كُلِّ نَوْعٍ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ نَبَاتِيَّةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ، وَقَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهَا خَلْقَهُ الْمُنَاسِبَ لِمَعِيشَتِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى تَحْصِيلِ غِذَائِهِ بِغَرِيزَتِهِ، فَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ خَرَاطِيمَ يَمُصُّ بِهَا غِذَاءَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَوْ دَمِ الْحَيَوَانِ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِنَّ خُرْطُومَ الْبَعُوضَةِ الدَّقِيقَ لَيَخْتَرِقُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْهُ مِنْ جُلُودِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ مَنَاقِيرَ تَلْتَقِطُ الْحُبُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَمْضُغُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ مَضْغًا، وَمَا يَبْلَعُ الْحَشَرَاتِ وَالطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ بَلْعًا، وَمَا لَهُ مَخَالِبُ يُمَزِّقُ بِهَا اللُّحُومَ، وَمَا لَهُ بَرَاثِنُ يَقْتُلُ بِهَا كِبَارَ الْجُسُومِ، وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ كُتُبٌ خَاصَّةٌ مِنْ قَدِيمَةٍ وَحَدِيثَةٍ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - حِكَمٌ فِي خَلْقِهَا وَغِذَائِهَا عَجِيبَةٌ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ أَمْرُ تَغَذِّي الْحَيَّاتِ وَالسَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ وَصِغَارِهَا، وَتَغَذِّي الْأَفَاعِي الْكُبْرَى وَسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مِنْ كِبَارِهَا، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهَا، أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ ذَرْعًا بِكَثْرَةِ أَحْيَائِهَا، أَوْ لَأَنْتَنَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَاتِهَا، وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَا وَبِحِكْمَتِهَا فَعَلَيْكَ بِالْمُصَنَّفَاتِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهَا، وَقَدْ فَتَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا لَكَ أَبْوَابَهَا، وَأَرْشَدَتْكَ إِلَى تِطْلَابِهَا. وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ التَّعْبِيرُ عَنْ كَفَالَةِ اللهِ لِرِزْقِهَا بِقَوْلِهِ: عَلَى، وَمَا قِيلَ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوُجُوبِ مَعَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمَمْنُوعَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ ذِي حُكْمٍ أَوْ سُلْطَانٍ يُطَالِبُهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النِّظَامِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ الْعَامِّ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَنَفَّذَهُ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي خَلِيقَتِهِ، فَهُوَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ بِسُلْطَانِهِ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانِ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ. وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ فِيهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ نَوْعٍ - مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ حَتَّى الْإِنْسَانِ - أَفْرَادٌ قَدْ تَضِيقُ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ حَتَّى يَقْضِيَ بَعْضُهُمْ جُوعًا، فَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ كَفَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَخْلُقَ لَهَا مَا تَغْتَذِي بِهِ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، سَوَاءٌ أَطَلَبَتْهُ بِبَاعِثِ غَرِيزَتِهَا أَوْ مَا يَهْدِيهَا إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ أَسْبَابِ كَسْبِهَا أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنْ خَلْقِهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنْهَا الرِّزْقَ الَّذِي تَعِيشُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَخَّرَهُ لَهَا وَهَدَاهَا إِلَى طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ، كَمَا قَالَ: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) وَبِهَذَا تَعْلَمُ جَهْلَ بَعْضِ الْعِبَادِ وَالشُّعَرَاءِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْخَيَالِيِّينَ الْجَاهِلِينَ، الْمُتَوَاكِلِينَ غَيْرِ الْمُتَوَكِّلِينَ: جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ ... فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ ... وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ

فَهَذَا الشَّاعِرُ أَحَقُّ بِصِفَةِ الْجُنُونِ مِمَّنْ يَصِفُهُمْ بِهَا، فَإِنَّ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ مِنْهُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ نَوْعُهُ بِالتَّجَارِبِ وَالِاخْتِبَارِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آثَارٌ، فَمَا هُمَا سِيَّانِ فِي ذَاتِهِمَا، وَلَا فِي آثَارِهِمَا وَنَتَائِجِهِمَا، وَإِنَّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ الْجَنِينِ فِي غِشَاوَتِهِ بِدَمِ حَيْضِ أُمِّهِ، غَيْرُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (67: 15) وَبِغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْلِيفِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَحَدُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَذْكِيَاءِ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَثَرٍ مَوْضُوعٍ، وَيُسْتَحْسَنُ فِي مَوْضُوعِهِ خَيَالُ ابْنِ أُذَيْنَةَ الشَّاعِرِ الْمَخْدُوعِ: لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الْإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي ... أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي أَسْعَى إِلَيْهِ فَيُعْيِينِي تَطَلُّبُهُ ... وَلَوْ أَقَمْتُ أَتَانِي لَا يُعْيِينِي ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ صَدَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ يَوْمَ وَفَدَ عَلَى هِشَامٍ فَقَرَعَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَدِمَ هِشَامٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ بِجَائِزَتِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ (أَيِ الْمُفَسِّرُ) فِي مَعْنَاهُ قَوْلَ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَلْغَى أَمْرَ الْأَسْبَابِ جِدًّا إِذْ قَالَ: مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ ... مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا ... وَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ وَقَفَّى عَلَيْهِ - أَعْنِي الْمُفَسِّرَ - بِقَوْلِهِ هُوَ: وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي الْوُثُوقُ بِاللهِ وَرَبْطُ الْقَلْبِ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَقٌّ وُضِعَ مَوْضِعَ الْبَاطِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا الشِّعْرَ أَوْغَلُ فِي الْجَهْلِ الْبَاطِلِ مِمَّا سَبَقَهُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الرِّزْقِ الْمَطْلُوبِ، لَا فِي الرِّزْقِ الْمَكْتُوبِ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ مَانِعًا مِنْ إِدْرَاكِهِ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ بِالْقُعُودِ وَالْكَسَلِ وَالتَّمَنِّي دُونَ الْعَمَلِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَيْلِهِ، فَيَكُونُ تَأْيِيدُ زَعْمِهِ أَوْ تَقْرِيبُهُ بِمَا يَنْبَغِي، بَلْ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْوُثُوقِ بِاللهِ وَرَبْطِ الْقَلْبِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِمَشِيئَتِهِ، مِنْ رَبْطِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ، وَتَأْيِيدِ الْبَاطِلِ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، فَالثِّقَةُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْإِيمَانُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُمَا وَمَوَاضِعِ تَعَلُّقِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَبِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَأَسْبَابِ الرِّزْقِ، أَنَّ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ إِلَّا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ وَحِكْمَتِهِ فِيهَا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالْجَهْلُ بِهَذَا مِمَّا أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ، وَأَضَاعَ جُلَّ مِلْكِهِمْ، وَجَعَلَ جَمَاهِيرَهُمْ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) أَيْ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَيَعْلَمُ اللهُ مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ

تَسْتَقِرُّ وَتُقِيمُ، وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَكُونُ مُودَعَةً إِلَى حِينٍ، فَهُوَ يَرْزُقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنَ الْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (6: 98) فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فِي (ص 532 و533 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ فِي ((مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَمَاكِنُهَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، أَوِ الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَوْ مَسَاكِنُهَا مِنَ الْأَرْضِ حِينَ وُجِدَتْ، وَمَوْدَعُهَا مِنَ الْمَوَادِّ وَالْمَقَارِّ حِينَ كَانَتْ بَعْدُ بِالْقُوَّةِ (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَرْزَاقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا ثَابِتٌ مَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَلَوْحٍ مَحْفُوظٍ، كَتَبَ اللهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كُلَّهَا فَهُوَ عِنْدُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 6: 38 ثُمَّ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَهِيَ الْآيَةُ 59 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) فَرَاجِعْهَا فِي (ص 381 ج 7 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) . (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مِنْ أَيَّامِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا شَاءَ مِنَ الْأَطْوَارِ، لَا مِنْ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَتْ بِهَذَا الْخَلْقِ لَا قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَدَّرَ أَيَّامُ اللهِ بِأَيَّامِهَا كَمَا تَوَهَّمَ الْغَافِلُونَ عَنْ هَذَا، وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (22: 47) وَقَوْلُهُ: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (70: 4) وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ أَنَّ أَيَّامَ غَيْرِ الْأَرْضِ مِنَ الدَّرَارِيِّ التَّابِعَةِ لِنِظَامِ شَمْسِنَا هَذِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي طُولِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا وَسُرْعَتِهَا فِي دَوَرَانِهَا، وَأَنَّ أَيَّامَ التَّكْوِينِ بِخَلْقِهِ مِنَ الدُّخَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّدِيمِ شُمُوسًا مُضِيئَةً، تَتْبَعُهَا كَوَاكِبُ مُنِيرَةٌ، يُقَدَّرُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ سِنِينِنَا، بَلْ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ 7: 54 وَيُونُسَ 10: 3، وَذُكِرَ بَعْدَهَا اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرُهُ لِأَمْرِ مُلْكِهِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ بَعْدَهَا فِيهِمَا ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) أَيْ وَكَانَ سَرِيرُ مُلْكِهِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ آيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَرْشِ أَنَّهُ مَرْكَزُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَصْدَرُ التَّدْبِيرِ لَهُ، وَأَنَّ الْمُتَبَادِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ اسْتِعْمَالُهُمُ: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى مَلَكَ أَوِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْمُلْكِ لَهُ، وَ: ثُلَّ عَرْشُهُ بِمَعْنَى هَلَكَ وَزَالَ مُلْكُهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُرُوشَ مُلُوكِ الْبَشَرِ تَخْتَلِفُ مَادَّةً وَشَكْلًا، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَصُنْعِ أَيْدِي الْبَشَرِ، كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النِّظَامُ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ فِي عَالَمِنَا هَذَا، فَعَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ الْعَظِيمِ،

7

كَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْشِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ تَدْبِيرَهَا وَحُكْمَهَا الشُّورِيَّ (الدِّيمُقْرَاطِيَّ) كَانَ دُونَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ، وَرُبَّ عَرْشٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَعَرْشٍ مِنَ الْخَشَبِ، وَأَمَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ تَصْوِيرَهُ بِأَفْكَارِنَا، فَأَجْدِرْ بِنَا أَلَّا نَعْلَمَ كُنْهَ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَصُدُورَ تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ عَنْهُ، وَحَسْبُنَا أَنْ نَفْهَمَ الْكِتَابَةَ وَنَسْتَفِيدَ الْعِبْرَةَ، فَمَا أَجْهَلَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ بِأَقْيِسَتِهِمْ وَآرَائِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ! وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللهُ - مِنْ قَوْلِهِمُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فَنَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ دُونَ هَذَا الْعَرْشِ مِنْ مَادَّةِ هَذَا الْخَلْقِ قَبْلَ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ هُوَ هَذَا الْمَاءُ، الَّذِي أَخْبَرَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، إِذْ قَالَ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (21: 30) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً لَا فَتْقَ فِيهَا وَلَا انْفِصَالَ - وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ بِالسَّدِيمِ وَبِلُغَةِ الْقُرْآنِ بِالدُّخَانِ - فَفَتَقْنَاهُمَا بِفَصْلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مِنْهَا مَا هُوَ سَمَاءٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْضٌ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ، فِي الْمُقَابَلَةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْفَاعِلَ لِهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَبَدْئِهِ؟ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَزَّلُ إِلَيْهِ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَالتَّكْوِينِ مِنْهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، لَا مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَنِّيِّينَ فِي الْمَاءِ وَالْعَرْشِ، مِمَّا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَالْعِبَارَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ ذَاتَ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ كَانَ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ الَّتِي نَرَاهَا رَاسِيَةً فِيهِ الْآنَ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ هُوَ دُونَ فَائِدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْعَرْشِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِرَبِّنَا وَبِحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ نَظَرِيَّاتِ عِلْمِ التَّكْوِينِ وَعِلْمِ الْحَيَاةِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ مِنَ التَّجَارِبِ فِيهَا، وَيُخَالِفُ أَتَمَّ الْمُخَالَفَةِ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْفَلَكِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْمُسَلَّمَةِ. وَبِهَذَا يُعَدُّ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ. ثُمَّ عَلَّلَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَلْقَهُ لِمَا ذَكَرَ بِبَعْضِ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ بَلَاءً، أَيِ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا لَكُمْ،

فَيَظْهَرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ إِتْقَانًا لِمَا يَعْمَلُهُ، وَنَفْعًا لَهُ وَلِلنَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَجَعَلَكُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِإِبْرَازِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ حِكَمِ خَالِقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ فِيهِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِفْسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِ ; لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ هَذَا الْبَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (6: 165) وَغَيْرِهِ: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) أَيْ وَتَاللهِ لَئِنْ قُلْتَ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ مِنْ وَحْيِ رَبِّهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِيَجْزِيَكُمْ رَبُّكُمْ بِعَمَلِكُمْ فِيمَا بَلَاكُمْ بِهِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (53: 31) فَإِنَّهُ مَا خَلَقَكُمْ سُدًى، وَلَا سَخَّرَ لَكُمْ هَذَا الْعَالَمَ وَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ عَبَثًا: (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ لَيُجِيبَنَّكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ قَائِلِينَ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ لِتُسَخِّرَنَا بِهِ لِطَاعَتِكَ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ تَسْحَرُ بِهِ الْعُقُولَ، وَتُسَخِّرُ بِهِ الضَّمَائِرَ وَالْقُلُوبَ، فَتُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَعَشِيرَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، مُعْتَقِدِينَ بِسُلْطَانِ بَلَاغَتِهِ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ ثُمَّ يُبْعَثُونَ وَيُجْزَوْنَ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَ، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) (23: 36) . (عِلَاوَةً فِي آيَاتِ التَّكْوِينِ وَمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ) : إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ عَرْشَهُ مَعَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي بِضْعِ آيَاتٍ بَيَّنَ فِي كُلٍّ مِنْهَا شَأْنًا مَنْ شُئُونِهِ. فَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذَكَرَ سُنَنَهُ فِي إِغْشَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَطَلَبِهِ طَلَبًا حَثِيثًا، وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ هَذَا النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ بِدَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ شَمْسِهَا، وَدَوْرَانِ الْقَمَرِ حَوْلَ أَرْضِهِ. وَفِي آيَةِ " يُونُسَ " (3) ذَكَرَ التَّدْبِيرَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَفِيعٍ ; إِذْ أَمْرُ الشُّفَعَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِهِ، ثُمَّ وَضَّحَهُ بِآيَةِ: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (10: 5) وَتَقْدِيرَهُ ((مَنَازِلَ)) وَفِي آيَةِ " هُودٍ " (7) ذِكْرُ مَا لِلْمَاءِ مِنَ الشَّأْنِ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ، وَلِهَذَا الْمَاءِ ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ، أَوْسَطُهَا السَّائِلُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ وَيُسْقَى بِهِ النَّبَاتُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي حَالِ اعْتِدَالِ الْحَرَارَةِ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِلَى دَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ صَارَ ثَلْجًا أَوْ جَلِيدًا، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ صَارَ بُخَارًا، فَإِذَا كَشَفَ سُمِّيَ ضَبَابًا وَسَدِيمًا، فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ سُمِّيَ دُخَانًا. وَفِي آيَةِ " الرَّعْدِ " (2) جَمَعَ بَيْنَ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ وَتَفْصِيلِ الْآيَاتِ، وَآيَةُ " طه " (5) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) (20: 6) وَآيَةُ الْفُرْقَانِ (59) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (61) فَذِكْرُ الْبُرُوجِ تَفْصِيلٌ لِنِظَامِ الزَّمَانِ، وَآيَةُ الم السَّجْدَةِ (4) نَفَى فِيهَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ أَوْ شَفِيعٌ، وَقَفَّى عَلَيْهَا بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنَ

السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ يَنْزِلُ مِنْهُ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا نَعُدُّهُ (32: 5) وَقَالَ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) (57: 4) إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَكَلَّفُوا تَفْسِيرَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَوْ تَأْوِيلَهُنَّ بِالْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ عِنْدَ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الْمُخَالِفَ لِلْقُرْآنِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْفَلَكِ الْأُورُبِّيَّ قَدْ نَقَضَ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْخَيَالِيَّةَ، بِالْأَدِلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ رِيَاضِيَّةٍ حِسَابِيَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ، وَمِنْ طَبِيعِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ كَتَحْلِيلِ النُّورِ وَسُرْعَتِهِ وَوَزْنِ الْحَرَارَةِ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْفَلَكِ الْحَدِيثِ وَمَبَاحِثِ التَّكْوِينِ قَرِيبٌ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، كَبُعْدِهِ عَمَّا يُخَالِفُ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْيُونَانِ. وَأَزِيدُكَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي اصْطِلَاحِ الْهَيْئَةِ الْقَدِيمَةِ هِيَ مَرْكَزُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَيُحِيطُ بِهَا فَلَكُ الْقَمَرِ فَهُوَ سَمَاؤُهَا، وَيُحِيطُ بِهِ فَلَكُ عُطَارِدَ فَأَفْلَاكُ الزُّهْرَةِ فَالشَّمْسِ فَالْمِرِّيخِ فَالْمُشْتَرِي فَزُحَلَ فَفَلَكِ النُّجُومِ كُلِّهَا فَالْفَلَكِ الْأَطْلَسِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُقِ اللهُ إِلَّا أَرْضًا وَاحِدَةً فِي قَلْبِ تِسْعِ سَمَاوَاتٍ، وَالسَّمَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا سَمَا وَعَلَا، فَكُلُّ مَا فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ فَهُوَ سَمَاءٌ، وَنَقَلَ الرَّاغِبُ عَنْ بَعْضِهِمْ: كُلُّ سَمَاءٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دُونِهَا فَسَمَاءٌ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى فَوْقِهَا فَأَرْضٌ، إِلَّا السَّمَاءَ الْعُلْيَا فَإِنَّهَا سَمَاءٌ بِلَا أَرْضٍ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (65: 12) وَالسَّبْعُ مِثْلٌ وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْعَصْرِيَّ بِسُنَنِ التَّكْوِينِ الْعَامَّةِ يَرْتَقِي فِي هَذِهِ الْأَجْيَالِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَ مَا يَنْكَشِفُ مِنْهَا لِلْعُلَمَاءِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْأُصُولِ قَدْ يَنْقُضُ بَعْضَ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُضْ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَصْلُ السَّدِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (41: 11) وَأَصْلُ خَلْقِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لَا يَزَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتًا عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَادَّةِ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ خَرَابِ الْعَالَمِ الَّذِي تَرْجِعُ بِهِ هَذِهِ الْأَجْرَامُ إِلَى مَادَّتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ 44) (: 10) وَعَبَّرَ عَنْهُ كَذَلِكَ بِالْغَمَامِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) (25: 25) وَقَوْلِهِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) (2: 210) وَالْغَمَامُ فِي اللُّغَةِ السَّحَابُ الرَّقِيقُ، فَالدُّخَانُ وَالْغَمَامُ وَالْبُخَارُ وَالسَّدِيمُ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ اللَّطِيفَةِ (الْمَاءِ) قَالَ حُكَمَاؤُنَا: الْبُخَارُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مَائِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالدُّخَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَنَارِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالْغُبَارُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، اهـ. وَأَرَقُّهُ الْهَبَاءُ قَالَ - تَعَالَى -:

(إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (56: 4 - 6) وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالدُّخَانِ عَنِ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ لِلْبُخَارِ وَالدُّخَّانِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ الْمَاءِ، وَالْأُوكْسُجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ النَّارِ، وَالِاسْمُ الْعُرْفِيُّ لِجِنْسِ هَذِهِ الْبَسَائِطِ (الْغَازُ) ، وَالسَّدِيمُ فِي اللُّغَةِ: الْغَمَامُ وَالضَّبَابُ وَاخْتَارَهُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ عَلَى الدُّخَانِ وَغَيْرِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ التَّنْزِيلَ أَرْشَدَنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا عَرْشَهُ الْعَظِيمَ، إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا جَعَلَهُ مَصْدَرًا لَهُ مِنْ سُنَنِ التَّكْوِينِ وَأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، وَفِي آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَرْشَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ سُنَنِهِ وَنِعَمِهِ وَحِكَمِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ وَلَا شُعُوبُ الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ تَعْرِفُهَا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ إِلَّا فِي عَصْرِنَا هَذَا. مِنْ ذَلِكَ أَصْلُ خَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (22: 5) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (50: 7) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (26: 7) وَقَوْلِهِ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (31: 10) فَالزَّوْجُ الْبَهِيجُ وَالْكَرِيمُ هُوَ الْمُنْبَتُ الْمُنْتَجُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (53: 45 و46) وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ (75: 36 - 39) . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا انْكَشَفَ لِلْبَشَرِ مِنْ عِلْمِ التَّكْوِينِ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَوِ الْمَنْشَأِ الْأَوَّلِ لِلْخَلْقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا يُسَمَّى بِالْجَمَادِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَهُوَ اتِّحَادُ ذَرَّاتِهِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا فِي لُغَةِ الْعِلْمِ (بِالْإِلِكْتِرُونِ وَالْبُرُوتُونِ) فَهَلْ لِهَذَا مِنْ أَصْلٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ ; إِنْ هَذَانِ إِلَّا زَوْجَانِ مُنْتَجَانِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْصُرْ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بَلْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (51: 49) وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا فِي الْعُمُومِ، وَأَدْهَشُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْفُهُومِ، وَأَعْظَمُ عِبْرَةً لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْعُلُومِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (36: 36) فَهُوَ يَشْمَلُ الْكَهْرَبَائِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا عُلِمَ وَمِمَّا قَدْ يُعْلَمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ، لَا يُعْقَلُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ لِيَخْطُرَ بِبَالِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا فِي خَلَدِ أَحَدٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْعَقْلِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ النُّورِ وَالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَلْقِ

وَسُنَنِ الْإِبْدَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْكَهْرَبَاءِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَأَظْهَرُهُ آيَةُ النُّورِ الْعُظْمَى فِي سُورَتِهِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (24: 35) وَقَوْلُهُ فِي مَثَلِهِ مِنْهَا: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) (24: 35) وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ خَلَقَ (الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (55: 15) أَوْ (مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (15: 27) وَهِيَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَحَدِ أَيَّامِهَا كُتْلَةً نَارِيَّةً مُشْتَعِلَةٍ، وَرَاجِعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ (7: 134) فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ السُّنَنُ الْعَجِيبَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونَ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهَا أَسْبَقَ إِلَى مَا أَظْهَرَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ؟ قُلْنَا: أَوَّلًا - إِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، هُوَ إِيرَادُهَا فِي آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي السُّوَرِ مَمْزُوجَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَالْفَوَائِدِ لَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ سُورَةِ " يُونُسَ " الَّتِي صَدَرَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ. ثَانِيًا - إِنَّ هَذِهِ السُّنَنَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَقِيدَتَيِ: التَّوْحِيدِ، وَالْبَعْثِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ تُذْكَرَ مَعَهَا فِي مَوَاضِعِهَا. ثَالِثًا - إِنَّ الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْبَشَرَ بِكَسْبِهِمْ وَبَحْثِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَحْيُ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَيْهَا. رَابِعًا - لَوْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ تَامٌّ لِجَمِيعِ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ لَتَعَذَّرَ فَهْمُهَا قَبْلَ تَحْصِيلِ مُقَدِّمَاتِهِ بِالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَكَانَتْ فِتْنَةً لِبَعْضِ مَنْ فَهِمَهَا بِالْجُمْلَةِ، وَإِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا وَاضِحَةً كَآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (7: 54) وَفِي غَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَهَا. خَامِسًا - وَلَوْ لَمْ يَعْرِضْ لِلْحَضَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مَا وَقَفَ بِتَرَقِّي الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، لَسَبَقُوا إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بَعْدَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرْيِ عَلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْكَوْنِيَّةَ يَمُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوقِفُ سَيْرَهَا. هَذَا، وَإِنَّ مُؤَلِّفَ هَذَا التَّفْسِيرِ الضَّعِيفَ قَدْ صَرَّحَ فِي مَقْصُورَتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي عَهْدِ طَلَبِ الْعِلْمِ بِطَرَابُلُسِ الشَّامِ، بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْأَزْوَاجِ مَصْدَرَ التَّكْوِينِ الْعَامِّ، وَأَشَارَ إِلَى شَوَاهِدِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ مُوَلِّدَاتِ الْفِكْرِ وَالْخَيَالِ فَقَالَ:

تَبَارَكَ الْبَارِئُ مُبْدِعُ الْوَرَى ... بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنَى أَحْكَمَ رَبِّي مَا بَرَاهُ فَانْبَرَى ... مُسْتَحْصِفَ الْمَرِيرِ مَشْدُودَ الْعُرَى أَنْشَأَ فِي الدُّخَانِ كُلَّ صُورَةٍ ... فَسَمَكَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ دَحَا (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) الَّذِي ... أَنْشَأَ مِنْهُ كُلَّ حَيٍّ وَبَرَا وَخَلَقَ الْأَشْيَاءَ أَزْوَاجًا وَمِنْ ... ذُرِّيَّةِ الزَّوْجَيْنِ يَذْرُو مَا يَشَا ثُمَّتَ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ... بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ (ثُمَّ هَدَى) فَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِقَدَرٍ ... لَا أُنُفٌ مُبْتَدَأٌ وَلَا سُدَى فَابْعَثْ رَسُولَ الطَّرْفِ مِنْكَ رَائِدًا ... يَجُوبُ أَجْوَازَ الْبِحَارِ وَالْفَلَا وَاسْرِ بِهِ لِلْأُفْقِ فِي مَرَاصِدٍ ... مِعْرَاجُهَا يُدْنِي إِلَيْكَ مَا نَأَى وَسَرِّحِ الْفِكْرَ رَبِيئًا ثَانِيًا ... لِمَسْرَحِ الْأَرْوَاحِ يَسْعَى وَالنُّهَى حَتَّى إِذَا جَاسَا خِلَالَ الدَّارِ مِنْ ... حِسٍّ إِلَى نَفْسٍ وَرَوْحٍ وَحِجَا

سَائِلْهُمَا هَلْ ثَمَّ مِنْ تَفَاوُتٍ ... أَوْ خَلَلٍ فِي الْبَدْءِ كَانَ أَوْ عَرَا إِنِّي وَتِلْكَ مَظْهَرٌ لِلْحَقِّ فِي ... صِفَاتِهِ وَمَا تَسَمَّى مَنْ سُمَا (فَلَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ) أَنْ يَجْرِي بِهَا ... (أَبْدَعَ مِمَّا كَانَ) قَبْلُ وَجَرَى (ثُمَّ ارْجِعِ) الطَّرْفَ إِلَيْهَا (يَنْقَلِبْ ... إِلَيْكَ) خَاسِئًا حَسِيرًا قَدْ عَشَا يَتْلُ عَلَيْكَ الْآيَ (صُنْعَ اللهِ) مَنْ ... (أَتْقَنَ كُلَّ) مَا رَأَيْتَ وَتَرَى ثُمَّتَ يَتْلُ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) ... مِنْ سُنَنِ الْحَكِيمِ فِي هَذَا الْوَرَى وَأَنَّهُنَّ سُنَنٌ ثَابِتَةٌ ... مِثْلَ نِظَامِ الشَّمْسِ فَاتْلُ (وَالضُّحَى) قَامَ بِهِنَّ أَمْرُ كُلِّ عَالَمٍ ... فِي أَرْضِنَا وَفِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى مَا ثَمَّ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ عَنْ ... شَيْءٍ وَلَا قَوْمٍ فَهُمْ فِيهَا سَوَى نَاهِيكَ بِالْإِنْسَانِ فِي اجْتِمَاعِهِ ... طَرْدًا وَعَكْسًا وَأَمَامًا وَوَرَا يَجْرِي عَلَى حُكْمِ تَنَازُعِ الْبَقَا ... فِي أَرْجَحِ الْأَمْرَيْنِ نَشْأٌ وَارْتِقَا كَرَاسِبِ الْإِبْلِيزِ وَالْإِبْرِيزِ إِذْ ... يَذْهَبُ طَافِي زَبَدِ الْمَاءِ جُفَا وَسُنَّةُ النِّتَاجِ بِالزَّوَاجِ بَلْ ... كُلُّ تَوَلُّدٍ تَرَاهُ فِي الْوَرَى

8

يَظْهَرُ هَذَا فِي الْمَوَالِيدِ وَفِي الْ ... جَمَادِ وَالتَّفْكِيرِ رُبَّمَا بَدَا فَاجْتَلِهِ فِي الْحَيَوَانِ نَاطِقًا ... وَأَعْجَمًا وَفِي النَّبَاتِ الْمُجْتَنَى بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ بِجِسْمٍ نَبَتَتْ ... زَادَ بِهَا الْجِسْمُ امْتِدَادًا وَنَمَى خَلِيَّةَ يُقْرَنُ فِي غُضُونِهَا ... نَوِيَّتَانِ تَنْثَنِي وَهْيَ زَكَا وَالْكَهْرَبَا زَوْجَانِ إِمَّا اقْتَرَنَا ... تَأَلَّقَ الْبَرْقُ وَشِيكًا وَخَفَا كَالزَّنْدِ وَالزَّنْدَةِ إِمَّا ازْدَوَجَا ... بِالِاقْتِدَاحِ أَنْتَجَا نَارَ الصَّلَى وَالْمُعْصِرَاتُ عِنْدَمَا أَلْقَحَهَا الثَّـ ... ـائِبُ جَاءَتْ بِوَلِيدِهَا الْحَيَا وَلَامَسَ الْبِحَارَ فِي سُكُونِهَا ... فَاعْتَلَجَ الْآذِيُّ فِيهَا وَطَغَا وَالْمَاءُ وَالتُّرْبَةُ إِذْ تَقَارَنَا ... تَوَلَّدَتْ صُمُّ الصُّخُورِ وَالْحَصَى وَافْتَرَشَ الْأَرْضَ الْحَيَا فَانْفَتَقَتْ ... عَنْ كُلِّ زَوْجٍ يُرْتَعَى وَيُجْتَنَى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)

هَذِهِ الْآيَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) إِلَخْ، وَهِيَ كُلُّهَا بَيَانٌ لِحَالِ النَّاسِ تِجَاهَ مَا بُلِّغُوهُ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ التَّوْحِيدُ - وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَذِيرًا وَبَشِيرًا وَمَا أَنْذَرَ وَبَشَّرَ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَالِ الْجَزَاءِ فِيهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِخَلْقِهِ - تَعَالَى - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِاخْتِبَارِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ قُصَارَى مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِإِنْذَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُ فَقَالَ: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الْآيَةُ شَرْطِيَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (3) عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيهِ، وَالْأُمَّةُ هُنَا: الطَّائِفَةُ أَوِ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (12: 45) وَأَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الدِّينِ وَالْمِلَّةِ الْخَاصَّةِ وَالزَّمَنِ الْخَاصِّ. أَيْ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا وَمَحْدُودَةٍ فِي نِظَامِ تَقْدِيرِنَا وَسُنَّتِنَا فِي خَلْقِنَا، الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِنَا: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (13: 38) أَوْ إِلَى أُمَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ تُعَدُّ بِالسَّنَوَاتِ، أَوْ مَا دُونَهَا مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَيَّامِ (لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) يَعْنُونَ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُ هَذَا الْعَذَابَ مِنَ الْوُقُوعِ إِنْ كَانَ حَقًّا كَمَا يَقُولُ هَذَا النَّذِيرُ؟ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ إِنْكَارًا لَهُ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أَيْ أَلَا إِنَّ لَهُ يَوْمًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ إِذْ تَنْتَهِي الْأُمَّةُ الْمَعْدُودَةُ الْمَضْرُوبَةُ دُونَهُ، وَيَوْمَئِذٍ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ صَارِفٌ وَلَا يَحْبِسُهُ حَابِسٌ. (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وَسَيُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَلَا هُوَ يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يَنْجُونَ مِنْهُ، عَبَّرَ بِـ حَاقَ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْفَاعِلِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ بِفِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَمِرِّ لِلْإِيذَانِ بِعِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَهَذَا الْمَوْضُوعُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ (28، 45 - 55) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ إِبْهَامِ هَذَا الْعَذَابِ بِمَا يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ مِنَ السُّوَرِ. (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِبَارِ اللهِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (7) أَيْ لَئِنْ أَعْطَيْنَاهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ رَحْمَةً مِنَّا مُبْتَدَأَةً أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا، فَكَانَ مُغْتَبِطًا بِهَا، كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَالْوَلَدِ الْبَارِّ. (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ مِنْ مَرَضٍ وَعُسْرٍ وَفِتَنٍ وَمَوْتٍ. (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) أَيْ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَشَدِيدُ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَطُوعٌ لِلرَّجَاءِ مِنْ عَوْدَةِ

10

تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ يَتَمَتَّعُ بِهَا، فَضْلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْهَا، فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْيَأْسِ مِمَّا نُزِعَ مِنْهُ، وَالْكُفْرِ بِمَا بَقِيَ لَهُ لِحِرْمَانِهِ مِنْ فَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) النَّعْمَاءُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا - كَالنِّعْمَةِ بِالْكَسْرِ وَالنُّعْمَى بِالضَّمِّ - وَهِيَ مَا يُقَابَلُ بِالضَّرَّاءِ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلَمْ تَرِدِ النَّعْمَاءُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْإِذَاقَةُ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ كَشْفَ الضَّرَّاءِ السَّابِقَةِ وَإِحْلَالَ مَا هُوَ ضِدُّهَا مَحَلَّهَا، كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَزِيَادَةِ الْعَافِيَةِ وَالْقُوَّةِ السَّابِغَةِ، وَالْمَخْرَجِ مِنَ الْعُسْرِ وَالْفَقْرِ، إِلَى سَعَةِ الْغِنَى وَالْيُسْرِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ، إِلَى بُحْبُوحَةِ الْمَنَعَةِ وَالْعِزِّ. يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ مَنَحْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ الْيَئُوسَ الْكَفُورَ: نَعْمَاءَ، أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا وَنِعْمَتَهَا، بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بِاقْتِرَافِهِ لِأَسْبَابِهَا، إِثْرَ كَشْفِهَا وَإِزَالَتِهَا (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) أَيْ ذَهَبَ مَا كَانَ يَسُوءُنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالضَّرَّاءِ فَلَنْ تَعُودَ، فَمَا هِيَ إِلَّا سَحَابَةُ صَيْفٍ تَقَشَّعَتْ فَعَلَيَّ أَنْ أَنْسَاهَا بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أَيْ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَشَدِيدُ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ الَّذِي يُهَيِّجُهُ الْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ، وَمُبَالِغٌ بِالْفَخْرِ وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا، فَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهَا. رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحَالِهِمَا، وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ لِبَيَانِ حَالَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَالَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ: الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ عِنْدَ زَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَفَرَحِ الْبَطَرِ وَعَظَمَةِ الْفَخْرِ بِهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا، يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ إِيمَانًا بِاللهِ وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) عِنْدَ كَشْفِهَا وَتَبْدِيلِ النَّعْمَاءِ بِهَا، مِنْ شُكْرِهِ - تَعَالَى - بِاسْتِعْمَالِ النِّعْمَةِ فِيمَا يُرْضِيهِ - تَعَالَى - مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) وَاسِعَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَمْحُو مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا وُفِّقُوا لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَشْمِيرٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بَارًّا لَا يَسْلَمُ فِي الضَّرَّاءِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ قَدْ يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَى أَوْ يُلَابِسُ بَعْضَ الْوِزْرِ، وَفِي حَالِ النَّعْمَاءِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الزَّهْوِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُغْفَرُ لَهُ بِصَبْرِهِ وَشُكْرِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى رَبِّهِ. وَيُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرّ ُ دَعَانَا) (10: 12) إِلَخْ وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) (10: 12) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (23) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ مَعَ تَفْسِيرِ: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا 10: 58

12

تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُكَرَّرَةَ بِالْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ الْبَلِيغَةِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَتِكَ لِمَا تُزَكِّي بِهِ نَفْسَكَ وَتُثَقِّفُ طِبَاعَهَا وَعَادَاتِهَا الضَّارَّةَ، وَالْجَامِعُ لِلْمُرَادِ هُنَا بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا، سُورَةُ: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (103: 1 - 3) . (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَمَوْضُوعِ دَعْوَتِهِ الْعَامَّةِ وَحَالِ النَّاسِ فِيهَا، وَبَيَانِ طِبَاعِهِمْ وَشُئُونِهِمُ الرَّدِيئَةِ إِلَّا مَا هَذَّبَتْهُ هِدَايَةُ الدِّينِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ خَاصَّةٌ بِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ، وَقَدْ بُدِئَتْ بِبَيَانِ غَمِّهِ وَحُزْنِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ وَيَلِيهِ تَحَدِّيهِ بِهِ الْمُثْبِتُ لِوَحْيِهِ. (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ، الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ جُمْلَةِ لَعَلَّ بِحَسَبِ مَوْقِعِهَا هُنَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ، أَيْ أَفَتَارِكٌ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، مِمَّا يَشُقُّ سَمَاعُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ، وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ تُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ كَرَاهَةَ (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أَيْ هَلَّا أَعْطَاهُ رَبُّهُ كَنْزًا مِنْ لَدُنْهُ يُغْنِيهِ فِي نَفَقَتِهِ وَيَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالْكَنْزُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ الْمَالِ فِي الْأَرْضِ، عَبَّرُوا بِهِ عَمَّا يُنَالُ بِغَيْرِ كَسْبٍ، وَبِإِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ يَخُصُّهُ بِهِ (أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يُؤَيِّدُهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ " الْفُرْقَانِ ": (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أَنْزِلُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) (25: 7 و8) أَيْ

إِنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ وَكِتْمَانَ بَعْضِ الْوَحْيِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَشَأْنُهُ أَنْ تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، بِحَسَبِ الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، فَهَلْ أَنْتَ مُجْتَرِحٌ لِهَذَا التَّرْكِ، أَوْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَعْرِضُ لَكَ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟ كَلَّا لَا تَفْعَلْهُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (16: 127) وَقَوْلِهِ: (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (7: 1 و2) وَقَوْلِهِ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (18: 6) وَقَوْلِهِ (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (26: 1 - 4) أَيْ لَعَلَّكَ قَاتِلُهَا غَمًّا وَانْتِحَارًا؟ أَيْ لَا تَفْعَلْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِنَادَهُمْ وَجُحُودَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَشِدَّةَ اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيمَا لَيْسَ أَمْرُهُ بِيَدِكَ، مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى ذَلِكَ لَوْلَا عِصْمَتُنَا إِيَّاكَ وَتَثْبِيتُنَا لَكَ، فَهَلْ تُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى تَبْخَعَ نَفْسَكَ؟ لَا لَا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَوْنِ الْإِرْشَادِ مَبْنِيًّا عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (17: 74) . (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) فَعَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهُ وَتُنْذِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَإِنْ سَاءَهُمْ وَأَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِأُمُورِ الْعِبَادِ وَالرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ، الَّذِي هُوَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (88: 21 - 22) وَ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (50: 45) . وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَعَلَّ)) لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا رَجَاءٌ وَطَمَعٌ وَشَكٌّ. وَقَالُوا: إِنَّهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْقَطْعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ) وَقَالَ شَيْخُنَا إِنَّهَا لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ ; أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ لِلْفَلَاحِ بِالتَّقْوَى، وَحَقَّقْنَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِإِطْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَإِحْدَاثِ الرَّجَاءِ عِنْدَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَحَصَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَعَانِيَهَا فِي ثَلَاثٍ: 1 - التَّوَقُّعِ: وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ، وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. 2 - التَّعْلِيلِ: قَالَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي فِرْعَوْنَ: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (20: 44) 3 - الِاسْتِفْهَامِ: وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ (أَقُولُ) : وَإِذَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُهُ كَاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَنَا. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)

أَيْ بَلْ أَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، لَا تَدَّعُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَإِنَّكُمْ أَهْلُ اللَّسَنِ وَالْبَيَانِ، وَالْمِرَانِ عَلَى الْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَفُنُونِ الشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعُمُرِ الطَّوِيلِ الَّذِي عِشْتُهُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فَأَنْتُمْ بِهِ أَجْدَرُ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَقَصَصِهِ عَنِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ مُفْتَرَيَاتٍ فَأَنْتُمْ عَلَى مِثْلِهَا أَقْدَرُ فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَصْدَقُكُمْ لِسَانًا لَمْ أَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ، فَكَيْفَ أَفْتَرِي عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ مَعَهُ وَالْبَنَاتِ لَهُ وَالشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَتَحْرِيمِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزَّرْعِ وَالْأَنْعَامِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى وَضْعِهِ مِمَّنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْإِمْكَانِ، فَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِمَّنْ تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ لِيُسَاعِدُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ السُّوَرِ الْعَشْرِ، وَلْتَكُنْ مِثْلَهُ مُفْتَرَيَاتٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ، بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مِثْلِ مَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيعٍ دِينِيٍّ وَمَدَنِيٍّ وَسِيَاسِيٍّ، وَحِكَمٍ وَمَوَاعِظَ وَآدَابٍ وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنِ الْمَاضِي وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ عَلَى أَنَّهَا سَتَأْتِي، بِمِثْلِ هَذِهِ النُّظُمِ الْبَدِيعَةِ، وَالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ وَالْفَصَاحَةِ الْمُسْتَعْذَبَةِ فِي الْأَذْوَاقِ وَالْأَسْمَاعِ، وَالسُّلْطَانِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا كَانَ مَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ أَوَّلًا مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَّسِعُ لِكُلِّ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، أَوْ فَأْتُوا بِنَوْعٍ مِمَّا تَدَّعُونَ افْتِرَاءَهُ كَالْقَصَصِ فِي عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا وَهِدَايَتِهَا، مُكَرَّرًا كَتِكْرَارِهِ لِكُلِّ أَنْوَاعِهَا، هَذَا التَّكْرَارُ الَّذِي لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ، وَلَا تُمَلُّ إِعَادَتُهُ. هَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ 38 مِنْ سُورَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي تِلْكَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَفِي هَذِهِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَقَدْ وَعَدْتُ فِي تَفْسِيرِهَا بِالْكَلَامِ عَلَى حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ عِنْدَمَا أَصِلُ إِلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ هَذِهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُبَيِّنَهَا هُنَاكَ مُجْمَلَةً لِئَلَّا تَخْتَرِمَنِي الْمَنِيَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنْتُهَا فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِعْجَازِ الْبَلَاغَةِ. بَلْ سَبَقَ لِي أَنْ بَيَّنْتُ حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَاتِ التَّحَدِّي نُزُولًا، وَوَضَّحْتُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ الَّذِي عَقَدْتُهُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ وَهُوَ إِعْجَازُهُ بِأُسْلُوبِهِ وَنُظُمِهِ الْعَدِيدَةِ وَأَسَالِيبِهِ الْكَثِيرَةِ فِي سُوَرِهِ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ.

خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتِهِمُ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ، زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَحَدَّى فُصَحَاءَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ لَمْ يَصِحَّ بِهِ نَقْلٌ، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ قَبْلَ أُخْرَى لَا يَقْتَضِي نُزُولَ جَمِيعِ آيَاتِهَا قَبْلَ جَمِيعِ آيَاتِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ فِي تَأَخُّرِ نُزُولِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَلَا يَصِحُّ بِالتَّحَكُّمِ الْمَحْضِ، فِيمَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّقْلِ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ التَّصَوُّرِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سُورَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ. وَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنَ التَّأَمُّلِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُكَرَّرِ فِي سُوَرِهِ ; لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَطْلُبُوا مَعَانِيَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَلَى قِلَّتِهَا وَقِلَّةِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمِنْ مَدْلُولِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا وَحْدَهَا فِي مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَجُمَلِهَا، بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْفَنِّيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ وَأُصُولِهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَعْوَى الْإِعْجَازِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَسْبِقُ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ إِلَى أَعْلَى عِبَارَةٍ لَهُ وَأَبْلَغِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ مَا عَدَاهَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّابِقَ لَهَا قَدْ تَلَقَّاهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ، وَذَكَرْتُ مَثَلًا لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُعَدُّ كُلٌّ مِنْهَا فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَيَعْجِزُ عَنْهَا جَمِيعُ الْبُلَغَاءِ ثُمَّ بَيَّنْتُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ يُونُسَ أَنَّ الْقَامُوسَ الْأَعْظَمَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ هُوَ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعَشَرَاتِ وَالْمِئَاتِ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ وَقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا فِي قُلُوبِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ لَهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّنَاقُضِ أَوِ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا قَالَ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (4: 82) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِعْجَازُ بِنَوْعَيْهِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ وَجْهَ وَصْفِهَا بِمُفْتَرَيَاتٍ ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى بَسْطِ الْمَسْأَلَةِ وَفَاءً بِالْوَعْدِ فَأَقُولُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَرَاهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ تَبْلِيغِهِ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: (1) أَنَّهُ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَائِهِ أَنَّهُ كَلَامُهُ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْهُ آنِفًا. (2) أَنَّهُ افْتَرَى أَخْبَارَهُ الَّتِي يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ; إِذْ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ وَفِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ، وَقَدْ حَكَى الْأَمْرَيْنِ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ

الْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (25: 4 - 6) فَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قِصَصُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي سَطَرُوهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَلِّي نَفْسَهَا عَنْ جَهْلِهَا بِالْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خُرَافَاتٌ وَأَكَاذِيبُ، فَالتَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ هُوَ الَّذِي يُفَنِّدُ هَاتَيْنِ التُّهْمَتَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْهَضِ حُجَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لَا جَدَلِيَّةٍ. وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْعَجْزِ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَنُّوا أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوَاحِدَةِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدَةٍ كَانَ أَعْجَزَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَضْلًا عَنْ عَشْرٍ، فَتَفْصُوا مِنْ هَذَا بِدَعْوَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ التَّحَدِّي مُتَّحِدًا مُطْلَقًا وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ وَمُقَيَّدٌ. ذَلِكَ بِأَنَّ افْتِرَاءَ الْأَخْبَارِ الْمُدَّعَى فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ. وَهِيَ قِسْمَانِ: (1) قِصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَحَدَّى بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهَا غَيْبِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَفِي غَيْرِهِمَا. (2) أَخْبَارُ التَّكْوِينِ ; كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ، لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحَدِّي بِهَا تَحَدِّيًا خَاصًّا، وَلَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ الْوَارِدَةِ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ النِّعَمِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَوْ سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَجِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذِهِ كُلَّهَا قِسْمًا وَاحِدًا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ. (وَثَانِيهِمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: (1) وَعْدُ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَارَوْنَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ (2) الْقِيَامَةُ وَبَعْثُ الْخَلْقِ وَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ. فَأَخْبَارُ الْغَيْبِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ: (1) أَخْبَارُ الْآخِرَةِ. (2) أَخْبَارُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا إِلَّا بِتَأْوِيلِهَا، أَيْ وُقُوعِ مَدْلُولِهَا. (3) قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَهِيَ

أُمُورٌ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، وَهَاكَ كَلِمَةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، يُعْلَمُ بِهَا تَرْجِيحُ الثَّالِثِ الَّذِي سَمَّوْهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. فَأَمَّا آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّوَرِ مِنْ أَطْوَلِهَا إِلَى أَقْصَرِهَا الَّتِي هِيَ سُوَرُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ بِتَكَرُّرِهَا الْمَبْثُوثِ فِي مِئَاتِ الْمَوَاضِعِ مِنَ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَلَاغَةِ الدَّقِيقَةِ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ قِصَارَ الْمُفَصَّلِ الْمَكِّيَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا هِيَ: التِّينُ، وَالْعَادِيَاتُ، وَالْقَارِعَةُ وَالتَّكَاثُرُ، وَالْهُمَزَةُ، وَاللهَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلِهَا مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الضُّحَى، وَلَا يَظْهَرُ لِلتَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْهَا مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ. وَأَمَّا آيَاتُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلْكَافِرِينَ بِالْخِذْلَانِ وَالْعَذَابِ، فَلَا يُوجَدُ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ صَرِيحٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِشَارَاتٌ فِي بَعْضِهَا (مِنْهَا) سُورَةُ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّادِق ُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْطَائِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَمِنْهُ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ الَّذِي كَانَ أَغْنِيَاءُ قَوْمِهِ يُعَيِّرُونَهُ بِهِ، وَالْوَعِيدُ الصَّادِقُ لِعَدُوِّهِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِي سَمَّاهُ أَبْتَرَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ الْقَاسِمِ، بِأَنَّهُ هُوَ الْأَبْتَرُ الَّذِي سَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ بِنَسْلِهِ وَغَيْرِ نَسْلِهِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ بَقَاءَ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذُرِّيَّتِهِ وَبِآثَارِ هِدَايَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ خُلَاصَةَ تَفْسِيرِهَا فِي بَحْثِ إِعْجَازِ السُّوَرِ الْقِصَارِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَمِنْهَا) سُورَةُ (اللهَبِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهَا خَبَرٌ بِهَلَاكِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا دُعَاءٌ فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَقَدْ صَدَقَ، فَقَدْ مَاتَ أَبُو لَهَبٍ شَرَّ مِيتَةٍ خَارِجَ مَكَّةَ وَبَقِيَ مُلْقًى حَتَّى تَفَسَّخَ وَأَنْتَنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِأَيَّامٍ، وَهِيَ أَوَّلُ انْتِقَامِ اللهِ مِنْ عُتَاةِ قُرَيْشٍ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (44: 16) وَمِثْلُهَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ، وَقَدْ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَدَقَ بِقَتْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَشَرَّ قِتْلَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ (الْمُدَّثِّرِ) مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ وَعِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَدْ صَدَقَ وَوَقَعَ - فَهَذِهِ أَرْبَعُ سُوَرٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيهَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَدِّ الْعُتَاةِ الَّذِينَ بَارَزُوهُ الْعَدَاوَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ - مِمَّنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ - مِنَ الْوَعِيدِ لَهُ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ جُزْئِيَّاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ مُجْمَلَةٌ، لَا وَقَائِعُ فَاصِلَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ أَيْضًا.

وَمِنَ الْوَعِيدِ الْعَامِّ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجِنِّ مِنْ تَبْلِيغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّعْوَةَ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) (72: 24 و25) إِلَخْ. وَهَذَا بَعْدَ الْوَعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (72: 16) . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلَا فِي أَوْسَطِهَا عَشْرُ سُوَرٍ نَاطِقَةٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ فَتَكُونَ هِيَ الْمُرَادَّةَ بِالتَّحَدِّي. وَأَمَّا طِوَالُ الْمُفَصَّلِ فَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُبْهَمِ فِي سُوَرِ الذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ ; بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي سُوَرِ الْمُلْكِ وَالْقَلَمِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمَعَارِجِ، وَمَجْمُوعُ مَا فِيهِ يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ، إِنْ أُرِيدَ التَّحَدِّي بِهَا أَوْ دُخُولُهَا فِيمَا يُتَحَدَّى بِهَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْأَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِمَّا فَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَخْصِيصُ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ ; لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي سُوَرِهِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ لِذَاتِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ. وَجْهُ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ: وَأَمَّا قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ التَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ عَلَى أَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا مِنَ الْوُجُوهِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ مُعَارَضَتِهَا أَقْوَى حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُفْتَرَاةً مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَلَا مِمَّا أَعَانَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَصَوَّرُوا وَزَوَّرُوا، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مِثْلِهَا عَامٌّ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً مُسْتَهْدَفِينَ بِاتِّبَاعِهِ لِلْإِيذَاءِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَوْلَا الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَمَلٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَأَيُّ بَاعِثٍ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ مَعَهُ عَلَى تَزْوِيرِ كِتَابٍ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يُعَادُونَ بِهِ كُبَرَاءَ قَوْمِهِمْ وَعَصَبِيَّةَ أُمَّتِهِمْ بِمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ كَلِمَتَهَا وَيُضْعِفُونَهَا وَيُذِلُّونَهَا؟ ! وَكَيْفَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَاكِ، وَيُعَرِّضُ الْمُتَمَوِّلُ مِنْهُمْ مَالَهُ لِلزَّوَالِ لِتَأْيِيدِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ كُلُّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ وَسَائِرِ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا كَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَوَعْدِهَا وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُكَرَّرِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ فِي سُوَرِ النَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِنَّ أَنَّ مَوْضُوعَهَا وَقَائِعُ بَشَرِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ لَهَا رِوَايَاتٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ

وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، فَدَعْوَى افْتِرَائِهَا مِنْ أَصْلِهَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ عُرْضَةٌ لِضُرُوبٍ مِنَ الْخَطَأِ اللَّفْظِيِّ، وَتِكْرَارُهُ مَزَلَّةٌ فِي مَدَاحِضِ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَطَلِ الْبَيَانِيِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَعَارِفِهِمْ وَمَا يَعْهَدُونَهُ بَيْنَهُمْ، لَا كَأُمُورِ الْغَيْبِ فِي غَيْرِ عَالَمِهِمْ، فَتَحَدِّيهِمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ جِنْسِهَا كَالتَّحَدِّي بِمُعَارَضَةِ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ لِمَقَامَاتِ بَدِيعِ الزَّمَانِ وَأَمْثَالِهِمَا، يُمْكِنُ لِأَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَحْكُمُوا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا فِي بَيَانِهِمَا وَحِكْمَتِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا. وَقَدْ جَاءَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ مُكَرَّرَةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، تَبْتَدِئُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ، وَتَرْتَقِي فِي بَعْضِهَا إِلَى مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا، كَمَا تَرَاهُ فِي ((آلِ حمم)) مِنْ فُصِّلَتْ إِلَى الْأَحْقَافِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ وَ ((ق)) وَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ، وَفِي أَوَّلِ الْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ وَآخِرِ الْبُرُوجِ، فَهَذِهِ سُوَرٌ تَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا عِبَرٌ لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ قَصَصًا. وَأَمَّا الْقِصَصُ فَقَدْ تَبْلُغُ فِي بَعْضِ سُورِهَا عَشَرَاتِ الْآيَاتِ كَيُونُسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحِجْرِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَتُعَدُّ فِي بَعْضِهَا بِالصَّفَحَاتِ لَا بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا مَا أَكْثَرَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ كَالْأَعْرَافِ وَمَرْيَمَ وَالنَّمْلِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا خَاتِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ كَيُوسُفَ

وَطه وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ، أَوْ فَاتِحَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَقْطَعٍ، كَهُودٍ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُورَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةٌ بِهِ وَبِقَوْمِهِ سُمِّيَتْ بِاسْمِهِ عَلَى تَكْرَارِهَا فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ سُورَةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةٌ بِقِصَّتِهِ. كَمَا أَنَّ سُورَتَيْ طه وَالْقَصَصِ فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحْدَهَا، عَلَى كَثْرَةِ تَكْرَارِهَا فِي غَيْرِهِمَا. بَيْدَ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحَدِّي بِهَا كُلِّهَا، لَا بِالْقِصَصِ الَّتِي فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ سُوَرٍ وَلَا خَمْسٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ الْحَقِيقِيَّةُ وَسَطٌ بَيْنَ الطُّولِ وَالْمُفَصَّلِ، فَالْأُولَى مِنْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَآيَاتُهَا 206، وَآيَاتُ الْقِصَصِ فِيهَا 112 آيَةً، وَقَبْلَهَا قِصَّةُ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا وَخِتَامُهَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهَا فِيهِ سُورَةُ يُونُسَ، وَهِيَ 109 آيَاتٍ وَقَصَصُهَا 23 آيَةً، وَتَتْلُوهَا سُورَةُ هُودٍ، وَآيَاتُهَا 123 أَكْثَرُهَا فِي الْقَصَصِ، وَهِيَ أَشْبَهُ السُّوَرِ بِهَا فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا وَتَحَدِّيهَا فِي إِبْطَالِ الِافْتِرَاءِ، وَالْمَأْثُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا مُتَمِّمَةً لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَجُمْلَةُ مَا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ مِنْ سُوَرِ الْقَصَصَ: الْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَمَرْيَمُ وَهِيَ 98 آيَةً، وَطه وَهِيَ 135 وَالطَّوَاسِينُ: الشُّعَرَاءُ وَهِيَ 227 وَالنَّمْلُ وَهِيَ 93 وَالْقَصَصُ وَهِيَ 88 وَآيَاتُهُمَا أَطْوَلُ مِنْ آيَاتِ الشُّعَرَاءِ وَنَزَلْنَ مُتَعَاقِبَاتٍ. وَيَلِيهِنَّ سُورَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ 55 آيَةً وَسُورَةُ ((ص)) وَهِيَ 88 آيَةً وَقَدْ نَزَلَتَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ، فَهَذِهِ تِسْعُ سُوَرٍ، وَسُورَةُ هُودٍ هِيَ الْعَاشِرَةُ لَهُنَّ. مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِ عِبَارَاتِهَا: وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّوَرِ تَخْتَلِفُ أَنَاظِيمُ سُوَرِهَا فِي أَوْزَانِهَا وَفَوَاصِلِهَا، وَفِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ اتِّفَاقِهَا وَتَشَابُهِهَا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ الْبَيَانِيَّةِ، فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَالْقَصْرِ وَالْحَصْرِ، وَمَوَاضِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَصِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ وَالشَّرْطِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَدَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْعُمُومِ وَالتَّخْصِيصِ، وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْإِيجَازِ وَالتَّطْوِيلِ، وَالْحَذْفِ وَالتَّكْرِيرِ، وَفُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّعْبِيرِ، كَالِالْتِفَاتِ وَالتَّضْمِينِ، وَصِيَغِ الْأَفْعَالِ وَتَعْدِيَتِهَا، وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا، فَإِنَّ لِعِبَارَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ، مَا لَا يَقْرَبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، وَمِنْ شَأْنِ اخْتِلَافِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ أَنْ تَتَعَارَضَ وَتَتَنَاقَضَ بِتَعَدُّدِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ مِنْهُ، وَقَدْ عَرَضْتُ لِنُكَتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا فِي الْمُقَابَلَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا فِي قِصَصِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ غَيْرِهَا.

ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَغَمًا خَاصًّا بِهِ فِي التَّرْتِيلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ التَّأْثِيرِ، فَاسْتَمِعْ لِمُرَتِّلِ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ طه سَاعَةً (زَمَانِيَّةً لَا فَلَكِيَّةً) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ سَاعَةً ثَانِيَةً، وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَهَا وَهِيَ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَتَأَمَّلْ مَا تَجِدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ فِي سَمْعِكَ، مُتَدَبِّرًا مَا تَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْعِبْرَةِ فِي قَلْبِكَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ جَرِّبْ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الْقِصَصِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، كَهُودٍ وَالنَّمْلِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَالْقَمَرِ، تَجِدُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِجَالِ الْبَيَانِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ. إِذَا فَطِنْتَ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ، بَدَا لَكَ أَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي جُمْلَةِ سُوَرِهَا، بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهَا، وَكُلِّ نَظْمٍ مِنْ أَنَاظِيمِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْهَا، وَهَأَنَذَا قَدْ ذَكَرْتُ لَكَ عَشْرًا مِنْهَا مُخْتَلِفَاتٍ مُتَّفِقَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ غَيْرَ مُشْتَبِهَاتٍ، وَلَكِنْ حِكْمَةُ الْعَشْرِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى أَكْمَلِهَا فِي الْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنْهَا. مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهَا الْعِلْمِيِّ: إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ مِنَ الْإِعْجَازِ الصُّورِيِّ، لَأَشِعَّةٌ مِنْ ضِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، هِيَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، وَأَدَقُّ وَأَخْفَى، وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَجِيئُهَا عَلَى لِسَانِ كَهْلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ مُنْشِئًا وَلَا رَاوِيَةً وَلَا حَافِظًا، أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَأَمَّلْ مَا أَذْكُرُ بِهِ مِنْ مَزَايَاهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُتَشَعِّبَةِ، مِنْهَا: (1) بَيَانُ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْعَامَّةِ. (2) بَيَانُ أَنَّ وَظِيفَةَ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ فِيمَا وَرَاءَ التَّبْلِيغِ نَفْعًا لِلنَّاسِ - لَا دِينِيًّا كَالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلَا دُنْيَوِيًّا كَالرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، وَلَا كَشْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ كَذَلِكَ - فَقَدْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ وَامْرَأَتُهُ وَامْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ الْكَافِرِينَ. (3) شُبْهَةُ الْأَقْوَامِ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِمْ سِحْرٌ، وَاقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَرَدُّهُمْ بِأَنَّ آيَاتِهِمْ مِنْ فِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مِنْ كَسْبِهِمْ بِقُدْرَتِهِمْ. (4) بَيَانُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ كَسْبِهِمُ الِاخْتِيَارِيِّ.

(5) آيَاتُ اللهِ وَحُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَأْيِيدِ رُسُلِهِ، وَطُرُقِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحَدِّي، وَمَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ كَالْأَوْلَادِ لِإِبْرَاهِيمَ وَزَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ، وَمَا ابْتَلَى اللهُ - تَعَالَى - بِهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكَمَةِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (الرُّؤْيَا) وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ اصْطِفَائِهِ لَهُ، وَمِنْ إِدَارَتِهِ لِمُلْكِ مِصْرَ، وَقِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ. (6) نَصَائِحُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَوَاعِظُهُمُ الْخَاصَّةُ بِكُلِّ قَوْمٍ بِحَسَبِ حَالِهِمْ كَقَوْمِ نُوحٍ فِي غَوَايَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ، وَآلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي ثَرْوَتِهِمْ وَعُتُوِّهُمْ، وَقَوْمِ لُوطٍ فِي فُحْشِهِمْ، وَعَادٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَثَمُودَ فِي أَشَرِهِمْ وَبَطَرِهِمْ، وَمَدْيَنَ فِي تَطْفِيفِهِمْ وَإِخْسَارِهِمْ لِمَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَجُمُودِهِمْ. (7) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اسْتِعْدَادِ النَّاسِ النَّفْسِيِّ وَالْعَقْلِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَاسْتِكْبَارِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْآبَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ أَوَّلِ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءَ، وَفِي عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ. (8) مَا فِي قِصَصِ الْأَقْوَامِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ، وَالْمَوْضِعِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَحَالِ قَوْمِهِ مَعَهُ فِي خُنُوعِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ، وَفُنُونِهِمْ وَسِحْرِهِمْ، وَعُمْرَانِهِمْ وَعَظَمَةِ مُلْكِهِمْ، وَحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ فِي اسْتِعْبَادِهِ إِيَّاهُمْ وَظُلْمِهِ لَهُمْ، ثُمَّ فِي إِرْثِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِصَبْرِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، ثُمَّ فِي سَلْبِهَا مِنْهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَحَالِ عَادٍ قَوْمِ هُودٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَسْطَةِ خَلْقِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ فِي اسْتِعْمَارِهِمُ الْأَرْضَ وَنَحْتِهِمُ الْجِبَالَ وَاتِّخَاذِهِمْ مِنْهَا بُيُوتًا حَصِينَةً أَمِينَةً، وَمِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا جَمِيلَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ كُلِّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ فِي إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمْ يَنْجُ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ عَذَابِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَنْجِيَةِ رُسُلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ. (9) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الطِّبَاعِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ الْعَامِّ، وَمَا فِي خَلْقِهِ لِلْعَالَمِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَعَدَمِ مُحَابَاةِ الْأَفْرَادِ وَلَا الْأَقْوَامِ فِي نِعَمِ الدُّنْيَا وَنِقَمِهَا، وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ فِي الْآخِرَةِ ; فَقَدْ كَانَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُصَرِّحُونَ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ عَصَى اللهَ لَعَذَّبَهُ وَلَمَا كَانَ لَهُ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ أَوْ يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ - تَعَالَى - خِلَافًا لِتَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي جَعَلَتِ الرُّؤَسَاءَ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، أَوْ وُكَلَاءَ لِلرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَتَقْسِيمِ رِزْقِهِ. (10) الِاحْتِجَاجُ بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَتُهُ مِنْ حَقِّيَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ.

فَقَدْ عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ كَانُوا خَيْرَ الْبَشَرِ، وَأَهْدَاهُمْ إِلَى أَصَحِّ الْعَقَائِدِ وَأَكْمَلِ الْفَضَائِلِ وَأَصْلَحِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ آثَارَهُمْ فِي الْهُدَى كَانَتْ أَجَلَّ الْآثَارِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ أَفْضَلَ قُدْوَةٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَعُلِمَ مِنْهَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى نِهَايَةِ بَقَاءِ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَكَانَتْ رِسَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً. فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَدِيثًا مُفْتَرًى فَإِنَّ مُفْتَرِيَهُ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهِدَايَةً وَإِصْلَاحًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا رُسُلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - أَمْ لَا، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِاتِّبَاعِ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ لَهُ وَاهْتِدَائِهِمْ بِهَدْيِهِ، وَلَنْ يَكْشِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ إِلَّا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ، وَلَوْ مُفْتَرًى فِي صُورَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنَّ الِاحْتِذَاءَ وَالِاتِّبَاعَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالِابْتِدَاعِ، إِذَا كَانَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَلَكِنَّ افْتِرَاءَ الْأُمِّيِّ لِهَذِهِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مُحَالٌ أَيُّ مُحَالٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ، أَفَهَكَذَا يَكُونُ الِافْتِرَاءُ، وَالْحَدِيثُ الْمُفْتَرَى الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ الْعُقَلَاءَ حِرْصًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ الَّذِي كُنَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ؟ ! . ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَوِ الْمَعَارِفَ الَّتِي أَجْمَلْتُهَا فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ كُلِّيَّةٍ (وَيُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا وَالْمَزِيدُ عَلَيْهَا بِمَا قَدْ يَفْتَحُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمُتَدَبِّرِينَ لِكِتَابِهِ) مُتَفَرِّقَةً فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ، وَلَا نَجِدُ فِيهَا عَلَى تَكْرَارِهَا تَنَاقُضًا وَلَا تَعَارُضًا، وَلَا فِي عِبَارَاتِهَا اخْتِلَافًا وَلَا تَفَاوُتًا، عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَقَبْضٍ، وَمُسَاوَاةٍ وَبَسْطٍ، وَهَذَا مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ أَيْضًا وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّعَدُّدِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تُوجَدُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً فِي سُورَةٍ وَلَا سُورَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَأَحْرَى بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ وَكَلَامِهِمْ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فِي التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتِيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهَا، تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَزَايَا كُلِّهَا ; فَالتَّحَدِّي بِهَذِهِ السُّوَرِ تَوْسِيعٌ عَلَى الْمُنْكِرِينَ إِنْ تَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهَا لَا تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ مَا قَرَّرْتُهُ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ بِبَلَاغَتِهِ الَّتِي فَسَّرُوهَا بِمُطَابَقَةِ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ فَقَطْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ هُنَا لَمَا كَانَ لِلتَّحَدِّي بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ وَجْهٌ، بَلْ لَكَانَ مُشْكِلًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَجَلٌ عُلِمَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَرِدُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى قَوْلِنَا ; فَإِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ مَنْ يُكَلِّفُ شَاعِرًا أَنْ يَنْظِمَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً بِقَصِيدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنْ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ أَنْ يَنْظِمَهَا بِعِدَّةِ قَصَائِدَ مُخْتَلِفَةِ الرَّوِيِّ وَالْقَوَافِي. وَإِنِّي لَأَعْجَبُ لِدَهَاقِيِ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ حِكْمَةِ هَذَا الْعَدَدِ إِلَّا قَوْلَ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ انْتِهَاءٌ إِلَى آخِرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ؟ .

وَإِنَّنِي أَجْزِمُ هُنَا - بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ التَّحَدِّي وَتَارِيخِ نُزُولِ سُوَرِهَا - أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ مُرَاعًى بِهَا التَّرْتِيبُ التَّارِيخِيُّ فِي مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهَا بِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِ سُورَتِهِ، فَسُورَةُ الطُّورِ الَّتِي فِيهَا: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (52: 33 و34) وَهُوَ تَحَدٍّ بِجُمْلَتِهِ، قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ اللَّتَيْنِ تَحَدَّاهُمْ فِيهَا بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ. وَسُورَةُ الْإِسْرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَهُنَّ، وَفِيهَا ذِكْرُ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (17: 88) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحَدِّيًا، وَكَانَ آخِرَ مَا نَزَلَ فِي التَّحَدِّي آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) وَهُوَ تَحَدٍّ لِلْمُرْتَابِينَ فِيمَا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ. الْخُلَاصَةُ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الْمُعَانِدِينَ لَمْ يَجِدُوا شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ - بَعْدَ شُبْهَةِ السِّحْرِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَلْقَ رَوَاجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ بِلُغَتِهِمْ عَرَفُوهُ وَعَقَلُوهُ وَأَدْرَكُوا عُلُوَّهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ - إِلَّا زَعْمَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَمَا هُوَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي جُمْلَةِ مَزَايَاهُ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَعُلُومِهِ، وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْإِلَهِيِّ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ فَعَجَزُوا، وَبَقِيَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فِي قِصَصِهِ ; إِذِ ادَّعَى أَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ وَيُلَقَّنُهَا لِئَلَّا يَنْسَاهَا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ خَاصَّةٌ مُوَجَّهَةٌ إِلَى قِصَصِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهِ الْكَثِيرَةِ، لَا يَدْحَضُهَا عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهَا الَّتِي حَصَرُوا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَلَا إِبْدَاعُ نَظْمِهَا وَلَا طَرَافَةُ أُسْلُوبِهَا أَيْضًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، أَيْ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَهَا إِذَا كَانَتْ جَامِعَةً لِمَزَايَاهَا الْمَعْنَوِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّا أَظْهَرَهَا فِي الْجُمَلِ الْعَشْرِ آنِفًا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ قَدْ كَانَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا، وَالسُّوَرُ الْمُفَصَّلَةُ فِيهَا الَّتِي تَمَّتْ عَشْرًا بِهَذِهِ السُّورَةِ (هُودٍ) وَكَلَّفَهُمْ دَعْوَةَ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى - لِيُظَاهِرُوهُمْ فَعَجَزُوا، وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَا مِنْ فُصَحَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَعَلَى غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّحَدِّي الظَّاهِرَةُ هُنَا. وَلَهُ حِكْمَةٌ أُخْرَى بَاطِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى هِيَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا الْفَائِدَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوَجِّهُ الْأَنْظَارَ وَيَشْغَلُ الْأَفْكَارَ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِ مَا حَوَاهُ مِنْ حِكْمَةٍ وَعِرْفَانٍ، وَمَا لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ مِنْ تَأْثِيرٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْغَافِلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ إِعْجَازَهَا مَحْصُورٌ فِي فَصَاحَةِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَبَلَاغَةِ الْبَيَانِ، عَلَى مَا فِي دَلَالَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ

14

مِنَ الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَذْهَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، أَوِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ مُدَّعِي عِلْمِ الطِّبِّ عَلَى عِلْمِهِ بِكِتَابٍ أَلَّفَهُ فِيهِ يُعَالِجُ بِهِ الْمَرْضَى فَيَبْرَءُونَ. فَالْبَلَاغَةُ تَكُونُ بِالسَّلِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا تَظْهَرُ فَجْأَةً وَكَامِلَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِّ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللهِ - تَعَالَى -، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ عِلْمَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْيٌ بَرَزَ بِكَلَامٍ مُعْجِزٍ لِلْخَلْقِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آتَى هَذَا الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ مَا لَمْ يُؤْتِ أُولَئِكَ الْجَهَابِذَةَ الْأَقْوِيَاءَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَصَفَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يُحِيطُ أَحَدٌ بِهِ عِلْمًا، وَأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ. وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْتُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ صَحِيحَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّى بِهِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ مَنْ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لِيُظَاهِرُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ الْمُمَاثِلَةِ لِسُوَرِ الْقُرْآنِ، مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وَتَعْبُدُونَ، وَهَوَاجِسِكُمُ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَكُمُ الشِّعْرَ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَقُرَنَائِكُمْ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَارِفِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ ذَلِكَ (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ، مُلَابِسًا لَهُ، مُبَيِّنًا لِمَا أَرَادَ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، لَا بِعِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ تَدَّعُونَ زُورًا أَنَّهُمْ أَعَانُوهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ عَلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، كَمَا قَالَ: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (7: 7) وَكَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هُودٍ (الْآيَةَ 49) وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ (12: 102) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ (28: 44 - 46) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) (4: 166) وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (72: 26 و27) إِلَخْ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ لَمْ يَكْسِبْ مِنْهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا. الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ كَإِجَابَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ دَاحِضَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، مُثْبِتَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعُلُومِ الَّتِي فِيهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ

التَّحَدِّي بِمَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَحَضَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهَا وَ ((أَنَّمَا)) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ كَالْمَكْسُورَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ (وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ يُعْبَدُ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَعْجِزَ كُلُّ مَنْ عَدَاهُ عَنْ مِثْلِ مَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا ظَهَرَ بِهَذَا التَّحَدِّي عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ آلِهَتِكُمْ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَعَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَالِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ دَاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِهِ وَحَقِّيَّةِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مُذْعِنُونَ لِأَحْكَامِهِ؟ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ مَحِيصٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَقَدْ دُحِضَتْ شُبْهَتُكُمْ. وَانْقَطَعَتْ مَعَاذِيرُكُمْ، إِلَّا جُحُودَ الْعِنَادِ وَإِعْرَاضَ الِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْإِسْلَامِ وَالْإِذْعَانِ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا إِيقَاعَ الشِّقَاقِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (5: 91) أَيْ عَنْهُمَا بَعْدَ عِلْمِكُمْ بِهَذَا الرِّجْسِ وَالْمَخَازِي الَّتِي فِيهَا أَمْ لَا؟ وَأَيُّ إِنْسَانٍ يَمْلِكُ مَسْكَةً مِنْ عَقْلٍ وَشَرَفٍ لَا يَقُولُ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَسْلَمْنَا أَسْلَمْنَا، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا؟ . (الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ) أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي لَكُمْ لِلتَّعْظِيمِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَاصٍّ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَا تَحَدَّيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مُفْتَرَيَاتٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِكَوْنِ أَخْبَارِهَا حَقًّا كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ - وَمَا هُمْ بِمُسْتَجِيبِينَ لَكُمْ لِعَجْزِهِمْ وَعَجْزِ مَنْ عَسَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ لِمُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْهِ - فَاثْبُتُوا عَلَى عِلْمِكُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ، وَازْدَادُوا بِهِ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ؟ أَيِ اثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الثَّانِي، وَلَكِنْ رَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.

15

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَحَقِّيَّةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَقْطَعُ أَلْسِنَةَ الْمُفْتَرِينَ وَيُبْطِلُ مَعَاذِيرَهُمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الصَّارِفَ النَّفْسِيَّ لَهُمْ عَنْهُ وَكَوْنَهُ شَرًّا لَهُمْ لَا خَيْرًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا شَهَوَاتُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَالْإِسْلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أَيْ مَنْ كَانَ كُلُّ حَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ أَدْنَى الْحَيَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ خُلِقَ لَهُمَا وَهِيَ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْوِقَاعُ، وَزِينَتُهَا مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيَاشِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، لَا يُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ اسْتِعْدَادًا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أَيْ نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا، وَافِيَةً تَامَّةً بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) وَهُمْ لَا يُنْقَصُونَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ نَتَائِجِ كَسْبِهِمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَرْزَاقِ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَالِ السَّبَبِيَّةِ، لَا عَلَى النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ، وَلَكِنْ لِهِدَايَةِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ: الْأَمَانَةِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ، وَاجْتِنَابِ الْخِيَانَةِ وَالزُّورِ وَالْغِشِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِأَهْلِهَا الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ فِيهَا، وَكَرَّرَ لَفْظَ ((فِيهَا)) لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فِي وَفَاءِ كَيْلِ الْجَزَاءِ وَفِي بَخْسِهِ، فَإِنَّهُ فِيهَا مَنُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ، وَأَمَّا جَزَاءُ الْآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُبَاشَرَةً: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارُ الْعَذَابِ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّارِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا كَالْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا ; فَإِنَّ الْعَمَلَ لَهَا إِنَّمَا هُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَأَعْمَالُ الْبَرِّ وَالْفَضَائِلِ (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) وَفَسَدَ

16

مَا صَنَعُوا مِمَّا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُرْبَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَغْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاعْتِزَازِ بِأُولِي الْقُرْبَى عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ كَالْحَبَطِ ; وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تُكْثِرَ الْأَنْعَامُ مِنْ بَعْضِ الْمَرَاعِي الَّتِي تَسْتَطِيبُهَا حَتَّى تَنْتَفِخَ وَتَفْسُدَ أَحْشَاؤُهَا، فَظَاهِرُ كَثْرَةِ الْأَكْلِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَبَبًا لِلضَّعْفِ، كَذَلِكَ مَا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ سُوءَ النِّيَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَا (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لَهُ وَلَا أَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِمَقَاصِدِهَا، وَالنَّتَائِجُ تَابِعَةٌ لِمُقَدِّمَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِمْ خَيْرٌ وَنِيَّةٌ حَسَنَةٌ يُجَازَوْنَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ - تَعَالَى - فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْإِجْمَالِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (17: 18 - 21) وَقَالَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. الدِّينُ يُبِيحُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ غَيْرِ الضَّارَّةِ، وَيُبِيحُ الزِّينَةَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا خُيَلَاءٍ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ يَحْتَقِرُ الْمَوَاهِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَرُوحَانِيَّةٍ، فَيَجْعَلُ كُلَّ هَمِّهِ وَحَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي تَفْضُلُهُ بِهَا الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ، فَيَفْضُلُهُ الثَّوْرُ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَالْبَعِيرُ فِي كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَالْعُصْفُورُ فِي كَثْرَةِ السِّفَادِ، وَالطَّاوُسُ فِي زِينَةِ الْأَلْوَانِ وَلَمَعَانِ اللِّبَاسِ. وَمَنِ اخْتَبَرَ أَهْلَ أَمْصَارِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، عَلِمَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ مَا هُوَ مُفْسِدٌ لِصِحَّتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ حَتَّى نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، وَمَاحِقٌ لِثَرْوَتِهِمْ، وَمُضْعِفٌ لِأُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِضَاعَةُ آخِرَتِهِمْ، وَتَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ حُكُومَتَهُمْ وَمَدَارِسَهُمْ لَا تُقِيمُ لِلتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَزْنًا، وَتَجْعَلُ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ اخْتِيَارِيَّةً لَا يُلْزَمُهَا أَحَدٌ مِنْ مُعَلِّمِيهَا وَلَا مِنْ تَلَامِيذِهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَخْتَلِفَ الرِّوَايَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ نَزَلَتَا فِي الْمُشْرِكِينَ أَمْ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمَا نَزَلَتَا مُنْفَرِدَتَيْنِ فِي طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ حَيْثُ لَا مُنَافِقُونَ وَلَا أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَوْضُوعُهُمَا عَامٌّ فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا يَعْمَلُونَ لِأَجْلِهَا.

17

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَنْ يَهْتَدِي وَيَهْدِي بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ عَلَى جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ، أَوْ عِنَادٍ وَجُحُودٍ، فَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ عَلَى الْحُجَّةِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ هَادِيًا مُهْتَدِيًا بِهِ، فَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ; كَالْبُرْهَانِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالنُّصُوصِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، وَالْخَوَارِقِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَالتَّجَارِبِ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَالشَّهَادَاتِ فِي الْقَضَائِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ قَدْ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا تَرَى فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. وَكَانَتْ بَيِّنَاتُهُمْ قِسْمَيْنِ: حُجَجًا عَقْلِيَّةً، وَآيَاتٍ كَوْنِيَّةً، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَقْتَنِعْ بِبَيِّنَةِ الرَّسُولِ أَوْ يُكَابِرُهَا يَقُولُونَ: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) (11: 53) وَكَانَ مَنْ جَحَدَ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ بَعْدَ التَّحَدِّي وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ يُهْلَكُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَجِدُ هَذَا وَذَاكَ مُفَصَّلًا فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي 6: 57 وَقَوْلِهِ: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (7: 105) فَالْأُولَى مَا عَلِمَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّهِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَبِإِظْهَارِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (6: 83) أَوْ مَا آتَاهُ مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَسْتَخْذِي لَهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَنْقَطِعُ بِهَا مُكَابَرَتُهُمْ. وَكَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطْلِقُ الْبَيِّنَةَ تَارَةً عَلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً عَلَى آيَتِهِ الْكُبْرَى الْجَامِعَةِ لِلْبَرَاهِينِ الْكَثِيرَةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) (6: 57) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (6: 155 - 157) فَهَذَا

السِّيَاقُ يُشْبِهُ سِيَاقَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا. وَفِي الْمُرَادِ بِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ فِيهَا وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَامٌّ قُوبِلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مَنْ لَا يُرِيدُونَ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نُورُ الْبَصِيرَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ مِنْ رَبِّهِ - فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (39: 22) (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) أَيْ وَيَتْبَعُ هَذَا النُّورَ الْفِطْرِيَّ وَالْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا مُذَكَّرًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَيُؤَيِّدُهُ نُورٌ آخَرُ غَيْبِيٌّ إِلَهِيٌّ مِنْهُ - تَعَالَى - يَشْهَدُ بِحَقِّيَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، الَّذِي هُوَ مَشْرِقُ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْبُرْهَانِ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) وَيَتْبَعُهُ وَيُؤَيِّدُهُ شَاهِدٌ آخَرُ جَاءَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَالَ كَوْنِهِ إِمَامًا مُتَّبَعًا فِي الْهُدَى وَالتَّشْرِيعِ، وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: شَهَادَةُ مَقَالٍ وَشَهَادَةُ حَالٍ ; فَالْأُولَى تَصْرِيحُهُ بِالْبِشَارَةِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً فِي تَفْسِيرِ (7: 157) ، وَالثَّانِيَةُ مَا بَيْنَ رِسَالَةِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّشَابُهِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فِي كَمَالِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، الَّذِي عَرَفَ بِهِ حَقِّيَّةَ الْوَحْيِ الْعَامِّ الْأَخِيرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ، وَعَرَفَ تَأْيِيدَهُ بِالْوَحْيِ السَّابِقِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاتَّسَقَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْحُجَجِ الثَّلَاثِ فِي هِدَايَةِ دِينِهِ، كَمَنْ كَانَ يُرِيدُ مِنْ حَيَاتِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا النَّاقِصَةَ الْفَانِيَةَ وَزِينَتَهَا الْمُوَقَّتَةَ، مَحْرُومًا مِنَ الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ الْعَالِيَةِ، الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ؟ ! . (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيِّنَةِ الْوَهْبِيَّةِ،

وَشَهَادَةِ الْوَحْيِ لِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِيمَانَ مَعْرِفَةٍ وَإِذْعَانٍ، عَلَى عِلْمٍ بِمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) الَّذِينَ تَحَزَّبُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَزُعَمَاءِ قُرَيْشٍ لِلصَّدِّ عَنْهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيِّ وَآلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَالَّذِينَ سَيَتَحَزَّبُونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أَيْ فَإِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ هِيَ الدَّارُ الَّتِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ - تَعَالَى - آنِفًا (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) (11: 16) وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَالْمَوْعِدُ اسْمُ مَكَانٍ (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أَيْ فَلَا تَكُنْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْعَاقِلُ فِي شَكٍّ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ، أَوْ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقُرْآنِ (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) إِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (مِنْ رَبِّكَ) وَخَالِقِكَ الَّذِي يُرَبِّيكَ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُكَ، وَيُوصِلُكَ إِلَى السَّعَادَةِ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) هَذَا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِاسْتِكْبَارِ زُعَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَتَقْلِيدِ مَرْءُوسِيهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِتَحْرِيفِهِمْ وَابْتِدَاعِهِمْ فِي دِينِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِـ - النَّاسِ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمِيعُ الْكُفَّارِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ كُلَّهُمْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا فِي عَهْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَأَنَّ فِعْلَ الْمُضَارِعِ لِبَيَانِ الْحَالِ الْوَاقِعِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ ((كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا عِلْمَهُ الْيَقِينِيَّ الضَّرُورِيَّ بِنُبُوَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ 28، وَعَنْ صَالِحٍ فِي الْآيَةِ 63، وَعَنْ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ 88، وَيَكُونُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ مِنْهُ - تَعَالَى - الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ((الْبَيِّنَةَ)) الْقُرْآنُ، وَ ((الشَّاهِدَ)) جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَوْلُهُ: (وَيَتْلُوهُ) عَلَى هَذَا مِنَ التِّلَاوَةِ لَا مِنَ التُّلُوِّ وَالتَّبَعِيَّةِ، فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِهِ بِهِ، وَكَانَ يُعَارِضُهُ وَيُدَارِسُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ جَمِيعَ مَا نَزَلَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ رَمَضَانَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارَضَهُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ. وَفِي الشَّاهِدِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى ضَعِيفَةُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ ((مِنْهَا)) أَنَّهُ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ جِبْرِيلَ كَانَ يُحَفِّظُهُ الْقُرْآنَ أَنْ يُنْسَى مِنْهُ شَيْءٌ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ لِسَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ عَلِيٌّ -

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَرْوِيهِ الشِّيعَةُ وَيُفَسِّرُونَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - سُئِلَ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ لِسَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَابَلَهُمْ خُصُومُهُمْ بِمِثْلِهَا فَقَالُوا: إِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالْهَوَى، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالْجَلَاءِ وَالضِّيَاءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، بَلْ يَحْتَاجُ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) إِلَى تَأْوِيلٍ مُتَكَلَّفٍ. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ السَّبْعُ بَيَانٌ لِحَالِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُدْمَجَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَبَدَأَ بِوَصْفِ الْأَوَّلِ فَقَالَ:

18

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فِي وَحْيِهِ وَأَقْوَالِهِ، أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَنْعَامِ (1) وَالْأَعْرَافِ (2) وَيُونُسَ (3) وَسَيَأْتِي فِي الْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَيُفَسَّرُ الِافْتِرَاءُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَأَظْهَرُهُ هُنَا اتِّخَاذُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ لَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَزَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، وَالْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُرُشَنَا ابْنُ اللهِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَكَذَا مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ بِتَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ دِينِهِ، لِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِهِ (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُحَاسَبَتِهِمْ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ) الَّذِينَ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ ((الْأَشْهَادُ جَمْعُ شَاهِدٍ كَأَصْحَابٍ، أَوْ شَهِيدٍ كَأَشْرَافٍ)) (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَشْخَاصِهِمْ فَيَفْضَحُونَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْمَقْرُونَةِ بِاللَّعْنَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى خُرُوجِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ مُحِيطِ الرَّحْمَةِ، وَجُمْلَةُ اللَّعْنَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (40: 51 و52) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ وَيَسْتُرَهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ الشَّهَادَةِ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ سُوَرِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهَا بِأَلْفَاظِهَا فِي فَهَارِسِهَا.

19

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ الْمَلْعُونِينَ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ دِينُهُ الْقَيِّمُ وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أَيْ يَصِفُونَهَا بِالْعِوَجِ وَالِالْتِوَاءِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهَا، أَوْ يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَوْجَاءَ بِمُوَافَقَتِهَا لِأَهْوَائِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَإِبَاحَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِبَعْثٍ وَلَا جَزَاءٍ، وَإِنَّمَا الدِّينُ عِنْدَهُمْ رَابِطَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَشَعَائِرُ قَوْمِيَّةٌ، قَدْ يَتَعَصَّبُونَ لَهَا تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ، وَتَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، الْمُدَّعِينَ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا تَرَاهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَزِيَادَةُ - هُمْ - بَيْنَ الْمُتَبَدَّإِ وَالْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ (45) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ. (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ اللهَ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَكُفْرِهِمْ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) وَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِهِ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ، وَلَا أَنْصَارُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَلَكِنْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَوْ عُوقِبُوا فِيهَا، لَا بِالزِّيَادَةِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي إِفْسَادِ كُفْرِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمْ، وَتَدْسِيَةِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يُضَاعَفُ)) مِنَ الْمُضَاعَفَةِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ ((يُضَعَّفُ)) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّضْعِيفِ. وَعَلَّلَ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ بِقَوْلِهِ: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ أَسْمَاعِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ إِصْغَاءً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَزُيِّنَ الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بَلْ كَانُوا (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (6: 26) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهِمْ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (41: 26) (وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَلَوَازِمِهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ، صَارُوا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ وَالْهُدَى كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بِحَيْثُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ سَمَاعُ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةِ، وَمَا يُثْبِتُهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ

21

أَنَّهُمْ فَقَدُوا حَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَصَارُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِالْفِعْلِ ; بَلْ هُمْ كَمَا يَقُولُ أَمْثَالُهُمْ فِيمَا يُبْغِضُونَ: إِنَّنِي لَا أُطِيقُ رُؤْيَةَ فُلَانٍ، وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَتَذَكَّرْ أَوْ رَاجِعْ قَوْلَهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (10: 42) إِلَخْ. وَأَمْثَالُهُمْ مُشَاهَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَعْطَى رَجُلٌ مُؤْمِنٌ رَجُلًا مُتَفَرْنِجًا مِنْهُمْ كِتَابَ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) الَّذِي شَهِدَ لَهُ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِطَلَاوَةِ عِبَارَتِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَمُوَافَقَةِ أُسْلُوبِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ لِذَوْقِ هَذَا الْعَصْرِ، ثُمَّ سَأَلَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ: كَيْفَ رَآهُ؟ ظَانًّا أَنَّهُ قَرَأَهُ كُلَّهُ بِشَغَفٍ وَأَنَّهُ سَيَشْكُرُ لَهُ هَدِيَّتَهُ، فَقَالَ: إِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقْرَأَ مِنْهُ صَفْحَةً وَاحِدَةً، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ كُتُبَ أَشْهَرِ الْمَلَاحِدَةِ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِلَذَّةٍ وَرَغْبَةٍ كَمَا يَقْرَأُ الْقِصَصَ (الرِّوَايَاتِ) الْغَرَامِيَّةَ! ! ! ! (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّهُمْ دَسُّوهَا وَمَا زَكَّوْهَا فِي الدُّنْيَا فَفَقَدُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ وُجُودٍ لِمَنْ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، فَلَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) مِنَ اتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي سِيَاقِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (7: 44 و45) . (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) كَلِمَةُ لَا جَرَمَ تُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ لِمَا بَعْدَهَا ; قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَحُوِّلَتْ إِلَى مَعْنَى الْقَسَمِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى ((حَقًّا)) وَلِهَذَا تُجَابُ بِاللَّامِ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَأَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا. وَتَرَى مِثْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ، بِهَذَا وَصَفَ الْفَرِيقَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيَلِيهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خِيَارِهِ وَأَنْصَارِهِ - وَهُوَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ خَشَعُوا لَهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَانَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا زِلْزَالٌ وَلَا اضْطِرَابٌ. وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ قَصْدُ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنُّزُولُ فِيهِ، يَقُولُونَ: أَخْبَتَ الرَّجُلُ،

23

كَمَا يَقُولُونَ: أَنْجِدُوا أَسْهَلَ وَأَنَّهُمْ. وَيُقَالُ: أَخْبَتَ إِلَيْهِ وَأَخْبَتَ لَهُ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (22: 54) وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْمُخْبِتِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَسَطًا بَيْنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ (لَا يَزَالُونَ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فَعَلَهُ الرَّاغِبُ مِنَ التَّنْظِيرِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْبَتِي الْقُلُوبِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ فِيهِمْ: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (2: 74) (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِالذَّاتِ الْخَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا. (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أَيْ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ اللَّذِينَ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمَا وَبَيَانُ حَالِهِمَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِابْتِلَائِهِ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَالصِّفَةُ الْحِسِّيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِحَالِهِمَا، كَمَثَلِ الْأَعْمَى الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ فِي خِلْقَتِهِ، وَالْأَصَمِّ الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، كَذَلِكَ فِي حِرْمَانِهِ مِنْ مَصَادِرِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ كَامِلُ حَاسَّتَيِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ كِلْتَيْهِمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ الْعِلْمَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ وَالتَّشْرِيعِ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِمَا يَرَى مِنَ الْأَكْوَانِ، وَهُمَا الْيَنْبُوعَانِ اللَّذَانِ يُفِيضَانِ الْعِلْمَ وَالْهُدَى عَلَى عَقْلِ الْإِنْسَانِ (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أَيْ هَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ صِفَةً وَحَالًا وَمَبْدَأً وَمَآلًا؟ كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ أَتَجْهَلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ هَذَا الْمَثَلَ الْحِسِّيَّ الْجَلِيَّ، أَوْ أَتَغْفُلُونَ عَنْهُ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ؟ أَيْ يَجِبُ أَنْ تَتَفَكَّرُوا فَتَتَذَكَّرُوا فَتَعْتَبِرُوا وَتَهْتَدُوا. شَبَّهَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ أَوَّلًا بِالْأَعْمَى فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِ بَصَرِهِ فِيمَا يَفْضُلُ بِهِ بَصَرَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، مِنْ فَهْمِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَزِيدُهُ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهُدًى رُوحِيًّا، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِالْأَصَمِّ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ عَطْفِهِ عَلَى الْأَعْمَى لِيَتَأَمَّلَ الْعَاقِلُ كُلَّ تَشْبِيهٍ وَحْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (2: 18) بِدُونِ عَطْفٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ: التَّهْوِيلُ بِجَمْعِهِمْ لِلنَّقَائِصِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَبْقَ فِي اسْتِعْدَادِهِمْ مَنْفَذٌ لِلْهُدَى، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ: (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (2: 18) وَفِي الْآيَةِ: (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2: 171) وَمِنَ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ عَطْفُهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَتَرْكُهُ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ التَّوْزِيعَ، وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّشْبِيهَيْنِ الْمُتَضَامِنَيْنِ.

25

قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُلَاصَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُخْتَصَرَةً مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) (10: 71) إِلَخْ، وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا نُكْتَةَ هَذَا الْعَطْفِ فِيهَا، وَوَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَكَانَ مُتَمِّمًا وَشَاهِدًا لَهُ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (7: 59) وَأَشَرْتُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَامَّةً. وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا بِمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلِي فَنَقُولُ: - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) قَالَ الْمُعْرِبُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي السُّورَةِ، أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي جُمْلَتِهِ لَا مَعَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا بُعِثَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَبَعْثِهِ نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ; لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ حَالَهُ مَعَهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَعَ أَقْوَامِهِمْ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (سُنَّةَ مِنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (17: 77) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى قَوْمِكَ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أُصُولِهِ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَخْ.

26

وَافْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ; لِإِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مَا كَانَ لِلْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي كَلَامِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِبَيَانِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يُذْعِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْإِرْسَالَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، بَلِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَاتَّخَذُوا لَهُ الْأَنْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أَيْ شَدِيدِ الْأَلَمِ ; وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِالطُّوفَانِ، وُصِفَ بِالْأَلَمِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (7: 59) أَيْ أَلَمُهُ وَهَوْلُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ نُوحٌ جَامِعًا لِمَعْنَى الْأَلَمِ وَمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ ; إِذِ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْمَعَانِيَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِهِ: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) (23: 23) وَمِثْلُهُ فِيهَا عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّقْوَى، كَمَا كَرَّرَ حِكَايَتَهُ عَنْهُمْ فِي الشُّعَرَاءِ، إِذِ التَّقْوَى مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ. (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ فَبَادَرَ الْمَلَأُ، أَيِ الْأَشْرَافُ وَالزُّعَمَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْجَوَابِ لِيَكُونَ الدَّهْمَاءُ تَبَعًا لَهُمْ كَعَادَتِهِمْ، وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ هُنَا بِـ ((الْفَاءِ)) ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الرَّدِّ السَّرِيعِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَفْصُولًا وَهُوَ: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (7: 60) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُرَاجَعَةِ يُقَالُ:. . قَالَ. . . . . وَيُسَمَّى الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمَوْصُولَ بِالْفَاءِ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ بِمَا يُبْطِلُ دَعْوَتَهُ بِزَعْمِهِمْ، وَالْمَفْصُولُ لَيْسَ إِلَّا طَعْنًا وَتَخْطِئَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ لَا يُعْلَمُ مَتَى وَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ جَوَابًا مُتَّصِلًا بِالدَّعْوَةِ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ! (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) فِي الْجِنْسِ، لَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْنَا تَكُونُ بِهَا نَذِيرًا لَنَا نُطِيعُكَ وَنَتَّبِعُكَ مُذْعِنِينَ لِنَبُّوتِكَ وَرِسَالَتِكَ (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) أَيْ أَرْدِيَاؤُنَا وَأَخِسَّاؤُنَا يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ أَوِ الْمَرْءُ بِضَمِّ الذَّالِ (كَضَخُمَ) فَهُوَ رَذْلٌ بِسُكُونِهَا (كَضَخْمٍ) وَجَمْعُهُ أَرْذُلٌ بِضَمِّ الذَّالِ، وَجَمْعُ

27

الْجَمْعِ أَرَاذِلُ أَوْ هُوَ جَمْعُ ((أَرْذَلَ)) بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (25: 111) وَيَعْنُونَ بِهِمْ مَنْ دُونَ طَبَقَةِ الْأَشْرَافِ وَالْأَكَابِرِ كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إِذَا فَهِمُوهُ لِعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِمْ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) أَيْ اتَّبَعُوكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَيْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ، قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي بَاطِنِهِ، وَالْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِهِ، أَوْ فِي بَدْئِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ قَبْلَ تَكْرَارِ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِ وَتَوَالِيهِ، فَالْيَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَمْزَةٍ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي عُمَرَ بِالْهَمْزَةِ ((بَادِئَ)) وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْلَغُ لِاحْتِمَالِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) أَيْ وَمَا نَرَى لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَيْنَا أَدْنَى فَضْلٍ تَمْتَازُونَ بِهِ فِي جَمَاعَتِكُمْ، كَالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ يَحْمِلُنَا عَلَى اتِّبَاعِكُمْ وَالنُّزُولِ عَنْ جَاهِنَا وَامْتِيَازِنَا عَلَيْكُمْ بِالْجَاهِ وَالْمَالِ لِمُسَاوَاتِكُمْ (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) أَيْ بَلِ الْأَمْرُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّنَا نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ فِي جُمْلَتِكُمْ: الْمَتْبُوعُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّابِعُونَ فِي تَصْدِيقِهِ، فَهِيَ إِذًا ائْتِمَارٌ بِنَا تُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ تَقْلِبُوا الْحَقِيقَةَ فَتَجْعَلُوا الْفَاضِلَ مَفْضُولًا، وَالشَّرِيفَ مَشْرُوفًا ، وَقَدْ كَرَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالتَّكْذِيبِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالظَّنِّ. أَجَابُوهُ بِأَرْبَعِ حُجَجٍ دَاحِضَةٍ: (الْأُولَى) أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَسَاوَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مِنْ طَبَقَتِهِمْ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي بَيْتِهِ وَفِي شَخْصِهِ، وَهَكَذَا كَانَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُنَافِي دَعْوَى تَفَوُّقِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِجَعْلِ أَحَدِهِمَا تَابِعًا طَائِعًا، وَالْآخَرِ مَتْبُوعًا مُطَاعًا ; لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرَاذِلُهُمْ فِي الطَّبَقَةِ وَالْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) لَا بِدَلِيلٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَبِهَذَا تَنْتَفِي الْمُسَاوَاةُ فَيَنْزِلُ هُوَ عَنْ رُتْبَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا إِلَى رُتْبَةِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الطَّبَقَاتِ السُّفْلَى، وَهَذَا مُرَجِّحٌ لِرَدِّ دَعْوَتِهِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُ. (الثَّالِثَةُ) عَدَمُ رُؤْيَةِ فَضْلٍ لَهُ مَعَ جَمَاعَتِهِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ عَصَبِيَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ غَالِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ الْأَرَاذِلَ مِنْ مَقْعَدِهِمْ فِي السِّفْلَةِ، فَيَهُونُ عَلَى الْأَشْرَافِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ. (الرَّابِعَةُ) أَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِضْرَابِ أَوْ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا ذَكَرُوا مِنَ التَّنَافِي وَالتَّعَارُضِ يُرَجِّحُونَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الدَّعْوَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ الْأَقْوَى لِرَدِّ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ أَخَّرُوهُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوهُ لَمَا بَقِيَ لِذِكْرِ تِلْكَ الْعِلَلِ الْأُخْرَى وَجْهٌ وَهِيَ وَجِيهَةٌ فِي نَظَرِهِمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ بَيَانِهَا، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ طَعْنٌ لَهُمْ عَلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشْرَكُوهُ فِيهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُجَابِهُوهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنَ الرَّذَالَةِ، وَنَحْنُ نَرَى مَلَاحِدَةَ هَذَا الْعَصْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حُجَجِهِمُ الدَّاحِضَةِ، وَغُرُورِهِمْ وَعَمَى

28

قُلُوبِهِمْ، لَا يَفْضُلُونَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا الْغُرُورَ بِفُنُونِ الْإِفْرِنْجِ وَقُوَّتِهِمْ، وَجَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى تَقْلِيدِ أَرَاذِلِهِمْ فِي شَرِّ رَذَائِلِهِمْ، وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ تَقْلِيدُ قَوْمِ نُوحٍ لِآبَائِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَالْبَلَاءُ عِنْدَنَا مِنْ فَسَادِ أُمَرَائِنَا وَبَاشَاوَاتِنَا وَأَغْنِيَائِنَا، فَهُمْ فِي مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ كَمَلَأِ نُوحٍ شَرُّ طَبَقَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَشَدُّهَا فَسَادًا وَإِفْسَادًا. قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ دَحْضَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي رَدُّوا بِهَا عَلَيْهِ وَشُبُهَاتٍ أُخْرَى مِنْ لَوَازِمِهَا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ حِكَايَتِهَا بِالْعِلْمِ بِهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فَتَأَمَّلْهُ. (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) خَاطَبَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَقَبِ الْقَوْمِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ ((يَا قَوْمِي، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الرَّسْمِ مُرَاعَاةً لِلنُّطْقِ)) اسْتِعْطَافًا وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَكَلِمَةُ ((أَرَأَيْتُمْ)) تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ((10: 50 و59)) وَغَيْرِهَا، وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 17. أَيْ أَخْبِرُونِي يَا قَوْمِيَ الْأَعِزَّاءَ مَا رَأْيُكُمْ وَقَوْلُكُمْ فِي حَالِي مَعَكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ

ظَاهِرَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ تَبَيَّنَ لِي بِهَا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِي وَكَسْبِيَ الْبَشَرِيِّ الَّذِي تُشَارِكُونَنِي فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَتَعَالِيمُ الْوَحْيِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ رَحْمَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِمَنْ يَهْتَدِي بِهَا فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِعِبَادِهِ كُلِّهِمْ (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمِيَتْ)) بِالتَّخْفِيفِ كَخَفِيَتْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَمِثْلُهَا (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ) (28: 66) وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ فَحَجَبَهَا عَنْكُمْ جَهْلُكُمْ وَغُرُورُكُمْ وَجَاهُكُمْ فَلَمْ تَسْتَبِينُوا بِهَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِذْ جَعَلْتُمُونِي بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَالتَّعْبِيرُ (بِعُمِّيَتْ) مُخَفَّفَةً وَمُشَدَّدَةً أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِخَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَمَى الْمُقْتَضِي لِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْخَفَاءِ، وَيَجُوزُ عَوْدَةُ الضَّمِيرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِاقْتِضَاءِ خَفَائِهَا خَفَاءَ الرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الدَّلِيلِ مَعَ الْمَدْلُولِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِهَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَخَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللهِ لَكُمْ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِخَفَاءِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ خَاصَّةٌ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهِيَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ النَّبِيُّ أَنَّهُ نَبِيٌّ (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ إِيَّاهَا بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَارِهُونَ لَهَا إِنْكَارًا وَجُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا؟ أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِيمَانِ الْإِذْعَانِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهُوَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي دِينِ اللهِ - تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ فِي سَابِقِ تَارِيخِهِمْ - وَمَا لَا يَزَالُ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمْ - مِنَ التَّنْصِيرِ بِإِجْبَارِ الْأَقْوَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا امْتَازُوا بِهِ عَلَى أُمَمِ الشَّرْقِ فِي ظُلْمِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَدٌّ لِإِنْكَارِهِمْ لَهَا وَتَكْذِيبِهِ وَمَنْ مَعَهُ فِيهَا، وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمُ الْأُولَى فِي أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَيَدْفَعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْخُبْرِ (بِالضَّمِّ أَيِ الِاخْتِبَارِ) مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالرَّأْيِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، حَتَّى إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَيَأْتِي مِنَ الْإِصْلَاحِ لِقَوْمِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ فِي الْقُرُونِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَكُلُّ هَذَا فِي مُحِيطِ التَّفَاوُتِ الْعَادِيِّ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَفَوْقَهُمَا مَا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا لَهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ. (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) أَعَادَ نِدَاءَهُمْ بِقَوْلِهِ: ((وَيَا قَوْمِ)) اسْتِعْطَافًا وَتَكْرِيرًا لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَالًا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِيهِ عِنْدَهُمْ لِمَكَانَةِ حُبِّ الْمَالِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِزَازِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْمَالُ: مَا يُمْلَكُ وَيُقْتَنَى مِنْ نَقْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَجْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي عَلَى تَبْلِيغِهِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي

29

أَرْسَلَنِي بِهِ، وَكُلُّ رَسُولٍ بَعْدَهُ أُمِرَ أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ هَذَا، كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَحْكِيًّا عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَتَكَرَّرَ مِثْلُهُ بِأَمْرِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (42: 23) فَهُوَ - أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ - مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ، لَكِنْ أَسْأَلُكُمْ مَوَدَّةَ أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ الَّتِي تُبَالِغُونَ فِيهَا وَتُقَاتِلُونَ لِأَجْلِهَا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَفْعٌ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ كَغَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاكَتْ فِي صُدُورِ قَوْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ تَكَلَّمَ بِهَا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا بِالَّذِي يَقَعُ مِنِّي طَرْدُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قُرْبِي وَجِوَارِي لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ، وَوَصْفِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْأَرَاذِلِ جَهْلًا مِنْكُمْ، فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَقَدْ يَكُونُونَ صَرَّحُوا بِذِكْرِ هَذَا اللَّازِمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْكُفَّارِ مِنْ جَمِيعِ أَقْوَامِ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَهَا هُنَا وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِهِمْ، وَتَكَرَّرَ مَعْنَاهَا فِي قَوْمِ خَاتَمِهِمْ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ الطَّرْدِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (6: 52) الْآيَةَ. وَفِي مَعْنَاهَا قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي سُورَتِهِ (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) هَذَا تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِنَفْيِ الطَّرْدِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنْ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِهِمْ (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أَيْ تُسَفِّهُونَ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْجَهَالَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْحِلْمِ، أَوْ تَجْهَلُونَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الِامْتِيَازَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ الْمُطْغِي، وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ الْمُرْدِي، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (26: 111 - 115) وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ تَتِمَّةُ الْآيَةِ (6: 52) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) كَرَّرَ هَذَا النِّدَاءَ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَالِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنِّي مَا أَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِي وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ الشَّدِيدَ بِعَدْلِ اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا تَكُنْ صِفَةُ مَنِ اقْتَرَفَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (6: 52) (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ مِنْهُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلٌ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ: أَتُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِكُمْ، أَوْ أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ؟ .

31

(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ فِيهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الَّتِي نَفَاهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نَفْسِهِ، هِيَ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ثُبُوتَهَا لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ نَفْيُهَا مُتَضَمِّنًا لِرَدِّ شُبْهَةِ حُجَّتِهِمُ الثَّالِثَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 50) وَنَخْتَصِرُ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا لِتَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ. أَمَّا خَزَائِنُ اللهِ - تَعَالَى - فَالْمُرَادُ مِنْهَا أَنْوَاعُ رِزْقِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا عِبَادُهُ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهَا كَمَا قَالَ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (17: 100) وَالْمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ بِادِّعَائِي لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِنَّ عِنْدِي خَزَائِنَ رِزْقِ اللهِ - تَعَالَى - أَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ، بِحَيْثُ أُنْفِقَ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَنِي بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ أَنَا وَغَيْرِي مِنَ الْبَشَرِ فِي كَسْبِهَا سَوَاءٌ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ وَلَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَوَظَائِفِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاتَّبَعَ النَّاسُ الرُّسُلَ لِأَجْلِهَا، لَا لِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَأْهِيلِهَا لِلِقَائِهِ - تَعَالَى - وَمَثُوبَتِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِعِلْمِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمُ الْكَسْبِيُّ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَكَسْبِهِمْ، فَيُخْبِرُ بِهَا أَتْبَاعَهُ لِيَفْضُلُوا غَيْرَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَقُولَ لِقَوْمِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (7: 188) وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ نَفْيَ ادِّعَائِهِ الْغَيْبَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ ظَنًّا، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَيَحْكُمَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السَّرَائِرَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ نَفَاهُمَا كِتَابُ اللهِ عَنْ رُسُلِهِ يُثْبِتُهُمَا مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لِمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيِّسِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِرَارًا. وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا فَهُوَ دَاحِضٌ لِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ إِلَى الْبَشَرِ يَجِبُ أَنْ يَفْضُلَهُمْ وَيَمْتَازَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُفَصَّلَةٌ وَمُكَرَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ جُمْلَةَ مَا جَاءَ فِيهَا مَعَ شَوَاهِدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) فَرَاجِعْهَا فِي (ص 245 ج8 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .

(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) الِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزِّرَايَةِ، يُقَالُ: زَرَى عَلَى فُلَانٍ يَزْرِي زَرِيَّةً وَزِرَايَةً (بِالْكَسْرِ) إِذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَزْرَى بِهِ إِزْرَاءً تَهَاوَنَ بِهِ، أَيْ: وَلَا أَقُولُ فِي شَأْنِ الَّذِينَ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاحْتِقَارِ فَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُكُمْ لِفَقْرِهِمْ وَرَثَاثَتِهِمْ: (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا وَعَدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ مَا حَكَى الله عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (46: 11) وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ. (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ) مِمَّا آتَاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، خِلَافًا لِمَا زَعَمْتُمْ مِنَ اتِّبَاعِي بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنِّي إِذَا قُلْتُ ذَلِكَ فِيهِمْ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، إِذْ أَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِي بِالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ غَيْرَ مَا أَعْلَمُهُ عَنْهُ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَظَالِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِهَضْمِ حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا قُلْتُ شَيْئًا مِمَّا نَفَيْتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، بِأَنِ ادَّعَيْتُ أَنِّي أَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ رِزْقِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، أَوْ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ. لَمِنْ زُمْرَةِ الظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لِاجْتِنَابِ مَا ذُكِرَ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ وَدَحْضُهُ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلَ الْمُعْتَرِفِ بِالْعَجْزِ، الْمُنْتَهِي بِهِ عَجْزُهُ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ: قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِدَالُ: الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَدَلْتُ الْحَبْلَ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ، وَمِنْهُ الْجَدِيلُ (أَيِ الْحَبْلُ الْمَفْتُولُ) وَجَدَلْتُ الْبِنَاءَ أَحْكَمْتُهُ. وَدِرْعٌ مَجْدُولَةٌ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنْيَةِ، وَالْمِجْدَلُ (كَمِنْبَرٍ) الْقَصْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَمِنْهُ

32

الْجِدَالُ، فَكَأَنَّ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَفْتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى رَأْيِهِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي الْجِدَالِ الصِّرَاعُ وَإِسْقَاطُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ (بِالْفَتْحِ) الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ اهـ. وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِنْ كَانَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ اهـ، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. (قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) أَيْ قَدْ خَاصَمْتَنَا وَحَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا وَاسْتَقْصَيْتَ فِيهِ فَلَمْ تَدَعْ لَنَا حُجَّةً إِلَّا دَحَضْتَهَا، حَتَّى مَلِلْنَا وَسَئِمْنَا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقُولُهُ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (71: 5 و6 إِلَخْ) . وَقَوْلُهُ لَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) (10: 71 إِلَخْ) (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) مِنْ عَذَابِ اللهِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَيْنَا، الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (26) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنَا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لِلَّهِ وَبِيَدِهِ لَا أَمْلِكُهُ أَنَا، وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَأْتِيكُمْ بِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا شَكَّ فِيهِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَلَا فَائِتِينَ لَهُ إِنْ أَخَّرَهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، فَهُوَ مَتَى شَاءَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَنَفِيُ الْإِعْجَازِ مُؤَكَّدٌ بِالْبَاءِ. (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) النُّصْحُ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاصِحُ الْعَسَلِ، لِخَالِصِهِ الْمُصَفَّى مِنْهُ، وَنَصَحَ لَهُ أَفْصَحُ مِنْ نَصَحَهُ، وَالْإِغْوَاءُ الْإِيقَاعُ فِي الْغِنَى وَهُوَ الْفَسَادُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ نُصْحِي لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِي لَهُ فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِمَا عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ نَفْعَ النُّصْحِ لَهُ شَرْطَانِ أَوْ طَرَفَانِ، هُمَا الْفَاعِلُ لِلنُّصْحِ وَالْقَابِلُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيُّ وَالْفَسَادُ، بِمُقَارَفَةِ أَسْبَابِهِ مِنَ الْغُرُورِ بِالْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْكِبْرِ، وَهُوَ غَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ الْمُتَكَبِّرِ لِمَنْ يَزْدَرِي مِنَ النَّاسِ، وَتَعَصُّبُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ الْمَالِنَةِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، فَمَعْنَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِإِغْوَائِهِمُ: اقْتِضَاءُ سُنَّتِهِ فِيهِمْ أَنْ

34

يَكُونُوا مِنَ الْغَاوِينَ، لَا خَلْقُهُ لِلْغَوَايَةِ فِيهِمْ جُزَافًا أَنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا كَسْبٍ مِنْهُمْ لِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ مُقَدَّرَةً بِأَقْدَارِهَا، تَرْتَبِطُ أَسْبَابُهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ يُغْوِيَكُمْ بِيُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْغَيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا) (19: 59) وَحُكِيَ عَنْ طِيِّءٍ قَوْلُهُمْ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا، إِذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا، وَأَصْلُ الْغَيِّ فَسَادُ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ سُوئِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ وَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ، وَالْقَرَائِنُ هِيَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْمَعَانِي عَلَى بَعْضٍ، وَمُوَافَقَةُ سُنَنِ اللهِ وَأَقْدَارِهِ شَرْطٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ فِي اخْتِلَافِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أَيْ هُوَ مَالِكُ أُمُورِكُمْ وَمُدَبِّرُهَا وَمُسَيِّرُهَا عَلَى سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَظْلِمُ أَحَدًا. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّذِي تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مُقْتَضَى لِاعْتِرَاضِهَا فِي وَسَطِهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَآيَتَيِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ سُورَتِهِ وَهُمَا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (31: 14) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَبَعْدَهَا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) (16 إِلَخْ) وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ (53 - 55) ((مِنْ سُورَةِ طه 20)) قَالُوا: إِنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ. وَلِلْجُمَلِ وَالْآيَاتِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي الْقُرْآنِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ يَقْتَضِيهَا تَلْوِينُ الْخِطَابِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَمَنْعِ السَّآمَةِ وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ فِي الِانْتِقَالِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ ; فَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ هُنَا أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ كَمَا زَعَمُوا، لِاسْتِغْرَابِهِمْ هَذَا السَّبْكَ فِي الْجِدَالِ وَالْقُوَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَأَنْ يَصُدَّهُمْ هَذَا عَنِ اسْتِمَاعٍ، فَيَكُونَ إِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ تَجْدِيدًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلِنَشَاطِهِمْ، وَأَعْظِمْ بِوَقْعِهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِرُ عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ

35

مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِصَّةِ، فَمَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ: لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مِنْ وِجْهَةِ الْأُسْلُوبِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَعْبِيرِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ بِـ ((يَقُولُونَ)) وَعَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِـ ((قُلْ)) الدَّالَّيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَأَبْعَدُ عَنْ سِيَاقٍ حُكِيَ كُلُّهُ بِفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ((قَالُوا: قَالَ)) وَهُوَ سِيَاقُ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أَيْ أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَى هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، أَوْ يَقُولُ نُوحٌ: إِنَّهُ افْتَرَى هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضًا فَهُوَ إِجْرَامٌ عَظِيمٌ عَلَيَّ إِثْمُهُ وَعِقَابُهُ مِنْ دُونِكُمْ ; (إِذِ الْإِجْرَامُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الضَّارُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، مِنَ الْجُرْمِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدُوِّ صَلَاحِهِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى) وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّ هَذَا إِجْرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى اقْتِرَافِهِ (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَدْلَ أَنْ يَجْزِيَ كُلَّ امْرِئٍ بِعَمَلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (2: 286) وَتَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا هُنَا وَهُوَ: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (10: 41) وَقَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِمُ الْإِجْرَامُ هُنَا ; وَمِنْهُ - أَوْ أَشَدُّهُ - تَكْذِيبُهُ وَوَصْفُهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَسْتَخِفُّهُ السَّمْعُ، وَيَقْبَلُهُ الطَّبْعُ. (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)

36

هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي قَوْمِ نُوحٍ الْمُشْرِكِينَ، وَيَلِيهَا بَيَانُ تَنْفِيذِهِ (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أَيْ أَوْحَى اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ مَا أَيْأَسَهُ مِنْ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ الْآنِ، غَيْرَ مَنْ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ مِنْهُمْ، فَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِيمَانِهِمْ دَائِمُونَ عَلَيْهِ: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ فَلَا يَشْتَدَّنَّ عَلَيْكَ الْبُؤْسُ وَالْحُزْنُ وَاحْتِمَالُ الْمَكَارِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَكَ وَلِمَنْ آمَنَ لَكَ، إِذْ كُنْتَ تَعْرِضُ لَهُ وَتَسْتَهْدِفُ لِسِهَامِهِ ; رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْآنِ مِنْ جِدَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَقَدْ آنَ زَمَنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) الْفُلْكُ: السَّفِينَةُ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِهِ هُنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، أَيْ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ الَّذِي سَنُنَجِّيكَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ فِيهِ حَالَ كَوْنِكَ مَلْحُوظًا وَمُرَاقَبًا بِأَعْيُنِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمَا يَلْزَمُهُ مَنْ حِفْظِنَا فِي كُلِّ آنٍ وَحَالِهِ، فَلَا يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمُلْهَمًا أَوْ مُعَلَّمًا بِوَحْيِنَا لَكَ كَيْفَ تَصْنَعُهُ، فَلَا يَعْرِضُ لَكَ فِي صِفَتِهِ خَطَأٌ، وَجَمَعَ الْأَعْيُنَ هُنَا لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَإِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ ((بِعَيْنِي وَوَحْيِي)) فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْعِنَايَةِ وَبِالْأَعْيُنِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، قَالَ - تَعَالَى - لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي 20: 39 وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (52: 48) وَفِي الْأَسَاسِ: وَتَقُولُ لِمَنْ بَعَثْتَهُ وَاسْتَعْجَلْتَهُ: ((بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ)) أَيْ لَا تَلُوِ عَلَى شَيْءٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ اهـ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا ... نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ بَلِ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَ تَأْوِيلًا صُرِفَ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ لِإِيهَامِهِ التَّشْبِيهَ، فَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ لِمَانِعٍ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ لَا تُرَاجِعْنِي فِي أَمْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَقَضَى عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ الْحَتْمُ بِالْإِغْرَاقِ، فَلَا تَأْخُذْكَ بِهِمْ رَأْفَةٌ وَلَا إِشْفَاقٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تُخَاطِبْنِي بَعْدُ فِي اسْتِعْجَالِ تَعْذِيبِهِمْ وَتَكْرَارِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَتِهِ: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (71: 26 - 28) أَيْ هَلَاكًا. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أَيْ وَطَفِقَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) اسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَحِكُوا مِنْهُ وَتَنَادُرًا عَلَيْهِ لِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُ مُصَابٌ بِالْهَوَسِ وَالْجُنُونِ،

38

يُقَالُ: سَخِرَ مِنْ فُلَانٍ وَسَخِرَ بِهِ (كَتَعِبَ) أَيِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا (بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا) يَهْزَأُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فَيُجِيبُهُمْ أَنَّهُ يَصْنَعُ بَيْتًا يَجْرِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا وَلَا مُتَصَوَّرًا، وَقَلَّ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إِلَّا سَخِرُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ النَّجَاحُ فِيهِ: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) قَالَ مُجِيبًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا وَتَسْتَجْهِلُونَنَا الْيَوْمَ لِرُؤْيَتِكُمْ مِنَّا مَا لَا تَتَصَوَّرُونَ لَهُ فَائِدَةً: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) مِنَّا جَزَاءً وِفَاقًا، نَسْخَرُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ لِجَهْلِكُمْ، وَغَدًا لِمَا يَحِلُّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ بِمَا نَعْمَلُ وَبِمَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ عَمَلِنَا. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بَعْدَ تَمَامِهِ (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) أَيْ يُذِلُّهُ وَيَجْلِبُ لَهُ الْعَارَ وَالتَّبَارَ فِي الدُّنْيَا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَذَابُ الدُّنْيَا هَيِّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لِانْقِضَاءِ هَذَا وَزَوَالِهِ بِهَلَاكِكُمْ، وَبَقَاءِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ بِدَوَامِكُمْ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) هَذَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ، وَيُقَابِلُ السُّخْرِيَةَ بِغَيْرِ ابْتِئَاسٍ وَلَا ضَجَرٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا بِهَلَاكِهِمْ ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ مَجَازٌ كَحَمِيَ الْوَطِيسُ، أَوْ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ عِنْدَ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالتَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ الْخَبْزُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. قِيلَ: إِنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ فِيهِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ حَوَّاءُ أُمُّ الْبَشَرِ وَأَنَّ تَنُّورَهَا بَقِيَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوثَقُ بِهِ، وَالْفَوْرُ وَالْفَوَرَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِارْتِفَاعِ الْقَوِيِّ، يُقَالُ فِي الْمَاءِ إِذَا نَبَعَ وَجَرَى، وَإِذَا غَلَا وَارْتَفَعَ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: فَارَتِ الْقِدْرُ، وَفَارَتْ فَوْرَاتُهَا، وَعَيْنٌ فَوَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَفَارَ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. وَمِنَ الْمَجَازِ: فَارَ الْغَضَبُ، وَأَخَافُ أَنْ تَفُورَ عَلَيَّ، وَقَالَ ذَلِكَ فِي فَوْرَةِ الْغَضَبِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْفَوْرُ شِدَّةُ الْغَلَيَانِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّارِ نَفْسِهَا إِذَا هَاجَتْ، وَفِي الْقَدْرِ وَفِي

40

الْغَضَبِ، نَحْوَ: وَهِيَ تَفُورُ 67: 7 ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اهـ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ فَوَرَانِ التَّنُّورِ هُنَا اشْتِدَادُ غَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، وَحُلُولُ وَقْتِ انْتِقَامِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ مَا أُرَاهَا إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللُّغَةِ أَنَّ التَّنُّورَ أُطْلِقَ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَنُّورِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَوَرَانِهِ هُنَا ظُهُورُ نُورِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مَوْعِدُهُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْ تَنُّورِ الْخَبْزِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِوَايَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ نَبْعِ مَاءِ الطُّوفَانِ مِنَ الْأَرْضِ. وَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْآثَارِ وَلَا فِي أَمْثَالِهَا رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ إِنَّهُ الْأَقْرَبُ. (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) قَرَأَ حَفْصٌ كَلِمَةَ ((كُلٍّ)) هُنَا بِالتَّنْوِينِ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ بِالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهَا، أَيْ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْعِدُ أَمْرِنَا قُلْنَا لِنُوحٍ حِينَئِذٍ: (احْمِلْ فِيهَا) أَيْ فِي الْفُلْكِ، وَهُوَ السَّفِينَةُ - مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْحَيَوَانِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى بَعْدَ غَرَقِ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فَتَتَنَاسَلَ وَيَبْقَى نَوْعُهَا عَلَى الْأَرْضِ: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أَيْ: وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَ بَيْتِكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَأَهْلُ بَيْتِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ نِسَاؤُهُ وَأَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ كُفَّارُهُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ كُفَّارٌ، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) وَإِلَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى وَلَدَهُ الَّذِي سَتُذْكَرُ قِصَّتُهُ قَرِيبًا (وَمَنْ آمَنَ) مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ - تَعَالَى - وَلَا رَسُولُهُ عَدَدَهُمْ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ مَرْدُودٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَمَلَهَا، وَلَا كَيْفَ جَمَعَهَا وَأَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ مُضْحِكَةٌ نُخَالِفُهَا، لَا يَنْبَغِي تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنَ الْعُمُرِ فِي نَقْلِهَا وَإِشْغَالِ الْقُرَّاءِ بِهَا. (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ وَالسَّفِينَةَ وَرَكِبَ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا، وَفِي السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِيهَا وَإِنْ جَلَسَ عَلَى ظَهْرِهَا وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ، قَرَأَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَجْرَاهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ بِإِمَالَةِ الرَّاءِ وَتَرْكِهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِجَرَتِ السَّفِينَةُ تَجْرِي مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ الْآتِي: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَأَجْرَى عَلَى إِرَادَةِ إِجْرَاءِ اللهِ - تَعَالَى - لَهَا. وَقَرَأُوا كُلُّهُمْ: (مُرْسَاهَا) بِضَمِّ الْمِيمِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي سَيُرْسِيهَا، وَرُسُوُّ السَّفِينَةِ وُقُوفُهَا، وَالْمَجْرَى وَالْمَرْسَى

41

يَجِيئَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ أَمْرِهِمْ بِرُكُوبِ السَّفِينَةِ مَعَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً لَهُمْ بِحِفْظِهِ - تَعَالَى - لَهَا وَلَهُمْ، أَيْ: بَاسْمِ اللهِ جَرَيَانُهَا وَإِرْسَاؤُهَا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يَقُولُهَا عَلَى تَقْدِيرِ: ارْكَبُوا فِيهَا قَائِلِينَ بِاسْمِ اللهِ، أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ ((مَجْرَاهَا)) حِينَ تَجْرِي أَوْ حِينَ يُجْرِيهَا ((وَمُرْسَاهَا)) حِينَ يُرْسِيهَا، لَا بِحَوْلِنَا وَلَا قُوَّتِنَا (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: إِنَّهُ لَوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِعِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جَمِيعَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ وَحْدَهُمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ هَذِهِ السَّفِينَةَ لِنَجَاةِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ هَذَا الطُّوفَانِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا)) الْآيَةَ (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الْآيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ آيَةُ سُورَةِ الزُّمَرِ (39: 67) وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) هَذَا تَصْوِيرٌ لِحَالِهَا فِي جَرْيِهَا بِهِمْ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ أَمَامَ الْقَارِئِ أَوِ السَّامِعِ، أَيْ تَجْرِي فِي أَثْنَاءِ مَوْجٍ يُشْبِهُ الْجِبَالَ فِي عُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامْتِدَادِهِ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ فِي ظَاهِرِ الْبَحْرِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنَ التَّمَوُّجِ وَالِارْتِفَاعِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ، وَاحِدُهُ مَوْجَةٌ وَجَمْعُهُ أَمْوَاجٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ الِاضْطِرَابُ وَمِنْهُ: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) (18: 99)

42

وَمَنْ عَرَفَ مَا يَحْدُثُ فِي الْبِحَارِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْأَمْوَاجِ عِنْدَمَا تُهَيِّجُهَا الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ، رَأَى أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَصَفَ لِي بَعْضُهُمْ سَفَرَهُ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي زَمَنِ رِيَاحِ الصَّيْفِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَوْسِمِيَّةَ بِمَا مَعْنَاهُ: كُنْتُ أَرَى السَّفِينَةَ تَهْبِطُ بِنَا فِي غَوْرٍ عَمِيقٍ، كَوَادٍ سَحِيقٍ، نَرَى الْبَحْرَ مِنْ جَانِبَيْهِ كَجَبَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَكَادَانِ يُطْبِقَانِ عَلَيْهَا، فَإِذَا بِهَا قَدِ انْدَفَعَتْ إِلَى أَعْلَى الْمَوْجِ كَأَنَّهَا فِي شَاهِقِ جَبَلٍ تُرِيدُ أَنْ تَنْقَضَّ مِنْهُ، وَالْمَلَّاحُونَ يَرْبِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحِبَالِ عَلَى ظَهْرِهَا وَجَوَانِبِهَا، لِئَلَّا يَجْرُفَهُمْ مَا يُفِيضُ مِنَ الْمَوْجِ عَلَيْهَا، وَرَاجِعْ وَصْفَ الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (10: 22) (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) عِنْدَ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ وَقَبْلَ جَرَيَانِهَا، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ خَبَرِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) أَيْ: مَكَانِ عُزْلَةٍ وَانْفِرَادٍ دُونَ أَهْلِهِ الَّذِينَ رَكِبُوا فِيهَا وَدُونَ الْكُفَّارِ (يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) أَيْ: مَعَ وَالِدِكَ وَأَهْلِكَ النَّاجِينَ (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: سَأَلْجَأُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ يَحْفَظُنِي مِنَ الْمَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ فَأَغْرَقَ (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أَيْ: لَا شَيْءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَصِيبِ يَعْصِمُ أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ أَمْرَ مَاءٍ يَرْتَفِعُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ كَالْمُعْتَادِ، فَيَتَّقِي الْحَازِمُ ضُرَّهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ انْتِقَامٍ عَامٍّ مِنْ أَشْرَارِ الْعِبَادِ، الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَظَلَمُوا وَطَغَوْا فِي الْبِلَادِ، لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ فَهُوَ يَعْصِمُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَدِ اخْتَصَّ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مَنْ أَمَرَ بِحِمْلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) وَكَانَ قَدْ بَدَأَ يَرْتَفِعُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى حَالَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الْهَالِكِينَ. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، حَتَّى كَانَ آخِرُ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ مِنْهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ، خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَاءُ بِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ)) . هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. يَعْنِي: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَعَقَّبَهُ

44

الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ، وَمُوسَى لَيْسَ بِذَاكَ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُوسَى هَذَا، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ حُدُوثَ هَذَا الطُّوفَانِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (54: 9 - 16) وَإِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا الْمَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ السَّفِينَةُ كَمَا كَانَ عَرْشُ اللهِ عَلَى الْمَاءِ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الْأَرْضِيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرُ فِيمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الْخَطْبِ الْجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، أَوْجَزُ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغُهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي الْعَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) أَيْ: وَصَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ الْأَعْلَى نِدَاءٌ خَاطَبَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ، بِأَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ: ((يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ)) كُلَّهُ الَّذِي عَلَيْكِ، أَوِ الَّذِي تَفَجَّرَ مِنْ بَاطِنِكِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بَحْرًا، وَالْبَلْعُ: ازْدِرَادُ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ بِسُرْعَةٍ (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أَيْ: كُفِّي عَنِ الْإِمْطَارِ فَامْتُثِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ قِيلَ: كُنْ فَكَانَ (وَغِيضَ الْمَاءُ) أَيْ: غَارَ فِي الْأَرْضِ وَنَضَبَ بِابْتِلَاعِهَا لَهُ نُضُوبًا (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ: وَنَفَذَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَنَجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أَيْ: وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ رَاسِيَةً عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ هَلَاكًا وَسُحْقًا لَهُمْ، وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَقْدِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ 11: 60 أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ 11: 68، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَبَلَ قَدْ غَمَرَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ فَوْقَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ السَّفِينَةُ كَانَ الْمَاءُ فَوْقَهُ رَقْرَاقًا وَبَدَأَ يَتَقَلَّصُ وَيَغِيضُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ. قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. أَحَاطَتْ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِفَلْسَفَتِهَا الْفُنُونُ الثَّلَاثَةُ: الْمَعَانِي

وَالْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَقَامُ، لَا يُنَافِي بُلُوغَ كُلِّ آيَةٍ فِي مَوْضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا دَرَجَةَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ التَّفَاوُتِ الْمَعْهُودِ فِي كَلَامِ أَشْهَرِ الْبُلَغَاءِ كَأَبِي تَمَّامٍ وَالْمُتَنَبِّي، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَمَا بَيْنَهُمَا، فَآيَاتُهُ كُلُّهَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الْمُعْجِزَةِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَرَاهُ فِي تَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ: 13 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ الْعِبْرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَصِ كُلِّهَا، وَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُكَتِ الْفُنُونِ فِيهَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَنْذَرَ الظَّالِمِينَ وَأَوْعَدَهُمُ الْهَلَاكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ - وَمِنْهُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كُلُّهَا مُعْجِزَةٌ فِي بَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّكَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَأْثِيرِ تَقْبِيحِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ نَوْعًا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ حَادِثَةَ الطُّوفَانِ أَكْبَرُ مَا حَدَثَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَظَاهِرِ سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا عِقَابٌ لِلظَّالِمِينَ، بَيْدَ أَنَّ إِعَادَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ تَصْوِيرِ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ بَارِزَةٌ فِي أَشَدِّ مَظَاهِرِ هَوْلِهَا، وَإِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي الْفَصْلِ فِيهَا، بِمَا تَتَلَاقَى فِيهَا نِهَايَتُهَا بِبِدَايَتِهَا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ النِّهَايَةِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ الَّذِي يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ مَذْمُومَةٍ شَرُّهَا الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، يُمَثِّلُ لَكَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ بِصُورَةِ تِمْثَالٍ مِنَ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالرِّجْسِ، لَا تَرَى مِثْلَهُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا تَرَاهُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْعِبَارَاتِ الرَّائِعَةِ فِي الْبَلَاغَةِ وَعُلُوِّ الْأَسْبَابِ، وَإِحْدَاثِهَا الرُّعْبَ فِي الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (54: 18 - 21) وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي طَبَقَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّوَرِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (69: 4 - 8؟ إِلَخْ) . وَنَاهِيكَ بِمَا وَصَفَ بِهِ عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَأَصِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَلَاغَتَيْنِ: الْمَعْنَوِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَإِضْرَابُ الْمُثُلِ لِجَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَأَهْلِ الْفُنُونِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلَاوَةِ الْأُولَى مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَحِكْمَةُ هَذِهِ الْمُبَالَغَاتِ فِي عِقَابِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّمَا هِيَ إِنْذَارُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ كَرَّرَ عُقُوبَةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَكَرَّرَ مَعَهَا: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (54: 17) وَتَرَى الظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ غَافِلِينَ، وَتَرَى

45

الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَةِ عِبَارَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَلَا يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ عِبْرَتِهِ وَوَعْظِهِ، وَلَقَدْ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي أَهْلِ عَصْرِهِ: وَالْأَرْضُ لِلطُّوفَانِ مُشْتَاقَةٌ ... لَعَلَّهَا مِنْ دَرَنٍ تُغْسَلُ وَنَحْنُ نَقُولُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْعَلَاءِ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَقَدْ أَنْشَدَتْ قَوْلَ لَبِيدٍ: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ قَالَتْ: رَحِمَ اللهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ رُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِنَا أَبِي الْمَحَاسِنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَسَنَعْقِدُ فَصْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي عَصْرِنَا بِمَا نُورِدُهُ مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، أَحَدُهُمَا: بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَثَانِيهِمَا: اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، - وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ (43) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ (44) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ

بِأَبْلَغِ قَوَارِعِ التَّأْثِيرِ، فَكَانَ اتِّصَالُهَا بِهَا كَاتِّصَالِ الْمُوجَبِ بِالسَّالِبِ مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ، بِهِ الْبَرْقُ الَّذِي يَخْطِفُ الْأَبْصَارَ، وَالصَّاعِقَةُ الَّتِي تَمْحَقُ مَا تُصِيبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، فَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ تُصَوِّرُ لِقَارِئِهَا وَسَامِعِهَا نَكْبَةَ الطُّوفَانِ بِأَعْظَمِ الصُّوَرِ هَوْلًا وَرُعْبًا وَدَهْشًا تَطِيشُ لَهَا الْأَلْبَابُ، وَتَحَارُ فِي تَصَوُّرِ كَشْفِهَا وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا الْأَخْيِلَةُ وَالْأَفْكَارُ، فَتَتْلُوهَا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فَتَكُونُ الْفَاصِلَةَ بِكَشْفِ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ بِكَلِمَتَيْنِ وَجِيزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ، قُضِيَ بِهِمَا الْأَمْرُ بِنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (45 - 47) اللَّوَاتِي وُضِعْنَ بَعْدَهُمَا، لَضَاعَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَلَاغَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمَقْصُودَةِ عَنِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي كَانَتْ كَاشْتِعَالِ الْكَهْرَبَاءِ مُظْهِرًا لِسُرْعَةِ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِي كَشْفِ الْكَرْبِ، فَكَانَ مِنْهَا نُورٌ ظَهَرَتْ بِهِ رَحْمَتُهُ فِي إِنْجَاءِ السَّفِينَةِ وَأَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَصَاعِقَةٌ مَحَقَتْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ. (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ) فِي إِثْرِ نِدَائِهِ لِابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) هَذَا تَفْسِيرٌ لِـ ((نَادَى)) أَيْ فَكَانَ نِدَاؤُهُ أَنْ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هَذَا مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدَتْنِي بِنَجَاتِهِمْ إِذْ أَمَرْتَنِي بِحَمْلِهِمْ فِي السَّفِينَةِ (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْهُ (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ: أَحَقُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْحُكْمُ، وَأَحْسَنُهُمْ وَخَيْرُهُمْ حُكْمًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (5: 50) وَقَالَ: (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ وَلَا الْمُحَابَاةُ، وَلَا الْحَيْفُ وَالظُّلْمُ، وَحُكْمُهُ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى مَا يُنَفِّذُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمُرَادُ نُوحٍ بِهَذَا أَنْ يُنْجِيَ ابْنَهُ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ، مُعَلِّلًا نَفْسَهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِقَوْلِهِ لَهُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ: 43 فَالْمَعْقُولُ أَنَّ الدُّعَاءَ وَقَعَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ ابْنِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ. (قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْلُكَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِإِنْجَائِهِمْ، وَفَسَّرَ هَذَا النَّفْيَ وَعَلَّلَهُ أَوْ وَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمَلٌ)) بِرَفْعِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، كَأَنَّهُ لِفَسَادِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلصَّلَاحِ وَالْتِزَامِهِ الْعَمَلَ غَيْرَ الصَّالِحِ نَفْسُ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ: تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ: عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَالْأَوَّلُ

46

أَبْلَغُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا يَعْمَلُ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَيُوجِبُ بَرَاءَةَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ) (60: 4) الْآيَةَ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْعَدِينَ - بَلْهَ الْأَقْرَبِينَ - كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (9: 71) . وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ يَا نُوحُ عَنْهُ وَطَلَبَكَ لِنَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنًا، أَوْ كَانَ وَلَدَ غَيْرِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ ابْنَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ فَقَالَ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ 23: 27 وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَضَى اللهُ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (71: 26) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا؟ وَلَكِنَّ امْرَأَتَهُ لَمْ تُذْكَرْ فِي قِصَّتِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَعَ امْرَأَةِ لُوطٍ فِي خِيَانَةِ زَوْجَيْهِمَا وَدُخُولِهِمَا النَّارَ، وَاسْتُثْنِيَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ النَّجَاةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّتِهِ؟ (قُلْنَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْكُفَّارِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ كُفْرُهُ فَكَرِهَهُ وَجَنَحَ لِلْإِيمَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ 11: 36 ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ النَّاجِينَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَهُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ، فَجَازَ فِي فَهْمِهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُمْ قَسِيمٌ لِقَوْمِهِ مِنْهُمْ، وَوَافَقَ هَذَا الْفَهْمَ وَقَوَّاهُ رَحْمَةُ الْأُبُوَّةِ فَسَأَلَ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا ظَنِّيًّا لَا يَلِيقُ بِنَبِيٍّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ رَبَّهُ عَاتَبَهُ - تَعَالَى - وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: فَلَا تَسْأَلْنِي فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَسَمَّى دُعَاءَهُ سُؤَالًا ; لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ الْوَعْدِ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ وَمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ نَجَاةِ وَلَدِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ((تَسْأَلَنَّ)) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً وَكَذَا نَافِعٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْيَاءِ. وَهَذَا النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ جَائِزٌ فِي شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَا يَقْتَضِي تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا وَقَلْبَ نِظَامِ الْكَوْنِ لِأَجْلِ الدَّاعِي، وَلَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ،

وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَجْهُولِ مِنَ السُّنَنِ وَالنِّظَامِ، مَعَ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ أَنْ يُبْطِلَ - تَعَالَى - تَشْرِيعَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ إِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ، وَأَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مَنْ يَسْأَلُونَ بَعْضَ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُمْ مَا نَهَى الله عَنْهُ نَبِيًّا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ يُعْطُونَهُمْ أَوْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يُعْطِ مِثْلَهُ لِرُسُلِهِ، بَلْ مَا عُدَّ طَلَبُهُ مِنْهُ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعْظُ هُنَا بِمَعُونَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (24: 17) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَعْظِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (10: 57) (ص 328 ج 11 ط الْهَيْئَةِ) . (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: إِنِّي أَعْتَصِمُ وَأَحْتَمِي بِكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ بَعْدَ الْآنِ مَا لَيْسَ لِي عِلْمٌ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لَائِقٌ (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) أَيْ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي سَوَّلَتْهُ لِي رَحْمَتِي الْأَبَوِيَّةُ، وَطَمَعِي بِرَحْمَتِكَ الرَّبَّانِيَّةِ (وَتَرْحَمْنِي) بِقَبُولِ تَوْبَتِي الصَّادِقَةِ وَرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فِيمَا حَاوَلْتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِنَجَاةِ أَوْلَادِي كُلِّهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ بِطَاعَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنِّي، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَوَّلُهَا) أَنَّ سُؤَالَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا سَأَلَهُ لِابْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالَفَ فِيهَا أَمْرَهُ أَوْ نَهْيَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَطَأً فِي اجْتِهَادِ رَأْيٍ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا اللهُ - تَعَالَى - ذَنْبًا لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَقَامِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، هَبَطَتْ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَمَا غُرِسَ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ إِلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَيَقَعُونَ فِيهِ أَحْيَانًا، لِيَشْعُرُوا بِحَاجَتِهِمْ إِلَى تَأْدِيبِ رَبِّهِمْ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ، بِمَا يَصْعَدُونَ بِهِ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْوِرَاثَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ، وَمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوِرَاثَةِ لَكَانَ جَمِيعُ وَلَدِ آدَمَ كَأَبِيهِمْ، غَايَةُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ تَقَعُ عَنِ النِّسْيَانِ وَضَعْفِ الْعَزْمِ، وَتَتْبَعُهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِبَاءُ الرَّبِّ، ثُمَّ لَكَانَ سَلَائِلُ أَبْنَاءِ نُوحٍ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَسْلَ الْبَشَرِ انْحَصَرَ فِيهِمْ، وَقَدْ دَلَّتِ

48

الْآيَةُ الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ فِيهِمُ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ وَأَيَّدَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ، بَلْ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ الْمَذْكُورُ هُنَا كَافِرًا هَالِكًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَجْزِي النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَنْسَابِهِمْ، وَلَا يُحَابِي أَحَدًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ فِي شَرْعِهِ وَحِكْمَتَهُ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، كَانَ مُذْنِبًا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، حَتَّى يَتُوبَ وَيُنِيبَ. (رَابِعُهَا) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الشُّرَفَاءِ الْجَاهِلِينَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَعُلُوِّ الْأُلُوهِيَّةِ، الْجَاهِلِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمُ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الشَّاكِرِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ، وَإِنْ كَانُوا عُرَاةً مِمَّا كَسَا اللهُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالدِّينِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَسَبِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَظَّمَهُمْ وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بِمُحَابَاةِ اللهِ لَهُ لِأَجْلِهِمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيُهُ فِي إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَقَوْلِهِ لِبِنْتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمَسَاكِينُ يَعُدُّونَ أَعْدَى أَعْدَائِهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيَعُدُّونَ أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِمُ الْمُبْتَدِعِينَ الْخُرَافِيِّينَ الْمُشَعْوِذِينَ. قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ خَاتِمَةُ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّتِي تَلِيهَا اسْتِدْلَالٌ بِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَرَدَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَيْهِ. وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ آيَةِ: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) (44) لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ

لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، إِمَّا مَعَ إِعَادَةِ الْقِيلِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ بِأَنْ يُقَالَ: ((يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)) وَلَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَسْأَلَةِ نُوحٍ وَوَلَدِهِ صَارَ مَانِعًا مِنَ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ وَمُقْتَضِيًا أَنْ تُذْكَرَ مَفْصُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنْ يُبْدَأَ بِفِعْلِ ((قِيلَ)) الْمَجْهُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ الْمَعْلُومُ. (قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أَيْ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ لِنُوحٍ؛ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، وَإِقْلَاعِ السَّمَاءِ عَنْ إِمْطَارِهَا، وَابْتِلَاعِ الْأَرْضِ لِمَائِهَا، وَإِمْكَانِ السُّكْنَى وَالْعَمَلِ عَلَى ظَهْرِهَا: يَا نُوحُ اهْبِطْ مِنَ السَّفِينَةِ أَوْ مِنَ الْجُودِيِّ الَّذِي اسْتَوَتْ عَلَيْهِ إِلَى الصَّفْصَفِ الْمُسْتَوِي مِنْهَا، مُلَابِسًا أَوْ مُزَوَّدًا وَمُمَتَّعًا بِسَلَامٍ مِنْ عَظَمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِيهَا، (وَبَرَكَاتٍ) فِي الْمَعَايِشِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَائِضَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أَيْ: وَعَلَى مَنْ مَعَكَ الْآنَ فِي السَّفِينَةِ، وَعَلَى ذُرِّيَّاتٍ يَتَنَاسَلُونَ مِنْهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُونَ أُمَمًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُمْ مُمَتَّعُونَ بِهَذَا السَّلَامِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْبَرَكَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ لَفْظُ الْأُمَمِ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (6: 38) (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أَيْ: وَثَمَّ أُمَمٌ آخَرُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَرْزَاقِهَا وَبَرَكَاتِهَا دُونَ السَّلَامِ الرَّبَّانِيِّ، الْمَمْنُوحِ مِنَ الْأَلْطَافِ الرَّحْمَانِيِّ، لِسَلِيمِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ سَيُغْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِرَبِّهِمْ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى السَّلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، الَّتِي نَبْعَثُ بِهَا الْمُرْسَلِينَ، كَمَا وَقَعَ لَكَ مَعَ قَوْمِكَ الْأَوَّلِينَ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا الْفَصِيحَةِ نَصًّا وَاقْتِضَاءً، الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الْآرَاءِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا، لَوْلَا كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا، حَتَّى مَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا الشَّرْعُ وَلَا الْعَقْلُ مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ مَجَامِعَ الْعِبْرَةِ فِيهَا. (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ الْمُفَصَّلَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ الْبَدِيعَ، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْمَاضِيَةِ (نُوحِيهَا إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مُتَمَّمًا وَمُفَصَّلًا لِمَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ قَبْلَهَا (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) الْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ مُبَيِّنًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ

49

يَعْلَمُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مَا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ يَعْلَمُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْفِيِّ هُنَا وَأَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ بِهِ لَكَذَّبُوهُ، وَلَنُقِلَ تَكْذِيبُهُمُ الْخَاصُّ لَهُ فِيهَا؛ كَمَا نُقِلَ تَكْذِيبُهُمْ الْعَامُّ لِلْقِصَصِ كُلِّهَا، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ افْتَرَاهَا، وَلَكِنَّ هَذَا طَعْنٌ مُفْتَعَلٌ فِي شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ تُحُدُّوا فِيهِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ الْخَاصُّ فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا - فَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ ظَاهِرَةً لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَتَمَّتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَأَقْوَامِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْمُتَّقُونَ، فَأَنْتُمُ النَّاجُونَ الْمُفْلِحُونَ، وَالْمُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْهَالِكُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ. عِلَاوَاتُ التَّفْسِيرِ قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْعِلَاوَةُ الْأُولَى، الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ 44 سَبَقَ لَنَا أَنْ قُلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ، وَمَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُدَبَاءِ الْفُنُونِ فِي التَّحَدِّي بِهِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ يَقِلُّ مَنْ يَفْقَهُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِفَقْدِ أَهْلِهِ مَلَكَتَيِ الْبَلَاغَةِ الذَّوْقِيَّةِ السَّلِيقِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الْفَنِّيَّةِ، بَلْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِإِدْرَاكِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ وَيُدْرِكُ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ جَزَمُوا بِوُقُوعِ الْعَجْزِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ حُذَّاقِ الْفَنَّانِينَ فِي الْوَشْيِ وَالتَّطْرِيزِ إِذَا رَأَوْا صُنْعَ قُدَمَاءِ الْهُنُودِ مِنْ أَهْلِ هُورَ وَكَشْمِيرَ وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُحَاكَاتِهِ، أَوِ الْمُصَوِّرِينَ إِذَا رَأَوْا أَدَقَّ صُوَرِ رَفَائِيلَ فِي تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ بِأَدَقِّ مَنَاظِرِ أَعْضَائِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمَلَامِحِ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَأَمَارَاتِ انْفِعَالَاتِهِ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَقَارِبَةُ: كَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ، وَالْغَضَبِ، وَنَظَرِ الْإِقْرَارِ، وَنَظَرِ الْإِنْكَارِ، وَنَظَرِ الشَّهْوَةِ، وَنَظَرِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَظَرِ الْإِعْجَابِ وَالْعَجَبِ، وَنَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ وَالْمُتَحَيِّرِ، فَقَدْ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُحَاكَاتِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا، بَلْ يَقُولُونَ بِإِمْكَانِهَا وَبِقُرْبِ وُقُوعِهَا بِالْفِعْلِ إِذَا وُجِدَتِ الدَّاعِيَةُ الْقَوِيَّةُ كَمَنْفَعَةٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ تَارِيخِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ حَدَثَتْ لَهُمْ أَعْظَمُ الدَّوَاعِي وَالْمَصَالِحِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَالتَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ فِي الْمُكَرَّرِ وَلَوْ مُفْتَرًى، فَأَيْقَنُوا بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا وَبِهِنَّ، وَلَوْ ظَاهَرَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ عَلَى كَثْرَةِ بُلَغَائِهِمْ وَفُصَحَائِهِمْ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ هَوَاجِسَ تُلَقِّنُهُمُ

الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَكَذَا آلِهَتُهُمُ الْقَادِرُونَ بِخَصَائِصِهِمُ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ بِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِزَعْمِهِمْ، قَدْ عَجَزُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ وَاضْطَرُّوا إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيِّ بِالْقِتَالِ، وَمَا أَعْقَبَهُمْ مِنْ خَسَارَةِ الْمَالِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، ثُمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ احْتِمَالُ الذُّلِّ وَالنَّكَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ عَزَمُوا عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَاسْتَعَدُّوا لَهَا فَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ (وَقِيلَ يَاأَرْضُ) فَتَضَاءَلَتْ قُوَاهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. عَرَفَ بُلَغَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِنَةِ فِي فَصَاحَتِهَا اللَّفْظِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ بُلَغَاءُ الْفُنُونِ بَعْدَهُمْ مِنْهَا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِمَا لِلْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الصُّورِيِّ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَوَازِينِ الْفَنِّيَّةِ وَدَرَجَاتِ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَكَانَ أُولَئِكَ أَدَقَّ شُعُورًا بِمَا لِهَذَا الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْعُقُولِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْجَمَالِ الْبَدَنِيِّ فِي حِسَانِ النِّسَاءِ مَقَايِيسَ وَمَوَازِينَ لِتَنَاسُبِ الْأَعْضَاءِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَالْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهَا، وَأَمَّا الْجَمَالُ الْمَعْنَوِيُّ - وَهُوَ خِفَّةُ الرُّوحِ وَسُلْطَانُ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ - فَلَيْسَ لَهُ مِقْيَاسٌ وَلَا مِيزَانٌ عَشْرِيٌّ يُضْبَطُ بِهِ وَزْنُهُ أَوْ مِسَاحَتُهُ فَيُعْرَفُ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْجَمَّالُ الْأَعْلَى بِمَلَكَةٍ نَفْسِيَّةٍ، لَا بِأَوْزَانٍ صِنَاعِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الطَّيِّبُ فِي الْخَيْلِ: إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ الْقُرْآنُ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا أَحْدَثَ مِنَ الثَّوْرَةِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِانْقِلَابِ الْعَالَمِيِّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَتِهِ لَا الْأَوَّلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي بَابِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ فِي الثَّانِي لَيَشْغَلُ الْمُفَسِّرَ وَالْمُتَدَبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ الْخَاصِّ مِنْهُ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَلِهَذَا نَقْتَصِرُ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِنَا عَلَى مَا قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِاخْتِصَارٍ لَا يَشْغَلُ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا جَعَلْتُ مَا أَحْبَبْتُ بَيَانَهُ فِي بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَنِّيَّةِ عِلَاوَةً مِنْ هَذِهِ الْعِلَاوَاتِ، وَقَدْ أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِيهَا حَتَّى أَفْرَدَهَا بَعْضُهُمْ بِمُصَنَّفَاتٍ خَاصَّةٍ، وَتَكَلَّمَ صَاحِبُ (الطِّرَازِ فِي عُلُومِ الْإِعْجَازِ) عَلَيْهَا فِي 25 صَفْحَةً، وَلَعَلَّهُ أَحْسَنُهُمْ فِيهَا كَلَامًا، وَإِنْ كَانَ السَّكَّاكِيُّ هُوَ السَّابِقُ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً أَوْ وَسَطًا مِنْهُ أَنْقُلُ مِنْهَا هُنَا مَا لَخَّصَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي ((رُوحِ الْمَعَانِي)) مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَغَيْرِهِ بِتَصَرُّفٍ كَعَادَتِهِ قَالَ:

((وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ بَلَغَتْ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِعْجَازِ أَقَاصِيَهَا، وَاسْتَذَلَّتْ مَصَاقِعَ الْعَرَبِ فَسَفِعَتْ بِنَوَاصِيهَا، وَجَمَعَتْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَكَانَتْ مِنْ سَمْهَرِيِّ الْبَلَاغَةِ مَكَانَ السِّنَانِ. ((يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَصَدُوا أَنْ يُعَارِضُوا الْقُرْآنَ فَعَكَفُوا عَلَى لُبَابِ الْبُرِّ وَلُحُومِ الضَّأْنِ وَسُلَافِ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِتَصْفُوَ أَذْهَانُهُمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِيمَا قَصَدُوهُ وَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَرَكُوا مَا أَخَذُوا فِيهِ وَتَفَرَّقُوا. وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ وَكَانَ - كَمَا فِي الْقَامُوسِ - فَصِيحًا بَلِيغًا، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْصَحُ أَهْلِ وَقْتِهِ، رَامَ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ فَنَظَمَ كَلَامًا وَجَعَلَهُ مُفَصَّلًا وَسَمَّاهُ سُوَرًا، فَاجْتَازَ يَوْمًا بِصَبِيٍّ يَقْرَؤُهَا فِي مَكْتَبٍ فَرَجَعَ وَمَحَا مَا عَمِلَ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ أَبَدًا وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَدْعِي أَلَّا يَكُونَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُعْجِزًا، لِمَا أَنَّ حَدَّ الْإِعْجَازِ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى قُدْرَتِهِ قَطْعًا، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ الطَّرَفُ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ، أَعْنِي: مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَجَاوُزُهَا إِيَّاهُ، وَالثَّانِي: مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ، أَعْنِي الْمَرَاتِبَ الْعَلِيَّةَ الَّتِي تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنْهَا أَيْضًا. ((وَمَعْنَى إِعْجَازِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِأَسْرِهَا، هُوَ كَوْنُهَا مِمَّا تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهَا فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ. ((وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضَ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ الْمَهَرَةُ الْمُتْقِنُونَ، وَتَرَكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِفَادَةً لِجَاهِلٍ، وَتَذْكِيرًا لِفَاضِلٍ غَافِلٍ، فَنَقُولُ: جِهَاتُ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْأَرْبَعُ، أَوَّلُهَا جِهَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ: ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ: مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُمَا مَرْجِعَا الْبَلَاغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ - وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الْقَرِينَةِ وَالتَّرْشِيحِ وَالتَّعْرِيضِ - فَهُوَ أَنَّهُ - عَزَّ سُلْطَانُهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا فَارْتَدَّ، وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ، وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا

وَعَدْنَاهُ مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ فَقُضِيَ، وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَوَتْ، وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى - بَنَى سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْمَأْمُورِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - لِكَمَالِ هَيْبَتِهِ مِنَ الْآمِرِ - الْعِصْيَانُ، وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ النَّافِذِ فِي تَكَوُّنِ الْمَقْصُودِ تَصْوِيرًا لِاقْتِدَارِهِ سُبْحَانَهُ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ - تَعَالَى - إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، وَلِمَشِيئَتِهِ فِيهَا تَغْيِيرًا وَتَبْدِيلًا، كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ قَدْ عَرَفُوهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِحُكْمِهِ، وَتَحَتَّمَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ، وَتَصَوَّرُوا مَزِيدَ اقْتِدَارِهِ، فَعَظُمَتْ مَهَابَتُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَضَرَبَتْ سُرَادِقَهَا فِي أَفْنِيَةِ ضَمَائِرِهِمْ، فَكَمَا يُلَوِّحُ لَهُمْ إِشَارَتَهُ - سُبْحَانَهُ - كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا، وَكَمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَمَّمًا، لَا تَلَقِّيَ لِإِشَارَتِهِ بِغَيْرِ الْإِمْضَاءِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَا لِأَمْرِهِ بِغَيْرِ الْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ. ((ثُمَّ بَنَى عَلَى مَجْمُوعِ التَّشْبِيهَيْنِ نَظْمَ الْكَلَامِ فَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: (قِيلَ) عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ هَذَا الْمَجَازِ خِطَابَ الْجَمَادِ وَهُوَ (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ حُصُولُ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْجَمَادِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ كَمَا تَرَى: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) مُخَاطِبًا لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُشَبَّهَ أَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمُرَادَ مِنْهُمَا حُصُولُ أَمْرٍ، وَأُرِيدَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَعْنِي الْمَأْمُورَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعِصْيَانُ ادِّعَاءً بِقَرِينَةِ نِسْبَةِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ وَدُخُولِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيلًا. وَقَدْ يُقَالُ: أَرَادَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ هَهُنَا تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً فِي حَرْفِ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ بِتَعَلُّقِ النِّدَاءِ وَالْخِطَابِ بِالْمُنَادَى الْمُخَاطَبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يَحْسُنُ هَذَا التَّشْبِيهُ ابْتِدَاءً، بَلْ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الْحَمْلَ. ((ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغُئُورِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْبَلْعَ الَّذِي هُوَ إِعْمَالُ الْجَاذِبَةِ فِي الْمَطْعُومِ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ: جَعْلُ الْبَلْعِ مُسْتَعَارًا لِنَشْفِ الْأَرْضِ الْمَاءَ هُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ النَّشْفَ دَالٌّ عَلَى جَذْبٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِمَا عَلَيْهَا كَالْبَلْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ النَّشْفَ فِعْلُ الْأَرْضِ، وَالْغُئُورَ فِعْلُ الْمَاءِ مَعَ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ تَعَدِّيًا. ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ لِلزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ فِي الْغِذَاءِ دُونَ الْمَاءِ. ((وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الِاسْتِعَارَةِ، يَكُونُ (ابْلَعِي)

اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ بِحَسْبَ اللَّفْظِ قَرِينَةً لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ فِي الْمَاءِ عَلَى حَدِّ مَا قَالُوا فِي: (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وَأَمَّا إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَلْعُ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْإِنْبَاتِ فِي: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ. وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ يُحْمَلُ مُسْتَعَارًا لِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ كَمَا فِي: نَطَقَتِ الْحَالُ، فَيُلْزِمُهُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ. ((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلتَّشْبِيهِ الثَّانِي، وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي لَفْظِ (ابْلَعِي) بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ اسْتِعَارَةً لِغُئُورِ الْمَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ أَعْنِي كَوْنَهُ صُورَةَ أَمْرِ اسْتِعَارَةٍ أُخْرَى لِتَكْوِينِ الْمُرَادِ ; وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَمْرَ خِطَابِ تَرْشِيحٍ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْمُنَادَى، فَإِنَّ قَرِينَتَهَا النِّدَاءُ وَمَا زَادَ عَلَى قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ يَكُونُ تَرْشِيحًا لَهَا. وَأَمَّا جَعْلُ النِّدَاءِ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً حَتَّى يَكُونَ خِطَابُ الْآمِرِ تَرْشِيحًا لَهَا فَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. ((ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (مَاءَكِ) بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَاخْتَارَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِأَجْلِ التَّرْشِيحِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مَجَازًا لُغَوِيًّا فِي الْهَيْئَةِ الْإِضَافِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْمِلْكِيِّ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْخِطَابَ تَرْشِيحًا لِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخِطَابَ يَدُلُّ عَلَى صُلُوحِ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَمَا قِيلَ إِنَّ الْمَجَازَ عَقْلِيٌّ وَالْعِبَارَةَ مَصْرُوفَةٌ عَنِ الظَّاهِرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. ((ثُمَّ اخْتَارَ لِاحْتِبَاسِ الْمَطَرِ الْإِقْلَاعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ مَا كَانَ مِنَ الْمَطَرِ أَوِ الْفِعْلِ، فَفِي (أَقْلِعِي) اسْتِعَارَةٌ بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ، وَكَذَا بِاعْتِبَارِ صِيغَتِهِ أَيْضًا، وَهِيَ مُبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمَ النَّافِذَ، وَالْخِطَابُ فِيهِ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مِثْلُ مَا مَرَّ فِي ابْلَعِي. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا) فَلَمْ يُصَرِّحْ - جَلَّ وَعَلَا - بِمَنْ غَاضَ الْمَاءَ، وَلَا بِمَنْ قَضَى الْأَمْرَ وَسَوَّى السَّفِينَةَ، وَقَالَ: بُعْدًا كَمَا لَمْ يُصَرِّحْ - سُبْحَانَهُ - بِقَائِلِ: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) فِي صَدْرِ الْآيَةِ سُلُوكًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ لِسَبِيلِ الْكِنَايَةِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَا يُكْتَنَهُ، قَهَّارٌ لَا يُغَالَبُ، فَلَا مَحَالَّ لِذَهَابِ الْوَهْمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قَائِلًا: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) ، وَلَا غَائِضًا مَا غَاضَ، وَلَا قَاضِيًا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ تَسْوِيَةَ السَّفِينَةِ وَإِقْرَارَهَا بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ. ((وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَيَّنَ لِفَاعِلٍ بِعَيْنِهِ اسْتَتْبَعَ لِذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُهُ وَيُبْنَى الْفِعْلُ لِمَفْعُولِهِ، أَوْ يُذْكَرَ مَا هُوَ أَثَرٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَيُسْنَدَ إِلَى ذَلِكَ الْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ الْفِعْلُ بِمَوْصُوفِهَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ فِي تَقْرِيرِ الْكِنَايَةِ

هُنَا: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ وَبِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَتَعْيِينِهِ لِفَاعِلِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذُكِرَ اللَّازِمُ وَأُرِيدَ الْمَلْزُومُ ; لِمَا أَنَّ (وَاسْتَوَتْ) غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ - كَـ (قِيلَ) ، (وَغِيضَ) . ((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - خَتَمَ الْكَلَامَ بِالتَّعْرِيضِ تَنْبِيهًا لِسَالِكِي مَسْلَكِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ لَا غَيْرَ، خَتَمَ إِظْهَارًا لِمَكَانِ السُّخْطِ وَلِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنَّ قِيَامَةَ الطُّوفَانِ وَتِلْكَ الصُّورَةِ الْهَائِلَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا لِظُلْمِهِمْ، كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَالْوَصْفُ بِالظُّلْمِ مَعَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُعْدَ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ الْقُرْبِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ وَيَكُونُ فِي الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمَعْقُولِ نَحْوُ: ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا 4: 167 وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْهَلَاكِ مَجَازٌ. ((قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ: يُقَالُ: بَعُدَ بُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبُعُدًا بِالتَّحْرِيكِ إِذَا بَعُدَ بُعْدًا بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْهَلَاكِ وَخُصَّ بِدُعَاءِ السُّوءِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْقَامُوسِ بَيْنَ صِيغَتَيِ الْفِعْلِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قَالَ: الْبُعْدُ مَعْرُوفٌ وَالْمَوْتُ وَفِعْلُهُمَا كَكَرُمَ بُعْدًا وَبُعُدًا فَافْهَمْ. ((وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ أُعْطِيَتَا مَا يَعْقِلَانِ بِهِ الْأَمْرَ، فَقِيلَ لَهُمَا حَقِيقَةً مَا قِيلَ، وَأَنَّ الْقَائِلَ (بُعْدًا) نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَوَّلِ أَبْلَغُ. بَلَاغَةُ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي: ((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي وَهُوَ النَّظَرُ فِي فَائِدَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيهَا، وَجِهَةِ كُلِّ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِيمَا بَيْنَ جُمَلِهَا، فَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتِيرَ (يَا) دُونَ سَائِرِ أَخَوَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُعْدِ الْمُنَادَى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقَامُ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ وَإِبْدَاءِ شَأْنِ الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَهُوَ تَبْعِيدُ الْمُنَادَى الْمُؤْذِنِ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَا أَرْضِ بِالْكَسْرِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى نَفْسِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَقْتَضِي تَشْرِيفًا لِلْأَرْضِ وَتَكْرِيمًا لَهَا فَتَرَكَ إِمْدَادًا لِلتَّهَاوُنِ، وَلَمْ يُقَلْ: يَا أَيَّتُهَا الْأَرْضُ! مَعَ كَثْرَتِهِ فِي نِدَاءِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، قَصْدًا إِلَى الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ تَكَلُّفِ التَّنْبِيهِ الْمُشْعِرِ بِالْغَفْلَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِمَا كَالْمُقِلَّةِ وَالْغَبْرَاءِ، وَكَالْمُضِلَّةِ وَالْخَضْرَاءِ ; لِكَوْنِهِمَا أَخْصَرَ وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَوْفَى بِالْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّ تَقَابُلَهُمَا إِنَّمَا اشْتَهَرَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ (ابْلَعِي) عَلَى ابْتَلِعِي ; لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ وَأَوْفَرَ تَجَانُسًا بِـ (أَقْلِعِي) ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ إِنِ اعْتُبِرَتْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَإِلَّا تَقَارَبَا فِيهِ، بِخِلَافِ ابْتَلِعِي، وَقِيلَ: (مَاءَكِ) بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِكْثَارِ الْمُتَأَبِّي عَنْهَا مَقَامُ إِظْهَارِ الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي إِفْرَادِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ ابْلَعِي بِدُونِ الْمَفْعُولِ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ تَرْكُهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ تَعْمِيمِ الِابْتِلَاعِ لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مَقَامِ عَظَمَةِ الْآمِرِ الْمَهِيبِ وَكَمَالِ انْقِيَادِ الْمَأْمُورِ.

((وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَلْعُ الْمَاءِ وَحْدَهُ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِقْلَاعِ إِمْسَاكُ السَّمَاءِ عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ. فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ أَقْلِعِي اخْتِصَارًا وَاحْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ ذِكْرِ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ ; لِأَنَّ مَقَامَ الْكِبْرِيَاءِ وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي رُبَّمَا أَوْهَمَ إِمْكَانَ الْمُخَالَفَةِ، وَاخْتِيرَ وَغِيضَ عَلَى غُيِّضَ الْمُشَدِّدِ لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَقِيلَ: الْمَاءُ دُونَ مَاءِ طُوفَانِ السَّمَاءِ، وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَمْرِ نُوحٍ وَهُوَ إِنْجَازُ مَا وُعِدَ ; لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُغْنِي غَنَاءَ الْإِضَافَةِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَعْهُودِ. ((وَاخْتِيرَ وَاسْتَوَتْ عَلَى ((سُوِّيَتْ)) أَيْ أُقِرَّتْ مَعَ كَوْنِهِ أَنْسَبَ بِأَخَوَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ لِلْمَفْعُولِ، اعْتِبَارًا لِكَوْنِ الْفِعْلِ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِقْرَارِ - أَعْنِي الْجَرَيَانَ - مَنْسُوبًا إِلَى السَّفِينَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) مَعَ أَنَّ وَاسْتَوَتْ أَخْصَرُ مِنْ سُوِّيَتْ، وَاخْتِيرَ الْمَصْدَرُ أَعْنِي بُعْدًا عَلَى لِيَبْعُدَ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ الِاخْتِصَارِ فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْدًا وَحْدَهُ مَنْزِلَةَ: لِيَبْعُدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْهَلَاكِ بِذِكْرِ اللَّامِ، وَإِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَنْ مُقَيَّدَاتِهِ فِي قِمَامِ الْمُبَالَغَةِ يُفِيدُ تَنَاوُلَ كُلِّ نَوْعٍ. فَيَدْخُلُ فِيهِ ظُلْمُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ ظُلْمًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ إِلَيْهِمْ. ((هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْكِيبِ الْكَلِمِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ فَقِيلَ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي) (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ، وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى. قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ لِكَوْنِهَا الْأَصْلَ، نَظَرًا إِلَى كَوْنِ ابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا حَيْثُ فَارَ تَنُّورُهَا أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (وَغِيضَ الْمَاءُ) تَابِعًا لِأَمْرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لِاتِّصَالِهِ بِقِصَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَقُيِّدَ الْمَاءُ بِالنَّازِلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقًا: لِأَنَّ ابْتِلَاعَ الْأَرْضِ مَاءَهَا فُهِمْ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (ابْلَعِي مَاءَكِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمَخْصُوصَ بِالْأَرْضِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا عَلَى وَجْهِهَا فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَبِيلَيْنِ: الْأَرْضِيَّ وَالسَّمَائِيَّ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا نَبَعَ مِنْهَا فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَلِهَذَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَاءَ عَلَى مُطْلَقِهِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّ: وَغِيضَ الْمَاءُ إِخْبَارٌ عَنْ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) ، فَالتَّقْدِيرُ: قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ فَامْتَثَلَا الْأَمْرَ وَنَقَصَ الْمَاءُ.

((وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ، زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْغَيْضِ حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا كَانَتْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِهِ بِهَا بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَلِذَا جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ سَائِرِ الْمِيَاهِ سِوَى الَّذِي بِسَبَبِهِ صَارَتِ الْأَرْضُ مُهَيَّأَةً لِلْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَفَارَ التَّنُّورُ) (40) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّوَغُّلُ فِي تَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَالتَّرْشِيحِ، وَلَوْ أُجْرِيَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا تَكُونُ كَالتَّجْرِيدِ، وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟ ((هَذَا وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَاسْتَلْزَمَ تَعْمِيمَ ابْتِلَاعِ الْمِيَاهِ بِأَسْرِهَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ مِنْ مَقَامِ الْعَظَمَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْكَشْفِ بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ وَرَدُّ يَمِينٍ؟ إِذْ لَا مَعْهُودَ، وَالظَّاهِرُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَافِي التَّرْشِيحَ وَإِضَافَةَ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَاءِ مَنْزِلَةَ الْغِذَاءِ أَنْ تُجْعَلَ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْغِذَاءِ إِلَى الْمُغْتَذِي فِي النَّفْعِ وَالتَّقْوِيَةِ وَصَيْرُورَتِهِ جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّعْمِيمُ فَمَطْلُوبٌ وَحَاصِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ لِانْحِصَارِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِيِّ وَالسَّمَائِيِّ وَقَدْ قُلْتُمْ بِنُضُوبِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ؟ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَغِيضَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ مَاءِ الطُّوفَانِ. ((هَذَا وَالْمُطَابِقُ تَفْسِيرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: فَالْتَقَى الْمَاءُ 54: 12 أَيِ الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ، وَهَاهُنَا تَقَدَّمَ الْمَاءَانِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَاءَكِ) (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ: وَغِيضَ الْمَاءُ رَجَعَ إِلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ لِتَقَدُّمِهِمَا. ثُمَّ إِذَا جُعِلَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْلِعِي خَاصَّةً لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ عَلَى أَصْلِ الْقِصَّةِ، أَعْنِي: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي) كَيْفَ وَفِي إِيثَارِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ زَالَ كَوْنُهُ طُوفَانًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَاءِ غَيْرُ الْإِذْهَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَجْزَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْإِنْبَاعِ وَرَجَعَتْ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالنُّضُوبِ هَذَا الْمَعْنَى أَلْبَتَّةَ اهـ. ((وَزَعَمَ الطَّبَرَسِيُّ أَنَّ أَئِمَّةَ الْبَيْتِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ هُوَ مَا نَبَعَ وَفَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتُلِعَ وَغَاضَ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بِحَارًا وَأَنْهَارًا. ((وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ السَّكَّاكِيِّ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّتِهِ مَا فِيهِ. ((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَتْبَعَ - وَغِيضَ الْمَاءُ - مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ثُمَّ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمَقْصُودِ حَدِيثَ السَّفِينَةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي عَلِمْتَهُ.

مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ: ((هَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ فِي الْآيَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَلَاغَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لَطِيفٌ، وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبِينَةٌ لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ، وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وَجَدْتَ أَلْفَاظَهَا تُسَابِقُ مَعَانِيَهَا، وَمَعَانِيهَا تُسَابِقُ أَلْفَاظَهَا، فَمَا مِنْ لَفْظَةٍ فِيهَا تَسْبِقُ إِلَى أُذُنِكَ، إِلَّا وَمَعْنَاهَا أَسْبَقُ إِلَى قَلْبِكَ. ((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ عَلَى الْعَذَبَاتِ، سَلِسَةٌ عَلَى الْأَسَلَاتِ، كُلٌّ مِنْهَا كَالْمَاءِ فِي السَّلَاسَةِ، وَكَالْعَسَلِ فِي الْحَلَاوَةِ، وَكَالنَّسِيمِ فِي الرِّقَّةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - دَرُّ التَّنْزِيلِ مَاذَا جَمَعَتْ آيَاتُهُ! وَعَلَى تَفَنُّنِ وَاصِفِيهِ بِحُسْنِهِ يَفْنَى الزَّمَانُ وَفِيهِ مَا لَمْ يُوصَفِ ((وَمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ حِيَاضٍ، وَزَهْرَةٌ مِنْ رِيَاضٍ. مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ: ((وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الْأُصْبُعِ أَنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ مَعَ أَنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً، وَذَلِكَ: الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ فِي ابْلَعِي وَأَقْلِعِي، وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا، وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالْمَجَازُ فِي يَا سَمَاءُ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ يَا مَطَرَ السَّمَاءِ، وَالْإِشَارَةُ فِي (وَغِيضَ الْمَاءُ) فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَيَنْقُصُ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْإِرْدَافُ فِي (وَاسْتَوَتْ) وَالتَّمْثِيلُ فِي (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وَالتَّعْلِيلُ فَإِنَّ غَيْضَ الْمَاءِ عِلَّةٌ لِلِاسْتِوَاءِ، وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ، فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَ نَقْصِهِ، وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ عَدْلَهُ - تَعَالَى - يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَحُسْنُ النَّسَقِ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِيجَازُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَصَّ الْقِصَّةِ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، وَالتَّسْهِيمُ ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا، وَالتَّهْذِيبُ ; لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالتَّمْكِينُ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا، وَالِانْسِجَامُ، وَزَادَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي

الْأُصْبُعِ: الِاعْتِرَاضَ، وَزَادَ آخَرُونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّهَا كَكَلَامِ ابْنِ أَبِي الْأُصْبُعِ قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِأُصْبُعِ الِاعْتِرَاضِ. ((وَقَدْ أَلَّفَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ - أَعْلَى اللهُ تَعَالَى دَرَجَتَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ - رِسَالَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَمَعَ فِيهَا مَا ظَهَرَ لَهُ وَوَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَزَايَاهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِائَةً وَخَمْسِينَ مَزِيَّةً، وَقَدْ تَطَلَّبْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِأَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ لَطَائِفِهَا فَلَمْ أَظْفَرْ بِهَا، وَكَأَنَّ طُوفَانَ الْحَوَادِثِ أَغْرَقَهَا، وَلَعَلَّ فِيمَا نَقَلْنَاهُ سَدَادًا مِنْ عَوَزٍ، وَاللهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) انْتَهَى. الْعِلَاوَةُ الثَّانِيَةُ: (حَادِثَةُ الطُّوفَانِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ) بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَحْدَاثَ التَّارِيخِ وَضَبْطَ وَقَائِعِهِ وَأَزْمِنَتِهَا وَأَمْكِنَتِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِصْلَاحِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، بِعَشْرِ جُمَلٍ جَامِعَةٍ لِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ قِصَّةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي سَائِرِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مِنْ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ إِلَّا مَا فِيهِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْهَا، فَذُكِرَتْ فِي بَعْضِهَا بِآيَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بِآيَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ أَطْوَلُهَا وَأَجْمَعُهَا. قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ: وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ، فَهِيَ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَنْسَابِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَتَسَلْسُلِهَا فِي السِّنِينَ الْمَعْدُودَةِ، إِلَى أَنْ تَتَّصِلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَقْصُودِينَ بِالذَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا التَّارِيخُ نَقَضَهُ مِنْ أَسَاسِهِ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ وَمَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ الْإِنْسَانِ الْمُتَحَجِّرَةِ وَغَيْرِهَا. فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ بَيَانُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي سَادِسِهَا خُلِقَ آدَمُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَفْصِيلٌ لِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ غَرَسَ جَنَّةً فِي عَدَنَ شَرْقًا وَوَضَعَ فِيهَا آدَمَ، وَفِي آخِرِهِ ذَكَرَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ الْيُسْرَى، وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ خَبَرُ مَعْصِيَةِ آدَمَ بِأَكْلِهِ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ طَاعَةً لِامْرَأَتِهِ الَّتِي أَغْوَتْهَا الْحَيَّةُ وَحَمَلَتْهَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ تَنَاسُلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَفِي الْخَامِسِ مَوَالِيدُ آدَمَ

إِلَى نُوحٍ وَهُوَ الْبَطْنُ التَّاسِعُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَوِلَادَةِ نُوحٍ 1056 سَنَةً مِنْهَا 930 سَنَةً مُدَّةُ حَيَاةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاسْتَغْرَقَتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ مِنْ 6 - 9 فِي آخِرِ التَّاسِعِ مِنْهَا أَنَّ نُوحًا عَاشَ 950 سَنَةً، وَفِي أَوَّلِ السَّادِسِ بَيَانُ سَبَبِ الطُّوفَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ بِأُسْلُوبِ تِلْكَ الْكُتُبِ الَّتِي تُشَبِّهُ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِنْسَانِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، أَوْ مَا تَكَرَّرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ (1: 26 وَقَالَ اللهُ نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ و27000 فَخَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى) وَهَذَا مَا يَعْنِينَا فِي هَذَا السِّفْرِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ. (6: 5 وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الْإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ 6 فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ 7 فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ الْإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الْإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ لِأَنِّي حَزِنْتُ عَلَيْهِمْ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ 8 وَأَمَّا نُوحٌ فَوُجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ 9 هَذِهِ. مَوَالِيدُ نُوحٍ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ 10 وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةَ بَنِينَ: سَامًا وَحَامًا وَيَافِثَ 11 وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَامْتَلَأَتْ ظُلْمًا 12 وَرَأَى اللهُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الْأَرْضِ 13 فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي لِأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الْأَرْضِ 14 اصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جَفْرٍ إِلَخْ. وَهَاهُنَا وَصَفَ طُولَ الْفُلْكِ وَعَرْضَهُ وَارْتِفَاعَهُ وَبَابَهُ فِي جَانِبِهِ وَطَبَقَاتِهِ الثَّلَاثَ، وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَعَهُ وَهُمُ امْرَأَتُهُ وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَأَزْوَاجُهُمْ الثَّلَاثُ، وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ وَتَحْتَ السَّمَاءِ يَهْلِكُ، وَقَدْ كَرَّرَ ذِكْرَ مَنْ يَدْخُلُ الْفُلْكَ، وَذَكَرَ تَارِيخَ دُخُولِ الْفُلْكِ مِنْ عُمُرِ نُوحٍ، وَمُدَّةَ الْمَطَرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَمِقْدَارَ ارْتِفَاعِ الْفُلْكِ فَوْقَ الْجِبَالِ وَهُوَ 15 ذِرَاعًا، وَبَقَاءَ الْمِيَاهِ عَلَى الْأَرْضِ 150 يَوْمًا. كُلُّ ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ السَّادِسِ وَالسَّابِعِ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ رُجُوعَ الْمِيَاهِ عَنِ الْأَرْضِ بِالتَّدْرِيجِ، وَاسْتِقْرَارَ الْفُلْكِ عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ، وَمَا كَانَ مِنْ خُرُوجِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ السَّفِينَةِ (قَالَ) 8: 20 وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحَرِّقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ 21 فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَى، وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أَلْعَنُ الْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ،

وَلَا أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ 22 مُدَّةُ كُلِّ أَيَّامِ الْأَرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لَا تَزَالُ) . وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مُبَارَكَةُ اللهِ لِنُوحٍ وَبَنِيهِ وَإِكْثَارُهُمْ لِيَمْلَئُوا الْأَرْضَ، وَتَأْمِينُهُمْ مِنْ عَوْدَةِ الطُّوفَانِ بِإِعْطَائِهِمْ مِيثَاقَهُ وَهُوَ قَوْسُ السَّحَابِ، بَلْ جَعَلَهَا أَمَانًا لِكُلِّ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ فِي أَبْنَاءِ نُوحٍ 9، 19 هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الْأَرْضِ) وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ لَعَنَ كَنْعَانَ بْنَ يَافِثَ وَجَعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ عَبِيدًا لِذُرِّيَّةٍ سَامٍ وَحَامٍ لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ جَدِّهِ نُوحٍ إِذْ تَعَرَّى وَهُوَ سَكْرَانُ. هَذِهِ خُلَاصَةُ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا وَلَا أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ، وَلَا أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَافِرٌ غَرِقَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَا امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ كُفْرُهَا قَبْلَ الطُّوفَانِ فَغَرِقَتْ أَمْ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فِي أَنَّ سَبَبَ الطُّوفَانِ غَضَبُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِفَسَادِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَلَكِنْ بِأُسْلُوبِهِ الْمُشَبِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْسَانِ فِي صِفَاتِهِ الْبَاطِنَةِ كَصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ. عُمُرُ نُوحٍ وَتَعْلِيلُ طُولِهِ كَأَعْمَارِ مَنْ قَبْلَهُ: وَيُوَافِقُ الْقُرْآنَ سِفْرُ التَّكْوِينِ تَقْرِيبًا فِي عُمُرِ نُوحٍ وَهُوَ 950 سَنَةً، وَلَكِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَدِ اشْتَبَهَ فِيهَا النَّاسُ مُنْذُ قُرُونٍ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ تَدْوِينِ التَّارِيخِ، كَمَا أَنَّ الْأَيَّامَ وَالسِّنِينَ فِي زَمَنِ التَّكْوِينِ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (22: 47) وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي أَعْمَارِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الطُّوفَانِ أَوْ قَبْلَ مَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ التَّارِيخِ لَا يُقَاسُ بِمَا عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْعُمْرَانِ وَمَعِيشَةَ الْإِنْسَانِ الْفِطْرِيَّةَ كَانَتْ أَسْلَمَ لِلْأَبْدَانِ، وَأَقَلَّ تَوْلِيدًا لِلْأَمْرَاضِ، وَقَوْلُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. سِفْرُ التَّكْوِينِ لَيْسَ مِنْ تَوْرَاةِ مُوسَى: وَسِفْرُ التَّكْوِينِ هَذَا لَيْسَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ فَضْلًا عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ تَابُوتِ الْعَهْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَدْ فُقِدَتْ هِيَ وَالتَّابُوتُ بِحَرِيقِ الْهَيْكَلِ، وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْيَهُودِ قَدْ كُتِبَتْ كُلُّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ فِي سَنَةِ 536 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَقُولُونَ إِنَّ عِزْرَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَجَمَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَيْهِ وَعَمَّ اتِّصَالُهَا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ جَبْرَ ضُومَطَ مُدَرِّسُ الْبَلَاغَةِ فِي الْجَامِعَةِ الْأَمْرِيكَانِيَّةِ بِبَيْرُوتَ أَلَّفَ رِسَالَةً رَجَّحَ فِيهَا أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ

مَأْثُورٌ عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمَّا نَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَثَرٌ تَارِيخِيٌّ قَدِيمٌ لَهُ قِيمَتُهُ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُهَا (كِتَابُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) . الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ نُوحٍ: وَأَمَّا مَا حَشَا الْمُفَسِّرُونَ بِهِ تَفَاسِيرَهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ. وَأَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صُنْعِ السَّفِينَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ الَّذِي رَفَعَتْهُ لِيَنْجُوَ فَغَرِقَ مَعَهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْكَرُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ إِحْيَاءِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَلَبِ الْحَوَارِيِّينَ لِحَامِ بْنِ نُوحٍ وَتَحْدِيثِهِ إِيَّاهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَطَبَقَاتِهَا وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَدُخُولِ الشَّيْطَانِ فِيهَا بِحِيلَةٍ احْتَالَ بِهَا عَلَى نُوحٍ، وَمِنْ وِلَادَةِ خِنْزِيرٍ وَخِنْزِيرَةٍ مِنْ ذَنَبِ الْفِيلِ، وَسِنَّوْرٍ وَسِنَّوْرَةٍ (قَطٍّ وَقِطَّةٍ) مِنْ مَنْخَرِ الْأَسَدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الْمُنَفِّرَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَيَحْيَى وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ يَغْلُو فِي التَّشَيُّعِ وَمَعَ ذَلِكَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. أَقُولُ: وَحَسْبُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ. خَبَرُ الطُّوفَانِ فِي الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ: وَقَدْ وَرَدَ فِي تَوَارِيخِ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ ذِكْرٌ لِلطُّوفَانِ، مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِخَبَرِ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا قَلِيلًا، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَقْرَبُ الرِّوَايَاتِ إِلَيْهِ رِوَايَةُ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ الطُّوفَانُ فِي بِلَادِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُمْ بَرْهُوشَعُ وَيُوسُفُوسُ أَنَّ زَيْزَسْتُرُوسَ رَأَى فِي الْحُلْمِ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ أُوتِيرْتَ أَنَّ الْمِيَاهَ سَتَطْغَى وَتُغْرِقَ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَأَمَرَهُ بِبِنَاءِ سَفِينَةٍ يَعْتَصِمُ فِيهَا هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَخَاصَّةُ أَصْدِقَائِهِ فَفَعَلَ، وَهُوَ يُوَافِقُ سِفْرَ التَّكْوِينِ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ جِيلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ طَغَوْا فِيهَا وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ فَعَاقَبَهُمْ اللهُ بِالطُّوفَانِ، وَقَدْ عَثَرَ بَعْضُ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى أَلْوَاحٍ مِنَ الْآجُرِّ نُقِشَتْ فِيهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالْحُرُوفِ الْمِسْمَارِيَّةِ فِي عَصْرِ أَشُورَ بِانِيبَالَ مِنْ نَحْوِ 660 سَنَةً قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ كِتَابَةٍ قَدِيمَةٍ مِنَ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَهِيَ أَقْدَمُ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ. وَرَوَى الْيُونَانُ خَبَرًا عَنِ الطُّوفَانِ أَوْرَدَهُ أَفْلَاطُونُ، وَهُوَ أَنَّ كَهَنَةَ الْمِصْرِيِّينَ قَالُوا

لِسُولُونَ (الْحَكِيمِ الْيُونَانِيِّ) إِنَّ السَّمَاءَ أَرْسَلَتْ طُوفَانًا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَهَلَكَ الْبَشَرُ مِرَارًا بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لِلْجِيلِ الْجَدِيدِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ مَنْ قَبْلَهُ وَمَعَارِفِهِمْ. وَأَوْرَدَ مَانِيتُونُ خَبَرَ طُوفَانٍ حَدَثَ بَعْدَ هَرْمَسَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ مِينَاسَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَقْدَمُ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ خَبَرُ طُوفَانٍ عَمَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا إِلَّا دُوكَالْيُونَ وَامْرَأَتَهُ بِيرَا فَقَدْ نَجَوْا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْفُرْسِ طُوفَانٌ أَغْرَقَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ بِمَا انْتَشَرَ فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ بِفِعْلِ (أَهْرَيْمَانَ) إِلَهِ الشَّرِّ، وَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطُّوفَانَ فَارَ أَوَّلًا مِنْ تَنُّورِ الْعَجُوزِ (زُولَ كُوفَهْ) إِذْ كَانَتْ تَخْبِزُ خُبْزَهَا فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمَجُوسَ أَنْكَرُوا عُمُومَ الطُّوفَانِ وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ، وَانْتَهَى إِلَى حُدُودِ كُرْدِسْتَانَ. وَكَذَا قُدَمَاءُ الْهُنُودِ يُثْبِتُونَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي شَكْلٍ خُرَافِيٍّ، آخِرُهَا أَنَّ مَلِكَهُمْ نَجَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي سَفِينَةٍ عَظِيمَةٍ أَمَرَهُ بِصُنْعِهَا إِلَهُهُ فِشْنُو وَشَدَّهَا بِالدُّسُرِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى جَبَلِ جِيمَافَاتَ (حِمَلَايَا) وَلَكِنَّ الْبَرَاهِمَةَ كَالْمَجُوسِ يُنْكِرُونَ وُقُوعَ طُوفَانٍ عَامٍّ أَغْرَقَ الْهِنْدَ كُلَّهَا. وَيُرْوَى تَعَدُّدُ الطُّوفَانِ عَنِ الْيَابَانِ وَالصِّينِ وَعَنِ الْبَرَازِيلِ وَالْمَكْسِيكِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عِقَابُ اللهِ لِلْبَشَرِ بِظُلْمِهِمْ وَشُرُورِهِمْ. الْعِلَاوَةُ الثَّالِثَةُ: (هَلْ كَانَ الطُّوفَانُ عَامًّا أَمْ خَاصًّا؟) نَصُّ التَّوْرَاةِ - أَوْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا مُهْلِكًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ مِنْ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ: سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِيهِ خَبَرُهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ 18: 51 أَمَّا قَوْلُهُ فِي نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ وَأَهْلِهِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 37: 77 فَالْحَصْرُ فِيهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضَافِيًّا، أَيِ الْبَاقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (71: 26) فَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ هَذِهِ الْكُرَةُ كُلُّهَا، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ وَفِي أَخْبَارِهِمْ أَنْ تُذْكَرَ الْأَرْضُ وَيُرَادَ بِهَا أَرْضُهُمْ وَوَطَنُهُمْ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ 10: 78 يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، وَقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) (17: 76) فَالْمُرَادُ بِهَا مَكَّةُ، وَقَوْلُهُ:

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ 17: 4 وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ وَطَنَهُمْ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ. وَلَكِنْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ تَدُلُّ - بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ وَالتَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي زَمَنِ نُوحٍ إِلَّا قَوْمُهُ، وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالطُّوفَانِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ فِيهَا غَيْرُ ذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا لَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْيَابِسَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَغِيرَةً لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ وَبِوُجُودِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُلَمَاءَ التَّكْوِينِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجِيَّةِ) يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الشَّمْسِ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً، ثُمَّ صَارَتْ كُرَةً مَائِيَّةً، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهَا الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ (ص 666) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ : فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ: جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ نَابِلْسَ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ: وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي 4 شَوَّالٍ سَنَةَ 1317 هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ: أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا قَوْمُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ، وَأَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ ((وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)) . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (71: 26) وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) (37: 77) وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (11: 43) قَالُوا: هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ - سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ،

وَاسْتَنَدُوا إِلَى حِكَايَاتٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى أَهْلِ الصِّينِ، وَرَغِبْتُمْ مِنَّا بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ كَشْفَ الْغِطَاءِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ، وَالْإِفَادَةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى عُمُومِ الطُّوفَانِ، وَلَا عَلَى عُمُومِ رِسَالَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ سَنَدِهِ - فَهُوَ آحَادٌ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَالْمَطْلُوبُ فِي تَقْرِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الْيَقِينُ لَا الظَّنُّ، إِذْ عُدَّ اعْتِقَادُهَا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينَ. وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُ وَمُرِيدُ الِاطِّلَاعِ فَلَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنَ الظَّنِّ مَا تُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ثِقَتُهُ بِالرَّاوِي أَوِ الْمُؤَرِّخِ أَوْ صَاحِبِ الرَّأْيِ، وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ حَدِّ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَا تُتَّخَذُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى مُعْتَقَدٍ دِينِيٍّ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ فِي نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعُ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَوْضُوعُ خِلَافٍ بَيْنِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَعَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ الْأَرْضِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأَصْدَافِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ. فَظُهُورُهَا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ صَعِدَ إِلَيْهَا مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ، وَيَزْعُمُ غَالِبُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، وَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ يَطُولُ شَرْحُهَا - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَ قَضِيَّةَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِالدِّينِ أَلَّا يَنْفِيَ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّ سَنَدُهَا وَيَنْصَرِفُ عَنْهَا إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَقْطَعُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ الْمُرَادِ، وَالْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ طَوِيلٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ، وَعِلْمٍ غَزِيرٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عُلُومٍ شَتَّى عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَمَنْ هَذَى بِرَأْيِهِ بِدُونِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ فَهُوَ مُجَازِفٌ لَا يُسْمَعُ لَهُ قَوْلٌ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِبَثِّ جَهَالَاتِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ)) اهـ. (أَقُولُ) : خُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا شَامِلًا لِقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأَرْضِ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ الْأَرْضَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْأَصْدَافِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ فِي قُلَلِ الْجِبَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الطُّوفَانِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَكَوُّنِ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، فَإِنَّ صُعُودَ الْمَاءِ إِلَى الْجِبَالِ

أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ. فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا. الْعِلَاوَةُ الرَّابِعَةُ: (فِي غَضَبِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعِقَابِهِمْ بِبَعْضِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِمُنَاسَبَةِ الْقِصَّةِ) بَيَّنَّا أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَذَابًا عَاقَبَ اللهُ بِهِ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ سِفْرِ التَّكْوِينِ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَخْبَارِ الطُّوفَانِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ قَدْ جَاءَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا. وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَاقَبَ غَيْرَ قَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا عَمَّهُمْ وَشَمَلَهُمُ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَشْهَرِهِمْ فِي التَّارِيخِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (29: 40) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ عِقَابِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ هَذِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي عَمَّهَا الْفَسَادُ وَأَنْذَرَهَا الرُّسُلُ وُقُوعَهُ فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَيُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (17: 15) وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28: 58 و59] وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - لَمْ يُغْرِقْهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنَّمَا أَغْرَقَ مَنْ خَرَجُوا مَعَهُ لِإِعَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ. وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا دَعْوَتُهُ هُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَا يُهْلِكُهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهَا الْعَامُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي يُهْلَكُ بِهَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عَمَّهُمُ الْكُفْرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ

وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ)) . وَقَدْ ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَأُمَّةِ الْإِجَابَةِ - خَاصَّةً بِالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ لَا عَامًّا لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعُمُّ أَفْرَادَ مَنْ يَقَعُ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (6: 65) وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَاقِعَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَشْكَالٍ لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ بَشَرٍ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ وَهِيَ عَذَابُ الطَّيَّارَاتِ الْجَوِّيَّةِ، وَالْأَلْغَامِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْغَوَّاصَاتِ الْبَحْرِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ الْأَقْوَامِ إِلَى شِيَعٍ فِي الْعَدَاوَاتِ فَوْقَ الْمَعْهُودِ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. كَذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِثْلَ مَا عُذِّبَ بِهِ الْأَقْوَامُ الْأَوَّلُونَ الْمُجْرِمُونَ الظَّالِمُونَ، مِنَ الطُّوفَانِ الْخَاصِّ وَخَسْفِ الْأَرْضِ وَحُسْبَانِ النَّارِ مِنَ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ، وَشِدَّةِ الْقَيْظِ الْمُحْرِقِ لِلنَّبَاتِ الْقَاتِلِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ فَكَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا فِي صَيْفِ عَامِنَا هَذَا (1353 هـ - 1934 م) فِي أَمْرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ وَلَا سِيَّمَا إِنْكِلْتِرَةُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَالْفُرْسُ وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَخُسِفَتْ بَعْضُ الْأَرْضِ بِالزَّلَازِلِ فِي الْهِنْدِ، وَحَدَثَ فِي مِصْرَ وَسُورِيَّةَ وَالْعِرَاقِ وَشَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ شَيْءٌ مِنَ الْجُوعِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَنَقْصِ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَا يَزَالُ الْقَيْظُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ. وَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُجِيرَ مِصْرَ مِنْ طُغْيَانٍ فِي النِّيلِ كَطُغْيَانِ بَعْضِ أَنْهَارِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ أَخِيرًا وَفَرَنْسَةَ قَبْلَهُمَا، عِقَابًا لَنَا بِظُلْمِ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِنَا وَفِسْقِ الْفَاسِقِينَ مِنْ دَهْمَائِنَا، اللهُمَّ قَدْ كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُكَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَمَنْ يَدْعُوكَ وَحْدَكَ فِي السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ، اللهُمَّ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَأَدِمْ لَنَا هَذَا النِّيلَ رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْ مِنْهُ عُقُوبَةً لِلْأُمَّةِ. اعْتِبَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ وَتَوْبَتُهُمْ رَجَاءَ رَفْعِهَا: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِذَا وَقَعَ عَذَابٌ مِثْلُ هَذَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ اللهَ - تَعَالَى - فَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، كَمَا كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يُوصُونَهُمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ وَاسْتِغْفَارَهُ مِنَ الذُّنُوبِ - وَلَا سِيَّمَا الظُّلْمُ وَالْفِسْقُ - مِنْ أَسْبَابِ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَالرِّزْقِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 11: 3

52

ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (52) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي سُورَتِهِ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (71: 10 - 12) وَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ رِجَالِ الدِّينِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ أَنْ يُذَكِّرُوا النَّاسَ بِغَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِفِسْقِهِمْ وَظُلْمِهِمْ عِنْدَمَا اشْتَدَّ الْقَيْظُ وَمُنِعَ الْمَطَرُ وَاحْتَرَقَتِ الزُّرُوعُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْعَامِّ، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (6: 43 و44) أَيْ: خَائِبُونَ مُتَحَسِّرُونَ أَوْ يَائِسُونَ. وَقَالَ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (8: 32 و33) فَلَمَّا أُخْرِجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ، حَتَّى كَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ وَاسْتَعْطَفَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطَمْئِنَةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (16: 112 و113) وَمَا جَعَلَ اللهُ هَذَا مَثَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، حَتَّى كَانَتْ أَغْنَى عَوَاصِمِ الْأَرْضِ وَقُرَاهَا كَلَنْدَنَ وَبَارِيسَ ذَاقَتْ أَلَمَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (9: 126) . الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِالنَّوَازِلِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَكْثَرَ الظَّالِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَادِّيُّونَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ كَانَ عَامًّا هَلَكَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ نَجَا فِي السَّفِينَةِ، أَوْ خَاصًّا بِقَوْمِ نُوحٍ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ حَدَثَ بِأَسْبَابٍ طَبِيعِيَّةٍ كَمَا حَدَثَ فِي هَذَا الْعَامِ فِي مَوَاضِعَ فِي فَرَنْسَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أُورُبَّةَ وَفِي الْيَابَانِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ فَأَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَأَتْلَفَ مِنَ الْمَبَانِي وَالْمَزَارِعِ مَا قُدِّرَتْ قِيمَتُهُ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطُّوفَانَ الْعَامَّ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْأَرْضِ بَعْدُ، فَإِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ إِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا - عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا - لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِتَكْوِينِ الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ أَكْثَرُهَا مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ ثُمَّ صَارَ يَتَقَلَّصُ

وَتَتَّسِعُ الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِهَذَا الرَّأْيِ، فَفِي كِتَابِ الْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْمُورَ كَانَ مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ بِدَلِيلِ مَا يُوجَدُ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ مِنَ الْأَصْدَافِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ كَقَحْطِ الْمَطَرِ وَانْحِبَاسِهِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ وَغُئُورِهَا، وَشِدَّةِ صَخْدِ الشَّمْسِ وَرَمْضَائِهَا، وَقَدِ اشْتَدَّ هَذَا فِي أَكْثَرِ بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ وَأَمْرِيكَةَ، فَاحْتَرَقَ جُلُّ زَرْعِهِمُ الصَّيْفِيُّ وَهَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، بَلْ مَاتَ بِهِ أُلُوفٌ، مِنْهُمْ مِئَاتٌ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ نِيُويُورْكَ وَحْدَهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثُغُورِ الْعَالَمِ، فَأَكْثَرُ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَامِ فِي سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - بَيْنَ حَرِيقٍ وَغَرِيقٍ جَزَاءً بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ بِمَا أَسْرَفُوا بَعْدَهَا فِي الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ وَإِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْفَاقِ مَا زَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبٍ شَرٍّ مِنْهَا، وَبِاشْتِدَادِ ظُلْمِهِمْ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمُ الرَّسْمِيَّةِ وَغَيْرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا يَعْتَبِرُ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ فَيَتُوبُوا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهَا عَذَابٌ وَلَا نُذُرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ فَأَمْرُهُمْ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْعَالَمِ فَلَا يُسْنِدُونَ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَّا مَا يَجْهَلُونَ لَهُ سَبَبًا مِنْ نِظَامِ الطَّبِيعَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ مَشِيئَةٌ وَحِكْمَةٌ غَيْرَ سَبَبِهِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَتَبَدَّلُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ صَلَاحًا وَفَسَادًا، بَلْ يَعُدُّ الْمَادِّيُّونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِنِظَامِ الْأَسْبَابِ بُرْهَانًا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، وَعَلَى جَهْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَقِّي الْعُلُومِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّ الْمُسْتَحْوِذَ عَلَى عُقُولِهِمْ هُوَ مَا يُسَمُّونَهُ ((نَظَرِيَّةَ الْمِيكَانِيكِيَّةِ)) وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ كَآلَةٍ كَبِيرَةٍ تُدَارُ بِقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ فَيَتَحَرَّكُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِحَرَكَةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِلْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لَهَا كُلِّهَا عِلْمٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَنَقُولُ لَهُمْ: مَنْ أَوْجَدَ الْقُوَّةَ وَمَنْ يُحَرِّكُهَا وَيَحْفَظُ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِيهَا؟ ! وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْعَالَمِ سَبَبًا، وَإِنَّ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَوَامِيسَ وَسُنَنًا، وَإِنَّهَا عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، فَصَحِيحٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةُ، وَأَوَّلُهَا آيَاتُ الْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّتِي يَفْهَمُهَا الْجَمَاهِيرُ بِضِدِّ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَصَائِبِ وَالنِّقَمِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً 8: 25 وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا 17: 20 أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، أَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَصَائِبِ مَشِيئَةً خَاصَّةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً كَقَوْلِهِ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (30: 41) وَقَوْلِهِ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ فِي الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ

قَوْلُهُ: (مَثَلَ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (3: 117) الصِّرُّ بِالْكَسْرِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ أَوِ الْحَرُّ الشَّدِيدُ، وَفِي مَعْنَاهُ مِثْلُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ جَنَّاتِهِمْ بِظُلْمِهِمْ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ عِقَابٌ خَفِيٌّ، وَلَهُ فِيهِمْ لُطْفٌ خَفِيٌّ، فَنَسْأَلُهُ اللُّطْفَ بِنَا. وَإِذَا أَرَادَ اللهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُنْفِذُهُ بِإِبْطَالِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَلَكِنْ بِالتَّرْجِيحِ أَوْ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَهَا كَمَا قَالَ: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى 20: 40 وَلِلَّهِ دَرُّ صَرِيعِ الْغَوَانِي حَيْثُ قَالَ: وَتَوْفِيقُ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (10: 23) [فِي ص 280 ج 11 ط الْهَيْئَةِ] . قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي ثَمَانِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ هُنَا فِي إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِيَاقٌ وَأُسْلُوبٌ وَنَظْمٌ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَسَتَأْتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِأُسْلُوبٍ وَنَظْمٍ وَسِيَاقٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي سُورَتَيِ: ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَ ((الْأَحْقَافِ)) بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَذُكِرَ عِقَابُ قَوْمِهِ (عَادٍ) فِي سُوَرِ: فُصِّلَتْ وَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ هُودًا أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ لِأَوَّلِ أُمَّةٍ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ الْأَبِ الثَّانِي لِلْبَشَرِ، وَبِهَذَا يَكُونُ أَوَّلُ رَسُولٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَرَبِيًّا، وَآخِرُ رَسُولٍ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ عَرَبِيًّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ.

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْمَهُ دَعْوَةَ رَبِّهِ. (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (25) أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ الْأُولَى أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَالْقَوْمِيَّةِ هُودًا (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لِلنَّاسِ رَبُّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِرَافِكُمْ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أَيْ: مَا أَنْتُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ ((إِلَّا مُفْتَرُونَ)) كَذِبًا عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ شُرَكَاءَ، وَتَسْمِيَتِهِمْ شُفَعَاءَ، تَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ أَوْ بِقُبُورِهِمْ أَوْ بِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَرْجُونَ النَّفْعَ وَكَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بِجَاهِهِمْ عِنْدَهُ. (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَالْمُرَادُ: إِنِّي نَاصِحٌ مُخْلِصٌ أَمِينٌ فِي هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا فَتَتَّهِمُونِي بِطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِي (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أَيْ: مَا أَجْرِي الَّذِي أَرْجُوهُ عَلَى تَبْلِيغِكُمْ إِيَّاهُ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي خَلَقَنِي عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْوَثَنِيَّةِ، الَّتِي ابْتَدَعَهَا قَوْمُ نُوحٍ بِتَصْوِيرِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ لِحِفْظِ ذِكْرَاهُمْ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ تَعْظِيمَ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فَعِبَادَتَهَا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) مَا يُقَالُ لَكُمْ فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَأَنَّ الْأَخَ لَا يَغُشُّ إِخْوَتَهُ، وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِغَضَبِ قَوْمِهِ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُ. - (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ بِلَفْظِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) هَذَا الْجَزَاءُ الْأَوَّلُ لِلْأَمْرِ قَبْلَهُ، وَالسَّمَاءُ هُنَا الْمَطَرُ أَوِ السَّحَابُ الْمُمْطِرُ، وَإِرْسَالُهُ إِمْطَارُهُ، وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدُّرُورِ، وَأَصْلُهُ كَثْرَةُ دَرِّ اللَّبَنِ، يُقَالُ: دَرَّتِ الشَّاةُ تَدَرْدُرًا وَدُرُورًا فَهِيَ دَارٌّ (بِغَيْرِ هَاءٍ) . أَيْ كَثُرَ فَيْضُ لَبَنِهَا، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ التَّعْبِيرِ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَثْرَةِ النَّافِعَةِ ; فَإِنَّ بَعْضَهُ قَدْ يَكُونُ ضَارًّا وَقَدْ يَكُونُ عَذَابًا، وَكَانَتْ بِلَادُهُمُ الْأَحْقَافُ (جَمْعُ حِقْفٍ وَهُوَ الرَّمْلُ الْمَائِلُ) شَدِيدَةَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَطَرِ لِزَرْعِهَا وَشَجَرِهَا؛ لِأَنَّ الرَّمْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْجَفَافُ إِذَا قَلَّ الْمَطَرُ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ اللهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ الثَّلَاثَ سِنِينَ فَأَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ وَقَحَطَتْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَطَرِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَادِرَةَ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ اسْتَبْشَرُوا إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُ سَحَابٌ يُمْطِرُهُمْ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (46: 24 و25) ، (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) هَذَا الْجَزَاءُ الثَّانِي لِلْأَمْرِ، وَهُوَ مِمَّا كَانُوا يَطْلُبُونَهُ وَيُعْنَوْنَ بِهِ وَيَفْخَرُونَ عَلَى النَّاسِ، إِذْ كَانُوا قَدْ بُسِطَ لَهُمْ فِي الْأَجْسَامِ وَأُعْطُوا الْقُوَّةَ فِيهَا كَمَا تَرَاهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (41: 15 و16) وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (26: 130) فَيَا لَيْتَ دُوَلَ أُورُبَّةَ الْمُسْتَكْبِرَةَ بِقُوَّتِهَا الَّتِي يُهَدِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَعْتَبِرُ بِهَذَا. وَإِنِّي وَهُمْ أَشَدُّ مِنْ قَوْمِ عَادٍ كُنُوزًا؟ (وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أَيْ لَا تَنْصَرِفُوا مُعْرِضِينَ عَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ الْمَعِيشَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ وَهِيَ جَزَاءُ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْحَقِّ. قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ. هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي رَدِّ قَوْمِهِ لِلدَّعْوَةِ وَجُحُودِهِمْ لِلْبَيِّنَةِ، وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْذَارِهِ لَهُمْ. (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ نَاهِضَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، أَوْ تَرْكًا صَادِرًا عَنْ قَوْلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ وَأَنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنَا (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِمُتَّبِعِينَ لَكَ اتِّبَاعَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ بِرِسَالَتِكَ الَّتِي لَا بَيِّنَةَ لَكَ عَلَيْهَا، وَمَا قَوْلُهُمْ هَذَا إِلَّا جُحُودٌ وَعِنَادٌ، فَإِنَّ حُجَّتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوَافِقَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) أَيْ: مَا نَجِدُ مِنْ قَوْلٍ نَقُولُهُ فِيكَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا أَصَابَكَ بِجُنُونٍ أَوْ خَبَلٍ - وَهُوَ الْهَوَجُ وَالْبَلَهُ - لِإِنْكَارِكَ لَهَا وَصَدِّكَ إِيَّانَا عَنْهَا (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) هَذَا بَدْءُ جَوَابٍ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ مَسَائِلَ:

55

الْأُولَى: الْبَرَاءَةُ مِنْ شِرْكِهِمْ أَوْ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا. (الثَّانِيَةُ) : إِشْهَادُ اللهِ عَلَى ذَلِكَ لِثِقَتِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ فِيهِ - وَإِشْهَادُهُ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ أَيْضًا لِإِعْلَامِهِمْ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ وَبِمَا يَزْعُمُونَ مِنْ قُدْرَةِ شُرَكَائِهِمْ عَلَى إِيذَائِهِ. (الثَّالِثَةُ) : قَوْلُهُ: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) أَيْ فَأَجْمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْكَيْدِ لِلْإِيقَاعِ بِي ثُمَّ لَا تُمْهِلُونِي، وَلَا تُؤَخِّرُوا الْفَتْكَ بِي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، أَيْ أَنَّهُ لَا يَخَافُهُمْ وَلَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ. وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي تَلْقِينِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ تَقْرِيرِ عَجْزِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) (7: 195) وَمِثْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ 10: 71 وَقَدْ قَدَّمَ نُوحٌ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَأَخَّرَهُ هُودٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ (الرَّابِعَةُ) . (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُمْ وَمِنْ آلِهَتِهِمْ، يَقُولُ: إِنِّي وَكَّلْتُ أَمْرَ حِفْظِي وَخِذْلَانِكُمْ إِلَى اللهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ إِذْ هُوَ رُبِّيَ وَرَبُّكُمْ، أَيْ: مَالِكُ أَمْرِي وَأُمُورِكُمُ، الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (مَا مِنْ دَابَّةٍ) تَدِبُّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أَيْ: مُسَخِّرُهَا وَمُتَصَرِّفٌ فِيهَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ - وَهُوَ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرَّأْسِ - تَمْثِيلٌ لِتَصَرُّفِ الْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ الَّذِي لَا مَهْرَبَ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ، وَتَقَدَّمَتِ الْجُمْلَةُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْعَفًا بِالنَّاصِيَةِ) (96: 15) أَيْ: لَنَأْخُذَنَّ بِهَا أَخْذَ الْقَاهِرِ الْمُؤَدِّبِ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ الْفَرَسِ لِيُلْجِمَهُ أَوْ يَرْكَبَهُ، وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ الرَّجُلِ لِيَلْطِمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ اهـ. (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لَا يُسَلِّطُ أَهْلَ الْبَاطِلِ مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ رُسُلِهِ وَمُتَّبِعِيهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَلَا يُضَيِّعُ حَقًّا، وَلَا يَفُوتُهُ ظَالِمٌ. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ وَلَمْ تَنْتَهُوا بِنَهْيِي لَكُمْ عَنِ التَّوَلِّي، وَلَمْ تُطِيعُوا أَمْرِي لَكُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ الْإِشْرَاكِ بِهِ (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أَيْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَلَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْكُمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) إِذَا هُوَ أَهْلَكَكُمْ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ (وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) مَا مِنَ الضَّرَرِ بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (39: 7) وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا أَنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَ رَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أَيْ: قَائِمٌ وَرَقِيبٌ عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ وَالْبَقَاءِ، عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ سُنَّتُهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

58

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَالْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ لِقَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ، (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) عَذَابُنَا أَوْ وَقْتُهُ (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنَّا خَاصَّةٍ بِهِمْ. مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَارِضِ الَّذِي يُصِيبُ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ نُوحٍ لِوَلَدِهِ: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (43) (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) أَعَادَ فِعْلَ التَّنْجِيَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ (مِنَّا) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ (مِنْ) الدَّاخِلَةِ عَلَى الْعَذَابِ. أَيْ: وَإِنَّمَا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ شَدِيدِ الْغِلْظَةِ، فَظِيعٍ شَدِيدِ الْفَظَاعَةِ، غَيْرِ مَعْهُودٍ فِي الْعَالَمِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، الَّتِي لَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وَبِقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (54: 19 و20) وَقَوْلِهِ فِي وَصْفِ هَذِهِ الرِّيحِ الْعَاتِيَةِ: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (69: 7 و8) . (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) أَيْ: كَفَرُوا بِجِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ بِجُحُودِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنْهَا، أَنَّثَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةً إِلَى آثَارِهِمْ، وَالْجُحُودُ بِالْآيَاتِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عِنَادًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أَيْ: عَصَوْا جِنْسَهُمْ بِعِصْيَانِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ ; فَإِنَّ عِصْيَانَ الْوَاحِدِ عِصْيَانٌ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ، إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْضِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا، بِادِّعَاءِ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ بَشَرًا (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أَيْ وَاتَّبَعَ سَوَادُهُمْ وَدَهْمَاؤُهُمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ

60

الْمُسْتَبِدِّينَ فِيهِمْ بِالْقَهْرِ، فَالْجَبَّارُ الْقَاهِرُ الَّذِي يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ بِالْقَهْرِ وَالْإِذْلَالِ، أَوْ مَنْ يَجْبُرُ نَقْصَ نَفْسِهِ بِالْكِبْرِ وَدَعْوَى الْعَظَمَةِ، وَالْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي يَأْبَى الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ بَقَايَا الْمُلُوكِ الْجَبَّارِينَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ؟ (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) إِتْبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: لُحُوقُهُ بِهِ وَإِدْرَاكُهُ إِيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ، أَيْ لَحِقَتْ بِهِمْ لَعْنَةٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَكَانَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكَ آثَارَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ بَلَّغَهُ الرُّسُلُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَبَرَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَتَتْبَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يَلْعَنُ الْأَشْهَادُ الظَّالِمِينَ أَمْثَالَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللهِ: لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) هَذِهِ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، أَيْ: كَفَرُوا نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لِرُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا، يُقَالُ: كَفَرَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَمَعْنَى مَادَّةِ الْكُفْرِ فِي الْأَصْلِ التَّغْطِيَةُ، (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ مِنَ الرَّحْمَةِ حِكَايَةً لِبَدْئِهِ، وَتَسْجِيلًا لِدَوَامِهِ، كَرَّرَ أَلَا الْمُنَبِّهَةَ لِمَا بَعْدَهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَكَرَّرَ اسْمَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِـ قَوْمِ هُودٍ لِيُفِيدَ السَّامِعَ بِالتَّكْرِيرِ تَقْرِيرَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِللَّعْنَةِ وَالْإِبْعَادِ وَسَبَبِهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ لِرَدِّ الدَّعْوَةِ الْمُعَقِّبَةِ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى ضِدِّهِ مِنْ شَقَاءٍ وَنِقْمَةٍ. قِصَّةُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُوَ النَّبِيُّ الرَّسُولُ الثَّانِي مِنَ الْعَرَبِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّتِهِ فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا مَسَاكِنَ قَبِيلَتِهِ ثَمُودَ وَهِيَ: الْحِجْرُ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهَاهِيَ ذِي قَدْ ذُكِرَتْ هُنَا فِي ثَمَانِي آيَاتٍ تُضَاهِي تِلْكَ السَّبْعَ، وَسَتَجِيءُ فِي 19 آيَةً مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَقْصَرَ مِنْ آيَاتِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، ثُمَّ فِي تِسْعٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ تُنَاهِزُ آيَاتِ الْأَعْرَافِ، ثُمَّ فِي تِسْعٍ مِنْ سُورَةِ الْقَمَرِ قِصَارٍ، وَذُكِرَتْ قَبْلَهُنَّ فِي خَمْسٍ مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ، وَبَعْدَهُنَّ فِي خَمْسٍ مِنْ سُورَةِ الشَّمْسِ، وَثَلَاثٍ مِنْ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ، وَثِنْتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَلَا يُغْنِي عَنْهَا غَيْرُهَا.

61

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ وَرَدِّهِمْ لَهَا وَاحْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ. - وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - هَذَا نَصُّ مَا تَقَدَّمَ فِي تَبْلِيغِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: - هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ - أَيْ هُوَ بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِخَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ مِنْهَا مُبَاشَرَةً، ثُمَّ يُخْلَقُ كُلٌّ مِنْكُمْ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ فِي الرَّحِمِ إِلَى عَلَقَةٍ فَمُضْغَةٍ فَهَيْكَلٍ عَظْمِيٍّ يُحِيطُ بِهِ لَحْمٌ هِيَ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ الْغَالِبُ إِمَّا نَبَاتٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِمَّا لَحْمٌ يَرْجِعُ إِلَى النَّبَاتِ فِي طَوْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ - وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا - أَيْ: وَجَعَلَكُمْ عُمَّارًا فِيهَا مِنَ الْعُمْرَانِ، فَقَدْ كَانُوا زُرَّاعًا وَصُنَّاعًا وَبَنَّائِينَ: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ 15: 82 وَقِيلَ: مِنَ الْعُمُرِ، أَيْ أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِعْمَارُ فِي عَصْرِنَا بِمَعْنَى اسْتِيلَاءِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَاسْتِثْمَارِهَا وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا لِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْشِئُ لِخَلْقِكُمْ وَالْمُمِدُّكُمْ بِأَسْبَابِ الْعُمْرَانِ وَالنِّعَمِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَعْبُدُوا فِيهَا غَيْرَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ كُلِّهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ - أَيْ: فَاسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا أَشْرَكْتُمْ وَمَا أَجْرَمْتُمْ، ثُمَّ تُوبُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ ذَنْبٌ أَوْ خَطَأٌ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي دَعْوَةِ هُودٍ قَرِيبًا وَفِي دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ السُّورَةِ - إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ - قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ،

62

مُجِيبٌ لِدُعَاءِ مَنْ دَعَاهُ مُؤْمِنًا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: - وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ 2: 186 فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا الْمُفَصَّلُ هُنَالِكَ. - قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا - أَيْ: قَدْ كُنْتَ مَوْضِعَ رَجَائِنَا لِمُهِمَّاتِ أُمُورِنَا، لِمَا لَكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي بَيْتِكَ وَفِي صِفَاتِكَ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، قَبْلَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ دِينِنَا بِمَا تَزْعُمُ مِنْ بُطْلَانِهِ فَانْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ - أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا -؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا وَاسْتَمَرَّ فِينَا لَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ أَحَدٌ؟ فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ، وَلَوْ قَالُوا: مَا عَبَدَ آبَاؤُنَا لَمَا أَفَادَ هَذَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةٌ مُصَوِّرَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي صُورَةِ الْحَاضِرَةِ - وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ - أَيْ: وَإِنَّا لَوَاقِعُونَ فِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ الشُّفَعَاءِ لَنَا عِنْدَهُ الْمُقَرِّبِينَ لَنَا إِلَيْهِ، وَلَا بِتَعْظِيمِ مَا وَضَعَهُ آبَاؤُنَا لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ، لَا نَدْرِي مُرَادَكَ وَغَرَضَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلرَّيْبِ وَسُوءِ الظَّنِّ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّيْبُ: الظَّنُّ وَالشَّكُّ، وَرَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي إِذَا جَعَلَكَ شَاكًّا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَابَنِي مِنْ فُلَانٍ أَمْرٌ يَرِيبُنِي رَيْبًا: إِذَا اسْتَيْقَنْتُ مِنْهُ الرِّيبَةَ، فَإِذَا أَسَأْتَ بِهِ الظَّنَّ وَلَمْ تَسْتَيْقِنْ مِنْهُ الرِّيبَةَ، قُلْتَ: أَرَابَنِي مِنْهُ أَمَرٌ هُوَ فِيهِ إِرَابَةٌ، وَأَرَابَنِي فُلَانٌ إِرَابَةً فَهُوَ مُرِيبٌ: إِذَا بَلَغَكَ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ تَوَهَّمْتَهُ اهـ. - قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً - تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ 28 إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: - رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ - أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِي مَعَكُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ قَطْعِيَّةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَوَهَبَنِي رَحْمَةً خَاصَّةً مِنْهُ جَعَلَنِي بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَيْكُمْ - فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ - بِكِتْمَانِ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا يَسُوءُكُمْ مِنْ بُطْلَانِ عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمْ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ وَيَدْفَعُ عَنِّي عِقَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَنْ لَا أُبَالِي بِفَقْدِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَلَا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ شَكٍّ وَارْتِيَابٍ فِي أَمْرِي - فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ - أَيْ مَا تَزِيدُونَنِي بِحِرْصِي عَلَى رَجَائِكُمْ فِيَّ وَاتِّقَاءِ سُوءِ ظَنِّكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ، غَيْرَ إِيقَاعٍ فِي الْخُسْرَانِ بِإِيثَارِ مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتِرَاءِ رِضَاكُمْ بِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى -، أَوْ غَيْرِ إِيقَاعٍ فِي الْهَلَاكِ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَخَسَّرَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: أَهْلَكَهُ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَخَسَّرْتُ فُلَانًا بِالتَّثْقِيلِ أَبْعَدْتُهُ، وَخَسَّرْتُهُ: نَسَبْتُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ، مِثْلَ كَذَّبْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، مِثْلُهُ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْجُمْلَةِ: فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ إِلَّا خَسَارًا. انْتَهَى. . . وَلَعَلَّ مُرَادَهُمَا: مَا تَزِيدُونَنِي بِقَوْلِكُمْ إِلَّا عِلْمًا بِخَسَارِكُمْ بِاسْتِبْدَالِ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ.

64

وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيِّنَةِ اللهِ لِصَالِحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ آيَتُهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَإِنْذَارِهِمُ الْهَلَاكَ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا هُمْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ. - وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً - أَيِ: النَّاقَةُ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِهِ بِجَعْلِهَا مُمْتَازَةً دُونَ الْإِبِلِ بِمَا تَرَوْنَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَكْلِهَا وَشُرْبِهَا، أُشِيرَ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا لَكُمْ آيَةً مِنْهُ بَيِّنَةً دَالَّةً عَلَى هَلَاكِكُمْ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيهَا - فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ - مِمَّا فِيهَا مِنَ الْمَرَاعِي لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ بِمَنْعٍ - وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ - أَيْ: لَا يَمَسَّهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ بِأَذًى فَيَأْخُذَكُمْ كُلَّكُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَسِّكُمْ إِيَّاهَا بِعُقْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْإِنْذَارُ بِنَصِّهِ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: عَذَابٌ أَلِيمٌ 7: 73 وَكُلٌّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ حَقٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ هُنَالِكَ عَلَى هَذِهِ النَّاقَةِ وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ (فَيُرَاجَعُ فِي ص 447 و450 مِنْ ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . - فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ - يَقُولُونَ: عَقَرَ النَّاقَةَ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَ قَوَائِمَهَا لَهُ أَوْ نَحْرَهَا، أَيْ فَقَتَلُوا النَّاقَةَ عَقِبَ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ لَهُ وَلَا مُبَالِينَ بِالْوَعِيدِ، فَضَرَبَ لَهُمْ صَالِحٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَوْعِدًا يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فِي وَطَنِهِمْ كَمَا كَانُوا فِي مَعَايِشِهِمْ - ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ - أَيْ: وَعْدٌ مِنَ اللهِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، وَكَذَّبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: كَذَّبَ فُلَانًا حَدِيثًا وَكَذَّبَهُ الْحَدِيثَ أَيْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْوَعْدُ خَبَرٌ مَوْقُوتٌ،

66

كَأَنَّ الْوَاعِدَ قَالَ لِلْمَوْعُودِ: إِنَّنِي أَفِي بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ وَفَى فَقَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبٌ مَصْدَرًا، وَلَهُ نَظَائِرُ كَالْمَفْتُونِ وَالْمَجْلُودِ وَمِنْهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ 68: 6 - فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَاُ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ - أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بِإِنْجَازِ وَعْدِنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ ذُلِّهِ وَنَكَالِهِ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ مِنَ الْوُجُودِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَلَعْنَةِ الْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَصْلُ التَّعْبِيرِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، فَفَصَلَ بَيْنَ (مِنْ) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، وَ (مِنْ) الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِدُونِ إِعَادَةِ فِعْلِ التَّنْجِيَةِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ هُنَاكَ، وَقُدِّرَ هُنَا اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِهِ بِقُرْبِ مِثْلِهِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (58) فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَاءِ - فَلَمَّا - وَتِلْكَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَاءُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ بِالْفَاءَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَوَاقِعِهَا مِنْ أَمْرِ الْإِنْذَارِ فَالْوَعِيدِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْمُخَالِفَةِ فَتَحْدِيدِ مَوْعِدِ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِخْبَارِ بِإِنْجَازِهِ وَوُقُوعِهِ - فَمَا كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الشَّمْسِ: - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا 91: 13 و14 وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا. فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ هَذِهِ الدِّقَّةَ الْغَرِيبَةَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ وَالْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ فِي الْعَطْفِ، فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ أَلْبَتَّةَ، وَلِيَعْذُرَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا إِذَا جَعَلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إِعْجَازُهُ الْعِلْمِيُّ مِنْ وُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ أَعْلَى. - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ - إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ بِقَوْمِكَ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، الْعَزِيزُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: - يَوْمِئِذٍ - بِجَرِّ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: - لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ - 70: 11. - وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ - الْأَخْذُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَفِي الْإِهْلَاكِ، وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَيْحَةُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِقَوْمِ صَالِحٍ فَأَحْدَثَتْ رَجْفَةً فِي الْقُلُوبِ وَزَلْزَلَةً فِي الْأَرْضِ، وَصُعِقَ بِهَا جَمِيعُ الْقَوْمِ - فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَصْعُوقِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، شُبِّهُوا بِالطَّيْرِ فِي لُصُوقِهَا بِالْأَرْضِ. يُقَالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ وَالْأَرْنَبُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) جُثُومًا، وَهُوَ كَالْبُرُوكِ مِنَ الْبَعِيرِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - 7: 87 إِلَخْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا

68

آيَةُ (44) سُورَةِ الذَّارِيَاتِ حَيْثُ قَالَ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ - وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ آيَةُ 17 فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ - وَبَيَّنَّا مَعْنَى الصَّاعِقَةِ الَّذِي عُرِفَ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي نَوْعَيِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ فَيُرَاجَعُ فِي (ص 451 و452 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ قَالَ: إِنَّ " الصَّيْحَةَ " صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. - كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا - هُوَ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ (كَرَضِيَ) إِذَا أَقَامَ فِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَعَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا ألْبَتَّةَ - أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ - تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قَوْمِ هُودٍ، وَفِي ثَمُودَ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مَشْهُورَتَانِ: تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِمَعْنَى الْحَيِّ أَوِ الْقَوْمِ، وَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا. إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - فِي 24 سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي وَطَنِهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بَيَانِ إِمَامَتِهِ وَكَوْنِ مِلَّتِهِ أَسَاسَ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى خَاتَمِهِمْ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَتِهِ بِوَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيلَ فَإِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَمَا وَعَدَهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِإِسْمَاعِيلَ وَقَوْمِهِ الْعَرَبِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِسْكَانِهِ هُنَالِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِإِسْحَاقَ وَإِخْبَارِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) .

69

هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ خَاصَّةٌ بِبِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. - وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى - خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا: 25 أَوْ عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى قِصَّةِ هُودٍ لِتَمَاثُلِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِمْ، فَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَسَبْعَةُ أَمْلَاكٍ مَعَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ. وَسَتُذْكَرُ الْبُشْرَى بَعْدَ التَّحِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ: - قَالُوا سَلَامًا - أَيْ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا، أَوْ ذَكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ - قَالَ سَلَامٌ - أَيْ: أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ مِنَ النَّصْبِ ; فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، أَيْ عَلَى عَادَتِهِ وَدَأْبِهِ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ - فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ - أَيْ: مَا مَكَثَ وَمَا أَبْطَأَ عَنْ مَجِيئِهِ إِيَّاهُمْ بِعِجْلٍ سَمِينٍ حَنِيذٍ: أَيْ مَشْوِيٍّ بِالرَّضْفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَحْمِيَّةُ - وَالْمَشْوِيُّ عَلَيْهَا يَكُونُ أَنْظَفُ مِنَ الْمَشْوِيِّ عَلَى النَّارِ وَأَلَذُّ طَعْمًا، وَقَدِ اهْتَدَى الْبَشَرُ إِلَى شَيِّ اللَّحْمِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى الْحِجَارَةِ الْمَحْمِيَّةِ بِحَرِّ الشَّمْسِ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ لِطَبْخِهِ بِالنَّارِ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ بَعْدَ السَّلَامِ: - فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ - 51: 16 و27 وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ بِدُونِ مُهْلَةٍ كَأَنَّهُ كَانَ مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يَجِيءُ مِنَ الضَّيْفِ، أَوْ شُوِيَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرَيُّثٍ. - فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ - أَيْ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ كَمَا يَمُدُّ الْآكِلُ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ - نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً - نَكِرَ الشَّيْءَ (كَعَلِمَ وَتَعِبَ) وَأَنْكَرَهُ ضِدُّ عَرَفَهُ، أَيْ نَكِرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَوَجَدَهُ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ مِنَ الضَّيْفِ، فَإِنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامِ الْمُضِيفِ إِلَّا لِرِيبَةٍ أَوْ قَصْدٍ سَيِّءٍ، وَأَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْهُمْ وَفَزَعًا، أَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ وَأَضْمَرَهُ إِذْ شَعَرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بَشَرًا، أَوْ أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ وَالْوَجْسِ (كَالْوَعْدِ) الصَّوْتِ الْخَفِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْتَرِي النَّفْسَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْخَوَاطِرِ عِنْدَ الْفَزَعِ - قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ - أَيْ: قَالُوا وَقَدْ عَلِمُوا مَا يُسَاوِرُ نَفْسَهُ مِنَ الْوَجْسِ: لَا تَخَفْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُ بِكَ سُوءًا، وَإِنَّمَا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَلُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ مَكَانُهُ مِنْ مُهَاجَرِهِ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِهِ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ صَارَحَهُمْ بِخَوْفِهِ وَوَجَلِهِ مِنْهُمْ، فَطَمْأَنُوهُ بِأَنَّهُمْ مُبَشِّرُونَ لَهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ 15: 53 وَكَذَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ - قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ 51: 28 وَفِيهَا أَنَّهُ بَعْدَ الْبِشَارَةِ لَهُ سَأَلَهُمْ عَنْ خَطْبِهِمْ وَمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ فَأَخْبَرُوهُ فَجَادَلَهُمْ فِيهِ كَمَا يُذْكَرُ هُنَا مُجْمَلًا. - وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ - وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَائِمَةً أَيْ: وَاقِفَةً -

72

وَلَعَلَّ قِيَامَهَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ - فَضَحِكَتْ. قِيلَ: تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَتْ وَسَمِعَتْ، وَقِيلَ: سُرُورٌ بِالْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ أَوْ بِقُرْبِ عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ لِكَرَاهَتِهَا لِسِيرَتِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَقِيلَ: تَعَجُّبًا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْوَلَدِ، وَهَذَا يَكُونُ أَوْلَى إِنْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ قَبْلَ الضَّحِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَعْدَهُ لِعَطْفِهَا عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَهُوَ - فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ - وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَلَا مُقْتَضَى وَلَا مُصَوِّغَ لَهُ ; لِأَنَّ لِضَحِكِهَا أَسْبَابٌ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا وَزَادَ غَيْرُنَا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ بِشَارَتَهَا كَانَتْ بِالتَّبَعِ لِبِشَارَةِ بَعْلِهَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُوَرِ: الْحِجْرِ، وَالصَّافَّاتِ، وَالذَّارِيَاتِ خَاصًّا بِهِ، أَيْ بَشَّرْنَاهَا بِالتَّبَعِ لِتَبْشِيرِهِ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، يَعْنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ لِإِسْحَاقَ وَلَدٌ أَيْضًا. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ (يَعْقُوبَ) مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تُفَسِّرُهُ قَرِينَةُ الْكَلَامِ كَوَهَبْنَاهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، كَمَا قَالَ: - وَوَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ - 6: 84 وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ. - قَالَتْ يَا وَيْلَتَا - أَصْلُهَا يَا وَيْلِي (كَمَا قَالَ: يَا عَجَبًا بَدَلَ: يَا عَجَبِي) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَمَا يَفْجَأُ الْإِنْسَانَ أَمْرٌ مُهِمٌّ مِنْ بَلِيَّةٍ أَوْ فَجِيعَةٍ أَوْ فَضِيحَةٍ تَعَجُّبًا مِنْهُ أَوِ اسْتِكْبَارًا لَهُ أَوْ شَكْوَى مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النِّسَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَنِسَاءِ مِصْرَ يَقُلْنَ: " يَا دَهْوَتِي " - أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ - عَقِيمٌ لَا يَلِدُ مِثْلُهَا - وَهَذَا بَعْلِي - وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ - كَمَا تَرَوْنَ - شَيْخًا - كَبِيرًا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ - إِنَّ هَذَا - الَّذِي بَشَّرْتُمُونَا بِهِ، - لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَنَّ زَوْجَهُ سَارَةَ هَذِهِ كَانَتِ ابْنَةَ تِسْعِينَ سَنَةً وَمِثْلُهَا لَا يَلِدُ، بَلِ الْغَالِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ فَيَبْطُلُ اسْتِعْدَادُهَا لِلْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عَقِيمًا كَمَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ. فَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْمُعَمِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ لَهُ فِي سِنِّ الْمِائَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ. وَقَدْ حَدَّثَتْنَا صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَجُلٍ تُرْكِيٍّ مِنْهُمْ اسْمُهُ (زَارُو أَغَا) مَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ (1353 هـ) عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا. ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ فِي الْعِرَاقِ قَرِيبٍ مِنْ عُمْرِهِ لَا يَزَالُ حَيًّا وَقَدْ وُلِدَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ سُورِيٍّ مِنْ مَجْدَلِ زَوِينَ التَّابِعِ لِقَضَاءِ صُورَ اسْمُهُ: السَّيِّدُ حُسَيْن هَاشِم عُمْرُهُ 125 سَنَةً بِشَهَادَةِ الْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمُخْتَارِ بَلْدَتِهِ، وَهُوَ لَا يَزَالُ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ جَيِّدَ الصِّحَّةِ قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَوَّلًا وَهُوَ فِي سَنِّ الْعِشْرِينَ، وَثَانِيًا وَهُوَ فِي الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ، رُزِقَ مِنَ الْأُولَى 14 وَلَدًا مِنْهُمْ 12 ذَكَرًا وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَلَدًا وَاحِدًا، وَيَعِيشُ عِيشَةً فِطْرِيَّةً إِسْلَامِيَّةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَارَّةَ عَلِمَتْ مِنْ حَالِ بَعْلِهَا أَنَّهُ بَعْدَ وِلَادَةِ هَاجَرَ لِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ

73

أَوْ بَعِيدٍ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ كَمَا يُعْتَقَدُ أَنَّ مِثْلَهُ فِي تِلْكَ السِّنِّ لَا يُولَدُ لَهُ، فَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْمَلَائِكَةِ: - أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ - 15: 54 وَيَكْفِي فِي خَرْقِ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيلِهَا هِيَ وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا عَلَيْهَا. - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ - هَذَا الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِاسْتِفْهَامِهَا التَّعَجُّبِيِّ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَعْجَبِي مِنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - 36: 82 وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعَجَبُ مِنْ وُقُوعِ مَا يُخَالِفُ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِعُ السُّنَنِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابَ هُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا وَاقِعَةً يَجْعَلُهَا مِنْ آيَاتِهِ ; لِحِكْمَةٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي عِبَادِهِ: - رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ - هَذِهِ جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ اسْتُجِيبَتْ، فَمَعْنَاهُ الَّذِي فَسَّرَهُ الزَّمَانُ إِلَى الْآنِ: رَحْمَةُ اللهِ الْخَاصَّةُ وَبَرَكَاتُهُ الْكَثِيرَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، تَتَّصِلُ وَتَتَسَلْسَلُ فِي نَسْلِكُمْ وَذُرِّيَّتِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا مَحَلَّ لِلْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - أَنْ يَهَبَ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ الْوَلَدَ مِنْكُمَا فِي كِبَرِكُمَا وَشَيْخُوخَتِكُمَا، فَمَا هِيَ بِأَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ وَقَدْ نَجَّاهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ الظَّالِمِينَ، وَآوَاهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَاتُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ، إِرْثٌ أَوْ تَجْدِيدٌ لِمَا هَبَطَ بِهِ نُوحٌ مِنَ السَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْهِ " وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَهُ " كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (48) - إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ - إِنَّهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - مُسْتَوْجِبٌ لِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ، حَقِيقٌ بِأَسْنَى غَايَاتِ الْمَجْدِ، وَبِتَأْثِيلِهِمَا لِأَهْلِ الْبَيْتِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَأَصْلُ الْمَجْدِ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقَعَ إِبِلٌ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةِ الْمَرْعَى، يُقَالُ: مَجَدَتْ تَمْجُدُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) مَجْدًا وَمُجَادَةً، وَأَمْجَدَهَا الرَّاعِي، وَالْمَجْدُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَنْسَابِ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ سَعَةِ كَرَمِ آبَائِهِ وَكَثْرَةِ نَوَالِهِمْ، وَوَصَفَ اللهُ كِتَابَهُ بِالْمَجِيدِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ لِسَعَةِ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، وَسَعَةِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاءَ الصَّلَاةِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ أُمَّتَهُ عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنَ الصَّلَاةِ. فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) . - فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ - أَيْ: فَمَا سُرِّيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَانْكَشَفَ مَا رَاعَهُ مِنَ الْخِيفَةِ وَالرُّعْبِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ،

وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بِالْوَلَدِ وَاتِّصَالِ النَّسْلِ، أَخَذَ يُجَادِلُ رُسُلَنَا فِيمَا أَرْسَلْنَاهُمْ بِهِ مِنْ عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ، جُعِلَتْ مُجَادَلَتُهُمْ وَمُرَاجَعَتُهُمْ مُجَادَلَةً لَهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: - يُجَادِلُنَا - دُونَ (جَادَلَنَا) - وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ، " لَمَّا " أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا - لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالِ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، أَوْ لِتَقْدِيرِ مَاضٍ قَبْلَهُ كَالَّذِي قُلْنَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لِنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ 29: 31 و32. - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَاهٌ مُنِيبٌ - هَذَا تَعْلِيلٌ لِمُجَادَلَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا لَا يُحِبُّ الْمُعَاجَلَةَ بِالْعِقَابِ، كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِمَّا يَسُوءُ وَيُؤْلِمُ، مُنِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ فِي الْآيَةِ (9: 114) . وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا الْمُجْمَلَةُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَجُعِلَتْ فِيهِ مُجَادَلَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ لَا لِرُسُلِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ أَنَّ الرَّبَّ ظَهَرَ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَظَهَرَ لَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَذُكِرَ خَبَرُ ضِيَافَتِهِ لَهُمْ بِالْعِجْلِ وَخُبْزِ الْمِلَّةِ وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا وَبَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ سَارَةَ سَمِعَتْ فَضَحِكَتْ وَتَعَجَّبَتْ، وَعَلَّلَتْ تَعَجُّبَهَا بِكِبَرِهَا وَانْقِطَاعِ عَادَةِ النِّسَاءِ عَنْهَا (13 فَقَالَ الرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟) إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: 22 وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ (يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ) مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ (أَيْ: قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ) وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ 23 فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: أَفَهَلَكَ الْبَارُّ مَعَ الْأَثِيمِ 24 عَسَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَمْسُونَ بَارًا فِي الْمَدِينَةِ، أَفَتُهْلِكُ الْمَكَانَ وَلَا تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْخَمْسِينَ بَارًّا الَّذِينَ فِيهِ؟ (26 فَقَالَ الرَّبُّ: إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ) ثُمَّ كَلَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ هَذَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ فِي عَشَرَةٍ، وَالرَّبُّ يَعِدُهُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا يُهْلِكُ الْقَوْمَ (ثُمَّ قَالَ) 33 وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَكَانِهِ " اهـ فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ الْوَجِيزَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُنَزِّهَةِ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعِبَارَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ فِي تَشْبِيهِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَتَطْوِيلِهَا غَيْرِ الْمُفِيدِ! - يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا - بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ فِي أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَالِاسْتِرْحَامِ لَهُمْ: - إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: إِنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ فِيهِمْ قَدْ قُضِيَ بِمَجِيءِ أَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ - وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ - بِجِدَالٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَهُوَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ.

77

فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كَمَا يَشَاءُونَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ 39: 34 و42: 22 هُوَ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَرُدُّ لَهُمْ طَلَبًا وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُرِيدُ مَا لَا يُرِيدُونَهُ! يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخُلُقِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ جَدُّهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ قِصَّةُ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ: فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ لُوطًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنُ هَارُونَ أَخِي إِبْرَاهِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِمَا (أُورَ الْكَلْدَانِيِّينَ) فِي الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَسَكَنَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلُوطٌ فِي مُدُنِ دَائِرَةِ الْأُرْدُنِّ، وَقَاعِدَتُهَا سَدُومُ، وَيَلِيهَا عَمُّورَةُ فَصَوْغَرُ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا اتِّقَاءَ اخْتِلَافِ رُعْيَانِهِمَا وَإِيقَاعِهِمَا فِي الْخُصُومَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْآخَرِينَ (أَيِ الْعَمِّ وَابْنِ أَخِيهِ) وَكَانَ لُوطٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي سَدُومَ، وَيَظُنُّ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْبَاحِثِينَ أَنَّ بُحَيْرَةَ لُوطٍ قَدْ غُمِرَ مَوْضِعُهَا بَعْدَ الْخَسْفِ فَلَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ بِالضَّبْطِ. وَقِيلَ إِنَّهُ عُثِرَ عَلَى آثَارِهَا فِي هَذَا الْعَهْدِ. وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي إِهْرَاعِ قَوْمِ لُوطٍ إِلَيْهِ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَى ضَيْفِهِ وَسُوءِ حَالِهِ مَعَهُمْ - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا - بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ - سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا -

78

أَيْ: وَقَعَ فِيمَا سَاءَهُ وَغَمَّهُ بِمَجِيئِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعُهُ أَيْ عَجَزَ عَنِ احْتِمَالِ ضِيَافَتِهِمْ، فَذَرْعُ الْإِنْسَانِ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ الَّتِي يَحْمِلُهَا بِمَشَقَّةٍ ; ذَلِكَ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنَ اعْتِدَاءِ قَوْمِهِ عَلَيْهِمْ كَعَادَتِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ بِشَكْلِ غِلْمَانٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ - وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ - شَدِيدُ الْأَذَى، مَرْهُوبُ الشَّذَى، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَصْبِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيِ الشَّدُّ فَهُوَ بِمَعْنَى مَعْصُوبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَاصِبٍ، وَالْعَصَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَطْنَابُ الْمَفَاصِلِ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الرَّأْسُ. - وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ - أَيْ جَاءُوهُ يُهَرْوِلُونَ مُتَهَيِّجَةٌ أَعْصَابُهُمْ، كَأَنَّ سَائِقًا يَسُوقُهُمْ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: هُرِعَ وَأُهْرِعَ بِالْبِنَاءِ فِيهِمَا لِلْمَفْعُولِ إِذَا أُعْجِلَ عَلَى الْإِسْرَاعِ، أَيْ حُمِلَ عَلَى الْعَجَلِ بِهِ اهـ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَكُونُ الْإِهْرَاعُ إِلَّا إِسْرَاعًا مَعَ رِعْدَةٍ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَضَبٍ، أَوْ حُمَّى اهـ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ شَهْوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْعَدْوِ: - وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ - وَمِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَجِيءِ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَشَرُّهَا أَفْظَعُ الْفَاحِشَةِ وَأَنْكَرُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَضْعِيَّةِ، وَهِيَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَمُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا فِي أَنْدِيَتِهِمْ كَأَنَّهَا مِنَ الْفَضَائِلِ يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهَا وَيَتَبَارَوْنَ فِيهَا، كَمَا حَكَى الله عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ رَمْيِهِمْ بِالْفَاحِشَةِ: - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ - 29: 29 فَمَاذَا فَعَلَ لُوطٌ وَلِمَ وَاجَهَهُمْ وَعَارَضَهُمْ؟ - قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ - فَتَزَوَّجُوهُنَّ، قِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَأَنَّهُ سَمَحَ بِتَزْوِيجِهِمْ بِهِنَّ بَعْدَ امْتِنَاعٍ لِصَرْفِهِمْ عَنْ أَضْيَافِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَ قَوْمِهِ فِي جُمْلَتِهِنَّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ فِي قَوْمِهِ كَالْوَالِدِ فِي عَشِيرَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ نِسَاؤُهُمُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ وَغَيْرُهُنَّ مِنَ الْمُعَدَّاتِ لِلزَّوَاجِ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِالزَّوَاجِ أَطْهَرُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِرِجْسِ اللِّوَاطِ ; فَإِنَّهُ يَكْبَحُ جِمَاحَ الشَّهْوَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الطُّهْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَقُولُ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ: إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّذِي هَاجَتْ فِيهِ شَهْوَتُهُمْ وَاشْتَدَّ شَبَقُهُمْ أَنْ يَأْتُوا نِسَاءَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ لِمَنْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هَاجَتْهُ فِيهَا رُؤْيَتُهَا. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَضَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُجْرِمِينَ بَنَاتَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ كَمَا يَشَاءُونَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (19: 8) وَفِيهِ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَيِّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَا يَصِحُّ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَطْهَرُ لَهُمْ، فَغَسْلُ الدَّمِ بِالْبَوْلِ لَيْسَ مِنَ الطَّهَارَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى هَذَا الْفِعْلِ، بَلِ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَكْبَرُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِيثَارًا لِلتَّجَمُّلِ الشَّخْصِيِّ، وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ قَوْلِهِ لَهُمْ بَعْدَهُ - فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي -

79

فَإِنَّ الزِّنَا لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى بَلْ هُوَ هَدْمٌ لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَأَجْمِعُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ بَيْنَ تَقْوَى اللهِ بِاجْتِنَابِ الْفَاحِشَةِ، وَبَيْنَ حِفْظِ كَرَامَتِي وَعَدَمِ إِذْلَالِي وَامْتِهَانِي بِفَضِيحَتِي فِي ضَيْفِي، فَإِنَّ فَضِيحَةَ الضَّيْفِ فَضِيحَةٌ لِلْمُضِيفِ وَإِهَانَةٌ لَهُ. وَلَفْظُ الضَّيْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ: - أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ - ذُو رُشْدٍ يَعْقِلُ هَذَا فَيُرْشِدَكُمْ إِلَيْهِ؟ - قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ - فَإِنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْنَا فِي دِينِكَ، أَوْ يَعْنُونَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ الذُّكُورِ مُسْتَشْهِدِينَ بِعِلْمِهِ بِهِ تَهَكُّمًا، أَوِ الْحَقُّ هُنَا الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَاجَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فِي تَزَوُّجِهِنَّ فَتَصْرِفَنَا بِعَرْضِهِنَّ عَلَيْنَا عَمَّا نُرِيدُهُ، أَوْ لَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي لَنَا فِي نِسَائِنَا اللَّوَاتِي تُسَمِّيهِنَّ بَنَاتَكَ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَعَهُنَّ، فَلَا مَعْنَى لِعَرْضِكَ إِيَّاهُنَّ عَلَيْنَا لِصَرْفِنَا عَمَّا نُرِيدُهُ - وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ - مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالذُّكْرَانِ، وَأَنَّنَا لَا نُؤْثِرَ عَلَيْهِ شَيْئًا. أَيْ: تَعْرِفُ ذَلِكَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَا تَرْتَابُ فِيهِ، فَلِمَ تُحَاوِلُ صَدَّنَا عَنْهُ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ فَمَاذَا فَعَلَ؟ . - قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً - أَيْ: قَالَ لُوطٌ لِأَضْيَافِهِ حِينَئِذٍ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً تُقَاتِلُ مَعِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَتَدْفَعُ لَقَاتَلْتُهُمْ، أَوْ أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَلْقَاهُمْ بِهَا، أَوْ قَالَ هَذَا لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَوْ قَوِيتُ عَلَيْكُمْ بِنَفْسِي - أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - مِنْ أَصْحَابِ الْعَصَبِيَّاتِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يَحْمُونَ اللَّاجِئِينَ وَيُجِيرُونَ الْمُسْتَجِيرِينَ (كَزُعَمَاءِ الْعَرَبِ) تَمَنَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فَيَعْتَزُّ بِهِمْ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ قَوْمَهُ بِمَعْنَى أَهْلِ جِوَارِهِ وَوَطَنِهِ الْجَدِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَرِيبٌ جَاءَ مَعَ عَمِّهِ مِنْ أَوْرِ الْكَلْدَانِيِّينَ فِي الْعِرَاقِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَقَدْ رَأَوْا شِدَّةَ كَرْبِهِ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ حَالُهُ وَهُوَ: قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.

81

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ. - قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ - مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَرْسَلَنَا لِتَنْجِيَتِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ - لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ - بِسُوءٍ فِي نَفْسِكَ وَلَا فِينَا، وَحِينَئِذٍ طَمَسَ اللهُ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ لُوطًا وَلَا مَنْ مَعَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: - وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ - 54: 37 فَانْقَلَبُوا عُمْيَانًا يَتَخَبَّطُونَ: - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ - أَيْ: فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْقُرَى مَصْحُوبًا بِأَهْلِكَ بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ تَكْفِي لِتَجَاوُزِ حُدُودِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. وَالسُّرِيُّ (بِالضَّمِّ) وَالْإِسْرَاءِ فِي اللَّيْلِ كَالسَّيْرِ فِي النَّهَارِ، قُرِئَ (أَسْرِ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا مِنْهُمَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: - فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 51: 35 و36، - وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ - إِلَى مَا وَرَاءَهُ لِئَلَّا يَرَى الْعَذَابَ فَيُصِيبَهُ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ - وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ - 15: 65 وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: - إِلَّا امْرَأَتَكَ - وَكَانَتْ كَافِرَةً خَائِنَةً ضِلْعُهَا مَعَ الْقَوْمِ - إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ - أَيْ مَقْضِيٌّ هَذَا عَلَيْهَا فَهُوَ وَاقِعٌ لَابُدَّ مِنْهُ، قُرِئَ " امْرَأَتَكَ " بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ، - إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ - أَيْ: مَوْعِدَ عَذَابِهِمْ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَنْتَهِي بِشُرُوقِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ 15: 73 وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِسْرَاءِ بِبَقِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا قُلْنَا: - أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ - أَيْ: مَوْعِدٍ قَرِيبٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْجُو فِيهَا بِأَهْلِكَ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَجَوَابٌ عَنِ اسْتِعْجَالِ لُوطٍ لِهَلَاكِهِمْ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُجْتَمِعِينَ فِيهِ فِي مَسَاكِنِهِمْ فَلَا يَلْفِتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ. - فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا - أَيْ: عَذَابُنَا أَوْ مَوْعِدُهُ - جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا - أَيْ: قَلَبْنَا أَرْضَ هَا أَوْ قُرَاهَا كُلَّهَا وَخَسَفْنَا بِهَا الْأَرْضَ، وَسُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَسْفِ الْأَرْضِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ أَنْ يُحْدَثَ تَحْتَهَا فَرَاغٌ بِقَدْرِهَا، بِسَبَبِ تَحَوُّلِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي فِي جَوْفِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَنْقَلِبَ مَا فَوْقَهُ إِمَّا مُسْتَوِيًا وَإِمَّا مَائِلًا إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِنْ كَانَ الْفَرَاغُ تَحْتَهُ أَوْسَعَ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ عَالِيهَا سَافِلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا؛ أَنَّ مَا كَانَ سَطْحًا لَهَا هَبَطَ وَغَارَ فَكَانَ سَافِلَهَا وَحَلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْيَابِسَةِ الْمُجَاوِرَةِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ أَنَّ قُرَى لُوطٍ الَّتِي خُسِفَ بِهَا تَحْتَ الْمَاءِ الْمَعْرُوفِ بِبَحْرِ لُوطٍ أَوْ بُحَيْرَةِ لُوطٍ، وَقِيلَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ أَنَّ الْبَاحِثِينَ عَثَرُوا عَلَى بَعْضِ آثَارِهَا كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا - أَيْ: قَبْلَ الْقَلْبِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُصِيبَ الشُّذَّاذَ الْمُتَفَرِّقِينَ مِنْ أَهْلِهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ - لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ - 51: 33 فَالْمُرَادُ إِذًا حِجَارَةٌ مِنْ مُسْتَنْقَعٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُهَا حَجَرٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْلُ الْحِجَارَةِ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ، وَالْمَعْقُولُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الرَّاغِبِ: السِّجِّيلُ: حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ أَصْلُهُ

82

فَارِسِيٌّ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَصْلُهُ سِجِّينٌ فَأُبْدِلَتْ نُونُهُ لَامًا. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنْ صَحَّ يَكُونُ مِنْ بُرْكَانٍ مِنَ الْبَرَاكِينِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَطَرِ يَحْصُلُ عَادَةً بِإِرْسَالِ اللهِ إِعْصَارًا مِنَ الرِّيحِ يَحْمِلُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ أَوِ الْأَنْهَارِ فَتُلْقِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِتَدْبِيرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْضِ - مَنْضُودٍ - أَيْ مُتَرَاكِبٍ بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ يَقَعُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ - مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ - لَهَا سُومَةٌ، أَيْ عَلَامَةٌ خَاصَّةٌ فِي عِلْمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَيْ أَمْطَرْنَاهَا خَاصَّةً بِهَا لَا تُصِيبُ غَيْرَ أَهْلِهَا، أَوْ هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَوَّمْتُ فُلَانًا فِي مَالِي أَوْ فِي الْأَمْرِ إِذَا حَكَّمْتُهُ فِيهِ وَخَلَّيْتُهُ وَمَا يُرِيدُ، لَا تُثْنَى لَهُ يَدٌ فِي تَصَرُّفِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى الْآنَ مِنْ مُرَاجَعَةِ مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهَا فِي إِهْلَاكِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّتِي أَمَدَّ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ - مُسَوِّمِينَ - 3: 125 وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْرِفِينَ أَنَّ هَذَا التَّسْوِيمَ كَانَ حِسِّيًّا بِخُطُوطٍ فِي أَلْوَانِهَا، وَأَمْثَالِ الْخَوَاتِيمِ عَلَيْهَا، أَوْ بِأَسْمَاءِ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ وَلَا نَصَّ، وَمَا قُلْنَاهُ مَفْهُومٌ مِنَ اللَّفْظِ، وَمَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ. - وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ - أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الْقُرَى أَوِ الْأَرْضُ الَّتِي حَلَّ بِهَا الْعَذَابُ الْمُخْزِي بِمَكَانٍ بَعِيدِ الْمَسَافَةِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِكَ وَالتَّمَّارِي بِنُذُرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلْ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ وَاقِعَةٌ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقَيْنِ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرَنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ 15: 73 - 76 أَيْ فِي طَرِيقٍ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِهِمْ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 37: 137 و138 قَالَ الْجَلَالَ: - وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ - عَلَى آثَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي أَسْفَارِكُمْ - مُصْبِحِينَ - أَيْ: وَقْتَ الصَّبَاحِ، يَعْنِي بِالنَّهَارِ - وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - مَا حَلَّ بِهِمْ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ. انْتَهَى. وَالتَّعْبِيرُ بِصِفَةِ الظَّالِمِينَ وَكَوْنِ الْعُقُوبَةِ آيَةً مُرَادَةً لَا مُصَادِفَةً، يَجْعَلُ الْعِبَارَةَ عِبْرَةً لِكُلِّ الْأَقْوَامِ الظَّالِمَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَكَثْرَتِهِ وَعُمُومِهِ وَمَا دُونَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ نَزَلَتْ بِهِمْ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، أَوْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَقَدَّمَ هَذَا مَنْ قَدَّمَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَخَّرَ مَا قُلْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُؤَيِّدُهُ شَوَاهِدُ الْقُرْآنِ. وَفِي خُرَافَاتِ الْمُفَسِّرِينَ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَلَعَهَا مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ بِجَنَاحِهِ، وَصَعِدَ بِهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ الْكِلَابِ وَالدَّجَاجِ فِيهَا، ثُمَّ قَلَبَهَا قَلْبًا مُسْتَوِيًا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهَذَا تَصَوُّرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ مُتَصَوِّرِهِ أَنَّ

الْأَجْرَامَ الْمَأْهُولَةَ بِالسُّكَّانِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَبْقَوْنَ أَحْيَاءً. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا فِيهَا، أَنَّ الطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدَ الَّتِي تُحَلِّقُ فِي الْجَوِّ تَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَخِفُّ ضَغْطُ الْهَوَاءِ وَيَسْتَحِيلُ حَيَاةُ النَّاسِ فِيهَا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ أَنْوَاعًا مِنْهَا يَضَعُونَ فِيهَا مِنْ أُوكْسِجِينِ الْهَوَاءِ مَا يَكْفِي اسْتِنْشَاقُهُ وَتَنَفُّسُهُ لِلْحَيَاةِ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَصْعَدُونَ فِيهَا، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِلَى مَا يَكُونُ لِلتَّصْعِيدِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مِنْ عُسْرِ التَّنَفُّسِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ 6: 125. (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ: (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لِقَبُولِ الرِّوَايَةِ فِي أَمْرٍ جَاءَ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ اللهُ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ مِنْ عُمْرَانٍ وَخَرَابٍ، أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ لَا شُذُوذَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ اللهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِيهَا أَنَّ عَدَدَ أَهْلِهَا كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَبِلَادُ فِلَسْطِينَ كُلُّهَا لَا تَسَعُ هَذَا الْعَدَدَ فَأَيْنَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَايِينُ يَسْكُنُونَ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْأَرْبَعِ؟ وَهَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُشَوَّهَةُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عِنْدَ بَاثِّيهَا مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ فِي تَوْرَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُ مَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ بِلُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْمِهِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ بِصُورَةِ رَجُلَيْنِ ضَرَبَا بِالْعَمَى جَمِيعَ قَوْمِهِ وَقَالَا لَهُ: أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ أَخْرِجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّنَا مُهْلِكَانِ أَهْلَ هَذَا الْمَكَانِ ; إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ) فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الْآخِذِينَ بَنَاتَهُ وَقَالَ قُومُوا وَاخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ لِأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ، وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلَاكَانِ يُعَجِّلَانِ لُوطًا قَائِلِينَ: قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلَّا تَهْلَكُ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَاهُ وَدَفَعَاهُ إِلَى مَدِينَةٍ اسْمُهَا صَوْغَرُ وَوَعَدَاهُ بِعَدَمِ إِهْلَاكِهَا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَبِنْتَاهُ، وَأَمَرَاهُ بِأَلَّا يَنْظُرَ وَرَاءَهُ (ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صَوْغَرَ فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُّورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُلِبَتْ تِلْكَ الْمُدُنُ وَكُلُّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتُ الْأَرْضِ، وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ، وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى

84

الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ الدَّائِرَةِ، وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ الْأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ الْأَتُونِ) . وَمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا ابْنَتَانِ لَهُ. وَقَدْ خَتَمَ الْفَصْلَ بِمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ كَغَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَتَيْ لُوطٍ النَّاجِيَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا، وَأَنَّهُمَا أَسْكَرَتَا أَبَاهُمَا بِالْخَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَبَاتَتَا مَعَهُ فَحَمَلَتَا مِنْهُ، وَوَلَدَتَا أَوْلَادًا وَبَقِيَ نَسْلُهُمَا مِنْهُ مُتَسَلْسِلًا. يَقُولُ الْكَاتِبُ: (إِلَى الْيَوْمِ) وَهُمُ الْمُوَابِيُّونَ وَبَنُو عَمُونَ! فَمَنْ كُتَبَ هَذَا وَمَتَى كَتَبَهُ؟ هَذَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، وَكُلُّ مَا خَالَفَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ. قِصَّةُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ قَوْمِهِ: تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْآيَةِ 85 - 93، وَهَا هِيَ ذِي نُسِّقَتْ هُنَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ آيَةً مِنَ الْآيَةِ 84 - 95، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالتَّعَارُضِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَسَبِهِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَتُرَاجَعَ فِي (ص 468 - 471 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) . وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) . هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ شُعَيْبٍ قَوْمَهُ الدَّعْوَةَ وَهِيَ: الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَشَدِّ الرَّذَائِلِ فُشُوًّا فِيهِمْ، وَالْأَمْرُ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي تُقَابِلُهَا. - وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا - مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِثْلُهُ، أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا - قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ

وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ - مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فَيُعْبَدُ، وَهَذَا مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَالَ: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فِيمَا تَكِيلُونَ وَمَا تَزِنُونَ مِنَ الْمَبِيعَاتِ كَمَا هِيَ عَادَتُكُمْ، وَكَانُوا تُجَّارًا مُطَفِّفِينَ - إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - 83: 2 و3 أَيْ: يُنْقِصُونَ، - إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ - أَيْ بِثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ فِي الرِّزْقِ، يَجِبُ أَنْ تَرْفَعَ أَنْفُسَكُمْ عَنْ دَنَاءَةِ بَخْسِ حُقُوقِ النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، بِمَا تُنْقِصُونَ مِنَ الْمَبِيعِ لَهُمْ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ. وَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْغِنَى وَالسَّعَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ شُكْرُهَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ النُّقْصَانِ - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ - أَيْ: عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِكُمْ إِذَا أَنْتُمْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ بِاللهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَكَفْرِكُمْ بِنِعَمِهِ بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْيَوْمُ يَصْدُقُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. - وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ - لَا يَنْسَيَنَّ الْقَارِئُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ تَكْرَارِ النِّدَاءِ بِلَقَبِ " قَوْمِي " مِنَ الِاسْتِعْطَافِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْوَاجِبِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لِتَأْكِيدِهِ، وَتَنْبِيهٌ لِكَوْنِ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لِلنَّقْصِ لَا يَكْفِي لِتَحَرِّي الْحَقِّ، بَلْ يَجِبُ مَعَهُ تَحَرِّي الْإِيفَاءِ بِالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَإِنْ كَانَتِ الثِّقَةُ بِهِ لَا تَحْصُلُ أَوْ لَا تُتَيَقَّنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ، فَهِيَ قَدْ تَدْخُلُ فِي بَابِ " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ". وَتَعَمُّدُهَا فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ لِلنَّاسِ سَخَاءٌ فَهُوَ فَضِيلَةٌ مَنْدُوبٌ، وَفِي الِاكْتِيَالِ أَوِ الْوَزْنِ عَلَيْهِمْ طَمَعٌ فَهُوَ رَذِيلَةٌ مَحْظُورٌ - وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ - هَذَا أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَهُ، فَإِنَّ الْبَخْسَ يَشْمَلُ النَّقْصَ وَالْعَيْبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: بَخَسَهُ - مِنْ بَابِ نَفَعَ - حَقَّهُ وَبَخَسَهُ مَالَهُ وَبَخَسَهُ عِلْمَهُ وَفَضْلَهُ. وَالْأَشْيَاءُ جَمْعُ شَيْءٍ وَهُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَجَمْعُهُ يَشْمَلُ مَا لِلْأَفْرَادِ وَمَا لِلْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ وَمَحْدُودٍ بِحُدُودِ الْحِسِّيَّةِ وَمِنْ حُقُوقٍ مَادِّيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا وَبَيَّنَّا الْعِبْرَةَ فِيهِ بِتَعَامُلِ أَهْلِ الشَّرْقِ مَعَ أَهْلِ الْغَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (7: 85) فَتُرَاجَعْ فِي (ص 472 وَمَا بَعْدَهَا ج8 ط الْهَيْئَةِ) . - وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - أَيْ: وَلَا تُفْسِدُوا فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَعَمِّدِينَ لِلْإِفْسَادِ، يُقَالُ: عَثِيَ يَعْثَى (كَرَضِيَ يَرْضَى) عِثِيًّا بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - وَعَثَا يَعْثُو (كَغَزَا يَغْزُو) عُثُوًّا بِضَمَّتَيْنِ وَالتَّشْدِيدُ أَيْضًا - أَفْسَدَ، وَهَذَا نَهْيٌ آخَرُ عَامٌّ يَشْمَلُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، كَقَطْعِ الطُّرُقِ وَتَهْدِيدِ الْأَمْنِ وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ، وَقَيْدِهِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا هُوَ إِفْسَادٌ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِصْلَاحُ أَوْ دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، كَالَّذِي يَقَعُ فِي الْحَرْبِ مِنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ، أَوْ فَتْحِ سُدُودِ الْأَنْهَارِ، أَوْ إِحْرَاقِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالنَّارِ، وَمِنْهُ خَرْقُ الْخَضِرِ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي كَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ لِمَنْعِ الْمَلِكِ الظَّالِمِ الَّذِي وَرَاءَهُمْ

86

مِنْ أَخْذِهَا إِذَا أَعْجَبَتْهُ. وَالْإِفْسَادُ: تَعْطِيلٌ يَشْمَلُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا، وَصِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَهَا، وَأُمُورَ الدِّينِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ فَاشِيَّةٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ. - بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ - أَيْ: مَا يَبْقَى لَكُمْ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ مِنَ الرِّبْحِ الْحَلَالِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا تَأْخُذُونَهُ بِالتَّطْفِيفِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَرَامِ، أَوْ - بَقِيَّةُ اللهِ - الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رِزْقُ اللهِ، وَمُجَاهِدٌ: طَاعَةُ اللهِ، وَالرَّبِيعُ: وَصِيَّةُ اللهِ، وَالْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَةُ اللهِ، وَقَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللهِ - إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - بِهِ حَقَّ الْإِيمَانُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنْ دَنَاءَةِ الطَّمَعِ، وَيُحَلِّيهَا بِفَضِيلَةِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ - وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ - فَأَحْفَظُكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ أَوْ أُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَلِيمٌ وَنَاصِحٌ أَمِينٌ. قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) . هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي مُنَاقَشَةِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ بِالْآرَاءِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمْوَالِ. - قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا - قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ " صَلَوَاتُكَ " بِالْجَمْعِ وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " صَلَاتُكَ " بِالْإِفْرَادِ،

87

وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالصَّلَاةُ تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِمَا تُكْسِبُهُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَنْ نَهَى نَفْسَهُ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَنْهَى غَيْرَهُ، يَعْنُونَ: أَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا تَقْتَضِي بِتَأْثِيرِهَا فِي نَفْسِكَ أَنْ تَحْمِلَنَا عَلَى تَرْكِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ بِهَا، وَتَشَفُّعًا عِنْدَهُ بِجَاهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَحْتَلُّهَا، أَوِ الْأَوْلِيَاءِ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَاهُمْ، وَمَا أَنْتَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَجْدَرُ بِاتِّبَاعِهِمْ - أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - مِنْ تَنْمِيَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ ، وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَسْبِ مِنَ النَّاسِ بِمَا نَسْتَطِيعُ مِنْ حَذْقٍ وَاحْتِيَالٍ، وَخَدِيعَةٍ وَاهْتِبَالٍ، وَهُوَ حَجْرٌ عَلَى حُرِّيَّتِنَا، وَتَحَكُّمٌ فِي ذَكَائِنَا؟ رَدُّوا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ دَعْوَتَهُ مِنْ جَانِبِهَا الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ نَشْرًا مُرَتَّبًا عَلَى لَفٍّ، وَنَقْضًا لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ وَعَطْفٍ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلُوهُ بِمَا يُشِيرُ إِلَى هَذَا النَّقْضِ، فَقَالُوا بِقَصْدِ التَّعْرِيضِ وَالتَّنْدِيدِ: - إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ - الْحَلِيمُ: الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِي أَنَّاتِهِ وَتَرَوِّيهِ فَلَا يَتَعَجَّلُ بِأَمْرٍ قَبْلَ الثِّقَةِ مِنْ صِحَّتِهِ، وَالرَّشِيدُ: الرَّاسِخُ فِي هِدَايَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا اسْتَبَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَوَصَفَهُ بِهِمَا وَصْفًا مُؤَكَّدًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَ " إِنَّ " وَ " اللَّامِ " فِي تَعْلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، كِلَاهُمَا صَرِيحٌ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنَ اتِّصَافِهِ بِضِدِّهِمَا، وَهُوَ الْجَهَالَةُ وَالسَّفَهُ فِي الرَّأْيِ، وَالْغَوَايَةُ فِي الْفِعْلِ بِهَوَسِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: يَقُولُونَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ. - قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي - أَيْ: يَا قَوْمِيَ الَّذِينَ أَنَا مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي، وَأُحِبُّ لَهُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، أَخْبِرُونِي عَنْ شَأْنِي وَشَأْنِكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَكَانَ وَحْيًا مِنْهُ لَا رَأْيًا مِنِّي - وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا - فِي كَثْرَتِهِ وَفِي صِفَتِهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ بِالْحَلَالِ بِدُونِ تَطْفِيفِ مِكْيَالٍ وَلَا مِيزَانٍ، وَلَا بَخْسٍ لِحَقِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَنَا مُجَرِّبٌ فِي الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، لَا فَقِيرٌ مُعْدِمٌ أَخْتَرِعُ الْآرَاءَ النَّظَرِيَّةَ فِيمَا لَيْسَ لِي خِبْرَةٌ بِهِ، أَيْ: أَرَأَيْتُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، مَاذَا أَفْعَلُ وَمَاذَا أَقُولُ لَكُمْ غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ عَنْ نُبُوَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَتَجَارِبِ غِنًى مَالِيَّةٍ؟ هَلْ يَسَعُنِي الْكِتْمَانُ أَوِ التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ؟ - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - أَيْ وَإِنَّنِي عَلَى بَيِّنَتِي وَنِعْمَتِي، مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي ذَلِكَ مَائِلًا إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مُؤْثِرًا لِنَفْسِي عَلَيْكُمْ، بَلْ أَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِهِ قَبْلَكُمْ. وَأَصْلُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ أَوْ حَالِهِ، وَأَنْ يُقَالَ: خَالَفَهُ فِي الشَّيْءِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُوَلٍّ عَنْهُ تَارِكٌ لَهُ قِيلَ: خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، قِيلَ: خَالَفَهُ عَنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَضْمِينُ الْفِعْلِ مَعْنَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ أَوْ عَنْهُ، أَوِ الرَّغْبَةُ فِيهِ أَوْ عَنْهُ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 24: 63 أَيْ: يُخَالِفُونَ الرَّسُولَ رَاغِبِينَ عَنْ أَمْرِهِ مَائِلِينَ عَنْهُ - إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ - أَيْ: مَا أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ الْعَامَّ فِيمَا آمُرُ بِهِ وَفِيمَا

88

أَنْهَى عَنْهُ مَادُمْتُ أَسْتَطِيعُهُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَيْسَ لِي هَوًى وَلَا مَنْفَعَةٌ شَخْصِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِي فِيهِمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فَعَلْتُهُ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ شَأْنٌ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ أَحَدَ حُقُوقٍ ثَلَاثَةٍ - أَهَمُّهَا وَأَعْلَاهَا حَقُّ اللهِ - تَعَالَى -، وَثَانِيهَا حَقُّ النَّفْسِ، وَثَالِثُهَا حَقُّ النَّاسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَيْتُكُمْ. وَ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، وَقِيلَ: خَبَرِيَّةٌ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ أَوْ إِصْلَاحُ مَا اسْتَطَعْتُهُ فَحُذِفَ الْمُضَافُ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِعَقْلِهِ وَرَوِيَّتِهِ وَلِرُشْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ إِبْطَالٌ لِتَهَكُّمِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِلَقَبِ الْحَلِيمِ الرَّشِيدِ، وَالنَّبِيُّ فَوْقَ ذَلِكَ - وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ - التَّوْفِيقُ ضِدُّ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي إِصَابَةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَسَعْيٍ حَسَنٍ، فَإِنَّ حُصُولَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَسْبُ الْعَامِلِ وَطَلَبُهُ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَثَانِيهُمَا مُوَافَقَةُ الْأَسْبَابِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا النَّجَاحُ فِي كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، وَتَسْخِيرُهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَالْمَعْنَى: وَمَا تَوْفِيقِي لِإِصَابَةِ ذَلِكَ فِيمَا أَسْتَطِيعُهُ مِنْهُ إِلَّا بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ، وَأَعْلَاهَا مَا خَصَّنِي بِهِ دُونَكُمْ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ - فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَنِي مِنْ تَبْلِيغِكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، لَا عَلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي - وَإِلَيْهِ أُنِيبُ - أَيْ وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ أَرْجِعُ فِي كُلِّ مَا نَابَنِي مِنَ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِي فِي الْآخِرَةِ، فَأَنَا لَا أَرْجُو مِنْكُمْ أَجْرًا، وَلَا أَخَافُ مِنْكُمْ ضَرًّا. - وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ - وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْرِمَنَّكُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ جُرْمِ الذَّنَبِ وَالْمَالِ بِمَعْنَى كَسْبِهِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّهَا مِنْ أَجْرَمَتْهُ الذَّنْبُ إِذَا جَعَلَتْهُ جَارِمًا لَهُ. فَجَرَمَهُ وَأَجْرَمَهُ كَكَسِبَهُ هُوَ وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى الثُّلَاثِيُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ كَالرُّبَاعِيِّ. وَالشِّقَاقُ: شِدَّةُ الْخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ أَحَدُ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي شِقٍّ وَجَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْآخَرُ، أَيْ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ وَتَكْسِبَنَّكُمْ مُشَاقَّتُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لِي أَنْ تُفْضِيَ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى إِصَابَتِكُمْ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَبْلَكُمْ: قَوْمَ نُوحٍ أَوْ هُودٍ أَوْ صَالِحٍ مِنْ عَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ - وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا إِجْرَامًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي: بَعِيدٍ، وَقَرِيبٍ، وَقَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِوُرُودِهَا عَلَى وَزْنِ الْمَصَادِرِ كَالصَّهِيلِ وَالشَّهِيقِ وَنَحْوِهِمَا. وَقُدِّرَ لِبَعِيدٍ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، وَقَدَّرَ غَيْرُهُ: وَمَا إِهْلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ. إِلَخْ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ. - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ - أَيِ اطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي

90

بِتَرْكِهِمَا، ثُمَّ تَتُوبُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ - إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: عَظِيمُ الرَّحْمَةِ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ بِمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، كَثِيرُ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ، وَالْمَوَدَّةُ فِي اللُّغَةِ عَطْفُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامُ بِالْفِعْلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا، وَتَسَاهَلَ أَوْ غَلَطَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْمَحَبَّةِ، وَهَذَا وَعْدٌ قُفِّيَ بِهِ عَلَى الْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَرَكَ لَهُمُ الْخِيَارَ فِيمَا يُرَجِّحُونَهُ مِنْهُمَا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ عَلَى فِعْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ - تَعَالَى - مِنْ أَسْبَابِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مُكَرَّرًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِيَانِ فِعْلَ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ اللَّذَيْنِ هُمَا سَبَبُ الْعُمْرَانِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَغْفِرَةِ اللهِ وَمَثُوُبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُمَا هُنَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الرَّحْمَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَارْجِعْ إِلَى مَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ فَائِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ و52 و61 وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْبَلَاغَةَ وَالتَّفَنُّنَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ. قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ تَحَوُّلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَنْ مُجَادَلَتِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمُقَابَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِقُرْبِ الْوَعِيدِ، وَنُزُولِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْعَتِيدِ. -

91

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ - حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 179) أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ أَخَصُّ مِنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ الْعَمِيقُ الْمُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، أَيْ: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَرْمِي مِمَّا وَرَاءَ ظَوَاهِرِ أَقْوَالِكَ مِنْ بَوَاطِنِهَا وَتَأْوِيلِهَا؛ كَبُطْلَانِ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا وَقُبْحِ حَرِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِنَا، وَعَذَابٍ مُحِيطٍ يُبِيدُنَا، وَإِصَابَتِنَا بِمِثْلِ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَنْ قَبْلَنَا، كَأَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِكَ وَتَصَرُّفِكَ أَوْ تَصَرُّفِ رَبِّكَ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ تَشَاءُ أَوْ يَشَاءُ لِأَجْلِكَ، - وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا - لَا حَوْلَ لَكَ وَلَا قُوَّةَ تَمْتَنِعُ بِهَا مِنَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَبْطِشَ بِكَ، وَأَنْتَ عَلَى ضَعْفِكَ تُنْذِرُنَا الْعَذَابَ الْمُحِيطَ الَّذِي لَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ - وَلَوْلَا رَهْطُكَ - أَيْ: عَشِيرَتُكَ الْأَقْرَبُونَ - وَالرَّهْطُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ أَوِ الْعَشَرَةِ - لَرَجَمْنَاكَ - لَقَتَلْنَاكَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تُدْفَنَ فِيهَا - وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - أَيْ بِذِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ عَلَيْنَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَجْمِكَ، وَإِنَّمَا نُعِزُّ رَهْطَكَ وَنُكْرِمُهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا الَّذِي نَبَذْتَهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ، وَأَهَنْتَهُ وَدَعَوْتَنَا إِلَى تَرْكِهِ لِبُطْلَانِهِ وَفَسَادِهِ فِي زَعْمِكَ. - قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ - هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: أَرَهْطِي أَعَزُّ وَأَكْرَمُ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ - وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا - أَيْ أَشْرَكْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ اللَّقَّا الَّذِي يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ لِهَوَانِهِ عَلَى نَابِذِهِ وَعَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيُنْسَى حَتَّى لَا يُحْسَبَ لَهُ حِسَابٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَهُ بِظَهْرٍ وَظِهْرِيًّا وَاتَّخَذَهُ ظِهْرِيًّا بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ، أَيْ نَسْيًا مَنْسِيًّا لَا يُذْكَرُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَكَسْرُ الظَّاءِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي النَّسَبِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَلَا عَجَبَ مِنْ حَالِهِمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ، لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ فَيَرْجُوهُ إِذَا أَحْسَنُوا، وَيَخَافُوهُ إِذَا أَسَاءُوا، أَوْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِسَاءَةِ وَيَتَسَابَقُوا إِلَى الْإِحْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ - إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ - عِلْمًا فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ وَيَجْزِيكُمْ بِهِ، وَأَمَّا رَهْطِي فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. - وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ - هَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مِنْ وَاثِقٍ بِقُوَّتِهِ بِرَبِّهِ، عَلَى انْفِرَادِهِ فِي شَخْصِهِ، وَضَعْفِ قَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَإِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُ بِقُوَّتِهِمْ، أَيِ اعْمَلُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ عَلَى مُنْتَهَى تَمَكُّنِكُمْ فِي قُوَّتِكُمْ وَعَصَبِيَّتِكُمْ (مِنْ مَكُنَ مَكَانَةً كَضَخُمَ ضَخَامَةً - إِذَا تَمَكَّنَ كُلَّ التَّمَكُّنِ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ) أَوَ عَلَى مَكَانِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، إِذْ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ (كَمَقَامٍ وَمَقَامَةٍ) - إِنِّي عَامِلٌ - عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا أَوْ وَهَبَنِيهَا رَبِّي مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَمْرِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ - سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ - هَذَا تَصْرِيحٌ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ التَّلْمِيحِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَطَاعِ لِلتَّعْجِيزِ،

93

وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ 6: 135 إِذِ الْمُرَادُ هُنَالِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ " سَوْفَ " سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَقَطْعُهَا هُنَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ ; لِاقْتِضَاءِ تَهْدِيدِ الْكَفَّارِ إِيَّاهُ بِالرَّجْمِ، أَنْ يُبَالِغَ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَإِظْهَارِ عَزَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْحَقِّ. وَتَقْدِيرُهُمَا: فَإِنْ قُلْتُمْ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِكَ؟ أَقُلْ لَكُمْ: - سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ - وَيُذِلُّهُ. أَنَا أَمْ أَنْتُمْ، - وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ - فِي قَوْلِهِ وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ مِنِّي وَمِنْكُمْ؟ وَقَدْ كَانُوا أَنْذَرُوهُ غَيْرَ الرَّجْمِ الَّذِي وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ: أَنْذَرُوهُ إِنْذَارًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا - 7: 88 إِلَخْ. فَهُوَ يُعَرِّضُ بِكَذِبِهِمْ فِي كُلِّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ هُنَا وَهُنَاكَ، مُوقِنًا بِوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ اللهِ بِهِ - وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ - وَانْتَظِرُوا مُرَاقِبِينَ لِمَا سَيَقَعُ إِنِّي مَعَكُمْ مُرَاقِبٌ مُنْتَظِرٌ لَهُ، رَقِيبٌ هُنَا بِمَعْنَى مُرَاقِبٍ، كَعَشِيرٍ بِمَعْنَى مُعَاشِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا - بِعَذَابِهِمُ الَّذِي أَنْذَرُوهُ - نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا - خَاصَّةً بِهِمْ دُونَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ قَرِيبًا - وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - أَيْ أَخَذَتْهُمْ صَيْحَةُ الْعَذَابِ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ فَأَصْبَحُوا كُلُّهُمْ مَيِّتِينَ بَارِكِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ، مُكَبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. - كَأَنْ لَمْ يَغْنُوا فِيهَا - أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ - أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ - أَيْ هَلَاكًا لَهُمْ وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَبُعْدِ الْهَلَاكِ وَاللَّعْنَةِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِهَا ثَمُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الصَّيْحَةُ كَمَا فِي الْآيَةِ 67 وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَوَّلًا: فِي قَوْمِ لُوطٍ (15: 73) وَذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّتِهِمْ هُنَا، وَثَانِيًا: فِي أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَهُوَ ثَمُودُ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ - 15: 83 وَكَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِمْ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ - 23: 41 وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ - 54: 31 وَتَقَدَّمَ فِي عَذَابِ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ " أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " كَمَا فِي آيَتَيْ (7: 78 و91) وَمِثْلُهُمَا آيَةٌ (155) فِي السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي مَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - 29: 37 إِلَخْ. وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: " حم السَّجْدَةِ " فِي ثَمُودَ: - فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - 41: 17 وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ - 51: 44 فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّيْحَةِ صَوْتُ الصَّاعِقَةِ، وَفِي (2: 55 و4: 153) أَنَّ الصَّاعِقَةَ أَخَذَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى: أَرِنَا اللهَ

94

جَهْرَةً، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحْيَاهُمْ عَقِبَهَا: وَالرَّجْفَةُ: هِيَ الْهِزَّةُ وَالِاضْطِرَابَةُ الشَّدِيدَةُ، وَهِيَ تَصْدُقُ بِاضْطِرَابِ أَبْدَانِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ كَأَرْضِهِمْ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ صَاعِقَةً ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ ; فَرُجِفُوا أَوْ رُجِفَتْ أَرْضُهُمْ وَزُلْزِلَتْ مِنْ شِدَّتِهَا وَخَرُّوا مَيِّتِينَ، فَكَانَتْ صَاعِقَتُهُمْ أَشَدَّ مِنْ صَاعِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِأَنَّ هَذِهِ تَرْبِيَةٌ لِقَوْمِ نَبِيٍّ فِي حَضْرَتِهِ، وَتِلْكَ صَاعِقَةٌ كَانَتْ عَذَابَ خِزْيٍ وَهَوَانٍ لِمُشْرِكِينَ ظَالِمِينَ مُعَانِدِينَ أَنْجَى اللهُ نَبِيَّ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الصَّيْحَةَ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ كَانَتْ صَيْحَةً مِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ وَلَا نَصَّ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ الصَّوَاعِقِ مِرَارًا آخِرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَلَاكِ ثَمُودَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَمِنْ دَقِيقِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ مَدْيَنَ هُنَا: - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إِلَخْ. فَعَطَفَ " لَمَّا " عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ هُودٍ، وَلَكِنَّهُ عَطَفَهَا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ (66) وَقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ. وَوَجْهُ هَذَا الْأَخِيرِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَاءَتَا عَقِبَ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَحُلُولِ مَوْعِدِهِ فَعُطِفَتَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ. وَأَمَّا عَطْفُ مِثْلِهِمَا فِي قَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْعَطْفِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْآيَةِ وَعِيدٌ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ وَعِيدٌ مُسَوَّفٌ فِيهِ مَقْرُونٌ بِالِارْتِقَابِ لَا الِاقْتِرَابُ، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ عَلَيْهِ الْفَاءُ الَّتِي تُفِيدُ التَّعْقِيبَ بِدُونِ انْفِصَالٍ، فَهَلْ تُصَادِفُ مِثْلَ هَذِهِ الدَّقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ؟ . (خَتْمُ قِصَصِ الرُّسُلِ بِآيَاتٍ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) .

96

حِكْمَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، هِيَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ اللَّعْنَةُ وَالْهَلَاكُ كَكُفَّارِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الظَّالِمِينَ، وَلَكِنَّ عَذَابَ الْخِزْيِ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمَّا كَانَ إِرْسَالُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى إِرْسَالِ شُعَيْبٍ إِلَى مَدْيَنَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي نَوْعِهِ الْمُشْتَرِكِ مَعَ إِرْسَالِ صَالِحٍ وَهُودٍ - عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ - وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى - 96 وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ اخْتِلَافِهِ عَمَّا قَبْلَهُ فَرَاجِعْهُ. - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - أَيْ بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمَعْدُودَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمُفَصَّلَةِ فِي غَيْرِهَا (وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) ، - وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - أَيْ وَبُرْهَانٍ وَاضِحِ الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ فِي مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هِيَ الْعَصَا لِأَنَّهَا أَكْبَرُ آيَاتِهِ، وَعَطَفَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَكِنَّ اللهَ قَالَ: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا 43: 48 - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ - بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَلَأَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَزُعَمَاؤُهُمْ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالِاسْتِشَارَةِ فِي دَوْلَتِهِ الَّذِينَ يَسْأَلُهُمْ رَأْيَهُمْ فِي مُوسَى وَغَيْرِهِ، وَيَعْهَدُ إِلَيْهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَتَقَرَّرُ مِنَ الْأُمُورِ كَمَسْأَلَةِ السَّحَرَةِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ قَوْمُهُ فِي مَقَامِ الِاتِّبَاعِ لَهُ فِي الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ دُونَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ - فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ - فِي كُلِّ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِمُوسَى، وَجَمْعِ السَّحَرَةِ لِإِبْطَالِ مُعْجِزَتِهِ، وَمِنْ قَتْلِ السَّحَرَةِ لِإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَمِنْ تَشْدِيدِ الظُّلْمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي قِصَّتِهِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى - وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - أَيْ: مَا شَأْنُهُ وَتَصَرُّفُهُ بِذِي رُشْدٍ وَهَدْيٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فِي غُرُورِهِ بِنَفْسِهِ وَكَفْرِهِ بِرَبِّهِ وَطُغْيَانِهِ فِي حُكْمِهِ، وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ الْجَوَابُ. - يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَيْ يَتَقَدَّمُهُمْ وَيَكُونُونَ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا كَانُوا تَابِعِينَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا - فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ - أَيْ: فَيُورِدُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ مَعَهُ، أَيْ: يُدْخِلُهُمْ إِيَّاهَا، فَالْإِيرَادُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ كَمَا اسْتُعْمِلَ الْوُرُودُ بِمَعْنَى الدُّخُولِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِإِغْرَائِهِ إِيَّاهُمْ قَدْ جَعَلَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ آلَهُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا مُنْذُ مَاتُوا صَبَاحًا وَمَسَاءً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ - 40: 45 و46. - وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - هِيَ لِأَنَّ وَارِدَ الْمَاءِ يَرِدُهُ لِتَبْرِيدِ كَبِدِهِ وَإِطْفَاءِ غَلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظَّمَأِ، وَوَارِدُ النَّارِ يَحْتَرِقُ فِيهَا احْتِرَاقًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَيْبَةِ.

98

الْوُرُودُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بُلُوغُ الْمَاءِ وَمُوَافَاتُهُ فِي مَوْرَدِهِ مِنْ نَهَرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوِرْدِ بِالْكَسْرِ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: وَرَدَ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ الْمَاءَ يَرِدُهُ وِرْدًا فَهُوَ وَارِدٌ وَالْمَاءُ مَوْرُودٌ، أَوْرَدَهُ إِيَّاهُ إِيرَادًا جَعَلَهُ يَرِدُهُ، وَمِنْهُ وُرُودُ جَهَنَّمَ بِمَعْنَى دُخُولِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ. وَقَالَ: الْوُرُودُ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَوْرَادٍ، فِي هُودٍ قَوْلُهُ: - وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - 98 وَفِي مَرْيَمَ: - وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا - 19: 71 وَوَرَدَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: - حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ - 21: 98 وَوَرَدَ فِي مَرْيَمَ أَيْضًا: - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - 19: 86 وَكَانَ يَقُولُ: وَاللهِ لَيَرِدَنَّ جَهَنَّمَ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا - 19: 72. - وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً - أَيْ: وَأُلْحِقَتْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةٌ أَتْبَعَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: - وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ - 28: 42 وَقَالَ هُنَا: - وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَيْ وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعْنَةً أُخْرَى، فَهُمْ يُلْعَنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ رِفْدًا ; تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقَالَ: - بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - الرِّفْدُ (بِالْكَسْرِ) فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْعَطَاءُ وَالْعَوْنُ: يُقَالُ: رَفَدَهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) أَعَانَهُ وَأَعْطَاهُ، وَأَرْفَدَهُ مِثْلُهُ، أَوْ جَعَلَ لَهُ رِفْدًا يَتَنَاوَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَرَفَدَهُ وَأَرْفَدُهُ كَسَقَاهُ وَأَسْقَاهُ، - وَبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - أَيِ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى هَذِهِ اللَّعْنَةَ الَّتِي أُتْبِعُوهَا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ، الْقَدَحُ وَبِالْكَسْرِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ، هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعَامِّ بِالْخَاصِّ مُنَاسِبٌ لِلْوِرْدِ الْمَوْرُودِ قَبْلَهُ. أَيْ بِئْسَ مَا يُسْقَوْنَهُ فِي النَّارِ عِنْدَمَا يَرِدُونَهَا ذَلِكَ الشَّرَابُ الَّذِي يُسْقَوْنَهُ فِيهَا، وَهُوَ مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: - وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ - 47: 15. وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ فَرَاعِنَةٌ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيَسْتَخِفُّونَهُمْ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ وَيَذِلُّونَ لَهُمْ ذُلَّ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْحِمَارِ لِرَاكِبِهِ، وَالْحَيَوَانِ لِمَالِكِهِ، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا شَيْئًا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَرُشْدِهِ، وَتَجْهِيلِهِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، مَعَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: - وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - 97 وَبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَإِتْبَاعِهِمْ لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ سَيَقُودُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا قَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَفْقَهُوا قَوْلَ اللهِ - تَعَالَى - لِرَسُولِهِ فِي آيَةِ مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ - وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ - 60: 12 وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ " إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ) .

100

(الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ) : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِمَا فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَيَتْلُوهَا الْعِبْرَةُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى - أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ، أَيْ أَهَمُّ أَخْبَارِهَا، وَأَطْوَارُ اجْتِمَاعِهَا فِي الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - نَقُصُّهُ عَلَيْكَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَتْلُوَهُ الْمُؤْمِنُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، لِلْإِنْذَارِ بِهِ تَبْلِيغًا عَنَّا، فَهُوَ مَقْصُوصٌ مِنْ لَدُنَّا بِكَلَامِنَا - مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ - أَيْ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى مَا لَهُ بَقَايَا مَائِلَةٌ وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ فِي الْأَرْضِ، كَقُرَى قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْهَا مَا عَفَا وَدَرَسَتْ آثَارُهُ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ كَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ. - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ - أَيْ: وَمَا كَانَ إِهْلَاكُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِصْرَارِهِمْ حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، بِحَيْثُ لَوْ بَقُوا زَمَنًا آخَرَ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ظُلْمًا وَفُجُورًا وَفَسَادًا، كَمَا قَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا - 71: 27 وَقَدْ بَالَغَ رُسُلُهُمْ فِي وَعْظِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، فَمَا زَادَهُمْ نُصْحُهُمْ لَهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا، وَأَنْذَرُوهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ اسْتِكْبَارًا، وَاتَّكَلُوا عَلَى دَفْعِ آلِهَتِهِمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِنْ هُوَ نَزَلَ بِهِمْ - فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: فَمَا نَفَعَتْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَهَا، وَيَطْلُبُونَ مِنْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ الضُّرَّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - لَمَّا جَاءَ عَذَابُ رَبِّكَ تَصْدِيقًا لِنُذُرِ رُسُلِهِ - وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ - أَيْ: هَلَاكٍ وَتَخْسِيرٍ وَتَدْمِيرٍ، وَهُوَ مِنَ التِّبَابِ أَيِ الْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ: يُقَالُ: تَبَّبَهُ

102

تَتْبِيبًا، أَيْ: أَهْلَكَهُ، وَتَبَّ فُلَانٌ وَتَبَّتْ يَدُهُ، أَيْ خَسِرَ أَوْ هَلَكَ " وَتَبًّا لَهُ " فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ، وَمَعْنَى زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا؛ أَنَّهُمْ بِاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ ظَنًّا أَنَّهُمُ يَنْتَقِمُونَ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِرَسُولِهِمْ: - إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ - 11: 54. - وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ - أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِالْعَذَابِ وَعَلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَخْذُ رَبِّكَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي حَالِ تَلَبُّسِهَا بِالظُّلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ قَوْمٍ - إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ - أَيْ وَجِيعٌ قَاسٍ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَنَاصَ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلتَّشْبِيهِ فِيمَا قَبْلَهَا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مَعَ ظُلْمِهِمْ مَغْرُورِينَ بِدِينٍ يَتَحَلَّوْنَ بِلَقَبِهِ، وَلَا يَحْسَبُونَ حِسَابًا لِإِمْلَاءِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِدْرَاجِهِ. (الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ) : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ.

103

هَذِهِ الْبِضْعُ الْآيَاتِ فِي الْعِبْرَةِ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ لِلْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ. - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ - أَيْ: فِي ذَلِكَ الَّذِي قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَمَا قَفَّى عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامِ سُنَنِهِ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، يَعْتَبِرُ بِهَا فَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ مَنْ عَذَّبَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا كَأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَمَا كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ الْعَامُّ إِنَّمَا نَزَلَ بِمَنْ أَجْمَعَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فَتِلْكَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَقْوَامِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ فِي جُمْلَتِهَا مَا دَامَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، إِذْ كَانَ يُخْرِجُ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَتَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِظُلْمِهِمْ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ نَجَاتُهُمْ فِيهَا بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْخَائِفَ هُنَا. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْخَائِفِ: يَعْتَبِرُ بِهَا لِعِلْمِهِ أَنَّ مَا حَاقَ بِهِمْ أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ - أَوْ يَنْزَجِرُ لَهُ عَنْ مُوجِبَاتِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ مُخْتَارٍ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ وَأَحَالَ فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَمْ يَقُلْ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَجَعَلَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ لِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ اتَّفَقَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا لِذُنُوبِ الْمُهْلَكِينَ بِهَا. اهـ. أَقُولُ: ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِبْرَةِ بِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، أَنَّ كُفَّارَ الْمَادِّيِّينَ وَمَلَاحِدَةَ الْمِلِّيِّينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ فِي عَصْرِهِ، يَقُولُونَ: إِنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ بِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ لَا بِإِرَادَةِ اللهِ وَاخْتِيَارِهِ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُمْ هَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَنْ هَلَكُوا بِالرِّيحِ وَبِالصَّاعِقَةِ وَبِخَسْفِ الْأَرْضِ، وَقُلْتُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنَّ حُدُوثَ الْمَصَائِبِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَافَقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحْدَثَ الْأَسْبَابَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِحِكْمَتِهِ لِأَجْلِ عِقَابِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ إِيَّاهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ مَوْعِدَهَا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّحْدِيدِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رُسُلٌ يُطْلِعُهُمْ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِهِ لِيُنْذِرُوا النَّاسَ بِهِ اكْتِفَاءً بِإِنْذَارِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 26: 227. - ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ - أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ - فَكَانَ ذِكْرُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ - يَوْمٌ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، أَيْ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَفِي جَعْلِ جَمْعِ النَّاسِ لَهُ (بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ) صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُبَالَغَةٌ، كَانَتْ

بِهَا الْجُمْلَةُ هُنَا أَبْلَغَ مِنْ جُمْلَةِ: - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ - 64: 9 فِي إِثْبَاتِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ تِلْكَ سِيقَتْ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ التَّغَابُنِ، أَيْ غَبْنُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ الْجَمْعِ لَهُ فِي ذَاتِهِ لِتَصْوِيرِ هَوْلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: - وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - يَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّعْبِيرُ الْوَجِيزُ الْبَلِيغُ مَثَلًا تُوصَفُ بِهِ الْمَجَامِعُ الْحَافِلَةُ بِكَثْرَةِ النَّاسِ، أَوِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يَكْثُرُ مَنْ يَشْهَدُهَا مِنْهُمْ. - وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ - أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا لِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ عَنْ تَقْدِيرِنَا لَهَا بِحِكْمَتِنَا، وَهُوَ انْقِضَاءُ عُمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْدُودٌ مَحْدُودُ النِّهَايَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يُطْلِعْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ. - يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ - أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُعَيَّنُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ مِنَ الْأَنْفُسِ النَّاطِقَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ يَوْمُهُ الْخَاصُّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِيهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: - يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا - 78: 38 وَقَالَ: - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا - 20: 108 و109 وَقَالَ فِي الْكُفَّارِ: - هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ - 77: 35 36 وَقَالَ: - الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ - 36: 65 إِلَخْ. وَفُسِّرَتْ كَلِمَةُ (يَوْمَ) فِي الْآيَةِ بِالْوَقْتِ الْمُطْلِقِ، أَيْ: غَيْرِ الْمَحْدُودِ ; لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْيَوْمِ الْمَحْدُودِ الْمَوْصُوفِ بِمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ يَأْتِي. وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْهَرَبَ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ ظَرْفًا لِلْيَوْمِ، فَقَالُوا: الْمَعْنَى يَوْمَ يَأْتِي جَزَاؤُهُ أَوْ هَوْلُهُ، أَوِ اللهُ - تَعَالَى -، وَاسْتَشْهَدُوا لِلْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: - هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ - 2: 210 وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا نَصٌّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِ جَعْلِ يَوْمَ بِمَعْنَى وَقْتٍ أَوْ حِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يَأْتِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَهُوَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ مَا تَقُولُ. وَنَفْيُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - يُفَسِّرُ لَنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لَهُ مُطْلَقًا وَالْمُثْبِتَةِ لَهُ مُطْلَقًا. - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - أَيْ: فَمِنَ الْأَنْفُسِ الْمُكَلَّفَةِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهِ، شَقِيٌّ مُسْتَحِقٌّ لِوَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِمَا وُعِدَ بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، وَأَمَّا مَنْ تَسْتَوِي حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَغْلِبُ سَيِّئَاتُهُمْ مِنْهُمْ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا فِي النَّارِ عِقَابًا مَوْقُوتًا ثُمَّ

105

يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ مِنْ فَرِيقِ السُّعَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالسُّعَدَاءُ دَرَجَاتٌ، وَالْأَشْقِيَاءُ دَرَكَاتٌ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: " بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَحَدِيثُ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ " فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلَ؟ قَالَ: " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَقَرَأَ: - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - 92: 5 إِلَخْ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ أَوْ جَهِلَهُ الْكَثِيرُونَ عَلَى ظُهُورِهِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا يَعْمَلُهُ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ اللهُ الْمُسْتَقْبَلَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَمِنْهُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَكِتَابَتِهِ لِلْمَقَادِيرِ، وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَنَا مَا نَعْلَمُ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُيَسَّرٌ لَهُ وَمُسَهَّلٌ عَلَيْهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ سَعَادَةِ الْجَنَّةِ وَشَقَاوَةِ النَّارِ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ مَا يُوَجِّهُهَا بِهِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ: - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا - أَيِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَشْقِيَاءِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِالتَّقْلِيدِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَفِي النَّارِ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَثْوَاهُمْ، - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - مِنْ ضِيقِ أَنْفَاسِهِمْ، وَحَرَجِ صُدُورِهِمْ، وَشِدَّةِ كُرُوبِهِمْ، فَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: صَوْتَانِ يَخْرُجَانِ مِنَ الصَّدْرِ عِنْدَ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْحُزْنِ فِي بُكَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ وَالشَّهِيقُ رَدُّهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ: بِعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرِجُ وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ: فَالزَّفِيرُ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:

107

الشَّهِيقُ طُولُ الزَّفِيرِ وَهُوَ رَدُّ النَّفْسِ، وَالزَّفِيرُ مَدُّهُ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّهِيقُ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، شَهِقَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، شَهِيقًا وَشُهَاقًا: رَدَّدَ الْبُكَاءَ فِي صَدْرِهِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ إِذَا امْتَدَّ وَاشْتَدَّ فَسُمِعَ صَوْتُهُ كَانَ زَفِيرًا، وَأَنَّ النَّشِيجَ فِي الْبُكَاءِ إِذَا اشْتَدَّ تَرَدُّدُهُ فِي الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ بِهِ الصَّوْتُ سُمِّيَ شَهِيقًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الشُّهُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ. وَمَا أَبْلَغَ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى يَصِفُ كَرْبَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِدَّةِ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَعْمِرِينَ الظَّالِمِينَ: وَسَرَى الْأَلَمُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ سَرَيَانَ الِاعْتِقَادِ فِي مَدَارِكِهِمْ، وَهُمْ مِنْ تِذْكَارِ الْمَاضِي وَمُرَاقَبَةِ الْحَاضِرِ يَتَنَفَّسُونَ الصُّعَدَاءَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ التَّنَفُّسُ زَفِيرًا بَلْ نَفِيرًا عَامًّا، بَلْ يَكُونُ صَاخَّةً تُمَزِّقُ مَنْ أَصَمَّهُ الطَّمَعُ. - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ - أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُكْثَ بَقَاءٍ وَخُلُودٍ، لَا يَبْرَحُونَهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ الَّتِي تُظِلُّهُمْ وَالْأَرْضِ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا التَّعْبِيرَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالُوا: الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِهَمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ وَتَزُولُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَمَاءُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ فَوْقَهُمْ، وَأَرْضُهُمْ مَا هُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ جَنَّةٍ أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ - أَيْ: أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ الدَّائِمَ هُوَ الْمُعَدُّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْجَهُولِ الظَّالِمَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ ظُلْمَةُ خَطِيئَاتِهَا وَفَسَادُ أَخْلَاقِهَا - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي هَذَا النِّظَامِ فِي طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ إِنَّمَا وُضِعَ بِمَشِيئَتِهِ، وَسَيَبْقَى فِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ عُهِدَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْيِيدِ تَأْيِيدِهَا بِمَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فَقَطْ لَا لِإِفَادَةِ عَدَمِ عُمُومِهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - 7: 188 أَيْ لَا أَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقُدْرَتِي وَإِرَادَتِي إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمِثْلُهُ فِي (10: 49) مَعَ تَقْدِيمِ الضَّرِّ. وَقَوْلُهُ: - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - 87: 6 و7 عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرِئُهُ إِيَّاهُ بِقُدْرَتِهِ، وَعَصَمَهُ أَلَّا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا بِمُقْتَضَى الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ، فَهُوَ لَا يَقَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ - إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - فَهُوَ إِنْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِخْلَافًا لِشَيْءٍ مِنْ وَعْدِهِ وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ كَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - 6: 128

108

وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَوَعَدْنَا بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَجْعَلُهُ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ لِتَبْقَى سِلْسِلَةُ التَّفْسِيرِ هُنَا مُتَّصِلَةً. - وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - أَيْ دَائِمًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) إِذَا قَطَعَهُ أَوْ كَسَرَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ - وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّذْيِيلِ وَمَا قَبْلَهُ عَظِيمٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْجَزَاءَيْنِ مِنْهُ - تَعَالَى - وَمُقَيَّدٌ دَوَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَيَّلَ هَذَا بِأَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ دَائِمٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِثْلَهُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ لَمَا كَانَ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِالْحُسْنَى وَبِأَحْسَنِ مِمَّا عَمِلُوا، وَبِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَبِأَنَّهُ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَلَمْ يَعُدْ بِزِيَادَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَلْ كَرَّرَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا، وَبِأَنَّ السَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، دَعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ سَبْقِهَا لِغَضَبِهِ. وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الشَّدِيدَ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً لِأَهْلِهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا فِي سِنِينَ أَوْ أَشْهُرٍ مَعْدُودَةٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ لَوْ كَانُوا خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ إِذَنْ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى نِيَّتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدِينَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الْعَزْمُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، لِمَا عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْوَاقِعِ مِنْ إِيمَانِ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَكْثَرِ الْعَرَبِ لَمَّا زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ نَوَى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا، وَالْمَعْقُولُ فِي تَعْلِيلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الدَّائِمَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. . . . . وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. - فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ - هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ، وَإِنْذَارُ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَمْرُ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَلَا تَكُنْ فِي أَدْنَى شَكٍّ

109

وَامْتِرَاءٍ مِمَّا يَعْبُدُ قَوْمُكَ هَؤُلَاءِ فِي عَاقِبَتِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، فَالنَّهْيُ تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْذَارٌ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَجَزَاءَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: - مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ - فَهُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَمَا قَالَ أَقْوَامُ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ: - وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ - أَيْ: وَإِنَّا لَمُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَافِيًا تَامًّا لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا وَفَّيْنَا آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، إِلَّا وَيُوَفِّيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ جَزَاءً تَامًّا وَافِيًا لَا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَوَجَاهَةٍ فَهُوَ مَتَاعٌ عَاجِلٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَضِيَ، وَلَا يُحْتَجَّنَّ بِهِ عَلَى رِضَى اللهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِمْ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَائِلِهِمْ: - وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا - 18: 36 وَعَنْ آخَرَ: - وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى - 41: 50 فَإِنَّ الْحُسْنَى عِنْدَ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا بَلَّغَهُمْ عَنْهُ مِنْ مَوْجَاتِ الرَّحْمَةِ عِنْدَهُ بِفَضْلِهِ. وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَقِيَّةِ الْعِبْرَةِ بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ وَأَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ذَكَّرَ اللهُ قَوْمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأُمَّتَهُ أَوَّلًا بِأَقْوَامِ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ وَالْجُحُودُ فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَوَفَّاهُمُ اللهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَسَيُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَذَكَّرَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكُتَّابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَلِمَتُهُ فِي تَأْخِيرِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَثَلَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْكِتَابِ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ. قَالَ: - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ - أَيْ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ

110

وَتَنَازُعًا عَلَى الرِّيَاسَةِ، فَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تَنْتَحِلُ مَذْهَبًا وَتُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُوتُوا الْكُتَّابَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ إِنْزَالِ اللهِ الْكُتُبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْآيَةِ (2: 213) الْجَامِعَةِ - وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ - أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْبُغَاةِ الْمُثِيرِينَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى هِدَايَتِهِ، كَمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الرُّسُلِ جُحُودًا وَعِنَادًا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِنْظَارُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي (10: 19) ثُمَّ فُسِّرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - 10: 93 وَمِثْلُهُ فِي (45: 17) وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 118 هُنَا - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي قَوْمِ مُوسَى وَكِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ لَمُرْتَكِسُونَ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ كِتَابِهِمْ مُوقِعٍ فِي الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ. وَذَهَبَ بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالسِّيَاقِ، وَمَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ - (فُصِّلَتْ) - بِنَصِّهَا، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الشُّورَى مَا يُفَسِّرُ الْإِجْمَالَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُفَصِّلُهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الْبَشَرِ فِيهِ وَحُكْمِهِ - تَعَالَى - هُوَ فِي الِاخْتِلَافِ قَالَ: - شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - 42: 13 و14 فَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ تَفْسِيرٌ لِآيَتَيْ هُودٍ وَحم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) فَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ فُقِدَتْ فِي إِحْرَاقِ الْبَابِلِيِّينَ لِهَيْكَلِ سُلَيْمَانَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - 3: 48 فَهُوَ لَمْ يَأْخُذِ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عَزْرَا كَتَبَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يُخَالِفُونَهُ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِهِمْ وَفِي شَرْعِهِمْ إِلَى مَذَاهِبَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا أَشَدَّ اخْتِلَافًا فِي كُتُبِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ

111

وَمِنَ الْغَفْلَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ أَنْ يُفَسِّرُوا الْكِتَابَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّورَى مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَصِفُوا الَّذِينَ أُورِثُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أُورِثُوهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى وَبِعِيسَى لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ أُورِثُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ وَرِثَ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَمَنْ أَسَاءَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ - 35: 32 وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُجْمَلَتَيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ حَمَلُوا عَلَيْهِمَا الْآيَةَ الْمُفَصَّلَةَ وَجَعَلُوا تَفْسِيرَهُنَّ وَاحِدًا. - وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ - أَيْ: وَإِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَاللهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَظْلِمُ مِنْهُمْ أَحَدًا، - إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ التَّوْفِيَةِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ " وَإِنْ " بِتَخْفِيفِ النُّونِ مَعَ إِعْمَالِهَا عَمَلَ الثَّقِيلَةِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ، وَ " لَمَا " بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ لَامَهَا مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ أَوْ فَارِقَةٌ وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَسَمِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ " لَمَّا " وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ فَهِيَ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، قَالَهُ الْجَلَالُ. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ. هَذَا السِّيَاقُ تَفْصِيلٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ: مَنْ جَحَدُوا فَأُهْلِكُوا. وَمَنْ آمَنُوا ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمُلَ إِيمَانُهُ، وَمَا بَعْدَهُمَا تَفْصِيلٌ لَهُمَا. - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ - أَيْ: كَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَاسْتَقِمْ مِثْلَ مَا أَمَرْنَاكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَيِ الْزَمِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَاتِّقَاءِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، - وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - أَيْ: وَلْيَسْتَقِمْ مَعَكَ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ - وَلَا تَطْغَوْا - فِيهِ بِتَجَاوُزِ حُدُودِهِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ،

112

كُلٌّ مِنْهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ، وَعَلَى اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِيهَا - إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - بَصِيرٌ بِعَمَلِكُمْ يُبْصِرُ بِهِ وَيَرَاهُ وَيُحِيطُ بِهِ عِلْمًا فَيَجْزِيكُمْ بِهِ. يُقَالُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى وَمِنْهُ - فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ - 28: 11. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ سُورَةِ الشُّورَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: - فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ - 42: 15 أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ فِي عُصُورِهِمْ، قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الَّذِي ابْتُدِعَ مِنْ بُعْدِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، وَأَنْ يُخَاطِبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا يَتَبَرَّأُ بِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْ إِثَارَتِهِ بِحُجَجِ الْجِدَالِ، وَاكْتَفَى فِي سُورَةِ هُودٍ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي يُورِثُ الِاخْتِلَافَ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ كَافَّةً، لَا بِحَالِ قَوْمِ مُوسَى وَمَنْ أُورِثُوا الْكِتَابَ خَاصَّةً، فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ. وَقَدْ أَوْجَزَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَصْفِ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلِاسْتِقَامَةِ فِي الْعَقَائِدِ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ - وَالْأَعْمَالِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ كَمَا أُنْزِلَ، وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ مُفَوِّتٍ لِلْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، (كَذَا قَالَ) ثُمَّ قَالَ: " وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ وَانْحِرَافٍ بِنَحْوِ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ " اهـ. وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ يَنْقُضُ بَعْضَهُ. فَأَحَقُّ النُّصُوصِ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ نُصُوصُ الْعَقَائِدِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَالَمِ الْغَيْبِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ تَحْكِيمُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهَا مَثَارَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ فِي الْأُمَّةِ، الَّذِي نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ مِنْ سِيَاقِ سُورَةِ الشُّورَى، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَرَكَ الْبَيْضَاوِيُّ بَابَهُ مَفْتُوحًا بِزَعْمِهِ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي الْعَقَائِدِ وَسَطٌ بَيْنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَيَعْنِي بِهِ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ لِأَنَّهُ مِنْ أَسَاطِينِ نُظَّارِهِ، وَحَجَّتُهُ قَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الْخَوْضِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِيمَا دَوْنَ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، طُغْيَانٌ مِنَ الْعَقْلِ وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِهِ وَقَدْ نُهِيَ

عَنْهُ، لَا صِيَانَةً لَهُ، فَإِنَّ أَكْبَرَ نُظَّارِ الْبَشَرِ وَفَلَاسِفَتِهِمْ عُقُولًا قَدْ عَجَزُوا إِلَى الْيَوْمِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْفُسِ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى الْحَشَرَاتِ كَالنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، وَلَمَّا خَرَجُوا عَنْ هَدْيِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَحَمْلَةِ الْآثَارِ زَاغُوا فَكَانُوا - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ - 30: 32 سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّعْطِيلِ، وَبَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّشْبِيهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي حَيْرَةِ النَّفْيِ الْمَحْضِ هَرَبًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الذَّبْذَبَةِ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ النُّصُوصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَسَطًا، فَهُمْ يَتَأَوَّلُونَ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَحُبَّهُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُنَفِّرَةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، يَتَأَوَّلُونَهَا هَرَبًا مِنَ التَّشْبِيهِ بِزَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا مِنْ تَأْوِيلٍ لَهَا إِلَّا وَهُوَ بِأَلْفَاظٍ بَشَرِيَّةٍ مِثْلِهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا إِيثَارٌ لِمَا اخْتَارُوهُ فِي وَصْفِهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَرَضِيَهُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُؤَوِّلُونَ صِفَاتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْبَشَرِ تَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - لَيْسَ كَعِلْمِنَا فِي اسْتِعْدَادِهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا فِي صُورَتِهَا فِي النَّفْسِ - فَكَيْفَ إِذَا قُلْنَا فِي الدِّمَاغِ - وَلَا فِي انْقِسَامِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ يَنْقَسِمَانِ إِلَى بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ، وَلَا قُدْرَتُهُ - تَعَالَى - وَمَشِيئَتُهُ فِي كُنْهِهِمَا وَتَعَلُّقِهِمَا بِالْأَشْيَاءِ كَقُدْرَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا، فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَكَمَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَقَدْ قَالُوا فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهَا حَقٌّ بِلَا كَيْفٍ. فَلِمَ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِهَا؟ ! . وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: لَوْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ الَّذِي عَنَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا شَيْءٌ يَقْتَضِيهِ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوِ النَّظَرِيِّ، الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ، لَمَا وَقَعَ فِيهِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَمَصْلَحَةً، حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِ الْفِرَقِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْمِلَّةِ بِتَأْوِيلِ أَرْكَانِ الدِّينِ حَتَّى الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَسَاغَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلَا أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَعْلَمُ بِالدِّينِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ كُلِّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، وَبِذَلِكَ دُونَ سِوَاهُ نَجْتَنِبُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعَهُمْ

مِنِ اجْتِنَابِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، الَّذِي أَوْعَدَ اللهُ أَهْلَهُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِهِ الْمُفَرِّقِينَ وَالْمُتَفَرِّقِينَ. وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ كِتَابِ اللهِ وَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، بِدُونِ تَحَكُّمٍ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَلَا يُخِلُّ بِالدِّينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِقَطْعِ أُخُوَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ - 4: 59 الْآيَةَ. هَذَا؛ وَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِقَامَةِ لَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يُرْتَقَى بِهِ لِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ بِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: - قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا - 10: 89 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا - 41: 30 الْآيَاتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: " قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " فَالِاسْتِقَامَةُ عَيْنُ الْكَرَامَةِ كَمَا قَالُوا. قَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ الزُّعْبِيُّ الْجِيلَانِيُّ لِعَمِّ وَالِدِي السَّيِّدِ أَحْمَدَ أَبِي الْكَمَالِ وَهُوَ زَوْجُ عَمَّتِهِ: يَا سَيِّدِي إِنَّكَ صَحِبْتَ الشَّيْخَ مَحْمُودًا الرَّافِعِيَّ، وَإِنِّي أَرَى أَتْبَاعَهُ يَذْكُرُونَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الْكَرَامَاتِ فَأَرْجُو أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا رَأَيْتَ مِنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ مِنْهُ كَرَامَةً وَاحِدَةً هِيَ الِاسْتِقَامَةُ. أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ هَذَا الْخَبَرَ، وَقَالَ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أُصَدِّقُ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ، فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ نَقَّادَةً وَسَيِّئَ الظَّنِّ بِمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّلَاحِ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَذِبٌ كَمَا عَهِدَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مُعَاصِرِيهِ وَبَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَاخْتُبِرَ الْتِزَامُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ لِلصِّدْقِ بِطُولِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْنِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى صِغَرِ شَأْنِهَا لِأَنَّ أُولَى الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْبُيُوتَاتِ الْقَدِيمَةِ أَمْسَى قَلِيلًا فِي بَعْضِهَا وَخَلَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْضَاوِيُّ قَالَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ: إِنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، فَمَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِقِلَّةِ مَنْ يَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا أَوْ بُلُوغِ الْكَمَالِ فِيهَا، لَا لِعُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفْنَا مِنْ شَرْعِهِ عُسْرًا - يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ - 2: 185.

113

- وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ: وَلَا تَسْتَنِدُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ قَوْمِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَتَجْعَلُوهُمْ رُكْنًا لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِمْ فَتُقِرُّونَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَتُوَالُونَهُمْ فِي سِيَاسَتِكُمُ الْحَرْبِيَّةِ أَوْ أَعْمَالِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، فَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَالرُّكُونُ مِنْ رُكْنِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - 11: 80 وَالسَّنَدُ بِمَعْنَى الرُّكْنِ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: سَنَدَ إِلَى الشَّيْءِ (كَرَكَنَ إِلَيْهِ) وَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، وَفَسَّرَهُ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ بِالتَّبَعِ لِلْجَوْهَرِيِّ بِالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ وَالسُّكُونِ لَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَعَمِّ كَعَادَتِهِمْ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّونَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيرِهِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ لِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَذَوْقِهِ وَحُسْنِ تَعْبِيرِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا مُتَحَرِّفًا إِلَى شُيُوخِ الْمَذْهَبِ (الْمُعْتَزِلَةِ) أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةِ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَشُيُوخُ الْمَذْهَبِ يُخْطِئُونَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفِئَةُ الرِّوَايَاتِ تُخْطِئُ فِي اعْتِمَادِ الْأَسَانِيدِ الضَّعِيفَةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَرُوَاةُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ أَحْيَانًا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ بِلَازِمِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْمَجَازِ فِي بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الرُّكُونَ " بَعْضُهُمْ بِالْمَيْلِ وَالسُّكُونِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مِنْ تَسَاهُلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي مَادَّتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّسَاهُلِ وَيُؤَيِّدُ مَا حَقَّقْنَاهُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ تَبَعًا لِلصِّحَاحِ: رَكَنَ إِلَيْهِ كَنَصَرَ رُكُونًا: مَالَ وَسَكَنَ، وَالرُّكْنَ بِالضَّمِّ الْجَانِبُ الْأَقْوَى (زَادَ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ وَالْعِزُّ وَالْمَنَعَةُ اهـ. وَمِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الرُّكُونَ فِيهَا مِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْءِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانُ أَقْوَى مِنَ السُّكُونِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ: أَيِ الْمَيْلُ وَالسُّكُونُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالِاعْتِمَادُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الرُّكُونِ وَلَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَقْوَاهَا آخِرُهَا. قَالَ فِي اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ: وَرُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى، وَالرُّكْنُ النَّاحِيَةُ الْقَوِيَّةُ وَمَا تَقْوَى بِهِ مِنْ مُلْكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ - 51: 39 وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: تَعَالَى: - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ - 28: 40 أَيْ أَخَذْنَاهُ وَرُكْنَهُ الَّذِي تَوَلَّى بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّكُونِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا عَنَيْتُ بِتَحْقِيقِهِ لِمَا جَاءُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدِ الَّذِي لَا تَرْضَاهُ الْآيَةُ، كَمَا فَعَلُوا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِقَامَةِ إِذَا تَجَاوَزُوا بِهِمَا سَمَاحَةَ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيُسْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ دِينَهُ يُسْرًا لَا عُسْرَ فِيهِ، وَسَمْحًا لَا حَرَجَ عَلَى مُتَّبِعِيهِ. فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ " الَّذِينَ ظَلَمُوا " بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَكَى أَنَّ الْمُوَفَّقَ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ،

فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى ظُلْمٍ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ؟ اهـ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ مَنْ مَالَ مَيْلًا يَسِيرًا إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ظُلْمٌ قَلِيلٌ أَيُّ ظُلْمٍ كَانَ، وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الْآيَةِ فَرِيقُ الظَّالِمِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ، فَهُمْ " كَالَّذِينِ كَفَرُوا " فِي الْآيَات ِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، لَا كُلَّ فَرْدٍ مِنَ النَّاسِ وَقَعَ مِنْهُ كَفْرٌ فِي الْمَاضِي وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - 2: 6 وَالْمُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِـ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَمَا عَبَّرَ عَنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ (37 و67 و94) وَعَبَّرَ عَنْهُمْ فِيهَا بِـ الظَّالِمِينَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: - وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 44 فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْوَصْفِ وَالتَّعْبِيرِ بِـ " الَّذِينَ " وَصِلَتِهِ، فَإِنَّهُمَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْأَقْوَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - مَعْنَاهُ: فَتُصِيبُكُمْ النَّارُ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، بِسَبَبِ رُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ بِوِلَايَتِهِمْ وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي شُئُونِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، لِأَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ ظُلْمٌ، - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 5: 51 رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بِالْمُشْرِكِينَ، إِذِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُ فِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَامٌّ فِي مَوْضُوعِهَا، فَوِلَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَوِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا خِلَافَ فِي هَذَا وَهُوَ مَنْصُوصٌ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، فَيَشْمَلُ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِهَا الَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا وَسِيَاقِهَا وَحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مَعَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - أَيْ: وَمَا لَكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُ اللهِ مِنْ أَنْصَارٍ يَتَوَلَّوْنَكُمْ: - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَلَا بِنَصْرِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ يَكُونُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَنْصُرُ الظَّالِمِينَ كَمَا قَالَ: - وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - بَلْ تَكُونُ غَايَتُكُمُ الْحِرْمَانَ مِمَّا وَعَدَ اللهُ رُسُلَهُ وَمَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرِهِ الْخَاصِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِـ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُمْ إِنْ رَكَنُوا إِلَى أَعْدَائِهِ

وَأَعْدَائِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِبْعَادِ نَصْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ اللهِ اقْتَضَتْ عِقَابَهُمْ بِالنَّارِ، وَمَا قُلْتُهُ أَقْرَبُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ وَاتِّخَاذِ وَلِيجَةٍ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ، وَعَنِ اتِّخَاذِ الْمُؤْمِنِينَ بِطَانَةً مِنْ دُونِهِمْ، وَقَدِ اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ وَسَائِلَ كَثِيرَةً لِاسْتِمَالَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُرَجِّحُ لَهُ اجْتِهَادُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا - 17: 74 و75 يَعْنِي لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ بِالْعِصْمَةِ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الرُّكُونِ، كَأَنْ تُصَدِّقَهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الِاعْتِمَادِ، إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِاسْتِمَالَتِهِمْ، كَمَا فَعَلْتَ مَعَ الْأَعْمَى، وَلَكِنَّ تَثْبِيتَنَا إِيَّاكَ عَصَمَكَ مِنْ مُقَارَبَةِ أَقَلِّ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الْأَقَلَّ، فَالْآيَةُ الْأُولَى نَصٌّ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَكَنَ أَقَلَّ الرُّكُونِ وَلَا قَارَبَ أَنْ يَرْكَنَ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ (فَرْضًا) لَعَاقَبَهُ اللهُ عِقَابًا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ مَعًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ لَا تَصِلُ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ إِلَى مَبَادِئِهَا، فَضْلًا عَنْ أَوْسَاطِهَا أَوْ غَايَاتِهَا. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الرُّكُونِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلَ الْيَسِيرَ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُهُ كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُقَلِّدُوهُ، لَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهُ عَلَى قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْوَعِيدِ عَلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ بَشَرٌ اتِّقَاءَهُ إِلَّا بِعِصْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا سَتَرَى فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ، أَمَا وَالْحَقُّ مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَجَعْلُهُ رُكْنًا شَدِيدًا لِلرَّاكِنِ، فَأَجْدَرُ بِقَلِيلِهِ أَنْ يُتَعَذَّرَ اجْتِنَابُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْبَشَرِ إِلَّا بِالْعِصْمَةِ وَالتَّثْبِيتِ الْخَاصِّ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَنْهَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَيْلِ الْيَسِيرِ إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ؟ لَمْ يَكُنْ مَيْلُ النَّفْسِ الطَّبْعِيُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَرْحَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ وَلَا الْبِرُّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الْخَاصُّ بِالْوِلَايَةِ لَهُمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَا مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ لِأَجْلِ الظُّلْمِ. وَلَمَّا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَعْلَتَهُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْوِلَايَةِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْهَا إِلَى صِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا تَأَوَّلَهَا، أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَوَدَّةِ فِيهَا وَقَالَ: - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 60: 9 وَأَذِنَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ لِغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَا تَنْسَ

مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ - 28: 56 فِي حِرْصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي كَفَلَهُ فِي صِغَرِهِ، وَكَانَ يَحْمِيهِ وَيُنَاضِلُ عَنْهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاذْكُرْ قَوْلَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لَهُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ: " كَلَّا وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ " إِلَخْ. بَلْ لَمْ تَكُنِ الثِّقَةُ بِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَعْمَالِ مِنَ الرُّكُونِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ وَثِقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِمُشْرِكٍ مِنْ بَنِي الدَّيْلِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى الرَّاحِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هَاجَرَا عَلَيْهِمَا لِيُوَافِيَهُمَا بِهِمَا فِي الْغَارِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ يَبْحَثُونَ عَنْهُمَا، وَقَدْ جَعَلُوا لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِمَا قَدْرَ دِيَتِهِمَا. وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي اسْتِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكَافِرِ فِي الْحَرْبِ لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَهَا فِي التَّلْخِيصِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الِاسْتِعَانَةَ كَانَتْ مَمْنُوعَةً ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا أَقْرَبُهَا وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ تَرْكُنُوا بِضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَنَجْدٍ. وَبَعْضُهُمْ قَرَأَهَا وَقَرَأَ فَتَمَسَّكُمْ بِكَسْرِ تَائِهِمَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. (نَمُوذَجٌ مِنْ قُصُورِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَلَطِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ) : (1) الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ وَالْمُعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا: رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 310 هـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالرُّكُونِ إِلَى الشِّرْكِ (وَهُوَ أَقْوَى مَا رُوِيَ فِيهَا) وَرُوِيَ عَنْهُ تَفْسِيرُهُ بِالْمَيْلِ وَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - وَلَا تَرْكَنُوا - لَا تَذْهَبُوا، وَهُوَ لَيْسَ تَفْسِيرًا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا يَظْهَرُ الْمُرَادُ الشَّرْعِيُّ مِنْهُ إِلَّا بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ إِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِإِرَادَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ (الرُّكُونَ " بِالطَّاعَةِ أَوِ الْمَوَدَّةِ أَوْ الِاصْطِنَاعِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ (وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِأَحَدِ اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ) وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَصْلَتَانِ إِذَا صَلَحَتَا لِلْعَبْدِ صَلَحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْرِهِ: الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظُّلْمِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الْآيَتَيْنِ لَا تَفْسِيرٌ لَهُمَا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَعْنِي لَا تَلْحَقُوا بِالشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ. وَأَخَذَ ابْنُ جَرِيرٍ خُلَاصَةَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَلَا تَمِيلُوا أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَتَرْضَوْا عَنْ أَعْمَالِهِمْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بِفِعْلِكُمْ إِلَخْ. وَمَا قَالَهُ وَرَوَاهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا كَانَتْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ

إِلَّا كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ وَجِيزَةٌ ذُكِرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ لَا يُقْصَدُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي لُغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ مِثْلَهُ كُلٌّ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُمَا يَعْتَمِدَانِ عَلَى الْمَأْثُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. (2) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 370 هـ فِي تَفْسِيرِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) : وَالرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ: هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ وَمُؤَانَسَتِهِمْ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 6: 68 انْتَهَى. وَقَدْ أَبْعَدَ كُلَّ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَقِيهٌ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا مُفَسِّرٌ عَامٌّ. (3) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 528 هـ فِي كَشَّافِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَزِيَارَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ، وَمَدِّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: - وَلَا تَرْكَنُوا - فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ، وَقَوْلُهُ: - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَذَكَرَ بَعْدَهُ حِكَايَةَ صَلَاةِ الْمُوَفَّقِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي قَرَأَ الْآيَةَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتْ، وَمَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَعَظَهَا لِلزُّهْرِيِّ أَحَدُ إِخْوَانِهِ مِنْ عُبَّادِ السَّلَفِ وَزُهَّادِهِمْ. أَقُولُ: كُلُّ مَا أَدْغَمَهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ اجْتِرَاحُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الرُّكُونِ الْحَقِيرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ مُرَادًا مِنْهَا وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِيمَانِ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَظَنَّةَ الِانْقِطَاعِ لِظَلَمَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا زِيَارَتُهُمْ وَمُصَاحَبَتُهُمْ وَمُجَالَسَتُهُمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ فَلَمْ يَكُونُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، بَلْ كَانَ زِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزِيُّهُمْ وَاحِدًا وَعَادَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَاحِدَةً، إِلَّا مَا كَانَ قَبِيحًا نَهَى عَنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ مَعَهُمْ مَشْرُوعَةً زَادَهَا الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ فَضَائِلِ الْمُعَاشَرَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ضُعَفَاءَ فِي مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ أَقْوِيَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَازِمًا عَلَى الزَّحْفِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْفَصْلُ فِيهَا فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَبَرُّوهُمْ وَيُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّينِ. . . . أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ وَيَنْصُرُوهُمْ.

(4) وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 543 هـ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ: (الْأُولَى) الرُّكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قِيلَ فِي الَّذِينَ ظُلِمُوا إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَقَالُوا: أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ وَلَا يُرْكَنُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ. قَالَ اللهُ فِي الْأَوَّلِ: - وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ - 68: 9 وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ فِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ: - وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا - 6: 68 الْآيَةَ. وَقَالَ حَكِيمٌ: عَلَى الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ ... قَرِينِهِ فَكَلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى، وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْيِ بِحَالِ الِاضْطِرَارِ اهـ. وَقَدْ أَصَابَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالْمَأْثُورَ دُونَ فِقْهِ الْآيَةِ. وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 671 هـ فِي تَفْسِيرِهِ جَامِعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَنَقَلَ كَلَامَهُ بِدُونِ عَزْوٍ إِلَيْهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. (5) وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَضْلُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ الشِّيعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 561 هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَجْمَعِ الْبَيَانِ: (اللُّغَةُ) الرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالْإِنْصَاتِ وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، نَقِيضُهُ النُّفُورُ. (وَالْمَعْنَى) ثُمَّ نَهَى اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَنِ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ وَالْمَيْلِ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: لَا تُدَاهِنُوا عَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الدُّخُولُ مَعَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَإِظْهَارُ الرِّضَاءِ بِفِعْلِهِمْ أَوْ إِظْهَارُ مُوَالَاتِهِمْ. فَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ أَوْ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ فَجَائِزٌ عَنِ الْقَاضِي. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الرُّكُونَ: الْمَوَدَّةُ وَالنَّصِيحَةُ وَالطَّاعَةُ. انْتَهَى. وَهُوَ لَمْ يَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا عِبَارَةً عَنْ أُسْتَاذِهِمُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَرِوَايَةَ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (6) وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 606 هـ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ:

الرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَنَقِيضُهُ النُّفُورُ عَنْهُ. . . . قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ، وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَابُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الظَّالِمِ فِي نَفْسِهِ " اهـ. قَدْ تَبِعَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ خَصْمَهُ الْمُعْتَزِلِيَّ (الزَّمَخْشَرِيَّ) فَأَسَاءَ التَّقْلِيدَ، وَاخْتَصَرَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ وَمَا أَفَادَ، بَلْ زَادَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارَ لِطُلَّابِ الْمَنَافِعِ وَدَرْءِ الْمَضَارِّ مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَخْرَجَ مُدَاخَلَتَهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جَرِيمَةِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، وَهَلْ يُدَاخِلُهُمْ أَحَدٌ إِلَّا لِهَذَا؟ (7) وَقَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ اللهِ عُمَر الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 685 هـ - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - فَلَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - بِرُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ الرُّكُونُ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ، ثُمَّ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ، ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ، وَخِطَابُ الرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَالتَّثْبِيتُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الزَّوَالَ عَنْهَا بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ ظُلْمٌ فِي نَفْسِهِ اهـ. (8) قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 701 هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَدَارِكِ التَّنْزِيلِ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - 11: 113 وَلَا تَمِيلُوا، قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللهُ -: هَذَا خِطَابٌ لِأَتْبَاعِ الْكَفَرَةِ، أَيْ: لَا تَرْكَنُوا إِلَى الْقَادَةِ وَالْكُبَرَاءِ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - وَقِيلَ: الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تَلْحَقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، وَعَنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ. فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى مَنْ ظَلَمَ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ! ! وَعَنِ الْحَسَنِ: جَعَلَ اللهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ: - وَلَا تَطْغَوْا - وَلَا تَرْكَنُوا -. وَقَالَ سُفْيَانُ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللهُ فِي أَرْضِهِ " وَلَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ: أَيُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: يَمُوتُ؟ قَالَ: دَعْهُ يَمُوتُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ -

أَيْ فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَأَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَمَعْنَاهُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْهُ غَيْرُهُ - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - ثُمَّ لَا يَنْصُرُكُمْ هُوَ ; لِأَنَّهُ حَكَمَ بِتَعْذِيبِكُمْ، وَمَعْنَى " ثُمَّ " الِاسْتِبْعَادُ، أَيِ النُّصْرَةُ مِنَ اللهِ مُسْتَبْعَدَةٌ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرُ مَا قُلِّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. (9) وَقَالَ أَبُو السعُودِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي دَوْلَةِ الرُّومِ الْعُثْمَانِيَّةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 983 هـ، فِي تَفْسِيرِهِ (إِرْشَادِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ) : - وَلَا تَرْكَنُوا - أَيْ تَمِيلُوا أَدْنَى مَيْلٍ - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَدَارُ النَّهْيِ هُوَ الظُّلْمُ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنْ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ، إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَمَسَّكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّارُ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مَسَاسِ النَّارِ هَكَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ مَيْلًا عَظِيمًا، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُلْقِي شَرَاشِرَهُ عَلَى مُؤَانَسَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، وَيَبْتَهِجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى زَهْرَتِهِمُ الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ طَفِيفٌ، وَمِنْ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ خَفِيفٌ، بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ - ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - 22: 73 وَخِطَابُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّثْبِيتِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرَ مَا قَلَّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيَّ وَتَكَلَّفَ. (10) وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأَلُوسِيُّ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةِ فِي بَغْدَادَ - بَعْدَ أَنْ كَانَ شَافِعِيًّا - فِي تَفْسِيرِهِ رُوحِ الْمَعَانِي: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ لَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَفَسَّرَ الْمَيْلَ بِمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِمْ بِالْمَحَبَّةِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُفَسَّرُ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا مُطْلَقًا. قِيلَ: وَلِإِرَادَةِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ، وَيَشْمَلُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مُدَاهَنَتَهُمْ، وَتَرْكَ التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَتَعْظِيمَ ذِكْرِهِمْ. وَمُجَالَسَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَا الْقِيَامُ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَدَارُ النَّهْيِ عَلَى الظُّلْمِ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ مَثَلًا، وَتَعْقَّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، - فَتَمَسَّكُمْ - أَيْ فَتُصِيبَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْفَاءُ الْوَاقِعَةُ

فِي جَوَابِ النَّهْيِ - النَّارُ - وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَإِلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي - وَمَا أَصْعَبَهُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ بَلْ فِي غَالِبِ الْأَعَاصِيرِ مِنْ تَفْسِيرٍ - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مِسَاسِ النَّاسِ النَّارُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ كُلَّ الْمَيْلِ، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُتْعِبُ قَلْبَهُ وَقَالَبَهُ فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَنْهِضُ الرَّجْلَ وَالْخَيْلَ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ، وَيَتَهَيَّجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، غَافِلًا عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، ذَاهِلًا عَنْ مُنْتَهَى مَا هُنَالِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا لَا مِنَ الرَّاكِنِينَ إِلَيْهِمْ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِسُفْيَانَ: إِنِّي أَخِيطُ لِلظَّلَمَةِ فَهَلْ أُعَدُّ مِنْ أَعْوَانِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، أَنْتَ مِنْهُمْ، وَالَّذِي يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ مِنْ أَعْوَانِهِمْ اهـ. مَنْ تَأَمَّلَ أَقْوَالَ مَنْ بَعْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَلَّدُوهُ فِيمَا فَسَّرَ بِهِ الرُّكُونَ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكُونِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنَ الْبِنَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَعْنَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِالَّذِينِ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ مَا هُوَ غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَقْوَامِ كَالْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - 2: 6 مَعْنَاهُ: جَمَاعَةُ الْكَافِرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ لَا مَنْ وَقَعَ مِنْهُمْ كُفْرٌ مَا إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. (11) أَخْتِمُ هَذِهِ النُّقُولَ بِمَا أَوْرَدَهُ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان نَائِبُ مَلِكِ بَهُوبَالَ (الْهِنْدِ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1307 هـ وَفِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ) الَّذِي أَوْدَعَهُ تَفْسِيرَ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيِّ الْمُسَمَّى (بِفَتْحِ الْقَدِيرِ) وَزَادَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ مُغْنِيًا عَنْ أَصْلِهِ. فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرَانِ عَلَى تَخْطِئَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَأَوْرَدَا بَعْضَ مَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ مُخَالِفًا لَهُ، مِمَّا نَقَلْنَاهُ وَزْنًا عَلَيْهِ، وَانْفَرَدْنَا بِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ دُونَهُمْ وَدُونَهُمَا، ثُمَّ انْفَرَدَا بِالْبَحْثِ الْآتِى بِنَصِّهِ قَالَ: " وَقَدِ اخْتَلَفَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ خَاصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقِيلَ: خَاصَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بـ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الظَّلَمَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْبَالِغَةُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، حَتَّى وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: " أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا رَأْسُهُ كَالزَّبِيبَةِ " وَوَرَدَ وُجُوبُ طَاعَتِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمُ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الظُّلْمِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَفَعَلُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ، مِمَّا لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ إِلَى الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ لَهُمْ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ الدُّخُولُ فِيهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجِهَادُ، وَأَخْذُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةُ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ. " وَبِالْجُمْلَةِ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَ تَحْتَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَابُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لِتَوَاتُرِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِهِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: - أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ - 4: 59 بَلْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ مَنَعُوا مَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِلرَّعَايَا، كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ " أَعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ " وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ: " وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ وَضَرَبَ ظَهْرَكَ " فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ، فَمُجَرَّدُ هَذِهِ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ هِيَ مَيْلٌ وَسُكُونٌ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَيْلَ وَالسُّكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ مَالَ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ شَرْعًا كَالطَّاعَةِ أَوِ التَّقِيَّةِ، وَمَخَافَةِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَيْلٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى بِأَفْعَالِهِمْ اهـ. (قُلْتُ) : أَمَّا الطَّاعَةُ عَلَى عُمُومِهَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَهِيَ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَيْهَا، مُخَصَّصَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْهُ بِأَدِلَّتِهَا الَّتِي قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَلَا رَيْبَ، فَكُلُّ مَنْ أَمَرُوهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ كَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِمَا وُكِلَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ جَائِزٌ لَهُ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْأَمْرِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ مَعَ ضَعْفِ الْمَأْمُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا وَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَطَتُهُمْ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، مَعَ كَرَاهَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ

وَعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهَا لَهُمْ، وَكَرَاهَةِ الْمُوَاصَلَةِ لَهُمْ لَوْلَا جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ خَافِيَةٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنِ ابْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ فِيهِ ظُلْمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، فَإِنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ " فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي "، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَلْيَقُ بِهِ. يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَوِّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَأَعِنَّا عَلَيْهِ اهـ. تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ: إِنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي فَتَحَ بَابَهُ وَدَخَلَهُ هَذَانِ الْمُجَدِّدَانِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفَتْحِ الْبَيَانِ) كَانَ اسْتِدْرَاكًا ضَرُورِيًّا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جُمْهُورُ مَنْ قَبْلَهُمَا فَاقْتَصَرُوا وَقَصَرُوا، لَوْلَاهُ لَمَا كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا عَلَى سَبْقِهِمَا لَمْ يَسْلَمَا مِنْ تَقْصِيرٍ، وَلَمْ يَأْتِيَا بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ تَحْرِيرٍ، وَأَوْرَدَا الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى بِدُونِ تَخْرِيجٍ وَلَا تَدْقِيقٍ. أَهَمُّ مَا فِي الْبَحْثِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى التَّحْرِيرِ، مَسْأَلَةُ طَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ وَإِنْ تَفَاقَمَ ظُلْمُهُمْ فَسَلَبُوا الْأَمْوَالَ، وَضَرَبُوا ظُهُورَ الرِّجَالِ، مَا دَامُوا لَا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ (هُوَ بِالْفَتْحِ: الظَّاهِرُ الْمَكْشُوفُ) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَذْهَبُ الزَّيْدِيَّةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَإِجْمَالُهُ لَا يَنْجَلِي إِلَّا بِبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْرِيرُهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ 0 أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ. وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَظْرِ مَا دُونَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ مِنْ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي تَقْبِيحِ الظُّلْمِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى سُلْطَةِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ. وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي طَاعَتِهِمْ يُقَابِلُهُ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ وُجُوبِ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ عَامَّةً، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالْأُمَرَاءِ خَاصَّةً، وَوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُسْتَطَعْ فَبِاللِّسَانِ، وَكَوْنِ إِنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِمَا قَبْلَهُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ،

وَمِنْهُ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ، فَإِنْكَارُهُمْ لَهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِهِ. وَحَسْبُنَا هُنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - 5: 105 الْآيَةَ، فَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسٍ (أَبِي حَازِمٍ) قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْآيَةِ - أَلَا وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: " إِنَّ النَّاسَ ". . . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللهُ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 5: 78 قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ أَطْرًا " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: قَالَ: " كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَّكُمُ اللهُ كَمَا لَعَنَهُمْ " اهـ. أَطَرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ: عَطَفَهُ وَثَنَاهُ، وَقَصَرَهُ عَلَيْهِ حَبَسَهُ وَأَمْسَكَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ (وَبَابُهُمَا ضَرَبَ) . وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الشَّرْعِ هِيَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَنُوَّابِهِمْ مِنَ السَّلَاطِينِ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالْوُلَاةِ، وَكُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، دُونَ الْمَحْظُورِ. وَأَمَّا طَاعَةُ الْمُتَغَلِّبِينَ فَهِيَ لِلضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ تُرَجِّحُ مَفْسَدَتَهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَخُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ السِّبْطِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى يَزِيدَ الظَّالِمِ الْفَاسِقِ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ مَا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ الْكَافِيَةَ، بَلْ خَذَلَهُ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ

مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَفَرَّ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَالِكٍ مَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ تَرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مَعَ وُلَاتِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (مَرَاتِبُ الْإِجْمَاعِ) : وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْإِمَامَ الْوَاجِبُ إِمَامَتُهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فَرْضٌ، وَالْقِتَالُ دُونَهُ فَرْضٌ، وَخِدْمَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجِبَةٌ، وَأَحْكَامُهُ وَأَحْكَامُ مَنْ وَلَّى نَافِذَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ مُدُنِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ إِمَامٍ قُرَشِيٍّ غَيْرِ عَدْلٍ أَوْ مُتَغَلِّبٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ إِلَخْ. وَأَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: " عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ " أَيْ: نَصُّ آيَةٍ، أَوْ خَبَرٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ. انْتَهَى. " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي الْوِلَايَةِ، فَلَا يُنَازِعُهُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ، وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِيمَا عَدَا الْوِلَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوِلَايَةِ نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، وَيَتَوَصَّلَ إِلَى تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعِهِ بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ. " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا يَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى. "

114

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمُ السَّيْفَ وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - بَاغٍ عَلَى الْخَمِيرِ السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالَاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كُلُّ جُلْمُودٍ. انْتَهَى مَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ. هَذَا وَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ " هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ لُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَإِمَامِهِمُ الَّذِي بَايَعُوهُ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ، أَخَصُّ مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، وَقَدْ قَالُوا فِي مَعْنَى مَوْتِهِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً: إِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِإِمَامٍ يَلْتَزِمُهَا مَعَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْفَوْضَى لَا أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا اهـ. وَكُلُّ هَذَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْفِئَاتِ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ بِشَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَتَفْرِيقِ شَمْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ ظَالِمًا، فَإِنْ كَفَّ الْإِمَامُ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ بِالْعَزْلِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ مَحَلُّ ثِقَةِ الْأُمَّةِ، الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الرَّأْيَ الْعَامَّ فِيهَا، الَّذِينَ عَنَاهُمْ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: " فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زُغْتُ فَقَوِّمُونِي ". وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

هَذَا أَمْرٌ بِأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَبِأَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ، اللَّذَيْنِ يُسْتَعَانُ بِهِمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى أُولِي الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا. - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - خَصَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمُغَذِّيَةِ لِلْإِيمَانِ وَالْمُعِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَيْ: أَدِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيمِ وَأَدِمْهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، طَرَفُ الشَّيْءِ وَالزَّمَنِ النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ وَنِهَايَتُهُ، فَطَرَفَا النَّهَارِ هُنَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ أَوِ الْغُدُوُّ وَالْعَشِيُّ، وَقَدْ أَمَرَنَا - تَعَالَى - فِي التَّنْزِيلِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ فِيهِمَا: - وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ - أَيْ: وَفِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ بِالضَّمِّ كَقُرَبٍ جَمْعُ قُرْبَةٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ، وَقَالُوا: الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةُ مِنَ النَّهَارِ، وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِنَ اللَّيْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ وَالْغَدَاةُ (أَيِ الْفَجْرُ) وَزُلَفُ اللَّيْلِ الْعَتَمَةُ (أَيِ الْعَشَاءُ) ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ فِي زُلَفِ اللَّيْلِ هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ " وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ فَيُبْحَثُ عَمَّنْ رَفَعَهُ، وَأَدْخَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ; إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى وَقْتُهَا طَرَفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَائِفَةٌ وَنَاحِيَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَفْصِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ طَرَفٌ ثَالِثٌ، وَاللَّفْظُ هَنَا مُثَنَّى، وَفِي سُورَةِ طه: - وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى - 20: 130 فَجَمَعَ الْأَطْرَافَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُمَا وَقْتَا صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. وَالْأَظْهَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ - تَعَالَى - وَتَسْبِيحَهُ الْمُطْلَقَ فِيهَا عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا، وَالْآيَةُ الصَّرِيحَةُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - 30: 17 و148 تُمْسُونَ تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، نَقَلَهُ فِي الْمِصْبَاحِ عَنِ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِثْلَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ سَبَبُهُ اشْتِرَاكُ الْوَقْتَيْنِ بِاتِّصَالِ آخِرِ الْمَسَاءِ بِأَوَّلِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ حَيْثُ يَخْتَلِطُ النُّورُ بِالظَّلَامِ، فَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الْعَتَمَةِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَزُولُ عِنْدَهَا الشَّفَقُ، وَهُوَ آخِرُ أَثَرٍ لِنُورِ النَّهَارِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ - 17: 78 الْآيَةَ، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا، أَيْ أَقِمْهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا هَذَا وَفِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، مُنْتَهِيًا إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ ظُلْمَتِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَائَيْنِ، وَأَقِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ. -

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ - الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ قَبْلَهَا مُبَيِّنٌ لِحِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ. وَمَعْنَاهَا: أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا، مَا يَمْحُو مِنْهَا تَأْثِيرَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَإِفْسَادِهَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْحَسَنَاتِ فِيهَا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - وَلَا غَرْوَ، فَالصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ، وَأَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْمُكَفِّرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْحَسَنَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى التُّرُوكِ فَإِنَّهَا عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَمِنْهُ: - إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا - 4: 31 وَفِي الْحَدِيثِ: " وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " - ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصَايَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى هُنَا لَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ الَّذِينَ يُرَاقِبُونَ اللهَ وَلَا يَنْسَوْنَهُ. وَقَدْ فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ، وَأَيَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ كَفَّارَتِهَا فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - إِلَخْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: " هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْهُمْ - أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ: إِنَّنِي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، قَبَّلْتُهَا وَلَزِمْتُهَا وَلَمْ أَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَوْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللهِ بَصَرَهُ فَقَالَ: " رُدُّوهُ عَلَيَّ " فَرَدُّوهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - الْآيَةَ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً " وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَغْزَاهُ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِهَا بِأَبِي الْيَسَرِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِمْ فِيَّ حَدَّ اللهِ - مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: " أَيْنَ الرَّجُلُ "؟ قَالَ: أَنَا ذَا، قَالَ: " أَتْمَمْتَ الْوُضُوءَ وَصَلَّيْتَ مَعَنَا آنِفًا "؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَإِنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ " وَالْمُرَادُ: خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ الَّتِي طَلَبْتَ تَكْفِيرَهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي تَكْفِيرِهَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْوُضُوءُ التَّامُّ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَابَ الرَّجُلُ تَوْبَةً نَصُوحًا؛ بِدَلِيلِ طَلَبِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ

115

وَالْكَبَائِرَ إِلَّا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا أَوِ اسْتِحْلَالُ أَهْلِهَا مِنْهَا إِنْ أَمْكَنَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الْحَسَنَاتِ لِلصَّغَائِرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْبَةُ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، وَيَقُولُ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ يُكَفِّرُ مَا هُوَ ضِدُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَتَكْفِيرِ الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ بِالْإِحْسَانِ إِلَخْ. وَالْآيَاتُ فِي تَكْفِيرِ السُّوءِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُعَيَّنَةِ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الثَّانِي كَفَارَّاتُ الظِّهَارِ وَمُحْرِمَاتُ الْإِحْرَامِ وَالْحِنْثُ بِالْأَيْمَانِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّوْبَةُ، فَذُنُوبُهَا عَارِضَةٌ لَيْسَ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ تَكْرَارُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمُدَنِّسَةِ لِلنَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَهَذِهِ لَا يُطَهِّرُهَا مِنْهَا وَيُزَكِّيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِهِ، وَإِزَالَةِ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَبِجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ بِعِصْيَانِهِ، وَشَرَحَ الْغَزَّالِيُّ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ: عِلْمٍ، وَحَالٍ، وَعَمَلٍ، كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَالْعِلْمُ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ يُوجِبُ الْحَالَ، أَيْ يُحْدِثُهُ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَأَلَمُ النَّفْسِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ وَتَكْفِيرُهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى مُوجَزًا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى التَّوْبَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، مِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى تَوْبَةِ آدَمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ، وَمِنْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ - 4: 17 إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 6: 54 وَسَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - 16: 119 وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه: - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى - 20: 82 وَنَاهِيكَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ التَّوْبَةِ مِنْ آيَاتِ التَّوْبَةِ، وَلَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَفِيهَا أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ. - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - (3) أَيْ وَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَمَا نُهِيتَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا حَتَّى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا - 20: 132 وَاسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ

وَالْإِصْلَاحِ، وَانْتِظَارِ عَاقِبَتِهَا مِنَ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا جَزَاءَ لَهُ إِلَّا الْإِحْسَانُ، - فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - فِي أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنَّ لِلْجَزَاءِ فِي أُمُورِ الْأُمَمِ آجَالًا وَأَقْدَارًا يَجِبُ الصَّبْرُ فِي انْتِظَارِهَا، وَعَدَمُ اسْتِعْجَالِهَا قَبْلَ أَوَانِهَا. فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ سُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ قِصَصَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، جَاءَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْذَارِ قَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ، وَاجْتِنَابِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، قَالَ: - فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - " لَوْلَا " تَحْضِيضِيَّةٌ بِمَعْنَى: هَلَّا، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ وَالْأَقْوَامُ، وَالْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ: " الْجِيلُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُونَ " أَقُولُ: ثُمَّ اشْتُهِرَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهِ، وَمِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْخِيَارِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ، قِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يُنْفِقُونَ فِي الْعَادَةِ أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُمْ وَأَقْرَبَهُ

116

إِلَى التَّلَفِ وَالْفَسَادِ أَوَّلًا وَيَسْتَبْقُونَ الْأَجْوَدَ فَالْأَجْوَدَ، وَنَقُولُ: لِأَنَّ الْأَحْيَاءَ يَهْلِكُ مِنْهُمْ الْأَضْعَفُ فَالْأَضْعَفُ أَوَّلًا وَيَبْقَى الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، وَمِنْ هَذَا مَا يُعْرَفُ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَهُوَ إِفْضَاءُ تَنَازُعِ الْأَحْيَاءِ إِلَى بَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ - 13: 17 وَمِنْ ثَمَّ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْخِيَارِ بِالْبَقِيَّةِ، يَقُولُونَ: فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي النَّاسِ بَقَايَا، وَبِهَذَا فُسِّرَتِ الْآيَةُ. وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا كَانَ - أَيْ وُجِدَ - مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنَ النَّهْيِ وَالرَّأْيِ وَالصَّلَاحِ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ، فَيَحُولُ نَهْيُهُمْ إِيَّاهُمْ دُونَ هَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا أَلَّا نُهْلِكَ قَوْمًا إِلَّا إِذَا عَمَّ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ، كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ - أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ الْأَخْيَارِ، النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَكِنْ كَانَ هُنَالِكَ قَلِيلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ مَعَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا مَنْبُوذِينَ لَا يُقْبَلُ نَهْيُهُمْ وَأَمْرُهُمْ، مُهَدَّدِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، بَعْدَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ - وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ - مَا أُتْرِفُوا فِيهِ - أَيْ: مَا رَزَقْنَاهُمْ وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ فَبَطَرُوا. يُقَالُ: أَتْرَفَتْهُ النِّعْمَةُ أَيْ أَبْطَرَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ، وَالْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ فِي الْمَرَحِ وَخِفَّةِ النَّشَاطِ وَالْفَرَحِ - وَكَانُوا مُجْرِمِينَ - أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِجْرَامِ الَّذِي وَلَّدَهُ التَّرَفُ رَاسِخِينَ فِيهِ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَخَّرُ لِعُقُولِهِمْ فِي تَرْجِيحِ مَا أَعْطَوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ. رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُولُو بَقِيَّةٍ وَأَحْلَامٍ " وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْأَحْلَامَ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ الرَّشِيدَةَ كَافِيَةٌ لِفَهْمِ مَا فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، لَوْ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هِدَايَتِهَا الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ، وَالتَّفَنُّنُ فِي أَنْوَاعِهِ، بَدَلًا مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَشُكْرِ اللهِ الْمُنْعِمِ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِتْرَافُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْرَافِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالظُّلْمُ وَالْإِجْرَامُ يَظْهَرُ فِي الْكُبَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَيَسْرِي بِالتَّقْلِيدِ فِي الدَّهْمَاءِ، فَيَكُونُ سَبَبَ الْهَلَاكِ بِاسْتِئْصَالٍ، أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا - 17:16.

117

فَهَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، وَلَا تُغْنِي عَنْ شُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَذِهِ السُّنَّةِ وَمُحَاوَلَةِ اتِّقَائِهَا لَهَا، فَحُكَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ وَالْأَحْلَامِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ سَيَهْلِكُونَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ، بَلْ تَكُونُ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ - 6: 65 فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا. وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ، أَنَّ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ مِنْ شُعُوبِنَا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِي الْإِسْرَافِ فِيهِ دُونَ مَا بِهِ يَرْجُو الْإِفْرِنْجُ اتِّقَاءَ الْهَلَاكِ مِنْ فَسَادِهِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْحَرْبِيَّةُ وَفُنُونُ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ فِسْقُ الْإِتْرَافِ يُهْلِكُ الْأُمَمَ الْقَوِيَّةَ، فَكَيْفَ تَبْقَى مَعَ اتِّبَاعِهِ وَفَسَادِهِ الْأُمَمُ الضَّعِيفَةُ؟ وَكَيْفَ يَزُولُ وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَالزُّعَمَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْكُتَّابُ وَالْخُطَبَاءُ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الظَّاهِرُونَ، وَالنَّاهُونَ عَنْ فَسَادِهِمُ الْأَقَلُّونَ الْخَامِلُونَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ وَمَا يَحُولُ دُونَهُ بِقَوْلِهِ: - وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ وَسُنَّتِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِ أَهْلِهَا مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ. مُجْتَنِبِينَ لِلْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ الْعَدِيدَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَنْ - يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ - يَقَعُ فِيهَا - مَعَ تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ - وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - فِي أَعْمَالِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ، وَأَحْكَامِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ، فَلَا يَبْخَسُونَ الْحُقُوقَ كَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَلَا يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ كَقَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَبْطِشُونَ بِالنَّاسِ بَطْشَ الْجَبَّارِينَ كَقَوْمِ هُودٍ، وَلَا يُذَلُّونَ لِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَسْتَعْبِدُ الضُّعَفَاءَ، كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ - بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى الشِّرْكِ الْإِفْسَادَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ الظُّلْمُ الْمُدَمِّرُ لِلْعُمْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهَا بِظُلْمٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ مُصْلِحِينَ فِي حِلِّ أَعْمَالِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ لِلنَّاسِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى جَرِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَتَنْكِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذَا لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - 31: 13 وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُصْلِحِينَ ظُلْمٌ فَلِذَلِكَ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ.

118

وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ الْمُعَبِّرَ عَنْ تَجَارِبِ النَّاسِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ تَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ، وَلَا تَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ، وَالْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِمَّا شَأْنُ صَاحِبِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَكُونُ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ مَجَازًا، وَمِنْ أَرْكَانِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ جَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَاضِحًا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَعْضُهَا خَفِيًّا يُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْهَبَ الذِّهْنُ وَالْفِكْرُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْبُلَغَاءُ. - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، الْآسِفُ عَلَى إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَاتِّبَاعِ هِدَايَتِهِ - لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَالْفِطْرَةِ لَا رَأْيَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ، وَإِذَنْ لَمَا كَانُوا هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسَمَّى بِالْبَشَرِ وَبِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، بَلْ لَكَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالنَّحْلِ أَوِ النَّمْلِ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ كَالْمَلَائِكَةِ مَفْطُورِينَ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَطَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ كَاسِبِينَ لِلْعِلْمِ لَا مُلْهَمِينَ، وَعَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى بَعْضٍ، لَا مَجْبُورِينَ وَلَا مُضْطَرِّينَ، وَجَعَلَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَسْبِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ كَانُوا فِي طَوْرِ الطُّفُولَةِ النَّوْعِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ السَّاذَجِ أُمَّةً وَاحِدَةً لَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ كَثُرُوا وَدَخَلُوا فِي طَوْرِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَظَهَرَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فَاخْتَلَفُوا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا - 10: 19 فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّبَعِ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ - وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - مِنْهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، إِذِ الظَّنِّيُّ لَا يُكَلَّفُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُهُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ وَحْدَةِ الْبَشَرِ فَاخْتِلَافِهِمْ فَبَعْثَةِ النَّبِيِّينَ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَعَهُمْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْآيَةِ (2: 213) وَتَفْسِيرِهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، - وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ - أَيْ وَلِذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ، خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَشُعُورِهِمْ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَظْهَرًا لِأَسْرَارِ خَلْقِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ وَسُنَنِهِ فِي الْأَحْيَاءِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ

119

وَمَشِيئَتِهِ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْمُمَكَّنَاتِ، وَبِهَذَا كَانُوا خُلَفَاءَ الْأَرْضِ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - 2: 31 وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ فَيَخْتَلِفُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - 105 وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْقَوْلَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ أَشْهَبُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. انْتَهَى. أَيْ كَانَ الِاخْتِلَافُ سَبَبَ دُخُولِ كُلٍّ مِنَ الدَّارَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقْدِيمُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمَعْقُولُ الْمَشْرُوعُ عَكْسُهُ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يُقَالَ: فَرِيقٌ اتَّفَقُوا فِي الدِّينِ فَجَعَلُوا كِتَابَ اللهِ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَرَحِمَهُمُ اللهُ بِوِقَايَتِهِمْ مِنْ شَرِّ الِاخْتِلَافِ وَغَوَائِلِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَفَرِيقٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَذَاقُوا عِقَابَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْقَبَهُمْ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ: - وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ - الَّتِي قَالَهَا فِي غَيْرِ الْمُهْتَدِينَ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - أَيْ مِنْ عَالَمَيْ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كُتُبَهُ لِهِدَايَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، فَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: - وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ - 32: 13 الْآيَةَ، فَهَذَا فَرِيقُ السَّعِيرِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَزَاءُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

120

هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ فِي بَيَانِ مَا أَفَادَتْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْبَاءِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَمَا تُفِيدُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغَهُ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ لَهُ لَا لَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ، قَالَ - تَعَالَى -: - وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ - أَيْ: وَكُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَنُحَدِّثُكَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهِ وَاسْتِقْصَائِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْقَصِّ فِي الْأَصْلِ تَتَبُّعُ أَثَرِ الشَّيْءِ لِلْإِحَاطَةِ بِهِ، وَمِنْهُ: - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ - 28: 11 ثُمَّ قِيلَ: قَصَّ خَبَرَهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي اسْتَقْصَاهُ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْأَنْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ الصَّحِيحَةِ فِي صُوَرِهَا الْكَلَامِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا الْبَيَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ فَوَائِدِهَا الْعِلْمِيَّةِ، وَعِبَرِهَا وَمَوَاعِظِهَا النَّفْسِيَّةِ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا، كَالَّتِي تَرَاهَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَعُدُّونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَأَمْثَالِهِ - مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - أَيْ: نَقُصُّ مِنْهَا عَلَيْكَ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ نُقَوِّيهِ وَنَجْعَلُهُ رَاسِخًا فِي ثَبَاتِهِ كَالْجَبَلِ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ بِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَقْوَامِ، وَمَا قَاسَاهُ رُسُلُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ فَصَبَرُوا صَبْرَ الْكِرَامِ - وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ - أَيْ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْأَنْبَاءِ الْمُقْتَصَّةِ عَلَيْكَ، بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ أَصْلِ دِينِ اللهِ وَأَرْكَانِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّقَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ - وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ عِقَابِ اللهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ مَا فِيهَا مِنْ عَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَنَصْرُهُ - تَعَالَى - لِمَنْ نَصَرَهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ، فَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا يَشْمَلُ مَنْ كَانُوا آمَنُوا بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى آمَنُوا بَعْدُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، مَا يُنَاسِبُ إِعْجَازَ تِلْكَ الْقِصَصِ الَّتِي جُمِعَتْ فَوَائِدُهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ. - وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ - أَيْ فَبَشِّرْ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ، وَقُلْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يَتَّعِظُونَ: اعْمَلُوا عَلَى مَا فِي مَكَانَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ وَإِيذَاءِ الدَّاعِي وَالْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ: فَسَوْفَ تَلْقَوْنَ جَزَاءَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْعِقَابِ وَالْخِذْلَانِ - إِنَّا عَامِلُونَ - عَلَى مَكَانَتِنَا مِنَ الثَّبَاتِ

122

عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ - وَانْتَظِرُوا - بِنَا مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنْ انْتِهَاءِ أَمْرِنَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا تَتَحَدَّثُونَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ - 52: 30 وَمَا فِي مَعْنَاهُ - إِنَّا مُنْتَظِرُونَ - مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَإِتْمَامِ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَعُقَابِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. - وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - أَيْ: وَلَهُ وَحْدُهُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَعَنْ عِلْمِهِمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، مِمَّا تَنْتَظِرُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَكَ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَمِمَّا يَنْتَظِرُونَ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، الْعَالِمُ بِمَا سَيَقَعُ مِنْهُ وَبِوَقْتِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ - وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ - فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (يَرْجِعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ - فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ - أَيْ: وَإِذَا كَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كُلُّ أَمْرٍ، فَاعْبُدْهُ كَمَا أُمِرْتَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ عِبَادَةٍ شَخْصِيَّةٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْكَ، وَمِنْ عِبَادَةٍ مُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ لِغَيْرِكَ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِيُتِمَّ لَكَ وَعَلَيْكَ مَا وَعَدَكَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ اسْتِطَاعَتُكَ، فَالتَّوَكُّلُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَطَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِهِمَا مِنَ التَّمَنِّي الْكَاذِبِ وَالْآمَالِ الْخَادِعَةِ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ - وَهِيَ مَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ - لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ الَّذِي يَكْمُلُ بِهِ التَّوْحِيدُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ - وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - جَمِيعًا، مَا تَعْمَلُهُ أَنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَابَرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَهُوَ يُوَفِّيكُمْ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لَكُمْ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: " يَعْمَلُونَ " بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ التَّفْصِيلِيُّ وَيَلِيهِ خُلَاصَتُهُ الْإِجْمَالِيَّةُ)

الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ) : هَذِهِ السُّورَةُ أَشْبَهُ بِسُورَةِ يُونُسَ الَّتِي قَبْلَهَا، فِي أُسْلُوبِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي خُلَاصَتِهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحُجَجِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ، وَمُنَاسِبَةٌ لَهَا فِي بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ وَالْمَقْطَعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ - وَلَكِنْ فِي تِلْكَ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ مَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ، وَفِي هَذِهِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَا أُجْمِلَ فِي تِلْكَ ; لِهَذَا نَخْتَصِرُ فِي خُلَاصَتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ فِيمَا عَدَا قَصَصِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَاقِبَةِ الْأَقْوَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَنَقُولُ: (الْبَابُ الْأَوَّلُ) : (فِي تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ وَسُنَنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الظُّلْمِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) : (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ) (1) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: هُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَعْنِي عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمَ عِبَادَةِ شَيْءٍ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُ، كَمَا تَرَاهُ بَعْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِهِ - تَعَالَى - لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: - أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ - وَمِثْلُهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ (26) مِنْهَا، وَفِي مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ هُودٌ فِي الْآيَةِ (50) وَصَالِحٌ فِي الْآيَةِ (61) وَشُعَيْبٌ فِي الْآيَةِ: - قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - 84. وَأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُونَهُ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ عَقَائِدَهُمُ الْمَشُوبَةَ بِالْوَثَنِيَّةِ مِنْ تَقَالِيدِ آبَائِهِمُ الْجَاهِلِينَ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِبَادَةُ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، نَهَوْهُمْ بِهَا عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَهِيَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ

وَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ، وَالنَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ لِتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ تَعْظِيمًا تَعَبُّدِيًّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ كَمَا يَرَوْنَ تَفْسِيرَهَا فِي مِثْلِ الْجَلَالَيْنِ، وَأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَالنُّذُورَ وَتَقْرِيبَ الْقَرَابِينِ لَهُمْ لَا يُنَافِي دِينَ اللهِ وَتَوْحِيدَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَالصَّوَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ وَكَوْكَبٍ، أَوْ بَشَرٍ: وَلِيٍّ أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ مَلَكٍ، إِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا تَعَبُّدِيًّا ابْتِغَاءَ نَفْعٍ أَوْ كَشْفِ ضُرٍّ فِي غَيْرِ الْعَادَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَعِبَادَةُ الْمَلَكِ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ كَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْوَثَنِ وَالصَّنَمِ بِغَيْرِ فَرْقٍ ; إِذْ كُلُّ مَا عَدَا اللهَ فَهُوَ عَبْدٌ وَمِلْكٌ لِلَّهِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ وَلَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَا لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ زُلْفَى إِلَى اللهِ، بَلْ يَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَا سِوَى الْعَادَاتِ الْعَامَّةِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ عِبَادَةً كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ وَهِيَ أَعْلَمُ بِلُغَتِهَا، وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ. (2) تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ : الْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُشُوعِ الْخَاصِّ بِالْإِيمَانِ بِالسُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ، وَالرَّبُّ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ لِعِبَادِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِذَاتِهِ، وَمُقْتَضَى حِكْمَتُهُ وَنِظَامُ سُنَنِهِ، وَتَسْخِيرُهُ الْأَسْبَابَ لِمَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَكَانَ أَكْثَرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ وَطَلَبًا لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ تُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ ; إِذِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلرَّبِّ وَحْدَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. تَأَمَّلْ كَيْفَ خَاطَبَ اللهُ أُمَّةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَقِبَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لِيُمَتِّعَهُمْ مَتَاعًا حَسَنًا وَيُؤْتِيَ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ (52) وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ (90) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَيَّنَ لِنَبِيِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ 6 و7 أَنَّهُ - مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا -، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ أَخْبَرَ نُوحٌ وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ قَوْمَهُ وَهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الشِّرْكَ بِالْغُلُوِّ

123

فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ فِي الْآيَةِ (31) بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ فَيَقْدِرُ عَلَى رِزْقِهِمْ أَوْ نَفْعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ مَلَكٌ يَتَصَرَّفُ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلُوا، إِذْ صَارُوا يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ وَالْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ بِزَعْمِهِمْ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَةِ (50) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 188) وَمِنْ سُورَةِ يُونُسَ (10: 49) . ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ هُودٍ آيَةَ: - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ - 56 إِلَخْ، وَفِي مَعْنَاهُ تَوَكُّلُ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ (88) ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِأَمْرِ نَبِيِّنَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ - عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: - وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ - 123 فَجَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَهِيَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَهُوَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَنُعَزِّزُ هَذِهِ الشَّوَاهِدَ بِمَا يَأْتِي عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَلَا سِيَّمَا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْهُ. (الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِهِ - تَعَالَى -) : فِي السُّورَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْأَفْعَالِ: الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْوَكِيلُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْحَفِيظُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الرَّقِيبُ الْوَدُودُ الْبَصِيرُ، فَمِنْهَا مَا وُصِفَ بِهِ - تَعَالَى - مُفْرَدًا، وَمَا وُصِفَ بِهِ مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهِ، وَمَا اتَّصَلَ بِمُتَعَلِّقِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَتَمَّ الْمُنَاسِبَةَ لِمَوْضُوعِهِ فِي مَوْضِعِهِ، مِمَّا يَذَّكَّرُ الْمُتَدَبِّرُ لَهُ بِتَدْبِيرِهِ - تَعَالَى - لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَيَزِيدُهُ إِيمَانًا بِمَعْرِفَةِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِلْمُحْسِنِينَ، وَتَرْبِيَتِهِ وَعِقَابِهِ لِلْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِكَ تَدَبُّرُ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ - تَعَالَى - بِمَا تُسِرُّ وَتُعْلِنُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: - أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - فَلَا تَغْفَلَنَّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيُّهَا التَّالِي لِلْقُرْآنِ أَوِ الْمُسْتَمِعُ لَهُ فَيَفُوتُكَ مِنَ الْعِرْفَانِ وَغِذَاءِ الْإِيمَانِ، مَا أَنْتَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ، الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ لِفَلَاحِكَ وَسَعَادَتِكَ، فَإِنَّ تَأَمُّلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ بَيَانِ شُئُونِهِ - تَعَالَى - فِي الْعِبَادِ، أَقْوَى تَفْقِيهًا فِي الدِّينِ وَتَكْمِيلًا لِلْعِرْفَانِ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا كَثِيرَةً كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُرْتَاضُونَ، وَمُقَلِّدَتُهُمُ الْمُرْتَزَقُونَ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُتَأَوِّلُونَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ - 6: 91 فَاسْمُ الْجَلَالَةِ هَنَا مُبْتَدَأٌ لِجُمْلَةٍ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ حُذِفَ خَبَرُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى 6: 91 إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: قُلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَهُوَ لَيْسَ اسْمًا مُفْرَدًا يُكَرَّرُ تَعَبُّدًا. وَمِثْلُهُ تَأَوُّلُهُمْ لِحَدِيثِ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللهُ اللهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ

وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَالْمَعْنَى - حَتَّى لَا يُقَالَ: اللهُ فَعَلَ كَذَا، اللهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا مَثَلًا، لِذَهَابِ الْإِيمَانِ بِهِ - تَعَالَى -، وَالِاسْمُ الْمُفْرَدُ فِي ذِكْرِهِمْ يُكَرِّرُونَهُ بِالسُّكُونِ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى جُمْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَصْرُ التَّوَجُّهِ وَجَمْعُ الْهِمَّةِ بِمَا جَرَّبَهُ الرِّيَاضِيُّونَ، وَجَهِلَهُ الْمُقَلِّدُونَ. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ: آيَاتُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ) : (وَفِيهِ أَرْبَعَةُ شَوَاهِدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ) : الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلْإِلَهِ الْوَاحِدِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا - 3 إِلَخْ. فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَبَّ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَمَا يُفَضِّلُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَخُلُقٍ، وَأَنَّ الْوَسِيلَةَ لِهَذَا وَذَاكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ آيَاتِ هِدَايَتِهِ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ شَخْصِيٌّ فِي إِعْطَاءِ هَذَا وَلَا ذَاكَ بِتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ، فَيُدْعَى مَنْ دُونَهُ أَوْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ فِي طَلَبِهِ، وَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا فِي هَذَا شَاهَدَ تَأْثِيرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَازْدَادَ إِيمَانًا بِرَبِّهِ، وَشَاهَدَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّوَّابِينَ، وَضِدُّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّهُ يَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مَتَاعًا فِي هَمٍّ وَاصِبٍ، وَتَنْغِيصٍ دَائِبٍ ; لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْرَاضِ فِي الْيَدِ. وَلِهَذَا كَانَ رُسُلُ اللهِ الْأَوَّلُونَ يَأْمُرُونَ أَقْوَامَهُمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ (52) مِنْ قِصَّةِ هُودٍ، وَقَدْ جَعَلَ جَزَاءَهُ إِرْسَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لَهُمْ، إِذْ كَانَ هَذَانَ أَهَمَّ مَا يَطْلُبُهُ قَوْمُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْهُ بِآلِهَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ (61) مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ، وَقَدْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فَضْلِهِ - تَعَالَى - عَلَى قَوْمِهِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَاسْتِعْمَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْآيَةُ (90) مِنْ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا - 6 الْآيَةَ. أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِ رِزْقِ هَوَامِّهَا وَأَنْعَامِهَا وَطَيْرِهَا وَوَحْشِهَا وَإِنْسِهَا وَجِنِّهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الرِّزْقِ لَهَا، وَلَا فِي إِيصَالِهِ إِلَيْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا وَسَاطَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَنْ خَلْقِهِ غَيْرُ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُكَلَّفِينَ.

الشَّاهِدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ بَعْدَهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَضْمُونِهَا: - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ - 7 الْآيَةَ، أَيْ: خَلَقَهُمَا وَمَا كَانَ يُوجَدُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمَزْعُومِينَ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمُ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، كَمَا كَانَ غَنِيًّا عَنْهُمْ عِنْدَ بَدْءِ التَّكْوِينِ، وَرَاجِعْ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، تَرَ فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا يَرْبَأُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسِيطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ كَمَا وَصَفَهُ خَالِقُهُ الْقَوِيُّ الْقَدِيرُ. الشَّاهِدُ الرَّابِعُ: الْآيَاتُ (9 و10 و11) فِي بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيمَا يُذِيقُهُمْ رَبُّهُمْ بِحِكْمَتِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَارِ الْبَلَاءِ، وَأَصْنَافِهِمْ فِيهَا مِنْ يَائِسٍ كَفُورٍ، وَفَرِحٍ فَخُورٍ، وَصَبُورٍ شَكُورٍ، فَبِهَذَا التَّقْسِيمِ الْمَشْهُودِ الْمَخْبُورِ، تَعْرِفُ تَوْحِيدَ اللهِ - تَعَالَى - وَفَضْلَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَجَدَارَتَهُمْ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ وَسِيطٌ فِي نِعَمِهِ وَتَكْرِيمِهِ لَهُمْ. (الْبَابُ الثَّانِي) : (فِي الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ " الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ " وَإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، وَفِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ) : (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا بِذِكْرِ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، وَإِحْكَامِ آيَاتِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، إِعْلَامًا بِأَنَّ إِحْكَامَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ، وَتَفْصِيلَهَا مَرْفُوعٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَدِقَّةِ الْخِبْرَةِ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ - 12 يَعْنِي: أَنَّ حَالَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ الْمُقْتَرِحِينَ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ أَمْرُهُ إِلَيْكَ، حَالُ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ تَرْكُ بَعْضِ مَا يَنْقُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ، وَضِيقِ صَدْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يُوحَى إِلَيْكَ، وَلَا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ، إِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ وَظِيفَتُكَ التَّبْلِيغُ وَالْإِنْذَارُ، لَا الْإِتْيَانُ بِالْآيَاتِ، وَلَا الْوَكَالَةُ عَلَيْهِمْ فَتُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الرَّدُّ فِي الْآيَةِ (13) عَلَى قَوْلِهِمُ: " افْتَرَاهُ " بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ لِمُظَاهَرَتِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَعْنَى هَذَا التَّحَدِّي بِالْعَشْرِ الْمُفْتَرَيَاتِ بَعْدَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي تَفَاسِيرِ الْأَوَّلِينَ وَلَا الْآخِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ السُّوَرِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى قِصَصِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ فِي إِعْجَازِ هَذِهِ الْقِصَصِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأَسَالِيبِ وَالنُّظُمِ وَالْعِلْمِ مَا لَيْسَ

فِي غَيْرِهَا، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا عَشْرًا، وَمَا فِي الْعَشْرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِصْلَاحِ، فَرَاجِعْهُ (فِي ص 27 - 39 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) . (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ: - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ - 14 وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِ مَعْنَى إِنْزَالِهِ بِعِلْمِ اللهِ وَكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى مَا فَسَّرْنَا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ. (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ: - تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا - 49 وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَى رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَنْ لَامْتَنَعَ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَلَارْتَدَّ مَنْ كَانَ آمَنَ. (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ - 100 الْآيَةَ. وَفِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ قِصَصِ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهَا وَحْيًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ كَوْنِهَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَانِيهُمَا: مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ فِي بَيَانِ التَّحَدِّي بِالْعَشْرِ السُّوَرِ مِنْ عَشْرِ جِهَاتٍ. (الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - 120 الْآيَةَ. وَهِيَ فِي مَوْضُوعِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ فَوَائِدِ قِصَصِ الرُّسُلِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ فِي فَوَائِدِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْأُمَمِ وَإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَإِنْجَاءِ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ فِي فَوَائِدِهَا الْخَاصَّةِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ وَتَأْيِيدِ دَعَوْتِهِ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا فِي السُّورَةِ خَاصًّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - دَالًّا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَعْنَى كُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ. (الْبَابُ الثَّالِثُ) : (فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَفِيهِ سِتَّةُ فَصُولٍ) : (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بُدِئَتِ السُّورَةُ بِدَعْوَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى الْآيَةِ (24) وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأُصُولِ دِينِ اللهِ (الْإِسْلَامِ) عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ (2: 62) وَسَأَذْكُرُهَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ التَّالِي لِهَذَا، وَمُتَضَمِّنَةٌ لِإِعْجَازِ

الْقُرْآنِ بِقِسْمَيْهِ: اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ بِفَضْلِ اللهِ وَإِلْهَامِهِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي سَائِرِ التَّفَاسِيرِ، ثُمَّ خُتِمَتْ بِمِثْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَوَائِلُهَا مِنَ الْآيَةِ (100 إِلَى 123) فَالْتَقَى قُطْرَاهَا وَاحْتَبَكَ طَرَفَاهَا، فَأَحَاطَا بِالْقِصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُؤَيِّدَةً لَهُمَا، وَذُكِرَ فِي أَثْنَائِهَا بُرْهَانٌ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ الْآيَةُ: - تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ - 49 إِلَخْ. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ هَذَا بِالذِّكْرِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ وَالتَّأْثِيرِ بِبَلَاغَتِهِ الْمُمْتَازَةِ، وَإِلَّا فَسَائِرُ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ وَدَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ (100) وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، فَيَسْهُلُ عَلَى الْمُتَفَقِّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُرَاجِعَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَضْمُومَةً إِلَى كَلَامِنَا الْمُفَصَّلِ فِي إِعْجَازِهِ بِقِسْمَيْهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ (ص 27 - 40 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) - وَأَنْ يَتَأَمَّلَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَالْآيَاتِ الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ آخِرِهَا، لِيُحِيطَ بِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ عُلُومِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا. وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا مُفَصَّلَةً فِي السُّورَةِ فَيَرَاهَا فِي الْفُصُولِ التَّالِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَفِي الْأَبْوَابِ الَّتِي بَعْدَهَا وَيَفْقَهُ سِرَّ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - 11: 1 وَجَعْلَهُ عُنْوَانًا لَهَا. (الْفَصْلُ الثَّانِي) : (فِي الْهِدَايَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ فِي قَصَصِ السُّورَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ) : قَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنَ الْعِلْمِيِّ الَّذِي فَصَّلَهُ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَتَكْرَارِهَا أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ فِيهِ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ كُلِّيَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، فَرَاجِعْهَا أَيُّهَا الْمُتَدَبِّرُ الْمُتَفَقِّهُ فِي الصَّفْحَةِ 34 - 37 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَتَأَمَّلْهَا إِجْمَالًا، ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا فِي الْفُصُولِ التَّالِيَةِ. وَأَمَّا أُصُولُ الدِّينِ فَهِيَ الْمُجْمَلَةُ فِي قَوْلِ اللهِ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - 2: 62. (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) الْإِيمَانُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ شَوَاهِدَهُ مِنْ قَصَصِ السُّورَةِ كُلِّهَا. (الْأَصْلُ الثَّانِي) الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ. (الْأَصْلُ الثَّالِثُ) الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ عَلَى

أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ. وَقَدْ ذُكِرَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الدَّالِّ عَلَى كُلِّ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْبَشَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. (الْأَوَّلِ) قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ قِسْمَيِ الْيَئُوسِ الْكَفُورِ، وَالْفَرِحِ الْفَخُورِ مِنَ النَّاسِ: - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - الْآيَةَ. (الثَّانِي) قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ: - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 23. وَفِي مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ فِي قَوْلِهِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - 7 وَقَوْلُهُ: - إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ - 114. وَأَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الْمُفَصَّلَةُ فَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَنَذْكُرُ مَا هُنَا مِنْ أُصُولِهَا فِي الْبَابِ الْخَامِسِ. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) : (فِي وَظِيفَةِ الرُّسُلِ الْأَسَاسِيَّةِ وَصِفَاتِهِمْ وَبَيِّنَاتِهِمْ وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عَقِيدَةً) : (الْأُولَى: وَظِيفَةُ الرُّسُلِ الْأَسَاسِيَّةُ) هِيَ مَا بَعَثَهُمُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ بِإِنْذَارِ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ وَعَصَى، وَتَبْشِيرِ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ فَآمَنَ وَاهْتَدَى، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: - إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - 2 وَقَوْلُهُ لَهُ: - إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - 12 وَمِثْلُ هَذَا الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ أَوَّلُ رُسُلِهِ إِلَى الْأَقْوَامِ الْمُشْرِكَةِ: - إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - 25 وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ - 57. وَمَوْضُوعُ التَّبْلِيغِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ آنِفًا، وَعَلَيْهَا مَدَارُ سَعَادَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُلُّهَا مُبْطِلَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - وَسَائِطُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ بِجَاهِهِمْ، وَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ مِنْ جَلَبَ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ بِشَفَاعَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَهُ، أَوْ بِتَصَرُّفِهِمْ فِي خَلْقِهِ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، إِلَّا مَا جَعَلَهُ مِنْ آيَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِمْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، كَإِبْرَاءِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَائِهِ لِلْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ لَهُ، بِأَنْ دَعَاهُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. (الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ بَشَرٌ مُرْسَلُونَ) ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ

الْبَشَرِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، دُونَ شُئُونِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ مَا خَصَّ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ هِدَايَةَ أَحَدٍ إِلَى الدِّينِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ هِدَايَتَهُمْ خَاصَّةٌ بِالتَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَحِكَايَةُ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَاضِحَةٌ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَ (مِنْهَا) فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا عَلِمْتَ مِنْ آيَاتِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - 12 وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: - وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ - 31 وَتَقَدَّمَ مَا فِي مَعْنَاهُ عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى. (وَمِنْهَا) فِي احْتِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا - 27 وَقَدْ قَالَ مِثْلَ هَذَا سَائِرُ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بَعْدَهُ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الرُّسُلُ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بِأَنْ يَكُونُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ، لَمَا احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ كَمَا يَدَّعِي الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ عَمَّا جَاءُوا بِهِ مَعَ دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ هُمْ وَبَعْضُ مَنْ وَصَفُوا بِالصَّلَاحِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ، وَيُشْقُونَ وَيُسْعِدُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ: أَحْيَاؤُهُمْ وَأَمْوَاتُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ حَيَاةً مَادِّيَّةً بَدَنِيَّةً يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَ مَنْ يَدْعُوهُمْ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ، وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ دُعَاءَهُمْ فِيهَا، وَقَدْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي خَارِجِهَا، يُخَالِفُونَ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَاتِ فِي التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَآيَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ الْبَرْزَخِيَّةِ، فَيَقِيسُونَ عَلَيْهَا بِأَهْوَائِهِمْ حَيَاةَ أَوْلِيَائِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ، وَحَسْبُنَا هُنَا التَّذْكِيرُ بِمَا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّنَا أَنْ يَرُدَّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوهُ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ: - قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا - 17: 93؟ (الثَّالِثَةُ: بَيِّنَاتُهُمْ وَآيَاتُهُمْ) مَا مِنْ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ إِلَّا وَجَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ مِنْ حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ، وَكَانَتْ تَشْتَبِهُ عَلَى عَامَّتِهِمُ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ بِالسِّحْرِ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَهُ، وَيَرَوْنَهُ مِنَ الدَّجَّالِينَ وَالْمُرْتَزِقَةِ،

وَكَانَ الْمُهْتَدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْهِدَايَةِ الْخَلْقِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ. بَيَّنَتْ لَنَا هَذِهِ السُّورَةُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ كَانَ يَحْتَجُّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ تَحَدَّى قَوْمَهُ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ كَمَا تَحَدَّى مُوسَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَكَمَا تَحَدَّى مُحَمَّدٌ قَوْمَهُ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ مَعَهُمْ، وَمَنِ اسْتَطَاعُوا لِيُظَاهِرُوهُمْ عَلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ فِي مَزَايَا إِعْجَازِهِ الْعَامَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهُ، وَمَزَايَا إِعْجَازِهِ الْمُكَرَّرَةِ فِي عَشْرِ سُوَرٍ مِمَّا ادَّعَوُا افْتِرَاءَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي الْآيَةِ (13) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْآيَةِ (14) قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ: - أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً 17. ثُمَّ قَالَ فِي حُجَّةِ نُوحٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ - 28 الْآيَةَ، وَحَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ أَنَّهُمْ - قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - 53 لَكِنَّهُ كَذَّبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: - وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ - 59 الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً - 63 الْآيَةَ، وَذَكَرَ بَعْدَهَا آيَتَهُ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ بِهَا فَقَالَ: - وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً - 64 إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا - 88 الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ - 96 و97 الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَكَسْبِهِمْ، وَلَا فِي حُدُودِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، فَآيَةُ خَاتَمِهِمُ الْكُبْرَى - وَهِيَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ - وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاجِزًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَعَجْزُهُ قَبْلَهَا أَظْهَرُ، وَنَاقَةُ صَالِحٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَسْبِهِ، وَلَمَّا رَأَى مُوسَى آيَتَهُ الْكُبْرَى وَهِيَ الْعَصَا إِذْ أَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، وَلَّى مُدْبِرًا خَائِفًا مِنْهَا، كَمَا تَرَى فِي سُورَتَيِ النَّمْلِ وَالْقَصَصِ. وَأَمَّا آيَاتُ عِيسَى الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ فِعْلُهَا فَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا كَانَتْ بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِرَادَتِهِ، وَفِي رَسَائِلِ الْأَنَاجِيلِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللهَ - تَعَالَى - وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ بِطَلَبِهَا لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَقَدْ قَالَ الْيَهُودُ إِنَّهَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَأَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ يُورِدُونَ عَلَيْهَا شُبُهَاتٍ مِنْ غَرَائِبِ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَحْيِ

الْمُحَمَّدِيِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّ آيَاتِ مُوسَى كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا مَظْهَرًا، وَأَدَلَّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَأْيِيدِهِ لَهُ، لِإِيمَانِ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ السِّحْرِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِمُوسَى كَمَا كَانَتْ تِلْكَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِعِيسَى إِذِ اتَّخَذُوهُ بِهَا إِلَهًا، فَالَّذِينَ فُتِنُوا وَضَلُّوا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ الصُّورِيَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْحَقِيقِيِّ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَلَايِينَ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِاسْتِخْدَامِهِمْ لِلْجِنِّ، وَسَدَنَةِ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَوَظِيفَةَ رِسَالَاتِهِمْ. (الْخَامِسَةُ: حُجَّةُ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِإِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ وَعَدَمِ طَلَبِ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِمْ) : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا هُنَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ - 29 وَتَقَدَّمَ عَنْهُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِلَفْظِ الْأَجْرِ (وَمِنْهَا) عَنْ هُودٍ: - يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 51، وَرَاجِعْ مِثْلَ هَذَا عَنِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (26: 109 و127 و145 و164 و180) . وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِدَّةِ سُوَرٍ: الْأَنْعَامِ (6: 90) وَيُوسُفَ (12: 104) وَالشُّورَى (42: 23) وَنَصُّ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ تَبْشِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِرَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ: - ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ - وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا الْبَتَّةَ، سُنَّةَ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِكُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْمَدُونَهُ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ لِتَعَصُّبِهِمْ لِأَنْسَابِهِمْ، وَيُفَسِّرُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - 34، 74. وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ جَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، وَفَسَّرُوا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبِي بِمَوَدَّةِ قَرَابَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصُّوهَا بِابْنِ عَمِّهِ عَلِيٍّ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، دُونَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَائِرِ ذُرِّيَّةِ أَعْمَامِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَاقِبِ وَدَوَاوِينِ الشِّعْرِ، وَجَعَلُوهُ عَهْدًا مِنَ اللهِ عَاهَدَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعِرَاقِ فِي عَصْرِهِ عَبْدُ الْبَاقِي الْعُمْرِيُّ: وَعَهْدُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... لِمَنْ بِهِ الْوَلَا قَدْ وَجَبَا وَهَذَا التَّأَمُّلُ تَحْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ وَطَعْنٌ شَنِيعٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْرَاجِهِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَمِيعِ رُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِهِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ،

لَا يَسْأَلُونَ عَلَيْهِ أَجْرًا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِأُولِي قُرْبَاهُمْ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِطَلَبِ الْأَجْرِ لِأُولِي قُرْبَاهُ، (وَحَاشَاهُ) وَهَلْ يَسْعَى جَمِيعُ طُلَّابِ الدُّنْيَا إِلَّا لِذُرِّيَّاتِهِمْ؟ وَلِلتَّنَزُّهِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - الصَّدَقَةَ عَلَى آلِ رَسُولِهِ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَمَنْ كَانَ يُوَالِيهِمْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ إِخْوَتِهِمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَهُمْ، وَمُوَالَاةُ عَلِيٍّ وَآلِهِ وَاجِبَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّحْرِيفِ لِلْقُرْآنِ بِبَاطِلِ التَّأْوِيلِ لِلْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ اللَّاتِي هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ. (السَّادِسَةُ: عِصْمَتُهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا) : مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ - 12 الْآيَةَ. الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا لَا يُبَلِّغُهُ، (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا - 29 الْآيَةَ، وَالنَّفْيُ فِيهَا لِلشَّأْنِ، أَيْ: مَا كَانَ طَرْدُهُمْ مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنْ نَبِيٍّ مِثْلِي، فَأَنَا مَعْصُومٌ مِنْ إِجَابَتِكُمْ إِلَيْهِ فَلَا تَطْمَعُنَّ فِيهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ (30) الَّتِي بَعْدَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِ الطَّرْدِ مِنْهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِ فِعْلِهَا أَنْ يَقَعَ، (وَمِنْهَا) قَوْلُ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - 88 وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا يَنْتَهِي هُوَ عَنْهُ، فَهُوَ لَا يُخَالِفُ رِسَالَتَهُ فِي شَيْءٍ، إِذْ لَوْ خَالَفَهَا لَدَحَضَ حُجَّتَهُ، وَنَقَضَ دَعْوَتَهُ، (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ لَهُمْ: - وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ - 93 الْآيَةَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَمْرَ اللهِ - تَعَالَى - وَنَهْيَهُ لَهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، وَوَعِيدَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ الشَّامِلَ لَهُمْ وَلِأَقْوَامِهِمْ وَالْخَاصَّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِنُوحٍ - إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ - 46 وَاسْتِعَاذَةِ نُوحٍ بِهِ - تَعَالَى - مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَوْعِظَةِ وَقَوْلِهِ: - وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 47 وَحِكَايَتَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَعْمَلُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ - كُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا اسْتِحَالَتُهُ، وَفِي بَعْضِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الذَّنْبِ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُ سُؤَالُ نُوحٍ رَبَّهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ، وَكَوْنُهُ مِنْ سُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. " قُلْتُ ": إِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَا سَمَّوْهُ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْعَقْلِ لَا بِالنَّقْلِ، وَتَأَوَّلُوا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِوُقُوعِ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ بَلْهَ الدَّالَّةِ عَلَى إِمْكَانِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ أَنَّهَا كَعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ مُنَافِيَةٌ لِطِبَاعِهِمْ، فَإِنَّ مِمَّا فُضِّلُوا بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَشَرٌ كَسَائِرِ الْبَشَرِ جُبِلُوا عَلَى الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَدَاعِيَةِ كُلٍّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَلَكِنَّهُمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِيهِ وَالْحُبِّ لَهُ، يُرَجِّحُونَ الطَّاعَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَلَكَةٍ رَاسِخَةٍ فِيهِمْ، يَعْصِمُهُمُ اللهُ -

تَعَالَى - بِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكِتْمَانِ لِشَيْءٍ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْهُ، وَمِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الْمُنَافِيَةِ لِلرِّسَالَةِ، الْمُبْطِلَةِ لِلْحُجَّةِ، دُونَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، الَّذِي لَا يُخَالِفُ نَصَّ الْوَحْيِ، فَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَا كَانَ الْخَيْرُ وَالْكَمَالُ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ خِلَافُهُ بَيَّنَهُ اللهُ لَهُمْ تَعْلِيمًا، وَعَلَّمَهُمْ مَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِهِمْ تَرْبِيَةً وَتَكْمِيلًا، وَمِنْهُ اجْتِهَادُ نُوحٍ الَّذِي رَجَّحَ لَهُ بِالْحَنَانِ الْأَبَوِيِّ جَوَازَ دُخُولِ ابْنِهِ الْكَافِرِ فِيمَنْ وَعَدَهُ اللهُ بِنَجَاتِهِمْ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ مَمْنُوعٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ فَأَجَابَهُ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ أَخْذِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (8: 67) وَتَفْسِيرِ عِتَابِهِ عَلَى الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ (9: 43) . (السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ) : (كَمَالُ إِيمَانِهِمْ وَثِقَتُهُمْ بِاللهِ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ وَشَجَاعَتُهُمْ وَيَقِينُهُمْ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ) : هَذِهِ الْمَزَايَا الثَّلَاثُ ظَاهِرَةٌ أَوْضَحُ الظُّهُورِ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ قِصَصِهِمْ، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَدِّي رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمٍ لِتَجْهِيلِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ الْمَوْرُوثَةِ وَدَعْوَتِهِمْ لِتَرْكِهَا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فِي حَقِّيَّتِهِ وَكَمَالِهِ، وَحَالِهِ وَمَآلِهِ، وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ عَاقِبَتِهَا، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِكُفْرِهِمْ بِهِ، وَسُخْرِيَتِهِمْ مِنْهُ وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُ، وَمُقَابَلَتِهِ لِذَلِكَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (38 و39) مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، وَمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (10: 71) الَّتِي صَرَّحَ لَهُمْ فِيهَا بِاعْتِصَامِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِجْمَاعِ أَمْرِهِمْ وَشُرَكَائِهِمْ وَالتَّثْبِيتِ فِيهِ وَالْقَضَاءِ إِلَيْهِ مِمَّا يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ بِدُونِ إِنْظَارٍ وَلَا إِمْهَالٍ، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَاتُ (54 - 57) . (الْعَاشِرَةُ) : إِنْذَارُهُمُ الْأَخِيرُ لِأَقْوَامِهِمْ وُقُوعَ عَذَابٍ سَمَاوِيٍّ يُهْلِكُهُمْ، وَيَقْطَعُ دَابِرَ الْمُعَانِدِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى جُحُودِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا بَلَّغُوهُمْ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا تَأْخِيرٍ وَلَا تَقْدِيمٍ، وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ لِعِقَابِهِمْ بِهِ. (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) : احْتِجَاجُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ عَلَى قَوْمِهِ بِمَا وَقَعَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ قَوْمِهِ، كَمَا تَرَى فِي إِنْذَارِ شُعَيْبٍ قَوْمَهُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (89) وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ تَذْكِيرُ هُودٍ قَوْمَهُ بِقَوْمِ نُوحٍ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ تَذْكِيرُ صَالِحٍ بِقَوْمِ هُودٍ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ أَنْذَرَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمَهُ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بِأَمْرِهِ عِقَابًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِسُنَنِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي قِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَمَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - " الْإِسْلَامُ "

وَمِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَبْلِيغِهِمْ لَهُ وَهِدَايَتِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَضَلَالِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ - أَنَّهَا دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْجَازِ كِتَابِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَوُجُوهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ وَغَيْبِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا فِي " كِتَابِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ " تَفْصِيلًا. (الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ) : آيَاتُ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِهِمْ لَهُ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى إِدْرَاكِهِمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ. (وَالثَّانِي) لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَالْجَزَاءُ قِسْمَانِ أَيْضًا: جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَجَزَاءُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ الْمُجْرِمِينَ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِقِسْمَيْهِ أَلْوَانٌ مِنَ الْبَيَانِ الرَّائِعِ الْعَجِيبِ، وَأَسَالِيبُ فِي التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَالْقِسْمَيْنِ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا وَالْخِطَابِ بِهِمَا بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالْآيَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَأْثِيرُهُ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، يَجْعَلُ التَّكْرَارَ الضَّرُورِيَّ لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ غَيْرَ مُمِلٍّ لِلسَّمْعِ، وَلَا مُسْئِمٍ لِلطَّبْعِ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ مَا يَمْتَازُ بِهِ كَلَامُ الرَّبِّ الْمُعْجِزُ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ كَبِيرٍ: - إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 4 ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَكَرِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: - وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - 7 فَالْآيَتَانِ مَنْ نَوْعِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعًا بِأَنَّ الْخَالِقَ الْقَدِيرَ، ذَا الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ، لَا تَظْهَرُ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ، وَسِرُّ حِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، إِلَّا بِاخْتِبَارِ عِبَادِهِ الَّذِينَ وَهَبَهُمُ الْعَقْلَ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ، الَّذِي تَتَجَلَّى بِهِ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ، وَالْبَاطِلُ الْعَبَثُ بِخُلُوِّهَا مِنْهُ، وَبِالْجَزَاءِ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَحَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَهَذَا الْجَزَاءُ لَا يَكُونُ تَامًّا عَامًّا لِلْأَفْرَادِ فِي الدُّنْيَا لِقِصَرِ أَعْمَالِهِمْ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا. وَإِنَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ فِي رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَكَرَّرَ فِيهِ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا أَكْثَرَ جِدَالًا مِنْ كُلِّ قَوْمٍ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَتَرَى بَعْدَهَا كُلَّ جِدَالِ نُوحٍ وَصَالِحٍ لِقَوْمِهِ فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ، وَزَادَ شُعَيْبٌ مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَانْحَصَرَ إِنْذَارُ لُوطٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ثُمَّ خَتَمَ اللهُ الْعِبْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِهَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا

وَعَدَمِ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ، وَبِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ عَادَ الْكَلَامُ كَمَا بَدَأَ فِي إِنْذَارِ مُشْرِكِي أُمِّ الْقُرَى وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُمْتَازَةِ: - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - 103 الْآيَاتِ - وَلَمَّا بَيَّنَ فِيهَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنْ فَرِيقِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَخُلُودَهُمْ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، اسْتَثْنَى بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءً لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِيمَا قَبْلَهُ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ النَّارِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - 107 وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - 108. حَارَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ فِيهِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ ; لِتَعَارُضِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي خُلُودِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَأْكِيدِ بَعْضِهَا بِكَلِمَةِ التَّأْيِيدِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، حَتَّى فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (4: 56 مَعَ 57 و121 مَعَ 122) وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (64: 9 مَعَ 10) وَفِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ (98: 6 مَعَ 8) فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُؤَكِّدُ خُلُودَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِالتَّأْيِيدِ دُونَ خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، كَمَا يُؤَكِّدُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ سُوَرٍ: كَالنِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالطَّلَاقِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ. وَمَثَلُ هَذِهِ الْفُرُوقِ لَا تَأْتِي فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ جُزَافًا أَوْ عَبَثًا أَوْ عَنْ غَفْلَةٍ كَكَلَامِ الْبَشَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حِكْمَةٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَنُكْتَةٌ فِي بَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْغَوْصِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْخِضَمِّ وَاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ هَذِهِ الدُّرَرِ مِنْهُ إِلَّا الْجَامِعُ بَيْنَ أَسْرَارِ الْعِلْمَيْنِ - عِلْمِ حِكَمِ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ - وَلَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُمَا فِي ذَاتِهِمَا، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجَزَاءِ بِالْفَضْلِ فَوْقَ الْعَدْلِ الَّذِي يُضَاعَفُ مِنْ عَشَرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْجَزَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَقِفُ فِي طَرِيقِ هَذَا الْفَهْمِ عَلَى وُضُوحِهِ أَنَّ التَّأْيِيدَ أَكَّدَ بِهِ جَزَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (41: 167 - 169) وَجَزَاءَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ 33: 57 و64) وَجَزَاءَ الْعُصَاةِ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: - وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - 72: 23 وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي جَعْلَ الْعِصْيَانِ هُنَا عَامًّا شَامِلًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ. عَلَى أَنَّنَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْخُلُودِ وَالتَّأْيِيدِ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيَّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ لَفْظٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْيِيدِ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوُجُودِ وَإِنْ قُدِّرَتْ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ السِّنِينَ.

وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ تَأَوَّلُوهُ لِمُوَافَقَةِ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ أَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ مَعَارَضٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَدْلِهِ، وَكَوْنِ الْعِقَابِ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَقْلًا وَنَقْلًا، وَكُنْتُ وَعَدْتُ بِأَنْ أَذْكُرَ هُنَا كُلَّ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْآنَ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَجَّهْتُ تَفْسِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّاهِرِ وَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (6: 127 ص 54 - 86 ج8 تَفْسِير ط الْهَيْئَةِ) وَهُوَ مَا بَسَطَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْسَعُ وَأَكْمَلُ، وَإِرَادَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَلَا يُقَيِّدُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِمَا إِلَّا عِلْمُهُ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْمَوْضُوعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْقَدِيرِ) وَتَبِعَهُ السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق خَان فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ) فَلْيُرَاجِعْهُمَا مَنْ شَاءَ. الْبَابُ الْخَامِسُ: (فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَفِيهِ فَصْلَانِ) : مُقَدِّمَةٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ: لِلْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْأُدَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ مَنَاهِجُ وَأَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْعَادَاتِ حُسْنِهَا وَقَبِيحِهَا، كَمَا تَرَاهُ فِي كُتُبِ أَهْلِهَا مِنْ فَلْسَفَةٍ وَحِكَمٍ، وَأَدَبٍ وَتَرْبِيَةٍ، وَحِكَايَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ لِوَقَائِعَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، أَوْ خُرَافَاتِ الشَّيَاطِينِ وَالْجَانِّ، تَبَارَى فِي تَصْنِيفِهَا عُلَمَاءُ الشُّعُوبِ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا فَوَائِدُ لِقُرَّائِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَأَخْطَاءٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ تَهْتَدِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِكِتَابٍ مِنْهَا كَمَا اهْتَدَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ. وَعِنْدَ الْأُمَمِ الْمُتَدَيِّنَةِ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ فِي أُصُولِ أَدْيَانِهَا وَآدَابِهَا يُعَزَّى بَعْضُهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَبَعْضُهَا إِلَى مَوَاعِظِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ سَلَفِهَا، وَأَعْلَاهَا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَتْ مَنْثُورَةً مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ جُمِعَتْ فِي دَوَاوِينَ مُرَتَّبَةٍ، فَمَا تَجِدُ مِنْ خَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ فَهُوَ مِنْ تَأْثِيرِ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَمَا حَفِظُوا وَفَقِهُوا مِنْهَا، وَمَا تَجِدُ مِنْ شَرٍّ وَبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ فَلْسَفَةِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهَا، أَوْ تَحْرِيفِهِمْ لَهَا.

وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلَا فِي مِنْهَاجِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَلَا فِي تَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ، وَلَا فِي تَأْثِيرِهِ فِيمَا يَحْمَدُهُ وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَلَا فِيمَا يَذُمُّهُ وَيَزْجُرُ عَنْهُ، فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِهَا عَقْلًا وَنَفْسًا وَخُلُقًا، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا تَصْنِيفًا وَوَصْفًا، فَمَنْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَتَدَبَّرَهُ، وَجَدَ كُلَّ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَخَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ، وَبَرٍّ وَمَكْرَمَةٍ، حَاضِرًا فِي نَفْسِهِ، وَكُلَّ جَهْلٍ وَشَرٍّ كَانَ مُلْتَاثًا بِهِ أَوْ عُرْضَةً لَهُ كَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزًا كَثِيفًا، أَوْ أَمَدًا بَعِيدًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ فِي سُوَرِهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِعَنَاوِينِهِ كَمَا يَجِدُهُ فِي أَبْوَابِ الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفَهَا عُلَمَاءُ الْبَشَرِ وَفُصُولِهَا، فَمَقَاصِدُهُ وَمَعَانِيهِ مَمْزُوجٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ سُوَرِهِ، طُوَالِهَا وَقِصَارِهَا، بَلْ فِي جُمْلَةِ آيَاتِهِ مِنْهَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرَتَّلُ بِنَغَمِهِ اللَّائِقِ بِهِ تَرْتِيلًا، وَيُتَعَبَّدُ بِتَدَبُّرِ مَا فَصَّلَهُ مِنْ آيَاتِهِ تَفْصِيلًا، فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَهِدَهُ الْبَشَرُ وَعَرَفُوهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهِدَايَةً وَتَأْثِيرًا، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُقْتَبَسًا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِجْمَالُ كُلِّ سُورَةٍ فُسِّرَتْ فِيهِ بَعْدَ تَفْصِيلٍ. وَتَأَمَّلْهُ فِي فَصْلَيْ هَذَا الْبَابِ، وَمَا هُوَ بِبِدْعٍ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ. يَقْرَأُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَكَادُونَ يَفْطِنُونَ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَجِبُ التَّأَسِّي بِهَا، وَمَسَاوِئِ الْكُفَّارِ الَّتِي يَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَنْفُسِ مِنْهَا، فَمَنْ قَرَأَ مِنْهُمْ تَفْسِيرَهَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ كَانَتْ أَشْغَلَ شَاغِلٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَبَاحِثِ الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُجَادَلَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْأَسَاطِيرِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ. وَمَنْ يَهُمُّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ صَارَ يَطْلُبُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ وَالتَّصَوُّفِ دُونَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي قَلَبَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا وَزَكَّى أَنْفُسَهَا وَسَوَّدَهَا عَلَى بَدْوِ الْعَالَمِ وَحَضَرِهِ مُنْذُ الْجِيلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِسْلَامِهَا، إِلَى أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ هِدَايَتِهِ وَأَدَبِهِ اشْتِغَالًا بِفَلْسَفَةِ الشُّعُوبِيَّةِ وَآدَابِهَا، أَوْ تَنَازُعًا فِي زِينَةِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانُوا يَبْعُدُونَ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالسِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا. إِنَّنِي بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ تَفْسِيرَ السُّورَةِ وَنَشَرْتُهُ وَشَرَعْتُ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ تَأَمَّلْتُ السُّورَةَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، فَوَقَفْتُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهَا أَطْوَلَ مِنْ وَقَفَاتِي فِيمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَبْوَابِ، فَرَأَيْتُ فِي تَضَاعِيفِ الْآيَاتِ مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا، وَمِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ فِي وَسَطِهَا، عِشْرِينَ مَسْأَلَةً أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمِثْلَهَا فِي فَسَادِ النَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَاجْتِنَابِ الْهُدَى، بَعْضُهَا يَخُصُّ الْعَقْلَ وَالْفَهْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْخَلْقَ وَالْعَادَةَ وَالْأَعْمَالَ ; لِهَذَا جَعَلْتُ هَذَا الْبَابَ فِي فَصْلَيْنِ أَسْرُدُ فِيهِمَا مَا لَاحَ الْآنَ لِفَهْمِي مِنْهَا.

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) : (فِي مَسَاوِئِ النَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْعَادَاتِ وَفِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً) : (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَسَارَةُ النَّفْسِ) : أَبْدَأُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةً تَابِعَةً لِمَفَاسِدَ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَهَا لِغَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا عَنْهَا، عَلَى تَكْرَارِ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَانْفِرَادِهِ دُونَ جَمِيعِ كُتُبِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِهَا، فَقَالَ هُنَا فِي الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا، الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِانْتِفَاعِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ: - أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ - 21 و22 ثُمَّ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلَ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى هَذِهِ الْخَسَارَةِ هُنَا يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ فِطْرَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ فَسَدَتْ كُلُّهَا فَفَقَدَتِ اسْتِعْدَادَهَا الْخَاصَّ بِهَا إِلَخْ، أَرَأَيْتَ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ لَهُ؟ أَيُغْنِي عَنْهُ رِبْحُ تِجَارَتِهِ وَكَثْرَةُ مَالِهِ وَجَاهُهُ بِالْبَاطِلِ؟ كَلَّا، إِنَّكَ تَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْكَبِيرَةِ الْمُرْعِبَةِ بِاسْتِعْمَالِ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ لَهَا مَا لَا تَفْهَمُهُ مِنْ مِثْلِ تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ، يَقُولُونَ فِيمَنْ فَسَدَ خُلُقُهُ وَضَاعَ شَرَفُهُ وَصَارَ مَهِينًا مُحْتَقَرًا: فُلَانٌ خَسِرَ - أَيْ ذَهَبَتْ مَزَايَاهُ وَفَضَائِلُهُ حَتَّى لَمْ تَبْقَ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوُجُودِ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَهُمَا أَوَّلُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ) : وَهَذَا مَعْنًى يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَرَّرَهُ الْقُرْآنُ كَثِيرًا بِأَسَالِيبَ بَلِيغَةٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي أَهْلِهَا: - مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - 20 وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ سَمَاعَهَا وَلَمْ يَصْغُ لَهَا، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا آيَاتِ اللهِ وَحُجَجَهُ فِي كِتَابِهِ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ السَّمْعِ لَهُ إِذَا تُلِيَ، لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ فَيُحَوِّلَهُمْ عَمَّا كَانُوا فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا - 25: 42 وَلَوْ أَلْقَوُا السَّمْعَ لَمَا سَمِعُوا سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، وَلَوْ سَمِعُوا لَمَا عَقَلُوا وَفَقِهُوا كَمَا وَصَفَهُمْ فِي الْأَنْفَالِ (8: 21 - 33) وَقَالَ هُنَا حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ - 91 وَكَذَلِكَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ إِذَا هُمْ نَظَرُوا دَلَائِلَهَا وَمِنْهَا رُؤْيَةُ الْمُصْطَفِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: - وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ - 7: 198.

وَوَضَحَ هَذَا بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِيهِمَا: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ) : وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَفَّارَ بِهَذَا الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: - أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ - 62 وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِهِ قَالَ: - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - 110 أَكَّدَ شَكَّ قَوْمِ مُوسَى فِي كِتَابِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا - إِلَى قَوْلِهِ: - إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - 2: 23 إِنَّكُمْ فِي رَيْبٍ مِنْهُ، فَكَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الرَّيْبِ. وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا فِي الْكَفَّارِ كَوَصْفِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبِالْخَرْصِ وَنَفْيِهِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ شَوَاهِدُ فِي وَصْفِ حَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ قِصَصِهِمْ دَالَّةً عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِسْلَامِ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَفِقْهِ الشَّرَائِعِ وَبَرَاهِينِ الْعَقَائِدِ، وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ وَالتَّقْلِيدُ يَصُدُّهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ؟ ! (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّقْلِيدُ) : الْمُرَادُ مِنْهُ اتِّبَاعُ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ أَوْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فِيمَا لَا يَعْرِفُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَخَيْرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ، وَمَصْلَحَةٌ أَمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَصْلُ التَّقْلِيدِ فِي اللُّغَةِ تَحْلِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالْقِلَادَةِ، أَوِ الرَّجُلِ بِالسَّيْفِ، أَوِ الْهَدْيِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ (وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَا يَهْدِيهِ مُرِيدُ النُّسُكِ إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ) وَتَقْلِيدُهُ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهِ جِلْدَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، يُقَالُ: قَلَّدَهُ السَّيْفَ أَوِ الْعَمَلَ فَتَقَلَّدَهُ، وَقَوْلُهُمْ: قَلَّدَ فُلَانٌ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا. مَعْنَاهُ: جَعَلَ رَأْيَهُ وَظَنَّهُ الِاجْتِهَادِيَّ فِي الدِّينِ قِلَادَةً لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَقَلَّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَعَرَّفَ الْفُقَهَاءُ التَّقْلِيدَ بِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلِيلَهُ، وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْمَعْرُوفُونَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَ أَحَدًا إِلَّا فِيمَا عَرَفَ دَلِيلَهُ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَالْعَالِمُ مُبَيِّنٌ لِلْحُكْمِ لَا شَارِعَ لَهُ، وَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَأْنُ الطِّفْلِ مَعَ وَالِدَيْهِ وَالتِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّاشِدِ الْمُسْتَقِلِّ، وَلَكِنَّ الْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْعَامَّةَ مَعَ الزُّعَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، كَالْأَطْفَالِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأَمَّا تَلَقِّي النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ عَنْ نَاقِلِيهَا فَهُوَ لَيْسَ بِتَقْلِيدِهِمْ، وَكَذَا أَخْذُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ عَنْ مُتْقِنِيهَا. وَأَمَّا تَشَبُّهُ الشَّرْقِيِّينَ بِالْإِفْرِنْجِ فِيمَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا تَعْظِيمُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلَا سِيَّمَا أَزْيَاءُ النِّسَاءِ وَالْعَادَاتُ فَكُلُّهُ مِنَ التَّقْلِيدِ الضَّارِّ، الدَّالِّ عَلَى الصَّغَارِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَنْكَرَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ جُمُودَ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يُقَلِّدُوا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ

عَصْرِهِمْ وَيَسُنُّوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ تَقْلِيدَهُمْ، بَلْ لِيَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ فِي طَلَبِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ - 5: 104 عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُجْتَمِعَةٍ. وَفِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا التَّقْلِيدِ عَنْ ثَمُودَ: - قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا - 62 وَعَنْ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - 87؟ . وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَعُودَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّقْلِيدِ - لَا تَقْلِيدَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ - بَلْ تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى فِيمَا ابْتَدَعُوا أَوْ قَلَّدُوا أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالنَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لِيَقُولُنَّ لَيْسَ هَذَا بِعِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ، بَلْ تَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ؟ ! فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ لِأَجْلِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَقْلِيدُهُمْ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ أَوْ يُقِرُّهُ مِنْ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ وَمَشَايِخِ الطُّرُقِ، فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمُخْتَصُّونَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ. وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ لَقَبِلَهَا مِنْ مُقَلِّدِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يَظْلِمُ وَلَا يُحَابِي بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ. (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ) : الِاخْتِلَافُ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا لَا تَظْهَرُ مَزَايَا نَوْعِهِمْ بِدُونِهِ، وَفِيهِ غَوَائِلُ وَمَضَارُّ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا التَّفَرُّقُ وَالتَّعَادِي بِهِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِلَافِ أَيْضًا، فَاسْتَحَقَّ الَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ وَثَوَابَهُ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ سُخْطَهُ - تَعَالَى - وَعِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ 119 فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَنُعِيدُ ذِكْرَهَا فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَعْمَالِ، تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي الْعَدَدِ. (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتِّبَاعُ الْإِتْرَافِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ) : بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَسْبَابَ النَّفْسِيَّةَ لِهَلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْنَا أَنْبَاءَ

إِهْلَاكِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ (116) مِنْ أَجْمَعِهَا لِلْمَعَانِي، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا أَنَّ مَثَارَ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ الْمُوجِبَ لِهَلَاكِ أَهْلِهَا هُوَ اتِّبَاعُ أَكْثَرِهِمْ لِمَا أُتْرِفُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ مُفْسِدُوا الْأُمَمِ وَمُهْلِكُوهَا. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُوَرِ الْإِسْرَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَسَبَأٍ وَالزُّخْرُفِ وَالْوَاقِعَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَضْمُونَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ وَوَقَائِعُ التَّارِيخِ، وَإِنَّ كُلَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي عَصْرِنَا فَمَثَارُهُ الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ وَاتِّبَاعُ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِتْرَافُ، مِنْ فُسُوقٍ وَطُغْيَانٍ وَإِفْرَاطٍ وَإِسْرَافٍ. عَلِمَ هَذَا الْمُهْتَدُونَ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَكَانُوا مَثَلًا صَالِحًا فِي الِاعْتِدَالِ فِي الْمَعِيشَةِ، أَوْ تَغْلِيبِ جَانِبِ الْخُشُونَةِ وَالْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ، عَلَى الْخُنُوثَةِ وَالْمُرُونَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَسَهُلَ لَهُمْ فَتْحُ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ أَضَاعَهَا مَنْ خَلَفَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ، فَانْظُرْ كَيْفَ اهْتَدَى السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَبَيَانِ السُّنَّةِ لَهُ إِذْ خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَالْحِكْمَةِ. ثُمَّ كَيْفَ ضَلَّ الْخَلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَفَادُوا الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ وَالْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ بِهِ؟ (الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْعَاشِرَةُ) : (ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ فَرَحُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ) : تَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْآيَاتِ الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعَاشِرَةَ، وَاقْرَأْ تَفْسِيرَهَا فَإِنَّهَا تُصَوِّرُهَا لَكَ مَاثِلَةً أَمَامَ عَيْنَيْكَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَعْرِضَانِ لِلْمُتْرَفِ الْخَوَّارِ، وَالْكَفُورِ الْخَتَّارِ، إِذَا أَذَاقَهُ اللهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، إِذْ يُنْسِيهِ فَرَحُ الْبَطَرِ الِاعْتِبَارَ وَشُكْرَ الْمُنْعِمِ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ بِذَنْبِهِ نِعْمَةٌ كَانَ ذَاقَهَا مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، إِذْ يَخُونُهُ الصَّبْرُ فَيَيْأَسُ مِنْ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَثْنَى الصَّابِرِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، تَجِدُ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، مَا لَا تَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْمُطَوَّلَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ. (الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: حَصْرُ الْإِرَادَةِ فِي شَهَوَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا دُونَ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا) : خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْسَانَ مُسْتَعِدًّا لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا حَدَّ لَهَا، فَجَعَلَهُ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - 2: 31 وَلِذَلِكَ تَرَى النَّاسَ يَبْحَثُونَ عَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاوَاتِ، مِنْ كَشْفٍ عَنْ قُطْبَيِ الْأَرْضِ وَشَنَاخِيبِ أَعْلَى الْجِبَالِ،

وَغَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، وَتَحْلِيقٍ فِي أَقْصَى مُحِيطِ الْهَوَاءِ، بَلْ تَجَاوَزُوا كُلَّ هَذَا إِلَى رُؤْيَةِ مَا فَوْقَهُ مِنْ شُمُوسٍ وَأَقْمَارٍ، وَمَا تَتَأَلَّفُ مِنْهُ مِنْ ضِيَاءٍ وَأَنْوَارٍ، وَمَا فِيهَا مِنْ عَجَائِبَ وَأَسْرَارٍ، وَيَبْذُلُونَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْحَيَاةَ أَيْضًا، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِفِطْرَتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ الْأَعْلَى بِاللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَمَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةَ كَشْفٍ وَرُؤْيَةٍ بِالْبَصَائِرِ يُغْشِي نُورُهَا الْأَبْصَارَ، بِالتَّجَلِّي الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ أَكْثَرُ الْحُجُبِ وَالْأَسْتَارِ، بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلَا حَدٍّ وَلَا انْحِصَارٍ، فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، الْمُقَيَّدَةِ فِيهَا أَرْوَاحُهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْبَاحِ الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَإِنَّ لَهُ - تَعَالَى - هُنَالِكَ لَتَجَلِّيَاتٍ لِعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ، كَمَا تَجَلَّى كَلَامُهُ فِي الدُّنْيَا لِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِمَا يَعْلُو كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. أَفَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْدَادِ الْعُلْوِيِّ الْعَظِيمِ، أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْإِنْسَانَ إِرَادَتَهُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَزِينَتِهَا الْجَسَدِيَّةِ، فَيَكُونُ مُنْكِرًا أَوْ كَالْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ؟ بَلَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 11: 15 و16 وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ. (فَإِنْ قِيلَ) : وَمَا تَفْعَلُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ - 7: 32 الْآيَةَ؟ (قُلْتُ) : إِنَّمَا كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ بِالْكَسْبِ وَسُنَنِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَشْكُرُونَهَا لِلَّهِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهُ فَتَكُونُ إِرَادَتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَيْفَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: - وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ 6: 52، - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ - 18: 28 فَالْمُؤْمِنُ الشَّاكِرُ الصَّابِرُ تَزِيدُهُ النِّعَمُ شَوْقًا إِلَى اللهِ وَحُبًّا، وَالشَّدَائِدُ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَقُرْبًا. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ازْدِرَاءُ الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، لِلْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : كَانَ الْمَلَأُ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنَ الْأَقْوَامِ، الْمَغْرُورُونَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، هُمْ أَوَّلُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ غَضًّا مِنْ عَظَمَتِهِمْ، وَخَفْضًا مِنْ عُلُوِّ رِيَاسَتِهِمْ، وَوُقُوفًا مَعَ الدَّهْمَاءِ، حَتَّى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، فِي صَفِّ التَّابِعِينَ لِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعْلِهِمْ مِثْلَهُمْ مَرْءُوسِينَ لَهُمْ، كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْ جَوَابِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ - 10: 78؟

كَمَا كَانَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَكَذَا الْوَسَطُ، وَلِهَذَا كَانَ الْكُبَرَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ يَزْدَادُونَ إِعْرَاضًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَاوَةً لَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ التَّنْزِيلُ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَمِنْهُ قِصَّةُ نُوحٍ: - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ - إِلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا - 27 - 31 وَمِنْهُ تَهْدِيدُ مَدْيَنَ لِرَسُولِهِمْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّجْمِ هُنَا لَوْلَا رَهْطُهُ، وَتَهْدِيدُهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالنَّفْيِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَمِنْهُ تَهْدِيدُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ بِرَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْ وَطَنِهِ، وَقَدْ فَعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلِّ مَنْ يُرْشِدُ الشُّعُوبَ إِلَى مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَالرِّيَاسَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. فَهَذَا الْإِرْشَادُ الرَّبَّانِيُّ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - عَامٌّ دَائِمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غِنَى عَنْهُ. وَقَدْ غَفَلَ أَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْهُ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَبِغْيُهَا عِوَجًا) : كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُعَانِدُونَ لِلرُّسُلِ يَسْتَهْزِئُونَ بِدَعْوَتِهِمْ وَيَزْدَرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرُوا وَخَافُوا مِنْهُمْ قُوَّةَ الْكَثْرَةِ طَفِقُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، أَيِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا يُحِبُّهُ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، يَصُدُّونَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ أَسْبَابِ الصَّدِّ كَالْإِهَانَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّعْذِيبِ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَزْيِينِ الْعَصَبِيَّةِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْغِنَى لِلْأَقْوِيَاءِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ يَطْلُبُونَ جَعْلَهَا مُعْوَجَّةً بِذَمِّهَا وَادِّعَاءِ بُطْلَانِهَا وَضَرَرِهَا، وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي الْآيَةِ 19 مِنْ سِيَاقِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا وَفِي سُورَتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَعْرَافِ، وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَيْضًا إِذْ كَانَ قَوْمُهُ يَقْعُدُونَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ دَعْوَتِهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ وَصْفِهَا بِالْعِوَجِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى هَذَا الزَّمَانِ. (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَدَاوَةُ بِالْكَيْدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلرُّسُلِ) : جَاءَ فِي قِصَّةِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ: - فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ - 55 فَقَدْ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْكَيْدَ مِنْهُمْ. وَهَلْ كَانَ وَقَعَ لَهُ فَقَاسَ الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى الْمَاضِي أَمْ عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِمْ، أَمْ فَرَضَ وُقُوعَهُ فَرْضًا وَأَنْبَأَهُمْ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِ؟ كُلُّ جَائِزٍ. وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ: - وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - 91 وَفِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ هَذَا دَأْبُ الْمُفْسِدِينَ فِي عَدَاوَةِ الْمُصْلِحِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشَدُّهُمْ كَيْدًا لَهُمْ أَهْلُ الْحَسَدِ وَالْبِدَعِ مِنْ لَابِسِي لِبَاسِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.

(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى) : الدِّينُ فِي حَقِيقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَعُرْفِ جَمِيعِ الْمِلَلِ تَشْرِيعٌ إِلَهِيٌّ مَوْضُوعُهُ مَعْرِفَةُ اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتُهُ وَشُكْرُهُ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَهْذِيبُهَا بِاجْتِنَابِ الشَّرِّ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى إِلَخْ. وَمَصْدَرُهُ وَحْيُهُ - تَعَالَى - لِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَتَبْلِيغُهُمْ لِمَا ارْتَضَاهُ وَشَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ - تَعَالَى - أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ عِبَادَةً وَلَا حُكْمًا دِينِيًّا مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ، سَوَاءٌ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِالْقَوْلِ أَمْ لَا، لِأَنَّ كُلَّ مَا يُتَّخَذُ دِينًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ وَادِّعَاءِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَلَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا. سَبَقَ بَعْضُهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا وَلَا سِيَّمَا الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَالتَّوْبَةُ وَيُونُسُ، وَمِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا - 18 الْآيَةَ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا مَا، وَمِنْهُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عَقِيدَةٍ وَعِبَادَةٍ وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَهُوَ شِرْكٌ بِاللهِ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَبِهَذَا كَانَ أَشَدَّ جُرْمًا وَكُفْرًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: - وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - 7: 33 وَمِنْ ثَمَّ كَانَ ابْتِدَاعُ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الدِّينِ شِرْكًا وَكُفْرَانًا، إِذِ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَهَا عِبَادَةً يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابًا، وَيُسَمُّونَ مُبْتَدِعِيهَا أَوْلِيَاءَ اللهِ وَأَحْبَابًا، وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا. (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ) : (وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُمْ وَوَصْفُهُمْ بِالسِّحْرِ) : اقْرَأْ فِي مَسْأَلَةِ السِّحْرِ الْآيَةَ السَّابِعَةَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْحَقِّ وَمَا أَنْذَرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ الثَّامِنَةَ وَكِلَاهُمَا فِي قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَفِي السُّخْرِيَةِ الْآيَةَ (38) فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَتِ الشَّوَاهِدُ فِي صِفَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمَغْرُورِينَ بِزَعَامَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَإِتْرَافِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِلضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي الْمَسَائِلِ (11 - 14) وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا نُطِيلُ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فِي عَصْرِنَا) . (الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْتِقَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا) : بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ غَرِيزَةَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْخَلْقِ هُوَ مَصْدَرٌ غَيْبِيٌّ لِلنَّفْعِ وَالضَّرِّ بِذَاتِهِ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى الْمَعْبُودِ النَّافِعِ الضَّارِّ بِقُدْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ

غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ، وَأَنَّ سَبَبَ الشِّرْكِ تَوَهُّمُ أَنَّ بَعْضَ مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِ أَوْ بِوَسَاطَتِهِ عِنْدَ الرَّبِّ ذِي الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. فَالشِّرْكُ دَرَكَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَسْفَلُ مِنَ الْأُخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ هُودٍ كَانُوا فِي الدَّرَكَةِ السُّفْلَى إِذْ قَالُوا لَهُ: - إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ - 54 وَأَمَّا قَوْمُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ ارْتَقَوْا عَنْ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ السُّفْلَى، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَكِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقُولُونَ: - مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى - 39: 3 وَتَجِدُ أَمْثَالًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي مُدَّعِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَنْ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِخُرَافَتِهِمْ وَتَصَرُّفِ أَوْلِيَائِهِمْ فِي الْعَالَمِ: إِنَّ الْوَلِيَّ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ عَطَبَهُ، (وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ وَالْكَلَامَ فِي التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ) . كُلُّ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَالْمَخَازِي الْمُبَيَّنَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَ عَشْرَةَ هِيَ مِنْ فَسَادِ الْعَقَائِدِ وَصِفَاتِ النَّفْسِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا الرَّذَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي اشْتَهَرَ بِهَا أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ فَأَجْمَعُهَا لِلْفَسَادِ إِسْرَافُ بَعْضِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِسْرَافُ آخَرِينَ فِي الطَّمَعِ الْمَالِيِّ، وَتَجِدُ فِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا الْمَسْأَلَتَيْنِ 18 و19. (الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ شَهْوَةِ اللِّوَاطِ وَإِعْلَانُ الْمُنْكَرَاتِ) : وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْ قَوْمِ لُوطٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَاتُ 77 وَمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَخَازِيهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. (الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) : وَهُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَالْعُثُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِحُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ 84 - 88. (الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ) : الطُّغْيَانُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ ظُلْمٌ، وَهُمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، فَاجْتِنَابُهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ الِاسْتِقَامَةُ بِدُونِهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى الْأَمْرِ بِهَا بِقَوْلِهِ: - وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - 112 و113 إِلَخْ، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ " وَأَوْرَدْنَا فِيهِ أَقْوَالَ أَشْهَرِ الْمُفَسِّرِينَ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 140 - 153 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. (الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الظُّلْمُ) : جَرِيمَةُ الظُّلْمِ أُمُّ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ ظُلْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بَدَنًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَدُنْيَا،

وَظُلْمُهُ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَةً وَأُمَّةً، فَكُلُّ مَا سَبَقَ مِنَ الرَّذَائِلِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ إِهْلَاكَ أُولَئِكَ الْقُرُونِ عِقَابًا عَلَى الظُّلْمِ، وَتَرَى بَيَانَ هَذَا فِي آخِرِ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الرَّذَائِلِ يَدْخُلُ فِي بَابِ قِسْمِ الْمُحْرِمَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الرُّكْنِ الْعَمَلِيِّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَضْدَادِهَا، وَأَمَّا قِسْمُ الْمَأْمُورَاتِ فَهُوَ مَا نَرَاهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ: (الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ) : (فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ) : قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالتَّثْبِيتِ عَلَيْهَا بِقِصَصِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا مَعَ أَقْوَامِهِمْ، مِمَّا يَفْهَمُهُ مُشْرِكُو قَوْمِهِ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ مَوْضُوعُهَا بَيَانَ تَفْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْهَا - عَلَى قِلَّتِهِ - كَثِيرٌ فِي مَعْنَاهُ وَفَائِدَتِهِ، وَلَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَمَا يَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعِصْمَةِ، مَا يَكْفِي الْمُتَدَبِّرِينَ لَهُ الْمُتْعَبِرِينَ بِهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعْلِهِمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ وَإِرْشَادِهِ عِبَادَهُ، فَالْفَضَائِلُ فِيهَا قِسْمَانِ، نَسْرُدُ لِقَارِئِي هَذَا التَّفْسِيرِ مَا فَهِمْنَاهُ مِنْ مَسَائِلِهِمَا وَالشَّوَاهِدَ عَلَيْهَا جَمِيعًا وَهِيَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ أَيْضًا. (الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: اسْتِغْفَارُ الرَّبِّ، وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ) : هَاتَانِ فَضِيلَتَانِ، فَرِيضَتَانِ، مُتَلَازِمَتَانِ فَكَأَنَّهُمَا وَاحِدَةٌ، جَاءَ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، عَقِبَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كُرِّرَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِهِ فِي الْآيَاتِ (52 و61 و90) فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا عَامًّا عَلَى أَلْسِنَةِ سَائِرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَنَذْكُرُ فَائِدَتَهُمَا الْعُمْرَانِيَّ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ. (الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ) : ذُكِرَ الصَّبْرُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: - فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ - 49 ثُمَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - 115 فَالصَّبْرُ هُوَ الْخُلُقُ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ.

(الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُطْلَقُ) : ذُكِرَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الصَّبْرِ فِي آيَتِهِ الْأُولَى (11) ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ (23) وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إِجْمَالِ الْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِحْسَانُ الْعَمَلِ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ابْتِلَاءِ الْبَشَرِ. (الْخَامِسَةُ: الْإِخْبَاتُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ) : ذُكِرَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي آيَتِهِ الثَّانِيَةِ (23) وَيَا لَهَا مِنْ فَضِيلَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْفُرْقَانِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي (ص 49) . (السَّادِسَةُ: الِاسْتِقَامَةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى) : أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِقَوْلِهِ: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - 112 فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَ قِصَصِ الرُّسُلِ فَذْلَكَةً لِفَوَائِدِهَا، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (فِي مَوْضِعِهِ بِهَذَا الْجُزْءِ) وَمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهَا. (السَّابِعَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ) : جَاءَ الْأَمْرُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَعَلَّلَهُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي تَكْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الرُّوحِيَّةِ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ، إِرْشَادًا لِأُمَّتِهِ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَطْهِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، فِي أَثَرِ كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِمَّا يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَحْقِيقَ مَعْنَى هَذَا التَّطْهِيرِ فِيهِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّفْسِ. (الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَيَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاحِ فِيهَا) : (وَهُمَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) : بَعْدَ أَنْ بَيْنَ اللهُ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ كُتُبِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَادًا، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ لَهُمْ مَا هُوَ مَنْجَاةٌ لِلْأُمَّةِ وَالشَّعْبِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وُجُودُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ فِيهَا تَنْهَاهَا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - 116 وَبَيَّنَ لَنَا عَقِبَ هَذَا فِي الْآيَةِ أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي أَهْلَكَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمْ

مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْإِتْرَافِ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ. وَصَرَّحَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (117) بِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى " بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ " فِي الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُمَمِ بـ الْقُرَى وَهِيَ عَوَاصِمُ مُلْكِهَا ; لِأَنَّهَا مَأْوَى الزُّعَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ الَّذِينَ تَفْسُدُ الْأُمَمُ بِفَسَادِهِمْ، وَتَصْلُحُ بِصَلَاحِهِمْ، وَهِيَ حَقَائِقُ فَسَّرَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّنَا لَنَرَى مِصْدَاقَهَا بِأَعْيُنِنَا. وَالَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يُفَقِّهُونَ مَا فِيهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ، وَلَابُدَّ مِنَ التَّكْرَارِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ. فَهَذِهِ التِّسْعُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ تَكْفِي مَنْ تَدَبَّرَهَا عِلْمًا وَعِرْفَانًا، وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي السُّورَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ فِيهَا مِنْ سِيرَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُطَالَبُونَ مَعَهُمْ بِهَا فَنُشِيرُ إِلَيْهَا تَتِمَّةً لِلْعَدَدِ. (الْعَاشِرَةُ: الْبَيِّنَةُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدِّينِ) : إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْآيَاتِ، يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِيهَا كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَاتَمُهُمْ: - قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي - 12: 108 فَبَصِيرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْتَبَسَةٌ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ، تَلَقَّاهُ هُوَ مِنْ وَحْيِ اللهِ، وَتَلَقَّيْنَاهُ نَحْنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ وَرَبِّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مِنْ نُورِهِ، مَنْ يَتَلَقَّى عَقِيدَتَهُ وَعِبَادَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ. (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ) : قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ - 28 فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَلَّغَهَا أَوَّلُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْمِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ: - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - 10: 99 وَمِنْ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِمْكَانِ الْإِكْرَاهِ فِي عَهْدِ الْقُوَّةِ: - لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ - 2: 256 أَنَّ دَعْوَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى تَقُومُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ، لَا كَمَا فَعَلَ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَلَا تَزَالُ تَفْعَلُ بَعْضُ دُوَلِهِمْ مِنْ نَشْرِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْقُوَّةِ، أَوْ بِالْخِدَاعِ وَالْحِيلَةِ، فَعَلَى

كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ، وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ كَمَا أَمَرَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. (الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الِاحْتِسَابُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الدَّعْوَةِ دُونَ التِّجَارَةِ بِهَا) : تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَنَّ دَعْوَتَهُمْ وَهِدَايَتَهُمْ كَانَتْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ لِأَقْوَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُمْ عَلَيْهَا مَالًا وَلَا أَجْرًا، كَمَا رَأَيْتَ فِي الْآيَتَيْنِ 29 و51 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَّرْنَاكَ بِمِثْلِهِمَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، فَعَلَى كُلِّ دَاعٍ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ فِي دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ مُخْلِصًا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَبْتَغِي بِهَا مَالًا وَلَا جَاهًا فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَالَ لِمُسَاعَدَةِ الدُّعَاةِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ لَهُمْ: - وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - 5: 2. (الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وِلَايَةُ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَائِهِمْ كَكُبَرَائِهِمْ) : تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْ أَخَصِّ فَضَائِلِهِمْ، وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهَا بِمَا رَدَّ بِهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَشْرَافِ قَوْمِهِ إِذْ طَعَنُوا عَلَى أَتْبَاعِهِ وَلَقَّبُوهُمْ بِأَرَاذِلِهِمْ فِي الْآيَاتِ (27 - 30) وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَنَاهِيكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِسُورَةِ الْأَعْمَى " عَبَسَ " فَفِيهَا الْعِبْرَةُ الْكُبْرَى لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمِنْ صِفَاتِهِمْ فِي السُّنَّةِ: " الْمُسْلِمُونَ ذِمَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " إِلَخْ، وَأَنَّهُمْ " كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَكَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَبِهَذَا يَكُونُونَ الْآنَ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ أُمَّةً قَوِيَّةً فِي قِتَالِهِمْ وَسِلْمِهِمْ، فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ (الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: النَّصِيحَةُ الْعَامَّةُ) : كَانَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كُلُّهُمْ نَاصِحِينَ لِأَقْوَامِهِمْ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ النُّصْحِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَوْلَهُ: - وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي - 34 الْآيَةَ، وَفِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ لِقَوْمِهِ: - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - 7: 62 وَفِي قِصَّةِ هُودٍ مِنْهَا - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ - 7: 68 وَفِي قِصَّةِ صَالِحٍ مِنْهَا: - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ - 7: 79 وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْهَا: - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ - 7: 93 وَقَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، دِينِ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ؟ ! .

(الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ وَحُدُودُ السَّعْيِ لِخَيْرِهِمْ) : مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ فَضِيلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلِ الْغَرِيزَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَحُقُوقُهُمْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ بِمَا يُحَدِّدُ دَوَاعِي الْغَرِيزَةِ وَالطَّبْعِ، وَيَقِفُ بِهَا دُونَ الْغُلُوِّ الْمُفْضِي إِلَى عِصْيَانِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ هَضْمِ حُقُوقِ عِبَادِهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهِ إِرْشَادٌ وَهَدْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، فَهَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ؟ (السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ وَحِفْظُ كَرَامَتِهِ) : فِي خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُبَشِّرِينَ لَهُ بِإِسْحَاقَ وَعِنَايَتِهِ بِضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مَعَهُمْ وَشَدَّةِ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِهِمْ مِنْ شَرِّ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ جَاءُوا لِتَعْذِيبِهِمْ - خَيْرُ أُسْوَةٍ فِي فَضِيلَةِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَتَكْرِيمِهِ، وَقَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " وَقَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. (السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ وَالِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ) : هَذِهِ فَضِيلَةٌ هِيَ فَرِيضَةٌ ثَابِتَةٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ تُؤَيِّدُهَا بَدَاهَةُ الْعَقْلِ، وَهِيَ شَرْطٌ طَبِيعِيٌّ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَالْإِرْشَادِ مِنَ الْقَائِمَيْنِ بِهِ، وَرُسُلُ اللهِ - تَعَالَى - أَئِمَّةُ الْهُدَى فِيهَا، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا قَوْلُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْمِهِ: - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - 88 وَإِنَّهَا لَعِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مَوْضُوعِهَا فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا، وَمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، كَأَوَّلِ سُورَةِ الصَّفِّ، وَآيَةُ: - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ - 2: 44 إِلَخْ. وَانْظُرْ أَيْنَ تَجِدُ عُلَمَاءَ عَصْرِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ (الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْإِصْلَاحُ الْعَامُّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ) : مَا شَرَعَ اللهُ الدِّينَ لِلْبَشَرِ إِلَّا لِيَكُونُوا صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُصْلِحِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ (88) وَهِيَ. - إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ - وَهُوَ أَبْلَغُ الْبَيَانِ وَأَعَمُّهُ وَأَتَمُّهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. (التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِقَامَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ) قَالَ - تَعَالَى -: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - 112 وَأَهَمُّهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَمِنْ شَوَاهِدِهَا هُنَا: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ - 114 وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَحْثِ التَّوْحِيدِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي صِفَاتِ الرُّسُلِ مِنْ آخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ. الْبَابُ السَّادِسُ: (فِي سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ وَالطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) : (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي سُنَنِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ: نِظَامُ الْخَلْقِ، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ) : (سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي رِزْقِ الْأَحْيَاءِ) : (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا - 6 يُشِيرُ إِلَى سُنَنٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الرِّزْقَ الْمُضَافَ إِلَى ضَمِيرِ هَذِهِ الدَّوَابِّ الْكَثِيرَةِ عَامٌّ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ رِزْقَ اللهِ - تَعَالَى - لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ هُوَ مَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَقْوَاتِ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا، وَهَدَاهُ إِلَى التَّغَذِّي بِهِ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَيَجْرِي ذَلِكَ بِسُنَنٍ كَثِيرَةٍ وَضَعَ الْبَشَرُ لِتَفْصِيلِهَا عُلُومًا كَثِيرَةً فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَوَظَائِفِ أَعْضَاءِ التَّغَذِّي وَالْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (سُنَنُهُ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَحْيَاءِ وَمُسْتَوْدَعِهَا) : (الثَّانِي) قَوْلُهُ: - وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا - 6 يَشْمَلُ سُنَنًا أُخْرَى كَثِيرَةً، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ فِيهِمَا أَقْوَالًا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَنَقُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ فِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مُرَادًا مِنْهُ: أَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَأَمَاكِنِهَا وَأَزْمَانِهَا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْحَمْلِ بِهِ وَحَضَانَتِهِ وَوِلَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَوَطَنِهِ وَتَنَقُّلِهِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ سُنَنٌ فِي مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَلَكَ أَنْ تُجْمِلَهَا فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ تُفَصِّلَهَا فَتَجْعَلَهَا عِدَّةَ أَنْوَاعٍ. (سُنَنُهُ فِي كِتَابَةِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَمَقَادِيرِهِ) : (الثَّالِثُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ - 6 بَيَانٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ النِّظَامِ، وَهُوَ نَوْعُ الْكِتَابَةِ الشَّامِلِ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِمَا وُجِدَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ بِالْفِعْلِ، وَمِثَالُهُ الْمُقَرَّبُ لِتَصْوِيرِ حِكْمَتِهِ: تَدْوِينُ كِتَابِ دِيوَانِ الْحُكُومَةِ النِّظَامِيَّةِ لِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ أَعْيَانٍ وَأَمْوَالٍ وَأَعْمَالٍ وَمَقَادِيرَ وَتَدْبِيرٍ، فَالْوَحْيُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْكَوْنَ الْأَعْظَمَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّ مَقَادِيرَهُ الَّتِي نَفَّذَتْ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى -: -

كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا - 17: 58 فَهُوَ مَسْطُورٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَا صِفَةَ كِتَابَتِهِ فِيهِ، وَلَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ نَوْعٍ وَفِي جُمْلَتِهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ يَقُومُ بِهَا قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ 13: 8 وَهُوَ النِّظَامُ. فَلَهُ - تَعَالَى - كِتَابَانِ، فِي أَحَدِهِمَا نِظَامُ التَّكْوِينِ وَفِي الْآخَرِ بَيَانُ التَّكْلِيفِ، فَكِتَابُ التَّكْلِيفِ بَيَّنَ لَنَا مَا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِمَّا يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابَ الْعِلْمِ بِمَا فِي كِتَابِ التَّكْوِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابٌ مُبِينٌ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَحَدُ الْكِتَابَيْنِ بِالْآخَرِ. (سُنَنُهُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : (الرَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - 7 فِيهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ أَطْوَارًا فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مَعْنَاهَا التَّقْدِيرُ الْمُحْكَمُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةٍ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ التَّقْدِيرِيِّ، وَمِنْهُ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْمَرْئِيَّةَ لِلنَّاظِرِينَ، وَكُلَّ جِرْمٍ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ يُرَى فَوْقَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضٍ مِنَ الْأَرَضِينَ، فَكُلُّهَا قَائِمَةٌ بِسُنَنٍ دَقِيقَةِ النِّظَامِ، وَأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْغَازِيَّةِ وَالسَّائِلَةِ وَالْجَامِدَةِ قَائِمٌ بِسُنَنٍ أَيْضًا، وَأَنَّ الْكَوْنَ فِي جُمْلَتِهِ قَائِمٌ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ فِي رَبْطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَحِفْظِ نِظَامِهِ أَنْ يَبْغِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَالَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْجَاذِبِيَّاتِ الْخَاصَّةِ. (سُنَنُهُ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَخَلْقِ الْمُرَكَّبَاتِ أَزْوَاجًا) : (الْخَامِسُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْخَلْقِ: - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ - 7 فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصْلًا فِي هَذَا التَّكْوِينِ، ذَكَرْنَا مِنْ سُنَنِهِ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ، فَقَدْ قَالَ: - وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ - 21: 30 وَقَالَ: - وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ - 51: 49 وَقَالَ: - سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ - 36: 36 وَقَدْ وَصَلَ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِنَا إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ وَمَا قَامَتْ بِهِ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَوَالِيدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ غَيْرُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ خَالِقِهَا - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُنَنِ الطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ الْبَشَرِيَّةِ) : (وَفِيهِ بِضْعَةُ شَوَاهِدَ) : (سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي اخْتِبَارِ الْبَشَرِ لِأَجْلِ إِحْسَانِ كُلِّ عَمَلٍ) : (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حِكْمَتَهُ الْعُظْمَى فِيهِ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - 7 فَإِنَّ إِحْسَانَهُمْ لِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَعَدَّهُمْ لَهَا هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، بَيَّنَ هَذَا بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَيَا لَهُ مِنْ أُسْلُوبٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ ضَرِيبٌ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: - وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - 7 وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بَيَانٌ لِسُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ، إِحْدَاهَا فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ اجْتِمَاعِهِمْ، وَمَوْضِعُهَا الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَالْأُخْرَى فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ غَرَائِزِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ إِذَا أُخْبِرُوا بِشَيْءٍ لَمْ تَصِلْ إِلَى إِدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ أَنْكَرُوهُ، عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِالْفِطْرَةِ لِلْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - 2: 31 فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْمُخْبِرُ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ عَنِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَجَاءَهُمْ بِالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ: - إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - أَيْ: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهَا إِلَّا لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا خَفِيًّا عَلَيْهِمْ قَدْ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ وَقَدْ يَعْرِفُونَهُ بَعْدُ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمُ النَّاقِصَةِ الْمُتَعَارِضَةِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ لَا تَفْصِيلُهُ وَتَحْقِيقُهُ. (غَرِيزَةُ النَّاسِ فِي الْعَجَلِ وَالِاسْتِعْجَالِ) : الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى - عَقِبَ ذَلِكَ: - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ - 8 الْآيَةَ، يُرْشِدُنَا إِلَى سُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ كَاللَّتَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ، نُرْجِئُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَنُبَيِّنُ الْأَوْلَى بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِهِمُ الْعَجَلَةَ وَالِاسْتِعْجَالَ لِمَا يَطْلُبُونَ مِنْ خَيْرٍ لِلتَّمَتُّعِ بِهِ، وَمَا يُنْذَرُونَ مِنْ شَرٍّ يُنْكِرُونَهُ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: - وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ - 10: 11 فَرَاجِعْهُ فِي ص 254 وَمَا بَعْدَهَا ج11 ط الْهَيْئَةِ. (غَرِيزَةُ الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ وَالْيَأْسِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ) الشَّاهِدَانِ: الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الْآيَتَيْنِ 9 و10 بَيَانٌ لِغَرِيزَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، بَيَّنَّاهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنَ الْوَجْهِ الْبَشَرِيِّ وَهُمَا: فَرَحُ الْبَطَرِ

بِالنِّعْمَةِ، وَيَأْسُ الْكُفْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَنُذَكِّرُ بِهِمَا هُنَا مِنْ وَجْهِ النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ. وَمِنْ دَقَائِقِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيِ وُرُودُ هَذِهِ السُّنَنِ مُتَعَاقِبَةً مُتَّصِلَةً. (غَرِيزَةُ الْإِفْرَاطِ فِي تَوْجِيهِ الْقَوِيِّ إِلَى شَيْءٍ يَلْزَمُهُ ضَعُفٌ ضِدُّهُ) : الشَّاهِدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا 15 الْآيَةَ. فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى سُنَّةِ الْعَجَلِ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الشَّاهِدِ الثَّانِي آنِفًا، وَشَاهِدٌ عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَّهَ إِرَادَتَهُ بِكُلِّ قُوَّتِهَا إِلَى مَا فِيهِ مَتَاعٌ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ. عَسُرَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْقِلَ مَا يُنْذَرُ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ الْآجِلِ الَّذِي يَعْقُبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُنْذَرُ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ يَكُونُ فِقْهُهُ لَهُ أَعْسَرُ، وَاقْتِنَاعُهُ بِهِ أَبْعَدُ، إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ لِلْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، إِيمَانًا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ. (فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ) : الشَّاهِدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - 20 فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَوْجِيهِ الْإِنْسَانِ كُلَّ إِرَادَتِهِ إِلَى شَيْءٍ يُضْعِفُ فِيهِ غَرِيزَةَ الْإِرَادَةِ لِمَا يُخَالِفُهُ، وَنُزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَضْعِفُ هِدَايَةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ حَتَّى يَفْقِدَ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا وَالِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِهِمَا، فَهِيَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ سُنَّةٌ أُخْرَى. (الْإِيمَانُ بِالْإِقْنَاعِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَاسْتِعْدَادُ الْبَشَرِ لِلْإِضْلَالِ) : الشَّاهِدُ السَّابِعُ: الْآيَةُ 28 حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَأْنِ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ إِذَا عُمِّيَتْ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ إِيَّاهَا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِلْزَامِ، وَأَنَّ الْكَارِهَ لِلشَّيْءِ لَا تَتَوَجَّهُ إِرَادَتُهُ إِلَى طَلَبِهِ وَفَهْمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، وَأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ تُوَجِّهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُعْطُوا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي غَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ: - وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ - 90: 10 وَقَوْلِهِ فِي صِفَةِ نَفْسِهِ: - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - 91: 8. (سُنَنُهُ فِي ضَلَالِ النَّاسِ وَغَوَايَتِهِمْ) : الشَّاهِدُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي حِكَايَةٍ عَنْهُ فِي مُجَادَلَةِ قَوْمِهِ: - وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ - 34 وَفِيهِ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي غَوَايَةِ الْغَاوِينَ وَكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَضَلَالِ الضَّالِّينَ إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَسْنَدَ فِيهَا إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِمَا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ وُقُوعِ الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ بِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ صَاحِبِهَا وَتُحِيطَ بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى يَفْقِدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلرَّشَادِ وَالْهُدَى، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ

السُّنَنِ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَطَفِقُوا يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِ اللهِ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ لِلْإِنْسَانِ حَتَّى يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هَلْ هُوَ جَائِزٌ مِنَ الْخَالِقِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوَاقِعٌ فِعْلًا، أَمْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ؟ وَأَيُّ الْآيَاتِ فِيهِ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا؟ وَالْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللهُ مَا قُلْنَا فَلَا تَأْوِيلَ. الشَّاهِدُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - 118 نَصٌّ فِي أَنَّ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ أَنْ يَتَفَرَّقُوا بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ، وَيَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَنَازِعِ، وَفِي اللُّغَاتِ وَالْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، وَمُتَنَازِعِينَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ وَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا) : (سُنَّةُ اللهِ فِي تَوْبَةِ الْأُمَمِ مِنَ الذُّنُوبِ كَالْأَفْرَادِ) (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) أَمَرُ الْقُرْآنُ الْأُمَمَ كَالْأَفْرَادِ بِاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فِي الْآيَاتِ 3 و52 و90، وَجَعْلُهُمَا سَبَبًا وَشَرْطًا لِمَا وَعَدْنَا بِهِ مِنَ التَّمْتِيعِ الْمَادِّيِّ وَالْفَضْلِ الْمَعْنَوِيِّ فِي الْأُولَى، وَمِنْ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثَّانِيَةِ بِصَرَاحَةِ الْمَنْطُوقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَفْظِ النِّعَمِ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْأَقْوَامِ لَا لِلْأَفْرَادِ، وَمَا كُلُّ فَرْدٍ يُعَاقَبُ عَلَى ذُنُوبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ كُلُّ أُمَّةٍ تُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَعِقَابُهَا نَوْعَانِ فَصَّلْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ (أَحَدُهُمَا) دِينِيٌّ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ إِنْذَارِهِمْ، وَمِثَالُهُ عِقَابُ الْحُكَّامِ لِمُخَالِفِي شَرَائِعِهِمْ وَقَوَانِينِ حُكُومَتِهِمْ. (وَثَانِيهِمَا) أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِذَنْبِهَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفُشُوِّهِ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مُفَصَّلًا، وَنَذْكُرُهُ فِي شَوَاهِدِ هَذَا الْفَصْلِ مُجْمَلًا، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مَعْرُوفَةً لِلْمُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَمِنَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى نَفْسِهِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُرْبِهِ وَشَبَهِهِ بِهِ فَتَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، كَانَ مِمَّا قَالَهُ الْعَبَّاسُ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. إِلَخْ. أَمَّا كَوْنُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ سَبَبًا لِانْحِطَاطِ الْأُمَمِ وَضَعْفِهَا وَهَلَاكِهَا، فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ سَبَبًا لِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَالْقَحْطِ أَوِ الطُّوفَانِ وَالْجَوَائِحِ فَلَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ ; لِأَنَّ الِانْقِلَابَاتِ الْجَوِّيَّةَ لَا يَعْرِفُ لَهَا الْبَشَرُ اتِّصَالًا بِالذُّنُوبِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا الْقَوْمِيَّةِ الَّتِي تُوصَفُ بِالِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَلَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعِلَاوَةِ الرَّابِعَةِ لِحَادِثَةِ الطُّوفَانِ.

(ارْتِقَاءُ الْأُمَمِ بِإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ وَإِتْقَانِهَا) : (الشَّاهِدُ الثَّانِي) قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ ارْتِقَاءَ الشُّعُوبِ فِي مَصَالِحِهَا الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَفِي عِزَّتِهَا الدَّوْلِيَّةِ، هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِإِحْسَانِ أَعْمَالِهَا فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالتَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمُقَوِّمَاتِ الْعَامَّةِ لَهَا، وَلَا يَتِمُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا تَكْمُلُ هَذِهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. (عِقَابُ الْأُمَمِ لَهُ آجَالٌ طَبِيعِيَّةٌ) : (الشَّاهِدُ الثَّالِثُ) قُلْنَا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ - 8 سُنَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَهُ أَجَلٌ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ، وَزَمَنٌ فِي كِتَابِ نِظَامِ الْخَلْقِ مَعْدُودٌ، وَهُوَ مَا يَبْلُغُ بِهِ ذَنْبُهَا حَدَّهُ فِي الْإِفْسَادِ. وَقَدْ عَلِمْتُ آنِفًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِقَابٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ لَا تَعْقِلُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَعْقِلُهُ بَعْضُ حُكَمَائِهَا، وَقَدْ يُنْذِرُونَهَا وُقُوعَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ شَيْئًا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ وَسَنَبْسُطُهُ قَرِيبًا. (أَوَّلُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْمُصْلِحِينَ: الْفُقَرَاءُ) : (الشَّاهِدُ الرَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ - 27 الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي السَّابِقِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَتَتِمَتُّهُ فِي الشَّاهِدِ التَّالِي وَهُوَ: (فَلَاحُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ بِتَكَافُلِ الْمُصْلِحِينَ فِيهَا) : (الشَّاهِدُ الْخَامِسُ) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَوَابِهِ لَهُمْ: - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا - 29 الْآيَةَ، مَبْنِيٌّ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّعَامَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، وَتَأْلِيفِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْقِلَابَاتِ فِي الْأُمَمِ، وَكَوْنِ ثَبَاتِهَا وَظَفَرِهَا رَهْنًا بِإِيمَانِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ لِأَجْلِهِ إِيمَانَ يَقِينٍ عَقْلِيٍّ، وَوِجْدَانِيٍّ قَلْبِيٍّ، وَتَكَافُلٍ عَمَلِيٍّ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِصِفَةٍ يَكُونُ فِيهَا الزَّعِيمُ خَيْرُ قُدْوَةٍ لِلْأَفْرَادِ، بِتَفْضِيلِهِ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْكُبَرَاءِ مِنْ خُصُومِهِمْ، فَأَمَّا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ هَدَاهُمُ الْوَحْيُ إِلَى هَذِهِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي عَدَاوَةِ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ لَهُمْ، وَأَمَّا زُعَمَاءُ الْأُمَمِ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ هَدَتْهُمْ إِلَيْهَا عَبْرَ التَّارِيخِ وَالتَّجَارِبِ، إِلَى أَنْ دَوَّنَ عُلَمَاءُ فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ وَفَصَّلُوا فِيهِ سُنَّتَهُ فَعَمِلُوا بِهِ، وَكَانَ إِمَامُهُمْ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

(تَنَازُعُ رِجَالِ الْمَالِ وَدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ) : (الشَّاهِدُ السَّادِسُ) فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مَعَ قَوْمِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ، وَهِيَ التَّنَازُعُ بَيْنَ رِجَالِ الْمَالِ وَرِجَالِ الْإِصْلَاحِ فِي حُرِّيَّةِ الْكَسْبِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَقْيِيدِ الْكَسْبِ بِالْحَلَالِ وَمُرَاعَاةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، فَقَوْمُ شُعَيْبٍ كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ تَنْمِيَةَ الثَّرْوَةِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الْمُمْكِنَةِ حَتَّى التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَإِذَا كَالُوا أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ نَقَصُوا وَأَخْسَرُوا، وَإِذَا اكْتَالُوا عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفُوا وَأَكْثَرُوا، وَكَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهَا، وَكَانَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُوصِيهِمْ بِالْقِسْطِ فِيهِ، وَاجْتِنَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْحَلَالِ، وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ حُرِّيَّةَ الْكَسْبِ مَقْرُونَةً بِحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ، كَمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: - قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - 87 وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَذِيلَةِ التَّقْلِيدِ وَرَذِيلَةِ اسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْكَلَامِ عَلَى فَضِيلَةِ حُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَمَنْعِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، وَنَذْكُرُهُ شَاهِدًا عَلَى كَوْنِ هَذَا التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالرَّذِيلَةِ، مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ يَنْصُرُونَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ بِالْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ الْمُؤَيِّدَيْنِ بِالْحُجَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِقْنَاعِ، لَا بِالْقُوَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَدَنِيَّةٌ كَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ جَامِعَةً لِلْوَازِعَيْنِ: وَازِعِ النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَوَازِعِ الشَّرْعِ يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا زَالَ التَّنَازُعُ الْمَالِيُّ أَعْقَدَ مَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِ، وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاقْتِصَادِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ الْمَالِيَّ أَعْظَمُ أُسُسِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَجْلِهِ عَادَى كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي خُلَاصَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَفِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) . (سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ) : (الشَّاهِدُ السَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ - 49 هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي فَوْزِ الْجَمَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ فِي مَقَاصِدِهَا، وَغَلْبِهَا عَلَى خُصُومِهَا وَمُنَاوَئِيهَا، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْأَسَاسُ الرَّاسِخُ لِفَوْزِ الْأَفْرَادِ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَالِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ كِتَابِ اللهِ الْكُبْرَى فِي جَمْعِ الْحَقَائِقِ الْكَثِيرَةِ، فِي الْمَقَاصِدِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الدِّينِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهِ، مِمَّنْ لَا بِضَاعَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مِثْلَ تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَمَا دُونَهُ كَالْجَلَالَيْنِ وَحَوَاشِيهِ وَكَذَا تَفْسِيرُ الْأَلُوسِيِّ الْجَامِعِ لِخُلَاصَةِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، فَقُلْتَ لَهُمْ: مَا مَعْنَى كَوْنِ " الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "؟ وَمَا التَّقْوَى الَّتِي جَعَلَهَا هَذَا النَّصُّ عِلَّةً لِكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَتِكُمْ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ؟ لَيَقُولَنَّ أَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا: إِنَّ التَّقْوَى فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمَعَاصِي، أَوِ امْتِثَالُ

الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَأَنَّ اللهَ وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ مُبْهَمٌ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِأَنْ تَقُولَ: الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ، وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ قَارِئُوا هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عَلَى قِلَّتِهِمْ غَيْرَ هَذَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلُّ مُؤَلِّفِيهَا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ لَهَا فِي تَقْوَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ وَتَقْوَى الْأُمَّةِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُشِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَعْنَاهَا الْعَامِّ، وَهُوَ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يُفْسِدُ الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ وَالرَّوَابِطَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَتَحَرِّي مَا يُصْلِحُهَا بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَبَقَاءِ دُوَلِهَا وَزَوَالِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ السُّنَنِ مُطَّرِدَةً فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ مِنْ مَنْزِلِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَا مُحَابَاةَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمَرْجُوَّةُ لَهُمْ فِي السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لَعَلَّ أَجْمَعَهَا وَأَدَقَّهَا بِالْإِجْمَالِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا 8: 29 الْآيَةَ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ لَهُ مَا تَرْمِي فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ. (نَهْيُ أُولِي الْأَحْلَامِ عَنِ الْفَسَادِ يَحْفَظُ الْأُمَّةَ مِنَ الْهَلَاكِ) : (الشَّاهِدُ الثَّامِنُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ 116 جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ بَيَانِ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَاتٌ وَأَحْزَابٌ أُولُوا بَقِيَّةٍ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْحَقِّ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَا فَشَا فِيهِمْ، وَأَفْسَدَهُمْ وَإِذَنْ لَمَا هَلَكُوا، فَإِنَّ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنَ الْهَلَاكِ مَا دَامُوا يُطَاعُونَ فِيهَا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ، كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنْ فُشُوِّ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ فِيهَا، مَا دَامَتِ الْجَمَاهِيرُ تُطِيعُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَمِنْ وَسَائِلِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي بَعْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْجُمْهُورُ لِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فَعَلَ الْفَسَادُ فِعْلَهُ فِيهِمْ، وَقَدْ فَهِمَ الْوُعَّاظُ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ خَلَفِنَا الْجَاهِلِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ بَرَكَةِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَحَفِظِ اللهِ الْأُمَمَ بِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَقِرَاءَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَضَرَبَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ فِي الزَّوَاجِرِ: لَوْلَا أُنَاسٌ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا ... وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا لَدَكْدَكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سِحْرًا ... فَإِنَّكُمْ قَوْمُ سَوْءٍ لَا تُطِيعُونَا

كَلَّا، إِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْرَادِ مَنْ يَقُومُ لَيْلَهُ بِوِرْدٍ مِنْ تَشْرِيعٍ مُبْتَدَعٍ هُوَ بِهِ عَاصٍ لِلَّهِ - تَعَالَى - لِعِبَادَتِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ، فَكَانَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ 42: 21 أَيْ بِهَلَاكِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: ((رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)) كَمْ مِنْ مُصَلٍّ هُوَ مِصْدَاقٌ لِحَدِيثِ: ((مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا)) وَكَذَلِكَ كَانَ دَرَاوِيشُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ لِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَنَكَّلَ بِهِمُ الْإِفْرِنْجُ بِمُسَاعَدَةِ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِي صَلَاحِهِ، وَلَكِنَّ قُوَّادَهُ لَمْ يَكُونُوا بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَصَلَاحُ دَرَاوِيشِهِ لَا بَصِيرَةَ فِيهِ وَلَا عِلْمَ. كَلَّا إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ 21: 105 وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 7: 128 وَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفْنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ 24: 55 الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ قَرِيبًا، وَإِنَّ اللهَ لَا يَحْفَظُ الْأُمَمَ بِذَوَاتِهِمْ وَبَرَكَةِ أَجْسَادِهِمْ، وَلَا بِعِبَادَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ الْقَاصِرِ نَفْعُهَا عَلَيْهِمْ، بَلْ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ. نَعَمْ إِنَّ اللهَ لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَادَامَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَكِنَّهُ يُعَذِّبُهَا بِذُنُوبِهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فِي عِلَاوَةِ قِصَّةِ الطُّوفَانِ الرَّابِعَةِ. (الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ سَبَبُ الْحِرْمَانِ مِنَ النَّصْرِ) : (الشَّاهِدُ التَّاسِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا 112 وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ 113 فِيهِمَا مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الطُّغْيَانَ وَالرُّكُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الظُّلْمِ فِي شَوَاهِدِهِ الْآتِيَةِ: (الشَّوَاهِدُ: الْعَاشِرُ - الْخَامِسَ عَشَرَ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ) : (فِي الْآيَاتِ 100 - 102 و112 و113 و116 و117) : أَوَّلُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ 100 وَالثَّانِيَةُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ 101 أَيْ بِإِهْلَاكِهِمْ،

بَلْ أَنْذَرْنَاهُمْ عَاقِبَةَ ظُلْمِهِمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ظُلْمًا عَامًّا فَكَانَ هَلَاكُهُمْ عَامًّا، وَكَانَ أَكْبَرَ ظُلْمِهِمُ الشِّرْكُ، فَكَانُوا يَدْعُونَ آلِهَتَهُمْ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَاتَّكَلُوا عَلَيْهَا فِي دَفْعِ مَا أَنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ 101 الْآيَةَ. هَذَا مَعْنًى لَا يُكَابِرُ فِيهِ أَحَدٌ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْقُرْآنِ إِذَا بَيَّنْتَ لَهُمْ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهُمْ مِنْهَا أَنْكَرُوهُ، وَأَوَّلُ مَا يُنْكِرُونَهُ أَسَاسُهَا الْأَعْظَمُ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَمَعْنَى الشِّرْكِ بِهِ مِنْهَا، إِذْ هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ شِرْكَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عِبَارَةٌ عَنْ عِبَادَةِ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ مِنَ الْجَمَادِ يَتَّكِلُونَ عَلَيْهَا لِذَاتِهَا. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْلَهُ الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ، وَاعْتِقَادُ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْكَوْنِ، وَدُعَاؤُهُمْ فِي طَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَأَنَّ مِثْلَهُ أَوْ مِنْهُ مَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي بُخَارَى أَنَّ شَاهْ نَقْشَبَنْدَ هُوَ الْحَامِي لَهَا، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهَا، وَمَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى مِنْ حِمَايَةِ مَوْلَايَ إِدْرِيسَ لِفَاسَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا فَرَنْسَةُ، أَنْكَرُوا عَلَى الْقَائِلِ: إِنَّ هَذَا كَذَاكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِجَاهِ الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْفَعُوهَا بِكَرَامَتِهِمْ. فَكَرَامَةُ الْأَمْوَاتِ ثَابِتَةٌ كَالْأَحْيَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُمْ جَهْلَهُمْ هَذَا بِتَبَدُّلِ الْأَسْمَاءِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فُتُوحَاتِهِمْ وَتَأْسِيسِ مُلْكِهِمْ وَحِفْظِهِ، وَخَصَّصْنَا إِخْوَانَنَا أَهْلَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى بِالْإِنْذَارِ مُنْذُ أُنْشِئَ الْمَنَارُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى تَنْظِيمِ قُوَّاتِهِمُ الدِّفَاعِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَطَلَبِ الضُّبَّاطِ لَهُ مِنَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَإِلَى الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى الْقُوَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالنِّظَامِ، وَإِلَّا ذَهَبَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَطْعًا. فَقَالَ الْمُغْوُونَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ الْقِدَدِ بِلِسَانِ حَالِهِمْ أَوْ مَقَالِهِمْ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَنَارِ مُعْتَزِلِيٌّ مُنْكِرٌ لِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا هُوَ بِمُعْتَزِلِيٍّ وَلَا أَشْعَرِيٍّ، بَلْ هُوَ قُرْآنِيٌّ سُنِّيٌّ، وَهَا هِيَ ذِي فَرَنْسَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا أَنْذَرَهُمْ، وَظَهَرَ أَنَّ أَكْبَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ نُفُوذًا وَدَعْوَى لِلْكَرَامَاتِ بِالْبَاطِلِ كَالتِّيجَانِيَّةِ، كَانُوا وَمَا زَالُوا مِنْ خِدْمَةِ فَرَنْسَةَ وَمُسَاعِدِيهَا عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ، وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا أَوْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِلْحَادِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَدْرُونَ أَوْ لَا يَدْرُونَ. يَجْهَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ - تَعَالَى - خَاصٌّ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، أَنَّ أَصْلَ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّبَرُّكِ أَوِ التَّوَسُّلِ بِأَشْخَاصِهِمْ لِإِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَقَدْ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ (وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ) رِجَالًا صَالِحِينَ غَلَوْا فِي تَعْظِيمِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَوَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ

لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ، وَيَدْفَعُونَ الْعَذَابَ بِكَرَامَاتِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ لَا تَمَاثِيلُهُمْ. بَلْ نَرَى هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى قُبُورِهِمُ الصَّالِحِينَ؛ لِدُعَائِهِمْ أَوْ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، يَجْهَلُونَ جَمِيعَ عَقَائِدِ الْقُرْآنِ وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، إِلَى هَذِهِ السُّنَنِ فِي إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَكْبَرُ مَصَائِبِ الْإِسْلَامِ أَنَّ افْتِتَانَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ سَبَبًا لِإِلْحَادِ فَرِيقٍ كَبِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ الْعَصْرِ وَمِنْهَا سُنَنُ الْخَلْقِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمُرُوقِهِمْ مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ هُوَ الَّذِي أَضَاعَ مُلْكَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّ حُكُومَةَ التُّرْكِ الْحَاضِرَةِ تَرَكَتِ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْخُرَافَاتِ، وَعَادَى رَئِيسُهَا وَمُؤَسِّسُهَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَلُغَتَهُمَا وَحُرُوفَهُمَا بِمَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالصَّلِيبِيِّينَ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ 26: 4. وَخُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ (102) أَنَّ أَخْذَ اللهِ الْقُرَى الظَّالِمَةَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَيَكُونُ عَلَى نَحْوِ أَخْذِهِ لَهَا فِي الْمَاضِي، أَلِيمًا شَدِيدًا لَا هَوَادَةَ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا مُحَابَاةَ. وَخُلَاصَةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ (112 و113) أَمْرُ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ هُوَ وَمَنْ تَابَ مَعَهُ كَمَا أَمَرَ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ، وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُشَبَّهَةِ حَالُهُمْ فِي قَرْيَتِهِمْ (مَكَّةَ) لِحَالِ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يُنَجَّيَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ أَتْبَاعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ قُبَيْلَ إِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ. وَخُلَاصَةُ الْخَامِسَةِ (166) أَنَّ الْوَسِيلَةَ لِمَنْعِ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِالْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، هُوَ وُجُودُ أُولِي بَقِيَّةٍ فِيهَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيُطَاعُونَ، إِذْ بِفَقْدِهِمْ يَتَّبِعُ الظَّالِمُونَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ فَيَكُونُونَ مُجْرِمِينَ فَيَهْلِكُونَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ فَبِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ. وَخُلَاصَةُ السَّادِسَةِ (117) أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَعِزَّتِهَا وَذُلِّهَا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا. إِنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ وَرِثُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ وَسُنَّةَ النَّبِيِّ وَبَيَانَهُ لَهُ بِالِاتِّبَاعِ، كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْخَلْقِ وَيَهْتَدُونَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَضَعُوا لَهَا قَوَاعِدَ عِلْمِيَّةً وَفَنِّيَّةً لِتَفْقِيهِ مَنْ بَعْدِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ زَالَتْ سَلِيقَةُ اللُّغَةِ مِنْ

عُلَمَاءِ الْمُوَلِّدِينَ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِقَوَاعِدِ الْفُنُونِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلُّغَةِ وَلِلدِّينِ بِقَدْرِ مَعَارِفِهِمُ الْمَمْزُوجَةِ بِمَا وَرِثُوا وَمَا كَسَبُوا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ مِمَّا دَوَّنَهُ أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَا نَرَى فِي تَفَاسِيرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الْخَاصَّةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، بَلْ تَنَكَّبُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ مَا نَشْكُو مِنْهُ وَنُحَاوِلُ تَلَافِيَهُ. (الشَّاهِدُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ) : تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (118 و119) (1) بَيَانَ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي الدِّينِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّكْوِينِ وَالْعُقُولِ وَالْفُهُومِ، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ: أَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُ هِدَايَةً وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ، لِتَكُونَ كَافِلَةً كَافِيَةً لَهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا كُلُّهُ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيِّنَةِ لِأَسْبَابِ فَسَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ الْقُرْآنُ لِاتِّقَائِهَا، فَهُوَ جَامِعٌ لِوَصْفِ أَمْرَاضِ الْبَشَرِ كُلِّهَا وَلِوَصْفِ عِلَاجِهَا، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ الصُّغْرَى (الْبُيُوتِ وَالْفَصَائِلِ وَالْعَشَائِرِ) وَالْكُبْرَى (الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ) عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَلِمَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، وَالْهَلَاكُ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَنْحَصِرُ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا التَّرْكُ إِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَخَطْبُهُ سَهْلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ جَهَلَهُ بِالْحُكْمِ خَالَفَهُ وَدَوَاؤُهُ التَّعْلِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَسَادِ تَرْبِيَتِهِ وَدَوَاؤُهُ النَّصِيحَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْرُوضٌ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّصِيحَةَ بِالْقَوْلِ فَعِلَاجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ حُكُومَتِهِمْ مَعْرُوفٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ مِنَ الْجَمَاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ لِلْجَهْلِ أَوْ لِأَسْبَابٍ مَالِيَّةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ شَخْصِيَّةٍ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، عِلَاجُ كُلِّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ. وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ وَالْمَوْتُ الْأَحْمَرُ وَالْخَطَرُ الْأَسْوَدُ الْمُظْلِمُ فَهُوَ اخْتِلَافُ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ فِي الدِّينِ، وَالزَّيْغُ عَنِ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحِرْمَانِ أَهْلِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ 118 و119 وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي رَحْمَتِهِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ 9: 117، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا 33: 43 وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَأَتَمَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ فِيهِ: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 10: 57 وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ وَصْفُهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ 9: 128 فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الْأَوَّلِ الْآخَرِ، وَبِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ وَبِنَبِيِّهِ الْخَاتَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَتِمُّ لِأَفْرَادِهِمْ إِلَّا بِتَمَامِ الِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا كَلَّفُوهُ

بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا تَكُونُ لِجَمَاعَتِهِمْ - وَهِيَ الْأُمَّةُ - إِلَّا بِاعْتِصَامِهَا بِحَبْلِ اللهِ وَعُرْوَةِ الْوَحْدَةِ الْوُثْقَى، بِاجْتِنَابِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهَا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنَ النُّصُوصِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَرَدِّ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فِي غَيْرِ الْقَطْعِيِّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إِلَى تَرْجِيحِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ، وَتَرْجِيحِ الْأَفْرَادِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ، فَالْحَقُّ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ تَنْفِيذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَنَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِهَا وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهَا قِيدَ شَعْرَةٍ، وَهِيَ جَمَاعَةُ (أُولِي الْأَمْرِ) وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَنُوطُ بِهِمُ الشَّرْعُ نَصْبَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَالسَّلَاطِينِ عَلَيْهَا وَعَزْلَهُمْ، وَقَدْ فُقِدُوا مَنْ أُمَّتِنَا بِاسْتِبْدَادِ الظَّالِمِينَ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَتَبَرَّأَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَمِمَّنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُصْلِحِينَ وَضْعُ نِظَامٍ لِإِعَادَةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) . وَأَخْتِمُ هَذِهِ الْخُلَاصَةَ بِحَدِيثِ: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا)) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ بِضْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِزِيَادَةِ ((قَبْلَ الْمَشِيبِ)) وَبِزِيَادَةِ ((وَأَخَوَاتُهَا)) مِنَ الْمُفَصَّلِ فِي بَعْضِهَا، وَبِتَسْمِيَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) وَغَيْرِهَا مَنْ سُورِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي بَعْضٍ. وَأَسَانِيدُهَا حَسَنَةٌ فَلْيَتَدَبَّرْهَا الْمُؤْمِنُونَ. 12 - سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فَقَطْ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الثَّلَاثَ مِنْهَا مَدَنِيَّاتٌ فَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَهُوَ يُخِلُّ بِنَظْمِ الْكَلَامِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ الْإِتْقَانَ فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُهُ وَيَقُولُ: وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا اسْتِثْنَاءً فِي الْمُصْحَفِ الْمِصْرِيِّ وَيُزَادَ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ هُودٍ أَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَالِاسْتِدْلَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كَوْنِهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ، فَفِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنَ الْأُولَى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا 11: 49 وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ 12: 102 وَإِشَارَةُ التَّأْنِيثِ فِي الْأُولَى لِلْقِصَّةِ الْمُنَزَّلَةِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَلَاغَةِ الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: لِلسُّورَةِ، وَإِشَارَةُ التَّذْكِيرِ فِي الثَّانِيَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ 12: 3.

يوسف

وَالْفَرْقُ بَيْنَ قِصَّتِهَا وَقِصَصِ الرُّسُلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ تِلْكَ قِصَصٌ لِلرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ وَالْمُحَاجَّةِ فِيهَا، وَعَاقِبَةِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ؛ لِإِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَمُتَّبِعِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كُرِّرَتْ بِالْأَسَالِيبِ وَالنُّظُمِ الْمُخْتَلِفَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ وَوُجُوهِ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، ثُمَّ فِي بَحْثِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ. وَأَمَّا سُورَةُ يُوسُفَ فَهِيَ قِصَّةُ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وُجِدَ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ صَغِيرَ السِّنِّ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاكْتَهَلَ فَنُبِّئَ وَأُرْسِلَ وَدَعَا إِلَى دِينِهِ، وَكَانَ مَمْلُوكًا ثُمَّ تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمُلْكِ لِقُطْرٍ عَظِيمٍ، فَأَحْسَنَ الْإِدَارَةَ وَالتَّنْظِيمَ، وَكَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ لِلنَّاسِ فِي رِسَالَتِهِ وَجَمِيعِ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ وَطَوَارِئِهَا وَطَوَارِقِهَا، وَأَعْظَمُهَا شَأْنُهُ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنَّ تُجْمَعَ قِصَّتُهُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا نَجْعَلُهُ فِي أَوَّلِهَا وَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي خَاتِمَتِهَا. وَهِيَ أَطْوَلُ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ افْتُتِحَتْ بِثَلَاثِ آيَاتٍ تَمْهِيدِيَّةٍ فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ قَصَصِهِ، ثُمَّ كَانَتْ إِلَى تَمَامِ الْمِائَةِ فِي تَارِيخِ يُوسُفَ، وَخُتِمَتْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَإِعْجَازِ كِتَابِهِ، وَالْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. فَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ فَاتِحَةُ سُورَةِ يُونُسَ إِلَّا وَصْفَ الْقُرْآنِ بِ ((الْمُبِينِ)) هُنَا وَبِـ ((الْحَكِيمِ)) هُنَالِكَ، وَهُمَا فِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَأَقْصَى مَدَى مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِحْكَامِ، اخْتِيرَ فِي كُلٍّ مِنَ الصُّورَتَيْنِ مَا يُنَاسِبُهَا، فَسُورَةُ يُونُسَ مَوْضُوعُهَا أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ مِنَ الْحِكْمَةِ.

وَهَذِهِ مَوْضُوعُهَا قِصَّةُ نَبِيٍّ كَرِيمٍ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ كَانَ قُدْوَةَ خَيْرٍ وَأُسْوَةً حَسَنَةً فِيهَا كُلِّهَا، فَالْبَيَانُ بِهَا أَخَصُّ. الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ أَيْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْمُظْهِرُ لَمَا شَاءَ اللهُ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيَّنَ اللهُ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُبِينٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَبَانَ الشَّيْءُ فِعْلًا لَازِمًا بِمَعْنَى ظَهَرَ وَاتَّضَحَ. وَتَقُولُ: أَبَانَ الرَّجُلُ كَذَا إِذَا أَظْهَرَهُ وَفَصَلَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُشْتَبَهَ بِهِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُنَا كَمَا قُلْنَا آنِفًا. (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) أَيِ الْكِتَابَ عَلَى رَسُولِنَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ حَالَ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ بِلُغَتِكُمُ الْعَرَبِيَّةِ مَالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ وَأَنْبَاءِ الرُّسُلِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَدَبِ وَالسِّيَاسَةِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَعَانِيَهُ أَيُّهَا الْعَرَبُ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ مِنْ مَطَالِبِ الرُّوحِ وَمَدَارِكِ الْعَقْلِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَثْقِيفِ مَدَارِكِ الْوِجْدَانِ وَالْحِسِّ، وَإِصْلَاحِ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ، الْمُرَادُ بِهَا صَلَاحُ الْحَالِ، وَسَعَادَةُ الْمَآلِ، وَالْقُرْآنُ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا، وَعَلَى جُمْلَتِهِ كُلِّهَا. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الْقَصَصِ أَيْ نُحَدِّثُكَ أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ وَالتَّحْدِيثِ بَيَانًا وَأُسْلُوبًا وَإِحَاطَةً، أَوْ أَحْسَنَ مَا يُقَصُّ وَيُتَحَدَّثُ عَنْهُ مَوْضُوعًا وَفَائِدَةً، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْقَصَصُ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ مِنْ قَصَّ الْخَبَرَ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوُجُوهِ وَأَصْدَقِهَا، لِأَنَّهُ مَنْ قَصَّ الْأَثَرَ وَاقْتَصَّهُ إِذَا تَتَبَّعَهُ وَأَحَاطَ بِهِ خَبَرًا، كَأَنَّهُ قَالَ نَقُصُّهُ عَنِ اقْتِصَاصٍ وَإِحَاطَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ الْقَصَصُ بِمَعْنَى الْمَقْصُوصِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ: (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) أَيْ بِإِيحَائِنَا إِلَيْكَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ الْغَايَةُ الْعُلْيَا فِي حُسْنِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَحُسْنِ مَوْضُوعِهِ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) أَيْ وَإِنَّ الشَّأْنَ وَحَقِيقَةَ مَا يَتَحَدَّثُ عَنْهُ مِنْ قِصَّتِكَ أَنْتَ، أَنَّكَ كُنْتَ مِنْ قَبْلِ إِيحَائِنَا مِنْ جَمَاعَةِ الْغَافِلِينَ عَنْهُ مِنْ قَوْمِكَ الْأُمِّيِّينَ، الَّذِينَ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمُ التَّحْدِيثَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَامِهِمْ، وَبَيَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ دِينٍ وَتَشْرِيعٍ كَيَعْقُوبَ وَأَوْلَادِهِ فِي بَدَاوَتِهِمْ، وَلَا مَا كَانَتِ الْأُمَمُ فِيهِ مِنْ تَرَفٍ وَحَضَارَةٍ كَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ وَقَعَ يُوسُفُ بَيْنَهُمْ، وَحَدَثَ لَهُمْ مَا حَدَثَ فِي بَعْضِ بُيُوتَاتِهِمُ الْعُلْيَا، ثُمَّ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ وَإِدَارَةِ نِظَامِ الدَّوْلَةِ.

4

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ بَيْنَ يُوسُفَ فِي طُفُولَتِهِ، وَأَبِيهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاسْتَدَلَّ أَبُوهُ بِرُؤْيَاهُ، عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ أَمَلُهُ، وَشَغَفَ بِهِ قَلْبُهُ، فَكَانَ مَبْدَأً لِكُلِّ مَا حَدَثَ لَهُ مِنَ الْوَقَائِعِ الْمُحْرِقَةِ، وَمِنَ الْعَاقِبَةِ الْمُشْرِقَةِ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَا لَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهَا إِلَّا فِي آخِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَصَصِ الْمُنْتَحَلَةِ فِي عَصْرِنَا يَحْتَذُونَ أُسْلُوبَ قِصَّةِ يُوسُفَ فِي سُورَتِهِ هَذِهِ بِوَضْعِ خَبَرٍ مُشْكَلٍ خَفِيٍّ يَشْغَلُ فِكْرَ الْقَارِئِ فِي أَوَّلِهَا، وَيَظَلُّ يَنْتَظِرُ وُقُوعَ مَا يَحِلُّ إِشْكَالَهُ، وَيُفَسِّرُ مَآلَهُ، فَلَا يُصِيبُهُ إِلَّا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ ((الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ)) إِلَخْ. (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ أَحْسَنِ الْقَصَصِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ. وَالْأَكْثَرُونَ يُعِدُّونَهُ بَدْءَ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُقَدِّرُونَ لَهُ مُتَعَلِّقًا: اذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِلَخْ. وَالتَّاءُ هُنَا بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي نِدَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْفَصِيحُ كَسَرُهَا وَسَمِعَ فَتَحَهَا وَضَمَّهَا أَيْضًا: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فِي الْمَنَامِ بِدَلِيلِ مَا يَأْتِي بَعْدُ، ثُمَّ بَيْنَ الصِّفَةِ الَّتِي رَأْي عَلَيْهَا هَذِهِ الْجَمَاعَةَ

السَّمَاوِيَّةَ بِقَوْلِهِ: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) وَالسُّجُودُ: التَّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ الَّذِي سَبَبُهُ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْظِيمِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: سَجَدَ الْبَعِيرُ؛ إِذَا خَفَضَ رَأْسَهُ لِرَاكِبِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي تَحِيَّةِ التَّعْظِيمِ فِي بِلَادِ فِلَسْطِينَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا وَاسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى انْقِيَادِ تَعَالَى - وَتَسْخِيرِهِ وَهَذَا سُجُودٌ طَبِيعِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٍّ، وَلَا يَكُونُ السُّجُودُ عِبَادَةً إِلَّا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مِنَ السَّاجِدِ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانًا ذَاتِيًّا غَيْبِيًّا فَوْقَ سُلْطَانِ الْأَسْبَابِ الْمَعْهُودَةِ. وَكَانَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ سُجُودِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إِرَادَةٌ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا سَاجِدَةً لِي، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ وَالِدَهُ أَنَّهُ رَآهَا سَاجِدَةً سُجُودًا، كَأَنَّهُ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ كَسُجُودِ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ، فَأَعَادَ فِعْلَ ((رَأَيْتُ)) وَجَعَلَ مَفْعُولَهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ وَجَمَعَ صِفَةَ هَذَا السُّجُودِ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ، فَعَلِمَ أَبُوهُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَا إِلْهَامٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، الَّتِي تُثِيرُهَا فِي النَّوْمِ الْخَوَاطِرُ وَالْأَفْكَارُ، وَلَا سِيَّمَا خَوَاطِرُ غُلَامٍ صَغِيرٍ كَيُوسُفَ يَخَافُ أَبُوهُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ يَا بُنَيَّ: تَصْغِيرٌ لِكَلِمَةِ ((ابْنٍ)) فِي نِدَاءِ الْعَطْفِ وَالتَّحَبُّبِ، وَقَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى فُلَانٍ كَقَصَّ الْقِصَّةَ مَعْنَاهُ أَخْبَرَهُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الدِّقَّةِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ يَفْهَمُ مِنْهُ الْمُعَبِّرُ الْبَصِيرُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ لِلرَّائِي الْقَاصِّ، أَوِ الْمَعْنَى الَّذِي تُؤَوِّلُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ كَمَا يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - قَبْلَ وَحْيِ التَّكْلِيمِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَقَدْ فَهِمَ هَذَا يَعْقُوبُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ يُوسُفَ سَيَكُونُ نَبِيًّا عَظِيمًا ذَا ظُهُورٍ وَسُلْطَانٍ يَسُودُ بِهِ أَهْلَهُ حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَإِخْوَتَهُ، وَخَافَ أَنْ يَسْمَعَ إِخْوَتُهُ مَا سَمِعَهُ وَيَفْهَمُوا مَا فَهِمَهُ فَيَحْسُدُوهُ وَيَكِيدُوا لِإِهْلَاكِهِ، فَنَهَاهُ أَنْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا أَيْ: إِنْ تَقْصُصْهَا عَلَيْهِمْ يَحْسُدُوكَ فَيُدَبِّرُوا وَيَحْتَالُوا لِلْإِيقَاعِ بِكَ تَدْبِيرًا شَيْطَانِيًّا يُحَكِّمُونَهُ بِالتَّفْكِيرِ وَالرَّوِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُ الْأَعْدَاءُ فِي الْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ، يُقَالُ: كَادَهُ إِذَا وَجَّهَ إِلَيْهِ الْكَيْدَ مُبَاشَرَةً، وَكَادَ لَهُ إِذَا دَبَّرَ الْكَيْدَ لِأَجْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمَضَرَّتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي تَدْبِيرِ يُوسُفَ لِإِبْقَاءِ أَخِيهِ بَعْدَهُ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ 76 وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا، لَا تَفُوتُهُ فُرْصَةٌ لَهَا فَيُضَيِّعُهَا. هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٍ لِلسَّبَبِ النَّفْسِيِّ لِهَذَا الْكَيْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي النَّزْغِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَمَا تَعَرَّضَ لَهُ دَاعِيَةٌ مِنْ هَوَى النَّفْسِ، وَشَرِّهَا الْحَسَدُ الْغَرِيزِيُّ فِي الْإِنْسَانِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ يُوسُفُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَسُوءِ تَأْثِيرِهِ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) 100 وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ يُوسُفَ قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَمَا قَصَّهُ اللهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي رُوِيَ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ،

6

وَسِفْرُ التَّكْوِينِ غَيْرُ مَرْوِيٍّ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ كِتَابٌ قَدِيمُ التَّارِيخِ لَهُ قِيمَةٌ لَا تَعْصِمُهُ مِنَ الْخَطَأِ. (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الشَّأْنِ الرَّفِيعِ وَالْمَجْدِ الْبَدِيعِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَكَ فِي رُؤْيَاكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)) لِنَفْسِهِ وَيَصْطَفِيكَ عَلَى آلِكَ وَغَيْرِهِمْ فَتَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ (بِفَتْحِ اللَّامِ كَمَا وَصَفَهُ اللهُ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا) فَالِاجْتِبَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتَ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَالْجِبَايَةُ جَمْعُ الشَّيْءِ النَّافِعِ كَالْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَالْمَالِ لِلسُّلْطَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ أَيْ يُعَلِّمُكَ مِنْ عِلْمِهِ اللَّدُنِّيِّ تَأْوِيلَ الرُّؤَى وَتَعْبِيرَهَا، أَيْ تَفْسِيرَهَا بِالْعِبَارَةِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا تَئُولُ إِلَيْهِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ تَأْوِيلُهَا كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةً لِقَوْلِ يُوسُفَ لِأَبِيهِ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) 12: 100 أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ، وَسُمِّيَتِ الرُّؤَى أَحَادِيثَ بِاعْتِبَارِ حِكَايَتِهَا وَالتَّحْدِيثِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: إِنَّ الرُّؤْيَا حَدِيثُ الْمَلَكِ إِنْ كَانَتْ صَادِقَةً، وَحَدِيثُ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ فَإِنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ، وَكَذَا رُؤْيَا صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ رُؤْيَا لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يُرَى فِي النَّوْمِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ اسْمٌ لِمَا يُرَى فِي الْيَقَظَةِ، فَهُمَا كَالْقُرْبَةِ وَالْقُرْبَى وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِلتَّمْيِيزِ، وَقَدْ يَسْمَعُ رَائِيهَا أَحَادِيثَ رَجُلٍ يُحَدِّثُهُ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ يَكُونُ لِجُمْلَةِ مَا رَآهُ وَسَمِعَهُ لَا لِمَا سَمِعَهُ فِيهَا فَحَسْبٌ، كَمَا يَقُصُّهُ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَنْ يَعْبُرُهُ لَهُ، أَيْ يُعَبِّرُ بِهِ مِنْ مَدْلُولِ حَدِيثِهِ اللَّفْظِيِّ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا كَرُؤْيَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ وَرُؤْيَا الْمَلِكِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا كَتَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ نَفْسَهُ، وَلَفْظُ الْأَحَادِيثِ اسْمُ جَمْعٍ سَمَاعِيٍّ كَالْأَبَاطِيلِ. وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ضَرْبٌ مِنْ إِدْرَاكِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ أَحْيَانًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِاسْتِعْدَادِهَا الْفِطْرِيِّ، إِمَّا بِعَيْنِهَا وَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِمَّا بِمِثَالٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَسَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَبَيْنَ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَرَأْيُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ فِيهَا فِي خُلَاصَةِ السُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَتَعْلِيمُ اللهِ التَّأْوِيلَ لِيُوسُفَ إِيتَاؤُهُ إِلْهَامًا وَكَشْفًا لِلْمُرَادِ مِنْهَا أَوْ فِرَاسَةً خَاصَّةً فِيهَا، أَوْ عِلْمًا أَعَمَّ مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) 37 رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ: تَأْوِيلُ الْعِلْمِ وَالْحُلْمِ وَكَانَ يُوسُفُ مِنْ أَعْبَرِ النَّاسِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ، تَأْوِيلُ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ مُقَلِّدُوهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ التَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ يُعَلِّمُكَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَبَنَى هَذَا عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ دَلَالَةِ الرُّؤْيَا عَلَى الِاجْتِبَاءِ فَقَطْ، وَمَا هَذَا الْفَهْمُ إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَالَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ

السَّلَامُ - فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا فَهْمًا مُجْمَلًا كُلَّ مَا بُشِّرَ بِهِ ابْنُهُ رَائِيهَا، وَأَمَّا كَيْدُ إِخْوَتِهِ لَهُ إِذَا قَصَّهَا عَلَيْهِمْ فَقَدِ اسْتَنْبَطَهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَعَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ. فَلَمَّا حَذَّرَهُ مِنَ الِاسْتِهْدَافِ لِذَلِكَ بِإِثَارَةِ حَسَدِهِمْ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبِشَارَتِهِ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا مِنِ اجْتِبَاءِ رَبِّهِ الْخَاصِّ بِهِ، وَمِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ الَّذِي سَيَكُونُ وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ إِلَى رَفْعِهِ قَدْرَهُ وَعُلُوِّ مَقَامِهِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الِاجْتِبَاءِ مَعَهُ فِي الْبِشَارَةِ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ وَهُمْ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ وَذُرِّيَّتُهُمْ (وَأَصْلُ الْآلِ أَهْلٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى أُهَيْلٍ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِمَنْ لَهُمْ شَرَفٌ وَخَطَرٌ فِي النَّاسِ كَآلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلِ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِمْ: أَهْلٌ) بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ، وَتَبَوُّئِهِمُ الْمَقَامَ الْكَرِيمَ بِمِصْرَ، ثُمَّ بِتَسَلْسُلِ النُّبُوَّةِ فِي أَسْبَاطِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْعَهْدِ أَوْ مِنْ قَبْلِكَ (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) هَذَا بَيَانٌ لِكَلِمَةِ ((أَبَوَيْكَ)) وَهُمَا جَدُّهُ وَجَدُّ أَبِيهِ، وَقِدَمُ الْأَشْرَفِ مِنْهُمَا، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَأْلُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بَلْ قَالَهَا هُوَ أَيْضًا. وَهَذَا التَّشْبِيهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا كَانَ يَعْلَمُهُ يَعْقُوبُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ بِاصْطِفَاءِ آلِهِ، وَجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَإِنَّمَا عَلِمَ مِنْ رُؤْيَا يُوسُفَ أَنَّهُ هُوَ حَلْقَةُ السِّلْسِلَةِ النَّبَوِيَّةِ الِاصْطِفَائِيَّةِ بَعْدَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ، فَلِهَذَا عَلَّلَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْطَفِيهِ حَكِيمٌ بِاصْطِفَائِهِ، وَبِإِعْدَادِ الْأَسْبَابِ وَتَسْخِيرِهَا لَهُ، وَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ يَعْقُوبَ بِمَا بَشَّرَ اللهُ بِهِ أَبَوَيْهِ لَهُمَا وَلِذَرِّيَّتِهِمَا، وَبِدَلَالَةِ رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ حَلْقَةُ السِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ لَهُمْ، هُوَ السَّبَبُ كَمَا قُلْنَا لِزِيَادَةِ حُبِّهِ لَهُ وَعَطْفِهِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ، الَّذِي هَاجَ مَا كَانَ يَحْذَرُهُ إِخْوَتُهُ وَكَيْدُهُمْ لَهُ، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَدِّقْ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ أَمَلُهُ مِنْهُ، بَلْ لَمْ يَنْقُصْ إِيمَانُهُ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ كَانَ إِجْمَالِيًّا لَا تَفْصِيلِيًّا، وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُفَصِّلَةٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، تَفْصِيلًا هُوَ مِنْ أَبْدَعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَزَادَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي التَّشْبِيهِ إِنْجَاءُ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ وَإِنْجَاءُ إِسْحَاقَ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) 37: 112 وَكَوْنُ الْقِصَّةِ كَانَتْ فِي الْحِجَازِ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي أَضَاحِي مِنًى هُنَاكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَشَأَ فِي الْحِجَازِ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ.

7

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ. هَذَا شُرُوعٌ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ مُقَدِّمَتَيْنِ، أُولَاهُمَا فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ تَنْزِيلًا مِنَ اللهِ دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِ عَرَبِيًّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ، وَكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ قَبْلِهِ غَافِلًا عَمَّا جَاءَهُ فِيهِ لَا يَدْرِي مِنْهُ شَيْئًا، وَنَتِيجَةُ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقِصَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ 102 إِلَخْ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهَا أَبُوهُ فَهْمًا إِجْمَالِيًّا كُلِّيًّا كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَبَنَى عَلَيْهِ أَنْ حَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ مَا يُسْتَهْدَفُ لَهُ قِبَلَهُ مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ، وَبَشَّرَهُ بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَنَتِيجَةِ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ مَا قَالَهُ لِأَبِيهِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ وَسُجُودِهِمْ لَهُ: (يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) 100 إِلَخْ. فَمِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْمَنْطِقِيِّ الْعَقْلِيِّ الْبَدِيعِ يَتَوَقَّفُ نَظْمُهُ وَسَرْدُهُ عَلَى سَبْقِ الْعِلْمِ بِالْقِصَّةِ وَتَتَبُّعِ حَوَادِثِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِدَقَائِقِهَا، ثُمَّ عَلَى وَضْعِ تَرْتِيبٍ يُنَسَّقُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَالْقِصَصِ الْفَنِّيَّةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْمُقَدِّمَةُ وَالْخَاتِمَةُ فِي الْغَايَةِ الَّتِي أُلِّفَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهَا، فَتَجْعَلُ الْأُولَى بَرَاعَةَ مَطْلَعٍ، وَالْآخِرَةَ بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ، فَقُلْ لِمَنْ جَهِلَ سِيرَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَلَا كَاتِبًا، وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا، وَلَا مُؤَرِّخًا، وَلَا رَاوِيًا، وَلَا حَافِظًا لِلشِّعْرِ وَلَا نَاثِرًا، بَلْ كَانَ كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ فَيُعَجِّلُ بِقِرَاءَتِهَا لِئَلَّا يَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَمَا عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) 75: 16 - 19 وَبِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا 20: 114 وَقَوْلِهِ: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) 87: 6 وَقَوْلِهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) 15: 9

فَلَمَّا ضَمِنَ رَبُّهُ لَهُ أَمْنَ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ بِعَدَمِ حِفْظِهِ عِنْدَ تَلَقِّيهِ، أَوْ نِسْيَانِهِ بَعْدَهُ، زَالَ خَوْفُهُ، وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ بِقِرَاءَتِهِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَأَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ حَتَّى الطَّوَالِ مِنْهَا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالنَّسَقِ لَهَا وَلَا مِنْ مَوْضُوعِهَا شَيْئًا قَبْلَ وَحْيِهَا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهُ تَلَقِّيَهَا عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَلَكِنَّ الْعَجَبَ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ أَوْ يَجْهَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ، وَالْآنَ قَدْ بَيَّنْتُهُ لِقَارِئِ هَذَا التَّفْسِيرِ لِيَفْطِنَ لِدَلَالَةِ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَبَلَاغَتِهَا عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ، وَبِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ، وَبِالْإِعْجَازَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتِهِ، أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي إِلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَهِيَ: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَوْفِيقِ أَقْدَارِهِ وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهُمْ، وَحُسْنِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، لِلسَّائِلِينَ عَنْهَا، مِنَ الرَّاغِبِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْآيَاتِ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا، وَمَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ أَوْ بِحِكْمَتِهِ أَوْ بِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَإِنَّ لِلظَّوَاهِرِ غَايَاتٍ لَا تُعْلَمُ حَقَائِقُهَا إِلَّا مِنْهَا، فَإِخْوَةُ يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَحْسُدُوهُ لَمَا أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَلَوْ لَمْ يُلْقُوهُ لَمَا وَصَلَ إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَزِيزُ بِفِرَاسَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ لَمَا أَمِنَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَهْلِهِ، وَلَوْ لَمْ تُرَاوِدْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْتَعْصِمُ لِمَا ظَهَرَتْ نَزَاهَتُهُ وَعُرِفَ أَمْرُهَا، وَلَوْ لَمْ تَخِبْ فِي كَيْدِهَا وَكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ لَمَا أُلْقِيَ فِي السِّجْنِ لِإِخْفَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَوْ لَمْ يُسْجَنْ لَمَا عَرَفَهُ سَاقِي مَلِكِ مِصْرَ وَعَرَفَ بَرَاعَتَهُ وَصِدْقَهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ السَّاقِي مِنْهُ هَذَا لَمَا عَرَفَهُ مَلِكُ مِصْرَ وَآمَنَ بِهِ وَلَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَتَبَوَّأْ هَذَا الْمَنْصِبَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُنْقِذَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَأَهْلَهُمْ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمَخْمَصَةِ، وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مِصْرَ فَيُشَارِكُوهُ فِي رِيَاسَتِهِ وَمَجْدِهِ، بَلْ لَمَا تَمَّ قَوْلُ أَبِيهِ لَهُ: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) 6 فَمَا مِنْ حَلَقَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ إِلَّا وَكَانَ ظَاهِرُهَا مُحْرِقًا، وَبَاطِنُهَا مُشْرِقًا، وَبِدَايَتُهَا شَرًّا وَخُسْرًا، وَعَاقِبَتُهَا خَيْرًا وَفَوْزًا، وَصَدَقَ قَوْلُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) 7: 128. فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْقِصَّةِ لِلسَّائِلِينَ عَنْ وَقَائِعِهَا الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا مِنْ عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا الْبَاطِنَةِ، كَعِلْمِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ وَعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمْ بِدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَمِنْ شَهَادَةِ اللهِ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ 68، الْآيَةَ، وَمِنْ شَمِّهِ لِرِيحِ يُوسُفَ مُنْذُ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَاصِدَةً أَرْضَ كَنْعَانَ. وَمِنْ عِلْمِ يُوسُفَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْ رُؤْيَتِهِ لِبُرْهَانِ رَبِّهِ، وَمِنْ كَيْدِ اللهِ لَهُ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ بِشَرْعِ

8

الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ عِلْمِهِ بِأَنَّ إِلْقَاءَ قَمِيصِهِ عَلَى أَبِيهِ يُعِيدُهُ بَصِيرًا بَعْدَ عَمَى سِنِينٍ كَثِيرَةٍ، فِي الْقِصَّةِ مَجَالٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنَ الْعِلْمِ الرُّوحَانِيِّ، وَهِيَ أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، وَأَحَقُّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا. وَقِيلَ عَنِ الْمُرَادِ بِالسَّائِلِينَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ جَاءُوا مَكَّةَ وَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُؤَالَ امْتِحَانٍ عَنْ نَبِيٍّ كَانَ بِالشَّامِ أُخْرِجَ ابْنُهُ إِلَى مِصْرَ فَبَكَى عَلَيْهِ حَتَّى عَمِيَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ سُورَةَ يُوسُفَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَقَّنُوا بَعْضَ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْأَحَدَ عَشَرَ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ فِي مَنَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَلَقَّنَهُ إِيَّاهَا فَجَاءَتْ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَذَكَرُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ عَلَى هَذَا دَلَائِلُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ بَلْ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقَةٌ لِجُمْلَةِ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَمُخَالِفَةٌ لَهُ فِي بَعْضِ دَقَائِقِهَا، وَسَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) أَيْ إِنَّ فِي قِصَّتِهِمْ لَآيَاتٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَءُوا فِيهِ بِقَوْلِهِمْ جَازِمِينَ مُقْسِمِينَ: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ الشَّقِيقُ لَهُ وَاسْمُهُ ((بِنْيَامِينَ)) ، (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) كُلِّنَا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ يُفَضِّلُهُمَا عَلَيْنَا بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ عَلَى صِغَرِهِمَا وَقِلَّةِ غِنَائِهِمَا، وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ عُصْبَةُ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَقْوِيَاءَ أَشِدَّاءَ مُعْتَصِبُونَ، نَقُومُ لَهُ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَالْحِمَايَةِ وَالْكِفَايَةِ (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) إِنَّهُ لَفِي تِيهٍ مِنَ الْمُحَابَاةِ لَهُمَا ضَلَّ فِيهِ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ ضَلَالًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، إِذْ يُفَضِّلُ غُلَامَيْنِ ضَعِيفَيْنِ مِنْ وَلَدِهِ لَا يَقُومَانِ لَهُ بِخِدْمَةٍ نَافِعَةٍ، عَلَى الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْكَسْبِ وَالنَّجْدَةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ جَهْلٌ مُبِينٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ، لَعَلَّ سَبَبَهُ اتِّهَامُهُمْ إِيَّاهُ بِإِفْرَاطِهِ فِي حُبِّ أُمِّهِمَا مِنْ قَبْلُ، فَيَكُونُ مَثَارُهُ الْأَوَّلُ اخْتِلَافَ الْأُمَّهَاتِ بِتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ، وَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ عَنْ غَرِيزَةِ الْوَالِدَيْنِ فِي زِيَادَةِ الْعَطْفِ عَلَى صِغَارِ الْأَوْلَادِ وَضِعَافِهِمْ

9

وَكَانَا أَصْغَرَ أَوْلَادِهِ، فَقَدْ سُئِلَ وَالِدٌ بَلِيغٌ: أَيُّ وَلَدِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: صَغِيرُهُمْ حَتَّى يَكْبُرَ، وَغَائِبُهُمْ حَتَّى يَحْضُرَ، وَمَرِيضُهُمْ حَتَّى يُشْفَى، وَفَقِيرُهُمْ حَتَّى يُغْنَى (وَأَشُكُّ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ) . وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ: وُجُوبُ عِنَايَةِ الْوَالِدَيْنِ بِمُدَارَاةِ الْأَوْلَادِ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْعَدْلِ، وَاتِّقَاءِ وُقُوعِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهُ اجْتِنَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَعُدُّهُ الْمَفْضُولُ إِهَانَةً لَهُ وَمُحَابَاةً لِأَخِيهِ بِالْهَوَى، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا، وَمِنْهُ سُلُوكُ سَبِيلِ الْحِكْمَةِ فِي تَفْضِيلِ مَنْ فَضَّلَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْمَوَاهِبِ الْفِطْرِيَّةِ كَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالذَّكَاءِ. وَمَا كَانَ يَعْقُوبُ بِالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا، وَمَا نَهَى يُوسُفَ عَنْ قَصِّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَجِبُ فِيهِ. وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِغَرِيزَتِهِ وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ؟ أَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُولَ دُونَ سُلْطَانِهَا عَلَى جَوَارِحِهِ؟ كَلَّا. دَلَائِلُ الْعِشْقِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... كَحَامِلِ الْمِسْكِ لَا يَخْلُو مِنَ الْعَبَقِ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) أَيِ اقْتُلُوهُ قَتْلًا لَا مَطْمَعَ بَعْدَهُ وَلَا أَمَلَ فِي لِقَائِهِ، أَوِ انْبُذُوهُ كَالشَّيْءِ اللُّقَا الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ فِي أَرْضٍ مَجْهُولَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَسَاكِنِنَا أَوْ عَنِ الْعُمْرَانِ، بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى أَبِيهِ سَبِيلًا إِنْ هُوَ سَلِمَ فِيهَا مِنَ الْهَلَاكِ: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) فَيَكُنْ كُلُّ تَوَجُّهِهِ إِلَيْكُمْ، وَكُلُّ إِقْبَالِهِ عَلَيْكُمْ، بِخُلُوِّ الدِّيَارِ مِمَّنْ يَشْغَلُهُ عَنْكُمْ أَوْ يُشَارِكُكُمْ فِي عَطْفِهِ وَحُبِّهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ دُرَرِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، بِتَصْوِيرِهَا حَصْرَ الْحُبِّ وَتَوَجُّهَ الْإِقْبَالِ وَالْعَطْفِ بِصُورَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لِلرَّأْيِ وَلَا لِلْإِرَادَةِ فِيهَا، لَا مِنْ ظَاهِرِ الْحِسِّ، وَلَا مِنْ وِجْدَانِ النَّفْسِ، بَعْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَقْتَضِي إِعْرَاضَ الْوَجْهِ، وَأَعْرَاضَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ، أَوْ بَعْدَ قَتْلِهِ أَوْ تَغْرِيبِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ تَائِبِينَ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، مُصْلِحِينَ لِأَعْمَالِكُمْ بِمَا يُكَفِّرُ إِثْمَهَا، وَعَدَمِ التَّصَدِّي لِمِثْلِهَا، فَيَرْضَى عَنْكُمْ أَبُوكُمْ وَيَرْضَى رَبُّكُمْ، هَكَذَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَدَيِّنِ مَعْصِيَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يَزَالُ يَنْزَغُ لَهُ وَيُسَوِّلُ، وَيَعِدُ وَيُمَنِّي وَيُؤَوِّلُ، حَتَّى يُرَجِّحَ دَاعِيَ الْإِيمَانِ، أَوْ يُجِيبَ دَاعِيَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الَّذِي غَلَبَ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ فَكَانَ، وَلَكِنْ بَعْدَ رَأْفَةٍ مُخَفَّفَةٍ لِحُكْمِ الِانْتِقَامِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللهُ. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ.

10

(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) أَبْهَمَهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ بِتَسْمِيَتِهِ لَا فَائِدَةَ مِنْهَا فِي عِبْرَةٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا عَلَى جِنَايَةِ قَتْلِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ يَهُوذَا، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ: أَنَّهُ رَأُوبِينُ (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) الْجُبُّ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ الْمَبْنِيَّةِ مِنْ دَاخِلِهَا بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَالْبِئْرُ مُؤَنَّثَةٌ وَتُسَمَّى الْمَطْوِيَّةُ مِنْهَا طَوِيًّا، وَغَيَابَتُهُ بِالْفَتْحِ مَا يَغِيبُ عَنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ مِنْ قَعْرِهِ، أَوْ حُفْرَةٌ بِجَانِبِهِ تَكُونُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ يَدْخُلُهَا مَنْ يُدْلِي فِيهِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ أَوْ إِصْلَاحُ خَلَلٍ عَرَضَ لَهُ، وَعُلِمَ مِنَ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ جُبٌّ مَعْرُوفٌ كَانَ هُنَالِكَ حَيْثُ يَرْعَوْنَ، وَجَوَابُ أَلْقُوُهُ: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) وَهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ يَقْطَعُونَ الْأَرْضَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ، فَيَأْخُذُوهُ إِلَى حَيْثُ سَارُوا مِنَ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ فَيَتِمُّ لَكُمُ الشَّقُّ الثَّانِي مَا اقْتَرَحْتُمْ وَهُوَ إِبْعَادُهُ عَنْ أَبِيهِ: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْصُودُ لَكُمْ بِالذَّاتِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَجِنَايَةُ قَتْلِهِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، فَعَلَامَ إِسْخَاطُ اللهِ بِاقْتِرَافِهَا وَالْغَرَضُ يَتِمُّ بِمَا دُونَهَا؟ وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ رَأُوبِينَ مَكَرَ بِهِمْ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْجُبِّ وَيُرْجِعَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُمْ وَضَعُوهُ فِي الْبِئْرِ وَكَانَتْ فَارِغَةً لَا مَاءَ فِيهَا، فَمَرَّتْ سَيَّارَةٌ مِنْ تُجَّارِ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ (الْعَرَبِ) - مُسَافِرَةٌ إِلَى مِصْرَ، فَاقْتَرَحَ عَلَيْهِمْ يَهُوذَا إِخْرَاجَهُ وَبَيْعَهُ لَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ مِنْ لَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ فَفَعَلُوا، فَهَذَا مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوهُ مِنْ أَمْرِهِمْ. (قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) . هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَادُوا بِهِ أَبَاهُمْ بَعْدَ ائْتِمَارِهِمْ بِيُوسُفَ لِيُرْسِلَهُ مَعَهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ أَبَاهُمْ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذِهَابِهِمْ. (قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) يَعْنُونَ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي أَمَانَتِنَا فَجَعَلَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ؟ وَكَانُوا قَدْ شَعَرُوا مِنْهُ بِهَذَا بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ رُؤْيَا يُوسُفَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِهَا، كَمَا أَنَّهُ شَعَرَ مِنْهُمْ بِالتَّنَكُّرِ لَهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: كَادَ الْمُرِيبُ بِأَنْ يَقُولَ خُذُونِي (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) أَيْ وَالْحَالُ إِنَّا لَنَخُصَّهُ بِالنُّصْحِ الْخَالِصِ مِنْ شَائِبَةِ

12

التَّفْرِيطِ أَوِ التَّقْصِيرِ، أَكَّدُوا هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُصَدَّرَةِ بِـ ((إِنَّ)) وَتَقْدِيمِ (لَهُ) عَلَى خَبَرِهَا وَاقْتِرَانِهِ بِاللَّامِ، وَلَوْلَا شُعُورُهُمْ بِارْتِيَابِهِ فِيهِمْ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى كُلِّ هَذَا التَّأْكِيدِ، (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أَيْ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاةَ غَدٍ إِذْ نَخْرُجُ كَعَادَتِنَا إِلَى مَرَاعِينَا فِي الصَّحْرَاءِ يَرْتَعْ مَعَنَا وَيَلْعَبْ. وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ أَيْضًا ((نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ)) . بِنُونِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ مَفْهُومَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْيَاءِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَهُمْ مُشَارَكَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي رِيَاضَتِهِمْ وَأُنْسِهِمْ وَسُرُورِهِمْ بِحُرِّيَّةِ الْأَكْلِ وَاللَّعِبِ وَالرُّتُوعِ، وَهُوَ أَكْلُ مَا يَطِيبُ لَهُمْ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ، وَأَصْلُهُ رَتَعَ الْمَاشِيَةُ حَيْثُ تَشَاءُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: (نَرْتَعْ) نَتَّسِعْ فِي أَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا، وَأَصْلُ الرَّتْعَةِ الْخِصْبُ وَالسِّعَةِ، اهـ. وَأَمَّا لَعِبُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَأَكْثَرَهُ السِّبَاقُ وَالصِّرَاعُ وَالرَّمْيُ بِالْعِصِيِّ وَالسِّهَامِ إِنْ وُجِدَتْ. وَسَيَأْتِي أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ الِاسْتِبَاقَ بِالْعَدْوِ عَلَى الْأَرْجُلِ (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) مَا دَامَ مَعَنَا نَقِيهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَأَذًى، أَكَّدُوا هَذَا الْوَعْدَ كَسَابِقِهِ مُبَالَغَةً فِي الْكَيْدِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: ((أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ)) قَالَ: نَسْعَى وَنَنْشَطْ وَنَلْهُو، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: (يَرْتَعِي بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ قَالَ: يَرْعَى غَنَمَهُ وَيَنْظُرُ وَيَعْقِلُ وَيَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ) وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ هَارُونَ قَالَ: كَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقْرَأُ (نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ) بِالنُّونِ. فَقُلْتُ لِأَبِي عَمْرٍو: كَيْفَ يَقُولُونَ: (نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ) وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ أَنْبِيَاءَ. قَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَدُّوهَا مُشْكِلَةً لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّعِبَ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ اللَّعِبِ مَا هُوَ نَافِعٌ فَهُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجِهِ وَمُلَاعَبَتُهَا لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا بَعْدَهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَأَنَّ مِنَ التَّنَطُّعِ وَالْغَفْلَةِ اسْتِشْكَالَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ فِي نَفْسِهِ مِمَّنْ شَهِدَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْكَيْدِ لِأَخِيهِمْ وَالِائْتِمَارِ بِقَتْلِهِ وَتَعَمُّدِ إِيذَائِهِ، وَفَجِيعَةِ أَبِيهِمْ بِهِ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي! (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أَيْ قَالَ أَبُوهُمْ جَوَابًا لَهُمْ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي ذَهَابُكُمْ بِهِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ، وَالْحُزْنُ أَلَمُ النَّفْسِ مِنْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ قَفَلَ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ، وَتُعَدِّيهِ تَمِيمٌ بِالْهَمْزَةِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لَيَحْزُنُنِي لِلِابْتِدَاءِ (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) وَالْخَوْفُ أَلَمُ النَّفْسِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَكْرُوهٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) أَيْ فِي حَالِ غَفْلَةٍ مِنْكُمْ عَنْهُ وَاشْتِغَالٍ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ وَحِفْظِهِ بِلَعِبِكُمْ، قِيلَ: لَوْ لَمْ يَذْكُرْ خَوْفَهُ هَذَا لَهُمْ لَمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ أَنْ يَقَعَ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ أَوِ الِاعْتِذَارِ بِالظَّوَاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُسْنَ عَاقِبَتِهِ فِي الْبَاطِنِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ هَذَا كَانَ مُجْمَلًا مِنْهُمَا وَمُقَيَّدًا بِالْأَقْدَارِ الْمَجْهُولَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.

14

(قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أَيْ وَاللهِ لَئِنِ اخْتَطَفَهُ الذِّئْبُ مِنْ بَيْنِنَا وَأَكَلَهُ وَالْحَالُ أَنَّنَا جَمَاعَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَى تُعَصَّبُ بِنَا الْأُمُورُ، وَتُكْفَى بِبَأْسِنَا الْخُطُوبُ (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) وَخَائِبُونَ فِي اعْتِصَابِنَا، أَوْ لَهَالِكُونَ لَا يَصِحُّ أَنْ نُعَدَّ مِنَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَيُرْكَنُ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ أَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ. أَجَابُوهُ عَمَّا يَخَافُهُ بِمَا يَرْجُونَ أَنْ يُطَمْئِنَهُ، وَأَمَّا حُزْنُهُ فَلَا جَوَابَ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ مَنْعُهُ؛ إِذْ هُوَ لَازِمٌ لِفِرَاقِهِ لَهُ وَلَوْ فِرَاقًا قَلِيلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِيُوسُفَ فِي صِحَّتِهِ، بِتَرْوِيضِ جِسْمِهِ فِي ضُحَى الشَّمْسِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَةِ الْأَعْضَاءِ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَزُولُ حُزْنُهُ وَيَكُونُ سُرُورُهُ مُضَاعَفًا لَوْ صَدَقُوا. (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) . هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ مَا نَفَّذُوا بِهِ عَزْمَهُمْ بِالْفِعْلِ، وَمَا اعْتَذَرُوا بِهِ لِأَبِيهِمْ مِنْ كَذِبٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ مِنْ تَكْذِيبٍ وَصَبْرٍ، وَاسْتِعَانَةٍ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) فِي الْغَدِ مِنْ لَيْلَتِهِمُ الَّتِي اسْتَنْزَلُوا فِيهَا أَبَاهُ عَنْ إِمْسَاكِهِ عِنْدَهُ: (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) أَيْ أَزْمَعُوهُ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ عَزْمًا إِجْمَاعِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ قَبْلُ فِي قَتْلِهِ أَوْ تَغْرِيبِهِ، وَجَوَابُ (لَمَّا) مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: نَفَّذُوهُ بِأَنْ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ذَلِكَ الْجُبِّ بِالْفِعْلِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِيهِ وَحْيًا إِلْهَامِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ مِنَّا، مَضْمُونُهُ: وَرَبِّكَ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا مَعَكَ، إِذْ يُظْهِرُكَ اللهُ عَلَيْهِمْ

16

وَيُذِلُّهُمْ لَكَ وَيَجْعَلُ رُؤْيَاكَ حَقًّا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَوْمَئِذٍ بِمَا آتَاكَ اللهُ، أَوِ الْآنَ بِمَا يُؤْتِيكَ فِي عَاقِبَةِ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا بِكَ، أَوْ بِهَذَا الْوَحْيِ فِي الْجُبِّ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى مِنْ مَرَاتِبِ التَّكْلِيمِ الْإِلَهِيِّ لِلْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ. وَقَدْ هَوَّنَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى يُوسُفَ مُصِيبَتَهُ بِهِ فَعَلِمَ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ فِي الظَّاهِرِ نِعْمَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ طَغَوْا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيلِ بِهِ، فَقَالُوا وَفَعَلُوا مَا لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ إِلَّا عَنْ رِعَاعِ النَّاسِ وَأَرَاذِلِ الْمُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ، وَمَا هِيَ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُنَفِّرَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ أَيْ جَاءُوهُ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذْ خَالَطَ سَوَادُ اللَّيْلِ بَقِيَّةَ بَيَاضِ النَّهَارِ فَمَحَاهُ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَبْكُونَ لِيُقْنِعُوهُ بِمَا يَبْغُونَ وَقَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أَيْ ذَهَبْنَا مِنْ مَكَانِ اجْتِمَاعِنَا إِلَى السِّبَاقِ يَتَكَلَّفُ كُلٌّ مِنَّا أَنْ يَسْبِقَ غَيْرَهُ، فَالِاسْتِبَاقُ تَكَلُّفُ السَّبْقِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْمُسَابَقَة، وَالتَّسَابُقُ بِصِيغَتَيِ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْغَلَبُ، وَقَدْ يُقْصَدُ لِذَاتِهِ أَوَ لِغَرَضٍ آخَرَ فِي السَّبْقِ. وَمِنْهُ: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) فَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ السَّبْقُ لِذَاتِهِ لَا لِلْغَلَبِ، وَقَوْلُهُ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) 25 كَانَ يَقْصِدُ بِهِ يُوسُفُ الْخُرُوجَ مِنَ الدَّارِ هَرَبًا مِنْ حَيْثُ تَقْصِدُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ بِاتِّبَاعِهِ إِرْجَاعَهُ، وَصِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ لَا تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى. وَلَمْ يَفْطَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ - عَلَّامَةُ اللُّغَةِ - وَمَنْ تَبِعَهُ لِهَذَا الْفَرْقِ الدَّقِيقِ. (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) مِنْ فَضْلِ الثِّيَابِ وَمَاعُونِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَثَلًا يَحْفَظُهُ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ مُجَارَاتَنَا فِي اسْتِبَاقِنَا الَّذِي تُرْهَقُ بِهِ قُوَانَا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) إِذْ أَوْغَلْنَا فِي الْبُعْدِ عَنْهُ فَلَمْ نَسْمَعْ صُرَاخَهُ وَاسْتِغَاثَتَهُ (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا هَذَا، لِاتِّهَامِكَ إِيَّانَا بِكَرَاهَةِ يُوسُفَ وَحَسَدِنَا لَهُ عَلَى تَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا فِي الْحُبِّ وَالْعَطْفِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ فِي الْأَمْرِ الْوَاقِعِ أَوْ نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ مَا صَدَّقْتَنَا فِي هَذَا الْخَبَرِ لِشِدَّةِ وَجْدِكَ بِيُوسُفَ. (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْفَذَّةِ فِي بَلَاغَتِهَا، أَنَّهُمْ جَاءُوا بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا ظَاهِرُهُ بِدَمٍ غَيْرِ دَمِ يُوسُفَ، يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَمُهُ لِيَشْهَدَ لَهُمْ بِصِدْقِهِمْ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمْ، فَنَكَّرَ الدَّمَ وَوَصَفَهُ بِاسْمِ الْكَذِبِ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى أَنَّهُ دَمُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ، فَالْعَرَبُ تَضَعُ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الصِّفَةِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُونَ: شَاهِدٌ عَدْلٌ، وَمِنْهُ، فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأَنْتُمْ بِهِ بُخْلٌ، وَقَالَ: (عَلَى قَمِيصِهِ) لِيُصَوِّرَ لِلْقَارِئِ وَالسَّامِعِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَضْعًا مُتَكَلَّفًا، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَثَرِ افْتِرَاسِ الذِّئْبِ لَهُ لَكَانَ الْقَمِيصُ مُمَزَّقًا وَالدَّمُ مُتَغَلْغِلًا فِي كُلِّ قِطْعَةٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا كُلِّهِ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) هَذَا إِضْرَابٌ عَنْ تَكْذِيبٍ صَرِيحٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ

18

الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ أَمْرًا إِمْرًا، وَكَيْدًا نُكْرًا، وَزَيَّنَتْهُ فِي قُلُوبِكُمْ فَطَوَّعَتْهُ لَكُمْ حَتَّى اقْتَرَفْتُمُوهُ، أَيْ هَذَا أَمْرُكُمْ. وَأَمَّا أَمْرِي مَعَكُمْ وَمَعَ رَبِّي (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أَوْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ لَا يُشَوِّهُ جَمَالَهُ جَزَعُ الْيَائِسِينَ مِنْ رَوْحِ اللهِ، الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا الشَّكْوَى إِلَى غَيْرِ اللهِ (وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، لَا أَسْتَعِينُ عَلَى احْتِمَالِهَا غَيْرَهُ أَحَدًا مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ. هَذَا هُوَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، وَهُوَ صَفْوَةُ الْحَقِّ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ بِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ وَالْعِبْرَةِ، وَقَدْ شَوَّهَهُ رُوَاةُ الْأَسَاطِيرِ وَالْمُفْتَرِيَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِمَا ظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ التَّوْرَاةِ وَمَا هُوَ مِنْهَا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْرَأْ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ لِيَرَى الْفَرْقَ الْبَعِيدَ بَيْنَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الْبَشَرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمَغْرُورُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فِيهَا كَالسُّدِّيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ كَذِبًا وَأَكْثَرُ إِتْقَانًا لِأَسَاطِيرِهِ مِنَ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، أَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ.

19

(وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.

هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِيَ اسْتِعْبَادِ قَافِلَةٍ مِنَ التُّجَّارِ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالِاتِّجَارِ بِهِ. (وَجَاءَتْ) ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ (سَيَّارَةٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ السَّيْرِ ((كَجَوَّالَةٍ، وَكَشَّافَةٍ)) أَيْ جَمَاعَةٌ أَوْ قَافِلَةٌ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ أَيْ مِنَ الْعَرَبِ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمُ الْمُخْتَصَّ بِوُرُودِ الْمَاءِ لِلِاسْتِقَاءِ لَهُمْ (فَأَدْلَى دَلْوَهُ) أَيْ أَرْسَلَهُ وَدَلَّاهُ فِي ذَلِكَ الْجُبِّ فَتَعَلَّقَ بِهِ يُوسُفُ، فَلَمَّا خَرَجَ وَرَآهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ يُبَشِّرُ بِهِ جَمَاعَتَهُ السَّيَّارَةَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ ((يَا بُشْرَايَ)) بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْكُوفِيُّونَ بِدُونِهَا، وَأَمَالَ أَلِفَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَنِدَاءُ الْبُشْرَى مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا وَقْتُهَا وَمُوجِبُهَا فَقَدْ آنَ لَهَا أَنْ تَحَضُرَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: يَا أَسَفَى وَيَا أَسَفِي، وَيَا حَسْرَتَا وَيَا حَسْرَتِي، إِذَا وَقَعَ مَا هُوَ سَبَبٌ لِذَلِكَ. فَاسْتَبْشَرَ بِهِ السَّيَّارَةُ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً أَيْ أَخْفَوْهُ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يَدَّعِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِضَاعَةً لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ تِجَارَتِهِمْ، وَالْبِضَاعَةُ مَا يُقْطَعُ مِنَ الْمَالِ وَيُفْرَزُ لِلِاتِّجَارِ بِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَضْعِ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْبَضْعَةُ وَالْبِضْعُ مِنَ الْعَدَدِ وَهِيَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ، وَالْبَضْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ أَسَرُّوهُ هُمُ الْوَارِدُ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ دُونَ سَائِرِ السَّيَّارَةِ، أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: (وَأَسَرُّوهُ) لِإِخْوَةِ يُوسُفَ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أَيْ بِمَا يَعْمَلُهُ هَؤُلَاءِ السَّيَّارَةُ وَمَا يَعْمَلُهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرَبٌ فِي يُوسُفَ: السَّيَّارَةُ يَدَّعُونَ بِالْبَاطِلِ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُمْ فَيَتَّجِرُونَ بِهِ، وَإِخْوَةُ يُوسُفَ أَمْرُهُمْ مَعَ أَبِيهِمْ فِي إِخْفَائِهِ وَتَغْرِيبِهِ وَدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ إِيَّاهُ مَعْلُومٌ وَأَنَّهُ كَيْدٌ بَاطِلٌ، وَحِكْمَةُ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِ فَوْقَ كُلِّ ذَلِكَ. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) شَرَى الشَّيْءَ يَشْرِيهِ بَاعَهُ وَاشْتَرَاهُ ابْتَاعَهُ، أَيْ بَاعُوهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ نَاقِصٍ عَنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، هُوَ دَرَاهِمُ لَا دَنَانِيرُ، مَعْدُودَةٌ لَا مَوْزُونَةٌ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ الْقَلِيلُ، وَيُوزَنُ الْكَثِيرُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزِنُ مَا بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَمَا فَوْقَهَا وَتُعَدُّ مَا دُونَهَا، وَلِهَذَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْقَلِيلَةِ بِالْمَعْدُودَةِ، وَالْبَخْسُ فِي اللُّغَةِ النَّاقِصُ وَالْمَعِيبُ (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) 7: 85 وَرُوِيَ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالْحَرَامِ وَبِالظُّلْمِ لِأَنَّهُ بَيْعُ حُرٍّ، فَيَكُونُ وَصْفُهُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ مُسْتَقِلًّا لَا تَفْسِيرًا لِبَخْسٍ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الَّذِينَ شَرَوْهُ هُمُ السَّيَّارَةُ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِخْوَتَهُ قَرَّرُوا بَيْعَهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّينَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجُبِّ جَمَاعَةٌ مِنْ مَدْيَنَ وَبَاعُوهُ لَهُمْ وَقَدْ بَعُدَ ذِكْرُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ وَشَرَوْهُ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى اشْتَرَوْهُ وَهُوَ مَسْمُوعٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْهُ مِنْ إِخْوَتِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ثُمَّ بَاعُوهُ فِي مِصْرَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أَيْضًا، وَهُوَ إِدْمَاجٌ مِنْ دَقَائِقِ الْإِيجَازِ، وَأَمَّا الثَّمَنُ الْبَخْسُ الَّذِي بِيعَ بِهِ فَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ ((شَاقِلًا)) مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدَّرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ الشَّاقِلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ غَرَامًا مِنَ الْوَزْنِ الْعَشْرِيِّ اللَّاتِينِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي عَصْرِنَا

20

فَيَكُونُ ثَمَنُهُ 300 غَرَامٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَهِيَ تَقْرُبُ مِنْ 94 دِرْهَمًا مِنْ دَرَاهِمِنَا الْيَوْمَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ عَنِ الْيَهُودِ فَظَنَّ أَنَّ الْعِشْرِينَ عِنْدَهُمْ هِيَ الدَّرَاهِمُ عِنْدَ الْعَرَبِ (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أَيْ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَاعُوهُ مِنَ الرَّاغِبِينَ عَنْهُ الَّذِينَ يَبْغُونَ الْخَلَاصَ مِنْهُ لِئَلَّا يَظْهَرَ مَنْ يُطَالِبُهُمْ بِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَالثَّمَنُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُمْ وَلِهَذَا قَنَعُوا بِالْبَخْسِ مِنْهُ. حَادِثَةُ يُوسُفَ مَعَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) . هَاتَانِ الْآيَتَانِ تَمْهِيدٌ لِلْقِصَّةِ فِي وِجْهَةِ نَظَرِ مُشْتَرِيهِ فِيهِ، وَتَمْكِينِ اللهِ لَهُ وَتَعْلِيمِهِ وَغَلَبِهِ عَلَى أَمْرِهِ وَإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَشَهَادَتِهِ بِإِحْسَانِهِ. (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ اسْمَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنَ السَّيَّارَةِ فِي مِصْرَ وَلَا مَنْصِبَهُ وَلَا اسْمَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابَ حَوَادِثٍ وَتَارِيخٍ، وَإِنَّمَا قَصَصُهُ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَعِبَرٌ وَتَهْذِيبٌ، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ النِّسْوَةِ فِيمَا يَأْتِي بِلَقَبِ الْعَزِيزِ - وَهُوَ اللَّقَبُ الَّذِي صَارَ لَقَبَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمُلْكِ فِي مِصْرَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبُ أَكْبَرِ وُزَرَاءِ الْمَلِكِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِي اسْمِهِ وَاسْمُ مَلِكِ مِصْرَ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ شَأْنٌ فِيهَا. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ رَئِيسَ الشُّرْطِ وَحَامِيَةَ الْمَلِكِ وَنَاظِرَ السُّجُونِ، وَأَنَّ اسْمَهُ فُوطِيفَارُ، وَوُصِفَ فِيهِ بِالْخَصْيِ، وَلَكِنَّ الْخِصْيَانَ لَا يَكُونُ لَهُمْ أَزْوَاجٌ. فَقِيلَ فِي تَصْحِيحِهِ: لَعَلَّهُ لَقَبٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ تَفَرَّسَ هَذَا الْوَزِيرُ الْكَبِيرُ فِي يُوسُفَ أَصْدَقَ الْفِرَاسَةِ إِذْ وَصَّى امْرَأَتَهُ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ، وَالْمَثْوَى: مَصْدَرٌ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ يَثْوِي (كَرَمَى

21

يَرْمِي ثَوَّاءَ أَيْ أَقَامَ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ إِكْرَامَهُ وَحُسْنَ مُعَامَلَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِإِقَامَتِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا يَكُونُ كَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ فِيهِ وَهُوَ: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا) بِالْقِيَامِ بِبَعْضِ شُئُونِنَا الْخَاصَّةِ أَوْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ لِمَا يَلُوحُ عَلَيْهِ مِنْ مَخَايِلِ الذَّكَاءِ وَالنَّبَاهَةِ (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) فَيَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا وَوَارِثًا لِمَجْدِنَا وَمَالِنَا، إِذَا تَمَّ رُشْدَهُ وَصَدَقَتْ فِرَاسَتِي فِي نَجَابَتِهِ، وَفُهِمَ مِنْ هَذَا الرَّجَاءِ أَنَّ الْعَزِيزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَمَا كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَقِيمًا. وَكَانَ رَجَاؤُهُ هَذَا كَرَجَاءِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مُوسَى فِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَتْ صَالِحَةً مُلْهَمَةً، وَأَمَّا الْعَزِيزُ فَكَانَ ذَكِيًّا صَادِقَ الْفِرَاسَةِ فَاسْتَدَلَّ مِنْ كَمَالِ خَلْقِ يُوسُفَ وَخُلُقِهِ، وَذَكَائِهِ وَحُسْنِ خِلَالِهِ، عَلَى أَنَّ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَكَرَمَ وِفَادَتِهِ وَشَرَفَ تَرْبِيَتِهِ، خَيْرٌ مُتَمَّمٌ لِحُسْنِ اسْتِعْدَادِهِ الْفِطْرِيِّ، إِذْ لَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَ الْأَذْكِيَاءِ إِلَّا الْبِيئَةُ الْفَاسِدَةُ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَمَا كَانَ إِلَّا صَادَقَ الْفِرَاسَةِ (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالتَّسْخِيرِ جَعَلْنَا لِيُوسُفَ مَكَانَةً عَالِيَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ، كَانَ هَذَا الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَزِيزِ مَبْدَأَهَا؛ لِيَقَعَ لَهُ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ فِي السِّجْنِ مَا يَقَعُ مِنَ التَّجَارِبِ، وَالِاتِّصَالِ بِسَاقِي الْمَلِكِ فَيَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) كَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ مَا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّمْكِينِ، وَقَوْلُهُ لِلْمَلِكِ: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) 55 وَقَوْلُ الْمَلِكِ لَهُ: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) 54، (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) أَيْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ يُرِيدُهُ وَيُقَدِّرُهُ، فَلَا يُغْلَبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَقَعُ كَمَا أَرَادَ، فَكُلُّ مَا وَقَعَ لِيُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَمِنْ مُسْتَرِقِّيهِ وَبَائِعِيهِ، وَمِنْ تَوْصِيَةِ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِامْرَأَتِهِ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ مِمَّا وَقَعَ لَهُ مَعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَفِي السِّجْنِ، قَدْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ مَا أَرَادَهُ - تَعَالَى - لَهُ مِنْ تَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِ يُوسُفَ، فَهُوَ يُدَبِّرُهُ وَيُلْهِمُهُ الْخَيْرَ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّهُ - تَعَالَى - غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ بَلْ يَأْخُذُونَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، كَمَا اسْتَدَلَّ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِإِبْعَادِهِ عَلَى أَنْ يَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ وَيَكُونُوا مِنْ بَعْدِ بُعْدِهِ عَنْهُمْ قَوْمًا صَالِحِينَ، وَيُقَالُ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَقْوَالُهُ صَرِيحَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِلْمِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ كُلِّيٌّ إِجْمَالِيٌّ لَا يُحِيطُ بِتَفْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَخْبُوءَةِ فِي مَطَاوِي الْأَقْدَارِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ. بُدِئَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِبَيَانِ إِيتَاءِ اللهِ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ لِيُوسُفَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الشَّبَابِ وَبُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ جَزَاءٌ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ فِي سِيرَتِهِ مُنْذُ سِنِّ التَّمْيِيزِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا فِي شَيْءٍ قَطُّ، وَخُتِمَتْ بِشَهَادَتِهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانَ مِنِ اقْتِنَاعِ الْعَزِيزِ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ وَالْتِيَاثِ امْرَأَتِهِ بِهَا وَحْدَهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

22

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أَيْ رُشْدَهُ وَكَمَالَ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ بِاسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ وَالْعَقْلِ (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أَيْ وَهَبْنَاهُ حُكْمًا إِلْهَامِيًّا وَعَقْلِيًّا بِمَا يَعْرِضُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنَ النَّوَازِلِ وَالْمُشْكِلَاتِ مَقْرُونًا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَعِلْمًا لَدُنِّيًّا وَفِكْرِيًّا بِحَقَائِقِ مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ السِّنُّ فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ تَتِمُّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ فِيهَا أَقْوَالٌ: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي كَمَالِ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) 46: 15 فَجَعَلَهَا دَرَجَتَيْنِ: بُلُوغَ الْأَشُدِّ، وَبُلُوغَ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنُّ الِاسْتِوَاءِ. كَمَا قَالَ فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) 28: 140 فَالْأَوَّلُ مَبْدَأُ اسْتِكْمَالِ النُّمُوِّ الْعَضَلِيِّ وَالْعَصَبِيِّ وَالثَّانِي مُسْتَوَاهُ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِعْدَادُ لِلنُّبُوَّةِ وَوَحْيِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَظْهَرُ اسْتِعْدَادُهُ الْعَقْلِيُّ وَالْعِلْمِيُّ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ غَيْرُ مَا يَظْهَرُ مِنْ بَدْءِ سِنِّ التَّمْيِيزِ إِلَى هَذِهِ السِّنِّ، وَإِنَّمَا يُكْمِلُ مَا كَانَ ظَهَرَ مِنْهُ إِذَا هُوَ ظَلَّ مُزَاوِلًا لَهُ وَمُشْتَغِلًا بِتَكْمِيلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) 10: 16 وَفَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) وَقَدْ ظَهَرَ حُكْمُ يُوسُفَ وَعِلْمُهُ بَعْدَ بُلُوغِ أَشُدِّهِ فِي مِصْرَ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوَاضِعِهِ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ وَكَذَلِكَ شَأْنُنَا وَسُنَّتُنَا فِي جَزَاءِ الْمُتَحَلِّينَ بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، الثَّابِتِينَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ، الَّذِينَ لَمْ يُدَنِّسُوا فِطْرَتَهُمْ وَلَمْ يَدُسُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ، نُؤْتِيهِمْ نَصِيبًا مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ، وَيُظْهِرُهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ مُحْسِنٍ حَظُّهُ مِنَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ حُسْنِ التَّأْثِيرِ فِي صَفَاءِ عَقْلِهِ، وَجَوْدَةِ فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ، غَيْرَ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْتَى مِثْلُهُ الْمُسِيئُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ. ((وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ ظَاهِرِهِ عَلَى كُلِّ مُحْسِنٍ فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: كَمَا فَعَلْتُ هَذَا بِيُوسُفَ مِنْ بَعْدِ مَا لَقِيَ مِنْ إِخْوَتِهِ مَا لَقِيَ. . . . . فَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِكَ فَأُنَجِّيكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَكَ بِالْعَدَاوَةِ، وَأُمَكِّنُ لَكَ فِي الْأَرْضِ)) إِلَخْ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ مُحْسِنٍ مِنْهَا بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ. وَإِذَنْ يَكُونُ حَظُّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ مِنْ حَظِّ يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -.

23

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . (مَسْأَلَةُ الْمُرَاوَدَةِ وَالْهَمِّ وَالْمُطَارَدَةِ) : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصِيَّةِ الْعَزِيزِ لِامْرَأَتِهِ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ، وَمَا عَلَّلَهَا بِهِ مِنْ حُسْنِ الرَّجَاءِ فِيهِ، وَمَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ عِنَايَتِهِ بِهِ وَتَمْهِيدِ سَبِيلِ الْكَمَالِ لَهُ بِتَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ، يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهِ بِهَا زَوْجُهَا، وَأَرَادَتْ مِنْهُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ هُوَ وَمَا أَرَادَهُ اللهُ مِنْ فَوْقِهِمَا، هُوَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَهْرَمَانًا أَوْ وَلَدًا لَهُمَا، وَاللهُ أَرَادَ أَنْ يُمَكِّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلَهُ سَيِّدَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَهِيَ أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عَشِيقًا لَهَا، وَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ خَادَعَتْهُ عَنْهَا وَرَاوَغَتْهُ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَرُودَ أَوْ يُرِيدَ مِنْهَا مَا تُرِيدُ هِيَ مِنْهُ مُخَالِفًا لِإِرَادَتِهِ هُوَ وَإِرَادَةِ رَبِّهِ (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) 21 قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الرَّجُلُ كَذَا إِرَادَةً وَهُوَ الطَّلَبُ وَالِاخْتِيَارُ، وَرَاوَدَتْهُ عَلَى الْأَمْرِ مُرَاوَدَةً وَرَوَادًا ((مِنْ بَابِ قَاتَلَ)) طَلَبَتْ مِنْهُ فِعْلَهُ، وَكَأَنَّ فِي الْمُرَاوَدَةِ مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَاوِدَ يَتَلَطَّفُ فِي طَلَبِهِ تَلَطُّفَ الْمُخَادِعِ وَيَحْرِصُ حِرْصَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمُرَاوَدَةُ أَنْ تُنَازِعَ غَيْرَكَ فِي الْإِرَادَةِ فَتُرِيدُ غَيْرَ مَا يُرِيدُ، أَوْ تَرُودُ غَيْرَ مَا يَرُودُ، وَذَكَرَ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمِنْهَا قَوْلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) 61 أَيْ نَحْتَالُ عَلَيْهِ وَنَخْدَعُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ لِيُرْسِلَ أَخَاهُ مَعَنَا. وَقَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَرَاوَدَهُ عَنْ نَفْسِهِ خَادَعَهُ عَنْهَا وَرَاوَغَهُ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُرَاوَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، كَأَنَّ الْمَعْنَى خَادَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ فَعَلَتْ مَا يَفْعَلُ الْمُخَادِعُ عَنِ الشَّيْءِ

الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ، يَحْتَالُ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحَيُّلِ لِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا. انْتَهَى. وَلَوْ رَأَتْ مِنْهُ أَدْنَى مَيْلٍ إِلَيْهَا وَهِيَ تَخْلُو بِهِ فِي مَخَادِعِ بَيْتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى مُخَادَعَتِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ، وَلَمَا خَابَتْ فِي التَّعْرِيضِ لَهُ بِالْمُغَازَلَةِ وَالْمُهَازَلَةِ، تَنَزَّلَتْ إِلَى الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُصَارَحَةِ، إِذْ كَانَ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا وَحْدَهَا وَلَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) أَيْ أَحْكَمَتْ إِغْلَاقَ بَابِ الْمَخْدَعِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وَبَابِ الْبَهْوِ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْحُجُرَاتِ وَالْغُرَفِ فِي بُيُوتِ الْكُبَرَاءِ، وَبَابِ الدَّارِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْقُصُورِ أَبْوَابٌ أُخْرَى مُتَدَاخِلَةٌ (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) أَيْ هَلُمَّ أَقْبِلْ وَبَادِرْ، وَزِيَادَةٌ لَكَ بَيَانٌ لِلْمُخَاطَبِ، كَمَا يَقُولُونَ: هَلُمَّ لَكَ وَسَقْيًا لَكَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا فِي التَّنْزِيلِ، وَهُوَ مُنْتَهَى النَّزَاهَةِ فِي التَّعْبِيرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا زَادَتْهُ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّهْيِيجِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَنَقَلَ رُوَاةُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْهَا وَكَذَا عَنْهُ مِنَ الْوَقَاحَةِ مَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا أَحَدٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَ (هَيْتَ) اسْمُ فِعْلٍ قُرِئَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ فَتْحِ التَّاءِ وَبِضَمِّهَا كَحَيْثُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا لُغَةُ عَرَبِ حَوْرَانَ، وَكَانَ سَبَبُ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا أَخْصَرُ مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ بِأَكْمَلِ النَّزَاهَةِ اللَّائِقَةِ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مَالَمْ يَعْقِلْهُ أُولَئِكَ الرُّوَاةُ لِمَا يُخَالِفُهُ وَيُنَاقِضُهُ (قَالَ مَعَاذَ اللهِ) أَيْ أَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذًا وَأَتَحَصَّنُ بِهِ فَهُوَ يُعِيذُنِي أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ، كَمَا قَالَ بَعْدَ أَنِ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ بِكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) 33. وَجُمْلَةُ (قَالَ مَعَاذَ اللهِ) إِلَخْ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِجَوَابِ يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا قَالَ بَعْدَ تَسَفُّلِ الْمَرْأَةِ - وَهِيَ سَيِّدَتُهُ - إِلَى هَذِهِ الدِّرْكَةِ مِنَ التَّذَلُّلِ لَهُ؟ وَهُوَ كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ لِلْمَلِكِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) 19: 18 وَعَلَّلَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَلِيُّ أَمْرِي كُلِّهِ، أَحْسَنَ مَقَامِي عِنْدَكُمْ وَسَخَّرَكُمْ لِي بِمَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، فَهُوَ يُعِيذُنِي وَيَعْصِمُنِي مِنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِرَبِّهِ مَالِكَهُ الْعَزِيزَ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا مَظْلُومًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِسَاقِي الْمَلِكِ فِي السِّجْنِ (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) 42 وَلَكِنَّ اللهَ عَاقَبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حِينَئِذٍ رَبَّهُ، فَكَانَ نِسْيَانُهُ لَهُ سَبَبًا لِطُولِ مُكْثِهِ فِي السِّجْنِ كَمَا يَأْتِي، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الْمَلِكِ، إِذْ جَاءَهُ يَطْلُبُهُ لِأَجْلِهِ: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ - وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ مَا يُسَمُّونَهُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، أَيْ إِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ أَنَّ

24

سَيِّدِي الْمَالِكَ لِرَقَبَتِي قَدْ أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي فِي إِقَامَتِي عِنْدَكُمْ وَأَوْصَاكِ بِإِكْرَامِ مَثْوَايَ، فَلَنْ أَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ بِشَرِّ الْإِسَاءَةِ وَهُوَ خِيَانَتُهُ فِي أَهْلِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ تَعْلِيلٌ لِرَدِّ مُرَاوَدَتِهَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنْهَا، لَا تَعْلِيلَ لِلِاسْتِعَاذَةِ نَفْسِهَا كَالْأَوَّلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُمُومِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخُصُوصِ فِي الثَّانِي، ثُمَّ عَلَّلَ امْتِنَاعَهُ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِنَزَاهَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ كَالْخِيَانَةِ لَهُمْ وَالتَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَلَا يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا بِبُلُوغِ مَقَامِ الْإِمَامَةِ الصَّالِحَةِ وَالرِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِجِوَارِ اللهِ وَنَعِيمِهِ وَرِضْوَانِهِ. . . . . . . وَفِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنَ الِاعْتِصَامِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالْأَمَانَةِ لِلسَّيِّدِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَالتَّعْرِيضِ بِخِيَانَةِ امْرَأَتِهِ لَهُ الْمُتَضَمِّنِ لِاحْتِقَارِهَا، مَا أَضْرَمَ فِي صَدْرِهَا نَارَ الْغَيْظِ وَالِانْتِقَامِ، مُضَاعَفَةً لِنَارِ الْغَرَامِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْأَخْيَارُ مِنْ شُرُورِ الْفُجَّارِ. (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أَيْ وَتَاللهِ لَقَدْ هَمَّتِ الْمَرْأَةُ بِالْبَطْشِ بِهِ لِعِصْيَانِهِ أَمْرَهَا، وَهِيَ فِي نَظَرِهَا سَيِّدَتُهُ وَهُوَ عَبْدُهَا، وَقَدْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا لَهُ بِدَعْوَتِهِ الصَّرِيحَةِ إِلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ بِمُرَاوَدَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ مَطْلُوبَةً لَا طَالِبَةً، وَمُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً، حَتَّى إِنَّ حُمَاةَ الْأُنُوفِ مِنْ كُبَرَاءِ الرِّجَالِ؛ لَيُطَأْطِئُونَ الرُّءُوسَ لِفَقِيرَاتِ الْحِسَانِ رَبَّاتِ الْجَمَالِ، وَيَبْذُلُونَ لَهُمْ مَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، بَلْ إِنَّ الْمُلُوكَ لِيُذِلُّونِ أَنْفُسَهُمْ لِمَمْلُوكَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَلَا يَأْبَوْنَ أَنْ يَسِمُوا أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُنَّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ: نَحْنُ قَوْمٌ تُذِيبُنَا الْأَعْيُنُ النُّجْـ ... ـلُ عَلَى أَنَّنَا نُذِيبُ الْحَدِيدَا فَتَرَانَا لَدَى الْكَرِيهَةِ أَحْرَا ... رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْمِلَاحِ عَبِيدًا وَلَكِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ الْخَارِقَ لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَفِي جَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَفِي إِبَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ، قَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ، وَخَرَقَ نِظَامَ الطَّبِيعَةِ وَالْعَوَائِدِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، فَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ مِنْ طَبْعِ أُنُوثَتِهَا فِي إِدْلَالِهَا وَتَمَنُّعِهَا، وَهَبَطَ بِالسَّيِّدَةِ الْمَالِكَةِ مِنْ عِزَّةِ سِيَادَتِهَا وَسُلْطَانِهَا، وَدَهْوَرَ الْأَمِيرَةَ (الْأُرُسْتُقْرَاطِيَّةَ) مِنْ عَرْشِ عَظَمَتِهَا وَتَكَبُّرِهَا، وَأَذَلَّهَا لِعَبْدِهَا وَخَادِمِهَا، وَبِمَا هَوَّنَهُ عَلَيْهَا: قُرْبُ الْوِسَادِ، وَطُولُ السَّوَادِ وَالْخُلْوَةُ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ وَالْأَبْوَابِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَخْدَعِ دَارِهَا، فَيَصُدُّ عَنْهَا عُلُوًّا وَنِفَارًا، ثُمَّ تُصَارِحُهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى نَفْسِهَا فَيَزْدَادُ عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، مُعْتَزًّا عَلَيْهَا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخِيَانَةِ،

وَحِفْظِ شَرَفِ سَيِّدِهِ وَهُوَ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا وَحَقُّهُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ، إِنَّ هَذَا الِاحْتِقَارَ لَا يُطَاقُ، وَلَا عِلَاجَ لِهَذَا الْفَاتِنِ الْمُتَمَرِّدِ إِلَّا تَذْلِيلُهُ بِالِانْتِقَامِ، هَذَا مَا ثَارَ فِي نَفْسِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَفْتُونَةِ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ (كَمَا يُقَالُ) وَشَرَعَتْ فِي تَنْفِيذِهِ أَوْ كَادَتْ، بِأَنْ هَمَّتْ بِالْبَطْشِ بِهِ فِي ثَوْرَةِ غَضَبِهَا، وَهُوَ انْتِقَامٌ مَعْهُودٌ مِنْ مِثْلِهَا وَمِمَّنْ دُونَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَكْثَرُ بِمَا تَرْوِيهِ لَنَا مِنْهُ قَضَايَا الْمَحَاكِمِ وَصُحُفُ الْأَخْبَارِ، وَكَادَ يَرُدُّ صِيَالَهَا وَيَدْفَعُهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْ بُرْهَانِ رَبِّهِ فِي سَرِيرَةِ نَفْسِهِ، مَا هُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) 21 وَهُوَ إِمَّا النُّبُوَّةُ الَّتِي تَلِي الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ اللَّذَيْنِ آتَاهُ اللهُ إِيَّاهُمَا بَعْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) 4: 174 وَإِمَّا مُعْجِزَتُهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - لِمُوسَى فِي آيَتَيِ الْعَصَا وَالْيَدِ (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) 28: 32 وَإِمَّا مُقَدِّمَتُهَا مِنْ مَقَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ الْعُلْيَا وَهِيَ مُرَاقَبَتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَرُؤْيَةُ رَبِّهِ مُتَجَلِّيًا لَهُ نَاظِرًا إِلَيْهِ، وِفَاقًا لِمَا قَالَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ - فِي تَفْسِيرِ الْإِحْسَانِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) فَيُوسُفُ قَدْ رَأَى هَذَا الْبُرْهَانَ فِي نَفْسِهِ، لَا صُورَةَ أَبِيهِ مُتَمَثِّلَةٌ فِي سَقْفِ الدَّارِ، وَلَا صُورَةَ سَيِّدِهِ الْعَزِيزِ فِي الْجِدَارِ، وَلَا صُورَةَ مَلَكٍ يَعِظُهُ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي رَسَمَتْهَا أَخْيِلَةُ بَعْضِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الْعَقْلِ وَلَا الطَّبْعِ وَلَا الشَّرْعِ، وَلَمْ يُرْوَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِيمَا دُونَهَا. وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ وَوَقَائِعِ الْقِصَّةِ، وَمُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ يُوسُفَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّورَةِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) 22 وَمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ الْإِحْسَانَ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِهِ: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) أَيْ كَذَلِكَ فِعْلُنَا وَتَصَرُّفُنَا فِي أَمْرِهِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ دَوَاعِيَ مَا أَرَادَتْهُ بِهِ أَخِيرًا مِنَ السُّوءِ، وَمَا رَاوَدَتْهُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، بِحَصَانَةٍ أَوْ عِصْمَةٍ مِنَّا تَحُولُ دُونَ تَأْثِيرِ دَوَاعِيهِمَا الطَّبِيعِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ شَهِدْنَا لَهُ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، إِلَى جَمَاعَةِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ وَشَهِدَ هُوَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمْ آبَاؤُهُ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمْ رَبُّهُمْ وَصَفَّاهُمْ مِنَ الشَّوَائِبِ وَقَالَ فِيهِمْ: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ 38: 45 - 47 وَقَدْ قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ: إِنَّ يُوسُفَ هُوَ الْحَلْقَةُ الرَّابِعَةُ فِي سِلْسِلَتِهِمُ الذَّهَبِيَّةِ، وَأَنَّ أَبَاهُ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ إِذْ قَالَ لَهُ: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) 6 فَالِاجْتِبَاءُ هُوَ الِاصْطِفَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ (الْمُخْلِصِينَ) بِكَسْرِ اللَّامِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ فَهُمْ مُخْلِصُونَ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِمْ بِهِ وَحُبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لَهُ،

وَمُخْلَصُونَ عِنْدَهُ بِالْوِلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُبْعِدُهُمْ عَنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لَصَرْفِ اللهِ لِلسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: لِنَصْرِفَهُ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمَا، بَلْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا فَيُصْرَفُ عَنْهُمَا، وَهَمُّهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ بِدَفْعِ صِيَالِهَا هَمٌّ بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ، وُجِدَ مُقْتَضِيهِ مُقْتَرِنًا بِالْمَانِعِ مِنْهُ وَهُوَ رُؤْيَتُهُ بُرْهَانَ رَبِّهِ فَلَمْ يُنَفِّذْهُ، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَمِّهَا وَهَمِّهِ أَنَّهَا أَرَادَتِ الِانْتِقَامَ مِنْهُ شِفَاءً لِغَيْظِهَا مِنْ خَيْبَتِهَا وَإِهَانَتِهِ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى أَمَارَةَ وُثُوبِهَا عَلَيْهِ اسْتَعَدَّ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَمَّ بِهِ، فَكَانَ مَوْقِفُهُمَا مَوْقِفَ الْمُوَاثَبَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْ بُرْهَانِ رَبِّهِ وَعِصْمَتِهِ مَالَمْ تَرَ هِيَ مِثْلَهُ، فَأَلْهَمَهُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ، فَلَجَأَ إِلَى الْفِرَارِ تَرْجِيحًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي، وَتَبِعَتْهُ هِيَ مُرَجِّحَةً لِلْمُقْتَضِي عَلَى الْمَانِعِ حَتَّى صَارَ جَزْمًا، وَاسْتَبَقَا بَابَ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ رَأْيَ الْجُمْهُورِ فِي الْهَمِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. رَأْيُ الْجُمْهُورِ فِي هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا وَبَيَانُ بُطْلَانِهِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَالْمَخْدُوعُونَ بِالرِّوَايَاتِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا هَمَّتْ بِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ وَلَا مَانِعٌ مِنْهَا، وَهَمَّ هُوَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَاقْتَرَفَهَا وَلَمْ يَسْتَحِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرْوِيَ أَخْبَارَ اهْتِيَاجِهِ وَتَهَوُّكِهِ فِيهِ وَوَصْفِ انْهِمَاكِهِ وَإِسْرَافِهِ فِي تَنْفِيذِهِ، وَتَهَتُّكَ الْمَرْأَةِ فِي تَبَذُّلِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلَّا مِنْ أَوْقَحِ الْفُسَّاقِ الْمُسْرِفِينَ الْمُسْتَهْتَرِينَ، الَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ عَهْدُ اسْتِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَأُلْفَتِهَا حَتَّى خَلَعُوا الْعِذَارَ، وَتَجَرَّدُوا مِنْ جَلَابِيبِ الْحَيَاءِ، وَأَمْسَوْا عُرَاةً مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَحُلَلِ الْآدَابِ، كَأَهْلِ مَدَنِيَّةِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَوَاخِيرِ الْبِغَاءِ السِّرِّيَّةِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِي حَمَّامَاتِ الْبَحْرِ الْجَهْرِيَّةِ، حَتَّى كَادُوا يُعِيدُونَ لِلْعَالَمِ فُجُورَ مَدِينَةِ (بُومْبَايَ) الرُّومَانِيَّةِ، الَّتِي خَسَفَ اللهُ بِهَا وَأَمْطَرَ عَلَيْهَا مِنْ بَرَاكِينِ النَّارِ مِثْلَمَا أَمْطَرَ عَلَى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَبْلِهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ فِي قِصَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ سَلِيمِي الْفِطْرَةِ، وَلَا مِنْ سُذَّجِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ تَغْلِبْهُمْ سَوْرَةُ الشَّهْوَةِ الْجَامِحَةِ عَلَى حَيَائِهِمُ الْفِطْرِيِّ، وَإِيمَانِهِمْ وَحَيَائِهِمْ مِنْ نَظَرِ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ عَصَمَهُ اللهُ وَوَصَفَهُ بِمَا وَصَفَ، وَشَهِدَ لَهُ بِمَا شَهِدَ، وَقَدْ بَلَغَ بِبَعْضِهِمْ (كَالسُّدِّيِّ) الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَالْوَقَاحَةُ وَقِلَّةُ الْأَدَبِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَرَ بُرْهَانًا وَاحِدًا، بَلْ رَأَى عِدَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ رُؤْيَةِ وَالِدِهِ مُتَمَثِّلًا لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ، وَتَكْرَارِ وَعْظِهِ لَهُ، وَمِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولِهِمْ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ بِآيَاتٍ مِنْ سُوَرِهِ، فَلَمْ تَنْهَهُ مِنْ شَبَقِهِ، وَلَمْ تَنْهَهُ عَنْ غَيِّهِ، حَتَّى كَانَ أَنْ خَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَظَافِرِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ

لَمْ يَكُفَّ إِلَّا عَجْزًا عَنِ الْإِمْضَاءِ، أَفَبِهَذَا صَرَفَ اللهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَأَنْبِيَائِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْمُجْتَبَيْنَ الْأَخْيَارِ؟ وَلَئِنْ كَانَ عُقَلَاءُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْكَرُوا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ، حِمَايَةً لِعَقِيدَةِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكَدْ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ تَأْثِيرِ بَعْضِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَسْلِيمِهِمْ لَهُمْ أَنَّ الْهَمَّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ بِمَعْنَى الْعَزْمِ عَلَى الْفَاحِشَةِ، إِلَّا مَنْ خَالَفَ قَوَاعِدَ اللُّغَةِ فَقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَهَمَّ بِهَا) جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَهُمَّ بِشَيْءٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْعِبَارَةِ أَوْ ظَاهِرِهَا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَمَّهُ بِالْفَاحِشَةِ بِمُقْتَضَى الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهَا طَاعَتُهَا بِدَلِيلِ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ((مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ)) ، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُ عَنْهَا بِتَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ طُغْيَانِهَا وَإِلْحَاحِهَا الطَّبِيعِيِّ عَلَيْهِ أَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَفْعَلْهَا كَرَاهَةً لَهَا وَعُزُوفًا عَنْهَا لِقُبْحِهَا، وَلَهُمْ تَأْوِيلَاتٌ مِنْ هَذَا، وَلَقَدْ كَانُوا لَوْلَا تَأْثِيرُ الرِّوَايَةِ فِي غِنًى عَنْهَا. وَالتَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ أَوَّلُهُ مَقْبُولٌ وَآخِرُهُ مَرْدُودٌ، فَهَهُنَا مَرْتَبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْكَفُّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ جِهَادًا لِلنَّفْسِ وَكَبْحًا لَهَا خَوْفًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَهِيَ مَرْتَبَةُ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ، وَمَرْتَبَةُ الْكَرَاهَةِ لَهَا وَالِاشْمِئْزَازِ مِنْهَا حَيَاءً مِنَ اللهِ وَمُرَاقَبَةً لَهُ وَاسْتِغْرَاقًا فِي شُهُودِهِ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِينَ وَالنَّبِيِّينَ الْأَخْيَارِ، الَّذِينَ إِذَا عَرَضَتْ لَهُمُ الشَّهْوَةُ الْمُسْتَلَذَّةُ بِالطَّبْعِ، بِالصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الشَّرْعِ، عَارَضَهَا مِنْ وِجْدَانِ الْإِيمَانِ، وَتَجَلِّي الرَّحْمَنِ، مَا تَغَلِبُ بِهِ رُوحَانِيَّتُهُمُ الْمَلَكِيَّةُ، عَلَى طَبِيعَتِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَرَوْنَ بُرْهَانَ رَبِّهِمْ بِأَعْيُنِ قُلُوبِهِمْ، وَيَنْعَكِسُ نُورُهُ عَنْ بَصَائِرِهِمْ فَيَلُوحُ لِأَبْصَارِهِمْ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ آنِفًا؟ وَلِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ دَرَجَاتٌ مِنْهَا: فَقْدُ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَوْ فَقْدُ الشُّعُورِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى وَضْعِهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُحَرَّمِ مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَشَدِّهَا، وَلَا عَجَبَ؛ فَقُوَى النَّفْسِ وَانْفِعَالَاتُهَا الْوِجْدَانِيَّةُ تَتَنَازَعُ فَيَغْلِبُ أَقْوَاهَا أَضْعَفَهَا. حَتَّى إِنَّ مِنَ الْإِبَاحِيِّينَ وَالْإِبَاحِيَّاتِ مَنْ أَهْلِ الْحُرِّيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ مَنْ يَمْلِكُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْخَلْوَةِ مَنْعَ نَفْسِهِ أَنْ يُبِيحَهَا لِمَنْ يُرَاوِدُهُ عَنْهَا، لَا خَوْفًا مِنَ اللهِ وَلَا حَيَاءً مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِهِ أَوْ بِعِقَابِهِ، بَلْ وَفَاءً لِزَوْجٍ أَوْ عَشِيقٍ عَاهَدَهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ فَصَدَقَهُ. حَدَّثَنَا مُصَوِّرٌ سُورِيٌّ كَانَ زِيرَ نِسَاءٍ فَاسِقًا أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمْرِيكَانِيَّةِ، فَأَعْلَنَ فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ أَنَّهُ يَطْلُبُ امْرَأَةً جَمِيلَةً لِأَجْلِ أَنْ يُصَوِّرَهَا كَمَا يَشَاءُ بِجُعْلٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْهُودٌ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ، فَجَاءَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْحِسَانِ اخْتَارَ إِحْدَاهُنَّ وَخَلَا بِهَا فِي حُجْرَتِهِ الْخَاصَّةِ وَأَوْصَدَ بَابَهَا، وَأَمْرَهَا بِالتَّجَرُّدِ مِنْ جَمِيعِ ثِيَابِهَا، فَتَجَرَّدَتْ فَطَفِقَ

يُصَوِّرُهَا عَلَى أَوْضَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنِ انْتِصَابٍ وَانْحِنَاءٍ، وَمَيْلٍ وَالْتِوَاءٍ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، وَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِ إِتْقَانِ صِنَاعَتِهِ، فَعَرَضَ لَهَا دُوَارٌ فِي رَأْسِهَا، فَجَلَسَتْ عَلَى أَرِيكَةٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَجَلَسَ بِجَانِبِهَا، وَأَنْشَأَ يُلَاعِبُهَا وَيُدَاعِبُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ سَاكِتَةٌ، فَتَنَبَّهَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الشُّعُورِ مَا كَانَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَتَمَنَّعَتْ بَلِ امْتَنَعَتْ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْمَالَ فَأَعْرَضَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ فِي نَفْسِكِ، وَلَكِنِّي أَرْجُو مِنْكِ أَنْ تُجِيبِينِي عَنْ سُؤَالٍ عِلْمِيٍّ هُوَ مَا بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الِامْتِنَاعِ؟ قَالَتْ: سَبَبُهُ أَنَّنِي عَاهَدْتُ رَجُلًا يُحِبُّنِي وَأُحِبُّهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَّا لِلْآخَرِ لَا يُشْرِكُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ أَحَدًا، وَلَا يَبْتَغِي بِهِ بَدَلًا، فَقَالَ لَهَا: إِنِّي أَهَنْتُكِ وَأَحْتَرِمُ وَفَاءَكِ هَذَا، ثُمَّ أَتَمَّ صِنَاعَتَهُ وَنَقَدَهَا الْجُعْلَ الْمُعَيَّنَ فَأَخَذَتْهُ وَانْصَرَفَتْ. وَالرَّاجِحُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَمْ تَشْتَهِ مُوَاتَاةَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُجَاهِدُ نَفْسَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَأَنَّ الْمَانِعَ مِنِ اشْتِهَائِهِ تَوْطِينُ نَفْسِهَا عَلَى الْوَفَاءِ لِعَشِيقِهَا الْأَوَّلِ، حَتَّى لَمْ تَعُدْ تَتَوَجَّهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَتَوْجِيهُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ عَنْهُ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْإِرَادَةِ، وَتَرْبِيَةُ الْإِرَادَةِ هِيَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ بِاتِّفَاقِ الْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَيُسَمِّي هَؤُلَاءِ سَالِكَ طَرِيقِ الْحَقِّ مُرِيدًا، وَالْوَاصِلُ إِلَى غَايَتِهِ مُرَادًا، أَيْ مُجْتَبًى مُخْتَارًا، وَهُوَ لَا يَكُونُ عَلَى كَمَالِهِ إِلَّا لِأَصْحَابِ الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَمَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَمَنْ حُرِمَ انْحَرَفَ، كَمَا قَالَ أُسْتَاذُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ، وَلَقَدْ عَجِبْنَا أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْمَحْرُومِينَ عَنْ هَذَا مِمَّنْ نَعُدُّهُمْ بِحَقٍّ مِنَ الصَّالِحِينَ قَوْلَنَا فِي الْمَقْصُورَةِ الرَّشِيدِيَّةِ فِيمَنِ امْتَنَعَ مِنْ رُقْيَةِ صَدْرِ فَتَاةٍ حَسْنَاءَ: أَتَتْ فَتًى خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... مَا زَالَ يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى لَمْ يَقْتَرِفْ فَاحِشَةً قَطُّ وَلَمْ يَعْزِمْ ... وَلَا هَمَّ بِهَا وَلَا نَوَى بِغِرَّةٍ مِنْهَا وَصَفْوِ نِيَّةٍ ... فِي مَعْزِلٍ تُشَهِّيهِ أَقْصَى مَا اشْتَهَى مِمَّا يُمَنِّيهِ بِهِ شَيْطَانُهُ مِنْ ... حَيْثُ لَا يَطْمَعُ مِنْهُ فِي خَنَا لَكِنَّهُ اسْتَعْصَمَ رَاوِيًا لَهَا ... مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَمَا نَهَى إِذْ ظَنَّ الْمُنْكِرُ فِيهِ أَنَّهُ فَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَى يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَعْظَمَ مَزَايَا الْبَشَرِ فِي قُوَّةِ الْإِرَادَةِ فَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْإِنْسَانُ كَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ عَبْدَ الطَّبِيعَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْمُرَاوَدَةُ احْتِيَالًا لِتَحْوِيلِ الْإِرَادَةِ وَجَعْلِهَا خَاضِعَةً لِلْمُرَاوِدِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ فِيهَا مَنْ كَانَتْ إِرَادَتُهُ أَقْوَى، وَفَوْقَ ذَلِكَ عِنَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - (فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ) . فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مَنْ تَمْلِكُ إِرَادَتَهَا وَلَا تَلِينُ لِمُرَاوِدِهَا، وَلَا يُغْرِيهَا

الْمَالُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ الْأَكْبَرُ لِأَمْثَالِهَا فِي بِلَادِهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْخُلْوَةِ وَذَلِكَ التَّجَرُّدِ بَيْنَ يَدَيْ مُصَوِّرِهَا، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ الشَّبَابِ، وَأَبْرَعِهِنَّ فِي تَصَبِّي النِّسَاءِ، أَفَيَكْثُرُ أَوْ يُسْتَغْرَبُ فِي رَأْيِ أُولَئِكَ الرُّوَاةِ، أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي وِرَاثَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَمَقَامِ النُّبُوَّةِ عَنْ آبَائِهِ الْأَكْرَمِينَ، وَمَا اخْتَصَّهُ بِهِ رَبُّهُ وَكَوْنُهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ مِنَ الْعِرْفَانِ وَالْإِحْسَانِ وَالِاصْطِفَاءِ، وَمَا صَرَفَ عَنْهُ مِنْ دَوَاعِي السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ شَهَادَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا بِقَوْلِهَا: (وَلَقَدْ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) 32 أَيِ اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةِ الْعِصْمَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهِ صَوَاحِبُهَا مِنَ الْمُرَاوِدَاتِ مِنْ قَوْلِهِنَّ: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) 51 أَيْ أَدْنَى شَيْءٍ سَيِّئٍ، ثُمَّ مَا أَيَّدَتْ بِهِ شَهَادَتَهُنَّ مِنْ قَوْلِهَا: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) 51 أَيَكْثُرُ عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَغْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمْلَكَ لِنَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْإِبَاحِيَّةِ، أَوْ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْهَمِّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَصَوَّرُوهُ بِشَرِّ مَا تَصَوَّرُوهُ، أَوْ بِمَا صَوَّرَهُ لَهُمْ مُضِلُّوهُمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ لِيُلَبِّسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيُشَوِّهُوا بِهِ تَفْسِيرَ كَلَامِ رَبِّهِمْ؟ ثُمَّ يَكُونُ مُنْتَهَى شَوْطِ الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَفْسِيرَهُمْ تَأْوِيلًا، وَالْقُرْآنُ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِلُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَأَدَبِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَالْعِبْرَةُ الْمُرَاوَدَةُ مِنْهُ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ إِسْنَادُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَضْعِهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ تَصْدِيقِهِمْ لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ فِيهَا إِلَّا بُطْلَانُ مَوْضُوعِهَا فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي لَمْ يَعْلَمْ رَسُولُ اللهِ مِنْهَا غَيْرَ مَا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةِ (102) آخِرِهَا - لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا مِنْ أَدِلَّةِ وَضْعِهَا غَيْرُ هَذَا لَكَفَى، فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي لُغَتِهِ كَمُخَالَفَتِهَا لَهُ فِي هِدَايَتِهِ أَيْضًا! رَدُّ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ هَمِّهَا وَهَمِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَنَا أَرُدُّ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فَسَّرُوا هَمَّ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا اخْتَرْتُهُ، لَا هَمُّهُ وَحْدَهُ، وَأَقُولُ: لَوْلَا الْغُرُورُ بِالرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ لَمْ يَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ غَيْرُهُ، أَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِعِبَارَةِ الْقُرْآنِ فِي مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْهَمَّ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ، لَا بِالشُّخُوصِ وَالْأَعْيَانِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُقَارَبَةُ فِعْلٍ تَعَارَضَ فِيهِ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي فَلَمْ يَقَعْ لِرُجْحَانِ الْمَانِعِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي التَّعَارُضِ الْأَعَمِّ، وَلَكِنَّ رُجْحَانَ الْمَانِعِ هُنَا قَدْ يَكُونُ بِإِرَادَةِ صَاحِبِ الْهَمِّ وَمِنْهُ هَمُّ يُوسُفَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ هَمُّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ: كَانَ هَمُّهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْبَطْشُ بِالضَّرْبِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَانَ الْمَانِعُ مِنْهُ إِرَادَتَهُ هُوَ وَعَجْزَهَا هِيَ بِهَرَبِهِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ.

حَكَى الله عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِالرَّسُولِ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ، وَحَكَى عَنْهُمْ وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّوْبَةِ أَنَّهُمْ (هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) آيَةَ 13 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَلَدِهِ مَكَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا لِأَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَيَقْوَى أَمْرُهُ، فَرَجَّحُوا الْمَانِعَ بِإِرَادَتِهِمْ، وَحَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ (هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) آيَةَ 74 إِذْ حَاوَلُوا أَنْ يُشْرِدُوا بِهِ بِعِيرَهُ فِي الْعَقَبَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمْ يَنَالُوا مُرَادَهُمْ عَجْزًا مِنْهُمْ وَحِفْظًا مِنْ رَبِّهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - لَهُ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) 4: 113 وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ هُنَا وَلَوْلَا فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ فَكَّرُوا فِي ذَلِكَ وَمَا قَارَبُوا. وَقَالَ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) 3: 122 أَيْ تَتْرُكَا الْمُضِيَّ مَعَ الرَّسُولِ لِلْقِتَالِ يَوْمَ ((أُحُدٍ)) جُبْنًا وَاتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِمَا دَاعِي الْإِيمَانِ فَلَمْ تَفْشَلَا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا) 3: 122 فَرَجَّحَتَا الْمَانِعَ مِنَ الْفَشَلِ بِالْمُقْتَضِي لِلْجِهَادِ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمَّ أَنْ يَأْمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَأْمُرَ مَنْ يُحَرِّقُ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ)) يَعْنِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا حَتَّى كَادَ يَفْعَلُهُ، وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ تَرْجِيحًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي. إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَمِنَ الْجَلْيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتْنَاهُ بِشَوَاهِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ بَاطِلٌ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ، بَلْ لِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ، وَإِنَّمَا خَدَعَتْهُمْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَوَّلُهَا) أَنَّ الْهَمَّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفِعْلٍ لِلْهَامِّ، وَالْوِقَاعُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْمَرْأَةِ فَتَهُمَّ بِهِ، وَإِنَّمَا نَصِيبُهَا مِنْهُ قَبُولُهُ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ مِنْهَا بِتَمْكِينِهِ مِنْهُ، وَهَذَا التَّمْكِينُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ دُخُولُ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ فِيهِ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ مِنْ زَوْجِهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ. (ثَانِيهَا) أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَطْلُبْ مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ هَذَا الْفِعْلَ فَيُسَمَّى قَبُولُهَا لِطَلَبِهِ وَرِضَاهَا بِتَمْكِينِهِ مِنْهُ هَمًّا لَهَا، فَإِنَّ نُصُوصَ الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَعْدَهَا تُبَرِّئُهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ وَسَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ أَيْضًا. (ثَالِثُهَا) لَوْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: ((وَلَقَدْ هَمَّ بِهَا وَهَمَّتْ بِهِ)) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُقَدَّمُ بِالطَّبْعِ وَالْوَضْعُ وَهُوَ الْهَمُّ الْحَقِيقِيُّ. وَالْهَمُّ الثَّانِي مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ. (رَابِعُهَا) أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عَازِمَةً عَلَى مَا طَلَبَتْهُ

25

طَلَبًا جَازِمًا مُصِرَّةً عَلَيْهِ، لَيْسَ عِنْدَهَا أَدْنَى تَرَدُّدٍ فِيهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ يُعَارِضُ الْمُقْتَضِي لَهُ، فَإِذَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا هَمَّتْ بِهِ مُطْلَقًا، حَتَّى لَوْ فُرِضَ جَدَلًا أَنَّهُ كَانَ قَبُولًا لِطَلَبِهِ وَمُوَاتَاةً لَهُ؛ إِذِ الْهَمُّ مُقَارَبَةُ الْفِعْلِ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِيمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ تَأْدِيبِهِ بِالضَّرْبِ عَلَى أَهْوَنِ تَقْدِيرٍ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ نَصِّ اللُّغَةِ وَمِنَ السِّيَاقِ وَأَقْرَبُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) أَيْ فَرَّ يُوسُفُ مِنْ أَمَامِهَا هَارِبًا إِلَى بَابِ الدَّارِ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْهُ لِلنَّجَاةِ مِنْهَا، تَرْجِيحًا لِلْفِرَارِ عَلَى الدِّفَاعِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَدَاهُ، وَتَبِعَتْهُ تَبْغِي إِرْجَاعَهُ حَتَّى لَا يُفْلِتَ مِنْ يَدِهَا، وَهِيَ لَا تَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ إِذَا هُوَ خَرَجَ وَلَا مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ، وَتَكَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَ الْآخَرَ، فَأَدْرَكَتْهُ (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) إِذْ جَذَبَتْهُ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ فَانْقَدَّ، قَالُوا: إِنَّ الْقَدَّ خَاصٌّ بِقَطْعِ الشَّيْءِ أَوْ شَقِّهِ طُولًا وَالْقَطُّ قَطْعُهُ عَرْضًا (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) أَيْ وَجَدَا زَوْجَهَا عِنْدَ الْبَابِ، وَكَانَ النِّسَاءُ فِي مِصْرَ يُلَقِّبْنَ الزَّوْجَ بِالسَّيِّدِ وَاسْتَمَرَّ هَذَا إِلَى زَمَانِنَا، وَلَمْ يَقُلْ سَيِّدَهُمَا لِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ يُوسُفَ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، وَهَذَا كَلَامُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا كَلَامُ الرَّجُلِ الْمُسْتَرِقِّ لَهُ، وَلَعَلَّهُ كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ بِالْفِعْلِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَرَآهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُنْكَرَةِ (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) أَيْ شَيْئًا يَسُوءُكَ مَهْمَا يَكُنْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ (سُوءًا) ، (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أَيْ إِلَّا سِجْنٌ يُعَاقَبُ بِهِ أَوْ (عَذَابٌ أَلِيمٌ) مُوجِعٌ يُؤَدِّبُهُ وَيُلْزِمُهُ الطَّاعَةَ. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَكْرًا وَخِدَاعًا لِزَوْجِهَا مِنْ وُجُوهٍ. (أَوَّلُهَا) إِيهَامُ زَوْجِهَا أَنَّ يُوسُفَ قَدِ اعْتَدَى عَلَيْهَا بِمَا يَسُوءُهُ وَيَسُوءُهَا. (ثَانِيهَا) أَنَّهَا لَمْ تُصَرِّحْ بِذَنْبِهِ لِئَلَّا يَشْتَدَّ غَضَبُهُ فَيُعَاقِبُهُ بِغَيْرِ مَا تُرِيدُهُ كَبَيْعِهِ مَثَلًا. (ثَالِثُهَا) تَهْدِيدُ يُوسُفَ وَإِنْذَارُهُ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ أَمْرَهُ بِيَدِهَا لِيَخْضَعَ لَهَا وَيُطِيعَهَا. فَمَاذَا قَالَ يُوسُفُ فِي دَفْعِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ عَنْهُ وَإِسْنَادِهَا إِلَيْهَا بِالْحَقِّ؟ وَلَوْلَاهُ لَأَسْبَلَ عَلَيْهَا ذَيْلَ السِّتْرِ؟ (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) .

26

(آيَاتُ تَحْقِيقِ زَوْجِهَا فِي الْقَضِيَّةِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي تَحْقِيقِ الْقَضِيَّةِ وَعِلْمِ زَوْجِهَا بِهِ بَرَاءَةَ يُوسُفَ وَثُبُوتَ خَطِيئَتِهَا، وَبُدِئَ بِبَيَانِ جَوَابِهِ الصَّرِيحِ الْمُنْتَظَرِ بَعْدَ اتِّهَامِهَا إِيَّاهُ بِالتَّلْمِيحِ وَهُوَ: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) فَامْتَنَعْتُ وَفَرَرْتُ كَمَا تَرَى. فَصَارَتِ النَّازِلَةُ أَوِ الْقَضِيَّةُ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِمَا مَوْضُوعُ بَحْثٍ وَتَحْقِيقٍ وَتَشَاوُرٍ بَيْنَ زَوْجِهَا وَأَهْلِهَا لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا التَّنْزِيلُ تَفْصِيلَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ فِيهِ بَيَانُ نَزَاهَةِ يُوسُفَ وَفَضَائِلِهِ لِلْعِبْرَةِ لَهَا. وَإِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقَّعًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْعَقْلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) أَيْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ عِلْمٍ كَالْمُشَاهَدَةِ، وَقِيلَ: حَكَمَ مُسْتَدِلًّا بِمَا ذُكِرَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ كَعَادَتِهِمْ فِي الْمُبْهَمَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا التَّخَيُّلُ وَالِاخْتِرَاعُ، هَلْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوْ حَكِيمًا أَوْ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ أَوْ حَيَوَانًا، حَتَّى رَوَوْا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ، هُوَ خَلْقُ اللهِ، مَعَ قَوْلِ اللهِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، يُؤَيِّدُهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ)) وَهَذَا مَوْقُوفٌ وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفٌ، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِدُونِ تَأْيِيدٍ وَلَا رَدٍّ، وَأَمَّا هَذِهِ الشَّهَادَةُ - وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْحُكْمِ - فَهِيَ قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أَيْ مِنْ قُدَّامٍ فَصَدَقَتْ فِي دَعْوَاهَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا سُوءًا، فَإِنَّهُ لَمَّا وَثَبَ عَلَيْهَا أَخَذَتْ بِتَلَابِيبِهِ فَجَاذَبَهَا فَانْقَدَّ قَمِيصُهُ وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ وَيَتَصَارَعَانِ (وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) فِي دَعْوَاهُ أَنَّهَا رَاوَدَتْهُ فَامْتَنَعَ وَفَرَّ فَتَبِعَتْهُ وَجَذَبَتْهُ تُرِيدُ إِرْجَاعَهُ، (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أَيْ مِنْ خَلْفٍ (فَكَذَبَتْ) فِي دَعْوَاهَا أَنَّهُ هَجَمَ عَلَيْهَا يُرِيدُ ضَرْبَهَا (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ فَرَّ مِنْهَا هَارِبًا. وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَمُشْكِلَةٌ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ. (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) أَيْ إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ وَمُحَاوَلَةَ التَّنَصُّلِ

28

مِنْهُ بِالِاتِّهَامِ، مِنْ كَيْدِكُنَّ الْمَعْهُودِ مِنْكُنَّ مَعْشَرَ النِّسَاءِ. فَهُوَ لَمْ يَخُصَّ الْكَيْدَ بِزَوْجِهِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَمْرٌ شَاذٌّ مِنْهَا يَجِبُ التَّرَوِّي فِي تَحْقِيقِهِ بِأَكْثَرِ مِمَّا شَهِدَ بِهِ أَحَدُ أَهْلِهَا، وَهُوَ لَا يُتَّهَمُ فِي التَّحَامُلِ عَلَيْهَا وَظُلْمِهَا، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ عَامَّةٌ فِيهِنَّ فِي التَّقَصِّي مِنْ خَطِيئَاتِهِنَّ، فَقَدْ أَثْبَتَ خَطِيئَتَهَا مُسْتَدِلًّا عَلَيْهَا بِالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ لَهُنَّ فِي أَمْثَالِهَا (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لَا قِبَلَ لِلرِّجَالِ بِهِ، وَلَا يَفْطِنُونَ لِحِيَلِكُنَّ فِي دَقَائِقِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَلِرَبَّاتِ الْقُصُورِ مِنْهُنَّ الْقَدَحُ الْمُعَلَّى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ تَفَرُّغًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مَعَ كَثْرَةِ اخْتِلَافِ الْكَيَّادَاتِ إِلَيْهِنَّ. وَهَهُنَا يَذْكُرُونَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) 4: 76 يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ حِكَايَةَ قَوْلِ هَذَا إِقْرَارٌ لَهُ، فَالْمَقَامُ مُخْتَلِفٌ، وَإِنَّمَا كَيْدُ النِّسْوَانِ بَعْضُ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهَا وَإِلَى يُوسُفَ قَائِلًا: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) الْكَيْدِ الَّذِي جَرَى لَكَ وَلَا تَتَحَدَّثْ بِهِ، وَلَا تَخَفْ مِنْ تَهْدِيدِهَا لَكَ (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ وَتُوبِي إِلَى اللهِ - تَعَالَى - (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) أَيْ مِنْ جِنْسِ الْمُجْرِمِينَ مُرْتَكِبِي الْخَطَايَا الْمُتَعَمِّدِينَ لَهَا. وَلِهَذَا غَلَّبَ فِيهِ جَمْعَ الْمُذَكِّرِ فَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْخَاطِئَاتِ ((وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ بِقَوْلِ هَذَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ لِزَوْجِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْغِيرَةِ وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ، وَزَعَمَ أَبُو حَيَّانَ فِي ((الْبَحْرِ الْمُحِيطِ)) أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى طَبِيعَةِ تُرْبَةِ مِصْرَ وَبِيئَتِهَا، وَأَنَّهَا لِرَخَاوَتِهَا لَا يَنْشَأُ فِيهَا الْأَسَدُ وَلَوْ دَخَلَ فِيهَا لَا يَبْقَى. وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ، فَأَمَّا سَبَبُ عَدَمِ نُشُوءِ الْأَسَدِ فِي هَذَا الْقُطْرِ فَهُوَ خُلُوُّهُ مِنَ الْغَابَاتِ وَالْأَدْغَالِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ إِذَا أُدْخِلَ لَا يَبْقَى، فَإِنْ صَحَّ بِالتَّجْرِبَةِ فِي الْمَاضِي فَسَبَبُهُ عَدَمُ وُجُودِ الْمَأْوَى لَهُ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى الْأُسُودَ وَالْفُهُودَ وَالنُّمُورَ تَعِيشُ وَتَتَنَاسَلُ فِي حَدِيقَةِ الْحَيَوَانِ بِالْجِيزَةَ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى هَذَا لِلرَّدِّ عَلَى زَاعِمِيهِ، وَالْإِطَالَةُ فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ التَّفْسِيرِ.

30

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ. (حَادِثَةُ مَكْرِ النِّسْوَةِ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَمُرَاوَدَةِ يُوسُفَ) : هَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ فِي حَادِثَةِ النِّسْوَةِ مِنْ كِبَارِ بُيُوتَاتِ مِصْرَ، اللَّائِي مَكَرْنَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِتَجْمَعَهُنَّ بِهَذَا الشَّابِّ الَّذِي فَتَنَهَا جَمَالُهُ، وَأَذَلَّهَا عَفَافُهُ وَكَمَالُهُ، حَتَّى رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ فَتَاهَا، وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا فَرَدَّهَا وَأَبَاهَا، خَشْيَةً وَطَاعَةً لِلَّهِ، وَحِفْظًا لِأَمَانَةِ السَّيِّدِ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِ، أَنْ يَخُونَهُ فِي أَعَزِّ شَيْءٍ لَدَيْهِ، لَعَلَّهُ يَصْبُو إِلَيْهِنَّ، وَيَجْذِبُهُ مِنْ جَمَالِهِنَّ الطَّارِئِ الْمُفَاجِئِ لَهُ، مَا لَمْ يَجْذِبْهُ مِنْ جَمَالِهَا الَّذِي أَلِفَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا نَظَرَ الرَّقِيقِ إِلَى سَيِّدَتِهِ،

أَوِ الْوَلَدِ إِلَى وَالِدَتِهِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي السُّورَةِ بِأَبْدَعِ صُورَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَعْلَى تَعْبِيرٍ مِنَ الْأَدَبِ وَالنَّزَاهَةِ، وَهُوَ: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) النِّسْوَةُ: جَمْعُ قِلَّةٍ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةِ لَفْظِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا التَّنْزِيلُ عَدَدَهُنَّ وَلَا أَسْمَاءَهُنَّ وَلَا صِفَاتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْعِبْرَةِ مَحْصُورَةٌ فِي أَنَّ عَمَلَهُنَّ عَمَلُ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ يُعْهَدُ فِي الْعُرْفِ ائْتِمَارُهُنَّ وَاتِّفَاقُهُنَّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكْرِ الْمُنْكَرِ، فِي مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ كَعَاصِمَةِ مِصْرَ، الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى فِتَنِ الْحَضَارَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ، وَلَفْظُ النِّسْوَةِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ ضَمِيرِهِ لِلَفْظِهِ وَتَأْنِيثِهِ لِمَعْنَاهُ. وَمِنْ غَرِيبِ فِتْنَةِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، أَنْ يَدَّعِيَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّوَاتِي أَجَبْنَ دَعْوَتَهَا الْآتِيَةَ مِنْهُنَّ كُنَّ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْعَاذِلَاتِ كُلِّهِنَّ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ مِنْ أَنَّهُنَّ مِنْ بُيُوتَاتِ كِبَارِ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْبُيُوتِ الدُّنْيَا وَكَذَا الْوُسْطَى لَا يَتَسَامَيْنَ - بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَبِيرِ وُزَرَاءِ الْمَلِكِ - إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، لِمُشَارَكَتِهَا فِي فِتْنَتِهَا بَلْ نِعْمَتِهَا، أَوْ سَلْبِ عَشِيقِهَا مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي مِنْ عَاقِبَةِ حَادِثِهِنَّ، وَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْهُودِ أَنْ يَعْرِفْنَ نَبَأَهَا مَعَهُ، وَيَكُونَ حَدِيثَهُنَّ الشَّاغِلَ لَهُنَّ فِي مَجَالِسِهِنَّ الْخَاصَّةِ، وَكَانَ خُلَاصَتُهُ الْوَجِيزَةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِمُرَادِهِنَّ مِنْهُ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) هَذَا خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ مِنَ النَّوَاحِي أَوِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: (1) كَوْنُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ وَزِيرِ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ فِي عُلُوِّ مَرْكَزِهَا. (2) كَوْنُهَا تُهِينُ نَفْسَهَا وَتُحَقِّرُ مَرْكَزَهَا بِأَنْ تَكُونَ مُرَاوِدَةً لِرَجُلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَشَأْنُ مِثْلِهَا - إِنْ سَخَتْ بِعِفَّتِهَا - أَنْ تَكُونَ مُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً لِغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. (3) أَنَّ الَّذِي تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ فَتَاهَا وَرَقِيقُهَا. (4) أَنَّهَا بَعْدَ أَنِ افْتُضِحَ أَمْرُهَا وَعَرَفَ بِهِ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا، وَعَامَلَهَا بِالْحِلْمِ، وَأَمَرَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهَا، لَا تَزَالُ مُصِرَّةً عَلَى ذَنْبِهَا، مُسْتَمِرَّةً عَلَى مُرَاوَدَتِهَا، وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُنَّ: (تُرَاوِدُ) وَهُوَ فِعْلُ الْمُضَارِعِ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أَيْ قَدِ اخْتَرَقَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا أَيْ غِلَافَهُ الْمُحِيطَ بِهِ، وَغَاصَ فِي سُوَيْدَائِهِ، فَمَلَكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى إِنَّهَا لَا تُبَالِي مَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ تَهَتُّكِهَا، وَاللَّائِقُ بِمَقَامِهَا الْكِتْمَانُ وَمُكَابَرَةُ الْوِجْدَانِ (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أَيْ إِنَّا لَنَرَاهَا بِأَعْيُنِ بَصَائِرِنَا وَحُكْمِ رَأْيِنَا غَائِصَةً فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْبَعِيدِ عَنْ مَحَجَّةِ الْهُدَى وَالصَّوَابِ. وَهُنَّ مَا قُلْنَ هَذَا إِنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ وَكُرْهًا لِلرَّذِيلَةِ، وَلَا حُبًّا فِي الْمَعْرُوفِ وَنَصْرًا لِلْفَضِيلَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَهُ مَكْرًا وَحِيلَةً، لِيَصِلَ إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى دَعْوَتِهِنَّ، وَإِرَاءَتِهِنَّ بِأَعْيُنِ أَبْصَارِهِنَّ، مَا يُبْطِلُ مَا يَدَّعِينَ رُؤْيَتَهُ بِأَعْيُنِ بَصَائِرِهِنَّ، فَيَعْذُرُونَهَا فِيمَا عَذَلْنَهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مَكْرٌ لَا رَأْيٌ. (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) وَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَسْمَعَهُ لِمَا اعْتِيدَ بَيْنَ هَذِهِ الْبُيُوتِ،

31

مِنَ التَّوَاصُلِ بِالزِّيَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْخَدَمِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ، وَهُنَّ مَا قُلْنَهُ إِلَّا لِتَسْمَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا عَفْوًا، احْتَلْنَ فِي إِيصَالِهِ قَصْدًا، فَكَانَ مَا أَرَدْنَهُ: (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) أَيْ دَعَتْهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ فِي دَارِهَا، وَمَكَرَتْ بِهِنَّ كَمَا مَكَرْنَ بِهَا، بِأَنْ أَعَدَّتْ وَهَيَّأَتْ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ إِذَا جَلَسْنَ مِنَ الْكَرَاسِيِّ وَالْأَرَائِكِ وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي دُورِ الْكُبَرَاءِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ) 18: 31 وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُجْرَةِ مَائِدَةِ الطَّعَامِ، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا لِيَقْطَعْنَ بِهِ مَا يَأْكُلْنَ مِنْ لَحْمٍ أَوْ فَاكِهَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَطْعِهِ كَالْجَامِدِ وَالشَّدِيدِ الْقَوَامِ، دُونَ الرَّخْوِ كَالْمَوْزِ النَّاضِجِ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْحَسَاءِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ التَّمَكُّنُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوِ الْيَدَيْنِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَتَوَكَّأَ عَلَى عَصَاهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، وَاتَّكَأَ جَلَسَ مُتَمَكِّنًا، وَفِي التَّنْزِيلِ: (وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ) 43: 34 أَيْ يَجْلِسُونَ. وَقَالَ: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) 31 أَيْ مَجْلِسًا يَجْلِسْنَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَالْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ الِاتِّكَاءَ إِلَّا الْمَيْلَ فِي الْقُعُودِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، يُقَالُ: اتَّكَأَ إِذَا أَسْنَدَ ظَهْرَهُ أَوْ جَنْبَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ هُنَا بِالْأُتْرُجِّ أَوِ الْأُتْرُنْجِ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي السُّنَّةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أَيْ أَمَرَتْ يُوسُفَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ، وَكَانَ فِي حُجْرَةٍ أَوْ مَخْدَعٍ فِي دَاخِلِ حُجْرَةِ الطَّعَامِ الَّتِي كُنَّ فِيهَا مَحْجُوبًا عَنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ خَارِجٍ عَنْهَا لَقَالَتِ: ادْخُلْ عَلَيْهِنَّ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ أَنْ يَفْجَأَهُنَّ وَهُنَّ مَشْغُولَاتٌ بِمَا يَقْطَعْنَهُ وَيَأْكُلْنَهُ، عَالِمَةً بِمَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْفُجَاءَةِ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّهْشَةِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَدُهِشْنَ لِذَلِكَ الْحُسْنِ الرَّائِعِ، وَالْجَمَالِ الْبَارِعِ، وَغِبْنَ عَنْ شُعُورِهِنَّ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بَدَلًا مِنْ تَقْطِيعِ مَا يَأْكُلْنَ، ذُهُولًا عَمَّا يَعْمَلْنَ، بِأَنِ اسْتَمَرَّتْ حَرَكَةُ السَّكَاكِينِ الْإِرَادِيَّةُ بَعْدَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ فَقْدِهَا، وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى أَكُفِّ شَمَائِلِهِنَّ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهَا مِنِ اسْتِرْخَائِهَا بِذُهُولِ تِلْكَ الدَّهْشَةِ فَقَطَعَتْهَا أَيْ جَرَحَتْهَا، وَلَوْلَا اسْتِرْخَاؤُهَا لَأَبَانَتْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُضَيِّفَتَهُنَّ تَعَمَّدَتْ جَعْلَهَا مَشْحُوذَةً فَوْقَ الْمَعْهُودِ فِي سَكَاكِينِ الطَّعَامِ مُبَالَغَةً فِي مَكْرِهَا بِهِنَّ؛ لِتَقُومَ لَهَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِنَّ بِمَا لَا يَسْتَطِعْنَ إِنْكَارَهُ،

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ كَانَ قَطْعُ إِبَانَةٍ انْفَصَلَتْ بِهِ الْكَفُّ مِنَ الْمِعْصَمِ أَوِ الْأَصَابِعُ مِنَ الْكَفِّ؟ أَمْ قَطْعُ جَرْحٍ أُطْلِقَ فِيهِ لَفْظُ بَدْءِ الشَّيْءِ عَلَى غَايَتِهِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بِالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ؟ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ إِلَى الْيَوْمِ بِالْإِرْثِ عَنْ قُدَمَاءِ الْعَرَبِ فِيمَنْ يُحَاوِلُ قَطْعَ شَيْءٍ فَتُصِيبُ السِّكِّينُ يَدَهُ فَتَجْرَحُهَا، يَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ أَوِ الْحَبْلَ (مَثَلًا) فَقَطَعْتُ يَدِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَادَ مَا أَرَدْتُهُ مِنْ قَطْعِ اللَّحْمِ يَكُونُ بِيَدِي مِمَّا أَخْطَأْتُ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ جَرَحَ عُضْوًا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَالطَّبِيبِ قَاصِدًا جَرْحَهُ إِنَّهُ قَطَعَهُ إِلَّا إِذَا بَالَغَ فِيهِ، يُقَالُ: أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ رِجْلَهُ لِيُخْرِجَ مِنْهَا شَظِيَّةً نَشِبَتْ فِيهَا فَقَطَعَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ بَالَغَ فَكَادَ يَقْطَعُهَا، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْجَرْحِ فَقَالَ: ((كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي)) يُرِيدُ فَأَخْطَأْتُ فَجَرَحْتُهَا حَتَّى كِدْتُ أَقْطَعُهَا (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) أَيْ قُلْنَ هَذَا تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا لِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ خَلَقَ هَذَا الشَّخْصَ الْعَجِيبَ فِي جَمَالِهِ وَعِفَّتِهِ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَالَمْ يُعْهَدُ لَهُ فِي النَّاسِ مِثْلٌ، إِنَّهُ لَيْسَ بَشَرًا مِثْلَنَا (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أَيْ مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ تَمَثَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَدِيعِيَّةِ الَّتِي تُدْهِشُ الْأَبْصَارَ وَتَخْلِبُ الْأَلْبَابَ (كَمَا كَانَ يُصَوِّرُ لَهُمْ صُنَّاعُهُمُ الرَّسَّامُونَ وَالنَّحَّاتُونَ أَرْوَاحَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآلِهَةَ بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ لِتَكْرِيمِهَا وَعِبَادَتِهَا) وَأَحْسَنُ كَلِمَةٍ رُوِيَتْ فِي الْآيَةِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْمَدَنِيِّ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا وَعَسَلًا فَكُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ بِالسِّكِّينِ وَيَأْكُلْنَهُ بِالْعَسَلِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَعْظَمْنَهُ وَتَهَيَّمْنَ بِهِ حَتَّى جَعَلْنَ يُحَزِّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسِّكِّينِ وَفِيهَا الْأُتْرُنْجُ، وَلَا يَعْقِلْنَ وَلَا يَحْسَبْنَ إِلَّا أَنَّهُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ، قَدْ ذَهَبَتْ عُقُولُهُنَّ مِمَّا رَأَيْنَ (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) مَا هَكَذَا يَكُونُ الْبَشَرُ، مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. انْتَهَى. فَفُسِّرَ قَطْعُ الْأَيْدِي بِحَزِّهَا، وَالْحَزُّ أَقَلُّ مَا يُحْدِثُهُ السِّكِّينُ كَالْقَرْضِ فِي الْخَشَبَةِ، وَهُنَا يَتَسَاءَلُ الْمُتَسَائِلُونَ: مَاذَا قَالَتْ لَهُنَّ، وَقَدْ غَلَبَ مَكْرُهَا مَكْرَهُنَّ؟ وَصَارَ حَالُهَا وَحَالُهُنَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ ... وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا رَآهُ فَقَالَ لِي لَوْ عَشِقْتَ هَذَا ... مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي ... يَأْمُرُ بِالْعِشْقِ مَنْ نَهَاهُ (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أَيْ حِينَئِذٍ قَالَتْ لَهُنَّ مَا يُعْلَمُ شَرْحُهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، لِمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا رَأَيْتُنَّ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَمَا أَكْبَرْتُنَّ فِي

32

أَنْفُسِكُنَّ، وَمَا فَعَلْتُنَّ بِأَيْدِيكُنَّ، وَمَا قُلْتُنَّ بِأَلْسِنَتِكُنَّ، فَذَلِكُنَّ هُوَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الْغَايَةِ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَأَسْرَفْتُنَّ فِي عَذْلِي عَلَيْهِ، إِذْ قُلْتُنَّ مِنْ قَبْلُ مَا قُلْتُنَّ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَافِ الْبُعْدِ هُوَ أَمْرُ لَوْمِهِنَّ لَهَا، أَوْ يُوسُفُ الْبَعِيدُ فِي حَقِيقَتِهِ الْبَدِيعُ فِي صُورَتِهِ عَمَّا تُصَوِّرْنَهُ بِهِ، فَمَا هُوَ عِبْرَانِيٌّ أَوْ كَنْعَانِيٌّ مَمْلُوكٌ، وَخَادِمٌ صُعْلُوكٌ، قَدْ شَغَفَ مَوْلَاتَهُ الْمَالِكَةَ لِرِقِّهِ حُبًّا وَغَرَامًا، فَهِيَ تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ ضَلَالًا مِنْهَا وَهَيَامًا، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هُوَ مَلَكٌ رُوحَانِيٌّ، تَجَلَّى فِي شَكْلٍ إِنْسَانِيٍّ، أُوتِيَ مِنْ رَوْعَةِ الْجَمَالِ مَا خَلَبَ أَلْبَابَكُنَّ فِي الْوَهْلَةِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِهِ لَكُنَّ، فَمَا قَوْلُكُنَّ فِي أَمْرِي مَعَهُ وَافْتِتَانِي بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَعْرَعَ فِي دَارِي، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى بَيْنَ سَمْعِي وَبَصَرِي، فَأَنَا أُشَاهِدُهُ فِي قُعُودِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَأَخْلُو بِهِ فِي لَيْلِي وَنَهَارِي، فَأَرَاهُ بَشَرًا سَوِيًّا، إِنْسِيًّا لَا جِنِّيًّا، وَجَسَدًا لَا مَلَكًا رُوحَانِيًّا، فَأَتَرَاءَى لَهُ فِي زِينَتِي، وَأَعْرِضُ عَلَى نَظَرِهِ مَا ظَهَرَ وَمَا خَفِيَ مِنْ مَحَاسِنِي، فَيُعْرِضُ عَنْهَا احْتِقَارًا، فَأَتَصَبَّاهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ كَلَامٍ عَذْبٍ يَخْلُبُ اللُّبَّ، وَلِينِ قَوْلٍ وَخُشُوعِ صَوْتٍ يُرَقِّقُ الْقَلْبَ، فَلَا يَصْبُو إِلَيَّ، وَأَمُدُّ عَيْنَيَّ إِلَى مَحَاسِنِهِ فِيهِمَا كُلُّ مَا يُكِنُّهُ قَلْبِي مِنْ صَبَابَةٍ وَشَوْقٍ وَخَلَاعَةٍ، مَعَ فُتُورِ جَفْنٍ، وَانْكِسَارِ طَرْفٍ، وَطُولِ تَرْنِيقٍ وَتَحْدِيقٍ، فَلَا يَرْفَعُ إِلَيَّ طَرْفًا، وَلَا يَمِيلُ نَحْوِي عَطْفًا، بَلْ تَتَجَلَّى فِيهِ الرُّوحُ الْمَلَكِيَّةُ بِأَظْهَرِ مَجَالِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْإِلَهِيَّةِ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهَا، أَمِثْلُ هَذَا الْمَلَكِ الْقَاهِرِ يُسَمَّى عَبْدًا طَائِعًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَقْهُورَةِ تُسَمَّى سَيِّدَةً مَالِكَةً، تَأْمُرُ بَلْ تَسِيرُ فَتُطَاعُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا أَنْ تُرَاوِدَ فَتُرَدُّ، ثُمَّ تُرِيدُ إِظْهَارَ سُلْطَانِهَا فَتَعْجِزُ؟ لَقَدِ انْكَشَفَ الْقِنَاعُ، فَلَا أَمْرَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ، (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أَيِ اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ الَّتِي وَرِثَهَا عَمَّنْ نَشَئُوا عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مَزِيدَ الْكَمَالِ مِنْهَا. هَهُنَا أَقُولُ: وَاللهِ مَا عَجَبِي مِنْ يُوسُفَ أَنْ رَاوَدَتْهُ مَوْلَاتُهُ فَاسْتَعْصَمَ، وَأَنْ قَالَتْ لَهُ: ((هَيْتَ لَكَ)) فَقَالَ: ((أَعُوذُ بِاللهِ)) فَكَمْ قَالَ هَذَا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَقَامُهُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِاللهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَاوَدَ أَعْرَابِيَّةً فِي لَيْلَةٍ لَيْلَاءَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرَانَا غَيْرُ كَوَاكِبِ هَذِهِ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟ وَإِنَّمَا عَجَبِي بَلْ إِعْجَابِي بِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ نَظَرَهُ إِلَى اللهِ أَوْ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ لَمْ يَدَعْ فِي قَلْبِهِ الْبَشَرِيِّ مَكَانًا خَالِيًا لِنَظَرَاتِ هَذِهِ الْعَاشِقَةِ الَّتِي شَغَفَهَا حُبًّا، لِتُصِيبَهَا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَخُونَهَا صَبْرُهَا فَتُنَفِّرُهُ بِمُصَارَحَتِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبُّ الْإِنْسَانِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولَ الْقَلْبِ عَنْهُ بِحُبِّ مَنْ لَا يُحِبُّهُ، كَمَا قِيلَ: وَنَظْرَةُ الْمَحْبُوبِ لِلْمُحِبِّ وَاللهِ عَنْ إِنْسَانٍ عَيْنُ الْقَلْبِ وَأَمَّا الْخَالِي فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّحَبُّبِ فِي اسْتِمَالَتِهِ كَمَا قَالَتْ عُلَيَّةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ الْعَبَّاسِيِّ:

تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ فَالْحُبُّ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَأَكْبَرُ مَا يَفْتِنُ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّ مِنَ الْحُبِّ لَصَادِقًا وَكَاذِبًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ لَعُذْرِيًّا عَفِيفًا، وَشَهْوِيًّا فَاسِقًا، وَإِنَّ مَفَاسِدَهُ فِي الْحَضَارَةِ لِكَبِيرَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَتَهُ لِعَظِيمَةٌ، وَسَنَعْقِدُ لَهُ فَصْلًا فِي بَابِ الْعِبْرَةِ بِالْقِصَّةِ فِي إِجْمَالِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) بِهِ، أُقْسِمُ لَكُنَّ آكَدَ الْأَيْمَانِ، وَلِتَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ الْأُذُنَانِ (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الْأَذِلَّةِ الْمَقْهُورِينَ، تَعْنِي أَنَّ زَوْجَهَا الْعَزِيزَ يُعَاقِبُهُ بِمَا تُرِيدُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ بَعْدَ تَكْرِيمِ مَثْوَاهُ وَجَعْلِهِ كَوَلَدِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا أَنْذَرَتْهُ أَوَّلًا إِذْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْتِقَائِهِمَا بِهِ لَدَى الْبَابِ: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هُنَالِكَ أَنْذَرَتْهُ أَحَدَ الْعِقَابَيْنِ: سِجْنٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ، أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّجْنُ الْمُطْلَقُ بِأَخَفِّ صُوَرِهِ وَأَقَلِّهَا، وَالْعَذَابُ الْمُنْكَرُ بِأَهْوَنِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْطَفِهَا، فَذَاكَ بِحَبْسِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنَ الدَّارِ، وَهَذَا بِلَطْمَةٍ يَحْتَدِمُ بِهَا مَا فِي خَدَّيْهِ مِنَ الِاحْمِرَارِ، وَهُنَا أَنْذَرَتْهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَأَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَفَسَّرَتِ الْعَذَابَ بِالصَّغَارِ الَّذِي تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الْكَبِيرَةُ، وَاكْتَفَتْ فِيهِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَهُوَ أَشَقُّ عَلَى مِثْلِ يُوسُفَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَهْوَنُ عَلَى كِرَامِ النَّاسِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بِاحْتِقَارِ النَّفْسِ، وَفِعْلُهُ صَغِرَ كَتَعِبَ، وَأَمَّا صَغُرَ كَضَخُمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِصِغَرِ الْجِسْمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ 9: 29. وَفِي هَذَا التَّهْدِيدِ مِنْ ثِقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِسُلْطَانِهَا عَلَى زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَمْرِهَا، وَاسْتِعْظَامِهِ لِكَيْدِهَا، مَا حَقُّهُ أَنْ يُخِيفَ يُوسُفَ مِنْ تَنْفِيذِ إِرَادَتِهَا، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ عَدَمَ غِيرَتِهِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْعَاجِزِينَ عَنْ إِحْصَانِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَحْرُومِينَ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ مِنْهُنَّ، وَمَاذَا فَعَلَ يُوسُفُ وَمَا قَالَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْمَاكِرَةَ قَدْ عِيلَ صَبْرُهَا، وَهُتِكَتْ سِتْرُهَا، وَكَاشَفَتْ نِسْوَةَ كِبَارِ بَلَدِهَا بِمَا تُسِرُّ وَمَا تُعْلِنُ مِنْ أَمْرِهَا؟ وَرَأَى أَنَّهُنَّ تَوَاطَأْنَ مَعَهَا عَلَى كَيْدِهَا، وَرَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَوَاطُؤٌ لَا قِبَلَ لِرَجُلٍ بِهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ رَبِّهِ وَحِفْظِهِ. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أَيْ قَالَ: أَيْ رَبِّي، الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِي، الْعَالِمُ بِسِرِّي وَجَهْرِي، إِنَّ الْحَبْسَ وَالِاعْتِقَالَ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ حَيْثُ شَظَفُ الْعَيْشِ أَحَبُّ إِلَى نَفْسِي، وَآثَرُ عِنْدِي عَلَى مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي تَرَفِ هَذِهِ الْقُصُورِ وَزِينَتِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِحُبِّهِنَّ عَنْ حُبِّكَ، وَبِقُرْبِهِنَّ عَنْ قُرْبِكَ، وَبِمُغَازَلَتِهِنَّ عَنْ

مُنَاجَاتِكَ، وَإِنَّمَا يُفَسَّرُ وَيُشْرَحُ هَذَا بِمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ طِبَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَسِيرَةِ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى مَا لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَدَسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّجْنِ إِلَّا الِاعْتِبَارُ بِأَحْكَامِ الْمُلُوكِ وَأَعْوَانِهِمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ عَلَى مَنْ يَسْخَطُونَ عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مِمَّا يَزِيدُنِي إِيمَانًا بِقَضَائِكَ، وَصَبْرًا عَلَى بَلَائِكَ، وَشُكْرًا لِنَعْمَائِكَ، وَعِلْمًا بِشُئُونِ خَلْقِكَ، وَيَفْتَحُ لِي بَابَ الدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، فِيمَا عَسَى أَنْ تُخَوِّلَنِي مِنَ الْأَمْرِ، إِذَا مَكَّنْتَ لِي كَمَا وَعَدْتَنِي فِي الْأَرْضِ. هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ تَوْجِيهِ التَّفْضِيلِ فِي الْحُبِّ، تَدُلُّ عَلَيْهِ حَالَةُ يُوسُفَ وَسَابِقُ قِصَّتِهِ وَلَاحِقُهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَكُّمٍ، كَمَا هُوَ دَأْبُنَا فِي كُلِّ مَا تُفَسَّرُ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ فِي جَعْلِ اسْمِ التَّفْضِيلِ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ أَوْ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ كَمَا يُقَالُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ مَحْبُوبٌ عِنْدِي وَالسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَالسِّجْنُ آثَرُ وَأَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ، وَعَاقِبَةٌ صَالِحَةٌ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُكْثِ مَعَهُنَّ، فَهُوَ أَشَقُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْعَاقِبَةِ مَا لِلسِّجْنِ، فَهُوَ - أَيِ اسْمُ التَّفْضِيلِ - مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ: هُوَ أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، يَعْنُونَ: أَقْوَى مَا فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ الْآتِي: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) 39. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ تَرْجِيحَ الْأَحَبِّ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَحْبُوبِ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَدَاعِيَةِ الطَّبْعِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصُّلَحَاءَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ يُحِبُّونَ النِّسَاءَ وَيَشْتَهُونَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَشَرِهِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى نِسَاءِ النَّاسِ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفُقَرَاءِ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ كَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَفِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ حَيْثُ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ: ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ جِمَالٍ وَمَنْصِبٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ)) وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الْمَنْصِبِ سُلْطَانًا عَلَى قَلْبِ الرَّجُلِ فَوْقَ سُلْطَانِ الْوَضِيعَةِ فِي طَبَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةَ الصُّورَةِ، فَيَثْقُلُ عَلَى طَبْعِهِ وَتَضْعُفُ إِرَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ طَلَبَهَا، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ سُلْطَانِ الْجَمَالِ وَسُلْطَانِ الْمَنْصِبِ ثُمَّ ذَلَّتْ لَهُ وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا؟

33

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ابْتَذَلَتْ نَفْسَهَا فَبَذَلَتْهَا لِلرَّجُلِ بَذْلًا، وَتَحَوَّلَ دَلُّهَا عَلَيْهِ مَهَانَةً وَذُلًّا، فَإِنَّهُ يَحْتَقِرُهَا، وَتَتَحَوَّلُ رَغْبَتُهُ فِيهَا رَغْبَةً عَنْهَا، وَكُلَّمَا تَمَنَّعَتْ عَلَيْهِ ازْدَادَ حُبًّا لَهَا وَشَوْقًا إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَنَعْتِ شَيْئًا فَأَكْثَرْتُ الْوَلُوعَ بِهِ ... أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا (قُلْنَا) : نَعَمْ إِنَّ هَذَا مُقْتَضَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ، كَمَا أَنَّ رَدَّ ذَاتِ الْجِمَالِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ ضَعْفِ الرَّجُلِ أَمَامَ الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَاوَدَةَ قَلَّمَا تَبْلُغُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَدَّ الْوَقَاحَةِ فِي الصَّرَاحَةِ فَتَكُونُ مُنَفِّرَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا احْتِيَالٌ وَمُرَاوَغَةٌ لِتَحْوِيلِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّ لِنِسَاءِ الْأَكَابِرِ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا الْحَضَارَةُ كَيْدًا فِيهَا وَخِدَاعًا، وَإِنَّ لِأُسْتَاذِهِنَّ الشَّيْطَانِ مَسَالِكًا مِنْ إِغْوَائِهِنَّ وَالْإِغْوَاءُ بِهِنَّ يَحُزُّ أَقْوَى الرِّجَالِ تُجَاهَهَا صَرِيعًا، وَلَكِنَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَعِنَايَةُ رَبِّهِمْ بِهِمْ تَغْلِبُ غِوَايَتَهُ وَمَكْرَ النِّسْوَانِ، وَقَدْ لَجَأَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ كَيْدُ بِضْعِ نِسْوَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْجِمَالِ وَالْمَنْصِبِ لَا بِضَاعَةَ لَهُنَّ إِلَّا أَبْضَاعُهُنَّ، فَقَالَ: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) يَعْنِي: إِنْ لَمْ تُحَوِّلْ عَنِّي مَا يَنْصِبْنَهُ لِي مِنْ شِرَاكِ الْكَيْدِ، وَيَمْدُدْنَهُ مِنْ شِبَاكِ الصَّيْدِ، لَمْ أَسْلَمْ مِنَ الصَّبْوَةِ إِلَيْهِنَّ، وَهِيَ الْمَيْلُ إِلَى مُوَافَقَتِهِنَّ عَلَى أَهْوَائِهِنَّ، يُقَالُ: صَبَا يَصْبُو صَبْوًا وَصَبْوَةً إِذَا مَالَ إِلَى اللهْوِ وَمَا يَطِيبُ لِلنَّفْسِ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْهُ رِيحُ الصِّبَا وَهِيَ الَّتِي تَهُبُّ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَصْبُو إِلَيْهَا لِطِيبِ نَسِيمِهَا وَرُوحِهَا، حَتَّى إِنَّ تَغَزُّلَ شُعَرَائِهِمْ بِهَا لَيُضَاهِي تَغَزُّلَهُمْ بِعَشِيقَاتِهِمْ رِقَّةً وَصَبَابَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَفَا وَامْتَزَجَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: خُذَا مِنْ صِبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ ... إِذَا هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ (وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ مِنْ صِنْفِ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ تَسْتَخِفُّهُمْ أَهْوَاءُ النَّفْسِ فَيَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَهِيَ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ، أَوْ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ

35

يَعِيشُ بَيْنَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ الْمَاكِرَاتِ الْمُتْرَفَاتِ - مِثْلِي - لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ إِلَّا بِعِصْمَتِكَ وَحِفْظِكَ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّهُ مَا صَبَا إِلَيْهِنَّ، وَلَا أَحَبَّ أَنْ يَعِيشَ مَعَهُنَّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ مُقْتَضَى الِاسْتِهْدَافِ لِكَيْدِ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُدِيمَ لَهُ مَا وَعَدَهُ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ 24. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ مَا دَعَاهُ بِهِ وَطَلَبَهُ مِنْهُ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الِابْتِهَالُ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ وَطَوَى ذِكْرَهُ إِيجَازًا فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فَلَمْ يَصْبُ إِلَيْهِنَّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى جِهَادِ نَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَعَصَمَهُ أَنْ يَكُونَ ((مِنَ الْجَاهِلِينَ)) بِاتِّبَاعِ هَوَاهُنَّ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْمُجِيبُ) لِمَنْ أَخْلَصَ لَهُ الدُّعَاءَ، جَامِعًا بَيْنَ مَقَامَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، الْعَلِيمُ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَعَطَفَ اسْتِجَابَةَ رَبِّهِ لَهُ، وَصَرْفَ كَيْدَهُنَّ عَنْهُ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَتَعْلِيلُهَا بِأَنَّهَا مُقْتَضَى كَمَالِ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْعِلْمِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَتَخَلَّ عَنْ عِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِهِ، أَقْصَرَ زَمَنٍ يَهْتَمُّ فِيهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ، وَمُؤَيِّدٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ سِيَاقِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) 21. (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ) بَدَا هَذِهِ مِنَ الْبَدَاءِ (بِالْفَتْحِ) لَا مِنَ الْبُدُوِّ الْمُطْلَقِ، أَيْ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهُ كَلِمَةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ الْبَلِيغَةُ ((فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا)) أَيْ فَمَا عَدَاكَ وَصَرَفَكَ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ مِمَّا بَدَا لَكَ الْآنَ وَكَانَ خَفِيًّا عَنْكَ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِـ (ثُمَّ) الَّتِي تُفِيدُ الِانْتِقَالَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّشَاوُرِ وَالتَّرَوِّي فِي الْأَمْرِ، وَضَمِيرُ لَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ دَارِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ وَمَنْ يَعْنِيهِ أَمْرَهُمَا كَالشَّاهِدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِـ (الْآيَاتِ) مَا شَهِدُوهُ وَاخْتَبَرُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ إِنْسَانٌ غَيْرُ الْأَنَاسِيِّ الَّتِي عَرَفُوهَا فِي عَقِيدَتِهِ وَإِيمَانِهِ وَأَخْلَاقِهِ، مِنْ عِفَّةٍ وَنَزَاهَةٍ وَاحْتِقَارٍ لِلشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ وَالْإِتْرَافِ الْمُتَّبَعِ فِي قُصُورِ هَذِهِ الْحَضَارَةِ، وَمِنْ عِنَايَةِ رَبِّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ وَيَعْتَقِدُ، فَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنْ تُفْتَنَ سَيِّدَتُهُ فِي مُرَاوَدَتِهِ، وَلَمْ يَحْدُثْ أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي جَذْبِ خُلَسَاتِ نَظَرِهِ، وَلَا فِي خَفَقَاتِ قَلْبِهِ، بَلْ ظَلَّ مُعْرِضًا عَنْهَا مُتَجَاهِلًا لَهَا، حَتَّى إِذَا مَا صَارَحَتْهُ بِكَلِمَةِ هَيْتَ لَكَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، وَاسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ، رَبِّ آبَائِهِ الَّذِينَ يَفْتَخِرُ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ، وَعَيَّرَهَا بِالْخِيَانَةِ لِزَوْجِهَا. (وَمِنْهَا) أَنَّهَا لَمَّا غَضِبَتْ وَهَمَّتْ بِالْبَطْشِ بِهِ هَمَّ بِمُقَاوَمَتِهَا وَالْبَطْشِ بِهَا وَهِيَ سَيِّدَتُهُ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَأَى مِنَ الْبُرْهَانِ فِي دَخِيلَةِ نَفْسِهِ. مُؤَيِّدًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ صَرْفِ رَبِّهِ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ عَنْهُ. (وَمِنْهَا) أَنَّهَا لَمَّا اتَّهَمَتْهُ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا وَأَرَادُوا التَّحْقِيقَ

فِي الْمَسْأَلَةِ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا هُوَ جَدِيرٌ بِالدِّفَاعِ عَنْهَا، بِمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي اتِّهَامِهَا إِيَّاهُ بِإِرَادَةِ السُّوءِ بِهَا، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ. (وَمِنْهَا) مَسْأَلَةُ انْتِشَارِ خَبَرِهَا مَعَهُ وَخَوْضِ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ فِي افْتِتَانِهَا بِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهَا بِبَذْلِهَا لَهُ مَعَ إِعْرَاضِهِ عَنْهَا. (وَمِنْهَا) مَسْأَلَةُ مَكْرِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ وَأَعْمَقِهِنَّ كَيْدًا مَعَهُ، إِذْ حَاوَلْنَ رُؤْيَتَهُ وَتَوَاطَأْنَ عَنْ مُرَاوَدَتِهِ وَدَهْشَتِهِنَّ مِمَّا شَاهَدْنَ مِنْ جَمَالِهِ، حَتَّى قَطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بَدَلًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِنَّ وَهُنَّ لَا يَشْعُرْنَ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْآيَاتِ تُثْبِتُ أَنَّ بَقَاءَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بَيْنَ رَبَّتِهَا وَصَدِيقَاتِهَا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مَثَارُ فِتْنَةٍ لِلنِّسَاءِ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهَا، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ وَالصَّوَابَ فِي أَمْرِهَا هُوَ تَنْفِيذُ رَأْيِهَا الْأَوَّلِ فِي سِجْنِهِ - وَإِنْ كَانَتْ سَيِّئَةَ النِّيَّةِ مَاكِرَةً فِيهِ - لِإِخْفَاءِ ذِكْرِهِ، وَكَفِّ أَلْسِنَةِ النَّاسِ عَنْهَا فِي أَمْرِهِ، (فَأَقْسَمُوا لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينَ) أَيْ إِلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، حَتَّى يَكُونُوا مُطْلَقِي الْحُرِّيَّةِ فِي طُولِ مُكْثِهِ وَقَصْرِهِ وَإِخْرَاجِهِ، وَيَرَوْا مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ السِّجْنِ فِيهِ وَحَدِيثِ النَّاسِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَرَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مَالِكَةً لِقِيَادِ زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ، تَقُودُهُ بِقَرْنَيْهِ كَيْفَ شَاءَ هَوَاهَا، وَأَنَّهُ كَانَ فَاقِدًا لِلْغَيْرَةِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا صِغَارِ الْأَنْفُسِ عَبِيدِ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي فِيهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى قِلَّةِ مَا أَعْجَبَنِي مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي شَوَّهَتْهَا عَلَيْهِمُ الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِعْرَابِهَا؛ قَالَ فِي تَفْسِيرِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ: وَهِيَ الشَّوَاهِدُ عَلَى بَرَاءَتِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِنْزَالِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَفَتْلِهَا مِنْهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ وَكَانَ مِطْوَاعًا لَهَا، وَجَمَلًا ذَلُولًا زِمَامُهُ فِي يَدِهَا، حَتَّى أَنْسَاهُ ذَلِكَ مَا عَايَنَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَمِلَ بِرَأْيِهَا فِي سِجْنِهِ لِإِلْحَاقِ الصَّغَارِ بِهِ كَمَا أَوْعَدَتْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا أَيِسَتْ مِنْ طَاعَتِهِ، وَطَمِعَتْ فِي أَنْ يُذَلِّلَهُ السِّجْنُ وَيُسَخِّرَهُ لَهَا. اهـ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَكْمَلَ مَثَلٍ لِلْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ نَاقِصَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِمَا هُنَا فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ مُؤَلِّفُ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْمَجْهُولُ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ.

36

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنَّ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) . (سِيرَةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي السِّجْنِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِظْهَارِ مُعْجِزَةِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّمْهِيدِ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ. (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ فَسَجَنُوهُ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ بِتَقْدِيرِ اللهِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ جَاهِلُوهُ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ: فَتَيَانِ مَمْلُوكَانِ، تَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُمَا مِنْ فِتْيَانِ مَلِكِ مِصْرَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَحَدَهُمَا خَازِنُ طَعَامِهِ وَالْآخَرَ سَاقِيهِ، فَمَاذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَهُمَا؟ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا أَيْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً كَأَنِّي أَرَاهَا فِي الْيَقَظَةِ الْآنَ وَهِيَ أَنَّنِي أَعْصِرُ خَمْرًا، أَيْ عِنَبًا لِيَكُونَ خَمْرًا لَا لِيُشْرَبَ الْآنَ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ فِي الشَّوَاذِّ ((أَعْصِرُ عِنَبًا)) تَفْسِيرٌ لَا قُرْآنُ، وَمَا كُلُّ الْعِنَبِ لِأَجْلِ التَّخْمِيرِ، فَمَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ عَرَبَ غَسَّانَ وَعَمَّانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ خَمْرًا، فَمَحْمُولٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَسُرْعَةِ اخْتِمَارِهِ، دُونَ مَا يُؤْكَلُ فِي الْغَالِبِ تَفُكُّهًا لِكِبَرِ حَجْمِهِ وَاكْتِنَازِ شَحْمِهِ وَقِلَّةِ مَائِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْنَافٌ (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) الطَّيْرُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ طَائِرٌ، وَتَأْنِيثُهُ أَكْثَرُ مِنْ تَذْكِيرِهِ،

وَجَمْعُ الْجَمْعِ: طُيُورٌ وَأَطْيَارٌ (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أَيْ قَالَ لَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَبِّئْنِي بِتَأْوِيلِ مَا رَأَيْتُ، أَيْ بِتَفْسِيرِهِ الَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ فِي الْخَارِجِ إِذَا كَانَ حَقًّا لَا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَيَصِحُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْكَثِيرِ كَاسْمِ الْإِشَارَةِ بِمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوْ مَا ذُكِرَ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِسْمِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) عَلَّلُوا سُؤَالَهُمْ عَنْ أَمْرٍ يَهُمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ دُونَهُ، بِرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بِمُقْتَضَى غَرِيزَتِهِمْ - الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ لِلنَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَاصَّةٌ وَلَا هَوًى، وَقِيلَ: ((مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) لِتَأْوِيلِ الرُّؤَى، وَمَا قَالَا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَأَيَا مِنْ سِعَةِ عِلْمِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ مَعَ أَهْلِ السِّجْنِ مَا وَجَّهَ إِلَيْهِ وُجُوهَهُمَا، وَعَلَّقَ بِهِ أَمَلَهُمَا. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ بِهِ. افْتَرَضَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثِقَةَ هَذَيْنِ السَّائِلَيْنِ بِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِصْغَاءِهِمَا لِقَوْلِهِ وَاهْتِمَامِهِمَا بِمَا يَسْمَعَانِ مِنْ تَأْوِيلِهِ لِرُؤَاهُمَا، فَبَدَأَ حَدِيثَهُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ وَهُوَ دَعْوَتُهُمَا وَسَائِرِ مَنْ فِي السِّجْنِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ وَحْيَ الرِّسَالَةِ جَاءَهُ بَعْدَ دُخُولِ السِّجْنِ فَحَقَّقَ قَوْلَهُ: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) 33 كَمَا أَنَّ وَحْيَ الْإِلْهَامِ جَاءَهُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ عَلَى مَا سَبَقَ، وَحِكْمَةُ هَذَا مِنْ نَاحِيَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ظَاهِرَةٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ مِحْنَةٍ ظَاهِرَةٍ، مِنْحَةً بَاطِنَةً، وَفِي كُلِّ بِدَايَةٍ مُحْرِقَةٍ، نِهَايَةً مُشْرِقَةً، تَحْقِيقًا لِمَا فَهِمَهُ أَبُوهُ مِنِ اجْتِبَاءِ رَبِّهِ لَهُ إِلَخْ. وَحِكْمَتُهُ مِنْ نَاحِيَةِ دَعْوَةِ الدِّينِ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ وَأَقْرَبَهُمُ اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِهَا وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا هُمُ: الضُّعَفَاءُ وَالْمَظْلُومُونَ وَالْفُقَرَاءُ. وَأَعْتَاهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ قَبُولِهَا هُمُ: الْمُتْرَفُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، بَدَأَ يُوسُفُ بِالدَّعْوَةِ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي بَيَانِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَالثِّقَةِ بِقَوْلِهِ، وَهِيَ إِظْهَارُ مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَأَقْرَبِهَا إِلَى اقْتِنَاعِهِمْ مَا يَخْتَصُّ بِمَعِيشَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُوجِبُهُ الرِّسَالَةُ مِنْ جَوَابِهِمْ، وَهُوَ: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) وَهُوَ مَالَا تَدْرُونَ، وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي هَذَا السِّجْنِ لَمَحْجُوبُونَ (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) أَيْ أَخْبَرْتُكُمَا بِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَبِمَا يُرِيدُونَ مِنْ إِرْسَالِهِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمَا: أُنَبِّئُكُمَا بِكُلِّ هَذَا مِنْ شَأْنِ هَذَا الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا. رُوِيَ أَنَّ رِجَالَ الدَّوْلَةِ كَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى الْمُجْرِمِينَ أَوِ الْمُتَّهَمِينَ طَعَامًا مَسْمُومًا يَقْتُلُونَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ هَذَا، وَمَا قُلْتُهُ يَشْمَلُ هَذَا إِذَا صَحَّ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ إِنْبَائِهِمَا بِهِ تَأْوِيلًا، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ،

37

وَهُوَ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سَمَّاهُ تَأْوِيلًا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا سَأَلَاهُ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَاهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ: لَا تَرَيَانِ فِي النَّوْمِ طَعَامًا يَأْتِيكُمَا إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ قَلَّدَهُ ((تَأْوِيلَهُ)) (بِبَيَانِ مَا هَيْئَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الْمُشْكَلِ وَالْإِعْرَابَ عَنْ مَعْنَاهُ) اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ سَرَى إِلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لَا مِنْ صَمِيمِ اللُّغَةِ (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي أُنَبِّئُكُمَا بِهِ بَعْضَ مَا عَلَّمَنِي رَبِّي بِوَحْيٍ مِنْهُ إِلَيَّ، لَا بِكِهَانَةٍ وَلَا عِرَافَةٍ وَلَا تَنْجِيمٍ، وَلَا مَا يُشْبِهُهَا مِنْ طُرُقٍ صِنَاعِيَّةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ بَشَرِيٍّ يَلْتَبِسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَشْتَبِهُ الصَّوَابُ بِالْخَطَأِ، فَهُوَ آيَةٌ، كَقَوْلِ عِيسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) 3: 49. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، أَيْ: تَرَكْتُ دُخُولَهَا وَاتِّبَاعَ أَهْلِهَا مِنْ عَابِدِي الْأَوْثَانِ الْمُنْتَحِلَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَهْلِهَا وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) 75: 36؟ أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُبْعَثُ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ سُدًى قَبْلَهُ، فَتَرْكُ الشَّيْءِ يَصْدُقُ بِعَدَمِ مُلَابَسَتِهِ مُطْلَقًا، وَبِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُنَا. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ: الْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سُكَّانِ أَرْضِ الْمِيعَادِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا، وَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ هُوَ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً مَعْرُوفَةً فِي التَّارِيخِ، أَعْظَمُهَا الشَّمْسُ وَاسْمُهَا عِنْدَهُمْ (رَعْ) وَمِنْهَا فَرَاعِنَتُهُمْ وَالنَّيْلُ وَعِجْلُهُمْ (أَبِيسُ) وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْحِيدُ خَاصًّا بِحُكَمَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَهُمُ الْآنَ يَكْفُرُونَ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِلْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْمِصْرِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ فَشَا فِيهِمْ تَصْوِيرُ هَذَا الْإِيمَانِ بِصُوَرٍ مُبْتَدَعَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ فَرَاعِنَتَهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْحَيَاةِ الْأُخْرَى بِأَجْسَادِهِمُ الْمُحَنَّطَةِ وَيَعُودُ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَالْحُكْمُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَدْفِنُونَ أَوْ يَضَعُونَ مَعَهُمْ جَوَاهِرَهُمْ وَغَيْرَهَا، وَيَبْنُونَ الْأَهْرَامَ لِحِفْظِ جُثَثِهِمْ وَمَا مَعَهَا، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا أَكَّدَ الْحُكْمَ بِالْكُفْرِ بِهَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ ((هُمْ)) لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) أَنْبِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِهِ الْخَالِصِ، وَبَيَّنَ أَسْمَاءَهُمْ مِنَ الْأَبِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى بِقَوْلِهِ: (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) فَلَفْظُ الْآبَاءِ يَشْمَلُ الْجُدُودَ وَإِنْ عَلَوْا، وَبَيَّنَ أَسَاسَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي اتَّبَعَهَا وِرَاثَةً وَتَلْقِينًا فَكَانَتْ يَقِينًا لَهُ وَلَهُمْ وَوِجْدَانًا، بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لَنَا أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنَّا

38

(أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) نَتَّخِذُهُ رَبًّا مُدَبِّرًا أَوْ إِلَهًا مَعْبُودًا مَعَهُ، لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنَ الْبَشَرِ (كَالْفَرَاعِنَةِ) فَضْلًا عَمَّا دُونَهُمَا مِنَ الْبَقَرِ (كَالْعِجْلِ أَبِيسَ) أَوْ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ مَا يَتَّخِذُهُ لِهَذِهِ الْآلِهَةِ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا) بِهِدَايَتِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِوَحْيِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَعَلَى النَّاسِ بِإِرْسَالِنَا إِلَيْهِمْ نَنْشُرُ فِيهِمْ دَعْوَتَهُ، وَنُقِيمُ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ، وَنُبَيِّنُ لَهُمْ هِدَايَتَهُ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ أَرْبَابًا وَآلِهَةً مِنْ خَلْقِهِ، يَذِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ مِثْلُهُمْ أَوْ أَدْنَى مِنْهُمْ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمَا بِبُطْلَانِ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى بُرْهَانِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بِبُرْهَانِهِ) (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ) أَضَافَهُمَا إِلَى السِّجْنِ بِمَعْنَى يَا سَاكِنَيِ السِّجْنِ، أَوْ بِمَعْنَى يَا صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ. كَمَا قِيلَ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. أَيْ سَارِقَهُمْ فِيهَا (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ بَعْدَ تَخْيِيرٍ، وَمُقْدِّمَةٌ لِأَظْهَرِ بُرْهَانٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ يَعْبُدُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقِينَ فِي ذَوَاتِهِمْ، وَفِي صِفَاتِهِمُ الْمَعْنَوِيَّةِ يَنْعَتُونَهُمْ بِهَا، وَفِي صِفَاتِهِمُ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يُصَوِّرُهَا لَهُمُ الْكَهَنَةُ وَالرُّؤَسَاءُ بِالرُّسُومِ الْمَنْقُوشَةِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَنْصُوبَةِ فِي الْمَعَابِدِ وَالْهَيَاكِلِ، وَفِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْنِدُونَهَا إِلَيْهِمْ بِزَعْمِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ لِصَاحِبَيْهِ: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) أَيْ عَدِيدُونَ، هَذَا شَأْنُهُمْ فِي التَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ بِطَبْعِهِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالتَّدْبِيرِ الْمُفْسِدِ لِلنِّظَامِ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا وَلِغَيْرِكُمَا مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ، فِيمَا تَطْلُبُونَ وَيَطْلُبُونَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ، وَكُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَمِ اللهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ، الْخَالِقُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ الْوَاحِدُ.

40

فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّسْخِيرِ، الَّذِي لَا يُنَازَعُ وَلَا يُعَارَضُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ الْقَهَّارُ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ، وَعِزَّتِهِ الْغَالِبَةِ، لِجَمِيعِ الْقُوَى وَالسُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَالنُّورِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي كَانَ الْجَهْلُ بِحَقِيقَتِهَا، وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَظَاهِرِهَا، هُوَ سَبَبُ عِبَادَتِهَا وَالْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِهَا. الْجَوَابُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ أَدْرَكَا السُّؤَالَ: (بَلْ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ، لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ: وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أَيْ غَيْرَ هَذَا الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ وَضَعْتُمُوهَا لِمُسَمَّيَاتٍ نَحَلْتُمُوهَا صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْمَالَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ، فَاتَّخَذْتُمُوهَا أَرْبَابًا وَمَا هِيَ بِأَرْبَابٍ تَخْلُقُ، وَلَا تَرْزُقُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُدَبِّرُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الرَّبِّ الْإِلَهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ خَيْرٌ (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا) أَيْ بِتَسْمِيَتِهَا أَرْبَابًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (مِنْ سُلْطَانٍ) أَيْ: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، فَيُقَالُ إِنَّكُمْ تَتَّبِعُونَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ - تَعَالَى - مِنْهُ، تَعَبُّدًا لَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَةً لِرُسُلِهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا أَوْ تَعْظِيمُهَا غَيْرَ مُنَافٍ لِتَوْحِيدِهِ، كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهُ حَجَرٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ - فَهِيَ تَسْمِيَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّقْلِ السَّمَاوِيِّ فَتَكُونُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَقْلِ فَتَكُونُ مِنْ نَتَائِجِ الْبُرْهَانِ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا قَامَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّصَارَى بِبُطْلَانِ ثَالُوثِهِمُ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ ثَالُوثَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ، ادَّعُوا أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَوْ تَلَامِيذِهِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، فَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنَّ كَلِمَاتِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَهَا مَعَانٍ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْمَسِيحِ فِي حَيَاتِهِ، هِيَ غَيْرُ الْمَعَانِي الِاصْطِلَاحِيَّةِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْكَاثُولِيكِ وَالْأُرْثُوذُكْسِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْثَرِ النَّصَارَى. وَالْأَحْرَارُ الْعَقْلِيُّونَ مِنْ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ يَرْفُضُونَهَا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مَلَايِينُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ وَيُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا، كَمَا أَسْلَمُوا فِطْرَةً وَعَقْلًا. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ الْحَقُّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ يُوحِيهِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ، لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَا بِعَقْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، وَلَا بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.

ثُمَّ بَيَّنَ أَوَّلَ أَصْلٍ بُنِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ مَنْ عَرَفَهَا، فَقَالَ: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) بَلْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَادْعُوا وَاعْبُدُوا، وَلَهُ وَحْدَهُ فَارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ فَتَوَجَّهُوا، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَلَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا كَاهِنًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا نَجْعًا وَلَا شَجَرًا، وَلَا نَهْرًا مُقَدَّسًا كَالْكِنْجِ وَالنِّيلِ، وَلَا حَيَوَانًا كَالْعِجْلِ أَبِيسَ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ لَا يَذِلُّ نَفْسَهُ بِالتَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ خَاضِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ جِنْسِهِ وَمَادَّةُ حَيَاةِ شَخْصِهِ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) 20: 50 فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَجْهَلُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْحِسَابِ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ الْحَقُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ أَقْوَامَهُمْ وَمِنْهُمْ آبَائِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، لِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقَةً لَيْسَ لَهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ أَدْنَى نَصِيبٍ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ فِي مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تُتْلَى فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِالْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ، صَارَ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِ اللهِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ أَوْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضِ مَا يُحِبُّونَ مِنَ النَّفْعِ، فَيَدْعُونَهُمْ خَاشِعِينَ رَاغِبِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسَمُّونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِلَ عِنْدَ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ جَمِيعَ رُسُلِ اللهِ دَعُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ، كَمَا يَفْهَمُونَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْإِفْرِنْجِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا فِي الصُّحُفِ وَفِي أَسْفَارِ التَّارِيخِ وَفِيمَا يُسَمُّونَهُ فَلْسَفَةَ الدِّينِ أَوْ فَلْسَفَةَ التَّفْكِيرِ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ نَشَئُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زُهَاءِ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِتَصْرِيحِهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ رُسُلًا دَعَوْهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ الْمَيِّتِينَ وَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالْأَصْنَامَ، وَكَانَ الْبَشَرُ قَبْلَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَتَوْحِيدِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَدْعُ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ التَّوْحِيدِ مِنْ شَرْعِ آبَائِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا أَصْحَابَ شَرِيعَةٍ تَامَّةٍ لَمْ يُبْعَثْ لِنَسْخِهَا وَلَا لِتَغْيِيرِهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ سَمَاوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَأَحْدَثُوا تَقَالِيدَ خَيَالِيَّةً فِي الْبَعْثِ، فَهُوَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) 37 يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ فَنَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَبَعْثَهُمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى لَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَمَا يَزْعُمُونَ، وَعَقَائِدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُدَوَّنَةٌ فِي التَّارِيخِ الْمَأْخُوذِ مِنْ آثَارِ الْفَرَاعِنَةِ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَنِّطُونَ أَجْسَادَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ الَّتِي فَارَقَتْهَا، وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَحْفَظُونَ فِي أَهْرَامِهِمْ وَغَيْرِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ يَعُودُونَ مُلُوكًا كَمَا كَانُوا، فَهَذِهِ أَبَاطِيلُ طَرَأَتْ عَلَى الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَقَالِيدُهُ هَذِهِ مَنْقُوشَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَهْرَامِ وَتَوَابِيتِ الْمَوْتَى وَصَفَائِحِ الْقُبُورِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِنَعِيمِ الْعَوَامِّ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَشَكَّلُونَ بِالصُّوَرِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَتَشَكُّلُ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ هُوَ الْأَصْلُ الْعِلْمِيُّ الْمَعْقُولُ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ فِي هَيْكَلٍ أَثِيرِيٍّ يَلْبَسُ جَسَدًا كَثِيفًا كَالْجَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللهُ - وَمِنْهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَشَكُّلِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّشَكُّلُ عَلَى أَكْمَلِهِ فِي الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِهَا. وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَتَرْكُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَكَانَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا كَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي بَيْتِ وَزِيرِ الْبِلَادِ وَفِي السِّجْنِ ثُمَّ فِي إِدَارَتِهِ لِأُمُورِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى سَائِرِ شَرِيعَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي احْتِيَالِهِ عَلَى أَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ بِمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِقَوْلِ اللهِ - تَعَالَى -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) 76. الْخَ. وَبَعْدَ أَنْ أَدَّى يُوسُفُ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَبَّرَ لِصَاحِبَيْهِ رُؤْيَاهُمَا بِقَوْلِهِ:

41

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (تَأْوِيلُهُ لِمَنَامَيْ صَاحِبَيِ السَّجْنِ وَوَصِيَّتُهُ لِلنَّاجِي مِنْهُمَا) : (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا) وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) يَعْنِي بِرَبِّهِ: مَالِكُ رَقَبَتِهِ وَهُوَ الْمَلِكُ، لَا رُبُوبِيَّةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَلِكُ مِصْرَ فِي عَهْدِ يُوسُفَ لَمْ يَدَعِ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ الرُّعَاةِ الَّذِينَ مَلَكُوا الْبِلَادَ عِدَّةَ قُرُونٍ (وَأَمَّا الْآخَرُ) وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أَيِ الطَّيْرُ الَّتِي تَأْكُلُ اللُّحُومَ كَالْحِدَأَةِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ قَرِيبٌ مِنْ أَصْلِ رُؤْيَا كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَوَاطِرِهِمَا النَّوْمِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ مُكَاشَفَاتِ يُوسُفَ وَيُؤَكِّدُهَا قَوْلُهُ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) فَهَذَا نَبَأٌ زَائِدٌ عَلَى تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا، وَرَدَ مَوْرِدَ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمَا، أَوْ أَسْئِلَةٍ فِي صِفَةِ ذَلِكَ التَّعْبِيرِ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ يَجُوزُ غَيْرُهُ وَمَتَى يَكُونُ؟ فَهُوَ يَقُولُ لَهُمَا: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَهُمُّكُمَا أَوْ يُشْكَلُ عَلَيْكُمَا وَتَسْتَفْتِيَانِي فِيهِ قَدْ قُضِيَ وَبَتَّ فِيهِ وَانْتَهَى حُكْمُهُ. وَالِاسْتِفْتَاءُ فِي اللُّغَةِ السُّؤَالُ عَنِ الْمُشْكَلِ الْمَجْهُولِ، وَالْفَتْوَى جَوَابُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَبَأً أَمْ حُكْمًا، وَقَدْ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى عُمُومِهِ: أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ 43 وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُتُوَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْمَضَاءِ وَالثِّقَةِ. قُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زَائِدَةٌ عَلَى مَا عَبَّرَ بِهِ رُؤْيَاهُمَا، دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْمُكَاشَفَةِ وَنَبَّأَ الْغَيْبَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَجَعَلَهُ آيَةً لَهُ لِيَثِقُوا بِقَوْلِهِ وَهُمْ أُولُو عِلْمٍ وَفَنٍّ وَسِحْرٍ، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ حَكَمَ فِي أَمْرِهِمَا بِمَا قَالَهُ، لَا مِنْ بَابِ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا رَأَيَا مِنَ النَّوْعِ الصَّادِقِ مِنْهَا لَا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ (وَسَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ لِكُلِّيَّاتِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى) .

42

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) وَهُوَ الَّذِي أَوَّلَ لَهُ رُؤْيَاهُ بِأَنَّهُ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَتَأْوِيلُهَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاتِهِ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَتْوَاهُ بَعْدَهُ عَنْ وَحْيٍ نَبَوِيٍّ كَمَا رَجَّحْنَا لَا تَتِمَّةَ لِتَأْوِيلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ نَجَاتِهِ بِالظَّنِّ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ قَضَاءِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَحُولُ دُونَ تَنْفِيذٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ أَبُوهُ مِنْهَا مِنْ أَمْرِ مُسْتَقْبَلِهِ، أَنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِجْمَالِيٌّ إِلَخْ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا مَحَلَّ لِإِعَادَتِهِ هُنَا: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أَيْ عِنْدَ سَيِّدِكَ الْمَلِكِ، بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَعَلِمْتَ مِنْ أَمْرِي عَسَى أَنْ يُنْصِفَنِي مِمَّنْ ظَلَمُونِي وَيُخْرِجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَهَذَا الذِّكْرُ يَشْمَلُ دَعْوَتَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَأْوِيلَهُ لِلرُّؤْيَا، وَإِنْبَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِ، وَآخِرُهُ فَتْوَاهُ الصَّرِيحَةُ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ بِهِ كُلَّمَا قَدَّمَ لِلْمَلِكِ شَرَابَهُ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أَيْ أَنْسَى السَّاقِي تَذُكُّرَ رَبِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ عِنْدَهُ عَلَى حَدِّ: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) 18: 63 (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) مَنْسِيًّا مَظْلُومًا، وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْجَارِي عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - الْآتِي قَرِيبًا: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) 45 أَيْ تَذَكَّرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ وَتَقْدِيرٍ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَيْهِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَكَرَ إِخْبَارَ رَبِّهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعَاقَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِإِبْقَائِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وَقَالُوا: إِنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ هَذَا الْعِقَابَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى الْمَلِكِ لِإِخْرَاجِهِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَجَاءُوا عَلَيْهِ بِرِوَايَاتٍ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ أَوِ الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنْ قَبِلَهَا عَلَى عِلَّاتِهَا الْجُمْهُورُ كَعَادَتِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) عَطْفُ الْإِنْسَاءِ عَلَى مَا قَالَهُ لِلسَّاقِي بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ عَقِبَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - قَبْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَهُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ ذَنْبًا عُوقِبَ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ

بِجُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ بِأَنْ يُقَالَ: وَقَدْ أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ - أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ - فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ، فَاسْتَحَقَّ عِقَابَهُ - تَعَالَى - بِإِطَالَةِ مُكْثِهِ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ وَحْدَهُ. (الثَّانِي) أَنَّ اللَّائِقَ بِمَقَامِهِ أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَّا مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ مَا خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا بِأَمْرِ الْمَلِكِ، وَمَا أَمَرَ الْمَلِكُ بِإِخْرَاجِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ السَّاقِي خَبَرَهُ، وَمَا آتَاهُ رَبُّهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الرُّؤَى وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ، فَإِذَا كَانَ قَدْ وَصَّاهُ بِذَلِكَ مُلَاحِظًا أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي عِبَادِهِ مُتَذَكِّرًا ذَلِكَ - وَهُوَ اللَّائِقُ بِهِ - فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُعَاقِبَهُ رَبُّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَعَطْفُ الْإِنْسَاءِ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ هِيَ ذَنْبًا وَلَا مُقْتَرِنَةً بِذَنْبٍ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ. (الثَّالِثُ) إِذَا قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ عِنْدَمَا أَوْصَى السَّاقِي مَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَهُ عَقِبَ الْوَصِيَّةِ وَاتَّكَلَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا. (قُلْنَا) : إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ النِّسْيَانُ مُدَّةَ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَهُوَ بِضْعُ سِنِينَ أَوْ تَتِمَّتُهَا، كُنْتُمْ قَدِ اتَّهَمْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ تُهْمَةً فَظِيعَةً لَا تَلِيقُ بِأَضْعَفِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، بَلْ يُبْطِلُهَا وَصْفُ اللهِ لَهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَمِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ الْمُصْطَفَيْنَ، وَبِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وَكَيْدَ النِّسَاءِ. وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَاهُ ذِكْرَ رَبِّهِ بُرْهَةً قَلِيلَةً عَقِبَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَاقَبَتِهِ لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَذِكْرِهِ فَهَذَا النِّسْيَانُ الْقَلِيلُ، لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْعِقَابَ الطَّوِيلَ، وَلَمْ يُعْصَمْ مِنْ مِثْلِهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: الرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ. (الرَّابِعُ) جَاءَ فِي نُصُوصِ التَّنْزِيلِ فِي خِطَابِ الشَّيْطَانِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) 15: 42 وَقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) 7: 201 فَالتَّذَكُّرُ بَعْدَ النِّسْيَانِ الْقَلِيلِ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ التَّقْوَى. (الْخَامِسُ) أَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ ذَنْبًا يُعَاقِبُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 6: 68 يَعْنِي الَّذِينَ أَمَرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ إِذَا رَآهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ. (السَّادِسُ) أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَوَوْا فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَلَى قِلَّةِ جُرْأَةِ الرُّوَاةِ

عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الْمُسْنَدَةِ فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ)) وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بَاطِلٌ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا. سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْجَوْزِيُّ أَضْعَفُ مِنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ مِنَ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مُرْسَلًا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَهَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ هَهُنَا لَا تُقْبَلُ لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. وَأَقُولُ: أَوَّلًا: إِنَّ مَا قَالَهُ فِي هَذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ لِلْحَدِيثِ هُوَ أَهْوَنُ مَا قِيلَ فِيهِمَا، وَمِنْهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَكْذِبَانِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ (هَهُنَا) الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مُرْسَلٍ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَلَّا تَحْجُبَهُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ عَنْ وَاضِعِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَخَالِقِهَا - عَزَّ وَجَلَّ -. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ) مَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَهُوَ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمَرَاسِيلِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْمَرَاسِيلِ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ الْإِجْمَالِيِّ عَنْ رِوَايَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِتَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَمَا رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ مِنْ خِطَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَخِطَابِ جِبْرِيلَ لِيُوسُفَ وَتَوْبِيخِهِ عَلَى الِاسْتِشْفَاعِ بِآدَمِيٍّ مِثْلِهِ، فَهِيَ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا جَزَاهُمُ اللهُ مَا يَسْتَحِقُّونَ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَأْثُورَ فِي الْآيَةِ بَاطِلٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وَعَقِيدَةً وَلُغَةً وَأَدَبًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةٍ لُبْثِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ ((الْبِضْعِ)) وَاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى السَّبْعِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ فِي مُدَّةِ سِجْنِ يُوسُفَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ السَّبْعَ كَانَتْ بَعْدَ وَصِيَّتِهِ لِلسَّاقِي وَأَنَّهُ لَبِثَ قَبْلَهَا خَمْسَ سِنِينَ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

43

(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . رُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ وَتَأْوِيلِ يُوسُفَ لَهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ: كَانَ مَلِكُ مِصْرَ فِي عَهْدِ يُوسُفَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِينَ بِالرُّعَاةِ (الْهِكْسُوسِ) كَمَا يَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ، وَقَدْ رَأَى رُؤْيَا عَجَزَ رِجَالُ دَوْلَتِهِ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْكَهَنَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَكَانَ عَجْزُهُمْ سَبَبًا لِلُّجُوءِ إِلَى يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاتِّصَالِهِ بِالْمَلِكِ وَتَوَلِّيهِ مَنْصِبَ الْوَزِيرِ الْمُفَوَّضِ عِنْدَهُ، كَمَا بُيِّنَ فِي الْآيَاتِ مَبْدَأً وَغَايَةً. قَالَ - تَعَالَى -: (وَقَالَ الْمَلِكُ) هَذَا السِّيَاقُ عَطْفٌ عَلَى سِيَاقِ ((صَاحِبَيِ السِّجْنِ)) وَمَا قَالَاهُ فِي قَصِّ رُؤَاهُمَا عَلَى يُوسُفَ: (إِنِّي أَرَى) أَيْ رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رُؤْيَا جَلِيَّةً مَاثِلَةً أَمَامِي كَأَنِّي أَرَاهَا

الْآنَ (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) جَمْعُ سَمِينَةٍ وَكَذَا سَمِينٌ كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَحِسَانٌ (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) أَيْ سَبْعُ بَقَرَاتٍ مَهَازِيلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْهُزَالِ، وَهُوَ جَمْعُ عَجْفَاءَ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا فَإِنَّ جَمْعَ أَفْعَلِ وَفَعْلَاءِ وِزَانُ فُعْلِ بِالضَّمِّ كَحُمْرِ وَخُضْرِ، وَحُسْنُهُ هُنَا مُنَاسَبَتُهُ لِـ ((سِمَانٍ)) . (وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ) عَطْفٌ عَلَى (سَبْعَ بَقَرَاتٍ) وَهِيَ جَمْعُ سُنْبُلَةٍ كَقُنْفُدَةٍ: مَا يُخْرِجُهُ الزَّرْعُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَيَكُونُ فِيهِ الْحَبُّ (وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْيَابِسُ مِنَ السُّنْبُلِ مَا آنَ حَصَادُهُ، وَاسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ ((سَبْعِ)) هُنَا بِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ فِي الْبَقَرَاتِ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ يُخَاطِبُ رِجَالَ دَوْلَتِهِ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) مَا مَعْنَاهَا وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَآلًا لَهَا (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أَيْ تَعْبُرُونَهَا بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعْنَى الْخَيَالِيِّ، كَمَنْ يَعْبُرُ النَّهْرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَاللَّامُ فِيهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّقْوِيَةِ، فَعَبْرُهَا وَعُبُورُهَا بِمَعْنَى. . . تَأْوِيلِهَا، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَآلِهَا الَّذِي يَقَعُ بَعْدُ. (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) أَيْ هِيَ، أَوْ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ جِنْسِ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، أَيِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلَطَةِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْأَخْيِلَةِ الَّتِي يَتَصَوَّرُهَا الدِّمَاغُ فِي النَّوْمِ فَلَا تَرْمِي إِلَى مَعْنًى مَقْصُودٍ، وَأَصْلُ الْأَضْغَاثِ جَمْعُ ضِغْثٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحُزْمَةُ مِنَ النَّبَاتِ أَوِ الْعِيدَانِ، وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلُمٍ بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ. يُقَالُ: حَلَمَ كَنَصَرَ وَاحْتَلَمَ، وَمِنْهُ بُلُوغُ الْحُلُمِ، وَالْحُلُمُ قَدْ يَكُونُ وَاضِحَ الْمَعْنَى كَالْأَفْكَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ يَكُونُ - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - مُشَوَّشًا مُضْطَرِبًا لَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالتَّضَاغِيثِ، كَأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُزَمٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْحَشَائِشِ الَّتِي لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا، وَهُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ مِنْ نَوْعَيِ الْبَقَرِ وَالسَّنَابِلِ (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأُولِي عِلْمٍ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِطَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَنَامَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَفْهُومَةِ، وَيُحْتَمَلُ نَفْيُ الْعِلْمِ بِجِنْسِ الْأَحْلَامِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ، أَوْ مِمَّا لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى بَعِيدٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الصُّوَرُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّوْمِ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَمَا يُنْكِرُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْآنَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا. وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ الْكُلِّيَّةِ لِتَفْسِيرِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَهُوَ السَّاقِي أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِصَّةِ (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ طَائِفَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ وَصِيَّةَ يُوسُفَ إِيَّاهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْمَلِكِ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ (وَأَصْلُ ادَّكَرَ اذْتَكَرَ) افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ أُبْدِلَتْ تَاؤُهُ دَالًا مُهْمَلَةً لِقُرْبِ مَخْرَجِهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ، وَهُوَ الْفَصِيحُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ لُغَةٌ. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ أَوْ بِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ فَأَرْسَلُونِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى السِّجْنِ فَهُوَ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجْنَ كَانَ خَارِجَ

46

الْبَلَدِ. وَفِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ: قَالَ الْقُضَاعِيُّ سِجْنُ يُوسُفَ بِبُوصِيرَ مِنْ عَمَلِ الْجِيزَةِ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَكَانِ، وَفِيهِ أَثَرُ نَبِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوسُفُ سُجِنَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّ مَبْلَغَهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَالْآخِرُ مُوسَى، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى أَثَرِهِ مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ مُوسَى إِلَخْ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يُوثَقُ بِهَا. (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أَيْ قَالَ فَأَرْسَلُونِي إِلَيْهِ فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ فَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَلَأُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ، مُنَادِيًا لَهُ بِاسْمِهِ وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ لَقَبِهِ الصِّدِّيقُ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ غَايَةَ الْكَمَالِ بِالصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَتَعْبِيرِ الْأَحْلَامِ، شَارِحًا لَهُ رُؤْيَا الْمَلِكِ بِنَصِّهَا - وَهُوَ بَسْطٌ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ إِيجَازٍ فِي مَحَلِّهِ - قَائِلًا: (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) وَعَلَّلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءَ بِمَا يَرْجُو أَنْ يُحَقِّقَ لِيُوسُفَ أَمَلَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَانْتِفَاعِ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أُولِي الْأَمْرِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِمَا تُلْقِيهِ إِلَيَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالرَّأْيِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَكَانَتَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُونَ مَا جَهِلُوا مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى تَعْلِيلٌ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِإِفْتَائِهِ، وَلَعَلَّ الثَّانِيَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَالرَّجَاءُ تَوَقُّعُ خَيْرٍ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ. (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أَيْ قَالَ يُوسُفُ مُبَيِّنًا لِلْمَلَأِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُ، لِتَلَافِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنَ الْخَطَرِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَبْلَ وُقُوعِ تَأْوِيلِهَا الَّذِي بَيَّنَهُ فِي سِيَاقِ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَمَلِيِّ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ وَالْإِيجَازِ، وَلَا تَجِدُ لَهُ ضَرِيبًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ أُولِي الْأَمْرِ بِمَا لَقَّنَهُ لِلسَّاقِي خِطَابَ الْآمْرِ لِلْمَأْمُورِ الْحَاضِرِ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّرُوعَ فِي زِرَاعَةِ الْقَمْحِ دَائِبِينَ عَلَيْهِ دَأَبًا مُسْتَمِرًّا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) 14: 33 سَبْعَ سِنِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) 61: 11 وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ يُوجَدُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ قَوْلُهُ: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أَيْ فَكُلُّ مَا حَصَدْتُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ زَرْعَةٍ فَاتْرُكُوهُ - أَيِ ادَّخِرُوهُ - فِي سُنْبُلِهِ بِطَرِيقَةٍ تَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ بِعَدَمِ سَرَيَانِ الرُّطُوبَةِ إِلَيْهِ: الْحَبُّ لِغِذَاءِ النَّاسِ وَالتِّبْنُ لِغِذَاءِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْجُوعِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقْنَعُونَ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ بِالْقَلِيلِ، فَهَذِهِ السِّنِينُ السَّبْعُ تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ، وَالسُّنْبُلَاتُ السَّبْعُ الْخُضْرُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي كَوْنِ كُلِّ سُنْبُلَةٍ تَأْوِيلًا لِزَرْعِ سَنَةٍ. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) أَيْ سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ فِي مَحَلِّهِنَّ وَجَلْبِهِنَّ

48

(يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) أَيْ يَأْكُلُ أَهْلُهُنَّ كُلَّ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِسْنَادِهِمْ إِلَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَيَكْثُرُ إِسْنَادُ الْعُسْرِ وَالْجُوعِ إِلَى سِنِيِّ الْجَدْبِ، يُقَالُ: أَكَلَتْ لَنَا هَذِهِ السَّنَةُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَمْ تُبْقِ لَنَا خَفِيًّا وَلَا حَافِرًا، وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا، أَيْ لَا شَعْرًا وَلَا صُوفًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ الْعِجَافِ وَأَكْلِهِنَّ لِلسَّبْعِ السِّمَانِ، وَلِلسُّنْبُلَاتِ الْيَابِسَاتِ (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أَيْ تُحْرِزُونَ وَتَدَّخِرُونَ لِلْبَذْرِ. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ السَّبْعُ الشِّدَادُ (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أَيْ فِيهِ يُغِيثُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الشِّدَّةِ أَتَمَّ الْإِغَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، يُقَالُ: غَاثَهُ يَغُوثُهُ وَغَوَاثًا (بِالْفَتْحِ) وَأَغَاثَهُ إِغَاثَةً إِذَا أَعَانَهُ وَنَجَّاهُ، وَغَوَّثَ الرَّجُلُ، قَالَ: (وَاغَوْثَاهُ) وَاسْتَغَاثَ رَبَّهُ اسْتَنْصَرَهُ وَسَأَلَهُ الْغَوْثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَيْثِ وَهُوَ الْمَطَرُ، إِذْ يُقَالُ: غَاثَ اللهُ الْبِلَادَ غَيْثًا إِذَا أَنْزَلَ فِيهَا الْمَطَرَ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ خِصْبَ مِصْرَ يَكُونُ بِفَيَضَانِ النِّيلِ لَا بِالْمَطَرِ، فَإِنَّ فَيَضَانَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّهُ فِي مَجَارِيهِ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، فَاعْتِرَاضُ بَعْضِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَزَعْمُهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِنَ الْغَيْثِ وَأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، جَهْلٌ زَيَّنَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ تَلَذُّذًا بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ، (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي يَأْتَدِمُونَ بِهَا وَيَسْتَصْبِحُونَ كَالزَّيْتِ مِنَ الزَّيْتُونِ وَالْقُرْطُمِ وَغَيْرِهِ، وَالشَّيْرَجِ مِنَ السِّمْسِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَشْرِبَةِ مِنَ الْقَصَبِ وَالنَّخِيلِ وَالْعِنَبِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ هَذَا الْعَامَ عَظِيمُ الْخِصْبِ وَالْإِقْبَالِ، وَيَكُونُ لِلنَّاسِ فِيهِ كُلُّ مَا يَبْغُونَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْإِتْرَافِ، وَالْإِنْبَاءُ بِهَذَا زَائِدٌ عَلَى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ سِنِيِّ الشِّدَّةِ وَالْجَدْبِ دُونَ ذَلِكَ، فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّفْصِيلُ لَمْ يَعْرِفْهُ يُوسُفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا مُقَابِلَ لَهُ فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ تَأْوِيلِهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ((تَعْصِرُونَ)) بِالْخِطَابِ كَـ ((تَزْرَعُونَ)) وَ ((تُحْصِنُونَ)) . وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَطْفٌ عَلَى (يُغَاثُ النَّاسُ) وَفَائِدَةُ الْقِرَائَتَيْنِ: بَيَانُ الْمِنَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ، وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ.

50

(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) . (طَلَبُ الْمَلِكِ لِيُوسُفَ وَتَمَكُّثُهُ فِي الْإِجَابَةِ لِأَجْلِ التَّحْقِيقِ فِي مَسْأَلَةِ النِّسْوَةِ) : مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ الْمَلِكَ وَمَلَأَهُ مَا قَالَهُ لَهُ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْخَطْبَ جَلَلٌ، وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ذُو عِلْمٍ وَاسِعٍ، وَتَدْبِيرٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِيمَا يَصِفُهُ مِنْ حَالَيِ: السِّعَةِ وَالشِّدَّةِ، وَقَدْ طُوِيَ ذَلِكَ إِيجَازًا لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) لِأَسْمَعَ كَلَامَهُ بِأُذُنِي، وَأَخْتَبِرَ تَفْصِيلَ رَأْيِهِ وَدَرَجَةَ عَقْلِهِ بِنَفْسِي فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ وَبَلَّغَهُ أَمْرَ الْمَلِكِ (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) قَبْلَ شُخُوصِي إِلَيْهِ وَوُقُوفِي بَيْنَ يَدَيْهِ: (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أَيْ مَا حَقِيقَةُ أَمْرِهِنَّ مَعِي، فَالْبَالُ: الْأَمْرُ الَّذِي يُهْتَمُّ بِهِ وَيُبْحَثُ عَنْهُ، فَهُوَ يَقُولُ: سَلْهُ عَنْ حَالِهِنَّ لِيَبْحَثَ عَنْهُ وَيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ آتِيَهُ وَأَنَا مُتَّهَمٌ بِقَضِيَّةٍ عُوقِبْتُ عَلَيْهَا أَوْ عَقِبُهَا بِالسِّجْنِ، وَطَالَ مُكْثِي فِيهِ وَأَنَا غَيْرُ مُذْنِبٍ فَأَقْبَلُ مِنْهُ الْعَفْوَ (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) وَقَدْ صَرَفَهُ عَنِّي فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْهُ سُوءٌ مَعَهُنَّ، وَرَبُّكَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَ رَبِّي مِنْهُ. وَفِي هَذَا التَّرَيُّثِ وَالسُّؤَالِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ فِي أَخْلَاقِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَقْلِهِ وَأَدَبِهِ فِي سُؤَالِهِ (مِنْهَا) دَلَالَتُهُ عَلَى صَبْرِهِ وَأَنَاتِهِ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ لَقِيَ مَا لَقِيَ مِنَ الشَّدَائِدِ أَنْ يَكُونَ صَبُورًا حَلِيمًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ نَبِيًّا وَارِثًا لِإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ ((بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ)) ؟ وَفِي حَدِيثِ

51

أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: ((وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ)) وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: ((لَوْ كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ)) وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي تَعَجُّبِ النَّبِيِّ مِنْ صَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَوْنِهِ لَوْ كَانَ مَكَانَهُ لَمَا أَوَّلَ لَهُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ، وَلَوْ أَتَاهُ الرَّسُولُ لَبَادَرَهُمُ الْبَابَ. فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. (وَمِنْهَا) عِزَّةُ نَفْسِهِ وَحِفْظُ كَرَامَتِهَا؛ إِذْ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِالْبَاطِلِ حَتَّى يُظْهِرَ بَرَاءَتَهُ وَنَزَاهَتَهُ. (وَمِنْهَا) وُجُوبُ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَإِبْطَالُ التُّهَمِ الَّتِي تُخِلُّ بِالشَّرَفِ كَوُجُوبِ اجْتِنَابِ مُوَافَقَتِهَا. (وَمِنْهَا) مُرَاعَاتُهُ النَّزَاهَةَ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَرْكُ أَمْرِ التَّحْقِيقِ إِلَى الْمَلِكِ يَسْأَلُهُنَّ مَا بَالُهُنَّ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَيَنْظُرُ مَا يُجِبْنَ بِهِ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَيِّدَتَهُ مَعَهُنَّ وَهِيَ أَصْلُ الْفِتْنَةِ وَفَاءً لِزَوْجِهَا وَرَحْمَةً بِهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَ شَغَفِهَا بِهِ كَانَ وِجْدَانًا قَاهِرًا لَهَا، وَإِنَّمَا اتَّهَمَهَا أَوَّلًا عِنْدَ وُقُوفِهِ مَوْقِفَ التُّهْمَةِ لَدَى سَيِّدِهَا وَطَعْنِهَا فِيهِ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَهُوَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بُدٌّ مِنْهُ. (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الْخَطْبُ: الشَّأْنُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّخَاطُبُ وَالْبَحْثُ لِغَرَابَتِهِ أَوْ إِنْكَارِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِلْمَلَائِكَةِ (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) 15: 57 وَقَوْلُ مُوسَى فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ: (فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ) 20: 95؟ وَقَوْلُهُ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تَذُودَانِ مَاشِيَتَهُمَا عَنْ مَوْرِدِ السُّقْيَا: (مَا خَطْبُكُمَا) 28: 23 وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَأَمْثَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ الْمَلِكَ قَوْلَ يُوسُفَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ السِّجْنِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ حَتَّى يُحَقِّقَ مَسْأَلَةَ النِّسْوَةِ، فَجَمَعَهُنَّ وَسَأَلَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ الَّذِي حَمَلَكُنَّ عَلَى مُرَاوَدَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، هَلْ كَانَ عَنْ مَيْلٍ مِنْهُ إِلَيْكُنَّ، وَمُغَازَلَةٍ لَكُنَّ قَبْلَهَا؟ . هَلْ رَأَيْتُنَّ مِنْهُ مُوَاتَاةً وَاسْتِجَابَةً بَعْدَهَا؟ أَمْ مَاذَا كَانَ سَبَبُ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ؟ (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أَيْ مَعَاذَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ أَدْنَى شَيْءٍ يُشِينُهُ وَيَسُوءُهُ لَا كَبِيرَ وَلَا صَغِيرَ، وَلَا كَثِيرَ وَلَا قَلِيلَ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفْيُ الْعِلْمِ مَعَ تَنْكِيرِ سُوءٍ وَدُخُولُ مِنْ عَلَيْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ رُؤْيَةِ السُّوءِ عَنْهُ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أَيْ ظَهَرَ بَعْدَ خَفَائِهِ وَانْحَسَرَتْ رَغْوَةُ الْبَاطِلِ عَنْ مَحْضِهِ، وَهُوَ تَكْرَارٌ مِنْ حِصَّةٍ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ حِصَّةٌ بَعْدَ حِصَّةٍ (بِالْكَسْرِ) وَهِيَ النَّصِيبُ لِكُلِّ شَرِيكٍ فِي شَيْءٍ، مِثْلُ كَبْكَبَ وَكَفْكَفَ الشَّيْءَ إِذَا كَبَّهُ وَكَفَّهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهِيَ تَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَانَ فِي رَأْيِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ مُوَزِّعُ التَّبِعَةِ بَيْنَنَا مَعْشَرَ النِّسْوَةِ وَبَيْنَ يُوسُفَ؛ لِكُلٍّ مِنَّا حِصَّةٌ، بِقَدْرِ مَا عَرَضَ فِيهَا مِنْ شُبْهَةٍ، وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَوَاذِلِي شَهِدْنَ بِنَفْيِ السُّوءِ عَنْهُ وَهِيَ شَهَادَةُ نَفْيٍ، فَشَهَادَتِي لَهُ عَلَى نَفْسِي شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ؟

(أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وَهُوَ لَمْ يُرَاوِدْنِي، بَلِ اسْتَعْصَمَ وَأَعْرَضَ عَنِّي (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فِيمَا اتَّهَمَنِي بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَحَمَلَهُ أَدَبُهُ الْأَعْلَى وَوَفَاؤُهُ الْأَسْمَى لِمَنْ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُ إِلَى الْآنِ، وَنَحْنُ جَزَيْنَاهُ بِالسَّيِّئَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْخَصْمُ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ. (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أَيْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ لَهُ، وَالشَّهَادَةُ بِالصِّدْقِ الَّذِي عَلِمْتُهُ مِنْهُ، لِيَعْلَمَ الْآنَ - إِذْ يَبْلُغُهُ عَنِّي - أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ عَنْهُ مُنْذُ سُجِنَ إِلَى الْآنِ بِالنَّيْلِ مِنْ أَمَانَتِهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي شَرَفِهِ وَعِفَّتِهِ، بَلْ صَرَّحْتُ لِجَمَاعَةِ النِّسْوَةِ بِأَنَّنِي رَاوَدْتُهُ فَاسْتَعْصَمَ وَهُوَ شَاهِدٌ، وَهَأَنَذَا أُقِرُّ بِهَذَا أَمَامَ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ وَهُوَ غَائِبٌ، (وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بَلْ تَكُونُ عَاقِبَةُ كَيْدِهِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالنَّكَالَ، وَلَقَدْ كِدْنَا لَهُ فَصَرَفَ رَبُّهُ عَنْهُ كَيْدَنَا وَسَجَنَّاهُ فَبَرَّأَهُ وَفَضَحَ مَكْرَنَا، حَتَّى شَهِدْنَا لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّامِي عَلَى أَنْفُسِنَا. وَهَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى تَبْرِئَةِ نَفْسِهَا مِنْ خِيَانَتِهِ بِالْغَيْبِ، اعْتَرَفَتْ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بِأَنَّهَا لَا تُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنَ الْكَيْدِ لَهُ بِالسِّجْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ هَوَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَذْلِيلُهُ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى طَاعَتِهَا، وَفِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا تَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي حَصَلَ أَقْرَرْتُ بِهِ لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ خَلْوَاتِي بِيُوسُفَ فِي غَيْبَتِهِ عَنَّا، وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ أَنَّنِي رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ الْفَاتِنَ الَّذِي وَضَعَهُ فِي بَيْتِي، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنِي، فَاسْتَعْصَمَ وَامْتَنَعَ، فَبَقِيَ عِرْضُهُ - أَيِ الزَّوْجِ - مَصُونًا، وَشَرَفُهُ مَحْفُوظًا، وَلَئِنْ بَرَّأْتُ يُوسُفَ مِنَ الْإِثْمِ فَمَا أُبَرِّئُ مِنْهُ نَفْسِي فَـ (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) 53 وَسَيَأْتِي أَنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - بِبَعْضِ الْأَنْفُسِ صَرْفَهَا عَنِ الْأَمْرِ السُّوءِ وَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَمِنْهَا حِفْظُهُ إِيَّاهَا مِنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ بِوَازِعٍ مِنْهَا، وَهِيَ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهَا عَدَمُ تَيَسُّرِ عَمَلِ السُّوءِ، لَهَا بِامْتِنَاعِ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِّ (أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا تَجِدَ) . هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ اتِّبَاعًا لِلرِّوَايَاتِ الْخَادِعَةِ إِلَى أَنَّهُمَا حِكَايَةٌ عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي كَانَ مِنِّي إِذِ امْتَنَعْتُ مِنْ إِجَابَةِ الْمَلِكِ وَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِي قَضِيَّةِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجِهِ بِالْغَيْبِ إِلَخْ، وَأَنَّهُ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ! وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَبَرَّأُ مِنْهُ السِّيَاقُ وَالنَّظْمُ وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى كَثْرَةِ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ مُرَجِّحًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ:

وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَشْهَرُ وَالْأَلْيَقُ وَالْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْقِصَّةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَانْتَدَبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَةٍ. انْتَهَى، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ أَعْلَمِ الْمُحَدِّثِينَ بِنَقْدِ الرِّوَايَاتِ فَهُوَ مَا نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا وَقَدْ فَنَّدَ رِوَايَاتِ الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مَثَلَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الْأَعْلَى لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ، لَمْ يَمَسَّهُ أَدْنَى سُوءٍ مِنْ فِتْنَةِ النِّسْوَةِ، وَأَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ فِي نِسَاءِ مِصْرَ بَلْ نِسَاءِ الْعَالَمِ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ كَانَ أَكْبَرُ إِثْمِهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَكَانَتْ هِيَ ذَاتَ مَزَايَا فِي عِشْقِهَا الَّذِي كَانَ اضْطِرَارِيًّا لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الشَّابِّ الَّذِي بَلَغَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَمِنْ مَزَايَاهَا أَنَّهَا لَمْ تَتَطَلَّعْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ إِجَابَةً لِدَاعِيَةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلتَّسَلِّي عَنْهُ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ، وَأَنَّهَا لَمْ تَتَّهِمْهُ بِالْجُنُوحِ لِلْفَاحِشَةِ قَطُّ، وَكُلُّ مَا قَالَتْهُ لِزَوْجِهَا إِذْ فَاجَأَهُمَا لَدَى الْبَابِ (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) 25 تَعْنِي بِهِ هَمَّهُ بِضَرْبِهَا، وَأَنَّهَا فِي خَاتِمَةِ الْأَمْرِ أَقَرَّتْ بِذَنْبِهَا فِي مَجْلِسِ الْمَلِكِ الرَّسْمِيِّ إِيثَارًا لِلْحَقِّ وَإِثْبَاتًا لِبَرَاءَةِ الْمُحِقِّ، فَأَيَّةُ مَزَايَا أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ لِمَنِ ابْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذَا الْعِشْقِ؟ وَفِي تَارِيخِ الْفِرْدَوْسِيِّ أَدِيبِ الْفُرْسِ أَنَّهُ صَنَّفَ قِصَّةً غَرَامِيَّةً فِي زَلِيخَا وَيُوسُفَ صَوَّرَ فِيهَا الْعِفَّةَ بِأَجْمَلِ صُوَرِهَا، وَزَلِيخَا (بِالْفَتْحِ) اسْمُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي أَشْهَرِ تَوَارِيخِنَا، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهَا رَاعِيلُ، وَسَنُفَصِّلُ الْعِبَرَ فِي الْقِصَّةِ، فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. تَمَّ تَفْسِيرُ الْجُزِءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1354 هـ، وَكَانَ الْبَدْءُ بِهِ فِي صَفَرٍ 1353 هـ وَاللهَ نَسْأَلُ تَوْفِيقَنَا لِإِتْمَامِ سَائِرِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَا يَرْضَاهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ.

§1/1